تصحيف قديم في حديث ميمونة من صحيح مسلم وتحقيق الرأي حوله
ما يأتي من الفقرات تتمحور حول قضية تصحيف وقع قديما في صحيح مسلم في إسناد الليث عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة. وذكر ابن عباس راويا عن ميمونة في هذا السند يعد خطأ من الناسخ، والصواب:’’عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة‘‘. وأحاول إن شاء الله إعطاء صورة واضحة حول هذا الموضوع مصحوبا بنصوص النقاد ومدعما بالأدلة والبراهين.
أما الأستاذ فلم ينتبه إلى ذلك التصحيف، فلما حاورته بطريقة علمية حول هذه القضية سخر مني بألفاظ سخيفة لا يستعملها إلا أهل السوق من الجاهلين، وأنكر ذلك التصحيف، واعتبر ما ليس له وجود في قول مسلم ثابتا، ليشاغب على القراء بأني أقدم على صحيح مسلم كتاب التاريخ الكبير وكتب العلل (1) .
__________
(1) - قال في كتابه (منهج مسلم) ص: 110، 113 الذي وصفه بقوله: ’’ولله در كتابي‘‘ .
’’وصدق يا مليباري أن كتب الدنيا كلها لو خالفت ما في صحيح مسلم ونسخه الذي تلقته الأمة بالقبول والحب والعناية والرعاية لقدموه عليها، ولهم الحق في ذلك ، والحق معهم ، ولا يرجحون عليه إلا صحيح البخاري ، وهما في هذا الباب لا يختلفان ... إلى أن قال :
وثق أنك كما قال الشاعر :
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ولا يزيدك سلوك هذه الطرق العوجاء إلا صغارا عند الله وعند الناس إلا أن تتوب إلى الله توبة نصوحة..‘‘اهـ.
أرجو من القارئ أن لا يستغرب من أسلوب الأستاذ؛ فإن عادته في الحوار العلمي الشغب والمشاكسة وبطر الحق وغمط الناس، وهو لا يستطيع أن يحاور مخالفه بعلم ومنهج وصبر، ولا أن يركز على موضوع الحوار، بل يثير مواضيع جديدة لا صلة لها بالموضوع.
سيتبين لك إن شاء الله تعالى أن ذكر ابن عباس تصحيف جزما لا إشكال فيه. وإني أتساءل إذا وقع في طباعة المصحف تصحيف وصححه أحد من المحسنين فهل يقول أحد يحفظ القرآن الكريم: إن ذلك من الطرق العوجاء، ثم ينصحه بأن يتوب توبة نصوحة ؟!! نعم قد يقول ذلك من لا علم له بالقرآن الكريم من العوام الذين يقدسون الأشياء بمظاهرها.
نحن نرى أن ما وقع في النسخة المطبوعة من صحيح مسلم تصحيف . وبالتالي لم نكن ممن يرجح كتب التاريخ والعلل على صحيح مسلم. والحمد لله.(1/1)
ولم أكن منتبها إلى هذا التصحيف في بداية الحوار، حين كتبت له النقد، لكن حين وقفت على قول الحافظ المزي بهذا الصدد اتضح لي ذلك، أما الأستاذ فكعادته بدأ يستهزئ من هذا التصحيح، لأنه يريد مني أن أرجع عن الحق والصواب إلى رأيه الذي أراه باطلا، ولا يقبل من مخالفه في الحوار سوى ذلك، وإلا فليستعد لمواجهة ما يصدر من لسانه وقلمه من السب والاتهام.
قلت له في الأوراق التي أرسلتها إليه قبل أن أنتبه إلى التصحيف:
’’إن الإمام مسلما أورد طريق الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة، ولم يورد طريق الليث التي لم يذكر فيها ابن عباس، والأول لا يصح، والثاني محفوظ، ولو كان يريد مسلم المتابعة لكان أولى أن يورد الثانية لأنها سليمة ولا نزاع في صحتها ولم يفعل‘‘
هذا الكلام خطأ تبين لي ذلك بجلاء، وأنا لا أريد أن أدافع عنه، لكن كلام الأستاذ وحواره يثير إشكالات جديدة ويفتح أبوابا من الشبهات. ولذلك عرضنا لكلامي السابق، وإلا أعرضنا عنه صفحا. انظر إلى الأستاذ كيف يعقب عليه، وهذا نصه:
’’يعني الأخ الباحث وفقنا الله وإياه لاتباع الحق والقول به أن الإمام مسلما (رحمه الله) ما أورد طريق الليث التي أوردها في صحيحه في الأصول ولا في المتابعات وإنما أوردها ليبين ما فيها من علة، وكأن كتاب مسلم (رحمه الله) كتاب علل يترك الروايات الصحيحة المحفوظة المتفق عليها، ويأخذ الروايات الشاذة المعللة المطعون فيها‘‘.
’’وحتى كتب العلل لا تفعل مثل هذا فإن السبيل إلى معرفة العلة أن يجمع بين طرق الحديث وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانتهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط، ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه . انظر : مقدمة ابن الصلاح ص82 ‘‘.
’’فلو كان مسلم يقصد بيان العلل لسلك هذا المسلك. ولساق طرق حديث ميمونة صحيحها ومعللها في نظره‘‘.(1/2)
’’أما وهو لم يفعل ذلك فلا يجوز القول بما ذهب إليه الأخ الباحث ولو ذهبنا إلى قوله لكان مسلم من أعجز الناس عن كشف علل الأحاديث وبيانها وحاشاه من ذلك وكتاب التمييز له أكبر شاهد على مقدرته الفائقة على بيان العلل وكشفها‘‘.
’’وقوله : والأول لا يصح، والثاني محفوظ‘‘.
’’يعني به أن الإسناد الذي فيه ذكر ابن عباس عن ميمونة لا يصح والثاني الذي خلا من ذكر ابن عباس أي عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله ابن معبد عن ميمونة هو المحفوظ‘‘.
’’وهذا كلام غريب ومنطق عجيب‘‘.
’’والذي يظهر لي أن مسلما (رحمه الله) اختار الحديث الذي فيه ذكر ابن عباس لأنه هو الأصح في نظره‘‘.
’’ذلك أنه لا يشك أحد من المحدثين في رواية ابن عباس عن خالته ميمونة، أما رواية إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس فإنه قد يساور المحدث الشك في روايته عن ميمونة (رضي الله عنها)‘‘.
’’وقد أنكر ابن حبان سماعه من ميمونة وكذلك مغلطاي وانظر كلام ابن حبان والبخاري في ترجمته في تهذيب التهذيب (1 / 137)‘‘ انتهى كلام الشيخ
ثم أعاده بمزيد من الشغب والتهويل في كتابه ( منهج مسلم ) ص : 99 – 126. لو كان الأستاذ ملتزما بالمنهج والأدب في الحوار العلمي، دون تهويش وتهويل وشغب لكان متعاونا على بلورة الحق، حتى ولو كان مخطئا.
الردود والتعقيبات
أقول: إني لا أدافع عن خطئي وما بنيت عليه من التعقيب، لكني أناقشه في أسلوبه في الحوار، وسعيه لتصحيح السند الذي وقع مصحفا في نسخة صحيح مسلم، ثم يجعله أساسا لرفض كلام الأئمة النقاد، وأمر الأستاذ غريب والله.
يرى الأستاذ أن حديث ابن عمر صحيح، والذي أورده مسلم من الروايات المختلفة هي متابعات وشواهد، يقوي بعضها بعضا. يعني كلها صحيحة عند الأستاذ، ولا يقبل من النقاد نقدهم فيها، بل ينتهج منهجا جديدا في تصحيح جميع الروايات حتى الشاذة والمصحفة.(1/3)
إن المتابعة والشاهد قد يكون ذكرهما من أجل تقوية الأحاديث، وقد يكون للاحتياط أو للاستئناس، فإذا كان الذي أورده مسلم في صحيحه على غير الاحتجاج به محكوما عليه بالخطأ من قبل أئمة هذا الشأن، ولم يكن هناك دليل واضح على أن الإمام مسلما يخالفهم في ذلك، فحمل صنيعه في ذكر تلك الطرق على بيان العلة أفضل من حمله على تقوية الحديث بالمتابعة والشاهد. لهذا، قلت:
’’إن هذه الطرق لم يذكرها أصولا ولا متابعة، وإنما أوردها لبيان الاختلاف على نافع، وعلى سبيل الاستطراد‘‘.
وبهذا البيان الاستطرادي لا يتحول كتابه الصحيح إلى كتاب للعلل قطعا.
وما ذكرته في أوراقي الأولى إنما هو بناء على ظني أن السند سليم من التصحيف، لكن بعد ثبوت هذا التصحيف فإني أتراجع عن كلامي الأول، ولا أدافع عنه، ومع ذلك فإن أصل المسألة التي تشكل موضوع الحوار لم يتغير بهذا التراجع.
وعلى كل ينبغي في هذه المناسبة أن أشرح ملابسات هذا الموضوع لكونه من أهم النقاط العلمية التي تخبط فيها الشيخ، لبعده عن منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل.
والإمام مسلم إذ أورد حديث ابن عمر في أواخر الباب تطرق لبيان الاختلاف على نافع، وخلاصته: يرويه بعض الثقات عن نافع عن ابن عمر، ويرويه آخرون عنه عن إبراهيم عن ميمونة. وبهذا أصبح الإمام مسلم قد جمع هذه الروايات المختلفة في صحيحه لبيان علتها على وجه الاستطراد، بعد أن اعتمد على حديث أبي هريرة في الموضوع نفسه، وصدر به الباب .
ومن هذه الروايات المختلفة على نافع رواية الليث. وبما أن الأستاذ أثار مشكلة جديدة في حديث الليث عن نافع فإن تحقيق الأمر فيها وتدقيقه أصبح ضروريا الآن. ولذا، أقول: إن خلاصة موقف النقاد تجاه حديث الليث هي:(1/4)
أن الليث إنما روى عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة، أما ابن جريج فقد اختلف عليه على وجهين؛ قال بعضهم عنه عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة، وقال آخر: عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة.
يعني بذلك: هل روى ابن عباس هذا الحديث عن ميمونة أم رواه إبراهيم عنها، وابن عباس ليس له ناقة في هذا الحديث ولا جمل؟!
إذا كانت رواية الليث عن إبراهيم عن ميمونة متفقة في جميع الروايات عنه، لكن نسخ صحيح مسلم لم تكن متفقة على شكل واحد، بل اختلف النساخ فيها؛ ففي بعضها ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة، وفي أخرى ذكر عباس ضمن أجداد إبراهيم.
والاختلاف بين النسخ غير الاختلاف بين رواة الحديث.
فما يقع في النسخ من اختلاف فلا صلة له برواة الحديث، فإن المحدث قد روى على وجه معين، ثم جاء بعد ذلك النساخ فاختلفوا فيما رواه ذلك المحدث في كتابه عند نسخهم له. فإذا تبين من خلال القرائن أن الراوي لم يرو إلا من وجه واحد، - وهو المعروف لدى الحفاظ - فالذي وقع في النسخ خلاف ذلك يتعين أن يكون خطأ؛ إما من المؤلف وإما من الناسخ. هذا أمر بدهي يعرفه أهل العلم.
إلا أن الأستاذ جاء هنا ليخلط بين هذين الأمرين، وجعل اختلاف النساخ ملازما لاختلاف رواة الحديث، و في ضوء ذلك جاء كلامه في الحوار.
ولا ينبغي له أن يخلط بينهما؛ فإن لكل منهما ما يقتضيه بطبيعته من القواعد والأساليب.
والإمام مسلم إذ أورد هنا في صحيحه حديث نافع، بعد اعتماد حديث أبي هريرة، أراد أن يشرح ما فيه من العلة؛ فذكر طرفي الاختلاف، وهما:
1 - رواية عبيد الله وموسى الجهني وأيوب عن نافع عن ابن عمر.
2 - ورواية الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد لله بن معبد بن عباس عن ميمونة.(1/5)
يعني: اختلف هؤلاء الثقات على نافع في هذا الحديث؛ هل هو عن ابن عمر، كما قال عبيد الله وموسى الجهني؟! أم عن إبراهيم عن ميمونة كما رواه الليث؟!. وسيأتي هذا الموضوع في المحور الثالث إن شاء الله تعالى .
وبعد ذلك وقع اختلاف جديد بين نسخ صحيح مسلم حول رواية الليث بذكر ابن عباس راويا عن ميمونة. والثابت عن مسلم في صحيحه هو ذكر عباس ضمن أجداد إبراهيم، وليس ابن عباس راويا للحديث عن ميمونة، كما تدل عليه القرائن الآتية.
اللهم إلا إذا أخطأ مسلم فيها، وهذا بعيد جدا في رأيي، لأنه لو كان هو المخطئ لاتفقت النسخ على ذلك، ولجاء الدارقطني ليبين ذلك الخطأ في كتابه (التتبع)، لكن لم يحدث ذلك، وعليه فالإمام مسلم بريئ من هذا الخطأ، وإنما وقع من بعض نساخ صحيح مسلم.
ومن الجدير بالذكر أن الراوي إذا لم يكن مشهورا بين المحدثين اضطر صاحبه إلى تعريفه بذكر اسمه الكامل حتى ينتهي إلى المشهور من آبائه.
شبهات الأستاذ
والأستاذ حين تناول هذا الموضوع الدقيق تخبط فيه؛ فقال: إن الصواب في حديث الليث ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة. يقول الأستاذ (1) :
’’حديث ميمونة من طريق قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح عن الليث بن سعد عن نافع عن ابراهيم بن عبد لله عن ابن عباس عن ميمونة، ورواية ميمونة خارج صحيح مسلم ليس فيها ابن عباس ، وإنما فيها عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة.
وقد ذكرنا سابقا أنه لا يشك محدث في رواية ابن عباس عن ميمونة . أما إبراهيم بن عبد الله بن معبد فإن ابن حبان قد ذكره في طبقة أتباع التابعين . وقال : قيل إنه سمع من ميمونة وليس ذلك بصحيح عندنا (تهذيب التهذيب 1/137)
__________
(1) - ص : 61 من رده الأول .(1/6)
ويرى مغلطاي أن إبراهيم بن عبد الله لم يسمع من ميمونة، قال : (...ولم يصرح بسماعه منها أحد علمناه من القدماء المعتمدين ، وكذلك ذكره عند ابن سعد في الطبقة الرابعة من المدنيين الذين ليس عندهم إلا عن صغار الصحابة ( الإكمال 1/ق 58).
ولعل مسلما يرى هذا الرأي ، ولذا أخرج الإسناد الذي فيه عن إبراهيم بن عبد الله عن ابن عباس . وهذا الإمام المزي (رحمه الله ) يرجح أن هذا الحديث إنما هو عن ابن عباس عن ميمونة فقال :
’’ومن مسند ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم، إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة : حديث صلاة فيه - تعني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة‘‘.
م في الحج عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن ليث عن نافع عنه به، وفيه قصة أن امرأة اشتكت، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس .
س فيه (المناسك 2/124) عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع نحوه. وفي الصلاة عن قتيبة به، ولم يذكر القصة. ورواه موسى الجهني وغيره عن نافع عن ابن عمر، وقد مضى.
وهكذا ذكر أبو القاسم هذا الحديث في هذه الترجمة، وهكذا وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود، وهكذا ذكر أبو بكر بن منجويه في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن معبد من رجال مسلم أنه يروي عن ميمونة في الحج، وكذلك رواه النسائي عن قتيبة، لم يذكر فيه (عن ابن عباس)، وهو في أول كتاب المساجد من السنن.
وكل ذلك وهم ممن قاله - والله يغفر لنا ولهم- وهو في عامة النسخ من صحيح مسلم: (عن ابن عباس عن ميمونة).
وكذلك وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود في ترجمة (ابن عباس عن ميمونة).(1/7)
وكذلك حديث ابن جريج عند النسائي (الكبرى، المناسك 126) هو في جميع النسخ (عن ابن عباس عن ميمونة). ولفظه: ’’عن ابن جريج سمعت نافعا يقول: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن معبد أن ابن عباس حدثه أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‘‘. وهذا لفظ صريح في أن الحديث عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة، لا عن إبراهيم عن ميمونة والله أعلم اهـ. (تحفة الأشراف 12/484 – 486)
وبما يفهم من تصرف الإمام مسلم وبموقف ابن حبان ومغلطاي من رواية إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة وبموقف المزي والنووي يتضح ولله الحمد أنني لست وحدي فيما ذهبت إليه ولا أستبعد أن يكون أكثر المحدثين بعد مسلم والذين تلقوا كتابه بالقبول والإجلال أو كلهم سوى النسائي والدارقطني وعياض على اعتقاد ثبوت هذين الحديثين من الطرق التي أخرجها مسلم.
وبهذا يكون روع هذا الباحث ويذهب عنه ما كان يجده من إثبات هذين الحديثين ويظهر له قوة الأدلة التي أوردتها على إثباتهما ودعم طرقهما. ويظهر له ضعف حجج أو شبهات من أعلها،و أن قوله ’’وليس فيه استحالة صحة رواية عبيد الله بل يحتمل صحته‘‘ لا يجدي عنه فتيلا فإن المتكلمين المبتدعين الذين قلدهم في مثل هذا التعبير لا يرون استحالة الكذب في كل ما يثبت عن رسول الله مما لم يتواتر ولو كان في الصحيحين لأنها عندهم أخبار آحاد لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن، وما كان كذلك يحتمل الكذب، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يظنون، وهم سفسطوا وتفلسفوا لإقناع الرعاع بهذيانهم المخبول فإن أنصار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبابه حقا لا ادعاء لا ينظرون إلى هذا الهذيان وما شاكله من أنواع الضلال إلا بعين الاحتقار والازدراء ويرون أن كل حديث جاء عن طريق الثقات العدول بشروطه المعروفة عند المحدثين يفيد العلم والعمل ويؤمنون به في باب الاعتقاد ويطبقون في مجال العمل وإن رغمت أنوف أصحاب الكلام والجدل.(1/8)
وأقول ثانيا للباحث هل علمت أن من أسباب اختياري لموضوع رسالتي ’’بين الإمامين مسلم والدارقطني‘‘ ومن البواعث القوية للنهوض به هو ما يشنه خصوم الإسلام – في هذا العصر – من هجوم عنيف غاشم على الإسلام مستهدفين هدم بنيانه وتقويض أركانه بتسديد ضرباتهم الأثيمة تارة إلى القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وتارة إلى السنة المطهرة التي هي تفسير وإيضاح لمرامي القرآن وأهدافه وتقييد لإطلاقه وبيان لمجملاته ..‘‘ انتهى كلام الأستاذ (1) .
الردود والتعقيبات
يبدو أن الأستاذ لم يكن قادرا على الصبر والتحكم في نفسه أثناء الحوار، وحين بدأ الحوار أخذ ينفعل حتى غاب عنه عقله، وإلا بماذا يفسر هذا الصراخ والعويل والشغب وإطلاق الدعاوى! وكيف يتحول من موضوع إلى موضوع، وما علاقة خبر الآحاد هنا، ونحن بصدد تحقيق رواية الليث. واستغربت منه حين اتهمني بأني قلدت أهل الكلام والمبتدعين فيما يخص خبر الآحاد. وهل يتهم الأستاذ كل من عبر بمثل ذلك التعبير بأنهم مقلدون لأهل الكلام والمبتدعين؟! إذن فالحافظ ابن حجر وقبله العلائي وغيرهما من السابقين واللاحقين قد صدر عنهم ما يدل على أن الناقد إذا قال: إنه صحيح أو ضعيف أو معلول أو لا يصح، لا يعني استحالة خلاف ذلك، وإنما هو على الظن الغالب. (2)
__________
(1) - ص: 65 من الرد الأول
(2) - يقول الحافظ ابن حجر: ’’ إن مدار الأمر عند المحققين إنما هو البناء على ما يغلب على الظن والاحتمال البعيد لا يعول عليه عندهم‘‘ اهـ.
ويقول أيضا: ’’تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن، فإذا قالوا أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال فيعتمد ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ‘‘.اهـ (فتح الباري 1/585)
ويقول أيضا: ’’والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة‘‘.اهـ (النكت 2/688)
ويقول ابن الصلاح: ’’ومتى قالوا : هذا حديث صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة ، وليس من شرطه أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر، إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول‘‘.( المقدمة ص: 13 – 14)
ويقول أيضا: ’’ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه’‘ ( المقدمة ص: 90)
ويقول العلائي : ’’وأما على التفصيل الذي ذكره الإمام الشافعي رحمه الله فمأخذه أن مدار قبول خبر الواحد على ظهور الثقة في الظن الغالب‘‘ . ( جامع التحصيل ص: 86)(1/9)
لندع هذه الأساليب الجاهلية، ونحن في الحوار العلمي المفيد الذي يجب علينا أن نتأدب به تواضعا لله تعالى، من أجل تمييز الحق من الباطل، ونكون جميعا مأجورين في ذلك؛ سواء أخطأت أنا أم كان هو من المخطئين الواهمين، فإن كُلا منا يكون سببا لظهور الحق أمام القراء، لكن يكون ذلك حسب النية والاجتهاد.
وأما إذا ظهر التلفيق والتلبيس والتوهيم والشغب وتجاوز الحدود في إطلاق الدعاوى من أحد أطراف الحوار ضد الطرف الثاني وحاول أن يوهم القراء أنه منحرف وصاحب أفكار باطلة، مزينا لجانبه ومزكيا لنفسه، فإنه يكون قد ضيع بهذا التصرف الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى، وإن كان مخطئا فالأمر أخطر لأنه سعى لإخفاء الحق وإظهار الباطل.
وعلى كل ففيما يأتي توضيح المسألة التي نحن بصددها بشيء من التفصيل:
إن الذي وقع في نسخة صحيح مسلم التي نتداولها هو:
’’...عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة ..‘‘
وهو تصحيف واضح، وإن كان رأي الإمام المزي في تحفة الأشراف غير ذلك، إذ لا يرى ذلك تصحيفا. واعتمده الأستاذ ليقول جازما: إن الليث روى هذا الحديث عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة.
وهذه غفلة شديدة من الأستاذ إذ جعل المسألة متصلة باختلاف الرواة على الليث، وليس الأمر كذلك، بل هي من اختلاف النساخ على ما وقع في صحيح مسلم، وأما الليث فقد روى الحديث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، بدون ابن عباس شيخا لإبراهيم. وهذا التصحيف أدى إلى غلط كبير، وهو إدراج عبد الله بن عباس في رواية هذا الحديث، وليس له صلة برواية هذا الحديث. وحسب الرواية الصحيحة يكون الذي ورد ذكره في السند هو جد إبراهيم: معبد بن عباس وهو غير ابن عباس المشهور، كما ستتجلى دقة النقاد في فهم ما يتصل بالأسانيد ونقدها، من الفقرات الآتية.
رأي الحافظ المزي حول هذا الإسناد في صحيح مسلم وغيره من الكتب(1/10)
أولا: أنقل ما قاله الحافظ المزي (رحمه الله) في تحفة الأشراف 12/484 – 486، وهذا نصه كاملا:
’’ ومن مسند ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة : حديث صلاة فيه - تعني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة‘‘.
م في الحج عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن ليث عن نافع عنه به قصة أن امرأة اشتكت، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس .
س فيه ( المناسك 2/124 ) عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع نحوه. وفي الصلاة عن قتيبة به ، ولم يذكر القصة ، ورواه موسى الجهني وغيره عن نافع عن ابن عمر، وقد مضى.
وهكذا ذكر أبو القاسم هذا الحديث في هذه الترجمة، وهكذا وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود، وهكذا ذكر أبو بكر بن منجويه في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن معبد من رجال مسلم أنه يروي عن ميمونة في الحج، وكذلك رواه النسائي عن قتيبة، لم يذكر فيه (عن ابن عباس)، وهو في أول كتاب المساجد من السنن.
وكل ذلك وهم ممن قاله - والله يغفر لنا ولهم- وهو في عامة النسخ من صحيح مسلم: (عن ابن عباس عن ميمونة)، وكذلك وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود في ترجمة (ابن عباس عن ميمونة). وكذلك حديث ابن جريج عند النسائي ( الكبرى، المناسك 126 ) هو في جميع النسخ (عن ابن عباس عن ميمونة).
ولفظه: ’’عن ابن جريج سمعت نافعا يقول : حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن معبد أن ابن عباس حدثه أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‘‘. وهذا لفظ صريح في أن الحديث عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة، لا عن إبراهيم عن ميمونة والله أعلم اهـ.
تعقيب الحافظ ابن حجر على قول المزي
وتعقبه الحافظ ابن حجر (رحمه الله) بقوله :(1/11)
’’رويناه في جزء أبي الجهم عن الليث، ليس فيه ابن عباس (1) ، وكذا أخرجه أحمد عن علي بن إسحاق عن ابن مبارك عن ابن جريج، وكذا أخرجه الطحاوي من رواية أبي عاصم عن ابن جريج، ومن رواية ابن وهب عن الليث، ليس في شيء منها ابن عباس‘‘ اهـ (2) .
أقول: تعقب الحافظ في محله، لأنه استدرك على المزي بالروايات التي ليس فيها ابن عباس، وهذا يعني أن ترجيحه لذكر ابن عباس في حديث الليث بناء على ما أورده من الروايات فيه نظر.
تساءل الأستاذ في كتابه ( منهج مسلم ص: 110) :
’’ ماذا يريد الحافظ بتعقبه ؟! هل يريد أن ذكر ابن عباس في صحيح مسلم من رواية الليث لا وجود له أو لا يثبت ؟!؟!
كلا ثم كلا ، وإنما يريد الاستدراك والتنكيت على المزي بأنه فاته ذكر بعض الروايات.
ثم على منهج المليباري كيف تعتمد على هذه الروايات التي نقلها الحافظ من جزء أبي الجهم ومن كتاب الطحاوي؟! كيف تسلم بها؟! وكيف تعتمد على ما في تاريخ البخاري؟! كيف تعتمد على هذه المصادر وغيرها وهي لم تحظ بواحد من ألف مما أحيط به (صحيح مسلم) في مشارق الأرض ومغاربها وعلى امتداد الأجيال والتاريخ منذ صنف إلى يومنا هذا، وتدعي أن ذكر ابن عباس لا وجود له في صحيح مسلم من رواية الليث لهذا الحديث وقد أحيط من العناية العظيمة بما هو معلوم لدى أولي النهى .
وقد ساق لك المزي الأدلة على أنه موجود في عامة نسخ مسلم مع أدلته الأخرى ، وما مثل مذهبك هذا إلا كمذهب الشيعة الذين يدعون التحريف في القرآن.
وإذا سلم بمذهبك هذا فإنه لا تبقى للمسلمين ثقة في مسلم ولا في غيره‘‘ .انتهى تعقيب الأستاذ.
__________
(1) - جزء أبي الجهم ، ص: 46، تحقيق د . عبد الرحيم القشقري ، (مكتبة الرشد ، سنة 1420هـ الرياض).
(2) - النكت الظراف 12/484.(1/12)
أقول: إن الناظر في تعقيب الحافظ ابن حجر يفهم جيدا أنه يريد الاستدراك على الحافظ المزي بما فاته من الروايات التي ليس فيها ابن عباس. وبالتالي يكون فيه استدراك على إطلاق الاستدلال بحديث ابن جريج بحيث يوهم أن حديثه متفق على ذكر ابن عباس، وتبين مما أورده الحافظ أن الأمر ليس كذلك. بل هو أيضا مختلف فيه. وبالتالي لا يستقيم الاستدلال بما فيه خلاف. وكان على المزي أن يذكر ذلك. وليس هذا مجرد تعقيب بما فاته من الروايات.
ثم إن الأستاذ يتهمني بتقديم تلك الكتب على صحيح مسلم، وأن ما أقوله مثل ما يدعيه الشيعة بوجود تحريف في القرآن الذي يتداوله أهل السنة والجماعة.
أليس هذا من ذر الرماد في عيون القراء؟!
وسترى - إن شاء الله تعالى - من خلال الحوار أنني أدافع عن صحيح مسلم وأذب عنه أوهام النساخ، بناء على ما يملكه الأئمة الحفاظ من النسخ ؛ مثل أبي القاسم وابن منجويه والدارقطني والحافظ ابن حجر والقاضي عياض، وبناء على أمرين ؛ وهما:
أ - نصوص الأئمة النقاد.
ب - اتفاق الرواة: عبد الله بن صالح وقتيبة وابن رمح وابن وهب وأبي جهم وغيرهم من أصحاب الليث .
وليس في كلامي ما يدل على تفضيل ما في كتب العلل والتاريخ وغيرها على صحيح مسلم. وإنما يدل فقط على وقوع تصحيف في سند حديث ميمونة من نسخة صحيح مسلم المطبوعة، مدعوما بالأدلة والبراهين، ومن أهم هذه الأدلة أنه صح في تلك الكتب عن أصحابها عدم ذكر ابن عباس في ذلك السند.
مناقشة المزي في أدلته
وعلى كل فقد أقر الحافظ المزي من خلال تناوله هذا الموضوع بأن النسخ من صحيح مسلم مختلفة في ذكر ابن عباس، وأن أبا القاسم وأبا بكر بن منجويه كانا قد اعتمدا على النسخة التي ليس فيها ذكر ابن عباس، وكذلك في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود – وهو أطراف صحيح مسلم –.
ويمكن أن نضيف إلى هذه النسخ التي يملكها الأئمة نسختي الإمام الدارقطني والحافظ ابن حجر من صحيح مسلم.(1/13)
أما الدارقطني فقد اعتمد في تتبعه على نسخته التي خلت من ابن عباس، ويدل على ذلك قوله: ’’ وخالفه ابن جريج وليث روياه عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة‘‘. ولو كان ذكر ابن عباس ثابتا في نسخته لذكره في جملة الأحاديث المعللة، باعتبار ذلك خطأ من مسلم أو من بعض رواة الليث، لا سيما أن الدارقطني أطلق القول فيما يخص حديث صحيح مسلم بأن الليث رواه عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة.
وأما الحافظ ابن حجر فقد عزى الرواية التي ليس فيها ابن عباس إلى مسلم (1) ، وهذا يعني خلو نسخته من صحيح مسلم عن ابن عباس.
وعلى كل فإن الحافظ المزي قد اجتهد في هذه القضية فذهب إلى ترجيح ذكر ابن عباس في صحيح مسلم، ووَهَّم النسخ التي سقط منها ذكره، سواء كان في رواية الليث أو ابن جريج، سواء كان في صحيح مسلم أو في سنن النسائي، سواء كان ذلك من ابن عساكر أو أبي بكر بن منجويه أو أبي مسعود الدمشقي - بالنسبة إلى بعض النسخ من أطرافه -. وإن كان هذا رأيه الذي جزم بصوابه، لكن الواقع خلاف ذلك. (2)
__________
(1) - الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية ص: 133 - 139
(2) - كنت قد راجعت ميكرو فيلم لنسخة أطراف ابن عساكر في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، وكذلك ميكرو فيلم لأطراف أبي مسعود الدمشقي، (ورقمهما 192 حديث 140/ب)، ووجدت فيهما ’’إبراهيم عن ميمونة‘‘ دون ذكر ابن عباس.
كما راجعت جامع المسانيد – ميكرو فيلم – في جامعة أم القرى تحت رقم 962 ، 6/95/ب، ويقول فيه الحافظ ابن كثير: بعد أن ذكر رواية حجاج:
’’...حدثنا ليث به – يعني بدون ذكر ابن عباس راويا – وكذا رواه مسلم والنسائي عن قتيبة - زاد مسلم: ’’ومحمد بن رمح‘‘ - عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة‘‘.
ثم قال: ’’حدثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول ثنا إبراهيم بن عبد الله بن معبد أن ابن عباس حدث أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : الحديث‘‘.
وقال الحافظ ابن كثير: ’’وهكذا رواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم وحمد بن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة، قال شيخنا – وهو المزي – وهو الصواب كما سيأتي‘‘.
ثم قال في ص 99/1 : ’’حديث آخر رواه النسائي من حديث إبراهيم ابن عبد الله بن معبد بن عباس عن ابن عباس عن ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي الخ وتقدم عن إبراهيم عنها من غير ذكر ابن عباس، والله أعلم‘‘.
رأينا الحافظ ابن كثير قد ترك هذه القضية من دون أن يحققها، بل وجدناه يقتصر على نقل ذلك عن شيخه المزي (رحمهما الله ).(1/14)
أما الأدلة التي استند إليها الحافظ المزي (رحمه الله تعالى) لترجيح النسخة التي فيها ذكر ابن عباس فهي:
1 - اتفاق عامة النسخ من صحيح مسلم على ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة في حديث الليث.
2 - ورود الحديث في كتاب الأطراف لخلف في ترجمة (ابن عباس عن ميمونة) يعني أن الحديث لابن عباس عن ميمونة.
3 – كذا وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود الدمشقي.
4 – جاء في رواية ابن جريج أن ابن عباس حدث إبراهيم.
قلت: اتفاق عامة النسخ من صحيح مسلم على ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة، بالإضافة إلى الأمور التي ذكرها، كل ذلك دليل على صحته، لكن فقط إذا لم تقم قرائن قوية على أن الواقع خلاف ذلك، أما هنا فقد توافرت قرائن تدل على أن الليث لم يذكر في حديثه ابن عباس راويا أصلا، وما وقع في أكثر النسخ من صحيح مسلم - حسبما صرح به الإمام المزي - لم يكن إلا خطأ من نُسّاخها، ولا يمكن أن يكون ذلك من الإمام مسلم.
مع أن اتفاق عامة النسخ على إثبات شيء فيها ليس بدليل دائما على أنه هو الحق، إذ تتفق النسخ أحيانا على الخطأ، والتصحيف، ويعرف ذلك من خلال معرفة الواقع. وهذه بعض النماذج لذلك.
وقع في صحيح مسلم حديث: ’’نجيء نحن يوم القيامة عن كذا عن كذا ‘‘، وهذا تصحيف اتفق عليه الشراح. يقول النووي: هكذا وقع هذا اللفظ في جميع الأصول من صحيح مسلم، واتفق المتقدمون والمتأخرون على أنه تصحيف وتغيير واختلاط في اللفظ، قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين:
’’هذا الذي وقع في كتاب مسلم تخليط من أحد الناسخين‘‘ .
قال القاضي : هذه صورة الحديث في جميع النسخ ، وفيه تغيير كثير وتصحيف ، قال: وصوابه: ’’ نجيء يوم القيامة على كوم‘‘. هكذا رواه بعض أهل الحديث، وفي كتاب ابن أبي خيثمة من طريق كعب بن مالك:
’’يحشر الناس يوم القيامة على تل وأمتي على تل‘‘.
وذكر الطبري في التفسير من حديث ابن عمر:(1/15)
’’ فيرقى هو (يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم) وأمته على كوم فوق الناس‘‘.
وذكر من حديث كعب بن مالك:
’’يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل‘‘.
قال القاضي: فهذا كله يبين ما تغير من الحديث وأنه كان أظلم هذا الحرف على الراوي أو امحى فعبر عنه بكذا وكذا، وفسره بقوله أى فوق الناس. وكتب عليه ’’انظر‘‘ تنبيها، فجمع النقلة الكل، ونسقوه على أنه من متن الحديث كما تراه. هذا كلام القاضي، وقد تابعه عليه جماعة من المتأخرين والله أعلم.
وهذا أنموذج آخر، ينقل الحافظ ابن حجر عن البلقيني قوله :
وقع في أصل الصحيح في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل من تعرض لبيانه ، وذلك أن لفظه :
(وقال مجاهد: شرع لكم ، أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا )
والصواب: ’’(أوصيناك يا محمد وأنبياءه) كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطبري وابن المنذر في تفاسيرهم ، وبه يستقيم الكلام ، وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة ‘‘ (1) .
وإن كان الحافظ قد اعترض على البلقيني بأن التصحيف غير متعين (2) ، لكنه لم ينكر ذلك عليه ، وإنما قال غير متعين، كما أنه لم يطعن فيه لمخالفته جميع النسخ، ولا بأنه قد قدم على صحيح مسلم غيره من الكتب. فشتان بين الأسلوبين.
وعلى كل، فإن وجه الاستدلال بهذا المثال هو أن البلقيني يرى كلمة (وإياه) تصحيفا في ضوء القرائن التي شرحها، مع أن جميع الروايات لأصل الصحيح متفقة على كلمة (وإياه) (3)
وهاك مثالا آخر من صحيح مسلم:
__________
(1) - فتح الباري 1/48
(2) - هذا كلام العلماء يسر القارئ بأدبهم واحترامهم وتواضعهم مع من ينتقدهم.
(3) - على مذهب الأستاذ يكون عمل البلقيني والقاضي مثل مذهب الشيعة في إدعائهم الكذب بوجود تحريف في القرآن ؟!!(1/16)
وقع في صحيح مسلم (1) حديث هشام بن عروة عن أبيه عن أبي مراوح الليثي عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله ! أي الأعمال أفضل .. الحديث ، وفيه (تعين صانعا)، وهذا تصحيف، والصواب عن هشام: (تعين ضائعا).
يقول الإمام ابن الصلاح:
’’ قوله في رواية هشام ( تعين صانعا) هو بالمهملة والنون في أصل الحافظ أبي عامر العبدري وأبي القاسم بن عساكر، قال: وهذا هو الصحيح في نفس الأمر، ولكنه ليس رواية هشام بن عروة، إنما روايته بالمعجمة، وكذا جاء مقيدا من غير هذا الوجه في كتاب مسلم في رواية هشام.
وقال: وذكر القاضي عياض أنه بالمعجمة في رواية الزهري (2) لرواة كتاب مسلم إلا رواية أبي الفتح السمرقندي، قال الشيخ : وليس الأمر على ما حكاه في رواية أصولنا لكتاب مسلم فكلها مقيدة في رواية الزهري بالمهملة. والله أعلم‘‘ اهـ. يعني ( الصانع)
هذا وقد جاء حديث هشام هذا في صحيح البخاري بلفظ (وتعين ضايعا)، ويقول الحافظ ابن حجر: ’’ (هو) بالضاد وبعد الألف تحتانية، لجميع الرواة في البخاري كما جزم به عياض وغيره، وكذا في مسلم، إلا في رواية السمرقندي كما قاله عياض ، وجزم الدارقطني وغيره بأن هشاما رواه هكذا دون من رواه عن أبيه ...‘‘
وقال: ’’ وإذا تقرر هذا فقد خبط من قال من شراح البخاري إنه روى بالصاد المهملة والنون، فإن هذه الرواية لم تقع في شيء من طرقه ...‘‘ (3)
خلاصة الكلام أن رواية هشام بن عروة إنما هي: ( وتعين ضايعا) ومن قال في حديثه ( وتعين صانعا ) فقد صحف، ولا اعتبار باتفاق معظم رواة الكتاب على خلاف الواقع في حديث هشام، إذ ليس اتفاقهم دليلا على صواب ما اتفقوا عليه إذا علم من خلال الأدلة أن الواقع بخلافه. (4)
__________
(1) - كتاب الإيمان ، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 1/112 (شرح النووي)
(2) - يعني ( وتعين ضايعا)
(3) - فتح الباري 5/149
(4) - انظر تفصيل ذلك في كلام الشراح في هذا الصدد.(1/17)
إذن اتفاق النسخ لا يكون دليلا قاطعا على صحة ذلك الشيء المتفق عليه وثبوته عن صاحب الكتاب إذا كانت القرائن قائمة على خلاف ذلك في الواقع. ومثل هذه الأمور لا تخفى على من يشتغل بالمخطوطات وتحقيقها تحقيقا علميا.
ولا مجال للأستاذ لأن يشاغب بالباطل، ثم يوجه التهم نحو خصمه حتى يلزمه بقبول قوله، وتقديمه على قول الأئمة النقاد. (1)
__________
(1) - انظر إلى الشيخ كيف يعقب على هذه النقطة، يقول:
’’فيها مكابرة لم يسبق إلى مثلها ، فعامة نسخ مسلم تطابقت على ذكر ابن عباس يتداولها أئمة الحديث جيلا عن جيل في مشارق الأرض ومغاربها من أقصى خراسان إلى أقصى الأندلس والشام ومصر والحجاز واليمن وغيرها من البلدان وتؤيدها أطراف خلف وأكثر نسخ أطراف أبي مسعود ومع كل هذا لا يعتمد عليها في قضية من القضايا في نظر هذا الرجل بل يجزم بعدم وجودها . أظن أن أكبر سوفسطائي لا يصل إلى هذا الحد من المكابرة .
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
ما هو الدليل على أنه لا يعتمد على ما يذكر في عامة نسخ (صحيح مسلم ) مهما كثرت ومهما أيدها من المؤيدات ، ومهما حفت بها من قرائن تدل على ثبوت ما فيها؟!!
الجواب لدى المليباري :
هو أن البخاري لم يذكر الاختلاف على الليث بين أصحابه في إثبات ابن عباس راويا عن ميمونة ، لأنه ذكر الاختلاف على ابن جريج ولم يذكر الاختلاف على الليث.
فمجرد سكوته عن شيء دليل قاطع على بطلان ذكر ذلك في صحيح مسلم ، ولو اتفقت عليه مئات النسخ تحرسها عناية الله ثم عناية الأمة بها ، ولو أيدته كتب أخرى وحتى لو روى الطحاوي وابن أبي شيبة هذا الحديث وفيه ذكر ابن عباس عن ميمونة ، فلا تقبل هذه الشهادة.
بل ولو روت كل كتب السنة والتاريخ شيئا سكت عنه البخاري في كتابه (التاريخ) فلا يصدق ولا يقبل، ولا يجوز لأحد أن يصدق بوجوده . انتهى كلامه
وقال في كتابه منهج مسلم ص: (109) :
انظر إلى هذه المكابرة ، دواوين الإسلام المعتبرة أثبتت أن هناك اختلافا بين أصحاب الليث وأنهم طائفتان في رواية حديث ميمونة :
فطائفة تروي عن الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة ، وهم
1 - عبد الله بن صالح كما في (تاريخ البخاري)
2 – وحجاج بن محمد كما في (مسند أحمد)
3 – وقتيبة في رواية عنه كما في ( سنن النسائي)
وطائفة ثانية تروي الحديث عن الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة وهم :
1 – قتيبة وروايته في (صحيح مسلم)
2 – ومحمد بن رمح كما في (صحيح مسلم)
3 – وعبد الله بن وهب كما في ( مشكل الآثار)
4 – وشبابة بن سوار كما في ( مصنف بن أبي شيبة)
وإذا وصلت المكابرة التي تدعي التحقيق العلمي إلى هذا الحد فقل سلام الله على التراث الإسلامي إن تصدى لدراسته وتحقيقه مثل هذه النوعية الغريبة من العقول البشرية .
وردد معي قول الشاعر:
وليس يصبح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ‘‘
انتهى كلامه.
أقول : هكذا يحاور الأستاذ مخالفه، وليس في جعبته إلا التهويل والتهويش وإطلاق الدعاوى الفارغة وغمط المحاور وبطر الحق.
ولماذا هذا الصراخ والتهويل والشغب بأن عامة النسخ فيها ذكر ابن عباس، وأنها يتداولها الأئمة في مشارق الأرض ومغاربها من أقصى خراسان إلى أقصى الأندلس والشام ومصر والحجاز واليمن وغيرها ؟!!، كأن الأستاذ طاف البلدان كلها وتتبع النسخ في مكتباتها حتى يجزم بأن دواوين الإسلام المعتبرة أثبتت أن هناك اختلافا بين أصحاب الليث!!
والغريب أن الأستاذ يتجاهل ما أثبتناه فيما مضى من أن الإمام الدارقطني والقاضي عياض وأبا مسعود الدمشقي وأبا بكر بن منجويه، وأبا القاسم والحافظ ابن كثير ( انظر جامع المسانيد ) والحافظ ابن حجر و غيرهم من الأئمة تداولوا نسخا من صحيح مسلم وليس فيها ذكر ( ابن عباس )، كما أن البخاري والنسائي والدارقطني وابن أبي حاتم وابن حبان ومغلطاي والقاضي عياض كلهم يرون أن إبراهيم إنما روى عن ميمونة ، وليس عن ابن عباس.
ولم يكتف الإستاذ بهذا التجاهل والتناسي، بل اتهمني بأني أجعل مجرد سكوت البخاري دليلا قاطعا على بطلان ذكر ابن عباس، بينما هو يتناسى أنه يجعل مجرد سكوت البخاري دليلا على جهله عما سكت عنه. وسيأتي إن شاء الله النقاش حول نقطة سكوت البخاري وما يدل عليه من الدلالات والمرامي.
وما فائدة اتفاق النسخ على ذكر شيء إذا كان الواقع بخلافه ؟!! وقد رأيت آنفا بعض الأمثلة في ذلك.
أما الإجابة عن شبهات الأستاذ فتظهر من الأدلة والقرائن التي ذكرتها في الصفحات التالية، وليقرأها الأستاذ بهدوء ، ثم لينطق بعلم أو يسكت بحلم.(1/18)
وإليك القرائن والأدلة التي تدل على أن الواقع هو خلاف ما رجحه الحافظ المزي ( رحمه الله):
الدليل الأول: أن الإمام البخاري أورد في التاريخ الكبير (1) حديث الليث بدون ذكر ابن عباس، ولم يبين فيه الاختلاف بين أصحابه، بينما ذكر الاختلاف فيه على ابن جريج بإيراد روايتين متعارضتين عنه.
وهذا يعني أن رواية الليث خالية من ابن عباس عند الإمام البخاري. ولو يعلم أنه قد اختلف على الليث كما اختلف على ابن جريج ما أجاز لنفسه أن يفرق بينهما في شرح ذلك الاختلاف، وهو بصدد بيان العلة في الروايات التي توهم أن إبراهيم إنما روى عن ابن عباس وليس عن ميمونة. وبالتالي لا يعقل أن يأتي البخاري برواية واحدة عن الليث موهما اتفاق أصحابه عليه، أو أن يأتي برواية عبد الله بن صالح دون أن يعرف ملابساتها من حيث الاتفاق والاختلاف والتفرد.
__________
(1) - هذا نص البخاري في التاريخ الكبير(1/302):
’’إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب أخو عباس الهاشمي عن أبيه وميمونة سمع منه سليمان بن سحيم المدني وسمع منه ابن جريج .
? ... وقال لنا عبد الله بن صالح حدثني الليث قال حدثني نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه الا مسجد الكعبة .
? ... وقال لنا أبو عاصم عن ابن جريج عن نافع عن إبراهيم بن معبد عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم
? ... وقال لنا المكي عن ابن جريج سمع نافعا أن إبراهيم بن عبد الله بن معبد حدثه أن ابن عباس حدثه عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، ولا يصح فيه ابن عباس.
? ... وقال لنا مسدد عن بشر بن المفضل عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
? ... وقال لنا مسدد عن يحيىعن موسى الجهني سمع نافعا سمع عبد الله بن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
والأول أصح‘‘(1/19)
فذِكرُ الإمام البخاري حديث الليث في التاريخ الكبير من طريق واحد يعد دليلا على أن الليث بن سعد لم يختلف عليه رواته حسب علمه، وذلك لأنه (رحمه الله) بصدد تحقيق الأمر في رواية إبراهيم عن ميمونة مباشرة، من خلال عرضه لما يؤيده من الروايات الثابتة، مع تضعيفه الرواية المعارضة. ولو كان هناك خلاف في حديث الليث حول ذكر ابن عباس لذكره. وهذا يعني أن الإمام البخاري لم يقف على الاختلاف بين أصحابه.
وما علمه البخاري حجة على ما توهمه الأستاذ، ولا يُردُّ قولُه بما صحفه بعض النساخ في صحيح مسلم، حتى ولو اشتهر ذلك التصحيف بين الناس، ولا ينبغي أن يدرج فيه ما ليس منه ولو حرفا.
وإن كان هذا صنيع البخاري فيما يخص رواية الليث فإنه قد وافقه غير واحد من الأئمة في ذلك، كالنسائي والدارقطني حين قالا:
’’روى الليث عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة‘‘، يعني حديث فضل الصلاة في المسجد النبوي.
مع أنهم ذكروا الاختلاف على ابن جريج في ذلك. وهذا الاتفاق بين الأئمة النقاد على إطلاق رواية الليث بدون ابن عباس يعني أن الليث رواه بدون ابن عباس. وهذا يرجح صحة النسخ من صحيح مسلم التي خلت من ابن عباس، بل يفيدنا ذلك الاتفاق الجزم بأن ذكره في رواية الليث تصحيف من النساخ، سواء كان في نسخة صحيح مسلم أو غيره من الكتب.
ولا ينفع هنا الصراخ والتهويل والشغب بأن أكثر النسخ ذكرت ابن عباس، وأنها متداولة بين العلماء جيلا بعد جيل في مشارق الأرض ومغاربها وأني أجعل مجرد سكوت البخاري دليلا قاطعا على بطلان ما في صحيح مسلم!!.(1/20)
أما الأستاذ فيتناسى تماما أنه يجعل مجرد سكوت البخاري دليلا قاطعا على جهله بما سكت عنه؛ إذ استدل بذلك على أن البخاري لا يعلم حديث الليث إلا من طريق واحد، وهو ما ذكره في التاريخ الكبير، بمجرد كونه لم يذكر في التاريخ طريقا غيره، فهذا قياس خيالي لا يعتمده إلا الفلاسفة؛ إذ من المعروف في تاريخ المحدثين عموما، وخاصة النقاد، أنهم لا يكتفون بسماع الحديث من راو واحد، لا سيما إذا كان مصدره مشهورا مثل الليث، بل يبحثون عنه في مصادر أخرى، وإذا لم يجدوه بعد البحث إلا من وجه واحد، أو لا يعلمون غيره، حكموا بغرابته، أو يقولون: لا نعلمه إلا من هذا الوجه.
ومن أجل لقاء الشيوخ وتلقي الأحاديث من مصادرها المختلفة برزت عناية المحدثين بالرحلة إلى المدن والقرى. وفي إطار ذلك رحل الإمام البخاري إلى مصر بلد الليث مرتين، ولقي فيها من لقي من الرواة، وسمع منهم أحاديث، ثم إن علاقة خاصة كانت تربطه بقتيبة (1) ، وقد صاحبه البخاري كثيرا في الحضر والسفر، حتى إنه قدم معه الكوفة والبصرة مرات لا تحصى.
وعلى هذا فإنه من المستبعد جدا أن يقال إنه فات الإمام البخاري حديث الليث من رواية قتيبة وابن رمح، بمجرد أن الإمام البخاري لم يذكرها في تاريخه الكبير، وبناء على ما وقع في صحيح مسلم من التصحيف.
ومن المعلوم أن التاريخ الكبير ليس من كتب العلل المطولة حتى يسرد البخاري فيه جميع الروايات المتفقة والمختلفة، ولم يلتزم بذلك. وهذا ابن أبي حاتم في علله لم يكن من عادته إلا ذكر بعض أطراف الاختلاف. وهم يخاطبون من يفهمهم من أهل العلم والبصيرة .
__________
(1) - قتيبة هذا أحد رواة هذا الحديث عن الليث عند الإمام مسلم والنسائي الذي أطلق بقوله ’’رواه الليث بدون ابن عباس‘‘ .(1/21)
ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأئمة النقاد يكون من عادتهم أيضا عند بيان العلة أن يشرحوا وجه الاختلاف، بذكر وجه واحد من كل الطرق، وأنهم لا يسردون الروايات إذا كانت متفقة، بل يقتصرون على رواية واحدة منها؛ فإن الغرض من ذلك بيان وجوه الاختلاف بذكر بعضها دون ذكر جميع الروايات.
لذا، ينبغي أن نقول إن البخاري قد سمع حديث الليث من أصحابه، وليس قتيبة وابن رمح فقط. فلما وجد (رحمه الله ) رواياتهم عن الليث متفقة على إسقاط ابن عباس، اكتفى برواية عبد الله بن صالح لكونه صاحب كتاب، كعادة البخاري في التاريخ. ولو كان يعلم الاختلاف بين أصحاب الليث لذكر روايتين مختلفتين عنه على أقل الأحوال، كما عمل في حديث ابن جريج، مع أن مناسبة الحديث تقتضي منه ذكر ذلك الاختلاف على الليث لو كان فيه، تحقيقا للمسألة التي طرحها في مستهل الترجمة، وهي: هل روى إبراهيم عن ميمونة ، أم عن ابن عباس.
الدليل الثاني: قال النسائي: ’’رواه الليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة ولم يذكر (ابن عباس)‘‘. (1)
وبهذا وافق البخاريَّ في رأيه. ولو يعلم الإمام النسائي أن الرواة قد اختلفوا على الليث ما أجاز لنفسه أن يطلق بقوله: ’’رواه الليث‘‘. فمعنى ذلك أن جميع الرواة الذين رووه عن الليث متفقون على عدم ذكر ابن عباس راويا عن ميمونة، طبعا حسب علمه.
أما أن يقال إن النسائي لا يعلم إلا ما رواه عن قتيبة، فمنطق العوام الذين يعتمدون على الاحتمالات العقلية المجردة التي كثيرا ما يعول عليها الأستاذ في دراسته (2) .
ومن الجدير بالذكر أن النسائي قد روى في كتاب المساجد، باب فضل الصلاة في المسجد الحرام 2/33 عن قتيبة عن الليث، بدون ابن عباس، واتفقت عليه النسخ من السنن، كما يظهر ذلك مما قاله الحافظ المزي (رحمه الله تعالى).
__________
(1) - سنن النسائي (الكبرى) 2/390
(2) - انظر في النقطة الرابعة ، والقسم الثاني من الكتاب.(1/22)
والحديث الذي أورده مسلم كان عن قتيبة نفسه، وهذا يجعلنا نجزم أن رواية قتيبة عن الليث في صحيح مسلم إنما هي بغير ذكر ابن عباس. والنسائي أولى بالقبول من المزي، والثاني عالة على الأول. (1)
وهنا نلاحظ أن البخاري ذكر رواية عبد الله بن صالح، والنسائي ذكر رواية قتيبة كلاهما عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة. ولو فرضنا جدلا أن كلا منهما لا يعرف سوى ما ذكره في كتابه، لكننا نستطيع بدورنا أن نضم علم هذا مع علم ذاك لتتجلى دقة كل منهما في الآراء. وبالتالي يتلخص أن عبد الله بن صالح وقتيبة بن سعيد رويا عن الليث دون ذكر ابن عباس، بل أكد النسائي بقوله ’’ رواه الليث بدون ابن عباس‘‘.
هل يكون من المعقول أن يرد قول الأئمة الواضح والصريح، بما وقع في صحيح مسلم تصحيفا؟! ثم نعطي لما وقع فيه التصحيف مكانة الكتاب ذاته؟!
وما سبق من الحيثيات تكفي لأهل العلم أن يرجحوا نسخ صحيح مسلم التي خلت من ابن عباس ولو كان عددها قليلا، على النسخ التي فيها ابن عباس ولو كان عددها أكثر.
الدليل الثالث: أن الإمام الدارقطني لم يذكر أيضا الاختلاف على الليث – لا في العلل، ولا في التتبع – بينما ذكر ذلك الاختلاف على ابن جريج. مما يدل دلالة قاطعة على أن الروايات التي حفظها هو وجمعها، ودرسها، كلها متفقة على عدم ذكر ابن عباس راويا عنها في حديث الليث. وأن النسخة التي كان يملكها من صحيح مسلم خالية منه أيضا، وإلا لتعرض إلى ذكر ذلك في التتبع؛ لأنه خاص بتتبع أحاديث الصحيحين.
__________
(1) - لكن الأستاذ يقدم المزي على النقاد. وهذا من المزالق الخطيرة التي يقع فيها كثير من المعاصرين لعدم اهتمامهم بتمييز المرجعية الأصيلة من المرجعية المساعدة في علم الحديث. انظر هذا الموضوع في مقدمة كتاب (علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين) للمؤلف.(1/23)
والإمام الدارقطني لا يعتمد إلا على مسموعاته ومحفوظاته من الروايات، وبحفظه وفهمه ومعرفته ينتقد الأحاديث. والذي يعتمد على ’’الوجدات‘‘، وما وقع في النسخ، يكون عالة على النقاد. وليس من الإنصاف أن يرد كلامهم بناء على تصحيف وقع في نسخ صحيح مسلم.
الدليل الرابع: أن ابن أبي حاتم وابن حبان، وقبلهما الإمام البخاري، لم يذكروا لإبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس رواية عن ابن عباس. ولو ثبت عندهم ’’عن ابن عباس‘‘ في رواية الليث وابن جريج لذكروا لإبراهيم رواية عنه. بل ذكر ابن أبي حاتم والإمام البخاري روايته عن ميمونة، بينما ذكر ابن حبان روايته عن أبيه. وإبراهيم هذا قليل الرواية، وفيما يبدو من خلال التتبع أن إبراهيم هذا لم يعرف له إلا روايتان، رواية عن أبيه عن ابن عباس، ورواية عن ميمونة.
أما الحافظ المزي فذكر في ترجمة إبراهيم من تهذيب الكمال روايته عن ابن عباس بناء على ما رجحه في صحيح مسلم، وتبعه في ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه التهذيب نظرا لكونه مختصرا لتهذيب الكمال. كما ذكروا أيضا رواية إبراهيم عن ميمونة، وربما يكون ذلك على سبيل الاحتمال، وكلام الأئمة النقاد وصنيعهم في كتبهم ينبغي أن يكون هو الفيصل في مثل هذا النوع من الاختلاف الذي يوجد في نسخ الكتاب، ولا يعكر صفاءه ما نقله بعض المتأخرين بخلافهم.
الدليل الخامس: أورد الحافظ ابن حجر في رسالته اللطيفة ’’ الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية‘‘ (ص 133 – 139) حديث قتيبة عن الليث عن نافع، بدون ذكر ابن عباس، وعزاه إلى مسلم. وهذا دليل واضح على أن ما يحفظه من حديث الليث بإسناده الخاص خال من ابن عباس، كما أن نسخته من صحيح مسلم خالية أيضا، لأنه قال بعد روايته:’’رواه مسلم‘‘.
الدليل السادس: قال ابن أبي شيبة:(1/24)
’’ورواة أهل مصر لا يدخلون فيه ابن عباس‘‘ (1) .
هذا النص صريح بأن قتيبة وغيره من أهل مصر لم يذكروا فيه ابن عباس.
الدليل السابع : قال الإمام أبو علي الجياني (2) :
’’وإنما يحفظ هذا الحديث عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة ، ليس فيه ابن عباس ، هكذا رويناه في حديث الليث بن سعد، وكذلك ذكره البخاري في التاريخ الكبير عن عبد الله بن صالح عن الليث ....‘‘. ثم نقل عن التاريخ ما سبق ذكره. (3)
الدليل الثامن : قال الأُبّي في الإكمال 3/480:
’’... وذكر ابن عباس فيه خطأ‘‘
وقال في ذيله:
’’صوابه إسقاط ابن عباس، لأنه يحفظ (إبراهيم عن ميمونة) والمتن صحيح بلا خلاف ، ولعل الروايتين صحيحتان‘‘.
وقوله الأخير إنما يكون على الاحتياط فقط، وإلا يتناقض مع قوله: ’’صوابه إسقاط ابن عباس‘‘.
الدليل التاسع: إن حجاج بن محمد المصيصي، وعبد الله بن صالح، وأبا جهم وقتيبة وابن وهب كلهم قد رووا عن الليث بدون’’عن ابن عباس‘‘. وما وجد خلاف ذلك فيعد خطأ.
1 - أما رواية حجاج ففي المسند (6/334،333) .
2 - ورواية عبد الله بن صالح في التاريخ الكبير (1/302).
3 - وحديث أبي الجهم في جزئه (ص: 46) .
4 - وحديث قتيبة في سنن النسائي دون خلاف كما سبق ذكره.
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة 6/416 وقد أتحفني بهذا النص أخونا الفاضل طارق بن مصطفى أبو إسحاق التطواني حين زارني في دبي، جزاه الله تعالى خير الجزاء.
(2) - وصفه القاضي عياض بأنه من أتقن الناس بالكتب ، وأضبطهم لها، وأقومهم لحروفها ، وأفرسهم ببيان مشكل أسانيدها ومتونها. ( الإلماع ، ص: 192 تحقيق السيد صقر)
(3) - التنبيه على الأوهام الواقعة في صحيح الإمام مسلم ، ص: 181 ، ثم روى الحديث عن طريق ابن رمح ، لكن وقع فيه ابن عباس ، ومن المؤكد أن هذا تصحيف ، إذ صرح في مستهل كلامه ’’ هكذا رويناه في حديث الليث ‘‘ يعني بدون ابن عباس .(1/25)
5 - ورواية ابن وهب في شرح معاني الآثار 3/126، وقد أحال إليه الحافظ ابن حجر في النكت الظراف.
غير أن رواية ابن وهب في (مشكل الآثار) للطحاوي، النسخة المطبوعة 1/246، فيها ’’ابن عباس‘‘، لكنها معارضة لما ثبت في النسخة المخطوطة، ومنها ثلاث نسخ راجعها لي الأخ محمد طاهر (1) ، كما أنها معارضة لنسخة الحافظ ابن حجر من كتاب مشكل الآثار، التي اعتمدها في (النكت الظراف)، فهذه النسخ الخطية كلها متفقة على إسقاط ابن عباس راويا عن ميمونة، وعليه فما وقع في المطبوع إن هو إلا تصحيف واضح (2) .
__________
(1) - الأخ الدكتور محمد طاهر قام بتحقيق كتاب مشكل الآثار ضمن أطروحته للدكتوراه ، وراجعه لي مشكورا أيام كنا طلبة بجامعة أم القرى ، فجزاه الله تعالى عنا خير الجزاء .
(2) - يقول الأستاذ بهذا الصدد:
’’ورواه في مشكل الآثار عن يونس عن ابن وهب عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة . والتي في ( المشكل ) وفيها ذكر ابن عباس ، هي الراجحة ، ويؤيدها ما في عامة نسخ صحيح مسلم وجميع نسخ النسائي، وما في نسخ أطراف خلف وما في بعض نسخ أبي مسعود ، وتقرير الحافظ المزي والحافظ ابن حجر‘‘ (منهج مسلم ص: 113).
قلت: هكذا كان الأستاذ يرسل الكلام على عواهنه، ويطلق الدعوى بلا دليل. كان عليه أن يستدل في محل النزاع بما ليس فيه نزاع، وكل ما ذكره في الترجيح محل نزاع بيني وبينه، ونحن نرى ذكر ابن عباس في هذه النسخ خطأ، بناء على تعليل النقاد. مع أن تلك النسخ غير متفقة على ما ذكره الأستاذ، مثلا نسخ صحيح مسلم ونسخ أبي مسعود ليست كلها متفقة، ثم إن الأستاذ تجاهل اتفاق النسخ من سنن النسائي على عدم ذكر ابن عباس في رواية قتيبة عن الليث. وعليه فقوله : ’’هي الراجحة ‘‘، مجرد دعوى.
أما تقرير الحافظ ابن حجر فلم يذكر الإستاذ مصدره ، هذا وقد سبق آنفا عن الحافظ ابن حجر قوله في النكت الظراف، وفي رسالته (الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية)، ومفاده أن الطحاوي روى في (المشكل) عن ابن وهب بدون ابن عباس.
وماذا يستفيد الأستاذ من ذر الرماد في عيون القراء؟!! والله المستعان .(1/26)
وقد وقع في مصنف ابن أبي شيبة 2/371 حديث الليث من رواية شبابة بن سوار بذكر ’’ابن عباس‘‘ ، حيث فيه :
’’حدثنا شبابة بن سوار عن الليث بن سعد عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة‘‘،
هذا يدل على أن الكتاب المطبوع فيه سقط وتصحيف أيضا، وبالتالي لا يصلح أن يكون معتمدا في مثل هذا الاختلاف، حيث سقط من السند اسم’’نافع‘‘. وهل يقال هنا بناء على هذا السقط: أنه اختلف على الليث؛ فرواه مرة عن إبراهيم مباشرة وأخرى رواه عن نافع عن إبراهيم، والأول عال والثاني نازل؟!
أما على أسلوب الباحث الذي يجمع الروايات كحاطب ليل فنعم !.
لكن وقع في موضع آخر من المصنف (1) ما يدل على أن شبابة رواه بذكر ابن عباس، وهذا نصه:
’’حدثنا شبابة قال ثنا ليث بن سعد عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس عن ميمونة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صلاة فيه - يعني مسجد المدينة - أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد مكة.ثم قال ابن أبي شيبة : ( ورواة مصر لا يدخلون فيه ابن عباس) فما رواه شبابة عن ليث لا يكون إلا خطأ في ضوء ما جزم به النقاد . هذا إن ثبت ذلك عن شبابة . والله أعلم .
الدليل التاسع: إن رواية ابن جريج التي استدل بها الإمام المزي على رجحان ذكر ابن عباس في رواية الليث، لا يصح فيها ابن عباس، كما صرح بذلك الإمام البخاري والدارقطني (2) .
ويبدو من كلام الحافظ المزي (رحمه الله) أنه لم يستحضر وجوه الاختلاف على ابن جريج، وإلا ما استند إلى روايته جازما. لهذا قلت: إن تعقب الحافظ ابن حجر عليه في محله.
__________
(1) - 6/416
(2) - التاريخ الكبير 1/302 - 303 ، والعلل 3/1/57(1/27)
الدليل العاشر: من الجدير بالذكر أن مثل هذه الأسانيد التي يطول فيها اسم الراوي يقع فيها كثيرا كتابة (عن) قبل (ابن) تصحيفا، أو استبدال كلمة (ابن) بـ(عن)، وبالعكس أيضا، وإذا نظرت في سياق إسناد الليث، ألا وهو: ’’نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة‘‘، ثم قارنت بينه وبين ما وقع فيه ابن عباس راويا، ترجح عندك أنه تصحيف.
ذلك لأن السند الذي فيه ’’عن ابن عباس‘‘ ورد هكذا: ’’ نافع عن إبراهيم بن
عبد الله بن معبد عن ابن عباس‘‘، وكان من المفروض أن يقع كالآتي:
’’ نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ابن عباس‘‘، لأن إبراهيم غير مشهور بالرواية، وبالتالي يهتم المحدثون بذكر المشهور من آبائه، وهو عباس بن عبد المطلب، ولا فائدة تذكر إذا انتهى ذكر اسمه عند معبد.
أما ابن عباس المشهور - هو عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) - فلا صلة له بهذه الرواية، ولو كان الصواب في السند ذكر عبد الله بن عباس لجاء سياقه ’’.. معبد بن عباس عن ابن عباس ‘‘؛ إذ لا يتحقق غرض الراوي في تعريف اسم إبراهيم إذا انتهى اسمه بمعبد، بل لا بد من ذكر عباس حتى يعرف إبراهيم باسمه الكامل؛ فإن إبراهيم من الرواة الذين لم تعرف اسماؤهم الكاملة بين المحدثين إلا عن طريق الأسانيد التي تعد من أهم المصادر الموثوقة في تدوين تراجم الرواة، وتفاصيل اسم الراوي التي يذكرها تلميذه في روايته.
وأما الذي لم يقع فيه ’’عن ابن عباس‘‘، فهو مذكور هكذا:
’’إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن ميمونة‘‘،
فأصبح إبراهيم معرَّفا باسمه الكامل، ولذا أقول إنه وقع عند بعض النساخ اشتباه لطول اسمه بذكر أجداده ، فكتب’’عن‘‘ قبل ’’بن عباس‘‘ كالعادة ، لاسيما أن ابن عباس مشهور بالرواية بحيث يسبق إليه القلم عند استعجال الناسخ في نسخه. ومثل هذا الاسم الذي يطول بذكر الآباء والأجداد يتعرض عادة لتصحيف النساخ، كما لا يخفى على من يشتغل بالتحقيق.(1/28)
وإذا قيل إن هذا الترجيح يؤدي إلى تقديم التاريخ الكبير وسنن النسائي وغيرهما من الكتب على صحيح مسلم الذي يعد من أصح الكتب بعد كتاب الله، كما قال ذلك الأستاذ نفسه (1) ، فأقول: ليس الأمر كذلك، إذ لم يثبت في صحيح مسلم ذكر ابن عباس أصلا حتى يقال إننا فضلنا تلك الكتب على صحيح مسلم في اعتماد الإسناد. والذي ثبت في صحيح مسلم هو ما يطابق تلك الكتب، وما وقع بخلافه يعد تصحيفا، وبالتالي لا مجال لهذا السؤال.
وبعد فأقول: إنه لم يقع في عدم ذكر ابن عباس اختلاف على الليث بين أصحابه، ولم نجد أحدا من الأئمة النقاد يشير إلى ذلك الاختلاف، إلا ما وجدنا في مصنف ابن أبي شيبة من رواية شبابة. أما الاختلاف الذي عالجه الحافظ المزي إنما كان بين نساخ صحيح مسلم.
وفي ضوء هذا الواقع لا يسوغ لنا القول إن رواية مسلم فيها ذكر ابن عباس. وكان مراد الإمام مسلم هنا بذكر رواية الليث مع روايات عبيد الله وموسى الجهني وأيوب بيان الاختلاف على نافع فقط.
الأستاذ مع أدلة التصحيف؛ الدليل الأول
لنا في سياق كلام الأستاذ في كتابه (منهج مسلم ) بعض الوقفات لنناقشه في بعض القضايا التي لم يتقن عرضها عند تعقيبه على الأدلة التي ذكرتها لإثبات تصحيف النساخ في صحيح مسلم.
يقول الأستاذ معقبا على الدليل الأول الذي يتمثل في موقف الإمام البخاري:
’’ هكذا بكل قوة يؤكد ما تضمنته هذه الفقرة كأنما جاءه بهذا جبريل من رب العزة والجلال الذي أحاط بكل شيء علما ، أتدري كم عدد تلاميذ الليث ...‘‘
إلى أن قال بعد شغبه بالعدد الحسابي:
’’ هذه الأعداد والحسابات التي هي أدنى التقادير هي بعض ما يحتمله كلامك ، فاتق الله واترك التهاويل والمجازفات. وأعتقد أنني أكن للبخاري من الحب والتقدير ما لا يوجد عندك، وأعتقد أن هذه التعسفات التي ترتكبها إنما هي لنصرة باطلك‘‘.
__________
(1) - انظر منهج مسلم ص: 113 للشيخ ربيع .(1/29)
’’ يا أخي: إن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وابن مسعود وغيرهم من أكابر الصحابة كانوا أفضل من البخاري وأقوى منه حافظة ، وأحرص منه على حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشد وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ملازمة البخاري لأصحاب الليث، ومع ذلك يفوت كل واحد منهم من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم )رغم أنه أستاذ واحد، وليس هناك أسانيد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهل تذكر قصة أبي بكر عندما جاءته الجدة ... (ذكر القصة في الميراث).
وهل سمعت بالأحاديث التي فاتت أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – ومنها ’’حديث الاستئذان‘‘ ، وحديث ’’إملاص المرأة‘‘ و’’ حديث دية الأصابع ‘‘ مع أنه كان يلازم رسول الله ، وإذا غاب يكلف من ينوب عنه ليحفظ له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم أضرب لك من الأمثلة من أصحاب رسول الله فضلا عن غيرهم.
والآن هل ترى أنه من أمكن الممكنات أن يفوت البخاري حديث ابن عباس من طريق الليث وأصحابه، أو ترى أنه يستبعد استبعادا أن يكون فاته ؟
وسأمثل لك بشيء فات البخاري وعرفه غيره، وهو الترمذي. قال الترمذي في (العلل) حدثنا أبو كريب وأبو هاشم الرفاعي وأبو السائب والحسين بن الأسود قالوا حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ’’ الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد‘‘(1/30)
قال أبو عيسى هذا حديث غريب من هذا الوجه من قبل إسناده ، وقد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يستغرب من حديث أبي موسى. سألت محمود بن غيلان عن هذا الحديث فقال : هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة، لم نعرفه إلا من حديث أبي كريب عن أبي أسامة ، وسألت محمد بن إسماعيل فقال: هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة، لم نعرفه إلا من حديث أبي كريب عن أبي أسامة ، فقلت له: حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا فجعل يتعجب ، وقال: ما علمت أن أحدا حدث هذا غير أبي كريب ، وقال محمد: كنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة .
وإذا فرضنا جدلا أنه سمعه من أصحاب الليث فهل أنت مستعد أن تقبل قولي أو قول غيري أنه يحتمل إلى أبعد الحدود أن يكون نسيه حينما كان يكتب في التاريخ وأنه أولى وأليق من القول بأنه تركه عمدا أو سترفع البخاري فوق مستوى الأنبياء والصحابة الكرام وستستبعد عليه النسيان استبعادا ما بعده استبعاد؟؟
ثم أسألك هل يجوز أن ترد حديثا رواه مسلم في كتاب تلقته الأمة بالقبول بمثل هذه الافتراضات الخيالية التي يدرك زيفها بأدنى تأمل‘‘. انتهى تعقيب الأستاذ ( منهج مسلم ص: 116 – 120).
الردود والتعقيبات
أقول: ههنا في تعقيبه عدة نقاط استوقفتني وسأعقب عليها فيما يأتي:
أما النقطة الأولى فإن تعقيب الأستاذ هذا كان على ما كتبته له في الرد الثاني الذي أرسلته إليه جامعةُ أم القرى. وإن كان موضوع التصحيف وما يتصل به من الأدلة لم يتغير في هذا الكتاب، إلا أن بعض العبارات كانت مبهمة في الرد الثاني، حتى استغلها الأستاذ في شغبه بالحسابات الرياضية، ولذلك حررت الموضوع نفسه بمزيد من التوضيح والأدلة كما أشرت إلى ذلك في مقدمة هذا الكتاب .
وأما النقطة الثانية: فإن موضوع الحوار بيني وبينه هو:
هل يرى البخاري أن الروايات عن الليث متفقة على عدم ذكر ابن عباس أم لا.(1/31)
أما أنا فأقول إن البخاري يرى أن الليث لم يذكر ابن عباس، وأن الرواة عنه لم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا على ابن جريج، ولما وجد البخاري الروايات متفقة على الليث في عدم ذكر ابن عباس اكتفى بذكر رواية واحدة منها في التاريخ الكبير، وهي روايته عن عبد الله بن صالح عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة، كما هي عادته فيه. وفي الوقت ذاته شرح البخاري اختلاف الرواة على ابن جريج حتى رجح عدم ذكر ابن عباس في حديثه. وتأيد ذلك بنصوص النسائي والدارقطني.
بينما يذهب الأستاذ إلى أن البخاري لا يعلم أن الرواة عن الليث متفقون أو أنهم مختلفون، وأنه لا يعلم سوى رواية واحدة عن الليث، وهي التي ذكرها في التاريخ. وحجته في ذلك أن البخاري لم يذكر في التاريخ سوى رواية عبد الله بن صالح عن الليث. ولو أنه كان يعلم رواية قتيبة التي رواها مسلم بذكر ابن عباس (حسب زعم الأستاذ طبعا) لذكرها، إذن فالبخاري لا علم له برواية قتيبة. ومن المعلوم أن الأئمة يتفاوت علمهم زيادة ونقصا، ويفوت بعضهم ما عند الآخر، وحتى كبار الصحابة فاتهم ما علمه صغارهم، بل فات البخاري فعلا من الروايات ما حفظه الترمذي من الأحاديث.
أو إن البخاري يعلم الروايات كلها غير أنه نسي في التاريخ الكبير رواية قتيبة، لأن الناس من طبيعتهم أن ينسوا.
هذا هو منطق الأستاذ وأسلوبه في التعامل مع نصوص النقاد في نقد الروايات، وهو – كما ترى – مبني على منهج الاحتمالات والتجويزات العقلية التي يلجأ إليها عادة غير المؤهلين. ويستغرب صدور ذلك من الأستاذ الذي تخصص في الحديث وعلومه، وقام بالتدريس في الجامعة الإسلامية ومناقشة الرسائل، حتى أصبح رئيس قسم الدراسات العليا وتحصل على أعلى درجة أكاديمية.
وما قاله الأستاذ يكون مقبولا جدا لو كنت أدعي عموما أنه لا توجد رواية عن الليث غير رواية عبد الله، بحجة أن البخاري لم يذكر في التاريخ سواها، وجعلت مجرد سكوته دليلا على العدم.(1/32)
وأما حين أقول له : - بناء على عادة البخاري في تاريخه الكبير، وعلى منهجه في نقد الأحاديث- إن البخاري أفادنا من خلال روايته عن عبد الله بن صالح عن الليث في التاريخ الكبير أن حديث الليث ليس فيه ابن عباس في جميع رواياته التي يعلمها، ولو يعلم اختلافا بين الرواة لذكر وجها واحدا مخالفا لحديث عبد الله، كما عمل في حديث ابن جريج. فيقول لي الأستاذ إن البخاري لا يعلم رواية قتيبة التي تخالف رواية عبد الله بن صالح، أو أنه يعلمها لكنه نسيها، بناء على مجرد الاحتمال والتجويز العقلي، دون أن يأتي بنص واحد له أو لغيره من الأئمة يدل على نسيانه أو جهله، ثم يسرد التاريخ ليثبت أن ذلك محتمل في حقه، فليس ذلك من آداب الحوار العلمي الهادف، وإنما هو أسلوب غوغائي يريد به الشغب، وقياس فلسفي لا مكانة له في المجالات العلمية، لا سيما في الحديث وعلومه.
وإلى جانب هذا أن النسائي وافق البخاري في ذلك حين صرح بقوله: رواه الليث ولم يثبت فيه ابن عباس. وكذا الدارقطني أطلق ذلك في كتابه (التتبع)، وأمامه حديث مسلم عن قتيبة الذي يزعم الأستاذ أنه عن ابن عباس .
فهل من المعقول أن تُرد أقوال النقاد بناء على ما صحفه بعض النساخ في صحيح مسلم، أو على احتمال أن يكون تصحيفا على أقل الأحوال؟!! مع أن نسخ صحيح مسلم الأخرى التي تداولها الأئمة سلمت من ذلك التصحيف.
وهل يمكن أن يتحول الإنسان العاقل في أثناء الحوار إلى الانشغال بالتساؤل الخيالي أو الجدلي، تبريرا لرفض نصوص النقاد وآرائهم المؤسسة على الحفظ والمعرفة والفهم ؟!
وهل من المنطق أن يجعل مجرد سكوت البخاري عن شيء دليلا على أنه نسيه أو جهله؟!
وهل يكون التصحيف من بعض النساخ دليلا على أن البخاري نسي أو جهل؟!(1/33)
وإذا سلك الأستاذ هذا المسلك لم يبق حديث واحد من السنة إلا وقد ضعفه، ولا تصحيح النقاد ولا تضعيفهم إلا وقد رده جملة وتفصيلا لأن حجته في ذلك أنه يحتمل أن يكون هناك حديث مخالف لم يعلمه الراوي، أو أنه حَكَمَ بخلافه ناقد آخر؟! أو يحتمل أن يكون الراوي قد نسي أثناء روايته للحديث ؟! أو يحتمل أن يكون النقاد قد نسوا أو جهلوا طرقا أخرى ؟!
أ وليس هذا بعينه منطق المعتزلة في ردهم لخبر الآحاد ؟!.
وعلى أسلوب الأستاذ الفاضل فما ورد عن أبي هريرة أو عمر أو أبي بكر أو ابن مسعود من الأحاديث لا يفيد اليقين إذن؟! لأنه يحتمل أن يكون له حديث معارض في المسانيد أو المستخرجات أو دواوين السنة التي لم نطلع عليها، لا سيما وأنه تساءل بقوله :
’’هكذا بكل قوة يؤكد ما تضمنته هذه الفقرة كأنما جاءه بهذا جبريل من رب العزة والجلال الذي أحاط بكل شيء علما ‘‘.
ويفهم من هذا أنه لا يفيد اليقين إلا إذا جاء به جبريل من رب العزة.
ما هكذا تورد يا سعد الإبل ؟!.
لا ينبغي في الحوار اللجوء إلى الدعوى بالاحتمال، ولا يكون الاحتمال دليلا على المخالف إلا إذا ادعى الاستحالة. وكان ينبغي على الأستاذ أن يثبت بالدليل أن البخاري لا يعلم رواية قتيبة أصلا، أو أنه نسيها، ويأتي من نصوصه أو نصوص الآخرين، ما يدل على ذلك. أما أن يعتبر سكوت البخاري عن رواية قتيبة وغيره دليلا على جهله بها، مع أنها مشهورة لدى معاصريه، فغير مقبول.
أما أنا فقد ذكرت له أن البخاري أثبت في التاريخ الكبير اتفاق الرواة على عدم ذكر ابن عباس في حديث الليث، وأن إبراهيم إنما روى عن ميمونة، وليس عن ابن عباس.
وذلك لأمور ؛ منها :(1/34)
أن عادة البخاري وغيره من النقاد إذا لم يعرفوا حديثا إلا من وجه واحد أن يستغربوه، ويقولوا: ’’هذا حديث فلان لا نعرفه إلا من هذا الوجه‘‘، كما قال محمود بن غيلان والبخاري والنسائي في الأمثلة التي أتى بها الأستاذ. وللأسف لم ينتبه الأستاذ إلى أن هذه الأمثلة التي ساقها كانت حجة عليه؛ إذ لو كان كل منهم لا يعرف الحديث إلا من الطريق الذي رواه لاستغربه كما وجدنا في تلك الأمثلة. بل رأينا البخاري يستدل بحديث عبد الله على أن إبراهيم إنما روى عن ميمونة ، وليس عن ابن عباس.
ثم إني لم أكن أدعي أنهم يعلمون كل ما ورد في حديث الليث من الروايات بناء على أنهم يحفظون جميع الأحاديث والروايات، حتى يتعب الأستاذ نفسه بسرد تلك الأمثلة ليبرهن على عدم استيعابهم جميع السنن.
ومن الأمور التي تدل على عدم ثبوت ابن عباس في رواية الليث: نصوص صريحة للنسائي والدارقطني على أن الليث رواه بدون ابن عباس. والنسائي ممن رواه عن قتيبة مباشرة بدون ابن عباس، والدارقطني ممن تتبع أحاديث مسلم ومنها حديث قتيبة هذا الذي نحن بصدده.
ومنها أيضا: أن النقاد لا يحتجون بالرواية الغريبة الشاذة فيما يتصل بالحديث أو الإسناد. وهنا فقد استدل البخاري بحديث عبد الله عن الليث مع الروايات الراجحة عن ابن جريج على أن إبراهيم إنما رواه عن ميمونة.
ومنها أيضا: أن عادة البخاري في التاريخ - كغيره من النقاد - أن يكتفي بذكر وجه واحد في حال اتفاق الرواة عن شيخهم. وإذا ذكر رواية عن محدث واكتفى بها ثم ذكر وجوه الاختلاف على محدث آخر فمعنى ذلك أن الرواة لم يختلفوا في الرواية عن المحدث الأول وإلا ما اقتصر على وجه واحد.(1/35)
إذا كان بعض النقاد في مجال النقد يعلق بصيغة الجزم ويقول مثلا: روى الليث، مثل ما رأينا عند النسائي والدارقطني، فإن الآخر يروي الحديث باستيعاب طرقه كما عمل الدارقطني في العلل، أو يرويه بلا استيعاب؛ كما عمل البخاري في التاريخ وابن أبي حاتم في العلل.
وعلى الأستاذ الذي لا يقبل هذا الواقع أن يأتي بالأدلة الناصعة البعيدة عن النزاع، ولا ينبغي له أن يقول: إنه يحتمل أو يجوز. ونحن غير مستعدين لرفض كلام النقاد بناء على هذه الاحتمالات المجردة والبعيدة.
ومن الذي أنكر احتمال النسيان على الأئمة حتى يأتي الأستاذ بأمثلة من التاريخ !
ولو فرضنا جدلا أن البخاري لم يعرف إلا ما ذكره في التاريخ الكبير، وفاته حديث قتيبة الذي رواه مسلم ، فما الذي ثبت لدى الأستاذ حتى يرد قوله ؟!
أما رأيت من الروايات ما يؤيد صحة استدلاله على رواية إبراهيم عن ميمونة، بدون ذكر ابن عباس ؟!.
ألا ترى الإمام النسائي رواه عن قتيبة مباشرة بدون ابن عباس، ثم قال : ’’رواه الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة‘‘ ؟!.
ثم يأتي الدارقطني يوافقه أيضا بعد تتبع أحاديث مسلم، ومنها حديث قتيبة وابن رمح الذي يزعم الأستاذ أنهما روياه عن ابن عباس عن ميمونة.
ثم أتى الحافظ ابن حجر برواية أبي الجهم وابن وهب عن الليث، مصرحا بأنه ليس فيهما ابن عباس.
هذا كله فيما يخص النقطة الثانية من التعقيبات على قول الأستاذ.
وأما النقطة الثالثة فإن البخاري لو لم يعلم حديث الليث إلا من طريق واحد وهو ما ذكره في التاريخ، لقال مثل ما نقله الأستاذ عن الترمذي، ولقال: ’’هذا حديث عبد الله عن الليث، ولم نعرفه إلا من حديث عبد الله عنه‘‘.
أما أن يذكر البخاري حديث عبد الله عن الليث استدلالا على أن إبراهيم إنما رواه عن ميمونة لا عن ابن عباس، ثم يوافقه النسائي والدارقطني فلا ينبغي للدكتور المتخصص في الحديث أن يرده زاعما أن البخاري لا يعلم إلا حديث عبد الله، أو نسي حديث فلان.(1/36)
وهل يجوز أن يُرفض كلام البخاري بمجرد احتمال أو خيال أنه لا يعلم سوى ما ذكره، دون دليل على ذلك، من أجل تبرير تصحيف وقع من بعض النساخ ؟!
وأما النقطة الرابعة فإني لم أكن أردُّ حديثا رواه مسلم في كتابه وتلقته الأمة بالقبول بالافتراضات الخيالية. ويعلم الأستاذ جيدا أن ذكر ابن عباس في حديث الليث عن نافع عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة ليس مما تلقته الأمة بالقبول، بل صرح الأئمة: البخاري والنسائي والدارقطني والقاضي عياض بعدم صحة ذلك. وعلى هذا فالذي كنت أردُّه هو ما صحفه بعض النساخ بعد ما تبين لي ذلك من خلال نصوص النقاد ومواقفهم تجاه حديث الليث، وقد سبق شرحها مفصلا. وبالتالي أصبح قول الأستاذ هذا باطلا غير صحيح.
غير أني أود أن أسأل هل يجوز لأحد أن يدرج في كتاب تلقته الأمة بالقبول شيئا لم يذكره صاحبه أصلا بتلك الإفتراضات الخيالية التي يدرك زيفها بدون تأمل؟! كلا وألف كلا.
الأستاذ مع الدليل : الثاني والثالث
وأما الدليل الثاني والثالث – وهما يتمثلان في موقفي النسائي والدارقطني - فعلق عليهما الأستاذ بمثل ما سبق في تعقيبه على البخاري . والحمد لله أن كلامه يرد على نفسه، لأنه مبني على الاحتمالات والافتراضات.
وعلى كل فأنا أنقل كلامه هنا، وهذا نصه (1) :
’’ جوابهما ( يعني الجواب عما يتصل بكلام النسائي والدارقطني ) ما مضى مثله في البخاري، فجائز أنه يبلغهما (2) ما بلغ مسلما والطحاوي وابن أبي شيبة، وربما بلغ غيرهما، فهناك مستخرجات، وهناك كتب علل لم تبلغك، وهناك مسانيد؛ كمسند يعقوب بن شيبة المعلل وكمسند أبي علي الحسين بن محمد الماسرجسي الحافظ البارع له مسند. قال الذهبي فيه ’’ المسند الأكبر‘‘، وقال ’’ صنف المسند الكبير مهذبا معللا في ألف جزء وثلثمائة جزء‘‘.
__________
(1) - منهج مسلم، ص: 120 – 121
(2) - يبدو أن فيه سقطا ، ولعل الرجل يريد أن يقول ’’ فجائز أنه لم يبلغهما‘‘، وإلا فالقول مردود من أوله(1/37)
فما يدريك أن مثل أبي علي ومثل يعقوب بن شيبة وغيرهما قد ذكرا الاختلاف على الليث ورجحا – مثلا – رواية محمد بن رمح وقتيبة التي أخرجها مسلم وربما أيداها بما رواه الطحاوي من طريق ابن وهب وبما رواه ابن أبي شيبة من شبابة وربما رواه غير هذين عن الليث .
ولا نغالي في هؤلاء، بل نقول عند البخاري ما لم يبلغهم وعند الدارقطني والنسائي ما لم يبلغهم كما بلغهم ما فات هؤلاء، وسنة رسول صلى الله عليه وسلم لم يحط بها أحد ومجموعها عند الأمة بحيث لم يفت منها شيء.
وحسبك مثالا قول النسائي – رحمه الله – بعد أن روى الحديث من طريق الجهني عن نافع عن ابن عمر ’’ صلاة في مسجدي‘‘ وهو حديثنا هذا: ’’لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن نافع عن عبد الله بن عمر غير موسى الجهني، وخالفه ابن جريج وغيره‘‘ .
وقد علم البخاري ما جهله النسائي من مشاركة عبيد الله بن عمر للجهني في رواية هذا الحديث عن نافع .
وقد بلغ الدارقطني ما فات البخاري والنسائي، وهو مشاركة عبد الله بن عمر وموسى بن عقبة وعبد الله بن نافع وأيوب وقد ذكرهم جميعا في العلل والتتبع وقد عرفت ذلك، وليس الدارقطني بأعلم من البخاري والنسائي فهما يعلمان الكثير مما فات الدارقطني فيما نظن، وهذه سنة الله في خلقه .
إذا عرفت هذا فأظن أنك ستتنازل عن قولك: ’’ وثانيا : أن الدارقطني لم يذكر أيضا الاختلاف على الليث لا في العلل ولا في التتبع ... مما يدل دلالة قاطعة على أن الروايات التي حفظها وجمعها ودرسها دراسة مقارنة عن الليث كلها متفقة على عدم إثبات ابن عباس‘‘. فهذا الجزم والقطع لا ينبغي إلا لنبي جاءه الوحي من عند الله بمثل هذا النبأ، أو رجل اجتمع عنده من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع، وهذه أمور معلومة عند عقلاء البشر. وأما الإمام النسائي فأظن – إن صدق ظني – سيكفيك اعترافه.
الردود والتعقيبات
تضمن كلامه عدة أمور تسلط الأضواء على طبيعته وتناقضاته الغريبة.(1/38)
الأمر الأول: أن الرجل وجدناه ينتهج في هذا الحوار منهج الاحتمال والتجويز العقلي لمواجهة النقاش العلمي المؤسس على علم وبصيرة وفهم. ويرد النصوص الصريحة للأئمة النقاد بالاحتمالات والتجويزات العقلية .
وقد وقفنا على نصوص صريحة للإمامين: النسائي والدارقطني على عدم صحة ذكر ابن عباس في رواية ابن جريج، واتفاقهما على خلو حديث الليث من ذكر ابن عباس. فروى النسائي عن قتيبة الذي روى عنه مسلم في صحيحه، ولم يذكر فيه ابن عباس. وأما الدارقطني فقد وقف على حديث قتيبة وابن رمح عند مسلم لأنه من الأحاديث التي تتبعها وأوردها في كتابه التتبع.
وأما الأستاذ فلا يقبل هذه النصوص الصريحة. وحجته في ذلك أنه جائز أنه (لم) يبلغهما ما بلغ مسلما والطحاوي وابن أبي شيبة.
فما الذي بلغ هؤلاء الأئمة مما لم يبلغ النسائي والدارقطني؟! ومن المعلوم أن الإمام الدارقطني تتبع أحاديث مسلم، ومن هذه الأحاديث حديث قتيبة. فهل يقال إذن: إنه جائز أنه لم يبلغه ما بلغه مسلم؟!!.
ما هذا الكلام ؟! و ما هذا الأسلوب ؟!
والأمر الثاني: قول النسائي بعد روايته عن موسى الجهني: ’’لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن نافع عن عبد الله بن عمر غير موسى الجهني، وخالفه ابن جريج وغيره‘‘.
إذن لو كان البخاري لا يعلم إلا وجها واحدا من حديث الليث، لصرح بذلك، مثل ما صرح النسائي بذلك. وهذه عادته وعادة غيره من النقاد في مجال النقد.
وإذا لم نجده يقول ذلك في مناسبة النقد فمعنى ذلك أن الحديث مشهور عندهم وليس غريبا حسب علمه.
وهب أن النسائي أعل رواية موسى الجهني دون أن يقف على رواية عبيد الله، فماذا ترتب عن تعليله هذا؟! هل اعترض عليه أحد برواية عبيد الله أم أن تعليله أصبح مقبولا لدى العلماء؟!
إذن فما قيمة قول الأستاذ بأن النسائي لم يقف على رواية عبيد الله؟!(1/39)
والأستاذ يرسل الكلام دون تأمل ودون علم ومنهج، ولا يصلح معه النقاش العلمي؛ لأنه ينهج منهجا فضفاضا يتهرب به من التناقضات كلما يقع فيها. وبناء على منهجه هذا يمكن أن يقول هنا: جائز أن يكون الدارقطني قد نام أثناء ذكره لتلك الروايات، أو نسي في التتبع ما فصله في العلل!!
أي منهج ينهج الباحث الذي يزعم بأن البخاري والنسائي والدارقطني لا يعلمون إلا ما ذكروا في كتبهم من الأحاديث، ويجهلون أو ينوسون ما لم يذكروا فيها، لا لدليل، وإنما لمجرد كونهم لم يذكروا ذلك، حتى ولو ذكروا في كتاب آخر فإنهم يجهلون ذلك في الكتاب الذي لم يذكروه فيه؟!
وهل مضى في التاريخ مثل هذا النوع العجيب من الباحثين الذين يجعلون الجهل علما، والعلم جهلا ، والمنهج فوضى ، والفوضى منهجا؟!
ما هكذا تورد يا سعد الإبل!
والأمر الثالث: عدم إفادة اليقين في الأخبار عند الأستاذ إلا في حالين فقط: وهما:
أ - النبي إذا جاءه الوحي.
ب - والرجل إذا اجتمع عنده من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع.
وأما في غير ذلك فلا يفيد الجزم والقطع حسب قول الأستاذ.
وهذا صريح كلامه: ’’فهذا الجزم والقطع لا ينبغي إلا لنبي جاءه الوحي من عند الله بمثل هذا النبأ، أو رجل اجتمع عنده من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع، وهذه أمور معلومة عند عقلاء البشر‘‘ (1) .
وقد أجاب الرجل حين قلت له: ( وليس فيه استحالة صحة رواية عبيد لله بل يحتمل صحته) بقوله :
__________
(1) - أليس في كلامه هذا مدح لأهل الكلام ؟!(1/40)
’’لا يجدي عنه فتيلا؛ فإن المتكلمين المبتدعين الذين قلدهم في مثل هذا التعبير لا يرون استحالة الكذب في كل ما يثبت عن رسول الله مما لم يتواتر ولو كان في الصحيحين لأنها عندهم أخبار آحاد لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن، وما كان كذلك يحتمل الكذب، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يظنون، وهم سفسطوا وتفلسفوا لإقناع الرعاع بهذيانهم المخبول فإن أنصار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبابه حقا لا ادعاء لا ينظرون إلى هذا الهذيان وما شاكله من أنواع الضلال إلا بعين الاحتقار والازدراء ويرون أن كل حديث جاء عن طريق الثقات العدول بشروطه المعروفة عند المحدثين يفيد العلم والعمل ويؤمنون به في باب الاعتقاد ويطبقون في مجال العمل وإن رغمت أنوف أصحاب الكلام والجدل‘‘اهـ.
أقول : ما تعليق الأستاذ على هذا التناقض العجيب والتلون الغريب؛ إذ يعلن في موطن بحصر إفادة اليقين في الحالين دون غيرهما، ويأتي إلى موضع آخر ليعلن بأن الخبر الذي جاء عن طريق الثقات العدول بشروطه المعروفة عند المحدثين يفيد العلم وإن رغمت أنوف أصحاب الكلام والجدل ؟!
ووجه التناقض أنه ينكر في النهي الأول إفادة خبر الآحاد القطع والجزم إلا ما جاء به الوحي أو ما اجتمعت فيه من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع، واعتبر أصحاب الكلام والجدل عقلاء البشر، وأعلن أنها أمور معلومة عندهم. بينما يفيد في النص الثاني بأن خبر الآحاد يفيد العلم بشروطه المعروفة عند المحدثين، حتى وإن لم يستوف من الأدلة والبراهين الحسية والعقلية ما يكفي للجزم والقطع، وإن رغمت أنوف أصحاب الكلام والجدل. (1)
الأستاذ مع الدليل الرابع
__________
(1) - هذا ويعرف الجميع قصة هذا الرجل مع أخينا الفاضل الداعية أبي الحسن المأربي – حفظه الله ورعاه – وإيذائه بأبشع العبارات بسبب قوله: إن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفت به القرائن.(1/41)
لقد علق الأستاذ على الدليل الرابع (1) بما يأتي :
’’ جوابها (يعني الفقرة التي تضمنت الدليل الرابع ) أن البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان لم يشترطوا استيعاب شيوخ وتلاميذ من يترجمون لهم، وكم تركوا منهم وفي الوقت نفسه لم ينفوا سماع إبراهيم بن عبد الله من ابن عباس ولو نفوه وأثبته غيرهم من الأئمة لقدم الإثبات؛ لأن المثبت مقدم؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
ثم هل علمت أن ابن حبان صرح بنفي سماع إبراهيم من ميمونة، وكذلك مغلطاي ، وقد ذكر المزي والحافظ ابن حجر إبراهيم في الرواة عن ابن عباس ، ولو اتبع الناس منهجك هذا لأنكروا سماع أكثر رواة الصحيحين بمثل حجتك هذه ، فإذا لم يجد المغرض سماع شخص من شيخه في (تاريخ البخاري) و (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم أنكر سماع ذلك الراوي عن شيخه بناء على حجتك هذه، وهل تقصد بمواقفك هذه فتح أبواب الفتن على مصراعيها على كتب السنة وكتب الرجال التي يقوم عليها الإسلام. (منهج مسلم ص : 121 – 122)
الردود والتعقيبات
قلت: في تعقيبه أمور:
__________
(1) - والدليل الرابع هو أن ابن أبي حاتم وابن حبان، وقبلهما الإمام البخاري، لم يذكروا لإبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس رواية عن ابن عباس. ولو ثبت عندهم ’’عن ابن عباس‘‘ في رواية الليث وابن جريج لذكروا لإبراهيم رواية عنه. بل ذكر ابن أبي حاتم والإمام البخاري روايته عن ميمونة، بينما ذكر ابن حبان روايته عن أبيه. وإبراهيم هذا قليل الرواية، وفيما يبدو أن إبراهيم هذا لم يعرف له إلا روايتان، رواية عن أبيه، ورواية عن ميمونة.(1/42)
الأمر الأول : عادة البخاري في تاريخه الكبير - إذا كان الراوي المترجم له نادر الرواية، مثل إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس - أن يستوعب ذكر من روى عنه، قد يكون واحدا أو اثنين أوثلاثة. أما إذا كان كثير الرواية فيقتصر على ذكر بعض الشيوخ والتلاميذ. هذا ما تبين لي من خلال استقرائي لكتاب التاريخ الكبير أيام تحضيري لرسالة الدكتوراه.
الأمر الثاني: تقديم المثبت على النافي، وإن كان هذا مسلما كقاعدة أصولية فإن تطبيقها يحتاج إلى خلفية علمية حول طبيعة المسألة التي تطبق فيها القاعدة، وهنا يتميز العالم من المتعالم المقدام.
فإذا أراد الباحث تطبيق هذه القاعدة الأصولية في الحديث الذي اختلف فيه المزي مع النقاد في ذكر ابن عباس يتعين عليه قبل التطبيق النظر في المثبت وطبيعة إثباته، وفي النافي وملابسات نفيه، والمقارنة بينهما لمعرفة مدى تساويهما في العلم والمنهج والأصالة. وإلا سيؤدي ذلك إلى قلب الأمور رأسا على عقب.
ومن الجدير بالذكر أن تطبيق القاعدة لن يكون منهجيا إلا إذا لم يتبين من خلال القرائن أن النافي يتميز بمزيد علم بما نفاه. ومن هنا تتجلى مصداقية قولهم إن كل قاعدة لها استثناءات.
وعلى كل فإذا كان الأستاذ يرى تقديم المثبت على النافي ويرجح قول الحافظ المزي، فإننا نرى قاعدة تقديم الجارح على المعدل فيه أولى بالتطبيق، إذ الناقد الذي ضعف الحديث الذي فيه ذكر ابن عباس يصبح جارحا، والذي يصححه يكون في مثابة المعدل، فعلى القاعدة الأصولية يقدم التعليل على التصحيح، وذلك نظرا لكون الناقد مطلعا على ما لم يطلع عليه المصحح، إذ جل اعتماد هذا المصحح على الظاهر.(1/43)
هذا وإن تلك القاعدة الأصولية - مع وجود خلاف فيها - إنما محلها عند التعارض بين الأطراف المتساوية علما ومنهجا وأصالة، أما التعارض بين المتقدمين والمتأخرين في مجال التصحيح والتعليل أو الجرح والتعديل فلن يكون مجالا لهذه القاعدة فإن النقاد مقدمون في كل الأحوال. (1)
__________
(1) - قال الحافظ ابن حجر : ’’ ... فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث‘‘.
أما صاحبنا فيقول : لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة حتى البخاري لما تجاوزوا النتائج التي وصلت إليها ، ...وبهذا أخذوا وردوا .
وقال السخاوي في نوع (الموضوع):
’’ولذا كان الحكم من المتأخرين عسرا جدا، وللنظر فيه مجال، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي ولم يجىء بعدهم مساو لهم ولا مقارب أفاده العلائي، وقال: فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمدا لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح‘‘ اهـ
وقال الحافظ ابن كثير : ’’أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم، واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصفوا بالإنصاف والديانة، والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكا أو كذابا، أو نحو ذلك. فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في مواقفهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم‘‘.(1/44)
وإذا كان الحافظ المزي قد أثبت ذكر ابن عباس بناء على ظاهر الأمور التي شرحها، فإن النقاد أعلوا ذلك بناء على الحفظ والفهم والمعرفة، وبالتالي فلا مقارنة بينه وبينهم حتى تطبق القاعدة، لا سيما في الوقت الذي تبين فيه أن ذكر ابن عباس تصحيف من النساخ كما شرحنا سابقا.
والأمر الثالث: إن الذي أنكره كل من أبي حاتم وابن حبان هو سماع إبراهيم من ميمونة، ولم ينكرا روايته عنها، بل أثبتا روايته عنها ضمنا؛ فإن إنكار السماع بين إبراهيم وميمونة دليل بذاته على وجود رواية عنها، والأئمة لا يبحثون عادة عن السماع ولا يتحدثون عن مدى احتماله إلا إذا وقعت الرواية في سند ما ، وإلا فلا مجال لإنكار السماع أو إثباته. والفرق بين الرواية والسماع ظاهر لدى الجميع.
ومن الجدير بالذكر أن ابن حبان ومغلطاي لم يثبتا لإبراهيم رواية عن ابن عباس، ولا السماع بينهما؛ لأنه لم تثبت روايته عنه أصلا في الأسانيد، هذا، وقد قال مغلطاى:
’’ولم يصرح بسماعه (يعني إبراهيم) منها (أي ميمونة) أحد علمناه من القدماء المعتمدين، وأكد ذلك ذكره عند ابن سعد في الطبقة الرابعة من المدنيين الذين ليس عندهم رواية إلا عن صغار الصحابة ‘‘ اهـ (1)
وقال ابن حبان: ’’قيل إنه سمع من ميمونة، وليس ذلك بصحيح عندنا ‘‘اهـ
ولهذا ذكره ابن حبان في أتباع التابعين (2) .
ويدل قولهما على وجود رواية لإبراهيم عن ميمونة ، وإلا فالكلام حول سماعه من ميمونة لغو عديم الجدوى.
الأستاذ مع الدليل الثامن
يعلق الأستاذ على هذا الدليل– وهو أن حجاج بن محمد المصيصي، وعبد الله بن صالح، وأبا جهم، وقتيبة، وابن وهب كلهم قد رووا عن الليث بدون ’’عن ابن عباس‘‘. وما وجد في خلاف ذلك فيعد خطأ - بما يأتي:
__________
(1) - كما نقله الشيخ من الإكمال 1/ق 58
(2) - الثقات 6/6(1/45)
’’ الجواب: أيضا روى مسلم عن قتيبة وابن رمح عن الليث الحديث بذكر ابن عباس . وروى الطحاوي عن عبد الله بن وهب بذكر ابن عباس، وروى ابن أبي شيبة عن شبابة عن الليث الحديث وفيه ذكر ابن عباس، ولا يبعد أن تكون كتب المسانيد والمستخرجات قد روت عن آخرين عن الليث بذكر ابن عباس.
وهل أسقطت رواية مسلم الإمام عن إمامين وهما ابن رمح وقتيبة من الحساب مع مؤيدات مسلم الكثيرة ؟!
وقوله: وهذا يدل على وقوع الاختلاف بين النسخ من (المشكل). أقول: ولماذا لا يدل على اختلاف النسخ من شرح معاني الآثار ؟! هل تظن أنك تكتب لأطفال وبلهاء ؟!
كان ينبغي أن تنزل رواية المشكل منزلة الراوي الثقة مثلا، وزيادة الثقة مقبولة. وبالنسبة لشبابة بن سوار في مصنف ابن أبي شيبة التي رواها عن الليث عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس تحققت أنا من صورة عن مخطوطة الظاهرية الموجودة في مكتبة الجامعة الإسلامية برقم (571)، (2/82) فوجدتها توافق المطبوعة بإسقاط نافع من الإسناد، وهذا لا يدل على أن الإسناد كله غلط، بل يقال: إن وجود ذكر ابن عباس فيها صواب، والقرائن على ثبوته وسقوط ذكر نافع ما في صحيح مسلم وما في مشكل الآثار، حيث رواها في هذين الكتابين زملاء شبابة عن الليث عن نافع به.
وهم قتيبة ومحمد بن رمح في مسلم ، وعبد الله بن وهب في المشكل.
ثم لو وجد في مخطوطة الإسناد متصلا بذكر نافع إلى ابن عباس هل ستغير موقفك ؟! هذا بعيد إلا أن يغير الله قلبك ، فهذا بيد الله سبحانه وتعالى.
ثم وعد أنه إذا تمكن من مراجعة مخطوطات ابن أبي شيبة سيقوم بتحقيق الأمر، ولا ندري ما هو هذا التحقيق؟!
ثم أفادنا أنه معروف لدينا أن كتاب (المشكل) و(المصنف) لم يحققا حق التحقيق، وكل المصادر التي توافق هواه، ومنها شرح معاني الآثار وتاريخ البخاري قد حققا حق التحقيق لأن هواه قد ضمنها من الخطأ والسقط.
الردود والتعقيبات(1/46)
أقول: تمنيت أن أقرأ للأستاذ تعليقا علميا مفيدا ولو مرة واحدة! ولا يعقل أن يصدر مثل هذا التعليق من أستاذ جامعي اشتغل برهة من الدهر في حقل تدريس الحديث وعلومه ومناقشة رسائل جامعية.
أما قوله ’’أيضا روى مسلم .... إلى آخر الفقرة ‘‘ فغير علمي وغير منهجي، لأن ذكر ابن عباس في هذه الكتب التي ذكرها الأستاذ مختلف في صحته، وبالتالي قد يكون كل من هؤلاء الأئمة بريء من ذلك على أقل التقدير. لذا، لا ينبغي للأستاذ في حال الاختلاف أن يطلق القول بأنه روى مسلم أيضا عن قتيبة وابن رمح عن الليث، وروى الطحاوي عن ابن وهب وفي روايتهم جميعا ذكر ابن عباس. هذا وقد سبق في كلامي تحقيق حول رواية هؤلاء الأئمة، وقد قدمنا من الأدلة ما يقطع بأن ذكره في كتب هؤلاء الأئمة تصحيف من النساخ.
وهذا في الحقيقة مما يشكل تباينا واضحا بين الأستاذ وبين أهل النقد، وإن كان الأستاذ ممن يحترم آداب الحوار فإنه لا ينبغي له الاستعجال على إطلاق الدعاوى، قبل أن يثبت صحة النسخة فيما يتصل بحديث الليث، من خلال الأدلة النقلية أو العقلية.
وقوله: ’’ ولماذا لا يدل على اختلاف النسخ من شرح معاني الآثار؟! هل تظن أنك تكتب لأطفال وبلهاء ؟!‘‘.
أقول: هذا دليل على وجود خلل في فهم الأستاذ، ولماذا أقول ذلك إذا كانت نسخ (شرح معاني الآثار) متفقة على عدم ذكر ابن عباس، ولم يشر أحد من العلماء السابقين إلى وقوع اختلاف بينها في ذلك؟! بل النسخة التي اعتمدها الحافظ ابن حجر موافقة للمطبوع المتداول لدينا. وإذا كانت نسخ كتاب (المشكل) مختلفة لماذا أسكت عن شرح ذلك الاختلاف؟!. وإذا شرحناه هل يلزمني أن أشرح الاختلاف بين نسخ الكتب الأخرى حتى وإن لم يوجد الاختلاف بينها ؟!(1/47)
وقوله: ’’ننزل رواية المشكل منزلة الراوي الثقة وزيادة الثقة مقبولة‘‘. هذا أغرب من السابق. يا أخي إن في كتاب المشكل إشكالا واضحا حول ذكر ابن عباس، وقد بينت فيما سبق أن ثلاث نسخ مخطوطة لهذا الكتاب اتفقت على إسقاط ابن عباس.
إذن كيف يعتمد الكتاب المطبوع فيما خالف فيه النسخ المخطوطة؟!
وكيف يقول الأستاذ: ننزل رواية المشكل منزلة الراوي الثقة وزيادة الثقة مقبولة ؟!
والأستاذ ليس لديه معرفة عن الناسخ الذي أدخل في السند ابن عباس. فكيف يرسل الكلام جزافا: ’’ننزل رواية المشكل منزلة الراوي الثقة، وزيادة مقبولة‘‘؟!!. وكأن مسألة زيادة الثقة سهلة التطبيق عنده! وإذا حمل كل اختلاف النسخ على زيادة الثقة، دون أن يعرف عن الناسخ الذي صحف، يكون قد خرب الكتاب، بدل أن يحققه.
أما فيما يخص مصنف ابن أبي شيبة فهو أيضا غير محقق، وفيه تصحيفات وسقطات يعرفها كل من يشتغل بالحديث. ووجدنا له نسخة مخطوطة في مكتبة جامعة أم القرى، لكنها نسخة سقيمة فيما يبدو، ولعل المطبوع معتمدا على هذه النسخة المخطوطة، لتطابقهما في الأخطاء والسقطات.
والحديث الذي وقع في سنده سقط يثير الإشكال عموما في مدى خلو الكتاب من التصحيفات والسقطات، لا سيما إذا كان الكتاب غير محقق أصلا. ولذلك لا يطمئن القلب لشيء مخالف لما في الكتب الأخرى. هذا وقد دلت الروايات الأخرى على أن سقط نافع في السند غفلة من الطابعين. وبالتالي لا يكون ما وقع في هذا الكتاب دليلا لحل النزاع بعد أن دلت الأدلة والبراهين على أنه لم يكن إلا تصحيفا واضحا.
الأستاذ مع الدليل التاسع
يقول الأستاذ تعقيبا على الدليل التاسع - وهو أنه اختلف على ابن جريج في ذكر ابن عباس - .
’’ أولا : إن موضوع كتاب المزي إنما هو أطراف أحاديث الكتب الستة وزوائد مؤلفيها ، وليس هو كتاب علل حتى يستوفي كل جهات الاختلاف.(1/48)
ثانيا: أنا لا أغلو فيه فأقول إنه صنف وجمع الطرق ودرسها دراسة مقارنة ، فيبعد جدا أن يكون ينسى هذا ، وغيره ولو كان حافظا كبيرا حجة شأنه شأن البشر، وأجوز عليه أنه فاته أشياء ولو وافق بحثه هواك لنسجت حوله هالة كبيرة جدا . ولله في خلقه شؤون .
وباقي الفقرة افتراض ميت وكلام سقيم ، فما هو تعقب الحافظ هل تعقبه في ترجيح ذكر ابن عباس ؟! ثم هل تظن أن المزي وصل من الجمود وبلادة الفكر إلى هذا الحد ، ألا تراه قد خرج عن موضوع كتابه منافحا عن صحيح مسلم بكل حماس؟!
ألم تقرأ قوله عن أبي القاسم وابن منجويه ومن شاركهما في إسقاط ابن عباس الذي يؤمن بثبوت ذكره في هذا الإسناد إيمانا قائما على العلم : وكل ذلك وهم ممن قاله ، والله يغفر لنا ولهم.
إنه يرى ثبوت ذكر ابن عباس ، لا في صحيح مسلم فحسب بل خارج صحيح مسلم ، ولهذا وهم ابن عساكر صاحب أطراف السنن لا الصحيحين.
وما مراده وقد قال مستدلا : ’’وهذا اللفظ صريح في أن الحديث عن إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة لا عن إبراهيم عن ميمونة‘‘.
أتظنه مثل الجهلة بالحديث وعلومه من محترفي التحقيق أو مثل المستشرقين لا يهمهم بعد ذلك أن تلك النصوص صحيحة أو باطلة ؛ لأنهم لا يميزون بين الثابت وغير الثابت ، وليس ذلك مما يهمهم ، إنه لا يوهم ويرجح لأجل مجرد شيء مذكور في بعض النسخ ولم تذكره الأخرى فقط ، بل لأنه محدث ناقد يعرف ماذا يترتب على هذا الذكر أو ذلك الحذف ويوهم على أساس منهج نقاد الحديث ويرجح على منهج نقاد الحديث لا على طريق النساخ الجهلة التي لا يعجز عنها أحد.
وهكذا نرى منهج هذا الرجل يحط من شأن كل ما خالفه ، ومن خالف هواه ، فالكتب التي تخالف هواه تحتاج إلى تحقيق ، والكتب التي توافق هواه في زعمه لا تحتاج إلى تحقيق.
والأشخاص الذين لا توافق تصرفاتهم هواه يتلاعب بكلامهم ويحطهم عن منزلتهم ، فيجعل كلامهم مثل كلام الأطفال والجهلة البلهاء.
الردود والتعقيبات(1/49)
أقول : يمكن أن نسأل الأستاذ الذي لم يحترم رأي النقاد هذه الأسئلة ذاتها.
وهل يظن الأستاذ أن المزي أفضل وأعلم من البخاري والنسائي والدارقطني؟!
ليأتيني بنص واحد أو بدليل واحد يدل على ما يقول .
الواقع الذي أعرفه من خلال هذا الحوار الذي استمر برهة من الدهر على مراحل مختلفة أن الأستاذ لا يملك في هذا المجال إلا التهاويل والمجازفات.
أما قوله: ’’وهكذا نرى منهج هذا الرجل يحط من شأن كل ما خالفه، ومن خالف هواه ....‘‘، فغير منهجي .
ومن الذي أنكر أن المزي لم يستند إلى دليل فيما رجحه، حتى يسألني: هل رأيت .. وهل رأيت.. ؟!
لقد قلت سابقا إن المزي استند إلى عدة أمور في ترجيح ما رجحه ، لكن أدلته غير كافية، لا سيما في ضوء نصوص النقاد المتفقة على أن ذكر ابن عباس في حديث الليث غير ثابت.
ومن المعلوم أن الحافظ المزي ليس من المحدثين النقاد، وإنما هو مثل الذهبي والحافظ ابن حجر وغيرهما من المحدثين المحققين الذين يعتمدون على النقاد رواية ونقدا، وهو عالة عليهم في مجال الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف. وهذا ليس عيبا ولا طعنا في علمه ولا في مكانته ، وإنما هو من طبيعة الواقع الذي عاشه هو وغيره من المحدثين المتأخرين.
يبدو من طبيعة استدلال الأستاذ أنه يرى المزي لا يخطىء!، وأنا أذكر هنا مثالا واحدا لخطئه في التحقيق حتى لا يرفعه فوق مكانته العلمية، ويجعله فوق كلام النقاد في مجال تخصصهم الحديثي.
المناسبة حديث أخرجه البخاري عن ابن حرب عن أبي مروان عن هشام عن أبيه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : ’’ إذا صليت الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون‘‘
وتتبع الإمام الدارقطني رواية هذا الحديث فقال:(1/50)
’’وهذا مرسل، ووصله حفص بن غياث عن هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة ، وقال ابن سعيد عن محمد بن عبد الله بن نوفل عن أبيه عنه ، ووصله مالك عن أبي الأسود عن عروة عن زينب عن أم سلمة في الموطأ‘‘ انتهى كلام الدارقطني. (1)
وقال الحافظ ابن حجر :
’’حديث مالك عند البخاري في هذا المكان مَقْرون بحديث أبي مروان، وقد وقع في بعض النسخ - وهي رواية الأصيلي- في هذا ( عن هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة موصولا).
وعلى هذا اعتمد المزي في الأطراف. ولكن معظم الروايات على إسقاط زينب.
قال أبو علي الجياني: وهو الصحيح ، ثم ساقه من طريق أبي علي بن السكن عن علي بن عبد الله بن مبشر عن محمد بن حرب شيخ البخاري على الموافقة، وليس فيه (عن زينب) .
وكذا أخرجه الإسماعيلي من حديث عبدة بن سليمان ومحاضر وحسان بن إبراهيم كلهم عن هشام ليس فيه زينب، وهو المحفوظ من حديث هشام.
وإنما اعتمد البخاري فيه رواية مالك التي أثبت فيها ذكر زينب ثم ساق معها رواية هشام التي سقطت منها حاكيا للخلاف فيه على عروة كعادته ، مع أن سماع عروة من أم سلمة ليس بمستبعد. والله أعلم ‘‘ (2) اهـ.
من الجدير بالذكر أن الحافظ المزي قد اعتمد على الخطأ الذي وقع في نسخة الأصيلي مع اتفاق معظم الروايات على خلافها، فما بالك إذن إذا اتفقت أكثر النسخ على الخطأ. هذا شأن البشر يخطئون ويصيبون، لا سيما في المجالات العلمية التي يكون فيها مقلدا وعالة على غيره ، ولا يختلف في ذلك المتقدم والمتأخر.
__________
(1) - كتاب الإلزامات والتتبع ص: 246 - 247
(2) - هدي الساري مقدمة فتح الباري الحديث الرابع والعشرون ص: 519 .(1/51)
والذي يتعين على الباحث المنصف المتجرد أن يفهم القضية في ضوء الواقع ، وليس لأن فلان هو الذي قال ذلك. ألا ترى الحافظ ابن حجر - بعد أن أشار إلى اتفاق أكثر الروايات على خلاف ما اعتمده الحافظ المزي - يشرح الواقع الثابت في حديث هشام من خلال الروايات ليبرهن على خطأ المزي في كتابه الأطراف؟!.
ولا ينبغي للإستاذ أن يواجه شخصا يبين خطأ الحافظ المزي في ضوء الواقع والأدلة والبراهين، ويقول له:
’’ أتظنه مثل الجهلة بالحديث وعلومه من محترفي التحقيق أو مثل المستشرقين لا يهمهم بعد ذلك أن تلك النصوص صحيحة أو باطلة ؛ لأنهم لا يميزون بين الثابت وغير الثابت..........وهكذا نرى منهج هذا الرجل يحط من شأن كل ما خالفه، ومن خالف هواه، فالكتب التي تخالف هواه تحتاج إلى تحقيق، والكتب التي توافق هواه في زعمه لا تحتاج إلى تحقيق. والأشخاص الذين لا توافق تصرفاتهم هواه يتلاعب بكلامهم ويحطهم عن منزلتهم ، فيجعل كلامهم مثل كلام الأطفال والجهلة البلهاء‘‘. (!!)
أقول : إن السؤال المطروح هنا لماذا لا يرى العيب في نفسه، حين يتهم به غيره، فهو كما قيل: ’’رمتني بدائها وانسلت‘‘.
لكل منا أن يقبل ما يقتنع به في ضوء الأدلة، سواء أ كان مخطئا أم مصيبا، بل يؤجر على ذلك إذا لم يكن مقصرا ومتساهلا. وينبغي أن يكون ذلك هو منطلق الحوار العلمي الهادف. ولا ينبغي لأحد أن يمارس الإرهاب في حق الآخر ليقبل رأيه. والله الموفق.(1/52)