المملكة العربية السعودية
جامعة الملك سعود
كلية التربية
منهج الفراء في عرض القراءات في كتابه "معاني القرآن" والترجيح بينها
إعداد
د.ناصر بن محمد المنيع
الف
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
تعد القراءات القرآنية مصدرا مهما من مصادر النحويين بوصفها شواهد على صحة القواعد التي يستنبطوها . ولذلك اهتموا بها ورووها وأوردوها في كتبهم .
ومما يذكره الباحثون أن موقف النحويين الكوفيين أكثر ديانة وصيانة لجانب القراءات القرآنية من إخوانهم النحويين البصريين ؛ فقبلوا القراءات ، ولم يضعفوها ، واحتجوا بها ، وعقدوا كثيرا من أصولهم وأحكامهم بناء على ما جاء فيها ، وهم إذا رجحوا القراءات التي يجتمع عليها القراء لا يرفضون غيرها ، ولا يغلطونها لأنهل صواب عندهم (1) .
وكان العالم اللغوي الكبير يحيى بن زياد الفراء هو أحد أرباب وسلاطين النحو الكوفي وحاز السبق في علم العربية ، وكان مؤلفه الكبير "معاني القرآن" شاهدا على ذلك ، وهو من أوائل ما ألف في معاني القرآن ، وإدخال مسائل النحو الكوفي في التفسير وعند بيان معاني القرآن ، ومن ثم تقريرها .
وكل من يقلب هذا الكتاب الحافل يجده قد ضم كما هائلا من القراءات المتواترة والشاذة بأسانيدها أو محذوفة الأسانيد منسوبة إلى أصحابها أو غير منسوبة جاءت في موضع الرد أو في موضع الترجيح .كما أن القارئ قد يلمس ويلاحظ وجود اختيارات للإمام الفراء في القراءات .ولذلك أصبح كتابه مصدرا مهما لكتب القراءات (2) .
التعريف بالإمام أبي زكريا يحيى الفراء
__________
(1) مدرسة الكوفة مهدي المخزومي ( ص 337 )
(2) انظر المحتسب لابن جني ( ) وإعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه ( )(1/1)
اسمه ونسبه (1) .
__________
(1) طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ( ) الفهرست لابن النديم ( ) تاريخ بغداد (14/149) الأنساب ( ) المنتظم في تاربخ الملوك والأمم ( ) إنباه الرواة ( ) طبقات النحاة واللغويين لابن شهبة ( ) معجم الأدباء ( ) وفيات الأعيان ( ) اللباب في الأنساب ( ) الكامل في التاريخ لأبن الأثير ( ) سير أعلام النبلاء (8/434) تذكرة الحفاظ (1/372) العبر ( ) البداية والنهاية ( ) تهذيب التهذيب ( ) تلخيص أخبار اللغويين لابن مكتوم (ص 270) المختصر في أخبار البشر ( ) إشارة التعيين ( ) غاية النهاية (2/371) النجوم الزاهرة ( ) بغية الوعاة (2/33) طبقات المفسرين للداودي ( )شذرات الذهب ( ) روضات الجنات ( ) هدية العارفين (6/514) مقدمة كتاب المذكر والمؤنث للدكتور رمضان عبد التواب (ص 7-37) مقدمة كتاب المقصور والممدود للفراء لماجد الذهبي ( ص )
وقد حظي هذا الكتاب ومؤلفه بالكثير من الدراسات الأكاديمية ومنها :
المصنفات الأولى في معاني القرآن لأبي عبيد و الأخفش والفراء ياسر محمد الحروب . منهج الفراء في كتابه "معاني القرآن" إعداد حسين محمد شريف هاشم رسالة ماجستير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . جهود المفسرين في البحث البلاغي (أبو عبيدة، الفراء ، ابن قتيبة) إعداد منيرة فاعور رسالة ماجستير جامعة دمشق . علل اختيارات الفراء في القراءات القرآنية في كتاب معاني القرآن إعداد مازن أحمد الفارس رسالة ماجستير ، جامعة اليرموك إربد الأردن. كتب معاني القرآن الأخفش الفراء الزجاج ومناهج مؤلفيها إعداد ناجح محمد عبدالحميد البعول رسالة ماجستير الجامعة الأردنية . ظواهر لسانية في القراءات القرآنية من خلال كتاب معاني القرآن "لأبي زكريا الفراء دراسة وصفية تحليلية رشيد ماجستير الجامعة الأردنية. الدراسات اللغوية للقران الكريم في أوائل القرن الثالث الهجري للدكتور عيسى شحاته (ص 134-264) . أبو زكريا الفراء ومذهبه في النحو واللغة للدكتور أحمد مكي الأنصاري . دراسة في النحو الكوفي من خلال معاني القرآن للفراء رسالة ماجستير م جامعة محمد الفاتح طرابلس .(1/2)
هو الأمام الحافظ أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبدالله بن منظور (1) الديلمي مولاهم الكوفي النحوي صاحب الكسائي . ولقبه الفَرَّاء بفتح الفاء وتشديد الراء ، وبعدها ألف ممدودة نسبة إلى خياطة الفرو وبيعه (2) . ولم يكن للفراء ولا لأحد من آبائه في شيء من هذا ؛ قال أبو بكر بن الأنباري : "وبعض أصحابنا يقول إنما سمي الفَرَّاء فرَّاء لأنه كان يحسن نظم المسائل ؛ فشبه بالخارز الذي يخرز الأديم ؛ وما عرف ببيع الفراء قط ولا شرائها قط" (3) .
وقيل : أطلق عليه لأنه يفري الكلام أي يحسن تقطيعه وتفصيله فهو فعال من الفري صيغة مبالغة (4) .
ولد في الكوفة سنة (114هـ) في عهد أبي جعفر المنصور ؛ ونشأ بها وتربى على شيوخها وهو فارسي الأصل مثل الكسائي .
ثناء العلماء عليه
قال سلمة : "إني لأعجب من الفراء يعظم الكسائي وهم أعلم بالنحو منه" (5) . وقال ثعلب : "لولا الفراء لما كانت عربية ؛ لأنه خلصها وضبطها ولولا الفراء لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد" (6) .
ويحسن أن نورد هنا ما قال الحافظ ابن حجر في خاتمة ترجمته : "وشهرته بالعربية ومعرفتها غير محتاجة إلى أكثار " (7) .
عقيدته
قال السيوطي : " يحب علم الكلام ويميل إلى الاعتزال ... وكان يتفلسف في تصانيفه ويسلك ألفاظ الفلاسفة " (8) .
__________
(1) وتصحفت في بعض المصادر إلى منصور .
(2) اللباب في تهذيب الأنساب ( )
(3) الأضداد ( )
(4) الأنساب ( )
(6) طبقات الغويين للزبيدي ( ) تاريخ بغداد ( ) معجم الأدباء ( )
(7) تهذيب التهذيب ( )
(8) بغية الوعاة ( 2/333)(1/3)
ويبدو أن الفراء كان يميل إلى علم الكلام ليحفظ مكانه عند بعض الخلفاء والأمراء ، ولم تكن طبيعته هي التي تدفعه إلى ذلك كما أن تقريب المأمون له يؤيد ميله إلى الاعتزال ؛ لأن موقف المأمون من المتكلمين وتقريب أتباع المعتزلة منه واضح . قال الجاحظ : "دخلت بغداد سنة أربع ومائتين حين قدم إليها المأمون وكان الفراء يحبني ويشتهي أن يتعلم شيئا من علم الكلام فلم يكن له طبع" (1) . فالفراء أخفق في دراسته علم الكلام ؛ ولكنه كان يحب أن يشتهر بالاعتزال والفلسفة وليس له فيها قدم .
وحتى يحكم بعدل وإنصاف لا بد من تتبع الكتاب وخاصة آيات العقيدة وآيات الصفات لنرى منهجه في ذلك ، وقد وقفت على تفسيره لقوله تعالى { بل عجبت ويسخرون } (2) ولم يتبين لي مخالفته منهج السلف فيها حيث قال : "والعجب وإن أسند إلى الله فليس معناه كمعناه من العباد ألا ترى أنه قال { فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } وليس السخري من الله كمعناه من العباد وكذلك قوله { الله يستهزي بهم } ليس ذلك من الله كمعناه من العباد" (3) .
وكذلك عند قوله تعالى { كل يوم هو في شان } (4) حيث قال :
وقال الأزهري : "كان من أهل السنة" (5) .
مؤلفاته
1-معاني القرآن وسيأتي الكلام عليه
2- الأيام والليالي والشهور (6)
3- المقصور والممدود (7) .
4- المذكر والمؤنث (8) .
5- البهي أو البهاء (9) . وفيه أكثر ما في "الفصيح" لثعلب غير أن ثعلب رتبه على صورة أخرى (10) .
__________
(1) وفيات الأعيان ( 6/120)
(2) سورة الصافات آية رقم 12
(3) معاني القرآن (2/384)
(4) م
(5) تهذيب اللغة (1/19)
(6) مطبوع بتحقييق إبراهيم الأبياري .
(7) مطبوع بتحقيق ماجد الذهبي .
(8) مطبوع بتحقيق الدكتور رمضان عبدالتواب
(9) الفهرست ( ) معجم الأدباء ( ) كشف الظنون ( )
(10) وفيات الأعيان ( )(1/4)
6- الجمع والتثنية في القرآن (1) .
7- آلة الكتاب (2) .
8- الحدود (3) وهو في قواعد اللغة وأصول النحو وما سمع من العرب واختلف في عدد حدوده (4) .
9- الفاخر في الأمثال (5) .
10- الوقف والابتداء (6) .
10 اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف (7) .
وغيرها كثير (8) .
وفاته
توفي بطريق الحج سنة سبع ومائتين .
التعريف بالكتاب
يعد كتاب "معاني القرآن" من أهم مصنفات الفراء ؛ بل إنه من أهم وأقدم ما ألف في معاني القرآن ؛ قال الخطيب : "وذلك أن أول من صنف في ذلك – أي في معاني القرآن- من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنى ثم قطرب بن المستنير ثم الأخفش ، وصنف من الكوفيين الكسائي ثم الفراء" (9) .
وهو يجمع بين إعراب الآيات ومعانيها كما أنه يعنى بما يشكل من القرآن ويحتاج إلى بعض العناء في فهمه .
سبب تأليفه
__________
(1) الفهرست (ص ) معجم الأدباء ( ) بغية الوعاة ( )
(2) الفهرست (ص ) معجم الأدباء ( ) طبقات المفسرين للداودي ( )
(3) تاريخ بغداد ( ) الفهرست ( ) إنباه الرواة ( )
(4) مقدمة المذكر والمؤنث (ص ) ودراسة النحو الكوفي من خلال معاني القرآن للفراء (ص 86-88)
(5) الفهرست (ص ) معجم الأدباء ( ) هدية العارفين ( )
(6) الفهرست (ص ) معجم الأدباء ( ) وفيات الأعيان ( )
(7) الفهرست ( ) معجم الأدباء ( )
(8) حاول استقصاءها كل من الدكتور رمضان عبد التواب في مقدمة المذكر والمؤنث (ص ) والدكتور أحمد مكي الأنصاري في "أبو زكريا الفراء ومذهبه في النحو واللغة " ( 169-223) المختار أحمد ديره في "دراسة النحو الكوفي من خلال معاني القرآن للفراء" ( 79-101)
(9) تاريخ بغداد (14/155)(1/5)
قال أبو العباس ثعلب :"كان السبب في إملاء كتاب الفراء في المعاني أن عمر بن بكير كان من أصحابه ، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل ؛ فكتب إلى الفراء : إن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن ؛ فلا يحضرني فيه جواب ؛ فإن رأيت أن تجمع لي أصولا ؛ أو تجعل ذلك كتابا أرجع إليه فعلت " (1) .
طريقته في إملاء الكتاب
وصف الأمام ثعلب طريقة الفراء في إملاء الكتاب أنه قال لأصحابه : اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابا في القرآن ، وجعل لهم يوما ؛ فلما حضروا خرج إليهم ، وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة ؛ فالتفت إليه الفراء ؛ فقال له : اقرأ بفاتحة الكتاب نفسرها ثم مر في الكتاب كله ؛ يقرأ الرجل ، ويفسر الفراء (2) .
وقد حضر إملاء الكتاب جمع غفير لم يضبط عددهم ؛ عُد القضاة منهم ؛ فكانوا ثمانين قاضيا (3) .
روايات الكتاب
روي كتاب الفراء من طريقين هما :
الأولى : رواية محمد بن الجهم السمري ؛ قال في المقدمة : هذا كتاب فيه معاني القرآن أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء –رحمه الله – عن حفظه من غير نسخة في مجالسه أول النهار من أيام الثلاثاوات ، والجمع في شهر رمضان ، وما بعده من سنة اثنتين وفي شهور سنة ثلاث وشهور سنة أربع ومائتين (4) .
الثانية : رواية سلمة بن عاصم .
وهي التي اعتمدها القدماء ، وفضلوها على غيرها ، ولكن لم تصل إلينا نسختها ، قال ابن الأنباري مشيرا إلى أهمية هذه النسخة : "كتاب سلمة في معاني القرآن للفراء أجود الكتب ؛ لأن سلمة كان عالما ، وكان يراجع الفراء فيما عليه ويرجع عنه" (5) .
وهي رواية الأزهري (6)
منهج الفراء في عرض القراءات :
__________
(1) الفهرست (ص ) إنباه الرواة ( ) وفيات الأعيان ( )
(2) المصادر السابقة
(3) تاريخ بغداد ( ) نزهرة الأباء ( )
(4) معاني القرآن ( )
(5) نزهة الأدباء ( ) غاية النهاية (1/311)
(6) تهذيب اللغة (1/18)(1/6)
أولا : أسانيده في القراءات وطريقة إيرادها .
اهتم ـ رحمه الله ـ بذكر أسانيد القراءات إلى من تلقوها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وذلك أن الإسناد واتصاله من خصائص هذه الأمة , يأخذه الآخر عن الأول , ومن فوائد الأسانيد: معرفة المتواتر من الآحاد , والشاذ ,
قال الإمام ابن الجزري -رحمه الله- بعد ذكره أسانيد القراءات وطرقها : "وإنما ذكرت هذه الطرق , وإن كنت خرجت عن مقصود الكتاب , ليعلم مقدار علو الإسناد , وأنه كما قال يحي بن معين -رحمه الله- الإسناد العالي قربة إلى الله تعالى , وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - , وروينا عنه أنه قيل له في مرض موته : ما تشتهي ؟ فقال : بيت خال ، وإسناد عال ، وقال احمد بن حنبل الإسناد العالي سنة عمن سلف " (1) .
وقال كذلك : "وإذا كان صحة السند من أركان القراءة , تعين أن يعرف حال رجال القراءات كما يعرف أحوال رجال الحديث " (2) . ومن منهجه في سياق اسانيد القراءات ما يلي :
1- يروي القراءات عن الصحابة بالأسانيد الثابتة عنهم ومن الأمثلة :
(أ)- قال الفراء : "وحدثني قيس بن الربيع عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ { وأرجلكم } مقدم ومؤخر" (3) .
(ب)- قال الفراء : "وحدثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن رجل عن ابن عباس أن قرأ { يقضي بالحق } " (4) .
2- قد يسوق الإسناد , ثم يأتي بصيغة تدل على تمريض أو تضعيف هذا الإسناد أو القراءة ومثاله .
__________
(1) النشر في القراءات العشر (1/197)
(2) المصدر السابق (1/193)
(3) معاني القرآن ( ) سورة المائدة آية رقم 6
(4) معاني القرآن (1/338 ) . سورة الأنعام آية رقم 57 وسيرد أثناء البحث الكثير من أسانيده في القراءات .(1/7)
(أ) - في قوله تعالى : { خَتَمَ الله على قُلوبِهم وعلى سَمْعِهم وعلى أبْصارهِم غِشاوَةٌ } (1) قال : قرأها عاصم فيما حدثني المفضل , وزعم أن عاصماً أخذها عليه مرتين بالنصب , وكذلك قوله : { وحُورٌ عِين } " (2) .
3- كما أنه قد بين ما وقع في الإسناد من انقطاع , أو إبهام رجل , وهذان يدلان على علمه -رحمه الله - وحرصه أن ينقل العلم كما بلغه .
(أ) – عند قوله { مثَلُ الجنَّةِ التي وُعِدَ المتَّقونَ } (3) ؛ قال الفراء : "وحدثني بعض المشيخة عن الكلبي عن أبي عبدالرحمن السُّلمي أن علياً قرأها : { أمثال الجنة } قال الفراء : أظن دون أبي عبدالرحمن رجلاً قال : وجاء عن أبي عبدالرحمن ذلك , والجماعة على كتاب المصحف " (4) .
(ب)-
4- يذكر -أحيانا- طرق الإسناد , ويبين ما وقع فيه من اختلاف , أو اضطراب ، ومثاله :
(أ)- قال الفراء : "حدثني قيس والمفضل الضبي عن الأعمش عن إبراهيم , فأما المفضل فقال : عن علقمة عن عبدالله , وقال قيس : عن رجل عن عبدالله قال : قرأ رجل على عبدالله { والذِّينَ آمَنوا واتَّبَعَتْهُم ذُرِّيَّاتُهُم بإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِم ذُرِّيَّاتُهُم } (5) قال : فجعل عبدالله يقرؤها بالتوحيد " (6) .
(ب)- قال : "وحدثني شريك بن عبدالله , ومحمد بن عبد العزيز التميمي أبو سعيد عن مغيره عن مجاهد قال شريك : قرأ ابن عباس { عظاماً ناخرة } وقال محمد بإسناده عن مغيرة عن مجاهد قال : سمعت ابن الزبير يقول على المنبر : ما بال صبيان يقرؤون : { نخرة } وإنما هي { ناخرة } (7) .
5- قد يستخدم صيغة البلاغ دون ذكر السند ؛ مثاله :
__________
(1) سور البقرة آية رقم 7
(2) سورة الواقعة , أية رقم 22 . معاني القرآن (1/ 406 ) ينظر كذلك ( 3/231) من الكتاب نفسه .
(3) سور الرعد آية رقم 35 .
(4) معاني القرآن ( 2/65)
(5) سورة الطور آية رقم 21
(6) معاني القرآن ( 3 / 92) .
(7) معاني القرآن (3/231)(1/8)
(أ)- وقوله : {لَعَلَّكُم تُسلِمونَ } (1) قال الفراء : "وبلغنا عن ابن عباس أنه قرأ { لعلَّكُم تَسْلَمون } من الجراحات" (2) .
7 - قد يشكك في رفع القراءة أو وقفها مثاله :
(أ) - : " حدثنا الفراء قال حدثني الفضيل بن عياض عن منصور عن المنهال بن عمرو رفعه إلى عبدالله فيما أعلم شك الفراء قال : فلا أقسم بموقع النجوم , قال : بمحكم القرآن , وكان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجوماً (3) .
8- لا يصرح أحيانا باسم شيخه ؛ ويقول حدثني بعض المشيخة (4) أو . وقد يسوق الإسناد ثم يبين أنه لم يسمع من الراوي شيئا ؛ مثاله :
-قوله : { قالُوا رَبَّنَا غَلَبَت عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } (5) قال الفراء : حدثني شريك عن أبي إسحاق (وقيس) عن أبي إسحاق , وزهير بن معاوية أبو خيثمة الجعفي عن أبي إسحاق عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ { شَقَاوَتَنَا } بألف وفتح الشين , قيل : للفراء أأخبرك زهير ؟ فقال : يا هؤلاء إني لم أسمع من زهير شيئاً (6) .
9- لم يلتزم الصحة في أسانيد القراءات وقد روى عن الثقات والضعفاء والمتروكين مثل الكلبي (7) ، والحكم بن ظهير (8) .
ثانيا : منهجه في نسبة القراءات وعرضها :
1-أورد في كتابه مما أثر عن النبي صلى الله من قراءات .
(أ) – والعين بالعين (9)
(جـ)- قال : وحدثني حبّان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد اقتصاص أمر الجن { وَأَنَّ المَسِاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا } وكان عاصم يكسر ما كان من قول الجن , ويفتح ما كان من الوحي .
__________
(1) سورة النحل آية رقم 81
(2) معاني القرآن (2/112)
(3) معاني القرآن ( 3 / 129)
(5) سورة المؤمنون آية رقم 106 .
(6) معاني القرآن (2/242) وهذا يدخل فيما يسميه علماء مصطلح الحديث تدليس العطف .
(7) معاني القرآن ( ) ( ) ( )
(8) معاني القرآن (2/122)
(9) معاني القرآن (1/310)(1/9)
ـ ومن منهجه أنه يذكر كل قراءة في مكانها وهو الغالب , وقد يجمع مافي الكلمة من وجوه في الموضع الذي وردت فيه , والأمثلة في هذا كثيرة منها : " وقوله{وَلُؤْلُؤًا} (1) قرأ أهل المدينة هذه والتي في الملائكة { وَلُؤْلُؤًا } بالألف , وقرأ الأعمش كلتيهما بالخفض , ورأيتها في مصاحف عبدالله والتي في الحد خاصة { وَلُؤْلُؤأ} ولا تهجأه , وذلك أن مصاحفه قد أجرى الهمز فيها بالألف في كل حال إن كان ما قبلها مكسوراً أو مفتوحاً أو غير ذلك , والتي في الملائكة كتبت في مصاحفنا {ولؤلؤ} بغير ألف والتي في الحج {ولؤلؤا} بالألف فخفضهما ونصبهما جائز , ونصب التي في الحج أمكن ـ لمكان الألف ـ من التي في الملائكة" (2) .
ـ ولا عجب أن لا تجد ما هو دارج عند علماء القراءات من لفظ السبعة أو العشرة أو الأربعة عشر أو الأخوان , أو الشيخان , أو الابنان , وغير ذلك , لأنه أي : الفراء كان قبل أن تستقر هذه الألفاظ عند علماء القراءات .
ـ ثم إنه اتبع منهج في ذكره للأئمة الكرام الذين نقلوا لنا القراءات, فتارة يذكر اسم الشهرة , وهو كثير فيقول مثلاً قرأ الكسائي , وتارة يذكر اسم القارئ , ومن بعده في النسبة : قرأ يحيى بن وثاب , وقد يهمل , وهذا مخل , خاصة إذا شارك هذا العلم أكثر من شخص فلا يتبين حينئذ المراد, مثال ذلك قوله : وقرأ عبدالله , وأشد منه عندما يبهم من قرأ بالرواية مثل قوله : قرأ القراء , قرأ بعض المحدثين , قرأ المفسرون , قرأ الناس , قرأ العامة , وغيره .
__________
(1) سورة الحج : أية رقم 23 .
(2) معاني القرآن ( 2/ 220 ) .(1/10)
قلت : ولا يعجبني قوله : قرأت العوام , أو العامة (1) , أو الناس (2) ، فإنه قد يوقع الظن أنه لغة دون أن تكون رواية ؛ ومن هنا كان للطاعنين مدخل أمثال طه حسين , وجولد تسهير, وغيرهما ـ جازاهم الله بما يستحقون ـ .
ـ أنه يتوسع في شرح القراءة في أول موضع . فعندما تتكرر فإنه يذكر ما قيل فيها لغة أو تفسيراً على وجه الاختصار , ويشير إلى أن الكلام عليها تقدم , بيانه قوله : " وزعم الكسائي أنهم يؤثرون النصب إذا حالوا بين الفعل المضاف بصفة فيقولون : هو ضارب في غير شيء أ خاه , يتوهمون إذا حالوا بينهما أنهم نوَّنوا وليس قول من قال {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَه } (3) ولا { زُيِّنَ لكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلاَدِهِم شُرَكَاؤُهُم } (4) بشيء , وقد فُسّر ذلك , ونحويّو أهل المدينة ينشدون قوله :
فَزَجَجْتُهَا مُتمكّنًا زَجَّ القَلوصَ أبي مَزَادَهْ
قال الفراء باطل , والصواب :
زَجَّ القَلوصِ أبُو مَزَادَهْ (5)
__________
(1) وإن كان مصطلح "العامة " عرف في ذلك الزمان , أنه ما اتفق عليه أهل المدينة , وأهل الكوفة , أو أهل الحرمين , ينظر : الإبانة , (ص 100 ـ 101) .
(2) ينظر : معاني القرآن ( ج1/ 40 )
(3) سورة إبراهيم : أية رقم 47 .
(4) سورة الأنعام : أية رقم 137 .
(5) معاني القرآن , ( ج2/ 81 ـ 82 ) وينظر قراءة ( زين ) ( ج1 / 357)(1/11)
وقد يحيل على الموضع الأول من غير تفسيرها مثال ذلك : قوله : " والعرب تدخل الواو في جواب فلمّا و( حتى إذا ) وتلقيها , فمن ذلك قول الله تعالى { حَتّى إذا جَاؤُوهَا فُتِحَت } (1) وفي موضع آخر { وفُتِحَت } (2) وكلٌ صواب , وفي قراءة عبدالله { فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجِهَازِهِم وجَعَلَ السِقَايَةَ} (3) وفي قراءتنا بغير واو , وقد فسرناه في الأنبياء " (4) .
ـ كما أنه يبين إجماع القراء على قراءة ما , ثم يبين ما يتوجه عليها من معنى , بيان ذلك :
(أ)- {فمِنْهَا رَكُوبُهُم} (5) اجتمع القراء على فتح الراء لأن المعنى : فمنها ما يركبون , ويقوّي ذلك أن عائشة قرأت {فَمِنْهَا رَكُوبَتُهُم } ولو قرأ قارئ : فمنها رُكوبهم , كما تقول :منها أكلهم وشربهم ورُكوبهم كان وجهاً " (6) .
(ب)- وقد اجتمع القراء على كسر (إنا) في قوله :{ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرآنًا عَجَبًا } (7) واختلفوا فيما بعد ذلك " (8) .
ـ أنه يبين ويعلل مجيء قراءة في موضع واختلافها عن بقية المواضع . مثاله : " وسألت القراء عن {شان } فقال : أهمزة في كل القرآن إلا في سورة الرحمن ؟ لأنه مع آيات غير مهموزات , وشانه في كل يوم أن يميت ميتاً , ويولد مولوداً , ويغني ذا , ويفقر ذا, فيما لا يحصى من الفعل " (9) .
__________
(1) سورة الزمر : أية رقم 71 .
(2) سورة الزمر : أية رقم 73
(3) سورة يوسف : أية رقم 70 .
(4) سورة يوسف : أية رقم 70 .
(5) سورة يس : أية رقم 72
(6) معاني القرآن , ( ج2/ 381 ) .
(7) سورة الجن آية رقم 1
(9) معاني القرآن , ( ج3 / 113 ) .(1/12)
ـ أنه يستدل على صحة لفظ قراءة بما ورد من حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بنفس اللفظ مثال : "حدثنا الفراء قال : حدثني الكسائي عن رجل من بني أمية يقال له : سعد بن يحيى الأموي قال : سمعت ابن جريج يقرأ :{ فَشَارِبُونَ شَرْبَ الهِيمِ } (1) بالفتح , قال فذكرت ذلك لجعفر ابن محمد قال : فقال : أول ليست كذاك ؟ أما بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بُدَيل ابن ورقاء الخزاعي إلى أهل منى , فقال لهم : إنها أيام أكلٍ وشَرْبٍ وبِعالٍ " (2) .
ـ لم يقتصر توجيه القراءة باعتبار اللغة العربية بل تجاوزه إلى اللغات الأخرى كلغة بني إسرائيل , مثال ذلك : " وقوله { واذْكُر إسْمَاعِيلََ والَّّلْيَسَعَ } (3) قرأه أصحاب عبدالله بالتشديد , وقرأه العوام { الْيَسْعَ } بالتخفيف , والأول أشبه بالصواب , بأسماء الأنبياء من بني إسرائيل (4) .
ـ إذا اختلفت القراءة , واتفقت تفسيراً فإنه يبين ذلك مثاله : " وقوله : { بِنُصْبٍ وَعذاب } (5) اجتمعت القراء على ضم النون من { نُصبٍ } وتخفيفها , وذكروا أن أبا جعفر المدني قرأ { بنَصَبٍ وعذابٍ} ينصب النون والصاد , وكلاهما في التفسير واحد " (6) .
ثالثا : منهجه في اختيار القراءة
لقد كان للإمام الفراء اختيارات في القراءة , وهو ليس بدعا في ذلك ؛ إذ سبقه أئمة في هذا الشأن كان على رأسهم شيخه الإمام الكسائي , وقبل أن أذكر الأسس التي قام عليها اختيارات الفراء أبين معنى الاختيار فهو : الحرف الذي يختاره القارئ من بين مروياته مجتهداً في اختياره (7) .
__________
(1) سورة الواقعة : أية رقم 55 .
(2) معاني القرآن , ( ج3 / 127 ـ128 ) .
(3) سورة ص : أية رقم 48 .
(4) معاني القرآن ( ج2 / 407 ) .
(5) سورة ص : أية رقم 41 .
(6) معاني القرآن , ( ج2/ 405 ) .
(7) , القراءات القرآنية لعبد الهادي الفضلي ( ص : 103 )(1/13)
فنافع قرأ على سبعين من التابعين , واختار ما اتفق عليه اثنان وترك ما سواه , قال إسحاق المسيبي عن نافع قال : أدركت عدة من التابعين ؛ فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته , وما شذ فيه واحد تركته , حتى ألفت هذه القراءة (1) . وقد قرأ الكسائي على حمزة , وعنه أخذ القراءة , وهو يخالفه في نحو ثلاثمائة حرف , لأنه قرأ على غيره , فاختار من قراءة حمزة , ومن قراءة غيره قراءة , وترك منها كثيراً (2) .
قال القرطبي : "وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء , وذلك أن كل واحد منهم اختار مما روى , وعلم وجهه من القراءة , وما هو الأحسن عنده والأولى , فالتزم طريقه , ورواه , وأقرأ به , واشتهر عنه , وعرف به , ونسب إليه . فقيل : حرف نافع ؛ أو حرف ابن كثير " (3) .
وقد كان الاختيار ديدن السلف قبل أن يسبع ابن مجاهد السبعة , ويدل على ذلك حين سئل الإمام ابن مجاهد فقيل له : لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفاً يعلم عليه ؟ فقال : نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا " (4) .
ومن المناسب الإشارة إلى أن اجتهاد القراء واختيارهم لم يكن في وضع القراءات كما توهم البعض , وإنما في اختيار الرواية , وفرق بين الاجتهاد في اختيار الرواية والاجتهاد في وضع القراءة ، والحضر المجمع عليه عند المسلمين منصب على الاجتهاد في وضع القراءات لا الاجتهاد في اختيار الرواية (5) .
قال ابن الجزري : "فلذلك أضيفت إليه القراءة دون غيره من القراء ، وهذه الإضافة إضافة اختيار ولزوم لا إضافة اختراع ورأي اجتهاد " (6) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء (7/256 )
(2) الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن طالب (ص : 55) ,
(3) الجامع لأحكام القرآن , (15/40 )
(4) غاية النهاية (1/142)
(5) القراءات القرآنية لعبد الهادي الفضلي ( ص : 106 )
(6) النشر في القراءات العشر (1/52)(1/14)
وأكثر اختيارات العلماء , ومنهم : الإمام الفراء , إنما هو في الحرف إذا اجتمع فيه ثلاثة أركان : ـ
1ـ قوة وجهه في العربية .
2ـ موافقته للمصحف .
3ـ اجتماع العامة عليه .
" والعامة عندهم ما اتفق عليه أهل المدينة , وأهل الكوفة , فذلك عندهم حجة قوية , يوجب الاختيار , وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين , وربما جعلوا الاختيار على ما اتفق عليه نافع وعاصم " (1) .
ومن منهجه في الاختيار ما يلي :
1- استعمل الفراء طائفة من التراكيب التي تدل على اختياره أو ترجيحه لقراءة على أخرى ؛ منها مثلا : "إنه لأحب الوجهين إلي" و "الرفع أحب إلي من الجزم" و "الرفع أجود" و "والوجه الأول أحسن" و "لست أشتهي ذلك" و "لست أشتهيه" . ومثل هذه الأحكام نجدها مبثوثة في كتابه "معاني القرآن" (2) .
2ـ يهتم ويشير إلى اختيارات من سبقه من القراء ، ومن الأمثلة : .
(أ)- قوله : { مِنْهُ يَصِدُّونَ } (3) قال : "حدثني أبو بكر بن عياش عن عاصم : أنه ترك (يصدون) من قراءة أبي عبدالرحمن , وقرأ (يصِدون) , قال الفراء : وقال أبو بكر : حدثني عاصم عن أبي رزين عن أبي يحيى : أن ابن عباس قرأ {يَصِدون} أي : يضجون يعِجون " (4) .
(ب)- { هَذَا للهِ بِزَعْمِهِم } (5) قال : " زُعمِهم , وزِعمِهِم , ثلاث لغات , ولم يقرأ بكسر الزاي أحد نعلمه , والعرب قد تجعل الحرف في مثل هذا , فيقولون : الفَتْك , والفِتك , والوُدّ , والوِدّ , في أشباه لها ,وأجود ما اختارته القراء الذين يؤثر عنهم القراءة " (6) .
__________
(1) غاية النهاية (1 / 142) .
(2) معاني القرآن (1/276) (2/233، 364،383) (3/14 ،184 ،256، 202 ) وسترد هذه الألفاظ وغيرها في الأمثلة التالية .
(3) سورة الزخرف : آية رقم 57 .
(4) معاني القرآن (3 / 36ـ37 )
(5) سورة الأنعام : أية رقم 136 .
(6) معاني القرآن , ( ج1 / 356 ) .(1/15)
(جـ)- قوله : " وربما آثرت القراء أحد الوجهين , أو يأتي ذلك في الكتاب بوجه فيرى من لا يعلم أنه لا يجوز غيره , وهو جائز و ومما أثروا من التأنيث : { يَومَ تَبْيَّضُ وُجُوهٌ وتَسْوِّدُ وُجُوهٌ} (1) فآثروا التأنيث , ومما آثروا فيه التذكير : { لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا ولاَ دِمَاؤهَا } (2) والذي أتى في الكتاب بأحد الوجهين قوله : { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } (3) ولو أتى التذكير كان صواباً (4) .
3ـ قد يختار الإمام الفراء قراءة على قراءة ؛ لكونها أسلم أو أصح أو أجود إعراباً , مثال ذلك :
(أ)- قوله { وَرِيشاً ولِبَاسُ التَّقْوَىَ } (5) ، قال الفراء : " { لباس التقوى } يرفع بقوله : ولباس التقوى خير , ويجعل { ذلك } من نعته , وهي في قراءة أبيّ وعبدالله جميعاً : ولباس التقوى خير . وفي قراءتنا :{ ذلك خير } فنصب اللباس أحب إليّ , لأنه تابع الريش , { ذلك خير } فرفع خير بذلك " (6) .
(ب)- قوله { فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } (7) ، قال : "رفع بالاستئناف كقولك : رأيت الناس شقي وسعيد , ولو كان فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير كان صواباً , والرفع أجود في العربية " (8) .
(جـ) - قوله {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } (9) قال : "قرأها الحسن والأعمش وعاصم { مَقَامٍ } وقرأها أهل المدينة {فِي مُقَامٍ } بضم الميم , والمَقام بفتح الميم أجود في العربية , لأنه المكان , والمُقام : الإقامة , وكلٌ صواب" (10) .
__________
(1) سورة آل عمران : أية رقم 106
(2) سورة الحج : أية رقم 37 .
(3) سورة الزمر : أية رقم 71
(4) معاني القرآن , ( ج1/ 379 )
(5) سورة الأعراف : آية رقم 26
(6) معاني القرآن , (3 / 375) .
(7) سورة الشورى : أية رقم 7
(8) معاني القرآن , (3 / 22) .
(9) سورة الدخان : أية رقم 51
(10) معاني القرآن , (3 / 44 ) .(1/16)
(د)- قوله { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ } (1) قال : "وهي في قراءة عبدالله بالفاء ( نُرَدُّ فَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَات رَبِّنَا) فمن قرأها كذلك جاز النصب على الجواب , والرفع على الاستئناف , أي فلسنا نكذب . وفي قراءتنا بالواو , فالرفع في قراءتنا أجود من النصب , والنصب جائز على الصرف , كقولك : لا يسعني شيء ويضيق عنك" (2) .
4ـ قد يختار إحدى القراءتين لأنها الموافقة لمصاحف الصحابة ، أو مصاحف بعضهم ، أو لما في مصحفه هو ومن الأمثلة
(أ) - قوله : { إِنَّنِي بَرَاء مِمّا تَعْبُدُونَ } (3) قال : " العرب تقول : نحن منك البراء والخلاء , والواحد والاثنان والجميع من المؤنث والمذكر يقال فيه : براء , لأنه مصدر , ولو قال : { بريء } لقيل في الاثنين : بريئان , وفي القوم : بريئون , وبرءاء , وهي في قراءة عبدالله :{ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّ تَعْبُدُونَ } ولو قرأها قارئ كان صواباً موافقاً لقراءتنا , لأن العرب تكتب : يستهزئ يستهزأ فيجعلون الهمزة مكتوبة بالألف في كل حالاتها . يكتبون شيء شيأ ومثله كثير في مصاحف عبدالله , وفي مصحفنا : ويهيئ لكم , ويهيأ بالألف " (4) .
(ب)- عند قوله {مثَلُ الجنَّةِ التي وُعِدَ المتَّقونَ} (5) ؛ قال الفراء : "وجاء عن أبي عبد الرحمن ذلك -يعني قراءة (أمثال الجنة)- والجماعة على كتاب المصحف" (6) .
__________
(1) سورة الأنعام : آية رقم 27
(2) معاني القرآن (1/ 286 ) .
(3) سورة الزخرف : آية رقم 26 .
(4) معاني القرآن , (3 /30 ) .
(5) سور الرعد , آية رقم 35 .
(6) معاني القرآن , ( ج2/65)(1/17)
(جـ ) - قوله : { قَالُوا لَئِن لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنا } (1) ؛ قال : " نصب بالدعاء { لَئِن لَمْ يَرْحمْنَا رَبَّنَا } ويقرأ { لَئِن لَمْ يَرْحمْنَا رَبُّنا } والنصب أحب إليّ , لأنها في مصحف عبدالله { قَالُوا لَئِن لَمْ تَرْحَمْنَا } (2) .
5ـ قد يختار القراءة لكونها مناسبة لما قبلها من قراءات , مثاله :
(أ)- قوله { وَرِيَّا } (3) ؛ قال : "وأهل المدينة يقرءونها بغير همزٍ { وَرِيَّا } وهو وجه جيد , لأنه مع آيات لسن بمهموزات الأواخر .وقد ذكر عن بعضهم أنه ذهب بالري إلى رَوِيت" (4) .
6- قد يختار قراءة على قراءة باعتبار أنها تناسب سياق الآية ؛ مثاله :
(أ) -قوله : { هُلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالمَلاَئِكَةُ } (5) قال : " رفع مردود على { الله } تبارك وتعالى , وقد خفضها بعض أهل المدينة : يريد { في ظللِ من الغمام وفي الملائكةِ } والرفع أجود , لأنها في قراءة عبدالله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام } (6) .
__________
(1) سورة الأعراف : أية رقم 149 .
(2) معاني القرآن , (ج1 / 393)
(4) معاني القرآن , ( ج2 / 171 )
(5) سورة البقرة : أية رقم 259 .
(6) معاني القرآن , ( ج1 / 124 )(1/18)
(ب)-قوله { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعُلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ } (1) قال : " جزمها ابن عباس , وهي في قراءة أُبيّ , وعبدالله جميعاً { قيل له اعْلَمْ } واحتج ابن عباس فقال : أهو خير من إبراهيم وأفقه ؟ فقد قيل له :{ واعْلَمْ أَنِّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) ، والعامة تقرأ { أعلم أن الله } وهو وجه حسن , لأن المعنى كقول الرجل عند القدرة تتبين أن له من أمر الله : (أشهد أن لا إله إلا الله) والوجه الآخر أيضاً بين " (3) .
(جـ) - قوله تعالى : { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ } (4) : " قد فتحت القُراء الألف من (أنه) ومن قوله {أنَّ الدينَ عندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} (5) جعلت (أنه) على الشرط , وجعلت الشهادة واقعة على قوله { إِنَّ الدَّينَ عِندَ اللهِ الإِسلامُ } , وتكون {أنّ} الأولى يصلح فيها الخفض كقولك : شهد الله بتوحيده أن الدين عنده الإسلام , وإن شئت استأنفت (إن الدين) بكسرتها , وأوقعت الشهادة على { أنه لا إله إلا هو } , وكذلك قرأها حمزة , وهو أحب الوجهين إليّ " (6) .
7ـ يفاضل بين القراءتين باعتبار أن إحداهما تفيد معنى زائدا .
(أ)- قوله تعالى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } (7) ، قال : " بالياء , وهي في قراءة عبدالله إن شاء الله { يتطهرن } بالتاء والقراء بعد يقرءون { حتى يَطْهُرن } و{ ويَطَّهَّرن } (يَطْهُرن) : ينقطع عنهن الدم , ويتطهرن : يغتسلن بالماء وهو أحبُّ الوجهين إلينا : يطَّهَّرن " (8) .
8ـ أنه يختار قراءةً بناءً قاعدة الترسل , والترتيل , وإشباع الكلام بيان ذلك
__________
(1) سورة البقرة :
(2) سورة البقرة : آية رقم 260
(3) معاني القرآن , ( ج1 / 173ـ 174 )
(4) سورة آل عمران : أية رقم 18
(5) سورة آل عمران : أية رقم 19 .
(6) معاني القرآن (1/ 199ـ 200 ) .
(7) سورة البقرة : أية رقم 222 .
(8) معاني القرآن (1/ 142 )(1/19)
(أ) - قوله { قُل هَل تَرَبَّصُونَ بِنَا إلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيَنِ} (1) .قال : "والعرب تدغم اللام من (هل) و (بل) عند التاء خاصة , وهو في كلامهم عالٍ كثير . يقول : هَل تدري , وهتَّدري , فقرأها القراء على ذلك , وإنما استحبّ في القراءة خاصة تبيان ذلك . لأنهما منفصلان ليسا على حرف واحد , وإنما بني القرآن على الترسل والترتيل وإشباع الكلام , فتبيانه أحب إلي من إدغامه , وقد أدغم القراء الكبار , وكلٌ صواب " (2) .
12ـ أنه يختار لكونه أكثر استعمالاً مثاله : وقوله : { وهُم يَخِصِّمُون } (3) قرأها يحيى بن وثاب { يخصِمُون } وقرأها عاصم { يَخِصِّمون } ينصب الياء , ويكسر الخاء , ويجوز نصب الخاء لأن التاء كانت تكون منصوبة , فنقل إعرابها إلى الخاء , والكسر أكثر , وأجود وقرأها أهل الحجاز { يَخْصّمون } يشددون , ويجمعون بين ساكنين , وهي في قراءة أبيّ بن كعب { يختَصِمون } فهذه حجة لمن يشدد , وأما معنى يحي بن وثّاب فيكون على معنى يَفْعَلُون من الخصُومة كأنه قال : وهم يتكلمون , ويكون على وجه آخر: وهم يخصمون , وهم في أنفسهم يخصمون من وعدهم الساعة , وهو وجه حسن أي تأخذهم الساعة , لأن المعنى : وهم عند أنفسهم يَغلبون من قال لهم : إن الساعة آتية " (4) .
9ـ يختار قراءة لكونها قراءة الجمع من الصحابة .
(أ)- قوله : { بَلْ عَجِبتَ ويَسْخَرُونَ } (5) قرأها الناس بنصب التاء ورفعها , والرفع أحب إليَ لأنها قراءة عَلِيّ , وابن مسعود ،وعبدالله بن عباس (6) .
(ب)-
14ـ قد يختار قراءة لأنها قراءة شيخه الكسائي .
__________
(2) معاني القرآن ( )
(3) سورة يس : أية رقم 49 .
(4) معاني القرآن , ( ج2 / 379 )
(5) سورة الصافات : أية رقم 12 .
(6) معاني القرآن , ( ج2/ 384 ) .(1/20)
(أ)-قوله تبارك وتعالى { إِنّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البَرَّ الرَّحِيمُ } (1) إنه قرأها عاصم والأعمش والحسن { إِنَّه } بكسر الألف , وقرأها أبو جعفر المدني , ونافع { أَنّه } , فمن كسر استأنف , ومن نصب أراد : كُنّا ندعوه بأنه برٌ رحيمٌ , وهو وجه حسن . قال الفراء : الكسائي يفتح {أنّه} وأنا أكسر , وإنما قلت : حسن , لأن الكسائي قراءه " (2) .
15ـ يختار أحد الوجهين في القراءة باعتبار الوقف وعدمه .
(أ) - قوله عز وجل { ن وَالقَلَمِ } (3) قال : "تخفى النون الآخرة , وتظهرها , وإظهارها أعجب لي , لأنها هجاء, والهجاء كالوقوف عليه , وإن اتصل , ومن أخفاها بنى على الاتصال , وقد قرأ القراء بالوجهين , كان الأعمش وحمزة يبينانها , وبعضهم يترك التبيان " (4) .
16ـ وقد يختار , ويرجح قراءة لأنها شبيهة بمجيء التتريل ، أو موافقة لرؤوس الآيات مثاله :
(أ)- قال :"وحدثني مندل عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه قرأ : { ناخرة } وقرأ أهل المدينة والحسن : { نخرة } ، و { ناخرة } أجود الوجهين في القراءة , لأن الآيات بالألف . ألا ترى أن { ناخرة } مع { الحافرة } و{ الساهرة } أشبه بمجيء التتريل , و { الناخرة } و { النخرة } سواء في المعنى " (5) .
__________
(1) سورة الطور : أية رقم 28 .
(2) معاني القرآن , ( ج3 / 93 )
(3) سورة القلم آية رقم 1
(4) معاني القرآن , ( ج3 / 172 ) .
(5) معاني القرآن , ( ج3 / 231ـ 232 ) .(1/21)
(ب) – قوله { سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } (1) معناه الأدبار , وكأن القرآن نزل على ما يستحب العرب من موافقة المقاطع , ألا ترى أنه قال : { إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ } (2) فثقل في { اقْتَرَبَتِ } (3) لأن آياتها مثقلة . قال : { فَحَاسْبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا } (4) فاجتمع القراء على تثقيل الأول , وتخفيف هذا , ومثل { الشَّمْسُ والقَمَرٌ بِحُسْبَانٍ } (5) وقال : { جَزَاء مِنْ ربِّكَ عَطَاء حِسَابًا } (6) فأجريت رؤوس الآيات على هذه المجاري , وهو أكثر من أن يضبطه الكتاب , ولكنك تكتفي بهذا منه إن شاء الله (7) .
(جـ ) - " وهي في قراءة عبدالله محذوف الياء ( الزان ) مثل ما جرى في كتاب الله كثيراً من حذف الياء من الداع والمنادِ والمتهدِ , وما أشبه ذلك , وقد فُسِّر" (8) .
رابعا : علل رده للقراءات
ولا يعني مما تقدم أن الإمام الفراء يقرأ بما جاز من اللغة , أو وافق النحو الكوفي دون الرواية , فهذا لم يقل به أحد ,
قال في تفسير سورة الزخرف : " حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال : وقد أخبرني بعض المشيخة أظنه الكسائي : أنه بلغه أن بعض القراء قرأ { أمَا أنا خير } وقال لي هذا الشيخ : لو حفظت الأثر فيه لقرأت به , وهو جيد في المعنى " (9) .
كما أنه لا يغتفر له أنه أنزل كلام الله عن قدسيته , وشرع يحاكمه بما جاز للغة , وكأن اللغة هي الأصل دون الرواية , فالرجل لم يكن جاهلاً حين ضعف , أو رد قراءة
__________
(1) سورة القمر آية رقم 45
(2) سورة القمر آية رقم 6
(3) سورة القمر آية رقم 1
(4) سورة الطلاق آية رقم 8
(5) سورة الرحمن آية رقم 5
(6) سورة النبأ آية رقم 36
(7) معاني القرآن , ( ج3 / 224 ) .
(8) معاني القرآن , ( ج2 / 245 ) .
(9) معاني القرآن , ( ج3 / 35 ) .(1/22)
كما أن الفراء ـ رحمه الله ـ أطلق لنفسه العنان , فراح يحاكم القرآن بما هو معرف عند أهل اللغة , ودرج من بعده من درج , ومنهم المستشرقون . فالقراءة إذا ثبتت لا يردها فشو لغة أو نحو كوفي أو بصري , .
وعندنا أنه ما كان يحق للطنافسي أن يقول ما قال , فالقراءات ـ لابد ـ توقيفية , وليست اختيارية , وإلا وجد شك , والوهم سبيلهما إلى آي الكتاب .
وحتى أن الطبري المفسر يفاضل بين القراءات .
والقرآن ـ بلا ريب ـ أجل وأخطر من أن يقرأه مسلم برأيه المجرد , والقراءة ـ كما يقرر المسلمون ـ سنة متبعة , وقد كان رؤساء الصحابة ينكرون تفضيل قراءة على قراءة من أي وجه .
وكان أبو العالية أحد أئمة القراءات إذا قرأ عند رجل ـ أي بقراءة لم يعرفها ـ لم يقل له ليس كما قرأت , ويقول : "أما أنا فأقرأ كذا " وهذا ـ كما يقول القاري ـ " من كمال احتياطه في تورعه " .
ويقول علي القاري : "فبلغ ذلك القول من أبي العالية إبراهيم النخعي التيمي , فقال : "أُراه ـ بضم الهمزة ـ أي أظنه سمع أن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله , لأن الكفر ببعضه يؤذن بالكفر بكله , بخلاف الإيمان ببعضه , فإنه لا يقوم مقام الإيمان بكله " .
وقد روي عن الإمام احمد أنه من أجاب في شأن عاصم : "أهل الكوفة يختارون قراءة وأنا أختارها " (1) .
وقد حكى أبو عمرو الزاهد في كتاب "اليواقيت" عن ثعلب أنه قال : إذا اختلف الإعرابان في القراءات لم أُفضِّل إعراباً على إعراب , فإذا خرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى (2) .
وقال أبو جعفر النحاس : " السلامة عند أهل الدين ـ إذا صحت القراءتان ـ ألاّ يقال: إحداهما أجود , لأنهما جميعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيأثم من قال ذلك " (3) .
__________
(1) مقدمة محقق الكتاب عبدالواحد بن محمد المالقي , شرح كتاب التيسير للداني في القراءات المسمى الدر النثير والعذب النمير , ص23ـ24(1/23)
وقال أيضاً ـ وقد حكى اختلافهم في ترجيح { فَكُّ رَقَبَةٍ } في سورة البلد بالمصدرية , والفعلية ـ : "والديانة تحظر الطعن على القراءة التي قرأ بها الجماعة , ولا يجوز أن تكون مأخوذة إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
وقد روي عن الإمام أحمد أنه من أجاب في شأن عاصم : " أهل الكوفة يختارون قراءة وأنا أختارها " (2) .
فقد نهج ـ عفا الله عنه ـ في رده للقراءات على :ـ
1ـ قد يرد القراءة ولا يبين سبب الرد , مثال ذلك قوله : " وأما ابن عباس , وابن مسعود فقالا : قد قال الله عز وجل : { وجَحَدوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم } (3) قال الفراء : والفتح أحب إليّ , وقال بعضهم : قرأ الكسائي بالرفع , فقال : أخالفه أشدّ الخلاف" (4) .
2ـ أنه قد يرد قراءة ما بسبب شذوذها وما يترتب عليها من معنى فاسد للآية , ولا تثريب عليه في ذلك . مثال ذلك :
(أ)- قوله { إِنّ ابْنَكَ سَرَقَ } قال : " ويقرأ { سُرُّق }ولا أشتهيها , لأنها شاذة , وكأنه ذهب إلى أنه لا يستحل أن يسرَّق ولم يسرِق (5) .
3ـ أنه قد يرد , ويوهن قراءة ما , ويحدد الطبقة التي وقع فيها الوهم . مثال ذلك :
__________
(2) مقدمة محقق الكتاب عبدالواحد بن محمد المالقي , شرح كتاب التيسير للداني في القراءات المسمى الدر النثير والعذب النمير , ص23ـ24
(3) سورة النمل : أية رقم 14
(4) معاني القرآن , ( ج2 / 132 ) .
(5) معاني القرآن , ( ج2/ 53 ) .(1/24)
(أ)- قوله :{ ما أنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُم بِمُصْرِخِيَّ } (1) قال :"وقد خفض الياء من قوله { بِمُصْرِخِيّ } الأعمش , ويحيى بن وثاب جميعاً . حدثني القاسم بن معن عن الأعمش عن يحيى أنه خفض الياء , قال الفراء : ولعلها من وَهم القرّاء طبقة يحيى فإنه قل من سلم منهم من الوهَم , ولعله ظن أن الباء في {بمصرخي} خافضة للحرف كله والياء من المتكلم خارجة عن ذلك , ومما نرى أنهم أوهموا فيه قوله { نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ } (2) ظنوا ـ والله أعلم ـ أن الجزم في الهاء , والهاء في موضع نصب , وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه . ومما أوهموا فيه قوله { ومَا تَنَزَّلَت بِه الشَيِاطون } (3) " (4) .
4ـ قد يرد القراءة لمخالفتها النحو , والقياسات اللغوية , وهذا العمل من هذا الإمام غير مقبول إذ من المعلوم أنه إذا كانت القراءة ثابتة متواترة قد أطبقت الأمة على قبولها وقبول معناها , فلا يجوز ردها , وإن الأصل في قبول القراءة وردها هو التلقي والرواية لا العلل النحوية . مثاله : "وقوله {الذِّينَ تَسَاءلُونَ بِهِ و الأرْحَامَ} (5) فنصب الأرحام , يريد واتقوا الأرحام أن تقطعوها .
قال حدثنا الفراء قال : حدثني شريك بن عبدالله عن الأعمش عن إبراهيم أنه خفض الأرحام , قال : وهو كقولهم : بالله والرحم , وفيه قبح , لأن العرب لا ترد مخفوضاً على مخفوض , وقد كُني عنه ... وإنما يجوز هذا في الشعر لضيقه " (6) .
5ـ كما أنه قد يرد قراءة بسبب عدم موافقته لرسم المصحف . ومثاله :
__________
(1) سورة إبراهيم : أية رقم 22 .
(2) سورة النساء : أية رقم 115
(3) سورة الشعراء : أية رقم 210
(4) معاني القرآن , ( ج2/ 75 ـ 76 )
(5) سورة النساء : أية رقم 1 .
(6) معاني القرآن , ( ج1/ 252ـ253 ) .(1/25)
(أ) - قوله {فَمَا آتانِ اللهُ } (1) ولم يقل{ فَمَا أتَاني اللهُ } لأنها محذوفة الياء من الكتاب , فمن كان ممن يستجيز الزيادة في كتاب الله من الياء والواو اللاتي يحذفن مثل قوله {وَيَدْعُو الإِنسَانُ بِالشَّرِّ } (2) فيثبت الواو وليست في المصحف , أو يقول المنادي للمناد جاز له أن يقول { أَتُمِدُونَنِ } بإثبات الياء , وجاز له أن يحركها إلى النصب كما قيل {ومَالِيَ لا أَعبدُ} فكذلك يجوز {فما آتاني الله} ولست أشتهي ذلك ولا أخذ به , اتباع المصحف إذا وجدتُ له وجهاً من كلام العرب , وقراءة القراء أحبُّ إليّ من خلافه , وقد كان أبو عمرو يقرأ {إنْ هذَيْنِ لَساحِرانِ} (3) ,ولست أجترئ على ذلك وقرأ {فأصّدّقَ وأكون} (4) فزاد واواً في الكتاب , ولستُ أستحبُ ذلك " (5) .
6ـ كما أنه قد يرد قراءة لكونها مخالفة للتفسير أو إجماع القراء , مثاله : " وقوله { ولاَ يَسْألُ حَمِيمٌ حمِيماً } (6) لا يسأل ذو قرابة عن قرابته , ولكنهم يعرَّفونهم بالبناء المجهول ساعة , ثم لا تعارف بعد تلك الساعة , وقد قرأ بعضهم : { ولاَ يُسئلُ حَمِيمٌ حميماً} لا يقال لحميم : أين حميمك ؟ ولست أشتهي ذلك , لأنه مخالفة للتفسير , ولأن القراء مجتمعون على {يَسْأل}" (7) .
11ـ كما أن الإمام الفراء يبين كيفية قراءة على حسب السورة أو المخاطب , وهذا المثال من أوضح الواضحات على تمكن الإمام في علوم كثيرة , ومنها التفسير والقراءات , فرحمه الله رحمة واسعة , بيان ذلك قوله :
__________
(1) سورة النمل : أية رقم 36 .
(2) سورة الإسراء : أية رقم 11 .
(3) سورة طه : أية رقم 63 .
(4) سورة المنافقون : أية رقم 10
(5) معاني القرآن , ( ج3 / 184 ) .
(6) سورة المعارج : أية رقم 10 .
(7) معاني القرآن , ( ج3 / 184 )(1/26)
فأما الذين فتحوا كلها فإنهم ردّوا (أنّ) في كل السورة على قوله : فآمنا به , وآمنا بكل ذلك , ففتحت (أن) لوقوع الإيمان عليها , وأنت مع ذلك تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح , ويقبح في بعض , ولا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح , فإن الذي يقبح من ظهور الإيمان قد يحسن فيه فعلُ مضارعٌ للإيمان يوجب فتح (أن) كما قالت العرب :
إذَا ما الغانيات بَرَزْنَ يومًا وزَجّجن الحواجب والعُيونا
فنصب العيون باتباعها الحواجب , وهي لا تزجج إنما تكحّل , فأضمر لها الكحل , وكذلك يضمر الموضع الذي لا يحسن في آمنّا , ويحسن صدقنا , وألهمنا , وشهدنا , ويقوي النصب قوله : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ } (1) فينبغي لمن كسر أن يحذف ( أنْ ) من ( لو ) لأن ( أنْ) لم تكن في حكاية . ألا ترى أنك تقول : أقول لو فعلتَ لفعلتُ , ولا تدخل ( أنْ).
أضمروا وأما الذين كسروا كلها فهم في ذلك يقولون : { وأنْ لَوِ اسْتَقَامُوا } فكأنهم يميناً مع لو , وقطعوها عن النسق على أول الكلام , فقالوا : والله لو استقاموا , والعرب تدخل أن في هذا الموضع مع اليمني , تحذفها .قال الشاعر:
فأقسمُ لو شيء أتانا رسُوله سواك , ولكن لم نجدْ لك مدفعًا
وأنشدني آخر :
أما واللهِ أنْ لو كُنت حُرّا وما بالحُرِّ أنتَ ولا العتيقِ
ومن كسر كلها ونصب : { وأن المساجد لله } خصّه الله بالوحي , وجعل : وأنْ لو مضمرة فيها اليمين على ما وصفت لك " (2) .
__________
(1) سورة الجن : أية رقم 16 .
(2) معاني القرآن , ( ج3 / 191 ـ192 ) .(1/27)