سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (23)
بقلم
مجيد خلف منشد
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
l
تمهيد:
من المهم أن نوضح الأسس التي اعتمدها ابن حزم لتقسيم كتابه وكيفية ترتيب العقائد المختلفة، لأن هذه النقطة ضرورية إذا ما علمنا أن ما يميز كتاب الفصل، من حيث التصميم، أنه يعتمد على العقائد في تبويب مادته أكثر ما اعتماده على الفرق، بعبارة أخرى أنه درس الفرق المختلفة من خلال عقائدها. وهذا منهج جمع فيه ابن حزم بين منهجين مختلفين، الأول منهج كتاب الملل والنّحَل، والثاني منهج المتكلمين في بحثهم مختلف المسائل الكلامية. وعلى هذا الأساس يمكن أن نحدد خطة كتابه وفق هذه المحاور.
المحور الأول: مبحث التوحيد، وقد تضمن هذا المحور مبحث نفي التشبيه(1)، والصفات واعتنى اعتناءً شديداً بالأخيرة(2)، كما أنه يبحث أسماء الله تعالى والتي لا تفرق عن الصفات شيئاً بنظره
(3)، وهو في كل ذلك يذكر مقالات الفرق المختلفة مركزاً على الصفات التي هي مثار نزاع بين المتكلمين، ويهتم على الأخص بصفتين الأولى الرؤية(4) والثانية كلام الله تعالى(5).
المحور الثاني: مبحث القدر، وهو من المسائل المعقدة، والكثيرة التداخل عند المتكلمين، وبعد أن ينهي الكلام فيه يدخل إلى أمور عديدة تابعة له ومتداخلة معه مثل الاستطاعة، ثم الهدى والتوفيق ويبحث أيضاً الكلام في خلق أفعال العباد مثل التعديل والتجوير منبهاً على مسائل مهمة مثل قوله على المسألة الأخيرة: "وهذا الباب هو أصل ضلال المعتزلة نعوذ بالله من ذلك"(6)، ونجده يهتم بهذا الباب اهتماماً خاصاً يستغرق بحثه كلاماً طويلاً(7).
__________
(1) الفصل، (2/277- 281).
(2) الفصل، (2/283- 330).
(3) الفصل، (3/7).
(4) الفصل، (3/7- 10).
(5) الفصل، (3/11- 30).
(6) الفصل، (137).
(7) الفصل، (3/137- 179).(1/1)
المحور الثالث: مبحث الإدارة: ويحمل في كتاب ابن حزم عنواناً مطولاً هو: "الكلام في هل شاء الله عز وجل كون الكفر والفسق، وأراده تعالى من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه"
(1)، وبطبيعة الحال نجده كما عهدنا في السابق، يطيل الكلام في هذه المسألة معرجاً في النهاية على ذلك المبحث الذي اشتهرت به المعتزلة وهو القول بالأصلح(2).
المحور الرابع: مبحث الإيمان ويحمل عنواناً مستقلاً هو: "كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد"(3). ويعتني ابن حزم اعتناءً خاصاً بهذا المحور من كتابه ويبحثه من مختلف الجوانب وتدل الصفحات الكثيرة التي كتبها على هذه العناية(4). وهو لا ينتهي من هذا المحور حتى يجعل الكلام في عصمة الأنبياء من ضمن مباحثه(5)، وأخيراً يصل إلى الكلام في الوعد والوعيد وهذه هي نهاية هذا المحور.
المحور الخامس: مبحث السمعيات، وهي المسائل الكلامية الفرعية والتي كان لكل طائفة من المتكلمين نصيب فيها، مثل عذاب القبر(6)، ومستقر الأرواح(7)، وبعث الأجساد وغيرها(8) .
المحور السادس: مبحث الإمامة، وقد أدرج فيه كلام على مواضيع كثيرة أهمها مسألة المفاضلة بين الصحابة، وما يتعلق بالإمامة من أمور مثل: الكلام في إمامة المفضول(9)، وعقد الإمامة(10).
المحور السابع: المبحث الكلامي، وفيه اعتنى بالمسائل الكلامية المعقدة مثل الكلام في الاسم والمسمى(11) والمعاني والجواهر(12) والأعراض(13) وغيرها من المسائل الكلامية الدائرة على ألسنة الفلاسفة.
__________
(1) الفصل، (3/179).
(2) الفصل، (3/201).
(3) الفصل، (3/227).
(4) الفصل، (3/227- 302).
(5) الفصل، (4/5- 60).
(6) الفصل، (4/117).
(7) الفصل، (4/121).
(8) الفصل، (4/137).
(9) الفصل، (5/5- 12).
(10) الفصل، (5/ 13- 18).
(11) الفصل، (5/135).
(12) الفصل، (5/161).
(13) الفصل، (5/193).(1/2)
والملاحظ على هذه المحاور، أن ابن حزم قد اتخذ فيها مساراً محدداً يعتمد بالدرجة الأولى على أهمية المبحث، فنرى مبحث التوحيد على رأس القائمة، وهو يشكل أبرز المسائل الكلامية التي دارت على ألسنة الكثير من أهل العقائد الإسلامية، ثم يتدرج في الأهمية حتى يصل إلى المسائل الأقل تداولاً، والأكثر تعقيداً بحيث اختصر الجهد على القارئ ولم يحمله عنائها في بداية كتابه، وقد حدد لنا ابن حزم منهجه ذلك واضحاً منذ بحثه للعقائد، فجعل الكلام في المعاني والتي يعدها عمدة ما اقترن عليه أهل الإسلام: "وهي التوحيد، القدر، الإيمان، والوعيد والإمامة، ثم أشياء يسميها المتكلمون اللطائف"(1).
وقد راعى في بحث هذه المسائلة عدة اعتبارات، والتزم بعدد من المبادئ وهي تشكل عناصر منهجه في بحثه للعقائد الإسلامية، وتتمثل بما يأتي:
اللغة:
لقد اعتنى ابن حزم اعتناءً شديداً باللغة، وجعلها من أدوات منهجه، وهو يؤكد عدة مرات على أن الباحث الذي لا يمتلك مقدرة التكلم بمرونة باللغة التي يبحث بها هو شخص قليل الفهم ضعيف الحجة، ولذلك لا يعجب القارئ عندما يجد هذه العناية منه بكل جوانب اللغة بألفاظها وتراكيبها وبلاغتها وسبل الاشتقاق فيها مقارنة بغيرها من اللغات(2).
__________
(1) الفصل، (2/275).
(2) عمر فروخ، "ابن حزم الكبير" (ص64).(1/3)
ويعرف ابن حزم اللغة بأنها: "ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها"(1)، ولا غرو في ذلك لأن النص الذي يحرص عليه حرصاً شديداً يدل على هذا كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" [إبراهيم: 4]، ومن هنا على كل باحث يريد الحق والوصول إليه أن يحرص على هذه الوسيلة أشد الحرص، فبدونها يصبح علمه ناقصاً، ويفتقر إلى الدقة، يقول ابن حزم بهذه الخصوص: "وإنما يلزم كل مناظر يريد معرفة الحقائق، أو التعريف بها أن يحقق المعاني التي يقع عليها الاسم ثم يخبر بها أو عنها بالواجب، وأما مزج الأشياء وقلبها عن موضوعاتها في اللغة، فهذا فعل السوفسطائية(2) الوقحاء بالجهال العابثين بعقولهم وأنفسهم"(3)، وهكذا تراه يشن هجوماً على أولئك المتكلمين الذين يتلاعبون بالألفاظ، ويدلسون على العوام والجهال من الناس، ولا تستغرب من ذلك، فقد كانت من أهدافه الرئيسة لتأليف كتابه هو: "المبالغة في بيان اللفظ وترك التعقيد"(4).
ويبقى ابن حزم ملخصاً في منهجه هذا، ويذكر القارئ به، فهو عندما يبدأ بالحديث عن الاستطاعة يصرح قائلاً: "أن الكلام على حكم لفظ الاستطاعة قبل تحقيق معناها، ومعرفة ما المراد بها؟ وعن أي شئ يعبر بذكرها؟ فينبغي أولاً أن يوقف على معنى الاستطاعة، فإذا تكلمنا عليه وقربناه بحول الله وقوته، سهل الإشراف على صواب هذه الأقوال من خطئها بعون الله وتأييده(5).
__________
(1) "الأحكام"، (م1)، (ص42)، "الرسائل" (4/411)، وينظر محلق رقم (3).
(2) يعرف ابن حزم السفسطة: تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة، تقود إلى الباطل، وينظر محلق رقم تحث مصطلح الشغب.
(3) الفصل، (2/279) وينظر كذلك (4/183).
(4) الفصل، (1/36) .
(5) الفصل، (3/39) .(1/4)
ولكن بقيت حدود هذه الألفاظ واضحة المعالم عنده، لأن أكثرها بنظره: "موضوعة من عند الله تعالى على مسميات لم يعرفها العرب قط، هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض ممن يدري اللغة العربية، ويدري الأسماء الشرعية(1)،فحدودها عند ابن حزم هي مذهبه الظاهري، لأنه حريص جداً على هذا الأمر، وينبه القارئ مراراً عدة بإقرار المطلق: "بما جاء به القرآن والسنن كما جاء، ولا نزيد فيه ولا ننقص منه ولا نحليه فنؤمن به بخلاف المعهود فيما يقع عليه اللفظ من خلقه"(2).
واللغة عنده وسيلة إيضاح وتقريب، والعلوم النظرية أحوج إلى سهولة اللفظ وبيان العبارة (3). على أن الذي أوجد الخلاف في فهم التعابير بنظره تحميل اللفظ أكثر مما يقتضيه، وهذه عنده بديهة نكاد نجدها في معظم اللغات المعروفة والمتداولة بين الناس(4).
وعند أخذ نموذج لهذا الجانب، يتبين لنا اهتمام ابن حزم الواضح فيه، فهو عندما يبحث مسألة القدر، يبدأ بتعريفه لغوياً، فيقول: "والقدر في اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء
(5)، والأمثلة على ذلك قوله تعالى: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ "[القمر:49]، يريد تعالى: برتبة وحد"(6).
__________
(1) الفصل، (3/235) ، وينظر ملحق رقم (3) من هذا البحث.
(2) الفصل، (2/337، 368)، (3/9).
(3) سعيد الأفغاني، نظرات في اللغة عند ابن حزم (دمشق، 1963)، (ص23).
(4) الفصل، (1/195)، (3/126).
(5) الفصل، (3/77).
(6) الفصل، (3/77- 78).(1/5)
وهكذا يحدد مفهوم هذه اللفظة ليصل إلى تعريف سرعان ما يسيطر به على فكر القارئ: "ومعنى القضاء والقدر حكم الله تعالى في شئ بحمده أو ذمه أو تكوينه أو ترتيبه على صفة كذا إلى وقت كذا"(1)، وأنت ترى في هذا بحثاً لغوياً لا ينسى فيه أن يرد شبه الخصوم، لأنه ينبه على أن البعض ظنوا أن كثرة استعمال المسلمين هاتين الفظتين، بأنها تعي معنى الإكراه والإجبار وهذا –بنظره- هو الباطل عينه(2).
لأن المجبر في اللغة: "هو الذي يقع منه الفعل بخلاف اختياره وقصده فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبراً"(3)، وهكذا يتضح بجلاء أن مهمته لم تكن مقتصرة على عرض آراء العقائد ومقالات الفرق، بل إنه حريص على توضيح الحقيقة كاملة للقارئ، لكي يتبين له ماهية هذه الألفاظ ومدلولها اللغوي مما قاده إلى الاستعانة بلعوم اللغة المختلفة والمتشبعة، ونرى ذلك واضحاً، على سبيل المثال، عند مناقشته مسألة: "تكوين الكفر والفسق" فهو يستشهد بقوله تعالى:? فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ? [التوبة:55]، فابن حزم باستناده لهذه الآية يقول بأن الله عز وجل أراد أن يموتوا وهم كافرون، ودليله عليه بحث لغوي وهو أن "القاف في "تَزْهَق"َ مفتوحة بلا خلاف من أحد من القراء، معطوفة على ما أراد الله عز وجل "أن يعذبهم بها في الدنيا، والواو تدخل معطوف في حكم المعطوف عليه بلا خلاف من أحد في اللغة التي خاطبنا بها الله تعالى"(4)، ونحن نجده هنا يستخدم اللغة كوسيلة مهمة من وسائل الإقناع بصواب قوله.
__________
(1) الفصل، (3/78).
(2) الفصل، (3/77).
(3) الفصل،(3/35).
(4) الفصل، (3/188).(1/6)
وربما فاجأنا ابن حزم ببحث لغوي مقارن، فهو عندما يناقش مسائل مثل الجسم أو العقل أو الجوهر، وغيرها من الألفاظ الدائرة بين المتكلمين، يتبين أن هناك مصطلحات تختلف باختلاف اللغات: "فإن لفظة العقل غريبة أتى بها المترجمون، عبارة عن لفظة أخرى يعبر بها في اليونانية أو في غيرها من اللغات، عما يعبر بلفظة العقل عنه في اللغة العربية، هذا ما لا خفاء به عند أحد، ولفظة العقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل فصح ضرورة أنها معبر بها عن عرض، وكل مرع خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء مباهت بلا شك"(1)، ونرى من هذا أنه يحاول تمييز المدلول بين اللفظتين في العربية واليونانية، واحتمال التطابق الحرفي بين اللفظتين باختلاف اللغات أمر مستعبد وقع فيه بعض الناس فولد لهم ذلك تخبطاً، وأوقعهم في التباس كبير لم يستطيعوا الخروج منه(2).
إضافة إلى مبحثه في العقل، بحث ابن حزم مصطلحات أخرى منها الخليفة والشرك والكفر وغيرها من المصطلحات(3). ومما تقدم يتضح بجلاء الجهود الطيبة التي بذلها في هذا المجال، حيث أنه استفاد استفادة عظيمة من اللغة لبيان قيمة منهجه العلمي في مناقشة العقائد المختلفة، التي سادت الساحة الفكرية الإسلامية آنذاك،وبذلك يكون ابن حزم أول من اهتم بهذه النقطة من العلماء المسلمين فيما وصل إلينا من مصادر، الأمر الذي يعطينا تقييماً حقيقياً لنتاجه هذا وإبداعه فيه(4)
__________
(1) الفصل، (5/200)، وينظر: س. بينس مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان والهنود، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة (القاهرة، 1946)، (ص5).
(2) أبو زهرة، ابن حزم، (ص225).
(3) ينظر محلق (3) من هذا البحث.
(4) للمزيد من التفاصيل ينظر:
Roger Arnaldez, Grammaire et Theologic Chez Ibn Hazm de cordoue, Paris, pp. 37-87.
علي محمد فرغلي، ابن حزم الأندلسي وأثره في الفكر الإسلامي، مجلة الحضارة الإسلامية (1996) (ع2) (ص236- 239).(1/7)
.
الأسلوب
قبل الحديث عن توظيف ابن حزم للأسلوب في منهجه العلمي بدارسة العقائد بالإمكان تثبيت الأمور الآتية:
كان له أسلوب واضح مميز يستطيع أن يعرفه كل من قرأ كتبه.
الإطناب في البحث وكثرة الاستشهاد.
سهولة اللفظ، وانسياب العبارة من دون أن تحس بعناء كبير وأنت تقرأ نتاجه.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها مناقشته المعتزلة في مسألة خلق أفعال العباد، من جميع الوجوه وتستغرق صفحات كثيرة(1). وعند انتهائه من هذه المهمة يقول ابن حزم: "قد أبطلنا بحول الله وقوته كل شغب المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله عز وجل فنأت ببرهان ضروري إن شاء الله تعالى على صحة القول أنها مخلوقة لله تعالى(2)، وهكذا يبدأ بإيراد الأدلة على ذلك، والملاحظ على أسلوبه، الوضوح في اللفظ، والابتعاد عن التعقيد، الأمر الذي لا نجده عند معظم الكتاب الآخرين في هذا المجال، فعلى سبيل المثال عند مقارنة ما كتبه الشهرستاني حول موضوع "هل المعدم سيئ أم لا(3)، وبين ما كتبه ابن حزم في الموضوع نفسه نرى بوضوح الفرق في الأسلوب عند كلا المفكرين.
__________
(1) الفصل، (3/82- 132).
(2) الفصل، (3/ 132).
(3) الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام تحقيق: الفرد جيوم (بغداد مكتبة المثنى، بلا. ت) (ص 150- 163) ويقارن ذلك بما في الفصل (5/155- 159).(1/8)
وقد يزاوج بين أسلوب المحدثين والمتكلمين في سبيل إيضاح الفكرة، فعند بحثه مسألة الاستطاعة يلجأ إلى الحديث النبوي لتوضيح معان غامضة - صلى الله عليه وسلم – قال: (فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم)(1)، ويعلق ابن حزم على هذا الحديث: "فلو لم يكن هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به قبل أن نفعل لما أمرنا به ولما لزمنا شئ من ذلك، ولكنا غير عصاة بالترك لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا"(2)، ونجده هنا يقرب مفهوم الاستطاعة للقارئ بأسلوب قريب الشبه بما يفعله المحدثون في كتبهم وربما لجأ إلى أسلوب الفقهاء للغرض نفسه فهو عندما يصل إلى قول بعض المعتزلة –وهو قول الإسكافي-(3)، بأن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير ولا المزامير يرد ابن حزم، من ضمن ما يرد به عليه، هذا الافتراض: " ... فلو حلف إنسان أنه لا يشتري طنبوراً، فاشتري خشباً لم يحنث ولو حلف أن يشتري خشباً فاشتري طنبوراً لم يقع عليه حنث لأن الطنبور في اللغة يقع على اسم الخشبة"(4)، وهو بهذا يضع خصمه بزاوية ضيقة ثم يأتيه بدليل شرعي وهو قوله تعالى: ? اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ? [السجدة: من الآية4]. وبهذا يثبت ابن حزم كون الأشياء مخلوقة بنص القرآن(5).
__________
(1) الحديث رواه البخاري، الصحيح، (9/117)، مسلم الصحيح، (2/975)، ابن ماجه، السنن، (1/5)، النسائي، السنن (5/ 110- 111).
(2) الفصل، (3/44).
(3) هو محمد بن عبد الله الإسكافي (ت24هـ) من أئمة المعتزلة ومتكلميهم وأصله من سمرقند، سكن بغداد، وكان المعتصم معجباً به إعجاباً شديداً، اشتهرت عنه هذه المقولة التي ذكرها ابن حزم، ترجمته عند ابن النديم، الفهرست (ص231)، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (5/416)، الشهرستاني، المِلَل والنحل، (1/94).
(4) الفصل، (3/188).
(5) الفصل، (3/86).(1/9)
وربما لجأ ابن حزم في نهاية كلامه على بعض المسائل إلى تلخيص رأيه على شكل خلاصة مركزة وتقديمها للقارئ، فهو في بحثه لمسألة تكوين الكفر يستغرق صفحات فيها(1). ويختمها بقوله: "فإذا جاءت النصوص كما ذكرنا متظاهرة لا تحتمل تأويلاً(2) بأن الله عز وجل أراد ضلال من ضل وشاء، وكفر من كفر، فقد علمنا أن كلام الله تعالى لا يتعارض، فما أخبر عز وجل أنه لا يرضى لعباده الكفر، فبالضرورة علمنا أن الذي نفى عز وجل هو غير الذي أثبت، فإذن لاشك في ذلك، فالذي نفى تعالى هو الرضا بالكفر، والذي أثبت هو الإدارة لكونه والمشيئة لوجوده، وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة"(3).
__________
(1) الفصل، (3/179- 188).
(2) ينظر معنى هذه الكلمة عند ابن حزم في ملحق (3) من هذا البحث.
(3) الفصل، (3/118).(1/10)
على أنه يستخدم الحدة التي عابها عليه الكثيرون، وهذا واضح في كتابه الذي جر إليه كثيراً من النقد، والأمثلة على ذلك كثيرة، نأخذ مثلاً قوله: " .... وتباً لكل قول أدى إلى هذا الهوس البارد" (1)، عند كلامه على الفرق بين الاسم والمسمى أو قوله لأحد خصومه بعد أن رد مقالته: "ولقد كان ينبغي لمن هذا مقداره من الجهل أن يتعلم قبل أن يتكلم!" (2)، حتى أنك لتجد في بعض الأحيان عبارات فيها نوع من التجاوز ففي رده على بعض المسائل التي طرحها الأشاعرة يستطرد بهذا الكلام: "ولا ضلال ولا حياء أعدم ولا مجاهرة أطم، ولا تكذيب لله تعالى أعظم...(3) وربما يعود سبب هذه الحدة في أسلوبه إلى ما ذكرناه سابقاً في تحليل شخصيته حتى وسمه البعض بكونه ذا مزاج ناري، وعبارات صافية(4)، ولعل سبب هذه الحدة، هو حرصه على الحق، مع مقدار من الاعتزاز بالنفس، مما ولد فيه مثل هذه الصفة حتى أصبحت من أكبر المآخذ على كتابه الفصل، وفي هذا الخصوص يقول السبكي: "وفيه من الحط على أئمة السنة"(5)، وفي كلام السبكي وجه حق، خصوصاً موقف ابن حزم من أئمة الأشاعرة، وربما تكون للنقاشات التي دارت بين ابن حزم وكبير الأشاعرة بالأندلس أبي الوليد الباجي أثر في هذا، وكذلك إلى مذهبه الظاهري الذي يجعل النص حداً لكل حكم، وبعد هذا فلا تستغرب عندما تقرأ في كتابه الفصل، وهو يوسم بعض رؤساء المعتزلة بـ(الخلعاء العارين)(6).
__________
(1) الفصل، (5/137).
(2) الفصل، (2/331).
(3) الفصل، (3/12).
(4) جورج شحاته قنواتي، مادة الفسلفة وعلم الكلام والتصوف، تراث الإسلام، تحرير شاخت وبوزورت، ترجمة حسين مؤنس، إحسان صدقي العمد (الكويت 1978) (ق2) (ص218).
(5) طبقات الشافعية الكبرى، (6/129).
(6) الفصل، (3/70).(1/11)
ولم تقف هذه الحدة عند هذا الحد، بل إننا نجدها تنعكس على جوانب أخرى من أسلوبه، خاصة في صياغة الأحكام واستخلاص النتائج، مثل استخدامه "وثبت يقيناً"(1)، أو قوله ناكراً إدعاء البعض: "وهذا محال(2)، وقوله أيضاً: "فبطل قولهم وعادت الحجة عليهم(3)، ولم يكن ابن حزم يفرق في جدله بين عالم مشهور من أئمة المسلمين وبين رجل تطرف باعتزاله، بل عباراته الشديدة القاسية لم تكن في بعض الأحيان في موضعها وربما تجاوزت الحدود المعقولة في النقد (4).
ويمتاز ابن حزم في أسلوبه باستخدامه لفظ: "قال: أبو محمد" كثيراً لتنبيه القارئ إلى أمور من ضمن ذلك:
تكون بداية فقرة جديدة يعلم القارئ بها(5).
قد يستخدمها لإيراد المصدر الذي يأخذ معلوماته منه(6).
في بعض الأحيان ينقل آراء العلماء من خلالها(7).
لنقل أدلة الخصوم وحججهم(8).
إبطال أدلة الخصوم عن طريق إيراده لحججه(9).
يورد بعدها آراء الناس في مسألة معينة(10).
وسيلة لإيراد بعض المناظرات التي تحصل بينه وبين بعض المناظرين(11).
يستخدمها في الربط بين موضوعين، مثل ربطه الكلام على الهدى والتوفيق بالاستطاعة بهذه اللفظة(12).
ينبه القارئ أن ما سيورده بعدها هو رأيه وقوله(13).
__________
(1) الفصل، (1/103) (3/254) (4/134).
(2) الفصل، (3/233).
(3) الفصل، (5/138).
(4) أبو زهرة، ابن حزم، (ص201).
(5) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (3/63).
(6) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/157).
(7) ينظر على سبيل المثال، الفصل (4/209).
(8) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/127).
(9) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/128).
(10) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/101، 121).
(11) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/196).
(12) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (3/63).
(13) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (2/339).(1/12)
ومن خلال ما مر نستطيع أن نقول أن ابن حزم قد أوجد لنفسه أسلوباً مميزاً، استطاع من خلاله أن يبين الحقائق بوضوح رغم كون الإسهاب والإطناب في بعض المواضيع من مميزات كتابه إلا أنه حافظ على نفسٍ طويل في إدارة دفة النقاش بالرغم من اتسامه بالحدة التي ربما تجعلنا نقلل من موضوعيته الأسلوبية لا من موضوعيته العلمية، وأوجد لنفسه نظاماً عن طريق استخدام كنيته، حيث جعلها على ما يبدو، في كثير من الأماكن وكأنها علامات التنقيط المتداولة بين الباحثين في عصرنا الحالي.
الاستشهاد:
امتاز منهج ابن حزم بالاستشهاد، بأنواع كثيرة من الأدلة الشرعية أو التاريخية أو الأدبية أو الجغرافية وغيرها، والقارئ لكتاب الفصل تلفت نظره تلك النصوص الكثيرة التي ساقها، إما لكي يستشهد بها، أو يستبدل بها على ناحية معينة، ويمكن أن نتعرض لأهم أنواع هذه الاستشهادات:(1/13)
1- القرآن الكريم: وهو المصدر الأول عنده، وترد منه أكثر الاستشهادات مقارنة بالأنواع الأخرى. فمثلاً عند مناقشة محور الإيمان يبدأ بإيراد الأمثلة على ذلك من كتاب الله كقوله تعالى: ? هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ? [الفتح:4] (1)، وقوله تعالى: ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ? [آل عمران: 173]، وقوله تعالى: ? وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ? [البقرة: 143]، يقول ابن حزم: "فصح يقيناً أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل بها الذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه ولا صدقوا به قسط، ولا كان جائزاً لهم أ، يعتقدوه ويعملوا به بل كان فرضاً عليهم تركه والتكذيب بوجوبه والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواه ..." (2) وأنت ترى في هذا الاستشهاد القرآني، كيف استطاع أ، يبرهن بالاعتماد على هذه الآيات بأن الإيمان يزيد وينقص، وليس هو اعتقاداً فقط، والأمثلة على الاستشهاد القرآني كثيرة وعديدة(3).
__________
(1) الفصل، (3/232).
(2) الفصل، (3/233).
(3) ينظر على سبيل المثال استفادة ابن حزم من الاستشهاد القرآني: الفصل (3/303)، (4/81- 82)، (ص84- 87).(1/14)
2- الحديث النبوي: يأتي اهتمامه بالحديث النبوي، في إيراد الأمثلة والشواهد، بالدرجة الثانية، ودراسة نموذج لهذا الاستشهاد مهمة في بيان كيفية استفادته من الحديث لتدعيم وجهة نظره، فهو عندما يتكلم حول الوعد والوعيد يبين للقارئ بأن: "كل كافر عمل خيراً وشراً ثم أسلم فإن كل ما عمل من خير يكون له مجازى به في الجنة، وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه وإن تمادى عليه أخذ بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه وبرهان ذلك: حديث حكيم ابن حزام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (يا رسول الله أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من عتق وصدقة وصلة رحم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أسلمت على ما سلف لك من خير)(1)، فأخبر أنه خير، وأنه له إذا أسلم وقالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله أرأيت ابن جدعان فإنه يصل الرحم ويقري الضيف، أينفعه ذلك؟ قال: لا؛ لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)(2). فاتفقت الأخبار كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك(3) وهكذا نجد ابن حزم كيف وظف الحديث الشريف لخدمة منهجه في إبراز الحقيقة، وبرهن بذلك على أن النص مهم في مجال البحث العقائدي(4).
__________
(1) أحمد، المسند، (3/434)، البخاري، الصحيح، (2/141)، مسلم، الصحيح، (1/113).
(2) مسلم: الصحيح، (1/196).
(3) الفصل، (4/95).
(4) ينظر أمثلة لهذا الاستشهاد في الفصل، (3/243- 144)، (167- 168)، (246- 247).(1/15)
3- الاستشهاد بالتاريخ: يلاحظ على ابن حزم أنه استشهد بالتاريخ ولكن في هذا المجال نجده أقل استعمالاً عنده قياساً بالاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث النبوي، وهذا ناتج من اهتمامه بالشريعة وإعطائها على غيرها إلا أن موسوعيته وثقافته الواسعة جعلت اختياره للأمثلة التاريخية ظاهرة في منهجه أيضاً، فعلى سبيل المثال نجد دليله على أن الله عز وجل قد يسلط الكافر على المؤمن أمثلة تاريخية كما سلط: "الكفار على من سلطهم من الأنبياء وعلى أهل بئر معونة(1)، ويوم أحد"(2)، وبهذا يثير ابن حزم الحس التاريخي لدي القارئ ويجعله يسلم له طائعاً لأنه يقدم حقيقة تاريخية واضحة ومعروفة. وتجده يستشهد بفشل كل من: "المأمون والمعتصم والواثق – على سعة ملكهم لأقطار الأرض – قطع القول بأن القرآن مخلوق فما قدروا على ذلك"(3)، فحرصه على إقناع المقابل، قاده للاستعانة عدة مرات بأنواع الأمثلة التاريخية(4)، وميزة ابن حزم في كتاباته التاريخية، في الاختصار والمقارنة بل إنه يلجأ في أحيان كثيرة إلى الاستشهاد بالتاريخ على التاريخ، وهذا يصبح أمراً ضرورياً في مسائل الخلاف خاصة المسائل التي لها علاقة بالتاريخ(5)، فمن تلك: المقارنة الذكية بين مقتل كل من عثمان بن عفان وعمار بن ياسر (رضي الله عنهما)(6).
__________
(1) بئر معونة: هي أرض بين أرض عامر وحرة بني سليم، فيها قتلت بالبعثة التي أرسلت بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفر سنة (4هـ) إلى أهل نجد وقتلت بتآمر المشركين ضدهم، وكانت تضم أربعين رجلاً من المسلمين، ينظر ابن هشام، السيرة (ص183- 189)، الحموي، معجم البلدان، (5/159).
(2) الفصل، (3/198).
(3) الفصل، (1/144).
(4) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/233- 244).
(5) إحسان عباس، مقدمة الرسائل، (2/26).
(6) الفصل، (4/181- 244).(1/16)
يقول: "وعمار رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي(1)، شهد بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه، فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه، باغ عليه، مأجور أجراً واحداً، وليس هذا كقتلة عثمان - رضي الله عنه – لأنهم لا مجال لهم للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحداً ولا حارب ولا قاتل... فيسوغ لمحاربة تأويل، بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل(2).
إن هذه المشاهدة التاريخية، والمقارنة بين حادثين، يكون أمراً ضرورياً عند حدوث خلاف في مسببات وقوعهما، وكأن الحادثة التاريخية يمكن أن تعطي بعداً حقيقياً لتصورات المؤرخ من أجل حل الخلاف القائم بين المتكلمين في هذا الحادث(3).
__________
(1) كذا أورده ابن حزم في الطبعة التي تحت يدي: " أبو العادية" بعين مهملة والأصح كما عند ابن سعد وابن عبد البر: "أبو غادية" بعين معجمة يسار بن سبع الجهني ويقال المزني قال العقيلي وهو الأصح، واختلف في اسمه واسم أبيه قبل اسمه مسلم وقيل يسار بن سبع، يقال أنه قاتل عمار سكن واسطاً وكان يفرط في حب عثمان، ابن سعد، محمد بن سعد الزهري، الطبقات الكبرى، (بيروت، 1957)، (3/262)، ابن عبد البر، الاستيعاب، (4/1582).
(2) الفصل، (4/242).
(3) ينظر للفائدة: سعيد الأفغاني، ابن حزم، ورسالة المفاضلة بين الصحابة، (ص158- 161).(1/17)
4- الاستشهاد بالجغرافية: إن ابن حزم لم يهمل الجانب الجغرافي من أجل الاستفادة منه في إسناد وجهة نظره، ويدل بحثه فيه على أنه يمتلك معلومات جغرافية جيدة، فلرد دعوى البعض: يكون عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد فضلاء الأمة، يثبت بأن هذا الأمر يكاد يكون مستحيلاً إذ: "لا حرج ولا تعجيز أكثر من أن تعرف إجماع فضلاء الأمة مَنْ في المولتان(1)، والمنصورة(2) إلى بلاد مهرة(3) إلى عدن، إلى أقاصي بلاد المصامدة(4)، إلى طنجة إلى الأشبونة(5)، إلى جزائر البحر، إلى سواحل الشام إلى أرمينية(6)..."(7). ولا يستطيع أحد إلا أن يقول بأن هذا الأمر يبدو مستحيلاً في مثل ذلك العصر، ويعترف في الوقت نفسه لابن حزم بذكائه وفطنته في استفادته من هذه النقطة الجغرافية، وتؤكد القيمة الحقيقية لبحث ابن حزم في العقائد(8).
__________
(1) المولتان: هي بلدة في بلاد الهند على سمت غزنة، فتحت في عهد الوليد بن عبد الملك، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (5/227- 228).
(2) المنصورة: وهي بأرض السند سميت نسبة إلى المنصور بن جهور عامل بني أمية مؤسسها، وقيل أنها سميت نسبة إلى الخليفة العباسي المنصور، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (5/211- 212).
(3) مهرة: مدينة في جنوب شبه الجزيرة العربية، بينها وبين عمان شهر وكذلك بينها وبين حضرموت، ومهرة من قبائل اليمن، ياقوت الحموي، معجم البلدان (5/234).
(4) المصامدة: نسبة إلى قبيلة بالمغرب الأقصى، فيه موضع يعرف بهم، الحموي، معجم البلدان، (5/136).
(5) الأشبونة: وهي مدينة بالأندلس، قريبة من المحيط اشتهرت في العصور الإسلامية بالعنبر، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (1/195).
(6) أرمينية: اسم لأقليم عظيم في شمال العراق وخراسان، كانت بلاد واسعة تضم مدن وقرى عديدة، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (1/159- 161).
(7) الفصل، (5/ 13- 14).
(8) ينظر: على سبيل المثال، الفصل، (4/213)، (ص217)، (5/93).(1/18)
5- الاستشهاد بالشعر: لم يكن ابن حزم ليدع وسيلة –وفق منهجه- ليدافع بها عن وجهة نظره في بحثه للعقائد الإسلامية، ويحاول إيصال رأيه للقارئ وإقناعه بالأمثلة التي يوردها، حتى لو أداه ذلك إلى الابتعاد عن موضوع كتابه، والاتجاه إلى الشعر، فقد استعار قول جرير:
ألا رب سامي الطرف من آل مازنٍ ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمراً(1)
ليبين أن قوله تعالى: ? يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ? [القلم: 42]، هو لبيان شدة الأمر يوم القيامة، وليس غرضنا هنا البحث عن مسائل الصفات عند ابن حزم ولكن نريد أن نبين مهارة ابن حزم في سرد الأمثلة، ونجده يستعين عدة مرات بالشعر في مبحث الصفات كالاستشهاد بقول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين(2)
لأنه هنا ينبه القارئ إلى أن اليمين في لغة العرب تعني الحظ والأفضل. وعند كلامه على الطبائع، يستشهد لبيان معناها الحقيقي في الجاهلية، مثل قول النابغة الذبياني:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب(3)
وأنت ترى من خلال ذلك كيف أن ابن حزم يمتلك مقدرة كبيرة على إيراد الشواهد بمختلف أشكالها، والتنوع فيها، وانتقاله من جانب لآخر، وكل هذا يدل على حرصه الشديد في اثبات الحق، ودحض الباطل، وكذلك علينا أن نعترف أن كثرة الأمثلة والشواهد تزيد من قوة الحجة ووضوح الفكرة، وهذا ما كان قصد ابن حزم فيه واضحاً وصريحاً.
العلوم العقلية (4):
__________
(1) الفصل، (2/351- 352)، والبيت في ديوان جرير، (بشرح لمحمد بن حبيب)، (م1)، (ص112). وينظر ترجمة جرير من هذا البحث.
(2) الفصل، (2/249)، والبيت في ديوان الشماخ، (ص97).
(3) الفصل، (5/ص116)، والبيت عند النابغة، الديوان، (ص52).
(4) سنعتمد في تحديدها في هذا البحث على تعريف ابن خلدون لها في المقدمة والتي يسميها: ( علوم الفلسفة والحكمة ) وذلك من أجل الإيجاز، ينظر مقدمة ابن خلدون، ( ص 478).(1/19)
شكلت هذه العلوم أهمية خاصة عند ابن حزام، وهي عنده من أدوات البحث المهمة، وأكثر ما اشتهر به هو دراسته للمنطق، والتي استفاد منها كثيراً في بحثه هذا الجانب، بل ، بل إنه يصرح أن المنطق هو الوسيلة: (( إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم، ويتخلص من ظلمة الجهل، وفيها تكون معرفة الحق من الباطل (1) ، فإذن هذه الأدلة العقلية مهمة في تمحيص الحقائق وبطلان الزائف منها، ونحن نجد ابن حزم يكثر من استعمالها. فقد اعترض عليه يوماً من له علم بالفلسفة فقال له: (( ليس للعقل ضد لكن وجوده ضد وهو عدمه. فقلت للذي ذكر لي هذا القول أن هذه سفسطة وجهل، ولو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول ليس للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه. فيبطل التضاد من جميع الكيفيات، وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل(2) ، فالبديهيات المنطقية عنده هي ما انتقلت عليه الحواس وبرهن عليه العقل، وبهذا نستطيع أن نثبت المثبت وننفي المنفي(3) .
__________
(1) ابن حزم، الأحكام، ( م1)، (ص6).
(2) الفصل ( 5/199).
(3) أبوزهرة، ابن حزم، ( ص 153).(1/20)
ونجد ابن حزم يستدرك على من ادعى الإصلاح بالفعل وحده: (( ولا يمكن إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون طاعة غير الخالق عز وجل لا تلزم(1) ، وهكذا نجد أن ابن حزم يحسم ذلك الصراع المستمر بين العقل والدين، باستنتاج ذكي وهو أن يتخذ طريقاً وسطاً بينهما مما يطابق تمام المطابقة لمذهبه الظاهري الذي انتهجه(2) ويحارب ابن حزم الخرافات التي ترد على ألسنة العوام، أو يقول بها بعض الجهال، مثل كون الكواكب هي المدبرة، أو المؤثرة، ووسيلته في ذلك معلومات علمية ذات قيمة علمية مهمة وهي: (( أن المد والجزر يتولد بطلوع القمر وغروبه )) (3) وهذا شئ يلفت الانتباه لكونه يشير إلى حقيقة علمية ثابتة، حتى أنه لا يتردد في إثبات كروية(4) الأرض من أجل الرد على دعوى البعض من كون الكواكب هي المدبرة الفاعلة بسبب حركتها المستمرة (5) ، وعند بحث ابن حزم لمسائل الألوان، يعطينا معلومات علمية صحيحة، منها إثباته أن الظلمة ليست بلون، وأن النور هو اللون، أو بتعبير علمي الشعاع المنعكس من الجسم، وغيرها من المعلومات العلمية(6) .
__________
(1) الرسائل ( 3/134).
(2) بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي ، ( ص 222).
(3) الفصل، ( 4/16).
(4) الفصل، (2/241).
(5) الفصل، (2/239).
(6) أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، مقدمة رسالة الألوان، الرياض، (1979)،( ص16ـ 17).(1/21)
أما العلوم الرياضية فقد كان لابن حزم نصيب منها بالرغم من أنه صرح بأنه ليس ممن باع في هذا العلم(1)، وربما يكون هذا تواضعاً منه رحمه الله، والدليل عليه هذا البحث، في نظرية الجزء الذي لا يتجزأ أو بتعبير المتكلمين نظرية الجوهر الفرد(2)، يفترض ابن جزم الافتراض الآتي: (( نعلم أن الخطين المستقيمين المتوازيين ( أب، ج د) لا يلتقيان أبداً، ولو مدا عمر العالم أبداً بلا نهاية، وإذ لا شك في هذا، فإنك إن مددت من الخط الأعلى إلى الخط المقابل له خطين مستقيمين متوازيين (أجـ ،ب د) قام منهما مربع بلا شك، فإذا أخرجت من زاوية تمر مع الخطين الأعلى أبداً، لأنها غير متوازية له إذ ذلك كذلك، فذلك الضلع منقسم أبداً لا بد ما أخرجت الخطوط بلا نهاية)) (3) إن هذه المعلومات التي قدمها ابن حزم لنا توضح حقيقة علمية معروفة، في كون الخطوط المتوازية لا تلتقي، بينما الخط الذي يفترضه وهو ( أجـ ) لا يمكن أن يكون موازياً لهما، وبهذا يتبين كيف وظف لنا هذا العلم لخدمة منهجه العلمي، ولا بأس من أن نأخذ أنموذجاً آخر لذلك، وهو الافتراض الآتي: (( دائرة قطرها أحد عشر جزءاً ( 11سم ) لا يتجزأ كل واحد منها عندهم، أو أي عدد شئت على الحساب، فأردنا أن نقسمها بنصفين على السواء ولا خلاف في أن هذا ممكن، فبالضرورة ندري أن الخط القاطع على قطر الدائرة من المحيط إلى ما قابله من المحيط (أ ب) ماراً على مركزها (م) لا يقطع ألبته إلا في نصفين، وبالله تعالى التوفيق )) (4) ، إن هذه المعلومات الرياضية الصحيحة التي نقلها ابن حزم
__________
(1) ابن حزم، الرسائل، ( 21/185).
(2) نظرية الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ، نقول هذه النظرية بأن هناك أجسام مخلوقة لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا اقتران، ينظر ا|لأشعري مقالات الإسلاميين، ( 2/10ـ18)، بينس، مذهب الذرة عند المسلمين (ص3ـ 27).
(3) الفصل، ( 5/234) وينظر شكل (1).
(4) الفصل، ( 5/235).(1/22)
للقارئ، وتبدو فيه ثقافته الواسعة وجهوده العلمية القيمة التي سلكها في بحثه للعقائد، مستعيناً بالعلوم الرياضية والهندسية من أجل خدمه البحث، إضافة إلى عنايته العظيمة بإثبات الحقائق العلمية ودحض الخرافات .
الاستدلال:
يعرف ابن حزم الاستدلال بأنه: (( طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل معلم (1)، ومسألة الاستدلال من الأمور التي كثر النقاش فيها عند المتكلمين(2)، وابن حزم لا ينكر الاستدلال (( بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه، لأنه تزود من الخير، وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق ـ نعوذ بالله عز وجل من البلاء ـ وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلامه،هذا هو الباطل المحض )) (3) وهو في بحثه هذا ينتهج منهج الجدل والتسلسل المنطقي للشواهد التي يعبر عنها بلفظ الأدلة، وإننا نجد عندما يجادل من قال: بأن الباري خلق العالم جملة كما هو بجميع أحواله بلا زمان، نجده يتساءل لماذا تختفي بعض العلوم في بعض بلاد السودان أو البوادي التي: (( في خلال المدن ـ أي بين المدن ـ ليس يوجد فيها أبداً أحد يدري شيئاً من العلوم والصناعات حتى يعلمه معلم، وأنه لا ينطق أحد حتى يعلمه معلم)) (4) ولا غرابة في ذلك فالاستدلال المنطقي يقتضيه،لأن حصول شئ من المعارف لا بد أن يكون بواسطة؛ إلا أن يأتي من العدم، وقد انتقد بعض علماء الأندلس الأسلوب المنطقي في كتابات ابن حزم حيث اتهموه بأنه: ((... يرد على المنطقي بالشرعي )) (5)
__________
(1) الأحكام ، ( م1)،( ص37)، الرسائل، ( 4/ 413) وينظر ملحق (3).
(2) البغدادي، عبد القاهر بن ظاهر، أصول الدين ( استنبول، 1928 )، ( ص24ـ 28)، عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، ( 1/397).
(3) البغدادي، عبد القاهر بن ظاهر، أصول الدين ( استنبول، 1928 )، ( ص24ـ 28)، عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، ( 1/397).
(4) الفصل، ( 1/ 136).
(5) ابن حزم ، الرسائل ( 3/ 73).(1/23)
وقد نفى ابن حزم هذه التهمة عنه، والحق أنه كان يميل إلى هذه العلوم، ونجده يكرر استعانته بها ليؤيد وجهة نظر لا لرد حقيقة شرعية، وإنما لإبراز صحة وجهة نظره للقارئ، وصدق دعواه، فمن ذلك قوله: (( وأما من طريق النظر والمصلحة، فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة، وأربعة وأكثر، فإن منع من ذلك مانع كان متحكماً بلا برهان، ومداعياً بلا دليل )) (1) وهذا المثال يوضح بدقة الجانب العقلي النظري في منهجه، والذي من خلاله نستطيع أن نقرر، أن بن حزم قد أدخل أدوات الاستدلال النظرية في مناقشة الآراء المختلفة.
وقد استعان ابن حزم أيضاًُ بالبحث النفسي والسلوكي للفرد، حتى أنه ليبين ذلك واضحاً من خلال أسلوب التحليل لسلوك كل من المؤمن والكافر، لأن أفعال النفي جارية: (( على ما رتب الله تعالى فيها تمييزها من فعل الطاعات، وهذا هو الذي يسمى العقل، وإذا خذل الله تعالى النفس أمد الهوى بقوة هي الإضلال، فجرت أفعال النفس على ما رتب الله تعالى في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد. وسائر الأخلاق الرذيلة والمعاصي......)) (2)، إن هذه المعالجة الفريدة من نوعها لمسألة الضلال التي شغلت ألسنة المتكلمين، تعطينا صورة لعمق المسائل التي طرحها ابن حزم أمام القارئ، وفيها تلك الروح التي تميز كتاباته، وهو طرح الحقيقة بأسلوب علمي مبتكر، في خطوة جريئة تبين لنا موهبة ابن حزم في الغوص في النفس والكشف عن أسرارها.
المقارنة والمناظرة:
__________
(1) الفصل، ( 4/ 151).
(2) الفصل، ( 3/ 74).(1/24)
لقد ساق لنا ابن حزم مقارنات بين أصحاب العقائد والملل المختلفة، حاول خلالها إبراز جهوده العلمية في تحليل الآراء من خلال مقارنتها مع بعضها وخصوصاً الاعتقادات المتشابهة، على أن الفكرة التي يركز عليها ابن حزم هنا هي تلك الآراء المتشابهة التي قد تردد عبر مدد زمنية مختلفة حيث قال: (( إن الناس قسمان: قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين، طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت وكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الأدلة فرضاً ولا بد )) (1)، إن هذه المقارنة بين دعاة الاستدلال وكونه شرطاًُ للإيمان في زمن ابن حزم، وبين الكفار في عصر الرسالة فيه ميزة تظهر واضحة للقارئ، وهي ذلك الشك الذي تتنازعه كلا الطائفتين من أجل الإيمان. وقد تتخذ المقارنة عنده مسارات متعددة، ومن ذلك انتقاد بعض المعتزلة، بسبب قياسهم العقلي، ويقارنهم بأقوام آخرين من ملل آخرى، وذلك لأنهم حكموا على: (( الباري تعالى بمثل ما يحكم به بعضنا على بعض، وهذا بين له أصل عند الدهرية، وعند المنانية(2) ، وعند البراهمة(3) ، وهو أن الدهرية قالت: لما وجدنا الحكيم فيما بيننا لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة، ووجدنا من فعل لا فائدة فيه فهو عابث، هذا الذي لا يعقل غيره)) (4) فهو هنا يشبه مقالة
__________
(1) الفصل، ( 4/77).
(2) المنانية: نسبة إلى ماني بن فاتك، القائل بالنور والظلمة، ظهرت مقالته أيام سابور بن اردشير ملك الفرس، وقد تبعه خلق كثير من المجوس، قتله سابور بن بهرام ، وقيل بهرام بن هرمز، ينظر: الفصل، (1/0) الشهرستاني الملل والنحل ( 2/ 72ـ 83).
(3) البراهمة: نسبة إلى قبيله في الهند، اشتهروا بنفي النبوات رغم اقرارهم بالتوحيد الذي جعلوا العقل هو الموصل إليه بلا رسل، الفصل، ( 1/ 136ـ 140)، الشهرستاني، الملل والنحل (3/ 342ـ 348).
(4) الفصل، ( 3/ 138).(1/25)
المعتزلة بما قالته كل من المنانية والبراهمة، وكأنه ينسب قولهم الفاسد إلى أصل اعتمدوا عليه وتأثروا به. والنقطة المهمة التي وظفها ابن حزم في هذا الاتجاه هي ثقافته الواسعة خصوصاً باليهودية والنصرانية، حيث استفاد منها في عرض صور مزدوجة ومتشابهة عند كل من المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى، فهو يعتقد أن المعجزة التي ادعاها البعض للحلاج(1) ، أو لبعض الصالحين مثل إبراهيم بن أدهم (2) لا تختلف عن دعوى النصارى المعجزات للحواريين من أصحاب عيسى عليه السلام(3). ونحن نرى من ذلك كيف خدمت ثقافة ابن حزم الواسعة منهجه في مقارنة مقالات كثير من الناس رغم اختلافهم في المعتقد والزمان والمكان، فعنده تستوي دعوة المعجزة لماني ودعوتها للحلاج وغيرهم، ذلك أن مجرد المقارنة توصلنا إلى مسألة مشتركة، وهي المبالغة في نسب المعجزات لأصحابها وربما يكون في هذا إشارة المعجزة لا تكون إلا بنص كما يؤمن بذلك ابن حزم نفسه.
__________
(1) الحلاج : هو الحسين بن منصور، قال عنه ابن النديم : (( كان محتالاً يتعاطى مذاهب الصوفية ويدعى كل علم ( ت 309هـ ) الفهرست، (ص 241ـ242)، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (8/ 112)، وقد اعتنى لويس ماسينون بدراسة الحلاج ونشر كتابه (( الطوسين)) في باريس سنة ( 1913)، وقدم له مقدمة وافية، وأعيد طبعه بالقاهرة سنة (1970) مع كتاب أخبار الحلاج باعتناء عبد الحفيظ محمد مدني هاشم
(2) إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، زاهد مشهور، تفقه وجال في العراق والشام والحجاز، أخباره كثيره فيها مبالغات عظيمة( ت 161هـ ) .
(3) إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، زاهد مشهور، تفقه وجال في العراق والشام والحجاز، أخباره كثيره فيها مبالغات عظيمة( ت 161هـ ) .(1/26)
أما فيما يخص المناظر فنحن نجد صوراً كثيرة لها والغرض من إيرادها عند ابن حزم هو كونها تمثل وسيلة مهمة من الوسائل العلمية المعروفة والمنتشرة في عصره في الوقت نفسه الذي تمثل فيه التفاعل العلمي بمختلف الأفكار في ذلك العصر. خاصة وأنه يصرح بحدوث الكثير منها فمن ذلك قوله: (( وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا المذهب، إلى أن الهم بالسيئة الإصرار عليها. فقلت له: هذا خطأ لأن الإصرار لا يكون إلا على ما قد فعله المرء بعد تمام على نية أن يفعله، وأما من هم بما لم يفعل بعد فليس إصراراً)) (1) ، ونجد يكثر من هذه المناظرات، وهي وسيلة مهمة في منهجه لا سيما المباحث الكلامية التي كانت مدار نقاش في المجالس العلمية بالأندلس، ويمكن أن نعد بعض هذه المناظرات من الشواهد المهمة على الآراء التي ناقشها، حيث يقول: ((وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني(2) ، في هذا البرهان، فأراد أن يعكسه على بقاء الباري عز وجل ووجودنا إياه، فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط)) (3) ، إن المناظرات تشكل في أجزاء منها محاور أتت متفرقة في كتاب الفصل، ومثلث إحدى المصادر التي اعتمدها ابن حزم في كتابه، ويبدو أن غرض ابن حزم من إيرادها كان لبيان مقدرته في المناظرة، وابتكار وسائل عديدة تخدم المنهج العلمي من حيث المحتوى والأسلوب. ثم إن له طريقة أخرى تتمثل بإفتراض المناظرات من ذلك قوله: (( فإن قال قائل: إذا قلتم : ان النار دار جزاء فالجنة كذلك، ولا جزاء للصبيان)).
__________
(1) الفصل، ( 4/ 91).
(2) تقدمت ترجمته (ص 46) من هذا الحديث.
(3) الفصل، ( 1/ 61).(1/27)
قلنا وبالله تعالى التوفيق: (( إنما نقف عندما جاءت به النصوص في الشريعة وقد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط، وأن الجنة دار جزاء وتفضيل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم )) إن افتراض الأقوال نجدها في بعض الأحيان وسيلة لعرض وجهات نظر صادفته خلال حياته الفكرية،وهذه نقطة تستحق منا الاهتمام.
عرض الآراء:
يبدأ ابن حزم عادة عند عرضه لمبحث معين بإيراد أراء المسلمين بمختلف اتجاهاتهم في هذه القضية، ويعطي للقارئ مقدمة مركزة يعرض بها قصده من ذكر هذه المسألة، فمن ذلك قوله عند مناقشة مسألة الشفاعة: (( اختلف الناس في الشفاعة، فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج، وكل من منع أن يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها، وذهب أهل السنة والأشعرية (1) والكرامية(2)، وبعض الروافض إلى القول بالشفاعة)) (3) ، ثم يورد أدلة المنكرين للشفاعة، وهي آيات عديدة منها قوله تعالى: ?قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً? (الجن:21) . وقوله تعالى: ?يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ? (الانفطار:19) . وغيرها من الآيات (4) ، بعدها يبين وجهة نظره في أدلة الخصم، وهم هنا المنكرون للشفاعة، راداً عليها، موضحاً بطلانها، فيقول بهذا الخصوص:
__________
(1) لابد من التنبيه إلى أن ابن حزم يفرق بين أهل السنة والأشعرية، ويعرف أهل السنة بأنهم الصحابة والتابعون وأهل الحديث ومن تبعهم إلى يوم الدين . أنظر الفصل الثالث، المبحث الأول من هذا البحث( ص90).
(2) نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني، كان مؤسسها يقول في الله تعالى: (( أنه من جسم لا كالأجسام)) وسجن لمقالته هذه ثمانية أعوام بنيسابور توفي سنة(255هـ )، الأشعري، مقالات الإسلاميين، ( جـ 1) (ص 205)، الفصل (5/ 73ـ 74)، الشهرستاني، الملل والنحل ، ( 1/ 159ـ 169).
(3) الفصل، ( 3/111).
(4) الفصل، (4/111).(1/28)
(( لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ولا على بعض النص دون بعض )) (1) ، وهنا تكون براعة ابن حزم في إيراده لأدلته بمهارة وغالباً ما تكون من جنس أدلة الخضم، فيستعرض لنا الآيات التي دلت على الشفاعة منها قوله تعالى: ?لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً? (مريم:87). وقوله تعالى: ?َلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ? (سبأ: من الآية23). وغيرها من الآيات الدالة على الشفاعة وحينئذ يقول: (( فقد صحت الشفاعة التي أبطلها عز وجل هي غير الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار)) (2) ثم يبين لنا ابن حزم أنواع الشفاعة، ويعرضها للقارئ لغرض التوضيح والكشف عن مفهومها،وهي قسمان: (( الأولى عامة وهي لكل محسن ومسيء في تعجيل الحساب يوم القيامة، وإراحة الناس مما هم فيه من هول الموقف وشنعة الحال....)) (3) ، والثانية: (( في إخراج أهل الكبائر من النار، طبقة على ما صح في ذلك الخبر)) (4) ، وقد تكون هناك بعض الاعتراضات التي لا ينسى ابن حزم أن يعرج عليها، وقصده من ذلك عدم ترك فجوة يمكن أن تخل بمادة كتابه، مثل: ادعاء البعض: (( أن الشفاعة ليست إلا في المحسنين)) (5) ، ويرد هذا الادعاء بقوله: (( وهذا لا حجة لهم فيه، لأن من أذن الله في إخراجه من النار وإدخاله إلى الجنة، وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك فقد ارتضاه)) (6) ، فمن هنا يتبين أن ابن حزم أول ما يبدأ بحثه في أي مسألة كلامية يقرر آراء مختلف النحل الإسلامية فيها على اختلافها، ثم يستعرض أدلة كل فريق على سبيل التفصيل، حتى إذا فرغ من ذلك بدأ عمله في تفنيد الأدلة التي لا توافق معتقده، وقد يشير إلى وجه التناقض بينها ثم يبين وجهة نظره التي يتبناها مع
__________
(1) الفصل، (4/111ـ 112).
(2) الفصل، (4/ 112).
(3) الفصل، (4/ 113).
(4) الفصل، (4/ 113).
(5) الفصل، (4/ 113).
(6) الفصل، (4/ 113).(1/29)
الأدلة التي تدعم ذلك، ومن ثم بعد وصوله لهذه النقطة يطرح بعض الاعتراضات للخصم، يردها بمهارة لا تقل عن المهارة التي رد بها الأدلة الأولى، والتي استعرضنا صورة منها قبل قليل. وهكذا نجد أسلوبه هذا في معظم العقائد التي يستعرضها، فأنت إن قرأت المسائل الأكثر تعقيداً، رأيت أقوال النحل تكثر وأدلتهم تتعدد، افتراضاتهم تتشعب ويستمر ابن حزم على منهجه هذا في تناول الآراء فنفسه يطول في ردها وإقناع القارئ بوجهة نظره بعبارة موجزة:
(( أن طريقته في ترتيب موضوعه تتمثل في تقرير الأسس للعقيدة قيد الحث، ثم بسط للدعوى ، ثم استعرض آراء الخصوم وأدلتهم، ثم دفعه للشبه وبرهان للحق الذي ينتصرله، وهي طريقة محكمة متكاملة)) (1) .
إلا إن هناك بعض المآخذ على ابن حزم في هذا الجانب،منها عدم تصريحه في بعض الأحيان بنسبة المقالة إلى صاحبها، فيضطر الباحث إلى العودة إلى الكتب التي تناولت الموضوع نفسه ليرى من قال هذا الكلام مثال ذلك قوله: ((وقالت طائفة أن علة الباري تعالى لما فعل هو: جودة وحكمته وقدرته، وهو تعالى لم يزل جواداً حكيماً قادراً فالعالم لم يزل، إذ علته لم تزل)) (2) ، وهذا هو القول نفسه الذي قالت به طائفة من المعتزلة (3) . والمآخذ الثاني هو: تشعب الآراء وتداخلها حيث تتخذ مسارات مختلفة في مسألة معينة تجهد القارئ وتبعده عن صلب الموضوع. فعند كلامه عن خلق أفعال العباد يتطرق إلى مسألة التعديل والتجوير في أفعال الله تعالى، ولم يكف بذلك بل إنه يقحم القارئ في موضوع النفس وصور تعلقها بالجسد وعذاب القبر وغيرها من الأمور السمعية،ويستطرد فيها صفحات عديدة(4) .
__________
(1) سعيد الأفغاني، ابن حزم ورسالة المفاضلة ( ص 158ـ 159).
(2) الفصل، ( 1/71).
(3) الشهرستاني، نهاية الإقدام، ( ص397).
(4) الفصل، ( 3/ 167ـ174)، وينظر كذلك الفصل، ( 5/ 243ـ 252).(1/30)
ويبدو أن مسألة تشعب الآراء في كتابات ابن حزم لم تسترع الانتباه هنا فقط بل إنها واجهت ابن تيمية عندما تعرض بالنقد لإحدى مؤلفات ابن حزم(1) ، مما يدل على أن هذه المسألة هي من المميزات البارزة لنتائج هذا الفكر على العموم، ومع ذلك فإن تشعب الآراء تقوم دليلاً واضحاً على نفسه الطويل في الكتابة، وثقافته الواسعة في مختلف المعارف والفنون.
منهج ابن حزم في دراسة الفرق الإسلامية
تقسيمه للفرق:
اعتمد كثير من مؤرخي الفرق الإسلامية في تحديدهم على الحديث المشهور الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في افتراق هذه الأمة، أما عن ابن حزم فإننا نجده من الذين ذهبوا إلى أن هذا الحديث ضعيف من طريق الإسناد فلا حجة فيه (2) .
ومن ذلك نجده يقسم المسلمين إلى خمس فرق: (( أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج، ثم افترقت كل من هذه على فرق)) (3) ، ثم يبين بعرض سريع المسائل الكلامية التي جعلت كلاً من هذه الفرق تتشعب وتتفرق إلى فرق عديدة فمعظم اختلاف أهل السنة، وهي الفرقة الأولى الرئيسية عنده، كان: (( في الفتيا وشئ يسير من الاعتقادات)) (4) ، أما باقي الفرق فإنه يقومها على أساس قربها أو بعدها من أهل السنة، ويفصل في الأمر على النحو الآتي:
__________
(1) ابن تيمية، نقد مراتب الإجماع، منشور ملحقاً بمراتب الإجماع لابن حزم(بيروت،1978)،(ص217).
(2) الفصل، ( 3/ 292).
(3) الفصل، ( 2/ 256).
(4) الفصل، ( 2/ 266).(1/31)
1- المرجئة: (( يرى ابن حزم أن أقرب فرقها إلى أهل السنة هم أصحاب أبي حنيفة (1) وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان(2) ، ومحمد بن كرام السجستاني)) (3) .
__________
(1) في قول ابن حزم انظر لأن أبا حنيفة لم يكن من هذه الفرفة في نسبة الإرجاء إليه خلاف معروف ،ونحن لا نوافق ابن حزم فيما ذهب إليه ، ينظررسالة أستاذنا خليل إبراهيم الكبيسي، المرجئة نشأتها، عقائدها، فرقها وموقفها السياسي، رسالة ماجستير غير منشورة ( جامعة بغداد 1975) (ص110ـ 119).
(2) هو جهم بن صفوان: أبو محرز السمرقندي، رأس الطائفة الجهمية، أشهر مقالاته ( القول بخلق القرآن) وأن الإيمان الإقرار باللسان فقط( ت 128هـ ) الأشعري، ( مقالات الإسلاميين) ( 1/197ـ198)،الفصل(5/73ـ74)، خالد العسلي ( جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي) ( بغداد 1965)،(ص 61ـ68).
(3) الفصل، ( 2/265).(1/32)
2- المعتزلة: وأقرب فرقها إلى أهل السنة أصحاب الحسين بن محمد النجار(1) ، وبشر بن غياث المريسي(2) ، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل العلاف(3) .
3- الشيعة: أقربها في نظره إلى أهل السنة هم: (( أصحاب الحسن بن صالح حي الهمداني الفقيه(4) ، القائلون بأن الإمامة في ولد علي ( رضي الله عنه) الثابت عن الحسن بن صالح رحمه الله كما حقق ذلك بن حزم، أنه كان يعتقد بأن الإمامة في قريش، ويتولى جميع الصحابة، إلا أنه يفضل عليا - رضي الله عنه - على جميعهم، أما أبعدهم في نظره عن أهل السنة فهم الإمامية(5) .
__________
(1) هو الحسين بن محمد بن عبد الله النجار، كان من أشهر المجبرة ومتكلميهم وله مع النظام مجالس ومناظرات، ذكر له ابن النديم كتباًَ عديدة(ت220هـ ) ترجمته عند: ابن النديم، ( الفهرست) (ص299) الشهرستاني، (( الملل والنحل)) (1/116ـ 120).
(2) هو بشر بن غياث المريسي، فقيه معتزلي، يرمي بالزاندقة، وإليه تنسب الطائفة المريسية قال عنه ابن حجر: (مبتدع ضال لا ينبغي أن تروى عنه ولا كرامة)، ( ت 218هـ ) ترجمته عبد الخطيب البغدادي (تاريخ بغداد) ( 7/ 56ـ67)، الذهبي ( ميزان الاعتدال) ( 1/322ـ323)،ابن حجر: ( لسان الميزان) ( 2/29ـ31).
(3) الفصل، ( 2/ 265ـ 266)، والعلاف هو محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف شيخ المتزلة، كان خبيث المذهب، جحد صفات الله تعالى، كان كذاباً ( ت 227هـ ) ترجمته عند الخطيب البغدادي، ( تاريخ بغداد)(3/366)، ابن حجر: ( لسان الميزان)( 5/413).
(4) هو الحسن بن صالح: أحد فقهاء الكوفة المشهورين في عصره كان متكلماً ورعاً قال عنه الذهبي: (فيه بدعة تشيع قليل) بينما رد عنه ابن حزم هذه التهمة ( ت 168هـ ) ترجمته عند: أبي نعيم الأصفهاني ( حلية الأولياء) ( 7/327ـ335)، والذهبي، ( ميزان الاعتدال) (1/ 496ـ 499) .
(5) الفصل، (2/ 266).(1/33)
4- الخوارج: ويرى أن أقرب فرقها لأهل السنة هم: أصحاب عبد الله بن عبيد الأباضي الفزاري الكوفي(1) ، وأبعدهم الأزارقة(2).
إن هذا التقييم لمقالات الفرق يوضح وجهة نظر ابن حزم تجاه مقالات، وفيه يبدو تقديره الخاص لهذه المسألة، والتي اتخذت عند كثير من مؤرخي الملل والنحل مسلكاًًِ مخالفاً لمسلكه، وهي على كل تقدير لا يمكن إلا أن تكون ابتكاراًَ موضوعاً يوضح أن ابن حزم يريد من خلاله فرض رأيه وتقييمه الذي يرتضيه على القارئ. أما من حيث التقسيم العام لهذه الفرق فإن له منهجاً مستقلاً في ذلك حيث أنه حددها وذكر: (( ما اعتمدت عليه كل من هذه الفرق فيما اختصت به )) (3).
__________
(1) لم يذكره من المتقدمين إلا ابن حزم، ونقل ابن حجر كلامه في لسان الميزان، ( 3/ 378).
(2) الفصل، ( 2/266).
(3) الفصل، ( 2/269).(1/34)
إن هذا المنهج في التقسيم هو الغالب في كتاب ابن حزم في بحثه للفرق الإسلامية حيث أنه يحدد مسبقاً ذلك وينبه القارئ إلى أنه سيبحث الأمر وفق ما يقرره هو: (( أما المرجئة فعمدتهم التي يتمسكون بها، الكلام في الإيمان والكفر، ما هما؟ والتسمية بهما، والوعيد، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم)) (1) ، إن هذه النقطة دقيقة في تحديد عدد محدد لفرق المرجئة. والكلام نفسه يمكن أن يتمسكون بها: الكلام في التوحيد وما يوصف به الباري تعالى، ثم يزيد بعضهم الكلام في القدر والتسمية بالفسق والإيمان والوعيد (2) ، وهذا مشهور عن فرق المعتزلة، خصوصاً خوضها في باب التوحيد إلا أن هذا لا يمنع من مشاركة آخرين لها في هذا المبحث: (( وقد شارك المعتزلة بما يوصف به الباري تعالى جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان(3) .
والأشعرية وغيرهم من المرجئة)) (4) ) ، وهذا تقسيم جيد واستدراك لطيف منه، ذلك أن أول من فتح هذا الباب هم المعتزلة وقد أخذه عنهم الآخرون، ولا يترك ابن حزم الأمر مهملاًَ، بل أنه يعلل ذلك بقوله: (( إلا أنا اختصصنا المعتزلة بهذا الأصل لأن كل من تكلم في هذا الأصل فهو غير خارج عن مذهب أهل السنة أو قول المعتزلة)) (5) ) .
__________
(1) الفصل، ( 2/265).
(2) الفصل، ( 2/265).
(3) مقاتل بن سليمان بشر الأزدي الخرساني، كان مشهوراً بوضع الحديث مشبهاً لله تعالى بالمخلوقين، وعده ابن النديم من الزيدية له كتب عديدة أشهرها ( تفسير القرآن) (ت150هـ ) ينظر: ( الفهرست)، (ص277)، الشهرستاني ( الملل والنحل)، (1/ 228).
(4) الفصل، ( 2/265).
(5) الفصل، ( 2/265ـ266).(1/35)
ومعلوم أن فرق الشيعة تجمعها مسألة كلامية مشهورة، استغلها ابن حزم ويوضح لنا منهجه: (( وأما الشيعة، فعمدة كلامهم في الإمامة والمفاضلة بين أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - ، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم)) (1) ) ، وهذه خطوة موفقة في تمييز فرق الشيعة عن غيرهم، لأنها أصل يجتمعون عليه، ويختصون به، أما الخوارج فتقسيمهم يعتمد على أساس: (( الكلام في الإيمان والكفر ما هما؟ التسمية بهما والوعيد، والإمامة)) (2) .
من كل هذا يتضح أن ابن حزم اعتمد في تقسيمه للفرق الإسلامية على أساس ماهية المباحث الكلامية التي غلبت عليها، وميزت كل فرقة عن الفرق الأخرى، وهو في هذا يضع منهجاً محدداً تحديداً واسعاًُ والهدف منه كما يبدو هو جعل مساحة البحث والعرض واسعة تمكنه من الحركة بيسر وسهولة، وهذه الميزة لا نجدها في الكتب المشابهة.
ثم ينتقل ابن حزم للفرق الغالية، ويبين منهجه في تقسيمها، وهي عنده لا تحمل من الإسلام إلا الاسم: (( وقد أجمع جميع فرق أهل الإسلام على أنه ليس مسلماًَ، مثل طوائف من الخوارج غلو فقالوا: إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط وآخرون استحلوا نكاح بنات البنين وطوائف كانوا من الشيعة ثم غلو، فقالت بعضهم بإلهية علي بن أبي طالب والأئمة بعده)) (3) ، فهذه طوائف من الغالية وسيفرد لها ابن حزم في نهاية بحثه مبحثاُ خاصاً يحدد فيه مقالات يحمل عنوان: (( ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو إلى المحال من أقوال أهل البدع )) (4) .
__________
(1) الفصل، ( 2/266).
(2) الفصل، ( 2/266).
(3) الفصل، ( 2/267).
(4) الفصل، ( 5/33).(1/36)
والملاحظة التي تسترعي الانتباه في المبحث الذي خص فيه ابن حزم عرض الآراء الغالية لبعض الفرق الإسلامية، أنه أعطى لعقيدة الأشاعرة حصة الأسد في الباب لذا ذكر فيه (( شنع المرجئة)) وفق تعبيره(1) ، فشن فيه هجوماً قاسياً على عقيدة الأشاعرة بصورة عامة، وبعض آرائهم التي أخذها عن الباجي بصورة خاصة، ويستغرق ذلك صفحات كثيرة(2) . وهذا يجعلنا نتساءل عن أسباب ذلك، وربما يكون عداء فقهاء الأندلس الأشاعرة أثراً في دفعه بهذا الاتجاه، خاصة وقد تعرض لإحراج شديد في مناظرتة مع الباجي، وكان رأساً من رؤوس الأشاعرة(3) ، وبذلك يمكن القول أنه كانت لابن حزم أهداف مذهبية في هذا الكتاب بحيث أنه أخل بمنهجه، على الأقل، وعلى العموم نصل إلى نتيجة خلاصتها أن الفرق عند ابن حزم تقسم إلى قسمين رئيسين، القسم الأول: الفرق التي تنتمي لأهل الإسلام ولم تخرج من إطاره، بحثها في المسائل الكلامية ، القسم الثاني: التي تنتمي لأهل الإسلام ولكنها برأيه ليست من الإسلام في شئ وهم الغلاة، ونجد من المناسب أن نعرض أنموذجاً للقسم الأول لأهميته في إبراز منهجه، وتحديد سماته في تناوله للفرق:
كلام في الرؤية:
إن اختيارنا لهذه المسألة، وجعلها أنموذجاً للداسة يعود إلى أنها كانت مختصرة عند
ابن حزم ولكون النزاع فيها معروفاً ومشهوراً.
يبدأ ابن حزم بإيراد أقوال الفرق بهذه المسألة، وعادة ما يكون التقسيم من فريقين: (( قال أبو محمد: ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان، إلى أن الله عز وجل يرى في الآخرة...... وذهب المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا والآخرة.
__________
(1) الفصل، ( 5/73).
(2) الفصل، ( 5/73ـ 96).
(3) ابن حزم، الفصل، ( 5/ 74ـ75).(1/37)
وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة، وضرار بن عمرو(1) ، من المعتزلة إلى أن الله يرى في الآخرة، ولا يرى في الدنيا وقال الحسين بن محمد النجار هو جائز لم يقطع به (2) ، وهكذا يورد ابن حزم آراء المتكلمين في مسألة الرؤية على شكل ملخص موجز، ثم يبدأ بعد ذلك بتفنيد أقوال المخالفين وهم المجسمة والمعتزلة مبيناً إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة: (( بقوة غير القوة الموضوعة في العين الآن، لكن بقوة موهوبة من الله عز وجل )) (3) ) ، ثم يورد حجة المعتزلة في ذلك وهي قوله تعالى: ?لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ? (الأنعام:103)، حيث يقول: (( وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك عندنا في الله زائد على النظر والرؤية)) (4) ، ثم يبين معنى الإدراك والرؤية والفرق بينهما، وهذا مبحث لغوي قد أوضحنا أسلوب ابن حزم فيه، وبعد أن ينتهي من ذلك يورد بعض الاعتراضات للمعتزلة منها قول الجبائي(5) أن (( إلى )) في قوله تعالى:? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? (القيامة:22ـ23)، ليست حرف جر لكنها اسم وهي: ( واحدة الآلاء وهي النعم، وهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة) (6)
__________
(1) هو ضرار بن عمرو القاضي معتزلي جلد، له مقالات خبيثة، شهد عليه أحمد بن حنبل فأمر القاضي بضرب عنقه فهرب وأخفاه يحيي بن خالد، ويعد من رجال منتصف القرن الثالث الهجري، ترجمته عند ابن النديم، ( الفهرست) ( ص 214ـ 215)، ابن حجر: ( لسان الميزان)،(3/203).
(2) الفصل، (3/7).
(3) الفصل، (3/8).
(4) الفصل، (3/8).
(5) هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، أحد أعلام المعتزلة،كان إماماً في علم الكلام،رئيس المعتزلة بالبصرة(ت 303هـ ) ترجمته عند ابن خلكان، ( وفيات الأعيان)، ( 4/ 267ـ296).
(6) الفصل، (3/ 8ـ10) ومن المناسب إيراد ابن حزم، وهو ( أن الله تعالى أخبر أنهما تنتظر بعد النضرة وهي النعمة الأول نعمة أخرى لم تقع بعد.. والأمر الثاني أن الأخبار قد تواترت في إثبات هذه الرؤية عن النبي- صلى الله عليه وسلم - .(1/38)
يقول ابن حزم راداً هذه الدعوى: ( هذا بعيد لوجهين ....إلخ) ثم يورد رده المحبك المدعوم بالأدلة، حتى إذا انتهى من ذلك كله بدأ بتقرير الرؤية ورؤية الله تعالى يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا ذلك الله من فضله ) (1) إن هذا العرض السريع لمبحث الرؤية يعطينا تصوراً لمنهج ابن حزم في دراسته للفرق من خلال عقائدها، والمسائل الكلامية التي بحثها، وقد قدمنا فيما سلف الأدوات التي يستخدمها أهل العقائد
وبهذا تقرر أن منهجه إلى حد ما منهج محدد له خطوط واضحة سار بها. إلا أن هذا لم يكن ليعصم ابن حزم من إهمال كثير من الفرق الإسلامية مركزاً على أساس الفرق كما فعل الأشعري والبغدادي والشهرستاني، بل إنه اعتمد منهجاً آخر يرتكز على الأعلام في تحديد المقالات وتقسيمها، وهذا ما سنبينه إن شاء الله تعالى بالمبحث الآتي:
الأعلام:
__________
(1) الفصل، ( 3/ 10).(1/39)
إن مؤرخ الملل والنحل عادة ما يتعامل مع عدد كبير من الأعلام التي لها أهميتها في بيان جذور كثير من الفرق، حيث جعلها علامة بارزة في منهجه، الذي يعتمد عليها في تحديد مسار بحثه أكثر من اهتمامه بأسماء الفرق، وجعلهم من أسس تحديد الآراء والمقالات. والمطالع لمبحث المعتزلة في كتاب الفصل يجد ما قررناه واضحاً فالمنهج الذي يختطه ابن حزم في إيراد مقالات المعتزلة، يستند على أعلام متكلميهم، ومثال ذلك: (( وقالت المعتزلة بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني الكوفي، ومن وافقه كحفص الفرد(1) أن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم التي ذكرها ابن حزم عنه، وأشار كذلك إلى الرأي نفسه من كون حفص الفرد قد تبع ضرار بن عمرو في مقالته هذه. وهذه يدل على أن ابن حزم لم يرتئ التقسيم الذي اتبعه التغدادي لأن طريقتة أيسر وأسهل منه.
__________
(1) هو حفص بن أبي المقدام، كان ـ بالإضافة إلى قول ابن حزم فيه ـ كان ينفى صفات الباري عز وجل، ويشك في عامة المسلمين ويقول: ( لا أدري لعل سرائر العامة كلها شرك وكفر) ، ترجمته عند ابن النديم، الفهرست، ( 229ـ 230) البغدادي، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي، الفرق بين الفرق ( بيروت، 1997)، (ص202).(1/40)
وقد يهتم ابن حزم بذكر معلومات تدور حول العلم، وتعد مهمة بالنسبة له، ومثال ذلك عندما يتحدث عن أبي الهذيل العلاف يقول: (( أبو الهذيل بن مكحول العلاف مولي عبد القيس، بصرى، أحد رؤساء المعتزلة ومتقدميهم )) (1) ، فهو يذكر هنا أنه من الموالي، بصري بالسكن معتزلي العقيدة، وكأنه يلفت انتباه القارئ إلى هذه الصفات التي يلحقها والشئ نفسه يفعله مع آخرين مثل الجاحظ(2) ) وغيره، وابن حزم يدرس أيضاً التنشئة الاجتماعية للمفكر، وينبه على مكانتها وإن كان هذا بصورة موجزة مختصرة: (( ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن بيغجور المعروف بابن الأخشيد، وهو أحد أركان المعتزلة، وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة )) (3)، من الأتراك وولي أبوه (4) الثغور وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي (5) ، فهو هنا يهتم بذكر أصول هذا الرجل وعائلته ونسبه ومذهبه، وهي مهمة بنظره تستحق أن يطلع عليها القارئ.
أما فيما يخص الفرق الشيعية، فإن الاهتمام بالأعلام يأخذ إطاراً أكبر ويحتل مساحة أوسع، وعادة ما يقسمهم بحسب الإمام الذي دعيت إليه واعتقدت رجعته كقول طائفة منهم: ”أن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن الحسين بن الحسين بن علي بن أبي طالب” (6) حي لم يمت ويفعل الشيء نفسه مع معظم الفرق الشيعية (7)، إن ابن حزم يركز على ذكر أسماء الأئمة كاملة عند تقسيمه لفرق الشيعة حتى لا يقع اللبس بين الأسماء خاصة وأن كثير من الأسماء متشابهة.
__________
(1) الفصل، (5/ 57)،ويقارن بما عند البغدادي، الفرق بين الفرق، (202).
(2) الفصل، (5/ 62).
(3) فرغانة: بالفتح ثم السكون، وعين معجمة، مدينة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد تركستان، بينها وبين سمرقند خمسون فرسخاً، الحموي: معجم البلدان،( 4/ 253).
(4) لم أقف على ترجمته.
(5) الفصل، (4/ 107).
(6) لم أقف على ترجمته.
(7) الفصل (4/107).(1/41)
والملاحظ على منهجه هنا أنه عادة ما يكون انتقائيا في ذكر الأعلام، وليس هدفه التحديد والحصر، ولذلك قد لا تكون الاستفادة طيبة عند البحث في تحديد دقيق للفرق الإسلامية في كتاب ابن حزم، هذا في حين أن القارئ يحصل على مبتغاه من فوائد كثيرة إن أراد أن يبحث عن علم من أعلام المعتزلة والمرجئة وغيرها من الفرق وآراءه الكلامية وحججه، ورد ابن حزم عليه، وهذه هي ميزة ابن حزم في كتابه مقارنة بما كتبه الشهرستاني الذي كان هدفه عكس هدف ابن حزم فاهتم بذكر الفرقة وخصائصها، ولم يكن مهتما كثيرا بأعلامها(1).
ولم يكن ابن حزم ليعصم نفسه من الوقوع في بعض الهفوات، والتي هي من سبيل السهو وسبق القلم في إيراده لهذه الأعلام، فعند ذكره لرأس طائفة النجدات لدى فرق الخوارج يسميه نجدة بن عويمر الحنفي (بالتصغير) (2)، بينما تذكره المصادر الباقية باسم نجدة بن عامر(3).
ورغم أنه يصرح في مكان آخر بأن نقل هذه المعلومة من خط الحكم المستنصر (4)، فإن هذا لا يعفيه من مسئوليتها أيضا. وقد يطلق لقبا غربيا على اسم اشتهر بلق آخر مثل لا تسميته أبا مسلم الخراساني (5)، بأبي مسلم السراج(6)، وأنه يذكر أعلاما مبهمة مثل قوله: ”ورأيت رجل يعرف بابن شمعون” (7)
__________
(1) الفصل (5/35) وينظر: ابن حزم، الجمهرة، (53-54).
(2) الفصل (5/35-40).
(3) مكي خليل حمود، الملل والنحل للشهرستاني، (ص 178).
(4) الفصل، (5/35).
(5) الطبري، محمد بن جرير، "تاريخ الأمم والملوك”، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم (القاهرة، 1966)،/ (6/174)، الأشعري، ”مقالات الإسلاميين”، (1/162)، البغدادي، "الفرق بين الفرق"، (66/96).
(6) ابن حزم، الجمهرة، (ص310).
(7) هو عبد الرحمن بن مسلم، واشتهر بكنيته، أحد دعاة بني العباسي، ثم ولي خراسان في عهد الخليفة العباسي الأول، قتله المنصور سنة (137هـ) ينظر أخباره عند: الطبري، التاريخ، (7/377-392)، (448-450).
الفصل، (5/36، 49)، الرسائل، (2/68، 95).
الفصل، (5/97).(1/42)
، وهذا يولد تساؤلا لدى القارئ عن أصول هؤلاء الأعلام.
المصطلحات
نجد من المناسب هنا، وقد تطرقنا للأعلام وأهميتها في منهج ابن حزم أن نعرج على بعض المصطلحات التي كانت مثار نزع عند كثير من أصحاب الفرق، وتنازعوا فيها نزاعاً شديداً، ونبين موقف ابن حزم منها، والقيمة المنهجية لها عنده.
الأمر المهم الذي يجب أن نضعه أمام القارئ أن ابن حزم غالباً ما يحاول أن يكون خلفية لكثير من التعابير المتداولة على ألسنة المتكلمين، لأنها باعتقاده ليس لها أصول شرعية، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى مذهبه الظاهري وأثره في نتاجه الفكري بصورة عامة، فنجده يعترض على مصطلح " الصفة" ويتهم المعتزلة باختراع هذه اللفظة: " وسلك سبيلهم قوم من أصحاب الكلام، سلكوا غير مسلك السلف الصالح ليس فيهم أسوة ولا قدوة وحسبنا الله ونعم الوكيل"ز ولكن ابن حزم نفسه يحاول أن يؤول في هذه الصفات والتي هي عنده أسماء وقد يلتقي مع بعض آراء المعتزلة في هذا الاتجاه (1)، واتهمه ابن تيمية بنفي الصفات لهذا السبب وعلل تخبط ابن حزم في ذلك: " بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه ولم يتفق له من بين لهم خطأهم" (2)، ويمكن أن نلتمس لابن حزم العذر في ذلك، كما التمسه له ابن تيمية، إذ أنه بالإضافة إلى عدم وجود من يبين خطأ الفلاسفة له، إنه لم يكن ينفي الصفات بل أنه اعترض على هذا المصطلح فقط، وكان مذهبه الظاهري سبباً قوياً لذلك (3).
__________
(1) الفصل، (2/363 – 385)، أبو زهرة، ابن حزم، (221).
(2) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، تحقيق محمد رشاد سالم (الرياض، 1986)، (2، 584).
(3) ينظر للتفاصيل: مهدي طه مكي الصالحي، آراه ابن حزم فيما بعد الطبيعة رسالة ماجستير غير منشورة (جامعة بغداد، كلية الآداب، 1987)، (175 – 179).(1/43)
وعند نقاشه أوجه المفاضلة بين الصحابة، يكثر من الاهتمام بهذا الجانب ويعده أساساً منهجياً مهماً، فلابد أن يعرف الخليفة قبل أن يخوض في مسألة الخلافة فيقول: " الخليفة في اللغة: هو الذي يستخلفه المرء لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو" (1)، وهو هنا يلجأ إلى تعريف هذا المصطلح عند مناقشة أمر الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر فيها مشهور، في حين نجده ينبه إلى أن بعض المصطلحات تحتاج إلى تفصيل، وما زلنا في باب المفاضلة بين الصحابة، واحتجاج البعض بأن علياً - رضي الله عنه - كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً والجهاد أفضل الأعمال: " قال أبو محمد: هذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة: أحدها: الدعاء إلى الله عز وجل باللسان، والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير، والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب"(2)، إن هذا المنهج في بيان المصطلحات يقوده إلى رسم خطوط واضحة لمسار فقرات كثيرة من كتابه، ويتخذه طريقة للتعبير، وفي الوقت نفسه الذي تكون للبيان والتدليل، وفي هذا المقام لا ينسى أن ينبه على مسألة في غاية الأهمية وهي التي اصطلح عليها: " التدليس" ويحذر القارئ منها قبل أن يدخل إلى مبحث الفرق الإسلامية: ولكن ربما دلسوا المعنى الفاحش بلفظ ملتبس ليسهلوه على أهل الجهل، ويحسن الظن بهم من أتباعهم" (3)، وبذلك يحدد ابن حزم مصطلح خاص به ويحذر القارئ منه. فقط تختلط بعض المصطلحات على من لا علم له بالأمر، مما قد يسبب فهماً خاطئاً، ويمثل لنا في ذلك: " كقول طوائف من أهل البدع والضلال: لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال وعلى الظلم ولا على الكذب، ولا على غير ما علم أنه يكون، فأخفوا عظيم الكفر في هذه القضية لما ذكرنا من تلبيس الأغمار من اتباعهم. وتسكين الدهماء من مخالفيهم ... "(4)، وفي
__________
(1) الفصل، (4/176).
(2) الفصل، (4/183- 184).
(3) الفصل، (5/33).
(4) الفصل، (5/33).(1/44)
هذا إشارة واضحة من قبله على ضرورة الموضوعية في مثل هذه الكتابات، خصوصاً وأن لها دوراً أساسياً في بيان الخلاف وأصله بين الفرق المختلفة.
على أننا إن تتبعنا إطلاق ابن حزم التسميات على الفرق التي نسب إليها المقالات، لا يهتم كثيراً بذكرها على حسب ما اشتهرت به كما فعل الشهرستاني من بعده (1)، ونجده انتقائياً في ذلك، فأول الطوائف الرئيسية التي يتناولها هم الشيعة بفرقها المتعددة، ويذكر أسماء عدد كبير منها (2)، في حين أنه لا يذكر إلا النزر اليسير من فرق المعتزلة، والمرجئة، وهذا الأمر يجعلنا نتساءل، لماذا أورد بعض المصطلحات وغض النظر عن البعض الآخر؟ وهنا لا نستطيع إلا أن نقول: أنه لم يبر مبرراً لتحديدها وفق المصطلحات المتداولة بين المؤرخين، لأن هذه المصطلحات في الأساس غير ثابتة المفهوم، وكأنه يعني ذلك عندما يصرح بأنه يعتقد أن الكيسانية شعبة من الزيدية (3)، رغم أن كلاً من البغدادي (4)، والشهرستاني (5)، عدها صنفاً مستقلاً عن الزيدية.
من خلال ما مر، نستطيع أن نرسم خطوط عامة لاستخدام ابن حزم للمصطلح وتوظيفه لخدمة منهجه العلمي، بالرغم من أنه لم يستطع أن يحدد لنا كثير من تلك المصطلحات التي اعتاد كثير منا أن يجدها على شكل قائمة طويلة في كتب الملل والنحل، ولكن غرض ابن حزم كان واضحاً هو: عدم التقييد بمصطلحات سرعان ما تكون مثار نزاع بين أهل هذا الفن نفسه من أهل الكلام.
أسباب نشوء الفرق عند ابن حزم:
__________
(1) مكي خليل حمود، الملل والنحل للشهرستاني (177- 178).
(2) الفصل، (5/35 – 49).
(3) الفصل، (5/35).
(4) الفرق بين الفرق ، (ص 15).
(5) الملل والنحل، (1/235).(1/45)
لقد اعتنى ابن حزم بأسباب نشوء الفرق الإسلامية، والبحث في أصولها، وقدم لنا أسباباً هي في نظرهن رئيسية تتمثل في الكيد بالإسلام بعد أن سيطر على العالم حسداً من بعض، وحقداً من البعض الآخر ويمكن أن نحدد نشوء الفرق الإسلامية بنظره إلى الأسباب الآتية:
1- الأسباب السياسية: وفيه يتضح جلياً أن ابن حزم يركز فيه على دور بعض الفرس الذين مثلوا هذا الاتجاه أبرز تمثيل بقوله: " إن الفرس، كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم حتى أنهم كانوا يسمون الأحرار الأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكان العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً تعاظم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا يد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله الحق .... " (1)، فوضوح هذا النص، وصدق تفسيره، لا يحتاج إلى أي تحليل، وهو لا يكتفي بهذا الجانب بل إنه يبين الوسائل التي اتخذها هؤلاء من أجل الوصول إلى مآربهم وهي:
__________
(1) الفصل، (2/273).(1/46)
أ- الخروج عن السلطة المركزية الإسلامية، ومحاربتها وعلناً بواسطة دعوة الناس إلى حركات هدامة ظاهرة الإلحاد مثل حركة بابك الخرمي (1)، والمقنع (2)، وغيرهما (3).
ب- محاولة الالتفاف حول السلطة المركزية الإسلامية عن طريق أعوان يتظاهرون بالولاء لها، والطعن بظهرها، مثل دعوة أبي مسلم السراج (الخراساني) (4).
جـ- اتخاذ التشيع لآل البيت رضي الله عنهم وسيلة لاستمالة قوم من أهل الإسلام " ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم من السلام"(5).
__________
(1) بابك الخرمي، إليه تنسب الطائفة الخرمية، وقد أحدث مذهبهم: القتل والغصب والحروب والمثلة، وقاد حرباً عنيفة ضد الدولة العباسية، ذكره الطبري لأول مرة في حوادث سنة (201هـ) واستمرت حركته حتى سنة (223هـ) حينما حمل رأسه إلى المعتصم. ينظر: الطبري، " تاريخ الأمم والملوك"، (8/556)، (9/11 – 16)، (23-55)، ابن النديم: الفهرست، (406، 407)، قحطان عبد الرحمن الدوري، " الحركات الهدامة في الإسلام" (بغداد 1989)، (85 – 184).
(2) ظهر أول مرة سنة (161هـ) في مرو بخراسان، وكان يقول بتناسخ الأرواح، واستدرج بشراً كثيراً، قتل (سنة 163هـ). ينظر الطبري،، التاريخ (8/35، 144).
(3) الفصل، (2/273).
(4) الفصل، (2/273).
(5) الفصل، (2/273).(1/47)
د- محاولة إحياء المعتقدات المجوسية من مزدكية ومانوية وغيرهما، وتمريرها إلى بعض الفرق الإسلامية مثل الإسماعيلية (1)، والقرامطة (2)، وهذا ما أشار إليه بقوله: إن سر هاتين الطائفتين يعود إلى المزدكية (3).
وهكذا نجده يحلل مقاصد أعداء الإسلام وينبه المسلمين إلى الخطر المحدق بهم، سابقاً بذلك كثير من العلماء قدامى ومحدثين وقد وجدنا في عصرنا الحاض من يتبنى هذا الراي ويدافع عنه منهم على سبيل المثال عبد الفتاح المغربي (4)، وأحمد شلبي (5)، وقحطان الدوري (6) من المسلمين، ودوزي وملر (7) من المستشرقين.
__________
(1) الإسماعيلية: طائفة من الشيعة قالت بإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، واختلفوا فيه، فمنهم من قال أنه مات ومنهم من قال بل أظهر موته تقية، واشتهرت هذه الفرقة أيضاً باسم الباطنية، ينظر معتقداتهم عند: البغدادي: "الفرق بين الفرق" (265 – 299)، الشهرستاني، " الملل والنحل"، (1/330- 345)، وقد اعتنى بدراسة هذه الفرقة برناردلويس، أصول الإسماعيلية، ترجمة خليل أحمد جلو، جاسم محمد رجب (القاهرة 1962).
(2) القرامطة: نسبة إلى رجل من سواد الكوفة يقال له قرمط، لهم مذهب مذمومة وظهروا سنة (281هـ) في خلافة المعتضد، وطالت أيامهم وعظمت شوكتهم، انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان، (2/146 – 150).
(3) الفصل، (1/87)، (2/274).
(4) عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية (القاهرة 1988)، (ص 147).
(5) أحمد شلبي، حركات فارسية مدمرة ضد الإسلام والمسلمين عبر العصور (القاهرة، 1988)، (ص 57).
(6) الدوري، الحركات الهدامة، (ص 26).
(7) بوليوس فلهاوزن، أحزاب المعارضة السياسية في صدر الإسلام، الخوارج والشيعة، ترجمة عبد الرحمن بدوي (القاهرة 1958)، (ص 240 – 241).(1/48)
2- الأسباب الاجتماعية: نبه ابن حزم مبكراً إلى العوامل الاجتماعية التي أسهمت في ظهور بعض الفرق، فالخوارج بنظره: " كانوا أعراباً قرأوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء ولا الصحابة" (1)، فهم حاولوا نقل جفاء البادية إلى سماحة الإسلام فوقعوا فيما وقع فيه: " ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها"(2).
وهذا يدل على النظرة الشمولية التي نظر بها ابن حزم لهذا الفرقة، بحيث استطاع أن يقدم لنا تعليلاً مقنعاً لسبب ظهورها، وهذا يدل على عمق تفكيره، وصدق حدسه.
__________
(1) الفصل، (4/237).
(2) الفصل، (4/237).(1/49)
3- الأسباب الفكرية: ومن الأسباب المهمة التي أدت إلى ظهور الفرق في نظره في الناحية الفكرية، ونجده على هذا يعد اليهود على رأس هذا الاتجاه، ويرجع إليهم نشوء بعض مذاهب الباطنية في الإسلام، كما فعلوا ذلك في النصرانية، فدسوا فيهم من حرف دينهم وشوه عقيدتهم (1)، وفي رأيه يرجع سبب ظهور الغلاة من الشيعة إلى كيد عبد الله بن سبأ اليهود (2) الذي تظاهر بالسلام ليضل من يستطيع إضلاله من المسلمين (3)، وقد ناقش كلام ابن حزم هذا عدد من الباحثين المعاصرين (4)، ولم يكتف اليهود (بنظره – بسلك هذا الجانب فقط، بل اتخذوا سلاح الفكر وسيلة لبث سمومهم في جسد الإسلام، وعلى وجه الخصوص علمائهم منهم: الفيومي (5) المغمر داود بن قزوان وغيرهم من مفكري اليهود (6)، وشاركهم في ذلك أيضاً بعض مفكري النصارى، وأشد الناس تأثراً بهذا الجانب هم المعتزلة(7)، كما أن بعض الفرس قد سلكوا هذا السبيل أيضاً فقاموا بتمويه الكلام بأصول فلسفية وإلحادية وتمريرها بمعتقدات المسلمين عن
__________
(1) الفصل، (2/89 – 90).
(2) هو من يهود اليمن، وقد أظهر الإسلام لغرض الكيد بأهله، رحل إلى الحجاز والبصرة والكوفة ودمشق، وأظهر مقالات خبيثة منها القول برجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وألوهية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إليه تنسب الطائفة السبائية، وهم من غلاة الشيعة، ينظر ابن حزم، الفصل، (5/36) ، الشهرستاني الملل والنحل، (1/289 – 291). وقد اعتنى بدراسة هذه الشخصية وأثبتت بكونها حقيقة: محمد سليمان العودة، عبد الله بن سبأ واثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام (الرياض، 1985)، (38 – 52).
(3) الفصل، (1/ 325 – 326).
(4) ينظر بهذا الخصوص ما كتبه العودة، عبد الله بن سبأ، (53 – 104).
(5) هو سعيد بن يوسف الفيومي من متكلمي اليهود وعلمائهم، قال ابن النديم " وقد أدركه جماعة في زماننا" الفهرست، (ص 25).
(6) لم أقف على ترجمته.
(7) الفصل، (3/207).(1/50)
طريق إحياء الفكر المجوسي القديم، بالترجمة والحرص على نشره بين الناس (1).
ونرى من ذلك الاهتمام الشديد الذي يوليه ابن حزم لأسباب ظهور الفرق في التاريخ الإسلامي، ويشكل بحثه في هذا المضمار عنصراً بارزاً من عناصر منهجه، ولا بد من الشارة إلى أمور أعانته وهي في حقيقتها أداوته الخاصة في هذا الاتجاه وتتمثل فيما يأتي:
1- الخبر:
إن دراسة طبيعة تعامل ابن حزم مع الخبر مهمة في بيان قيمة منهجه العلمي خاصة وهو يبدأ دراسته للفرق الإسلامية بهذا القول الذي يدل على الأمانة العلمية: " وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد ما يقله نصاً" (2)، ولابن حزم نظرة شمولية للخبر التاريخي، لأنه لا يفرق بين الكافة من الناس سواء كانت كافرة أم مسلمة: " ومن قال لا أصدق لا ما نقلته كتاب المسلمين فإننا نسأله: بأي شيء صح عنده موت ملوك الروم ولم يحضره مسلم أصلاً، وإنما نقلته إلينا يهود عن نصارى" (3)، وبطبيعة الحال فإنه يعد تاريخ الملة الإسلامية أصح شيء عنده (4).
__________
(1) الفصل، (3/207).
(2) الفصل، (5/33).
(3) الفصل، (4/23).
(4) الرسائل، (4/79).(1/51)
ويختصر ابن حزم الطريق مع مناظريه في مناقشه الأخبار، فهو عند مناقشة الأخبار بين أهل السنة والشيعة يختصر الأمر فيقول: " فلا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقها" (1)، فيبدأ بمناقشة الأخبار التي اتفق الجانبان عليها مثل احتجاجهم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (2)، وهنا يثير حس القارئ ويبين له مغزى الحادثة بأسلوب علمي رصين حيث يقول: " إنما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استخلف علياً - رضي الله عنه - على المدينة في غزوة تبوك، فقال له المنافقون استثقله فخلفه، فلحق علي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكى إليه ذلك، فقال له ما قال" (3)، إن هذا البرهان الذي يقدمه لنا يدل على تمكنه من الإحاطة بالحادثة التاريخية، في الوقت نفسه الذي يدل على علمه الواسع بالسيرة، والذي أعانه أكثر على فرض وجهة نظره تلك الثقافة الجيدة التي تمتع بها، وهو لا يتردد حتى في طرح أصل هذا الاستخلاف في التوراة نفسها وهو أن: " هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون
__________
(1) الفصل، (4/159).
(2) مسلم، الصحيح، (4/1870 – 1871) ، الترمذي، السنن، (5، 638).
(3) الفصل، (4/159 – 160)، وينظر: ابن هشام، السيرة، (2/519 – 520).(1/52)
(1)، فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام، كما ولي الأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة " (2)، من هذا الأنموذج الذي قدمناه يتضح بجلاء توظيف ابن حزم للخبر التاريخي لدراسة مسائل الخلاف عند الفرق، وفيه يتجلى لنا أصالة بحثه وسعة ثقافته، وهذه المسابقة التي تميز بها، هي مهمة لبيان موقفه من مختلف المسائل الخلافية التي ترد في كتابه.
وهو يخضع الخبر لميزان العقل ولا يسلم به على عيوبه، لأن تمحيص الخبر التاريخي من أهم مهام المؤرخ، فعند مناقشته لقول من ادعى أن وفاة عثمان - رضي الله عنه - : " أقام مطروحاً على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحث، وإفك موضوع، وتوليد من لا حياء في وجهه، شهد دفنه طائفة من الصحابة هذا ما لا يتمارى فيه ممن له علم بالأخبار" (3)، من خلال هذا يمكن القول أن فهم ابن حزم للخبر التاريخي، كان مدخلاً أساسياً لعرض وجهات النظر عند الفرق الإسلامية، وفي الصورة التي قدمناها نرى الجهود الطيبة لهذا المفكر الذي حاول حل هذه المسائل بالاعتماد على الخبر وجعله وسيلة من وسائل المؤرخ لفرق المسلمين، وفي تتبع ظهورها، وبيان حججهم وأقوالهم، في الوقت نفسه الذي يوضح لنا مكانة ابن حزم كمؤرخ للفرق الإسلامية، وقيمة نتاجه في هذا الميدان.
2- النقد:
__________
(1) ورد في التوراة: " وكان بعد موت موسى عبد الرب أن الرب كلم يوشع بن نون خادم موسى قائلاً، فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل " سفر يوشع. الإصحاح الأول، (1-3).
(2) الفصل، (4/159).
(3) الفصل، (3/239).(1/53)
ينبع اهتمام العلماء المسلمين بعلم الجرح والتعديل لسند الحديث النبوي الشريف من مكانة هذا العلم في نفوس المسلمين، وكثرة أهل البدع والضلال من أصحاب الفرق ممن كانوا ينتحلون الحديث لنصرة مذهبهم ومعتقدهم، فتصدى لهؤلاء العلماء المخلصون لهذا الدين ووضعوا القواعد لنقد الحديث النبوي (1).
وبقدر تعلق الأمر بابن حزم، الذي يعد من حفاظ الحديث ونقاده، فقد أعطى نصيباً لهذا الجانب، واهتم به، والملاحظ عليه بصورة عامة أنه من المتشددين في نقد الرجال (2)، وكذلك أنه أطلق على عدد من الرواة المشهورين لفظ "مجهول"(3)، وأشهر هؤلاء محمد بن عيسى الترمذي صاحب السنن (4)، وأشار ابن حجر إلى ذلك وتتبع بعض الهفوات التي وقع فيها في هذا الجانب (5). أما مسألة تشدده في نقد الرجال، فقد أشار إليها السخاوي، وعدت هذه النقطة من المآخذ عليه، إذ هو يجر الرجل لأدنى حجة، مثل تضعيفه رواية المنهال بن عمرو (6)، وأسقط روايته حيث يقول عنه: " تركه شعبه وغيره"(7)، وتعقب ابن القيم كلام ابن حزم في هذا الرجل ورده حيث قال: " وتضعيف ابن حزم له لا شيء فإنه لم يذكر موجباً لتضعيفه غير تفرده بقوله فتعاد روحه إلى جسده، ولم يتفرد بها بل رواها غيره"(8)
__________
(1) الخطيب البغدادي، الكفاية، (ص 105 – 106).
(2) السخاوي، الإعلان بالتوبيخ، (722 – 723).
(3) ويعني عند أهل الحديث: " هو الرجل الذي لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء، ومن لا يعرف حديثه إلا من وجهة راو واحد" الخطيب البغداي، الكفاية، (ص 88).
(4) ابن حجر، تهذيب التهذيب، (9/388).
(5) ابن حجر، لسان الميزان، (1/432).
(6) المنهال بن عمرو، وثقه ابن معين والعجلي والكوفي، وقد روى عن أنس وغيره وتركه شعبة لأنه سمع في بيته صوت طنبور، ينظر: الخطيب البغدادي، " الكفاية" (ص 112)، ابن حجر: " تهذيب التهذيب"، (10/318 – 321).
(7) الفصل، (4/119).
(8) ابن قيم، محمد بن أبي بكر الجوزية، الروح (بيروت، 1975)، (ص 48).(1/54)
، ومن هذا المثال يتضح أن ابن حزم كان متشدداً في نقد الرجال، ولذلك لم يأخذ معظم علماء الحديث كلام ابن حزم إذا انفرد بترجيح رجل، كما هي القاعدة عند أئمة هذا الفن " لا يؤخذ من المتشدد إذا خالف الآخرين"(1)، على أن هذا لا يقلل من جهوده في هذا المجال، بل إنه أجاد في معظم الأماكن في هذا الشأن مثل قوله عن أبي الحمراء(2): " لا يعرف من هو في الخلق"(3)، وبهذا أدخل ابن حزم علم الجرح والتعديل في دراسته لحجج وأدلة الفرق الإسلامية، وهي ميزة تكاد تختفي عند مؤرخي الملل والنحل الآخرين، وفيها تصور واضح عن أساس آخر من الأسس التي اعتمدها.
__________
(1) محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، (دمشق، بلات). (1/1/140).
(2) أبو الحمراء: له صحبة إلا أنه لا يصح حديثه كما ذهب إلى ذلك ابن حجر، تهذيب التهذيب، (121/78).
(3) الفصل، (4/161)(1/55)
وقد يحذر القارئ من الرواية عن بعض الإخباريين الذين اشتهروا بكثرة الرواية عن أهل الكتاب مثل روايات الكلبي (1)، وكعب الأحبار (2)، ووهب بن منبه (3)، ويتضح لنا بذلك المنهج النقدي عنده ودقته، حيث كان هدفه أن يطبق منهج المحدثين على الخبر التاريخي، ولم يكتف بنقده السند أو كما يسمى بالنقد الخارجي، بل إنه كان له أسلوبه في النقد الداخلي مثل ادعاء البعض بأن علي - رضي الله عنه - لم يكن له سمي وينتقد هذا الادعاء معتمداً على ثقافته العالية في النسب فيقول: " بل كان في العرب من يسمون هذا الاسم كعلي بن وائل (4)، إليه يرجع كل بكري في العالم نسبة، وفي الأزد علي، وفي بجليلة علي وغيرها، وكل ذلك في الجاهلية مشهور، وأقرب من كل ذلك عامر بن الطفيل يكنى أبا علي (5)، ومجاهرتهم أكثر مما تذكر"(6). إن هذا يوضح الأساس في مناقشة ابن حزم للخبر التاريخي، الذي يمثل في كثير من الأحيان سبب لإثارة الخلاف بين الفرق الإسلامية.
3- الإحصاء:
__________
(1) الفصل، (2/238)، والكلبي هو هشام بن محمد بن السائب، عالم بالكتب وأخبار العرب له قائمة طويلة من المؤلفات ذكرها ابن النديم (ت204 هـ)، ينظر ابن النديم، الفهرست، (ص 108 – 118)، ابن حجر، لسان الميزان، (6/169 – 170).
(2) كعب الأحبار، هو كعب بن ماتع الحميرين من مسلمة أهل الكتاب، كان كثير الرواية عن الكتب السماوية القديمة (ت32هـ)، ترجمته عند: أبي نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، (5/364 – 391)، (6/48).
(3) وهب بن منبه هو أبو عبد الله الصنعاني مؤرخ كثير الأخبار عن الكتب القديمة عالم بالأساطير لا سيما الاسرائيليات (ت110هـ) ترجمته عند: ابن سعد ، الطبقات، (5/543)، ابن حجر: تهذيب التهذيب، (11/166 – 168).
(4) ينظر: ابن حزم، الجمهرة، (ص 309).
(5) ينظر: ابن حزم، الجمهرة، (ص 285).
(6) الفصل، (5/41).(1/56)
اهتم ابن حزم بلغة الأرقام، وجعلها من أدوات بحثه التاريخية في سابقة لا نظير لها بين المؤرخين في كتب العقائد والفرق الذين وصلت إلينا كتبهم. وهو بمنهجه هذا يحاول أن يثبت صدق برهانه، وسعة اطلاعه، ولا يغفل عن ربطه بباقي البراهين الأخرى التي اتبعها، وأوضح أنموذج لدراسة هذا الجانب هو عند بحثه مسألة المفاضلة بين الصحابة التي يعتمد فيها من ضمن ما يعتمد على أمور إحصائية ففي تقييمه لشخصية أبي بكر - رضي الله عنه - ، يبين أنه أفقه الصحابة وأكثرهم رواية، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار: " أنا أبا بكر - رضي الله عنه - لم يعش بعد رسول الله إلا سنتين وستة أشهر"(1)، وهو أيضاً لم يكن قد غادر المدينة في خلافته إلا حاجاً أو معتمراً، ومع ذلك فقد: " روى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث واثنان وأربعون حديثاً مسندة "(2)، كما أنه كان ورعاً في مدة خلافته فلم يستعمل أحداً من أقربائه في الأعمال والأمصار، بالرغم من أنه كان له أقرباء من خيار الصحابة (3). كما أنه كان أول الناس إسلاماً برأيه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث وعمره ثمان وثلاثين سنة مقارنة بغيره من الصحابة وهذا السن فيه كمال العقل والمكانة الاجتماعية فكانت قوة معنوية للنبي عليه الصلاة والسلام (4)، وحتى بعد أن تولى الخلافة - رضي الله عنه - كان زاهداً في المعيشة متكففاً بها: " فما اتخذ جاريه ولا توسع في مال، وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي "(5).
__________
(1) الفصل، (4/213).
(2) الفصل، (4/213).
(3) الفصل، (4/217).
(4) الفصل، (1/218).
(5) الفصل، (1/216).(1/57)
وقد اقتصرنا على ذكر هذه الأمور التي لها علاقة بالإحصاء أما وجوه المفاضلة الباقية، فيكفي أن نحيل القارئ إلى الكتاب ليرى ذلك بنفسه (1)، المهم هنا أن ابن حزم يحاول أن يبرهن لنا أن الإحصاء مهم في عملية الاستدلال، وقدمنا صورة واضحة هنا، وتدل هذه الصفة فيه على حسن اختياره لوسيلة البحث إضافة إلى سعة وسائل الإقناع الأخرى، وهي مكملة للموضوع وساندة له، وهذه هي نقطة الإبداع في نتاجه.
__________
(1) الفصل، (4/164 ، 211)، (5/204).(1/58)