تميز الترمذي رحمه الله في جامعه بمصطلحات خاصة به في جامعه ومن أبرزها مصطلح "حسن صحيح" الذي اختلف فيه النقاد اختلافا كبيرا وقبل الشروع في ذكر أقوال العلماء رحمهم الله في هذا الشأن لابد من إلقاء نظرة سريعة على جامع الترمذي رحمه الله الذي اشتهر باسم سنن الترمذي :
وهو أحد الكتب الستة (البخاري ومسلم وأصحاب السنن) وأحد كتب السنن الأربعة (النسائي والترمذي وأبو داود وابن ماجة) وقد ألفه الترمذي رحمه الله على أبواب الفقه (وهذا منهج أصحاب السنن الذين يعنون بترتيب كتبهم على الأبواب الفقهية ويقتصرون غالبا على الأحاديث المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ) (حجية السنة وتاريخها ص190) . وهذا أمر أغلبي وإلا فجامع الترمذي رحمه الله كمثال لكتب السنن يحتوي على موقوفات ومقطوعات حيث كان الترمذي رحمه الله يلتزم بذكر عمل الصحابة أو التابعين أو غيرهم بمقتضى الحديث الذي هو بصدد تصحيحه ، بل إن تحسينه كان مبنياً على ثبوت العمل به من بعض الصحابة. وهذا ما يعبر عنه الترمذي رحمه الله في أكثر من موضع في جامعه بقوله ’’وعليه العمل عند العلماء أو بعضهم ‘‘ ونحو ذلك . وتميز جامع الترمذي رحمه الله بعدة خصائص لخصها د/ حسين شواط في كتابه حجية السنة ص192 في النقاط التالية :
1. أنه عرض كتابه هذا على علماء الحجاز والعراق وخراسان فاستحسنوه .(1/1)
2. أنه اقتصر على إيراد الأحاديث التي عمل بها فقهاء الأمصار . حيث قال : وجميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به وقد أخذ به بعض العلماء ما خلا حديثين حديث ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر وحديث : "إذا شرب فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" اهـ . قلت (أي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في مذكرته في المصطلح صلى الله عليه وسلم41 : بل أخذ به الإمام أحمد رحمه الله بمقتضى حديث ابن عباس رضي الله عنه في الجمع فأجاز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء للمريض ونحوه وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما لم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ؟ فقال : أراد أن لا يحرج أمته فدل على أنه كلما لحق الأمة حرج في ترك الجمع جاز الجمع . وأما حيث قتل شارب الخمر في الرابعة فقد أخذ به بعض العلماء فقال ابن حزم رحمه الله : يقتل في الرابعة بكل حال وقال شيخ الإسلام رحمه الله : يقتل عند الحاجة إلى قتله إذا لم ينته الناس بدونه ، وعلى هذا فلا إجماع على ترك العمل بالحديثين .
3. أنه أول كتاب شهر الحديث الحسن ، لكثرة ذكر الترمذي رحمه الله لذلك عند الكلام على الأحاديث (كما سيأتي تفصيلا إن شاء الله) .(1/2)
4. حكم الترمذي رحمه الله في كتابه على أكثر الأحاديث وتكلم عليها بما يقتضي التصحيح أو التضعيف . قال ابن رجب رحمه الله : "اعلم أن الترمذي رحمه الله خرج في كتابه الصحيح والحسن والغريب ، والغرائب التي خرجها فبها بعض المنكر ولا سيما في كتاب الفضائل ولكنه يبين ذلك غالبا ولا أعلم أنه خرج عن متهم بالكذب متفق على اتهامه بإسناد منفرد ، نعم قد يخرج عن سيئ الحفظ ومن غلب على حديثه الوهن ويبين ذلك غالبا ولا يسكت عنه" اهـ . ويؤكد د/ حسين شواط على ضرورة عرض أحاديث جامع الترمذي رحمه الله على قواعد الجرح والتعديل ، وقد جرد الشيخ الألباني رحمه الله أحاديثه المقبولة في صحيح جامع الترمذي .
5. يعنون للباب غالبا بالحكم الذي يدل عليه أصح أحاديث ذلك الباب .
6. أورد فيه كثيرا من فقه الصحابة والتابعين ومذاهب فقهاء الأمصار ، فهو من أهم مصادر دراسة الفقه المذهبي وقد سبق أن الترمذي رحمه الله في تحسينه لبعض الأحاديث كان مبنياً على ثبوت العمل بها من بعض الصحابة .
7. يختصر الترمذي طرق الحديث فيذكر أحدها ويشير إلى غيره .
8. ذيل جامعه بكتاب بكتاب العلل ، وفيه فوائد نفيسة ، أثرى الحافظ رحمه الله الحنبلي في شرحه عليها وذكر فيها جملة مسائل مهمة في علم الجرح والتعديل مثل ذكر طبقات أتباع بعض الرواة كابن عمر رضي الله عنه ونافع رحمه الله وذكر المختلطين ومن روى عنهم وذكر من كانت روايته في بلد أصح من روايته في بلد آخر .
أهم المصطلحات التي استخدمها الترمذي رحمه الله في جامعه :
1. حسن :
ونبدأ بتعريف الترمذي رحمه الله للحسن كما ذكره في آخر العلل التي في آخر الجامع حيث اشترط له :
? أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب .
? ولا يكون شاذا .
? وأن يروى من غير وجه .(1/3)
وفي معرض نقد بعض العلماء لهذا التعريف قالوا : بأن الشرطين الأول والثاني ينطبقان على الصحيح أيضا فيشترط له أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون شاذا فالشرط الثالث هو الذي يميز الصحيح من الحسن لأن الصحيح لا يشترط له تعدد الأوجه ويرد هنا اعتراض آخر وهو أن الحسن لذاته لا يشترط له أيضا تعدد الأوجه ويشترط في راويه العدالة والضبط "وإن كان الضبط خفيفا" بينما الشرط الأول في تعريف الترمذي رحمه الله يشمل من هو دون راوي الحسن لذاته فغايته ألا يكون في سنده متهم بالكذب فيخرج من حد التعريف ويكون تعريف الترمذي رحمه الله قاصرا على نوع واحد فقط من وهو الحسن لغيره (وهو الذي يحتاج إلى أكثر من وجه ليزول ضعفه كالمرسل الذي يتقوى بالشروط التي حررها العلماء ليصل إلى درجة الحسن لغيره ويكون صالحا للاحتجاج خلافا للحسن لذاته الذي يحتج به ابتداء دون اشتراط وروده من وجه آخر (بل إن وروده من وجه آخر قد يصل به إلى درجة الصحيح لغيره) .(1/4)
وقد اعترض الحافظ ابن كثير رحمه الله على اشتراط الترمذي رحمه الله تعدد الطرق بقوله : وهذا إذا كان قد روي عن الترمذي أنه قاله ففي أي كتاب له قاله ؟ وأين إسناده ؟ وإن كان فهم من اصطلاحه في كتابه "الجامع" فليس ذلك بصحيح ، فإنه يقول في كثير من الأحاديث : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقد استدرك الحافظ العراقي رحمه الله على ابن كثير رحمه الله إنكاره لوجود هذا التعريف لأنه موجود في آخر كتابه العلل وأما اعتراضه بقول الترمذي رحمه الله هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه فمن الممكن الرد عليه بأن الترمذي رحمه الله يعني بهذا المصطلح الحسن لذاته ولا يشترط فيه تعدد الطرق (الباعث الحثيث صلى الله عليه وسلم53-54 طبعة مكتبة السنة) ويعلق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على شرط تعدد الأوجه بأن الترمذي رحمه الله لا يريد بقوله في بيان معنى الحسن "ويروى من غير وجه نحو (ذلك)" أن نفس الحديث عن الصحابي يروى من طرق أخرى ، لأنه لا يكون حينئذ غريبا ، وإنما يريد أن لايكون معناه غريبا : بأن يروى المعنى عن صحابي آخر ، أو يعتضد بعمومات أحاديث أخر ، أو بنحو ذلك ، مما يخرج به معناه عن أن يكون شاذا غريبا . فتأمل (الباعث الحثيث ص56 طبعة مكتبة السنة) .(1/5)
وقد أثنى العلماء على صنيع الترمذي رحمه الله بتفريقه بين الشرطين الثاني والثالث فلا يكفي أن يرد الحديث من أكثر من وجه حتى يرتفع لدرجة الحسن لغيره فربما كانت هذه الطرق المتعددة معلولة (كأن يكون رواتها متهمين بالكذب) فهي لا تصلح للمتابعة فلا تتقوى ولا يتقوى بها . ومن الأمثلة التي يتضح بها صنيع الترمذي رحمه الله حكمه على حديث علي رضي الله عنه : (من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا وأن يأكل شيئا قبل أن يخرج) فقد رواه الترمذي (530) وقال حديث حسن وفي اسناده ضعف لكن له شواهد لا يخلو كل منها من ضعف من حديث سعد القرظي وأبي رافع ومرسل سعيد بن المسيب ومرسل الزهري وبمجموع هذا كله فالحديث حسن وقد حسنه الألباني رحمه الله . والمتتبع لأقوال العلماء رحمهم الله في صنيع الترمذي رحمه الله في جامعه يتضح له أن هناك بعض التساهل في تصحيح وتحسين الترمذي رحمه الله لبعض الأحاديث ومنهم ابن دحية رحمه الله الذي يقول : كم حسن الترمذي من أحاديث موضوعة وأسانيد واهية . وقال الحافظ الذهبي رحمه الله : لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي . وقال الألباني رحمه الله في معرض تعليقه على حديث ابن عمر في القراءة عند القبور في أحكام الجنائز حينما تكلم على أحد رواة الحديث وهو عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج : ومما يؤيد ما ذكرنا "من جهالة عبد الرحمن" أن الترمذي رحمه الله مع تساهله في التحسين لما أخرج له حديثا آخر (2/128) وليس له عنده غيره سكت عنه ولم يحسنه . (أحكام الجنائز ص 244 مكتبة المعارف) . وقد نبه الشيخ عبد الله السعد حفظه الله على أن الحسن عند الترمذي رحمه الله هو الحديث الذي به ضعف أو به علة وذكر بعض الأمثلة على هذا ومنها :
? حديث دخول المسجد وقال فيه : (حديث حسن وإسناده ليس بالمتصل) .
? حديث سعيد بن أبي هلال عن عمر بن إسحاق عن عائشة وقال فيه : (حديث حسن وإسناده غير متصل لأن عمر لم يسمع من عائشة) .(1/6)
? حديث خيثمة البصري عن الحسن عن عمران وقال فيه : (حديث حسن وإسناده ليس بذاك) .
? حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة : (من سلك طريقا يلتمس فيه علما) حديث حسن ونقل الحافظ رحمه الله في النكت أنه لم يقل حسن صحيح لأنه ذكر أن الأعمش دلسه عن أبي صالح وهذه الزيادة غير موجودة في نسخ الترمذي رحمه الله .
2. حسن غريب : فقد قال بعض العلماء أن مصطلح (حسن غريب) يقصد به الترمذي رحمه الله أن متن الحديث سليم من الشذوذ والغرابة، لكن السند فيه غرابة وإشكال . ومما يزول به شذوذ المتن أن يكون قد عمل به بعض الصحابة مثلا (وكثيرا ما يلجأ الترمذي رحمه الله إلى ذلك فيقول مثلا والعمل عليه عند أهل العلم) . وهناك من فرق بين قول الترمذي رحمه الله (حسن غريب من هذا الوجه) وقوله (حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) فقالوا :
? (حسن غريب من هذا الوجه) : يعني الترمذي رحمه الله بالغرابة هنا الغرابة النسبية فقد لا يرد الحديث عن الصحابي الذي رواه إلا من طريق واحد فيكون غريبا من هذا الوجه ولكنه ورد عن صحابة آخرين من طرق أخرى فزالت الغرابة المطلقة بهذه الطرق ولم تزل الغرابة النسبية لأنه لم يرد عن هذا الصحابي من طريق آخر . (فهو غريب الإسناد لا المتن)
? وأما (حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) : فهذا تأكيد منه على غرابته المطلقة وقال بعض العلماء أن الترمذي رحمه الله يعني بهذا القول الحسن لذاته لأنه لا يحتاج إلى طريق آخر ليرتقي إلى الحسن فهو حسن بدون وروده من طريق آخر وهذا هو الحسن لذاته . (فهو غريب الإسناد والمتن)(1/7)
3. قوله : وفي الباب عن فلان وفلان : لا يعني أن هؤلاء الصحابة رووا ذلك الحديث المعين بلفظه ، إنما يقصد وجود أحاديث أخرى يصح إيرادها في ذلك الباب . (حجية السنة ص193) ومن الأمثلة التي تؤيد هذا الرأي ما رواه الترمذي رحمه الله وحسنه من طريق شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ قالت : نعم ، فأجاز حيث قال الترمذي رحمه الله عقبه : " وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي حدرد)" .
4. وأما مصطلح (هذا أصح شيء في الباب وأحسن) فيفيد الصحة عنده ، بخلاف قوله : (أحسن شيء في هذا الباب حديث فلان) أو (أصح شيء في هذا الباب حديث فلان) ، إذ لا يفيد إلا مطلق الترجيح من بين المرويات التي وردت في الباب ، وهذا ما تبين لي (أي الدكتور / حمزة المليباري) بالاستقراء ، حيث يستخدم الإمام الترمذي في سننه مصطلح (حديث فلان أحسن وأصح) فيما صححها البخاري ومسلم . وعليه فإن هذا المصطلح المركب يكون أكد في إفادة الصحة من قوله المعتاد : (حسن صحيح) . والله أعلم .
5. حسن صحيح : وهو المصطلح الذي وقع فيه أكثر الخلاف بين العلماء وأقوالهم تتلخص في الأقوال التالية :(1/8)
أنه ورد بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن وعلى هذا يكون الحديث أعلى درجة من الحديث الذي قال فيه الترمذي رحمه الله "صحيح" فقط . وقد استدرك على أصحاب هذا الرأي بقول الترمذي رحمه الله في حكمه على بعض الأحاديث بقوله (حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) فالحديث هنا ليس له إلا سند واحد فقط ومع ذلك وصفه الترمذي رحمه الله بالحسن والصحة معا . ومن أمثلته حكم الترمذي رحمه الله على حديث إخبار الذئب للراعي ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : "وهذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل" . ولكن الشيخ عبد الرحمن الفقيه جزاه الله خيرا يؤكد على أن قول الترمذي رحمه الله : "وهذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" ، لا يعني عدم ورود الحديث من طرق أخرى ولكنه يعني أنه لا يعرفه من طريق صحيح إلا من هذا الطريق ، فقد يفهم البعض عندما يجد طريقا آخر غير ما ذكره هذا الإمام أن هذا قد فاته ، ويستدرك عليه ، وقد نبه الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذه المسألة في النكت على ابن الصلاح وبين مقصود الأئمة بذلك: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في النكت على ابن الصلاح(2/721-723) : ولما أخرج الترمذي حديث ابن جريج المبدأ بذكره في (( كتاب الدعوات )) من جامعه عن أبي عبيدة بن أبي السفر ، عن حجاج قال : هذا حديث حسن [صحيح] غريب لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه انتهى . وهو متعقب أيضاً وقد عرفناه من حديث سهيل من غير هذا الوجه فرويناه في الخلعيات مخرجاً من أفراد الدار قطني من طريق الواقدي ثنا عاصم ابن عمر وسليمان بن بلال كلاهما عن سهيل به . ورويناه في كتاب الذكر لجعفر الفرباني قال : ثنا هشام بن عمار . ثنا إسماعيل بن عياش . ثنا سهيل به. ورويناه في (( الدعاء )) للطبراني من طريق ابن وهب قال : حدثني محمد بن أبي حميد عن سهيل .(1/9)
فهؤلاء أربعة رووه عن سهيل من غير هذا الوجه الذي أخرجه الترمذي . فلعله إنما نفى أن يكون يعرفه من طريق قوية ، لأن الطرق المذكورة لا يخلو واحد منها من مقال .
أما الأولى : فالواقدي متروك الحديث .
وأما الثانية : فإسماعيل بن عياش مضعف في غير روايته عن الشاميين . ولو صرح بالتحديث .
وأما الثالثة : فمحمد بن أبي حميد وإن كان مدنياً ، لكنه ضعيف أيضاً
وقد سبق الترمذي أبو حاتم إلى ما حكم به من تفرد تلك الطريق عن سهيل ، فقال : فيما حكاه ابنه عنه في العلل : (( لا أعلم روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من طريق أبي هريرة رضي الله عنه .
قال : وأما رواية إسماعيل بن عياش ، فما أدري ما هي ؟ إنما روى عنه إسماعيل أحاديث يسيرة )) . فكأن أبا حاتم استبعد أن يكون إسماعيل حدث به ، لأن هشام بن عمار تغير في آخر عمره ، فلعله رأى أن هذا مما خلط فيه ، ولكت أورد ابن أبي حاتم على إطلاق أبيه طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة التي قدمناها ، ثم اعتذر عنه بقوله : كأنه لم يصحح رواية عبد الرحمن بن أبي عمرو عن المقبري (فكأن الطريق المعلولة لا تأخذ في الإعتبار) وهذا يدلك على أنهم قد يطلقون النفي ، ويقصدون به نفي الطرق الصحيحة ، فلا ينبغي أن يورد على إطلاقهم مع ذلك الطرق الضعيفة والله الموفق . انتهى. ويشير الشيخ عبد الله السعد حفظه الله أن مصطلح "حسن صحيح" يعني أن هذا الحديث دون الصحيح وإن كان ثابتا عنده وساق الشيخ حفظه الله مثالا لهذا وهو حديث محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة وقال عنه حسن صحيح ثم ساقه من طريق ابن أبي ذئب رحمه الله عن المقبري عن أبي هريرة وقال عنه : هذا حديث صحيح وهو أصح من الأول .
وقد نبه الشيخ حمزة المليباري في الموازنة ( ص 118-122 ) على أن البعض قد يستدرك على الحفاظ إذا قالوا لايعرف من هذا الوجه بطرق غريبة متأخرة عن زمن هذا الإمام وذكر أمثلة لذلك .(1/10)
ومن الأمثلة التي استخدم فيها الترمذي رحمه الله هذا المصطلح مع ورود الحديث من طرق أخرى حديث زكاة الفطر وزيادة مالك رحمه الله : "من المسلمين" حيث قال الترمذي رحمه الله في آخر العلل : ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث . وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه مثل ما روى مالك بن أنس_ فذكر الحديث_ثم قال : وزاد مالك في هذا الحديث ك "من المسلمين" ، وروى أيوب وعبيد الله بن عمر وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر ولم يذكروا فيم "من المسلمين" . وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك ممن لا يعتمد على حفظه . انتهى كلام الترمذي رحمه الله ومن هذه المتابعات ما رواه مسلم من طريق الضحاك بن عثمان عن نافع وما رواه البخاري وأبو داود والنسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه. ودفع الطحاوي رحمه الله عن الترمذي رحمه الله في شرحه على المقدمة مدافعا عن الترمذي ، أنه لم يذكر التفرد مطلقا عن مالك ، وإنما قيده بتفرد الحافظ كمالك "فهناك متابعات لمالك رحمه الله ولكنها ليست لحفاظ كمالك رحمه الله ".
? أنه حسن متنا وصحيح إسنادا واستدرك على هذا القول بأن حسن المتن غير معتبر في الحكم على الأحاديث وقد أورد الترمذي رحمه الله أحاديث في الوعيد والحدود ونحو هذا وحكم عليها بالحسن والصحة ولكن يمكن الرد على الاعتراض الأخير بأن حسن المتن لا يلزم منه أن يكون من الحديث من أحاديث الوعد فحسن البيان يشمل كل أنواع الحديث .(1/11)
? أن لفظ الحسن يعني العمل بالحديث ولفظ الصحة يعني الصحة بمعناها الاصطلاحي . وممن تبنى هذا الرأي الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة حيث قال : والذي يظهر أن الحسن في نظر الترمذي رحمه الله أعم من الصحيح ، فيجامعه وينفرد عنه ، وأنه في معنى المقبول المعمول به ، الذي يقول مالك رحمه الله في مثله : (وعليه العمل ببلدنا) وما كان صحيحا ولم يعمل به لسبب من الأسباب يسميه الترمذي "صحيحا" فقط وهو مثل ما يرويه مالك في موطئه ويقول عقبه : "وليس عليه العمل" . وكأن غرض الترمذي رحمه الله أن يجمع في كتابه بين الأحاديث وما أيدها من عمل القرون الفاضلة من الصحابة ومن بعدهم . فيسمي هذه الأحاديث المؤيدة بالعمل حسانا ، سواء صحت أو نزلت عن درجة الصحة ، وما لم تتأيد بعمل لا يصفها بالحسن وإن صحت . ويؤيد هذا الرأي قول الترمذي رحمه الله في حديث علي رضي الله عنه : (من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا وأن يأكل شيئا قبل أن يخرج) : حديث حسن والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشيا وأن يأكل شيئا قبل أن يخرج . ولكن هذه القاعدة غير مطردة في صنيع الترمذي رحمه الله فقد حكم على حديث الترجيع بأنه صحيح عليه العمل بمكة ولم يعبر عن التأييد بالعمل بلفظ "حسن" .
? أنه متردد بين الحسن والصحة فهو صحيح عند قوم حسن عند آخرين وعلى هذا يكون الحديث أعلى من الحسن وأدنى من الصحيح وقد ذكر الحافظ رحمه الله هذا الرأي في شرح النخبة وقال بأن أداة التردد (أو) حذفت فالمقصود (حسن أو صحيح) وقد استدرك على أصحاب هذا الرأي من وجهين :
? أن الترمذي رحمه الله يحكم على معظم الأحاديث التي يصححها بقوله (حسن صحيح) وقل ما يحكم على حديث بالصحة فقط . ولا يعقل أن الترمذي تردد في الحكم على معظم الأحاديث التي أوردها في صحيحه .(1/12)
? أن الترمذي رحمه الله حكم على أحاديث في أعلى مراتب الصحة بل ووردت في الصحيحين بقوله "حسن صحيح" فلا يعقل أنه تردد في تصحيح هذه الأحاديث . وهذا ما يؤيد الرأي الأخير في هذا البحث وهو :
وهو أن الترمذي رحمه الله يقصد بهذا المصطلح الحكم على الحديث بالصحة وأن زيادة لفظ حسن من باب التأكيد على صحة هذا الحديث .
ولا بد من أمثلة تبين المراد :
المثال الأول :
يقول الإمام البخاري : (( وحديث أنس في هذا الباب ـ أي في حد السكران ـ حسن )) ، بينما قال فيه الإمام الترمذي : (( حديث أنس حسن صحيح )) .
وحديث أنس هذا متفق على صحته ، فقد أخرجه البخاري ومسلم من طريق شعبة وهشام عن قتادة (وهما من أثبت الناس عن قتادة) عن أنس (وهما أثبت الناس في قتادة بالإضافة إلى سعيد بن أبي عروبة) ، والرواة عن شعبة وهشام كلهم ثقات أجلاء ، بل هو أصح حديث عند مسلم إذ صدر به موضوع الباب .
المثال الثاني :
ويقول الترمذي : سألت محمداً ، فقلت : أي الروايات في صلاة الخوف أصح ، فقال : كل الروايات عندي صحيح ، وكل يستعمل ، وحديث سهل بن أبي حثمة هو حديث حسن وحديث عبدالله بن شقيق عن أبي هريرة حسن وحديث عروة بن الزبير عن أبي هريرة حسن . فأطلق الإمام البخاري على الحديث الذي صح عنده صحيحاً كما أطلق عليه الحسن حين فصل تلك الروايات ، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه ، وهو حديث سهل بن أبي حثمة ، بل صححه الترمذي وقال : (( حسن صحيح )) وكذا عبدالله بن شقيق قال الترمذي فيه (( حسن صحيح غريب من عبدالله بن شقيق )) وعبدالله بن شقيق ثقة ، وأما حديث عروة عن أبي هريرة رواه النسائي .
ويقول د/ حمزة المليباري (أحد الباحثين المعاصرين) :(1/13)
فإذا ثبت أن الحسن عند المتقدمين عام وشامل بحيث يطلق على الحديث الصحيح ، والحديث المقبول فإن إطلاقهم جمعاً بين لفظي الحسن والصحيح لم يكن إلا لإفادة التأكيد لمعنى القبول والاحتجاج ، وليس فيه ما يثير الإشكالية لا لغوياً ولا فنياً ، إلا على منهج المتأخرين الذي يقضي بانفصالهما كنوعين مستقلين لا يصح الجمع بينهما وهذا ما أيده د/ عادل عبد الغفور (أحد الباحثين المصريين) في تفسير مصطلح الترمذي رحمه الله "حسن صحيح" . وهذا ما يؤكد ضرورة دراسة منهج المتقدمين دراسة دقيقة دون الاعتماد على اتحاد الألفاظ بين المتقدمين والمتأخرين ومن أهم الأمثلة على هذا الأمر ما ذكره د/ ماهر ياسين الفحل (أحد الباحثين العراقيين) عن الدلالة المعنوية للفظ الصدوق عند المتقدمين والمتأخرين بقوله في بحثه فرائد الفوائد :
الدلالة المعنوية للصدق تختلف ما بين المتقدمين والمتأخرين ، فعلى حين كان ذا دلالة راجعة إلى العدالة فقط في مفهوم المتقدمين ، ولا تشمل الحفظ بحال من الأحوال ؛ لذا كان أبو حاتم الرازي كثيراً ما يقول : ضعيف الحديث ، أو : مضطرب الحديث ومحله عندي الصدق . فقد أصبح ذا دلالة تكاد تختص بالضبط عند المتأخرين ، ولذا جعلوا لفظة صدوق من بين ألفاظ التعديل .
ومن الجدير بالذكر أن الإمام الترمذي حين يحكي عن بعض النقاد تصحيحه كان يقول : "قال فلان هذا حديث حسن صحيح " أو "هذا أحسن وأصح" ، دون أن يلفظ ذلك الناقد بهذه الكلمة . ومن أهم الأمثلة على ذلك :(1/14)
? حكى الإمام الترمذي عن الإمامين : أحمد والبخاري تصحيحهما حديث المستحاضة الذي روته حمنة بنت جحش : بقوله : "حسن صحيح" . دون أن يرد هذا اللفظ عنهما (سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد 1/226) . وأما لفظهما فكما ورد في علل الترمذي : " قال محمد (يعني البخاري) : حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة هو حديث حسن ، إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم ، لا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا ، وكان أحمد بن حنبل يقول : "هو حديث صحيح" . (العلل الكبير ص58 ، تحقيق السامرائي ، ط1 ، 1409هـ ، عالم الكتب ، وسنن البيهقي 1/339) . وفي أثناء المقارنة بين السياقين يبدو واضحاً أن ما تضمنه السياق الثاني هو لفظ البخاري وأحمد ، بخلاف ما ورد في السياق الأول ، فإنه ورد مختصراً ، اختصره الترمذي بأسلوبه المعروف في التعبير في التصحيح .
? ومثال آخر : يحكي فيه الترمذي عن البخاري تصحيح حديث "البحر هو الطهور ماؤه" : بقوله : "حسن صحيح" . (شرح العلل 1/ 342) . وفي الوقت ذاته قال الترمذي : سألت محمداً عن حديث مالك عن صفوان بن سليم في حدث "البحر هو الطهور ماؤه" فقال : "هو حديث صحيح" (العلل الكبير للترمذي ص41 ، وكذا في التمهيد لابن عبد البر 16/218). وقال الحافظ ابن حجر في هذا الحديث : "صحح البخاري – فيما حكاه عنه الترمذي في العلل المفرد – حديثه ، وكذا صححه ابن خزيمة وابن حبان وغير واحد" (التهذيب 4/42) . وهذا كله يدل على توسعهم في إطلاق الألفاظ والمصطلحات ، وأن الترمذي يقصد بقوله حسن صحيح ما يقصده غيره بقوله : صحيح" لا غير . والله أعلم .(1/15)
6. غريب : وهذا المصطلح يذكره الترمذي رحمه الله في الحكم على الأحاديث الضعيفة وقد يطلق ألفاظا أخرى للحكم على الحديث بما يدل على ضعفه مثل قوله : (اسناده ليس بذاك القائم) . ومن الأمثلة التي استخدم فيها الترمذي رحمه الله لفظ الغريب ، حديث الدعاء عند أذان المغرب : (اللهم هذا إقبال ليلك ، وإدبار نهارك ... ... الحديث) حيث أخرجه الترمذي رحمه الله وغيره من طريق أبي كثير مولى أم سلمة عنها ، وقال الترمذي رحمه الله : "حديث غريب ، وأبو كثير لا نعرفه) .
وختاما فإن جامع الترمذي رحمه الله من مظنات الحسن ولكن ينبغي التنبه إلى أن نسخه تختلف في قوله "حسن صحيح" ونحوه فعلى طالب الحديث العناية باختيار النسخة المحققة والمقابلة على أصول معتمدة . ومن أمثلة هذا الاختلاف : حديث عمران بن حصين الضعيف الشاذ في تشهد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد سجدتي السهو فقد قال عنه الترمذي رحمه الله : "حديث حسن غريب" وفي بعض النسخ زيادة : "صحيح" . (القول المبين في أخطاء المصلين ص146 الشيخ مشهور حسن سلمان) .(1/16)