النظرية اللسانية
عند ابن حزم الأندلسي
[ قراءة نقدية في مرجعيات الخطاب اللساني وأبعاده المعرفية ]
د. نعمان بوقرة- الجزائر
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2004(1/1)
المقدمة
في زمن الصراع والتناقضات، وما بين ازدهار التفكير العلمي في الحضارة الإسلامية والتراجع السياسي المخيف، وما بين عصر المنطق والفلسفة وحوار الأديان وسيطرة العقيدة الأشعرية والسلفية، ظهر المفكر الأندلسي ابن حزم القرطبي، وهو يحمل رؤية متميزة لقضايا عصره جعلته من الشخصيات البارزة في الحضارة الإسلامية بعامة والأندلسية بخاصة. لقد فرض نفسه على صفحات التاريخ بما تركه من آراء ومواقف وآثار علمية لم يختلف اثنان في أهميتها ؛ ولولا شطط في بعض الأحكام وتحرش تعرض له لكان أكثر شهرة من غيره، وأنفذ تأثيراً، إذ اجتمعت في عبقريته الخبرة السياسية والمعرفة الدينية بمختلف تخصصاتها، كما كان صاحب نظرة ثاقبة وقدرة متميزة على تفحص دقائق الأمور بعقل واع ومنهج علمي متزن .(1/2)
سعى ابن حزم، إلى تأسيس مذهب فكري متكامل يكون بديلاً للثقافة المشرقية السائدة. والتف حول مدرسته جم من المفكرين والمؤرخين وعلماء الأصول ورجال القضاء والسياسة، وكانت هذه المدرسة قائمة أساساً على سلطة النص مستمدة تأثيرها من منطق البرهان .وربما كان فتح باب الاجتهاد في هذه المدرسة بعد غلقه صورة لحرية التّفكير العلمي،واقتضى ذلك إعادة قراءة الأصول التي بني عليها التراث الفكري للحضارة الإسلامية، وقد كان في هذا الجهد مدركاً لضرورة التخلص من أساليب الفهم الجاهزة التي وفرها التراث نفسه، فكان عليه أن يتحرر من سلطانها، داعياً إلى إيجاد أدوات جديدة لقراءة واعية، ربما فرضتها ظروف تلك المرحلة المتميزة والحاسمة في تاريخ الحضارة الإسلامية وللقارئ أن يعود إلى آرائه في القياس والعلّة والبيان والدليل ... وقد كان ابن حزم عبقرية مجاوزة لعصرها لم تجد من يرعاها بما فيه الكفاية، ومن صور تميّز هذه الشخصية تعدد مصادر الثقافة وموسوعيتها، فعالمنا يتنقل بين علوم نقلية وأخرى عقلية يحكمها إلى درجة عالية من التخصص، وهذا ما يجعل مهمة الإحاطة بالشخصية وآرائها أمراً شبه مستحيل بالنسبة إلى الدارس المبتدئ.
ولماّ كانت دراستنا هذه تتنزل في سياق تسليط الضوء على الجهود اللسانية التي توضح كيفية التعامل مع الخطاب القرآني، فإننا سنلاحق آراءه في العقائد والفلسفة والمنطق والأصول وعلم الكلام في ضوء المقاربة البيانية التي تبنّاها والقائمة على مبدأ الوضوح الدلالي، ونحصرها في سياق محدد يمثله المذهب الظاهري، علنا نجد فيه الإجابة عن كثير من الأسئلة المطروحة في بناء مشروعه الفكري.(1/3)
وتهدف هذه الدراسة إلى تكوين فكرة مجملة عن الآراء النظرية والتطبيقية البارزة التي حفلت بها مؤلفاته في اللغة والنحو والبلاغة والمنطق وإعادة ترتيبها وفق تنظيم معين يجعل منها نسقاً متكاملاً وبنية منسجمة تفسر وظيفتها، من خلال علاقة هذه العناصر في ضوء الأصول العامة التي وصفها صاحب النظرية، وتقوم هذه الدراسة على المحاور الكبرى التالية:
المدخل
ابن حزم ومدرسته في الغرب الإسلامي
خصص للبحث في سيرة ابن حزم وأخلاقه وثقافته، بالإضافة إلى قراءة تمهيدية هدفها التّعريف بالمذهب الظّاهري، نشأةً وتطوراً وأعلاماً وقواعد منهجية يقوم عليها تميزه عن سائر المذاهب الفقهية الأخرى، مع تبيان أثر هذا المذهب في توجيه آراء ابن حزم العلمية وجهة الاعتراف بسلطان النص وتبعية العقل له.
الفصل الأول
التصور اللساني عند ابن حزم وأصوله المعرفية
خصص هذا الفصل لأهم الآراء اللسانية التي أثارها ابن حزم في مجموع مؤلفاته في علم الأصول والمنطق بخاصة، بدءً بالقضايا الصوتية، التي حدد فيه مفهوم الصوت اللغوي وكيفية حدوثه وعلاقاته بالإنسان والزمان والمكان ووقوفاً عند المسائل النحوية وفي مقدمتها إبرازأهمية النحو في تعليم اللغة، وضرورة تيسيره بتخليصه من دقائق المسائل العويصة التي بعجها النحاة بالقياس والعلّة، مبيِّنا مفهوم الاشتقاق وحدوده اللغوية، واختصاص اللسان العربي بالعلامة الإعرابية المتحكمة في المعنى والوظيفة. هذا وأبرز في المستوى الدلالي أهمية العناية بالسياق لفهم المعنى، ويمكن عدّ الوضوح أهمّ ركيزة تقوم عليها وجهة النظر الظاهرية في تفسير النصوص، ويختم الفصل بعرض شامل لمقومات الفلسفة اللغوية الخاصة بالعربية، ومساهمة ابن حزم في حل إشكالية المصطلح الفلسفي التي ظهرت مبكراً في الدرس اللساني العربي بخاصة والمعرفة الإسلامية بعامة، بالإضافة الى ابراز نظرته المتعلقة بالبلاغة والفصاحة وحدودهما في ضوء الأسس المعرفية التي تبنتها المدرسة الظاهرية
الفصل الثاني
النص بين البنية والتداول
يتضمّن هذا الفصل حديثاً مركزاً عن الخصائص البنيوية والتداولية للنصوص، والتي أجملها ابن جزم في تحليله للدلالة اللسانية بين الحقيقة والمجاز، ومستعرضاً آراء المؤيدين للمجاز القرآني كمدخل للاعتراف به في اللغة والتخاطب وآراء الرافضين لوجوده في القرآن، ذلك أنّه شكل من أشكال الكذب والإيقاع في التوهم، وهذا مناف للشريعة المبْنِيَة في أعراف تخاطبها على الوضوح التّام، ويرتبط بهذا المحور تحليله لبنيتي الأمر والنهي ووظيفتهما التداولية في النص، وخصائص خطاب الإستثناء الذي يتحكم في تخريج الكثير من الأحكام النصية في المعاملات والعبادات.
الفصل الثالث
البيان عند ابن حزم بين التأصيل والإجراء(1/4)
يركز هذا المحور على صياغة نظرية حزمية في البيان مؤسسة على معايير الفهم الواضح والمنطق البرهاني الذي يستمد سلطته من بديهيات الحس والعقل، وفي هذا السياق يناقش ابن حزم مفهوم النبوّة ووظيفتها البيانية، كما تكشف هذه الدراسة عن المواقف المختلفة تجاه قضية الإعجاز التي تتأطر بالقضية المركزية المتمثلة في البيان والتي يختار منها ابن حزم موقفاً يبدو غريباً في جملته إلاّ أنّه ينسجم مع الأصول العامة لمذهبه الظاهري ألا وهو مذهب الصرفة، وفي إطار علاقة النص بالواقع تناقش الدراسة المسائل التالية:
1-ظاهرة النّسخ ووظيفتها النصية .
2-النّصوص بين التّعارض والتّكامل .
3-تعليل النّصوص.
هذا وختمت الدراسة بخاتمة بأهم النتائج وقائمة بالمراجع وفهرس للموضوعات .
وبعد فإن وراء هذا العمل قلباً معطاءً كان يبث فينا العزم فإليه نهدي هذا الجهد المتواضع ... .
وبالله التوفيق
العاشر من شهر إبريل 2004.
- -(1/5)
المدخل
ابن حزم و مدرسته في الغرب الاسلامي
توطئة :
يقع اهتمامنا في هذا المدخل في سياق استنطاق جميع العوامل التي أسهمت في تكوين مدرسة ابن حزم الظاهرية في الأندلس، لها أصولها، وأهدافها، ومنهجها، ووسائلها المبتكرة. وقد كانت حياة الرجل وليدة لحظة تاريخية حاسمة مرّت بها الحضارة الإسلامية في الأندلس ؛ إنها مرحلة انفراط عقد الحكم الأموي وبداية ظهور عصر الإمارات، وقد ظهر لنا من خلال تتبعنا لمسار حياته وطريقة تعلمه، والأحداث التي شارك فيها أن هذا لم يكن بعيداً عما قدمه من تصورات تمثل مشروعه الثقافي البديل، بل يمكن القول إن حياته بخصوصياتها كانت عنصراً أساسياً في صياغة الأطروحة الحزمية، التي وجدت لها امتدادا على الصعيدين العلمي والسياسي. ولما لم يكن هدفنا الترجمة لحياته فإننا اقتصرنا على بعض الجوانب نعدها وسيلة عبور منهجي للوصول إلى غاية هذه الدراسة الهادفة إلى الكشف عن أصول التفكير الظاهري وتطبيقاته على المنظومة القانونية الإسلامية في مختلف مستوياتها، مع التركيز على المبدأ البياني واللغوي الذي يؤطر فهم النصوص وتفعيلها في الحياة العامة.
المولد والنشأة
ولد ابن حزم في قرطبة في السابع من تشرين الثاني سنة 994 م الموافق لآخر رمضان من سنة 384 هـ، بالجانب الشرقي من المدينة في ربض منية المغيرة المسماة حالياً " سان لورترو "، بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس آخر ليلة الأربعاء. وفي هذا المكان، تقوم اليوم كنيسة سان لورترو محل قصر " منية المغيرة "، الذي نشأ فيه أبو محمد وترعرع، وتمثاله الذي نحته الفنان " أماديو أولموس "نصب في ذات الطريق الذي كان يسلكها للوصول إلى المسجد الجامع للتعلم، ثم لإلقاء الدروس (1) .
__________
(1) - حسين مؤنس، ابن حزم، الذكرى المئوية التاسعة لوفاته، مجلة العربي، عدد 57، سنة 1963، ص 21.(1/6)
وقد نشأ في بيت علم وجاه، فهو سليل فتية علم وأدب وثنية مجد وحسب - كما وصفه الفتح بن خاقان (ت 535) - ثم هو رجل سياسة، عرك الحياة واكتوى بنار الفتنة في عصره، مما كان له أكبر الأثر في تكوين شخصيته وتربيته وسلوكه. وقد قدم ابن حزم نفسه وصفاً قيماً لمظاهر نشأته في كتابه طوق الحمامة، وما حف حياته من ترف ونعيم، فلا يذهبنّ عنك سر نشأته في تكوين عبقريته (1) التي تجلت في أعماله الأدبية السامية وأحاديثه عن الحب وصوره، وبعض المسائل النفسية الهامة .
تلقى ابن حزم تعليماً مركزاً راقياً في أحضان القصر وبين حجور الجواري اللائي علمنه الشعر والأدب وحفظنه الحديث والقرآن، مما يرويه صراحة عن نفسه في كتابه طوق الحمامة في الإلفة والألاف (2). وقد كان للنسوة أثر في تكوين شخصيته، فقد علم من أسرارهن الكثير مما لم يتح لغيره معرفته، فهو الذي لم يجالس سواهن إلى أن بلغ الرابعة عشرمن العمر، وقد ركز آسين بلاثيوس (Assin palcios) وغارسيا غومس (Garcia Gomez) كلاهما على هذه النقطة رابطين سلوكه بطبيعة المصدر، فهو كثير الغضب، شديد الغيرة، يحب الحياة المترفة، وعطوف مسارع إلى المخاصمة(3)، وإن كنا نجد هذه النشأة غير كافية للتدليل على صحة ما ذهب إليه الباحثان، على إقرارنا بأثر ذلك، فضلاً عن عوامل أخرى لا تقل أهمية عن هذه، بعضها راجع إلى ظروف سياسية وأخرى اقتصادية وثقافية ... الخ .
__________
(1) - عن مقدمة سعيد الأفغاني لكتاب المفاضلة بين الصحابة، ص 24 .
(2) -ابن حزم، طوق الحمامة، باب مساعدة الإخوان، ص 166 .
(3) - أرندنك Arendank C. Van، دائرة المعارف الإسلامية، 1/136، مادة ابن حزم .(1/7)
ودرس ابن حزم على يد ابن الجسور علم الحديث، وعلى ابن الكتاني علم المنطق، وكان طبيباً من مدرسة مسلمة المجريطي، ودرس الأدب على يد أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي (1)، وفي الفقه كان أستاذه عبد الله بن يحيى بن دحون (2)، الذي عرض عليه موطأ مالك (ض)، كما تتلمذ للشيخ أبي الوليد يونس بن الصفار (ت 429 هـ) وأبي الخيار مسعود بن سليمان بن مفلت (ت 426 هـ ). وفي سن الثلاثين، ظهرت إحاطته بضروب العلوم القديمة، من فلسفة ومنطق وأديان وتحققه - بخاصة - كتابات اليهود وروايات التلمود (3)، كما قرأ تاريخ الطبري (ت 310 هـ )، فأصاب منه إدراكاً طيباً لتاريخ البشر وأديانهم
أما في كتابه طوق الحمامة، فإنه يثبت مشيخة أستاذه الأزدي عبد الرحمن بن أبي يزيد، الذي غادر الأندلس إبان حروب الفتنة الطائفية حول 400 هـ، والذي تعلم على يديه الأدب والنحو والشعر وفقه اللغة (4) .
__________
(1) -أرندنك، دائرة المعارف الإسلامية، 1/136، انظر محمد المنوني شيوخ ابن حزم في مقرؤاته ومروياته، مجلة المناهل، عدد 7 نوفمبر، الرباط، 1976 ص 216. .
(2) - ياقوت الحموي، معجم الأدباء 12 / 242 .
(3) - أنخيل بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 215 .
(4) - ابن حزم، طوق الحمامة، ص 68 .(1/8)
ويمكننا القول في تلك الظروف الخاصة المحيطة بنشأته إن هذه التربية كانت ترمي في حقيقتها إلى تكوين الذوق الفني وإعداد اللسان وتقويمه وتثقيف الفكر مما يضمن للأسرة أن يواصل سليلها مسيرة المجد والحفاظ على التراث(1). ولا ننسى في هذا المقام تعليق ابن خلدون على نظام التعليم الأندلسي، الذي كان ابن حزم ثمرة من ثماره اليانعة، إذ يقول : ” وأما أهل الأندلس، فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف باللسان العربي“(2) .
المذهب الظاهري - مشروعية القراءة :
__________
(1) - مبروك العوادي، ابن حزم الظاهرة، مجلة الأصالة، عدد 25، ماي جوان 1975، وزارة التعليم الأصلي، ص 26.
(2) - ابن خلدون، المقدمة، ص 1242 .(1/9)
قد يسأل سائل عن جدوى دراسة الأسس الأصولية التي بني عليها المنهج الظاهري، وعن أهمية دراسة المنهج ذاته، وقد يكون هذا السؤال عديم القيمة إذا كان هناك اتفاق على أن المنهج الظاهري يحقق مظهراً من مظاهر قراءة نصوص الأحكام في فلك التشريع فقط. ولكن حين نبين للسائل أن الرؤية الظاهرية المبنية على حرفية النصوص أظهرت نزعة علمية عامة تبناها صاحب المذهب وهو يواجه قضايا معرفية مختلفة في الفقه والأصول والتفسير والعقائد والفرق الكلامية بما تزخر به من آراء نظرية دقيقة يتعين علينا فيها الاهتمام بالظاهرية مذهباً ومنهجاً وطريقة في التعامل مع النصوص الدينية الإسلامية والمسيحية اليهودية. وقد ألمع أسين بلاثيوس إلى هذه النزعة في تفسير الإنجيل في الجدال الذي مارسه ابن حزم في إطار حركة الحوار الديني بين الإسلام والمسيحية في الأندلس، بل كان على رجال الكنيسة الجنوح إلى التأويل، ويدعوهم إلى الاحتكام لسلطة النص المقدس، مثلما فعلت حركة الإصلاح البروتستانتية لاحقاً. لقد كانت له جرأة في تعميم مقاييس الظاهرية على الفقه والعقائد على حد سواء، مما بوأه مكانة مرموقة من حيث عرف دون غيره كيف يبدع الأصل والنادر مدافعاً ومجادلاًعن مذهبه إلى حد التألق.
المدرسة الظاهرية، الأصول و الأهداف
ينسب هذا المذهب إلى داود بن علي الصفهاني (ت 270 هـ) الذي رفض الأخذ بالرأي والقياس، ودعا إلى التمسك بحرفية النص، والنزول عند الأثر المسموع، مع استبعاد لكل تأويل مجازي (1). وقد أثر عنه قوله :
“لا تقلدني ، ولا تقلد مالكا، ولا الأوزاعي، ولا النخعي، ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا “ (2)، في إشارة واضحة إلى رفض تلك النظرة الحاثة على التقليد والقامعة لسلطة الاجتهاد .
__________
(1) - ألفريد بل، الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم، ص 130 .
(2) - عبد الوهاب الشعراني، الميزات الكبرى الشعرانية، ص 55 .(1/10)
وليست الظاهرية مذهباً سطحياً متساهلاً، بل هي مذهب يقدم الإجراءات اللازمة وفق رؤية معينة لسبر غور الحقيقة بعمق بالاستدلال والنص الذي يمثل عندها بنية لسانية متكاملة، قابلة للتفسير بكل شفافية. إنه تفسير يعطي النص السلطة الأولى وإن كان لا يتنصل من إجراءات البرهان والمنطق، ويدعو القارئ إلى إنعام النظر ليستجلي الحقيقة بعيداً عن كل غموض أو رجوع إلى الوراء بالارتماء في أحضان التقليد. وقد سجلت كتب التاريخ والفقه مناظراته مع خصومه انتصاراً لمذهبه و دفاعه المستميت مطبقاً كل أصول الجدل، وفي مقدمة الخصوم أبو الوليد الباجي. ومما تجدر الإشارة إليه أن المذهب الظاهري قد حقق انتشاراً كبيراً في القرن الرابع الهجري في إيران وبلاد ما وراء النهرين، وكان أصحاب داوود يتولون مناصب سامية على عهد عضد الدولة البويهي(1) .
لم يكن القول بالظاهر أمراً مستحدثاً من قبل داود، فقد تورع من الصحابة خلق كثير عن إعمال القياس والقول بالرأي، والركون دوما للنصوص. ولم يقتصر الأمر على الشرعيات، فقد كان من علماء اللغة في بغداد من يرجح السماع ولا يستجيز القياس من أمثال ثعلب (ت 219هـ) والسيرافي (ت 368) والفخر الرازي (ت 606 هـ) (2). أما في الأندلس، فقد كان ابن حزم أكبر ممثل للمذهب الظاهري، بعد أن بدأ حياته مالكياً، ثم شافعيا، ثم اختار مذهب الظاهرية (3)، وساعده اطلاعه على المعارف على نشر المذهب وإثرائه، ليزاحم المذهب المالكي في معقله، ويكون لرجالاته شأن في إدارة الحياة الاجتماعية، ولولاه لاندثرت فروع هذا المذهب وأصوله، ولما بدا منها إلا ما هو أشتات موزعة في بطون الكتب .
__________
(1) - أحمد بكير محمد، المدرسة الظاهرية بالمشرق والمغرب، ص 30 وما بعدها .
(2) - عبد الحميد الشرقاوي، رواية اللغة، ص 276 .
(3) - أحمد أمين، ظهر الإسلام، 03 / 49 ...(1/11)
ومن خلال ما بقي من آثار، ولا سيما تراث الإمام ابن حزم يمكن التعرف على أهم أسس المنهج الظاهري في الاجتهاد عامة، وهذا يتلخص في ما يلي :
أولاً - الالتزام بالنص والاحتكام إلى الدلالة اللغوية الواضحة ؛ فالظاهرية يرون أن التكليف منوط بصدوره عن المشرع الأول، ولا يمكن حينها التعويل على مصادر مظنونة (1)، تاركين اليقين الذي يمثله النص القرآني والبيان النبوي إلى القياس ومستلزماته بدعوى تعدد صور الفهم، فدين الله ظاهر لا باطن فيه، جهر لا ستر تحته، كله برهان لا مشاحنة فيه (2) .
ثانياً- إذا كان التفكير الظاهري يحتكم إلى النص، فإن للتأويل كأداة قرائية ضوابط تحكمة، وهذا يعني أن ابن حزم لا ينفي إمكانيته إذ لا يتناقض العدول من معنى إلى آخر مع مقررات النص أو الحس أو بديهة العقل أو إجماع الصحابة، ويمكن فهم موقف ابن حزم من التأويل الذي يشهد بصحته القرآن دون المرفوض الذي لا تؤيده الحجة النقلية، ولا يحتكم للغة في قواعدها وسننها البيانية (3). ويبدو أن هذه الرؤية نتاج اكتفاء النصوص بذاتها، وعدم احتياجها إلى اصطناع أدوات معينة للوصول إلى الدلالة (4) .
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 8 / 46 و47، وانظر ابن حزم، الفصل، 2 / 116 .
(2) -ابن حزم، الفصل، 02 / 116، وابن حزم، المحلى، 01 / 68، وانظر الكتاني، معجم فقه ابن حزم، 01 / 56، 57 .
(3) -ابن حزم، رسالتان أجاب فيهما جواب تعنيف، ص 117 بتصرف .
(4) - محمد عيد، اصول النحو في نظر النحاة ورأي ابن مضاء و ضوء علم اللغة الحديث، عالم الكتب، القاهرة، ط4، 1989، ص 53 .(1/12)
ثالثاً - وبالنسبة للتعليل، فإن رفض ابن حزم له ومن ورائه المذهب الظاهري واضح من النص التالي : ” .. ويكفي من هذا كله - أي في إنكار التعليل - أن جميع الصحابة أولهم عن آخرهم وجميع التابعين، وجميع تابعي التابعين ليس منهم أحد قال : إن الله حكم في شيء من الشريعة لعلة، ولسنا ننكر وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة، بل نثبتها، ونقول بها لكننا نقول : إنها لا تكون أسباب إلا حيث جعلها الله أسباباً، ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب “ (1).
إن في هذه النظرة نصيباً من الصحة، لا سيما إذا علم أن البحث العلمي المعني بتوصيف الظاهر لا يجعل من أولوياته البحث عن الغاية، ذلك أن البحث فيها يخرج عن نطاق الممكن إلى غيبيات لا تفيد الموضوع. ولهذا يجدر بالبحث أن يقلع عن النظر في الغاية (العلة) متذكراً دوماً حدود النظر وعجز العقل (2)، وفي ضوء هذا الفهم، ندعو إلى أن يقرأ ابن حزم في مواقفه المتنوعة. لقد أدرك - وهو ابن عصره - أنه لا غاية للباحث في النص سوى تمعينه وتقرير ظواهره وأحكامه كما هي والاستنكاف عما وراء ذلك من علل .
__________
(1) - ابن حزم، ملخص إبطال القياس، ص 10.
(2) - محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، ص 49 .(1/13)
رابعاً - قضية أخرى تتعلق بهدف المنهج الظاهري،وهي متمثلة رأساً في فتح باب الاجتهاد وتبديد أوهام التقليد، ودعوة الناس إلى ضرورة أمعن الفكر المؤطر ببيان اللغة لنفهم النصوص واستثمارها على أحسن وجه. وليس من الموضوعية بمكان أن تعدّ الظاهرية اتجاهاً مناقضاً للفكر الباطني أو الحركة الصوفية، والدليل على ذلك أن المؤسس الأول لهذا المذهب لم يكتب أي مؤلف يطعن فيه على الباطنية أو الصوفية، كما لم يؤثر عن ابن حزم أنه شغل نفسه بالرد على فضائحهم على طريقة ابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهما، ثم إن المذهب الظاهري كان قد ظهر قبل عقود ثلاثة من بداية ظهور الحركات الباطنية (1) .
خامساً - يمثل خبر الواحد العدل في المذهب مصدراً للعلم والعمل، وهو ما يعطي السماع أهمية بالغة في الشرعيات والعقائد، وسنده من الأدلة النصوص ذاتها، مخالفاً بذلك الأحناف والشافعية والمعتزلة والخوارج.
سادسا - يرى ابن حزم في إطار المنهج الظاهري أن البلاغة مبالغة وتشويه للحقيقة، قد يؤدي إلى الافتراء على النصوص الدينية، وحتى يؤدي الكلام وظيفته يجب أن يحتمل من المعاني ما لا تطيقه ألفاظه وتراكيبه. فقد كان العرب على سليقتهم يقولون دون تكلف، ويعربون في وضوح، وهذا ما جاء به القرآن من مطابقة الكلام لمعناه مع إيجاز غير مخل بحقائق الأشياء (2) .
__________
(1) - عبد الحليم عويس، المذهب الظاهري، نشأته ومناهجه الأصولية وأشهر رجاله، ص 314. ومعلوم أن الباطنية اسم لفرق متعددة تؤول الشرائع وتصرف دلالات النصوص على وجوهها الحقيقية لتوافق آراءها المتطرفة، انظر المقريزي، الخطط والآثار، المطبعة الأميرية القاهرة، 02 / 3457 .
(2) - Arnaldez , grammaire et théologie chez Ibn Hazm de cordoue, essai sur la structure et les ... conditions de la pensée musulmane, Paris 1956, p. 24 .(1/14)
سابعا - يهدف المنهج الظاهري إلى ربط النص بمنطق البيان ليغدو واضحاً قابلاً لأن يتحول إلى سلوكات وممارسات يومية في حياة الناس. إنها نظرة جديدة في الربط بين النص والواقع المعيش، من خلال تعميم تطبيق المنهج على الفقه والأخلاق والعقيدة والسياسة وأحوال الناس أفراداً ومجتمعات .
وهناك أسس عقلية ارتكز عليها المذهب الظاهري الحزمي، يمكن تلخيصها في :
1 - الحس :
تتأكد وظيفة الحواس في اكتساب المعارف بمعية العقل المدرك، من خلال كونها موصلة إلى النفس ومؤدية لها كالأبواب والأزقة على حد تعبيره (1) .
2- العقل :
يقرر ابن حزم على الصعيدين النظري والتطبيقي أن العقل أداة رئيسة للفهم والإدراك وتحصيل المعرفة وترجيح الحقيقة والحكم على الأشياء بالصحة أو البطلان (2). غير أن العقل لا يوجب شيئاً ولا يقبحه أو يحسنه في الشرعيات التي يحتكم فيها للنصوص، وتقتصر أهميته هنا على الفهم والتنظيم (3) .
3 - البديهة :
أشياء أوقعها الله في النفس لا يختلف فيها اثنان، ولا تطلب بالاستدلال، ويحلو له تسمية هذا المسلك أحياناً بالإدراك السادس مثل أن الكل أكبر من الجزء (4) .
4 - التجربة :
يقول ابن حزم : الطبائع والعادات مخلوقة (...) فرتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبداً، ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل (...)، والقدم مقرون بالصفات، وهي الطبيعة نفسها، لأن من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي به، لا يتوهم زواله إلا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه ... “ (5). يوضح هذا النص أن خصائص الأشياء الطبيعية قد ثبتت لها بالتجربة والاستقراء، وهي على ذلك لا تتغير إلا في إطار مفهوم المعجزة التي ليست من اختصاص البشر .
__________
(1) -ابن حزم، التقريب، ص 166، وابن حزم، الفصل، 01 / 05 .
(2) -ابن حزم، الفصل، 01 / 105، و 01 / 141 في رده على أهل الكتاب .
(3) -ابن حزم، الفصل، 05 / 199 .
(4) -ابن حزم، الفصل، 01 / 06 .
(5) - ابن حزم، الفصل، 05 / 16 .(1/15)
موقفه من مصادر التشريع المختلف فيها :
يرفض ابن حزم الأخذ بعمل أهل المدينة (1) والاستحسان لأنه قول بلا برهان، والأهواء مختلفة عند الناس في استحسانها للأشياء (2). أما الإجماع فلابن حزم رأي مهم فيه، فانطلاقاً من قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا } (المائدة / 03)، يقرر أنه لا يمكن تحقق إجماع لم يرد فيها نص، كما يعسر من الناحية الافتراضية اجتماع كل المجتهدين في عصر واحد للبت في مسألة شرعية، وبالنظر إلى اختلاف الناس في طبائعهم تتعذر القضية مرة أخرى، فلا يكون هناك مخرج سوى الالتجاء إلى النص. ويحصر في هذا السياق اعترافه في إجماع الصحابة، يقول مدللاً على ذلك : ” إن الأعصر بعد الصحابة (ض) من التابعين، فمن بعدهم لا يمكن ضبط أقوال جميعهم ولا حصرها ؛ لأنهم ملؤوا الدنيا من أقصى السند ... وما بين هذه البلاد “ (3) .
__________
(1) -ابن حزم، النبذة الكافية، ص 37 و 48 ..
(2) - ابن حزم، ملخص إبطال القياس، ص 05 .
(3) -ابن حزم، الإحكام، 04 / 174، وانظر ابن حزم، رسالتين له أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال تعنيف، ص 87 .(1/16)
اعتمد ابن حزم في دحضه لإمكانية حدوث إجماع من غير نص على نقطتين مركزيتين، تنمان على معرفة عميقة بالنفس الإنسانية وطبائع البشر، فاليقين قد صح بأن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه، وينفرون عما سواه، فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشدد، ومنهم جانح إلى لين العيش يميل إلى الترفيه، ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة، ومنهم معتدل في كل ذلك يميل إلى التوسط، ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلاً (1) .
واتخذ ابن حزم موقف المسوي بين الصحابة فيما اختلفوا فيه من مسائل، فقول أحدهم ليس بأولى من قول الآخر، ونتج عنه التسوية بين آراء التابعين وأصحاب المذاهب الأربعة، وفي هذا إبطال لدعوى التقليد من كل وجه.
نقد القياس أصولياً :
__________
(1) - ابن حزم الإحكام، 01 / 138. وانظر عوامل أخرى تضعف من حجية الإجماع في الإحكام، 04 / 142. هذا ورفض الظاهرية عمل أهل المدينة وعرف الناس وسد الذرائع، محمد أبو زهرة، ابن حزم، حياته وعصره - آراؤه وفقهه، ص 429 .(1/17)
يبدو أن موقف ابن حزم من القياس الأصولي كان نتيجة حتمية وطبيعية لتعدد مصادر التشريع التي سنها المجتهدون، وعدها- هو - استدراكاً على النص. وقد أخذ هؤلاء يبحثون لأدلتهم عن حجج من القرآن والسنة تدعم وجود هذه المصادر، وتثبت حجيتها في استنباط الأحكام. وكان القياس في صدارة هذه المصادر التي اهتموا بها ؛ ذلك أنه يمثل أنموذج الاجتهاد بالرأي في الشريعة في غياب نصوص قطعية وصريحة. وانطلاقاً من صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ظهر لمنكري القياس - وفي مقدمتهم ابن حزم - أن العمل به قد فتح الباب على مصراعيه لأصحاب الأهواء ليدعوا في دين الله بالتحليل والتحريم ما لم يرد فيه حكم إطلاقاً إلى درجة أن سوغوا أباطيل الحكام، مموهين للحقائق التي لا تقبل التأويل، وقد كثر هؤلاء في عصر ابن حزم في عهد ملوك الطوائف، فأصبح الباطل معروفا (1) .
غير أننا نجد أنفسنا ملزمين بالتذكير بأن ابن حزم لم يكن أول من أنكر القياس، فقد سبقه إبراهيم النظام المعتزلي، ومن قبله توقف كثير من الصحابة والتابعين عن العمل به (2). هذا، ونود في عجالة أن نلم بأهم الاعتراضات التي قدم بها ابن حزم لرفض العمل بالقياس، وهي :
أ - إن الحكم الشرعي في النص قد يكون مباحاً أو واجباً أو حراماً، ولا يمكن أن يحدث حكم بغير نص، اعتماداً على رأي أو قياس .
ب - اكتمال الدين وتمام الشريعة يمنعان النقصان عن النص، الذي أفصح عن استيعابه لكل قضية بذاته في قوله تعالى : { ما َفَرَّطْنَا فٍي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (الأنعام / 38 )، وعدم احتياجه لما يكمله من قياس أو ما يشابهه .
__________
(1) - طه الحاجري، ابن حزم صورة أندلسية، ص 122 .
(2) - محمد علي حماية، ابن حزم ومنهجه في دراسة الأديان، ص 170 .(1/18)
ج - النصوص الكثيرة المروية في إبطال الرأي، والقول بما لا علم للإنسان به، ناهيك عن الأساس الذي يقوم عليه القياس، وهو العلة المشتركة بين الأصل والفرع، والتي توجب التساوي في الحكم، وهذه العلة لا بد لها من سند يدعمها، ذلك أن مسلك الوصول إليها ظني وغير قطعي، فإن ورد فيها نص فإن دعوى القياس تبطل، وأما إذا لم يحصل ذلك، فإنه معدود قولاً بغير علم، وتلبيس في دين الله (1) .
هذا، وقد خصص ابن حزم رسالة ينقد فيها إجمالا القياس وأدلة أصحابه، وإن نحن أمعنا النظر فيها، وجدناهاه قد صدرت عن فكرة بيان النصوص، التي هي قطب الرحى في المذهب الظاهري الحزمي، إذ لا معنى حينها للقياس والنصوص كلها محكمة لا يندّ عنها شيء . وفي ضوء هذه الرؤية، يقرأ ابن حزم قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً، قُلْ "اللهُ أَذِنَ أمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونْ } (يونس/ 59)(2). والحق أنه لا منافاة بين العمل بالقياس وبين الاعتراف بشمولية النصوص واستيعابها وبيانها الذي لا يتحقق عن طريق العبارة لوحدها، بل لا بد من تعرف دلالة النص من خلال الإشارة والفحوى، واعتماد مقاصد الشريعة التي نصّ عليها كبار الفقهاء المجتهدين، وهو ما لم يهضمه ابن حزم.
__________
(1) - أبو زهرة، أصول الفقه، ص 225 بتصرف
(2) -ابن حزم، ملخص إبطال القياس، ص 28 .(1/19)
إن حياة الناس من خلال اختلاف الأزمنة والأمكنة متغيرة مليئة بالجزئيات، وما كان لكتاب الله أن يذكر كل كبيرة وصغيرة، مما يخص معاش الخلق المضطرب، فقد جعل الخالق لهم فسحة في أن يعتمدوا أصوله العامة ومقاصده ليسنوا وفق آليات القياس ما يوائمهم، بدون خروج عن الأصول العامة المنصوص عليها، ولا يخفى على الباحث الحصين أن الفقه الذي يمثل المنظومة القانونية العامة التي تحكم السلوك العام واحد في هدفه، غير أنه كائن حي ينحو ويتطور بتطور أحوال الناس ومرونة الدين نفسه .
أنواع القياس :
يميز ابن حزم بين ثلاثة أنواع من القياس كلها باطلة، وهي (1) :
1 - قياس الشبه (أو فحوى الخطاب) :
هو ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به (2). مثال : إذا كانت الكفارة واجبة في قتل الخطأ، وفي اليمين التي ليست غموساً، فإن قاتل العمد وحالف اليمين الغموس أولى بذلك وأحوج إلى الكفارة .
2 - قياس المثل (لحن الخطاب) :
وهو ما كان المسكوت عنه مساوياً لحكم المنطوق به. مثال : إذا كان الواطئ في نهار رمضان عمداً تلزمه الكفارة، فالمتعمد للأكل مثله كذلك .
3 - قياس الأدنى :
وهو ما كان المنطوق به أولى بالحكم من المسكوت عنه. مثال : إذا كان مس الذكر ينقض الوضوء، فمس الدبر، الذي هو عورة، مثله كذلك .
ويحسن بنا، في هذا المقام، التذكير بأنواع القياس عند المناطقة، لتحديد النوع الذي يقرره الظاهرية، وهي كما تبينه بعض مؤلفاتهم :
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 07 / 54 و 55 ..
(2) - جلال الدين السيوطي، صون المنطق والكلام، ص 252. ويميز أبو حامد الغزالي في القياس وفق معيار القطعية أو الظنية بين القياس القطعي، الذي يقطع فيه بوجود العلة في الأصل والفرع، والقياس الظني الذي لا يقطع فيه بوجود العلة في الأصل، علما أنه يجب العمل بهما بعد العلم، غير أن الظني لا يعمل به في العقائد، التي تثبت إلا يقينا. انظر معيار العلم في فن المنطق، ص 114 .(1/20)
أ - القياس الاقتراني الحملي :
وتستخلص النتيجة فيه من المقدمتين، وهو معمول به عند الظاهرية .
ب - القياس الاقتراني الشرطي :
يمكن التمثيل له بوصف الشيء بالإسكار وصفاً بالتحريم، ونبيذ التين إذا غلي وصف بالإسكار، فإذن نبيذ التين محرم إذا غلي (1)، وقد أدرجوا ما يعرف بالسبر والتقسيم، والمقصود به أن يبحث الناظر عن معان مجتمعة في الأصل ويتبعها واحداً واحداً، ويتبين خروج آحادها عن صلاح التعليل به، إلا واحداً يراه ويرضاه (2) .
ج - قياس الغائب على الشاهد :
هو في الحقيقة القياس الأصولي الذي اعتمده المتكلمون، من خلال رد الفرع إلى الأصل لعلة جامعة بينهما. وذهب الغزالي إلى التسوية بين هذا وقياس التمثيل والعلة والطرد، معتبراً إياها أسماء حسنى لمسمى واحد.
ويرى ابن حزم، بالنسبة إلى هذا النوع، أن الحكم يجب أن يقع على المشاهد فقط، بخلاف الأمور الغائبة التي لا يجوز الحكم عليها بإيراد حكم الشاهد لها على سبيل المقايسة، والظاهر في التقريب أن الغائب - عنده - ما غاب عن العقل لا الحس، وعليه يتسنى العمل بالقياس في الأمور الحاضرة في العقل بتمثلها.
لقد قدم ابن حزم في استفاضة أدلة هائلة لهدم القياس، غير أن جهوده لم تكلل بالنجاح على صواب بعضها، فقد ظل العمل به في جل المذاهب والمنظومات الفقهية، خاصة تلك التي تشيد بدور العقل في الوصول إلى المعرفة، فهذا ابن رشد يشيد به وبجواز التعبد به عقلاً وشرعاً (3) .
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 137.
(2) - علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي ن ص 120 .
(3) - أحمد بكير محمود، المدرسة الظاهرية في المشرق والمغرب، ص 49 .(1/21)
وهكذا، يجعل القياس مقترناً في تصوره عند الأصوليين عامة - بغض النظر عن الاختلافات الجزئية- بالعلة التي من أجلها قام، ويصبح من جهة ثانية مرتهناً بقاعدة أساسية هي تحديد هذه العلة الجامعة بين الأصل والفرع في الحكم، ويصبح تحليل القياس مؤسساً على تحرير القول فيها وبذل الجهد في اكتشافها من قبل المجتهد الذي يحدد شروطها ومسالكها، مميزاً لها من السبب والحكمة والشرط والغاية والعلامة، كما يتبين أقسامها من كل اعتبار وشروطها والطرد والعكس بالنسبة إلى القياس وتنقيح المناط (1) .
__________
(1) - محمد الكتاني، جدل العقل والنقل، ص 613 .(1/22)
ومن هذا المنطلق، يعد ابن حزم القياس خروجاً عن النص، فهما يقفان موقفاً مستقلاً في الضفة المقابلة، وكأنهما متحرران من كل قيد إلا قيد العقل. وبهذا تشكل خلال اجتهاد مضن للعلماء القدماء من التابعين وأبنائهم تياران أغزرت جهودهما نهر الثقافة الإسلامية، يمكن تسميتهما بالتقابل بين الحرفيين والغائيين. فالحرفيون أهل النص الرافضون لتعليل الأحكام والاستناد للنظر، أما الغائيون فعليون قياسيون، وفي مقدمة الطائفة الأولى ابن حزم وأغلب علماء الحديث، وفي الثانية علماء الكلام المعنيون بالفقه القائلون بالرأي كأعلام مدرسة الرأي بالعراق . ولشد ما وقعت سهام الطرف الأول لتصيب الطرف الثاني في حملة شعواء لا مثيل لها، كما يصور ذلك الحجوي قائلاً "ومن المحدثين أهل الظاهر الجامدون على نصوص الشرع بالحرف غير ناظرين إلى مقاصدها وعللها، فإذا لم يجدوا نصاً قالوا : لا ندري وأحجموا على الفتوى، زاعمين أن مذهب الكوفيين فلسفة فارسية صيرت الفقه الذي هو شرع وتعبد عملاً وضعياً من أوضاع البشر، وقالوا : إننا إذا نظرنا إلى المعنى أو العلل صرنا مشرعين بفكرنا لا ممثلين متعبدين ولزم انحلال الشريعة وعدم الوقوف عند حدها .. فاتباع النظر والقياس انخلاع عن قيد الشرع وكم لهم من عبارة قاسية ضد أهل الرأي حتى أنهم إذا عابوا أحداً قالوا : إنه عراقي أو من أهل الرأي“(1).
- خلاصة :
__________
(1) - محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 1977، 01 / 361 .(1/23)
لقد بات من الضروري الإقرار بأن المشروع الحزمي ليس إفرازاً بسيطاً لحركة علماء الحديث والأثر، وإن كان الأثر يمثل جانباً مهماً في الأسس النظرية، بل هو مشروع تجديدي نزعم شموليته في المستوى الأصولي والفقهي والعقدي والطبعي، وربما ظهر ذلك من خلال عرض تصور شامل لأهم المقولات العقلية والطبيعية، التي أعاد إنتاجها بعد تشبع عميق بالثقافة المنطقية والفلسفية الإغريقية، وصياغتها بمفاهيم الثقافة الإسلامية المبنية على مبدأ البيان، وأهم هذه المقولات - في نظرنا - موقفه من الذات الإلهية ؛ فالله خالق كل شيء، وهو واحد لم يزل ولا يزال، خلق الخلق لغير علة، كما أنه لا يتمثل ولا يتجسد، وهو خالق الأنبياء وقد أيدهم بالنبوة والمعجزة.(1/24)
أما الطبيعة، فصفات أوجدها الله في مخلوقاته، لا تزول إلا بزوال تلك المخلوقات، فهي بمنزلة السنن الثابتة، لا تتزحزح عما ترتبط به إلا بإرادة إلهية أو معجزة خارقة، كحركة الماء والأرض في الأسفل والنار والهواء في العلو والارتفاع، ولا تتبدل حركة هذه المخلوقات إلا قسراً .كما تتأسس النظرية الحزمية على تصور خاص للشريعة مبني على مرتكزات ثلاثة، هي : انتقاء علل الشريعة، وجهل الإنسان بها إلا ما صرح به النص والمصدر الإلهي للشرع، وهذا يؤدي بالضرورة إلى شموليتها وكمالها. وقد أفصح النص عن هذا الكمال، فلا شرع آخر إلا ما نزل على محمد (ص) .و ترتكز النظرية الحزمية على احترام ظاهر الألفاظ والوقوف عندها، وهذا يعني احتراماً للإرادة الإلهية التي اقتضت وضع هذا الاسم لذاك المسمى، على سبيل الثبات وعدم التحول إلا بإرادة أخرى. أما البحث عما يعرف بالباطن أو المعاني الأخر، فتعدّ لحدود الشرع، وإهدار لهذه القداسة التي تتمتع بها هذه اللغة التي نزل بها القرآن الجامع للشريعة، والناسخ لما قبلها من شرائع، مهما كانت مقاييسها، بل إن الزمن الحقيقي لا يبدأ إلا مع نزول هذا الكتاب بهذه اللغة التي خلقت خلقاً جديداً. لهذا، يجب أن يفهم موقف ابن حزم من قراءة لغة النص الديني في ضوء النصوص الشعرية الجاهلية، وهو الرفض طبعاً في هذا السياق. وهذا يعني أن حديثه عن اللغة لا يقصد به العربية الجاهلية ؛ فالعربية الأصح هي التي نزل بها القرآن، فهو لا يصدر عن انشغال لساني كما هو الشأن عند فقهاء العربية، الذين يبحثون في صفاء اللغة، من خلال العودة بها إلى صورتها الأولى قبل ظهور الإسلام. ومرة أخرى، ترتبط الدلالات بألفاظها بعلاقة خارج إطار الزمان والمكان المعهودين، ومن ثم لا يمكن لما هو إنساني متحول أن يكون دليلاً عن ما هو إلهي ثابت، كما لا يمكن للمعجم أن يكون فيصلاً في أمور الشرع المنزلة .
- -(1/25)
الفصل الأول
التصور اللساني عند ابن حزم وأصوله المعرفية
توطئة
توفر لدى الدارسين لقضايا اللغة العربية قديماً الفهم الصحيح والمنهج الناضج الذي يجعلهم يقتربون في كثير من القضايا من المنهج اللساني الحديث، مع ما بين المنهجين من نقاط اختلاف يبعثها اختلاف السياق الحضاري الذي ظهرت فيه الآراء اللسانية العربية والغربية. إن ارتباط العرب في تفكيرهم النظري والتطبيقي بالقرآن كان كافياً لتوجيه الدرس اللساني نحو العلمية التي تؤكدها اللسانيات الحديثة، ومن ثم التعامل مع اللغة كواقعة اجتماعية قابلة للدرس والمشاهدة من خلال فهم النصوص الدينية فهماً سديداً، واستنباط الأحكام منها وتطبيقها في الحياة اليومية .
لذا يمكن القول منذ البدء بأن البحث في اللغة كان مؤسساً على منهج علمي واضح هدفه خدمة النص الديني وإثراء الحياة الاجتماعية بأحكامه، على طريق تفسيرها وكشف عموضها تمهيداً للعمل بها. ثم إن هذا الهدف الديني كان المحرك الأول والمباشر للتفكير في اللغة من حيث هي نظام إعلامي غرضه إقامة التواصل. ولعلنا لا نكون مجانبين الصواب إذا قلنا إن هذه الجهود كلها في تاريخ اللغة العربية بحث باللغة، وفي اللغة وللغة، وبين أجزاء هذه العلاقة الثلاثية تختبئ المقولة الشهيرة دراسة اللغة لذاتها ولأجل ذاتها من حيث هي موضوع علمي قابل للتوصيف منهجياً .
وبالرغم من قلة الملاحظات المتصلة ببنية اللغة عند ابن حزم، الذي كان منشغلاً بالجانب العملي كما ألمعنا إلى ذلك سلفاً، فإننا آثرنا أن نجمع هذا الشتات، لعلّه يكون معيناً لفهم تصوره للغة بوصفها بنية ووظيفة متعددة المستويات.
القضايا الصوتية(1/26)
ساد لدى الدارسين أن اللغة تفترض وجود متحدث ومتلق، وبينهما أداة نقل وإعلام هي اللغة أو نظام الترميز. والأصوات تتكون عند المتحدث في منطقة بعينها، هي الجهاز المكون من الوترين الصوتيين، واللسان، والحنجرة، والأسنان، والشفتين ... وتتخذ هذه الأعضاء أوضاعاً متمايزة ينتج عنها انفتاح وانحباس وجهر وهمس وشدة ورخاوة، تصاحب مرور الهواء الذي هو مادة الصوت والتقاؤه بهذه الأعضاء في نقطة معينة (1)، ويطلق الباحثون على هذا اللون من الدراسة اسم " علم الأصوات النطقي ". وكغيرهم من الأمم، عني العرب في سياق دراسة لغة القرآن الكريم وحمايتها من اللحن بالدرس الصوتي، وكان الخليل أول من فتح الباب ليلج منه علماء كبار كسيبويه، وابن جني (2)، وعلماء القراءات على وجه الخصوص ؛ كما شاركهم الأطباء والحكماء كابن سينا في رسالته الشهيرة " أسباب حدوث الحروف " .
ونستطيع القول إن الدرس الصوتي العربي - باعتراف الغربيين - قد سبق المحدثين بنتائج مهمة لا يمكن إغفالها، وفي هذا السياق تتنزل قراءتنا لبعض الآراء الصوتية عند ابن حزم الأندلسي .
الصوت وعلاقته بفاعله :
__________
(1) - محمود فهمي حجازي، علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة، ص 28 و 29 .
(2) - كانتينو، دروس في علم أصوات العربية، ترجمة صالح القرمادي، ص 18 .(1/27)
يقدم ابن حزم وصفاً علمياً مبنياً على الملاحظة المباشرة للصوت بوصفه حدثاً فيزيائياً ؛ فيقول إنه ” هواء مندفع من الحلق والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامعين “ (1). ويبدو أن هذا التعريف ينحو إلى إبراز عناصر التصويت المتمثلة في الهواء والأعضاء المخصوصة بالعملية النطقية والطرفين المعنيين بالبث والاستقبال، ويحدّه في سياق آخر بأنه نتاج تحريك عضل الصدر واللسان بهواء مندفع (2). ومن المعلوم أن الصوت يخرج مستطيلاً ساذجاً حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده، فيسمى المقطع أينما عرض له حرفا" (3) .
ويمكن أن يكون كلام ابن حزم دليلاً على إدراكه للعلاقة الكائنة بين اللغة وصاحبها، أو بعبارة أخرى بين الكلام وفاعله، بوصفه مجموع الأصوات التي يصدرها جهاز نطق إنساني يؤلف بينها لقصد محدد. فالهواء المندفع بالتحريك يكون محركاً، والناطق هو المحرك له (4)، ثم إن هذه العملية النطقية، بوصفها فعلاً اختيارياً متصرفاً في وجوه شتى غرضها تعريف الغير عما في الضمير من إرادات (5)، كما أن المتكلم لا يتسنى له صياغة الكلام إلا إذا كان واعياً ومدركاً لمحتواه الدلالي وموافقته لنظام الترميز المتعارف عليه. لذا يقول ابن حزم مؤكداً : ” .. والوجه الثاني بيانها عند من استبانها وانتقال أشكالها وصفاتها إلى نفسه واستقراره فيها بمادة العقل الذي فضل به العاقل من النفوس وتمييزه لها على ما هي عليه، إذ من لم يَبِنْ له الشيء لم يصح له علمه ولا الإخبار عنه “ (6).
__________
(1) - ابن حزم، الفصل، 03 / 09.
(2) - ابن حزم، الفصل، 05 / 33.
(3) - ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، ص 15 .
(4) - ابن حزم، الفصل، 05 / 33 .
(5) - ابن حزم، الإحكام، 07 / 29 .
(6) - ابن حزم، التقريب، ص 08.(1/28)
وهي فكرة ترددت عند غيره، فهذا الرازي يقرر أنه إذا تكلم أحدنا بكلام يقصد منه تفهيم غيره، فإنه يتوجب عليه عقله لمعاني الكلمات، ثم إذا تم له ذلك أمكنه تعريف غيره بها ولما كان حصول هذه الإرادة متحققاً في النفوس، يحاول الناس إدخال تلك الأصوات عن طريق التأليف في الوجود توسلاً بها لإقامة الإفهام والتفهيم (1) .
الصوت واللفظ
تتداخل الأحداث الصوتية المنطوق بها وفق مبدأ المواضعة والقصد لتتشكل الكلمات، ومن ثم الكلام المفيد. وحدّ اللفظ عندابن حزم هو كل ما حرك به اللسان ثم هو هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود ؛ وهذا هو الكلام نفسه (2). فابن حزم لا ينظر إلى الحدث الصوتي من حيث هو حدث سلبي، بل من حيث هو جزء أساس في بنية أكبر لها وظيفتها هي الكلام.
والملاحظ فيما أورد ابن حزم أن الأصوات اللغوية يتم توليدها فيما يسمى بجهاز النطق المتكون من أعضاء الكلام كالشفتين والرئة والحنجرة والأسنان... أما العملية فمعقدة، وقد عبر عن هذا التعقيد بقوله على تأليف محدود. ثم إن عملية التصويت أو الكلام هي محصلة جهد يبذله المتكلم تشارك فيه الأعضاء المذكورة، ليخرج الهواء في أثناء الزفير من الرئتين اللتين تدفعانه إلى الخارج؛ وكلما لامس نقطة معينة حدث صوت معين، يتخذ شكلاً بفضل وظيفة محددة يقوم بها أحد أعضاء النطق، وهذه الوظيفة في الحقيقة تمثل وضعية العضو أثناء خروج الهواء .
الصوت والدلالة
__________
(1) - الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، 21 / 48 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 46 .(1/29)
وعلى صعيد آخر يفصح عن نوع من العلاقات يربط الصوت بالدلالة، ويؤسس ذلك على مبدأين متعارضين، هما الطبع والقصد. فالصوت الذي يدل على معنى، إما أن يدل بالطبع كصوت الديك الذي يدل في الأغلب على السحر وكأصوات الطير الدالة على نحو ذلك كالبلارج والإوز وأصوات الحيوان بالليل كالكلاب في نباحها تدل على رؤيتها لشخص، وكأصوات السنانير في دعائها أولادها وسؤالها وعند طلبها السقاء ؛ وإما أن يدل الصوت بالقصد وذلك من خصوصيات اللغة الإنسانية. ومن المتعارف عليه أنه لا دلالة للصوت اللغوي مفرداً، إلا إذا التأم مع غيره في بنية لغوية دالة بالوضع (1)، مشكلاً الألفاظ الموضوعة باختيار الإنسان للدلالة على معاني وأعيان الأشياء .
الصوت بين ثنائية الزمان و المكان :
يرتبط الصوت بوصفه حدثاً فيزيائياً بالانتشار خلال الزمان والمكان، فهو يقطع الأماكن في مدد متفاوتة على قدر البعد والقرب، وقوة القرع وضعفه، ولذلك صار بين أول القرع الذي هو عنصر الصوت وبين سماع السامع له مدة، ونحن نستبين ذلك إذا كان المصوت منك على بعد كبير جداً، فحينئذ يصح أن له مدة كالذي يشاهد من ضرب القصار الأرض بالثوب فنراه حين يقلعه بلا زمن، ثم يقيمه حيناً، وحينئذ يتأدى إلينا الصوت (2) .
القضايا النحوية
__________
(1) -ابن حزم، التقريب، ص 12 .
(2) - ابن حزم، التقريب، ص 12 .(1/30)
النحو عند ابن خلدون قوانين لملكة اللغة مطردة يقاس عليها الكلام وتلحق وفقها الأشباه بالأشباه، وبهذه القواعد تتبين مقاصد الإفادة (1). وعرفه طاش كبرى زادة بقوله :” هو علم باحث عن أحوال المركبات الموضوعة وضعاً نوعياً، لنوع من المعاني التركيبية النسبية من حيث دلالتها عليها، وغرضه تحصيل ملكة يقتدر بها على إيراد تركيب وضع وضعا نوعيا لما أراده المتكلم من المعنى وعلى فهم معنى أي مركب كان بحسب الوضع المذكور .. وغايته الاحتراز عن الخطأ في تطبيق التراكيب العربية على المعاني الوضعية
الأصلية“(2). أما ابن حزم فيحده بقوله : ” معنى النحو هو تنقل هجاء اللفظ وتنقل حركاته الذي يدل على ذلك على اختلاف المعاني، كرفع الفاعل ونصب المفعول وخفض المضاف إليه وجزم الأمر والنهي كالياء في التثنية والجمع في النصب وخفضهما، وكالألف في رفع التثنية والواو في رفع الجماعة وما أشبه ذلك، فإن جهل هذا العلم عسر عليه علم ما يقرأ من العلم “ (3).
وتتعزز قيمة النحو عنده حين يعده مؤدياً لوظيفة تعليمية اجتماعية، فالغرض منه في الاصل تعلم أصول المخاطبة و المحادثة والقراءة لكتب العلوم والفنون، أما ما زاد على ذلك كالإغراق في تتبع المسائل العويصة كالتي نجدها عند علماء أصول النحو أو ما يعرض له سيبويه فليس من اختصاص العامة أو من موجبات تعلم اللغة(4). إلا إذا كان الفرد يبتغي كسب قوته من التخصص في هذا المجال، فلا مندوحة في ذلك تماماً مثل ما يفعل الأصولي والفقيه والمنطقي والطبيب ...
__________
(1) - ابن خلدون، المقدمة، ص 546 - 547 .
(2) - طاش كبرى زاده، مفتاح السعادة، 1/ 138.
(3) -ابن حزم، الرسائل، ص 64.
(4) -ابن حزم، الرسائل، ص 64 .(1/31)
ويذهب أرلنديز إلى أن النظرية النحوية عند ابن حزم تتأسس في جوهرها على وجهة النظر الظاهرية التي تتعامل مع النصوص من خلال معانيها الظاهرة (1)، وأبرز مثال يقدمه موقفه من دلالة الأمر المقيد للوجوب وفق ظاهر التركيب، ولا يصرف إلى غير ذلك إلا بقرائن معينة (2). كما يحلو لأرلنديز أن يقيم مقارنة بين منهج ابن حزم ومنهج سيبويه، مقرراً أن الأول يتجه نحو البحث في الأصول، في حين يتجه الثاني في الفروع النحوية الممثلة لقواعد اللغة العربية (3).
الاسم
هو صوت موضوع باتفاق لا يدل على زمان معين، وإن فرقت أجزاؤه لم يدل على شيء من معناه، والمقصود بالاتفاق هو اصطلاح أهل اللغة على اختصار المعاني الكثيرة في لفظ واحد دال على مسمى معين، كاتفاق العرب على تسمية الراعي الطويل العنق والأحدب الظهر والعالي القوائم والقصير الذنب والمتخذ للحمل والركوب بعيراً، وهو اسم لا يدل على زمان معين، ثم إن المقطع منه كـ " بعي " لا يدل على معنى البعير، فالجزء لا يدل على الكل (4). كما أن الاسم الذي هو عبارة عن المسمى مختلف عنه فليس الاسم نفسه المسمى، إنما تتوسط العبارات المتفق عليها .
__________
(1) - Arnaldez , Grammaire et théologie chez Ibn Hazm , p 50 .
(2) -Ibid , p. 54 .
(3) -Ibid , p. 55 .
(4) - ابن حزم، التقريب، ص 79.(1/32)
كما يشير ابن حزم في عجالة إلى انقسام الاسم إلى ما يدل على الخصوص فيما يعرف باسم المعرفة كزيد وعمرو، وإلى ما يدل على العموم فيما يعرف باسم النكرة كقولنا رجل، حمار ... وينوب عن الاسم ما يعرف عند النحويين بالضمير، وهو أنواع، فمنه الخاص بالمتكلم، ومنه الدال على المخبر عنه أو الغائب، وبعضها المشار إليه وبعضها للمخاطب (1). ويمكن أن نختصر أنواع الاسم فيما دل على الذات وما دل على المعنى واسم الجسم وأسماء الزمان والمكان والأسماء المبهمة وما تتضمنه من أسماء لا تدل على ذات بعينها، بل تدل على الجهات والأوقات والمكاييل ... الخ (2) .
الكلمة :
الكلمة أو النعوت عند النحويين اسم مشتق من فعل مثل صحّ يصحّ فهو صحيح. هذا وتدل الصفة على الزمن بصيغتها، فنحن حين نقول هو صحيح أثبتنا له الصحة في زمن هو حاله الآن(3). وعند الغزالي تمثل الكلمة الفعل، وهي صوت دال بتواطؤ على الوجه الذي ذكر في الاسم، غير أنهما يفترقان في كون الكلمة أو الفعل تدل على معنى وقوعه في زمان، كقولنا قام يقوم، وليس يكفي فعلاً أن يدل على الزمان فحسب، فإن قولنا أمس واليوم وغداً وعام أول ومضرب الناقة ومقدم الحاج تدل على الزمن(4). وعند النحويين يتأتى الحدث من اشتراك الفعل مع المصدر في مادة واحدة، في حين ينتج الزمن الصرفي من شكل الصيغة الخاصة بالفعل أما الزمن النحوي فيحدده السياق(5).
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 80.
(2) - أحمد محمد قدور، مبادئ اللسانيات، ص 159 و 160 .
(3) - ابن حزم، التقريب، ص 81 .
(4) - الغزالي، معيار العلم في فن المنطق، ص 51 .
(5) - معلوم أن التسوية بين الفعل والكلمة هو نتاج التأثر بالمنطق الأرسطي والقواعد اليونانية، فالكلمة والفعل بمعنى واحد (Verbum / Rhéma) انظر عبد الرحمن الحاج صالح، مدخل إلى علم اللسان الحديث، مجلة اللسانيات ص 49، وروبنز، موجز تاريخ علم اللغة في الغرب، ص 61.(1/33)
إن اهتمام ابن حزم بالكلمة أو الصفة ليس عرضاً، بل لكونها الأساس في الخبر، فإذا كان اسماً موضوعاً للخبر، فإن الصفة محمول له. يقول : ” ... فالخبر يقوم من سمي أحدهما اسم مميز للمخبر عنه من غيره، وهو الموضوع، والثاني صفة مميزة للإخبار عنه من غيره، وهو المحمول “ (1) .
الحرف :
الفكرة المميزة في عرضه لضروب من الحروف يكثر ترددها في النص هي بناؤها لتعريفات وصفية تراعي أساساً وظيفة الحرف في التركيب ورتبة الألفاظ التي تربط بينها ؛ فواو القسم مثلاً تخالف واو العطف في رتبتها المميزة، إذ هي متصدرة للجملة، كما أن الفاء تعطي رتبة الثاني بعد الأول بلا مهلة، مثل جاءني زيد فعمرو، فزيد جاء قبل عمرو، وأتى عمرو بعده بلا مهلة. وأما واو العطف فتفيد اشتراك الثاني مع الأول حكماً أو خبراً عنه على حسب رتبة الكلام. ثم إن الواو العاطفة لا تحدد رتبة الألفاظ، إذ لا تبين أن أحدهما قبل الآخر مثلما هي الحال بالنسبة إلى الفاء (2). ولا بد للفقيه في هذا المقام من أن يعلم الوظيفة الدلالية لهذه الحروف، وإلا منع من التفسير والتعرض لآي القرآن (3). ويبدو أن حروف العطف، كما يعرضها ابن حزم، تربط المتعاطفين بالإيجاب طوراً وبالسلب طوراً آخر، فمنها ما هو للتشريك أو الترتيب أو التعقيب أو التراخي أو الإضراب أو الاستدراك أو التسوية (4).
- القول :
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 81 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 51 .
(3) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 52 .
(4) - تمام حسان، البيان في روائع القرآن، ص 141 .(1/34)
هو الخبر القائم بنفسه، وأقل ذلك اسم وصفة، والخبر من حيث الدلالة يدل على كل جزء فيه على شيء من معناه، كما يتأكد القول ويزداد بياناً بجملة من اللواحق والروابط هي القرائن السياقية التي تفيد معنى جديداً أو تقوي معنى قديماً، وغيابها في القول لا يؤثر في بناء الخبر في جملته، ومن جملة اللواحق في العربية " لام التعريف". أما الروابط، فهي المسماة بحروف المعاني، وهذه الأخيرة موضوعة رأساً للربط بين الاسم ومثيله، أو الاسم والصفة، أو الفعل على حد تعبير ابن حزم. وقد ذكر وظيفتها في باب البيان بقوله:” فينبغي توثيق معانيها في اللغة التي لا يتم البيان إلا بها وتنوب عن تطويل كثير..“ (1). هذا وقد يرد القول مركباً من لفظتين، لكنه غير مفيد لعدم تمامه كجملة الشرط والصلة في قوله تعالى { إِذَا جَاءَ َنصْرُ الله } (النصر / 01 ). كما يحكم على القول بالصدق أو الكذب حين تمامه، وهو موضوع بعيد عن الوصف اللساني، قريب من المنطق. والظاهر من هذا التعريف أن ابن حزم يعني بالقول الجملة في عرف النحاة الذين يشترطون فيها الإفادة كابن جني وابن الحاجب والزمخشري(2)، بخلاف الذين فرقوا بين الكلام والجملة كالرضي الذي اشترط القصد في الكلام دون الجملة. أما إذا عدنا إلى الأصوليين، فإننا نجد المتقدمين منهم كإمام الحرمين والرازي يعتبران الكلام المفيد جملة، أما الآمدي، فقد عدها الكلام المؤلف من كلمتين تأليفاً يحسن السكوت عليه، أما المتأخرون فقد تابعوا متأخري النحاة. والظاهر أن موقف المتقدمين أكثر رجحاناً، ولعل ابن حزم كان مصيباً حين اختار هذا الرأي (3)
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 82 .
(2) - ابن جني الخصائص، 01 / 17، والزمخشري، المفصل في علم العربية، ص 06، وابن الحاجب، الكافية في علم العربية، ص 59 .
(3) - الإستراباذي، شرح الكافية في النحو، 01 / 08 وانظر إمام الحرمين، البرهان، 01/
177، والرازي، المحصول، 10 / 239. ويبدو أن مبدأ السكوت سمة تحديدية في اللسانيات الحديثة في تعريف الجملة، وهو ما اعتمده هاريس، انظر ميشال زكريا، الألسنية التوليديةوالتحويلية وقواعد اللغة العربية - الجملة البسيطة - ص 14 .(1/35)
.
أما اللفظ المركب فهو الذي تحصل منه الإفادة المتضمنة خبراً بعد ضم كلمات إلى بعضها وفق قواعد النحو، مثل زيد أمير والإنسان حي. وقد عده الغزالي. اللفظ المركب التام ومجموعه يدل دلالة تامة يحسن السكوت عليها. فيكون من اسمين أو من اسم وفعل مثل زيد يمشي، والناطق حيوان (1)، أو يكون ناقصاً لا يدل مجموعه على دلالة تامة، فيكون -مثلاً- من اسم وأداة، أو أداة وفعل. ويقسم ابن حزم اللفظ المركب المفيد إلى أقسام هي :
أ - الخبر :
فيه يدخل الصدق والكذب، وفيه تقع الضرورة والإقناع، وفي فاسد البنية منه يقع الشغب، ومن صحيحه يكون البرهان في كل قضية من قضايا العالم، وهو المقصود عند المتقدمين والمتأخرين بالقول(2). وفكرة الصدق كما ألمعنا سلفاً تتحدد انطلاقاً من فكرة التطابق بين الحكم القولي من جهة، والواقع من جهة ثانية. وذهب ابن حزم إلى أن صدق الخبر يتحدد بطرق متعددة، لعل أهمها العلم بصحته بأوّل العقل أو بداهة الحس، ومنه ما يقبل بعد برهان ومنها ما يصدق لتواتره وصدق نقلته، وفي دائرة الخبر يدرج الشرط والقسم والتعجب. فهذه الأساليب لا تخلو من دلالة على الخبر المحتمل للصدق والكذب(3).
ب - الاستخبار :
هذا أسلوب لا يصلح لأن يحكم عليه بالصدق أو الكذب، فقولنا : أقام؟ أي هل قام هو؟ لا يحتمل تصديقاً أو تكذيباً ؛ لأن الفعل لم يثبت حدوثه بعد(4) .
- الأمر :
__________
(1) - الغزالي، معيار العلم، ص 49 .
(2) - ابن حزم، التقريب، ص 39 .
(3) - ابن حزم، التقريب، ص 39
(4) - ابن حزم، التقريب، ص 38 .(1/36)
يقول ابن حزم :". وذلك أن القائل : افعل كذا ينطوي فيه أنك ملزم أن تفعل كذا، وأما النهي فهو نوع من أنواع الأمر “ (1). ويوضح في السياق ذاته أن قولنا آمرين : قم، ليس اسماً مفرداً - كما يتوهمه البعض - بل هو مركب، فمعناه قم أنت، ولو انفرد - على حد تعبيره - في حقيقة المعنى دون ضمير لما تم الكلام، ولكان ناقصاً، ويتمحض الأمر في دلالته للوجوب .
وقد يخرج للدلالة على معانٍ أخر كالتحضيض في غير إلزام، أو التبرؤ مثل " اعملوا ما شئتم "، أو الوعيد كقوله تعالى { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } (فصلت/41 )، أو التهكم { ذُقْ ِإنَكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمْ } (الدخان/48) ... بالإضافة إلى الرغبة التي تنطوي على إخبار بأن الراغب يريد شيئاً ما (2) .
- الاشتقاق :
يمثل الاشتقاق في اللغات أهم وسيلة لتوليد الألفاظ وتشقيق المعاني وربط اللغة في مسار الزمن بحاضرها لتكون مواكبة للمستجد من المسميات. فهو - من هذا المنطلق - أداة اللغة لتحافظ على وظيفتها التبليغية.
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 38 .
(2) - ابن حزم، التقريب، ص 38 .(1/37)
يعدّ ابن حزم الاشتقاق الصحيح اختراع اسم لشيء ما مأخوذ من صفة فيه كتسمية الأبيض من البياض والمصلى من الصلاة والفاسق من الفسق، وما أشبه ذلك. وليس في شيء من هذا ما يوجب أن يسمى أبيض ما لا بياض فيه، ولا مصلياً ولا فاسقاً من لا فسق فيه. فأي شيء في هذا مما يتوسل به إلى إيجاب القياس، والقول بأن البر إنما حرم أن يباع بالبر متفاضلاً ؛ لأنه مأكول أو لأنه مكيل أو لأنه مدخر؟ (1). إن مقالة ابن حزم هذه كما هو ظاهرتسوي بين الاشتقاق والقياس، وعليه كان إنكاره للأول. ثم أخذ يبين في مواضع فساده بقوله : ” إننا نقول لمن قال إنما سميت الخيل خيلاً لأجل الخيلاء التي فيها، وإنما سمي البازي بازياً لارتفاعه، والقارورة قارورة لاستقرار الشيء فيها، والخابية خابية لأنها تخبأ ما فيها. إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك منها البتة ؛ أحدهما: أن تسمي رأسك خابية لأن دماغك مخبوء فيه، وأن تسمي الأرض خابية لأنها تخبأ كل ما فيها، وأن تسمي أنفك بازيا لارتفاعه، وأن تسمي السماء والسحاب بازيا لارتفاعهما، وكذلك القصر والجبل، وأن تسمي بطنك قارورة لأن مصيرك مستقر به، وتسمي البر قارورة لأن الماء مستقر فيها. والوجه الثاني أن يقال : إن اشتققت الخيل من الخيلاء أو القارورة من الاستقرار والخابية من الخبء، فمن أي شيء اشتققت الخيلاء والاستقرار والخبء، وهذا يقتضي الدور الذي لا ينفك عنه.. بل والبرهان الضروري قد قام على بطلانها ؛ لأنه لم توجد قط الخيلاء إلا والخيل موجودة .. ولو كان ما قالوا لكانت الأسد أولى أن تسمى خيلاً؛ لأنها أكثر خيلاء من الخيل ولكانت النسور أولى أن تسمى بزاة من الصقور ؛ لأنها أشد ارتفاعاً منها “ (2). ومثاله الآخر القول بأن الجن سموا كذلك لاجتنانهم، أي استتارهم . ومن ذلك سمي المِجنّ الاشتقاق وعدم القدرة على الوصول إلى نهاية، ثم
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 8 / 93 و 94.
(2) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 94 .(1/38)
ما الذي يجعل لفظة ما أولى بأن تكون أصلاً لأختها من أخرى، وإن سلمنا بصحته في ألفاظ فلماذا لا نسلم به في أخرى من مثل قول الزجاجي في نوادره بأن العشقة نبت يخضر، ثم يصفر ثم يهيج، ومنه سمي العاشق عاشقاً، أو ما علم هذا الرجل -يقول ابن حزم- أن كل نبت في الأرض فهذه صفته، فهلا سمي العاشق باقلاً مشتقاً من البقل الذي يخضر ثم يصفر ثم يهيج؟ ! (1) .
ويبدو أن ابن حزم يركن إلى أساس منهجي سليم، بعودته دائماً إلى منطوق اللغة العربية في سننها التي يشهد لها شعر الشعراء والقرآن الكريم. وقد أورد في هذا ما نصه : ” قالوا ونرجح بأن يكون الاشتقاق يؤيد أحد النصين، ومثلوا لذلك بالشفق وادعوا أن اشتقاقه يؤيد الحمرة. قال علي: ما سمعناه في علم اللغة ولا علمناه ولا سمع لغوي قط أن الشفق مشتق من الحمرة، وإنما عهدنا الشعراء يسمون الحمرة والبياض مختلطين في الخدود بالشفق على سبيل التشبيه فقط، وإنما قلنا : إن وقت العشاء الآخرة يدخل بمغيب الحمرة؛ لأن الحمرة تسمى شفقاً والبياض يسمى شفقاً، فمتى ما غاب ما يقع عليه اسم شفق من حمرة أو بياض فقد غاب الشفق ودخل وقتها بيقين.. وهذا هو القول بالعموم والظاهر “ (2). والحقيقة أن الاشتقاق ظاهرة لغوية أغنت اللغة العربية، بل كان سلاحاً لحفظ النوع في تلك البلاد الممتدة من الخليج إلى المحيط. والعربية تصارع لغات أخرى لإثبات وجودها، فأضيفت إليها عناصر أخرى ومدلولات أعمق وأبعد على امتداد المكان والزمان (3). ونود أن نختم مبحثنا هذا في ظاهرة الاشتقاق بنسبة الموضوع إلى فقه اللغة الذي يدرس حروف اللغة وأصواتها وأنواع الجمل والتغيير الذي يطرأ على الألفاظ وأسبابه .
العلامة الإعرابية :
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 1 / 12 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 63 .
(3) - عبد الهادي عبد الرحمن، سلطة النص، ص 82 .(1/39)
الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان أن العلامة الإعرابية لا تعدو أن تكون أداة للكشف عن المعاني الوظيفية في الكلام. وتظل الألفاظ، وهي فيه، مغلقة من الوجهة الوظيفية حتى يكون الإعراب، فيوضحها ويكشفها. ولقد كان موقف ابن حزم من العلل واضحاً فقد نقضها وحكم عليها بالفساد، كما رفض الأقيسة مبدئياً. فاللغة تؤخذ سماعاً، والعرب تعارفت على رفع كذا ونصب كذا وجر كذا، وليس ذلك أثراً من آثار العوامل، بل من عمل صاحب اللغة نفسه، وكثيراً ما ألمع إلى هذا الدور في مناسبات عدة، منها قوله : ”... لما فشا جهل الناس باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة العربية، وضع العلماء كتب النحو (...)، فكان ذلك معيناً على فهم كلام الله عز وجل وكلام نبيه (ص) “ (1) . ولعل عدم الاحتكام إلى الحركة هو المسبب الرئيس لسوء فهم يقع فيه القارئ للقرآن أو المتصدي لاستنباط الأحكام من مثل قوله تعالى : { إِنمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العَُلَماءُ } (فاطر / 28 )، وقراءة أحدهم { إن الله بَرِيءُ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } (التوبة / 03 )، فقرأ بكسر لام رسول ...(2)، وأمثلة كثيرة ذكرها وغيره، كأمثلة حية تؤكد قيمة الحركة الإعرابية في ضبط الكلام وتحقيق الفهم(3)، وهو الموقف ذاته الذي تبناه -فيما بعد- ابن مضاء القرطبي، بإعطائه الأولوية للحركة، مفنداً نسبة الإعراب إلى العامل الظاهر أو المضمر . والحق أن يقال بأن العمل من رفع ونصب وجر وجزم، إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره (4)، ويصل - ربما - إلى درجة الشطط في التعصب لدورها الوظيفي في بنية الكلام ودلالته في قوله:... وكما لا نسأل عن عين عظلم والفتح في جيم جعفر وباء برثن لم فتحت هذه، وضمت هذه، وكسرت هذه، فكذلك أيضاً لا نسأل
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 03 .
(2) - ابن حزم، التقريب، ص 175 .
(3) - ابن حزم، التقريب، ص 199 ..
(4) - ابن مضاء، الرد على النحاة، ص 87 .(1/40)
عن رفع زيد؟ “ (1)
- موقفه من علل النحو :
إن كثيراً من المؤلفات وأهمها في مجال الدراسات النحوية تكاد تجمع على نسبة رفض فلسفة العلة النحوية لابن مضاء القرطبي، الذي صرح في كتابه الشهير " الرد على النحاة " بذلك، معتبراً إياها من وضع النحاة .
والحقيقة التي يجب تأكيدها أنه كان مسبوقاً إلى هذه المقولة المهمة في نظرية النحو العربي، والتي فيها من الصواب ما فيها، إذا ارتبط الحديث رأساً بسبل تيسير النحو في العملية التعليمية. وقد مثل هذا السبق ابن حزم في كتابه "التقريب"، إذ يقول : ” ... وأما علم النحو فعلى مقدمات محفوظة عن العرب الذين تزيد معرفة فهمهم للمعاني بلغتهم، وأما العلل ففاسدة جداً“ (2) .
__________
(1) - ابن مضاء، الرد على النحاة، ص 160 و 161 .
(2) - ابن حزم، التقريب، ص 202 .(1/41)
والأكيد من ذلك نقطتان مهمتان تتأسس عليهما نظرته إلى النحو؛ أما الأولى، فبوصفه منظومة القواعد الخاصة باللغة، مبني على المسموع من كلام العرب، الذين نطقوا بلغتهم سليقة حسب ما تهجم به عليهم طباعهم، فهم أجدر على تفهم معانيها. وأما الثانية، فكون العلل الموضوعة في النحو في عصر متأخر ضعفت فيه الملكة اللسانية، أداءً وفهماً ضعيفة، من حيث تأسيسها البعيد عن الاستعمال. وقد ألمع إلى ذلك في مقام آخر بقوله : ” كنحو المسائل الطوال التي أدخلها أبو العباس المبرد في صدر كتابه "المقتضب في النحو" فإنها لا ترد على أحد أبداً، لا في كتاب ولا في كلام ... “ (1). وعلى صعيد التدرج في التعليم، كمبدأ أساس لتحصيل العلوم، يمكن أن يفهم إنكاره لعلل النحاة أيضاً، وهو ما نتلمسه ونحصل على بعض جوانبه في قوله : ولسنا نذم من طلب هذا كله، بل نصوب رأيه لكنا نقول : ينبغي لطالب كل علم أن يبدأ بأصوله التي هي جوامع له ومقدمات، ثم بما لا بد منه لتفسير تلك الجمل، فإذا تمهر وأراد الإيغال والإغراق، فليفعل “ (2). وعلل النحو أنموذج لغوي حي لهذا الإيغال، وكأننا به يخص فئة المهرة في النحو وهم علماؤه المتبحرون في أمواجه لا المبتدئون .
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 104 .
(2) - ابن حزم، التقريب، ص 104(1/42)
وعلى صعيد الاحتكام إلى المسموع من كلام العرب ينبه على ضعف فكرة الاستثقال التي يعلل بها النحويون كثيراً من المسائل اللغوية، فتجده يقول :.. ومثل ما يستعمله النحويون في عللهم، فإنها كلها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة البتة، وإنما الحق من ذلك أن هذا سمع من أهل اللغة الذين يرجع إليهم في ضبطها ونقلها، وما عدا هذا فهو مع أنه تحكم فاسد متناقض، فهو أيضاً كذب ؛ لأن قولهم كان الأصل كذا فاستثقل فنقل إلى كذا شيء يعلم كل ذي حس أنه كذب، لم يكن قط ولا كانت العرب عليه مرة، ثم انتقلت إلى ما سمع منها بعد ذلك “ (1). ولنا بعد هذه الوقفة أن نقبل زعم من يربط بين هذا الموقف اللغوي المتشدد من العلة النحوية أو نرفضه، وموقفه من العلل التي وضعها الفقهاء في الشريعة. فالعلة النحوية فاسدة لعدم احتكامها إلى الاستعمال العربي وجنوحها إلى منطق العقل، تأثراً بعلل المتكلمين، والعلة الشرعية مرفوضة فيما لم ينص القرآن عليه، إذ هي زيادة وتقوّل على صاحب الشريعة، والفرق بين الرؤيتين واضح من هذه الناحية. فليس في الشرائع - على حد قوله - أصلاً بوجه من الوجوه ولا شيء يوجبها إلا الأوامر الواردة من الله عز وجل فقط، إذ ليس في العقل ما يوجب تحريم شيء مما في العالم وتحليل آخر، ولا إيجاب عمل وترك إيجاب آخر (2) .
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 168. ...
(2) - ابن حزم، التقريب، ص 168 و 169 .(1/43)
والحقيقة الراجعة إلى المشاهدة تثبت أن المتكلم هو الذي يحدث الرفع والنصب والجر والجزم، وإن شاء فعل ذلك وغيره، وإن لم يشأ لم يفعل، فهو المحدث للأصوات والحروف والكلمات من حيث هيئتها وحركاتها، وهو وإن كان خاضعاً لقوانين الصنعة النحوية لا يمنع من أن يكون هو الفاعل على نظام مخصوص (1). ولسنا متأكدين، ونحن نتتبع موقف ابن حزم من العلة، هل علم أن النحاة الذين وضعوا هذه العلل كانوا يدركون أن العلة الأولى في الحدث الكلامي هو المتكلم نفسه، وأن العوامل اللفظية ترجع في الأصل إلى عامل واحد هو الفاعل المتكلم ذاته، وانهاأمارات وعلامات فقط.
- القياس اللغوي :
__________
(1) - محمد أحمد عرفة، النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة، ص 78 .(1/44)
خصص ابن حزم مؤلفات مستقلة موضوعها الأساس القياس، إلا أنه لم يعمق البحث في القياس اللغوي، ولم ترد إلا بعض الإشارات المنكرة له في سياق دحضه لفلسفة العلة النحوية، والسبب في ذلك عده اللغة سماعاً تؤخذ بالنقل المتواتر عن أصحابها، يقول : ” أما علم اللغة، فإلى ما سمع أيضاً من العرب بنقل الثقات المقبولين أن هذه لغتهم “(1). ويتجلى هذا الموقف في مستوى الاستعمال ؛ فما ظنه البعض ألفاظاً مترادفة على سبيل القياس خطأ، والوجوب الرجوع إلى مواضعات العرب والامتناع عن نقل بعضها إلى مواضع أخرى. ففي مجال العقيدة، يرى أن الله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه اتباعاً للنص ونزولاً عند دلالته الظاهرة، ومن خطأ من سماه قديماً ؛ لأن الله لم يسم نفسه قديماً، ولم يرد في ذلك نص، بل إن القدم صفة من صفات المخلوقين، وهو ما يدعمه قوله تعالى : { وَالقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمْ } (يس/29). ثم إن القدم في اللغة مرتبط بالزمان والله لا يحده زمان، كما لا يحيط به المكان وقد أغنى الله عن هذه التسمية بأخرى يمثلها لفظ "الأول"(2)، أما على صعيد المستوى المعرفي، فرفضه للقياس نابع من نفيه لتساوي الغائب بالحاضر وتطابق الأشياء في صفاتها في العالم .
__________
(1) ابن حزم، التقريب، ص 202 .
(2) ابن حزم، الفصل، 02 / 151 و152، وابن حزم، التقريب بلفظ مشابه، ص 75.(1/45)
ونتيجة لوهم الشبه، لم توفق كثير من الفرق الدينية في معالجة موضوع الصفات الإلهية، بل منها من وضع أسماء وصفات لله قياساً لم يسمّ هو نفسه بها ذاته. ويعتمد ابن حزم في سياق آخر في سياق رفضه للقياس على فكرة الاختلاف وقيمته من حيث الصواب أو الخطأ، فيقول : ” ونسأل من قال بالقياس، هل كل قياس قاسه قائس حق أم منه حق ومنه باطل، فإن قال : كل قائس أحال ؛ لأن المقاييس تتعارض ويبطل بعضها بعضا ... وإن قال : منها حق ومنها باطل قيل له : فعرفنا بماذا نعرف القياس الصحيح من القياس الفاسد، ولا سبيل لهم إلى وجود ذلك أبداً، وإن لم يوجد دليل على تصحيح الصحيح من القياس من الباطل منه، فقد بطل كله وصار دعوى بلا
برهان“(1). وإذا انتقلنا إلى ابن مضاء، فإنا لا نجده متبيناً هذه الفكرة بكلياتها، بل نجده أكثر ليونة في التعامل مع القياس، خاصة إذا دعمته النصوص المتواترة، وهو ما يظهر في جملته ” وإلا ظهر ألا يقاس شيء من هذا المسموع إلا أن يسمع في هذه كما سمع في تلك “ (2). وعليه يمكن القول إن ابن مضاء كان يقر القياس المدعوم بالسماع، ويرفض ما دون ذلك. والحقيقة أن أصل هذه الرؤية معبر عنها عند ابن جني في خصائصه في قوله : واعلم أنك إذا أداك القياس إلى شيء ما ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه “ (3) .
- أهمية النحو التعليمي في تصحيح الأخطاء :
__________
(1) ابن حزم، المحلى، 1 / 56 .
(2) ابن مضاء، الرد على النحاة، ص 156 وما بعدها .
(3) ابن جني، الخصائص، 01 / 125 .(1/46)
يقدم ابن حزم نماذج لغوية لظاهرة اللحن في القرآن الكريم قراءة وفهماً في قوله: "... وأما الغلط الواقع في اشتباه الأسماء، فيكون من جاهل ومن عامد، فأما الجاهل فمعذور، وأما العامد فمذموم. فالجاهل غلطه في ذلك نحو غلط عدي بن حاتم إذ سمع الآية : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوْا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدْ} (البقرة/187) فظنها من راعنا من الرعونة، ومثل ما قاله بعض الأكابر، وقد سئل عن اللفظ بالقرآن، فقال: هذا سؤال محال واللفظ بالقرآن لا يجوز لأنه لا يلفظ، فأضرب عن اللفظ الذي هو القول الخيوط المعهودة. وأما العامد، فنحو الذين قيل لهم " راعنا " من المراعاة فقالوا، والكلام وتعدى إلى الذي هو القذف كلفظ الرجل لقمة ” هي فيه ... وكذلك ينبغي لك يفرق بينها في الصور إلا بالنقط كزبد وزيد ورند وما أشبه ذلك، وقد كتب بعض الخلفاء إلى عامله : احص المؤنثين قبلك أن تتحفظ من اشتباه الخط، ولا سيما في العربي، فإن ذلك فيه فاش ؛ لأن أكثر حروفه لا، يريد إحصاء العدد، فقرأها الكاتب اخص فخصى كل من كان قبله منهم “(1). والظاهر من كلامه أن الغموض الدلالي الذي يعتري بعض الألفاظ في اللغة العربية مصدر من مصادر الغلط في فهم النص القرآني، في المستوى الاستبدالي، حيث تتشابه الأسماء من حيث صيغتها ودلالتها المعجمية.
__________
(1) -ابن حزم،التقريب،ص175(1/47)
أما المصدر الثاني للغلط أو اللحن، فهو الالتباس في رسم الحروف في مستوى الكتابة بالخط العربي الذي يظهر تشابهاً كبيراً بين الرموز الخطية، كالباء والتاء والثاء. وشبيه بهذه الصور التي عرضها ابن حزم، شعوراً منه بأهمية الموضوع وخطورته على النص القرآني ما أبان عنه الجاحظ في البيان والتبيين من صور متعددة للحن في اللغة، نطقا وصيغة وتركيباً ودلالة، مرجعاً ذلك إلى ظهور الازدواجية اللغوية، إذ أخذت الشقة في البنية الاجتماعية تتسع مع انتشار العربية في الشام وفارس وبلاد ما وراء النهر ومصر وإفريقية والأندلس، مما أدى إلى ظهور لغة المولدين، التي زاحمت الفصحى حتى في المستويات الرسمية وكثر اللحن في ألسنة الخاصة، وها هو ذا خليفة يكتب إلى عامله أن أحصي المؤنثين قبلك، فقام بخصيهم جميعاً (1). ويمكن القول بأن ابن حزم قد لفت الأنظار في هذا النص المقتضب إلى بعض مظاهر تطور المعنى وتحوله، وإن كان يرى فيه غلطاً من حيث الاستعمال ؛ ذلك أن التحول في المعنى يمكن أن يسوغ بالمماثلة بين الأسماء راعنا بمعنى الرعونة وراعنا بمعنى المراعاة واللفظ للقراءة وللرمي، وكذلك عن طريق المجاورة في الاستعمال مثلما هو في قوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوْا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدْ } (البقرة / 187) (2). فقد تجاور المعنيان استعمالاً، والفرق بينهما أن الخيطين في الآية يدلان مجازيا على الظلمة والنور، وهو ما لم يفهمه عدي بن حاتم .
وفي هذا السياق، نفهم لماذا ظهر الاهتمام المبكر بالدرس النحوي الذي يقدم الأنموذج اللغوي الأكمل، الذي يجب الخضوع له وتمثله نطقاً وكتابة
__________
(1) ابن حزم، التقريب، ص 175 .
(2) فايز الداية، علم الدلالة العربي دراسة نقدية تأصيلية، ص 264 .(1/48)
حفظاً للألسنة من الزيغ، يقول:. لما فشا جهل الناس باختلاف الحركات، التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة العربية، وضع العلماء كتب النحو ... فكان ذلك معيناً على فهم كلام الله عز وجل وكلام نبيه (ص)“ (1) .
إن طالب الحقائق مضطر إلى النحو ليتفادى الوقوع في مزلة تخرجه عن العقيدة (2)، فكان ظهور النحو بمنزلة رفض العربي لكل تمرد يمكن أن يمس قداسة لغته، وما زاد في تعظيمه لبيانها نزول القرآن بها .
حث ابن حزم كل طالب لملكة اللغة على الرجوع إلى الأمثال والشواهد والأشعار، فبدون الانغماس في النصوص الفصيحة لا يمكن امتلاك ناصية النحو الذي هو اللغة ولا يجدي حينها حفظ مئات القواعد التي وضعها علماء النحو. تقوم العملية التعليمية عند ابن حزم، على مبدأ السماع الذي تكون محصلته بناء منوال لساني في ذهن المتعلم يولّد وفقه أمثلة الكلام .
- القضايا الدلالية :
__________
(1) ابن حزم، التقريب، ص 03 .
(2) ابن حزم، التفريب، ص 175 .(1/49)
يلحّ اللسانيون، اليوم، على جعل علم الدلالة علماً خاصاً بدراسة معنى الكلمات أو المعنى اللغوي عامة دون التطرق إلى مسائل منطقية ونفسية. والحقيقة أن العناية بدراسة المعنى كانت من أقدم اهتمامات الفكر الإنساني، وحظيت بمكانة متقدمة في التفكير العربي القديم خاصة. وكانت إسهاماتهم مهمة في مجال وضع الرسائل الدلالية المتنوعة والتي كانت بذرة لظهور العمل المعجمي المنظم على يد الخليل وتلامذته(1). ثم جاء ابن فارس، وربط بين المعاني الجزئية للمادة بمعنى عام يجمعها في معجمه الضخم مقاييس اللغة، وقام الزمخشري بمحاولة رائدة في كتابه أساس البلاغة، حين ميز بين المعاني الحقيقية والمعاني المجازية. أما الأصوليون، فقد تناولت كتبهم مباحث الدلالة اللفظية من حيث المنطوق والمفهوم، والعموم والخصوص، والظهور والخفاء، وغنيت مؤلفاتهم ومؤلفات معاصريهم من مناطقة وفلاسفة بأمثلة هذه القضايا المتصلة اتصالاً وثيقاً بالدرس الدلالي والمعجمي، كابن سينا والفارابي وابن رشد والغزالي والقاضي عبد الجبار. وفي الدرس الحديث، يولي علم الدلالة الكلمة عناية بالغة باعتبارها الوحدة الدلالية الأساسية في اللغة الإنسانية، لها معنى أساسي أو مركزي عليه مدار الاتصال بين أفراد الجماعة الواحدة، ومعان إضافية سياقية تلقي بظلالها على المعنى الأساسي. ولسلامة الفهم بين المتخاطبين يشترط دوماً معرفتها بالمعنى الأول للكلمة، وهو ما سنقف عليه مع ابن حزم في معجمه الخاص، الذي يضم أهم الكلمات الدائرة بين أهل النظر والتي وقع خلاف كبير بين الناس في فهمها، بسبب جهلهم لدلالتها الأساسية على حد قوله .
- أهمية المعنى المعجمي عند ابن حزم :
__________
(1) أحمد محمد قدور، المدخل إلى فقه اللغة العربية، جامعة حلب 1991، ص 190 وما بعدها .(1/50)
واجهت ابن حزم مشكلة الخلط في معاني الألفاظ المفردة والدائرة في بعض حقول المعرفة الإسلامية والفلسفية، وحرصاً منه على تجنب الخطأ في فهمها بإيقاعها على مسمياتها الحقيقية، فقد صدر كتابه الإحكام بمقدمة في المصطلحات الفنية يشرح فيها عدداً مهماً من الكلمات المختلف في دلالاتها عند أهل النظر (1). وقد ذهب آرنلديز إلى أن ابن حزم كان يسعى في هذا المقام إلى تحقيق مبدأ ديكارتي هو الوضوح الفكري (2)، على طريق التعريف الاسمي الذي لا يفرق بين أسماء الأشياء أو الحروف أو الصفات ... يقول ابن حزم مؤكداً ضرورة الاهتمام بتحديد معاني الألفاظ : ” هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه وشبك بين المعاني وأوقع الأسماء على غير مسمياتها ومزج بين الحق والباطل، فكثر لذلك الشغب والالتباس، وعظمت المضرة وخفيت الحقائق، ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وبقوته مميزون معنى كل لفظة على حقيقتها ... “ (3). وسنورد أمثلة على ذلك، مع العلم بأنه شرح تسعة وسبعين مصطلحاً، في المنطق والفقه وأوصوله وعلم العقيدة .
- التقليد :
يفسر ابن حزم التقليد الذي يحاربه بكونه اعتقاد الشيء ؛ لأن فلاناً قاله ممن لم يقم على صحة قوله برهان، وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليداً، بل هو طاعة حق الله تعالى(4) .
- العلم :
وأما العلم فهو تيقن الشيء على ما هو عليه، إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه، إما الحس وإما ببديهة العقل، وإما بحادث عن أول على ما بينا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى أول العقل أو الحس، إما من قرب وإما من بعد، وإما عن اتباع لمن أمر الله باتباعه، فوافق فيه الحق، وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال(5) .
- الدليل :
__________
(1) ابن حزم، الإحكام، 01 / 35 و36 .
(2) Arnaldez (Roger) , grammaire et théologie, p. 66 .
(3) ابن حزم، الإحكام، 1 / 35 .
(4) ابن حزم، الإحكام، 1 / 40 .
(5) ابن حزم، الإحكام، 1 / 37 و 38 .(1/51)
قد يكون (الدليل) برهاناً، وقد يكون اسماً يعرف به المسمى وعبارة يتبين بها المراد، كرجل دلك على طريق تريد قصده، فذلك اللفظ الذي خاطبك به هو دليل ما طلبت، وقد يسمى المرء الدال دليلاً أيضا(1).
- الندب :
هو أمر بتخيّر في الترك، إلا أن فاعله مأجور وتاركه لا آثم ولا مأجور، وهو التأسّي والمستحسن والمستحب، وهو الاختيار، وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك، والصوم كذلك وسائر الأعمال
- الأمارة :
كما يعرف الأمارة بقوله هي : ” علامة بين المصطلحين على شيء ما، إذا وجدت علم الواحد لها ما وافقه عليه الآخر، وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها ما يخاف نسيانه “ (2) .
- الشريعة :
يتطرق لهذا المصطلح (3)، فيقول : ” هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه (ص) في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبله، والحكم منها للناسخ وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب والشارب من النهر، قال تعالى { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} (الشورى / 13).
وقال امرؤ القيس (طويل)(4) :
وَلَمَّا رَأَتْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هَمُّهَا
وَأَنَّ البَيَاضَ مِنْ فَرَائِصِهَا دَامِي
تَيَمَّمَتِ العَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ
يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عِرْمِضُهَا طَامِي
- الحق :
__________
(1) ابن حزم، الإحكام، 1 / 39 .
(2) ابن حزم، الإحكام، 1 / 44 .
(3) ابن حزم، الإحكام، 1 / 46 .
(4) امرؤ القيس، الديوان، ص 168 .(1/52)
ولا فرق بينه وبين الحقيقة، فيقول : الحق هو كون الشيء صحيح الوجود.. وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة، وهذا خطأ لا يخفى على ذي فهم ينصف، لأن الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة ولا أوجبته شريعة أصلاً، والله تعالى يقول { حَقِيقٌ على أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الحَقَّ } (الأعراف/105)، ولا فرق عند أحد بين القول القائل حقيق علي كذا وبين قوله حق علي كذا، فظهر فساد هذا الفرق “ (1) .
- القضية :
هي الكلام التام الذي يتكون من اسم وصفة، أو خبر ومخبر عنه، يقول ابن حزم : ”فالخبر إذا تم كما ذكرنا سمي قضية “ (2). وقد تكون القضية صادقة عقلياً أو نقلياً، وقد تكون كاذبة عقلاً أو نقلاً. وثمة تقسيم آخر لها يراعي معيار الكم، فهي إما أن تكون كلية وتميزها أدوات هي كل وقاطبة وما يقوم مقامهما، وإما أن تكون جزئية، وأداتها لفظة بعض. ويميز المناطقة من حيث السور وعدمه بين القضية ذات السور أو المحصورة، وتقدم هذه العموم المتيقن كماً وكيفاً، مثل قولنا : كل إنسان فانٍ، أما المخصومة فتتميز بنقل الخبر عن عين واحدة دون تعميم .
هذا، ويمكن إضافة أنواع أخرى فصل فيها أهل الاختصاص كالقضية الشرطية والقضية المنفصلة (3) .
- الرسم :
الرسم هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط، دون أن ينبئ عن طبيعته، ومثاله الإنسان هو الضحاك. ويبدو في تميزنا له بهذه الصفة عن غيره أننا لم نحدد طبيعته، فلو فرضنا رفع هذه الصفة عنه، فإنه لا يلزم سقوط طبيعته الإنسانية(4). أما لو ميزنا الشيء من غيره بذاتياته، فقد حددناه كقولنا حد الإنسان الحيوان الناطق .
هل يمكن بعد هذا، أن ندرج هذه المقدمة ضمن العمل المعجمي؟ بل هل يسمح لنا أن نعدّ جهده المبذول على اختصاره عملاً معجمياً؟ وإن كان كذلك، فلأي أنواع المعاجم يمكن نسبته؟
__________
(2) ابن حزم، التقريب، ص 83 .
(3) الغزالي، معيار العلم، ص 113 .
(4) ابن حزم، التقريب، ص 16 .(1/53)
يمكننا بشيء من التحفظ أن نجعل العمل الذي حصر فيه كلمات مهمة يدور استعمالها عند فئة من الباحثين عملاً معجمياً، إذا اعتمدنا على تعريف العلماء للمعجم الفني من كونه ليس إلا قائمة من الكلمات التي تسمي تجارب معينة أو تصفها أو تشير إليها .
وعلى صعيد المنهج، لا يمكن القول بأنه تبنى منهجاً واضحاً في ترتيب مادته المعجمية وتفسيرها، بل وردت في غير نسق، كل ما يجمع بينها كونها تمثل حقلاً واحداً هو المصطلحات التي يكثر تداولها عند علماء الأصول والمناطقة، أو بعبارة أبسط هي الألفاظ الدينية والفلسفية. بيد أننا نلاحظ اختلافاً في كم المادة المعروضة أثناء التفسير، فكلما كانت المفردة أكثر تداولاً وأهمية كانت، مادتها التفسيرية أغزر، والعكس صحيح.
أما مسلكه في شرح الكلمات موضوع الدراسة، فقد اتبع طريقة التفسير بالترجمة، أو ما يعرف بتفسير الكلمة بأكثر من كلمة، وهو الغالب مثل قوله : البرهان هو كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشيء والاستدلال هو أطلب من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم(1)، وكتعريفه للباطل بأنه ما ليس حقا (2) .
كما اعتمد على التفسير بالسياق، مثل تعريفه للفظ الشريعة، قد مر بنا، وتعريفه لكلمة اللغة معتمداً السياق القرآني في قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (إبراهيم / 4). فظهر كونها ألفاظاً يعبر
بها عن مسميات ومعانٍ يراد إفهامها للآخرين، وأن اللغات مختلفة فيما
بينها(3) .
كماجنح في مواضع إلى التفسير بالضد، فتظهر ثنائيات كـ (الصدق والكذب )، و( الأصل والفرع )، و( الإقناع والشغب )، و( العموم والخصوص)، و( المجمل والمفسر) و( الأمر والنهي) .
__________
(1) ابن حزم، الإحكام، 1 / 39 .
(2) ابن حزم، الإحكام، 1 / 41 .
(3) ابن حزم، الإحكام، 1 / 46 .(1/54)
ويمكن، في خاتمة هذا المحور، أن نقول إن البيان عند ابن حزم يكمن في تحديد دلالات الألفاظ وإيقاعها على معانيها كما أوجبت اللغة المسموعة ذلك، والمحيل لها إلى معانٍ أخرى مبطل للحقائق، طالب للفساد (1) .
السياق وأثره في المعنى :
يرى كثير من المعاصرين أن مسألة السياق أو المقام كما عرفه العرب القدماء تمثل بؤرة علم الدلالة الوصفي؛ لأنه يعبر باختصار عن الجانب الاجتماعي للمعنى والوظيفة التداولية والنفعية للغة في حياة الإنسان، وفي هذين الجانبين تظهر الأحداث والعلاقات والقرائن التي تسود ساعة أداء المقال(2). الحقيقة أن الجهل بهذه الظروف لا يمكن من الوصول إلى المعنى على الإطلاق، لذلك قال ستيفن أولمان : ” لا يمكن الاستمرار في بحث تاريخ الكلمات منعزلاً عن تاريخ الحضارة“(3). وما تاريخ الحضارة إلا أحداث اجتماعية ربطت مقالات معينة ببعضها، وأنزلتها في مسار الأحداث المتصلة. وتظهر قيمة السياق في دراسة المعنى ضمن تحديد المعاني المتعاورة على اللفظ الواحد بسبب الاشتراك أو تغير دلالة الكلمة عبر الزمن (4) .
__________
(1) - Arnaldez (Roger) , grammaire et théologie , p. 66 .
(2) تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، ص 337 .
(3) ستيفن أولمان، دور الكلمة في اللغة، ص 200 .
(4) علي زوين، مبهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث، ص 185 .(1/55)
وقبل التطرق إلى المسألة عند ابن حزم، الذي يمثل رأيه موقفاً مهما في تراثنا، لا بد من أن نشير إلى أهمية السياق في النص القرآني الذي يرتكز رأساً على اللغة، بما هي علاقات بين عناصر منتظمة، مما يحقق مناسبة أو مفارقة في المعنى، ويعتمد في هذا السياق على الظروف الحسية والنفسية المحيطة بالنص، وكذا المحيط الاجتماعي بما فيه من عادات وتقاليد، مما يؤكد ضرورة المعرفة التامة بأسباب النزول، وأخبار العرب وحياتهم العقلية والروحية والاجتماعية بصفة عامة. وهكذا، تمتد قرينة السياق على مساحة واسعة من الركائز تبدأ باللغة، وتنتهي بهذه القرائن المتعددة (1) .
__________
(1) تمام حسان، البيان في روائع القرآن، ص 221 .(1/56)
ومن صور العناية بالسياق عنده انكاره على أحمد بن حابط المعتزلي، الذي وسع دائرة الرسالة لتشمل سائر المخلوقات محتجاً بقوله تعالى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيُر بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } (الأنعام / 24 )، وقوله { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ } (فاطر /24 )، محتجا بنعمة العقل التي منحها الإنسان، والمخصوص من جهة ثانية بمنحه النطق الذي هو سبيل التصرف في العلوم والصناعات. والله لا يخاطب بالشريعة إلا عاقلها، والعارف بمرادها ومن له قدرة على ذلك. ولا ريب في أن الحيوان يعدم هذه الخصائص، ومن ثم، فهو غير معني بالشريعة والتكليف، في حين تضحى كلمة " أمة " مجرد لفظة دالة على أنواع الأمثال، لا غير، وفرق بين أمة النحل والطير والإنسان بمعنى النوع، وبين أمم الناس بمعنى قبائلهم وطوائفهم وحاضرهم وغائبهم (1). وفي سياق رد ابن حزم على المالكية الذين اتهمومه بالاكتفاء بظاهر الألفاظ في النصوص، يقول موضحاً عدم وجود فرق بين ظاهر اللفظ في النص ومفهوم الخطاب : ”وأما تغليبنا الظاهر وإعماله على مفهوم خطابه، فكلام لا يعقل لاستعمال الظاهر دالاً بمفهوم خطابه، وهو نفسه الذي يبدو للسامع منه لا معنى للظاهر غير ذلك“(2). المفهوم أنه لا يقر أصلاً بشيء اسمه المعنى الظاهر أو لنقل بالمصطلح الحديث الدلالة المركزية، والمعنى المفهوم من الخطاب أو الدلالات الخاصة، بل هناك معنى واحد هو المدرك للسامع فقط.
__________
(1) ابن حزم، الفصل، 1 / 79 .
(2) ابن حزم، رسالتان له أجاب فيهما عن رسالتين فيهما سؤال عنيف، ص 94 .(1/57)
ولعل في رده على مزاعم ابن النغريلة اليهودي دليلاً آخر على فهم المقام الذي يتنزل فيه النص، فهذا المدعي رأي في قوله تعالى: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوْا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } (النساء / 78) تناقضاً لما ذكر في آخر هذه الآية في قوله تعالى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } (النساء / 78 ). ويسعى ابن حزم إلى رد هذا الادعاء انطلاقاً من كون الآية مكتفية بظاهرها عن تكلف تأويل، مستغنية ببادئ ألفاظها ونزول هذه الآية جاء كرد على من نسب لحاق السيئات به في الدنيا لمحمد (صلى الله عليه وسلم) بأن الإنسان يجني ما كسبت يداه من تقصير أو أداء للواجبات، وكل من عند الله جملة. فإذا نظر الإنسان إلى الآية الموجهة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أخذته الدهشة وطرح سؤالاً خلاصته هل يمكن أن يظهر التقصير من النبي مع عصمته؟ والحقيقة أن المقصود هنا هو تأدية شكر الله وجميع حقوقه على عباده، وهذا لا يستوفيه نبيّ ولا ملك. وقد جاءت إجابة الرسول (ص) صادعة حين قال لأصحابه ” إن أحدكم لا يدخل الجنة بعمله، فقيل له : ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته (1) “ .
__________
(1) صححه ابن حبان، تحقيق شعيب الأرناؤط، مِسسة الرسالة، ط2، بيروت، 1993، كتاب البر، باب ما جاء في الطاعات ..(1/58)
والظاهر أن الجهل بهذه المعاني المقامية هو الذي جعل اليهودي لا يفرق بين ما أخبر به تعالى من أن كل ما أصابنا به فهو من عند أنفسنا، وبين قول الكفار الذين يتطيرون بالرسول (ص) وصحبه. وفي السياق ذاته، يرد عليه قوله في تناقض الآيتين اللتين يقول فيهما تعالى { هَذَا يَوْمٌ لاَ يَنْطِقُون وَلاَ يُؤْذَنُ لهَمُ ْفَيَعْتَذِرُونَ } (المرسلات / 35 )، وقوله { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا } (النحل / 11 )، إذ يبدو أنه يقف على خصوص قوله تعالى في سورة المرسلات. فالمنع من النطق، إنما هو في بعض مواقف يوم القيامة أما الجدال، فله مواضعه أيضاً. يقول ابن حزم، موضحاً في إطار السياق اللغوي المعنى المقصود الذي توضحه الآيات التي يؤخذ بعضها برقاب بعض : إذ يقول تعالى: { انْطَلِقُوا إِلَىْ مَا كُنْتُمْْ بِهِ تُكَذِبُونْ، انْطَلِقُُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثلاث شِعَبٍ لاَ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنيِ مِنَ اللّهبِ، إنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينْ هَذَا يَوْمٌ لاَ يَنْطِقُوْنَ وَلاَ يُؤْذَنَُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُون } (المرسلات / 29 - 36)، فيه بعذر هكذا نص الآيات متتابعات لا فصل بينها فيصح أن اليوم الذي لا ينطقون فيه بعذر إنما هو يوم إدخالهم النار وهو أول اليوم التالي ليوم القيامة الذي هو يوم الحساب، وهو أيضاً يوم جدال كل نفس عن نفسها“ (1). إن هذه النصوص تسمح بأن تكون أداة تأكيد على وظيفة القرائن الحالية، التي عبر عنها ابن حزم بعلم النفس وبديهيات العقل في تخصيص الدلالة العامة وتحديد معاني الوحدات الكلامية المنتجه كنصوص فقوله تعالى : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } (آل عمران :173) لا يمكن أن يحمل على معناه الحرفي إذ حال المخاطبين لا تحتمل أن يجمع لهم كل الناس على
__________
(1) ابن حزم، الرد على ابن النغريلة، ص 48 و 49.(1/59)
سبيل الحقيقة، إنما بعضهم والدليل على ذلك القرينة العقلية. هذا، ويمكن حصر القرائن الحالية في القرينة العقلية (بديهيات العقل)، ووظيفتها منع حمل دلالة الجملة على المعنى الحرفي كقوله تعالى: { وَاسْألَ ِالْقَرْيَةَ التِي كُنَّا فِيهَا } (يوسف / 82 )، إذ المقصود مساءلة سكان القرية، أما قرينة الحس فالمقصود بها ما يشبه الواقع او ينفيه مما يذكره النص أو ينفيه ووظيفة هذه القرينة تصديقية برهانية، ومثال ذلك قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْيٍء} (النمل / 23) فقد علم بالحس أنها لم تؤت ما أوتي سليمان. وتظل فكرة القرائن بعد ذلك أساساً مهماً في التحليل النصي عند ابن حزم، ويمكن القول بأن آراء ه في سياق النظرية الظاهرية قد تصلح حجر أساس في بناء نظرية سياقية كاملة، لها تقنينها وتمثلاتها التطبيقية، ولعل مباحث العموم والخصوص وتكامل النصوص ومراتب الدلالة التركيبية، من حيث الوضوح والغموض صور لهذا الجانب، وهذا ما سنوضحه في الفصول اللاحقة مما يجعلنا نقرر مطمئنين أن النظرية السياقية العربية لا تختلف عن النظرية الغربية، إلا في البعدين الزماني والمكاني
القضايا البلاغية :
أما مجمل تصوراته عن الفصاحة، فقد آثرنا إجمالها في مجموعة من النقاط أولها :
أولا - اقتصار صفة الفصاحة في نظره على أهل البادية خاصة، وبني إسماعيل عامة الذين كان منهم بنو هاشم ومحمد (ص) أفصح العرب(1).
ثانيا - عدّ الفصاحة صفة ذاتية للغة التي نزل بها القرآن وخاطب الله بها عباده، وهي بهذا مساوية للبيان الذي يتبناه كمقاربة منهجية لقراءة النص الديني وفهمه (2) .
__________
(1) ابن حزم، الإحكام، 03 / 409 .
(2) ابن حزم، الإحكام، 03 / 303 .(1/60)
ثالثا - تكون الفصاحة في نطق أصوات اللغة والتأليف بينها، وهذا النطق يجب أن يكون سليماً وعلى الطريقة المعهودة من خلال عملية عضلية لأعضاء معينة، يكون نتاج هذه العملية حدوث سلسلة من الأصوات المعبر بها عن المعاني (1) .
رابعا -حذا ابن حزم حذو الجاحظ الذي سبقه بأجيال في تقسيم الفصاحة، في بعدها الجغرافي إلى منازل ثلاثة، هي :
أ - منزلة الفصاحة :
ونطاقها محصور يمثله أرباب الأقلام وأهل الجدل والشعراء، وربما تقلص نفوذها ونطاقها جداً في عصره، حتى إنها لا تمثل إلا الكتابة الفنية، وإن كنا نجد في كتب التراجم والأدب والتاريخ الذي يصور الحياة الأدبية والثقافية في الأندلس، أن المجتمع الأندلسي في تلك الفترة كان متوافراً على ثقافة أدبية عربية واسعة، ربما فاقت الثقافة المشرقية التي تأثرت بالعجمة أيما تأثر .
ب - منزلة الفصاحة المشوبة :
والناطقون بها من أبناء الجيل الجديد الذين امتزجت على ألسنتهم العربية والإفرنجية، وهي تمثل القصاع العريض من المتكلمين.
ج - منزلة العجمة :
__________
(1) ابن حزم، الفصل، 1 / 73 .(1/61)
وتمثل الناطقين باللغة اللاتينية، لغة الإفرنج خصوصاً القاطنين بالجبال والأرياف. يتأطر البحث البلاغي عند الأصوليين بتفسير النص القرآني، الذي طرح في مناسبات عدة قضايا كالتوصيل والتبليغ والبيان من منطلق التسوية بينهما، ناهيك عن انشغال العرب من قبل بفن القول، فهم أمة نص سواء كان هذا الأخير شفوياً أم مكتوباً. والسنة النبوية باعتبارها بياناً للقرآن تضمنت في مواضع متعددة فكرة البلاغ، لعل أهمها استعمال الرسول (ص) عبارة " هَلْ بَلَّغْتُ؟ " في خطبة الوداع(1) سبع مرات. فهذا التكرار راجع إلى أهمية المذكور في النص، إذ يمثل قواعد الحياة الدينية والدنيوية للمسلمين، ولما لم يكن الشأن في هذا المقام التوغل في التعريف بالبلاغة من حيث حدها وأبوابها ومدارسها عند البلاغيين، فإنه سيقتصر على بعض الوقفات، ثم يكون الانتقال إلى ما يمثل قطب الرحى في هذا المحور، ألا وهو موقف ابن حزم منها :
- البلاغة عند ابن حزم :
__________
(1) البخاري، الصحيح، تحقيق مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير،ط3، بيروت، 1987، كتاب المغازي، باب حجة الوداع .(1/62)
البلاغة مأخوذة من قولهم بلغت الغاية إذا انتهيت إليها .. ومبلغ الشيء منتهاه، وسميت البلاغة كذلك لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، وعرّفها صاحب مختار الصحاح بقوله : والإبلاغ والتبليغ الإيصال والاسم منه البلاغ، والبلاغ أيضاً الكفاية وشيء بالغ أي جيد والبلاغة الفصاحة“ (1). أما اصطلاحاً، فقد تعددت التعاريف في شأنها لعل أهمها ذلك الذي يركز على وظيفتها في تحقيق العصمة من الخطأ في مطابقة الكلام لمقتضى الحال ومعرفة أنواع الدلالة ومراتبها من حيث البيان(2). ثم هي مبنية على الذوق، لذا اعتبرها بعض المتأخرين ملكة تحصل للسان فيكون من ثمراتها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه على طريقة العرب وأساليبها في كلامها. وعليه، فهي حاصلة بالسماع لكل كلام عربي مع التفطن لخواص تراكيبه(3). وقد فصل الجاحظ قديماً في كتابه البيان والتبيين على ألسنة الحكماء والأدباء تعاريفها المتعددة، مما لا يفي المقام بعرضه، إذ بلغ إحصاء الدارسين للنصوص المتعلقة بها عنده عشرين نصاً(4) .
أما ابن حزم فقد خصص لها باباً مختصراً في كتابه التقريب يلخص فيه مفهومها وأنواعها، إذ هي عنده مختلفة باختلاف اللغات بقدر ما يستحسنه المتكلمون في كل لغة من إيقاعهم للألفاظ على المعاني على سبيل المطابقة ومراعاة الحال(5) .
__________
(1) الرازي، مختار الصحاح، 01 / 26.
(2) القنوجي، أبجد العلوم، 01 / 63.
(3) الرازي، مختار الصحاح، 01 / 278 .
(4) محمد الصغير بناني، النظريات اللسانية والبلاغية والأدبية عند الجاحظ، ص 224 .
(5) ابن حزم، التقريب، ص 204 .(1/63)
لكن ما يثير الاهتمام هنا طرحه لفكرة اختلاف البلاغة من جماعة إلى أخرى، وعدم توسعه في ذلك، وتركه السؤال حول سبب هذا الاختلاف عالقاً، وربما كان من المناسب القول في هذا المقام إن التنوع المقصود مرده اختلاف الأذواق باختلاف طبائع المجتمعات، والحال التي تعيشها في سلم التطور. ولعل هذا ما أدركه ابن خلدون دون غيره، حين ربط بين البلاغة والعمران في غير ما موضع(1) .
ويمكن تلخيص أهم آرائه البلاغية في النقاط التالية :
أ - اندماج البلاغة مع الكتابة :
وفي هذا السياق استشهد ابن حزم ببلاغات سهل بن هارون والجاحظ وابن شهيد..(2). ولا غرو أن يحدث تعالق بينهما، فكلاهما خروج عن حدود المألوف، فالبلاغة تجاوز لحدود القول المعهود في الشعر والنثر، والكتابة خرق لذلك الصمت الرهيب الذي تفرضه علينا اللغة المنطوقة !
ب - تزاوج البلاغة بالإقناع :
يقدم الإقناع عند ابن حزم على المنطق، ويقدم هذا الأخير الأدوات اللازمة لتقديم المقدمات وإنتاج النتائج، وبناء الألفاظ بعضها على بعض، وليست البلاغة إلا ذاك، باعتبار أنها تسعى مع التأثير في الآخر إلى إيصال الفكرة سليمة قوية مع البرهان الساطع(3)، حتى إنها لا تكون إلا لذي الذهن اللطيف والذكاء النافذ، وهي أبعد ما تكون عن ذي البلادة والغباوة المفرطة (4) .
ج - السمة التعليمية للبلاغة :
أغلب الظن في رأينا أنه يوافق مذهب بشر بن المعتمر الذي يوصي طالب البلاغة بقوله : إن أمكنك أن تبلغ ببيان لسانك، وبلاغة قلمك، أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف على الدهماء، ولا تجفو على الأكفاء، فأنت البليغ التام(5) .
__________
(1) ابن خلدون، المقدمة، ص 168 .
(2) ابن حزم، التقريب، ص 205 .
(3) ابن حزم، الفصل، 02 / 77 .
(4) ابن حزم، الفصل، 01 / 64 .
(5) الجاحظ، البيان والتبيين، 01 / 136 .(1/64)
أما ابن حزم، فيقرر وجوب التسوية فهما بين العامي والخاصي بألفاظ ينتبه لها العامي مع عدم تعوده على مثل ذلك النظم، ثم تجده يستوعب المراد كله دون أن يزيد عليه أو ينقص، ثم تمكنه بعدئذ من حفظه لسهولة ألفاظه وقصره (1). إن أحدكم لا يدخل الجنة بعمله، فقيل له : ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته(2) “
الفلسفة اللغوية في فكر ابن حزم
-علاقة الأبحاث المنطقية باللغة عند ابن حزم
__________
(1) ابن حزم، التقريب، ص 204 .
(2) صححه ابن حبان، تحقيق شعيب الأرناؤط، مِسسة الرسالة، ط2، بيروت، 1993، كتاب البر، باب ما جاء في الطاعات ..(1/65)
كان ابن حزم مما أشار إلى أهمية اللغة في حقل المنطق والفلسفة، وله تصور مهم يدل على ما بين الدرس اللغوي والتفكير الفلسفي من أواصر، مما يجعل البحث اللغوي في جانب من جوانبه بحثاً فلسفياً. ولا نكون مبالغين إذا قلنا بأنه شارك في تأسيس فلسفة خاصة باللغة العربية تختلف عن فلسفات لغوية أخرى، لها منطلقات مغايرة(1). غير أن هذا لا يمنع كونه عرّف اللغة وناقش مسائل مهمة تتصل بها من وجهة نظر كلية شاملة، لا تخص العربية وحدها، بل سائر اللغات أيضاً، يقول: "... ويبدو أن إدراك الإنسان لحدود الأشياء والإبانة عنها بأسمائها معرفة نفسية مستقرة في الذهن الإنساني استقراراً فطرياً"(2). أما في سياق إبراز العلاقة بين القول وزمن إنتاجه، فيقول: "... وكذلك أجزاء القول إذا تكلمت عن حروفه ونظمه ومعانيه، فإن كل ما تكلمت به من ذلك فقد فني وعدم، وما لم تتكلم به من ذلك فمعدوم لم يحدث بعد، والذي أنت فيه من كل ذلك لا قدرة لك على إثباته ولا إمساكه ولا إقراره أيضاً أصلاً بوجه من الوجوه، لكن ينقضي أولاً فأولاً بلا مهلة"(3).
__________
(1) المقصود في هذا المقام المناظرة التي أوردها صاحب الإمتاع والمؤانسة في علاقة النحو بالمنطق، وأولية أحدهما على الآخر بن أبي سعيد السيرافي ومتى بن يونس المنطق، التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة تحقيق، أحمد أمين وأحمد الزين، مطبعة الإرشاد، بغداد 1970، 01/115، في إشارة إلى المنطق الأرسطي نتاج لغة معينة هي اليونانية، ولا يمكن بالتالي إسقاط مقولاته على لغة أخرى كالعربية مثلاً.
(2) ابن حزم، التقريب، ص 03.
(3) ابن حزم، التقريب، ص 50.(1/66)
وكان ابن حزم مشترطاً لدراسة المنطق، وتدريسه العلم باللغة وامتلاك ناصيتها، وهو ما أكده في التقريب، وفي مناسبات عدّة لعلّ أهمها وأوضحها قوله: ".. وكذلك هذا العلم (أي المنطق)، فإن من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه (ص) وجاز عليه من الشغب جوازاً لا يفرق بينه، وبين الحق ولم يعلم دينه إلا تقليداً..."(1)، مقرراً في موضع آخر على أنّ به تميّز الإنسان عن سائر المخلوقات(2).
وتتجلى أهمية المنطق وارتباطه الشديد باللغة في قوله: "وجملة ذلك في فهم الأشياء التي نص الله تعالى ورسوله (ص) عليها وما تحتوي عليها من المعاني التي تقع عليها الأحكام وما يخرج عنها من المسميات وانتسابها تحت الأحكام على حسب ذلك، والألفاظ التي تختلف عبارتها وتتفق معانيها، وليعلم العالمون أن من لم يفهم هذا القدر فقد بعد عن الفهم عن ربه تعالى وعن نبيه (ص)، ولم يجز له أن يفتي بين اثنين لجهله بحدود الكلام، وبناء بعضه على بعض وتقديم المقدمات، وإنتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان وتصدق أبداً، أو يميزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب أخرى، ولا ينبغي أن يعتبر بها"(3). ويقول في موضع آخر: "اعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه أن علوم الأوائل هي الفلسفة وحدود المنطق.. وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاص جواهره وأعراضه والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به وتمييزه مما يظن من جهل أنه برهان وليس برهاناً، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها"(4).
__________
(1) ابن حزم، التقريب، ص 04، وانظر محمد جلوب فرحان، أصالة الأبحاث المنطقية عند ابن حزم، دراسات عربية، دار الطليعة بيروت 3 عدد سنة 1988، ص 109.
(2) ابن حزم، التقريب، ص 07.
(3) ابن حزم، التقريب، ص 10.
(4) رسائل ابن حزم، رسالة في مراتب العلوم، ص65، 66، 67.(1/67)
ولا يكون تمييز الحقائق في ذاتها وفيما بينها إلا باللغة التي وضعت ليتفاهم الناس بها وهو ما عبر عنه المحدثون بقولهم: "أن تعبر اللغة عن أي شيء يناقض المنطق أمر مستحيل"(1).
إن أهم المباحث التي تصل بالدرس اللغوي اتصالاً وثيقاً في المدخل أو (إيساغوجي) المنسوب إلى فرفوريوس الصوري هي الكلام عن انقسام الأصوات المسموعة، والتي تقع على جماعة أو أشخاص، والكلام في الحد والرسم، وجمل الموجودات، وتفسير الوضع والجمل، ثم الكلام على الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض(2).
وإذا انتقلنا إلى كتاب الأسماء المفردة (القاطا غورياس) أو كتاب المقولات العشر، فإن فيها ما يرشد إلى كثير من المفاهيم التي ترتبط بفلسفة اللغة وأصول مقولاتها النحوية بشكل عام لا يخص العربية فقط، ولكن جميع اللغات. وفي المقدمة الثانية يعرض لأقسام الكلام ومعانيه من خبر واستخبار وشرط، ثم يستفيض في تحليل المقولات العشر (الجوهر، الكمية، الكيفية، الإضافة، الزمان، المكان، النصبة، الملك، الفاعل، المنفعل)، ثم يختم كتاب الأسماء المفردة بباب الكلام على الحركة.
وفي كتاب الأخبار، تظهر ملامح التفكير المنطقي في تعريف المقولات أو السلب والإيجاب، كتعريف الكلمة (النعوت) والقول بأنواعه من حيث الإيجاب أو السلب.
__________
(1) عزمي إسلام، لدفيج فتجنشتين، ص347.
(2) ابن حزم، التقريب، ص82. إن تخصيب البحث اللغوي بالمنطق سوف يساعد بشكل مباشر في تكوين نظرية لغوية قائمة على فهم طبيعة اللغة فهماً علمياً.(1/68)
وللإيجاب نوعان: كذبه أو صدقه... والمنفي كذلك. والقضية تكون شرطية أو قطعية مع وجوب التمييز بين الشرط المتصل والشرط المنفصل. فمن الأول قولنا: إن غابت الشمس كان الليل، والنفي في ذلك سواء. أما المنفصل أو المقسم الفاصل كقولنا: العالم إما محدث وإما لم يزل، كما تنقسم القضية إلى نوعين: إلى مركبة من موضوع ومحمول، أي من اسم وصفة، وهي القضية الاثنينية، والقضية غير الاثنينية ما زادت صفة أو زماناً، فنقول مثلاً: محمد كان أمس وزيراً، وزيد المنطلق كريم، وعمرو رجل عاقل... والمنوال التالي يوضح لنا هذه المفاهيم مبسطة عند ابن حزم:
... ... ... القول (الخبر القائم بنفسه
اللواحق(1) ... ... مكوناته
ال + ... ... ... اسم + ... ... صفة (اسم مشتق من فعل)
1-الحالة الأولى: القول التام: اسم + صفة ... ... زيد جاء
... ... ... ... أو
... ... ... اسم + اسم ... ... زيد نجيب
2-الحالة الثانية: القول غير التام: اسم + صفة ... إن جئتني(ناقص)+أكرمتك (تام).
الخبر (القول)
(القضية الموجبة) ... خبر موجب ... ... خبر منفي ... ... (القضية المنفية
صادق ... ... كاذب ... ... صادق ... ... كاذب
قضية شرطية ... ... ... ... ... ... قضية شرطية
قضية قاطعة ... ... ... ... ... ... قضية قاطعة
-المصطلح الفلسفي عند ابن حزم من المشكلة إلى الحل:
__________
(1) يفرق ابن حزم بين اللواحق التي هي زوائد بيان لاحق للمبين، وبين الروابط وهي حروف المعاني الموضوعة للوصل بين الاسم والاسم أو الاسم والصفة، أو بين الخبر والمخبر عنه، ووظيفتها إنابتها عن التطويل، إذ تختصر المجهود الكلامي الذي يمكن أن يطول في غيابها، ويمكن الزعم في هذا المقام أن ابن حزم انساق وراء فكرة استنباط النحو من المنطق، واستخلاص اللغة من العقل.(1/69)
لقد أدرك ابن حزم منذ البدء أن الخطاب الفلسفي كي يكون وظيفياً، يحقق الغاية التداولية لا بد من أن تكون ألفاظه شائعة، ولتكون كذلك لا بد لها من أن تتسم بسمة الوضوح والجلاء على مستوى المصطلح، وهو مفرد أو على مستوى العبارة بأن تكون بسيطة خالية من التعقيد، على الطريقة العربية في بنائها للجمل النحوية، بمعنى أن يتوافر على سمتي الاتساق والانسجام. لذا نجده يشير في كثير من المواضع شارحاً ومعللاً كثيراً من الاستخدامات الخاصة بالمصطلحات المنطقية التي يكثر تداولها عند أهل النظر، ومن ثم يجب أن يراعى هذا الجهد الذي بذله ونحن نؤرخ لتطور المصطلح الفلسفي بعامة والمنطقي بخاصة في الحضارة الإسلامية، ابتداء من تلك الرسائل الموضوعة في الحدود، والتي تمثل بواكير التأليف المعجمي للمصطلح الفلسفي، إلى الأعمال الناضجة التي قدمها الفارابي وابن سينا والغزالي والشريف والجرجاني والصفوي وغيرهم من أعلام الفلسفة الإسلامية(1).
__________
(1) هناك ملامح تشابه بين كتاب التقريب لابن حزم ومعيار العلم في فن المنطق للغزالي، والألفاظ المستعملة في المنطق للفارابي ورسالة الحدود لابن سينا، يقف عليها المقارن بين مناهج التفكير عند هؤلاء الأعلام الذين تختلف مجالات اهتمامهم.(1/70)
ويبدو أن ابن حزم كان مهتماً بمعضلة المصطلح في التراث الإسلامي، فقد وجده قائماً على أرض غير صلبة زعزع تماسكها وجود مقابل موضوع للمصطلح الفلسفي اليوناني في اللغة العربية، مما جعل القدماء كمتى بن يونس يعتمد الترجمة الحرفية في كثير من الأحوال، فظهرت ألفاظ مثل: باري أرمنياس (كتاب الأخبار)، والأنالوطيقا بمعنى (القياس) والريطوريقا بمعنى (العلم بالعبارة أي البلاغة) والقاطايغورياس بمعنى (الأسماء المفردة أو المقولات)(1).
هذا من جهة، ومن جهة ثانية ظهر له عدم صفاء المفاهيم المنطقية المنسوبة لصاحبها من خلال تحريف المترجمين والشراح لها عبر الزمان، وهو ما دفعه إلى التأليف فيها مساهمة منه في تقريب المفاهيم المنطقية والتدليل عليها بالشواهد الحسية في لغة العرب(2). وهكذا أصبح من نتائج هذا الغموض تعدد المفهوم واتحاد المصطلح أو اتحاد المفهوم وتعدد المصطلح، بل ظهور طائفة من المصطلحات الفلسفية والمنطقية جديدة كل الجدة لا أصل لها في التفكير الفلسفي الإغريقي، بل ابتدعت كبديل تطرحه الرؤية الإسلامية لمفاهيم الحياة والكون وموقع الإنسان ضمن هذه المعادلة، ثم أشيعت هذه المصطلحات قصد التبشير ببداية التفكير المنظم باللغة، وكان من نتائج ذلك تداخل المنطق بعلم الكلام وأصول الفقه وعلم الأديان والنحو.
__________
(1) ابن حزم، التقريب، ص 79، 202، 36. والألفاظ المحافظة على الإغريقي كثيرة كالهيولي والميتافيزيقا. انظر عبد الأمير الأعم، المصطلح الفلسفي عند العرب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ط2، 1989، ص20.
... وانظر مقدمة المحقق لكتاب التقريب، فقد قدم فيها عرضاً وافياً للترجمة الفلسفية في العصر العباسي وأهم مشكلاتها، ص و ز.
(2) ابن حزم، التقريب، ص08، وقد ذكر ابن حزم أن الفلاسفة ضنوا بالفلسفة والمنطق على العامة، فأغلقوا مفاتيحها بألغاز الكلمات.(1/71)
ومحاولة منه للتخلص من هذه المشكلة، عمد في مواضع متعددة إلى فكرة توليدها وتحديثها من خلال استعمال ألفاظ عربية يكثر شيوعها في اللغة العادية، مثل جوهر وعرض ونوع وعنصر وفاعل ومنفعل وعبارة وصورة(1)، بالإضافة إلى تعريب مصطلحات أجنبية
مثل المدخل مكان إيساغوجي، والأسماء المفردة مكان قطاغورياس، والجامعة (القضية الأولى والثانية زائد النتيجة) مكان السلجسموس.
ولعل العناية بتعريب المصطلح الفلسفي اليوناني ـ عنده ـ لم تكن الهدف الوحيد، بل هي مطية لمعرفة الاختلافات المفهومية بين اللغات، ومن ثم بين الثقافات، وهو دليل يبحث عنه ابن حزم ليرد على كثير من الفلاسفة الذين أقحموا في نظره الآراء الفلسفية في علوم الملة فضلوا وأضلوا. لقد كان ابن حزم أول عالم أندلسي ـ فيما نعلم ـ يحوز قدم السبق في مجال تحديد المصطلحات الفلسفية وتعريبها وتقريبها للأذهان بإعطائها معاني وظيفية تتماشى والبيئة الإسلامية والتفكير العربي، بالإضافة إلى أنه كان أول من ذلل الصعاب لكل الذين اشتغلوا بالفلسفة والمنطق في هذه البلاد، على الرغم من إنكار علماء عصره عليه اشتغاله بها.
ونود التأكيد في هذا المقام أن التفكير المنطقي المنظم كان قد استحوذ على فكر ابن حزم وظهرت آثاره جلية في محاوراته الفقهية والكلامية وجدله اللاهوتي، بل في كل أعماله الفكرية، وكثيراً ما أكد على ضرورة امتلاك ناصية المنطق لخوض المعارك الكلامية والفقهية.
__________
(1) لقد كان للتداخل المعرفي بين المنطق وعلوم الملة أثر في ظهور مصطلحات استعملها المناطقة وشاعت في مؤلفاتهم، مثل الكون والقدم والحدوث والحركة والسكون والوجود والعدم والطفرة والجسم والأيس والليس... الخ.(1/72)
وفي ظل هذه القيمة التي يحتلها المنطق يتعاظم سلطان اللغة في التفكير وتصبح ألفاظها متساوقة مع معاني الفكر في شكل قوانين عامة تسدد الباحث عن معاني النصوص، دونما حاجة إلى التأويل أو البحث عن العلل الفاسدة وإقامة الأقيسة الخاطئة.
إن الفلسفة اللغوية التي ينطلق منها ابن حزم مبنية على البيان ذاته، والبيان ـ عنده ـ محصلة الجمع المنظم بين ألفاظ اللغة كما وردت ومعاني الذهن كما أودعها الخالق بالفطرة وغرسها في عقول الناس(1). وهذا ما يؤكد عمق الصلة بين المنطق واللغة، وإن كنا نقر منصفين أنه لم يمض بعيداً في شرح هذه المسألة الشائكة التي يعتبرها الفلاسفة المحدثون اليوم من أهم موضوعات فلسفة اللغة، وكان علينا أن ننتظر القرون الموالية ليظهر النحو الفلسفي الذي يتداخل فيه المنطق بالنحو لتتعمق العلاقة أكثر(2).
وفي باب أقسام القضايا، يبين ابن حزم قيمة الدرس المنطقي في علاقته بعلوم الشرع، وفي الوقت نفسه، ينتصر لمذهبه الظاهري الذي يرفض القول بمفهوم الموافقة أو المخالفة أو ما يسميه آخرون بدليل الخطاب، يقول: ".. ولم يوجب كل ذلك حكماً على غير من ذكر، لا بموافقة ولا بمخالفة صح ما قلنا من أن القضية إنما تعطيك مفهومها، خاصة وأن ما عداها موقوف على دليله، وبطل قول من قال إن ما دعاها خارج عن حكمها وبطل أيضاً قول من قال: إن عداها داخل في حكمها(3)".
ويطالعنا السفر الثاني من كتاب التقريب(4) بمعلومات هامة حول القضايا الشرطية، وهنا يظهر التمثيل الواضح بأمثلة فقهية بغرض استنباط الأحكام من النصوص استنباطاً دقيقاً مبنياً على قوانين الكلام التي هي قوانين المنطق ذاته(5).
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص03.
(2) - عبد الهادي عبد الرحمن، سلطة النص، قرارات في توظيف النص الديني، ص320.
(3) - ابن حزم، التقريب، ص97، 164.
(4) - ابن حزم، التقريب، ص125 وما بعدها.
(5) - ابن حزم، التقريب، ص124، 135، 137.(1/73)
كما يظهر التفرقة بين الألفاظ الواردة في الشرع، فمنها ما هو كلي اللفظ كلي المعنى ومنها ما هو جزئي اللفظ جزئي المعنى، وقسم ثالث يمثله جزئي اللفظ كلي المعنى، يقع حكمه على سائر عناصر النوع رغم مجيئه في البعض فقط، أما القسم الرابع فكلي اللفظ جزئي المعنى، جاء بلفظ عام وأريد به بعض ما اقتضاه ذلك اللفظ(1)، وقد مر بنا تفصيله.
كان ابن حزم ينشد تأسيس مباحث منطقية تهتم باللغة العربية، وليس هناك شيء أدل على ذلك من انطلاقه من التقسيمات الأرسطية، ثم وقوفه مع الأمثلة العربية ذات الخصوصية البيانية المتماشية مع الواقع الإسلامي(2)، وهو ما يدفع بنا إلى القول بأنه استفاد من أرسطو (Aristote) لكي يضع أورغانونا (Orgqnon) للغة العربية(3).
هذا، وقد سعى في كتاب البرهان إلى تطويع المادة المنطقية لأغراض فقهية، من خلال تحليله لأبنية القضايا، ومن أمثلة ذلك عنايته بموضوع عكس القضايا الذي يعنى بتحويل المحمول إلى موضوع والموضوع إلى محمول(4).
أسس المنطق البياني:
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص150.
(2) - محمد جلوب فرحان، أصالة الأبحاث المنطقية عند ابن حزم، ص122.
(3) - ابن حزم، التقريب، ص85، 86.
(4) - ابن حزم، التقريب، ص111.(1/74)
في هذا السياق، يمكن الحديث عن الأسس الإيمانية كمنطلقات ضرورية للاعتراف بسلطة المنطق كعلم موجه للمعرفة الإسلامية ـ من وجهة نظره ـ إذ يعرض دفاعه في كلمات يقول فيها: "أما بعد: فإن الأول الواحد الخالق لجميع الموجودات دونه يقول في وحيه الذي آتاه نبيه وخليله المقدس { الله خالق كل شيء وهو على شيء وكيل } (الزمر/62) وقال تعالى { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَمَوَاتِ والأَرْضِ } (آل عمران/ 191) مثنياً عليهم، وقال تعالى { الرَّحْمَنُ، خَلَقَ الإنْسَان، عَلَّمَهُ البَيَانْ } (الرحمن/ 01) وقال تعالى { اقرأْ وَرَبُكَ الأَكْرَمْ الَذي عَلَّمَ بِالْقَلَمْ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (العلق/ 3 ـ 5). فهذه الآيات جامعة لوجوه البيان الذي امتن به عز وجل الناطقين من خلقه وفضلهم به على سائر الحيوان(1). ثمة مسألة أخرى مهمّة مرتبطة بتأسيس المنطق البياني على موضوع الأسماء، ويبدو أن هذا الموضوع يمثل بؤرة اهتمام الدرس المنطقي قديماً وحديثاً، وقد أفاد ابن حزم في صياغته لهذه الفكرة من نفس المنطلقات الإيمانية التي أشارت إليها الآية من سورة البقرة { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } (البقرة/ 31)؛ إنّها أسماء الأشياء الموجودة في الأعيان أو الوجود المادي، وهذه الأشياء وفق وجهة النظر الظاهرية مرتبة في وجوه البيان على أربعة مراتب لا خامس لها، ونسوق النص التالي بياناً لذلك.
ـ نماذج لبعض المصطلحات المنطقية والفلسفية [رؤية حزمية]:
ـ الجوهر:
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص03.(1/75)
ورد في المعجم الفلسفي تعريف لهذه اللفظة في اللغة العربية التي تطلق على المعادن الثمينة التي يتسارع الناس لنيلها، كما تطلق على الجوانب الخلقية والنفسية، فيقال فلان طيب الجوهر أي معدنه جيد من جهة آبائه(1). أما اصطلاحاً، فقد اختلف القدماء في تحديده بحسب وجهة نظر كل واحد منهم، فالجوهر يمثل ماهية الفرد والكل الطيب، وهو ما ليس في محل ويحتمل الأحوال والكيفيات عند المتكلمين، وعرفه الأشاعرة بأنه الجزء الذي لا يتجزأ(2). أما ابن حزم، فقد عده أول الرؤوس العشر، لأنه حامل لها وباقيها محمولة فيه، ورسمه أن تقول: إنه القائم بنفسه القابل للمتضادات، فإن النفس قائمة بنفسها، تقبل العلم والجهل، والشجاعة والجبن، ولما كان الجوهر حاملاً لهذه الصفات في ذاته، فإنه من غير المقبول أن تطلق هذه اللفظة على الله عز وجل ويسميه بعضهم جنس الأجناس(3).
ـ النصبة:
يعرف ابن حزم هذا المصطلح بقوله: "النصبة كيفية صحيحة لا شكل فيها، وهي نوع من الأنواع، إلا أنهم خصوا بها الاسم، فمعنى النصبة هيئة المتمكن في المكان كقيامه فيه أو قعوده أو بروكه واضطجاعه وما شبه ذلك..(4). وقريب منه تعريف الغزالي الذي يستعمل مصطلحاً آخر هو الوضع، والذي هو عبارة عن كون الجسم، بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة بالانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان، إن كان في مكان يقله كالقيام والقعود والاضطجاع والانبطاح(5). وجدير بالذكر أن للنصبة تعريفاً آخر هو ما أورده الجاحظ في كتابه البيان والتبيين.
ـ الحد:
__________
(1) - جميل صليبا، المعجم الفلسفي، 01/ 424.
(2) - ابن حزم، التقريب، ص45.
(3) - الخوارزمي، مفاتيح العلوم، ص171.
(4) - ابن حزم، التقريب، ص66.
(5) - الغزالي، معيار العلم في فن المنطق، ص236.(1/76)
يقول: "هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه كقولك الجسم هو كل طويل عريض عميق، فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم لو ارتفعت عنه ارتفعت عنه الجسمية ضرورة، ولم يكن جسماً، فكانت هذه العبارة مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له
مما ليس بجسم"(1). وبذهب الغزالي إلى أنه ما يحصل في النفس من صورة موازية للمحدود مطابقة لجميع فصوله الذاتية(2). والحد في الإنسان أن تقول: إنه جسد قابل للون ذو نفس ناطقة حية ميتة، فالحياة جنس للنفس، وسائر الصفات الأخرى فصول لها من سائر النفوس الحيوانية، أما الرسم فمثل إضافة الضحك أو البكاء له، ولابد من أن تكون في هذا الموقف تسوية بين الحد والمحدود، فلا يمكن أن يحد الإنسان بقولنا مثلاً إنه نفس حية ناطقة ضاحكة طيبة أو كاتبة(3). والواقع أن الطول والعرض والعمق كسمات طبيعية ملزمة للجسدية المفارقة لغيرها(4).
ـ الجنس:
هو اللفظ الجامع لنوعين من المخلوقات فصاعداً، وليس يدل على شخص واحد بعينه كزيد وعمرو، ولا على جماعة مختلفين بأشخاصهم فقط كقولنا الناس أو الإبل، لكن على جماعة تختلف بأشخاصهم وأنواعهم كقولك "الحي" الدال على الناس والملائكة والحيوان.
والجنس يقع في عرف المناطقة على كل ما يقتضيه الحد، وكذلك الحال بالنسبة إلى إطلاق اسم ما على مسمى ما، مادام متوافراً على عناصر الحد، فلفظة الجوهر صالحة لكل قائم بنفسه حامل لغيره ولو توهم أحدنا وجود جوهر لا يقوم بنفسه وغير حامل لغيره لكان مخطئاً خطأً فادحاً(5).
ـ العرض:
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام 01 / 35 و36.
(2) - الغزالي، معيار العلم، ص 197.
(3) - ابن حزم، التقريب، ص 19.
(4) -Arnaldezs, Grammaire et théologie, p.137-138.
(5) - ابن حزم، التقريب، ص 20.(1/77)
ـ يقول ابن حزم: "... أما الخلق، فينقسم قسمين لا ثالث لهما أصلاً: شيء يقوم بنفسه ويحمل غيره، فاتفقا على أن سميناه جوهراً، وشيء لا يقوم بنفسه ولابد أن يحمله غيره على أن سميناه "عرضا". فالجوهر هو جرم الحجر.. والعرض هو طوله وعرضه ولونه وحركته وشكله وسائر صفاته التي هي محمولة في الجرم. فإنك ترى البلحة خضراء، ثم تصير حمراء ثم تصير صفراء، والحمرة غير الخضرة وغير الصفرة، والعين التي ننصرف عليها هذه الألوان واحدة ثم تنتقل فتصير جسماً آخر"(1). وفي اصطلاح اللغويين نجد لهذه الكلمة معنى آخر هو دلالتها على زخرف الحياة الدنيا، مما هو حادث وسريع الزوال، وقد ورد قوله تعالى في ذلك: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ له أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيٌمْ } (الأنفال/ 67).
وذهب الفارابي إلى التفرقة بين اسم العرض وما بالعرض والموجود بالعرض، وقصد بالأول الصفات وهو مقابل للعرض الذي قد يوجد في الأمر حيناً ولا يوجد حيناً، وأما الذي هو بالعرض في شيء أو له أو عنده أو معه أو منسوباً إليه بجهة ما، فلا يكون في ماهيته واحدة منها(2).
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 17.
(2) - زينب عفيفي، فلسفة اللغة عند الفارابي، ص 120.(1/78)
إن القارئ لكتاب التقريب يجد ابن حزم يتجه في بحثه اتجاهاً بعيداً نوعاً ما عن صميم القضايا المنطقية البحتة، إذ يتجه صوب أبنية اللغة بشكل خاص، فكانت استشهاداته اللغوية المختارة خادمة للسان العربي الذي يتنصل من المنطق الإغريقي، وإن كانت جهوده التوفيقية تحاول بناء منطلقات جديدة لمنطق عربي إسلامي، وهذا الهدف هو الذي جعله يسعى بشكل دؤوب إلى تطويع اللغة والقضايا العقدية للتنظيرات المنطقية، بمعنى أنه كان يبذل جهداً مزدوجاً يتمثل في التأسيس للفلسفة الإسلامية من جهة، ودراسة المنطق اليوناني من جهة ثانية(1)، بهدف تأسيس منطق بياني عربي برهاني.
والحق أن كتاب التقريب ذخيرة أندلسية تشمل المعرفة المنطقية، يمكن للباحث أن يسترشد بها لدراسة المصطلح المنطقي المتميز بالاستقلالية، ناهيك عن كونه يعبّر عن روح البحث العلمي المستنير في تلك البلاد، ويفتح المجال للمقارنات العلمية بين أساطين الفكر الإسلامي، بالإضافة إلى الهاجس التعليمي الذي دفع ابن حزم إلى وضع هذا الكتاب.
ـ ملامح فلسفة اللغة عند ابن حزم:
يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1 ـ أهمية دراسة اللغة لفهم القرآن، وارتباط هذه الدراسة بالتمكين من علم المنطق(2).
2 ـ إمكان الوصول إلى المعنى الصحيح باللجوء إلى الدلالة الظاهرة التي تمثل اللغة المعرفة في بساطتها، والعناية في مستوى معين بتحديد الألفاظ الدائرة بين أهل النظر والعامة، تجنب لسوء الفهم.
3 ـ البحث في أصل اللغة من ناحية اجتماعية وتاريخية ودينية ولغوية، وتبني الموقف الأكثر موضوعية في ميزان المعرفة الحديثة.
__________
(1) - محمد جلوب فرحان، أصالة الأبحاث المنطقية عند ابن حزم، ص 120 ـ 121.
(2) - ابن حزم، التقريب، ص 155.(1/79)
4 ـ مقدار ما يجب على طالب المنطق واللغة أن يعلمه، وبعبارة أخرى تحديد الجانب الذي يركز المتعلم عليه أثناء تعلمه هذين الفنين، يقول: "... ينبغي لطالب كل علم أن يبدأ بأصوله التي هي جوامع له ومقدمات، ثم بما لا بد منه من تفسير تلك الجمل، فإذا تمهر في ذلك وأراد الإيغال والإغراق، فليفعل فإنه من تدرب بالوعر زاد في خفة تناوله السهل"(1). وفي السياق ذاته، نعى على المبرد إيراده المسائل الطوال في كتابه "المقتضب" في النحو، مما لا يرد على خاطر أحد ولا يستعمله المتكلمون أو الكتاب عرباً كانوا أم عجماً، كالعفنجج والعجالط والقذعمل.
5 ـ سعى جاهداً إلى شرح غامضه، اعتماداً على لغة العوام، وأمثلة الفقة، محاولة منه للتوفيق بين المنطق والشريعة، بل جعله مدخلاً طبيعياً لعلومه.
6 ـ ساهم في بناء اللغة الفلسفية، التي يعتمدها الباحثون في المنطق وسائر دروب المعرفة النقلية والعقلية على حد سواء.
ألا يمكن القول بعد هذا إن ابن حزم، وهو يحاول ضبط المنطق الذي لا ينفصم عن اللغة، كان يسعى إلى إحداث تغيير جوهري في طريقة التعامل مع النصوص، رداً على المتأولين من أهل الاعتزال والقائلين بالباطن. إن نظرة ـ وإن تكن عاجلة ـ في تلك الشذرات التي تركها في وصف الظاهرة اللغوية من نواح عدة: اجتماعية وبنوية وتاريخية ومنطقية ونفسية تجعلنا نسلم بكونه سعى إلى تجديد التفكير الإسلامي وإعادته إلى أصوله الأولى التي بني عليها، والتي جعلت له من القوة والتماسك ما أهلّه لريادة العالم.
__________
(1) - ابن حزم، التقريب، ص 104(1/80)
والظاهر أن محاولاته هذه كانت امتداداً لتصور شافعي سالف حول الفرق الجوهري القائم بين منطق اللغة العربية ومنطق اليونانية، فقد أورد السيوطي على لسان الشافعي أن الاختلاف الذي حدث بين أبناء الأمة كان سببه ترك اللسان العربي والميل إلى لسان أرسطاليس. هذا، ولم ينزل القرآن ولا أتت السنة إلا على لسان العرب ومذهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال، لا على مصطلح اليونان، فلكل قوم لغة واصطلاح(1).
وربما كان هناك من الوعي بالفرق الجوهري بين المنطقين، فمنطق اليونانية مهتم رأساً بالصورة، في حين تمثل الفكرة والتعبير عنها قطب الرحى في التصور المنطقي العربي. ومن هنا، كانت جهود ابن حزم محاولة لبناء منطق خاص باللغة العربية، على هدي من خصائصها التي كشفت عنها النصوص من خلال تحديد اللغة العلمية التي تمتاز ألفاظها بالتجريد من شوائب التشخيص وآثار الانفعال، على حد تعبير التهانوي(2).
ـ الخلاصة:
للغة علاقة وطيدة في النظرية الحزمية بالمنطق، الذي يبحث في كيفية وقوع الأسماء على مسمياتها(3)، وهذا يعني دراسة التفكير الإنساني انطلاقاً من لغة معينة لها سماتها وطبيعتها في النظرة إلى التجربة الإنسانية تختلف عن غيرها، فاللغة ليست مجرد وسيلة لتبليغ الأفكار، فلا تتحدد هذه الأفكار وتظهر إلا بفضل اللغة، ومن ثمّ وجب القول إن ابن حزم يقف في مصافّ أنصار أسبقية الوجود اللغوي على الوجود الفكري(4). وفي هذا السياق، فإن ابن حزم يرتكز على اللغة معياراً أساساً في تحديد الخطأ والصواب في فهم المعنى.
- - -
__________
(1) - السيوطي، صون الكلام عن فن المنطق والكلام، ص 45.
(2) - التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، المقدمة.
(3) - ابن حزم، التقريب، ص 03.
(4) - Arnalez, Grammaire et théologie, p49.(1/81)
الفصل الثاني
النص بين البنية والتداول
الدلالة اللسانية بين الحقيقة والمجاز
لا يرى ابن حزم أي فرق بين الحق والحقيقة، وهذا ما يوجبه الشرع وتصدقه السنن اللغوية (1). ومعلوم أن الدارسين كانوا قد قسموا الحقيقة، بسبب اختلاف الواضع، إلى أنواع أربعة ؛ أولها الحقيقة اللغوية التي تسمح باستعمال الألفاظ فيما وضعت له من مسمّيات، في حين تمثل الحقيقة الشرعية تحول اللفظة من الدلالة الوضعية إلى معنى شرعي، لا على سبيل المجاز، بل على سبيل الحقيقة، أما الحقيقة العرفية العامة، فما اصطلح عليه الناس من تسمية الأشياء بأسماء معينة، كإطلاق لفظة الدابة على ذوات الأربع، بينما تختص الحقيقة العرفية الخاصة بمواصفات محدودة الاستعمال، متداولة عند فئة معينة، اختصاص الفلاسفة بمصطلحات تخالف الأطباء، والفقهاء، واللغويين(2).
والظاهر أن الأصل في الكلام الحقيقة، وهذه الأخيرة تؤخذ سماعا من أهل اللغة (3). لذا عدها الشافعي أصلا في بناء الأحكام، دون الألفاظ المجازية، وانطلاقا من هذه الرؤية يمتنع العدول عنها إلى المجاز إلا لأغراض معينة، منها الاتساع، والتوكيد، والتشبيه (4). وذهب علماء الأصول إلى أن من علاماتها، تبادر الذهن إلى فهم المعنى، والخلو من القرائن، وقبول القياس عليها، بخلاف المجاز، إذ لا يمكن أن يقال : اسأل البساط، قياسا على قوله تعالى : { وَاسْأَلِ القَرْيَةَ } (يوسف/82)
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 41، و ابن حزم، التقريب، ص 155 .
(2) - السيد أحمد عبد الغفار، التصور اللغوي عند الأصوليين، ص 78 و 104 .
(3) - السرخسي، أصوله، 01 / 172 .
(4) - التفتازاني، التلويح على التوضيح، 01 / 82(1/82)
أما المجاز فمن جاز الموضع جوزا وجاز به وجاوزه جوازا سار فيه وخلفه، والمجتاز السالك والجواز كالسحاب، وفي الكلام يقال تكلم بالمجاز، والمجاز الطريق المقطوعة، ولعلهم تلقوا إلى الكلمة الجائزة، أي المتعدية مكانها الأصلي، أو الكلمة المجوز بها على معنى أنهم جازوا بها مكانها الأصلي، وربما عنوا بقولهم جعلت كذا مجازا إلى حاجتي أي طريقا لها، على أن معنى جاز المعنى سلكه، فإن المجاز طريق إلى تصور معناه (1). ويعرفه ابن حزم بقوله : هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان، وهو الطريق الموصل إلى الأماكن، ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر، ولا يعلم ذلك إلا من دليل من اتفاق أو مشاهدة، وهو في الدين كل ما نقله الله ورسوله (ص) عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر، ومعنى ثان، ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص إنه مجاز، إلا ببرهان يأتي به من نص آخر، أو إجماع متيقن، أو ضرورة حس “ (2) .
صدرابن حزم وبعض الشافعية، وبعض المالكية، في موقفهم الرافض للظاهرة عن كونها مخلة بمبدأ الدلالة اللغوية، فإذا كانت المعجزة تقع موقع التصديق عند ادعاء النبوة، وإذا كان الفعل يدل مجردا على فاعله الموجود، فإن وقع الفعل محكما دل على علم فاعله. فهذه، في خاتمة المطاف، دلالات مباشرة لا يدخلها المجاز الذي لا يفارق الضلال، بل هو أخ للكذب في اعتقادهم، والقرآن منزه عن ذلك، ورأوا في العدول عن الحقيقة إليه نوعا من الفرار منها، وهذا محال على الله سبحانه وتعالى (3).
__________
(1) - الفيروزأبادي، القاموس المحيط، 02 / 170 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 48 .
(3) - نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 124،.(1/83)
وإذا عدنا إلى ابن حزم، فإننا نجده غير ممانع في الأخذ بالمجاز الذي يمثل نقل الاسم من معناه الذي وضع له، إلى آخر بينه وبين الأول علاقة. ويعتبر ذلك من قبيل الألفاظ الظاهرة، التي لا تحتاج إلى تأويل، ويعتمد في إثبات ذلك على النص، أو النقل، مستثنيا الألفاظ الشرعية، التي ذهب بعضهم إلى كونها نقلت من دلالاتها الوضعية، إلى دلالات شرعية مجازية، مؤكدا على أن معانيها حقيقية، كالصلاة، والحج والصوم الخ (1). وفي سياق تشريعه للظاهرة في النصوص القرآنية، يضرب مثالا بقوله تعالى : { الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ }(آل عمران/173)، إذ المراد بذلك بعض الناس، ذلك أن العقل يوجب بالضرورة عدم إمكان حشر الناس في ذلك الزمن، ليخبروا بأنهم قد جمعوا لهم(2)، ومثاله أيضا قوله : { وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِن َالنِّسَاءِ } (النساء/22 ). فإن كلمة أب تدل على الوالد مباشرة، وهنا نقلت إلى معنى أوسع لتشمل الأجداد، وينطبق هذا التحديد أيضا على قوله تعالى: { وَاسْأَلِ القَرْيَةَ التّيِ كُنَّا فِيهَا } (يوسف /82) (3)، إذ المراد أهل القرية. ويجب التأكيد، في هذا المقام، على أن الأخذ بظاهر اللفظ لا يناقض القول بالمجاز ؛ ذلك أن الدلالة المجازية أيضا دلالة ظاهرية، خاصة إذا كانت مشهورة في لغة العرب أو كانت قرينتها واضحة، معلنة عن المجاز كاشفة له(4). أما إخراج اللفظ عن معناه الذي وضع له بغير نص ظاهر أو إجماع، منقول إلى معنى آخر، فهو تحريف للكلام عن مواضعه من غير حجة مسموعة(5). وفي ضوء هذه الرؤية، يحدد ابن حزم مفهوم الحقيقة الشرعية التي تمثل تسميات صحيحة مرتبة، وضعها الشارع لما تعبدنا
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 1/ 28
(2) -ابن حزم، الإحكام، 3 / 136.
(3) - البزدوي، كشف الأسرار، 02 / 61 .
(4) - أبو زهرة، ابن حزم، ص 323 .
(5) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 40 .(1/84)
به من قول أو عمل، وربما يكون قبول ابن حزم بالمجاز في النص القرآني مرده إلى كونه أديبا، مدركا لقيمته في البيان، من حيث الوضوح والتأثير والإقناع .
الصورة والجارحة ؛ لأن الوجه واليد من صفات الكمال في الشاهد ؛ لأن من لا وجه له أو لا يد له يعد ناقصا، وهو تعالى موصوف بصفات الكمال فيوصف بهما أيضا، إلا إثبات الصورة والجارحة مستحيل، وكذا إثبات الكيفية، فتشابه وصفه، فيجب التسليم به على اعتقاد الحقية من غير اشتغال بالتأويل.
إن الموقف العام لابن حزم من ظاهرة المجاز تغذيه فكرة مخالفته للحقيقة، فهو من هذه الناحية مرادف للكذب، أو محط شك وريبة، ذلك أن الحقيقة التي نقابلها بالإذعان والتصديق لا يسعنا إلا أن نقابل قسيمها وهو المجاز بالرفض والتكذيب ؛ ومن أجل ذلك طاف بالمجاز في الدرس البلاغي العربي طائف الكذب، وكان لزاما على من خلص نفسه للذود عن حياض النص القرآني، أن ينكره جملة وتفصيلا، أو يقيد وقوعه بالسماع في القرآن، وفي لغة العرب .
والحق أن القدماء فرقوا، وهم يستشعرون هذه المعضلة التي أثارها المعنيون بدراسة النص القرآني من فقهاء ومفسرين، بين المجاز والكذب باعتبار التأويل المعتمد على القرينة المقيدة، كون الظاهر الذي هو المعنى الحقيقي غير مراد، والمتجوز مؤول لكلامه، وناصب لقرينة تدل على أن الظاهر غير مراد له. أما الكذب، فهو تمويه على الحقيقة، وادعاء لصحة الظاهر، مع كونه غير ثابت في نفس الأمر (1).
__________
(1) - لطفي عبد البديع، فلسفة المجاز، ص 164 .(1/85)
والفارق نفسه يمكن أن ننصبه هنا للتمييز بين الكذب وأنواع التعابير المجازية الأخرى، كالاستعارة، والمجاز المرسل، والمجاز العقلي. وبالرغم من استفاضة البلاغيين في التمييز بين أنواع المجاز والكذب، فإن الشبهة تظل قائمة، فجملة جاء في الأسد يمكن أن تصدر عن كاذب كما يمكن أن تصدر عن متجوز، فالغالب اعتماد المتجوز عن المبالغة، والحق أنها باب من أبواب الكذب، وهنا تتقاطع الظاهرتان. ومن ذلك - كما قرر سلفا - نَفْيُ ابن حزم ومن شايعه من علماء الظاهرية، وقوع المجاز في القرآن والسنة؛ وكان من أدلته إمكان نفيه، وفي هذه الحال، لا يصح إثباته في الآن نفسه تحرزا من التناقض، ثم إنه يستدل بقوله تعالى: { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانْ } " وما أنزل الله بها من سلطان " تشخص طبيعة هذا التجرد، فهو منحرف، بل قل هو سلوك غير قويم ولا يمكن أن يكون إلا كذبا .(1/86)
وفي سياق آخر، يمكن أن يشابه المجاز الخطأ في الأساليب الإنشائية، كأن يطلب من أحد أن يبارز النمر أو الأسد، وهو يريد بارز الفارس الذي يشبه الأسد في قوته، أو النمر في خفته وسرعة انقضاضه، فالمخاطب لو كان قاصدا المعنى الظاهر، لكان مخطئا لا كاذبا لارتباط الكذب أصلا بالحقيقة، وفي هذه الحال أيضا ينتفي الخطأ على النص القرآني والنبوي، وهذا يعني عدم وقوع المجاز فيهما. والأكيد في المواقف المتضاربة من ظاهرة المجاز في اللغة، أن النزاع قد حصل في صحته، على أنه خلاف الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه الكلام (1). وأما ألفاظه، فاستعملت في غير ما وضعت له، بحيث يحتاج إلى تأويله كي لا يوقع في مأزق المبالغة أو الكذب. ولعل هذا المفهوم هو الذي كان طاغياً عند المفكرين كالغزالي، حين عرف المجاز بقوله : هو اسم مشترك، قد يطلق على الباطل الذي لا حقيقة له، وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضعه (2).
__________
(1) -لطفي عبد البديع، ميتافيزيقا اللغة، ص 184 .
(2) - الغزالي، المستصفى، 01 / 125 .(1/87)
وحسماً للمشكلة، يصرح ابن حزم قائلاً : "إذا أوقع الموقف الأول - جلَّ وعزَّ - اسماً على مسمى ما مدة ما أو، في معنى ما، ثم نقل ذلك الاسم إلى معنى آخر في مكان آخر، فلا كذب في ذلك ... وإنما يكون كاذباً من نقل هنا اسماً عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر يلبس به بلا برهان ... وكذلك حال من اصطلحا على أن يسميا شيئاً ما باسم ما مخترع عندهما، أو عن شيء آخر ليتفاهما به لا ليلبسا به، فلا كذب في ذلك “ (1). ويرى في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نذكره الآن، معيناً له على نفي المجاز، إلا بدليل، تحرزاً من الوقوع في التأويل والتلاعب بمواصفات اللغة، تحقيقاً لمآرب وأهواء خفية، يقول (صلى الله عليه وسلم) :” لَيَشْرِبُنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتيِ الخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اِسْمِهَا“ (2) .
الحقيقة الشرعية والعرفية :
تمثل بالحقيقة الشرعية دلالة اللفظ المستفادة من الشرع، دلالة غير ما كانت عليه في الأصل بالوضع اللغوي. ورغم تسليم القدماء بإمكان النقل من الحقيقة العرفية إلى الشرعية، إلا أن خلافاً حصل بين المعتزلة والأشعرية في وقوعه ؛ فالمعتزلة ينفون الدلالة الأولى العرفية بعد النقل إلى الشرعية، فالصوم دال دلالة حقيقية شرعية على تلك العبارة المخصوصة، ومعناه العرفي منسيّ لا يتبادر إلى الذهن عند الاستعمال (3). ويذهب الأشعرية إلى جواز دلالتها بالوجهين في كل حال، فالنقل عندهم جزئي وليس كلياً، فالصوم دال على الإمساك لكن شرط اعتبارات أخرى .
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 1/ 29 .
(2) -ابن حزم، الإحكام، 1 / 30. والحديث رواه ابن ماجة في السنن، باب العقوبات.
(3) - الشوكاني، إرشاد الفحول، ص 22.(1/88)
أما الحقيقة العرفية، وهي الأصل وكان من الأولى أن نقدمها، غير أننا بدأنا بالحقيقة الشرعية لأهميتها بالنسبة إلى البحث الأصولي عامة، والمقصود بالعرفية نقل اللفظة من معناها اللغوي إلى غيره بعرف الاستعمال، بغض النظر عن تفريق العلماء بين العرف العام وقسمه الخاص، ومن صورها تسمية الشيء باسم ما يشابهه، مثل تسمية حكاية كلام المتكلم بأنه كلامه .
سبل النقل اللساني:
يميز ابن حزم بين برهانين دالين على نقل الأسماء عن دلالاتها الأصلية إلى أخرى، بقوله : ” البرهان الدال على النقل ينقسم إلى قسمين : إما طبيعية، وإما الشريعة ؛ فالطبيعية هو ما دل العقل بموجبه على أن اللفظ منقول عن موضوعه إلى أحد وجوه النقل، كقوله تعالى: { الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } (آل عمران / 173 )، فصح بضرورة العقل أن المراد بعضهم، فالناس لم يحشروا على صعيد واحد لينجزوا .. وأما الشريعة، فهي أن يأتي نص على أحد وجوه النقل من القرآن أو السنة أو الإجماع “ (1) .ومن ثمرات النقل اللغوي، في بابي المفهوم والخصوص، يبين ابن حزم انقسام الأسماء المنقولة عن معانيها، إلى أربعة هي(2) :
1 - نقل الاسم عن بعض معناه الذي يقع عليه دون البعض :
يمثل هذا النوع ألفاظ العموم التي استثنى منها شيء ما، فبقى سائرها مخصوصاً من كل ما يقع عليه كقوله تعالى : { الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } } (آل عمران / 173) .
2 - نقل الاسم عن موضوعه في اللغة بالكلية وتعليقه على شيء آخر :
كنقله تعالى لفظ الزكاة من معنى التطهر من القبائح إلى إعطاء مال بصفة محددة أو كقوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمْ } (الدخان /49)
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 3 / 137 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 3 / 135، 136 .(1/89)
3- نقل خبر عن شيء ما زال شيء آخر اكتفاه بفهم المخاطب :
كقوله تعالى : { وَاسْأَلِ القَرْيَةَ التّيِ كُنَّا فِيهَا } (يوسف / 82)، وقوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ إيمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } (المائدة /89 ). فأوقع تعالى الحكم على الحلف، وإنما هو على الحنث، أو إرادة الحنث لا على الحلف .
4 - نقل لفظ عن كونه حقاً موجباً بمعناه، إلى كونه باطلاً محرماً، وهو النسخ :كنقل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بمكة المكرمة.
الدلالة بين الأمر والنهي
لعل أهم فعل كلامي تترتب عنه التكاليف الفعلية والقولية إيجاباً وسلباً، في المنظومة التشريعية، الطلب بنوعيه الأمر والنهي، ذلك أن النص لا يخلو من أن يكون توجيهاً للفعل أو للترك، وترتبط المعرفة الدينية عند الناس بمعرفة الأمر والنهي، والخروج من العهدة لا تتم إلا إذا ميز المكلفون بين ضوابط كل منهما.
الوظيفة التداولية للأمر في الخطاب الديني
هو طلب الفعل على جهة الاستعلاء، ويشمل فعل الأمر، والمضارع المجزوم بلام الأمر، واسم فعل الأمر، والمصدر النائب عن فعل الأمر كقول قطري بن الفجاءة(1) (وافر) :
فَصَبْرًا فِي مَجَالِ المَوْتِ صَبْرًا
فَمَا نَيْلُ الخُلُودِ بِمُسْتَطَاعِ
__________
(1) - أبوبكر الجرجاني، ديوان الحماسة، تحقيق، محمد التونجي، دار الكتاب العربي، ط1،
1995، ص34.(1/90)
ويبين التهانوي اختلاف علماء الأصول في تحديد دلالة الأمر وصيغته بقوله: إن الأصوليين اختلفوا في صيغة الأمر : لماذا وضعت؟ فقال الجمهور: إنها هي حقيقة في الوجوب فقط، وقال أبو هاشم إنها هي حقيقة في الندب فقط، وقيل هي المطلب، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب، وقيل مشتركة بين الوجوب والندب … وقيل مشتركة بين معان ثلاثة الوجوب، والندب، والإباحة“ (1) .وتبين الترسيمة التالية أهم الوظائف التداولية لخطاب الأمر في النصوص وفق مقتضيات السياق والدلالة المجازية :
والملاحظ أن هناك تداخلاً بين هذه الدلالات الوظيفية، ولا يبقى إزاء هذا التداخل من سبيل للفصل بينها إلا القرائن الموضحة، ولعل هذا التداخل هو الذي كان سبباً من أسباب اختلاف علماء التشريع في قراءة النصوص، وتفسيرها (2) .
موقف ابن حزم من وظيفة الأمر النصية :
__________
(1) - التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، 01 / 103 .
(2) - محمد أديب صالح، تفسير النصوص، 02 / 239 .(1/91)
لما كان الأمر عنصراً من عنصر الكلام، إضافة إلى أنواعه الأخرى، كالدعاء، والاستفهام، والخبر، ولما كان الكلام الوارد أمراً يستدعي إرادة لدى الآمر فيه بأن يفعل المأمور ما أمر به، وهو معنى قائم في النفس، كان لا بد أن يكون للأمر عبارة دالة عليه يقوم بها التفاهم (1). ويبدو أن اللغة لها قدرة التصريف في الأساليب، إذ يمكن أن يرد الأمر بلفظ الخبر، وبلفظ الاستفهام، كأن يقول الواحد للآخر : أتفعل أمر كذا، أو ترى ما يحل بك؟ ووجه ذلك أن الخبر عن الشيء إيجاب لما يخبر به عنه، والأمر إيجاب لفعل المأمور به فهذا اشتراك بين صيغة الخبر وصيغة الأمر، ومثاله في القرآن قوله تعالى : { وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (آل عمران/97). ومقصوده ليحج - أيها الناس - منكم من استطاع، أما إذا كان الخبر مجرداً مثل : قام زيد فهو لا يجوز ؛ لأنه تكذيب لهذا الخبر على حد تعبير ابن حزم (2). ومن أمثلة ورود الأمر خبرا قوله تعالى :
{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاِس أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ } (النساء/58 ) (3). كما يمكن أن يرد الطلب في صور أخرى، كالندب بأن يرد لفظ "لو" أو بمدح الفاعل أو الفعل، كقوله تعالى:
{ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُونَ أَنْ يَتَطَهَرُوا } (التوبة/108)، وفي هذا حثٌّ على مثل فعلهم، وإذا ورد اللفظ بـ: عليكم أو بأنه صدقة، فهو ندب أيضاً، ومنه قوله تعالى : { إلاَّ أَنْ تَصَّدَقُوا } (النساء/93).
__________
(1) -ابن حزم، الإحكام، 3/ 09 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 03/ 72، 73 .
(3) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 33 .(1/92)
كما يمكن أن يكون الأمر للإباحة بلفظة "أو" وبعبارتي " لا حرج " و" لا جناح "، مثل قوله تعالى : { إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُوَنَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } (البقرة/282). ومن صوره التخير - أيضاً - وقد ميَّز فيه ابن حزم بين أن يلزم الإنسان بأحد وجهين أو أحد وجوه لا محيص له إلا أن يأتى به، وبين أن يقال للإنسان "إن شئت فعلت كذا وإن شئت فعلت كذا ..." ويتفرع عن هذا النوع أن يقال : إن شئت فعلت كذا وإن شئت لا تفعله(1).
- بنية الأمر:
يقول ابن حزم : ” الأوامر الواجبة ترد على وجهين، أحدهما بلفظ افعل أو افعلوا والثاني بلفظ الخبر، إما جملة فعل وما يقتضيه من فاعل ومفعول، وإما بجملة ابتداء وخبر “(2). ومنه يكون الأمر وفق الأنماط التالية (3) :
جملة إنشائية : الصيغة : افعل /افعلوا، مثل قوله : { وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ( البقرة / ).
جملة خبرية : الصيغة : فعل +فاعل + مفعول به { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِي الفَوَاحِشَ } (الأعراف/33).
: مبتدأ +خبر { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ } (المائدة/89) .
__________
(1) -ابن حزم الإحكام، 3 / 37 و 38 و 76 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 3 / 32 .
(3) -ابن حزم، الإحكام، 3 / 33 .(1/93)
والظاهر أن هناك فرقاً بين الخبر المجرد لفظاً ومعنى، والإخبار الذي يكون لفظة خبراً ومعناه أمراً، ومثاله قوله : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِدًا فَجَزَاؤهُ جَهَنَمُ خَاِلداً فِيهَا } (النساء/92). أما الثاني، فقوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (النساء / 92) (1). وعلى ضوء هذا التمييز يلوح ابن حزم إلى مقصود قوله تعالى : { مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كاَن َآمِنًا }
(آل عمران/93) أن الإخبار هنا ورد بلفظ الخبر، أما المعنى فهو للأمر، وقد صح بالبرهانين النقلي والواقعي حدوث إفساد فيه (2) .
ويزداد موقفه وضوحاً في الباب الثاني عشر، إذ يعرفه من حيث علاقته بالآمر الذي يريد أن يكون ما أمر به شيئاً لازماً، وفي النص يفيد الأمر الوجوب فعلاً أو تحريماً، إلا أن يقوم دليل على صرف شيء منه إلى ندب، أو كراهة، أو إباحة (3).
كما يرد في هذا المقام على من عد ألفاظ الأمر من المشترك، الذي لا يختص بمعنى محدد، بأن الواجب أن يجعل لكل اسم مسمى، سواء أكان عرضاً أم جسماً يختص به، مما يحقق وظيفة التفاهم، يقول : ” ... وليعلم السامع المخاطب به مراد المتكلم المخاطب له، ولو لم يكن ذلك، لما كان تفاهم أبداً، ولبطل خطاب الله تعالى لنا ...ولما صح البيان أبداً إلا لأن تخليط المعاني هو الإشكال نفسه “ (4) .
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 3 / 34 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 3 / 35.
(3) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 02 .
(4) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 03 .(1/94)
وفي سياق آخر يقرر أن من مقتضيات بنية الطبيعة أن لا يحمل الخطاب على وجوه مختلفة، كأن يكون مباحاً وممنوعاً في الآن نفسه، أو مباحاً وواجباً في الوقت نفسه، بل إن الأمر مراد به معنى مختص بلفظه وبنيته، وليس ذلك إلا كون ما خوطب به المأمور (1). كما يرد على دليل الاشتراك اللفظي الذي اتبعه خصومه من المالكية والشافعية الذين توقفوا في دلالة الأمر بدليل النقل الشرعي، أفلا تراهم يفهمون من"أو" و"إن شئت" التخيير في قوله تعالى : { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَليكْفُرْ } (الكهف/29)، و { قُلْ كُونُوا حِجَاَرًة أوْ حَدِيدًا } (الإسراء/50). وقد صحّ بالبرهان أن الآيتين لغير التخيير، فثبت لغة أنّ "أو" و"إن شئت" ليستا للتخير، وأن انصرافهما إلى أحد المعنيين مرده إلى السياق (2)، فيكون لفظ الأمر بذلك موضوعاً للوجوب في اللغة، حتى يصبح دليل بنقله لغير ذلك (3) ويأخذ هذا الموقف بعداً شمولياً في لسان كل قوم، إذ يقول : ” لا يعقل أحد من أهل كل لغة، أي لغة كانت، من لفظة افعل أو اللفظة التي يعبر بها في كل لغة عن معنى : افعل، ولا يفهم منها أحد لا تفعل، ولا يعقل منها أحد من لفظة لا تفعل أو مما يعبر به من معنى لا تفعل لا يفهم منها أحد افعل “(4) .
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 04 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 3/ 06 .
(3) -ابن حزم، الإحكام، 3/ 07 .
(4) - ابن حزم، الإحكام، 3/ 13 .(1/95)
كما يتطرق في هذا السياق لآراء بعض العلماء، ممن حملوا أوامر كثيرة على وجوبها مكتفين بظاهر لفظها بغير قرينة ولا دليل، حتى قادهم ذلك إلى إيجاب فرائض من غير أوامر (1). ومن أمثلة ذلك في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِْن يَوْمِ الُجُمَعِة فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونْ } (الجمعة / 09 )، إذ فسره المالكية بأن لفظة "ذروا " لا تقع إلا للفرض، ومنه أبطلوا البيع ولم يقنعوا بذلك حتى أبطلوا من غير نص النكاح والإجارة.
ويبدو أن ما ذهب إليه هؤلاء - من وجهة نظر حزمية - مغالطة لا يمكن السكوت عليها، إذ أن لفظة "ذر" في قوله تعالى : { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونْ } ( الأنعام /91) لا توجب ترك الكفار على حال دون وعظ أو دعاء أو قتل ... وقد قال : { وَكُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } (البقرة/183 )، و { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ } (البقرة /178).
ويدحض ابن حزم، في سياق إثبات صيغة للعموم، زعم من نفى اقتضاء العموم لصيغة معينة بحجة دخول التأكيد عليه، ولو كان بعبارة أخرى، العموم مستقلاً بصيغة، لاكتفى النص بذلك دون الاستعانة بالتأكيد. والحقيقة أن هذا الأسلوب متعارف عليه في لغة العرب، رام الله عز وجل إيراده في النص القرآني، لعلمه بأناس كثيرين يرومون إبطال الحقائق، على أن ذكر الخبر مرة واحدة لا يبطل حجيته أمام ما ذكر آلاف المرات (2).
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام 3 / 39 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 105 .(1/96)
وأما دخول الاستثناء على العموم، فمن موجبات اللغة العربية، ويقتضي ذلك الخروج بالدلالة من عمومها إلى خصوصها، يقول : لأن العموم صيغة ورود اللفظ الجامع لأشياء ركب ذلك اللفظ عليها، فإذا جاء الاستثناء، كان ذلك اللفظ مع الاستثناء معاً صيغة للخصوص “(1). وبعبارة بسيطة نمثل الدلالة الخاصة بـ :
صفة العموم ... ... استثناء ... ... ... تخصيص
كما يدخل الاستفهام على العموم، وذهب بعض العلماء إلى أن اللفظ لا يقتضي العموم إذا حسن فيه الاستفهام، وقد عكس ابن حزم هذه المقولة، مبيناً أنه لو كان اللفظ يفهم منه الخصوص لما كان للاستفهام معنى، ومثاله قول القائل : أتاني اليوم زيد، وردّ السامع : أجاءك زيد نفسه؟ إما على سبيل الإكبار وإما على سبيل السرور .. (2).
وتتضح الصورة أكثر بعد إيرادنا لنص ابن حزم، الذي يبين حقيقة مذهبه في العموم، إذ يقول : ” إنما قلنا بالعموم استدلالاً بضرورة العقل الحاكم، بأن اللغة إنما هي أن رتبت لكل معنى في العالم عبارة مبينة عنه، موجبة للتفاهم بين المخاطب والمخاطب، ولأننا وجدنا الأجناس العامة للأنواع الكثيرة، ووجدنا الأنواع العامة للأشخاص الكثيرة يخبر عنها بأخبار، وترد فيها الشرائع لوازم، فلا بد ضرورة من لفظ يخبر به عن الجنس كله .. ولا بد أيضاً من لفظ يخبر به عن بعض ما تحت الجنس، ليفهم المخاطب بذلك ما يريد “(3).
وأما غيره، فيبدو أنهم تعلقوا بأن وجدوا ألفاظاً خارجة عن موضوعها في اللغة، إما بالمجاز بالاشتراك في المعنى، فراموا إبطال وقوع الأسماء على مسمياتها من جهة، وعمومها لكل ما علق عليها من جهة ثانية، وعدوا بتوقفهم هذا بمنزلة من قال: لما وجدت في الكلام كذباً كثيراً، فأنا أحمله على الكذب كله، أو أن أقف فلا أصدق بجميعه (4).
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 107 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 107 .
(3) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 109 .
(4) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 125 .(1/97)
الوظيفة التداولية لتكرار الأمر:
ذهب ابن حزم إلى أن الأمر يطلق الطلب من غير اشعار بالوحدة أو الكثرة، فهو لا يقتضي المرة، كما لا يقتضي التكرار، وقد وافق بذلك رأي المعتزلة والحسن البصري والآمدي والحنفيين والرازي والزيدية والإباضية. والحقيقة أن هذا الموقف يسير في ضوء مفهوم اللغة العربية، إذ أن حمل الأمر على التكرار مثلا تفسير للغة بما يجلب العنت، يقول : ” ... والقول بالتكرار باطل، لأنه تكليف ما لا يطاق أو القول بلا برهان، وكلاهما باطل، لأننا نسألهم عن تكرار الأوامر المختلفة، وبعضها يقطع عن فعل بعض، فلا بد ضرورة من ترك جميعها إلا واحداً، فأيها هو الواجب “(1). والخلاصة، أن الأمر دال على الطلب المطلق، ويقع التكليف به مرة واحدة، إلا إذا قام دليل نصي على إرادة التكرار حينها فقط يمكن اعتماد العمل بتكرار الأوامر قولاً وفعلاً. ويذهب الغزالي إلى كون المرة الواحدة معلومة، أما حصول براءة الذمة بمجردها فمختلف فيه، إذ إن اللفظ بوضعه ليس فيه دلالة على نفي الزيادة ولا على إثباتها، وخلوه من التعرض لكمية المأمور به، لكن يحتمل الإتمام ببيان الكمية(2) ومثاله في القرآن قوله تعالى : { وِللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } (آل عمران /87)، فلا يتكرر وجوب الفعل بتكرر الاستطاعة(3) .
الوظيفة التداولية للنهي
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 75 .
(2) - الغزالي، المستصفى، 01 / 02.
(3) - الغزالي، المستصفى، 01 / 08 .(1/98)
هو القول الدال على طلب ترك الفعل من فاعله، والدوام على الترك من تاركه، وصيغته لا تفعل وما يجري مجراها كإياك، أما اكفف ودع ونحوهما فالشكل أمر والمحتوى نهي، والنهي ضرب الأمر بداهة(1). وهو أيضا القول الدال على طلب المنع على جهة الاستعلاء، وصيغته لا تفعل، وذهب الجمهور إلى أن النهي المطلق المجرد من القرائن يدل على ضرورة التحريم على وجه الحقيقة (2)، وقد يصرف النهي بصيغته المعهودة إلى الدلالة على معان أخر، ويبدو أن مناط الخلاف يكمن في طبيعة هذه الدلالات الواقعة : هل هي من جهة الحقيقة، تقع بمجاورة الدلالة الأولى على سبيل البدلية، أم من جهة المجاز ترد بورود قرائن معينة يفصح عنها السياق؟ وباستقراء شواهد اللغة والشرع، يتبين صراحة أن دلالة النهي على التحريم حقيقة قائمة على أساسين متينين هما: اللغة والشرع نفسه (3).
ويبدو أن نقاط اختلاف العلماء في مسائل الأمر تكاد تعيد نفسها في باب النهي، ذلك أنهما مشتركان في مبدأ الطلب بالكف أو الإتيان، لذا فالنهي أيضا طلب الكف باستمرار، وعلى الفور استغراقاً للزمن كله، إلا أن يقوم دليل على جواز التراخي في الامتناع عن الفعل. ولما كان الامتناع عن النهي الذي يتضمنه النص مستتبعاً بوعيد، يفند ابن حزم رأي من جوز أن يرد الوعيد على سبيل التهديد فقط، مستهزئاً من مقالتهم، بقوله: ”.. وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد، لا على معنى الحقيقة، فقد اضمحلت الشريعة بين يديه، ولعل وعيد الكفار أيضا كذلك (4).
الوظائف التداولية للأمر والنهي وآليات القراءة
__________
(1) - محمد فؤاد مغنية، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، ص 125 .
(2) - محمد أديب صالح، تفسير النصوص، 01 / 379 و 381 .
(3) - ابن حزم، الإحكام، 03/17، 18.
(4) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 31 .(1/99)
يقرر ابن حزم في هذا الصدد أن الأوامر والنواهي في النص الديني تؤخذ على ظاهرها، والمعلوم أن ظاهر الأمر الوجوب الملزم بطلب الفعل في المأمورات، كما أن ظاهر النهي طلب الكف عن الفعل في المنهيات، ثم إن هذا الطلب بالفعل أو الكف يقتضي البدار والفور في الامتثال للحكم، كما أن أي محاولة لتأويل الأمر، والخروج به عن مبدأ الالتزام إلى أغراض أخرى، لا بد أن يدعم بنص آخر يجيز هذا الخروج، فأن يصرف الأمر إلى الندب وعدم الفورية، لابد أن يستند إلى دليل نصي ظاهر لا يقبل التأويل(1). وكذلك يقال في سائر الأغراض الأخرى التي يمكن أن يتمخض لها الأمر، كالإباحة أو التخير، أو الكراهية ... فمن ذلك مثلاً، تفسيره لقوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ } (الجمعة / 10) أن الانتشار إباحة بعد الفراغ من الصلاة اعتماداً على نص آخر يمثل قوله (ص) : الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى لله فيه ما لم يحدث، اللهم ارحمه“ (2) .
__________
(1) - أبو زهرة، ابن حزم، ص 380 / 134 و 135 .
(2) - رواه مالك في الموطأ،دار إحياء التراث العربي،تحق محمد فؤاد عبد الباقي،مصر،د ت،
01/161(1/100)
ولعل الدليل الذي ساقه ابن حزم في سياق رده على مخالفيه ممن ذهب إلى كون الأمر غير مفيد للوجوب بالإلزام المطلق، يوضح ما ذهبنا إليه سلفاً ؛ فبعد أن ساق قوله تعالى : { اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرِْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ } (التوبة /84)، وما ارتبط بهذه الآية من موقف نبوي بالصلاة على المنافقين والاستغفار لهم بعد السبعين، ثم نزول قوله تعالى: { وَلاَ تُصَلِ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } يقول : ”... في هذا لحديث بيان كاف في حمل كل شيء على ظاهره، فحمل رسول الله اللفظ الوارد بالاستغفار على التخيير، فلما جاء النهي المجرد حمله على الوجوب، وصح بهذا أن لفظ الأمر والنهي غير لفظ التخيير والندب، ورسول الله (ص) أعلم الناس بلغة العرب التي بها خاطبه ربه تعالى" (1) .
ويمكن في هذا الإطار أن نشير إلى المنهج الذي يسلكه ابن حزم في الأخذ بدلالتي الأمر والنهي، فهو لا يكتفي بظاهر الصيغة، بل يأخذ بظاهر اللفظ الذي صيغ على هذه الصيغة، ولا يفسر تبعاً لذلك الألفاظ إلا بالدلالات اللغوية عليها (2).
العلاقة الدلالية بين الأمر والنهي :
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 18. وقد فسر عمر بن الخطاب (ض) هذه الآية التفسير ذاته الذي قدمه ابن حزم لها، انظر أبو زهرة، ابن حزم، ص 383 .
(2) - أبو زهرة، ابن حزم، ص 386. ويذكر ابن حزم ردا على بكر البشري الذي نسب ضلال الخوارج لأتباعهم الظاهر أنهم ضلوا لما أخذوا ببعض الآيات وتركوا بعضها الآخر الذي هو بيان لما أخذوا به، ولو جعلوه كله لازما وحكما واحدا متبعا كله لاهتدوا، ابن حزم، الإحكام، 03 / 40 .(1/101)
في الرؤية الحزمية، يعد النهي مطابقاً في معناه للأمر، إذ إن النهي في الحقيقة ما هو إلا أمر بالترك، والترك نقيض للفعل لا ريب في ذلك، فإذا طلب من شخص عدم الحراك فإن هذا الطلب الآمر يقتضي إلزامه السكون ضرورة، و تفرقته بين نوعين من الضد هما :
ا- الضد الأعم : وهو المضاد في الجنس، كمثال ما ذكرناه آنفاً ويسميه المقام آخر بالمنافي
ب- الضد الأخص: وهو المضاد في النوع، فإذا قلنا لشخص : لا تقم، فإننا في الحقيقة نأمره بعدم القيام، وله أن يجلس أو يركع أو يضطجع... وإذا طلب من آخر ألا يلبس السواد، فليس معناه أن يلبس البياض، فبين هذين اللونين مراتب لونية جمة، إلا أن يصل في ذلك إلى تحديد الأمر، فهو : ” نهي من فعل كل مخالف الفعل المأمور، وعن كل ضد له خاص أو عام “ (1). فإذا أمر شخص بالقيام، فقد نهي عن القعود والاضطجاع وغيرهما ... ذلك أن الاتيان بأفعال كثيرة متنافية فيما بينها محال عقلاً.
ويختلف النهي في بنيته عن الأمر في صور كثيرة أبرزها :
ا- ورود النهي بلفظ " أو "، فيفيد بذلك الجميع مثل قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُوراً } (الإنسان /24 ). فالنهي عن الطاعة للنوعين معا. ومنه أيضا قولنا : لا تضرب علياً أو زيداً أو عمراً .
ب- ورود الأمر بلفظ " أو " يفيد التخير في أحد الأقسام : كل خبزاً أو تمراً أو لحماً (2)
تداولية الاستثناء
يحدد ابن حزم الاستثناء على أنه تخصيص بعض الشيء من جملته، أو قل هو إخراج شيء ما مما أدخلت فيه شيئاً آخر (3). ويكون بألفاظ مخصوصة هي حاشا وخلا وإلا رما لم يكن وما عدا، ووظيفة هذه الألفاظ في التركيب الربط بين أركان الاستثناء المتمثلة في المستثنى والمستثنى منه، على سبيل إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه (4).
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 03 / 68.
(2) -ابن حزم، الإحكام، 03 / 69.
(3) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 10 .
(4) - الآمدي، الإحكام، 2 / 129.(1/102)
ومن صور اختلاف العلماء في باب الاستثناء، الاختلاف في بعض أدواته، فقد ذهب ابن مضاء مذهب الكوفيين في عده لا سيما من أدواته، يقول السيوطي : عد الكوفيون جماعة من البصريين كالأخفش وأبي تمام والفارسي والنحاس وابن مضاء من أدوات الاستثناء لا سيما، ووجهه قام القوم لا سيما زيد، فقد خالفهم زيد في أنه أولى بالقيام منهم، فهو مخالفهم في الحكم الذي ثبت لهم بطريقة الأولوية، قال الخضراوي : لما كان ما بعدها بعضاً مما قبلها وخارجاً عنه بمعنى الزيادة، كان استثناء من الأول؛ لأنه خرج عنه بوجه لم يكن له“ (1) ويقرر القرافي بأن الاستثناء يدل على حكم ما قبل إلا بمنطوقه، وعلى ما بعدها بمفهومه أي بمقتضى العقل الدال على أن إخراج إلا لما بعدها عما قبلها، يلزمه دخوله فيما هو نقيض ما حكم به عليه، فيتعين الدخول في النفي إن كان الخروج من الإثبات المدلول عليه بوضع اللغة، أو الدخول في الإثبات إن كان الخروج من النفي المدلول عليه بوضع اللغة. فالدلالة على حكم ما بعد إلا من باب دلالة اللفظ على لازم مسماه، لا من باب دلالة اللفظ على مسماه (2)، وثمة مسألة مفادها إمكان ارتداد الاستثناء إلى بعض المعطوفات دون الأخرى، أو عودته عليها جميعاً، والمعول في إثبات الحكم الأول على النص المبين، فإن لم يرد نص فليس رد الاستثناء على بعضها أولى من رده على سائرها (3). كما أن كل الألفاظ المعطوفة جمعت عن طريق العطف في حكم اللفظة الواحدة، ولا معنى لعلاقة القرب بين المستثنى وأدنى مذكور من المعطوفات (4)، ومثاله قوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَقُوا } (النساء / 92 ). فالاستثناء مردود إلى الأهل، ولولا ذاك لسقطت به
__________
(1) - السيوطي، همع الهوامع، 01 / 234 .
(2) - القرافي، الاستغناء، ص 568 .
(3) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 21 .
(4) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 22 و 23 .(1/103)
الرقبة، ولكن لاحق للأهل في الرقبة ولا صدقة لهم فيها، لقوله تعالى : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } . كما ذهب إلى ذلك الغزالي ؛ إلىأن الواو ظاهرة في العطف، وذلك يوجب نوعاً من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه (1). والظاهر أن الاختلاف منصب على وجهين ؛ يمثل أحدهما ما يتعين فيه مرجع الاستثناء، وثانيهما ما يحتمل عود الاستثناء فيه إلى كل الجمل أو بعضها .
الوجه الأول :
أ - رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة وحدها، لوجود قرينة مثل قوله تعالى: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَقُوا } (النساء / 92) فجملة الاستثناء " إلا أن يصدقوا " راجعة إلى قوله "ودية مسلمة إلى أهله "، ذلك أن كفارة العتق حق الله وكفارة الدية حق الولي، ولا يجوز للولي أن يتنازل إلا في حقه (2). وقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهَا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبينةٍ }
(النساء/19)، فقوله " إلا أن يأتين بفاحشة " يعود على الجملة الأخيرة وحدها وهي " ولا تعضلوهن "، والقرينة إتيان الفاحشة في وقت من الأوقات(3).
__________
(1) - الغزالي، المستصفى، 2 / 178 .
(2) - ابن عربي، أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر، القاهرة، ط 1، د.ت، ص 276 .
(3) -أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، 02 / 202 .(1/104)
ب - رجوع الاستثناء إلى الجملة الأولى وحدها لوجود قرينة، كقوله تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَ طاَلُوتُ بِالُجُنوِد قَالَ : إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيُكُمْ بِنَهْرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اِغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ } (البقرة/249)، إذ تعود جملة الاستثناء على الجملة الأولى للمناسبة المعنوية بينهما (1).
الوجه الثاني :
وهو ما يتعين وقوع الاستثناء فيه إلى الجميع - كما سبق - ومن قبيله قوله تعالى : { ِإنَّمَا جَزَاءُ الذينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ويسعون فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَّتَلُوا أَوْ يُصْلَبُوا أوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيِهْم وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } (المائدة / 33و34 ). فجملة الاستثناء متعلقة بكل الجمل المذكورة قبلها، ويكاد يجمع علماء الأصول على ذلك (2).
وخلاصة القول إن نخبة علماء الأصول، وفي مقدمتهم ابن حزم، قد بذلوا الجهد في دراسة ظاهرة الاستثناء في علاقتها بالدلالة، التي تمثل الحكم الشرعي في النص، وكانت دراستهم له باعتباره ظاهرة لغوية أولا، ودليلاً لتخصيص العام ثانياً. وهذا جد مهم بالنسبة إلى المتصدي للفتوى واستنباط الأحكام من أدلتها، وقد لخص أرنلديز ذلك بقوله : إنّ منطق الاستثناء يجب أن يخترق كل جزئيات اللغة ودقائقها، وليس هذا فحسب، بل عليه أن يتعدى إلى الجملة، بغية تحديد ما تحمله من معنى دقيق يمثل الحكم الشرعي " (3) .
- - -
__________
(1) - القرافي، الاستغناء، ص 672 وما بعدها ..
(2) - محمود توفيق، دلالة الألفاظ، ص 211 .
(3) Arnaldez , grammaire et théologie chez Ibn Hazm , p. 155 2-(1/105)
الفصل الثالث
البيان عند ابن حزم بين التأصيل والإجراء
لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن النص الديني كان - ولا زال - المحرك الأساس لدواليب الحضارة عند المسلمين، فقد كانت هذه الأخيرة نصية بالدرجة الأولى، تعنى بالبيان وكيفية تبليغه، بل والتأثير من خلاله في الآخرين، فتتغير حالهم من وضعية إلى أخرى.
وقد يكون من اللازم ونحن نخوض غمار تجربة نصية، رائدها مفكر من كبار مفكري الحضارة الإسلامية، أن نقف مع آرائه المتميزة في كيفية فهم الخطاب الديني، وتقويمه في حياة المسلم، بآليات تفسيرية تتماشى وروح النظرية الظاهرية، التي تؤكد مبدأ وحدة النصوص مع الاعتماد على منطق البرهان والمسموع من اللغة .
وسيكون الاهتمام في هذا السياق مُنصباً على إبراز مفهوم البيان وملامح النظرية البيانية عند ابن حزم، وعلاقتها بالإعجاز القرآني، بوصفه مدخلاً للحديث عن القرآن كنص متسق يحقق مبدأ الإنسجام، له خصائصه المتميزة التي تحافظ له على قدسيته، كما تثير هذه المقاربة مجموعة من التساؤلات حول النبوة كظاهرة مصاحبة للإعجاز القرآني بإبراز مواقف المؤيدين للظاهرة والمخالفين لها وموقف ابن حزم من ذلك الجدل كله، بالإضافة إلى عرض موقفه الطريف القائل بالصرفة كوجه للإعجاز القرآني .
- مفهوم البيان ومراتبه :
يمثل باب البيان موضوعاً بالغ الأهمية في تفسير النصوص،، من حيث كونه مجالاً شاسعاً لدراسة معاني الألفاظ، ودلالات التراكيب في النصوص. ولهذا اغتنت كتابات الأصوليين بالبحث في ماهيته وأركانه وأقسامه وحدوده اللغوية والبرهانية بتأثير من علم الكلام وعلوم النقل الإسلامية، وسنحاول بدء التعريف به عند ابن حزم في ضوء مفهومه العام في المقاربة الأصولية.(1/106)
يقصد بالبيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب، وأصله الكشف والظهور، فهو اسم لكل ما كشف عن معنى الكلام وأظهره (1)، وعرفه التهانوي بقوله : إن البيان لغة الفصاحة، يقال : فلان ذو بيان أي فصيح، وهذا أبين من فلان أي أفصح وأوضح كلاماً ... والبيان أيضاً الكشف والتوضيح ... وهو مصدر بان، وهو لازم ومعناه الظهور ...وقد يكون متعدياً بمعنى الإظهار ... “ (2) .
وتختلف تعريفات العلماء للبيان بحسب منهج كل طائفة منهم ؛ فعلماء البلاغة وفي مقدمتهم الجاحظ، يجعلونه اسماً جامعاً لكل شيء كشف قناع المعنى، وهتك الحجب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقة. وهو على مراتب هي : اللفظ، والخط، والعقد والإشارة، والنصبة (3). وقريب منه ذهب الرماني الذي ميز بين نوعين من الكلام، يمثل الأول ما تتمايز به الأشياء فيما بينها وهو البيان، ويمثل الثاني ما لا تظهر به الفوارق بين الأشياء، وليس هذا بياناً (4).
__________
(1) - ابن منظور، لسان العرب، مادة (بين).
(2) - التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، 01 / 126 .
(3) - الجاحظ، البيان والتبيين، 01 / 75 و 76 .
(4) - الرماني، النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص 98 .(1/107)
وفي ضوء هذا المفهوم، تأسس في الثقافة الإسلامية علم البيان، الذي به يعرف إيراد المعنى الواحد بطرائق مختلفة، في وضوح الدلالة عليه، أشهرها المجاز، والتشبيه، والاستعارة، والكناية (1) أما عند الأصوليين، فهو عبارة عن الإظهار وقال تعالى: { عَلَّمَهُ البَيَانْ } (الرحمن / 04 )، وقال : { هَذَا بَيَانٌ لِلْناَّسِ } (آل عمران /138 ). والمراد بهذا كله الإظهار (2). وقوله تعالى :
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِنُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونْ } (النحل/
44). فلو كان البيان بمعنى الظهور لما كان محمد (صلى الله عليه وسلم) مؤدياً لواجب الرسالة في حق كل الناس (3). والبيان عند علماء الأصول في الأصل، هو مادة الدليل الموصل إلى الحكم الشرعي ؛ وقد نهجوا في تحديده منهجاً عقلياً دقيقاً، مستهدفين من وراء ذلك تحديد الدلالة النصية، ولعل اجتهادهم في تحديد أنواعه أبرز دليل على عنايتهم به، وسنكتفي بذكر هذه الأنواع دون الإيغال في تحليلها حتى لا نخرج عن الخط الذي رسمناه لأنفسنا بعدم إغفال النقطة الجوهرية في الموضوع، وهي التركيز على محل هذه الآراء في النظرية الحزمية صلب الدراسة .
أنواع البيان
بيان التقرير
بيان التفسير
بيان التغير
بيان الضرورة
بيان التبديل (4)
__________
(1) - السكاكي، مفتاح العلوم، ص 176 .
(2) - السبكي، الإبهاج، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2 / 173،
(3) - السرخسي، أصوله، 02 / 27 .
(4) - الشريف الجرجاني، التعريفات، ص 48 .(1/108)
وهناك تقسيمات أخرى تظهر التمييز بين البيان بالقول (1)، والبيان بالتقرير (2)، والبيان بالفعل (3). كما ذكروا البيان بالإشارة، وقدموها على العبارة إن اختلفتا (4) .
كما ذكروا في هذا المقام أركاناً للبيان يقوم عليها، وهي المبين وهو الله عز وجل، أو الرسول (ص)، والبيان هو الدليل الموصل إلى معرفة الحكم، أما اللفظ الذي تتضح دلالته بحيث يعرف المراد منه، فهو المبين، في حين يمثل المبين إليه المتلقي أو المكلف بالأحكام الشرعية (5).
إن القرآن مصدر المصادر كلها في نظرية الفقه والاستنباط، وما من أصل شرعي إلا كان اشتقاقه من القرآن، الذي ثبتت به الرسالة المحمدية، باعتباره المعجزة الإلهية المؤيدة للنبوة، كما أن الأصول الأخرى المدعمة للقرآن ترجع في طبيعتها إلى النص، ثم المعنى المأخوذ منه، يقول ابن حزم : لا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أبداً إلا من هذه الوجوه الأربعة (أي السنة، والإجماع، والدليل، والقرآن أولها )، وكلها راجعة إلى النص والنص معلوم وجوبه، ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرنا “(6). والقرآن كلام الله بيَّن لا غموض فيه سواء أكان البيان في ذاته أم بتبيين من السنة لمجمله، وليس في القرآن متشابه لم يبين إلا الحروف التي تبتدأ بها السور وأقسام أقسم بها الله تعالى مثل : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } (الشمس /01 )، وقوله : { وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } (المرسلات/ 01). أما ما عدا ذلك، فبين لمن طلبه (7) .
__________
(1) - الشوكاني، إرشاد الفحول، ص 291 .
(2) - الشاطبي، الموافقات، تحق عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، د. ت، 04 / 251 .
(3) - الجصاص، الفصول في الأصول، 2 / 33 .
(4) - السيوطي، الأشباه والنظائر النحوية، ص 339 و 340 .
(5) - الغزالي، المستصفى، 01 / 365 .
(6) - ابن حزم، الإحكام، 1 / 69 .
(7) - أبو زهرة، ابن حزم، ص 212. وانظر :Arnaldez , grammaire et théologie , p 131 .(1/109)
- أنواع البيان :
أقسام البيان
بيان بذات النص ... ... مجمل بيّنه القرآن نفسه ... ... قسم بيّنته السنة
أما القسم الأول، فتمثله بعض القصص القرآنية الظاهرة حوادثها، من غير أدنى غموض أو إجمال، وكذا مواريث أصناف معينة، كالأولاد، والزوجين، بالاضافة إلى آيات كثيرات في الحدود، بل إن القرآن يمكن أن يبين السنة ويفسرها في نظر ابن حزم، ولعل المثال الذي ضربه في تفسير القرآن لمعنى أهل البيت دليل على ذلك، فهؤلاء هن أزواج الرسول لا غير، أما آل البيت فهم أقاربه من بني هاشم، فتكون وصية الرسول (ص) لأزواجه، لا لبني عمومته وأقاربه من آل هاشم، وربما ترتبت على هذه النظرة أحكام كثيرة ومواقف سياسية، حين الأخذ بها، خاصة ما يتعلق بالإمامة وشروطها، واختلاف الأوائل بشأنها (1).
ويمكن أن ترد الآيات مجملات في مواضع، وبينة في مواضع أخرى، فتقوم الثانية ببيانها وتفسيرها، ومثال ذلك ورود الطلاق مجملاً في حكمة في قوله تعالى: { لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَنْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } (البقرة/237)، ثم ورود تفسير ذلك في سورتي الطلاق والبقرة .
أما ما يرد من القرآن مجملاً وبينته السنة، فمثل الزكاة بورودها مجملة، ثم بينته السنة وكذا صفات الزواج، والحج، وكثير من الأحكام المطلقة في القرآن، والمقيدة بنص السنة والعامة فيه، والمخصصة بها (2) .
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 83 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 80 .(1/110)
ويلحق بأنواع البيان - عند ابن حزم - الاستثناء، والتوكيد، والتخصيص. فالاستثناء عنده بيان وتخصيص في الآن معاً، ذلك أنه تكلم بالباقي بعد أداة الاستثناء، كما يتضمن في ذاته نفياً أو إثباتاً لما بعدها أو قبلها (الأداة)، أما إذا تكلم بالباقي بعد الثنية كما يقول علماء اللغة، فهو ليس من التخصيص، لأن التخصيص معناه أن يكون اللفظ في ذاته عاماً ثم يقترن بدليل مستقل يخصصه(1) . كما يعد التخصيص بياناً، لأن معناه يقتضي بيان العام الذي لا يراد به ما يدل عليه اللفظ، بل يراد به أول الأمر الخاص فلا يكون التخصيص، من هذا المنطلق، دخول الأفراد في مقتضى العموم، ثم خروجهم بالتخصيص، بل المقصود أن اللفظ العام أريد به بعض أفراده من أول الأمر، كما يقرر ابن حزم أن البيان يكون بالتأكيد - أيضاً - فيفيد ثبوت الحكم العام، ومنه قوله تعالى : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّكَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } (الأعراف/ 142 )، بعد أن ذكر السياق القرآني قوله تعالى : ... ثلاثين ليلة وعشرا (2). وعليه، يصح أن يكون البيان توكيداً يزيل كل شبهة احتمال .
ويرتبط ببيان الاستثناء السالف الذكر الكناية، بوساطة الضمير، الذي يرجع إلى أقرب مذكور، لكونه مبدلاً عن مخبر عنه أو مأمور به، كقولنا : أتاني زيد وعمر وخالد، فأكرمته، فالضمير المتصل بالفعل عائد إلى أقرب مذكور، وهو خالد، وذلك على سبيل الحقيقة، وقد يحدث في اللغة نقل اللفظ عن موضوعه، فيعود الضمير إلى أبعد مذكور، كقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ للسَّائِلِينْ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلَى أَبِينَا مِنَّا } (يوسف / 7 و8 ). فالضمير في قالوا للأخوة بقرينة قولهم أبينا، مع أن السائلين أقرب إلى الضمير (3).
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 01/. 80.
(2) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 89 .
(3) - ابن حزم، الإحكام 1/ 26 و 01 / 46،(1/111)
أما الكناية بالإشارة، فإن الإشارة تعود على أبعد مذكور، إذا كانت ألفاظ مخصوصة يحددها النحاة بذلك، وتلك، وهو، أولئك، وهم، وهي، وهما. أما إذا كانت بألفاظ كهذا وهذه، فإنها (الإشارة) راجعة إلى أقرب مذكور. وثمرة هذا الوصف النحوي هو تفسير ابن حزم للفظة القرء في الآية بالطهر، على الرغم من تسليمه بتوارد معنى آخر هو الحيض في اللغة على اللفظة، ويظهر في هذا السياق حديث الرسول (ص) : مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء “(1)
- ظاهرة النبوة في النص الحزمي
__________
(1) - مسلم، الصحيح، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، دت،كتاب الطلاق.(1/112)
يعرف العقاد ظاهرة النبوة بأنها ظاهرة نفسية وروحية، تطورت عبر التاريخ الإنساني، وارتبطت في القديم بالنبوءة والتطلع لمعرفة الغيب، فكثر الكهان، وتحددت وظيفة الرائي في المجتمعات القديمة، وفي مقدمتها العبرية، وكان الرائي رجلاً يخالف في طباعه وكلامه الناس، حتى قيل إنه ينطق به كائن روحاني، يتقمصه في صورة صرع (1). وتكاثر المتنبئون والكهان في بيئة بني إسرائيل، وأنشئت مدارس في أماكن متعددة في بلاد الشام يتعلم فيها الأنبياء تفسير التوراة والموسيقى والشعر، فكان جلهم من بني إسرائيل شعراء يترنمون، ويلعبون على آلات الطرب (2). وفي تاريخ التفكير الإسلامي، نجد اختلافاً منهجياً في النظر إلى الظاهرة. فالمتكلمون من المعتزلة اعتبروها من شمولات الحكم العقلي بالوجوب أو بالإمكان (3). وأما الطائفة الثانية، التي يمثلها من المتأخرين ابن خلدون، فتحاول تحليل ظاهرة النبوة بمنهج علمي استقرائي، ينطلق من الإقرار بالظاهرة نفسها، من حيث الاستعداد النفسي عند بعض الأفراد لإدراك الغيبيات يقول: وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية بجملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى، ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل، ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم، وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة وهي حالة الوحي .. “ (4)
__________
(1) - عباس محمود العقاد، طوالع البعثة المحمدية (مطلع الأنوار )، كتاب الهلال، ص 99 .
(2) - محمد رشيد رضا، تفسير المنار، 11 / 150 .
(3) - ابن حزم، الفصل، 01 / 71 وما بعدها .
(4) - ابن خلدون، المقدمة، 01 / 408. وخلاصة مذهب ابن خلدون في ظاهرة الوحي هي نزول العلم الأزلي في مدارك العلم البشري، أو تنزل اللانهائي في مدارك النهائي، =
= وعندما ينجلي الوحي عن الرسول، تبقى آثاره في الملكة البشرية. انظر محمد الصغير بناني، البلاغة والعمران عند ابن خلدون، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1996، ص 197 .(1/113)
. ويناقش الفلاسفة، وفي مقدمتهم ابن سينا، الظاهرة من خلال الوحي الذي يفسره على أنه اتصال بين النفس الناطقة بالنفوس الفلكية، التي تمثل الملائكة، وهذا الاتصال معنوي، ترتسم من خلاله صور الأشياء في النفس الإنسانية، صورة تحاذب الأصل الذي تمثله النفس العلوية. أما الرسالة فهي ما قبل من الإفاضة المسماة وحيا، على أي عبارة استصوبت لصلاح عالمي، البقاء والفساد، علماً وسياسة، والرسول هو المبلغ ما استفاد من الإفاضة المسماة وحياً، على أي عبارة استصوبت، ليحصل بآرائه صلاح العالم الحسي بالسياسة، والعالم العقلي بالعلم (1). وقد ركز لاحقاً ابن رشد على الوظيفية التشريعية للنبوة، من حيث تحقيقها لسعادة الدنيا والآخرة (2) .
__________
(1) - مصطفى غالب، في سبيل موسوعة فلسفية، دار مكتبة الهلال، القاهرة، 1987، ص 92.
(2) - محمود قاسم، ابن رشد وفلسفته الدينية، ص 180 وما بعدها .(1/114)
وممن أنكر النبوات أبو حاتم الرازي، الذي قرر بأن الأنبياء لا حق لهم في أن يدعوا لأنفسهم ميزة خاصة عقلية أم روحية، فهم وسائر الناس سواسية في ميزان العدل الإلهي، بل إن الحكمة تقتضي عموم تميزهم، وفي ذلك حيطة من أن يجعل بعضهم أئمة لبعض، فتصدق كل فرقة إمامها، وتكذب غيره (1). وقد وردت مجمل آرائه في كتاب أعلام النبوة المنسوب إليه، والذي أثار جدلا بين أوساط الدارسين حول صحة هذه النسبة، وربما خلط بعضهم في نسبته إليه، إذ نسب إنكار النبوة أيضاً إلى أبي زكرياء الطبيب الملقب بالرازي وهو صاحب كتاب ترك أثراً في تفكير علماء الدين الغربيين، على ما يصرح العلامة ماسنيون Massignon وهو الموسوم بمخاريق الأنبياء (2). أما ابن حزم، فيعتمد على أصل معرفي يتصل بما تحققه العلوم والصنائع من فوائد للإنسانية وهذا الأصل ينطلق من فكرة التعليم أو الوحي فالعلوم جملة وتفصيلاً مشتقة من المعرفة الإلهية التي نقل جزء منها إلى الناس عن طريق النبوة والرسالة، يقول : ” ... وكذلك كل ما يحتاج إليه الإنسان في معاشه من حرث، وحصاد، وعجن، وطبخ واستخراج الأدهان، ودق الكتان، وغزل القطن وحياكته، وآلات كل ذلك، وحفر الآبار وتربية النحل ودود الخز، واستخراج المعادن، وعمل الآنية منها ... وكل ذلك لا سبيل إلى الاهتداء إليه دون تعليم، فوجب بالضرورة، ولابد أنه من إنسان واحد فأكثر علمهم الله تعالى، ابتداء كل هذا دون معلم، ولكن بوحي حققه عنده، وهذه صفة النبوة “ (3). ومما يدل على أن النبوة هي أصل المعرفة، انتفاء الوقوف على المعارف، والصناعات، وتحصيل ملكتها، دون تعليمها من طرف معلم، فلا بد إذن من وحي من الله في كل ذلك (4). ويؤكد ابن
__________
(1) - عبد اللطيف العبد، أصول الفكر الفلسفي عند الرازي، ص 133 ...
(2) - إبراهيم مدكور، في الفلسفة الإسلامية منهج و تطبيق، 01 / 89.
(3) - ابن حزم، الفصل، 01 / 72 ... .
(4) - ابن حزم، الفصل، 01 / 72بتصرف .(1/115)
حزم أن النبوة الصادقة تظهر بمعجزات تصدق ما بين يدي الرسالة، ولا يتأتى ذلك إلا للأنبياء الذين فضلهم الله عن سائر خلقه ؛ يقول: ... إنه لا يقلب أحد عيناً، ولا يحيل طبيعة إلا الله - عز وجل - لأنبيائه فقط، وأنه لا يمكن وجود شيء من ذلك لصالح ولا ساحر ولا أحد غير الأنبياء عليهم السلام (1). على الرغم من قدرة الخالق على ذلك، وفي هذا السياق، ينتقد ما روته التوراة بعنف في قضية إلقاء موسى وهارون للعصا، لتتحول إلى حية بين يدي سحرة فرعون، الذين أتوا بمثل ما أتى به موسى، في رواية سفر الخروج (7.19).
- الإعجاز القرآني:
باغت القرآن الكريم بخصائص جمالية مميزة إدراك العرب فأعجزهم عن الإتيان بمثله، ومن هذه الخصائص ما يرتد إلى الأسلوب الذي جاء في كثير من صور، مخالفاً لمعهود كلامهم. ومن ذلك افتتاح آياته وسوره بما لا عهد للعرب به، من حروف مقطعة متلوّة في الغالب بمدح للقرآن المجيد الذي لا ريب فيه، وكذلك ما تتركه تلك الفواصل الموسيقية من أثر سمعي ونفسي في المتلقي، وهو ينصت لكلام الله يجعله خاشعاً، ومنها أيضاً توافق الحروف في أواخر الآيات، أو تقاربها مما يشبه السجع .
__________
(1) - ابن حزم، الفصل، 05 / 02 .(1/116)
والذي يزيد في القرآن إعجازاً وقدسية ما يتضمنه من رسالة خالدة للإنسانية، وقد وصفه الرسول (ص) بكونه لا يخلق من كثرة الرد والتكرار، فلا يسرع الملل بأي وجه من الوجوه إلى قارئه أو سامعه، إن لم يكن بطبيعة الحال منكراً ! ولعل في هذه المزية سراً آخر يجعلنا نقول بأن الإعجاز في القرآن لا يقتصر على نظمه ولفظه وبلاغته، بل هو معجز من الناحية النفسية أيضاً. وفي هذا السياق أيضاً دعا الرسول خصوم القرآن إلى أن يأتوا ببيان ساحر للب من جنسه، لكنهم عبثاً يحاولون، فهم مفتقرون إلى عناصر أساسية بنى عليها القرآن إعجازه، وهي الغاية النبيلة لإصلاح حال البشرية، والتي يغذيها الفكر الناضج، والمنطق العلمي المتزن، والعاطفة المتأججة، والخيال الخصب، والروح السامية، وهذه سمات لا يمكن أن تجتمع كلها في نص إلا في القرآن، كلمة الله الخالدة (1). ومع هذا كله، دأب كثير من الأدباء على درس قضية الإعجاز، بوصفها مدخلاً لعلم البلاغة، بل باعتبارها مؤسساً موضوعياً لعلوم البلاغة كلها، التي انبثقت - كما هو معلوم - من العناية بدراسة النص القرآني (2) .إن قضية الإعجاز من القضايا الجوهرية في العقيدة، لأنها تؤطر مسألتين مهمتين في الإسلام، هما النبوة من حيث هي صفة للرسول صاحب الرسالة وناقلها للناس، والوحي من حيث هو أحكام تعبدنا بها الخالق. والحقيقة أن هناك رباطاً وثيقاً يشبه عقد اللؤلؤ بين المخاطِب، والمخاطَب، والخطاب، والواسطة بينهما :
الرسول
الله ... ... ... الرسالة ... ... ... المكلّفون
__________
(1) - وليد قصاب، قضية إعجاز القرآن عند الجاحظ، مجلة كلية الآداب، الإمارات، عدد 01، 1985، ص 35، 36.
(2) - لعل كتاب دلائل الإعجاز للجرجاني أول كتاب تنظم فيه المقولات البلاغية، المؤسسة على مفهوم الإعجاز تنظيما علميا دقيقا، وقد اعتمد في الأصل على مؤلف محمد بن يزيد الواسطي وهو مفقود .(1/117)
المُخَاطِبْ ... ... الخِطَابْ ... ... ... المُخَاطَبْ
الواسطة
كما تظهر أهمية الإعجاز في القرآن في كونه دليلاً على الخالق، يقول الباقلاني : ” .. إن إثبات كون القرآن كلام الله، بواسطة إثبات إعجازه، متضمن لإثبات المتكلم والكلام معاً" (1). لذا حفلت المكتبة الإسلامية، منذ العصور الأولى، بمؤلفات جد مهمة، تكشف النقاب عن مفهوم الإعجاز، وسماته، وملامحه في النص، رداً على منكريه من أصحاب الفرق والأهواء الضالة، وتأسست في ظل مباحث الإعجاز علوم البلاغة، وفي مقدمتها البيان، ذلك أن القرآن معجزة بيانية تحدى به الله العرب، الذين نبغوا في البيان، فكانت المعجزة من جنس ما اشتهروا به، إمعاناً في الحجة والتحدي (2). كما يظهر الإعجاز القرآني بوجه عام في نقطتين مهمتين هما:
- النظم الفني البلاغي من حيث حسن التأليف،وفصاحة اللفظ،وموافقته للمعاني (3)
__________
(1) - الباقلاني، إعجاز القرآن، ص 17 .
(2) - السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، 02 / 257.
(3) - مصطفى ناصف، نظرية المعنى في النقد العربي، ص 28 و 29، ...(1/118)
- الإعجاز العلمي والغيبي، فقد ظهر للباحثين في العصر الحديث أن كثيراً من المسائل التي أثارها القرآن قد أثبت العلم الحديث صحتها، بالرغم من قدم العهد .. ونود في هذا المقام الإشارة إلى أن السير وراء مذهب الصرفة الذي ارتضاه ابن حزم هو نوع من التحرج من الخوض في المشكلات المتصلة بالنص القرآني بلا نص أو دليل يعضده، ومعلوم أن نشأة المسألة كانت بين أحضان المتكلمين، وعلماء الرأي فكأن القول بالصرفة مفتاح لكل مأزق، يمكن أن يسببه المتأولون للنصوص على غير الطريقة الحزمية (1).
الإعجاز القرآني ومذهب الصرفة
__________
(1) - لو سلم مثلا -في نظر ابن حزم- بالإعجاز في النظم دون المعنى، يمكن أن يفكر شخص في الصلاة بغير العربية على اعتبار صحة المعنى، وهذا غير وارد ؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين يطالب المسلم بقراءته بلغته، مما كان لسانه وجب عليه تعلم قدر من هذه اللغة، حتى تصح عبارته. وربما تصلح هنا مقالة الجاحظ التي يفاضل فيها بين اللفظ والمعنى، حين قال : والمعاني مطروحة في الطريق(1/119)
يتلخص مذهب الصرفة في أن الإعجاز القرآني لا ينبع من النص ذاته، بوصفه نصاً لسانياً، بل ينبع من عجز العرب، المشهورين بالفصاحة وحسن البيان، من أن يأتوا بمثله. وقد ورد هذا التحدي على لسان القرآن نفسه، وقد ذهب إلى هذا الرأي النظام من المعتزلة وقد وافقه ابن حزم على ما ورد في الفصل، وقد يحلو للبعض ممن ينتقد مذهب الصرفة أن ينفي عن القائلين به تسليمهم بإعجاز القرآن. والحقيقة أن هؤلاء نقلوا الإعجاز من النص إلى صفة تتصل بصاحب النص، فالله المتفرد صاحب الوحدانية المطلقة، والذي يحرص المعتزلة على تأكيد هذه السمة له، وعدّ التوحيد مبدأ أساساً في آرائهم الكلامية، نطق الكلام الذي هو فعل من أفعاله المحدثة، وميز بين كلامه وكلام البشر، وفي تصور المعتزلة لا بد من نقل قضية الإعجاز من مجال العدل - مجال الأفعال - إلى مجال التوحيد، من خلال مفارقة الصفات الإلهية للصفات البشرية، ويدخل في هذا السياق عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن، لتدخل العناية الإلهية والقدرة الربانية لمنع قيام أية محاولة (1). على أن المعتزلة، ومن بينهم النظام لم يكتفوا بالصرفة مذهبا، فقد رأوا في الإخبار بالغيب علامة على الإعجاز في مستوى مضمون النص، وهذا دليل على صفة العلم الإلهي، التي يمتاز بها الخالق جل وعلا، عن سائر المخلوقات، أما الباقلاني، فيؤكد أن الإعجاز في القرآن كامن في بنيته الداخلية، كنص لغوي له خصائص على مستوى التأليف، تميزه من سائر الأنواع الكلامية المألوفة عند العرب، وله أسلوبه الذي يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرائق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجوع، ثم إلى ما يرسل إرسالا، فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام
__________
(1) - ابن حزم، الفصل، 3 / 31.(1/120)
المعاني المعترضة على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له، وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق ... (1). هذا، وقد ذهب أحد الدارسين المعاصرين إلى أن آراء ابن حزم في الإعجاز باتت مرفوضة، فبالرغم من علو باعه في البلاغة والأدب، إلا أنه لم يصل إلى سرّ النظم، وأصل التركيب لكلمات القرآن (2)، وإن كان القول بالصرفة عند الكثيرين السبب الرئيس لتطور العلوم البلاغية ونضجها، رغم غرابتها بالنسبة إلى معجزة القرآن (3) .
- أوجه الإعجاز عند ابن حزم :
يفصل ابن حزم، في سياق إعجاز القرآن، اختلاف أهل الكلام في أوجه الإعجاز الخمسة، وأولها المنسوب للأشعري الذي يرى أن المعجز الذي تحدى الله الناس بالمجيء بمثله هو الذي لم يزل مع الله تعالى ولم يفارقه قط، ولا نزل إلينا، ولا سمعناه. والظاهر أن هذه المقالة تتهاوى بمجرد التعجيز بإتيان سورة أو عشر سور منه، وذلك الكلام الذي عند الأشعري هو المعجز ليس له سور، بل هو واحد (4) .
أما الوجه الثاني، فخلاصته سؤال حول موقع الإعجاز القرآني في الزمان، من حيث هو حجة، أو بعبارة أوضح هل الإعجاز متمادٍ، أم قد ارتفع بتمام قيام حجة صاحبها (ص).
__________
(1) - البلاقلاني، إعجاز القرآن، 01 / 51 و 52 .
(2) - محمد عفيفي، الإعجاز والتقدم العلمي، مجلة المسلم المعاصر، عدد 36، ص 127 .
(3) - حسن مسعود الطوير، جهود علماء الغرب الإسلامي واتجاهاتهم في دراسة إعجاز القرآن، ص180.
(4) - ابن حزم، الفصل، 3 / 15 .(1/121)
إن القرآن نص معجز، باق على هذه الصفة إلى يوم القيامة، وبأن قلوب الناس مصروفة وعقولهم كذلك على أن يعارضوه بأية كيفية كانت، مصداقاً لقوله تعالى : { قُلْ لَئِنْ اِجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَا } (الإسراء / 88 ). وصح بالنص أن الفعل يأتي للاستقبال، وذلك مفيد للتأكيد، ولا يجوز أن يكون للماضي أبدا في استعمال اللغة، إلا إذا نصَّ نص آخر على جواز نقل دلالة المستقبل إلى الماضي، ولم يثبت هذا في السياق (1) .
ويتمثل الوجه الثالث في مسألة الإعجاز في مظهر الإعجاز: أفي نظمه أم في نصه على الإخبار بالغيوب؟ والظاهر أن بعض علماء الكلام نفوا الإعجاز عن النظم في النص، وأثبتوه في إخباره بالغيوب. وذهب أغلب العلماء إلى أن القرآن معجز نظماً ونصاً بإخباره عن الغيوب، ويستند ابن حزم في تأكيد ارتباط الإعجاز بالنظم إلى قوله تعالى: { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } (البقرة/23)، معللاً ذلك بأن النص أكد أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره، وأكثر سوره ليس فيها إخبار بالغيب (2) .
__________
(1) - ابن حزم، الفصل، 3 / 16 .
(2) - ابن حزم، الفصل، 3 / 17 ..(1/122)
ويمثل الوجه الرابع الإجابة عن سؤال : ما وجه إعجازه؟ يقول : فقالت طائفة وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة، وقالت طوائف إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على معارضته فقط .. “ (1). وله أدلة كثيرة في رد القول الأول، لعل أهمها ما توضحه الفقرة المختصرة التالية : وأيضاً فلو كان إعجاز القرآن لأنه في أعلى درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هارون (2) والجاحظ وشعر امرئ القيس، ومعاذ الله من هذا ؛ لأن كل ما يسبق في طبقته، لم يؤمن أن يأتي من يماثله ضرورة “ (3) .
__________
(1) - ابن حزم، الفصل، 3 / 17.
(2) - سهل بن هارون : أبو عمر الدستمياني، فارسي الأصل، تولى خزانة بيت الحكمة في بغداد، كان شعوبيا، توفي سنة 215 هـ، انظر الزركلي، الأعلام، 3 / 143 .
(3) - ابن حزم، الفصل، 03 / 18 .(1/123)
ويستوقفنا الوجه الخامس الذي يحدد مقدار المعجز من القرآن، فذهب الأشاعرة إلى أنه مقدار أقل سورة منه (وهي سورة الكوثر) محتجين بقوله:
{ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } (البقرة/23). وذهب غيرهم - وهم الأغلب - إلى أن المعجِز كلامُ الله كله، والحقيقة أن الإعجاز لا يتحدد بسورة أو بأقل منها، أو بعدد معين من الكلمات والحروف، فكل كلام الله معجز إذ صرف سبحانه همم البلغاء والخطباء والفصحاء على أن يأتوا بمثله – على قول من يختار هذا الرأي - كما لا يمكن أن نتصور سورة معجزة مكونة من عدد من الآيات، لا تتسم الواحدة منها بسمة الإعجاز، إذ لا إعجاز للكل إلا من خلال ترابط الأجزاء. ويزيد ابن حزم المسألة توضيحاً بالمثال الإحصائي، الذي يضربه في قوله : إن سورة الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفاً، وقد قال تعالى :
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاِعيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ } (النساء / 163) اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفاً، وإن اقتصرنا على الأسماء فقط، كانت عشر كلمات اثنين وستين حرفاً، فهذا أكثر كلمات وحروفاً من سورة الكوثر، فينبغي أن يكون هذا معجزاً عندكم، ويكون { لكم في القصاص حياة } (البقرة / 179) غير معجز “ (1) .
- ترجمة القرآن في ضوء مفهوم الإعجاز
__________
(1) - ابن حزم، الفصل، 3 / 21 .(1/124)
لا يمانع ابن حزم من تفسير القرآن باللغة الأجنبية لمن يترجم له، وإنما يمانع في تلاوة القرآن حين يترجم، فيفقد صفة الإعجاز الناتجة عن التأليف والنظم المنصوص وفق بنية اللغة العربية، رغم توافق الألفاظ المترجم منها وإليها. ويظل جواز الترجمة لغرض تعليمي إفهامي بحثاً قائماً، يقول ابن حزم في ذلك: بلا خلاف من الأمة إن القرآن معجز، وبيقين ندري أنه إذا ترجم بلغة أعجمية أو بألفاظ عربية غير ألفاظه، فإن تلك الترجمة غير معجزة، وإذ هي معجزة فليست قرآنا“ (1). ويبدو أن ما ذكره اللساني روبنز (Robins) من أن ترجمة القرآن لا تمكن المسلم من استخدام النص المترجم، في الاستخدام الشعائري، يوافق إلى حد بعيد هذا الرأي الحزمي (2). وعند العلماء، تكون الترجمة القرآنية بوجهين: أما الوجه الأول، فهو ترجمة بالمثل تراعي اللفظ والنظم، وهذا أمر في غاية الصعوبة؛ لأن الإعجاز القرآني متعدد الوجوه، مما يصعب على المترجم مهما كان ملماً على أن يحقق تلك الخصوصيات، ولك أن تقف على آية من آيات القرآن ولتكن قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَْحُسورَا } (الإسراء /29) لتدرك عدم استيفاء الترجمة الحرفية للمعنى المعجز الذي تتضمنه الآية، والذي يريد النص إبلاغه للناس . فالقرآن ليس مجرد بنية لغوية تتضمن أخباراً أو جملة من الأحكام، يمكن الاجتهاد في ترجمتها إلى لغة ثانية، بل هو بنية لغوية، وثقافية، وسلوكية، وفكرية، وأوامر ونواهٍ وتمثيل، وتشبيه، وحجاج، وبرهان، وإقناع، ووعد ووعيد. ثم أليس من المنطقي نفي إمكان الترجمة عنه، وقد أعجز العرب أصحاب اللغة التي نزل بها على أن يأتوا بآية من مثله؟ فكيف الحال إذا كان الأمر متعلقاً بلغة أخرى، تختلف في أنساقها ونظامها عن العربية؟ .
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 88.
(2) - روبنز، موجز تاريخ علم اللغة في الغرب، ص 171 .(1/125)
أما الممكن والجائز، فهو الترجمة التفسيرية التي تهدف إلى شرح معالم الإسلام الكبرى بالوقوف على المعاني، لا على تتبع الألفاظ في اللغة المترجم لها، وبقدر ما يكون المترجم متمكناً من اللغتين، بقدر ما يكون المعنى المعبر عنه أكثر دقة، وأصلح في المواقف التعليمية .
إن موقف ابن حزم، الرافض للتعبد بترجمة القرآن، يتنزل في سياق إشكالية نقل المعنى في ترجمات النص الديني، وما يترتب عن هذه الإشكالية من مواقف، تحدد نوعية الإعجاز الذي يمتاز به هذا الكتاب. وقبل تشريح هذه المسألة في ضوء رؤية القدماء والمحدثين، لا بد أن نشير إلى أن الترجمة الدينية قديمة، وهي التي أفرزت في عصرنا نظرية الترجمة (1). ومحصولها نقل معنى من المعاني التي وقف عليها المفسرون، وهو ما نص عليه الحجوي بقوله : فنحن نعتبر كل ترجمة للقرآن تفسيراً فقط لبعض معانيه وشرحاً من جملة الشروح وليست عينه “ (2) .
ونظراً إلى الصعوبات التي تعيق نقل النص القرآني، خاصة في سائر النصوص المقدمة من لغة إلى أخرى، وجب النظر في مسائل مهمة، أولها أولية التفكير في ترجمة القرآن، ثانيها الاختلاف البنيوي بين اللغة العربية وسائر اللغات، وثالثها خصوصيات النظم القرآني.
__________
(1) - عبد النبي ذاكر، إشكالية نقل المعنى في ترجمات القرآن، حوليات الجامعة التونسية، عدد
08، ص 259 .
(2) - عبد النبي ذاكر، إشكالية نقل المعنى في ترجمات القرآن، ص 260 .(1/126)
تذكر المراجع أن أول ترجمة للقرآن من العربية إلى اللاتينية كانت حوالي 538 هـ / 1143 م من طرف روبيرت الكيتوني (Robert del Kiton)، وكان القصد منها التهجم على عقائد المسلمين (1). وأغلب الترجمات التي ظهرت لاحقاً في أوربا، في إيطاليا وسويسرا كانت مبنية على عدم احترام النص المقدس، من خلال تجاوز المعنى المراد، والتهجم على صاحب الرسالة (محمد صلى الله عليه وسلم )، كما أسهمت الترجمة العبرية في هذا الهجوم الشرس الذي تعرض له القرآن من خلال يعقوب بن إسرائيل بترجمته سنة 1634 م (2). والحقيقة أن القرآن من خلال عشرات الترجمات تعرض لمحاولة تسخير لمضمونه ورسالته وتحريفه، دون جدوى ذلك أن القدرة الإلهية ضمنت له البقاء والخلود .
__________
(1) - رشاد حمود الصباح، التصورات الأوربية للإسلام في العصور الوسطى، مجلة عالم الفكر، عدد 3، مجلد 11، سنة 1980، ص 91.
(2) - محمد الصالح بنداق، المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 2، 1983، ص 196 .(1/127)
أما المسألة المهمة، فمتعلقة بالاختلاف البنيوي بين اللغة العربية التي بها نزل القرآن، واللغات التي يراد نقل المعاني القرآنية إليها، وهذا يستدعي من المترجم أن يمتلك القدرة اللسانية الفائقة على التعبير بالعربية، وفهمها، وإفهام المتلقين بها، ويزداد الأمر تعقيداً إذا وضعنا في الحسبان الخصائص البيانية المعجزة للنص القرآني، والتي يعسر - إن لم نقل يستحيل - نقلها حرفياً كما هي إلى اللغة الثانية، فكيف سيترجم المترجم قوله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } (البقرة / 187) إلى الفرنسية مثلاً، مع مراعاة الحكم الشرعي الذي تميل إليه الآية. وقس على ذلك مئات الآيات، خاصة الحافلة بالتصوير، والمشاهد، وضرب الأمثلة، مما لا يمكن نقله حرفياً، أو حتى مقاربته لاصطدام المترجم - في أغلب الأحوال - بخصوصيات معجمية وتركيبية وأسلوبية، تتمتع بها العربية، غير متوافرة في اللغات الهندوأوربية، فضلاً عن اتجاهات المترجم، وميولاته، ومنهجه، فهو غافل ومفسر في الآن نفسه، ومتأثر ثقافته التي ستلقي بظلالها على نتائج الترجمة (1).
- ظاهرة النسخ ووظيفتها النصية :
النسخ - ويسمى كذلك التبديل والإزالة - ينقسم في اللغة إلى معنيين، أولهما : التعفية، يقال انتسخت دولة فلان ونسخت الريح أثر القوم، أي عفته جملة، والثاني: تجديد الشيء وتكثير أمثاله، تقول : نسخت الكتاب نسخاً كثيرة. والظاهر أن المعنى الأول هو المقصود، ويقال : تناسخ المواريث انتقال المال من وارث إلى وارث، وتناسخ الأرواح بانتقالها من بدن إلى بدن آخر، ثم إن النسخ في اللغة موضوع بإزاء معنيين، أحدهما الزوال على جهة الانعدام، والثاني على جهة الانتقال (2).
__________
(1) - عبد النبي ذاكر، إشكالية نقل المعنى في ترجمات القرآن الكريم، ص 258 بتصرف .
(2) - الفيروزأبادي، القاموس المحيط، 01 / 271،(1/128)
وهو بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ عنه، ومعناه أن للحكم المنسوخ مدة ينتهي إليها، والنسخ يبين هذا الانتهاء (1). وذهب أغلب العلماء إلى وقوع النسخ في الشريعة أيام نزول الوحي، باستثناء أبي مسلم الأصبهاني. وقد تكفل علماء الأصول بالرد عليه، مستدلين بالنفي نفسه، ولعل مثال عقوبة الزنا دليل على ذلك، فقد ورد قوله تعالى: { َالزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاْجلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } (النور / 02) ناسخا من حيث الحكم لقوله تعالى: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأمْسِكثوهنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَاللّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأْعرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابَاً رَحِيمَاً } (النساء/15و16). و ذهب ابن حزم إلى أن الأوامر في نسخها، تنقسم أربعة أقسام لا خامس لها، فقسم ثبت لفظه وحكمه، وثان ارتفع حكمه ولفظه، وثالث ارتفع لفظه وبقي حكمه، وقسم ارتفع حكمه وبقي لفظه، وفي الأقسام الثلاثة الأخيرة يقع النسخ(2). وفي السياق نفسه يناقش ابن حزم أولية وقوع النسخ، أهو على الأوامر به أم على المأمور؟ وخلص إلى أنه وقع على الأوامر، أما المأمور به فلا يمكن أن ينسخ لسببين هما:
أ - إما أن المأمور به، الذي يمثل فعل المكلف قد وقع ووقوعه فناء، ولا يجوز أن يعود النسخ على ما فني وانقضى .
ب - وإما أنه لم يقع بعد، ويستحيل عقلاً أن ينسخ ما لم يحصل تحققه.
__________
(1) - عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، 02 / 71 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 04 / 61 .(1/129)
كما يستدل بقوله تعالى : { مَا نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } (البقرة/106). وظاهر القول إن النسخ عائد على الآية لا على الفعل (1)، وهذا يعني من باب أولى، أن النسخ مرتبط بالكلام الذي صيغته أمر أو نهي أو ما يقوم مقامها، أما الخبر المحض والاستفهام، فلا يمكن وقوع النسخ فيهما، لأن الرجوع عن
الخبر أو الاستفهام استدراك، وهذا منفي عن الله فالاستدراك عادة لا يكون إلا عن سهو أو نسيان أو جهل، ثم إن المرجوع عنه، إنما هو تكذيب للخبر المرجوع عنه (2)، وللنسخ أركان أربعة هي: أداة النسخ، والناسخ، والمنسوخ، والمنسوخ عنه، ويمثل الركن الأول القول الدال على رفع الحكم الثابت، في حين يمثل الركن الثاني الله، باعتباره ناسخاً للأوامر ومزيلاً لها، أما المنسوخ فهو ما رفع من أحكام، أما المنسوخ عنه، فهو المتعبد المكلف بأحكام الشريعة(3).
هذا، ويمتاز البداء عن النسخ، إذ يعني في اللغة الظهور بعد الخفاء، أما النسخ فينتفي فيه معنى الظهور، ثم الاختفاء ؛ لأن ذلك يعني أن أموراً كانت خافية على علم الله، ثم ظهرت، وهذا محال يخالف التنزيه الإلهي ؛ يقول تعالى: { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمْ } (الحديد / 03 ). وأما البداء، فهو صفة بشرية تمثل محدودية العلم الإنساني المتغير، يقول تعالى واصفاً حال الكفار يوم القيامة: { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبون } (الزمر / 47)، أي ظهر لهم ما لم يتوقعوه، ومعلوماً لديهم.
- حركية النسخ في ضوء علاقة النص بالواقع :
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 04 / 65 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 04 / 72، ص 08 .
(3) - الغزالي، المستصفى، 02 / 78 .(1/130)
لعلنا نجد في ظاهرة النسخ صورة أخرى للاحتفاء بالسياق العام، الذي ترد فيه النوازل المصاحبة للوحي في طور النبوة، إذ ربما نزلت الآية في سياق معين، ثم تنسخ في موقف آخر، بعد أن تكون العقول قد تهيأت نسبياً لطرح عادات وتقبل أخرى. لقد غدا النسخ مظهراً دالاً بنفسه على تطور التشريع، وتطور المجتمع المسلم الجديد في المدينة. ولما كان النسخ آلية تمس النصوص الممثلة للخطاب الديني، مراعاة لمقامات معينة فرضتها الحياة، فإنه من الممكن اعتباره صورة وشاهداً في الآن نفسه، في التفكير اللساني الأصولي، على ظاهرة ضرورة ربط المقال بالمقال المناسب له، ولذلك اشترط العلماء، وفي مقدمتهم ابن حزم، العلم بالناسخ والمنسوخ، لكل متصدر للفتيا بين المسلمين، وهذه المعرفة تساعد المفسر عموماً على فهم معاني القرآن، والاحتياط من الوقوع في الزلل (1) .كما تعد هذه الظاهرة الوثيقة الصلة بالنص، دليلاً على علاقة الوحي بالواقع، ولعلها تثير في الأذهان مشكلة عقدية، تمثل أزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ، إذ يفترض أن نزول آيات، ثم نسخها تلاوة، أو حكماً، أو بالشكلين معاً، نفي لهذه الأبدية، والحق أن القدماء تنبهوا إلى هذه المشكلة، وفي مقدمتهم ابن حزم، حين ربط هذه الأبدية بسبق علم الله بأنه سيحيل عباده عن أوامر معينة إلى أخرى، فإذا جاء ذلك الوقت بيّن ما كان مستوراً عنا من النقل عن ذلك العمل إلى غيره، وإن كان معلوماً لديه ثابتاً لم يتغير (2). كما نسب هذه المقالة في كتابه الفصل إلى اليهود، الذين رأوا تعارضاً بين النسخ والحكمة الإلهية واعتبر ذلك تعقيباً منهم على الخالق تبارك وتعالى، يقول في الرد عليهم : أخبرونا أي حكمة وجبت عليه تعالى أن يأمر أمس بما أمر به، أترى لو لم يأمر تعالى بما أمر لكانت تبطل حكمته؟
__________
(1) - حسن يونس حسن عبيدو، دراسات ومباحث في تاريخ التفسير ومناهج المفسرين،
ص 12.
(2) - ابن حزم، الإحكام، 04 / 59 و 70 .(1/131)
أو لو أمر بغير ما أمر به لكانت تبطل حكمته؟ أو ترون إذ قدس الأرض المقدسة لعن أريحا، لو قدس أريحا ولعن أورشليم أكان ذلك مفسداً لحكمته؟ وإذا حظر العمل في السبت وأباحه في الأحد، أرأيتهم لو عكس الأمر أكان ذلك مبطلا لحكمته؟ فإن راموا فرقاً بين شيء من ذلك، لحقوا بالمجانين وجاهروا بما لا يفهم وبما يعلم بطلانه “(1). والحقيقة أن اليهود، في إنكارهم للنسخ كظاهرة عامة تلحق بالنصوص والشرائع، يدافعون على وجود عقيدتهم، وينافحون عن مراكز رجال الدين في مجتمعهم، محتجين بأن الشريعة لا تنسخ شريعة مثلها، ويوافق موقفهم هذا اعتراضهم التام على الرسالة المحمدية، وهذا ما يظهر في موقف طائفة العيسوية، التي قررت عدم جواز نسخ شريعة موسى عليه السلام بشريعة محمد (ص)، رغم تسليمها بجواز النسخ عقلاً وشرعاً (2).
- الكلام الإلهي بين الخلق والقدم :
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 04 / 67.
(2) - الشوكاني، إرشاد الفحول، ص 162 .(1/132)
أدى الصراع حول طبيعة كلام الله، بين الأشاعرة والمعتزلة من جهة، والمعتزلة والحنابلة من جهة ثانية، إلى حدوث فتنة عقدية كان لها آثارها في الفكر السياسي الإسلامي، وكذلك في البنية الاجتماعية والثقافية في العصر العباسي، وبين أحضان الفكر الاعتزالي تحاور المسلمون في طبيعة كلام الله: أهو مخلوق حادث أم قديم؟ فالمعتزلة لا يعتبرون الكلام صفة من صفات الذات، شأنه شأن السمع والبصر، ومعنى ذلك أنه ليس أزلياً، ودليلهم في ذلك القرآن الذي ورد بالأمر والنهي والوعد والوعيد وكل ذلك يقتضي وجود المأمور، الذي هو محدث وغير قديم، ثم لو كان الكلام أزلياً لكان قديماً مشاركاً لله في القدم، وينتفي هذا مع أصل هام من أصولهم، وهو التوحيد (1). والقرآن ذاته شاهد على اختلاف الخطاب بين الرسل والأنبياء والأمم، التي قضى هذا الكتاب أحوالها من خلال الزمن، وليس هناك شيء أدل على حدوثه - عندهم - من قوله تعالى : { مَا يَأْتِيِهْم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } (الأنبياء / 02 )، وقوله تعالى : { مَا نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } (البقرة / 106). فالنسخ دليل على التغيير، والتغير حالة للمحدث، فثبت بهذا كونه مخلوقاً والحقيقة أن القول بخلق القرآن كان أكثر الأقوال التي تعصب لها المعتزلة، لا لأنه مرتبط بالتوحيد فحسب، ولكن تفادياً للتشبّه بالمسيحية، التي رأت عيسى أو الأقنوم الابن كلمة الله الخالدة الأزلية، فيحُلّ بذلك القرآن في نفوس المسلمين نفس المحل الذي تشغله كلمة الله في نفوس المسيحيين، أما الحنابلة فقد أقروا بأن القرآن كلام الله، لا يزيدون على ذلك، فلا يقولون مخلوق أو قديم، لاعتبارات منهجية وموضوعية، أهمها:
- عدم إشارة الرسول (ص) إلى هذه المسألة أو حمل الناس عليه في زمنه أو في زمن الصحابة من بعده بأي وجه من الوجوه .
__________
(1) - القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 87 .(1/133)
- اعتراض منهجي يتمثل في عدم القبول بنشر هذه الآراء العقدية الخطيرة بين العامة، ممن لا يطيقون، لضعف علمهم بالدين، مثل هذه الموضوعات الفاتنة،وهو تصور تداولي بحت يراعي خصوصيات المخاطبين ومقاصد الخطاب الديني .
- الأولى الاهتمام بمسائل الشريعة، فالمسلمون مطالبون بتعلم الفقه، إذ عليه مدار التكليف، أما أمور الكلام فلا يناط بها حكم تكليفي بعد الدخول في عقيدة الإسلام (1).
- أما الاعتراض الموضوعي، فمبني على دلالة اللغة العربية، التي تجعل من دلالات لفظ خلق الاختلاق، أي الكذب، فيقال قصيدة مخلوقة أي مختلقة ومكذوبة ومنتحلة، فدفعاً لإيهام الكذب في القرآن، رفضوا وصفه بهذه الصنعة.
__________
(1) - ابن حزم، الفصل، 3 / 11 وما بعدها .(1/134)
ثم أليس من المحصل كنتيجة للقول بخلقه أن يقال بعدها بفنائه وموته؟ فكل مخلوق معدوم، معرض للفناء. وقد تصدى القاضي عبد الجبار إلى هذه الشبهة، محاولاً ردها على اعتبار أن الحنابلة قد وقعوا في وهم الخلط بين كلام الله وكلام البشر. والحقيقة أن المعتزلة أنفسهم لم يوفقوا في إقناع الناس بوجهة نظرهم، وهذا ما حملهم على تثبيتها بالقوة، فكانوا دعاة لها، وكانوا من حكم عليها بالموت السريع (1)، وقد تابعهم في ذلك الأشعري بتأكيده على عدم جواز أن يقال إن شيئاً من القرآن مخلوق ؛ لأن القرآن بكماله غير مخلوق، ولما كان كل حي متكلماً وكان الله حياً بحياة قديمة فهو لا بد متكلم بكلام قديم، ومن لا يتصف بالكلام، فهو متصف بضده من الخرس والعمى والسكوت، وهذا محال في حقه تعالى (2). وفي هذا المضمار، يمكن الحديث عن مشكلة أخرى، أضرت بالبحث في حقيقة الكلام الإلهي، ألا وهي التفرقة بين الكلام النفسي القائم بالله وهو قديم، والكلام اللفظي من الإنسان وهو المحدث، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح عند المعتزلة : أي المعنيين أصلح لأن يسمى كلام الله والمعتمد عند الأشعري، هو الأول لأن الكلام صفة لمن قام به لا من نطق بالكلام، فيكون حينها مؤسساً على علم الله القائم بذاته، لا يتغير بتغير العبارات، ولا يختلف باختلاف الألفاظ، وهو الأنسب لمفهوم الوحي (3).
__________
(1) - الأشعري، مقالات الإسلاميين، 01 / 246 وما بعدها .
(2) - الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، ص 31 .
(3) - أحمد محمود صبحي، في علم الكلام، 02 / 74 .(1/135)
وذكر صاحب المواقف موافقته للمعتزلة في أن أصوات وحروف كلام الله يخلقها الله في غيره، كاللوح المحفوظ، أو جبريل، أو النبي، وهو حادث، وزيادة على ذلك إثبات المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ، وهذا هو الكلام حقيقة، وهو قديم قائم بذاته تعالى واحد لا يتغير بتغير العبارات، ولا يختلف باختلاف الدلالات (1). والحقيقة أن المعتزلة في هذه القضية الخطيرة، لم يكتفوا بالنظر العقلي لإثبات مذهبهم، بل راحوا يبحثون عن أدلتهم من القرآن ذاته، وقد وجدوا في قوله تعالى : { مَا يَأْتِيِهْم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ }
(الأنبياء/02)، وقوله : { وَمَا يَأِتيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمنِ ِمُحْدَثٍ } (الشعراء / 05)، ما يحفظ لهم سلامة نظرهم بين الخصوم، بل وجدنا منهم من فسر قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } (البقرة / 30) بأنّ إذ ظرف دال على ما مضى من زمان، فيكون قوله الواقع مختصاً بزمن معين، وما كان كذلك فهو محدث ولا شك، وقوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِياً } (يوسف/01 )، فيه دلالة على أن كلامه تعالى يمكن أن ينزل بغير العربية، وهذه صورة من صور الحدوث لا القدم. ويبدو أن المعتزلة استهوتهم المعاني المساوقة لما جنحوا إليه من تجريد، وما عولوا عليه من دعوى العدل والتوحيد، لذلك حملوا هذه الآيات وغيرها على المجاز، وتنكروا لدلالاتها الظاهرة المفهومة من منطوق الآيات(2).
__________
(1) - الأيجي (عضد الدولة)، شرح المواقف، تحق محمد بيصار، 02 / 362
(2) - لطفي عبد البديع، فلسفة المجاز، ص 57 .(1/136)
بالنسبة إلى ابن حزم، فقد قامت الدلائل على أن الله تعالى لا يشبه شيئاً من خلقه بوجه من الوجوه، مصداقاً لقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ٌوَهْوَ السَّمِيعُ البصير } (الشورى / 11)، ولما كان كلامنا غيرنا، وكان مخلوقاً وجب ضرورة أن يكون كلام الله ليس مخلوقاً، وليس غيره (1). كما أن قوله تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنَفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } (الكهف / 109)، وقوله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ } (لقمان / 27) حجة على من قال : إن لله كلاما واحداً (2)، ثم ينبري معرفاً تعريفاً لغوياً دقيقا القرآن راداً على كثير من المتأولين الذين عجت بهم الساحة الإسلامية في تلك الفترة من تكوين الفكر الإسلامي، قائلاً : "ونقول إن جبريل عليه السلام نزل بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى على الحقيقة على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ... ثم نقول : إن قولنا القرآن وقولنا كلام الله لفظ مشترك، يعبر به عن خمسة أشياء، فنسمي الصوت المسموع الملفوظ به قرآنا ونقول: إنه كلام الله تعالى على الحقيقة ... ونسمي المصحف كله قرآناً وكلام الله، وبرهاننا على ذلك قول الله تعالى عز وجل :
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونْ } (الواقعة /77 - 78) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الحرب لئلا يناله العدو ... ونقول أيضاً: إن القرآن هو كلام الله تعالى، وهو علمه، وليس شيئاً غير البارئ تعالى برهان ذلك قول الله عزوجل: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمَّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } (الشورى /14)، وقال تعالى : {
__________
(1) - ابن حزم الفصل، 03 / 04، 05 .
(2) - ابن حزم، الفصل، 03 / 06 .(1/137)
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } (الأنعام / 115) وباليقين يدري كل ذي فهم أنه تعالى إنما عنى سابق علمه الذي سلف بما ينفذه ويقضيه“ (1) وعلى صعيد التمييز بين القول والكلام، يظهر أنه يفرق بينهما، والتفرقة التالية توضع ذلك، يقول : .. ولا يجوز أن يقال : إبليس كلام الله، ولا أن أهل النار كلمات الله، فقول الله عز وجل محدث بالنص، وبرهان ذلك أيضا قول الله تعالى : { إِنَّ الذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَُهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ ُيكَِّلِمُهُمْ اللهُ وَلاَ يَنْظرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمْ } (آل عمران / 77). فثبت يقيناً أن قول الله تعالى هو غير كلامه وغير تكليمه، لكن يقول كل كلام تكليم فهما قول وليس كل قول منه تعالى كلاماً ولا تكليماً بنص القرآن ... “ (2) . ومعنى هذا أن كلام الله هو اجتماع للصوت واللفظ والخط من ناحية، والحفظ في الصدور والكتابة في المصاحف والمسموع من القراء من جهة ثانية، لقد كان صريحاً إلى أبعد حد حين نص على أن كلام الله هو علمه وليس شيئاً غيره (3).
وتجاوزاً لهذا الصراع، يقرر ابن حزم أن كلام الله لفظ مشترك، يعبر به عن خمسة أشياء :
أ - الصوت المسموع.
ب - الملفوظ به.
ج - المصحف.
د - المستقر في الصدور.
هـ - القرآن هو كلام الله، وهو علمه، وليس شيئاً غير الباري .
__________
(1) - ابن حزم، الفصل، 03 / 08 .
(2) - ابن حزم، الفصل، 03 / 11 و 12 .
(3) - ابن حزم، الفصل، 03 / 08 .(1/138)
فالأربعة الأولى مخلوقة أما الخامس فغير مخلوق، ذلك أن علم الله لم يزل، وهو ليس شيئاً غيره، ولما كان الأمر كذلك لم يجز أن يقال إنه مخلوق على صيغة التعميم، بل الواجب أن يقال إنه لا خالق ولا مخلوق، وهذا يعني أن يطلق نفي تلك الصفة التي للبعض على الكل (1). ومن خلال هذا العرض، يتبين أن ابن حزم يتبنى القدم من خلال اعتقاده بأن كلام الله من صفة العلم التي هي من ذات الله، وليس مجرد فعل من أثره .
- تعليل النصوص :
__________
(1) - ابن حزم، الفصل، 01 / 109، وابن حزم، المحلى، 01 / 32، وابن حزم، الأصول والفروع، ص 394(1/139)
تقوم فكرة تعليل النصوص على تناهي النصوص، في مقابل عدم تناهي الأحداث، مما يستوجب البحث عن علّة جامعة بين حدثين أحدهما أصل ثابت في النص، وثانيهما مستجد لا حكم له، ثم تتم بعد ذلك عملية القياس، فيأخذ الثاني حكم الأول. وابن حزم، بالرغم من تسليمه بمعقولية المعنى في النص ذاته، وتماشيه مع مصلحة العباد، يقصر كل نص على موضوعه، ولا يسمح بتجاوز معناه لغيره، كما لا يقبل بأن تكون الشريعة معللة في أحكامها، إلا ما ورد فيه نص يؤكد ارتباط حكم بعلة ما، وصاحب الشريعة لا يسأل عما يفعل، ومن ثم فإن أفعاله لا تعلل، ومن بينها ما شرعه لعباده، بيد أن ابن حزم في هذا السياق لا يفرق بين أفعال الله، وبين نصوص الشريعة والأغلب أنهما مفترقان، يقول : ... فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه، وأن أفعاله لا تجري فيها "لمَ "، وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه تعالى وأفعاله "لم كان هذا؟ " فقد بطلت الأسباب جملة، وسقطت العلل البتة، إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمر كذا لأجل كذا ... “ (1). ويعلق الأستاذ أبو زهرة على موقف ابن حزم بقوله: إن من يبحث عن علل النصوص لتحقيق مراميها في أبعد مدى لا يجعل الله سبحانه وتعالى مسؤولاً، إنما ليحقق مسؤولية العباد بمقتضى النصوص، في أوسع مدى، وأبعد غاية “ (2). ثم إن تعليل النصوص قد ورد بنص الكتاب والسنة، وكان في إطار روح الدين المبني على تفهم المقاصد العامة للشريعة، من حفظ النفس، والمال، والدين، والعقل، والعرض، مع وجوب التمييز بين نوعين من النصوص، فما يصدق على الكلام هنا هو النصوص غير التعبدية، أما التعبدية فلا يجوز التعليل لها، إذ حفظت حكمتها لله سبحانه وتعالى، وأغلب ما يعلل مرتبط بمعاملات الناس فيما بينهم. ويمكن بعد أن تعرفنا في إجمال على موقف ابن حزم من فكرة التعليل، أن نضرب لموقفه هذا مثلاً
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 08 / 102 و 08 / 90 .
(2) - أبو زهرة، ابن حزم، ص 437 .(1/140)
يوضح القضية؛ فقد ذهب الفقهاء - مثلاً - إلى أن سبب تحريم الخمر هو صدها عن ذكر الله والصلاة، وإيقاعها للعداوة والبغضاء بين الخلق. والظاهر من كلام ابن حزم انتفاء هذه الأسباب جميعها، لتحريم الخمر، فليس كل من يشربها تفسد أخلاقه، فكثير من شاربيها يبكون ويكثرون من ذكر الآخرة والإشفاق من جهنم، كثيراً ما يزول سفههم وتؤمن غوائلهم، ويبقى إزاء هذا تحريمها لإرادة الله ذلك فقط. ومعلوم أنها كانت حلالاً مدة ستة عشر عاماً، ولو كان ما ذكر من صفاتها سلفاً سبباً لتحريمها لما وجدت إلا وهي محرمة مطلقاً، فهي قد كانت وما تزال مسكرة، وما قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الْشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِوَالمَيْسِرِ } (المائدة / 91 )، إلا إخبار عن سوء معتقد الشيطان فينا(1).
وجملة الأمر أن ابن حزم ومن وراءه نفاة التعليل والقياس، يؤثرون في مجال الاستنباط بشكل عام استصحاب الحال، ويجعلونه أصلاً مستقلاً، ولا يقبلون التعرف إلى الأحكام بعد استخراج العلل من النصوص، وإلحاق الأشباه بالأشباه مثلما، يفعل الجمهور من الفقهاء من أصحاب المذاهب المعروفة في فكرنا الفقهي. فهؤلاء على نقيض ابن حزم ومن وافقه، يرون الشريعة نصوصاً، ولكنهم مع ذلك لا يفهمون منها مجرد المعاني الظاهرة، إنما يفهمون ما تدل عليه من مقاصد وعلل، هي مناط للأحكام التكليفية، فيوسعون بذلك أفق الفقه، ويفتحون باب الاجتهاد من طريق رفع الحجر المضروب على العقول، كي تفكر في الشرع، لتطبقه لاحقاً على كل ما يجد من أحداث، مع احترام لقدسية النص، والتقيد بنصه إن وجد وبروحه إن فقد (2).
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 08 / 89 .
(2) - أبو زهرة، ابن حزم، ص 452 .(1/141)
أما خصوم ابن حزم، فقد ذهبوا إلى أن الأصل في النصوص التعليل بكل وصف صالح لإضافة الحكم إليه، حتى يوجد مانع؛ لأن الأدلة الشرعية دلت على حجية القياس عندهم، من غير تفرقة بين نص وآخر، ويختار الشافعية وبعض الحنفية موقفا ثالثاً، مبدؤه التعليل في النصوص بوصف، ولا بد في ذلك من دليل يميز الوصف، الذي هو علة من بين سائر الأوصاف، في كونه متعلق الحكم، بخلاف الموقف السابق الذي لا يفرق بين الأوصاف، ويعدّ كل واحد منها أصلاً للتعليل (1).
ويحسن بنا في هذا المقام التوقف قليلاً مع منهج القرآن الكريم، في تعليل النصوص من الناحية الأسلوبية، في سياق دفع المفاسد وجلب المنافع للناس، أو ما يعبر عنه بلغة الأصوليين مقاصد الشريعة الإسلامية، وهذه بعض الصور(2).
أ - قد يفهم السامع حين يذكر القرآن وصفاً يترتب عنه حكم أن هذا الحكم يدور مع ذلك الوصف أينما وجد، كقوله تعالى : { سورةٌ أنزَلْناها وفَرَضناها وأَنْزَلْنا آيات بَيْناتٍ لَعَلّكُم تَذَكَّرُون } (النور / 01) .
ب - وفي سياقات يظهر الحكم وسببه معاً، كقوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } (النساء / 160) .
ج - كما يذكر معللاً إياه بحرف من حروف التعليل، كقوله تعالى: { وَصَلِِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلواَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } (التوبة / 103) .
د - كما يقرن الحكم بالمصلحة التي لأجلها كان الأمر، أو المفسدة التي لأجلها كان النهي، كقوله تعالى : { إِنَّما الْخَمْر ُوَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونْ } (المائدة / 90 ).
__________
(1) - السرخسي، أصوله، 02 / 144 .
(2) - مصطفى شلبي، تعليل الأحكام، ص 14 وما بعدها .(1/142)
خلاصة القول إنّ الأحكام الإلهية، بحكم مصدرها اليقيني، لا تحتاج إلى علة لتبرر وجودها، فالله فعال لما يريد، والكل خاضع لإرادته (1) .
- النصوص بين التعارض والتكامل :
إن من القضايا المتصلة بتفسير النص إمكان تعارض النصوص، وتقابل الأحكام الناتجة عن ذلك، وقد بين ابن حزم أنه لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن، وكلام النبي (ص) وما نقل من أفعاله ؛ لأنه كان يصدر عن توجيهات إلهية مصدرها الوحي، ثم إن هذه النصوص المتباينة في موضوعاتها تشكل لحمة واحدة وبناءً متكاملاً، ينفي عن الكل النقصان وعن أجزائه التعارض المتوهم فما خوطب به الرسول (ص)، يتبدى كلفظة واحدة وخبر واحد، موصول بعضه ببعض، ومضاف بعضه إلى بعض، ومبين بعضه على بعض (2).
والعارف بلغة العرب التي نزل بها القرآن وأخبر بها الرسول (ص) يدرك أن بناء النصوص وتكاملها راجع إلى خصائص بيانية وأسلوبية بحتة، كالتخصيص، والاستثناء، والعطف، والشرط ؛ لذا يدعو ابن حزم في حالة ظهور مثل هذه التعارض المتوهم بين الحديثين، أو الآيتين، أو الآية والحديث إلى وجوب استعمال كل ذلك لانتفاء أولية أحدهما على الآخر ... (3). ثم تبين أوجه الترابط بين النصوص التي اعتقد بعضهم وجود تعارض فيها، وفق ما يلي:
- الوجه الأول : ويكون على صور، هي :
- إما أن يكون أحدهما أقل معان من الآخر.
- وإما يكون أحدهما حاظراً والآخر مبيحاً .
- وإما يكون أحدهما موجباً والثاني نافياً .
والمسلك الذي يجب اتباعه أن يستثنى معنى من معانٍ، مثل أمره عليه الصلاة والسلام بأن لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، وأذن للحائض أن تنفر قبل أن تودع (4)، فوجب بذلك استثناء الحائض من جملة النافرين.
__________
(1) - - Arnaldez , grammaire et théologie , p. 819 .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 35 .
(3) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 21.
(4) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 22، 23 .(1/143)
ومثله أيضاً أمر الله تعالى بقطع يد السارق والسارقة جملة مع قول الرسول (ص) : ” لاَ قطعَ إلاَّ في ربعِ دينارٍ فصاعداً “(1)، ومثاله أيضاً نسخ العشر المحرمات بالخمس المحرمات في الرضاعة، فوجب لذلك استثناء ما دون الخمس رضعات من التحريم، ويبقى الخمس فصاعداً على التحريم (2).
- الوجه الثاني :
يمكن أن يكون أحد النصين موجباً بعض ما أوجبه النص الآخر، أو حاظرا لبعض ما حظره النص الآخر، ولهذا أخطأ من فسر قوله تعالى : { إِنَّ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الُمِوسِعِ قَدْرُهُ } (البقرة / 236) حين اعتبرها معارضة لقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالمَعْرُوفِ } (البقرة / 241 ). والحق أن الآية الأولى بعض الثانية وداخلة تحت حكمها (3).
- الوجه الثالث :
أن يكون أحد النصين فيه أمر بعمل ما معلق بكيفية ما أو بزمان أو على شخص ما أو في زمان ما أو مكان ما أو عدد ما أو عذر ما، ويكون في كل أحد من العملين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهى عن الآخر شيء يمكن أن يستثنى من الآخر، وذلك بأن يكون على ما وصف في كل نص من النصين المذكورين حكمان فصاعداً، فيكون بعض ما ذكر في أحد النصين عاماً لبعض ما ذكر في النص الآخر ولا شيء آخر معه. ويكون الحكم الثاني الذي في النص الثاني عاماً أيضاً لبعض ما ذكر في هذا النص الآخر، ولا شيء آخر معه (4).
__________
(1) -مالك، الموطأ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، مصر، كتاب الحدود، باب مالا قطع فيه.
(2) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 23.
(3) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 24 .
(4) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 25، 26 .(1/144)
ويمكن أن يمثل لهذا النوع بقوله تعالى : { وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (آل عمران / 97)، وقوله (ص) : ” لاَ يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تسَافرَ إلاَّ معَ زوجٍ أوْ ذي محرمٍ مِنْهاَ “(1). ففي الآية عموم الناس وإيجاب عمل خاص بهم، وهو السفر إلى مكان واحد بعينه وهو مكة، وفي الحديث تخصيص بعض الناس وهم النساء ونهيهن عن عمل عام، وهو السفر دون تخصيص مكان معين، فكيف يتعامل مع هذين النصين اللذين يظهران نوعاً من التعارض المحتمل؟
- الفهم الأول : يبنى على أن الله أوجب على الناس الحج حاشا النساء اللواتي لا أزواج لهن ولا محرم معهن، فإنهن معفيات من أداء الفريضة إذا سافرن إليه سفراً قدره معين .
- الفهم الثاني : بني على عدم جواز السفر إلا أن يكون سفر عبادة كالحج أو سفر الندب كالنظر في المال أو ما تلزمه العقوبات، كالتغريب للزاني البكر (2) .
ويختار ابن حزم الفهم الثاني معتمداً على أدلة نصية مهمة، كقوله صلى الله عليه وسلم:“ البِكْرُ بالبكرِ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ سَنَةٍ”(3) (رواه مسلم في باب الحدود)، وقوله (ص): ” لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ“(4). والمانع لهن من أداء العبادة في هذا المكان المخصوص، عام بنص الحديث (5).
- الوجه الرابع :
__________
(1) -صحيح البخاري، أبواب تقصير الصلاة .
(2) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 26 .
(3) - رواه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنا.
(4) - رواه البخاري في كتاب الجمعة .
(5) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 27.(1/145)
خلاصته أن يكون أحد النصين محرّماً لما أبيح في النص الآخر بأسره، أو يكون أحدهما موجباً والآخر مسقطاً لما وجب في هذا النص بأسره، والواجب في هذا المقام، على ما يقرر ابن حزم، أن ينظر في النص الموافق لما يمكن الكون عليه لو لم يرد واحد منهما، فيترك ويأخذ بالآخر (1) .
ويقرر - هنا - أنه إذا ثبت أن أحد النصين متأخر عن الآخر، وقام دليل على أنه ناسخ له، فإن النص المنسوخ لا يجوز العمل به، ويتعين العمل بالنص الناسخ، ولكن لا بد للنسخ من دليل، فلا يعمل بالنسخ من غير دليل، ولا يفرض أحدهما منسوخاً من غير نص آخر مفيد للنسخ (2). أما إذا لم يثبت نسخ أحدهما بالآخر، فإن النص الذي يجيء بجديد لم يكن قبل مجيء النصين، يكون هو المعمول به، والنص الموافق لما كان قبل مجيئهما، يكون غير معمول به (3).
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 02 / 30 .
(2) - أبو زهرة، ابن حزم، ص 354 .
(3) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 31 .(1/146)
أما التعارض المتوهم الذي يظهر بين أجزاء النص الديني (القرآن والسنة)، فقد نال نصيباً من اهتمام العلماء أيضاً، وحاول بعضهم إبراز مواضعه وتبديد صورة الغموض الناجمة عن التناقض الموهوم في القراءة الأولى. والحقيقة أن النص ذاته ـ كما سلف الذكر ـ نفى عن نفسه صفة التناقض هذه، وقد أكد ابن حزم هذه النقطة الجوهرية بقوله : إنه كله متفق ـ كما قلنا ـ ضرورة ... هو القائم في بديهة العقل، الذي يقود إلى مفهوم اللغة التي خوطبنا بها في القرآن والحديث ... كل ذلك كلفظة واحدة وخبر واحد موصول بعضه ببعض، ومضاف بعضه إلى بعض، ومبني بعضه على بعض إما بعطف، وإما باستثناء " (1). إنَّ هذه الرؤية، فيما نرى، نابعة من إدراك عميق لمفهوم السياق اللغوي الذي يحدد ترابط أجزاء النص، كوحدة لغوية دالة تستعين بالقرائن اللغوية، كالعطف، والاستثناء، والحالية، كمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ومواصفات لغة العرب لتحديد الدلالة الكبرى .هذا من جهة، ومن جهة ثانية يمكن القول بأن معالجته لهذه المسألة المتعلقة بكمال النص المعجز، تنزلت ضمن منهجه الرافض للترجيح العقلي أو القياسي، بإسقاط بعضها وإعمال بعضهم الآخر، وهذا دليل على عدم تناقض أصوله النظرية في التطبيق وانفلاته لشراك الحيل التوفيقية التي وقع فيها غيره، للخروج من مأزق التناقض الظاهر أو غير الظاهر بين نصين لموقف واحد(2)
__________
(1) - ابن حزم، الإحكام، 01 / 35 .
(2) - أبو زهرة، ابن حزم، ص 357 .(1/147)
الخاتمة
بعد بسط مضامين الفصول السالفة أمام القارئ، نرى أنه من الضروري صياغة جملة من النتائج، تمثل هدف الموضوع الذي اختير للدراسة، والذي يمثل التفكير اللساني عند ابن حزم فيه قطب الرحى في سياق النظرية المعرفية التي صاغها ابن حزم الظاهري كمشروع ثقافي بديل وأصيل في التراث الإسلامي في العصر الوسيط.
وقد خرجت من مجموع تجاربي مع القراءات المتنوعة للفكر الحزمي في حقوله المعرفية المتعددة من فقه وأصول ومنطق وكلام بملاحظات أحسبها مهمة، وإن لم تكن جديدة، إلا أنها مستخلصة من قراءة مؤسسة على النصوص الحزمية، التي ألفت في تناسقها وانسجامها منظومة فكرية لها منهجها وأدواتها في التحليل والبرهان، وأهم ما ميز هذه المنظومة قيامها على :
أ- سلطة النص التي تقف مواجهة للعقل المتحرر، خاصة في المسائل العقدية والتكليفية.
ب- رفض مبدأ القياس لقيامه على مقاربة الغائب بالشاهد، مما يوقع في وهم التشبيه، وقد انسحب هذا التصور على الفقه، كما طبق على النحو وعلم اللغة.
ج - فساد العلة ورفض بناء الحكم على السببية، إلا ما صرح به النص، أو جاء به دليل من عقل أو بديهة حسن، وعليه، كان موقف ابن حزم واضحا حين عد علل النحاة فاسدة من كل وجه، لعدم قيامها على أصل مسموع من كلام العرب الذين يعتد بلغتهم.
د - العناية بالمنطق الأرسطي، بإعادة قراءته وتثمين مقولاته وتسهيله لطالبيه، كي يكون أداة لفهم الشريعة ووسيلة لتأسيس منطق برهاني وبياني، يمثل اللغة العربية في استقلالية رؤيتها للكون والله والإنسان.
أما أهم النتائج التي يمكن استخلاصها من هذه القراءة النقدية لفكر ابن حزم اللساني والبياني والنصي، فهي كالآتي:
1- اعتنى ابن حزم بالظاهرة اللسانية لكونها المجال الحقيقي لحركية الاجتهاد الأصولي والفقهي واستنباط الأحكام، غير أن هذه الغائية لم تمنعه من أن يخوض في مسائل لسانية مهمة، بعيدا عن الهدف الديني بوصفها موضوعات مستقلة ترتدّ إلى ما يمكن عدّه من صميم القضايا اللسانية الحديثة، كالبحث في مفهوم اللغة ووظيفتها التواصلية، وكذا العناية بوصف مستويات البنية اللسانية في نظامها الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي والدلالي، مستمدّا أمثلته من اللغة العربية ومن اللغات التي يعرفها : اللاتينية والعبرية .(1/148)
2 - كان لابن حزم تصور مكتمل للدليل اللساني، من حيث طبيعته وخصائصه وقد ركز على سمة الخطية فيه، من خلال ربطه للحدث اللساني بمقولتي الزمان والمكان، كما وسع من دائرة العلامة لتشمل أنواعا يقع بها التواصل الإنساني مع الآخر، فمنها ما هو شمي، ومنها ما هو ذوقي، ومنها ما هو لمسي، ومنها ما هو بصري.
... وعلى صعيد البعد الكتابي، بين أهمية الكتابة في نقل المعرفة وتثبيتها وخطورة الاستهانة بها في فهم دلالات النصوص، مشيراً إلى ظاهرة التصحيف، وما يترتب عنها من سوء فهم للأحكام والمعاملات بين الناس، كما بين دلالة الإشارة والنصبة ووظيفتهما كأداتين من أدوات الاتصال الإنساني .
3- يرى ابن حزم في سياق المباحث المنطقية أن الوحدة الدلالية التي تناط بها العملية التواصلية هي الجملة، فهي الصورة الصغرى للكلام المفيد، ولعل هذه الرؤية قريبة من التصور الحديث، الذي ينفي عن الكلمة المفردة وصفها بأنها الوحدة الأساسية في التواصل اللساني .
... كما أن تحديد الجملة في دلالتها ووظيفتها تأطر بالبحث في أقسام الكلام، من حيث الإفادة وعدمها من جهة، ومن حيث قصده وغرضه من جهة ثانية .
4- من النتائج التي نحسبها مهمة في هذا البحث، تميز ابن حزم من علماء السنة بالقول بمذهب الصرفة في قضية إعجاز القرآن، كما خالفهم في عدم اشتراط التحدي لصحة النبوة، وفي هذا السياق نفى إمكان التعبد بترجمة القرآن لعدم إعجازها وخلوها من مظاهر البيان العربي.(1/149)
5- يصر ابن حزم على وجوب وضوح المعنى في الكلمة والجملة والنص، غير أن المعنى الظاهر للكلمات - كما يعده هو وما يجب أن نفهمه نحن - ليس المعنى الذي تستقبله الأذن المشتتة غير المنتبهة، والتي تجعله بعيداً عن الدقة قريباً من الغموض، إنما المعنى المقصود هو المرتبط بالفهم العميق لمبدأ اللغة وسننها في الاستعمال، لذلك انشغل ابن حزم في مشروعه البياني بالوضوح اللغوي في سياق ضبط لغة علمية موحدة، يمكن الاستعانة بها بفهم علوم الملة والوقوف على دلالات النصوص الدينية، على أساس كونها نصوصا لغوية بالدرجة الأولى.
وفي هذا السياق، يقرر انتفاء كون اللغة كياناً ملغزاً أو مبهماً، مما يفضي بالضرورة إلى عد النص الديني غامضاً قابلاً للتأويل على طريقة أهل الباطن، وقد لخص هذه النظرة في قوله: "إن كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهره، ولا يحال عن ظاهره البتة إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حس على أن شيئاً منه ليس على ظاهره، وأنه قد نقل من ظاهره إلى معنى آخر، فالانقياد واجب علينا لما أوجبه ذلك النص " وعليه، سيكون القول بالمجاز منفياً - من وجهة نظره - في اللغة، ما لم يرد عن أصحابها أنهم نقلوا هذا المعنى لذلك المسمى، والمجوز لذلك منقول عليهم هاتك لأستار الحقيقة التي بنيت عليها اللغة بل إن العمل بدلالات المجاز دعوة إلى الكذب، وهذه الصفة مجافية لمنطق البرهان وصدق القضايا.
ولابد أن يشار في هذا المضمار إلى أن الرجوع إلى ظاهر النص والأحكام إلى مبدأ موافقة الأسماء لمسمياتها ليس بالأمر الهين، إذ ليس الظاهر مجرد قشرة خارجية يمكن لمسها أو اقتلاعها، بل إنه يمثل حقيقة تركيب اللغة وأنساق بنيتها وانسجام دلالاتها، هذه الأخيرة التي نظر إليها ابن جزم على أنها المسؤول الرئيس على تفسير الفكر الإنساني، وسوء التحكم فيها إهدار لطاقة البناء الحضاري .
- - -(1/150)
قائمة مصادر البحث
الآمدي (سيف الدين أبو الحسن ت631هـ):
-الإحكام في أصول الأحكام، تحق سعيد الجميل، دار الكتاب العربي، بيروت،ط1، 1404هـ.
إبراهيم مدكور:
-في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيق، القاهرة، 1979.
إبراهيم زكي خورشيد وأحمد الشنتناوي وعبد الحميد يونس:
-دائرة المعارف الإسلامية، مراجعة محمد مهدي علام، دار المعرفة، بيروت،
1933.
أحمد أمين
-ظهر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، 1969.
أحمد بكير محمود:
-المدرسة الظاهرية بالمشرق والمغرب، دار قتيبة، دمشق، ط1، 1990.
أحمد محمد قدور:
-مبادئ اللسانيات، دار الفكر، دمشق، ط1، 1999.
أحمد محمود صبحي:
-في علم الكلام، دار النهضة العربية، بيروت، ط5، 1985.
الاسترابادي (رضي الدين )
-شرح الكافية في النحو، منشورات جامعة قار يونس
الأشعري (أبو الحسن علي ت330هـ):
-الإبانة عن أصول الديانة، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1990
-مذاهب الإسلاميين، تحق عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1971.
ألفريد بيل:
-الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم، تر. عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1981.
أنخيل بلنثيا:
-تاريخ الفكر الأندلسي، تر. حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، ط1، 1955.
الأيجي (عضد الدين والملة ت 756هـ):
-المواقف، تحق عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط1، 1997.
إمام الحرمين (أبو المعالي الجويني ت478هـ)
-البرهان في أصول الفقه، تحق، عبد العظيم محمود الديب، مطبعة الوفاء، المنصورة، مصر، ط4، 1418.
الباقلاني (أبو بكر القاضي ت403هـ):
-إعجاز القرآن، بهامش الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تحق عبد المنعم خفاجي، دارالجيل، بيروت، ط1، 1991، طبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1952.
البخاري (محمد بن إسماعيل الجعفي ت256هـ)
-الصحيح، تحقيق مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، بيروت، ط3، 1987 .
التفتازاني (مسعود بن عمر سعد الدين ت983هـ):(1/151)
-التلويح على توضيح التنقيح، محمد علي صبيح، القاهرة، د.ت.
تمام حسان:
-البيان في روائع القرآن، دراسة لغوية أسلوبية، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 1993.
-اللغة العربية معناها ومبناها، دار الثقافة، الدار البيضاء، د.ت.
التهانوي (محمد علي الفاروقي ت1158هـ):
-كشاف اصطلاحات الفنون، تحق لطفي عبد البديع، المؤسسة المصرية العامة، القاهرة، 1963.
الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر ت255هـ):
-البيان والتبيين، تحق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1975.
-الحيوان، تحق عبد السلام هارون، المجمع العلمي العربي الإسلامي، ط3، 1969.
الجرجاني (أبوبكر عبد الله بن محمد ت471 هـ )
-ديوان الحماسة، تحقيق محمد التونجي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، بيروت، 1995 .
الجرجاني (الشريف علي بن محمد ت816هـ):
-التعريفات،معجم فلسفي منطقي صوفي نحوي، تحق عبد المنعم الحفني، دار الرشاد، القاهرة، د ت .
الجصاص (أحمد بن علي الرازي ت370هـ):
-أحكام القرآن، تحق محمد صادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ،
جميل صليبا:
-المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة،بيروت، 1982.
ابن جني (أبو الفتح عثمان ت392هـ):
-الخصائص، تحق محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت.
جون كانتينو:
-دروس في علم الأصوات العربية، تر. صالح القرمادي، الجامعة التونسية، 1966.
ابن الحاجب (عثمان بن عمر جمال الدين ت646هـ):
-الكافية في النحو، دار الكتب العلمية، بيروت، 1890
ابن حبان (أبوحاتم محمد بن حبان البستي ت354هـ)
-صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط2، بيروت،
1993 .
ابن حزم (أبو محمد علي بن سعيد ت456هـ)
-الإحكام في أصول الأحكام، تحق إحسان عباس، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1983، وبتحقيق أحمد محمد شاكر، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت1980.(1/152)
-الأصول والفروع، تحق محمد عاطف العراقي وسهير فضل الله هلال، دار النهضة العربية، القاهرة، 1978.
-التقريب لحد المنطق، والمدخل بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، تحق إحسان عباس، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1959.
-جمهرة أنساب العرب، تحق عبد السلام هارون، دار المعارف بمصر، سلسلة ذخاير العرب، القاهرة، 1962.
ردٌّ على ابن النغريلة اليهودي ورسائل أخرى، تحق إحسان عباس، دار العروبة، سلسلة كنوز العرب، نسخة مصورة عن جامعة القاهرة، القاهرة، 1960.
- رسائل ابن حزم الأندلسي، تحق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1981.
- رسالة في مراتب العلوم، تحق إحسان عباس، مكتبة الخانجي، القاهرة، د.ت.
-الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحق سمير أمين الزهري، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1978، وطبعة المطبعة الأدبية، القاهرة، ط1، 1317هـ، وبتحقيق محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، مكتبة عكاظ، جدة، 1982.
- المحلى بالآثار، تصحيح محمد خليل الهراس، مطبعة الإمام، مصر، وتحقيق أحمد محمد شاكر، دار الجيل، بيروت، د.ت.
- مراتب الإجماع، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت.
-الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، تحق عبد الغفار سليمان البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1406هـ.
- ... النبذة الكافية في أحكام أصول الدين، تحق محمد أحمد عبد العزيز، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985، وبتحقيق أبي مصعب البدري، دار الكتاب المصري، القاهرة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1412هـ/1991م.
حسن مسعود الطوير:
-جهود علماء الغرب الإسلامي واتجاهاتهم في دراسة الإعجاز القرآني، من القرن 05هـ إلى القرن 08هـ، دار قتيبة، دمشق، ط1، 2001.
-حسن يونس حسن عبيدو:
-دراسات ومباحث في تاريخ التفسير ومناهج المفسرين، مركز الكتاب للنشر، مصر الجديدة، القاهرة، 1991.
الخفاجي (ابن سنان ت466هـ):
-سر الفصاحةدار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1982.(1/153)
ابن خلدون (عبد الرحمن ت808هـ):
-المقدمة، دار القلم، بيروت، ط7، 1989.
الخوارزمي( محمد بن أحمد يوسف)
-مفاتيح العلوم تحق نهى النجار، دار الفكر اللبناني، ط1، 1983ّ.
الرازي (محمد بن عمر فخر الدين ت606هـ):
-المحصول، تحق طه جابر علواني، جامعة سعود، الرياض، ط1، 1400هـ.
الرازي
- مختار الصحاح، دائرة المعاجم، مكتبة لبنان، ط1987.
الرماني (علي بن عيسى ت384هـ)
- ... النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز، تحق زغلول سلام ومحمد خلف الله،دار المعرف، القاهرة، ط3، دتط.
روبنز (ر.هـ )
-موجز تاريخ علم اللغة في الغرب، تر. أحمد عوض، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، الكويت، 1997.
الزركشي (بدر الدين ت794هـ):
-البرهان في علوم القرآن، تحق أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط3، 1980.
الزركلي (خير الدين محمود الدمشقي ت 1396هـ)
-الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط5، 1980.
الزمخشري (أبو القاسم جار الله)
-المفصل في علم العربية، دار الجيل، بيروت، ط2، د.ت.
السبكي (علي بن عبد الله الكافي ت756هـ):
-الإبهاج في شرح المنهاج، تحق جماعة من العلماء، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1 1401هـ، وطبعة دار الكتب العلمية، بيروت 1984.
ستيفن أولمان:
-دور الكلمة في اللغة، تر. كمال بشر، دار الطباعة القومية، القاهرة، 1962.
السرخسي (محمد بن أحمد شمس الأئمة ت490هـ):
-أصول السرخسي، تحق أبو الوفاء الأفغاني، دار المعرفة، بيروت 1372هـ، وطبعة دار الكتاب العربي، القاهرة 1953.
السكاكي (أبو يعقوب ت626):
-مفتاح العلوم، مطبعة التقدم العلمية، القاهرة، دت.
السيوطي (جلال الدين )
-الإتقان في علوم القرآن، تحق محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975
-الأشباه والنظائر في النحو، تحق عبد القادر الفاضلي، المكتبة العصرية، بيروت،
ط1، 1999.
-همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، دار البحوث العلمية، الكويت، 1977.(1/154)
الشعراني (عبد الوهاب بن أحمد، أبو المواهب ت973هـ):
-الميزان لكبرى للشعرانية، القاهرة، 1306.
الشوكاني (محمد بن علي ت1350هـ):
-إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تحق محمد سعيد البدري، دار الفكر، بيروت، ط1،1993.
طاش كبري زاده (أحمد بن مصطفى ت968 ه):
-مفتاح السعادة ومصباح الريادة في موضوعات العلوم، دارالكتب العلمية بيروت،
د ت .
عباس محمود العقاد:
-طوالع البعثة المحمدية، مطلع الأنوار، كتاب الهلال، القاهرة، د.ت.
عبد الحميد الشلقاني:
-رواية اللغة، دار المعارف بمصر، القاهرة، د.ت.
عبد اللطيف العبد:
-أصول الفكر الفلسفي عند الرازي، مكتبة الأنجلوالمصرية، القاهرة، 1977.
عبد الهادي عبد الرحمن:
-سلطة النص، قراءات في توظيف النص الديني، سينا للنشر، القاهرة/ بيروت/ لندن، ط1، 1998.
عزمي إسلام:
-لودفيج فتجنشتين، دار المعارف، القاهرة، د.ت.
علي زوين:
-منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث، دار الشؤون الثقافية، العراق،
ط1، 1986.
علي سامي النشار:
-مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، ط3، 1984.
الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد ت505):
-المستصفى من علم الأصول.تحق محمود شاكر، المطبعة الأميرية،القاهرة، د ت .
-معيار العلم في فن المنطق، تحق سليمان الدنيا، دار المعارف، القاهرة ط2، د.ت.
القاضي عبد الجبار أبو الحسن الأسد أبادي ت415هـ
-شرح الأصول الخمسة، تعليق أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، تحق عبد الكريم عثمان مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1966.
القرافي (شهاب الدين أحمد بن إدريس ت684هـ):
-الاستغناء في أحكام الاستثناء، تحق طه محسن، مطبعة الإرشاد، وزارة الأوقاف، بغداد، 1402.
القنوجي (صديق بن حسن ت1307هـ)
-أبجد العلوم،الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، تحق عبد الجبار زكار دار الكتب العلمية، بيروت، 1978.
الفارابي (أبو نصر الفيلسوف )(1/155)
- ... كتاب الحروف، تحق محمد محسن مهدي، بيروت، 1970.
الفخر الرازي (أبو عبد الله البكري، ت 455هـ)
-مفاتيح الغيب المعروف بالتفسير الكبير، القاهرة، مصر، 1907.
الفيروزابادي (مجد الدين بن يعقوب ت817هـ):
-القاموس المحيط، دار المعرفة، بيروت، د.ت.
فايز الداية:
-علم الدلالة العربي بين النظرية والتطبيق، دراسة تاريخية تأصيلية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د.ت.
ابن ماجه (أبوعبد الله محمد القزويني ت275 هـ)
- السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، دتط .
محمد أحمد عرفة:
-النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة، القاهرة، د.ت.
محمد أبوزهرة
-ابن حزم حياته وعصره آراءه وفقهه، دار الفكر
-أصول الفقه، دار الفكر
محمد أديب صالح:
-تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، دار الكتاب الإسلامي، بيروت، ط3، 1984.
محمد رشيد رضا:
-تفسير المنار، مطبعة المنار، القاهرة، 1346هـ.
محمد بن حسن الحجوي الثعالبي:
محمد الصالح بنداق:
-المستشرقون وترجمة القرآن، منشورات الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1983.
محمد الصغير بناني:
-النظريات اللسانية والبلاغية والأدبية عند الجاحظ من خلال البيان والتبيين، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1986.
محمد علي حماية:
-ابن حزم ومنهجه في دراسة الأديان، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1983.
محمد عيد
-أصول النحو في نظر النحاة ورأي ابن مضاء وعلم اللغة الحديث، عالم الكتب، القاهرة، ط4، 1989.
محمد الكتاني:
-جدل العقل والنقل في مناهج التفكير الإسلامي في الفكر القديم، سلسلة دراسات إسلامية، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1992.
محمد الهادي أبو ريدة:
-الكندي وفلسفته، دارالفكر العربي، 1950.
محمد المنتصر الكتاني:
-معجم فقه ابن حزم الظاهري، مطبعة جامعة دمشق، 1966.
محمود توفيق:
-دلالة الألفاظ عند الأصوليين، دراسة بيانية ناقدة، مطبعة الأمانة، القاهرة، ط1، 1987.
محمود فهمي حجازي:(1/156)
-علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة، المكتبة الثقافية، عدد 249، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1970.
مسلم (مسلم بن الحجاج النيسابوري ت241هـ)
- صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د ت .
مصطفى عبد الرزاق:
-الدين والوحي والإسلام،مؤلفات جمعية الفلسفية المصرية، القاهرة، 1954.
مصطفى غالب:
-في سبيل موسوعة فلسفية، دار ومكتبة الهلال، القاهرة 1987.
مصطفى ناصف
-نظرية المعنى في النقد العربي
المقريزي (أحمد بن على بن عبد القادر،ت592)
-الخطط والآثارالمعروف باسم المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، المطبعة الأميرية، القاهرة، د ت.
ابن مضاء (أحمد عبد الرحمن اللخمي ت592هـ):
-الرد على النحاة، تحق شوقي ضيف، دار المعارف، ط3، د.ت.
ابن منظور (أبو الفضل ت711هـ):
-لسان العرب، دار صادر، بيروت،د.ت.
لطفي عبد البديع:
-فلسفة المجاز، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط1.
-ميتافيزيقا اللغة، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة دراسات أدبية، القاهرة، 1977.
-الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 1977.
نصر حامد أبو زيد:
-الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، دار التنوير، بيروت، ط2، 1983.
ياقوت الحموي (ياقوت بن عبد الله ت 626هـ):
-معجم الأدباء، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، تحق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1993، وطبعة دار المأمون، فريد الرفاعي، د.ت.
يوهان فك
-العربية،تر عبد الصبور شاهين، المطبعة الكاثوليكية، بيروت ن1965.
-Arnaldez (Roger) grammaire et theologie chez Iben Hazm de cordoue , essai sur la structureet les conditions de la pensée musulmane, Paris 1956.
المجلات
الأصالة، تصدر عن وزارة الشوؤن الدينية –التعليم الأصلي، عدد25 سنة 1975.(1/157)
-حوليات الجامعة التونسية، عدد08، 1992.
-دراسات عربية، مجلة فكرية اقتصادية اجتماعية، دار الطليعة عدد2، سنة24، ديسمبر 1987.
-دعوة الحق، الرباط، المغرب، ماي/ يونيو 1963.
-الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، بيروت، عدد44 /45، سنة1987.
-مجلة كلية الآداب، الإمارت العربية المتحدة، عدد01، 1985.
-العربي، مجلة ثقافية تصدرها وزارة الإعلام، الكويت، عدد57، سنة1963، وعدد190، سنة 1975.
-المجلة العربية للعلوم الإنسانية، الكويت، مجلد 04، عدد16، سنة 1984.
-مجلة اللسانيات، إصدار معهد الصوتيات، جامعة الجزائر،بإشراف د. عبد الرحمن الحاج صالح، سنة 1972.
-مجلة المسلم المعاصر، عدد36، د.ت.
- - -
المحتوى
الإهداء ... 5
المقدمة ... 7
المدخل ابن حزم و مدرسته في الغرب الاسلامي ... 11
توطئة ... 11
المولد والنشأة ... 11
المذهب الظاهري - مشروعية القراءة : ... 13
المدرسة الظاهرية، الأصول و الأهداف ... 14
موقفه من مصادر التشريع المختلف فيها : ... 18
نقد القياس أصولياً ... 19
أنواع القياس ... 21
- خلاصة ... 24
الفصل الأول: التصور اللساني عند ابن حزم وأصوله المعرفية ... 25
توطئة ... 25
القضايا الصوتية ... 26
الصوت وعلاقته بفاعله ... 26
الصوت واللفظ ... 27
الصوت والدلالة ... 28
الصوت بين ثنائية الزمان و المكان ... 28
الاسم ... 30
الكلمة ... 30
الحرف ... 31
- القول ... 32
العلامة الإعرابية ... 36
- موقفه من علل النحو ... 37
- القياس اللغوي ... 39
- أهمية النحو التعليمي في تصحيح الأخطاء ... 40
- القضايا الدلالية ... 42
- أهمية المعنى المعجمي عند ابن حزم ... 43
السياق وأثره في المعنى ... 47
القضايا البلاغية ... 50
- البلاغة عند ابن حزم ... 52
الفلسفة اللغوية في فكر ابن حزم ... 54
-علاقة الأبحاث المنطقية باللغة عند ابن حزم ... 54(1/158)
-المصطلح الفلسفي عند ابن حزم من المشكلة إلى الحل: ... 57
أسس المنطق البياني: ... 61
ـ نماذج لبعض المصطلحات المنطقية والفلسفية [رؤية حزمية]: ... 61
ـ ملامح فلسفة اللغة عند ابن حزم: ... 64
ـ الخلاصة: ... 66
الفصل الثاني: النص بين البنية والتداول ... 67
الدلالة اللسانية بين الحقيقة والمجاز ... 67
الحقيقة الشرعية والعرفية ... 71
سبل النقل اللساني ... 72
الدلالة بين الأمر والنهي ... 73
الوظيفة التداولية للأمر في الخطاب الديني ... 73
موقف ابن حزم من وظيفة الأمر النصية ... 74
الوظيفة التداولية لتكرار الأمر ... 78
الوظيفة التداولية للنهي ... 79
الوظائف التداولية للأمر والنهي وآليات القراءة ... 80
العلاقة الدلالية بين الأمر والنهي ... 81
تداولية الاستثناء ... 82
الفصل الثالث: البيان عند ابن حزم بين التأصيل والإجراء ... 85
- مفهوم البيان ومراتبه ... 85
- أنواع البيان ... 88
- ظاهرة النبوة في النص الحزمي ... 90
- الإعجاز القرآني ... 92
الإعجاز القرآني ومذهب الصرفة ... 94
- أوجه الإعجاز عند ابن حزم ... 96
- ترجمة القرآن في ضوء مفهوم الإعجاز ... 97
- ظاهرة النسخ ووظيفتها النصية ... 100
- حركية النسخ في ضوء علاقة النص بالواقع ... 102
- الكلام الإلهي بين الخلق والقدم ... 103
- تعليل النصوص ... 107
- النصوص بين التعارض والتكامل ... 110
الخاتمة ... 113
قائمة مصادر البحث ... 117
المحتوى ... 126
- - -(1/159)