منهج المتقدمين في التدليس
تأليف
ناصر بن حمد الفهد
تقديم
فضيلة الشيخ المحدث
عبد الله بن عبدالرحمن السعد
مقدمة
فضيلة الشيخ المحدث
عبد الله بن عبد الرحمن السعد
حفظه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه وستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
أما بعد : فقد اطلعت على الرسالة التي كتبها الشيخ ناصر بن حمد الفهد وفقه الله تعالى وهي :
" منهج المتقدمين في التدليس "
فوجدتها رسالة نفيسة في بابها ، قيمة في محتواها ، وعنوانها يدعو إلى قراءتها . وقد اطلعت من قبل على رسائل أخرى للشيخ ناصر الفهد فوجدتها كلها مفيدة ، مبنية على اتباع ما دل عليه الكتاب والسنة ، سالكاً فيها منهج السلف الصالح ، نحسبه كذلك ولا مزكيه على الله تعالى .
وهذه الرسالة وهي بحث قضايا التدليس ، وكيفية التعامل مع هذه القضايا ، وما ينبني على ذلك من أحكان وما ينتج من ذلك من آثار ، قيد ذلك كله مؤلف هذه الرسالة بمنهج المتقدمين .
فبين فيما كتب طريقة المتقدمين في التعامل مع المدلسين ، وبيان أنواع التدليس ، وكيفية التعامل مع هذه الأنواع .
ومعرفة هذا المنهج ـ أعني منهج المتقدمين ـ في هذه المسألة وغيرها من قضايا الصناعة الحديثية أمر لا بد منه في باقي العلوم الشرعية(1)
__________
(1) مثل ما حصل في باب الاعتقاد من مخالفة الكثير لطريقة السلف في ( علم التوحيد ) وتكلموا في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول وتركوا الكتاب والسنة فأدى هذا بهم إلى إنكار أسماء الله وصفاته وعلوه على خلقه فضلوا وأضلوا .
ومثل ما حصل أيضاً في أبواب الفقه من التعصب لأقوال العلماء والاقتصار عليها في التفقه دون التفقه على الكتاب والسنة والرجوع إليهما ، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى ( عجبت لمن عرف الإسناد وصحته يذهب إلى قول سفيان ) .
وقال أبو الفرج ابن رجب رحمه الله تعالى ( ومن ذلك أ أعني محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها وسواء خالفت السنن أو وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة ، لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها . وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء الرأي في الحجاز والعراق وبالغوا في ذمه وإنكاره .
فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم أو عند طائفة منهم ، فأما ما اتفق السلف على تركه فلا يجوز العمل به ... ) 1هـ ( من فضل علم السلف على الخلف ) .
ومن ذلك ما حصل في علم أصول الفقه من سلوك طريقة المتكلمين وإدخال علم الكلام المذموم في أصول الفقه .=
= قال أبو المظفر السمعاني في ( قواطع الأدلة ) 1/5ـ6 : ( وما زلت طول أيامي أطالع تصانيف الأصحاب في هذا الباب ، وتصانيف غيرهم فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهر من الكلام ورائق من العبارة ، ولم يداخل حقيقة الأصول على ما يوافق معاني الفقه ، ورأيت بعضهم قد أوغل وحلل وداخل غير أنه حاد من محجة الفقهاء في كثر من المسائل وسلك طريقة المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه ، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير ولا نفير ولا قطمير ( ومن تشبع بما لم يعط فقد لبس ثوبي زور ) ... ) اهـ .
وغير ذلك مما خالف فيه كثير من الناس طريقة السلف ، وما زال أهل بحد الله تعالى ينبهون على ذلك ويدعون إلى السير على منهج السلف الصالح .
ولا يظن أنني عندما أدعوا إلى السير على طريقة الأئمة المتقدمين في علم أصول الحديث أنني أدعوا إلى عدم الأخذ بكلام من تأخر من أهل العلم والاستفادة منهم ، هذا لم أقل به ولا يقول به عاقل ، ومع الأسف ظن بعض الإخوان هذا ، ثم عندما ظن هذا الظن السئ وتخيل بعقله هذا الرأي الفاسد أخذ يرد بسذاجة واضحة على هذا القول حتى إنه عندما أراد أن يؤيد رأيه ضرب مثلاً بأبي الفداء ابن كثير وأتى بمثال يبين فيه أن ابن كثير يستطيع أن ينقد الأخبار ويبين العلل التي تقدح في صحه الحديث .
فيا سبحان الله ! هل هذا الإمام الجليل ، والحافظ الكبير يحتاج إلأى أن تأتي بمثال حتى يشهد له بالعلم بالحديث ومؤلفاته كلها تشهد بعلو كعبه في هذا العلم وتمكنه من صناعة الحديث حتى كأن السنة بين عينيه ، حتى أن طالب العلم ليعجب من هذا العالم الجليل عندما يسوق الأخبار من كتب الحديث بأسانيدها ثم يؤلف بينها ويتشبه في هذا بمسلم ابن الحجاج وأبي عبد الرحمن النسائي هذا مع الكلام على أسانيدها ونقد متونها وهو رحمه الله تعالى من البارعين في نقد المتون ، حتى أنه عندما يتكلم في باب من أبواب العلم يغنيك عن الرجوع إلى كتب كثير كما فعل عندما ساق حجة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم منذ خروجه من المدينة إلأى مكة إلى رجوعه ، ويأخذك العجب من استحضاره وقوة علمه وجلالة فضله ، وهذا جزء يسير من كتابه النفيس ( البداية والنهاية ) الذي ذكر فيه بدء الخليفة إلى قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى زمنه يسزق النصوص من كتاب الله ومن السنة النبوية ومما جاء من الصحابة والتابعين وهلم جرا .
وتفسيره النفيس الذي أتى فيه بالعجب وفسر فيه القرآن بالقرآن ، وبالسنة والآثار التي جاءت عن الصحابة والتابعين . فمن أنكر علم هذا الفاضل إما أن يكون إنساناً غاية في البلادة أو ممن أعمى الله بصره وبصيرته ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ومما يستغرب من هؤلاء الإخوان أنهم قالوا : لا تقولوا ( مذهب المتقدمين ) وهذا عجيب لأنه :
أولاً : لا مشاحة في الاصطلاح .
ثانياً : أن أهل العلم استخدموا ذكل كما سيأتي إن شاء الله تعالى النقل عنهم .
ثالثاً : أن هذا الاسم مطابق للمسمى كما هو ظاهر .
رابعاً : أي فرق بين أن يقال ( مذهب المتقدمين ) أو ( أهل الحديث ) أو ( أئمة الحديث ) أو نحو ذلك .
خامساً : أن هذه الكلمة لا تخالف كتاباُ ولا سنة ولا إجماعاً ، وإنما هو الاصطلاح مثل باقي الاصطلاحات ، لا يدعو إلى مثل هذا الإنكار الذي جرى من هؤلاء الإخوان والعجيب أيضاً أن هؤلاء الإخوان أخذوا يدعون إلى مثل ما نقول به ، فقالوا : ينبغي دراسة مناهج المحدثين . وأي فرق بين الدعوة إلى دراسة ( مناهج المحدثين ) أو دراسة =
( منهج المتقدمين ) فالأول هو الثاني ولا فرق عندهم فليبينوه والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .(1/1)
.
لأن أهل العلم ليسوا على منهج واحد في الصناعة الحديثية ، بل على مناهج متعددة ، فعلى هذا لا بد من معرفة طريقتهم ثم السير عليها .
قال أبو الفرج ابن رجب رحمه الله تعالى :
( وكذا الكلام في العلل والتواريخ قد دونه أئمة الحفاظ وقد هجر في هذا الزمان ودرس حفظه وفهمه ، فلولا التصانيف فيه ونقل كلام الأئمة المتقدمين مصلحة عظيمة جداً ، وقد كان السلف الصالح مع سعة حفظهم وكثرة الحفظ في زمانهم يأمرون بالكتابة للحفظ ، فكيف بزماننا هذا الذي هجرت فيه علوم سلف الأمة وأئمتها ولم يبق منها إلا ما كان منها مدوناً في الكتب لتشاغل أهل الزمان بمدارسة الآراء المتأخرة وحفظها ) اهـ من ( شرح العلل ) ص74 بتحقيق / السامرائي .
وقال أبو الفضل بن حجر رحمه الله تعالى مبيناً جلالة المتقدمين في هذا الفن وعلو كعبهم في
هذا العلم :
( وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم(1) في ذلك ، والتسليم لهم فيه ) اهـ من ( النكت ) 2/726 .
قال أبو الوفا بن عقيل مبيناً اختلاف الفقهاء والمحدثين في الحكم على الأحاديث بعد أن ذكر
حديثاً ضعفه أحمد بعد أن سئل عنه وهو حديث معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( أن غيلان أسلم وعنده عشرة نسوة ) قال أحمد : ( ليس بصحيح والعمل عليه ، كان عبد الرزاق يقول : عن معمر عن الزهري مرسلاً )
__________
(1) الذي يظهر أن الحافظ ابن حجر لا يقصد التقليد الأعمى وإنما يقص المتابعة لهم والسير على منهاجهم .(1/2)
قال ابن عقيل : ( ومعنى قول أحمد ( ضعيف ) على طريقة أصحاب الحديث ، وقوله ( والعمل عليه ) كلام فقيه يعول عليه ما يقوله الفقهاء من إلغاء التضعيف من المحدثين لأنهم يضعفون بما لا يوجب ضعفاً عند الفقهاء ، كالإرسال والتدليس والتفرد بالرواية ، وهذا موجود في كتبهم ، يقولون : وهذا الحديث تفرد به فلان وحده ... ) اهـ من ( الواضح في أًول الفقه ) 5/21ـ22 .
قول ابن عقيل في تفسير كلام أحمد في قوله ( والعمل عليه ) : ( كلام فقيه يعول على ما يقوله الفقهاء من إلغاء التضعيف من المحدثين ... ) ليس بصحيح فالإمام أحمد ضعف هذا الحديث لأن معمراً حدث به بالبصرة فأخطأ فيه ووصله وعندما حدث به في اليمن أرسله كما رواه عند عبد الرزاق ، وحديث معمر باليمن أصح من حديثه بالبصرة ، وقد خالف الحفاظ من أصحاب الزهري معمرا في هذا الحديث ، ولذلك ذهب أكثر الحفاظ إلأى تضعيف حديث معمر كما قال أحمد ،فقال البخاري عنه ( هذا الحديث غير محفوظ ) وحكم مسلم في كتابه ( التمييز ) على معمر بالوهم فيه وقال : أبو زرعة وأبو حاتم : ( المرسل أصح ) . ينظر ( تلخيص الحبير ) 3/192 .
وأما قول أحمد ( والعمل عليه ) فلا شك في هذا لأن القرآن والإجماع يدلان على ذلك وليس كما قال ابن عقيل أن أحمد يأخذ بقول الفقهاء في تصحيح هذا الحديث . فميز بن عقيل بين طريقة المحدثين والفقهاء .
وقال شيخه القاضي أبو يعلى في ( إبطال التأويلات ) 1/140 تعليقاً على كلام أحمد في حكمه على حديث عبد الرحم بن عايش بالاضطراب ، قال : ( فظاهر هذا الكلام من أحمد التوقف في طريقه لأجل الاختلاف فيه ، ولكن ليس هذا الكلام مما يوجب تضعيف الحديث على طريقة الفقهاء ) اهـ .(1/3)
والشاهد من هذا اختلاف مناهج أهل العلم في الصناعة الحديثية ، وأنهم ليسوا على منهج واحد كما يقول بعض الإخوان وأن في هذا تفريقاً للأمة ، وأنه ليس هناك من له منهج خاص في الصناعة الحديثية إلا محيي الدين النووي ، فهذا القول لا شك في بطلانه وحكايته في الحقيقة تغني عن رده .
وقال تقي الدين بن دقيق العيد في كتابه ( الاقتراح ) ص152 في بيان مذاهب أهل العلم واختلام مناهجهم في حد الحديث الصحيح ، قال : ( اللفظ الأول ومداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصولين على عدالة الراوي العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر في الفقه ، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسنداً ، وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذا ولا معللا ، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث الصحيح بأنه الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا ، ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته هو كذا وكذا إلى آخره لكان حسناً لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف ومن شرط الحد : أن يكون جامعاً مانعاً ) اهـ .
قلت : وقول ابن دقيق هذا يدل على اختلاف أهل العلم في حد الحديث الصحيح وتباين طرائقهم في ذلك كما تقدم .
وقوله : ما اشترطه أ÷ل الحديث في حد الحديث الصحيح : أن لا يكون شاذا ولا معللا ، وأن في هذين الشرطين نظر عند الفقهاء تقدم هذا فيما قاله القاضي أو يعلى وابن عقيل من تضعيف الإمام أحمد للحديثين السابقين : أن هذا لا يجري على طريقة الفقهاء .
ولذلك قال أبو عبد الله بن القيم في ( زاد المعاد ) 5/96ـ 97 :(1/4)
وليس رواية هذا الحديث مرسلة(1) بعلة فيه ، فإنه قد روي مسندا ومرسلا ، فإن قلنا بفول الفقهاء : إن الاتصال زيادة ومن وصله مقدم على من أرسله فظاهر ، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله ، وإن حكمنا بالإرسال كقول كثير من المحدثين فهذا مرسل قوي … ) اهـ .
وقال ابن رجب ناقدا الخطيب البغدادي في بعض منهجه في كتابه ( الكفاية ) في مبحث ( زيادة الثقة ) وأنه لم يسلك منهج من تقدم من الحفاظ وإنما سلك منهج المتكلمين وغيرهم ، فقال ص312 من ( شرح العلل ) : ( ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب ( الكفاية ) للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء وهذا يخالف تصرفه في كتاب ( تممييز المزيد ) ... ) اهـ .
وقال برهان الدين البقاعي في ( النكت الوفية على الألفية ) ص99مبيناً طريقة كبار الحفاظ في تعارض الوصل والإرسال في الحديث والرفع والوقف وزيادة الثقات وناقدا لابن الصلاح الذي خلط في هذه المسألة طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين فقال :
( إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين ، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظرا آخر لم يحكه وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه وذلك أنهم لا يحكمون بحكم مطرد وإنما يدورون في ذلك مع القرآئن ... )(2) اهـ .
قلت : وقد سلك كثير من المشتغلين بعلم الحديث طريقة الفقهاء والمتكلمين من الأصوليين واختلط الأمر عليهم ، زلذك كثرت مخالفتهم لكبار الحفاظ في أحكامهم على الأحاديث فصححوا ما أعله كبار الحفاظ وضعفوا ما صححه كبار الحفاظ .
__________
(1) كذا
(2) بعض الكلمات كانت غير واضحة ـ بالنسبة لي ـ في المخطوط فنقلتها من ( توضيح الأفكار ) .(1/5)
قال عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى في مقدمته لكتاب ( الفوائد المجموعة ) للشوكاني مبينا تساهل كثير من المتأخرين في حكمهم على الأحاديث :
( إنني عندما أقرن نظري بنظر المتأخرين أجدني أرى كثيراً منهم متساهلين وقد يدل على أن عندي تشددا قد لا أوافق عليه غير أني مع هذا كله رأيت أبدي ما هر لي ناصحاً لمن وقف عليه من أهل العلم أن يحقق النظر ولا سيما من ظفر بما لم أظفر به من الكتب التي مرت الإشارة إليها ) اهـ من المقدمة لكتاب ( الفوائد المجموعة ) ص8 .
وقال أيضاً في ( الأنوار الكاشفة ) ص29 : ( وتحسين المتأخرين فيه نظر ) اهـ .
ولذلك تجد أن بعض أهل العلم بالحديث ينبهون على طريقة من تقدم من الحفاظ في القضايا الحديثية الي يعالجونها .
قال أبو عبد الله بن القيم في ( الفروسية ) ص62 مبيناً الطريقة السليمة والمنهج الصحيح الذي كان يسلكه أئمة الحديث في الحكم على الراوي ورداً على من خالف هذا المنهج فقال :
( النوع الثاني من الغلط : أن يرى الرجل قد تكلم في بعض حديثه وضعف في شيخ أو في حديث فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجد ، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظاهر وغيرهم ) اهـ .
وقال أبو الفرج بن رجب في بيان منهج أئمة الحديث في قضية التفرد في الحديث والتفرد في بعض الألفاظ في الحديث :
( وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في هذا الحديث إذا تفرد به واحد وأن لم يرو الثقات خلافه أنه(1) لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه ) اهـ من ( شرح العلل ) .
__________
(1) في المطبوع : أن(1/6)
وقال أيضاً ص272 من ( شرح العلل ) في اشتراط اللقاء حتى يحكم للخبر بالاتصال : ( وأما جممهور المتقدمين فعلى ما قاله علي بن المديني والبخاري وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله ... ) اهـ .
وقال أيضاً ص311 من ( شرح العلل ) في مسالة الاختلاف في وصل الأخبار أو أرسالها أو تعارض الوقف مع الرفع : ( وقد تكرر في هذا الكتاب ذكر الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع وكلام أحمد وغيره من الحفاظ يدور على قول الأوثق في ذلك والأحفظ أيضاً ... ) اهـ .
والكلام في هذا يطول .
وعلى هذا فيستحسن بيان ( منهج المتقدمين ) أو ( أئمة الحديث ) في قضايا علم الحديث التي وقع فيها الخلاف مثل العلة والشذوذ والتفرد وزيادة الثقات وغيرها من القضايا ، وقد بين بحمد الله تعالى أهل العلم هذه القضايا فدونك مثلاً ( شرح العلل ) لابن رجب ، و ( النكت على ابن الصلاح ) لابن حجر وغيرها . ولعلي أتحدث باختصار عن ( التدليس ) وكيفية التعامل معه ، فأقول وبالله التوفيق :
التدليس ينقسم إلى :
تدليس الإسناد .
تدليس التسوية .
تدليس الشيوخ .
تدليس الإرسال .
تدليس العطف .
تدليس المتابعة .
تدليس القطع أو السكوت .
تدليس الصيغ : أي صيغة التحمل .
تدليس البلدان .
تدليس المتون .
تدليس قد يختلف(1) عما تقدم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه . وكل نوع من هذه الأنواع له حكم خاص في التعامل معه .
فإذا وصف الراوي بالتدليس فالذي ينبغي عمله هو :
التأكد من ذلك ؛ فمن المعلوم أنه ليس كل من وصف بذلك يصح عنه ، وصف بالتدليس ولم يصح عنه ( شعبة بن الحجاج ) فقد وصفه بذلك أبو الفرج النهرواني ولم يثبت ذلك عنه ، بل الثابت عنه خلافه ، وينظر ( النكت على ابن الصلاح ) لابن حجر 2/628ـ630 فقد ذكر ذلك عن النهرواني ورده .
__________
(1) وقد ذكر أهل العلم تقسيمات أخرى للتدليس .(1/7)
وممن وصف بالتدليس ولم يصح عنه ( عمر بن عبيد الطنافسي ) فقد ذكره ابن حجر في ( النكت ) 2/641 تحت ترجمة ( من أكثروا من التدليس وعرفوا به ) ، وفي ( النكت ) أيضاً 2/617 قال الحافظ ابن حجر : ( وفاتهم أيضاً فرع آخر وهو تدليس القطع ، مثاله ما رويناه في ( الكامل ) لأبي أحمد بن عدي وغيره عن عمر بن عبيد النافسي أنه كان يقول " ثنا ثم يسكت ينوي القطع ثم يقول : هشام بن عروزة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ) اهـ .
قلت : إن هذا وهم ، والموصوف بذلك هو ( عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي )(1)
قال ابن سعد في ( الطبقات ) 7/291 عنه : ( وكان يدلس تدليساً شديدا وكان يقول : سمعت وحدثنا ثم يسكت ثم يقول : هشام بن عروة ، الأعمش اهـ .
وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي ذكر عمر بن علي فأثنى عليه خيرا ، وقال :
( كان يدلس ، سمعته يقول : حجاج سمعته يعني : ثنا آخر ، قال أبي : هكذا كان يدلس ) اهـ من ( تهذيب الكمال ) .
وهذا النص موجود في سؤلات عبد الله بن أحمد لأبيه 3/14 ولكن أخطأ المحقق في قراءة النص ففصل أول الكلام عن آخره .
وأما عمنر بن عبيد الطنافسي فلا أعلم أن أحدا وصفه بالتدليس أصلا غير الحافظ بن حجر في ( النكت ) ولذك لا أعلم أن أحدا ذكره في ( طبقات المدلسين ) حتى ابن حجر في ( طبقاته ) لم يذكره ، فهذا يدل على وهمه عندما وصفه بالتدليس والله أعلم .
فعلى هذا لا بد من التأكد أولا من وصفالشخص بالتدليس .
(2) عندما يثبت أن هذا الراوي قد وصف بالتدليس فالذي ينبغي بعد ذلك تحديد نوع التدليس الذي وصف به .
__________
(1) وقد وصفه الحافظ ابن حجر بذلك على الصواب كما في ( طبقات المدلسين ) له .(1/8)
فكما تقدم أن التدليس أنواع عديدة ، ولذلك أكثر أهل العلم من الحديث عن هذه الأنواع مع أنهم في كثير من المواضع يطلقون الوصف بالتدليس ولا يحدونه ، وفي موضع آخر يبينون هذا النوع من التدليس الذي وصف به هذا الراوي ، أو أن بعضهم يصفه بالتدليس ويطلق ولا يبين ثم تجد أن غيره بين هذا النوع .
فمثلاً : ( عبد الله بن وهب المصري ) .
قال عنه ابن سعد كما في ( الطبقات ) 7/518 :
( كان كثير العلم ثقة فيما قال : حدثنا وكان يدلس ) اهـ .
قلت : لا أعلم أن أحدا وصفه(1) بالتدليس غير أن ابن سعد(2) وقد يظن من كلام ابن سعد أنه يصفه بتدليس الإسناد والذي يظهر أن ابن وهب لا يدلس تدليس الإسناد بمعنى أنه يسقط من الإسناد من حدثه ، وإنما يدلس تدليس الصيغ(3) ويسيء الأخذ أحياناً في الرواية عن شيوخه .
قال ابن معين : سمعت عبد الله بن وهب قال لسفيان بن عيينة : يا أبا محمد الذي عرض عليك أمس فلان أجزها لي ، فقال : نعم .
وقال أيضاً : رأيت عبد الله بن وهب يعرض له على سفيان بن عيينة وهو قاعد ينعس ـو وهو نائم . اهـ من ( تاريخ الدوري ) 2/236 .
وقال أحمد : عبد الله بن وهب صحيح الحديث يفصل السماع من العرض والحديث من الحديث ، ما أصح حديثه وأثبته ! .
فقيل لأحمد : أليس كان يسيء الأخذ . قال : قد يسيء الأخد ولكن إذا نظرت في حديثه وما روى عن مشايخه وجدته صحيحاً .اهـ من ( تهذيب الكمال ) .
وقال عبد الله بن أيوب المخرمي : كنت عند ابن عيينه وعنده ابن معين فجاءه عبد الله بن وهب ومعه جزء فقال : يا أبا محمد أحدث بما هذا الجزء عنك ، فقال لي(4) يحيى بن معين : يا شيخ هذا والريح بمنزلة ، ادفع إليه الجزء حتى ينظر في حديثه .اهـ من ( الكامل ) 4/1518 .
__________
(1) أي ممن تقدم .
(2) قد يلاحظ على ابن سعد اهتمامه بالتدليس من خلال حكمه على الرواة .
(3) سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه .
(4) كذا ، ويبدو أن هناك سقطاً في الكلام .(1/9)
وقال الساجي عنه : ( صدوق ثقة ، وكان من العباد وكان يتساهل في السماع لأن مذهب أهل بلده أن الإجازة عندهم جائزة ، ويقول فيها : حدثني فلان ) اهـ من التهذيب .
فالذي يبدو أن ابن سعد يقصد ما تقدم ، ولا يقصد ابن ابن وهب يسقط من حدثه .
مثال آخر : ( الوليد بن مسلم )
وصف بالتدليس ، وفي بعض المواضع لم يبين هذا النوع من التدليس الذي وصف به ، وفي الكتب الموسعة تجد أنه يدلس ثلاثة أنواع من التدليس وهي :
تدليس الإسناد .
تدليس التسوية(1) .
وهذان مشهوران عنه ولا حاجة إلى ذكر الدليل على ذلك .
تدليس الشيوخ(2) .
قال أبو حاتم ابن حبان في ( المجروحين ) 1/91 : ( ومثل الوليد بن مسلم إذا قال : ثنا أبو عمرو فيتوهم أنه أراد الأوزاعي وإنما أراد به عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وقد سمعا جميعاً من الزهري ) اهـ
ومثله : بقية بن الوليد يدلس هذه الأنواع الثلاثة .
فعلى هذا : لا بد من تحديد نوع التدليس ؛ لأن كل تدليس يعامل بخلاف الآخر .
(3) فإذا حدد نوع التدليس الذي وصف به هذا الراوي .
( فإن كان تدليس الإسناد )
فالذي ينبغي عمله هو :
هل هو مكثر من هذا التدليس أو مقل ؟ فمن المعلوم إذا كان مقلا من هذا النوع من التدليس يعامل غير فيما لو كان مكثراً .
قال يعقوب بن شيبة السدوسي : سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل : حدثنا ، قال : إذا كان الغالب عليه التدليس فلا حتى يقول : حدثنا . اهـ من ( الكفاية ) ص362 .
وما ذهب إليه علي بن المديني ظاهر لأنه إذا كان مقلا من التدليس فالأصل في روايته الاتصال واحتمال التدليس قليل أو نادر فلا يذهب إلى القليل النادر ويترك الأصل والغالب .
__________
(1) وهذا النوع من التدليس لم يثبت أن الوليد كان يفعله إلا في حديث الأوزاعي وقد بين ذلك في هذه الرسالة .
(2) ذكرت هذا ، وقد وجدت أن المؤلف وفقه الله تعالى قد ذكره .(1/10)
ولأنه أيضاً يكثر من الرواة الوقوع في شئ من التدليس فإذا قيل لا بد في قبول حديثهم من التصريح بالتحديث منهم ردت كثر من الأحاديث الصحيحة .
ولذلك لم يجر العمل عند من تقدم من الحفاظ أنهم يردون الخبر بمجرد العنعنة ممن وصف بشئ من التدليس ودونك ما جاء في الصحيحين وتصحيح الترمذي وابن خزيمة وغيرهم من الحفاظ .
وأما ما قاله أبو عبدالله الشافعي في ( الرسالة ) ص379ـ380 :
( ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته ... فقلنا لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول فيه : حدثني أو سمعت ) اهـ .
فهذا الأقرب أنه كلام نظري ، بل لعل الشافعي لم يعمل به هو ، فقد روى لابن جريج في مواضع من كتبه محتجاً به العنعنة ، ولم يذكر الشافعي أن ابن جريج سمع هذا الخبر ممن حدث عنه ، ينظر 498 ، 890 ، 903 من ( الرسالة ) ، وأبو الزبير أيضاً ، ينظر 498 ، 889 ، والأمثلة على هذا كثيرة لمن أراد أن يتتبعها .
وقال أبو حاتم بن حبان في مقدمة صحيحه كما في ( ( الإحسان ) 1/161 نحوا ما قال الشافعي ، ويجاب عليه كما أجيب عن قول الشافعي . وعمل الحفاظ على خلاف هذا كما تقدم .
ولذلك قال يحيى بن معين عندما سأله يعقوب بن شيبة عن المدلس أيكون حجة فيما روى ، أو حتى يقول : حدثنا وأخبرنا ، فقال : لا يكون حجة فيما دلس . اهـ من ( اتلكفاية ) ص362 ، يعني إذا دل الدليل على أنه دلس في هذا الخبر لا يحتج به ، وليس حتى يصرح بالتحديث .
ولذلك قال يعقوب بن سفيان في ( المعرفة ) 2/637 : ( وحديث سفيان وأبي إٍحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة ) اهـ .
ب) ثم ينظر : هل ثبت لهذا من ثبوت الراوي لقاء وسماع عمن حدّث عنه أو لا ؟
لأنه لا بد في اتصال الخبر من ثبوت ذلك سواء كان هذا الراوي موصوفاً بالإرسال والتدليس أم لا ، وهذا ما ذهب إليه جمهور الحفاظ ممن تقدم .
قال بن رجب في ( شرح العلل ) ص272 :(1/11)
( وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله ابن المديني والبخاري ، وهو القول الذي أنكره على من قاله ) اهـ .
لأن الأصل هو الانقطاع فلا بد من ثبوت اللقاء والسماع حتى يحكم للخبر بالاتصال ، فإذا ثبت ذلك فنحن على هذا الأصل حتى يدل دليل عللا خلافه من كونه مثلا لم يسمع هذا الراوي من شيخه إلا القليل ونحو ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وإرسال الأخبار من قبل الراوة كثير ، ولذلك وصف بهذا جمع كبير من الراوة خاصة في الطبقات العليا من الإسناد كطبقة التابعين فكثيراً ما يرسلون عن الصحابة ، أو في برواية الأبناء عن أبائهم مثل رواية أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود فإنه لم يسمع منه ، ورواية محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه ، وعمرو بن شعيب عن أبيه ، وأبيه عن جده عبد الله بن عمرو رشي الله عنهما ، ومخرمة بن بكير عن أبيه .
ولذلك لا بد من ثبوت اللقاء بين الراوي ومن حدث عنه ، وقد تساهل في هذا كثير من المتأخرين حنى صححوا أسانيد لا شك في انقطاعها ، ومن أغرب ما مرّ علي في ذلك ما رواه حبان في صحيحه ( 199 ) من طريق محمد ابن إبراهيم عن سعيد بن الصلت عن سهيل بن بيضاء قال : ( بينما نحن في سفر مع الرسول ... ) ، وسهل مان في عهد الرسول كما جاء هذا في صحيح مسلم ، وسعيد بن الصلت تابعي وقد ترجم له ابن أبي حاتم في ( الجرح ) 4/34 ونقل عن أبيه أن رواية سعيد عن سهيل مرسلة .
قكيف يروي رجل من التابعين عن صحابي مات في عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ وتنظر ( الإصابة ) فقد بين ذلك ابن حجر في ترجمة ( سهيل بن بيضاء ) .
ومن ذلك :
ما رواه ابن حبان أيضاً ( 745 ) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ... فذكر حديثاً ، وهذا الخبر انقطاعه واضح لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه عبد الرحمن وابن مسعود سنة 32 على المشهور ، فإذا كان لم يسمع من أبيه الذي هو في بيته ، فعد سماعه من ابن مسعود من باب أولى .(1/12)
والذي دعا ابن حبان إلى تصحيح هذه الأخبار هو عدم أخذه بهذا الشرط ولذلك قال ابن رجب في ( شرح العلل ) ص271 :
( وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم رحمه الله من أن إمكان اللقي كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره ... ) اهـ .
أما إذا نص الحفاظ على أن هذا الراوي لم يسمع من شيخه إلا القليل كان يكون سمع منه حديثاً أو حديثين أو نحو ذلك فحينئذٍ يكون الأصل في روايته الانقطاع إلا ما صرح فيه بالسماع أو نص الحفاظ على أنه سمع هذا الخبر بعينه عمن رواه عنه ونحو ذلك .
ومثال على هذا رواية الحسن عن سمرة ، ثبت في صحيح البخاري سماعه من سمرة لحديث العقيقة وقد روى نحواً من 164 حديثاً بالمكرر كما في الطبراني في ( الكبير ) 6800 ، 6964 .
وبعض هذه الأحاديث فيها نكارة ، ولا شك أن العلة في ذلك ليست من الحسن لأنه إمام ، فعلى هذا تكون من الواسطة بينهما ولذلك القول الراجح في رواية الحسن عن سمرة : الأصل أنها منقطعة ، والقول بأنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة قول قوي ، وقد أخرج عبد الله بن أحمد عن أبيه ثنا هشيم أخبرنا ابن عون قال : ( دخلنا على الحسن فأخرج إلينا كتاباً من سمرة .. ) اهـ من ( العلل ) 2/260 فهذا يؤيد أنه صحيفة ولم تكن سماعاً ، والله أعلم .
جـ ـ ثم ينظر : هل هو يدلس على الإطلاق ، أو دلس عن شيوخ بعينهم ، أو إذا روى عن شيخه ( فلان ) فإنه لا يدلس عنه ، أو أنه يدلس في فن معين ، أو لا يدلس إلا عن ثقة ؟
فإذا كان يدلس في شيوخ معينين فلا يصلح تعميمه في غيره ، فمثلاً : ( عبد الله بن نجيح ) روى عن مجاهد ( التفسير ) وهو لم يسمعه منه ، وإنما لعله(1) دلسه ، فعلى هذا لا يعمم هذا الحكم في كل رواية التفسير ثقة ، فعلى هذا تكون صحيحه .
__________
(1) ينظر ص122 وما بعدها(1/13)
ومن ذلك : ما قاله عبد الله بن أحمد عن أبيه وقد ذكر ( عطية العوفي ) فقال : ( هو ضعيف الحديث ، بلغني أن عطية كان يأتي ( الكلبي ) فيأخذ عنه التفسير وكان يكتبه بأبي سعيد ، فيقول : قال أبو سعيد قال أبو سعيد ) .
قال عبدالله : وحدثنا أبي ثنا أبو أحمد الزبيري سمعت الثوري قال : سمعت الكلبي قال : كناني عطية بأبي سعيد .
قال ابن رجب : (لكن الكلبي لا يعتمد على ما يرويه ، وإن صحت هذه الحكاية عن عطية فإنما يقتضي التوقف عن أبي سعيد من التفسير خاصة ، فأما الأحاديث المرفوعة التي يرويها عن أبي سعيد فإنما يريد أبا سعيد الخدري ويصرح في بعضها بنسبته ) اهـ من ( شرح العلل ) ص471
والشاهد من هذا هو عدم تعميم هذا الحكم في كل ما رواه عطية عن أبي سعيد فيقال ( لعله الكلبي ) ويستدل على هذا بالقصة السابقة .
ومن ذلك : أن الحفاظ ينصون أحياناً أن فلاناً ليس له تدليس عن فلان أو غيره من شيوخه . ومن ذلك : ما قاله البخاري عن الثوري : ( ولا أعرف للثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور ـ وذكر مشايخ كثير ـ لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً ، ما أقل تدليسه ) اهـ من ( العلل الكبير ) للترمذي 2/966 .
ومن ذلك : إذا كان الراوي الموصوف بالتدليس مكثراً عن شيوخ معينين فالأصل في روايته أنها تحمل على الاتصال ، قال الذهبي في الميزان 2/224 عن الأعمش : ( وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به فمتى قال حدثنا فلا كلام ، ومتى قال عن تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وأبي وائل صالح السمان فإن روايته عن هذا الصف محمولة على الاتصال ) اهـ .
جـ ـ ثم ينظر بعد ذلك إلى القرائن الأخرى من استقامة الخبر .
فإذا وجد في الخبر نكارة أو غرابة أو مخافة فهذا قرينه على التدليس ، ولذلك تجد أن الأئمة أحياناً إذا ستنكروا ردوه بعدم ذكر السماع كما هو معلوم .
(وأما إذا كان المدلس يدلس تدليس التسوية )(1/14)
فينظر إلى تصريحه بالتحديث بينه وبين شيخه وشيخ شيخه لأن التسوية هي إسقاط شيخ من قبل الرواي .
وقد يكون المسقط ضعيفاً وهو الغالب أو لا ، ينظر ( النكت على ابن الصلاح ) لابن حجر 2/621 .
هذا النوع وهو ( تدليس التسوية ) من حيث الناحية العملية ليس بالكثير .
فمثلاً ( بقية بن الوليد ) وهو ممن وصف بذلك لو فتشت عن أمثلة لهذا النوع من التدليس قد لا تجد إلا مثالاً واحداً ذكره الخطيب في ( الكفاية ) ص364 عن أبي حاتم الرازي ، وهو في ( العلل ) 2/154 ـ 155 وذكر أيضاً هذا المثال من جاء بعد الخطيب .
ولعل ( الوليد بن مسلم ) أكثر من يفعل ذلك كما في ترجمته ، وهذا لم يثبت عنه إلا في حديث الأوزاعي خاصة .
ج- ذكر من وصف بذلك وهم :
بقية بن الوليد .
الوليد بن مسلم .
صفوان بن صالح(1) .
ومحمد بن المصفى(2) .
سليمان الأعمش .
الثوري(3) .
هشيم بن بشير(4) .
سنيد بن داود(5) .
إبراهيم بن عبد الله المصيصي(6) .
أصحاب بقية بن الوليد(7) .
__________
(1) وصفه بذلك أبو زرعة الدمشقي ، كما في ( المجروحين ) لابن حبان 1/94 .
(2) وصفه بذلك أبو زرعة الدمشقي ، كما في ( المجروحين ) لابن حبان 1/94 .
(3) وصفهما ( الأعمش والثوري ) الخطيب كما في ( الكفاية ) ص2364 ونقل في ص365 عن عثمان بن سعيد الدارمي أن الأعمش ربما فعل ذا . اهـ .
(4) النكت ) لابن حجر 2/621 ، وقد ذكر الإمام أحمد أمثلة كثيرة جداً على تدليس هشيم كما في العلل برواية عبد الله ، وفي هذه الأمثلة أنواع من التدليس كان يفعلها هشيم ، ومنها (723) لعله من تدليس التسوية .
(5) وصفه بذلك ابن رجب كما في شرح العلل ص473 .
(6) وصفه ابن حبان بذلك في ( المجروحين ) 1/116 .
(7) كما في ( المجروحين ) لابن حبان 1/201 فقال : وإنما امتحن بقية بتلاميذ له كانوا يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه فالتزق ذلك كله به اهـ .(1/15)
وكان مالك بن أنس يفعل ذلك ولكن لم يكن يقصد التسوية ، ينظر ( النكت ) لابن حجر على ابن الصلاح 2/618ـ620 . ولا أعلم غير هؤلاء وصفوا بالتسوية .
( وأما تدليس الشيوخ )
فهو أن يسعى شيخه أو يكتبه خلاف المشهور في اسمه أو كنيته كما فعل بـ ( محمد بن سعيد الشامي المصلوب ) قال ابن حجر : قيل : قلبوا اسمه على مائة وجه ليخفى .
فالذي ينبغي عمله تجاه هذا النوع هو تحديد اسمن الراوي والتأكد من ذلك حسب .
( وأما تدليس الإرسال )
فينظر في ثبوت لقاء وسماع هذا الراوي من شيخه الذي روى عنه فإذا ثبت ذلك فتحمل أحاديثه على الاتصال حتى يدل دليل على خلاف ذلك كأن يكون لم يسمع منه إلا القليل أو حديثاً بعينه لم يسمعه ، وقد تقدم الكلام على هذا .
( وأما تدليس العطف )
فهو أن يروي الراوي عن شخص سمع منه ثم يعطف عليه راو آخر لم يسمع منه ، وقد روى الحاكم في ( معرفة علوم الحديث ) 1131 فقال : ( وفيما حدثونا أن جماعة من أصحاب هشيم اجتمعوا يوماً على أن لا يأخذوا منه التدليس ففطن لذلك فكان يقول في كل حديث يذكره : حدثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم ، فلما فرغ قال لهم : هل دلست لكم اليوم ، فقالوا : لا ، فقال : لم أسمع من مغيرة حرفاً مما قلته إنما قلت حدثني حصين ، ومغيرة غير مسموع لي ) اهـ .
فهذه القصة لم يسندها الحاكم فعلى هذا لا تصح ، ومن ذكرها إنما ذكرها عن الحاكم ـ فيما أعرف ـ .
ولكن في ( العلل ) للإمام أحمد برواية عبد الله خبرا من وراية هشيم قد يصلح أن يكون مثالاً على هذا النوع ، قال عبد الله (2192) ثنى أبي ثنا هشيم قال : وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ...
قال عبد الله سمعت أبي يقول : لم يسمعه هشيم من عبيد الله . وكان عبدالله قد روى قبل ذلك عن أبيه : ثنا هشيم أخبرنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ... ثم قال : ثما هشيم قال : وعبيد الله بن عمر ... فظاهر هذا أن هذا من تدليس العطف .
( وأما تدليس المتابعة )(1/16)
فأعني به أن يروي الراوي خبرا عن شيخين له أو أكثر ويكون بين من روى عنهم اختلاف إما باللفظ أو الإسناد ، فيحمل رواية أحدهما على الآخر ولا يبين .
قال ابن رجب في ( شرح العلل ) ص506 :
( شعيب بن أبي حمزو عن ابن المنكدر روى عنه أحاديث منها : حديث ابن المنكدر عن جابر مرفوعاً ( من قال حين يسمع النداء ... الحديث ) وقد خرجه البخاري في صحيحه وله على ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه ، قال : قد طعن في هذا الحديث وكان عرض شعيب على ابن المنكدر كتاباً فأمر بقراءته عليه فعرف بعضاً وأنكر بعضا ، وقال لابنه أو ابن أخيه :
اكتب هذه الأحاديث فدون شعيب ذلك الكتاب ولم تثبت رواية شعيب تلك الأحاديث على الناس ، وعرض عليّ بعض تلك الكتب فرأيتها مشابهاً لحديث إسحاق بن أبي قروة ، وهذا الحديث من تلك الأحاديث ، قال ابن رجب : ومصداق ما ذكره ابن أبي حاتم أن شعيب بن أبي حمزة روى عن ابن المنكدر عن جابر حديث الاستفتاح في الصلاة بنحو سياق حديث علي ، وروى عن شعيب عن ابن المنكدر عن الأعرج عن محمد بن نسلمة ، فرجع الحديث إلى الأعرج ، وإنما راوه الناس عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب ، ومن جملة من رواه عن الأعرج بهذا الإسناد إسحاق بن أبي فروة ، وقيل إنه رواه عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج .
وروي عن محمد بن حمير عن شعيب عن ابن أبي فروة وابن المنكدر عن الأعرج عن محمد بن مسلمة .
ورواه أبو معاوية عن شعيب عن إسحاق عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن محمد بن مسلمة ، فظهر بهذا أن الحديث عن شعيب عن أبي فروة وكذا قال أبو حاتم الرازي : هذا الحديث من حديث ابن أبي فروة يرويه شعيب عنه .(1/17)
وحاصل الأمر : أن حديث الاستفتاح رواه شعيب عن إسحاق بن أبي فروة وابن المنكدر ، فمنهم من ترك إسحاق وذكر ابن المنكدر ، ومنهم من كنى عنه فقال : عن ابن المنكدر وآخر ، وكذا وقع في سنن النسائي ، وهذا مما لا يجوز فعله وهو أن يروي الرجل حديثاً عن اثنين أحدهما مطعون فيه والآخر ثقة ، فيترك ذكر المطعون فيه ويذكر الثقة ، وقد نص الإمام أحمد على ذلك وعلله بأنه ربما كان في حديث الضعيف شئ ليس في حديث الثقة وهو كما قال فإنه ربما كان سياق الحديث للضعيف ، وحديث الآخر محمولاً عليه ، فهذا الحديث يرجع إلى رواية إسحاق بن أبي فروة وابن المنكدر ، ويرجع إلى حديث الأعرج ورواية الأعرج له معروفة(1) عن ابن أبي رافع عن علي ، وهو الصواب عند النسائي والدار قطني وغيرهما ، وهذا الاضطراب الظاهر أنه من ابن أبي فروة لسوء حفظه وكثرة اضطرابه في الأحاديث وهو يروي عن ابن المنكدر ...
وقد كان بعض المدلسين يسمع الحديث من ضعيف فيرويه عنه ويدلسه معه عن ثقة لم يسمعه منه فيظن أنه سمعه منهما كما روى معمر :
عن ثابت وأبان وغير واحد عن أنس عن النبي (( أنه نهى عن الشغار )) قال أحمد : هذا عمل أبان ، يعني أنه حديث أبان وإنما معمر يعني لعله دلسه ..
ومن هذا المعنى : أن ابن عيينة كان يروي عن ليث وابن أبي نجيح جميعاً عن مجاهد عن أبي معمر عن علي حديث القيام للجنازة .
قال الحميدي : فكنا إذا وقفناه عليه لم يدخل في الإسناد أبا معمر إلا في حديث ليث خاصة ، يعني أن حديث : ابن أبي نجيح كان يرويه عن مجاهد عن علي منقطعاً ، وقد رواه ابن المديني وغيره عن ابن عيينة بهذين الإسنادين ورواه ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح وحده .
وذكره في إسناده مجاهدا وهو وهم .
قال يعقوب بن شيبة : كان سفيان بن عيينة ربما يحدث بالحديث عن اثنين فيسند الكلام عن أحدهما فإذا حدث به عن الآخر على الإنفراد أوقفه أو أرسله ) اهـ .
__________
(1) في الأصل معرفة .(1/18)
في هذا الكلام الذي سبق ذكر ابن رجب ثلاثة أمثلة والكلام فيها قد يطول وبالذات الحديث الأول ، ولكن أذكر باختصار معنى ما ذكره ابن رجب فيما يتعلق بهذا النوع من أنواع التدليس :
فأما الحديث الأول : فأقول وبالله التوفيق :
شعيب من كبار الحفاظ وحديثه على ثلاثة أقسام :
إذا حدث عن الزهري وهو أصح حديثه ، وبالذات إذا كان من كتابه فكتبه من أصح الكتب وقد أثنى عليها أحمد ثناءا كبيرا .
إذا حدث عن غير الزهري ولا يكون شيخه ابن المنكدر كنافع مثلاً ، وهذا أيضاً صحيح ، ولكن دون الأول ، وبالذات إذا كان من كتابه .
إذا حديث عن ابن المنكدر فقد تكلم أبو حاتم الرازي في روايته عنه والسبب في ذلك أن شعيباً أراد أن يسمع من ابن المنكدر فكتب أحاديثه ويظهر أنه أخذها من غير ثبت ولعله من ابن أبي فروة فعندما عرضها على ابن المنكدر عرف بعضها وأنكر البعض ويبدو أن شعيباً لم يصحح ذلك وبقي الكتاب عنده وكان شعيب عسرا في الرواية وعندما نزل به الموت جاء إليه وجوه الحمصيين وطلبوا منه الرواية عنه فأجازها لهم فرووها من كتبه ومنها روايته عن ابن المنكدر ومن حديث ابن المنكدر حديث الاستفتاح ، وكان شعيب سمعه أيضاً من ابن أبي فروة ، فروى عن شعيب عن ابن أبي فروة وابن المنكدر ، وروى أيضاً عن ابن المنكدر لوحده ويرى ابن رجب أن لفظ الحديث إنما هو لابن أبي فروة وليس لابن المنكدر ، واستدل بهذا على تأييد كلام أ[ي حاتم الرازي في حديث الدعاء بعد الأذان ، وهذا الحديث صححه البخاري بإخراجه في صحيحه (614) وأخرجه الترمذي (211) وقال ( حديث حسن(1) غريب من حديث ابن المنكدر لا نعلم أحداً رواه غير شعيب بن أبي حمزة ) .
وصححه ابن خزيمة (420) وابن حبان (1681) .
والكلام على هذا المثال يطول ، ولكن كما ذكرت المقصود هو الكلام على هذا النوع من أنواع التدليس .
__________
(1) هذا ما جاء في أكثر نسخ الترمذي ، وفي نسخه : ( حسن صحيح ) ، والأول أصح لأنه جاء في أكثر النسخ .(1/19)
وأما المثال الثاني الذي ذكره :
فرواه معمر عن ثابت وأبان بن أبي عياش وهو متروك كلاهما عن أنس ، فذهب أحمد إلى أن اللفظ المذكور إنما هو لظ أبان وليس ثابت ، وأن لفظ حديث ثابت يختلف فعلى هذا يكون الحديث ضعيفاً .
وأما المثال الثالث :
فروى ابن عيينة حديثاً عن ليث وهو ابن أبي سليم وهو ضعيف عن مجاهد عن أبي معمر عم علي رضي الله عنه به .
ورواه أيضاً عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن علي به ، ومجاهد لم يسمع من علي فيكون منقطعاً ، فأحياناً يروي ابن عيينة الحديث عنهما فيعطف رواية ابن أبي نجيح على رواية ليث ولا يبين وهذا يفيد أن ابن عيينة أحياناً يدلس عن الضعفاء وإن كان الغالب عليه لا يدلس إلا عن الثقات .
ومن الأمثلة على ذلك :
ما راروه أبو داود (1573) من طريق ابن وهب أخبرني جرير بن حازم وسمى آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنها فذكر حديثاً في الزكاة .
قال الزيلعي في ( نصب الراية ) 2/328 :
( ولا يقدح في ضعف الحارث لمتابعة عاصم له ، وقال عبد الحق في أحكامه : هذا حديث رواه ابن وهب عن جرير بن حازم عن أبي إسحاق والحارث كذاب ، وكثير من الشيوخ يجوز عليه مثل هذا ، وهو أن الحارث أسنده وعاصم لم يسنده فجمعهما جرير وأدخل حديث أحدهما في الآخر وكل ثقة رواه موقوفاً ، فلو أن جريراً أسنده عن عاصم وبين ذلك أخذنا به ) اهـ من ( نصب الراية ) .
قلت : وما قاله عبد الحق وهو أن رواية عاصم عن علي موقوفة ،
قال أبو داود : ورواه شعبة وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي ولم يرفعوه . اهـ .
وأما رواية الحارث عن علي فهي مرفوعة فرواه جرير عن أبي إسحاق عن عاصم والحارث عن علي مرفوعاً ، والصواب التفصيل كما تقدم .
مثال آخر :
روى الترمذي (1728) ثنا قتيبة ثنا سفيان بن عيينة وعبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس رفعه : ( أيما إهاب دبغ فقد ظهر ) .(1/20)
قلت : اختلف الرواة عن زيد بن أسلم في لفظ هذا الحديث فبعضهم رواه بلفظ ( أيما ... ) كما هي في رواية ابن عيينة ، ورواه آخرون بلفظ ( إذا دبغ الإهاب ... ) كما هي في رواية مالك وغيره وفي رواية قتيبة السابقة يبدو أنه عطف رواية الدراوردي على رواية ابن عيينة لأنه جاء من طريق آخر عن الدراوردي بلفظ ( إذا دبغ ... ) فقد رواه الدار قطني 1/46 في ( سننه ) من طريق ابن أبي مذعور عن الدراوردي به .
والأمثلة على هذا النوع من أنواع التدليس تكثر لمن أراد أن يتتبعها ، فهذا النوع من أنواع التدليس مهم جداً ، ويخفى على الكثير كما قال عبد الحق ( وكثير من الشيوخ يجوز عليه مثل هذا ) ، وعندي أن هذا النوع أخطر وأكثر خفاءا من تدليس التسوية لأمرين :
لكثرة وقوعه بخلاف التسوية ، فإنه نادر .
لأنه أكثر خفاءا من التسوية كما تقدم .
والله تعال أعلم .
وقليل من نبه على هذا النوع من أنواع التدليس ، وقد نبه عليه أيضاً الخطيب فقال ( الكفاية ) ص377 .
( باب في المحدث يروي حديثاً عن الرجلين أحدهما مجروح هل يجوز للطالب أن يسقط اسم المجروح ـ وذكر مثالاً ـ ثم قال : ولا يستحب للطالب أن يسقط المجروح ويجعل الحديث عن الثقة وربما كان الراوي قد يكون في حديث المجروح ما ليس في حديث الثقة وربما كان الراوي قد أحد اللفظين في الآخر أو حمله عليه وقد سئل أحمد بن حنبل عن مثل هذا في الحديث يروى عن ثابت البناني وأبان بن أبي عياش عن أنس فقال فيه نحواً مما ذكرنا ) اهـ .
وبسبب ذلك تكلم الحفاظ في جمع من الرواة كانوا إذا حدثوا أحياناً يجمعون أكثر من واحد من شيوخهم في الحديث الواحد أو المسألة الواحدة ولا يفرقون بين رواية أحدهم عن الآخر وقد يكون بينهما اختلاف .
قال المروذي : سألت أحمد عن ( محمد بن إسحاق ) ، فقال : هو حسن الحديث ولكنه إذا جمع بين الرجلين ، قلت : كيف ، . قال : يحدث عن الزهري فيحمل حديث هذا .. اهـ من ( العلل ) رواية المروذي ص61 .(1/21)
وقال ابن سعد في ( الطبقات ) ص349 :
( إن ليثاً(1) كان سأل عطاء وطاووس ومجاهداً عن الشئ فيختلفون فيه ، فيحكي عنهم في ذلك الاتفاق من غير تعمد له ) اهـ .
وقال أبو يعلى الخليلي في ( الإرشاد ) 1/417 :
( ذاكرت يوماً بعض الحفاظ فقلت : البخاري لم يخرج حماد بن سلمة في الصحيح وهو زاهد ثقة . فقال : لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس ، فيقول : حدثنا قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب ، وربما يخالف في بعض ذلك . فقلت : أليس ابن وهب اتفقوا عليه وهو يجمع بين أسانيد ، فيقول ثنا مالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد الأوزاعي بأحاديث ويجمع بين جماعة غيرهم . فقال : ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ له ) اهـ .
قال ابن رجب ـ تعليقاً على ما تقدم ـ :
( ومعنى هذا أن الرجل إذا جمع بين حديث جماعة وساق الحديث سياقة واحدة فالظاهر أن لفظهم لم يتفق فلم يقبل هذا الجمع إلا من حافظ متقن لحديثه يعرف اتقان شيوخه واختلافهم كما كان الزهري يجم بين شيوخ له في حديث الإفك وغيره ) اهـ من ( شرح العلل ) ص463 وقد أطال ابن رجب في ( شح العلل ) الكلام على هذه المسألة وذكر الأمثلة الكثير على ذلك .
( وأما تدليس القطع )
فلا أعرف أحداً وصف به سوى ( عمر بن علي المقدمي ) وتقدم الكلام على هذا ، ويظهر أن فعله لهذا نادر كما بين المؤلف وفقه الله تعالى .
( وأما تدليس الصيغ )
فالمقصود به : عندما يستعمل بعض الرواة صيغة التحديث أو الأخبار في الإجازة موهماً للسماع ونحو ذلك من تدليس صيغة التحمل .
قال أبو الفصل بن حجر في ( طبقات المدلسين ) ص62 :
( ويلتحق بالتدليس ما يقع من بعض المحدثين من التعبير بالتحديث أو الإخبار عن الإجازة موهماً للسماع ولا يكن سمع من ذلك الشيخ شيئاً ) اهـ .
ونبه عليه أيضاً في ( النكت على ابن الصلاح ) ينظر 2/624 و625 و 633 .
__________
(1) هو : ابن أبي سليم .(1/22)
وممن وصف بذلك أبو نعيم الأصبهاني ، قال ابن حجر في طبقات المدلسين ص82 : ( كانت له إجازة من أناس أدركهم ولم يلقهم فكان يروي عنهم بصيغة أخبرنا ولا يبين كونها إجازة لكنه كان إذا حدث عمن سمنع منه يقول : ثنا سواء ذلك قراءة أو سماعاً وهو اصطلاح له تبعه عليه بعضهم ، وفيه نوع التدليس لمن لا يعرف ذلك ) اهـ .
قلت : والأمثلة على هذا كثيرة .
( وأما تدليس البلدان )
فهو : أن يقول الراوي مثلاً : حدثنا بما وراء النهر ، ويقصد بالنهر ( دجلة ) وليس ( نهر جيحون ) ينظر ( الاقتراح ) لابن دقيق العيد ص212 .
( وأما تدليس المتون )
فقد ذكره أبو المظفر السمعاني في كتابه ( قواطع الأدلة ) 2/232 فقال :
( وأما من يدلس في المتون فهذا مطرح الحديث مجروح العدالة وهو ممن يحرف الكلم عن مواضعه فكان ملحقاً بالكذابين ولم يقبل حديثه ) اهـ .
قلت : إذا كان أبو المظفر يقصد تغيير المتن تعمداً من الراوي أو حمل هذا المتن على إسناد آخر فهذا كذب لمن تعمده ، ولكن لا يسمى ـ اصطلاحاً ـ تدليساً ، وأما إذا لم يتعمد فهذا أيضاً لا يسمى تدليساً وإنما خطأ وسوء حفظ(1) .
( وأما التدليس الأخير )
وهو الحادي عشر : فالمقصود به هو مثل ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لحاجته ... اهـ .
وقد اختلف على أبي إسحاق في هذا الحديث فرواه : زهير عنه وعن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله ، ورواه غيره عن أبي إسحاق غير ما تقدم .
قال أبو عبد الله الحاكم في ( معرفة علوم ا لحديث ) ص135 :
__________
(1) وقال محقق ( القواطع ) : تدليس المتون : هو المسمى في إصطلاح المحدثين ( المدرج ) ... قلت : فإذا كان المقصود هو هذا فهذا يسمى في الاصطلاح إدراجاً كما تقدم .(1/23)
( قال علي : وكان زهير وإسرائيل يقولان عن أبي إسحاق أنه كان يقول ليس أبو عبيدة حدثنا ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاستنجاء بالأحجار الثلاثة ، قال ابن الشاذكوني : ما سمعت بتدليس فقد أعجب من هذا ولا أخفي ، قال أبو عبيدة : لم يحدثني ولكن عبد الرحمن عن فلان عن فلان ولم يقل حدثني فجاز الحديث وسار ) اهـ .
فالشاذكوني يرى أن أبا إسحاق دلس في قوله : ليس أبو عبيدة ذكره ... ولذلك قال : ما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا ولا أخفى ، وهو تدليس في الإسناد في الحقيقة ولكن صورته قد تختلف .
قلت : وما مثله ما رواه أبو عبد الله بن أحمد في ( العلل ) (2229) فقال : ثنى أبي قال ثما هشيم قال : أما المغيرة وأما الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم : لم ير بأساً بمصافحة المرأة التي قد خلت من وراء الثوب .
قال عبد الله : سمعت أبي يقول : لم يسمعه هشيم من مغيرة ولا من الحسن بن عبيد الله اهـ .
وقريب مما تقدم ولكنه ليس مثله :
ما رواه أيضاً عبد الله في ( العلل ) (2243) : ثنى أبي ثنا هشيم عن التيمي عن أبي الضحى والحسن بن عبيد الله عن أبي الضحى أن رجلاً جاء إلى ابن عباس ... قال عبد الله ، قال أبي : لم يسمعه من التيمي ولا من الحسن بن عبيد الله شيئاً .
... ... ... ... ... ... وكتب
4/4/1421هـ
... ... ... ... عبدالله بن عبدالرحمن السعد
منهج المتقدمين
في
التدليس
ناصر بن حمد الفهد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :(1/24)
فقد كان من نعم الله العظيمة على هذه الأمة أن سخر لها علماء جهابذة ، دعوا من ضل إلى الهدى ، وصبروا منه على الأذى ، وأحيوا بكتاب الله الموتى ، وبصروا بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لأبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وما أٌبح أثر الناس عليهم ، نفوا عن كتاب الله وعن سنة رسول الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، فحفظوا السنن ، وجابوا البلدان ، وميزا الأحاديث ، وعرفوا الرجال ، وخبروا العلل ، وصنفوا المصنفات ، حتى أظهروا الحق وأبانوا الطريق وأزلوا العوائق أمام كل من أراد أيعرف السنة ، فهي أمامنا اليوم بيضاء نقية بفضل من الله تعالى ثم بجهود أولئك القوم رحمهم الله تعالى وجزاهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء ، والكلام في وصفهم يطول ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق .
قال ابن حبان رحمه الله تعالى في وصفهم(1) : ( أمعنوا في الحفظ وأكثروا في الكتابة ، وأفرطوا في الرحلة ، وواظبوا على السنة والمذاكرة والتصنيف والدراسة ، حتى أن أحدهم لوسئل عن عدد الأحرف في السنن لكل سنة منها عدها عداً ، ولو زيد فيها ألف أو واو لأخرجها طوعاً ولأظهرها ديانة ، ولولاهم لدرست الآثار واضمحلت الأخبار ، وعلا أهل الضلالة والهوى ، وارتفع أهل البدع والعى ) اهـ .
وكان لأولئك القوم منهج دقيق ، وخبرة عظيمة في تمييز صحيح الأخبار وضعيفها ، حتى كان عملهم هذا أشبه ما يكون بالإلهام ـ وليس به ـ قال ابن رجب رحمه الله تعالى(2) :
__________
(1) كتاب المجروحين ) 1/58 ـ بتصرف يسير ـ .
(2) جامع العلوم والحكم ) ص256 ، بتصرف يسير .(1/25)
( وإنما يحمل مثل هذه الأحاديث(1) على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكرم غيره ، ولحال رواة الحديث ، ونقلة الأخبار ، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وضبطهم وحفظهم ، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث مختصون بمعرفته كما يختص الصيرفي الحاذق في معرفة النقود جيدها ورديئتها وخالصها ومشوبها والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر ، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته ولا يقيم عليه دليلاً لعغيره ، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة ، وقد امتحن هذا منهم غير مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم فوجد الأمر على ذلك فقال السائل : ( أشهد أن هذا العلم إلهام ) .
قال الأعمش : ( كان إبراهيم النخعي صيرفياً في الحديث كنت أسمع من الرجال فأعرض عليه ما سمعته ) .
وقال عمرو بن قيس : ( ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينقد الدرهم الزائف والبهرج وكذا الحديث ) .
وقال الأوزاعي : ( كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة فما عرفوا أخذنا وما أنكروا تركنا ) .
وقيل لعبد الرحمن بن مهدي : إنك تقول للشئ هذا يصح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك ، . فقال : ( أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال هذا جيد وهذا بهرج أكنت تسأله عن ذلك أو تسلم الأمر إليه ؟
قال : لا بل كنت أسلم الأمر إليه .
فقال : فهذا كذلك لطول المجادلة والمناظرة والخبرة .
__________
(1) يعني حديث ( إذا حدثتم عني حديثي تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوه فإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني بحديث تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدقوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ) ، وقد ذكر علته وضعفه .(1/26)
وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضاً ، وأنه قيل له : يا أبا عبد الله تقول هذا الحديث منكر فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله ؟
قال : مثلنا كمثل ناقد العين لم تقع بيده العين كلها فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد أو أنه ردئ .
وقال ابن مهدي : ( معرفة الحديث إلهام ) .
وقال : ( إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة ) .
وقال أبو حاتم الرازي : ( مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده فكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه ) .
وبكل حال : فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جداً وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين ثم خلفه أيوب السختياني وأخذ ذلك عنه شعبة وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي وأخذ عنهما أحمد وعلي بن المديني وابن معين وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم ، وجاء بعد هؤلاء جماعة منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدار قطني ، وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك .
حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه ( الموضوعات ) : ( قل من يفهم هذا بل عدم والله أعلم ) اهـ .
ثم إن أهل العلم بعدهم ـ أعني بهم من تأخر زمنه عن أولئك الأئمة ـ وبعد انتهاء مراحل جمع الحديث وتدوينه بالأسانيد وتمييز صحيحه من ضعيفه اتجهوا إلى دراسة ما تركه أولئك من تراث عظيم .
وكان من ضمن تراثهم طريقتهم في دراسة الحديث والحكم عليه فدرسوا مناهجهم في ذلك وحاولوا استخلاص ضوابط كلية تيسر عليهم التعامل مع الأحاديث أسانيدها ومتونها .(1/27)
فوضعت هذه الضوابط أول ما وضعت تقريباً لعلم أصول الحديث إلى أذهان الطلاب وتعريفاً لهم بطريقة السلف في التعامل مع الأحاديث تصحيحاً وتعليلاً(1) .
ثم ما لبثت هذه القواعد والضوابط أن جعلها بعض المعاصرين سيفاً يبارز به الأئمة الفحول من المتقدمين(2) فيصحح ما ضعفوه أو يضعف ما صححوه بحجة أن كلام المتقدمين على هذا الحديث أو ذاك يخالف ما تقرر في 0 قواعد المصطلح )(3)
__________
(1) ومما يدل على ذلك أن عمدة كتب المتأخرين في المصطلح هو كتاب ( مقدمة ابن الصلاح ) ، وقد صرح ابن الصلاح بأن باب التصحيح والتضعيف قد أغلق ولا بد فيه من الاعتماد على أقوال المتقدمين فقط ( المقدمة ) ص16،17 .
(2) بالنسبة لعمل فضلاء المتأخرين كالنووي والذهبي وابن حجر والعراقي والسخاوي ونحوهم فإنهم وإن قعدوا تلك القواعد إلا أنهم لم يبارزوا بها أولئك الأئمة ، فيصححوا ما ضعفوه أو يضعفوا ما صححوه . فقد قال الحافظ بن حجر ـ وهو من واضعي قواعد المصطلح ـ في ( النكت ) 2/726ـ عند كلامه على تعليل للسلف لبعض الأحاديث ـ ( وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه ) اهـ ، وقال في حديث ظاهر إسناده الصحة قال عنه أبو حاتم ( باطل ) ( التلخيص ) 2/131 : ( لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له ) اهـ ، وقال الذهبي في ( الموقظة ) ص45 عند كلام له على بعض الرواة ( وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث ، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها وأما نحن فطالت علينا الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة ) اهـ .
(3) نحو قول بعض المعاصرين ردا على بعض الأحاديث التي أعلها السلف : ( هذا إسناد رجاله ثقات فهو صحيح فلا التفات إلى قول من ضعفه ) ، ( وذاك إٍناد وإن تفرد به فلان لكنه ثقة وتفرد الثقة مقبول ) ، ( وتلك الزيادة زادها فلان وزيادة الثقة مقبولة ) = ونحوه قولهم بفي بعض الأحاديث التي صححه السلف : ( وهذا الإسناد وإن كان رجاله ثقات إلا أن فيه فلانا وهو مدلس وقد عنعن ) ، ( وهذا الإسناد ضعيف لأن فيه فلاناً وهو سئ الحفظ ) ، ( وهذا إسناد حسن لا صحيح لأن فيه فلاناً وهو ( صدوق ) كما في ( التقريب ) ، وأعجب من هذا كله قول أحد أولئك على حديث أعله إمام العلل أبو الحسن علي بن المديني ( وهو أعلم من الإمام أحمد بعلم العلل كما ذكره الإمام أحمد نفسه في رواية حنبل عنه ـ وهو الذي يقول فيه البخاري ـ أمير المؤمنين في الحديث ـ ( ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ) فجاء هذا إلى الحديث الذي أعله ذلك الإمام قائلاً ( ما هكذا تعلل الأحاديث يا ابن المديني ) !!!! ول سألت هذا ( المزاحم لأولئك الجهابذة ) أن يروي لك حديثاً واحداً بالإسناد حفظاً ما استطاع ، وربما لو قرأه نظراً لصحف في مواضع ، ولو علم هؤلاء قدرهم لعلموا أن من أعظم النعم عليهم في هذا الباب أن لو فهموا تعليلات السلف للأحاديث على وجهها واستطاعةا شرحها ولكن ( ساء فهم فساء جابه ) .(1/28)
!!! .
وهل ( مصطلح الحديث ) و ( قواعده ) إلا محاولة لتقريب علوم أولئك الجهابذة إلينا ؟! فالواجب محاكمة ( قواعد المصطلح ) إلى عمل أولئك الأئمة لا محاكمة عملهم إلى ( قواعد المصطلح ) .
وإن من أعظم الفوارق بين ما انتهجه المتقدمون في علم الحديث ، وما النتهجه المتأخرون هو أن المتقدمين كانت أحكامهم تقوم على السبر والتتبع والاستقراء في التصحيح والتضعيف والتوثيق والتجريح والتعليل والحكم بالوهم والتدليس والنكارة ونحو ذلك ، مع الحفظ والفهم وكثرة المدارسة والمذاكرة ، وأما المتأخرون فغلب علة منهجهم الاعتماد على الضوابط التي سبق الإشارة إليها ، وجعلها كثير من المعاصرين طريقاً سهلاً يختصر عليهم عناء الحفظ ويطوي عنهم بساط الاستقراء والتتبع والممارسة والمقارنة والنظر في القرائن وأحوال الأسانيد والمتون ، فيكفي الطالب منهم ليقارع أكبر الأئمة في ذلك الزمن أن يقرأ كتاباً في ( مصطلح الحديث ) ، ويخرّج بعض الأحاديث(1) .
والحاصل : أن هذا الكتاب الذي بين يديك بحثت فيه ( منهج المتقدمين في التدليس ) وحاولت فيه فهم طريقتهم في تعاملهم مع أحاديث المدلسين عن طريق معرفة نصوصهم في هذا الباب ، وتطبيقاتهم العملية من خلال جمع الأحاديث التي أعلوها بالتدليس ، وقسمت فيه البحث إلى أربعة فصول :
الفصل الأول : في تعريف التدليس عند المتقدمين .
الفصل الثاني : في معرفة المدلسين .
__________
(1) لا أعني في هذا الكلام أن باب التصحيح والتضعيف أغلق ، ولكن الفوائد من معرفة علوم الحديث على منهج المتقدمين متعددة أهمها ثلاثة أمور :
الوقوف على مآخذهم في الحكم على الأحاديث ، فإن هذا يحدث من الاطمئنان أكثر مما يحدثه التقليد المحض .
الترجيح بين أقوالهم عند اختلافهم في التصحيح والتضعيف استناداً إلى طرقهم في ذلك .
الحكم على الأحاديث التي لم يبلغنا حكمهم فيها .
أما مزاحمتهم في أحكامهم على الأحاديث فلا والله .(1/29)
الفصل الثالث : في رواية المدلسين والعنعنة .
الفصل الرابع : في الحكم على روايات المدلسين .
والفصول الثلاثة كلها ممهدة للفصل الرابع الذي هو عمة هذا الكتاب ، وقد تبين لي الفارق الكبير بين أحكام السلف على أحاديث المدلسين المعنعنة وأحكام الممتأخرين عليها بيناً يتضح إن شاء الله تعالى لمن قرأ الفصل الرابع من هذا الباب ـ وكان عالماً بطريقة المتأخرين في حكمهم على رواية المدلس المعنعنة ـ .
هذا وأسأل الله تعالى أن هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به من قرأه .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
... ... ... ... ... ... ... كتبه
ناصر بن حمد الفهد
شهر صفر من عام 1421
ص ب : 1349 الرياض 11342
الفصل الأول
معنى التدليس عند المتقدمين
لا بد لمعرفة حكم التدليس عند الأئمة المتقدمين أن نعرف أولاً مقصودهم بهذا المصطلح ، ولا يكفي في ذلك أن نرجع إلى ما كتبه المتأخرون عنه ، بل لا بد من الرجوع لأهل الشأن الأسبقين ، فإن كثيراً من الأخطاء قد تحصل بسبب حمل كلام المتقدمين وتفسيره على حسب مصطلحات المتأخرين وترتيب الأحكام بناءا على ذلك مع كونها مخالفة لها ، وهذا عام يشمل تفسير نصوص الكتاب والسنة وكلام السلف وغير ذلك ، وأمثلة ذلك كثيرة جداً .
وقد نبه على ذلك كثيراً من الأئمة كشيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما ، وإليك على سبيل المثال نماذج لبعض الأخطاء التي تترتب عند حمل نصوص المتقدمين على المصطلحات الحادثة :
الحد : فإنه في الشرع يراد به الفصل بين الحلال و الحرام .
كما قال الله تعالى: ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأؤلئك هم الظلمون ) ( البقرة :229 ) وقوله تعالى : ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) ( البقرة : 187 ) وقوله تعالى : ( وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) ( الطلاق : 1 )(1/30)
واصطلح الفقهاء فيما بعد على تخصيص ( الحد ) بالعقوبة الشرعية المقدرة كالقطع في السرقة والجلد في القدف ونحوها , ثم إن بعض الفقهاء أراد تفسير النصوص الشرعية بالمصطلح الحادث , ففسر قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ) بإنه الحد المصطلح عليه عند الفقهاء , مع أنه مصطلح حادث ،
فمنع بناءا على ذلك أن يجلد فوق عشرة أسواط في أي تعزيز أو معصية تنتهك فيها محارم الله ما لم تكن حدا بناءا على هذا الفهم .
القضاء : فإنه في اللغة ونصوص الكتاب والسنة يأتي بمعنى الأداء والإتمام كقوله تعالى : ( فإذا قضيت الصلاة ) ( الجمعة : 10 ) وقوله تعالى : ( فإذا قضيتم مناسككم ) (البقرة : 200 ) وقوله تعالى : ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) ( النساء : 103 ) ونحوها .
واصطلح الفقهاء فيما بعد على تخصيص القضاء بفعل العبادة بعد الوقت والأداء بفعلها في الوقت.
ثم أراد بعضهم تفسير النصوص الشرعية على حسب المصطلح الحادث , فاستدل بعضهم على أن المسبوق إنما يقضي أول صلاته بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في المسبوقين – ( وما فاتكم فاقضوا ) , وهذا مصطلح حادث , فشرع له قراءة الاستفتاح في أول ركعة يقضيها بعد سلام الإمام و قراءة السورة بعد الفاتحة ونحو ذلك
النسخ : فإنه يطلق عند الصحابة و السلف على صرف ظاهر النص أو الحكم عن ما يظن به أولا كتخصيص عموم أو تقييد مطلق أو بيان مجمل ونحوه .
واصطلح الأصوليون فيما بعد على أن النسخ هو رفع الحكم الشرعي , ثم فسر كثير من الفقهاء كلام السلف بإن ( الآية كذا و كذا منسوخة ) أو أن ( الحكم هذا منسوخ ) على المصطلح الحادث الذي هو رفع الحكم كله وقد لا يكون مقصودا لهم .
الكراهة : فإن الكراهة عند السلف تطلق على المكروه تحريما و تنزيها .(1/31)
واصطلح المتأخرون على أن المكروه هو ( ما يثاب تركه ولا يعاقب فاعله ) , ثم إنهم فسروا كثيرا من نصوص السلف في قولهم ( أكره كذا وكذا ) على الكراهة الاصطلاحية الحادثة بعدهم.
وهكذا و الأمثلة في هذا الباب كثيرة جدا(1)
والمقصود من هذا كله : أنه لا بد من معرفة المراد بمصطلح التدليس عند المتأخرون المتقدمين حتى لا نقع في الخطأ فنفسر نصوصهم بما اصطلح عليه المتأخرون وقد لا يكون مرادا لهم سبق , فنقول :
التدليس مأخوذ من ( الدلس ) بالتحريك وهو الظلمة , والمقصود به عندهم ( مطلق الإيهام ) , فلو روى أحد عن آخر موهما – بقصد أو بغيره – غير الحقيقة فهو تدليس ( في الجملة ) .
ويتناول صورا عدة منها :
( الصورة الأولى )
وهي رواية الراوي عمن لقبه وسمعه ما لم يسمعه منه
وهذه الصورة هي الصورة المشهورة عند المتأخرين ، بل خصص الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى تدليس الإسناد(2) بها ، وتبعه عليه كثير ممن جاء بعده .
قال يحيى بن معين(3) :
( سمعت يحيى يقول : الأعمش سمع من مجاهد ، وكل شئ يروي عنه لم يسمع(4) إنما مرسله مدلسة ) اهـ .
فالأعمش سمع من مجاهد أحاديث وروى عنه أحاديث لم يسمعها منه بل سمعها من غيره ، قال عبد الله بن أحمد(5) :
( قلت لأبي : أحاديث الأعمش عن مجاهد عمن هي ، قال : قال أبو بكر بن عياش : قال رجل للأعمش : ممن سمعته ؟ في شئ رواه عن مجاهد .
قال : مر كزاز بالفارسية ، حدثنيه ليث عن مجاهد ) اهـ .
__________
(1) وقد رأيت في هذه الأمثلة أن أكثر الاختلاف بين مصطلحات المتقدمين والمتأخرين هو أن المتأخرين في الغالب يخصصون مصطلح المتقدمين ببعض أفراده ، وقد جمعت في ذلك بحثاً بعنوان ( اختلاف الاصطلاحات وأثر ذذلك في فهم النصوص ) .
(2) انظر مثلاً : ( النكت ) 2/614 ، ( طبقات المدلسين ) ص16 .
(3) من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال ) ص46 .
(4) لعل المقصود ( لم يصرح بالسماع ) .
(5) العلل ومعرفة الرجال ) للإمام أحمد 1/255 .(1/32)
قال عبد الله بن أحمد(1) :
( سمعت أبي يقول : هذان الحديثان سمعهما هشيم من جابر الجعفي وكل شئ حدث عن جابر مدلس إلا هذين ، ثم ذكرها ) اهـ .
قال الدوري(2) :
( سمعت يحيى يقول في حديث ( من وسع على عياله ) .
قال : حدثنا أبو أسامه عن جعفر الأحمر عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر .
قلت ليحيى : قد رواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد .
قال يحيى : إنما دلسه سفيان عن أبي أسامه .
فقلت ليحيى : فلم يسمع سفيان من إبراهيم بن محمد المنتشر(3) .
فقال : بلى قد سمع منه ولكن لم يسمع هذا سفيان بن عيينة من إبراهيم بن محمد بن المنشر ) اهـ .
ومن ذلك : ما ذكروه من تدليس حميد الطويل لأحاديث أنس ، والوليد بن مسلم لأحاديث الأوزاعي ، وزكريا بن أبي زائدة لأحاديث الشعبي وسيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث .
***
الصورة الثانية
وهي رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه أولقيه ولم يسمع منه
وهذه الصورة التي جعلها المتأخرون باسم ( المرسل الخفي ) وفرقوا بينها وبين التدليس اتباعالابن حجر رحمه الله تعالى ، وكثير نم تدليس الثقات الحفاظ هو من هذا الجنس .
والأمثلة على ذلك كثيرة من كلام الأئمة المتقدمين أذكر بعضاً منها :
قال أحمد بن حنبل(4) :
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال ) 2/250 .
(2) تاريخ الدوري ) 3/452 .
(3) سؤال الدوري هذا يدل على أن التدليس يطلق بكثرة على الرواية عمن لم يسمع منه أصلاً لأنه سبق إلى فهمه
(4) سير أعلام النبلاء : 6ص: 415 .(1/33)
( لم يسمع سعيد بن عروبة من : الحكم ، ولا من الأعمش ، ولا من حماد ، ولا من عمرو بن دينار ، ولا من هشام بن عروة ، ولا من إسماعيل بن أبي خالد ، ومن عبيد الله بن عمر ، ولا من أبي بشر ، ولا من ابن عقيل ، ولا من زيد بن أسلم ولا من عمر بن أبي سلمة ، ولا من أبي الزناد ، وقد حدث عن هؤلاء على التدليس )(1) اهـ .
__________
(1) قوله ( وقد حدث على هؤلاء على التدليس ) من قول الذهبي ، لأن ابن أبي حاتم رواها عن عبد الله بن أحمد كما في ( المراسيل ) ص78 قال : ( حدثني أبي قال : لم يسمع سعيد بن أبي عروبة من الحكم بن عتيبة شيئاً ولا من ... إلى أن قال : قال أبي : وقد حدث عن هؤلاء كلهم لم يسمع منهم شيئاً ، اهـ ، ورواها العقيلي أيضاً في ( الضعفاء ) 1/13 من طريق عبد الله بن أحمد ، ولم يذكرا ( وقد حدث عن هؤلاء على التدليس ) ، وقد ذكر عبد الله في ( العلل ومعرفة الرجال ) 3/198 نحواً من هذا النص إلا أنه أخصر وليست في هذه الجملة ، وذكره الذهبي أيضاً في ( الميزان ) 3/221 ولم يذكر الجملة الأخير ، ويشبه قول الذهبي هنا ما ذكره عن الإمام أحمد أيضاً عن هشيم ـ ونقله الذهبي في ( السير ) 8/289 ـ ( لم يسمع هشيم من يزيد بن أبي زياد ولا من الحسن بن عبيد الله ولا من أبي خالد ولا من سيار ولا من موسى الجهني ولا من علي بن زيد بن جدعان ، ثم سمى جماعة كثيرة يعني فروايته عنهم مدلسه ) اهـ . فعبارة ( فروايته عنهم مدلسة ) من قول الذهبي ، فقد ذكرها أيضاً في ( تذكرة الحفاظ ) 1/249 فقال ( قلت : لا نزاع في أنه كان من الحفاظ الثقات إلا أنه كثير التدليس فقد روي عن جماعة لم يسمع منهم قال أحمد بن حنبل لم يسمع هشيم من يزيد بن أبي زياد ولا من عاصم بن كليب ولا من أبي خلدة ولا من علي بن جدعان ثم سمى جماعة قد روى عنهم كذلك ) اهـ والاستدلال قائم على فهم الذهبي لتلك النصوص وعبارات السلف في كلا النقلين عن ابن أبي عروبة وعن هشيم والله تعالى أعلم .(1/34)
قال ابن حبان(1) :
( عبد العزيز بن جريج والد عبد الملك بن عبد العزيز من فقهاء أهل مكة له عن صحابي سماع وكل ما روى عن عائشة مدلس لم يسمع منها شيئاً ) اهـ .
قال يحيى بن معين(2) :
( دلس هشيم عن زاذان أبي منصور ولم يسمع منه ) اهـ .
وقال الحاكم(3) :
( والجنس السادس من التدليس قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ولم يسمعوا منهم إنما قالوا قال فحمل ذلك عنهم على السماع وليس عندهم عنهم سماع عال ولا نازل ... ثم مثل على ذلك فقال : فليعلم صاحب الحديث :
أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ، ولا من جابر ، ولا من ابن عمر ، ولا من ابن عباس شيئاً قط .
وأن الأعمش لم يسمع من أنس .
وأن الشعبي لم يسمع من صحابي غير أنس ، وأن الشعبي لم يسمع من عائشة ، ولا من عبد الله بن مسعود ، ولا من أسامه بن زيد ولا من علي إنما رآه رؤية ، ولا من معاذ بن جبل ولا من زيد بن ثابت .
وأن قتادة لم يسمع من صحابي غير أنس .
وأن عامة حديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة .
وأن عامة حديث مكحول عن الصحابة حوالة .
وأن ذلك كله يخفى إلا على الحفاظ للحديث )(4) اهـ .
***
الصورة الثالثة
رواية الراوي عمن لم يعاصره ول يدركه إذا كانت روايته
موهمة الاتصال
ومن الأمثلة على ذلك :
قول ابن حبان عن عبد الجبار بن وائل بن حجر(5) :
__________
(1) مشاهير علماء الأمصار ج : 1ص:145 ، وابن حبان يطلق التدليس كثيراً على رواية المعاصر عمن لم يسمع منه . وانظر حاشية (1) رقم (74) .
(2) تاريخ الدوري ) 4/380 .
(3) معرفة علوم الحديث ص109 .
(4) انظر : مزيداً من الأمثلةفي كتاب العوني ( المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس ) في المجلد الأول منه ، و ( موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع ) لخالد الدريس ص338ـ345 ، وفي بحثه المخطوط في الدفاع عن أبي الزبير أيضاً تحرير جيد لهذه المسألة .
(5) مشاهير علماء الأمصار ج : 1ص: 163 .(1/35)
( مات أبوه وائل وأمه حامل به كل ما روى عن أبيه ، ومع ذلك جعل روايته عنه مدلسه لأن رواية الابن عن أبيه موهمة للاتصال في الغالب ، وإطلاق التدليس على هذه الصورة قليل ، لوضوح الانقطاع في الغالب لمن لم يدركه فلا إيهام في الرواية عنه .
***
الصورة الرابعة
رواية الراوي من صحيفة عمن قد عاصره ولقبه أو لم يلقه
ومن الأمثلة على ذلك :
قول ابن حبان(1) :
( ما سمع عن مجاهد أحد غير القاسم بن أبي بزة نظر الحكم بن عتيبة وليث بن أبي سليم وابن نجيح وابن جريج وابن عيينة في كتاب القاسم ونسخوه ثم دلسوه عن مجاهد ) اهـ .
ومنه ما ذكر من تدليس ابن أبي نجيح كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني
***
الصورة الخامسة
وهو ما يسمى ( تدليس الشيوخ ) وهو أن يروي عن شيخ فيسميه أو يلقبه أو يكذبه بخلاف ما يشتهر به حتى لا يعرف
والأمثلة على ذلك كثيرة منها :
قال الدوري(2) :
( سألت يحيى عن حديث هشيم عن أبي إسحاق عن أبي قيس عن هزيل قال قال عبد الله ( ما أبالي ذكرى مسست أو أنفي ) .
فقلت له : من أبو إسحاق هذا .
فقال يحيى : هشيم لم يلق أبا إسحاق السبيعي ولم يلق أيضاً أبا إسحاق(3) والذي يدلس عنه الذي يقال له أبو إسحاق الكوفي ) اهـ .
وقال الدار قطني(4) .
( قال مخلد بن يزيد عن ابن جريج عن محمد بن أبي عاصم عن موسى بن وردان وإنما هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى دلس ابن جريج عنه ) اهـ .
وقال أيضاً(5) :
( قال لي أبو طالب أحمد بن نصر بن طالب الحافظ : معاوية بن أبي العباس هو عندي معاوية بن هشام دلسه مروان الفزازي ) اهـ .
والمقصود من كل ما سبق :
هو أن كلمة ( مدلس ) عند الأئمة المتقدمين ليست على معنى واحد ففقط حتى تعطى حكماً واحداً ، بل لها معان متعددة تعرف من كلامهم .
__________
(1) مشاهير علماء الأمصار 1/164 .
(2) تاريخ الدوري ) 4/377 .
(3) لعله الشيباني .
(4) علل الدار قطني ) 8/319 .
(5) موضح أو هام الجمع والتفريق ) للخطيب 2/491 .(1/36)
فإذا وجد نص لأحد الأئمة يصف فيها أحد الرواة بأنه مدلس ، فلا بد من النظر في التدليس المراد ، لأن حكم كل صورة يختلف عن الأخرى :
فالصورة الثانية والثالثة : يعرف فيه لانقطاع ولا ينظر فيها إلى الصيغة ، فمتى تحقق السماع في الجملة تحقق الاتصال .
والصورة الرابعة : ينظر فيها إلى صحة وثقة الواسطة .
والصورة الخامسة : يعرف فيها الاتصال ولا ينظر فيها إلى لصيغة بل يتحقق من شيخ المدلس .
وأما الصورة الأولى : ففيه تفصيل موجود في الفصل الرابع .
ثم إن الرواة من قد يجتمع فيه أكثر من صورة من هذه الصور مابن جريج مثلاً ، ومنهم من لا يعرف له إلا صورة واحدة كابن أبي نجيح وزكريا بن أبي زائدة .
فإذا تبين ما سبق : علمت أن النظر في مسألة التدليس من خلال تعريف المتأخرين فقط وهو : ( أن يروي عن من لقيه وسمع منه شيئاً لم يسمعه منه بصيغة محتملة ) ، يترتب عليها أخطاء من نواح عدة :
من أهمها : قصر النظر في مسألة ( التدليس ) على ( صيغة رواية المدلس ) هل ( عنعن أو صرح بالتحديث ) ؟ .
فعند النظر ـ مثلاً ـ إلى طبقات المدلسين ) لابن حجر رحمه الله ـ وهو عمدة كثر ممن جاء بعده ـ نجد أنه اعتمد في تقسيمه لمراتب المدلسين على مسألة ( قبول عنعنة المدلس أو ردها ) ، ووضع فيه جميع أو أكثر من ذكر عنه السلف أنه ( مدلس ) ، وهذا خطأ ظاهر بناءا على ما سبق من مصطلح ( التدليس ) عند السلفوذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن من المدلسين من لا ينظر في روايته إلى ( العنعنة أصلاً ) بل ينظر فيه إلى مطلق سماعه(1) ممن فوقه فإن سمع منه وإلا فهو منقطع ولو وجد في بعض الطرق التصريح بالتحديث ـ لتحقق الانقطاع ـ وذلك كروايات الحسن وابن أبي عروبة وكثير من تدليس قتادة وأبي إسحاق السبيعي .
__________
(1) انظر : التطبيقات العملية في الفصل الرابع ، فقد ذكرت أمثلة على ذلك .(1/37)
الوجه الثاني : أن من المدلسين من لا ينظر فيه إلى الصيغة أصلاً لأن تدليسهم تدليس شيوخ لا إسناد وذلك نحو مروان الفزاري وعطية العوفي .
الوجه الثالث : أن من المدلسين من تدليسه فيه التصريح بالتحديث وهو ما يسمى ( تدليس القع ) كتدليس عمر بن علي المقدمي ، فالخوف ـ إن وجد ـ فهو من تصريحه بالتحديث لا من ( عنعنته ) .
الوجه الرابع : أن من المدلسين من لا يدلس عن شيوخ معينين كهشيم بن بشير مثلاً في روايته عن حصين ، والثوري في روايته عن عدد من شيوخه كمنصور وحبيب بن أبي ثابت وسلمة بن كهيل(1) ، فحتى لو سلمت هذه الأحكام فإنها لا تغني مطلقاً عن النظر في تراجم المدلسين الموسعة .
وسوف تتضح هذه المسألة إن شاء الله تعالى في الفصول القادمة .
***
الفصل الثاني
معرفة المدلسين
عني الأئمة رحمهم الله تعالى ببيان الرواة المدلسين في كتبهم وسؤالاتهم وكلامهم على الحديث ، وتعتبر معرفة المدلسين على قسمين :
القسم الأول : مصادر أصلية
وأعني بها كتب الأئمة المتقدمين كتواريخ البخاري ، وكمسائل الإمام أحمد وعلله ، وكعلل ابن المديني وسؤالاته ، وسؤالات ابن معين ، وكتب ابن أبي حاتم ، وعلل الدار قطني ، وكتب ابن حبان ، وكامل ابن عدي وضعفاء العقيلي وغيرها من كتب المتقدمين ، بالإضافة إلى كتب السنة الأصلية كالصححاح ونحوها .
والقسم الثاني : مصادر فرعية
وأعني بها كتب المتأخرين في الرجال والمدلسين كاتهذيبين والتذهيب والكاشف والتقريب والمدلسين للعلائي وابن حجر سبط ابن العجمي والسيوطي وغيرها .
وينبغي لمن أراد معرفة حال الراوي أن يرجع للمصادر الأصلية أولاً ولا ينقل من كتب المتأخرين فقط ما دام الرجوع لكتب المتقدمين ممكناً لثلاثة أسباب :
الأول : أن في الرجوع لكتب المتقدمين علوا في التلقي .
__________
(1) انظر ( شرح العلل ) لابن رجب 2/751 .(1/38)
الثاني : أن في ذلك ممارسة لمصطلحات المتقدمين وأقوالهم وفهماً لها ـ بدون وسيط ـ ومعرفة لطريقتهم القائمة على سبر حال الراوي ومروياته بدقة عظيمة ـ مع الاستعانة بشروح المتأخرين عليها ـ .
الثالث : أن في ذلك أمناً في التحريف أو الفهم الخاطئ الذي قد تتوارد عليه كتب المتأخرين ـ كما سيأتي أمثلة على ذلك إن شاء الله تعالى ـ .
وسوف أذكر فيما يلي نماذج لبعض الراوة المدلسين ودراسة مختصرة ومقارنة بين ما ذكر عنهم في كتب المتقدمين والمتأخرين :
الحسن البصري(1) :
ذكره النسائي في ( المدلسين )(2) ، وذكره الحاكم في ( معرفة علوم الحديث ) في ( الجنس السادس من المدلسين ) وهم : ( قوم رووا عن شيوخ لم يروهم ولم يسمعوا منهم ) ومثل لذلك بقوله ( أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ولا من جابر ولا من ابن عمر ولا من ابن عباس شيئاً قط )(3)
والمتتبع لمرويات الحسن في الصحاح ، وحال سماعاته ممن فوقه ، وطريقة الأئمة المتقدمين في تصحيحيها وتضعيفها ، وأقوال المتقدمين في تدليسه(4) يرى أن غالب المراد به .
( الصورة الثانية ) وهو ( الرواية عمن لم يسمع منه ) ، فهو من قبيل ( المرسل ) في الحقيقة ـ فلا ينظر فيه إلى ( العنعنة ) ولا ( التحديث ) بل ينظر فيه إلى كتب ( المراسيل ) فمن ثبت عدم سماعه منه فهو منقطعع وإلا فمتصل ـ كما سيأتي مزيد توضيح إن شاء الله تعالى عن هذا الأمر في الفصل الرابع ـ .
__________
(1) النظر الدراسة التي قام بها الشيخ حاتم العوني لمرويات الحسن البصري وطبيعة تدليسه والفرق بين التدليس والمرسل الخفي في كتابه الرائع ( المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس ) في أربع مجلدات .
(2) سير أعلام النبلاء 7/74 .
(3) معرفة علوم الحديث ) ص109 .
(4) انظر سبر لمروياته في دراسة ( حاتم العوني ) المشار إليها سابقاً في المجلدات الثلاثة الأخيرة .(1/39)
وإذا انتقلنا إلى كتب المتأخرين نجد أن العلائي رحمه الله قد قسم المدلسين إلى خمسة أقسام بحسب قبول ( عنعنتهم وردها ) وجعل مرتبة ( الحسن ) في المرتبة الثالثة وهي(1) ( من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا بهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع وقبلهم آخرون مطلقاً ) .
أنه جعله تدليساً بالمعنى الخاص ( الرواية عمن سمعه ما لم يسمع منه )(2) ـ لأنه نظر فيه إلى العنعنة وأشركه مع غيره ممن قد يدلسون عمن سمعوهم والمرسل لا ينظر فيه إلى العنعنة بل إلى ثبوت السماع ـ ، بينما لم يذكر المتقدمون هذا ، بل تدليسه بمعنى الإرسال .
أنه جعل عنعنته متوقفاً فيها عند قوم ولم يذكرهم ، ولم يذكر المتقدمون أحداً توقف في الاحتجاج بعنعنته عمن سمع منه ـ كما سيأتي في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى ـ .
2- قتادة بن دعامة السدوسي
وتدليسه أيضاً ـ في أغلبه ـ هو جنس تدليس الحسن البصري ، وهو روايته عمن عاصره ، ولم يسمع منه ـ وهو في حكم المرسل ـ
ويدل على ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم في كتابه ( المراسيل ) في ترجمة قتادة .
__________
(1) جامع التحصيل 113 .
(2) والعلائي رحمه الله تعالى مضطرب في بيان التدليس وهل الرواية عمن عاصره ولم يسمع منه تدليس ، فقد نسب هذا القول في مواضع إلى الجمهور ونفاه في مواضع من ( جامع التحصيل ) .(1/40)
وما ذكره الأئمة المتقدمون في ترجمته أيضاً في كثرة روايته عمن لم يسمع منه(1)
__________
(1) انظر ( الجرح والتعديل ) 7/133 ، ( المراسيل ) ص168 ، وانظر ( جامع التحصيل ) ص254 ، وقد ذكره البخاري في ( التاريخ الكبير ) 7/135 ، وابن سعد في ( الطبقات ) 7/229 ، ولم يذكرا عن تدليسه شيئاً إلا شيئاً ذكره ابن سعد عن شعبة ويأتي ، وذكره ابن حبان في ( الثقات ) 5/321 ، و ( مشاهير علماء الأمصار ) ص96 وقال فيهما ( وكان مدلساً ) والتدليس عند ابن حبان عام كما هو عند المتقدمين يشمل الإرسال عمن عاصر ولم يسمعه والرواية عمن سمعه ، والأمثلة من قول ابن حبان على أنه يرى دخول الإرسال في التدليس كثيرة منها :
قال في ( الثقات ) 3/187 : ( سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي ولد يوم حنين سماه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سناناً كنيته أبو عبد الرحمن عداده في أهل البصرة مات في آخر ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي أحاديث قتادة عنه مرسلة ) اهـ هكذا وردت في ( الثقات ) ، ونقلها ابن حجر في ( التهذيب ) في ترجمة ( سنان ) عنه بلفظ ( وأحاديث قتادة عنه مدلسة ) اهـ .
وقال في ( مشاهير علماء الأمصار ) ص179 في ترجمة ( سليمان بن موسى الأسدي ) : ( وقد قيل إنه سمع جابراً وليس ذاك بشئ تلك كلها أخبار مدلسة ) اهـ .
وقال أيضاً ص163 في ترجمة ( إسماعيل بن أوسط البجلي ) : ( لا يصح له صحبه لصحابي وتلك كلها أخبار مدلسة ) اهـ .
وقال أيضاً ص191 في ترجمة ( يحيى بن أبي كثير ) : ( لا يصح له عن أنس بن مالك ولا غيره من الصحابة سماع وتلك كلها أخبار مدلسة ) اهـ .
وقال أيضاً في ترجمته من ( الثقات ) 7/592 ( وكان يدلس فكلما روى عن أنس فقد دلس عنه ولم يسمع من أنس ولا من صحابي شيئاً ) اهـ .
وقال أيضاً ص192 في ترجمة ( عطاء الكيخاراني ) : (روايته عن الصحابة كلها مدلسه ) اهـ .
وقال أيضاً في ص195 في ترجمة ( مقاتل بن حيان ) : ( لا يصح له عن صحابي لقى إنما تلك أخبار مدلسة ) اهـ .
وقال في ( المجروحين ) 1/226 : ( كان الحجاج ـ يعني ابن ارطأة ـ مدلساً عمن رآه وعمن لم يره ) اهـ .
والمقصود هنا أن ابن حبان يرى أن الرواية عن المعاصر الذي لم يلقه أو يسمع منه تدليس ، فلا بد من معرفة مراده إذا قال عن أحد إنه كان مدلساً .(1/41)
، ولم يذكروا عنه ـ حسب ما وقفت عليه ـ بأنه يروي عمن سمع منه ما لم يسمع منه على نحو ما ذكروه صراحة عن الأعمش والثوري وهشيم مثلاً(1) ، وقد قال أبو داود عنه : ( حدث عن ثلاثين رجلاً لم يسمع من هم )(2) . أما ما ذكره شعبة من قوله : ( كنت أعرف إذا جاء ما سمع قتادة مما لم يسمع ، كان إذا جاء ما سمع قال : حدثنا أنس بن مالك حدثنا الحسن حدثنا مطرف حدثنا سعيد ، وإذا جاء ما لم يسم قال قال سعيد ابن جبير قال أبو قلابة(3) ) .
ورواها أحمد بلفظ : ( كنت اتفطن إلى فم قتادة إذا حدث ، فإذا حدث بما قد سمع قال : حدثنا سعيد بن المسيب ، وحدثنا أنس ، وحدثنا الحسن ، وحدثنا مطرف ، وإذا حدث ما لم يسمع قال : حدث سليمان بن يسار ، وحدث أبو قلابة ) اهـ(4) .
فهو مؤيد للقول بأن المقصود بتدليسه ، في الجملة ـ هو الإرسال ، فإن أنساً والحسن ومطرفاً وسعيداً سمعهم قتادة ، أما سعيد ب جبير ، وأبو قلابة ـ مع سليمان بن يسار في رواية أحمد ـ فلم يسمعهم قتادة أصلاً :
فقد قال ابن أبي حاتم(5) : ( أخبرنا حرب بن إسماعيل فيما كتب إلى قال قال أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل : يقال إن قتادة لم يسمع من سليمان بن يسار بينهما أبو الخليل ) اهـ .
وقال أيضاً(6) : ( حدثنا محمد بن حمويه بن الحسن قال سمعت أبا أبي قلابة يعني أحمد قال قال أحمد بن حنبل : لم يسمع قتادة من أبي قلابة شيئاً إنما بلغه عنه ) اهـ .
وقال أيضا(7)ً : ( ذكره أبي إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين :
وقلت له : قتادة عن ابن أبي مليكة أسمع منه .
__________
(1) ولك أن تقارن بين ما ذكره الأئمة عن تدليس هشيم مثلا وتدليس قتادة لترى الفرق بين الحالين ، ولبعض الأئمة ما يشعر بأنه يدلس عمن سمع منه وسيأتي إن شاء الله تعال .
(2) سؤالات الآجري لأبي داود ، عن حاشية تهذيب الكمال 23/517 .
(3) انظر ( طبقات ابن سعد ) 7/229 .
(4) المراسيل ) ص171 .
(5) نفسه .
(6) المراسيل ) 172 .
(7) نفسه .(1/42)
قال : لا لم يسمع منه .
قال : ولم يسمع قتادة من حميد بن عبد الرحمن الحميري .
قلت : قتادة سمع من علي الأزدي .
قال : لا أدري قد روى عنه .
قلت : قتادة سمع من حكيم بن عقال .
قال : لا أدري .
قلت : سمع من سليمان بن يسار .
قال : لا .
قلت : قتادة سمع من أبي قلابة ، .
قال : ( لا ) اهـ .
وقال ابن أبي حاتم أيضاً(1) : ( قيل لأبي رحمه الله : قتادة سمع من سعيد بن جبير ، . قال : لا ، يقول كتبنا إلى سعيد بن جبير ) اهـ .
وقال ابن أبي حاتم أيضاً(2) : ( أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلى قال حدثني أبو بكر ابن خلاد قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : قتادة لم يسمع من سليمان بن يسار ) اهـ .
وأما قول شعبة(3)
__________
(1) المراسيل ) 173 .
(2) الجرح والتعديل ) 1/161 ، ( تاريخ ابن معين ) للدارمي ص192 .
(3) فإن قيل : يشكل عليه ما رواه أبو عوانة (1372) قال : ( حدثنا بن مرزوق قال ثنا أسد بن موسى قال سمعت شعبة يقول : كان همتي في الدنيا شفتي قتادة فإذا قال سمعت كتبت وإذا قال قال تركت وأنه حدثني بهذا عن أنس بن مالك يعني حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (( سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة )) فلم أسأله أسمعته مخافة أن يفسده علي ) اهـ ، ورواه الخليلي في ( الإرشاد ) 2/4487 من طريق آخر عن يحيى بن سعيد القطان عن شعبة بنحوه ، وروى ابن أبي حاتم ( الجرح والتعديل ) 1/167 قصة تثبت شعبة في رواية لقتادة عن أنس أيضاً ، وفي ( العلل ومعرفة الرجال ) 3/222 قصة أخرى أيضاً ، وأنس قد روى عنه قتادة كثيراً ، وهذا الكلام من شعبة يدل على أن قتادة يدلس عمن سمع أيضاً ، فالجواب أننا لم ننف تدليسه عمن سمع منه مطلقاً بل قلنا إنه قليل ، وإن غالب تدليسه المذكور عنه هو الرواية عمن عاصره ، ولم يسمع منه ، والله تعالى أعلم .(1/43)
: ( كنت أتفطن إلى فم قتادة فإذا قال : حدثنا كتبت ، وإذا قال : حدث لم أكتب ) ، فيفسره التفصيل السابق المنقول عن شعبة(1) .
ومما يدل على أن تدليسه بالمعنى الخاص المتأخر قليل أن شعبة ذكر أن روايات قتادة عن أبي العالية إلا ثلاثة أحاديث ( ذكرها )(2) ، وقد تتبعت الروايات من وجه يصح ، إلا روايات صح سماعه فيها(3) .
ومما يدل على ذلك أيضاً أنه ثبت عنه أنه أقام عند سعيد بن المسيب عدة أيام حتى قال له سعيد ( ارتحل فقد أنزقتني )(4) . ومع ذلك فقد قال الإمام أحمد عن رواية قتادة عن ابن المسيب(5) ( قد أدخل بينه وبين سعيد نحواً من عشرة رجال ى يعرفون ) مما يدل على أحد أمرين :
إما أنه لا يدلس ( التدليس الخاص عند المتأخرين ) .
أو أن تدليسه ( على المعنى الخاص ) قليل .
كذلك فقد قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى(6) :
( قال سمعت أبي يقول وقلت له : أبو قلابة عن معاذة أحب إليك ، أو قتادة عن معاذة . فقال : جميعاً ثقتان وأبو قلابة لا يعرف لد تدليس ) اهـ .
وقال أيضاً(7)
__________
(1) وهي : حديث ( القضاة الثلاثة ) و ( لا صلاة بعد العصر ) و ( يونس بن متى ) .
(2) وقد زاد البيهقي عليها واحداً ،وقد روى عنه الشيخان من ورايته عن أبي العالية حديثين أيضاً مما يدل على أن سماعه منه أكثر مما ذكر شعبة ، وروايته عنه قليل ، وهذا يشعر بقلة تدليسه على المعنى الخاص المتأخر ، فإن الأعمش مثلاً ذكر الأئمة عنه أنه لم يسمع من مجاهد إلا بضعة أحاديث وروايته عنه كثرة .
(3) انظر ( التاريخ الكبير ) 7/185 .
(4) انظر ( جامع التحصيل ) ص255 ، ( تحفة التحصيل ) ص265 .
(5) الجرح والتعديل ) 5/57 .
(6) الجرح والتعديل ) 7/134 .
(7) المراسيل ) 174 ، فإن قيل فإن البخاري رحمه الله تعالى إذا ذكر رواية لقتادة عن أنس بالعنعنة فإنه يتبعها بإسناد معلق فيه التحديث ، وما ذلك إلا لشهرته بالتدليس ممن سمع منه ، فالجواب من وجوه :
الوجه الأول : أن البخاري لم يفعل هذا في جميع روايات قتادة المعنعنة ، بل ترك بعضها ولم يذكر إسناداً آخر فيه التصريح بالتحديث .
الوجه الثاني : أن الروايات التي يعلقها لإثبات سماع قتادة أستأنس ببعضها وإلا فبعضها من وراية يحيى بن أيوب وهو متساهل في إثبات السماع كما وصفه الإسماعيلي ويأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث .
الوجه الثالث : أن البخاري رحمه الله تعالى من أحرص المحدثين على إثبات السماعات في الأسانيد ـ حتى من غير المدلسين ـ والأمثلة على ذلك كثيرة جداً ، فمن ذلك :
ما رواه (1516) من طريق قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج ، ثم قال : ( سمع قتادة عبد الله وعبد الله أبا سعيد ) ، وعبد الله لم يذكر بالتدليس ، وهذه الرواية لنا وقفة عندها إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع .
وروى (4725) من طريق هشام عن محمد عن معبد عن أبي سعيد الخدري قال : كنا في مسير لنا .. الحديث . ثم قال : ( وقال أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا هشام حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا ) اهـ .
وروى (5360) من طريق أحمد بن منيع حدثناى مروان بن شجاع حدثنا سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ( الشفاء في ثلاثة .. الحديث ) . ثم روى (5361) من طريق سريج بن يونس أبو الحارث حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال :
قال ابن حجر في ( الفتح ) 10/138 : ( وقد صرح برفعه في رواية سريج بن يونس حيث قال فيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولعل هذا هو السر في إيراد هذه الطريق أيضاً مع نزولها وإنما لم يكتف بها عن الأوى للتصريح في الأولى بقول مروان حدثني سالم ووقعت في الثنية بالعنعنة ) اهـ .
وروى (66960) قال : ( حدثني إبراهيم بن المنذر حدثنا معن بن عيسى حدثني عبد الرحمن بن أبي الموالي قال سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن يقول أخبرني جابر بن عبد الله السلمي ( حديث الاستخارة ) ، وقد كان رواها سابقاً (1109) عن قتيبة عن عبد الرحمن بن الموالي .
قال الحافظ في ( الفتح ) 13/376 : ( فافادت هذه الرواية تعين أحد الاحتمالين وهو التصريح بسماعه ولهذا نزل فيه البخاري درجة لأنه عنده في الموضعين المذكورين بواسطة واحد عن عبد الرحمن وهنا وقع بينه وبين عبد الرحمن اثنان لكن سهل عليه النزول تحصيل فائدة الاطلاع على الواقع فيها تصريح عبد الرحمن بالسماع في موضع العنعنة ) اهـ .
وروى (7056) قال حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الأحزاب : ( اللهم منزل الكتاب .. الحديث ) ، ثم قال : ( زاد الحميدي حدثنا سفيان حدثنا بن أبي خالد سمعت عبد الله سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) اهـ ، وانظر كلام الحافظ عنها في ( الفتح ) 13/463 .
وروى (1567) قال حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان بن عمرو عن عطاء ابن عباسرضي الله تعالى عنهما قال : ( إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته ) زاد الحميدي حدثنا سفين حدثنا عمرو سمعت عطاء عن ابن عباس مثله . وانظر كلام الحافظ في ( الفتح ) 3/305 .
وروى (4306) قال حدثني الصلت بن محمد حدثنا أبو أسامه عن إدريس عن طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( ولكل جعلنا موالي ) الحديث، ثم قال : سمع أبو أسامه إدريس وسمع إدريس طلحة اهـ .
قال الحافظ في ( الفتح ) 8/249 : سمع أبو أسامه إدريس وسمع إدريس طلحة وقع هذا في رزاية الممستملي وحده وقد قدمت التنبيه على من وقع عنده التصريح بالتحديث لأبي أسامه من إدريس ولإدريس من طلحة في هذا الحديث بعينه وإلى ذلك أشار المصنف والله أعلم ) اهـ . والأمثلة كثيرة ، ومن اطلع على الصحيح تبين له حرص البخاري رحمه الله الشديد على السماعات وإثباتها ، حتى لو كانت لمن لم يوصف بالتدليس ، فكيف بمن وصف به ؟ !
وقد قال الحافظ رحمه الله في ( الفتح ) 4/237 تعليقاً على الحديث (1887) :
( وإنما ساق البخاري الطريق الأوى مع نزولها لما فيها من التصريح بالتحديث في المواضع التي رفعت بالعنعنة في الطريق الثانية مع علوها وما أكثر ما يحرص البخاري على ذلك في هذا الكتاب ) اهـ .(1/44)
:
( قال سألت أبي قلت : قتادة عن معاذة أحب إليك ، أو أيوب عن معذة . فقال : قتادة إذا ذكر الخبر ) اهـ .
فرواية قتادة عن معاذة مشكوك في اتصالها ، لذلك قال أبو حاتم في الرواية الأولى ( أن أبا قلابة لا يعرف له تدليس ) يمعنى أن روايته محمولة على السماع في الجملة بخلاف قتادة الذي يروي كثيراً عمن عاصره ولم يسمع منه ، واشترط في الرواية الثانية وجود الخبر لهذا الأمر أيضاً فقد قال يحيى بن سعيد القطان ( قتادة لم يصح عن معاذة ) .
فإذا انتقلنا من كتب المتقدمين إلى كتب المتأخرين وجدنا ما يلي :
قال العلائي رحمه الله : ( قتادة بن دعامة السدوسي أحد المشهورين بالتدليس وهو أيضاً يكثر من الإرسال )(1) .
وقال الحافظ بن حجر رحمه الله : ( قتادة بن دعامة السدوسي البصري صاحب أنس بن مالك رضي الله عنه كان حافظ عصره وهو مشهور بالتدليس وصفه به النسائي وغيره )(2) .
فيظهر الفرق بين كلام المتقدمين وكلامهما من وجوه :
الأول : أن العلائي جعل تدليسه غير إرساله ، ومقصود الأئمة لمن تأمل كلامهم من تدليسه ـ في الغالب ـ هو الإرسال .
الثاني : أنهما قالا : ( مشهور بالتدليس ) فذكرهاه بالشهرة ، ويعنون بالتدليس ( التدليس الخاص ) ـ خاصة الحافظ ابن حجر(3) ـ وليس كذلك كما سبق ، بل هو مشهور بالإرسال .
الثالث : أن الحافظ ابن حجر قال : ( مشهور بالتدليس ) وذكر أن هذا وصف النسائي له ، والنسائي لم يقل أنه مشهور بل قال : ( ذكر المدلسين .. )(4)
ثم سردهم سرداً ولم يفصل المشهور منهم بالتدليس عن غيره .
( 3- مكحول الشامي )
__________
(1) جامع التحصيل ) ص254 .
(2) طبقات المدلسين ) ص43 .
(3) فقد عرفه في مقدمة كتابه ( طبقات المدلسين ) وذكره في ( النكت ) وغيره وسبقت الإشارة إلى هذا .
(4) انظر : ترجمة أبي الزبير من هذا الفصل .(1/45)
من الأئمة ، معروف بالإرسال ، وماوصفه أحد من المتقدمين بالتدليس ـ حسب بحثي ـ إلا أن ابن حبان قال ( وربما دلس )(1) ، وهو يعني على الأرجح الإرسال(2) لأن غيره لم يذكره بتدليس عمن سمع منه .
وقوله ( وربما ) يدل على التقيل .
فإذا انتقلنا إلى كتب المتأخرين وجدنا ما يلي :
قال العلائي(3) :
( مكحول الدمشقي ذكره الحافظ الذهبي بالتدليس وهو مشهور بالإرسال عن جماعة لم يلقهم ويسأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى ) اهـ .
وقال الحافظ ( في المرتبة الثالثة ) من مراتب المدلسين(4) :
( مكحول الشامي ) الفقيه المشهور تابعي يقال أن لم يسمع من الصحابة إلا عن نفر قليل ووصفه بذلك ابن حبان ، وأطلق الذهبي أن كان يدلس ولم أره للمتقدمين إلا في قول ابن حبان ) اهـ .
فجعله الحافظ مشهوراً بالتدليس لأنه وضعه في المرتبة الثالثة ، وجعل عنعنته محل بحث من حيث القبول والرد ، مع تصريحه بأنه لم يره للمتقدمين إى في قول ابن حبان ، وقول ابن حبان لو كان دالاً على التدليس الخاص فإنه قد قال ( وربما دلس ) وهذا دال على قلته ، وغايروا بين إرساله وتدليسه ـ كما سيظهر من صنيع العلائي ـ مع أن وصف لذهبي له بالتدليس إنما يقصد به الإرسال ، فقد قال عنه(5) :
( يرسل كثيراً ويدلس عن أبي بن كعب وعبادة بن الصامت وعائشة والكبار ) اهـ ، وهذا هو الإرسال فإنه لم يسمع من هؤلاء أصلاً .
( 3- محمد بن مسلم بن شهاب الزهري )
__________
(1) الثقات ) 4/166 .
(2) انظر حاشية (1) رقم (74) .
(3) جامع التحصيل ) 110 .
(4) طبقات المدلسين ص46 .
(5) تذكرة الحفاظ ) 1/107 .(1/46)
الحافظ ، الإمام ، لم أجد أحداً من المتقدمين وصفه بالتدليس ، غير أن ابن حجر ذكر أن الشافعي والدار قطني وصفاه بذلك(1) .
والذي يظهر أنهما أرادا الإرسال لا التدليس بمعناه الخاص عند المتأخرين ، أو أنهم أرادوا مطلق الوصف بالتدليس غير القادح ـ بمعنى أنه قد وقع منه أحياناً(2) ـ ؛ لأنن التدليس يمعناه الخاص منه قليل جداً بالمقارنة إلى مجموع رواياته ، ولنم يتردد أحداً من الأئمة في قبول روايته مطلقاً ، بل هو أحد أعمدة الحديث النبوي .
وقد حصر الأئمة ما رواه عمن سمع منه ما لم يسمع منه(3) ـ ، وهو من أهل المدينة والتدليس لا يعرف في المدينة .
وسيأتي ذلك إن شاء الله في الكلام على أبي الزبير ، لهذا قال الذهبي عنه(4) : ( محمد بن مسلم الزهري الحافظ الحجة كان يدلس في النادر ) اهـ ، فوصفه بندرة التدليس .
ثم إذا انتقلنا إلى المتأخرين وجدنا ما يلي :
قال العلائي(5) :
( ممد بن شهاب الزهري الإمام العلم مشهور به ( أي بالتدليس ) وقد قبل الأئمة قوله (( عن )) ) اهـ .
__________
(1) ذكر البلخي ـ وهو معتزلي لا يوثق به ـ في كتابه ( قبول الأخبار ) ورقة 218 أن أبا حاتم قال ( الزهري أحب إلى من الأعمش وكلاهما يحتج بحديثه فيما لم يدلسا ) اهـ ، ومفهمومه أن الزهري قرين للأعمش في تدليسه وليس كذلك ، والعبارة في ( الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم نقلاً عن أبيه 8/73 ( الزهري أحب إلى من الأعمش يحتج بحديثه وأثبت أصحاب أنس الزهري ) اهـ .
(2) فوقوع التدليس ، بمعناه العام عند السلف ـ قل أن يسلم منه أحد ، وقد روى ابن الجعد في مسنده رقم (50) عن شعبه أنه قال : ( ما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلا يدلس إلا ابن عون وعمرو بن مرة ) .
(3) انظر : مثلاً ( المراسيل ) لابن أبي حاتم ص191 ، ( جامع التحصيل ) ص269 .
(4) ميزان الاعتدال ) 6/235 .
(5) جامع التحصيل ) ص109 .(1/47)
ثم بعده ابن حجر وضع الإمام الزهري في ( المرابة الثالثة ) من مراتب المدلسين فقال(1) :
( محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري الفقيه المدني نزيل الشام مشهور بالإمامة والجلالة وصفه الشافعي والدار قطني وغير واحد بالتدليس ) اهـ .
فنجد أنهما اتفقا على أنه مشهور به ، ولم يذكره أحد من المتقدمين بذلك ، ثم وضعه ابن حجر في المرتبة الثالثة وهي(2) :
( من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالمساع ومنهم من رد حديثهم مطلقاً ومن من قبلهما ) اهـ .
ويعسر إثبات تدليس الزهري ( التدلس الخاص )(3) فضلاً عن أن يشتهر به ، وأما رد حديثه إلا عند ذكر السماع فلا أظنك تجد ذلك عند أحد من الأئمة المتقدمين .
بل إن ابن حجر رحمه الله خالف في ذلك المتأخرين أيضاً ، فإن العلائي وسبط ابن العجمي أيضاً في ( التبيين في أسماء المدلسين ) قد ذكرا أن الأئمة قبلوا قوله ( عن ) .
( 4- محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير المكي )
وهو من الحفاظ ، احتج به مسلم ، وترجم له كثير من المتقدمين فلم يذكروه بالتدليس(4) ، إلا أن النسائي وضعه في مصنفه في المدلسين(5) حيث قال :
__________
(1) طبقات المدلسين ) ص45 .
(2) طبقات المدلسين ) ص13 .
(3) قد ذكر له في كتب التراجم حالات من ذلك كما قال الذهبي ( نادرة ) ، ثم إنها معروفة بينها الأئمة .
(4) انظر : ( الجرح والتعديل ) 1/151 ، و ( المراسيل ) ص193 ، ( التاريخ الكبير ) 1/221 ، ( الثقات ) 5/351 ، ( الكامل ) 6/121 ، ( الضعفاء ) للعقيلي 4/130، ( التمهيد ) 12/143ـ 146 .
(5) انظر ( سير أعلام النبلاء ) 7/74 ، وذكره في ( ميزان الاعتدال ) في ترجمة ( الحجاج بن أرطأة ) مع بعض التقديم والتأخير .(1/48)
( ذكر المدلسين : الحسن ، قتادة ، حجاج بن أرطأة ، حميد ، سليمان التيمي ، يونس بن عبيد ، يحيى بن أبي كثير ، أبو إسحاق الحكم بن عتيبة ، مغيرة ، إسماعيل بن أبي خالد ، أبو الزبير ، ابن أبي نجيح ، ابن جريج ، ابن أبي عروبة ، هشيم ، سفيان بن عيينة ) اهـ .
ثم أتي ابن حزم فساق قصة الليث التي رواها العقيلي في ( الضعفاء )(1) وغيره وهي :
( عن الليث بن سعد قال : قدمت مكة ، فجئت أبا الزبير ، فدفع إلى كتابين ، وانقلبت بهما ، ثم قلت في نفسي : لو عاودته فسألته : أسمع هذا كله من جابر .
فقال : منه ما سمعت ، ومنه ما حدثناه عنه .
فقلت له : أعلم لي على ما سمعت .
فأعلم لي على هذا الذي عندي ) اهـ .
فاحتج به ـ أي ابن حزم ـ على رد أحاديث أبي الزبير المعنعنة التي ليست من طريق الليث(2)
__________
(1) الضعفاء ) للعقيلي 4/132 .
(2) وابن حزم تناقض في هذا ، فقد قال في رواية المدلسين الثقات كما في كتابه ( الإحكام ) في ( التدليس ) : ( وأما المدلس فينقسم إلى قسمين :
أحدهما : حافظ عدل ربما أرسل حديثه وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة فلم يذكر له سنداً وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئاً لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقيناً أنه أرسله وماعلمنا أنه أسقط بعض من في إسناده ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئاً من ذلك ، وسواء قال أخبرنا فلان أو قال عن فلان أو قال فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله ما لم يتيقن أنه أورد حديثاً بعينه إيراداً غير مسند فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته ، وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال : ( كان معمر يرسل لنا أحاديث فلما فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له ) .
وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري وأبي إسحاق السبيعي وقتادة بن دعامة وعمرو بن دينار وسليمان الأعمش وأبي الزبير وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقد أدخل على بن عمر الدار قطني فيهم مالك بن أنس ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسلة مرة وأسنده أخرى ) اهـ .
وقال في موضع آخر من ( الإحكام ) : ( وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلس إلا ما قال فيه حدثنا أو أنبأنا وهذا خط وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلس المنكرات إلى الثقات إلا ما صح فيه تدليسه وبهذا نقول وعلى كل ما ذكرنا البرهان ) اهـ .
وكلامه جيد وموافق لمذهب أئمة الحديث المتقدمين ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ ، ولكنه يرد رواية أبي الزبير المعنعنة من غير طريق الليث لخبر الليث ، ولا أدري ماذا يقدم خبر الليث وماذا يؤخر لو سلمنا بأنه وصف له بالتدليس !! .
فإن هؤلاء الذين ذكرهم ابن حزم بالتدليس وقال إنه يقبل أحاديثهم على أي صيغة كانت ما لم يتيقن أنها مدلسة لو سألت أحدهم ـ كالحسن وقتادة والأعمش وأبي إسحاق والثوري ـ فقلت له : ( أيها الإمام المحدث رحمك الله : هل كل ما رويته لنا سمعته ،، !! ) . لقال لك : ( منه ما سمته ، ومنه ما حدثته ، وإلا فلو سمعت كل ما رويت ما جعلوني مدلساً !! ) . فأي فرق بين هؤلاء وبين أبي الزبير !! .
فإن قال ابن حزم : فأبو الزبير تميز لنا ما سمعه مما لم يسمعه وذلك برواية الليث عنه . قلنا : فينبغي لك أن لا تصحح إلا رواية الليث عنه فقط حتى لو صرح بالتحديث ، ولن يصح لك من مئات الأحاديث إلا بضعة عشر حديثاً رواها الليث عنه ـ حسب ما ذكره ابن حزم ـ .
فإن قال ابن حزم : ولكنه بتصريح بالتحديث كشف لنا أنه سمعه منه وإن لم يروه الليث قلنا : فقد تبين لك أنه سمع ما لم يروه الليث عنه ، فاجعل رواية الليث مسألة مستقلة ( كأنه أبو زبير آخر غير مدلس ) تقبل مطلقاً ولا يوصف فيها بالتدليس ، ثم تعال إلى باقي رواياته فإن منها ما سمعه ومنها ما لم يسمعه تماماً كالأعمش والثوري وقتادة وغيرهم في مروياتهم فينبغي لك على هذا أن لا ترد حديثاً له من غير طريق الليث إلا ( ما علمت يقيناً أنه أرسله وما علمت أنه أسقط بعض من في إسناده وتأخذ من حديثه ما لم توقن فيه شيئاً من ذلك ) . بناءا على ما ذكرته في معاملة رواية المدلس الثقة .
وأمر آخر :
وهو أن شعبة ثبت عنه أنه لا يحمل عن قتادة وأبي إسحاق ونحوهما إلا ما كان مسموعاً لهم ، فينبغي على قاعدة ابن حزم في معاملته لتدليس أبي الزبير أن يرد جميع أحاديث قتادة وإبي إسحاق المعنعنة إلا من طريق شعبة عنهما ، وليست هذه أول تناقضات ابن حزم ، وقد فصلت تناقضاته في أصوله الفقهيه والحديثيه في ( نقض أصول الظاهرية ) .(1/49)
.
ثم جاء المتأخرون فأضافوا كلمة ( مشهور بالتدليس )(1) كما هي العادة وجعلوا عنعنته محل قبول ورد .
ثم جاء بعض المعاصرين فرد أحاديثع المعنعنة حتى في صحيح مسلم(2) .
وأبو الزبير ممن ظلم كثيراً ـ في هذا العصر خصوصاً ـ حيث نسب إليه ما هو منه برئ ، ومن ذلك جعله مشهوراً بالتدليس وليس كذلك ، فإنه من الصعب إثبات تدليسه فضلاً عن أن يجعل مشهوراً به و سوف أختصر الكلام في هذا الأمر كالتالي(3) :
1-أن شعبة الإمام الحافظ الذي كان يقول ( لئن آخر من السماء أحب إلى من أن أدلس ويقول ( لئن أزني أحب إلى من أن أدلس )(4) .
وهو أول من نقر السماعات وشدد في التدليس تكلم في أبي الزبير هذا وقدح فيه بقوادح ـ خافه فيها الأئمة ـ كقوله ( لا يحسن يصلي ) .
وقوله ( رأيته يسترجح في الميزان ) .
__________
(1) انظر : ( جامع التحصيل ) ص110 ، ( طبقات المدلسين ) ص45 ، وجعله من المرتبة الثالثة ، ( التبيين في أسماء المدلسين ) ص200 .
(2) كما فعل الألباني رحمه الله تعال وعفا عنه ، وهم شذوا في ذلك عن المتقدمين وعن المتأخرين ، فالمتقدمون قبلوا أحاديث أبي الزبير كما سترى إن شء الله تعالى ، وابن حزم قاعدته في روايات المدلسين جيدة موافقة لمذهب المتقدمين ولم يتبعوه في قاعدته هذه بل اتبعوه فيما نقض به قاعدته في مرويات أبي الزبير ، والمتأخرون وإن جعلوا أبا الزبير مشهوراً بالتدليس إلا أنهم لم يردوا أحاديث مسلم ولم يضعفوها ، فمذهب هؤلاء من مذهب المتأخرين في ( العنعنة ) ومذهب ابن حزم في ( مروبات أبي الزبير ) .
(3) انظر فيالدفاع عن أبي الزبير البحث النفيس للشيخ خالد الدريس ( الإيضاح والتبيين بأن أبا الزبير ليس من المدلسين ) ـ وهو مخطوط ـ فقد أجاد وأفاد وبلغ المراد ولم يبق لمن تكلم في أبي الزبير حجة !! ، وقد استفدت منه كثيراً جزاه الله خيراً .
(4) انظر ( الجرح والتعديل ) 1/173 .(1/50)
وقوله ( افترى على رجل في خصومة(1) ، وما نطق حرفاً في الكلام على تدليسه ، فكيف يغفل عنه ؟
فإن قيل لعله جهل ذلك ، فإن الإحاطة متعذرة والكمال عزيز .
قلنا : نعم ، ولكن لو لم يقف شعبة على أحاديث أبي الزبير لكان لك أن تقول هذا ، ولكن قد قال شعبة(2) : ( في صدري أربعمائة لأبي الزبير عن جابر(3) ، والله لا أحدث عنك حديثاً أبداً ) اهـ .
وقال لعبد الرحمن بن مهدي(4) : ( لعلك ممن تروي عن أبي الزبير لقد سمعت منه مائة حديث ما حدثت منها بحرف ) اهـ .
فالمقصود هنا أن شعبة عرف أحاديثه ووقف عليها ـ والله ـ لو وقف على أنه دلس لوصفه وأشهره بذلك كما وصف غيره ـ ممن هو عنده المتأخرين أقل تدليساً من أبي الزبير !!! ـ .
وشعبة قد عرف عنه أنه لا يروي عن شيخ إلا ما كان مسموعاً له ، وقد روى عنه هذه المئات .
فالأصل أنها مسموعة بناءا على قاعدة شعبة المعلومة ، ولو كان بعضها غير مسموع لصرح به شعبة في القدح بأبي الزبير كما سبق .
2-أن الإمام مسلم رحمه الله تعالى قد أخرج لأبي الزبير عن جابر نسخة كبيرة ، ومما ورد معنعناً من غير رواية الليث عنه أكثر من ثلاثين حديثاً واحتج بها ، وهو القائل في مقدمة صحيحه ( وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به فحينئذٍ يبحثون عن سماعه فر روايته ويتفقدون ذلك منه كي تنزاح عنهم علة التدليس ) اهـ ، والإمام مسلم حجة في الرجال وهذا يدل على أن أبا الزبير ليس بمدلس ، أو أن تدليسه قليل .
__________
(1) انظر في ذلك جميع الكتب التي ترجمت لأب الزبير فإنهم كلهم نقلوا كلام شعبة هذا .
(2) الضعفاء ) للعقيلي 4/131 .
(3) وأحاديث أبي الزبير عن جابر في ( تحفة الأشراف ) 2/285 ـ 355 مع المكرر أقل من هذا العدد .
(4) الضعفاء ) للعقيلي 4/131 .(1/51)
أن الدار قطني قد استدرك على الصحيحين أحاديث وأسانيد ، ولم يستدرك حديثاص من أحاديث أبي الزبير المعنعنة ، بل قد قال عن أحاديث أبي الزبير ملزماً لمسلم(1) ( وبقي على مسلم من تراجم أبي الزبير حديث كثير ) اهـ ، ولم ينتقد من أحاديث أبي الزبير إلا حديثاً واحداً فقط لا للتدليس ، بل لشكه في رفعه(2) ، وقل مثل هذا في استدراك أبي الفضل الهروي على صحيح مسلم فإنه لم يستدرك حديثاً واحداً لأبي الزبير بسبب التدليس أو العنعنة .
أن الترمذي وابن حبان وابن خزيمة وأبا داود وابن الجارود وغيرهم من أئمة الحديث قد صححوا واحتجوا بأحاديث أبي الزبير المعنعنة ولم يردوها لمجردها .
أن البخاري وابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وابن حبان وغيرهم من الأئمة قد ترجموا له ولم يذكروا وصفه بالتدليس مطلقاً ، فكيف يكون ( مشهوراً بالتدليس ) ولا يذكرونه بالتدليس ـ فضلاً عن الشهرة به ـ وهم يذكرون من لم يشتهر بالتدليس ويصفونه به ؟؟!! .
أن النسائي ـ الذي ذكر أبا الزبير مع المدلسين ـ ذكر مجموعة كبيرة من أحاديثه في كتابه السنن ، منها ( خمسة وستون حديثاً بالعنعنة ) ولم يعلل شيئاً منها بالتدليس أو بعدم السماع(3) ، وهو يذكر الأحاديث والعلل والاختلافات في سننه دائماً ، فهذا يدل على أن وصفه بالتدليس لا يريد منه رد عنعنته .
أن الحاكم قال(4) :
( ذكر النوع الحادي عشر من علوم الحديث :
هذا النوع من هذا العلوم هو معرفة الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس وهي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل على تورع رواتها عن أنواع التدليس .
__________
(1) الإلزامات والتتبع ) ص556 .
(2) انظر ( الإلزامات والتتبع ) ص477 .
(3) ضوابط تصحيح مسلم لمرويات أبي الزبير ) رسالة ماجستير ، خالد العيد ، ض112 .
(4) معرفة علوم الحديث ) ص34 .(1/52)
مثال ذلك : ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا بحر بن نصر الخولاني حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد الأنصاري عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : ( لكل داء دواء فإذا أصيب دواء برئ بإذن الله عز وجب ) .
قال الحاكم : هذا حديث رواته بصريون ثم مدنيون ومكيون وليس من مذاهبهم التدليس فسواء عندنا ذكروا سماعهم أو لم يذكروه وإنما جعلته مثلاً لألوف مثله ) اهـ . فقد نص صراحة على أنه ليس بمدلس(1) .
أن أبا الزبير من أهل الحجاز ، وليس التدليس من مذهبهم :
فقد قال الشافعي(2) : ( ولم نعرف بالتدليس ببلدنا فيمن مضى ولا من أدركنا من أصحابنا إلا حديثاً ) اهـ .
وقال الحاكم(3) : ( أن أهل الحجاز والحرمين ومصر والعوالي ليس التدليس من مذهبهم ) اهـ .
وقال الخطيب(4) : ( أصح طرق السنن ما يرويه أهل الحرمين مكة والمدينة فإن التدليس فيهم قليل والاشتهار بالكذب ووضع الحديث عندهم عزيز ) اهـ .
__________
(1) وقد قال ابن حجر ( طبقات المدلسين ) ترجمة أبي الزبير ص45 : ( ووهم الحاكم في كتاب علوم الحديث فقال في سنده وفيه رجال غير معروفين بالتدليس ) اهـ .
وهذا بناءا على رأي المتأخرين الذين تبعوا ابن حزم في مرويات أبي الزبير ، وإلا فالحافظ رحمه الله تعالى أولى بالوهم ، ولم يهم الحاكم لأمرين :
أنه لم يثبت عنه التدليس كما ذكرته عن الأئمة .
أن الحاكم لم يذكؤ هذا الحديث اعتباطاً ولا اتفاقاً ، ولا ذكره عرضاً ، بل ذكره تقريراً لمسألة عد التدليس ، مما يعني أنه اختار هذا المثال بدقة ، وجعله مثالاً يحتذى لألوف مثله كما قال :
(2) الرسالة ) 378 .
(3) معرفة علوم الحديث ) 111 .
(4) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ) 2/2/2860 .(1/53)
السبر والتتبع والاستقراء : فهذه مرويات أبي الزبير في كتب السنة ، فليأت من قال بأنه مدلس ( التدليس الخاص ) بحديث واحد قال عنه أحد الأئمة المتقدمين بأنه مدلس ، أو اتضح عند الاعتبار أنه دلسه عن ضعيف فهذا الأعمش وهشيم وابن جريج والثوري ونحوهم يمكن بسهولة الإتيان بأحاديث لهم مدلسة صرحوا هم بتدليسها(1) ، أو بينها أحد الأئمة ، أو تبيين ذلك بالاعتبار ، أما أبو الزبير فيصعب ـ إن لم يستحل ـ أن يأتوا له بحديث واحد مدلس ( التدليس الخاص ) ، ولقد بحثت طويلاً في كتب السنة والعلل والسؤالات والرجال حتى أحصل على حديث ( واحد فقط ) لأبي الزبير قيل إنه مدلس ولم أجد(2) .
أن قصة الليث مع أبي الزبير لا تدل على التدليس من وجوه :
الأول : أنه لم يقل ( أرو هذه عني ) بل قال ( دفع إلى كتابين ) .
الثاني : أن أبا الزبير كان يحدث من حفظه لا من كتاب كما ذكره كثير من الأئمة ـ وانظر تراجمه في كتب الرجال .
__________
(1) انظر الأمثلة في الفصل الرابع .
(2) ذكر الشيخ خالد الدريس في بحثه ( الإيضاح والتبيين ) حديثاً واحداً هو ما رواه النسائي والترمذي من طريق ليث بن أبي سليم عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً ( كان لا ينام حتى يقرأ آلم تنزيل ... الحديث ) ، وفيه أن زهير بن معاوية سأل أبا الزبير هل سمع من جابر هذا الحديث ، . ، فقال : إنما أخبرنيه صفوان أو ابن صفوان ، وهي لا تدل كما ذكر الشيخ خالد الدريس على التدليس ، لأ، أبا الزبير أنكر أن يكون رواه عن جابر أصلاً ، وليث بن أبي سليم ( لزم الجادة ) فرواه عن أبي الزبير عن جابر كما هي عادة ضعيفي الحفظ ، على أن هذه القصة لو دلت على التدليس مع البعد فليست تدل على الشهرة به .(1/54)
الثالث : إن الليث لا تبلغ روايته عن أبي الزبير عن جابر أكثر من ثلاثين حديثاً(1) ، ورواية أبي الزبير عن جابر تبلغ المئات ، وقد قال شعبة فيما سبق ( في صدري أربعمائة لأبي الزبير عن جابر والله لا أحدث عنك حديثاً أبداً ) اهـ ـ وفيها أحاديث كثيرة بالتصريح بالإخبار ، مما يدل على أن رواية الليث عن أبي الزبير هي ( بعض مسموعاته ) ل كلها ، فكيف تحاكم مروياته التب تبلغ المئات إلأى رواية الليث التي تتجاوز الثلاثين حديثاً ؟؟!! .
الرابع : أننا لو أخذنا بظاهر هذه الرواية فإن الليث بن سعد رحمه الله أحق بوصف التدليس من أبي الزبير ، لأن ظاهر الرواية أنها ( مناولة ) وقد ذكرنا أن من الأئمة من كان يسمي الأخذ من الصحف أو الكتب بلا سماع تدليساً .
أننا لو سلمنا بعد هذا كله بأنه مدلس ، فإنه مكثر جداً عن ( جابر ) والأصل في روايته عنه الاتصال حتى يتبين الانقطاع كما بين ذلك بعض الأئمة في روايات المدلسين إذا رووا عمن أكثروا عنه(2) .
( 5- الوليد بن مسلم الدمشقي )(3)
روى له جماعة :
__________
(1) انظر : ( ضوابط تصحيح الإمام مسلم لمرويات أبي الزبير ) لخالد العيد ص112 ، وقد ذكر نقلاً عن ابن حزم وعبد الحق أن عدد الأحاديث التي أعلم عليها أبو الزبير لليث تبلغ ( سبعة عشر حديثاً ) ، ويكفي أن تلقي نظرة في ( تحفة الأشراف ) 2/285ـ355 ، لتعرف عدد مرويات أبي الزبير عن جابر .
(2) انظر : ذلك في ترجمة ( الوليد بن مسلم ) من هذا الفصل .
(3) له ترجمة في ( الجرح والتعديل ) 9/16 ، ( التاريخ الكبير ) 8/152 ، ( الطبقات ) 7/470 .(1/55)
قال فيه أبو مسهر(1) : ( كان الوليد يأخذ من ابن أبي السفر حديث الأوزاعي وكان ابن أبي السفر كذاباً وهو يقول فيها قال الأوزاعي ) اهـ(2) .
وقال أيضاً(3) : ( كان الوليد بن مسلم يحدث بأحاديث الأوزاعي عن الكذابين ثم يدلسها عنهم ) اهـ .
وقال الهيثم بن خارجة(4) :
( قلت للوليد بن مسلم : قد أفسدت حديث الأوزاعي .
قال : كيف ؟! .
قلت : تروي عن الأوزاعي عن نافع ، وعن الأوزاعي عن الزهري ، وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد ، وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر الأسلمي ، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقرة وغيرهما ، فما يحملك على هذا ؟! . قال : أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء . قلت : فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء وهؤلاء ضعفاء أحاديث مناكير فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضعف الأوزاعي . فلم يلتفت إلى قولي ) اهـ .
وقال يحيى بن معين(5) : ( وكان الوليد بن مسلم مدلساً ) اهـ .
وقال ابن حبان(6) عنه : ( ربما قلب الأسامي وغير الكنى ) اهـ .
__________
(1) انظر : ( سير أعلام النبلاء ) 9/215 ، ( ميزان الاعتدال ) 7/242 ، ( تهذيب الكمال ) 31/96 .
(2) وذكر التركذي له حديثاً في ( العلل ) وذكر أن البخاري ضعفه ، وذكر في تضعيفه أن الوليد لم يقل فيه(حدثنا) وأراه أخذه من يوسف بن السفر ، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع .
(3) انظر : ( ميزان الاعتدال ) 7/142 ، تهذيب الكمال ) 31/96 .
(4) انظر : ( سير اعلام النبلاء ) 9/215 ، ( الميزان ) 7/142 ، ( تهذيب الكمال ) 31/97 .
(5) التمهيد ) 1/31 .
(6) الثقات ) 9/222 .(1/56)
وقال أيضاً(1) : ( عبد الرحمن بن يزيد بن تميم من أهل دمشق كنيته أبو عمرو يروي عن الزهري روى عنه الوليد بن مسلم وأبو المغيرة كان ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الإثبات من كثرة الوهم والخطأ وهو الذي يدلس عنه الوليد بن مسلم يقول : قال أبو عمرو وحدثنا أبو عمرو عن الزهري يوهم أنه الأوزاعي وإنما هو ابن تميم ) اهـ .
وقال الدار قطني(2) : ( الوليد بم مسلم يرسل يروي عن الأوزاعي أحاديث عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي مثل نافع وعطاء والزهريفيسقط أسماء الضعفاء ويجعلها عن الأوزاعي عن نافع وعن الأوزاعي عن عطاء والزهري يعني مثل عبد الله بن عامر الأسلمي وإسماعيل بن مسلم ) اهـ .
هذه خلاصة ما ذكره المتقدمون عن تدليسه .
ويتضح من النقول السابقة ما يلي :
أولاً : أن تدليسه خاص بروايته عن الأوزاعي فقط ، إذ لم يذكر أحد من الأئمة أنه يدلس عن غيره .
ثانياً : أن تدليسه عن الأوزاعي يأتي على صورتين :
الصورة الأولى : أنه قد يأخذ عن يوسف بن السفر ( وهو متروك ) عن الأوزاعي فيسقطه ويروي عن الأوزاعي .
الصورة الثانية : أنه قد يروي عن الأ,زاعي عن أحد الضعفاء فيسقط هذا الضعيف ويسوي الإسناد .
ثالثاً : أنه قد يدلس تدليس الشيوخ .
ثم إذا أتينا إلى كتب المتأخرين وجدنا ما يلي :
قال العلائي(3) وسبط ابن العجمي(4) : ( الوليد بن مسلم الدمشقي كذلك (يعني مدلس ) ويعاني التسوية ) اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر(5) ـ في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين وهم ( من اتفق على أنه لا يحتج بشئ من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل ) ـ : ( الوليد بن مسلم الدمشقي معروف موصوف بالتدليس الشديد مع الصدق ) اهـ .
__________
(1) كتاب المجروحين ) 2/55 .
(2) كتاب الضعفاء والتروكين ) للدار قطني ص265 .
(3) جامع التحصيل ) ص111 .
(4) التبيين في أسماء المدلسين ) ص235 .
(5) طبقات المدلسين ) ص51 .(1/57)
فنجدهم خالفوا المتقدمين في أمور :
أنهم أطلقوا تدليسه وتسويته ، وإنما هي عن الأوزاعي فقط كما يظهر في النصوص السابقة .
أن ابن حجر رحمه الله جعل الوليد في الطبقة الرابعة ، وليته ذكر من الذي نقل الاتفاق على عدم قبول روايته إلا إذا صرح بالتحديث ، فإن أدعى مدع بإن هذا اتفاق عملي لا قولي فهذه كتب المتقدمين مملؤة بأحاديث الوليد بن مسلم المعنعنة التي لم يعلوها بعدم تحديثه !! . والحق أن الوليد بن مسلم كغيره من الثقات كالأعكش والثوري وغيرهما ممن ذكروا بالتدليس ، لما يلي :
أن الوليد بن مسلم من أكثر أهل الشام حديثاً ، واعلمهم وأرواهم :
فقد قال أحمد بن حنبل(1) : ( ليس أحد أروى لحديث الشاميين من إسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم ) اهـ .
وقال أيضاً(2) : ( كان عندكم ثلاثة أصحاب حديث مروان بن محمد والوليد وأبو مسهر ) اهـ .
وقد أكثر الوليد عن الأوزاعي ، بل هو من أعلمهم بحديثه :
قال مروان بن محمد لابن أبي الحواري(3) : ( عليك بالوليد بن مسلم فإنك إذا سمعت منه لم يضرك من فاتك من أصحاب الأوزاعي ) اهـ .
وقال أيضاً(4) : ( كان الوليد بن مسلم عالماً بحديث الأوزاعي ) اهـ .
فإننا حتى لو قلنا بمذهب المتأخرين من وجوب وجود صيغة التحديث للمدلس فالوليد مكثر عن الأوزاعي كما سبق .
قال عبد الله بن الزبير الحميدي(5) :
__________
(1) تاريخ بغداد ) 6/223 .
(2) تاريخ أبي زرعة الدمشقي ) ص384 .
(3) الجرح والتعديل ) 9/16 .
(4) الجرح والتعديل ) 9/16 .
(5) الكفاية ) ص374 .(1/58)
( وإن كان رجلاً معروفاً بصحبة رجل والسماع منه مثل : ابن جريج عن عطاء ، أو هشام بن عروة عن أبيه ، وعمرو بن دينار عن عبيد بن عمير ، ومن كان مثل هؤلاء في ثقتهم ممن يكون الغالب عليه السماع ممن حدث عنه فأدرك عليه أنه أدخل بيته بينه وبين من حدث رجلاً غير مسمى أو أسقطه ترك ذلك الحديث الذي أدرك عليه فيه أنه لم يسمعه ولم يضره ذلك في غيره حتى يدرك عليه مثل ما أدرك عليه في هذا فيكون مثل المقطوع(1) والإكثار عنه فإن روايته محمولة على الاتصال حتى يتبين التدليس ، فإن قيل : ولكن الوليد لم يذكر بالتدليس أصلاً إلا عن الأوزاعي .
قلنا : الوليد مكثر عن الأوزاعي مع ذلك ، ولو جمعت أحاديثه التي قيلإنه دلسها على الأوزاعي إلى مجموع روايته عنه لرأيت إنها قليلة .
2-أن مرويات يوسف بن السفر عن الأوزاعي منكرة جداً بل قيل إنها موضوعة لا تخفى ، فلو دلس حديثاً عن الأوزاعي من مروياته فإن النكارة تظهر جلية في الحديث ـ وسيأتي بيان ذلك في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى ـ .
أن مرويات الأوزاعي عن الأسلمي وقرة وإبراهيم بن مرة وإسماعيل بن مسلم قليلة بمجموع مروياته : فقد قال ابن عدي ( روى الأوزاعي عن قرة بضعة عشر حديثاً وأرجو أن لا بأس به ) اهـ .
وأما إبراهيم بن مرة فروايته عموماً قليلة جداً ، ورواية الأوزاعي عنه أقل وليس في كتب السنة المشهورة منها شئ ، على أنه وثقه النسائي وقال فيه الحافظ ( صدوق ) .
__________
(1) ويشبه هذا ما قاله الذهبي ـ عن الأعمش ـ ( ميزان الاعتدال ) 3/315 :
( وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به فمتى قال حدثنا فلا كلام ، ومتى قال عن تطرق إليه احتمال التدليس ( وهذا ليس على إطلاقه كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع ) إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وابن أبي وائل وأبي صالح السمان فإن روايته عن هذا الصنف محمولة علىالاتصال ) اهـ .(1/59)
أن الوليد بن مسلم يروي عن الأوزاعي ويذكر مشايخه المتكلم فيهم ، فقد روى عن الأوزاعي عن قرة عدة أحاديث(1) .
وروى عنه واصل بن أبي جميل(2) .
وروى عنه عبد الواحد بن قيس(3) .
وروى عنه جسر بن الحسن(4) .
وروى عنه خصيف(5) ، مما يدل على قلة تدليسه وأنه لا يلتزم تسوية السند من الضعفاء عن الأوزاعي .
أن دحيماً الحافظ روى عن الوليد بن مسلم أنه قال(6) :
( كان الأوزاعي إذا حدثنا يقول : حدثني يحيى قال حدثنا فلان قال حدثنا فلان حتى ينتهي . قال الوليد : فربما حدثت كما حدثني ، وربما قلت عن عن عن وتجققنا من الأخبار ) اهـ .
وهذا دليل على أن الوليد يناوب بين التحديث والعنعنة من أجل التخفف لا من أجل التدليس .
( 7- عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج )
محدث مشهور ، وروى له الجماعة :
قال فيه ابن حبان(7) ( وكان يدلس ) .
__________
(1) من ذلك : حديث ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم ) رواه الوليد عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريسرة به ، رواه أبو داود (4840) . ومن ذلك حديث ( أحب عبادي إلى أعجلهم فطراً ) رواه الوليد عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة به ، رواه أحمد (2/237) ، والترمذي (700) ، وابن حبان (3507) .
(2) انظر ( سنن الدار قطني ) 3/76 ، وواصل ضعيف كما بينه الدار قطني في كلامه على الحديث .
(3) انظر ( الفتن ) لنعيم بن حماد 1/29 ، و ( شعب الإيمان ) للبيهقي 7/106 ، وقد قال القطان عن عبد الواحد هذا ( كان شبه لا شئ ) انظر ( ضعفاء العقيلي ) 3/51 .
(4) انظر ( السنة ) لابن أبي عاصم 2/568 ، وجسر بن الحسن ضعيف .
(5) انظر ( المعجم الكبير ) للطبراني 1/343 ، وخصيف تكلم فيه غير واحد .
(6) انظر ( المعرفة والتاريخ ) 2/464 .
(7) الثقات ) 7/93 ، ( مشاهير علماء الأمصار ) ص145 .(1/60)
وقال أبو زرعة(1) ( ابن جريج يدلس عن ابن أبي يحيى عن صفوان بن سليم غير شئ ) .
وقال الخليلي(2) ( وابن جريج يدلس في أحاديث ولا يخفى ذلك على الحفاظ ) .
وقال الدار قطني(3) : ( إنه وحش التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح ) اهـ .
وذكره غير واحد بالتدليس ، وهنا أمور :
أن غالب ما يذكر يراد به الإرسال ، وسيأتي في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى أمثلة كثيرة من تدليس ابن جريج تبين أنه بمعنى الإرسال كتدليسه عن صفوان بن سليم وأبي الزناد والمطلب وغيرهم ، وأما التدليس بمعناه الخاص عند المتأخرين فقليل ـ بشهادة الحافظ ابن جحر نفسه كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ .
أنه حدث بالإجازات والكتب ، وقد بين الأئمة ذلك :
قال علي بن المديني(4) :
( سألت يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطائ الخراساني ، .
فقال: ضعيف .
فقلت : إنه يقول أخبرني .
فقال : لا شئ إنما هو كتاب دفعه إليه ) اهـ .
وذكر له غير ذلك كروايته عن الزهري وهشام بن عروة ، وقد قال الذهبي في هذا(5) :
( وكان ابن جريج يرى الرواية بالإجازظة وبالمناولة ويتوسع في ذلك ومن ثم دخل عليه الداخل في رواياته عن الزهري لأن حمل عنه مناولة وهذه الأشياء يدخلها التصحيف ولا سيما في ذلك العصر لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط ) اهـ .
أنه قد يدلس الشيوخ كما دلس اسم شيخه إبراهيم بن أبي يحيى إلى إبراهيم بن أبي عطاء.
أن هناك بعض النصوص التي ذكرها الأئمة المتقدمون تحتاج إلى رقفة منها :
__________
(1) علل ابن أبي حاتم ) 1/419 .
(2) الإرشاد ) 352 .
(3) سؤالات الحاكم ) ص174 .
(4) علل الترمذي ) ص753 ، وفي هذا دليل على خطأ النظر إلى مجرد صيغة المدلس .
(5) سير أعلام النبلاء ) 6/331 .(1/61)
قول أحمد بن حنبل(1) : ( إذا قال ابن جريج قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير ، وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به ) اهـ .
وقال أيضاً(2) : ( إذا قال ابن جريج قال فاحذره ، وإذا قال سمعت أو سألت جاء بشئ ليس في النفس منه شئ ) اهـ .
وقال يحيى بن سعيد القطان(3) : ( كان ابن جريج صدوقاً فإذا قال حدثني فهو سماع وإذا قال أخبرنا أو أخبرني فهو قراءه وإذا قال قال فهو شبه الريح ) اهـ .
وقال أحمد بن صالح المصري(4) : ( ابن جريج إذا أخبر الخبر فهو جيد وإذا لم يخبر فلا يعبأ به ) اهـ .
قلت : والكلام على هذا سيأتي إن شاء الله تعالى بتفصيل أكثر في الفصل الثالث والرابع ، ونختصر الكلام عنا فنقول :
أولاً : أن كلام هؤلاء الأئمة ، وخاصة تفصيل يحيى القطان يدل على أن ابن جريج ( واضح التدليس ) لا ( خفي التدليس ) ، وهذا ييسر معرفة الروايات المدلسة(5) .
__________
(1) تاريخ بغداد ) 10/405 ( تهذيب الكمال ) 18/348 ، ( سير أعلام النبلاء ) 6/328 .
(2) تهذيب الكمال ) 18/348 ، ( سير أعلام النبلاء ) 6/328 .
(3) المحدث الفاصل ) 433 ، ( الكفاية ) 1/302 .
(4) تاريخ الدارمي ) 43 .
(5) قارن هذا مع تدليس هشيم بن بشير مثلاً ، فقد قال الإمام أحمد ( وهو من أعلم الناس بتدليس هشيم ) كما في ( العلل ومعرفة الرجال ) 1/376 : ( أخبرني أبو الأحوص محمد بن حيان أن هشيماً حدثهم عن ابن شبرمة ثم حرك شفتيه فقال : عمن حدثه ، ثم قال عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس هذا الحديث ، قال أبي : ابن شبرمة لم يسمع من عبد الله بن شداد شيئاً ) اهـ .
وقال الإمام أحمد أيضاً كما في العلل ص42 ( التدليس من الريبة ، وذكر هشيماً فقال : كان يدلس تدليساً وحشا وربما جاء بالحرف الذي لم يسمعه فيذكره في حديث آخر إذا انقطع الكلام بوصله ) اهـ .(1/62)
ثانياً : أنهم لم يذكروا ( العنعنة ) ، لأن الغالب في العنعنة أنها من تصرف الرواة لا من لفظ الحديث ، فالاستدلال بهذه الأقوال على رد العنعنة أو التوقف فيها لا يتم ـ وسيأتي إن شاء الله تعالى ـ .
ثالثاً : أن الوقوف على نفس الصيغة التي نطق بها ( ابن جريج ) تصعب كثيراً ، كما قال الذهبي عند كلامه على تدليس ( الوليد بن مسلم )(1) :
وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث ، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها وأما نحن فطالت علينا الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة ) اهـ .
رابعاً : أن الإمام أحمد قال ( إذا قال ابن جريج قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير ) ، وهذا حكم ( واقع ) لا ( إخبار بضابط تقاس به مروياته ) حيث قال ( جاء بمناكير ) ، فإذا كان الحديث مستقيماً كان الراجح أنه متصل كما هو ظاهر .
__________
(1) الموقظة ) ص46 ، والكلام على تدليس الوليد بن مسلم سبق نقاشه .(1/63)
خامساً : أن كثيراًً من تدليس ابن جريج ـ إن لم يكن أكثره ـ كما يظهر من الكلام السابق ومن مجموع مروياته يكون بلفظ ( حدثت عن ، وأخبرت عن ) ، بحيث يظهر فيها الانقطاع وعدم السماع أصلاً ، وإنما سمي تدليساً من باب التجوز ، ويدل عليه كلام الإمام أحمد السابق ، وقوله أيضاً(1) : ( رأيت سنيداً عند الحجاج بن محمد وهو يسمع منه كتاب الجامع يعني لابن جريج فكان في الكتاب ابن جريج قال أخبرت عن يحيى بن سعيد ، وأخبرت عن الزهري ، وأخبرن عن صفوان بن سليم ، فجعل سنيد يقول لحجاج : قل يا أبا محمد بن جريج عن الزهري ، وابن جريج عن يحيى بن سعيد ، وابن جريج عن صفوان بن سليم ، فكان يقول له هكذا ، ولم يحمده أبي ، فيما رآه يصنع بحجاج وذمه على ذلك ، قال الإمام أحمد : وبعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذه يعني قوله أخبرت وحدثت عن فلان ) اهـ ، وقال عبد الرزاق(2) : ( قدم أبو جعفر يعني الخليفة مكة فقال اعرضوا علي حديث ابن جريج فعرضوا فقال ما أحسنها لولا هذا الحشو الذي فيها يعني قوله بلغني وحدثت ) اهـ .
فإذا تبين هذا ، فإنه إذا وردت رواية لابن جريج بالعنعنة فإنها تحمل على الاتصال لأن إسقاط عبارة ( حدثت وأخبرت ) تقدح بمن أسقطها لأنها تدليس وتسوية للسند ، فحيث كان الراوي عن ابن جريج ثقة حافظ فإن عنعنته على الاتصال . ثم إذا أتينا للمتأخرين وجدنا ما يلي :
قال العلائي رحمة الله عنه(3) : ( يكثر من التدليس ) .
ثم وجدنا أن ابن حجر رحمه الله قد وضع ابن جريج في المرتبة الثالثة وهي ( من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقاً ومنهم من قبلهم ) اهـ .
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال ) 2/551 .
(2) تاريخ بغداد ) 10/404 .
(3) جامع التحصيل ) ص108 .(1/64)
وقد سبق أن ذكرت أن الأئمة ميزوا ما سمعه ابن جريج مما لم يسمعه(1) ، وأن روايته مقبولة عندهم ، والعجيب أن ابن حجر نفسه ذكر في الفتح أنه قليل التدليس حيث قال في رواية لابن جريج عن صالح بن كيسان عن نافع(2) : ( وقد سمع ابن جريج من نافع كثراً ، وروى هذا عنه بواسطة وهو دال على قلة تدليسه والله أعلم ) اهـ .
وقال في رواية لابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع(3) :
( فيه إدخال الواسطة بين ابن جريج ونافع ، وابن جريج قد سمع الكثير ففيه دلالة على قلة تدليس ابن جريج ، وروايته عن موسى من نوع رواية الأقران ) اهـ . وقال في رواية له عن ابن أبي مليكة عن نافع(4) :
( وفي الحديث ما يدل على قلة تدليس ابن جريج ، فإنه كثير الرواية عن نافع ومع ذلك أفصح بأن بينهما في هذا الحديث واسطة ) اهـ .
وقال في رواية له عن عبيد الله بن عمر عن عمر بن نافع عن نافع(5) :
( حفص وعبيد الله بن عمر وشيخه هنا عمر بن نافع ، والراوي عنه هو ابن جريج أقران متقاربون في السن واللقاء والوفاة واشترك الثلاثة في الرواية عن نافع ، فقد نزل ابن جريج في هذا الإسناد درجتين وفيه دلالة على قلة تدليسه ) اهـ .
( 8- عمر بن علي المقدمي )
__________
(1) قد قال الخليلي (الإرشاد ) 1/352 : ( وابن جريج يدلس في أحاديث ولا يخفى ذلك على الحفاظ ) اهـ .
(2) فتح الباري ) 3/4120 .
(3) فتح الباري ) 4/409 .
(4) فتح الباري ) 5/52 .
(5) فتح الباري ) 10/364 .(1/65)
ذكره بالتدليس أحمد(1) ويحيى بن معين(2) وأبو حاتم(3) وعفان بن مسلم(4) وابن سعد(5) .
وذكر الترمذي(6) أنه قال للبخاري ـ في حديث ـ : ( ترى أن عمر بن علي دلس فيه ، فقال محمد : لا أعرف أن عمر بن عليس يدلس ) اهـ .
فحاصل ما ذكروه أنه يدلس ، ولم يذكروا أنه مكثر من التدليس ، وأما قول بن سعد ( وكان يدلس تدليساً شديداً ) ، ففسر بما قاله بعده ( كان يقول سمعت وحدثنا ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة الأعمش ) فليس فيه دليل على الكثرة ،بل على توعير التدليس وعدم وضوحه)(7)
ثم إذا أتينا إلى الحافظ ابن حجر وجدنا أن وضعه في ( المرتبة الرابعة ) وهي ( من اتفق على أنه لا يحتج بشئ من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل ) .
وقال(8) : ( عم ربن علي المقدمي :
__________
(1) الجرح والتعديل ) 6/124 ، ( الضعفاء ) للعقيلي 3/179 ، و ( الكامل ) 5/45 قال ( وكان يدلس ) .
(2) تاريخ الدوري ) 4/202 قال ( وكان يدلس ) .
(3) الجرح والتعديل ) 6/125 ، ( العلل ) لابن أبي حاتم 1/166 قال ( ولولا تدليسه لحكمنا له إذا جاء بزيادة ولكنا نخشى أن يكون أخذها من غير ثقة ) .
(4) طبقات ابن سعد ) 7/291 قال ( ولم يكونوا ينقمون عليه شيئاً غير أنه كان مدلساً وأما غير ذلك فلا ، ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا ) .
(5) المرجع السابق ، وقال فيه ( وكان يدلس تدليساً شديداً وكان يقول سمعت وحدثنا ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة الأعمش ) اهـ .
(6) علل الترمذي ) 1/191 .
(7) ومما يدل على قلة تدليسه أن البخاري لم يعلم عن تدليسه شيئاً ـ وهو من هو ـ خصوصاً أنه قد روى من طريقة أحاديث كثيرة فهو لم يجهل حاله ، وكذلك ابن حبان فإنه ترجم له في ( الثقات ) 7/188 و ( مشاهير علماء الأمصار ) ص161 ولم يذكر تدليسه وابن حبان من أحرص الناس على ذكر المدلس كما يظهر جلياً في تراجمه للرجال .
(8) طبقات المدلسين ) ص50 .(1/66)
من أتباع التابعين ، ثقة مشهور ، كان شديد الغلو في التدليس ، وصفه بذلك أحد وابن معين والدار قطني ، وغير واحد ، وقال ابن سعد : (( ثقة وكان يدلس تدليساً شديداً يقول ثنا ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة أو الأعمش أو غيرهما )) ، قلت : وهذا ينبغي أن يسمي تدليس القطع ) اهـ .
وهذا فيه اختلاف عما ذكره المتقدمون من وجوه :
الأول : أنه قال ( كان شديد الغلو في التدليس وصفه بذلك أحمد وابن معين والدار قطني وغير واحد ) ، وهؤلاء وصفوه بالتدليس لا بالغلو فيه !! .
الثاني : أنه جعله في المرتبة الرابعة ، ومن ذكر هذا الاتفاق ومن نقله ؟ وحال الأئمة تشهد بعكس ما ذكر ، وقد ذكرنا سابقاً أن البخاري قال ( لا أعرف أن عمر بن علي يدلس ) ، وقد احتج بأحاديث له معنعنة لم يجد لها الحافظ نفسه طريقاًآخر فيه بالتحديث(1) ، هذا غير ما له في كتب السنة الأخرى .
الثالث : أنه قال في المرتبة الرابعة ( لا يحتج بشئ من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ) ، وقد وصف بن سعد تدليسه بقوله ( وكان يدلس تدليساً شديداً يقول ثنا ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة أو الأعمش ) ، فهو هنا لم يعنعن أصلاً حتى يبحث له بعد ذلك عن التصريح بالتحديث بل صرح بالتحديث ، والصحيح ما ذكره الذهبي رحمه الله تعالى حيث قال(2) :
( قد احتج به الجماعة واحتملوا له تدليسه ) .
وقال في موضع آخر(3) : ( قد احتمل أهل الصحاح تدليسه ورضوا به ) .
( 9- عبد الرحمن بن محمد المحاربي )
روى له الجماعة .
قال فيه عبد اله بن أحمد(4)
__________
(1) انظر مثلاً ( فتح الباري ) 11/239 ، حديث (6056 ) .
(2) تذكرة الحفاظ ) 1/292 .
(3) سير أعلام النبلاء ) 8/514 .
(4) هكذا في ( العلل وعرفة الرجال ) 3/364 قال عبد الله بن أحمد :
( حدثت أبي بحديث المحاربي عن معمر عن الزهري عن سعيد بن الممسيب عن أبي سعيد الخدري قال : (( سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن التشبيه في الصلاة ، فقا ل: ( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) )) ، فأنكره أبي واستعظمه .
قال أبي المحاربي عن معمر ، قلت : نعم ، وأنكره جداً ، والحديث حدثني به أبو الشعثاء وأبو كريب قالا حدثنا المحاربي ، قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد ولم تعلم أن المحاربي سمع من معمر شيئاً وبلغنا أن المحاربي كان يدلس ) اهـ .
فالعبارة التي فيها نسبة التدليس إليه من قول عبد الله بن أحمد ، ونسبها إلى عبد الله أيضاً : العلائي في ( جامع التحصيل ) ص108 ، وسبط ابن العجمي في ( التبيين لأسماء المدلسين ) ص135 ، والذهبي كما في ( تذكرة الحفاظ ) 1/313 ، و ( سير أعلام النبلاء ) 9/137 ، ولكنه نسبها إلى الإمام أحمد في ( ميزان الاعتدال ) 4/313 ، وفي ( الضعفاء ) للعقيلي 2/348 (3/759 طبعة السلفي ) قال ( وقال أ[و عبد الله : ولم نعلم أن المحاربي سمع من معمر ... الخ ) ، وهذا يشعر بأن القائل هو الإمام أحمد ولا أظنه بل هو تصحيف لأمرين :
أن أصل كلام عبد الله بن أحمد مذكور في كتابه ( العلل ) ) ومنسوب إليه بوضوح ، ونسبه إليه العلائي والذهبي وغيرهما .
أن مخطوطة ( الضعفاء ) للعقيلي ( الورقة 20 ) ـ كما في حاشية بشار على تهذيب الكمال 17/389 ـ فيها ( قال عبد الله ) بدون ( أبي ) قبلها والله تعالى أعلم .(1/67)
:
( ولم نعلم أن المحاربي سمع من معمر شيئاً ، وبلغنا أن المحاربي كان يدلس ) اهـ .
وقال عبد الله بن أحمد أيضاً(1) : ( ذكر أبي حديث المحاربي عن عاصم عن أبي عثمان حديث جرير ( تبنى مدينة دجلة وجيل ) ، فقال : كان المحاربي جليساً لسيف بن محمد ابن أخت سفيان وكان سيف كذاباً فأظن المحاربي سمع منه ) اهـ .
هذا مجموع ما وجدته من كلام الأئمة المتقدمين(2) عن تدليسه وفيه أمور :
الأول : أن قول عبد الله بن أحمد ( بلغنا أنه كان يدلس ) يدل على أنه ليس مشهوراً عنه ولم يقف عبيه بنفسه .
الثاني : أن قوله قبل ذلك ( ولم نعلم أن المحاربي سمع من معمر ) يدل على أن تدليسه المقصود به ما اصطلح المتأخرون على أنه ( المرسل الخفي ) .
الثالث : أن قصة حديث ( دجلة ودجيل ) لم يذكر عبد الله بن رواها له فربما كانت لا تصح عنه ، قال الذهبي رحمه الله تعقيباً على كلامه(3) :
قلت : لم يذكر عبد الله من حدثه بهذا عن المحاربي فهو إن صح أن المحاربي حدث به قوي الإسناد على نكارته ) اهـ(4) .
وعلى كل ، فإن هذه الحادثة لو صحت عنه لا تجعله معروفاً أو مشهوراً بالتدليس ، وقد ذكره الحافظ في ( المرتبة الثالثة ) من مراتب المدلسين وقال(5) : ( عبد الرحمن بن محمد المحاربي ) : محدث مشهور ، من طبقة عبد الله بن نمير ، وصفه العقيلي بالتدليس ) اهـ .
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال ) 2/370 .
(2) ذكره البخاري في ( التاريخ الكبير ) 5/347 ، وابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل ) 5/282 ، والعجلي ( معرفة الثقات ) 2/86 ، وابن حبان في ( مشاهير علماء الأمصار ) ص173 ، و ( الثقات ) 7/92 ، وابن سعد في ( الطبقات ) 6/392 ، ولم يذكروا عن تدليسه شيئاً .
(3) سير أعلام النبلاء ) 9/137 .
(4) لا يقوى لمن ذكره الإمام أحمد وابن معين وغيرهما عن هذا الحديث ، وإنما الشاهد من كلام الذهبي هو تشكيكه في صحة الراوية عن المحاربي لجهالة الناقل .
(5) طبقات المدلسين ) ص40 .(1/68)
وفيه أمور :
الأول : أن المحاربي لم يذكره أحد من المتقدمين بالشهرة أو الكثرة .
الثاني : لم يذكر أحد من المتقدمين أنه لا يقبل عنعنته حتى يكون فيها خلاف .
الثالث : أن العقيلي لم يصفه بالتدليس بل نقل كلام عبد الله بن أحمد فيه .
الرابع : أن ما ثبت في وصفه بالتدليس هو قول عبد الله بن أحمد ( وبلغنا أنه كان يدلس ) وهي مشعرة بضعف هذه الصفة .
الخامس : أن المقصود من تدليسه المشار إليه هنا هو الإرسال كما سبق .
( 10- حميد الطويل )
قد ذكره المتقدمون بالتدليس عن أنس خاصة :
وروى ابن عدي(1) عن شعبة قال ( لم يسمع حميد من أنس إلا أربعاً وعشرين حديثاً والباقي سمعها أو ثبته فيها ثابت ) اهـ .
وروى ابن عدي أيضاً عن حماد بن سلمة قال ( عامة ما يحدث به حميد الطويل عن أنس سمعه من ثابت ) اهـ .
وقال ابن سعد(2) : ( وكان حميد ثقة كثير الحديث إلا أنه ربما دلس عن أنس بن مالك ) اهـ .
وقال ابن حبان(3) : ( وكان يدلس سمع من أنس بن مالك ثمانية عشر حديثاً وسمع الباقي من ثابت فدلس عنه ) اهـ .
وقال ابن عدي(4) : ( وحميد له حديث كثير مستقيم فأغني لكثرة حديثه أن أذكر له شيئاً من حديثه وقد حدث عنه الأئمة وأما ما ذكر عنه أنه لم يسمع من أنس إلا مقدار ما ذكر وسمع الباقي من ثابت عنه فإن تلك الأحاديث ميزها من كان يتهمه أنه غير ثابت عنه لأنه قد روى عن أنس البعض مما يدلسه عن أنس وقد سمعه من ثابت ) اهـ .
وقد قال البخاري عنه(5) : ( وكان حميد الطويل يدلس ) اهـ .
__________
(1) الكامل ) 2/268 ، وانظر ( ضعفاء العقيلي ) 1/266 .
(2) الطبقات ) 7/2520 .
(3) الثقات ) 4/148 وهو تفسير قوله في ( مشاهير علماء الأمصار ) ص93 ( وكان يدلس ) .
(4) الكامل ) 2/268 ، وقد نقله الذهبي في ( السير ) 6/166 ومنه صححت بعض العبارات الواردة في المطبوع من الكامل ) .
(5) علل الترمذي ) 1/130 .(1/69)
ويفسره ما سبق ذكره عن الأئمة خصوصاً أن البخاري ذكر هذا في أحاديث حميد عن أنس(1) .
فإذا تقرر هذا :
فأعلم أن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قد ذكر حميد الطويل في ( طبقات المدلسين ) في ( المرتبة الثالثة ) .
وقال(2) ( حميد الطويل :
صاحب أنس ، مشهور كثير التدليس عنه ، حتى قيل إن معظم حديثه عنه بواسطة ثابت وقتادة .
ووصفه بالتدليس النسائي وغيره ، وقد وقع تصريحه عن أنس بالسماع وبالتحديث في أحاديث كثيرة في البخاري ) اهـ .
قلت : وفي هذا نظر من وجهين :
الأول : أنه ذكر أن هناك خلافاً في قبول عنعنته ، وهي مقبولة عموماً لأنه إن سمع الحديث فلا كلام ، وإلا فقد عرفت الواسطة كما قال العلائي(3) ـ عن حديثه عن أنس ـ : ( فعلى تقدير أن يكون مراسيل قد تبين الواسطة فيها وهو ثقة محتج به ) اهـ .
الثاني : أنه قال ( حتى قيل إن معظم حديثه عنه بواسطة ثابت وقتادة ) ، والثابت من أقوال الأئمة أن الواسطة هو ثابت البناني .
__________
(1) حيث قال الترمذي في ( العلل ) 1/130 ( قال محمد ( البخاري ) حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا زهير قال : قدمت البصرة فرأيت حميداً وعنده أبوبكر بن عياش وجعل حميد يقول : قال أنس ، قال أنس ، فلما فرغ قلت له : أسمعت هذا قال : سمعت عمن أحدث عنه ، قال محمد ( يعني البخاري ) : يعني أنه لم يقل : سمعت أنساً ، وسمعت عمن أحدث عنه ، قال محمد : وكان حميد يدلس ) اهـ .
(2) طبقات المدلسين ) ص38 .
(3) جامع التحصيل ) ص168 .(1/70)
أما ما ذكره عن قتادة روى عبدالله بن أحمد(1) والعقيلي(2) من طريق سفيان بن عيينة قال : ( كان عندنا شويب بصري يقال له درست ، فقال لي : إن حميداً قد اختلط عليه ما سمع من أنس ومن ثابت وقتادة عن أنس إلا بشئ يسير ، فكنت أقول له(3) : أخبرني بما ثبت عن غير أنس فأسأل حميداً عنها فيقول : سمعت أنساً ) اهـ .
وهذا الكلام مضمونه يبطل هذا القول من وجهين :
الأول : أنه عن هذا الشيخ البصري ( درست ) وأظنه ( درست بن زياد البصري ) وهو ضعيف(4) .
وقد خالف الأئمة في زيادته ( قتادة ) هنا .
الثاني : أن حميداً أثبت سمعه فيما نفاه عنه هذا الشيخ .
( 11- مروان بن معاوية الفزاري(5) )
قال ابن المديني(6) : ( كان يوثق وكان يروي عن قوم ليس بثقات ويكني عن أسمائهم ) اهـ .
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال ) 3/467 .
(2) الضعفاء ) 1/266 .
(3) يظهر أن القائل هو ( سفيان بن عيينة ) ، وأنه يسأله عن الأحاديث التي قال فيها أن حميداً لم يسمعها من أنس ، ثم يسأل حميداً عنها فيقول إنه سمعها .
وقد تحرفت في ( العلل ومعرفة الرجال ) إلى قوله ( فنقول سمعت أنساً ) وضبطها المحقق بفتح التاء من ( سمعت ) ويظهر لي إنه لا فائدة تحصل من هذا الكلام بخلاف ما ذكر العقيلي ( فيقول ـ يعني حميداً ـ سمعت أنساً ) فإنه تظهر فائدته في نفي كلام هذا الشيخ .
(4) انظر ( التاريخ الكبير ) 3/253 ، ( الجرح والتعديل ) 3/437 ، ( ضعفاء النسائي ) ص38 ، ( الكامل ) 3/101 ، ( كتاب المجروحين ) 1/293 ، وقد جعله ابن حبان هو درست بن حمزة البصري رجلاً واحداً ، وفرق الآخرون بينهما .
(5) انظر ( الجرح والتعديل ) 8/372 ، ( التاريخ الكبير ) 7/372 ، ( معرفة الثقات ) 2/270 ، ( الثقات ) 7/483 ، ( مشاهير علماء الأمصار ( ص172 ، وكلهم لم يذكروا تدليسه .
(6) سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني ) ص120 ، وانظر ( الكامل ) 6/140 .(1/71)
قال الدوري(1) : ( سألت يحيى بن معين : عن حديث مروان بن معاوية عن علي بن أبي الوليد ؟ فقال : هذا هو عيل بن غراب ـ والله ـ ما رأيت أحيل للتدليس منه ) اهـ .
وقال العقيلي(2) : ( حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال ك
سئل يحيى بن معين ـ وأنا أسمع ـ كيف كان مروان بن معاوية في الحديث ؟ فقال : كان يقة فيما يروي عمن يعرف ، وذاك أنه كان يروي عن أقوام لا يدري من هم ويغير أسماءهم ، وكان يحدث عن محمد بن سعيد المصلوب وكان يغير أسمه يقول حدثنا محمد بن قيس لأنه لا يعرف * اهـ .
وقال الآجري(3) : ( سمعت أبا داود يقول : مروان بن معاوية يقلب الأسماء يقول حدثني إبراهيم بن أبي حصن يعني أبي إسحاق الفزاري ، وحدثني أبو بكر بن فلان عن أبي صالح يعني أبا بكر بن عياش ـ يعني يسقط من بينهما ـ .
وقيل له : مروان عن إسحاق بن طلحة . فقال : إسحاق بن يحيى ) اهـ .
وهذه خلاصة ما ذكره المتقدمون عن تدليسه ، وهو تدليس الشيوخ لذلك نص الأئمة على تجنب روايته عن المجهولين(4) .
ثم إذا جئنا للمتأخرين وجدنا ما يلي :
قال العلائي(5) : ( مروان بن معاوية الفزاري قال يحيى بن معين : ما رأيت أحيل للتدليس منه ) اهـ .
وكذلك قال سبط ابن العجمي(6) .
وقال الحافظ في الطبقات في ( المرتبة الثالثة )(7) :
__________
(1) تاريخ الدوري ) 4/3 ، وانظر ( سير أعلام النبلاء ) 9/53 ، ( تهذيب الكمال ) 27/408 ، وفي ( الكفاية ) 1/366 روى الخطيب بسنده عن يحيى بن معين أيضاً قال : ( كان مروان بن معاوية يغير الأسماء ـ يعني على الناس ـ يحدثنا عن الحكم بن أبي خالد وإنما هو الحكم بن ظهير ) اهـ .
(2) الضعفاء ) 4/203 .
(3) سؤالات الآجري لأبي داود ) ص191 .
(4) انظر ( الجرح والتعديل ) 8/372 ، ( معرفة الثقات ) 2/270 ، ( تاريخ بغداد ) 13/151 .
(5) جامع التحصيل ) ص110 .
(6) التبيين لأسماء المدلسين ) ص204 .
(7) طبقات المدلسين ) ص45 .(1/72)
( مروان بن معاوية الفزاري : من أتباع التابعين ، كان مشهوراً بالتدليس ، وكان يدلس الشيوخ أيضاً ، وصفه الدا رقطني بذلك ) اهـ .
وعلى هذا أمور :
الأول : أن العلائي وسبط ابن العجمي ذكرا آخر كلام ابن معين وتركا أوله فإن النص كما ذكره الدوري ـ وسبق ( سألت يحيى بن معين عن حديث مروان بن معاوية عن علي بن أبي الوليد فقال هذا هو علي بن غراب والله ما رأيت أحيل للتدليس منه ) ، ونقل العلائي ومن معه يوهم أن تدليسه عام ـ حتى في الإسناد ـ والحقيقة غير ذلك بل الأمر هو في تغيير أسماء الشيوخ فقط .
الثاني : أن الحافظ ذكره في المرتبة الثالثة ، ولم يذكر من الذي لم يأخذ بروايته حتى يصرح بالتحديث فقد بحثت طويلاً في كتب المتقدمين فلم أجد .
الثالث : أن تدليسه كما هو ظاهر تدليس شيوخ لا إسناد ، فلا ينظر فيه إلى ( عنعنته ) أو ( تحديث ) بل ينظر فيه إلى شيوخه هل هم معروفون أم لا ، فلا يتأتى وضعه في هذه المرتبة .
وقد ذكر خلاف ذلك في ( مقدمة فتح الباري ) حيث قال (1/433 ) :
( مروان بن معاوية الفزاري : من شيوخ أحمد ، ثقة مشهور ، تكلم فيه بعضهم لكثرة روايته عن الضعفاء والمجهولين ، فقال علي بن المديني : كان ثقة فيما يروي عن المعروفين ، وقال أحمد : كان ثقة حافظاً يحفظ حديثه كله نصب عينيه رحمه الله ، احتج به الأئمة ، وأخرج البخاري من حديثه عن خمسة من شيوخه المعروفين وهم حميد وعاصم الأحول وإسماعيل بن أبي خالد وأبو يعقوب العبدي وهاشم بن هاشم ) اهـ .
( عبد الله بن أبي نجيح المكي )
قال يحيى بن سعيد القطان(1) : ( لم يسمع من أبي نجيح من مجاهد التفسير كله يدور على القاسم بن أبي ) اهـ .
وكذا قال سفيان بن عيينة(2) . وذكر النسائي في المدلسين .
__________
(1) التاريخ الكبير ) 5/233 .
(2) تاريخ الدوري ) 3/1030 .(1/73)
وقال ابن حبان(1) : ( ما سمع التفسير عن مجاهد أحد غير القاسم بن أبي بزة ، نظر الحكم بن عتيبة وليث بن أبي سليم وابن أبي تجيح وابن جريج وابن عيينة في كتاب القاسم ونسخوه ثم دلسوه عن مجاهد ) اهـ .
وهذا حاصل ما ذكره المتقدمون عن تدليسه ، فهو خاص في روايته للتفسير فقط عن مجاهد ، وليس ذلك بالاتفاق بينهم فقد كان الثوري يصحح تفسيره(2) ، أشار إلى صحته يحيى بن معين(3)
قال الذهبي(4) : ( أما التفسير فهو فيه ثقة يعلمه قد قفز القنطرة واحتج به أرباب الصحاح ) اهـ
وقد وضعه الحافظ ابن حجر في ( المرتبة الثالثة ) من ( طبقات المدلسين ) وقال(5) : ( عبد الله بن أبي نجيح المكي : المفسر ، أكثر عن مجاهد ، وكان يدلس عنه ، وصفه بذلك النسائي ) اهـ .
__________
(1) مشاهير علماء الأمصار ) ص146 ، ونحوه في ( الثقات ) 7/50 .
(2) الجرح والتعديل ) 1/5،79 /2030 .
(3) تاريخ الدوري ) 4/300 ، وذلكك حين قال الدوري ( سألت يحيى : أيما أحب إليك تفسير سعيد بن قتادة أو تفسير شيبانن عن قتادة فقال : سعيد ، فقلت له ، تفسير ورقاء أحب إليك أن تفسير شيبان ، فقال : تفسير ورقاء لأنه عن ابن نجيح عن مجاهد ، ومجاهد أحب إلى من قتادة ، قلت ليحيى : فأيما أحب إليك تفسير ورقاء أو تفسير ابن جريج ، قال : تفسير ورقاء لأن تفسير ابن جريج عن مجاهد ، وهو مرسل لم يسمع من مجاهد إلا حرفاً ، قلت له : فتفسير سعيد أعجب إليك أم تفسير ورقاء ، قال : تفسير ورقاء أعجب إلى لأنه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وذاك عن سعيد عن قتادة ، ومجاهد أعجب إلى من قتادة ) اهـ ، فهو لما ذكر تفسير ابن جريج عن مجاهد قال إنه مرسل دون تفسير ابن أبي نجيح ، وكذلك فإنه شكك في قول سفيان بن عيينة كما في ( جامع التحصيل ) ص218 وانظر ( تاريخ الدوري ) 3/103 .
(4) سير أعلام النبلاء ) 6/1260 .
(5) طبقات المدلسين ) ص390 .(1/74)
ووضعه في المرتبة الثالثة فيه نظر ، فالرجل لم يذكر له تدليس إلا عن وجاهد فققط ، وما ذكر تدليسه عن مجاهد إلا في التفسير خاصة ، ومن ذكره جعل الواسطة بينهما اقاسم بن أبي بزة وهو ثقة ، والأئمة يصححون تفسيره ، فمثله إن صح وصفه بالتدليس فمحله المرتبة الأولى .
وقد قال الحافظ نفسه في ( التقريب ) في ترجمته ( وربما دلس ) وهذا للتقليل وهو الصواب وإن كان إطلاقه ( وعدم تخصيصه بروايته اتفسير مجاهد ) فيه نظر .
( 13- حبيب بي أبي ثابت )
قال عنه خزيمة(1) : ( مدلس ) .
وقال عنه ابن حبان(2) ( كان مدلساً ) .
وقال في موضع آخر(3) : ( على تدليس فيه ) .
وقال الأعمش(4) : ( قال لي : حبيب بن أبي ثابت لو أن رجلاً حدثني عنك بحديث ما باليت أن أرويه عنك ) اهـ .
وقال البيهقي(5) : ( كان مدلس ) .
هذا مجموع ما وقفت عليه منوصف المتقدمين له بالتدليس ، وقد ترجم له غير واحد من الأئمة ولم يذكروه بتدليس مطلقاً ، وإنما يذكرون عدم سماعه لمثل عروة بن الزبير وأن له أحاديث عن عطاء لا يتابع عليها(6) .
ثم إن الحافظ بن حجر قد وضع حبيب بن أبي ثابت في ( المرتبة الثالثة ) من طبقات المدلسين وقال(7) : ( حبيب بن أبي ثابت الكوفي : تابعي ، مشهور يكثر التدليس ، وصفه بذلك ابن خزيمة والدار قطني وغيرهما ، ونقل أبو بكر بن عياش عن الأعمش عنه أنه كان يقول : لو أن رجلاً حدثني عنك ما باليت أن رويته عنك ، يعني وأسقطته من الوسط ) اهـ .
وفيه أمور :
__________
(1) صحيح ابن خزيمة ) 1/2290 .
(2) الثقات ) 4/137 .
(3) مشاهير علماء الأمصار ) ص108 .
(4) المحدث الفاصل ) ص456 .
(5) السنن الكبرى ) 3/327 .
(6) انظر : ( التاريخ الكبير ) 2/313 ، ( الجرح والتعديل ) 3/107 ، ( الكامل ) 2/406 ، ( تاريخ الدوري ) 4/18 ، ( الضعفاء ) للعقيلي 1/263 .
(7) طبقات المدلسين ) ص37 .(1/75)
الأول : أن من وصفه بالتدليس لم يذكر أنه مكثر ، بل في قول ابن حبان ( على تدليس فيه ) إشارة إلى قلته .
الثاني : أن وصفهم به بالتدليس يغلب على الظن أن المقصود به الإرسال لأن أغلب من تكلم عنه من الأئمة إنما يتكلمون عن إرساله وخصوصاًعن عروة بن الزبير ( وله عنه حديثان فقط ) .
الثالث : أن قوله ( يعني وأسقطته من الوسط ) هو من تفسير الحافظ لكلام حبيب ، وهو قد يحتمل هذا التفسير ، وقد يحتمل غيره بأنه يرويه مثلاً ولا يرجع إلى الأعمش ليتأكد منه .
وفي الجملة فإن مجموع ما ذكر له لا يدل على كثرة تدليسه ، بل هو قليل التدليس كما يظهر من تراجمه ومروياته ، ، والله تعالى أعلم .
فالحاصل من كل ما سبق(1) :
أنه لا بد من التريث قبل أن يوصف الراوي بالتدليس ، وأن تراجع كتب الأئمة المتقدمين وأن تسبر مروياته ، فينظر في صفه المدلس :
هل تدليسه بمعنى الإرسال كالحسن وابن أبي عروبة ؟
أو تدليسه عن راو معين كالوليد بن مسلم وزكريا بن أبي زائدة ؟
أو تدليسه عن راو معين ، وقد عرفت الواسطة ، كحميد الطويل وابن أبي نجيح ؟
أو تدليسه تدليس شيوخ كمروان الفزاري ؟
وهل هو مكثر من التدليس أو لا ؟
والإجابة على هذه الأسئلة لا تكون بالرجوع إلى كتب المتأخرين ، بل تحصل بالرجوع إلى كلام المتقدمين والتدقيق في عباراتهم ، وسبر مرويات الموصوف بالتدليس .
وبهذا يأمن الباحث من الزلل بحول الله وقوته .
الفصل الثالث
رواية المدلس والعنعنة
لما كان للصيغة التي تكون بين المدلس وشيخه دور هام ( عند المعاصرين خصوصاً ) في الحكم على روايات المدلسين أحببت أن أذكر في هذا الفصل تحريراً لمسألة مهمة وهي :
هل العنعنة التي تذكر في الروايات من تصرف الراوي أو تصرف من دونه من الرواة كتلاميذه أو تلاميذهم ؟؟!! .
__________
(1) هناك تراجم أخرى كثيرة في ( طبقات المدلسين ) تحتاج إلى إعادة نظر ، ولعل هذه الأمثلة تنبيه على ما سواها .(1/76)
الذي يتضح من أقوال الأئمة المتقدمين هو أن العنعنة ليست من قول المدلس أو الراوي بل هي ممن دونه .
والحديث في إثبات هذا يكون على مقامين :
( المقام الأول )
هي معرفة صيغة المدلس أو الراوي عند روايته ما لم يسمعه
يتضح من كلام المتقدمين إذا ذكروا طريقة الرواة في روايتهم ما لم يسمعوه أنهم يأتون بألفاظ عدية محتملة للسماع ، ويندر أن يذكروا ( العنعنة ) من بينها ، ومن الألفاظ التي ذكروها :
أولاً : أن يقول ( قال فلان ) ، وهو كثير جداً من تصرفات المدلسين والرواة عموماً في ذكرهم ما لم يسمعوه ، ومن أمثلته :
قول يحيى بن سعيد القطان(1) : ( كان ابن جريج صدوقاً فإذا قال حدثني فهو سماع ،
وإذا قال : أخبرنا أو أخبرني فهو قراءة ، وإذا قال : قال فهو شبه الريح ) اهـ .
وقال أحمد بن حنبل(2) : ( إذا قال ابن جريج : قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير ، وإذا قال : أخبرني وسمعت فحسبك به ) اهـ .
وقال أيضاً(3) : ( إذا قل ابن جريج : قال فاحذره ، وأذا قال : سمعت أو سألت جاء بشئ ليس في النفس منه شئ ) اهـ .
وقال أيضاً(4) : ( كان ابن إسحاق يدلس إلا أن كتاب إبراهيم بن سعد يبين إذا كان
سماعاً قال : حدثني ، وإذا لم يكن قال : قال ) اهـ .
وقال أيضاً(5) : ( ـ في ابن وهب ـ كان حديثه بعضه سماع ، وبعضه عرض ، وبعضه
مناولة ، وكان ما لم يسمعه يقول : قال حيوه ، قال فلان ) اهـ .
وقال أيضاً(6) : ( قال سفيان : وكان عبد الكريم أول من جالسته قبل عمرو بن دينار
__________
(1) المحدث الفاصل ) 433 ، ( الكفاية ) 1/302 .
(2) تاريخ بغداد ) 10/405 ، ( تهذيب الكمال ) 18/348 ، ( سير أعلام النبلاء ) 6/328 .
(3) تهذيب الكمال ) 18/348 ، ( سير أعلام النبلاء ) 6/328 .
(4) العلل ) ص34 .
(5) نفسه ص41 ، 119 .
(6) العلل ومعرفة الرجال ) 3/469 .(1/77)
فكان كثيراً من حديثه لا يقول فيه : سمعت ، يقول : قال فلان ففررت منه ، وذهبت إلى عمرو بن دينار وكان يقول : سمعت ، سمعت وحدثنا .
قال سفيان : وكان عبد الكريم إذا لقيني فهو يومي لا يفارقني يقول هات حدثني ما
سمعت فأحدثه ) اهـ .
وقال أيضاً(1) : ( وقال كان ابن أبي رائطة إذا قال : قال ابن جريج عن فلان ، فبم
يسمعه ، وكان يحدث عن ابن جريج فلا يجئ بالألفاظ والأخبار ) اهـ .
وقال شعبة(2) : ( كنت أعرف إذا جاء ما سمع قتادة مما لم يسمع ، كان إذا جاء ما سمع
قال : حدثنا أنس بن مالك ، حدثنا الحسن ، حدثنا مطرف ، حدثنا سعد ، إذا جاء ما لم يسمع قال : قال سعيد بن جبير ، قال أبو قلابة ) .
وقوله أيضاً(3) : ( كنت أتفطن إلى فم قتادة ، فإذا قال : سمعت أو حدثنا حفظت ،
وإذا قال : حدث فلان تركته ) .
وقال أيضاً(4) : ( لأن أزني أحب إلى من أن أقول : قال فلان ولم أسمع منه ) اهـ .
وقال سليمان بن حرب(5) : ( حدثني أبو النعمان قال قال حماد : إني أكره إذا كنت لم
أسمع من أيوب حديثاً أن أقول : قال أيوب كذا وكذا ، فيظن الناس أني قد سمعته منه ) اهـ .
وقال يحيى بن معين(6) :
( سمعت هشيماً يحدث يوماً فقال :حدثنا علي بن زيد ، ثم ذكر أنه لم يسمعه من علي بن زيد ، فتنحنح ثم قال : سووا الطريق ، ثم قال : قال على بن زيد ) اهـ .
وقال سفيان الثوري(7) :
( إذا قال لك جابر : حدثني وسمعت فذاك ، وإذا قال : قال فلان وقال فلان فلا ) اهـ .
وقال البخاري(8) : ( حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا زهير قال : قدمت البصرة فرأيت
__________
(1) العلل ) ص36 .
(2) انظر : ( طبقات ابن سعد ) 7/229 .
(3) الجرح والتعديل ) 1/161 ، ( تاريخ ابن معين ) للدارمي ص192 .
(4) الكفاية ) 1/290 .
(5) الكفاية ) 1/290 .
(6) تاريخ الدوري ) 4/388 .
(7) الضعفاء ) 1/193
(8) علل الترمذي ) 1/130(1/78)
حميداً وعنده أبو بكر بن عياش ، وجعل حميد يقول : قال أنس ، فلما فرغ قلت له : أسمعت هذا ، قال : سمعت عمن أحدث عنه .
قال محد ( البخاري ) : يعني أنه لم يقل سمعت أنساً وسمعت عمن أحدث عنه قال محمد : وكان حميد يدلس ) اهـ .
وقال الخطيب(1) : ( وممن كان لا يذكر الخبر في أكثر حديثه حجاج بن محمد الأعور
فإنه كان يروي عن ابن جريج كتبه ويقول فيها : قال ابن جريج : فحملها الناس عنه واحتجوا برواياته لأنه قد كان عرف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه ) اهـ .
ثانياً : ومن ذلك أن يقول الراوي لما لم يسمعه ( حدث فلان ) ، ومن أمثلته : :
قول شعبة (2) : ( كنت أتفقد فم قتادة فإذا قال : سمعت أو حدثنا حفظت ، وإذا قال : حدث فلان تركته ) اهـ .
وقوله أيضاً(3) ( كنت أتفطن إلى فم قتادة إذا حدث ، فإذا قال حدث ما قد سمع قال : حدثنا سعيد بن المسيب ، وحدثنا أنس ، وحدثنا الحسن ، وحدثنا مطرف ، فإذا حدث بما لم يسمع قال : حدث سليمان بن يسار ، وحدث أبو قلابة ) اهـ .
ثالثاً : ومن ذلك أن يقول الراوي لما لم يسمعه ( ذكر فلان ) .
ومن أمثلته :
قول علي بن المديني(4) : ( لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين : نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إذا نفس أحدكم يوم الجمعة ) ، والزهري عن عروة عن زيد بن خالد : ( إذا مس أحدكم فرجه ) ، هذان لم يروهما عن أحد ، والباقون يقول : ذكر فلان ، ولكن هذا فيه حدثنا ) اهـ .
رابعاً : ومن ذلك أن يقول ( فلان ) ولا يقول قبله شيئاً ،
ومن أمثلته :
قول الإمام أحمد(5) : ( كل شئ يقول ابن جريج : قال عطاء ، أو : عطاء ، فإنه لم يسمعه من عطاء ) اهـ .
خامساً : ون ذلك أن يقول الراوي _ حدثنا وسمعت ) ثم يسكت ثم يقول فلان ولا يقصده بالتحديث الأول ،
__________
(1) الكفاية ) 1/290
(2) الجرح والتعديل ) 1/161 ، 4/370
(3) مسند ابن الجعد ) ص162
(4) المعرفة والتاريخ ) للفسوي 2/27
(5) بحر الدم ) 278(1/79)
ومن أمثلته :
قول الإمام أحمد(1) ( كان هشيم يوماً يقول حدثنا وأخبرنا ثم ذكر أنه لم يسمع فقال يا
صباح قل لهم توسعون الطريق حتى يمر الصبي والمرأة ثم قال(2) : فلان عن يونس وفلان عن مغيرة ) اهـ .
وقال يعقوب بن أبي شيبة(3) : ( سمعت أبا الأحوص البغةي إن شاء الله أو حدثنيه حسن ابن وهب عنه ـ وذكر هشيماً وتدليسه ـ فقال : جلست إلى جانبه وهو يحدث ، فجعل يقول : أخبرنا برفع صوته ، ثم يسكت فيقول فيما بينه وبين نفسه : فلان ، ثم يرفع صوته : داود عن الشعبي عن فلان عن فلان ) اهـ .
وعن الإمام أحمد أنه(4) : ( ذرك عمر بن علي فأثنى عليه خيراً وقال كان يدلس ، يقول
: حجاج سمعته ـ يعني حديثاً آخر ـ كذا كان يدلس ) اهـ .
وقال ابن سعد عنه أيضاً(5) : ( وكان يدلس تدليساً شديداً ، وكان يقول : سمعت وحدثنا ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة الأعمش ) اهـ .
خامساً : ومن ذلك أن يقول ( عن فلان ) ، ومن أمثلته :
قول النسائي(6) في ( بقية بن الوليد ) : ( إن قال أخبرنا أو حدثنا فهو ثقة وإن قال ( عن ) فلا يؤخذ عنه لا يدري عمن أخذه ) اهـ .
فيحصل مما سبق أن معظم ـ إن لم يكن كل ـ ما دلسه الرواة يكون بذكر ألفاظ ليسبها العنعنة ، وذلك بأن يقول ( قال فلان ) ونحوه ، فذكر العنعنة بين الراوي المدلس وشيخه لا يدل على أن المدلس هو الذي ذكرها ، فلا يبني حكم على مجرد وجود هذه العنعنة هنا ، ويتضح هذا أكثر في :
المقام الثاني
وهو في إثبات أن العنعنة تكون من تصرفات الرواة عن المحدث
لا من قول المحدث في الغالب
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال ) 2/250
(2) يحتمل أنه أراد إيهام إضافة التحديث إلى فلان هذا فيكون من ما سماه الحافظ ( تدليس القطع ) ، ويحتمل أنه أراد أن يبدأ تحديثه بما لم يسمعه بقوله ( فلان ) فيكون داخلاً في القسم الذي قبله ( الرابع ) .
(3) الكفاية ) 1/164
(4) العلل ومعرفة الرجال ) 3/140
(5) طبقات ابن سعد ) 7/2910
(6) تاريخ بغداد ) 7/1260(1/80)
فمن تتبع نقول العلماء وتصرفاتهم والنظر في الأسانيد يتضح أن العنعنة في الغالب تكون من تصرفات من دون المدلس ، وهذا الأمر يعتمد اعتماداً على جمع الطرق وعلى القرائن المحتفة بالأسانيد والرواة ونحو ذلك . وتغيير الصيغة التي حدث بها الراوي تكون على قسمين :
القسم الأول
الانتقال من أي صيغة حدث بها المحدث إلى العنعنة
وذلك كأن تكون صيغة أداء المدلس ـ أو الراوي عموماً ـ هي ( حدثنا ) أو ( أخبرنا ) أو ( قال ) ونحوها مما فيه التصريح بالتحديث أو لا ، فيتصرف فيها الراوة عنه ويجعلونها بالعنعنة ، وهذا الأمر كثير جداً من فعل الثقات الحفاظ ومن دونهم ، والأدلة على ذلك كثيرة منها :
دلالة اللغة : فإن ( عن فلان ) جار ومجرور لا بد لها من متعلق(1) ، والمتعلق يكون
ظاهراً في الغالب ، فقول الراوي ( حدثنا فلان عن فلان ) يدل على أن قوله ( عن فلان ) متعلق بالفعل ( حدثنا ) فالفعل ومتعلقه قال المعلمي(2) رحمه الله :
( اشتهر في هذا الباب ( العنعنة ) ، مع أن كلمة ( عن ) ليست من لفظ الراوي الذي يذككر اسمه قبلها ، بل هي من لفظ من دونه ، وذلك كما لو قال همام ( حدثنا قتادة عن أنس ) فكلمة ( عن ) من لفظ ( همام ) لأنها متعلقة بكلمة ( حدثنا ) وهي من قول ( همام ) ، ولأنه ليس من عادتهم أن يبتدئ فيقول ( فلان ... ) كما ترى بعض أمثلة ذلك في بحث التدليس من ( فتح المغيث ) وغيره ، ولهذا يكثر في كتب الحديث إثبات ( قال ) في أثناء الإسناد قبل ( حدثنا ) و ( أخبرنا ) ،
__________
(1) يجوز أن يكون المتعلق مقدراً ، ولكن في حالات لا يوجد فيها المتعلق مذكوراً ، لذلك يندر أن تجد إسناداً كله بالعنعنة لا يوجد فيها ( حدثنا أو أخبرنا ) .
(2) التنكيل ) 1/82(1/81)
وذلك في نحو قول البخاري : ( حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد ) وكثيراً ما تحذف فيزيدها الشراح أو قراء الحديث ولا تثبت قبل كلمة ( عن ) ، وتصفح إن شئت ( شرح القسطلاني على صحيح البخاري ) ، فهذا يتضح قول همام ( حدثنا قتادة عن أنس ) لا يدري كيف قال قتادة ( فقد يكون قال ( حدثني أنس ) أو ( قال أنس ) أو ( حدث أنس ) أو ( ذكر أنس ) أو ( سمعت أنساً ) أو غير ذلك من الصيغ التي تصرح بسماعه من أنس أو تحتمله ، لكن لا يحتمل أن يكون قال ( بلغني عن أنس ) إذ لو قال هكذا لزم هماماً أن يحكي لفظه أو معناه مدلساً كأن يقول ( حدثني قتادة عمن بلغه عن أنس ) وإلا كان همام مدلساً تدليس التسوية وهو قبيح جداً وإن خف أمره في هذا المثال لما يأتي في قسم التراجم في ترجمة الحجاج بن محمد(1) اهـ .
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي(2) :
( سمعت عبد الرحمن بن إبراهيم دحيماً قال : ثنا الوليد ( هو ابن مسلم ) قال : كان الأوزاعي إذا حدثنا يقول : ثنا يحيى قال : ثنا فلان : قال : ثنا فلان حتى ينتهي ، قال الوليد : فربما حدثت كما حدثني ، وربما قلت عن عن تخفنناً من الأخبار ) اهـ .
وهذا ظاهر في أن الراوي هنه وهو ( الوليد ) يعنعن ما صرح فيه شيخه وشيخ شيخه بالتحديث 3- وقال أبو زرعة الرازي(3) :
( سألت أحمد بن حنبل عن حديث أسباط عن الشيباني عن إبراهيم قال : سمعت ابن عباس ؟ قال : عن ابن عباس .
فقلت : إن أسباطاً هكذا يقول .
فقال : قد علمت ، ولكن إذا قلت ( عن ) فقد خلصته ، وخلصت نفسي ، أو نحو هذا المعنى )
__________
(1) ثم إنه ذكر رحمه الله تعالى في ترجمة حجاج بن محمد 1/327 أن الأصل في رواية المدلس الانقطاع عند كلامه على روايات ابن جريج المعنعنة ولا يسلم له ذلك لما يأتي إن شا ءالله تعالى
(2) المعرفة والتاريخ ) 2/464
(3) طبقات الحنابلة ) لابن أبي يعلى 1/302(1/82)
4- قال عبد الله بن أحمد(1) :
( قلت له ( لأبيه الإمام أحمد ) : أبو معاوية فوق شعبة أعني في حديث الأعمش ، فقال : أبو معاوية في الكثرة واعلم يعني علمه بالأعمش ، شعبة صاحب حديث يؤدي الألفاظ ، والأخبار أبو معاوية عن عن ) اهـ .
وهذا ظاهر أيضاً في أن أبا معاوية ـ وهو ثقة ـ يعنعن في موضع الأخبار كما يفهم من مقارنته بشعبه .
وقال الخطيب البغدادي(2) :
( وإنما استجاز كتبه الحديث الاقتصار على العنعنة لكثرة تكررها ولحاجتهم إلى كتب الأحاديث المجملة بإسناد واحد فتكرار القول من المحدث ثنا فلان عن سماعه من فلان يشق ويصعب لأنه لو قال أحدثكم عن مساعي من فلان حتى يأتي على أسماء جمسع مسندس الخبر إلى أن يرفع إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي كل حديث يرد مثل ذلك الإسناد لطال واضجر وربما كثر رجال الإسناد حتى يبلغوا عشرة وزيادة على ذلك وفيه إضرار بكتبة الحديث وخاصة المقلين منهم والحاملين لحديثهم في الأسفار ويذهب بذكر ما مثلناه مدة من الزمان فساغ لهم الأجل هذه الضرورة استعمال عن فلان ) اهـ .
قال ابن أبي حاتم(3) :
( حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلى قال قال أبي : محمد بن طلحة لا بأس به إلا أنه كان لا يكاد يقول في شئ من حديثه حدثنا(4) ) اهـ .
وقال الحاكم(5) :
( قرأت بخط محمد بن يحيى سألت أبا الوليد : أكان شعبة يفرق بين أخبرني وعن ؟ فقال : أدركت العلماء وهو لا بفرقون بينهما ) اهـ .
وقال عمرو بن علي الفلاس(6) :
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال ) 2/377 ، ( منتخب العلل للخلال ) لابن قدامة ص323 .
(2) الكفاية ) 1/390
(3) الجرح والتعديل ) 7/291
(4) هذا يحتمل أنه لا يقول ( حدثنا ) في شئ من الإسناد ، ويحتمل أنه هو لا يقول حدثنا إذا روى عن شيخه فلا يكون دليلاً هنا .
(5) نقله عنه الحافظ ابن رجب في ( شرح العلل ) 1/364
(6) الجرح والتعديل ) 1/241(1/83)
( سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : أحاديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة كلها صحاح . وجعل يحدثني بها ويقول : ثنا ابن جريج قال :
حدثني ابن أبي مليكة . فقال في واحد منها : عن ابن أبي مليكة .
فقلت : قل حدثني . قال كلها صحاح ) اهـ .
قال الإما أحمد(1) :
( كنت أسأل يحيى بن سعيد عن أحاديث إسماعيل بن أبي خالد عن
عامر عن شريح وغيره فكان في كتابي : إسماعيل قال : حدثنا عامر عن شريح ، حدثنا عامر عن شريح . فجعل يحيى يقول : إسماعيل عن عامر صحاح ، إذا كان يعني مما لم يسمعه إسماعيل من عامر أخبرته ) اهـ .
وما يدل على ذلك أيضاً : أن شعبة قد ذكر أنه لا يأخذ عن قتادة والأعمش وأبي إسحاق إلا ما صرحوا فيه بالسماع(2) ، وكثير من رواياته عنهم هي بالعنعنة(3)
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال ) 1/519 ، 2/542
(2) انظر ( طبقات المدلسين ) ص58 وانظر ما نقلته عنه في ترجمة ( قتادة ) من الفصل الثاني .
(3) ومن الأمثلة على ذلك :
ما رواه البخاري (13) حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعن حسين المعلم قال حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .
وما رواه (81) حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : لأحدثكم حديثاً لا
يحدثكم أحد بعدي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : ( من أشراط الساعة أن يقل العلم ، ويظهر الجهل ، ويظهر الزنا ، وتكثر النساء ، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القم الواحد ) .
وما رواه (709) حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس بن
مالك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي وربما قال من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم ) .(1/84)
، فأما أن تكون منه أو ممن دونه(1)
ومما يدل على ذلك :
__________
(1) ومثله أيضاً ما رواه الإمام أحمد كما في ( العلل ومعرفة الرجال ) 1/517 قال : ( قال يحيى بن سعيد : ما كنت عن سفيان شيئاً إلا ما قال : حدثني أو حدثنا إلا حديثين ، حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن سماك عن عكرمة ومغيرة عن إبراهيم فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن قالا هو الرجل يسلم في دار الحرب فيقتل فليس فيه دية فيه كفارة .
قال أحمد : هذين الحديثي الذي زعم يحيى أنه لم يسمع سفيان يقول فيهما حدثنا أو حدثني ) اهـ . ثم إن يحيى بن سعيد قد روى عنه عن سفيان عمن فوقه بالعنعنة غير هذين الحديثين ، ومن الأمثلة على ذلك :
ما رواه البخاري (1886) قال حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة
قلت لعائشة رضي الله عنها : ( هل كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يختص من الأيام شيئاً ، قالت : لا كان عمله ديمة ، وأيكم يطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يطيق ) .
ما رواه أيضاً (4218) حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله
عنهما بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء جاء فقال أنزل الله على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قرآنا أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها فتوجهوا إلى الكعبة .
ما رواه أيضاً (4719) حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا يحيى عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر : ( أبي قرؤنا وإنا لندع من لحن أبي أبي يقول أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا أتركه لشئ قال الله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) .
والأمثلة عهلى ذلك كثيرة ونكتفي بما مضى .(1/85)
ما ذكره الأئمة عن طريقة تدليس الرواة وصيغهم في ذكر ما لم يسمعوه وقد سبق ذكرها فيما سبق ، وهي تبين أن طريقة الرواة عند تحديثهم بما لم يسمعوه وأنهم يقولون في الغالب ( قال لان )(1) ، ثم إذا دهبت تنظر في أمثر رواياتهم لرأيتها بالعنعنة .
وأكتفي بمثال واحد قد لا يخالف فيه وهو ابن جريج فقد نص يحيى القطان وأحمد كما سبق أنه إذا روى ما لم يسمعه فإنه يقول قال ومع ذلك فقد رويت له روايات مدلسة كثيرة بالعنعنة ـ أنظرها في الفصل الرابع .
ومن النظر في الأسانيد واعتبارها يتبين هذا جلياً ، وقد اخترت مثالاً واحداً ليقاس عليه
غيره ، وخترته غريباً في طبقاته العليا حتى لا يتعسف ويقول رما تعددت صيغ الأداء لاختلاف المجالس .
وهذا الحديث هو حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) .
وهو من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب مرفوعاً به .
والصحيح فيه التصريح بالسماع في جميع طبقاته العليا كما رواه :
سفيان بن عيينة كما رواه عنه الحميدي ( في مسنده 1/16 ) ومن طريقة أخرجه
البخاري في أول حديث في الصحيح .
( قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال : أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أن سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيات ) .
ويزيد بن هارون كما في ( المسند 1/43 ) ( الدار قطني 1/50 ) (ابن ماجة 2/141)
( البيهقي 5/39 ) :
__________
(1) لا يعني هذا أن الراوي لا يقول ( عن فلان ) بل قد يوجد كما قال النسائي في (بقية بن الوليد ) كما في ( تاريح بغداد ) 7/126 ( إن قال أخبرنا أو حدثنا فهو ثقة وإن قال عن فلا يؤخذ عنه لا يدري عمن أخذه ) اهـ ، وإن كان الاستدلال به على أن بقية هو صاحب العنعنة فيه شئ .(1/86)
( أنبأنا يحيى بن سعيد أن محمد بن إبراهيم التيمي أخبره : أنه سمع علقمة بن وقاص أنه سمع عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول ( إنما الأعمال بالنيات ) .
الليث بن سعد كما في سنن ابن ماجة 2/1416 :
( أنبأنا يحيى بن سعيد : أن ممد بن إبراهيم التيمي أخبره : أنه سمع علقمة بن وقاص أنه سمع عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيات )(1) .
عبد الوهاب الثقفي كما ( البخاري 6311 ) ( ابن خزيمة 1/74 ) ( مسند أبي عوانة
1/487 ) :
( قال سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص اللشيثي يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنية ) .
ومع ذلك فقد رواه بالعنعنة في جميع طبقات السند :
مالك كما رواه عنه القعني ( البخاري 54 ) و ( مسلم 1907 ) ، ويحيى بن قزعة كما في ( البخاري 4783 ) وابن وهب كما في ( شرح معاني الآثار 3/96 )(2) .
حماد بن زيد كما في ( البخاري 6553 ) .
ابن المبارك كما في ( النسائي في الكبرى 1/79 )(3) .
ثم إذا أتينا أيضاً لروايات من صرح فيه بالسماع لوجدنا أن بعض من رواه عنهم عنعن أيضاً :
__________
(1) ويحتمل أن ابن ماجة حمل رواية الليث بن سعد على رواية يزيد بن هارون لأنه ذكر طريق يزيد أولاً ثم ذكر علامة التحويل ثم رواية الليث ثم قال ( قالا .. فذكره ) .
(2) في ( الموطأ ) رواية محمد بن الحسن الشيباني (983) التصريح بالسماع في جميع طبقات السند ، فإن حفظ الشيباني الرواية فإن مالكاً يكون حدثه بالتصريح بالسماع ، وحدث أولئك بالعنعنة .
(3) وممن رواه باعنعنة أيضاً الأوزاعي وسليمان بن حيان والثوري ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم .(1/87)
فعبد الوهاب الثقفي رواه عنه محمد بن المثنى بالعنعنة كما في ( الترمذي 1647 ) .
وابن عيينة رواه عنه ابن ابن المقرئ بالعنعنة كما في ( المنتقى لابن الجارود 64 ) .
فمن المثال السابق يتضح جلياً أن الرواة قد يتصرفون في صيغ التحديث :
فسفيان بن عيينة رواه بالتصريح بالسماع ولكن رواه ابن المقرئ عنه وهو ثقة بالعنعنة ، فسواء كانت العنعنة من تصرف ابن المقرئ أو من تصرف سفيان عند تحديثه له ـ في مجلس آخر ـ فهو تصرف في صيغ أداء الطبقات المتقدمة من أحد الرجلين .
والثقفي كذلك رواه بالتصريح بالسماع ولكن رواه محمد بن المثنى عنه وهو ثقة بالعنعنة ويقال فيها ما قيل في رواية ابن المقرئ عن سفيان .
وكذلك : فإن يحيى الأنصاري رواه عنه ابن عيينة والثقفي ويزيد بن هارون وغيرهم بالتصريح بالسماع في الطبقات المتقدمة ، بينما رواه نالك وحماد بن زيد وابن المبارك وغيرهم بالعنعنة في جميع الطبقات ، فيظهر من ذلك أن العنعنة من تصرف من رواة عن الأنصار ، وإن قيل إن الأنصاري ربما حدث به في أكثر من مجلس فصرح بالسماع تارة وبالعنعنة تارة قالاستدلال به قائم أيضاً لأن في هذا تصرف من الأنصاري في صيغ أداء محمد بن إبراهيم وشيخه علقمة بن وقاص وشيخه عمر رضي الله عنه .
وهذا مثال لبيان هذا الأمر عملياً ، والقول في صيغ المدلسين كالقول في صيغ غيرهم ـ يعني في تغيير الرواة عنهم لها ـ وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد من التوضيح في الفصل الرابع .
*******************
القسم الثاني
من أقسام تغيير الرواة للصيغة ، التصريح بالتحديث أو السماع في
موضع لم يصرح فيه المحدث بذلك
وهذا على قسمين أيضاً :
الأول : من خفيفي الضبط ومن عرف عنهم بالتساهل :
وهذا يحصل منهم كثيراً ومن أمثلة ذلك :(1/88)
ما ذكره أبو حاتم عن أصحاب بقية بن الوليد أنهم يتساهلون في نسبة قول ( حدثنا ) إلى بقية(1) .
__________
(1) فقد قال ابن أبي حاتم في 1/385 : ( سألت أبي : عن حديث رواه أبو تقي هشام بن عبد الملك عن بقية قال حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معهاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إن أطيب الكسب كسب التجار .. الحديث ) .
قال أبي : هذا حديث باطل ، ولم يضبط أبو تقي عن بقية ، وكان بقية لا يذكر الخبر في مثل هذا ) اهـ .
وقال في 2/126 : ( سمعت أبي : روى هشام بن خالد الأزرق قال حدثنا بقية بن الوليد قدل حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أصيب بمصيبة من سقم أو ذهاب مال فاحتسب ولم يشك إلى الناس كان حقاً على الله أن يغفر له ) .
قال أبي : هذا حديث موضوع ، لا أصل له ، وكان بقية يدلس فظنوا أنه يقول في كل حديث : حدثنا ولا يفتقدون الخبر منه ) اهـ .
وقال 2/295 ( سمعت أبي : روى عن هشام بن خالد الأزرق قال حدثنا بقية الوليد قال حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته فلا ينظر إلى فرجها فإن ذلك يورث العمى ) وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أصيب بمصيبة من سقم أو ذهاب مال فاجتسب ولم يشك إلى الناس كان حقاً على الله أن يغفر له ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تأكلوا بهاتين الإبهام والمشيرة ولكتن كلوا بثلاث فإنها سنة ولا تأكلوا بخمس فإنها أكلة الأعراب .
قال أبي : هذه الثلاث الأحاديث موضوعة ل أصل لها ، وكان بقية يدلس فظن هؤلاء أنه يقول في كل حديث حدثنا ولم يفتقدوا الخبر منه ) اهـ .(1/89)
وذكر الإسماعيلي أيضاً عن الشاميين والمصريين أنهم يتساهلون في التحديث ونص على يحيى بن أيوب أيضاً(1) .
وقال أحمد بن حنبل(2) : ( كان مبارك ( يعني ابن فضالة ) يرفع ابن مغفل كثيراً ويقول في غير حديث عن الحسن قال : نا عمران ، قال : نا ابن مغفل ، وأصحاب الحسن لا يقولون ذلك غيره ) اهـ .
وقال أحمد أيضاً(3) : ( كان سجية في جرير بن حازم يقول : حدثنا الحسن قال : حدثنا عمرو بن تغلب ، وأبو الأشهب يقول : عن الحسن قال بغلني أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمرو بن تغلب ) اهـ .
وقال الدوري(4) : ( سمعت يحيى ( ابن معين ) يقول :
(( كان جرير بن حازم يحدث فيقول : حدثنا ، فكان حماد بن زيد يقول له : عن عن ، قال يحيى : وكان حماد بن زيد يقول لجرير بن حازم فيما بينه وبينه )) ) اهـ .
وروى العقيلي(5) عن يحيى بن معين أنه قال ليحيى بن سعيد القطان في فطر بن خليفة :
( فتعمد على قوله حدثنا فلان قال حدثنا فلان موصول ، .
قال لا .
قلت : كانت منه سجية ؟ .
قال : نعم ) اهـ .
وقال ابن رجب رحمه الله :(6)
( وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد ، ويقول هو خطأ ، يعني ذكر السماع ـ ثم مثل على ذلك بأمثلة وقال :
وحينئذ فينبغي التفطن لهذه الأمور ، ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد ) اهـ
الثاني : من الثقات الحفاظ :
وهذا قد يحصل قليلاً ويكون من الأوهام التي تعرض للثقة وتدخل في الحديث المعل ، ومن أمثلة ذلك :
قال يحيى بن معين(7) :
( أخطأ عبد الرحمن بن مهدي يوماً فقال : حدثنا هشيم قال : حدثنا منصور ، ولم يكن هشيم سمعه من منصور ) اهـ .
__________
(1) انظر ( فنح الباري ) لابن رجب 3/54 ،94 ، 106 ، 4/398 ، 6/59 ، 8/254 ، 9/37 .
(2) الجرح والتعديل ) 8/3380
(3) العلل ومعرفة الرجال ) 1/2670
(4) تاريخه ) 4/337
(5) الضعفاء ) 3/465
(6) شرح العلل ) 1/369
(7) تاريخ الدوري ) 4/145(1/90)
وقال الحافظ ابن رجب(1) :
( قد ذكر ابن المديني : أن شعبة وجدوا عليه غير شئ يذكر فيه الأخبار عن شيوخه ويكون منقطعاً ) اهـ .
ومن ذلك عدد من الأحاديث التي صرح فيها الراوي الثقة بوجود التحديث ويكون
الصحيح خلافه(2) ـ عند عدد من الأئمة ـ .
فمن مجموع ما سبق يتضح ما يلي :
أ ن العنعنة تكون غالباً من تصرف الرواة عن المدلس لا من قول المداس ، وعندها
فالحكم بكون هذه العنعنة منه مطلقاً خطأ .
وأن الحكم بأن المدلس ـ أو الراوي عموماً ـ قد صرح بالتحديث لمجرد وجود هذا
التصريح في بعض الطرق مطلقاً خطأ .
والأمر يعود في ذلك كله إلى النظر في الأسانيد والرجال والاعتبار والقرائن وهذا لايضبط بضابط مطلق يكون مطرداً في جميع الحالات .
وهذا كله يؤكد أن الأخذ بالضوابط فقط من دون نظر في الطرق والأسانيد واعتبار الروايات ومقارنتها ـ كما هو منهج كثير من المعاصرين في الحكم على رواية المدلس ـ خطأ ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
الفصل الرابع
الحكم على رواية المدلس
إن المتتبع لأحكام المتقدمين على أحاديث المدلسين بجدهم مخالفين للمتأخرين تماماً في مسألة الحكم على عنعنة المدلس ، فلا تجد حديثاً رده المتقدمون لمجرد العنعنة فقط ، بل لا بد فيه من وجود التدليس فعلاً ، أو علة حملوها على العنعنة ـ كما يستضح إن شاء الله تعالى ـ ، بخلاف المعاصرين الذين يكتفون بمجرد رؤية الإسناد ثم يقولون ( ضعيف فيه فلان وهو وإن كان ثقة إلا أنه مدلس وقد عنعن(3) !!!!
__________
(1) شرح العلل ) 1/3690
(2) انظر الفصل الرابع ففيه أمثلة لبعض الثقات الذي صرحوا بالتحديث في أسانيد ذكر الأئمة أنها مدلسة
(3) والعجيب أن بعضهم يقول ـ بعد الحكم بضعف السند للعنعنة ـ ( ولكنه تويع ) ، فهم يعلمون أن هذا الحديث مستقيم محفوظ عن شيخه ، ولم يثبت أنه قد دلسه وأسقط الواسطة ، ومع ذلك يحكمون بضعفه ، والله المستعان !!! .(1/91)
والحكم على عنعنة المدلس ليس لها ضابط مطرد ، بل هو كأغلب أحكام المتقدمين يعتمد على السبر وتتبع الروايات والنظر في أحوال الرواة والمتون ، إلا أنه من الممكن استخلاص بعض الأحكام العامة في ذلك كما يلي :
أعلم أولاً أن الرواة المتهمين بالتدليس على قسمين :
القسم الأول : من أكثر من التدليس جداً وكان غالباً على حديثه ، فمن كانت هذه صفته فإن الحكم في روايته التوقف حتى يثبت الاتصال لأن الغالب عليه التدليس ، وليس في الثقات الحفاظ أحد هذه صفته ، بل يوجد فيمن ضعفوا أو فيمن صفتهم الصدق وإن كان قد تكلم فيه بعض الأئمة كبقية بن الوليد والحجاج بن أرطأة وأبي جناب الكلبي ونحوهم ، وكثير من هؤلاء إنما ضعفوا لأجل التدليس ، وهؤلاء ليسوا محل بحثنا هنا .
القسم الثاني : من دلس أحياناً أو كثيراً ولكن لم يغلب على حديثه كالقسم السابق ، فحكمه أن روايته الأصل فيها الاتصال حتى يتبين الانقطاع أو التدليس مهما كانت الصيغة ( التحديث أو العنعنة أو غيرها ) ، وهؤلاء هم الحفاظ كقتادة والأعمش وهشيم والثوري وابن جريج والوليد بن مسلم ونحوهم ـ على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر تطبيقات السلف على روايات المدلسين ـ .
والأدلة على ما ذكرت تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أدلة نظرية .
القسم الثاني : أدلة تطبيقية .
القسم الأول
الأدلة النظرية
الدليل الأول : عنعنة المدلسين في الصحيحين(1/92)
فقد روى الشيخان في صحيحهما أحاديث كثيرة لمن ذكروا بالتدليس كالحسن وأبي إسحاق وهشيم وقتادة والأعمش والثوري والوليد بن مسلم وزكريا بن أبي زائدة وغيرهم بالعنعنة ، وبعضها لم يرد فيه التصريح بالسماع مطلقاً(1) ، ولما كان لمتأخرون وضعوا ضابطاً وهو ( وجوب تصريح المدلس بالمساع حتى يصح حديثه ) ، احتاروا في هذه الأحاديث كيف يجرونها على قواعدهم : وكثير منهم قال : هي محمولة على الاتصال من طريق آخر(2) :
قال النووي رحمه الله :(3) ( واعلم أن ما كان في الصحيحين عند المدلسين بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقتين جميعاً فيذكروا رواية المدلس بعن ثم يذكرها بالسماع ويقصد به هذا المعنى الذي ذكرته ) اهـ .
وقال في موضع آخر : ( وقول الأعمش عن أبي سفيان مع أن الأعمش مدلس ، والمدلس إذا قال عن لا يحتج به إلا أن يثبت سماعه من جهة أخرى وقد قدمنا في الفصول ، وفي شرح المقدمة أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن فمحمول على ثبوت سماعهم من جهة أخرى
والله أعلم(4) .
وقال العلائي(5) : ( ولهذا توقف جماعة من الأئمة عن الاحتجاج بما لم يروه الليث عن أبي الزبير عن جابر(6) ، وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما قال فيه أبو الزبير عن جابر وليست من طريق الليث ، وكأن مسلماً رحمه الله اطلع على أنها مما رواه الليث عنه وإن لم يروها من طريقة والله أعلم ) اهـ .
__________
(1) انظر مثلاً ( فتح الباري ) 1/358 ، 2/125 ( النكت ) لابن حجر 2/636 ، ( جامع التحصيل ) 113
(2) انظر ( فتح المغيث ) 1/187
(3) انظر ( شرح مسلم النووي ) 1/33
(4) نفسه 1/175 ، وانظر ( تدريب الراوي ) 1/230 ، و( فتح المغيث ) 1/187
(5) جامع التحصيل ) ص110
(6) لم يتوقف إمام من المتقدمين في ذلك بل الذي توقف ابن حزم ومن قلده ممن جاء بعده(1/93)
وقال السيوطي(1) : ( وإن كنا لا نتوقف في صحة ما روى في الصحيح من ذلك غير مبين ونقول لو لم يطلع مصنفه على أنه روى عنه قبل الاختلاط وأن المدلس سمع لم يخرجه فقد سأل السبكي المزي هل وجد لكل ما رواه بالعنعنة طرق مصرح فيها بالتحديث فقال كثير من ذلك لم يوجد وما يسعنا إلا تحسين الظن ) اهـ . وكلامهم في هذا مشهور(2) .
وهذا الكلام منتقد من وجوه :
الوجه الأول :
أنها دعوى لا دليل عليها إلا مجرد ( تحسن الظن ) كما قال السبكي(3) :
( وسألته ـ أي الحافظ المزي ـ عن ما وقع في الصحيحين من حديث المدلس معنعناً هل نقول : إنهما اطلعا على اتصالها ؟ .
فقال ك كذا يقولون ، وما فيه إلا تحسين الظن بهما ، وإلا ففهيما أحاديث من رواية المدلسين ما توجد من غير تلك الطريق التي في الصحيح ) اهـ .
الوجه الثاني :
أنه يلزم منه عد تعليل الأئمة لأحاديث المدلسين ـ في الصحيحي ـ إذا وجد أنهم دلسوها فعلاً من طرق أخرى ، إذ على مقتضى كلامهم فإن الشيخين قد اطلعا على اتصال السند .
وهذا خلاف الواقع ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ .
قال ابن المرحل(4) :
__________
(1) 254 انظر ( تدريب الراوي ) 1/116
(2) ومنهم من قال : بل تقبل الراوية المدلس إذا كان من رجال الشيخين دون غيرهما ، انظر : ( إرواء الغليل ) 3/201
(3) النكت ) لابن حجر 2/636
(4) النكت ) لابن حجر 2/635(1/94)
( إن في النفس من هذا الاستثناء غصة(1) ـ يعني اشتثناء أحاديث الصحيحين ـ ؛ لأنها دعوى لا دليل عليها ، ولا سيما أنا قد وجدنا كثيراً من الحفاظ يعللون أحاديث وقعت في الصحيحين أو أحدهما بتدليس رواتها(2) ) اهـ .
الوجه الثالث :
أن هذا ـ قد يسلم ـ لو أن ما جرى عليه الشيخان في صحيحيهما خالف ما جرى عيه أئمة الحديث المتقدمون .
فحينئذ ينبغي محاولة تخريج فعلهم لموافقة باقي الأئمة وأصولهم ، والحال هو العكس ، فإن حال الأئمة المتقدمين في معاملتهم لعنعنة المدلس توافق ما عليه الشيخان تماماً ، فإن تأولوا للشيخين فما هو قولهم في الأحاديث التي فيها مدلسون روايتهم بالعنعنة والتي يصححها الأئمة خارج الصحيحين كما سيأتي في الدليل الثاني ؟؟ !!
قال ابن دقيق العيد(3) :
( لا بد من الثبات على طريقة واحدة ، إما القبول مطلقاً في كل كتاب أو الرد مطلقاً في كل كتاب ، وأما التفرقة بين ما في الصحيح من ذلك وما خرج عنه فغاية ما يوجه به أحد أمرين :
إما أن يدعي أن تلك الأحاديث عرف صاحب الصحيح صحة السماع فيها ، وهذا
إحالة على جهالة ، وإثبات بمجرد الاحتمال .
وإما أن يدعي أن الإجماع على صحة ما في الكتابين دليل على وقوع السماع في هذه
__________
(1) الشاهد من كلامه تسليمه بأن هذا الضابط ( فيه نظر ) ، وإلا فإنه يظهر منه إرادة طرد ضابط المتأخرين في العنعنة ، لا رد ضابطهم بعمل المتقدمين فتنبه !! .
(2) التعليل الذي حصل لبعض أحاديث المدلسين من بعض الأئمة ليس هو تعليل المتأخرين ( فيه فلان وهو مدلس وقد عنعن ) بل هو تعليل بالتدليس لظهوره من طريق آخر ويأتي إن شاء الله
(3) النكت ) 2/635 ـ 636(1/95)
الأحاديث ، وإلا لكان أهل الإجماع مجمعين على الخطأ وهو ممتنع . لكن هذا يحتاج إلى إثبات الإجماع الذي يمتنع أن يقع في نفس الأمر مقتضاه ، وهذا فيه عسر ، ويلزم على هذا أن لا يستدل بما جاء من رواية المدلس خارج الصحيح ولا يقال ( هذا على شرط مسلم ) ـ مثلاً ـ لأن الإجماع ليس موجوداً في الخارج ) اهـ .
وهذا كلام جميل ، ومن الممكن لمن أدعى الإجماع أن يقلب عليه ، فيقال إن الإجماع قائم على قبول رواية المدلس الثقة إذا لم يأت تصريحه بالسماع ولم يأت ما يعله من طريق آخر ؛ لأن الإجماع منعقد على قبول أحاديث الصحيحين وفيهما من جنس هذه الأحاديث .
الوجه الرابع :
أن هناك من انتقد أحاديث الصحيحين كالدار قطني وأبي الفضل والهرري وغيرهما ولم يذكروا أحاديث المدلسين المعنعنة لمجرد العنعنة ، بل تركوا أكثرها ، وأعلوا بعضاً منها بسبب ورودها من طريق آخر تبين فيها التدليس كما سيأتي إن شاء الله تعالى في التطبيقات .
فيحصل مما سبق :
أن مجرد ( العنعنة ) لا تعلحديث المدلس الثقة إلا في حالة وجود التدليس فعلاً أو في حالة وجود علة في المتن أو الإسناد كزيادة أو نكارة أو نحوها ـ وسيأتي في التطبيقات أمثلة من الأحاديث المعلة في الصحيحين تبين كيف ينظر المتقدمون لهذه المسألة ـ .
الدليل الثاني : عمل المتقدمين في الجملة وتصحيحاتهم وتخريجاتهم وتعليلاتهم خارج الصحيحين
كتصحيحات الترمذي وابن حبان وابن خزيمة والحاكم لكثير من أحاديث المدلسين المعنعنة ، واحتجاج أبي داود والنسائي وابن الجارود بها وما جرى عليه الأئمة كالإمام أحمد وابن معين وابن المديني وأبي حاتم وأبي زرعة والدار قطني وابن عدي والعقيلي والفسوي وغيرهم .
لهذا قال ابن دقيقالعيد رحمه الله تعالى أيضاً(1) :
( ثم الراوي بالعنعنة عن شيخه إذا لقيه واكتفينا بمجرد إمكان لقائه على اختلاف المذهبين إما أن يكون مدلساً أو لا :
__________
(1) الاقتراح ) لابن دقيق العيد ص216(1/96)
فإن لم يكن حملنا الراوية على الاتصال والسماع .
وإن كان مدلساً فالمشهور أنه لا يحمل على السماع حتى يبين الراوي ذلك ، وما لم يبين فهو كالمنقطع فلا يقبل ، وهذا جار على القياس ، إلا أن الجري عليه في تصرفات المحدثين وتخريجاتهم صعب عسير ، يوجب اطراح كثير من الأحاديث التي صححوها(1) ، إذ يعتذؤ علين إثبات سماع المدلس فيها من شيخه ، اللهم إلا أن يدعي مدع أن الأوليين اطلعوا على ذلك وإن لم نطلع نحن عليه وفي ذلك نظر ) اهـ .
الدليل الثالث : التتبع والاستقراء :
فإن الأئمة المتقدمين لم يذكروا حديثً واحداً ـ عملياً ـ أعلوه بمجرد عنعنة المدلس إذا كان ثقة ، بل لا يذكرون هذه العلة إلا إذا ثبت تدليسه فعلاً أو حملاً لعلة أخرى كنكارة أو مخالفة أو نحوها كما سيتضح من القسم التطبيقي إن شاء الله تعالى .
الدليل الرابع : بعض النقولات عن أئمة هذا الشأن :
فمن ذلك :
قال يعقوب بن شيبة(2) :
( سألت يحيى بن معين عن التدليس ، فكرهه وعابه .
قلت له : أفيكون المدلس حجة فيما روى ، أو حتى يقول حدثنا وأخبرنا ؟ .
فقال : لا يكون حجة فيما دلس ) اهـ .
فانظر إلى قوله هنا ( لا يكون حجة فيما دلس ) ، ولم يقل ( فيما عنعن ) أو ( حتى يقول حدثنا ) ، فيستفاد من هذا ما يلي :
أولاً : أن الإمام يحيى بن معين لم يجعل الحكم للصيغة ، بل لثبوت التدليس في نفس الأمر .
ثانياً : أنه قال ( لا يكون حجة فيما دلس فيه ) / ولا يعرف هذا إلا باعتبار باعتبار الحديث وسبر الروايات .
ثالثاً : أن المدلس حجة فيما لم يدلس فيه ( وإن عنعن ) .
وقال أبو حاتم عن المقدمي(3) :
__________
(1) وهذا ما فعله بعض المعاصرين في بعض أحاديث الصحيحين !!!! .
(2) الكفاية ) 1/362 ( التمهيد ) 1/17
(3) الجرح والتعديل ) 6/124 ، ( علل ابن أبي حاتم 1/166(1/97)
( محله الصدق ولولا تدليسه لحكمنل له إذا جاء غير بزيادة غير أنا نخاف بأن يكون أخذه من غير ثقة )(1) اهـ .
فانظر إلى قوله ( جاء بزيادة ) فإنه لم ينظر للتدليس إلا إذا ( جاء بزيادة ) فإنها إن تعرف باعتبار الروايات ـ فإذا انفرد عن الباقين بزيادة وقد عنعن فإنه يحصل الخوف من التدليس من هذه الجهة ( للمخالفة ) ، فمفهومه أنه إذا كان حديثه مستقيماً فإنه لا يعلل بالتدليس .
قال يعقوب بن شيبة(2) :
( وسألت علي بن المديني ـ عن الرجل يدلس ـ أيكون حجة فيما لم يقل حديثاً ؟ .
فانظر إلى قوله ( إذا كان الغالب عليه التدليس ) ، فمفهومه أنه إذا لم يغلب التدليس على حديثه فإنه يكون حجة ( ولو لم يقل حديثاً ) ، والأئمة الحفاظ الثقات لا يغلب عليهم التدليس بل مسموعاتهم أكثر من رواياتهم المدلسة وإن كثر منهم التدليس ، كما سيتضح من الأمثلة إن شاء الله تعالى وكيف تعامل ابن المديني معها .
قال الإمام أحمد(3) ـ عن هشيم بن بشير ـ :
( ثقة إذا لم يدلس ) اهـ .
فذكر أنه ثقة إذا لم يحصل منه تدليس لا ( مجرد العنعنة ) ، ولا يعرف تدليسه إلا باعتبار روايته .
وقال الدار قطني(4) عن ابن جريج :
( يتجنب تدليسه فإنه وحش التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أب يحيى وموسى بن عبيدة وغيرهما ) اهـ .
__________
(1) قد ذكر البلخي ـ وهو معتزلي لا يوثق به ـ في كتابه ( قبول الأخبار ) ق218 أن أبا حاتم قال ( الزهري أحب إلى من الأعمش وكلاهما يحتج بحديثه فيما لم يدلسا ) اهـ ، وهذا النقل ـ إن ثبت ـ فهو من هذا الباب حيث نص على أنهما حجة فيما لم يدلسا ، وهو كقول ابن معين ( لا يكون حجة فيما دلس ) إلا أن أحد النقلين يصلح مفهوماً لمنطوق النقل الآخر .
(2) الكفاية ) 1/362 ، ( التمهيد ) 1/17
(3) بحر الدم ) 441
(4) سؤالات الحاكم ) ص174(1/98)
فانظر قوله ( يتجنب تدليسه ) ، ولم يقل ( عنعنته ) ، وإنما يعرف تدليسه بالاعتبار والقرائن ، وقوله هذا مثل قول ابن معين ( لا يكون حجة فيما دلس ) وقول الإمام أحمد عن هشيم ( ثقة إذا لم يدلس ) .
قال أبو داود(1) :
( سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس يحتج فيما لم يقل فيه سمعت ؟ قال : لا أدري .
فقلت : الأعمش متى تصاد له الألفاظ .
قال : يطيق هذا ، أي أنك تحتج به ) اهـ .
قلت : لو أتيت لأبلد طلبه الحديث في هذا العصر وسألته هذا السؤال لأجابك بكل ثقة ( لا يحتج برواية المدلس حتى يصرح بالتحديث ) .
فهل علم هؤلاء المتأخرون أمراً في رواية المدلس جهله الإمام أحمد ؟
أو إن الإمام أحمد علم شيئاً جهله المتأخرون جعله يتوقف عن ( وضع ضابط يطرد في رواية المدلس ؟ .
لا شك أنه الأمر الثاني قطعاً فـ ( عنعنة المدلس ) لا تخفى ، ولكن قول الإمام أحمد ( وهو أحد أئمة الحديث ) ( لا ادري ) يدل على أنه ليس هناك قاعدة مطردة في القبول أو الرد بل هي بحسب كل حديث وما يحتف به من أمور وقرائن كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ثم انظر إلى قوله ( يضيق هذا ) يعني عند اشتراط التحديث للاحتجاج برواية الأعمش ، فإنه صريح في المسألة ) .
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي(2) :
( وحديث سفيان ـ يعني الثوري ، وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة ) اهـ .
وهذا ظاهر إيضاً أن الأصل قبول رواية المدلس الثقة على أي صيغة كانت حتى يتبين أن الرواية مدلسة ولا يتبين هذا إلا باعتبار الروايات .
قال عبد الله بن الزبير الحميدي(3) :
__________
(1) سؤالات أبي داود ) ص199
(2) المعرفة والتاريخ ) 2/637
(3) الكفاية ) ص374(1/99)
( وإن كانم رجل معروفاً بصحبة رجل والسماع منه مثل ابن جريج عن عطاء أو هشام بن عروة عن أبيه وعمرو بن دينار عن عبيد بن عمير ومن كان مثل هؤلاء في ثقتهم ممن يكون الغالب عليه السماع ممن حدث عنه فأدرك عليه أنه ادخل بينه وبين من حدث رجلاً غير مسمى أو أسقطه ترك ذلك الحديث الذي أدرك عليه فيه أنه لم يسمعه ولم يضره ذلك في غيره حتى يدرك عليه فيه مثل ما أدرك عليه في هذا فيكون مثل المقطوع ) اهـ .
وهذا ظاهر أيضاً في المسألة ، وأنه لا يرد حديث المدلس إلا إذا قام الدليل على أنه حديث مدلس فعلاً فيترك الحديث بعينه لا جنس مرويات المدلس .
فإن قيل : ولكن مفهوم كلام الحميدي أن هذا خاص فيمن يروي عن غيهر وأكثر روايته سمعها منه .
فالجواب : أنه مثل على ذلك أيضاً برواية عمرو بن دينار وهشام بن عروة أيضاً .
وهؤلاء لم يقل أحد أن روايتهم التي لم يصرحوا فيها بالتحديث غير مقبولة سواء عمن أكثروا عنهم أو لا .
قال الحاكم(1) : ( الجنس الخامس من المدلسين قوم دلسوا عن قوم سمعوا منهم الكثير
عنهم فيدلسونه ....
ثم قال :
ومن هذه الطبقة جماعة من المحدثين المتقدمين والمتأخرين مخرج حديثهم في الصحيح إلا أن في هذا العلم يميز ما سمعوه وما دلسوه ) اهـ .
وهذا ظاهر أيضاً بأن تمييز ما سمعوه وما دلسوه ممكن ، ولا يكون إلا للمتبحرين في الحديث ، ولو كان الحكم في روايتهم على ( العنعنة ) و ( التحديث ) لما اختص ذلك بالمتبحرين بعلم الحديث لأن هذا يعرفه عوام طلبة الحديث وصغارهم .
ومثله قوله أيضاً(2) : ( وأخبار المدلسين كثيرة وضبط عنهم الأئمة ما لم يدلسوا ) .
وقوله أيضاً بعد ذكر الجنس السادس من التدليس(3) : ( وأن ذلك كان كله يخفى إلا على الحفاظ للحديث ) .
__________
(1) معرفة علوم الحديث ) 108 ـ 109 ، مثله أيضاً قوله في ( المدخل ) ص46 ( وأخبار المدلسين كثيرة وضبط عنهم الأئمة ما لم يدلسوا )
(2) المدخل ) 460
(3) معرفة علوم الحديث ) ص109(1/100)
وقوله الخليلي(1) : ( وابن جريج يدلس في أحاديث ولا يخفى ذلك على الحفاظ ) .
فكل هذه النصوص تدلى على أن تمييز ما سمع مما لم يسمع ممكن ولا يكون ذلك إلا للحفاظ لأنهم ينظرون إلى الطرق والأسانيد الأخرى ولا يكتفون بالنظر إلى إسناد واحد .
وقال ابن عبد البر(2) :
( وقتادة إذا لم يقل سمعت وخولف في نقله فلا تقوم به حجة لأنه يدلس كثيراً عمن لم يسمع منه وربما كان بينهما غير ثقة ) .
فانظر هنا إلى هذين القيدين من هذا الإمام :
إذا لم يقل سمعت .
وخولف في نقله .
ولا تعرف المخالفة في النقل إلا مع اعتبار الحديث ومقارنته بغيره من الروايات ، فمفهومه أنه إذا لم يحصل مخالفة فلا تضر روايته ولو لم يصرح بالسماع ، وهذا ظاهر .
وقال أيضاً(3) :
( وقال بعض من يوقل بالتيمم إلى المرفقين قتادة إذا لم يقل سمعت أو حدثنا فلا حجة في نقله وهذا تعسف ) .
فانظر كيف جعله تعسفاً ، لأن هذا رد للرواية بمجرد العنعنة .
وهناك من يقول لابن حزم رحما الله تعالىأذكره هنا لا على أنه من أئمة الحديث المحتج
بأقوالهم في الأصول(4) ، ولكن لأن ما ذكره في هذه المسألة بالذات موافق لأصول أئمة الحديث
فقد قال في كتابه ( الإحكام في أصول الأحكام ) :
وأما المدلس فينقسم إلى قسمين :
__________
(1) الإرشاد ) 1/352
(2) التمهيد ) 3/307
(3) التمهيد ) 19/287
(4) وذلك لأن عليه شذوذات حديثية كثيرة ( في باب التأصيل أو التفريع والتطبيق ) ليس هذا موضع تفصيلها .(1/101)
أحدهما : حافظ عدل ربما أرسل حديثه ، وربما أسنده ، وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة فلم يذكر له سنداً ، وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض ، فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئاً ، لأن هذا ليس جرحه ولا غفلة ، لمكنا نترك من حديثه ما علمنا يقيناً أنه أرسله ، وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده ،ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئاً من ذلك ، وسواء قال : أخبرنا فلان ، أو قال : عن فلان ، أو قال : فلان عن فلان ، كل ذلك واجب قبوله ما لم يتيقن أنه أورد حديثاً يعينه إيراداً غير مسند فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته ، وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال : (( كان معمر يرسل لنا أحاديث فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له )) ، وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري وأبي الزبير وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ، وقد أدخل علي بن عمر الدا قطني فيهم مالك بن أنس ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى ) اهـ .
وقد قال في موضع أخر من ( الإحكام ) : ( وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلس إلا ما قال فيه حدثنا أو أنبأنا وهذا خطأ وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلس المنكرات إلى الثقات إلا ما صح فيه تدليسه وبهذا نقول وعلى كل ما ذكرنا البرهان ) اهـ .
وهذا القول ظاهر لا يحتاج مثله إلى شرح(1)
__________
(1) تبقى هناك نقول أخرى موهمة غير التي ذكرت منها :
1- قول الشافعي رحمه الله تعالى في ( الرسالة ) ص379 : ( ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته وليس تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه ولا النصحية في الصدق فتقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق فقلنا لا تقبل من مدلس حديثاً حتى يقول فيه حدثني أو سمعت ) اهـ .
وهذا القول للشافعي رحمه الله تعالى لا يوافقه عليه أئمة الحديث كما سبق ونقلت عن الإمام أحمد وابن المديني وابن معين والفسوي وغيرهم ، والشافعي رحمه الله تعالى من فقهاء الملة وعلماء الإسلام ولكنه لم يكن في معرفته للحديث كاولئك الحفاظ ، كما قال هو رحمه الله رحمه الله تعالى ، فقد قال الإمام أحمد كما في ( العلل ومعرفة الرجال ) 1/462 : ( قال لنا الشافعي : أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني إن شاء الله يكون كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً ) اهـ ، ولو أخذنا بقول الشافعي رحمه الله تعالى لرددنا أحاديث صحيحه كثيرة لم يردها أحد حتى من الشافعية أنفسهم فإنهم لما قسموا مراتب المدلسين جعلوا المراتب الأول من وقع الاتفاق على قبول ( عنعنتهم ) مع أنهم دلسوا ، فدل على أن هذا القول لم يقل به أحد من أهل مذهبه .
2- وهناك بعض النقولات عن بعض السلف في بعض المواضع كان يقول فيها أحدهم ( كنت لا أقبل منع إلا ما قال فيه حدثنا ) كقول شعبة مثلاً في قتادة ، وعفان ابن مسلم في المقدمي ، ويحيى القطان في الثوري ،وغيرها ، وكلها تدل على مذاهب خاصة لهؤلاء وهي الزيادة في التثبت واليقين ، ولكن هذا كله لا يدل على تعميم هذه النقول في جميع المدلسين لما سبق ذكره عن أئمة الشأن ، كما أنه قد فقدت العبارات المتيقنة التي أصدرها المدلس ـ كما سبق في الفصل الثالث ـ فلا يدرى هل صرح بالتحديث في موضع العنعنة أو لم يصرح وليس أحدهما بأولى من الآخر ، بل إن تصريحه بالتحديث أولى ما دام لم يغلب التدليس على مجموع مروياته فيترجح الاتصال حتى يتبين الانقطاع بدليل آخر ، وفي الجملة : فهذه النقول من أراد أن يستدل بها على رد عنعنة المدلس مطلقاً فإنه لا يسعفه عليه تطبيقات الأئمة كما سيأتي إن شاء الله تعالى وعمل الأئمة هو الحكم في ذلك .(1/102)
.
الدليل الخامس : من النظر
وهو من وجوه
الوجه الأول :
أن المدلس الثقة إذا كان قد سمع ممن فوقه وروى عنه بصيغة محتملة فهو : إما أن يغلب الاتصال فيه على الانقطاع ، أو العكس .
فإن غلب الانقطاع على الاتصال فهو محاكمة الكثير إلى القليل .
فإن تدليس الثقاتت الحفاظ عموماً ـ بالنظر إلى مجموع مروياتهم ـ هو أقل من مسموعاتهم .
فلم يبق إلا أن يغلب الاتصال على الانقطاع حتى يقوم الدليل على وجود
الانقطاع .
الوجه الثاني :
أن العنعنة قد تكون تخففاً من الراوي المدلس وإن كان سمعه كما قال الوليد بن مسلم ـ وسبق ـ ( كان الأوزاعي إذا حدثنا يقول : ثنا يحيى قال : ثنا فلان : قال : ثنا فلان حتى ينتهي ، قال الوليد : فربما حدثتا كما حدثني ، وربما قلت عن عن تخففنا من الأخبار ) .
وقد تكون من تصرف الرواة عن المدلس .
وقد يكون صرح فيه بالتحديث ، كما سبق تفصيله في الفصل الثالث وأن العنعنة تكون في الغالب ممن دون المدلس .
وقد تكون من المدلس نفسه مع عدم سماعه .
فاحتمالات الاتصال مع هذا أكثر من احتمالات الانقطاع .
الوجه الثالث :
أن الراوي المدلس الثقة يبين في الغالب في بعض رواياته من سمعه منه فإذا لم يبين فإن الأصل فيه السماع .
كما قال المعلمي رحمه الله في المدلسين(1) :
( وكان الغالب أنه إذا دلس أحدهم خبراً مرة أسنده على وجهه أخرى وإذا دلس فسئل بين الواقع ) .
وهذا يظهر في التطبيقات إن شاء الله تعالى .
الوجه الرابع :
أن الحديث إذا كان مدلساً عن ضعيف فلا بد أن يتبين الضعف فيه ، لأن أحاديث الضعفاء تختلف عن أحاديث الثقات ، فلا بد أن يتبين في الإسناد أو المتن من النكارة ما يتضح فيه أن الحديث مدلس .
الوجه الخامس :
__________
(1) الأنوار الكاشفة ) ص161(1/103)
أن رواية المدلس الثقة مرواية الثقة الذي عليه أخطاء ، فكما أنه إذا وردت رواية لثقة ـ أخطأ في أحاديث ـ لا يجوز ردها أو تضعيفها أو التوقف فيها ( لاحتمال ) أن تكون مما أخطأ فيه الثقة لأن الأصل فيه الحفظ حتى يتبين في هذا الحديث بعينه أنه أخطأ فيه ، وهذا لا يتبين في العادة إلا بالاعتبار والنظر في الطرق الأخرى ، فكذلك لا يضعف حديث الراوي المدلس لمجرد احتمال أن يكون هذا الحديث مما دلسه حتى يقوم الدليل على أن هذا الحديث بعينه مدلس .
*******************
القسم الثاني
الأدلة التطبيقية
وأعني بها تطبيقات الأئمة المتقدمين على أحاديث المدلسين ، وهي على قسمين أيضاً :
القسم الأول
الاحتجاج بمروياتهم المعنعنة إذا لم يتبين التدليس فيها
وهذا كثير جداً في تصرفاتهم :
ولو أردت أن أنقل كل حديث احتجوا وفيه مدلس قد عنعن لكتبنا فيه مجلداً على الأقل ، ففي الصحيحين ، وسنن النسائي وأبي داود مما احتجا به وما صححه الترمذي وابن حبان وابن خزيمة منها الشئ الكثير ، ويكفي أن تتصفح أي كتاب من هذه الكتب وانظر في كل صفحة ـ تقريباً ـ فسوف تجد رواية لمدلس قد عنعن(1) ، فإرادة التمثيل على احتجاجهم بهذا كمن يريد التمثيل على احتجاجهم بالثقة الذي قد يخطئ ، فمرويات الثقات المحفوظة كثيرة جداً ، بينما مروياتهم التي أخطأوا فيها معدودة ، وقد سبق بيان هذا بالتفصيل في الدليل الأول والثاني من الدلة النظرية
*********************
القسم الثاني
أحاديث انتقدها المتقدمون وأعلوها بالتدليس
__________
(1) ولا يقال : إنه ربما تبين فيها الاتصال من طرق أو طريق آخر ، لأنه وإن صح في بعضها فلا يصح في جميعها لأننا رأينا سابقاً أن في الصحيحين من الأحاديث المعنعنة ما لا يعرف لها طريق آهر فيه التصريح بالتحديث ، فإذا كان هذا حال الشيخين وهما أشد الأئمة اعتناءاً بالرجال وانتقاءاً للأسانيد فكيف بكتب السنة الأخرى .(1/104)
وهنا موضع التفصيل في طريقة الأئمة المتقدمين في إعلال أحاديث المدلسين ، فأقول مستعيناً بالله
لقد استقرأت كثيراً من الأحاديث التي أعلها المتقدمون بالتدليس ، فوجدت أن إعلالهم لأحاديث المدلسين ـ بسبب تدليسهم ـ يأتي على حالتين هي على وجه الإجمال :
الحالة الأولى : أن يكون قام الدليلعلى أن حديثه هذا بعينه مدلس :
وهو على وجوه :
الوجه الأول : أن يكون المدلس لم يسمع أصلاً من شيخه في السند .
الوجه الثاني : أن يسئل الراوي المدلس عن سماعه فيجيب بذكر الواسطة .
الوجه الثالث : أن يروي الحديث نفسه عنه من وجه آخر بالتصريح بواسطة بين الراوي المدلس وشيخه .
الوجه الرابع : أن يصرح أحد الأئمة بأن الحديث لم يسمعه المدلس ممن فوقه .
وهو على صورتين :
الصورة الأولى : أن ينص الإمام على أحاديث بأنه غير مسموعة للمدلس .
الصورة الثانية : أن ينص الإمام على عدد مسموعات المدلس عن راو معين .
الوجه الخامس : أن يكون الحديث الذي رواه المدلس معروفاً من رواية أحد الضعفاء .
الحالة الثاني : أن لا يعلم وجود التدليس ولكن تكون في الحديث علة فتحمل هذه العلة على احتمال وجود التدليس :
هذه حالات التعليل بالتدليس في الجملة من عمل الأئمة المتقدمين ، وسوف أقوم بشرح كل حالة من هذه الحالات بالأمثلة .
فأقول والله المستعان(1) :
الحالة الأولى
أن يكون قام بالدليل على أن حديثه هذا بعينه مدلس
وأعني بهذا أن يكون التدليس في هذا السند قد قام الدليل على وجوده فعلاً وليس مجرد احتمال فقط .
ويحصل العلم بوجود التدليس من وجوه :
الوجه الأول
__________
(1) قد ذكرت في قسم الأدلة التطبيقية أمثلة كثيرة جداً ، وليس مرادي من إيراد الأمثلة ذكر الراجح من الأقوال فيها والصحيح ـ عند وجود الخلاف تصحيحاً وتضعيفاً ـ ، كما أنه ليس مرادي تخريج الأحاديث التي أوردها لأن هذا كله ليس مقصود البحث هنا ، بل المقصود هو معرفة مآخذ الأئمة المتقدمين وطريقتهم في الحكم بالتدليس(1/105)
أن يكون المدلس لم يسمع أصلاً من شيخه في السند
وهذا يكون غالباً في بعض روايات المدلسين كروايات الحسن البصري وقتادة وابن أبي عروبة ونحوهم ، ويكون من غيرهم أيضاً ، ويتبين هذا بالأمثلة :
1- مثال ذلك
قال الدار قطني رحمه الله :(1)
( وأخرج البخاري أحاديث الحسن عن أبي بكرة : منه حديث الكسوف ، ومنه ( زادك الله حرصاً ولا تعد ) ، ومنها ( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) ، ومنها ( ابني هذا سيد ) ، والحسن لا يروي إلا عن الأحنف عن أبي بكرة ) اهـ .
وقد أخرج البخاري هذه الأحاديث كلها عن الحسن عن أبي بكرة بالعنعنة إلا حديث ( إن ابني هذا سيد ) فقد أخرجه (2557) بتصريح الحسن فيه بالسماع : ( قال الحسن ولقد سمعت أبا بكرة يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : ( إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به فئتين عظيمتين من المسلمين ) .
ثم قال البخاري رحمه الله بعد هذا الحديث :
( قال لي علي بن عبد الله ـ هو ابن المديني ـ :
إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث ) اهـ .
وتفيد طريقة إعلال الدار قطني لأحاديث الحسن عن أبي بكرة ، وطريقة احتجاج علي بن المديني والبخاري بأحاديثه هنا فوائد منها :
أن الأحاديث الأخرى التي عن الحسن عن أبي بكرة كلها بالعنعنة من جميع الطرق ؛ لأن
ابن المديني قال ( ونقله عنه البخاري في صحيحه ) ( إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث ) ـ يعني ثبت بحديث واحد فقط دون باقي الأحاديث ـ ومع ذلك احتج البخاري بها ، ومثله شيخه ابن المديني ، وفي هذا رد على من قال إن أحاديث المدلسين المعنعنة في الصحيحين محمولة على التصريح بالسماع من طرق أخرى .
أن عنعنة المدلس إذا كان المراد بتدليسه الإرسال ( كالحسن ) يكفي في إثبات اتصال
__________
(1) التتبع ) 323(1/106)
حديثه عن المروي عنه وروده مصرحاً فيه بالسماع ولو في حديث واحد ، كما هو واضح من تصرف ابن المديني وذكر البخاري له في صحيحه إذا احتجا بتصريحه بالسماع في حديث ( إن ابني هذا سيد ) على اتصال الأحاديث الأخرى .
أن تعليل حديث المدلس ( المرسل ) كالحسن هو في إثبات عدم سماعه لمن أرسل منه
مطلقاً ، فإن الدار قطني لم يعل الحديث بمجرد العنعنة بل قال ( لا يروي إلا عن الأحنف عن أبي بكرة ) ، فأثبت أن بينهما واسطة ، ولو أراد الإعلال بمجرد ( العنعنة ) لأغنى عن ذكر الواسطة
2- مثال آخر
قال الخلال(1) :
( أخبرنا المروذي قال : قرئ على بن عبد الله شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ( إن محمداً رأى ربه ) .
قلت : إنهم يقولون : لم يروه غير شاذان .
فقال : بلى ، قد كتبته عن عفان .
وقرئ على أبي عبد الله : عفان ثنا عبد الصمد بن كيسان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( رأيت ربي ) .
قلت : إنهم يقولون : إن قتادة لم يسمع من عكرمة .
قال : هذا لا يدري الذي قال .
وغضب ، وأخرج إلىّ كتابه مما سمع قتادة من عكرمة فإذا ستة أحاديث ( سمعت عكرمة ) .
وقال أبو عبد الله : قد ذهب من يحسن هذا .
وعجب من قوم يتكلمون بغير علم ، وعجب من قول من قال : لم يسمع .
وقال : سبحان الله ! فهو قدم إلى البصرة فاجتمع عليه الخلق ) اهـ .
قلت : فانظر إلى محاولة إعلالهم لحديث ( قتادة بن عكرمة ) فإنهم لم يعلوه بعنعنته لهذ الحديث المعين ، بل أعلوه بعد سماع قتادة من عكرمة ( مطلقاً ) ، ورد الإمام أحمد هذه العلة بإثبات
__________
(1) المنتخب من علل الخلال ) لابن قدامة ص283 ، وانظر ( الكامل ) لابن عدي 2/261(1/107)
سماع قتادة لعكرمة ـ في الجملة ـ(1) .
3- مثال آخر
قال الترمذي رحمه الله :(2)
( حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا محمد بن سواء حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( استذكروا القرآن فإنه أشد تقصياً من صدور الرجال من النعم من عقلها الحديث ) .
فسألت محمداً ( هو البخاري ) عن هذا الحديث ، فقال : هذا حديث مشهور من حديث الأعمش ولكن لا أعرفه من حديث سعيد بن أبي عروبة ولا أعرف لسعيد بن أبي عروبة سماعاً من الأعمش وهو يدلس ويروي عنه ) اهـ .
قلت : فهنا حكم بأنه مدلس من رواية سعيد بن أبي عروبة لأنه لا يعرف له سماع من الأعمش ، وسعيد بن أبي عروبة يدلس على الصورة الثانية وهو روايته عمن عاصره ولم يسمع منه .
4- مثال آخر
قال الترمذي أيضاً(3) :
__________
(1) ومثله : ما رواه البخاري ( 1516 ) من طريق فتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج ، ثم قال : ( سمع قتادة عبد الله وعبد الله أبا سعيد ) .
قال في ( الفتح ) 3/455 : ( وغرضه بهذا أنه لم يقع فيد تدليس وهل أراد بهذا أن كلاً منهما سمع هذا الحديث بخصوصه أو الجملة فيه احتمال وقد وجدته من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة مصرحاً بسماع قتادة من عبد الله بن أبي عتبة في حديث : ( كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها ) وهو عند أحمد وعند أبي عوانة في مستخرجخ من وجه آخر ) اهـ ، فالمقصود أنه أراد إثبات سماع قتادة من عبد الله ـ في الجملة لا في هذا الحديث بعينه .
(2) علل الترمذي ) 1/348
(3) العلل الكبير ) 1/100(1/108)
( حدثنا يحيى بن موسى حدثنا محمد بن بكر أخبرنا بن جريج عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : ( في الإبل صدقتها وفي البر صدقته ) .
فقال : ابن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس يقول حدثت عن عمران بن أبي أنس ) اهـ
5- مثال آخر
قال عبد الله بن علي بن المديني(1) :
( سألت أبي عن حديث رواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن جريج عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ) .
قال : ابن جريج لم يسمع من المطلب بن عبد الله بن حنطب كان يأخذ أحاديثه عن ابن أبي يحيى عنه ) اهـ .
وقال الدار قطني(2) :
( والحديث غير ثابت لأن ابن جريج لم يسمع من المطلب شيئاً يقال كان يدلسه عن ابن ميسرة
وغيره من الضعفاء ) اهـ .
( تنبيه )
ظهر لنا فيما سبق أن التدليس يتبين إذا علمان أن المدلس لم يلق شيخه الذي دلس عنه ، ثمإن الحديث المروي قد يكون مع ذلك منكراً بحيث يترجح للإمام بأنه مه ثبوت التدليس فيه فإنه مدلس عن ضعيف ـ وقد يسميه احتمالاً ـ :
6- مثال ذلك
قال ابن أبي حاتم رحمه الله :(3)
( سألت أبي عن حديث رواه الوليد بن مسلم عن ابن جريج قال : أحسن ما سمعت في بيض النعامة حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( في بيض النعامة في كل بيضة صيام يوم أو إطعام مسكين ) .
قال أبي : هذا حديث ليس بصحيح عندي ولم يسمع ابن جريج من أبي الزناد شيئاً يشبه أن يكون ابن جريج أخذه من إبراهيم بن أبي يحيى ) اهـ .
__________
(1) انظر ( الكفاية ) 1/358
(2) انظر ( العلل المتناهية ) 1/117
(3) علل ابن أبي حاتم ج:1ص270(1/109)
قلت : فقد حكم أبو حاتم على هذا الحديث بعدم الصحة وأن ابن جريج دلسه وهذا ليس لمجرد العنعنة بل لأن ابن جريج لم يسمع أصلاً من أبي الزناد فهو مرسل ( مدلس ) قطعاً .
أما قوله ( يشبه أن يكون ابن جريج أخذه من إبراهيم بن أبي يحيى كما ذكره الأئمة(1) .
الثاني : أن هذا الحديث لم يثبت من أحاديث الثقات ، مما يدل على أن بينهما رجلاً ضعيفاً ـ وحديث الضعيف يتبين ضعفه في حديثه في الغالب ـ .
والحديث مروي عن ابن أبي يحيى عن أبي الزناد فعلاً ، فقد رواه الشافعي(2) قال : أخبرني الثقة عن أبي الزناد عن الأعرج عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ( في بيضة النعامة يصيبها المحرم قيمتها ) ، والشافعي إذا قال حدثني القة فيعني به إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي في أحيان كثيرة كما نص على ذلك غير واحد(3) ، خصوصاً والإسناد مدني .
7- مثال آخر
قال ابن أبي حاتم أيضاً(4) :
( سئل أبي عن حديث رواه سعيد بن المسيب عن نضرة بن أكثم : ( أنه تزوج بكراً فإذا هي حبلى ، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : لها الصداق بما استحللت من فرجها والولد عبد لك فإذا ولدت فارجمها وقال بعضهم : وفرق بينهما ) . ما وجه هذا الحديث عندك .
__________
(1) انظر ترجمة ابن جريج في الفصل الثالث
(2) الأم ) 2/191
(3) انظر مثلاً : ( تهذيب الكمال ) 24/358 ، ( تعجيل المنفعة ) ( محمد بن إدريس الشافعي حدثني الثقة ) و ( محمد بن إدريس الشافعي حدثني من لا أتهم ) ص548 ، ( تدريب الراوي ) 1/313
(4) العلل ) 1/418(1/110)
فأجاب أبي فقال : هذا حديث مرسل ليس بمتصل ورواه يحيى بن أبي كثير عن يزيد بن نعيم عن سعيد بن المسيب لا يجاوزه مرفوع ، وما رواه ابن جريج عن صفولن بن سليم عن ابن المسيب عن نضرة بن أكثم ليس هو من حديث صفوان بن سليم ويحتمل أن يكون من حديث ابن جريج عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم لأن ابن جريج يدلس عن ابن أبي يحيى عن صفوان بن سليم غير شئ وهو لا يحتمل أن يكون منه ) اهـ .
فهو هنا نفي أن يكون من حديث صفوان بن سليم وذكر أنه ابن جريج دلسه لأن ابن جريج لم يسمع من صفوان بن سليم ، كما ذكره أبو زرعة .
أما ترجيحه أن الواسطة هو ابن أبي يحيى فلأمور :
الأول : أن يحيى بن أبي كثير رواه مرسلاً ، فدل على أن هذه الراوية مخالفة لرواية الثقات مما يرجح أنه مدلسة عن ضعيف .
الثانية : أن ابن جريج يدلس عن ابن أبي يحيى كثيراً كما سبق .
والحديث فعلاً مروي عن ابن أبي يحيى عن صفوان بن سليم :
قال الدار قطني(1) :
__________
(1) سنن الدار قطني 3/250(1/111)
( حدثنا أبو إسحاق إسماعيل بن يونس بن ياسين نا إسحاق بن أبي إسرائيل نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن رجل من الأنصار قال : ( تزوجت امرأة بكراً في سترها فدخلت عليها فإذا هي حبلى فأتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقاله لها الصادق بما استحل من فرجها والولد عبد لك فإذا ولدت فاجلدوها ) .
قال عبد الرزاق : حديث ابن جريج عن صفوان هو ابن جريج عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم )
ثم رواه من طريق آخر فقال :
( نا إسحاق بن محمد بن الفضل الزيات نا محمد بن سنان نا إسحاق بن إدريس أبو إسحاق الأسلمي عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن نضرة الغفاري أنه تزوج امرأة بكراً في سترها فوجدها حاملاً ففرق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بينهما وأعطاها الصداق بما استحل من فرجها وقال إذا وضعت فأقيموا عليها الحد ) اهـ .
وأبو إسحاق الأسلمي هو إبراهيم بن أبي يحيى .
*************************
الوجه الثاني
أن يسئل الراوي المدلس عن سماعه فيجيب بالنفي وربما ذكر الواسطة
بمعنى أن المدلس قد يروي حديثاً ولا يصرح فيه بالسماع فيقوم الراوي عنه أو غيره بسؤاله عن هذا الحديث بعينه : هل سمعه ممن روى عنه ، فيجيبه بالنفي ، وقد يذكر الواسطة بينهما .
1- مثال ذلك(2/1)
سئل الدار قطني رحمه الله عن حديث عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر قوله : ( ينكح العبد اثنتين ويطلق تطلقتين وتعتد الأمة حيضتين وإن لم تحض فشهرين ) . فقال(1) : ( هو حديث يرويه شعبة وابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة عن عمر . ورواه الثوري عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة بهذا الإسناد حدث به بصنعاء ، وقال عبد الرحمن بن مهدي : سألت سفيان عن هذا الحديث فقال : لم أسمعه من محمد ، وقال علي بن المديني : حدثنا ابن عيينة قال : أنا حدثت به سفيان بن سعيد فدل هذا على أن الثوري دلسه عل ابن عيينة والله أعلم ) اهـ .
قلت : فقد صرح الثوري بعدم سماعه للحديث ، وذكر ابن عيينة أنه هو الذي حدثه به .
2- مثال آخر
قال ابن أبي حاتم رحمه الله(2) :
( سألت أبي عن حديث رواه الثوري وغيره عن أبي إسحاق عن علي بن ربيعة قال : ( كنت رديف علي ، فقال حين ركب : الحمد لله ثلاثاً سبحان الذي سخر لنا هذا وذكر الحديث )) .
فقال أبي : حدثني أبو زياد القطان عن يحيى بن سعيد قال : كنت أعجب من حديث علي بن ربيعة (( كنت ردف علي )) لأن علي بن ربيعة كان حدثاً في عد علي ، ومثله انكرت أن يكون ردف علي حتى حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن علي بن ربيعة :
قلت لسفيان : سمعه أبو إسحاق من علي بن ربيعة ؟ .
فقال : سألت أبا إسحاق عنه فقال : حدثني رجل عن علي بن ربيعة ) اهـ .
وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله عن هذا الحديث :(3)
( قال شعبة : قلت لأبي إسحاق : ممن سمعته ، قال : من يونس بن خباب ، قال : فأتيت يونس بن خباب ، فقلت ، ممن سمعته ، قال : من رجل أراه عن علي بن ربيعة ) اهـ .
__________
(1) علل الدار قطني ) 2/168
(2) علل ابن أبي حات )1/271
(3) التاريخ الصغير ) للبخاري 1/326(2/2)
قلت : فقد صرح القطان بأن لفظ الحديث منكر لذا تعجب منه ، ثم ذكر أن أبا إٍحاق صرح بعد سؤاله بأنه لم يسمع الحديث من علي بن ربيعة ، فعلى هذا فمن صرح بالتحديث بينهما واهم ، وممن ذكر التصريح بالإخبار عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق أخبرنا علي بن ربيعة كما في رواية عبد بن حميد عنه في مسنده (88) ، ورواية أحمد بن منصور عنه كما في ( سنن البيهقي 5/252) ، وخالفهما الإمام أحمد في مسنده (1/115) والدبري في روايته لـ ( مصنف عبد الرزاق ) (10/396) فروياه عن عبد الرزاق بن بالعنعنة بين أبي إٍحاق وعلي بن ربيعة وهو الصحيح ، إلا أن يكون الوهم من عبد الرزاق ، والله أعلم .
3- مثال آخر
قال أبو داود الطيالسي(1) :
( حدثنا شعبة عن عمرو عن جابر قال : ( كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والقرآن ينزل عليه ) .
فقلت ـ أي شعبة ـ : أنت سمعته من جابر ؟ .
قال ـ أي عمرو ـ : لا ) اهـ .
4- مثال آخر
قال العقيلي رحمه الله :(2)
( حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار
قال :حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن إبراهيم قال : ( إنما كره من الخليطين ما كره من الأدمين ) ) .
قال : قلت : أسمعته من إبراهيم ؟ .
قال : فسكت ، فأعدت عليه .
فقال : حدثني حماد عنه وكان غير ثقة ) اهـ .
*****************
الوجه الثالث
أن يروي الحديث نفسه عنه من وجه آخر بالتصريح بواسطة بين الراوي المدلس وشيخه
وذلك أن يتبين بعد اعتبار الحديث والنظر في الأسانيد والرواة عن المدلس أن الإسناد روي من وجه آخر بذكر واسطة بين المدلس وشيخه مما يدل على أن الإسناد الذي لم تذكر فيه الواسطة مدلس .
1- مثال ذلك
قال الدار قطني(3) :
( وأخرجا ـ أي البخاري ومسلم ـ حديث ابن جريج عن الزهري عن سليمان بن يسار
__________
(1) المسند ) ص236 ، وهو في النسائي في ( الكبرى ) (9092) من طريق آخر عن شعبة أيضاً
(2) ضعفاء العقيلي ) 1/3010
(3) التتبع ) ص352(2/3)
عن ابن عباس عن الفضل .
وقال الحجاج : عن ابن جريج حدثت عن الزهري ، فإن كان ضبط فقد أفسد ) اهـ .
قلت : وقد أخرج البخاري هذا الحديث (1755) قال :
حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن ابن عباس عن الفضل بن عباس أن امرأة ح حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة حدثنا ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
( جاءت امرأة خثعم عام حجة الوداع قالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه ؟
قال : نعم ) .
وكذلك رواه مسلم (1335) قال حدثني علي بن خشرم أخبرنا عيسى عن ابن جريج به .
فيستفاد من طريقة تعليل الدار قطني للحديث :
أن طريقة تعليل أحاديث المدلسين هو بإثبات التدليس ، وهو ما فعله هنا في تعليله لطريق ابن
جريج المتصل بإسناد الحجاج المثبت للإنقطاع ، مما يدل على أن العنعنة بمجردها لا تؤثر .
أن الإسناد إذا ثبت فيه التدليس وجهلت الواسطة فهو ضعيف ، لأن الدار قطني قال ( فإن
كان قد ضبط فقد أفسد ) ، مع أن البخاري ذكر له متابعاً وهو عبد العزيز بن أبي سلمة .
وفي هذا رد على من قال : إن الشيخين ليس إخراجهم لأحاديث المدلسين المعنعنة تصحيحاً لها لمجردها .
أن ترك الدار قطني تعليل أحاديث المدلسين المعنعنة في الصحيحين لا لأنه يقول كما يقول
المتأخرون ( لعلهما اطلعا على تصالها من طريق آخر ) ، بل لأنه لم يثبت أنها مدلسة فهي على الاتصال ؛ لأنه أعل ما ثبت لديه تدليسها .
2- مثال آخر
روى البيهقي(1) حديثاً من طريق محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: ( أهدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمل أبي جهل في هدية عام الحديبية وفي رأسه برة من فضة ) .
__________
(1) السنن الكبرى ) 5/2290(2/4)
ثم قال : ( أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني محمد بن صالح الهاشمي ثنا أبو جعفر المستعيني ثنا عبد الله بن علي المديني حدثني أبي قال : كنت أرى أن هذا من صحيح حديث ابن إسحاق فإذا هو قد دلسه ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن محمد بن إسحاق قال حدثني من لا اتهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن بن عباس ) اهـ
فالمقصود هنا : أن علي بن المديني كان يرى أن حديث ابن إسحاق هنا حديث صحيح حتى تبين له أنه قد دلسه من طريق آخر .
3- مثال آخر
روى الإمام أحمد والحميدي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من طرق عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال :
( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن .. الحديث ) .
وقد أعله الإمام أحمد أيضاً فقال(1) :
( ليس لهذا الحديث أصل ليس يقول فيه أحد عن الأعمش أنه قال أنا أبو صالح والأعمش يحدث عن ضعاف ) اهـ .
فأعل الحديث بعدم تصريح الأعمش بالتحديث لوروده فعلاً من طرق أخرى بانقطاع بين الأعمش وأبي صالح :
فقد روى أحمد في مسنده (2/382) وأبو داود (518) وابن حزيمة (1529) وغيرهم من طرق عن عبد الله بن نمير عن الأعمش قال حدثت عن أبي صالح ولا أراني إلا قد سمعته عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن ) اللهم ارشد الأئمة واغفر للمؤمنين ) .
وروى أيضاً الإمام أحمد في المسنده (2/232) وعنه أبو داود (517) من طريق محمد بن فضيل ثنا الأعمش عن رجل عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم به .
وذكر الترمذي (207) أن أسباط بن محمد رواه أيضاً عن الأعمش قال حدثت عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم به .
__________
(1) العلل المتناهية ) لابن الجوزي 1/433(2/5)
رورى الترمذي في ( علله 1/65 ) من طريق شجاع بن الوليد قال سمعت الأعمش يقول حدثت عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكر نحوه .
قال يحيى القطان(1) :
( قال سفيان حديث الأعمش عن أبي صالح " الإمام ضامن " لا أراه سمعه من أبي صالح ) اهـ .
وقال يحيى بن معين(2) : ( قال سفيان الثوري : لم يسمع الأعمش هذا الحديث من أبي صالح (( الإمام ضامن )) ) اهـ .
4- مثال آخر
قال الترمذي رحمه الله :(3)
( حدثنا قتيبة أبو عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) .
قال : وفي الباب عن عقبة بن عامر وابن عمر .
قال أبو عيسى ـ الترمذي ـ : حديث أبي هريرة هكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحو رواية أبي عوانة ، وروى أسباط بن محمد عن الأعمش قال : حدثت عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحوه وكان هذا أصح من الحديث الأول ، حدثنا بذلك عبيد بن أسباط بن محمد قال حدثني أبي عن الأعمش بهذا الحديث ) اهـ .
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله :(4)
( سألت أبا زرعة عن حديث رواه جماعة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( من نفس عن مؤمن كرية ) .
قال أبو زرعة : منهم من يقول الأعمش عن رجل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والصحيح عن رجل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) اهـ .
__________
(1) الجرح والتعديل ) 1/82
(2) تاريخ الدوري ) 3/497
(3) سنن الترمذي ) 1425
(4) علل ابن أبي حاتم ) 2/162(2/6)
وقال أبو الفصل الهروي رحمه الله :(1)
( ووجدت فيه ( يعني في صحيح مسلم ) :
حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( من عن مؤمن كربة الحديث ) .
قال أبو الفضل : وهو حديث رواه الخلق عن الأعمش عن أبي صالح فلم يذكر الخبر في إسناده غير أبي أسامه فإنه قال فيه عن الأعمش قال حدثنا أبو صالح ، ورواه أسباط بن محمد عن الأعمش عن بعض أصحابه عن أبي صالح عن أبي هريرة ، والأعمش كان صاحب تدليس فربما أخذ من غير الثقات(2) اهـ .
وقال ابن رجب رحمه الله :(3)
( هذا الحديث خرجه مسلم من رواية الأعمش عن أبي صالح عن هريرة واعترض عليه غير واحد من الحفاظ في تخريجه منهم أبو الفضل الهروي والدار قطني فإن أسباط بن محمد رواه عن الأعمش قال حدثنا عن أبي صالح فتبين أن الأعمش لم يسمعه من أبي صالح ولم يذكر من حدثه عنه ورجح الترمذي وغيره هذه الرواية ) اهـ .
قلت : فهذا الحديث رواه جمع كبير عن الأعمش عن أبي صالح بالعنعنة ورواه أسباط بن محمد عن الأعمش عن رجل عن أبي صالح ، لذا علل من علل الإسناد الأول بالإسناد الثاني وجعلوه مما دلسه الأعمش .
5
5- مثال آخر
قال الترمذي رحمه الله :(4)
__________
(1) علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج ) لأبي الفضل الهروي ص136
(2) وقال ابن القيم رحمه الله :
( ما رواه الترمذي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أسامه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة ) ، قال الترمذي : هذا حديث حسن ، قال بعضهم : ولم يقل في هذا الحديث صحيح لأنه يقال دلس الأعمش في هذا الحديث لأنه رواه بعضهم فقال حدثت عن أبي صالح ) اهـ من ( مفتاح دار السعادة ) 1/71
(3) جامع العلوم والحكم ) ص337
(4) السنن (1095)(2/7)
( حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن وائل بن داود عن أبي عن الزهري عن أنس بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولم على صفية بنت يحيى بسويق وتمر ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحميدي عن ابن عيينة عن الزهري عن أنس ولم يذكروا فيه عن وائل عن أبيه أو ابنه .
قال أبو عيسى ( الترمذي ) :
( وكان سفيان بن عيينة يدلس في هذا الحديث فربما لم يذكر فيه عن وائل عن أبيه وربما ذكره ) اهـ .
6- مثال آخر
قال النسائي رحمه الله :(1)
( أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال ثنا عبد الله بن بكر قال ثنا سعيد ـ هو ابن أبي عروبة ـ عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس أن علياً قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ابنة حمزة وذكر من جمالها فقال : ( إنها ابنة أخي من الرضاعة ) ، ثم قال نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( أو ما علمت أن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب ) .
ثم قال النسائي : لم يسمعه سعيد بن علي بن زيد :
أخبرنا قتيبة بن سعيد قال ثنا غندر قال ثنا سعيد عن رجل عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس أن علياً قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ابنة حمزة فذكر من جمالها فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
( إنها ابنة أخي من الرضاعة أو ما علمت أن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب ) اهـ .
قلت : فتبين بالسند الآخر أن الحديث هذا مدلس عن رجل .
7- مثال آخر
قال الترمذي رحمه الله :(2)
( حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا سفيان بن عيينة عن زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( اقتدورا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) .
( اقتدوا باللذين من بعدي أبي عمر ) .
__________
(1) السنن الكبرى ) 3/296 ، وانظر مزيداً من الأمثلة فيه في 4/202 ، 258 ، 6/141 وغيرها
(2) السنن (3662)(2/8)
حدثنا أحمد بن منيع وغير واحد قالوا حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير نحوه ، وكان سفيان بن عيينة يدلس في هذا الحديث فربما ذكره عن زائدة عن عبد الملك بن عمير وربما لم يذكر فيه عن زائدة ) اهـ .
8- مثال آخر
قال الترمذي رحمه الله ( 3475 ) :
( حدثنا جعفر بن محمد بن عمران الثعلبي الكوفي حدثنا زيد بن حباب عن زهير بن معاوية عن مالك عن عبد الله بن بريدة الأسلمي عن أبيه قال :
سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجلاً يدعو وهو يقول : " اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " قال : فقال : " والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى " .
قال زيد : فذكرته لزهير بن معاوية بعد ذلك بسنين ، فقال : حدثني أبو إسحاق عن مالك بن مغول ، قال زيد : ثم ذكرته اسفيان الثوري فحدثني عن مالك .
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب ، وروى شريك هذا الحديث عن أبي إسحاق عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ، وإنما أخذه أبو إسحاق الهمداني عن مالك ابن مغول وإنما دلسه وروى شريك هذا الحديث عن أبي إسحاق ) اهـ .
قلت : فقد تبين من قول زهير بن معاوية ( حدثني أبو إسحاق عن مالك بن مغول ) أنه لم يسمعه من عبد الله بن بريدة بل من ( مالك بن مغول ) فدلسه من بعض الطرق .
9- مثال آخر
قال الدار قطني(1) :
( وأخرج البخاري حديث علي بن المبارك عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر باء به أحدهما ) .
قال البخاري : وقال عكرمة بن عمار عن يحيى عن عبد الله بن يزيد سمع أبا سلمة سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثله .
__________
(1) التتبع ) ص168(2/9)
قال أبو الحسن ـ يعني الدار قطني ـ : يحيى بن أبي كثير يدلس كثيراً ويشبه أن يكون قول عكرمة بن عمار أولى بالصواب ؛ لأنه زاد رجلاً وهو ثقة ) اهـ
قلت : فتبين بالسند أن بين يحيى بن أبي كثير وأبي سلمة رجلاً واستدل بتدليسه على صواب السند الثاني خصوصاً ولم يأت التصريح بالتحديث في الأول(1)
10- مثال آخر
قال عبد الله بن أحمد (2) :
( حدثني أبي قال حدثنا هشيم عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال : ( كنا لا نتوضأ من الموطي ) .
سمعت أبي يقول : هذا لم يسمعه هشيم من الأعمش ولا الأعمش سمعه من أبي وائل ) اهـ .
وقال مهنا(3) : ( قال مهنا : فقلت له ـ أي للإمام أحمد ـ عمن هو ؟
قال : كان الأعمش يرويه عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي وائل فخرج الحسن بن عمرو وجعله عن أبي وائل ولم يسمع منه ) اهـ
وقال ابن خزيمة(4) :
__________
(1) قال الحافظ بن حجر في ( الفتح ) 10/515 : ( ودل صنيع البخاري على أن زيادة عبد الله بن يزيد بن يحيى وأبي سلمة في هذه الرواية المعلقة لم تقدح في رواية علي بن المبارك عن يحيى بدون ذكر عبد الله بن يزيد عنده إما لاحتمال أن يكون يحيى سمعه من أبي سلمة بواسطة ثم سمعه من أبي سلمة ، وإما أن يكون لم يعتد بزيادة عكرمة بن عمار لضعف حفظه عنده ، وقد استدرك الدار قطني عليه إخراجه لرواية علي بن المبارك ، وقال : (( يحيى بن أبي كثير مدلس وقد زاد فيه عكرمة رجلاً ، والحق أن مثل هذا لا يتعقب به البخاري لأنه لم تخف عليه العلة بل عرفها وأبرزها وأشار إلى أنه لا تقدح ، وكأن ذلك لأن أصل الحديث معروف ومتنه مشهور مروي من عدة طرق ، فيستفاد منه أن مراتب العلل متفاوتة وأن ما ظاهر القدح منها إذا انجبر زال عنه القدح والله أعلم ) اهـ ، والمقصود هنا طريقة نظر الدار قطني لحديث المدلس .
(2) العلل ومعرفة الرجال ) 2/252
(3) انظر : ( جامع التحصيل ) ص136
(4) صحيح بن خزيمة ) 1/25(2/10)
( ثنا عبد الجبار بن العلاء وعبد الله بن محمد الزهري وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي قالوا حدثنا سفيان قال عبد الجبار قال الأعمش : وقال الآخران عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال : ( كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا نتوضأ من موطئ ) ، وقال المخزومي : ( كنا نتوضأ مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا نتوضأ من موطئ ) ، وقال الزهري : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا نتوضأ من موطئ ) .
قال أبو بكر ـ يعني ابن خزيمة ـ : هذا الخبر له علة لم يسمعه الأعمش عن شقيق لم أكن فهمته في الوقت :
ثنا أبو هاشم زياد بن أيوب ثنا عبد الله بن إدريس أخبرنا الأعمش عن شقيق قال : قال عبد الله : ( كنا لا نكف شعراً ولا ثوباً في الصلاة ولا نتوضأ من موطئ ) .
ثنا زياد بن أيوب أبو معاوية ثنا الأعمش حدثني شقيق أو حدثت عنه عن عبد الله بنحوه ) اهـ
قلت : فأعلوا الحديث بعدم سماع الأعمش من أبي وائل ، وذلك لأنه ورد بإسناد آخر وقف عليه الإمام من رواية الأعمش عن الحسن بن عمرو الفقيمي(1) ، ولما ذكره ابن خزيمة في الراويةالأخرى ( حدثني الأعمش أو حدثت عنه )(2) .
11- مثال آخر
قال ابن عبد البر(3) :
( حدثنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا عبيد بن عبد الواحد البزار قال حدثنا محبوب بن موسى قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن حميد الطويل عن أنس لن مالك قال : لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غزوة تبوك حين دنا من المدينة قال : ( إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم ... الحديث ) .
__________
(1) وقد رواه ابن عدي في ( الكامل ) 5/147 من طريق الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي وائل به
(2) وانظر ( علل الدار قطني ) 5/110 فإنه مال إلى تصحيح رواية الأعمش المتصلة
(3) التمهيد ) 12/267(2/11)
قال ابن عبد البر : وهذا الحديث لم يسمعه حميد من أنس : حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن حميد عن موسى بن أنس عن أبيه أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قعطتم من واد إلا وهم معكم .. الحديث ) اهـ .
فأثبت وجود الانقطاع في السند الأول بين حميد وأنس بما ذكره في السند الثاني من إثبات الواسطة .
الوجه الرابع
أن يصرح أحد الأئمة بأن الحديث لم يسمعه المدلس ممن فوقه
وذلك بأن ينص أحد أئمة الحديث المعروفين بأن هذا الحديث أو ذاك لم يسمعه المدلس من شيخه ، ويأتي هذا على صورتين :
الصورة الأولى
أن ينص الإمام على أحاديث معينة بأنها غير مسموعة للمدلس
1- مثال ذلك
قال أبو داود رحمه الله :(1)
( حدثنا نصر بن علي أخبرنا محمد بن بكر ثنا ابن جريج قال قال أبو الزبير قال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( ليس على المنتهب قطع ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا ) .
حدثنا نصر بن علي أخبرنا عيسى بن يونس عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثله زاد : ( ولا على المختلس قطع ) .
قال أبو داود : هذان الحديثان لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال : إنما سمعهما ابن جريج من ياسين الزيات ، قال أبو داود : وقد رواهما المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) اهـ .
وقال النسائي رحمه الله :(2)
( أخبرنا محمود بن غيلان قال حدثنا أو داود الحفري عن سفيان عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ) .
__________
(1) سنن أبي داود ) (4391)
(2) السنن الكبرى ) (7462)(2/12)
قال النسائي : ولم يسمعه أيضاً ابن جريج من أبي الزبير ، أخبرنا محمد بن حاتم قال أنا سويد قال أنا عبد الله عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( درأ عن المنتهب والمختلس والخائن القطع ) .
قال لنا أبو عبد الرحمن ( النسائي ) : ما عمل شيئاً بن جريج لم يسمعه من أبي الزبير عندنا والله أعلم ، ... ثم قال :
وقد روى هذا الحديث عن ابن جريج عيسى بن يونس والفضل بن موسى وابن وهب ومحمد بن ربيعة ومخلد بن يزيد وسلمة بن سعيد بصري ثقة قال ابن أبي صفوان وكان خير أهل زمانه فلم يقل أحد منهم فيه حدثني أبو الزبير ولا أحسبه سمعه من أبي الزبير والله تعالى أعلم ، ..
ثم رواه من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير به وقال : المغيرة بن مسلم ليس بالقوي في أبي الزبير وعنده غير حديث منكر ) اهـ .
وقال ابن أبي حاتم(1) :
( سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( ليس على خائن ولا منتهب قطع ) .
فقالا : لم يسمع ابن جريج هذا الحديث من أبي الزبير يقال أنه سمعه من ياسين أنا حدثت به ابن جريج عن أبي الزبير ، .
فقلت لهما : ما حال ياسين ، .
فقالا : ليس بقوي ) اهـ .
وقال الخليلي رحمه الله : (2)
( روى ابن جريج عن أبي الزبير عم جابر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم " ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا على الخائن قطع " ، ويقال : إن هذا لم يسمعه من أبي الزبير لكنه أخذه عن ياسين الزيات وهو ضعيف جداً عن أبي الزبير وابن جريج يدلس في أحاديث ولا يخفى ذلك على الحفاظ ) اهـ .
وقال الخطيب رحمه الله عن هذا الحديث :(3)
__________
(1) علل ابن أبي حاتم ) 1/450
(2) الإرشاد ) 1/352
(3) ذكره عنه ابن الجوزي في ( العلل المتناهية ) 2/397(2/13)
( وكان أهل العلم يقولون : لم يسمع ابن جريج هذا الحديث من أبي الزبير وإنما سمعه من ياسين الزيات عنه فدلس في روايته عن أبي الزبير ) اهـ .
قلت : فالمقصود أن هؤلاء الأئمة أعلوا حديث ابن جريج عن أبي الزبير بعدم سماع هذا الحديث لا بمجرد العنعنة فقد جزم الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بأنه لم يسمعه منه ، وذكر الإمام أحمد أن بينهما ياسين الزيات ،وذكر ذبك أبو زرعة وأبو حاتم نقلاً عن ياسين .
وقد قال ابن حبان(1) : ( وكل ما وقع في نسخة ابن جريج عن أبي الزبير من المناكير كذلك مما سمعه ابن جريج عن ياسين الزيات عن أبي الزبير فدلس عنه ) اهـ .
وهذا الحديث مروى فعلاً عن ياسين الزيات عن أبي الزبير :
فقد روى عبد الرزاق(2)عن ياسين أن أبا الزبير أخبره عم جابر قال :
( ليس على الخائن ولا على المنتهب ولا على المختلس قطع ) ، قلت : اغن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، قال : فعن من ؟(3) .
2- مثال آخر
قال الدوري رحمه الله(4) :
__________
(1) كتاب المجروحين ) 3/142
(2) المصنف ) 10/209 ، وانظر 10/206 أيضاً .
(3) روى هذا الحديث بالتصريح بالإخبار بين ابن جريج وأبي الزبير النسائي وأعله ، ورواه الدارمي (2310) عن أبي عاصم عن ابن جريج أنا أبا الزبير ، ولكن رواه محمد بن بشار ( سنن ابن ماجة ) (2591) وابن أبي شيبة ( المصنف ) (528) كلاهما عن أبي عاصم عن ابن جريج بالعنعنة ، وكذلك رواه عبد الرزاق في مصنفه في (10/206) بلفظ ابن جريج قال قال لي أبو الزبير ، ورواه في موضعين آخرين (10/209 ، 210) بالعنعنة ، والله تعالى أعلم .
(4) تاريخ الدوري ) 4/389(2/14)
( سألت يحيى ( يعني ابن معين ) عن أحاديث يرويها هشيم عن مغيرة عن إبراهيم ( النظر في مرآة دناءة ) ، و ( إذا بلي المصحف دفن ) ، وأشياء هذه الأحاديث . فقال : سمعها هشيم من إبراهيم بن عطية الواسطي عن مغيرة . قلت ليحيى : إبراهيم هذا(1) سمع من مغيرة هذه الأحاديث ؟
فقال : كان إبراهيم هذا لا يساوي شيئاً وينبغي أن يكون هذا قد سمع من مغيرة وهشيم إنما سمع هذه الأحاديث منه عن مغيرة وكان يقول مغيرة هكذا قال يحيى أو شبيها بهذا ) اهـ .
وقال يزيد بن هارون(2) : كان إبراهيم بن عطية من أهل واسط يروي حديثين عن مغيرة فبلغاهما هشيم فروى أحدهما عن مغيرة وأسقط إبراهيم وهو حديث النظر في مرآة الحجام دناءة .
قلت : فقد ذكر هؤلاء الأئمة ونصوا على أن هذه الآثار إنما سمعها هشيم من إبراهيم بن عطية ـ وهو ضعيف ـ ودلسها عنه .
3- مثال آخر
قال عبد الله بن أحمد(3)
( حدثني أبي قال حدثنا هشيم عن سيار عن أبي وائل قال : ( لا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ) قال أبي : لم يسمعه هشيم من سيار ) .
4- مثال آخر
قال عبد الله بن أحمد(4) :
( حدثني أبي قال حديثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال : ( علي أحب إلى من عثمان ولأن أقع من السماء أحب إلى من أن أتناول يعني عثمان )
سمعت أبي يقول : لم يسمعه هشيم من مغيرة ) اهـ .
5- مثال آخر
قال ابن أبي حاتم :(5)
__________
(1) في ( الكامل ) 1/245 ( من إبراهيم هذا ، ) على صيغة سؤال والظاهر أنها تحريف
(2) الضعفاء ) للعقيلي 1/60
(3) العلل ومعرفة الرجال ) 2/244
(4) العلل ومعرفة الرجال ) 2/246 ، وانظر نفس الكتاب 2/246ـ 284 فإن الإمام أحمد ذكر فيه أحاديث كثيرة من حديث هشيم مما لم يسمعه ، والإمام أحمد عمدة في حديث هشيم ما سمعه وما لم يسمعه كما هو معلوم
(5) علل ابن أبي حاتم ) 2/104(2/15)
( سمعت أبي وذكر حديثاً رواه المؤمل عن سفيان قال حدثنا(1) حبيب بن أبي ثابت قال : ( بلغني أن رجلاً مر بنبي الله يعقوب عليه السلام قد سقد حاجباه على عينيه وقد رفعهما بخرقة فقال : ما بلغ بك ما أرى ، قال : طول الزمان وكثرة الأخوان فأوحى الله إليه ( يا يعقوب تشكوني ) ، قال : أي ربي خطيئة فاغفرها لي ) .
قال أبي : يقال إن الثوري لم يسمع هذا الحديث من حبيب إنما سمعه من أسلم المنقري عن حبيب ) اهـ .
قلت : فلم يلتفت أبو حاتم لمجرد ورود التصريح بالتحديث عن سغيان بل ذكر احتمال وجود الواسطة بينهما :
وقد رواه ابن أبي شيبة في ( المصنف 7/74 ) قال : حدثنا معاوية بن هشام قال حدثنا سفيان عن أسلم المنقري عن حبيب بن أبي ثابت قال : فذكره .
فذكر الواسطة بينهما(2)
6
- مثال آخر
قال ابن أبي حاتم(3) :
( سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه علي بن حكيم عن شريك عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رفعه قال : ( من بنى مسجداً لو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ) .
فقالا : هكذا رواه عدة من أصحاب شريك فلم يرفعوه ، والصحيح عن أبي ذر من حديث شريك موقوف .
قال أبي : ورواه أبو بكر بن عياش عن الأعمش ورفعه ونفس الحديث موقوف وهو أصح .
قال أبو محمد ـ يعني ابن أبي حاتم ـ : وحدثني أبي قال حدثنا حماد بن زاذان قال سمت ابن مهدي قال : حديث الأعمش (( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص فطاة ) ليس من صحيح حديث الأعمش ) اهـ .
وقال ابن عبد البر عن هذا الحديث(4) :
( قال علي بن المديني قال يحيى بن سعيد قال سفيان وشعبة : لم يسمع الأعمش هذا الحديث من إبراهيم التيمي ) اهـ .
__________
(1) الحديث رواه ابن أبي عاصم في ( الزهد ) ص84 من طريق أحمد عن مؤمل عن سفيان عن حبيب بالعنعنة ، فربما اضطرب مؤمل فيه .
(2) وكذلك رواه هناد في ( الزهد ) (783) من طريق أسلم المنقري عن حبيب به .
(3) علل ابن أبي حاتم ) 1/97
(4) التمهيد ) 1/32(2/16)
قلت : فقد نص الأئمة شعبة والثوري وابن مهدي على أن هذا الحديث لم يسمعه الأعمش ممن فوقه .
***********************
الصورة الثانية
أن ينص الإمام على عدد مسموعات المدلس عن راو معين(1)
وذلك أن ينص أحد الأئمة بأن فلاناً لم يسمع من فلان إلا كذا وكذا ، فيستفاد من هذا النص أن ما عدا هذه الروايات المنصوصة تكون مدلسة لم يسمعها .
1- مثال ذلك
قال شعبة(2) :
( لم يسمع أبو إسحاق الهمداني من الحارث الأعور إلا أربعة أحاديث ) .
وقال أبو داود(3) :
( لم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس فيها مسند واحد ) اهـ .
2- مثال آخر
قال ابن المديني(4) :
( سمعت يحيى ـ يعني ابن سعيد القطان ـ قال :
قال شعبة : لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء .
قلت ليحيى : عدها .
قال : قول علي رضي الله عنه ( القضاة ثلاثة ) وحديث ( لا صلاة بعد العصر ) وحديث ( يونس بن متى )(5) اهـ .
3- مثال آخر
قال ابن المديني أيضاً(6) :
( إنما سمع الأعمش من سعيد بن جبير أربعة أحاديث ) اهـ .
وقال الدوري(7) عن يحيى بن معين :
( إنما سمع الأعمش من مجاهد أربعة أحاديث أو خمسة وسمع من سعيد بن جبير خمسة فقط ) اهـ .
4- مثال آخر
__________
(1) وقد يختلف الأئمة في مقدار ما سمعه مما لم يسمعه المدلس عن أحد مشايخه ، وذلك كخلافهم في عدد ما سمعه الأعمش من مجاهد ، فبعضهم يقول أربعة أحاديث وبعضهم يقول أكثر من ذلك ، فيعود الأمر إلى القرائن الأخرى منها وجود التصريح بالتحديث وموافقة الثقات من الرواة ونحو ذلك .
(2) الجرح والتعديل ) 1/148
(3) رسالة أبي داود ) ص31
(4) الجرح والتعديل ) 1/127
(5) قد أخرج الشيخان عن قتادة عن أبي العالية حديثين غير هذه الأحاديث أحدهما ( دعاء الكرب ) والثاني ( حديث رؤية موسى ليلة الإسراء ) انظر : ( شرح علل الترمذي ) 2/741
(6) انظر ( جامع التحصيل ) ص136 ، ( تحفة التحصيل ) ص186
(7) تاريخ الدوري ) 3/327(2/17)
قال الدوري(1) :
( سمعت يحيى ( يعني ابن معين ) :
يقول الذي سمع ابن جريج من حبيب بن أبي ثابت سماع حديثين وما روى عنه سوى ذلك أظنه بلغه عنه ولم يسمعها ، الذي سمع حديث أم سلمة ( ما أكذب الغرائب ) ، والحديث الآخر حديث الرقبي ) .
حدث به ابن جريج قال حدثني عطاء عن حبيب بن أبي ثابت فلقيت حبيباً فحدثني ) اهـ .
5- مثال آخر
قال الدوري أيضاً(2) :
( سمعت يحيى ـ يعني ابن معين ـ يقول :
لم يسمع الأعمش من أبي السفر إلا حديثاً واحداً ) اهـ .
6- مثال آخر
قال عبد الله بن أحمد(3) :
( قلت لأبي : كم سمع هشيم من جابر الجعفي .
قال : حديثين .
قلت : فالباقي ؟ .
قال : مدلسة ) .
تنبيه
يستفاد من أقوال الأئمة في حصرهم لمسموعات المدلس من شيخه الحكم على غيرها مدلسة ـ كما سبق ـ ثم إن الحصر على وجهين :
إذا كان معلوماً جزم بالتدليس فيما عدا المسموع .
وإذا كان أغلبياً ترجع التدليس ، بحسب ما يحفه من قرائن ـ .
مثال الأول
روى الإمام أحمد وغيره من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( يا علي إني أحب لك ما أحب لنفسي وأكره لك لنفسي لا تقرأ وأنت راكع ولا وأنت ساجد ولا تصل وأنت عاقص شعرك فإنه كفل الشيطان ولا تقع بين السجدتين ولا تعبث بالحصى ولا تفترش ذراعيك ولا تفتح على الإمام ولا تختم بالذهب ولا تلبس القسي ولا تركب على المياثر ) .
قال أبو داود(4) : ( أبو إسحاق لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها ) اهـ .
مثال آخر
قال الترمذي(5) :
__________
(1) تاريخ الدوري ) 3/130
(2) تاريخ الدوري ) 3/398
(3) العلل ومعرفة الرجال ) 1/255
(4) انظر ( سنن البيهقي ) 3/212
(5) جامع الترمذي ) 3/227(2/18)
( حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا عبد الله بن الأجلح عن الأعمش عن الحكم على مقسم عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنى الظهر والفجر ثم غدا إلى عرفات ) .
قال : وفي الباب عن عبد الله بن الزبير وأنس .
قال أبو عيسى : حديث مقسم عن ابن عباس ، قال علي بن المديني :
قال يحيى : قال شعبة : لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أشياء(1) وعدها ، وليس هذا الحديث فيما عد شعبة ) اهـ .
ومثال الثاني
قال ابن أبي حاتم(2) :
( سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن عمرو الفقيمي وفطر الأعمش كلهم عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو ، رفعه فطر والحسن ولم يرفعه الأعمش قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من يقطع فيصلها ) .
قال أبي : الأعمش أحفظهم والحديث يحتمل أن يكون مرفوعاً وأنا أخشى أن لا يكون سمع الأعمش من مجاهد لأن الأعمش قليل السماع من مجاهد وعامة ما يروى عن مجاهد مدلس ) اهـ .
وهذا لأن مرويات الأعمش عن مجاهد المسموع منها قليل وإن اختلف في قدر ذلك :
فقد قال وكيع(3) : ( لم يسمع الأعمش من مجاهد إلا أربعة أحاديث ) اهـ .
وفي رواية عنه(4) : ( كنا نتتبع ما سمع الأعمش من مجاهد فإذا سبعة أو ثمانية ثم حدثنا بها ) اهـ
وقال الترمذي(5) : ( قلت لمحمد يعني البخاري يقولون : لم يسمع الأعمس من مجاهد إلا أربعة أحاديث فقال ربح ليس بشئ لقد عددت له أحاديث كثيراً نحو من ثلاثين أو أقل أو أكثر يقولون فيها حدثنا مجاهد ) اهـ .
وقال عبد الله بن أحمد(6) :
__________
(1) وهي : هي حديث الوتر ، وحديث القنوت ، وحديث عزمية الطلاق ، وجزاء الصيد ، وإتيان الحائض ، وانظر ( العلل ومعرفة الرجال ) 1/536 ، ( سير أعلام النبلاء ) 5/210
(2) علل ابن أبي حاتم ) 2/210
(3) الجرح والتعديل ) 1/224
(4) الجرح والتعديل ) 1/227
(5) العلل الكبير ) 1/388
(6) العلل ومعرفة الرجال ) 1/255(2/19)
( قلت لأبي : أحاديث الأعمش عن مجاهد عمن هي ؟ .
قال : قال أبو بكر بن عياش : قال رجل للأعمش : ممن سمعته ؟ . ـ في شئ رواه عن مجاهد ـ قال : مر كزاز مر ـ بالفارسية ـ حدثنيه ليث عن مجاهد ) اهـ .
قلت : فقد تبن أن الأئمة يرون أن الأعمش يدلس عن مجاهد كثيراً وإن اختلفوا في مقدار ما سمعه ، فتحدث روايته عنه في القلب شئ عند أدنى مخالفة خصوصاً مع عدم التصريح كما رأيت في كلام أبي حاتم رحمه الله .
مثال آخر
( باب وقت بعثة الخارص يخرص الثمار ... إن صح الخبر فإني أخاف أن يكون ابن جريج لم يسمع هذا الخبر من ابن شهاب :
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت وهي تذكر شأن خيبر : كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبعث ابن رواحة فيخرص النخل حين يطيب أول الثمر قبل أن تؤكل ثم يخبر اليهود بأن يأخذوها بذلك الخرص أم يدفعه اليهود بذلك وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمرة وتفرق ) اهـ
قلت : فهذا الاستثناء من ابن خزيمة رحمه الله هو لوجود كلام الأئمة على سماع ابن جريج من الزهري ، فإنه سمع منه بعض الأحاديث ودلس عنه أخرى ، وروى عنه أحاديث أخرى مناولة بلا سماع(1):
فقد روى ابن أبي حاتم(2) عن ابن جريج قال : ( ما سمعت من الزهريشيئاً إنما أعطاني الزهري جزءا فكتبته وأجازه لي ) .
وقال ابن عيينة(3) : ( جاء ابن جريج إلى الزهري بأحاديث فقال أريد أن أعرضها عليك فقال كيف أصنع بشغلي قال فأرويها عنك قال نعم ) اهـ .
وقال صالح بن محمد(4) : ( سماع ابن جريج عن الزهري كله عرض ومناولة ) اهـ .
وقال ابن معين(5) عن ابن جريج : ( ليس بشئ في الزهري ) .
__________
(1) أخرج الشيخان لابن جريج عن الزهري بعض الأحاديث التي ثبت اتصالها
(2) الجرح والتعديل ) 5/357
(3) الكفاية ) 1/319
(4) الكفاية ) 1/326
(5) تاريخ الدارمي )(2/20)
لذا قال الذهبي رحمه الله :(1) ( وكان ابن جريج يروي الرواية بالإجازة وبالمناولة ويتوسع في ذلك ومن ثم دخل عليه الداخل في رواياته عن الوهري لأنه حمل عنه مناولة وهذه الأشياء يدخلها التصحيف ولا سيما في ذلك العصر لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط ) اهـ .
***********************
الوجه الخامس
أن يكون الحديث الذي رواه المدلس معروفاً من رواية أحد الضعفاء
وذلك أن يكون الحديث مشهوراً من وراية أحد الضعفاء ولم يروه غيره ثم يأتي من رواية مدلس معروف بالأخذ من هذا الضعيف .
1- مثال ذلك
قال الدوري(2) :
( سمعت يحيى ( يعني ابن معين ) يقول : ( حدثنا معتمر عن زهير شيخ من بني سلول عن يونس عن الحسن قال ( يجزئ من الصوم الصلام ) قال يحيى : وليس هذا الشيخ بشئ وقد دلسه هشيم عن يونس وليس هذا الحديث بشئ ليس يرويه ثقة ) اهـ .
قلت : فالحديث هذا معروف من رواية زهير بن إسحاق السلولي عن يونس ، لذلك قال يحيى بن معين(3) : ( وهير هذا ليس بشئ ، ومن روى هذا الحديث فاتهمه ) ، وقد ذكر هذا الحديث من منكرات زهير هذا النسائي والعقيلي وابن عدي وغيرهم(4) .
2- مثال آخر(5)
روى البخاري رحمه الله (6058) قال :
__________
(1) سير أعلام النبلاء ) 6/331
(2) تاريخ الدورري 4/204
(3) تاريخ الدوري 4/199
(4) انظر ( الضعفاء والمتروكين ) للنسائي 43 ، ( الضعفاء ) للعقيلي 2/91 ، ( الكامل ) لابن عدي 3/223
(5) أن لا أعني تضعيف هذا الحديث ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ ولكن المراد معرفة مآخذ الأئمة وطرقهم في التعليل في هذا الباب .(2/21)
( حدثنا علي بن عبد الله ـ هو ابن المديني ـ حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو المنذر الطفاوي عن سليمان الأعمش قال حدثني مجاهد عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنكبي فقال : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) ، وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك ) اهـ .
قلت : وقد قال ابن رجب رحمه الله(1) :
( وقد تكلم غير واحد من الحفاظ في قوله حدثنا مجاهد ، وقالوا هي غير ثابتة وأنكروها على ابن المديني وقالوا لم يسمع الأعمش هذا الحديث عن مجاهد إنما سمعه من ليث بن أبي سليم ) اهـ .
وقال ابن حجر رحمه الله :(2)
( قوله عن الأعمش حدثني مجاهد أنكر العقيلي(3) هذه اللفظة وهي حدثني مجاهد وقال إنما رواه الأعمش بصيغة عن مجاهد كذلك رواه أصحاب الأعمش عنه وكذا أصحاب الطفاوي عنه ، وتفرد ابن المديني بالتصريح قال ولم يسمعه الأعمش من مجاهد وإنما سمعه من ليث بن أبي سليم عنه فدلسه وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق الحسن بن قزعة حدثنا محمد بن عبدالرحمن الطفاوي عن الأعمش عن مجاهد بالعنعنة ، وقال : قال الحسن ابن قزعة : " ما سألني يحيى بن معين إلا عن هذا الحديث " ، وأخرجه ابن حيان في ( روضة العقلاء ) من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن الطفاوي بالعنعنة أيضاً وقال : " مكثت مدة أظن أن الأعمش دلسه عن مجاهد وإنما سمعه من ليث حتى رأيت علي بن المديني رواه عن الطفاوي فصرح بالتحديث )) يشير إلى رواية البخاري التي في الباب ) اهـ .
__________
(1) جامع العلوم والحكم ) 379
(2) فتح الباري ) 11/233
(3) ذكر ذلك في ترجكة علي بن المديني في ( الضعفاء ) 3/239(2/22)
وقد قال العقيلي إن عمرو بن محمد الناقد أنكر على ابن المديني قوله ( حدثنا مجاهد ) وقال إن الطفاوي حدثهم بالعنعنة ، وعمرو الناقد ممن رواه عن الطفاوي(1) .
قلت : وقد رواه عن الطفاوي بالعنعنة عمرو بن محمد الناقد ـ كما رواه العقيلي عنه ـ
ورواه أيضاً محمد بن أبي بكر المقدمي عن الطفاوي كما رواه عنه أحمد في ( الزهد )(2) ، والحسن بن قزعة كما عند ابن حبان(3) .
وقد رواه سفيان الثوري(4) وأبو معاوية(5) وحماد بن زيد(6) وغيرهم عن ليث أبي سليم عن مجاهد به .
قالمقصود من كل ما سبق :
هو النظر إلى دقة المتقدمين رحمهم الله تعالى في حكمهم على الأحاديث ، فبالرغم من أن بان المديني ـ وحسبك به ـ روى الحديث بتصريح الأعمش بالتحديث عن مجاهد إلا أن ذلك أنكر عليه ، وجعل هذا من مدلسات الأعمش لأمور :
الأول : أن من رواه عن الطفاوي ـ غير ابن المديني ـ رووه بالعنعنة ،
الثاني : أن الحديث معروف من رواية ليث بي أبي سليم عن مجاهد كما رواه عنه الحفاظ .
الثالث : أن الأعمش دلس عن ليث عن مجاهد غير شئ ، كما ذكر ذلك أبو بكر بن عياش نقلاً عن الأعمش نفسه(7) .
__________
(1) انظر ( ضعفاء العقيلي ) 3/239 ، 0 تحفة الأشراف ) 6/28
(2) الزهد ) 92
(3) صحيح ابن حبان 2/471
(4) أحمد 2/24 ، الترمذي 2333
(5) أحمد 2/41
(6) الترمذي 2333 ، ابن ماجة 4114
(7) العلل ومعرفة الرجال ) للإمام أحمد 1/255 قال : قلت لأبي : أحاديث الأعمش عن مجاهد عمن هي ؟ قال : قال أبو بكر بن عياش : قال رجل للأعمش : ممن سمعته ، ـ في شئ رواه عن مجاهد ـ ، قال : مر كزاز مر ـ بالفارسية ـ ؟ حدثنيه ليث عن مجاهد .(2/23)
فكل هذه القرائن جعلت هؤلاء الأئمة ينتقدون هذا الحديث ويحكمون بتدليس الأعمش له ، وذلك بعكس المعاصرين الذين يردون أحاديث الثقات الحفاظ الأثبات إذا عنعنوا بحجة التدليس ، ثم إذا وجدوا أحداً صرح بالتحديث ـ ولو كان ضعيفاً ـ صححوه !!!(1) .
3- مثال آخر
قال ابن أبي حاتم(2) :
( سألت أبي عن حديث رواه زياد ابن الربيع عن هشام بن حسان عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( عليكم بالأثمد عند النوم فإنه يجلى البصر وينبت الشعر )
قال أبي : هذا حديث منكر ، لم يروه عن محمد إلا ( الضعفاء )(3) إسماعيل بن مسلم ونحوه ولعل هشام بن حسان أخذه من إسماعيل بن مسلم فإنه كان يدلس )) اهـ .
قلت : فالإمام أبو حاتم جزم بأن هذا الحديث بهذا الإسناد لم يروه عن ابن المنكدر إلا الضعفاء ، كإسماعيل بن مسلم ، وهو منكر كما قال ، وإن كان روي من غير هذا الطريق ولكنه لا يسلم من ضعف ـ فاحتمل الأمر أن يكون هشام قد سمعه منهم ودلسه :
والحديث قد رواه ابن ماجة (3496) وعبد بن حميد (1085) من طريق : إسماعيل بن مسلم عن ابن المنكدر به .
وقد جاء تصريح هشام بن حسان بالواسطة فيما رواه الطبراني في الأوسط (6053) حيث رواه من طريق هشام بن حسان عن إسماعيل بن مسلم عن ابن المنكدر به .
تنبيه
__________
(1) حديث البخاري صحيح ، وانظر كلام ابن حجر حوله في الفتح وكلام ابن رجب أيضاً في ( جامع العوم والحكم ) ، وابن المديني أحفظ من كل من خالفه ، والذي يظهر أن الطفاوي حدث به مرة بالتصريح بالتحديث فحفظه عنه ابن المديني ، وحدث به أخرى بالعنعنة فرواه الآخرون ، والمقصود من هذا المثال ـ كما سبق وذكرت ـ هو معرفة تعامل المتقدمين مع أحكام التدليس ، وأنهم لا تردهم الصيغ عن التعليل ، كما لا يردون الأحاديث بالصيغ .
(2) علل ابن أبي حاتم ) 2/260
(3) في المطبوع ( الصعقل ) والذي يظهر أنه مصحف من ( الضعفاء ) والله أعلم .(2/24)
ما ذكرته من الوجوه الخمسة السابة إنما هو للتوضيح والبيان ، وإلا فقد يجتمع في بعض الأحاديث أكثر من أمر من الأمور التي سبق ذكرها :
مثال ذلك
قال الدار قطني(1) :
( نا محمد بن مخلد نا عباس بن محمد نا أبو عاصم عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس ( في المرأة ترتد قال تستحيا ) .
ثم قال أبو عاصم نا أبو حنيفة عن عاصم بهذا فلم أكتبه ، وقلت قد حدثتنا به عن سفيان يكفينا ، وقال أبو عاصم : نرى أن سفيان الثوري إنما دلسه عن أبي حنيفة فكتبتهما جميعاً ) ) اهـ .
قلت : وهذا معروف مشهور عن سفيان قد صرح به ، والحديث معروف بأبي حنيفة .
قال ابن عدي(2) :
( ثنا محمد بن أحمد بن حماد سمعت عمرو بن علي يقول : سمعت يحيى بن سعيد يقول : سألت سفيان قلت : سمعت حديث المرتدة من عاصم ؟ ، قال قلت سمعت من أخذ عنه قال : أما من ثقة فلا .
ثنا أحمد بن محمد بن سعيد ثنا عبد الله بن أحمد ثنا أبي ثنا ابن مهدي سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة ، قال : أما من ثقة فلا ؟ قال أبي : وكان أبو حنيفة يحدثه عن عاصم .
ثنا أحمد بن محمد بن سعيد ثنا أحمد بن زهير بن حرب قال سمعت يحيى بن معين يقول : كان الثوري يعيب على أبي حنيفة حديثاً يرويه ولم يكن يرويه غير أبي حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس فلما خرج إلى اليمن دلسه عن عاصم .
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ثنات على بن حسن بن سهل ثنا محمد بن فضيل البلخي ثنا داود بن حماد بن فرافصة عن وكيع عن أبي حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس ( في النساء إذا ارتددن قال يحبسن ولا يقتلن ) ، قال وكيع : كان سفيان يسأل عن هذا الحديث بالشام فربما قال ثنا النعمان عن عاصم وربما قال ثنا بعض أصحابنا ) اهـ .
قلت : فقد اجتمع في هذا الحديث أربعة وجوه من الوجوه السابقة :
أنه معروف من رواية أبي حنيفة .
أن الثوري سئل هل سمعه فأجاب بالنفي .
__________
(1) سنن الدار قطني 3/201
(2) الكامل 7/5(2/25)
أنه رواه بإسناد آخر بذكر الزاسطة .
أن الأئمة ذكروا أنه لم يسمعه .
******************
الحالة الثانية
أن لا يعلم وجود التدليس ولكن تكون في الحديث علة فتحمل
هذه العلة على احتمال وجود التدليس
وذلك فيما إذا ورد بإسناد أحد رواته مدلس ثقة ولم يصرح بالتحديث ثم وجدت علة في هذا الحديث كمخالفة لمجموعة من الثقات مثلاً أو نكارة على وجه ما ونحوذلك ؛ فإن الأئمة يعللون السند تبعاً للعلة التي وجودها في أصل الحديث ، ويحاولون أن يبتعدوا عن تخطئة الثقة أو توهيمه ما وجدوا لذلك سبيلاً .
ومن ذلك : إذا كان في السند مدلس لم يصرح بالتحديث فإنهم يحملون العلة الأصلية عليها احتمالاً ولا يكون هذا جزماً منهم بأن الحديث مدلس ـ كما سيتبين لك إن شاء الله تعالى بالأمثلة ـ
فالعلة الأصلية موجودة في الحديث بحيث لو كان موضع الراوي المدلس راو غير مدلس فالعلة متحققة ( النخالفة أو النكارة ونحوها ) ، فليس تعليل الحديث لأجل عدم تصريح المدلس .
لذا فإثبات تصريح المدلس بالتحديث من أحد الطرق في حديث من هذه الأحاديث لا يفيد تقوية للحديث بل يفيد انتفاء احتمال وجود التدليس فينظر في علة أخرى .
وقد ذكر المعلمي رحمه الله قاعدة جيدة في مثل هذه المسألة ـ وإن كانت ليست في التدليس إلا أن لها علاقة وثيقة بمبحثنا هذا أذكرها بعد الانتهاء من كلام الشيخ ـ :
قال رحمه الله(1) :
( إذا استنكر الائمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة ، فإذا لم يجدوا على قادحة مطلقاً حيث وقعت أعلوه بعلة ليست قادحة مطلقاً ، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر ، ... ثم ذكر أمثلة على ذلك ثم قال :
__________
(1) مقدمته على كتاب ( الفوائد المجموعة ) للشوكاني .(2/26)
وحجتهم في هذا أن عدم القدح بتلك العلة مطلاً إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر ، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب على ظن الناقد بطلانه فقد يحقق وجود الخلل وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة ، فالظاهر هي السبب ، وأن ذلك من النادر الذي يحيئ الخلل من جهتها ، وبهذا يتبين أن ما وقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة ، وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق ، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر ) اهـ .
وكلام المعلمي رحمه الله كلام متين من رجل مطلع متمكن ، وجملة ما ذكر : أن الحديث إذا استنكره المحققون وكان الإسناد ظاهره الصحة تطلبوا له علة فإن لم يجدوا علة ظاهرة ، ذكروا علة غير قادحة دائماً ، ثم إن تعقب من جاء بعدهم لهم بأن ( هذه العلة غير قادحة ) غفلة عن دقة منهج الأئمة أولئك ، إلا أنه يوجد فريق آخر لم يتعرض له المعلمي رحمه الله ، وقد تبين لي ذلك مع دراستي لمنهج المتقدمين في التدليس ، وهو أن من المتأخرين من أراد أن يطرد هذه العلة ـ غير القادحة دائماً ـ في غير ذلك الموضع ، بمعنى : أن الأئمة قد يعللون حديثاً من الأحاديث بعلة ـ لوجود مخالفة في الحديث مثلاً ـ وهذه العلة لا تقدح لو جاءت في حديث سالم من هذه المخالفة ـ ، فيراها بعض المتأخرين فيستدل بتعليلهم لذلك الحديث بهذه العلة على ضعف هذا الحديث ( السالم من المخالفة ) لوجود نفس هذه العلة .
ويتبين هذا بالمثال :
مثال ذلك
قال الدار قطني(1) :
__________
(1) التتبع ) ص384(2/27)
( وأخرج مسلم حديث قتادة عن الشعبي عن سويد بن غفلة عن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين ) ، من حديث هشام وشعبة وسعيد عنه ، ولم يرفعه عن الشعبي غير قتادة ، وقتادة مدلس لعله بلغه عنه ، وقد رواه شعبة عن ابن أبي السفر عن الشعبي عن عمر قوله ، وكذلك رواه بيان وادود بن أبي هند عن الشعبي عن سويد عن عمر ، وإبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد ، وأبو حصين عن إبراهيم النخعي عن سويد عن عمر قوله ) اهـ .
قلت : فانظر إلى قول الدار قطني ( قتادة مدلس لعله بلغه عنه ) فإنه قال هذا لأمرين :
الأول : وجود المخالفة ، فإن قتادة انفرد برفع الحديث عن الشعبي ، وقد خالفه الرواة ، فسويد الرواي عن عمر ، رواه عنه إبراهيم النخعي وإبراهيم بن عبد الأعلى وخيثمة موقوفاً ، ثم الشعبي رواه عن سويد ، ورواه عنه بيان وداود وابن أبي السفر فوقفوه ، وخالفهم قتادة فرفعه ، فالمخافلة هنا ظاهرة .
الثاني : أنه حمل مخالفة قتادة هذه على ( احتمال التدليس ) تبرئة لقتادة من عهدة الخطأ فيها ، وإلا فإن من الرواة عن قتادة ( شعبة ) وهو لا يحمل عنه إلا ما صرح فيه بالسماع كما سبق فاحتمال وجود هذه العلة ضعيف .
فإذا نظرت في مثل هذا المثال تحقق لك ما أقول بأن من أراد من المتأخرين أن يطرد هذه العلة في جميع مرويات ( قتادة المعنعنة ) لمثل هذا الكلام فقد أخطأ لأن الدار قطني لم يقل هذا إلا لما حصل من المخالفة كما سبق .
فيتقرر مما ذكرناه سابقاً أن تعليلات السلف بعلة التدليس على الحالة الثانية هذه لا يقصد بها جعل هذه العلة قادحة دائماً .
ومن نظر إلى هذه العلة فقط دون ما حفها من أمور جعلت الأئمة يعللون بها فإنه يلزمه أحد ثلاثة أمور كلها خطأ :(2/28)
الأول : أن يجعل مذهب الأئمة مضطرباً في هذا الباب ، حيث عللوا أحاديث لعدم وجود التصريح بالتحدي ـ كهذه الأحاديث ـ ، وصححوا أحاديث أخرى مع وجود نفس العلة ، فيحاول التوفيق بين هذين المذهبين على نحو ذكرته فيما سبق أثناء الكلام على ( عنعنة المدلسين في الصحيحين ) .
الثاني : أن يحاول أن يطرد هذه العلةفي جميع مرويات المدلسين المعنعنة ـ كما فعله كثير من المعاصرين ـ ، ثم يكر بهذه العلة أيضاً على الأحاديث التي صححها السلف فيعللها أيضاً بها ، وهذه غفلة كما قال المعلمي رحمه الله عن دقة منهج المتقدمين رحمهم الله تعالى .
الثالث : أن يرد على تعليل السلف لمثل هذه الأحاديث برجود التصريح بالتحديث مثلاً أو أن فلاناً رواه وهو لا يحمل عن شيخه إلا ما كان سماعاً ، ونحو ذلك ، فيلزم من أعلها بتصحيح الحديث بناءا على هذا ( الكشف ) عن زيف هذه العلة غافلاً عن العلة الأصلية .
فعلى كل من أراد أن يتحدث عن حديث أعله أحد من أولئك الأئمة محاولاً تصحيحه أن ينعم ويعيده طويلاً حتى يفهم حقيقة العلة(1)
__________
(1) وأذكر هنا حديثاً علله بعض السلف وتعقبهم بعض المعاصرين ، ليعلم الفرق بين تعيل الأئمة المتقدمين ، وتعليل كثير من المعاصرين ، فقد أعل لعض الأئمة ومنهم الإمام أحمد وأبو الفضل الهرري وأبو علي النيسابوري والبزار والبيهقي الحديث الذي رواه معقل بن عبيد الله الجزري عن أبي الزبير عن جابر عن عمر مرفوعاً حديث ( ارجع فأحسن وضوءك ) وقالوا : بأنه يعرف من حديث أبي ليهعة لا يقوى أمام ما ذكرته من صحة رواية ابن وهب عنه ، فيبقى أبو الزبير وهو معروف بالتدليس ، ولم يصرح بالتحديث في كلا الطريقين عنه ، طريق معقل وطريق ابن ليهعة ، فترجيح رواية أبي سفيان لهذا الحديث يكون من هذا الجو ) اهـ
ومن العجيب أن دقة نظر الأئمة المتقدمين وإخراج مثل هذه العلل التي تخفى على كثر من الحفاظ فضلاً عن ( قراء المصطلح ) لم ترق لهذه لأنه لم يفهم علتهم ، وقد قال ابن رجب رحمه الله في ( شرح العلل ) 2/756 : ( حدائق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان فيعللون الأحاديث بذلك .. ثم مثل على ذلك بعدد من الأمثلة ومنها هذا الحديث وقول الإمام أحمد فيه حديثه عن أبي الزبير يشبه حديث ابن ليهعة ) اهـ ، فمثل معرفة هذه العلة تحتاج إلى فهم دقيق ومعرفة بالرجال والأسانيد وحذق في النقدوهكذا كان حال السلف ، ثم إن هذا المتعقب لأولئك الجهابذة ترك هذه العلة الدقيقة ، مع وجود علة المخالفة أيضاً ، وصحح أن العلة الحقيقية هي ( عنعنة أبي الزبير ) وهذه العلة ( العجيبة !!! ) كانت مختفية كل هذه القرون حتى أظهرها بفهمها أعجب !! ، فعلة الجهابذة النقاد لا تقوى عنده !! ، وصحح علة يفهمها أبلد طلاب الحديث ولا تحتاج إلى أكثر من رؤية الإسناد !!! .(2/29)
.
وسوف أذكر فيما يلي مزيداً من الأمثلة في هذا الباب تزيد الأمر وضوحاً بحول الله وقوته :
مثال
وقال الدار قطني أيضاً(1) :
( وأخرج مسلم حديث قتادة عن سالم عن معدان عن عمر موقوفاً " في الثوم والبصل " من حديث شعبة وهشام :
وقد خالف قتادة في إسناده ثلاثة ثقات رووه عن سالم بن أبي الجعد عن غمر مرسلاً ، لك يذكروا فيه معدان ، وهم منصور بن المعتمر وحصين بن عبد الرحمن وعمرو بن مرة ورواه عن منصور جرير بن عبد الحميد ورواه عن حصين جماعة منهم أبو الأحوص وجرير وابن فضيل وابن عيينة ، ورواه عن عمرو بن مرة عمران البرجمي ، وقتادة وإن كان ثقة وزيادة الثقة مقبولة عندنا فإنه يدلس ولم يذكر فيه سماعه من سالم فاشتبه أن يكون بلغه عنه فرواه عنه )(2)
__________
(1) التتبع ) ص556
(2) والصحيح هو رواية قتادة فإنه أحفظ من كل من خالفه ، وقد ذكر هذا الدار قطني نفسه في ( العلل ) 2/217 حيث سئل : ( عن حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري عن عمر قوله : ( رأيت كأن ديكاً نقرني وفي الخلافة والكلالة وفي الشجرتين البصل والكراث ) . فقال : هو حديث يرويه قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمر ، حدث به عن قتادة هشان بن أبي عبد الله وشعبة بن الحجاج وسعيد بن أبي عروبة والحجاج بن الحجاج وهمام بن يحيى فرووه عن قتادة بهذا الإسناد بطوله ورواه بن عيينة عن يحيى بن صبيح الخراساني وتابعه عبد الله بن بشر ومطر الوراق وإسحاق بن أبي فروة رووه عن قتادة عن سالم عن معدان عن عمر مختصراً ، ورواه حماد بن سلمة عن قتادة عن سالم عن عمر مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مختصراً ( في قصة الثوم والبصل ) دون غيره ولم يذكر في الإسناد معدان ، ورواه حصين عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد عن عمر مرسلاً أيضاً لم يذكر فيه معدان ، قال ذلك أبو الأحوص ومحمد بن فضيل وسفيان بن عيينة وجرير عن حصين ، وقال شعبة : عن حصين عن سالم عن رجل من أهل الشام عن عمر ولم يرفع الحديث ، وروى عن عباد بن العوام عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن معدان عن عمر وما أحسبه حفظ لأن حصيناً لا يذكر معدان ، وكذلك رواه المنصور بن المعتمر وأبو عون الثقفي وعمرو بن مرة رووه عن سالم عن عمر مرسلاً لم يذكروا فيه معدان قاله جرير عن منصور وقاله عبد الغفار بن القاسم وحفص بن عمران عن عمرو بن مرة ، والصحيح قول شعبة وهشام وابن أبي عروبة ومن تابعهم عن قتادة والله أعلم ) اهـ .(2/30)
قلت : والمقصود هنا أن الدار قطني لم يعلل حديث قتادة بمجرد العنعنة ، بل لما رأى هنا حمل ذلك على احتمال وجود التدليس وعدم التصريح بالتحديث تبرئة لقتادة من العهدة كالمثال السابق تماماً ، وإلا فإن من الرواة عن قتادة شعبة وهو لا يحمل عنه إلا ما هو مسموع له مما يجعل احتمال وجود هذه العلة ضعيفاً .
مثال آخر
قال ابن عبد البر(1) :
( أما حديث عبيد بن عمير عن عائشة ( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة الكسوف ثلاث ركعات وسجدتين في كل ركعة ) ، فإنما يرويه قتادة عن عطاء عن عبيد عن عمير عن عائشة وسماع قتادة عندهم من عطاء غير صحيح(2) وقتادة إذا لم يقل سمعت وخولف في نقله فلا تقوم به حجة لأنه يدلس كثيراً عمن من لم يسمع منه وربما كان بينهما غير ثقة ) ) اهـ .
قلت : فابن عبد البر رحمه الله أعل الحديث باحتمال التدليس لأمرين(3) :
الأول : أن هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في كيفية صلاة الكسوف وقد ساقها ابن عبد البر قبل هذا الحديث ، لذلك قيد التوقف في عدم تصريح قتادة بالسماع بقوله 0 وخولف في نقله ) .
الثاني : وهو ما سبق ذكره مراراً أن حمله على التدليس تنزيهاً للراوي الثقة من تحمل تبعة الخطأ .
ولا يعني أن ما عنعنه قتادة تطرد فيه هذه العلة دائماً لما سبق بيانه وإلا فابن عبد البر هو القائل(4) ( وقال بعض من يقول بالتيمم إلى المرفقين قتادة إذا لم يقل سمعت أو حدثنا فلا حجة في نقله وهذا تعسف ) اهـ .
فانظر كيف جعله تعسفاً ؛ لأن هذا رد للرواية بمجرد العنعنة ، مع أنه أعل ذلك الحديث بعنعنة قتادة .
مثال آخر
روى البزار من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد :
__________
(1) التمهيد ) 3/307
(2) بل هو في الصحيحين
(3) أما سماع قتادة من عطاء فهو صحيح وليس بعلة
(4) التمهيد ) 19/287(2/31)
( إن امرأة صفوان بن المعطل جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت : يا رسول الله إن زوجي يضربني إذا صليت ، ويفطرني إذا صمت ، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس ، قال : وصفوان عنده ، فسأله ، فقال : أما قولها يضربني إذا صليت فإنه تقرأ سورتي وقد نهيتها عنها ، وأما قولها يفطرني إذا صمت ، فأنا رجل شاب لا أصبر ، وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس ... الحديث ) .
قال البزار بعده(1) :
( هذا الحديث كلامه منكر ولعل الأعمش أخذه من غير ثقة فدلسه فصار ظاهر سنده الصحة وليس للحديث عندي أصل ) اهـ .
قلت : والبزار لم يرد الحديث لمجرد التدليس ، بل ذكره احتمالاً فقال ( لعل الأعمش أخذه من غير ثقة فدلسه ) وذلك لأمور منها :
الأول : أنه استنكر المتن .
وسبب ذلك أنه ورد في حديث الإفك المتفق على صحته أن عائشة قالت : ( فبلغ الأمر ذلك الرجل فقال سبحان الله والله ما كشفت كتف أنثى قط ) .
وفي رواية ( والله ما أصبت امرأة قط حلالاً ولا حراماً ) .
وفي أخرى ( وكان لا يقرب النساء ) .
وفي أخرى ( أنه كان حصوراً ) .
ورواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد تعارض هذه الروايات .
الثاني : أن حماد بن سلمة رواه عن حميد عن ثابت عن أبي المتوكل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرسلاً كما ذكره أبو داود .
الثالث : أنه أراد أن لا يحمل ثقة تبعة الخطأ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً فهو هنا عندما استنكر المتن حاول تعليل السند بعنعنة المدلس ، وليست هذه هي أصل العلة بل العلة النكارة ، وإلا فقد ذكر ابن حجر أنه قد رود تصريح الأعمش بالتحديث في بعض الروايات(2) ، ولا يعني هذا أن البزار لو وقف على تصريح الأعمش بالتحديث لصححه ، بل هو عنده منكر كما قال .
مثال آخر
قال ابن أبي حاتم رحمه الله(3)
__________
(1) انظر ( فتح الباري ) 8/462
(2) انظر ( فتح الباري ) 8/462
(3) 395 ( علل ابن أبي حاتم ) 1/166(2/32)
( سألت أبي عن حديث رواه عمر بن علي عن أشعث بن سوار عن بكير بن الأخنس عن حنش بن المعتمر عن وابصة بن معبد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( أنه صلى خلف الصف وحده ) .
قال أبي : رواه بنض الكوفيين عن أشعث عن بكير عن وابصة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
قال أبي : أما عمر فمحله الصدق ولولا تدليسه لحكمنا إذ جاء بالزيادة غير أنا نخاف أن يكون أخذه عن غير ثقة ، وأشعث هو أشعث .
قلت : حنش أدرك وابصة ؟ .
قال : لا أبعده ) اهـ .
قلت : فقد زاد عمر بن علي ( وهو المقدمي ) ( حنش بن المعتمر ) بين بكير ووابصة ، وذكر أبو حاتم أن الكوفيين رووه بدونها لذا توقف أبو حاتم في قبولها بسبب تدليسه .
فهو إنما جعل العلة في تدليسه لما وجد في روايته زيادة لم يذكرها الكوفيون الذين رووا حديثه .
مثال آخر
قال الترمذي رحمه الله في ( العلل )(1) :
( سألت محمداً ( يعني البخاري ) عن حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة ( ذبح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن ) .
فقال : إن الوليد بن مسلم لم يقل فيه حدثنا الأوزاعي وأراه أخذه عن يوسف بن السفر ويوسف ذاهب الحديث وضعف محمد هذا الحديث ) اهـ .
وقال البيهقي(2) : ( تفرد به الوليد بن مسلم ولم يذكر سماعه فيه عن الأوزاعي ، ومحمد بن إسماعيل البخاري كان يخاف أن يكون أخذه عن يوسف بن السفر والله أعلم ) اهـ .
__________
(1) علل الترمذي للقاضي ج : 1ص:133
(2) سنن البيهقي ) 4/354(2/33)
قلت : وسبب تضعيف البخاري لهذا الحديث إنما هو لتفرد الوليد ـ كما قاله البيهقي ـ بذكر هذا الحديث بهذا اللفظ ، وهو مخالف لما ورد في البخاري ومسلم من حديث عائشة بلفظ ( ضحى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نسائه بالبقر(1) ، فالمخالفة هنا ظاهرة ، ولا يعني هذا أن العلة التي جعلته يرد الحديث عدم تصريح الوليد بالسماع بدليل تصحيحه لعدد من روايات الوليد المعنعنة ، وإنما لوجود هذه المخالفة ذكر هذه العلة ، وإلا فإن الحديث الذي ضعفه البخاري هنا صححه ابن خزيمة(2) ، وصححه ابن عبد البر قائلاً عنه : ( حديث صحيح ثابت )(3) وهو معنعن عندهما من رواية الوليد عن الأوزاعي ، فيستفاد من صنع ابن خزيمة وابن عبد البر رحمهما الله تعالى أنهما لم يريا هنا مخالفة لذا لم يعلها باحتمال التدليس بخلاف البخاري فإنه رأى المخالفة فأعلها به .
ثم إن الوليد قد صرح بالتحديث ، إذ رواه عنه دحيم ( وهو حافظ ) بالتصريح بالتحديث كما عند ابن ماجة(4) .
وكذلك فالوليد لم ينفرد بهذا الحديث عن الأوزاعي ، فقد رواه عن الأوزاعي أيضاً إسماعيل بن عبد الله بن سماعه ـ وهو ثقة ـ بلفظ قريب منه(5) .
__________
(1) وردت عدة روايات عن عائشة في هذا الباب واختلف فيها هل ذبح بقرة واحدة بينهن أو لكل واحدة بقرة ذكرها البيهقي في ( سننه ) 4/353 ، وابن عبد البر في ( التمهيد ) 12/132 وما بعدها .
(2) صحيح ابن خزيمة ) 4/288
(3) التمهيد ) 12/136
(4) سنن ابن ماجة ) رقم (3133) ، وروى البيهقي في ( السنن ) 3/354 من طريق محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني عن الوليد بالتصريح بالتحديث ثم قال ( فإن كان قوله حدثنا الأوزاعي محفوظاً صار الحديث جيداً ) ، والحديث رواه ابن خزيمة عن محمد بن عبد الله بن ميمون بالعنعنة ، فالله تعالى أعلم ) .
(5) رواه من طريقة ابن حبان كما في صحيحه (9/319) وابن عبد البر في ( التمهيد ) 12/135(2/34)
فالمقصود مما سبق هو أن تعليل البخاري رحمه الله تعالى ليس لمجرد عدم وجود التحديث من الوليد ، بل لأنه رآه مخالفاً للأحاديث الأخرى التي وردت عن عائشة ، لذا فلا يلزم البخاري رحمه الله تصحيح الحديث لوجود التحديث في بعض الطرق لما سبق ذكره مراراً أن تضعيف الحديث ليس لهذه العلة ولكنه حمل وجود مثل هذا الاحتمال ضعف الحديث تبرئة للثقات من الخطأ .
مثال آخر
قال البيهقي(1) :
( أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو بكر بن إسحاق أنبأ أبو المثنى ثنا سدد ثنا يحيى عن سفيان قال حدثني حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد وفي الأخرى مثلها ) ، رواه مسلم في الصحيح عن محمد بن المثنى وغيره عن يحيى القطان ، وأما محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله فإنه أعرض عن هذه الروايات التي فيها خلاف رواية الجماعة ، وقد روينا عن عطاء بن يسار وكثير بن عباس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( أنه صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعان ) وحبيب بن أبي ثابت وإن كان من الثقات فقد كان يدلس ولم أجده ذكر سماعه في هذا الحديث عن طاوس ويحتمل أن يكون حمله عن غير موثوق به عن طاوس وقد روى سليمان الأحول عن طاوس عن ابن عباس من فعله أنه صلاها ست ركعات في أربع سجدات فخالفه في الرفع والعدد جميعاً ) اهـ .
قلت : فالبيهقي رحمه الله أعل حديث حبيب بن أبي ثابت بعدم ذكر السماع لأمرين :
الأول : أن الحديث مخالف لرواية الجماعة ـ كما قال ـ تدل على أنه صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعان ، وكذلك فإن عطاء بن يسار وكثير بن عباس رويا عن ابن عباس ما يوافق رواية الجماعة ، ورواه سليمان الأحول عن طاوس عن ابن عباس من فعله موقوفاً وخالفه في العدد أيضاً فالمخالفة في الحديث ظاهرة .
__________
(1) السنن الكبرى 3/327(2/35)
الثاني : أنه أراد أن لا يحمل أحداً من الثقات الخطأ أو الوهم في هذا الحديث فحمل هذه العلة على ( احتمال التدليس ) .
وقد قال ابن حبان(1) : ( خبر حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كسوف الشمس ثماني ركعات وأ{بع سجدات ليس بصحيح لأن حبيباً لم يسمع من طاوس هذا الخبر ) اهـ .
فقد جزم بعد سماعه له .
مثال آخر
قال النسائي رحمه الله :(2)
( أخبرنا أبو بكر بن علي قال حدثنا سريج بن يونس قال حدثنا هشيم عن ابن شبرمة قال حدثني الثقة عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال :
( حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب ) .
خالفه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي :
أخبرنا الحسين بن منصور قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا إبراهيم بن أبي العباس قال حدثنا شريك عن عباس بن ذريح عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال ( حرمت الخمر قليلها وكثيرها وما أسكر من كل شراب ) .
قال أبو عبد الرحمن ـ أي النسائي ـ :
وهذا أولى بالصواب من حديث ابن شبرمة ، وهشيم بن بشير كان يدلس وليس في حديثه ذكر السماع من ابن شبرمة ورواية أبي عون أشبه بما رواه الثقات عن ابن عباس ) اهـ .
قلت : فهو علل حديث هشيم بعدم كره للسماع بسبب المخالفة لأحاديث الثقات عن ابن عباس .
فحديث هشيم هو بلفظ ( والسكر من كل شراب ) ، بينما اللفظ الذي رجع النسائي صوابه هو ( وما أسكر من كل شراب ) ، لأن اللفظ الأول يشعر بأن المحرم من المسكر ـ عدا الخمر ـ هو الإسكار فقط ـ كما هو مذهب الكوفيين .
وبهذا اللفظ ونحوه استدل الحنفية على مذهبهم ـ فيجوز شرب النبيذ ونحو ما لم يسكر ، بخلاف اللفظ الثاني ، ثم جاء بعد هذا الحديث بأحاديث عن ابن عباس تبين مذهبه في تحريم المسكرات والنبيذ .
مثال آخر
__________
(1) صحيح ابن حبان ) 7/98
(2) السنن الكبرى 3/233(2/36)
قال ابن أبي حاتم رحمه الله :(1)
( سألت أبي أبا زرعة عن حديث راوه ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال :
( من جلس في مجلس كثر فيه لغطه ثم قال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك الحديث ) .
فقالا : هذا خطأ .
رواه وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله موقوف وهذا أصح .
قلت لأبي : الوهم ممن هو ؟ .
قال : يحتمل أن يكون الوهم من ابن جريج ويحتمل أن يكون من سهيل وأخشى أن ابن جريج دلس(2) هذا الحديث عن موسى بن عقبة ولم يسمعه من موسى أخذه من بعض الضعفاء .
سمعت أبي مرة أخرى يقول : لا أعلم روى هذا الحديث عن سهيل أحداً إلا ما يرويه ابن جريج عن موسى بن عقبة ولم يذكر ابن جريج فيه الخبر فأخشى أن يكون أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى إذا لم يروه أصحاب سهيل لا أعلم روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شئ من طرق أبي هريرة ) اهـ .
وسئل الدار قطني رحمه الله عن نفس الحديث أيضاً فقال(3) :
( يرويه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، واختلف عنه :
فرواه موسى بن عقبة عن سهيل كذلك حدث به عنه ابن جريج ولا نعلم رواه عن موسى غيره وحدث بهذا الحديث أبو علي بن بسطام عن عبد الرحمن بن موسى السوسي عن حجاج عن ابن جريج عن موسى عن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة ووهم في ذكر عبد الله بن دينار وهماً قبيحاً وإنما رواه حجاج عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة .
__________
(1) علل ابن أبي حاتم 2/195
(2) في الأصل ( وليس ) وهو تصحيف
(3) علل الدار قطني 8/201(2/37)
كذلك رواه الواقدي عن ابن جريج عن موسى بن عقبة وأضاف إليه عن عاصم بن عمر بن حفص وسليمان بن بلال بن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة . وكذلك رواه هشام بن عمار عن إسماعيل عن عياش عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة ، وخالفهم وهيب بن خالد رواه عن سهيل عن عون بن عبد الله بن عقبة قوله .
وقال أحمد بن حنبل : حدث بن ابن جريج عن موسى بن عقبة وفيه وهم والصحيح قول
وهيب وقال(1) وأخشى أن يكون ابن جريج دلسه عن موسى بن عقبة أخذه من بعض الضعفاء عنه والقول كما قال أحمد ) اهـ .
قلت : فهذا الحديث له علة ظاهرة وهي التفرد مع المخالفة : فلا يروى عن سهيل بن أبي صالح بهذا الإسناد إلا من هذا الطريق . وهو مخالف أيضاً لرواية وهيب الذي رواه عن سهيل عن عون بن عبد الله قوله ـ غير مرفوع ـ .
من أجل هذه العلة تلمس الإمامان أبو حاتم والدار قطني علة في السند ، فكأنهما رجحا أو مالا إلى ابن جريج دلسه عن بعض العلماء ، وذلك من أجل تبرئة الثقات الحفاظ من تبعة هذا الخطأ ، وذكر أبو حاتم احتمال أن يكون الوهم من ابن جريج أو من سهيل أيضاً .
ولكن ابن جريج صرح بالإخبار من طرق صحيحه عن حجاج عنه(2) ، لذلك فالإمام أحمد حكم بوجود الوهم ( لعدم وجود احتمال التدليس ) .
أما الإمام البخاري فجعل العلة فيه أنه لا يعرف لموسى بن عقبة سماعاً من سهيل(3)
مثال آخر
قال ابن خزيمة رحمه الله :(4)
( وقد روى عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم علمه دعاء يقوله في قنوت الوتر :
__________
(1) يظهر لي أن القائل هنا هو الدار قطني لا الإمام أحمد لأن الإمام أحمد قد رواه في المسند عن حجاج الأعور عن ابن جريج مصرحاً فيه بالإخبار .
(2) كما رواه أحمد في المسند 2/294 ، والبخاري في التاريخ الكبير ، والنسائي في ( اليوم والليلة ) (397)
(3) التاريخ الكبير 4/104 ، وانظر ( الضعفاء ) للعقيلي 2/1550
(4) صحيح ابن خزيمة ) 150 ـ 152(2/38)
حدثناه محمد بن رافع نا يحيى يعني ابن آدم نا إسرائيل عن إبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي قال :
" حفظت من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلمات علمنيهن أقولهن عند القنوت " .
ثناه يوسف بن موسى وزياد بن أيوب قالا ثنا وكيع ثنا يونس بن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي قال :
" علمني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : ( اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت ) .
ثم قال :
( وهذا الخبر رواه شعبة بن الحجاج عن بريد بن أبي مريم في قصة الدعاء ولم يذكر القنوت ولا الوتر :
نا بندار نا محمد بن جعفر نا شعبة قال سمعت ابن أبي مريم وثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني نا يزيد بن زريع نا شعبة ح وثنا أبو موسى نا الحسن بن علي : علام تذكر من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، .
فقال : " كان يعلمنا هذا الدعاء : اللهم اهدني فيمن هديت بمثل حديث وكيع في الدعاء " .
ولم يذكر القنوت ولا الوتر ، وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق ، وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو دلسه عنه ، اللهم إلا أن يكون كما يدعي بعض علمائنا أن كل نا رواه يونس عن من روى عنه أبوه أبو إسحاق هو مما سمعه يونس مع أبيه ممن روى عنه ولو ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أمر بالقنوت في الوتر أو قنت في الوتر لم يجز عندي مخالفة خبر النبي ولست أعلمه ثابتاً ) انتهى .(2/39)
قلت : فقد خالف هنا أبو إسحاق وابنه شعبة في رواية هذا الحديث ، فأبو إسحاق رواه عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن بلفظ ( علمني كلمات أقولهن في قنوت الوتر ) ، ورواه شعبة عن بريد به بلفظ ( كان يعلمنا هذا الدعاء ) ، والمخالفة بين اللفظين ظاهرة لذلك حكم ابن خزيمة بأن الصواب رواية شعبة وقال ( وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق ) ، ومقهوم حكمه هذا أن رواية أبي إٍحاق وهم ، إلا أنه أراد تلمس علة ممكنة في السند من غير توهيم الثقات فقال ( وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو دلسه عنه ) ، على أن ( يونس بن أبي إسحاق ) قد تابع أباه في اللفظ مما يدل ـ كما ذكره عن بعض العلماء ـ أنه مسموع له غير مدلس فلم يبق إلا التوهيم .
تنبيه
من النظر في الحالتين الأولى والثانية يظهر بينهما من وجهين :
الوجه الأول : أن التدليس متحقق في الحالة الأولى بما ثبت في الأسانيد الأخرى من ورود الواسطة ، ونحو ذلك ، أما في الحالة الثانية فالتدليس محتمل إذ هو تابع للتعليل الرئيس وهو وجود ( النكارة أو المخالفة ونحو ذلك ) .
الوجه الثاني : أن نفي وجود التدليس في الحالة الأولى ـ بشكل ما ـ يصلح تصحيحاً للحديث الذي علل به ويصلح رداً لتلك العلة ، أما نفي وجوده في الحالة الثانية فلا يصلح تصحيحاً لذلك الحديث ، ولكن يصلح رداً لعلة احتمال التدليس ، وتبقى العلة الأصل كما هي إلا إذا ردت أيضاً كبيان عدم وجود النكارة أو وجود المتابعين عند وجود المخالفة ونحوه .
**********************
خاتمة
واختم هذا البحث بذكر خلاصة مفيدة إن شاء الله تعالى لما ذكرته في الأبواب السابقة :
أن أساس منهج المتقدمين في أحكامهم على الحديث في الجملة قائم على الاستقراء
الواسع والتتبع والسبر والمقارنة مع طول اشتغال بهذا اعلم وحفظه ومذاكرته ومدارسة الأئمة .
أن التدليس له عدة صور ، وكل صورة لها حكم خاص ، بل لكل مدلس حكم خاص
تقريباً .(2/40)
فهناك من التدليس ما يلحق بالإرسال .
وهناك من التدليس ما لا ينظر في إلى ( الصيغة ) وذلك مثل ( تدليس الشيوخ ) و ( الأخذ من الصحيفة ) .
وهناك من التدليس ما يكون عاماً وهناك ما هو خاص براو معين ، وهناك من الروايات ما يؤمن فيها من التدليس ، ؛ لأنها من رواية المدلس عن شيرخ معينين أو من روايات شيوخ معينين عن المدلس ، وكل هذا يعرف بدراسة حال المدرس وأقوال الأئمة فيه واعتبار رواياته .
أن ( صيغ التحديث والأداء ) يلحقها ( التغيير ) كثيراً ، فالعنعنة في الغالب تكون ممن
دون المدلس ، فالحكم بالتدليس بناءا على العنعنة فقط خطأ ، والحكم بالاتصال بناءا على وجود طريق فيه التصريح بالتحديث فقط ـ مع مخالفتها جميع الطرق ـ خطأ ، ومعرفة هذه الأمور تكون باستقراء الروايات مع معرفة حال الرواة بدقة .
أن طريقة المتقدمين في حكمهم على روايات المدلسين المعنعنة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : الرد ؛ وهو في حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون قام الدليل على أن حديثه هذا بعينه مدلس :
وهذا يعرف بعدد من الوجوه ذكرتها في الفصل الرابع .
الحالة الثانية : أن لا يعلم وجود التدليس ولكن تكون في الحديث علة فتحمل هذه العلة على احتمال وجود التدليس :
القسم الثاني : القبول ؛ وهو فيما عد ذلك .
هذا ما ظهر لي بعد طول وتأمل في طريقة السلف والأئمة في هذا الباب ، فإن يكون ما ذكرته صواباً فذلك فضل من الله ونعمة فله الحمد والشكر وله الثناء الحسن ، وإن تكن الأخرى فأسأل الله تعالى أن لا أعدم الأجر على الاجتهاد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
فهرس الموضوعات
مقدمة فضيلة الشيخ المحدث عبد الله بن عبد الرحمن السعد ...... 7-42
مقدمة المؤلف ............................................... 45
الفصل الأول : معنى التدليس عند المتقدمين .................. 53(2/41)
الصورة الأولى : رواية الراوي عمن لقبه وسمعه ما لم يسمعه ...................58
الصورة الثانية : وهي رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه أو لقبه ولم يسمع منه 60
الصورة الثالثة : رواية الراوي عمن لم يعاصره ولم يدركه إذا كانت روايته
موهمة الأتصال ............................................................ 63
الصورة الرابعة : رواية الراوي من صحيفة عمن قد عاصره ولقبه أو لم يلقه 64
الصورة الخامسة : وهو ما يسمى ( تدليس الشيوخ ) وهو أن يروي عن ضعيف فيسميه أو يلقبه أو يكتبه بخلاف ما يشنهر به حتى لا يعرف ........................... 67
الفصل الثاني : معرفة التدليس ............................................ 69
مصادر معرفة المدلسين ................................................... 71
الحسن البصري : ................................................ 72
قتادة بن دعامة السدوسي : ..................................... 74
مكحول الشامي : ............................................. 83
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري : ............................ 84
محمد بن مسلم بن تدري أبو الزبير المكي : ..................... 87
الوليد بن مسلم الدمشقي : .................................... 97
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج : ........................... 104
عمر بن علي المقدمي : ....................................... 110
عبد الرحمن بن محمد المحاربي : ................................ 113
حميد الطويل : ............................................... 115
مروان بن معاوية الفزاري : .................................. 116
عبد الله بن أبي نجيح المكي : ................................. 122
حبيب بن أبي ثابت : ....................................... 123(2/42)
الفصل الثالث : رواية المدلس والعنعنة ................................. 127
المقام الأول : معرفة صيغة المدلس أو الراوي إذا روى ما لم يسمعه ........ 130
أولاً : ( قال فلان ) : ................................................. 130
ثانياً : حدث فلان ) : ................................................ 133
ثالثاً : ( ذكر فلان ) : ............................................... 134
رابعاً : ( فلان ) : .................................................... 134
خامساً : ( حدثنا وسمعت ثم يسكت ثم يقول فلان ) : .................. 134
سادساً : ( عن فلان ) : .............................................. 135
المقام الثاني : إثبات أن العنعنة تكون من تصرفات الرواة عن المحدث
لا من قول المحدث في الغالب : ....................................... 137
القسم الأول : الانتقال من أي صيغة حدث بها المحدث إلى العنعنة ....... 137
القسم الثاني : التصريح بالتحديث أو السماع في موضع لم يصرح فيه
المحدث بذلك ، وهو على نوعين ....................................... 148
الأول : من خفيفي الضبط ومن عنهم التساهل
الثاني : من الثقات الحفاظ
الفصل الرابع : الحكم على رواية المدلس :
القسم الأول : من كان الغالب على حديثه التدليس :
القسم الثاني : من دلس أحياناً أو كثيراً ولكن لم يغلب على حديثه التدليس الأدلة قسمان :
القسم الأول : الأدلة النظرية :
الدليل الأول : عنعنة المدلسين في الصحيحين :
الدليل الثاني : عمل المتقدمين في الجملة وتصحيحاتهم وتخريجاتهم وتعليلاتهم خارج الصحيحين
الدليل الثالث : التتبع والاستقراء
الدليل الرابع : بعض النقولات عن أئمة هذا الشأن
الدليل الخامس : من النظر
القسم الثاني : الأدلة التطبيقية
القسم الأول : الاحتجاج بمروياتهم المعنعنة ـ إذا لم يتبين التدليس فيها(2/43)
القسم الثاني : أحاديث انتقدها المتقدمون وأعلوها بالتدليس
الحالة الأولى : أن يكون قام الدليل على أن حديثه هذا هذا بعينه مدلس
الوجه الأول : أن يكون المدلس لم يسمع أصلاً من شيخه في السند
الوجه الثاني : أن يسئل الراوي المدلس عن سماعه فيجيب بالنفي وربما ذكر الواسطة
الوجه الثالث : أو يروي الحديث نفسه عنه من وجه آخر بالتصريح بواسطة بين الراوي المدلس وشيخه
الوجه الرابع : أن يصرح أحد الأئمة بأن الحديث لم يسمعه المدلس ممن فوقه
الصورة الأولى : أن ينص الإمام على أحاديث معينة بأنها غير مسموعة للمدلس
الصورة الثانية : أن ينص الإمام على عدد مسموعات المدلس عن راو معين
الوجه الخامس : أن يكون الحديث الذي رواه المدلس معروفاً من رواية أحد الضعفاء
الحالة الثانية : أن لا يعلم وجود التدليس ولكن تكون في الحديث علة فتحمل هذه العلة على احتمال وجود التدليس
تنبيه
خاتمة
فهرس الموضوعات
*******************************(2/44)