فهرست الموضوعات
تقديم
الإهداء
مقدمة
مدخل : تاريخ المناظرة بالأندلس
عوامل شيوع المناظرة بالأندلس
أولا : العامل الداخلي
ثانيا : العامل الخارجي
الفصل الأول : الاعتراض على الاستدلال بالكتاب
I-الاعتراض على الدلالة الأصولية
-ظاهرية ابن حزم
-باطنية الباجي
المناظرات
أولا : المناظرة بين المالكية وابن حزم
ثانيا : المناظرة بين ابن حزم والباجي
II-الاعتراض على الاستدلال ببعض أوجه القراءات القرآنية
-الاختلاف على القراءة الآحادية
-الاختلاف على القراءة المتواترة
الفصل الثاني : الاعتراض على الاستدلال بالسنة
I-ابن حزم المناظر المحدث والباجي المناظر الأصولي
-أولا : الخبر المتواتر
-ثانيا : شروط قبول الخبر
-ثالثا : الإكثار من الرواية
II-ابن حزم الظاهري والباجي المالكي
أوليتان
-رفض الترجيح
-الإيمان بالقطع
III-المناظرات
-دعوى حصول العلم بالخبر الواحد
-دعوى وجوب العمل بالخبر المرسل
-دعوى التعارض والترجيح
الفصل الثالث : الاعتراض على الاستدلال بالقياس
I-أوليات
أولا : القياس بين الفقه والمنطق
ثانيا : جدلية تناهي النصوص وكمالها
ثالثا : جهل الإنسان (المعرفة)
رابعا : المباح (الأحكام)
II-المناظرات:
-1 نفي الاحتياط وقطع الذرائع المشتبه
-2 نفي الاستحسان والاستنباط والرأي
-3 نفي التقليد
-4 نفي القياس
-5 قوادح التعليل
الفصل الرابع : منهج المناظرة
I-الدعوى
II-الدليل
III-الاعتراض
كيفية الاعتراض في المناظرة العقلية
كيفية الاعتراض في المناظرة الشرعية
استنتاج عام
خاتمة
فهرست الآيات القرآنية
فهرسة الأحاديث النبوية
قائمة المصادر والمراجع
فهرس الموضوعات(/)
المناظرة في أصول التشريع الإسلامي
(دراسة في التناظر ابن حزم والباجي)
للأستاذ المصطفى الوظيفي
1419هـ – 1998 م(1/1)
تقديم :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد، فإن فن البحث والمناظرة، وما يقتضيه من آداب ومنهجية خاصة يعد من المباحث والفنون العلمية التي اهتم بها علماء الإسلام قديما وحديثا، ودرسوها دراسة مستوعبة، وتعمقوا فيها ومارسوها نظريا وعمليا بهدف صقل مواهبهم الفطرية، وتوسيع آفاقهم ومدراكهم العقلية، والإقناع بآرائهم واجتهاداتهم واستنباطهم الفكرية، وتعاطوه وساروا عليه في مختلف العلوم الشرعية واللغوية والإنسانية.
ومن ثم فإنه لم يكن عصر من العصور الإسلامية، وازدهار العلوم والمعارف المختلفة يخلو من وجود مناظرات ومحاورات ومناقشات في هذا العلم أو ذاك، وبين هذا أو ذاك، أو في هذه المسألة أو تلك من المسائل التي تكون مجال بحث ومناظرة تثري البحث العلمي وتكشف عن فكر علماء أجلاء وعباقرة أفذاذ، يتناظرون في موضوع علمي دقيق، ويعالجونه في حوار رصين، وبحث عميق حول القضايا الدينية والأصول والأحكام الفرعية، أو اللغوية والفلسفية وغيرها مما هو مدون ومبسوط في كتب التاريخ والفكر الإسلامي بتوسع وتفصيل.
ولئن كان فن البحث والمناظرة وآدابه ومنهجه قد عرف بين العلماء واشتهر في بلاد الشرقي الإسلامي، فإنه عرف وانتشر وازدهر كذلك في بلاد الغرب الإسلامي من المغرب والأندلس، بحكم ما أنجبه من علماء كبار، التقى علمهم بعلم المشرق، فكون ذلك الرصيد العلمي الهائل، والثراء الفكري والحضاري الكبير الذي يحق للأمة الإسلامية أن تعتز به في كل جيل وأوان، وان تجعل منه منطلقا وأساسا لما تصبو إليه حاضرا ومستقبلا من رقي وازدهار في كل ميدان.(/)
وإن من أبرز الميادين العلمية التي كانت مجالا للتناظر والتحاور بين علماء الإسلام ميدان التشريع الإسلامي، في أصوله وفروعه، وقواعده وأحكامه، كما أن من أجل وأبرز من نبغ فيه وتصدى له ومارسه بجدارة علمية وثقة نفسية عالمان جليلان من علماء الإسلام في الأندلس، ذاع صيتهما وطبقت شهرتهما الآفاق، هما الفقيه الجليل المتضلع القاضي أبو الوليد الباجي المالكي، والفقيه الجليل المتمكن أبو محمد بن حزم الظاهري.
فقد كان هذان العالمان متعاصرين، وكان لكل منهما منحى يسلكه في الأخذ بالمذهب الفقهي والمنهج الأصولي، والتوجه اعلمي والاستدلال الفكري والمنطقي الذي يتمسك به، ويقتنع به ويدافع عنه.
وكان ذلك مدعاة لاختلاف آرائهما ومفاهيمهما ووجهة نظرهما في كثير من القضايا والأصول والمسائل والأحكام، ومحاولة كل منهما الانتصار لمذهبه واجتهاده وطريقة استنباطه، والإقناع بسداد رأيه، وصواب قوله، وسلامة منطقه، وقوة حجته ودليله، وهذا ما أجلى في المناظرات المختلفة والمتنوعة التي وقعت بين هذين العاملين الجليلين، وبين كل منهما مع غيره من علماء الإسلام، وأهل الديانات السماوية الأخرى، مما كان له صدى واسع، وأثر كبير في اهتمام العلماء ورجال الفكر والثقافة بفن المناظرة وأدبها وأسلوبها في الحجاج والحوار، وما تحتاج إليه من استعداد علمي كبير، ومنهج دقيق سليم، ونقاش هادف، عاقل ورصين.(1/2)
وإبرازا لتاريخ نشأة فن المناظرة وآدابها عند علماء الإسلام، وما كان لها من أثر في إذكاء روح النقاش والحوار بينهم في شتى الموضوعات، وتركيزا على المناظرة في أصول التشريع الإسلامي بين هذين العالمين بكيفية خاصة، وللمناظرات التي تمت بينهما في مختلف المجالات والمسائل التي تركزت عليها بصفة عامة، والعوامل الداخلية والخارجية التي حركتها وكانت باعثة عليها، فقد يسر الله للأستاذ المصطفى الو ضيفي أن يتناول هذا الموضوع ودراسته دراسة موسعة من مختلف جوانبه، وقدمه رسالة جامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية.
ولأهمية هذه الدراسة وقيمتها العلمية الهامة، وحتى يتأتى الاستفادة منها وتعميم النفع لكافة العلماء الأجلاء، والأساتذة الدارسين والباحثين المتخصصين.
فقد وقع اختيار الوزارة عليها ضمن المؤلفات التي تطبعها وتصدرها في مجال إحياء التراث الإسلامي، والدراسات الإسلامية والإنسانية الجامعية القيمة.
والوزارة إذ تقوم بطبع هذا الكتاب وإصداره ضمن مطبوعاتها المختلفة، نسأل الله العلي القدير أن يجعله في سجل الحسنات والأعمال الصالحة، والمكارم والمبرات الخالدة لمولانا أمير المؤمنين جلالة الملك الحسن الثاني، وأن يكتبه في مآثره العظمية، وأن يقر الله عين جلالته بولي العهد المبجل صاحب السمو الملكي الأمير الجليل سيدي محمد، وصنوه صاحب السمو الملكي الأمير المجيد مولاي رشيد، وان يحفظه في كافة أسرته الملكية الشريفة. إنه سبحانه سميع مجيب، ونعم المولى ونعم النصير.
.............................وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري(1/3)
الإهداء
جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟
قال : "أمك"
قال : ثم من ؟
قال : "أمك"
قال : ثم من ؟
قال : "أمك"
قال : ثم من ؟
قال : "ثم أبوك".(/)
مقدمة
المناظرة : إما مشاقة من النظير أو من النظر بمعنى الإبصار أو الانتظار أو النظر بالبصيرة، وهو مشترك بين المعنيين ؛ الحركات التخيلية وترتيب أمور معلومة تؤدي إلى مجهول. والأول يعم المنع دون الثاني، ولا يخفى مناسبة كل من المعاني للمعنى العرفي في العرف الخاص.
م. محمد بن الحسين البهتي
مقدمة
الحمد لله الذي أدبنا بآداب المناظرين، ومنعنا من البحث عن عناد المكابرين، وحلانا بآيات لا ينقصها نقص المعاندين، وحلانا بأفكار لا يعارضها أوهام القاصرين.
والصلاة والسلام على من شيد أركان الدين بالإسناد اليقين، وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا الشريعة بجهد متين.
وبعد، في هذه المقدمة يكون لا داعي للحديث عن أهمية المناظرة في علم أصول الفقه، لأنه هذه الظاهرة تشكل الجانب الصوري لهذا العلم فهي التي يتمسك بها الفقهاء، إما هدما لمذهب أو حفاظا عليه لكن هناك قضايا مهمة يقتضي البحث الإشارة إليها:
أولا: ينبغي تحديد المناظرة المقصودة في هذا البحث، فهناك مدافعة تسمى مناظرة ومدافعة تسمى جدلا(1)، وتتحدد المدافعة المناظرة أو الجدل اعتمادا على فصد المدافع، فإن كان المدافع قصده الحق سميت مدافعته مناظرة وإن كان قصده إسكات الخصم سميت المدافعة التي بينهما مناظرة، وهي التي وظفناها داخل هذا البحث المتواضع.
غير أن هذا لا يمنع ممارستهما للمدافعة التي تقصد إلى إفحام الخصم.
ثانيا: المناظرة ضرورة تستدعيها عدة أسباب، غير أن أهمها والذي ركزنا عليه هو الاختلاف على قراءة النصوص الشرعية وادعاء الحق فيها، وذلك اعتمادا على مرحلتين أساسيتين:
الأولى: مناظرة النفس لإقناعها مما يؤول من النصوص الشرعية.
__________
(1) - شرح العلامة محمد بن حسين البعتي المعروف بمنلا عمر زاده على "الوليدية في آداب البحث والمناظرة" للعلامة محمد المرعشي المعروف بساجلقي زاده ص :7(1/4)
والثانية: مناظرة الآخر لإقناعه بما اقتنعت به نفس المؤول، وهذه المرحلة هي التي يتم فيها التناظر بين خصمين يريد كل واحد منهما إقناع صاحبه بما ادعاه من الحق كتابة أو شفاه.
وهكذا يكون كل واحد من بني الإنسان مناظرا لغيره شاء أو أبى.
ومن هنا يمكن الحديث عن مناظرة الباجي –ابن حزم، فكون ابن حزم قرأ النصوص الشرعية بما اقتنعت به نفسه وادعى الحق فيما تأول من النصوص ولا شك سيكون مدعاة لمناظرة غيره له فيما ادعاه أنه حق. ويكون هنا لا داعي لفهم المناظرة بشكلها البسيط والمتعارف عليه بل ينبغي فهمها بالمعنى الأعم الذي يجمع بين المناظرة الشفوية والمكتوبة التي تقصد إلى الاستدلال على دعوى مناقضة لاستدلال دعوى الخصم، سواء عاصر الخصم خصمه أم لم يعاصره.
ثالثا : المناظرة المتحدث عنها في هذا البحث المتواضع اقتصرت على موضوع علم أصول الفقه بالأندلس بين ابن حزم والباجي وذلك لما لعلم المناظرة من أهمية في علم أصول الفقه من جهة ولما لأصول ابن حزم والباجي من إفراز لهذه الظاهرة بالأندلس إبان القرن الخامس الهجري من جهة أخرى.
وإبرازا لهذه الظاهرة التي عرفها علم أصول الفقه بالأندلس إبان القرن الخامس الهجري رأينا تقسيم البحث إلى : مدخل وأربعة فصول واستنتاج وخاتمة.
المدخل : تحدثنا فيه عن تاريخ الناظرة ودواعي شيوعها بالأندلس، وأرجأنا هذه الدواعي إلى عاملين أساسيين :
الأول : داخلي، وتحدثنا فيه عن دور السياسة والثقافة الداخليتين في شيوع المناظرة بالأندلس.
الثاني : خارجي، وتحدثنا فيه عن دور الثقافة المشرقية في شيوع المناظرة بالغرب الإسلامي.
الفصل الأول : أبرزنا فيه المنطلق اللغوي لابن حزم والباجي، وربطنا هذا المنطلق بمناظرتهما حول بعض القضايا اللغوية.(1/5)
الفصل الثاني: ركزنا فيه على مناظرة الباجي لابن حزم حول بعض القضايا الحديثية معتمدين في ذلك على ربط الأوليات الحزمية –في هذا الجانب- بأوليات الباجي وذلك لما لهذه الأوليات من دور فعال في شساعة التناظر بين الفقيهين.
الفصل الثالث: تحدثنا فيه عن تناظر الفقيهين حول القياس والتعليل آخدين بعين الاعتبار منطلق ابن حزم والباجي ودور هذا المنطلق في اختلافهما على دعاوى القياس والتعليل.
الفصل الرابع والأخير: خصصناه للحديث عن المناظرة، وقسمنا الحديث فيها على حسب ما يقتضيه هيكلها العام، فتحدثنا عن الدعوى والدليل والاعتراض، ففي الدعوى حاولنا بينا الدعاوى التي تحتمل والتي لا تحتمله.
وفي الدليل بينا حد الدليل وأهميته مميزين بين الأدلة عند أهل هذا الفن وعند أهل الشرع.
وفي الاعتراض ارتأينا التمييز بيت الاعتراض العقلي والاعتراض الشرعي، فالاعتراض الأول تحدثنا فيه عن المنع (المناقضة) والنقض والمعارضة.
أما الثاني فبينا كيفية الاعتراض على الاستدلال بالكتاب والسنة والقياس.
أما الاستنتاج العام فقد أشرنا إلى مدى التزام ابن حزم والباجي بالطرق التناظرية معتمدين في ذلك على بعض التخريجات التي استخرجناها من فصول هذه الرسالة وذلك اعتمادا على ربط المناظرة التطبيقية بالمناظرة النظرية.
وأما الخاتمة: فقد أشرنا فيها إلى دواعي التناظر بين بني البشر والمتمثل في طبيعة اللغة القرآنية.
وأخيرا لا يفوتني وأنا أختم عرض محتوى هذا البحث دون أن أنوه بالجهود التي بذلها الأستاذ المشرف التهامي الراجي لإنجاح هذا البحث المتواضع كما لا يفوتني أن انوه بكل من أضاف يدا من أياديه خدمة لهذا البحث.
والله أسأل أن يوفقنا ويهدينا لها فيه الخير والصالح العام.
المصطفى الوضيفي
البيضاء 27/02/1989(1/6)
المدخل:تاريخ المناظرة بالأندلس
"وجعلنا هذا الكتاب (أي الأحكام) بتأييد خالقنا عز وجل لنا موعبا للحكم فيما اختلف الناس من أصول الأحكام في الديانة مستصفى، مستقصى، محذوف الفضول، بحكم الفصول، راجين أن ينفعنا الله عز وجل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات…"
ابن حزم:أحكام الفصول في أحكام الأصول
محتوى المدخل
-مقدمة
-عوامل شيوع المناظرة بالأندلس
أولا-العامل الداخلي
أ-العامل السياسي
ب-العامل الثقافي
ثانيا-العامل الخارجي
أ-الاحتكاك الحضاري بين الغرب والشرق(1/7)
مدخل
المناظرة من الفنون الإسلامية، وقد دون هذا الفن كمناظرات في كتب الفلسفة وكتب الملل والنحل وكتب الكلام…
غير أننا لم نجد من المؤرخين من اهتم بالتأريخ لهذه المناظرات، وربما كتاب تاريخ الجدل لأبي زهرة يعتبر الوحيد الذي اهتم بتاريخ هذا الفن، واهتمامه به لم يخرج عن نطاق التأريخ للمناظرات بالمشرق، أما التأريخ لهذا الفن بالأندلس والمغرب، فقلما نجد مؤلفا اعتم بهذا الفن.
هذا على الرغم من شيوع هذا الفن بالأندلس والمغرب، وذلك لتوافر شروطه وملابساته التي تمثلت في الظروف السياسية والثقافية للأندلس والمغرب ناهيك عن ظروف أخرى تمثلت في الاحتكاك الحضاري الذي توفر لهذين البلدين.
إنه من خلال هذه الملابسات التاريخية التي تميز بها الغرب الإسلامي، رأينا التأريخ للمناظرة إبان أواخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس إلى حدود أواسطه بالأندلس، وهي الفترة التي عاشها الفقيهان : ابن حزم والباجي.
إن هذه الفترة التي عاشها ابن حزم والباجي فترة سادها الاضطراب الفكري والسياسي، فهي تزخر بالمتناقضات الناتجة عن اختلاط المسلمين بالنصارى واليهود من جهة، واختلاط التيارات الفكرية الإسلامية فيما بينها من جهة أخرى، وهذا كله يضمن للأندلسيين شهرة الإكثار من المناظرة ولعل وقفة على العوامل المساعدة على شيوع المناظرة تعطينا فكرة واضحة عن تاريخ التناظر بالأندلس.(/)
عوامل شيوع المناظرة بالأندلس:
هناك عوامل متعددة أعنت المناظرة بالأندلس، وهي نفس العوامل المساعدة عليها في المشرق، فقد لعب الاجتهاد(1) دوره في كثرة التناظر حول بعض القضايا الفقهية، كما لعب التسامح الديني(2) الذي طبع أهل هذا البلد دوره في نمو المناظرات الكلامية بين المسلمين وأهل الملل الأخرى. إلا أن أهم سبب دفع بازدهار المناظرة بالأندلس يكمن في عاملين أساسين:
الأول لعامل الداخلي: وتعني به السياسة والثقافة الداخليين
والثاني العامل الخارجي: وتعني به الاحتكاك الحضاري بين الغرب والشرق.
أولا: العامل الداخلي: ويتمثل في عاملين:
1-العامل السياسي:
إن الفترة السياسية التي عاشها ابن حزم والباجي تتراوح بين سنة 384هـ
__________
(1) - تاريخ الجدل: أبو زهرة ص : 293.
مقدمة التركي لكتاب إحكام الفصول : الباجي ص : 91.
(2) - أكاديمية المملكة المغربية/ السفر : 12 س 86 ص : 17.(1/8)
و474هـ، وهي فترة شهدت تحولا سياسيا كبيرا، ولعل هذا التحول السياسي كانت له ظروفه القبلية التي تمخض فيها، ففي سنة 127هـ وقعت الأندلس تحت نفوذ يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عمل جاهدا على إخماد الثورات الداخلية بين العرب والبربر(1) . وبينما هو يعمل على ذلك فإذا بعبد الرحمن الداخل يدخل الأندلس في ترحاب كبير، فخشى يوسف الفهري منافسه، فجيش جيشا وقابله في معركة خسرها يوسف الفهري(2) وبذلك استتب الحكم لعبد الرحمن الملقب بالداخل، وبعدما عمل عبد الرحمن على إنجاز إمارته فاتخذ قرطبة مقرا له سنة 138هـ وبدأ في إنجاز المنجزات المعمارية، فاختلط المدينة وبنى المساجد ونظم الجيش وشجع العلوم وظل الحكم بيده إلى أن توفي سنة 172هـ(3) .
__________
(1) - تاريخ الدولة الأموية في الأندلس / التاريخ السياسي : عبد المجيد نعنعي 143.
(2) - خلاصة تاريخ الأندلس: الأمير شكيب أرسلان ص : 27 وتاريخ افتتاح الأندلس : ابن القوطية ص : 50-52.
(3) - تاريخ ابن خلدون المسمى العبر/ المجلد 4/120 وتاريخ الدولة الأموية في الأندلس : نعنعي ص : 148-164-168-170.(1/9)
وبعده تولى أبناؤه وحفدته الحكم، فقد تولى هشام الحكم وسار على نهج أبيه إلى أن توفي سنة 180هـ(1) . وجاء بعده الحكم بن هشام الذي كان طموحا إلى قهر النصارى، وقد تم له ذلك فانتصر عليهم غير ما مرة، وبقي في الحكم إلى أن أدركته الوفاة سنة 206هـ(2) . وخلفه ابنه عبد الرحمن الثاني على إخماد بعض الثورات الداخلية ورعى الثقافة والعلوم والفنون إلى أن توفي سنة 238هـ(3) ، وبعده تسلم الملك ابنه محمد، وبعد وفاته سنة 273 هـ آل الحكم إلى ولديه المنذر وعبد الله اللذين لم يقوما بعمل يذكر في المجال السياسي، فقد شهد عهدهما ثورات متعددة أدت إلى تصدع الدولة الأموية بالأندلس(4) .
غير أن تولية عبد الرحمن الثالث لعبت دورها في استتباب الحكم الأموي بالأندلس، فقد عمل عبد الرحمن على إخماد الثورات وعلى الرفع من مستوى الثقافة بالأندلس، وتشجيع رجاله وتقوية ملكه… وبذلك أعلن نفسه خليفة للمسلمين بعد أن تقلب بأمير المؤمنين الناصر لديه الله سنة 316هـ. وقد كان عهد عبد الرحمن-استمر إلى 351هـ-من العهود المزدهرة ثقافة وسياسة وعمرانا فقد اعتنى بالمكتبات وأندية العلم والأدب(5) …
وبوفاته تولى الحكم (المستنصر) من بعده سنة 350 هـ، وقد كان الحكم كأبيه محبا للعلم والثقافة(6) …
__________
(1) - نفس المصدر 4/124 ونفس المرجع ص : 168-175-180-182.
(2) - تاريخ افتتاح الأندلس: ابن القوطية 64. تاريخ ابن خلدون 4/125.
(3) - تاريخ الدولة الأموية في الأندلس : عبد المجيد نعنعي : 240-244-249.
(4) -تاريخ افتتاح الأندلس : ابن القوطية 113-115. تاريخ ابن خلدون 4/132-133.
(5) - حضارة العرب في الأندلس : ليفي بروفنسال، ص : 21 والخيرة
(6) - جذوة المقتبس : الحميدي ص : 13 : بروفنسال.(1/10)
وبعده تولى ولده هشام الثاني (المؤيدا)، وكان صغيرا، الأمر الذي جعل السلطة تنتقل إلى أحد مربيه محمد بن أبي عامر الذي تقلب بالمنصور(1) .
وبمقتل أبي عامر سنة 393 هـ وموت ابنه المظفر عبد العزيز توالى على الخلافة الأموية أمراء ضعفاء(2). الأمر الذي أحدث اضطرابا سياسيا كبيرا سنح لبعض المتمردين من العرب والبربر(3). بالاستقلال ببعض المقاطعات الأندلسية.
وظل الأمر هكذا إلى سنة 422 هـ حيث ظهر ملوك الطوائف الذين وزعوا الأندلس إلى دويلات متعددة(4).
1-دويلة قرطبة تحت إمرة الجهاورة
2-دويلة إشبيلية تحت إمرة بني عباد وأضافوا إليهم قرطبة
3-دويلة سرقسطة تحت إمرة التجبيين
4-دويلة طليطلة تحت إمرة بني ذي النون
5-دويلة بلنسية تحت إمرة الصقالبة ثم العامريين وأمراء ذي النون
6-دويلة غرناطة تحت إمرة بني زيري
7-دويلة بطليوس تحت إمرة بني الأفطس(5)
__________
(1) - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة: ابن بسام ص : 140، المجلد 2 القسم 1 وبروفنسال، ص : 23.
(2) - مقدمة ناشر كتاب المقتبس : ابن حيان ص : 26، الناشر محمود علي مكي : انظر عبد الله وجهوده في التاريخ : ليث سعود ص :
31-32.
(3) - الذخيرة : ابن بسام، القسم 1 المجلد 2 ص : 941.
جذوة المقتبس : الحميدي ص : 36.
بروفنسال: حضارة العرب في الأندلس ص : 23.
(4) - نفسه.
(5) - الذخيرة : القسم 1 المجلد 2/942 / انظر كذلك تاريخ الأدب الأندلسي : إحسان عباس 14.(1/11)
إن هذه الوضعية السياسية التي آلت إليها الأندلس لم تكن مانعة من انتشار الثقافة والعلوم(1) ، بل إن هذه الوضعية كانت عاملا مساعدا على ازدهار الثقافة بالأندلس، ويرجع ذلك إلى التنافس الذي خلقته هذه الوضعية السياسية بين ملوك الطوائف، فتنافسوا في "احتضان العلماء والشعراء والإغداق عليهم نشطت من جديد الحركة الفكرية"(2).
ومعلوم أن هذه الحركة الفكرية لم تكن مقتصرة على الشعر والأدب، بل تعدتها إلى الاهتمام بجميع أنواع العلوم والمعارف. ومن جملة ما اهتم به اهتماما بالغا "المناظرة" لما لها من أهمية في الحياة السياسية والثقافية فقد خدمت المناظرة الأمراء منذ عصور متقدمة، اتخذوها كمعول لنصرة مذاهبهم وقضاياهم الفكرية والمذهبية(3).
ولهذه الأسباب وغيرها اهتم بها أمراء الأندلس وأغدقوا العطايا لمن يمارسها، وجلسوا لسماعها، وروايات جلوس الوزراء والأمراء للمناظرة كثيرة نذكر منها:
1-جلسة أحمد بن هود لسماع مناظرة المؤتمن والباجي حول موضوع فلسفي(4).
2-جلسة ولي ميورقة ابن رشيق سنة 439 هـ لمناظرة ابن حزم للباجي(5).
3-جلسة السلطان محمد لمناظرة بقي بن مخلد للفقهاء(6) .
4-جلسة المعتصم بالله لمناظرة الفقهاء حول التفسير والحديث(7) .
ب-العامل الثقافي:
__________
(1) -حضارة العرب في الأندلس : بروفنسال، ص : 24.
(2) - رسالة ماجستير : موقف الفقهاء من الفلسفة الإسلامية : الأمين بوخبزة.
(3) - مناهج الجدل : الألمعي 24.
(4) - العواصم من القواصم : أبو بكر العربي / تحقيق عمار الطالبي 2/146-147.
(5) - مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية : عبد المجيد التركي ص : 61-62.
(6) - المقتبس من أنباء أهل الأندلس : ابن حيان القرطبي / ت محمود علي مكي 248-249.
(7) - تاريخ الأدب الأندلسي "عصر الطوائف والمرابطين " : إحسان عباس ص : 71.(1/12)
ويتمثل في التيارات الفكرية والدينية التي استقرت بالأندلس، فالقرن الرابع والخامس بالأندلس قد عرف تيارات فكرة ودينية، هناك اليهود والنصارى وبجانبهم التيارات الإسلامية الأخرى التي تتمثل في الفلاسفة وعلماء الكلام والفرق السياسية والفقهاء على اختلاف مذاهبهم، فبجانب الأوزعية والمالكية والظاهرية والشافعية كان المذهب العراقي والمذهب الكوفي والمذهب الشيعي(1) .
غير أن التيارات التي كان لها صدى واسعا بالأندلس والتي ساهمت بقدر كبير في المناظرات الأندلسية تتمثل في اليهود والنصارى وعلماء الكلام والفلاسفة والفقهاء على اختلاف مذاهبهم.
ونظرا لما هذا التيارات من أهمية، رأينا الوقوف عندها قصد الإشارة إلى بعض المناظرات التي اشتدت يه هذه التيارات.
وتحقيقا لهذا الغرض قسمنا الجانب الثقافي بالأندلس إبان القرن الرابع والخامس إلى مبحثين كبيرين:
المذاهب الكلامية والفلسفية
-المذاهب الفقهية
المذاهب الكلامية والفلسفية بالأندلس:
شهدت الفترة السابقة على القرنين الرابع والخامس الهجريين اهتماما كبيرا بالفقه وأدب المسائل والأجوبة(2) . وساد هذا الاتجاه لمدة قرنين من الزمن واستمر إلى القرن الرابع والخامس، غير أنه ظهر بجانبه اهتمام علمي آخر تمثل في الكلام والفلسفة، وأثمر هذا الاتجاه العلمي اشتراك عدة تيارات في بلورته، فاشترك فيه اليهود والنصارى والمسلمون على اختلاف نزعاتهم ولعل حديثنا عن هذه الاتجاهات التي ساهمت في بلورة الكلام يعطينا فكرة واضحة عن تاريخ المناظرات الأندلسية….
__________
(1) - جذورة المقتبس : الحميدي 219 و 245.
(2) - ندوة ابن رشد : كلية الآداب 1978 ص : 157، مكانة ابن رشد الفقيه من تاريخ المالكية بالأندلس / عبد المجيد التركي.(1/13)
مما لاشك فيه أن الأندلس عرفت تيارات يهودية مهمة نشطت الحركة الفكرية والأدبية بالأندلس عامة كانت توجد دوما طائفة من السكان اليهود عددها لا بأس به تقطن مدن إسبانيا الإسلامية ومدنها المسيحية على حد السواء… كانت أحوالها مزدهرة وبخاصة في أرض الإسلام على شيء كبير من التنظيم، تتوارث حب الدرس(1).
وعرف غرناطة-خاصة- "جالية كبيرة من اليهود"(2) واشتهرت هذه المدينة باليهود حتى سميت "بغرناطة اليهود"(3) وممن اشتهروا باستقرارهم بهذه المدينة بنو النغريلة الذين أدركوا مكانة ثقافية وسياسية مهمة في عهد البربريين وبخاصة في عهد باديس بن حبوس…(4).
كما عرفت سرقسطة بدورها وفودا من اليهود فاستقروا بها:
منهم بن فوال العارف بصناعة الطب والفلسفة
ومروان ابن جناح العالم بصناعة المنطق
وابن جبروال المعروف باهتمامه بالمنطق
وابن بكلارش الطبيب صاحب كتاب "المجدولة في الأدوية المفردة".
وأبو العقل حسداي العالم بعلم العدد والهندسة والطب والمنطق…(5).
إن اهتمام هذه الجالية بالمنطق والفلسفة والكلام وبالضبط بالدراسات التلمودية(6) سيخلق تناظرا فكريا واسعا بين اليهود والمسلمين الذين كان لهم سبق الحديث في المسائل العقيدية.
__________
(1) - حضارة العرب بالأندلس : بروفنسال، ص : 103.
(2) - رسائل ابن حزم، مقدمة الناشر : إحسان عباس 1/9.
(3) -دراسات أندلسية : طاهر أحمد مكي ص : 64.
(4) -أكاديمية المملكة المغربية / السفر : 12 س : 86 ص : 23، حول التسامح الديني وابن ميمون والموحدين / ذ. محمد بنشريفة.
(5) -عيون الأنباء في طبقات الأطباء : ابن لأبي أصبيعة 3/81-82.
(6) -تاريخ الفكر الأندلسي : بالنثيا / ترجمة حسين مؤنس ص : 488-489.(1/14)
ومناظرات ابن حزم لبعض اليهود تعبير واضح عن عواقب هذا الاختلاط اليهودي-الإسلامي، كما هو تعبير عن مساهمة التيارات الفكرية الأخرى في ازدهار المناظرات الأندلسية. وقد كان لابن حزم مناظرات مهمة مع يهود الأندلس قال ابن حيان: "ولهذا الشيخ أبي محمد مع اليهود لعنهم الله ومع غيرهم من أولي المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة"(1).
ومن هذه المناظرات الحزمية مناظراته لابن النغريلة حول لفظة أخت في التوارة واختلافه معه على اشتراكها بين الأخت والقريبة "وقد وقفت على هذا الكلام من بعض من شاهدناه منهم وهو إسماعيل بن يوسف الكاتب المعروف بابن النغرالي فقال لي أن نص اللفظة في التوارة أخت وهي لفظة تقع في العبرانية على الأخت وعلى القريبة، فقلت يمنع من صرف هذه اللفظة إلى القريبة ههنا قوله لكن ليست من أمي وإنما هي بنت أبي فوجب أنه أراد الأخت بنت الأب وأقل ما في إثبات النسخ الذين تفرون منه فخلط ولم يأت بشيء"(2).
وناظره كذلك في الجواليت وقال له " لم تزل، ردوس الجواليت ينتسلون من ولد داوود وهم من بين اليهود وهي قيادة وملك ورياسة، فقلت هذا خطأ لأن رأس الجالوت لا ينفذ أمره على أحد من اليهود ولا من غيرهم وإنما هي تسمية لا حقيقة لها"(3).
__________
(1) -الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة : ابن بسام، القسم 1 المجلد 1 ص : 170.
(2) -الفصل في الملل والأهواء والنحل : ابن حزم 1/135.
(3) -نفسه /152-153. لم يكن ابن حزم، الوحيد الذي جادل اليهود بل جادلهم العامة والأدباء والفقهاء… انظر تاريخ الأدب : إحسان عباس 146-147 وتاريخ الفكر: بالنثيا ص 108.(1/15)
ولم تقتصر مناظرات ابن حزم على مناظراته لابن النغريلة بل تعدتها إلى مناظرة ابنه يوسف بن النغريلة الذي عرف بتفاهة مواقفه من الدين الإسلامي فقد كتب ابن يوسف كتابا أثبت فيه تناقض القرآن، الأمر الذي حدا بابن حزم إلى تأليف رسالة عارض بها مؤلف ابن النغريلة، فقد ادعى هذا اللعين هذه الدعوى "فألف كتابا قصد فيه بزعمه إلى إبانة تناقض كلام الله عز وجل في القرآن اغترارا بالله تعالى أولا، ثم يملك ضعفة ثانيا واستخفافا بأهل الدين بدءا، ثم بأهل الرياسة في مجانة عودا، فلما اتصل بين أمر هذا اللعين قم أزل باحثا عن ذلك الكتاب الخسيس لأقول فيه بما أقدرني الله عز وجل عليه من نصر دينه بلساني… فأظفرني القدر بنسخة رد فيها عليه رجل من المسلمين، فانتسخت الفصول التي ذكرها ذلك الراد عن هذا الرذل بالجاهل، وبادرت إلى بطلان ظنونه الفاسدة بحول الله تعالى وقوته…(1).
إن المناظرة المسيحية الإسلامية لا تقل عن المناظرات السابقة، فبحكم تواجد المسيحيين بالأندلس وبحكم اختلافهم العقيدي مع المسلمين سيكونان السبب الحقيقي لظهور مناظرات ومناقشات عنيفة بين هذين الاتجاهين "… كانت هناك مناقشات عنيفة بين المسلمين والمسيحيين في الأندلس سواء بالعربية أو المسيحية"(2).
ومن جملة هذه المناقشات العنيفة معارضة نصراني لابن حزم "عارضني يوما نصراني…(3) لاشك أن ابن حزم عن اعتراضات المسيحية ودحضها وكشف زيفها…(4).
__________
(1) -رسالة الرد على ابن النغريلة في الإسلام : د.النشار 1/93.
(2) -نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : د. النشار 1/93.
(3) -الأصول والفروع : ابن حزم 79.
(4) -ابن حزم حياته وعصره : م. أبو زهرة ص : 16.(1/16)
وهكذا صنيع الباجي فقد ورد على كتاب "رجل من الرهبان إلى بعض ملوك الأندلس يدعوه إلى الدخول في ملته وكان أبو الوليد الباجي رحمه الله بحضرته فأجاب عن الملك بأبلغ جواب فقال في كتابه للراهب: أنا نربأ بك عما استفتحت به كتابك من أن عيسى بن الله بل هو بشر مخلوق وعبد مربوب لا يعرى عن دلائل الحدوث من الحركة والسكون والزوال والانتقال والتغير من حال إلى حال واكل الطعام والموت الذي كتب على جميع الأنام مما لا يصح على إله قديم، ولا يمكن عند ذي رزي سليم…(1).
وكذلك كان صنيع ابن الطلاع الذي ناظر نصرانيا بقرطبة: "فقال له النصراني ما تقول في عيسى فقال له ابن الطلاع لعلك تريد البشر بمحمد فانقطع النصراني لأنه رأى أن أنكر له هذا الوصف لكذب إنجليله وكفر بعيسى على الحقيقة لأنه إنما أقر بعيسى من الإيمان بما بشر به وإلا فليس بمؤمن(2).
أما المناظرة حول الكلام والفلسفة والمنطق فقد كانت جد نشطة ويرجع نشاط هذا الجانب إلى وجود كثرة المتكلمين والفلاسفة والمناطقة بالأندلس، فرغم افتقار الأندلس إلى تجاذب الخصومة في الكلام "فهي على كل حال فغير غريبة عنه وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال"(3).
-أحمد بن عبد الوهاب بن يونس المعروف بابن صلى الله(4).
-وأبي بكر يحيى المعروف بالسمينة ت 315(5).
-ومحمد بن موهب القبري والد الحاكم أبي شاكر عبد الواحد بن محمد وجد.
-أبي الوليد الباجي ت قريبا من 400 هـ.
-والفقيه الأصولي أبي الوليد الباجي ت 494هـ(6).
-وخليل بن عبد الملك المعروف بخليل الغفلة ت 419(7).
__________
(1) -عيون المناظرات : علي السكوني ص : 296-298.
(2) -نفسه 298.
(3) -رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها : ابن حزم 186.
(4) -تاريخ علماء الأندلس : ابن الفرضي، قسم 1 ص : 47.
(5) -تاريخ علماء الأندلس : ابن الفرضي، قسم 2 ص : 188.
(6) -معجم الأدباء : ياقوت 11/247.
(7) - تاريخ علماء الأندلس: ابن الفرض، القسم 1 ص : 149.(1/17)
أما المناطق والفلاسفة فلا يقلون عن المتكلمين، فقد اشتهر من بينهم:
-أبو محمد بن عبد الله الأزدي المعروف بابن الذهبي ت سنة 456هـ(1).
-وأبو عثمان سعيد بن محمد بن البغوش ت سنة 440هـ(2).
-وأبو عبد الله بن الحسن المعروف بابن الكتاني ت قريبا من سنة 420هـ(3).
-وسعيد بن فتوح السرقسطي المعروف بالجمار(4).
إن كثرة الاهتمام بالفلسفة والمنطق داخل الأندلس قد ولد مواقفا معادية من كتب الأوائل، خاصة وأن الأندلس كانت تحت نفوذ الثقافة الفقهية، فليس غريبا أن يتعرض الفقهاء على علوم الأوائل، بل الاعتراض على كل جديد وكان أهل هذه الجزيرة لما ألفوا الفقه والنوازل المالكية اعتقدوا أن كل جديد فيه خرق للإسلام ولهذا سينفرون من علم الكلام والمنطق وغيرها…(5).
وممن كانوا ينفرون من علوم الأوائل فقهاء المالكية، فرسالة الباجي لولديه تعبير واضح عن هذه المواقف، فقد ألف رسالة أوصى فيها ابنيه بعدم تعاطي الفلسفة والمنطق(6).
ولا ننسى اتهام بعض المالكية لابن حزم باتباعه لعلوم الأوائل "وبرده بالمنطقي على الشرعي فالفلسفة(7) في نظرهم زندقة وخروج عن الدين "إن أهل زماننا ينفرون عنها وينفرون ويرمون العالم بها بالبدعة والزندقة(8).
إن هذه المواقف التي عرفته الأندلس ستولد تناظرا عنيفا بين مؤيدي الفلسفة والمنطق وبين نفاتها، والمناظرات التالية تدلنا على ذلك:
-مناظرة الباجي لابن حزم حول مشروعية الفلسفة(9).
__________
(1) - عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ابن أبي أصبيعة 3/80.
(2) - نفسه 3/78.
(3) - نفسه 3/73.
(4) - رسالة في فضل الأندلس : ابن حزم 185.
(5) - كتاب المدخل لصناعة المنطق: ابن طلموس ص : 7-8.
(6) - فصول الأحكام : الباجي / تحقيق أبو الأجفان ص : 71.
(7) - رسائل ابن حزم، الناشر إحسان عباس 3/73.
(8) - كتاب المدخل لصناعة المنطق : ابن طلموس ص : 8.
(9) - إحكام الفصول : الباجي ص : 530-531.(1/18)
-مناظرة الباجي لابن هود حول الفلسفة(1).
-مناظرة ابن حزم للمالكية حول الفلسفة(2).
المذاهب الفقهية بالأندلس:
سبق أن ألمحا أن الأندلس كانت تحت نفوذ الفقهاء، ويرجع النفوذ إلى السيطرة الفكرية والسياسية التي كانت للفقهاء، فقهاء الأندلس كانوا يشاركون في جميع مظاهر الحياة، فشاركوا في السياسة وتقلدوا مناصب سياسة كبرى(3). وشاركوا في القضاء، وكان منهم القضاة كالقاضي أبي بكر بن العربي المغافري-ت 543هـ-والقاضي يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اللخمي-ت 404هـ- والقاضي محمد بن سليم-ت367 هـ-…(4).
إن الأندلس ولا شك كانت تزخر بالفقهاء، ومن مختلف الاتجاهات الفكرية والمذهبية، فقد كانت الأوزعية وهي المذهب الذي دخل الأندلس مع الفتح الأموي وكان ممن أدخل هذا المذهب صعصعة بن سلام الدمشقي الأندلسي مفتي الأندلس وخطيب قرطبة-ت192هـ-(5).
__________
(1) - العواصم من الفواصم : أبو بكر العربي ت عمار الطالبي 2/146-147.
(2) - رسالتان أجاب فيهما عن رسالتين ص : 74. ورسالة في الرد على الهاتف: ابن حزم ص : 122.
(3) - تاريخ قضاة الأندلس: النباهي المالقي ص: 75 و 88 و 105.
(4) - المقتبس : ابن حيان ص : 33.
(5) - المقتبس من أنباء أهل الأندلس : ابن حيان ص : 494.(1/19)
وظلت الأندلس تعمل بهذا المذهب لمدة قرنين من الزمن وبالضبط من الفتح إلى سنة 230هـ، وقيل إلى عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل(1) وأذاك سقط هذا المذهب، ومن المفيد أن سقوطه لم يكن لانتصار السياسة لمذهب مالك، أو لأنه لم يقع في طريق الحاج، وإنما سقط لضعفه الجدالي. فلما كان المذهب بيد مؤسسه الأوزاعي كان ينافح عنه ويدافع عنه، وجدال الاوزاعي لأبي حنيفة ومالك والثوري وغيلان القدري يظهر ذلك(2). لكن لما صار بيد أتبعاه لضعف تذكراهم-أي تناظرهم- "روى سعيد بن عبد العزيز وهو من كبار أصحاب الأوزاعي كان يكاتب أصحاب الأوزاعي فيقول لهم ما لكم لا يجتمعون ما لكم لا تتذاكرون"(3).
إن ضعف المذهب الأوزعي سيترك المكان للمذهب المالكي الذي دخل الأندلس "برأي الحكم واختياره(4) ومن جهة، وبفضل رجاله كالغازي بن قيس واللخمي-شبطون-(5).. من جهة أخرى، غير أن تعصب مالكية الأندلس لبعض الأصول والفروع المذهبية كان سببا في خصومها مع جميع المذاهب المتواجدة بالأندلس، فقد خاصم المالكية المذهب الشافعي وموقفهم من بقي بن مخلد-ناشر الحديث ومذهب الشافعي-دليل على قدم هذه الخصومة(6).
وخصومتهم للشافعية كانت ممكنة الوقوع وذلك لما كان لدعاة هذا المذهب من نزعة جدالية.
-فقد كان عثمان بن وكيل القرطبي ممن عرف بالنظر في علم الشافعي(7).
-وهارون بن مضر القرطبي كان ميالا إلى النظر والحجة–ت302هـ-(8).
__________
(1) - نفح الطيب: المقري، المجلد 3 ص : 230.
(2) - الإمام الأوزاعي : عبد الله اجبوري ص : 46
(3) - نفسه 70.
(4) - نفح الطيب : المقري، المجلد 3/230.
(5) - جذوة المقتبس : الحميدي 219. انظر كذلك الذين جاءوا من بعدهم / بنعبود تاريخ إشبيلية ص 27.
(6) - المقتبس : ابن حيان 248-249-264.
(7) - تاريخ علماء الأندلس : ابن الفرضي، القسم 1 ص : 304.
(8) - نفسه، القسم 2 ص : 169.(1/20)
-وقاسم بن محمد بن محمد بن سيار كان يذهب مذهب الحجة والنظر-ت 277هـ(1).
-وعثمان بن سعيد الكتاني كان مناظرا على مذهب الشافعي-ت 330هـ(2).
-وأحمد بن عبد الوهاب بن يونس القرطبي عالما بالاختلاف بصيرا بالحجاج والنظر-ت 399هـ-(3).
-وأحمد بن يسر بن محمد التجيتي القرطبي يميل إلى النظر والحجة-ت 327هـ-(4).
-وعبيد الله بن عمر أحمد القيسي بغدادي دخل الأندلس وكان عالما بالنظر-ت 360هـ-(5).
غير أن الخصومة المالكية- الشافعية لم تحتد بمثل ما احتدت الخصومة بين المالكية والظاهرية، فمنذ أن مال ابن حزم إلى القول بالظاهر والمعارضة بين المذهبين جد نشطة، فقد ناظر ابن حزم عددا كثيرا من مالكية الأندلس:
1-ناظرهم لادعائهم أسبقية العمل على النصوص "صفة أهل زماننا فإنهم يقولون نحن المؤمنون بالله وبالرسول، ونحن طائعون لهما، ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين وإذا دعوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخالف كل ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك، فمن قائل: ليس عليه العمل…(6).
2-وناظر الليث بن خرفش العبدي المالكي في مجلس القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن بشر-رح- وفي حفل عظيم من فقهاء المالكية حول مسألة كتمان العالم للعمل وهي المناظرة التي أفحم ابن حزم خصمه وألجم الجمع المالكي "فما أحد منهم-المالكية- أجاب بكلمة معارضة بل صمتوا كلهم إلا قليلا منهم أجابوني بالتصديق لقولي…(7).
__________
(1) - نفسه، القسم 1 ص : 303.
(2) - نفسه، القسم 1 ص : 356.
(3) - نفسه، القسم 1 ص : 154.
(4) -تاريخ علماء الأندلس : ابن الفرضي، القسم 1 ص : 32-33.
(5) - نفسه، القسم 1 / 253.
(6) - الإحكام في أصول الأخكام : ابن حزم ص : 1/102-103.
(7) - نفسه 2/122.(1/21)
3-وناظر أحد كبار المالكية حول معاضدة القياس بالاعتبار الوارد في أية الاعتبار من جهة والاعتبار الوارد في حديث ابن عباس "… لا اعتبرتم بالأسنان عقلها سواء، وإن اختلفت منافعها"(1)، ومن جهة أخرى "ولقد ناظرني كبيرهم في مجلس حافل بهذا الخبر فقلت له: إن القياس عند جميع القائلين به-وأنت منهم- إنما هو رد ما اختلف فيه إلى ما أجمع عليه، أورد ما لا نص فيه إلى ما فيه نص، وليس في الأصابع ولا في الأسنان إجماع، بل الخلاف موجود في كليهما، وقد جاء من عمر المفاضلة بين دية الأصابع وبين دية الأضراس وجاء عنه وعن غيره التسوية بين كل ذلك، فبطل ههنا رد المختلف فيه إلى المجمع عليه، والنص في الأصابع والأسنان سواء، ثم من المحال الممتنع أن يكون عند ابن عباس نص ثابت عن النبي –ص- في التسوية بين الأصابع وبين الأضراس، ثم يفتي هو بذلك قياسا.فقال لي وأين النص بذلك عن ابن عباس، فذكرت له الخبر الذي حدثناه عبد الله بن ربيع التيمي… عن ابن عباس قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - الأصابع سواء، هذه وهذه سواء، يعني الإبهام والخنصر فانقطع وسكت"(2).
4-وناظر الأبهري في ادعائه "أن الصدق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم اعتمادا على حديث "إن الصداق لا يكون أقل من عشرة دراهم"(3).
5-وناظر المالكية بدعوى اتهامه بالأخذ بالتعليل ورد الشرعي بالمنطقي "فإن خصمك يحتج أنه لا يلزمه الخروج عما قيده الشيوخ الثقات عنهم، وتضمن ذلك كتب جمة وهي معلومة مشهورة رواية رواها الثقات عنهم وهم في جملتهم عدد كثير، إلى قول واحد يطلب التعليل والاحتجاج ويرد بالمنطقي على الشرعي(4).
__________
(1) - نفسه 7/77.
(2) -الإحكام في أصول الأحكام : ابن حزم ص : 7/78.
(3) - نفسه 7/136.
(4) - الرسائل : ابن حزم 3/73. والملاحظ أن الإحكام ملي، يمثل هذه المناظرات.
انظر مثلا 6/65 – 6/67 – 6/77- 6/119- 6/167- 6/182… 8/195- 8/120.(1/22)
هذه المناظرات التي خاضها ابن حزم مع دعاة المذهب المالكي كانت دائما في صالحه، فكان الانتصار حليفه(1) وذلك لضعف المالكية في التكوين الجدالي، فاقتصارهم على المدونة والمستخرجة(2) كان عاملا حاسما في ضعفهم المعرفي الجدالي، ولهذا السبب قال صاحب النفح وهو يصف ابن حزم "لم يكن بالأندلس من يشتغل بعمله فقصرت ألسنة الفقهاء عن مجادلته وكلامه…(3).
ولعل ضعف المالكية-كذلك- سيكون سببا في استنجادهم بالباجي الخبير بالجدل والمناظرة "فلما قدم أبو الوليد كلموه في ذلك فدخل إليه وناظره…"(4).
__________
(1) - الإحكام : ابن حزم 2/122.
(2) - مقدمة إحسان عباس على رسائل ابن حزم 2/211.
(3) - نفح الطيب : المقري / المجلد : 2 : ص : 68.
(4) -نفح الطيب : المقري / المجلد : 2 : ص: 68.(1/23)
وكانت أولى المناظرات التي خاضها الباجي مع ابن حزم هي تلك التي حضرها ابن رشيق وإلي ميورقة سنة 439هـ وهي المناظرة التي قل فيها غرب ابن حزم(1).وله معه مناظرات أخرى كتناظرهما حول: كيفية طلبهما للعلم. قال له أبو الوليد "أنا اعظم منك همة طلب العلم لأنك طلبته وأنت معان عليت تسهر بمشكاة الذهب وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت في السوق، فكان جواب، ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك، لأنك إنما طلبت العلم وأنت في حال رجاء بتبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته فلم لأرج به إلا علم القدر العلمي في الدنيا والآخرة"(2)."وله معه مجالس كثيرة"(3) نكثر تلك المواقف التي خاضها ابن حزم من الأصول المالكية خاصة الكتاب والخبر والمرسل والعمل والقياس، وهي التي أشرنا إليها في دراستنا هذه فهي التي تمثل ذلك الصراع العنيف وتلك الجلسات الطويلة التي جمعت ابن حزم بالباجي، والتي هدت ابن حزم إلى القول في حق خصمه "لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب مثل أبي الوليد الباجي"(4).
وفي ختام هذا المبحث أود تسجيل الملاحظات التالية:
أولا: إنه من غير الممكن التكهن بانهزام ابن حزم أمام الباجي وذلك لثبوت ابن حزم على مواقفه الظاهرية(5).
__________
(1) -الذخيرة : ابن بسام، القسم : 2 المجلد : 1 ص : 96.
(2) -نفح الطيب : المقري /المجلد : 2 ص : 77.
(3) -نفسه /المجلد : 2 ص : 68.
(4) -الذخيرة : ابن بسام، القسم : 2، المجلد : 1 ص : 96.
(5) -قارن هذه الملاحظة بكلام ابن بسام في ذخيرته، القسم : 2 المجلد : 1 ص : 96.(1/24)
ثانيا: إن الباجي سيجد ابن حزم مناظرا معاندا عنيفا عصاميا الأمر الذي ستطول معه الجلسات والمناظرات حول بعض القضايا الأصولية، فلا شك أن ابن حزم رجل جدالي وله إلمام كبير بالجدل والمناظرة(1)، ولعل إلمامه بهذا الجانب يرجع إلى اطلاعه على كتب الأوائل من جهة واطلاعه على الكتب الجدالية المشرقية من جهة أخرى، كل من هذين العاملين قد أكسبا ابن حزم نفسا طويلا في الجدال وأكسبه معرفة هذا الباب، وجداله في الحب تصوير لهذه الميزة "لقد سألني يوما أبو عبد الله محمد بن كليب من أهل القيروان أيام كوني بالمرية، وكان طويل اللسان جدا، متقنا للسؤال في كل فن، فقال لي-وقد جرى ذكر الحب ومعانيه-: اذكره من أحب لقائي وتجنب قريب، فما أصنع قلت: أرى أن تسعى إلى إدخال الروح على نفسك، بلقائه، وإن كره، فقال : لكني لا أرى ذلك، بل أوثر هواه على هواي، ومراده على مرادي، وأصبر، لو كان ذلك الحتف، فقلت له: إني إنما أحببته لنفسي، ولا لتلذاذها بصورته، فأنا أتبع قياسي وأقود أصلي وأقفوا طريقتي، في الرغبة في سرورها، فقال لي، هذا ظلم من القياس أشد من الموت ما تمنى له الموت، وأعز من النفس ما بذلت له النفس، فقلت له: إن بذل نفسك لم يكن اختيارا بل كان اضطرارك بنفسك وإدخالك الحيف عليها، فقال لي: أنت رجل جدلي ولا جدال في الحب يلتفت إليه. إذا كان صاحبه مؤوفا. فقال: وأي آفة أعظم من الحب"(2).
وكما يصدق هذا الحديث على ابن حزم فإنه يصدق على الباجي، فالباجي لمدة ثلاث عشر سنة(3) وهو مرابط بالمشرق، ومكوثه به جعله يطلع على جل كتب المناظرة المشرقية من جهة والتعرف على علماء المناظرة من جهة أخرى(4).
__________
(1) -مقدمة محمود علي مكي على كتاب المقتبس : ابن حيان ص : 135-136.
(2) -رسائل ابن حزم 1/158-159.
(3) -نفح الطيب : المقري : المجلد : 2 ص : 71.
(4) -معجم الأدباء : ياقوت الحموي 11/248.(1/25)
ثالثا: إن المناظرات الحزمية لم تكن مقتصرة على مناظرة المالكية بل تعدتها إلى مناظرة الشافعية والحنفية، بل إن مناظرة كل المذاهب بالأندلس "وقد شاهد ابن حزم الجدل والمناظرة بين أصحاب المذاهب الإسلامية المختلفة…"(1).
رابعا: إن مناظرة الباجي لابن حزم كانت مركزة بشكل أولي على المناظرة حول بعض القضايا الأصولية وخاصة مسائل الرأي والحديث والتقليد…
"وقد خاض ابن حزم معركة عنيفة مع فقهاء المالكية بالأندلس بسبب إبطال القياس والرأي والتقليد…(2).
خامسا: إن انتحال ابن حزم للمذهب الظاهري فتح للفقهاء مجالا خصبا لمناظرته ومعارضته "ومعارضة ابن العربي له مشهورة… وقد تعرض له في كتابه العواصم من القواصم…"(3).
سادسا: إن هذه المذاهب الفقهية التي ساهمت في التناظر الأصولي كان لها وجود قلبي بالأندلس.
1-فالأوزعية دخلت الأندلس مع الفتح الإسلامي وانتشرت على يد أقطابها كصعصعة بن سلام وأسد بن عبد الرحمن بن السبي(4).
2-والشافعية دخلت الأندلس مع بقي بن مخلد على عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (ق: 3 هـ) وتوسعت على عهد الخليفة الناصر (ق: 4هـ) وانتشرت بفضل:
-يحيى بن عبد العزيز بن الخراز زكريا القرطبي
-ومحمد بن يحيى(5)
-وعثمان بن وكيل(6).
3-والمذهب الظاهري دخل الأندلس بفضل:
__________
(1) -ابن حزم الأندلسي : حياته وأدبه : عبد الكريم خليفة ص : 119.
(2) -ابن حزم الأندلسي : حياته وأدبه : عبد الكريم خليفة ص : 123. وندوة ابن رشد س 1978 كلية الآداب / الرباط ص : 159.
(3) -مجلة كلية الشريعة بالقصيم ع : 3/1403-1404 ع السعودية ص : 260. وتتبع كذلك مناظرات ابن حزم بكتاب العلوم والآداب والفنون : ذ. المنوني ص: 115-116.
ومقدمة جمهرة العرب : ابن حزم : ت عبد السلام هارون ص : 6.
(4) -تاريخ علماء الأندلس : ابن الفرضي، القسم 1 ص : 74.
(5) -جذوة المقتبس : ص : 99.
(6) -تاريخ علماء الأندلس : ابن الفرضي، القسم: 1 ص : 304.(1/26)
-عبد الله بن محمد بن قاسم بن هلال ت 272هـ(1)
-ومسعود بن سليمان بن مقلت أبو الخيار(2)
-والمنذر بن سعيد البلوطي ت 355هـ(3).
وهكذا انتشر مذهب ابن حزم حتى ملئت الأندلس كلاما بالظاهر "كان أول بدعة لقيت في رحلتي كما قلت لكم، القول بالباطن، فلما عدت وجدت القول بالظاهر"(4).
4-لكن كان السواد للمذهب المالكي، ولعل ذلك يرجع إلى عدة أسباب منها:
-انتصار السياسة لمذهب مالك "مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة… ومذهب مالك عندنا بالأندلس"(5).
-الأسبقية التاريخية لهذا المذهب على غيره من المذاهب كان عاملا في رسوخه.
-كثرة أنصار المذهب بالأندلس.
-خدمة دعاة المذهب للمالكية "كان نشاط الدعاة وحيويتهم مما حقق المساندة الشعبية للمذهب المالكي خلال عهد دور الطوائف"(6).
ثانيا:العامل الخارجي:
ليس عيبا أن يتم الاتصال بين ثقافتين تنتميان لحضارة واحدة، ولهذا فليس صحيحا أن تكون بعض الدعاوي صادقة في قطع صلة الشرق بالغرب خاصة إذا كان هذا الاتصال له مبررات عديدة تثبته وتزكيه، فالثقافة الأندلسية-ولا شك-قد استفادت من الثقافة المشرقية وذلك عن طريق عدة مسالك سهلت هذا الاتصال:
-عن طريق الكتب وقد دخل إليها عدد لا يستهان به من هذه الكتب.
-وعن طريق الرحلة التي نشطت من الأندلس إلى المشرق.
-وعن طريق الوفود الوافدة على الأندلس من المشرق.
كل هذه القنوات قد ساعدت على تواجد الثقافة المشرقية بالأندلس وأقول كل الثقافة المشرقية من أدبية وفلسفية وكلامية وجدالية…
__________
(1) -جذوة المقتبس : ص : 99.
(2) -نفسه، القسم : 1 ص : 219.
(3) -جذوة المقتبس : 6/558.
(4) -العواصم من القواصم : أبو بكر العربي عمار الطالبي 2/336.
(5) -نفح الطيب : المقري 2/10.
(6) -التاريخ السياسي والاجتماعي لإشبيلية في عهد دول الطوائف : محمد بن عبود ص : 128.(1/27)
تزامن أواخر العصر الأموي وعهد ملوك الطوائف بالأندلس مع العصر العباسي بالمشرق، وقد كان هذا العصر بالمشرق جد مزدهر ونشيط بمختلف المظاهر الثقافية من أدب وفلسفة وكلام وجدل… وعلم المناظرة كهذه الفنون قد ازدهر بشكل متزايد ويرجع ذلك إلى الظروف الحسنة التي توافرت بكثرة في هذه الفترة، لعل أبرزها:
أولا-تشجيع الأمراء للمناظرة والجلوس لسماعها: إن مجالس البرامكة والمأمون كانت تكتظ بهذه المناظرات…"(1).
ثانيا-مشاركة الأمراء في بعض المناظرات "وأعظم من اشتهر بذلك المأمون…"(2).
ثالثا-كثرة النحل والملل بالمشرق مدعاة للمناظرة، ومناظرة المأمون لمجوسي ثنوي دليل على ذلك(3).
رابعا-اتساع الحركة العلمية والفلسفية والكلامية بالمشرق شجع على الانفتاح على ثقافات أخرى، الأمر الذي سيخلق تفاعلا وتناظرا في الثقافة الإسلامية بالمشرق.
خامسا-تعشب الفرق الإسلامية واختلافها العقدي سيكون أبرز عامل لشيوع المناظرات بالمشرق، ومناظرة المعتزلة مع الأشاعرة دليل واضح على ذلك(4).
سادسا-كثرة المذاهب الفقهية مدعاة للتناظر في بعض القضايا "وفي طبقات الشافعية للسبكي أطراف من هذه المناظرات، ومما يذكر أن أبا العباس بن سريج القاضي رئيس الشافعية ببغداد كان شغوفا بمناظرة داود الظاهري، حتى توفي داود ومضى بناظر ابنه محمدا في المذهب الظاهري…"(5).
هذا إضافة إلى عوامل أخرى ساعدت على انتشار هذا الفن كالتسامح الديني الذي طبعت به الثقافة، هذا ناهيك عن دعوة النصوص القرآنية لهذا الفن. قال تعالى "ادع إلى سبيل ربك بالمحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (النحل /124).
__________
(1) -العصر العباسي الأول : شوقي ضيف ص : 457.
(2) -الشاقعي حياته : أبو زهرة ص : 60.
(3) -تاريخ الجدل : أبو زهرة ص : 240.
(4) -نفسه.
(5) -العصر العباسي الثاني : شوقي ضيف ص : 536.(1/28)
وقال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" (العنكبوت/45). ولهذا فليس غريبا أن تتكاثر المناظرة بهذه الجهة الإسلامية.
إن الرحلات الأندلسية إلى المشرق ستصادف هذا النوع من الفنون ولا شك أن الرحالة الأندلسيين سيتهافتون على هذا النوع من الثقافة شأنه باقي المعارف الأخرى، حافزهم في ذلك الرغبة العلمية والإعجاب بثقافة المشارقة" وكان ولع الأندلسيين بكل ما هو شرقي عجيبا…"(1).
ويظهر هذا الإعجاب في محاولة استفادتهم من هذا الفن فأحمد بن محمد بن سعد أبو عمر بعد دعوته من المشرق كثيرا ما كان يصف جو المناظرة هناك(2).
والباجي المالكي عند رحلته للمشرق لم يسعه الاستفادة من جهايذة هذا الفن كأبي الطيب الطبري والإمام أبي إسحاق الشيرازي والإمام الصيمري والدامغاني…(3).
__________
(1) -تاريخ النقد الأدبي في الأندلس : رضوان الداية ص : 43.
(2) -جذوة المقتبس : الحميدي 109/110.
(3) -معجم الأدباء : ياقوت 11/248.
Voir : Ibn Aqil et la résurgence de l’Islam traditionaliste au XI siècle/Geoarge Maudisi P. 204.(1/29)
ولا ننسى استفادة الباجي من حضوره لبعض المجالس التناظرية الكبرى من جهة، كحضوره لمناظرة دارت بين الدامغاني وأبي إسحاق الشيرازي "قال أبو الوليد الباجي المالكي (474) وقد شاهد هذه المناظرة وحضرها… العادة ببغداد أن من أصيب بوفاة أحد ممن يكرم عليه قعد أياما في مسجد ربضه يجالسه فيها جيرانه وإخوانه، فإذا مضت أيام عزوه وعزموا عليه قعد أياما في مسجد ربضه يجالسه فيها جيرانه وإخوانه، فإذا مضت أيام عزوه وعزموا عليه في التسلي، والعودة إلى عادته من تصرفه فتلك الأيام التي يقعد فيها في مسجده للعزاء مع إخوانه وجيرانه لا تقطع في الأغلب إلا بقراءة القرآن أو بمناظرة الفقهاء في المسائل…"(1)، ومشاركته في مناظرات من جهة أخرى كمناظرته لأبي نصر الأنصاري الشافعي في حكم كفارة اليمين قبل الحنت(2).
والحق أن الرحلة إلى المشرق قد أغنت رحالة الأندلس بمختلف القواعد الجدالية كما أغنت الأندلسيين عامة، وبعد عودة الرحالة الأندلسيين إلى الأندلس بدا الأثر المشرقي على الأندلسيين واضحا خاصة الأثر الذي تركه الباجي على أهل هذه البلدة "وكان أثر الباجي في الأندلس أوسع وأعمق، ويتجلى ذلك خاصة في الجدل والمناظرة والسعي لتركيز المذهب المالكي الذي يناؤوه أهل الظاهر، كما يتجلى في ربط هذا البلد المغربي بوشائح الصلاة الثقافية مع بلاد المشرق"(3).
ولم تكن رحلة الأندلسيين إلى المشرق الطريق الوحيد لإغناء الأندلس بفن المناظرة بل كان للوفود المشرقية الوافدة على الأندلس دور فعال في إغناء الأندلس بهذا الجانب من المعارف(4).
__________
(1) -طبقات الشافعية الكبرى 3/105.
(2) -فصول الإحكام : الباجي / الناشر أبو الأجفان ص : 37.
(3) -فصول الإحكام : الباجي / الناشر أبو الأجفان ص : 88/89.
(4) -رسالة الماجستير : موقف الفقهاء من الفلسفة الإسلامية : الأمين بوخبزة ص : 11.(1/30)
ولعل الاهتمام بالكتب المشرقية عامة يعتبر أهم مصدر لإغناء الثقافة الإسلامية بالأندلس، فليس غريبا أن يعتني الأمراء باقتناء الكتب المشرقية "وكان للحكم دور فعال في تنمية الثقافة وتطويرها والتشجيع عليها، وكان أهم الأمور اقتناء الكتب وبخاصة المشرقية منها وإضافتها في المكتبات وبثها في أيدي العلماء والمتعلمين"(1).
كما أنه ليس غريبا أن تفد على الأندلس وعلى يد رجالها كتب متعددة، فالباجي-إضافة إلى كتب الحديث-جاء بأهم كتب الشيرازي المعروفة بطريقتها الجدالية في الأصول"… كالتبصرة في الفقه واللمع في أصول الفقه والمعرفة في الجدل"(2).
ويبدو أن هذه المصادر هي التي سهلت على ابن حزم وبعض الأندلسيين الاطلاع على هذا الفن المشرقي "إن ابن حزم وفق لنبوغه في التضلع في الفنون التي سافر الباجي من أجلها إلى المشرق والظاهر أنه أخذها من مصادرها التي كانت ولا شك تفد على الأندلسيين عن طريق المشارقة الوافدين إليه أو يفضل الأندلسيين أنفسهم إثر رجوعهم إلى وطنهم…"(3).
إن ما نريد الوصول إليه من خلال هذا العرض أن المناظرة كانت شائعة بالغرب والشرق الإسلاميين، وذلك لتوافر أسبابها، غير أنه وإن كانت المناظرة شائعة فإن ما لدينا من المناظرات والمصادر الفنية قليل جدا، ولعل هذا راجع إلى فقدان عدد لا يستهان به من هذه المصادر. لكن هذه المصادر على قلتها فإنها مفيدة وكافية لخلق حديث عن المناظرة بالغرب والشرق الإسلاميين، ومن هذه المصادر الفنية والمناظرات الواقعية والاحتمالية نشير إلى الآتي:
1-الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم:
__________
(1) -تاريخ النقد الأدبي في الأندلس : محمد رضوان الداية ص : 50.
وممن اهتم بالمكتبات الحكم II ص 366.
(2) -الروض المعطار : محمد بن عبد المنعم الحميري. تحقيق إحسان عباس ص : 444.
(3) -مقدمة إحكام الفصول : الباجي. تحقيق التركي 101.(1/31)
كتاب أصولي على الطريقة الجدالية، ناظر فيه ابن حزم جميع المذاهب الفقهية بالأندلس، فقد خاصم الشافعية والحنفية وخاصة المالكية، ولذلك فالإحكام سجل كتب فيه ابن حزم جميع مناظراته مع أهل زمانه كمناظرته لليث بن حرفش في مجلس القاضي عبد الرحمن ومناظرته لكبير المالكية حول قول ابن عباس في دية الأصابع ومناظرته لبعض المالكية حول كتمان العلم… والكتاب-كذلك-سجل لبعض القضايا الفنية المتناظرية…(1).
ويمكن أن تضاف إلى هذا الكتاب كتب أصولية أخرى صارت على الطريقة الجدالية في التأليف كالنبذة الكافية وكتاب أبطال القياس…
هذا إضافة إلى كتب مخطوطة ذات طابع سجالي ككتاب :
بيان غلط عثمان بن سعيد الأعور في المسند والمرسل
-وكتاب ما وقع بين الظاهرية وأصحاب القياس
-وكتاب الرد على من قال بالتقليد
-وكتاب ابن حزم في الجدل(2).
2-الرسائل الحزمية:
هذه الرسائل لا تخلو من بعض المناظرات التي خاضها ابن حزم مع بعض الفرق ساء إسلامية أو يهودية أو مسيحية، منها ما تضمن مناظرة واحدة جاءت في سياق كلام ابن حزم عن بعض المواضيع، ومنها ما كان رد فعل على بعض من ناظر ابن حزم أو رد فعل على من ادعى دعوى تسيء إلى الإسلام عامة، أو إلى ابن حزم وموطنه خاصة:
أ-كرسالة الرد على ابن الربيب القروي الذي ادعى خلو الأندلس من التأليف وهكذا كانت إجابة ابن حزم على هذا الشيخ بتأليف رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها، وهي على ما يظهر رسالة سجالية تساجل على صاحب الدعوى.
ب-رسالة في الرد على ابن النغريلة اليهودي، وهي عبارة عن رسالة تعارض دعوى يوسف بن النغريلة التي ادعى تناقض القرآن.
__________
(1) -انظر الباب الخاص بالمصطلحات. الإحكام 1/35.
والباب الخاص بمشروعية الجدل. الإحكام 1/19.
وآخر خاص بالسؤال. الإحكام 1/71.
(2) -مؤلفات ابن حزم ورسائله : الأستاذ الكتاني. مجلة الثقافة المغربية : 1 س : 70 ص : 100.(1/32)
ج-رسالتان له أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال التعنيف، رسالة تتهم ابن حزم بعدم اعتماد الشيوخ الثقات واعتماده على القول بالتعليل والاحتجاج بالمنطي والرد به على الشرعي، وهي إجابة عن هذه الدعوى وإلصاقها بمالكية الأندلس.
د-رسالة في الرد على الهاتف من بعد: رسالة تجيب عن عدة دعاوى ألصقت بابن حزم كادعاء المتهم أن ابن حزن يسب الصحابة ويأخذ بالمنطق ويفتي بما ليس في القرآن والسنة.
هـ-رسالة في الإمامة: رسالة قد تضمنت مناظرة بين ابن حزم ومن ادعى من المالكية أن مالكا أمير المؤمنين "أما قولك أمير المؤمنين في العلم ومن تبعه، وهو مالك، فما للمسلمين أمير مفترضة طاعته في دينهم بعد رسول الله?- صلى الله عليه وسلم - …"(1).
و-رسالة التقريب لحد المنطق: رسالة أشار فيها ابن حزم إلى بعض مواضع المنطق من تعريفات وتصديقات وبراهين… كما أشار فيها إلى الجدل وتحدث فيه عن آداب الجدل وأقسام السؤال والجواب ورتب الجدل… والرسالة جواب لمن يتستر بالسفسطة في الجدل"(2)، ولذلك أراد إقامة قواعد صحيحة في المناظرة وهي يومئذ شغل شاغل لعلماء الأندلس"(3).
ز-رسالة تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول: رسالة تستدعيها المناظرة والجدل، فالطريقة الإسلامية في الجدال تقتضي من المناظر تحديد مصطلحاته وألفاظه، ولهذا وجدنا أهل النظر عادة يبتدؤون بفهرست للألفاظ المتناولة في العلم المزمع التحدث عنه:
إن مبادئ كل فن عشرة ** الحد والموضوع ثم الثمرة(4)
3-الفصل في الملل والأهواء والنحل:
مجموعة رسائل يساجل فيها ابن حزم أهل الديانات الأخرى كما يساجل فيها الفرق الإسلامية.
4-إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي:
__________
(1) -رسالة في الإمامة : ابن حزم 3/214.
(2) -مقدمة رسالة التقريب : ابن حزم ت إحسان عباس ص : 36.
(3) -نفسه، ص : 36.
(4) -المعالم في علم أصول الفقه : الرازي ص 8.(1/33)
كتاب أصولي على الطريقة الجدالية(1)، وهو الكتاب الذي يخاطب فيه الباجي مناظره ابن حزم(2) في كثير من المسائل، فمن عنوانه إشارة إلى ذلك الادعاء الذي ادعاه ابن حزم "جعلنا هذا الكتاب موعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى، مستقصى محذوف الفصول، محكم الفصول…"(3).
كما في مسائله الشيء الكثير الدال على مخاطبته لابن حزم ومن هذه المسائل:
-انتقاد الباجي لابن حزم إثر ادعائه تقديم القياس الفلسفي على الأصولي. ومن هنا سيضطر الباجي إلى انتقاد الفلسفة والفلاسفة ومؤيدي الفلسفة " ولولا من يعتني بجهالتهم من الأغمار والأحداث لنزهنا كتابنا عن ذكر الفلاسفة"(4).
-انتقاد الباجي لابن حزم لادعائه أن الأمر يحمل على الفور.
-انتقاد الباجي لابن حزم لادعائه أن أقل الجمع ثلاثة
-انتقاد الباجي لابن حزم لادعائه أن قول الصحابي إذا قال: أمرنا رسول الله-ص-، يحمل على الوجوب بل يعتبر خطابا للرسول - صلى الله عليه وسلم -
-انتقاد الباجي لابن حزم لادعائه أن المرسل لا يحتج به
-انتقاد الباجي لابن حزم لادعائه عدم حجية القياس…الخ.
إن كتاب إحكام الفصول يعتبر من الكتب التي تنافح عن المذهب المالكي غير أن تشابه هذا المؤلف مع كتاب التبصرة في بعض مواد اضطر بعض الدارسين إلى جعل كتاب إحكام الفصول نقلا لكتاب التبصرة، وهذا يستبعد وذلك لاختلاف الكتابين من عدة نواحي:
-اختلاف في طريقة العرض.
-اختلاف في المادة عنها، فالباجي ينافح عن المذهب المالكي والشيرازي ينافح عن المذهب الشافعي.
__________
(1) -مقدمة التركي على إحكام الفصول : الباجي ص : 10.
(2) - Voir introduction d’aminhag d’al-Bagi / Turki p. 12
(3) -الإحكام : ابن حزم 1/81.
(4) -إحكام الفصول : الباجي ص : 530.(1/34)
-وقد يكون هناك نوع من الاتفاق بينهما ويرجع هذا الاتفاق إلى كون الشيرازي ينتقل عن مالك"… انتدب شاب من أهل كازون يدعى أبا زيد يسأل أبا أساق الشيرازي الإعسار بالنفقة هل يوجب الخيار للزوجة، فأجاب الشيخ أنه يوجب الخيار وهو مذهب مالك"(1).
5-المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي:
كتاب في فن المناظرة: ولهذا فهو يهتم بكثرة بعرض المنهج الجدالي أثر من عرضه للمادة الأصولية وإن كان لا يخلو من عرض بعض القضايا الفقهية التي تمثل لهذا المنهج وتقربه لأهل الأندلس "الناكبين عن سنن المجادلة"(2).
والكتاب تمثيل لأهم المصطلحات التناظرية الإسلامية، فصاحبه قد استهله
أولا: يذكر الغرض من تأليفه
ثانيا: بيان موقفه من الجدل.
ثالثا: بيان ما يتأدب به المناظر.
رابعا: بيان الحدود التناظرية.
خامسا: بيان الأصول المالكية.
سادسا: بيان أقسام السؤال والجواب.
سابعا: بيان وجوه الاعتراض على الأدلة الشرعية وكيفية الإجابة عنها.
ثامنا: بيان أوجه التعارض والترجيح.
6-كتاب تحقيق المذهب: الباجي:
هذا الكتاب وإن كان في أصول العقيدة فإنه الكتاب الذي ساهم بشكل كبير في إحياء المناظرات بالأندلس وخارجها، فبعد أن ادعى الباجي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب، اكتشف فقهاء عصره مخالفته للنص فانبروا لنقده ومناظرته حول هذه الدعوى وممن ناظره:
الفقيه أبو محمد عبد الله بن المعافري (ت 475) في رسالته التحذير من ترك الواضحة والتنبيه على غلط القائل كتب في يوم الحديبية النبي الأمي(3).
7-كتاب الحدود: الباجي
__________
(1) -طبقات االشافعية الكبرى : للسبكي 3/105.
(2) -كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج : الباجي ت : التركي ص : 7
(3) -تحقيق المذهب: أبو الوليد الباجي : ت : ابن عقيل الظاهري ص : 244.(1/35)
كتاب جميع فيه الباجي الاصطلاحات الأصولية والجدالية وهو كتاب شبيه بالرسالة التي كتبها ابن حزم حول المصطلحات، غير أن الاختلاف واضح بينهما فالمصطلحات الباجية عليها مسحة مالكية، بينما الحزمية فهي ذات مسحة ظاهرية.
8-رسالة رد فيها الباجي على رسالة راهب فرنسي إلى المقتدر يدعوه فيها إلى الدخول في النصرانية، وكان رد الباجي على هذا الراهب بتوضيح بعض القضايا العقيدية المسيحية.
9-مخطوطة في الجدل: ابن البناء المراكشي (ت 721هـ).
مخطوط عرف فيها المراكشي الجدل وبين فيها ما يجب على المستدل من تقديم الأدلة الراجحة على المرجوحة، كما التزم فيها المستدل بضرورة الإدلاء بالدليل، وحصر الأدلة في عشرين دليلا، ولم ينس الحديث عن أوجه الاعتراضات على العلة(1).
10-عيون المناظرات : السكوني (ت717)
عبارة عن كراسة جمعت عدة مناظرات عرفها التاريخ البشري، فهي تؤرخ للمناظرات بذلك الجدل الذي دار بين الملائكة وإبليس وبعدها تحدثت عن بعض المناظرات التي عرفها الرسل إبان رحلتهم التبشيرية كجدل سيدنا نوح وجدل سيدنا موسى وجدل سيدنا عيسى وجدل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك جدل الصحابة والتابعين وتابعيهم والفقهاء والمتكلمين بغض النظر عن مواطنهم.
11-لم تخل الموافقات من بعض الأبواب المتعلقة بالجدل وذلك لما لهذا الفن من علاقة بالمقاصد الشرعية، وبصفة عامة لما لها من علاقة بالأصول، فالناظر في الموافقات يجد حديثا عن أقسام السؤال والنظر إليها في إطار الشرع كما يجد حديثا عن آداب المناظرة…(2).
12-المعونة في الجدل: الشيرازي (ت 476هـ)
كتاب جدلي ضمنه الشيرازي تصوره الأصولي، وبعدها انتقل للحديث عن أوجه الاعتراض على الأدلة الشرعية وأوجه الأجوبة عنها وختمه بترجيح الظواهر (الإسناد والمتن) وترجيح المعاني.
__________
(1) -مخطوط المؤلف بمجلة كلية الآداب –مراكش العدد 9/1994.
(2) -الموافقات : الشاطبي 4/183.(1/36)
كتاب المعونة في عمقه شبيه بكتاب المنهاج من بعض الوجوه، ويختلف معه في أخرى، والاختلافات بينهما واضحة تظهر في عدم اهتمام الشيرازي بالمصطلحات الجدالية كما تظهر في تضمين المنهج الجدالي المادة الفقهية المالكية أكثر من غيرها والانتصار لها، ويظهر –كذلك- هذا الاختلاف في التوسع في تفسير المادة الجدالية أكثر مما عليه الأمر في كتاب المعونة(1).
13-الكافية في الجدل: م الجويني (ت 478).
مؤلف جدلي يفوق المؤلفات الأخرى بمادته، بحث فيه صاحبه الحد وطرق استثمار الحكم الشرعي وكيفية الاعتراض على الأدلة الشرعية مع الحديث عن الترجيحات وكيفية ترجيح النصوص مع الحديث عن آداب الجدل وبيان حيل المتناظرين ووجوه الانتقال والانقطاع.
14-حاشية العلامة محمد بن علي الصبان على شرح آداب البحث لمنلا الحنفي، وهي رسالة تستهل بذكر متن الآداب العضدية وتثنى بشرح هذه الآداب التي ألفها مثلا الحنفي وأول ما استهلت به هذه الرسالة بعد الحمدلة قول أهل الجدل "إن كنت ناقلا فالصحة أو مدعيا فالدليل…"(2).
15-كتاب الفنون لابن عقيل (ت 513هـ)
يقع الكتاب في مجلدين جمعت فيهما مناظرات فقهية وأصولية دارت بين الفقهاء في أبنية بغداد في القرون الوسطى(3).
والملاحظ أن المناظرات كثيرة جدا، فمنها مناظرة الرازي للرازي(4) حول بعض القضايا العقيدية، ومناظرة متى للصيرفي حول أصول العربية والمنطق(5).
__________
(1) - Voir introduction d’Alminhag d’Al Bagi- Etabli par Turki p.12
(2) -أدب البحث : منلا الحنفي ص : 1
(3) -كتاب الفنون : ابن عقيل. تحقيق فتح الله خليف ص : 39.
(4) -رسائل فلسفية : أبو بكر محمد بن زكريا الرازي ص : 291-315.
(5) -الامتاع والمؤانسة : أبو حيان التوحيدي : الليلة الثامنة 1/140.(1/37)
ومناظرات الرازي فيما وراء النهر وقد ضمنها مناظرات تختلف مادة وموضوعا فتارة تكون فقهية ومرة أصولية وأخرى فلسفية…(1). ومناظرة الحسن البصري للخليفة الأموي عبد الملك حول القدر(2). ومناظرة أبو إسحاق الشيرازي للدامغاني حول الإعسار(3). ومناظرة الشيرازي للجويني حول مسألة البكر البالغ. هل يجوز لأبيها تزويجها من غير إذنها(4).
ولا ننسى الإشارة إلى بعض المناظرات ذات الطابع الأدبي الافتراضي "كرسالة السيف والقلم لابن برد الأصغر، وقد أجرى هذا الكتاب بينهما حوارا شديدا قاسيا يدخل في باب التساب والتهاجي والتبكيت"(5).
ومنها كذلك ما كتب "على ألسنة الأزهار، ومن تلك الرسائل رسالة ابن برد الأصغر في تفضيل الورد، ورسالة حبيب الحميدي في تفضيل البهار ولأبي عمر الباجي رسالة على لسان البهار، كما أن لابن حسداي رسالة على لسان النرجس"(6).
__________
(1) -انظر مناظرة فخر الدين الرازي: تحقيق فتح الله خليف ص : 7-14 وما بعدها.
(2) -الفكر الأخلاقي : ماجد فخري ص : 20.
(3) -طبقات الشافعية الكبرى 3/105.
(4) -نفسه 3/109.
(5) -تاريخ الأدب الأندلسي "عصر الطوائف والمرابطين". إحسان عباس ص : 288.
(6) -تاريخ الأدب الأندلسي "عصر الطوائف والمرابطين". إحسان عباس ص: 290.
انظر "مناظرات مغربية ذكرها الأستاذ المنوني في كتاب العلوم والآداب والفنون ص :
119-120.
وذكر الأستاذ حجي كذلك بعض المناظرات على العهد السعدي 1/282 في كتاب الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين.(1/38)
الفصل الأول:الاعتراض على الاستدلال بالكتاب
"لا خلاف بين أهل اللسان بل بين واحد أن للاثنين صيغة في الأخبار عنهما غير الصيغة المخصصة للجمع."
.....................................................ابن حزم
"إن العرب لم تقل إن لفظ الجمع لا يقع على الاثنين وإنما أرادوا أن لفظ الاثنين لا يقع على الجميع،وذلك لا يمنع من وقوع لفظ الجميع على الاثنين…"
....................................................الباجي
محتوى الفصل الأول:
الاعتراض على الاستدلال بالكتاب
مقدمة:
1-الاعتراض على الدلالة الأصولية
-ظاهرية ابن حزم
-باطنية الباجي
-المناظرات
أولا: المناظرة بين المالكية وابن حزم
ثانيا: المناظرة بين ابن حزم والباجي
2-الاعتراض على الاستدلال ببعض أوجه القراءات القرآنية
الأول: الاختلاف على القراءة الآحادية
الثاني: الاختلاف على القراءة المتواترة.(2/1)
الاعتراض على الاستدلال بالكتاب
مقدمة:
خصصت كتب المناظرة محاور مهمة للحديث عن الكيفية التي يتم بها الاعتراض على الاستدلال بالكتاب، وقد أسهبت هذه الكتب في تناول جزئيات هذا الاعتراض، الأمر الذي يظن معه الباحث أن هذه الجزئيات قد درست من طرف ممارسي المناظرة، غير أن الواقع خلاف ذلك، فكتب المناظرة العملية لم تشر إلى كل ما تناولته المناظرة النظرية، لكن ما أطبق النظار على دراسته وتناوله في مناظرتهم العملية استقر في الاعتراض على الدلالة الأصولية من جهة والاعتراض على بعض أوجه القراءات من جهة أخرى.
ولهذا رأينا طرق هذا الموضوع من جانبين مهمين:
1-الاعتراض على الدلالة الأصولية:
2-الاعتراض على بعض أوجه القراءات القرآنية.(/)
1-الاعتراض على الدلالة الأصولية:
ولبيان هذا، رأينا أن نبني هذا الفصل على إشكال مهم جعل الفقيهين متباعدين في المجال التناظري، ولعي أقصد بذلك الحرفية الظاهرية والمقصدية المالكية(1)
__________
(1) -بهذه الطريقة تبتعد عن إسقاط بعض المقاولات التي لا تصدق على ابن حزم والباجي،
وبها-كذلك- نتمكن من التعامل مع الفقيهين دون الوقوع في أخطاء منهجية ( اسقاطية أو استنباطية).(/)
، فمعلوم أن المالكية تأخذ في كثير من الأحكام بمفهوم المقاصد وتحاول تطبيقها على الدلالة القرآنية بينما ظاهرية ابن حزم لا تأخذ بهذا المفهوم، فالمفهوم الذي علق بها واشتهرت به هو الظاهرية أو الحرفية أو الوقوف عند ظاهر النص، ولعل هذا المفهوم الذي ألصق باين حزم سيجعل كثيرا من الدارسين يسقطون عليه مفاهيم متعددة منها ما يمكن أن يصدق عليه ومنها ما هو بعيد عن ذلك، فبعض الدراسات ترى أن الظاهرية تعني الحرفية وتعني الوقوف عند ظاهر النص بدون بيان ذلك. "فالظاهرية مذهب يأخذ الشريعة بظاهر لفظ القرآن والسنة"(1)، والظاهرية مذهب يرجح بالدين وأحكامه إلى ظاهر النص وحده…"(2). وهم في ذهابهم لهذا المعنى لا يجدون غضاضة من الوقوف عند بعض النصوص الحزمية التي تعبر عن ذلك، قال أبو محمد : قوله الله تعالى يجب حمله على ظاهره"(3).
ودراسات أخرى رأت أن الظاهرية تعني الوقوف المتطرف في وجه كل الفرق التي تعتمد القياس، بل في وجه غلاة القياسيين، فأهل الظاهر كونوا مذهبهم ليمثل "الطرف المقابل لغلاة القياسيين"(4).
والأتكى من هذا أن دراسة أخرى رأت أن الظاهرية مذهب يطلق في مقابل الباطنية، بمعنى أوضح أن المذهب الظاهري رد فعل على الفرقة الباطنية "إن داود بن علي كان قد أسس في بغداد مذهبا فقهيا جديدا يتنكر للاجتهاد بأكثر مما تنكر له الحنابلة أنفسهم ولم يأخذ بغير المعنى الحرفي لنص القرآن والحديث، ومن هنا ادعى تلامذته بالظاهرية على سبيل المقابلة بينهم وبين الباطنية"(5).
__________
(1) -ابن حزم الأندلسي وعصره ومنهجه وفكره التربوي : حسان محمد حسان، ص : 66.
(2) -ابن حزم صورة أندلسية : محمد طه الحاجري، 125.
(3) -ملخص أبطال القياس : ابن حزم الأندلسي ، تحقيق سعيد الأفغاني، ص : 6
(4) -الفصل : ابن حزم 2/122.
(5) -تاريخ الشعوب الإسلامية : كارل بروكلمان، ص : 312.(2/2)
وهم في ذهابهم لهذا المعنى يجدون بعض النصوص التي تفيد إطلاق الظاهر في مقابل الباطن، "واعلموا أن دين الله ظاهر لا باطن… وكل من ادعى الديانة سرا أو باطنا فهي دعاوى ومخارف"(1).
ودراسة أخيرة رأت أن الظاهرية معناها الوقوف عند الحرفية ونفي التأويل "إن الفقيه الظاهري يأخذ بظاهر اللفظ في الأوامر والنواهي لا يؤولها ولا يبعد عنها، فالنص هو المحور والحجة مقصورة عليه…"(2).
وقد استخلص من سار في هذا الاتجاه أن ابن حزم "استعمل الظاهر بمعنى الخروج من الخفاء –أي من التأويل- إلى المعنى الواضح البارز بذاته"(3)؛ وقد وجدوا في هذه المعاني ما يبررها في المتن الحزمي. يقول ابن حزم "ونحن لا نقول بالتأويل أصلا"(4).
إن الباحث وهو ينظر إلى هذه الأقوال المتضاربة في تحديد معنى الظاهر يرجع ذلك إلى أن ابن حزم نفسه الذي لم يحدد هذا المعنى "إن ابن حزم وإن لم يبين خصائص الظاهرية ومعا لم منهجه فيها فإنه لم يضع لنا تعريفا محددا لها، وليس في موسوعته الظاهرية"(5).
__________
(1) -الفصل في الممل والأهواء والنحل : ابن حزم 2/116.
(2) -ابن حزم الأندلسي : إحسان محمد إحسان 68.
(3) -ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي والحضاري: عبد الحليم عريس 90.
(4) -رسائل ابن حزم : نشر إحسان عباس 3/100.
(5) -ابن حزم الأندلس : عويس 90.(2/3)
على الرغم من ذلك فإن الباحث يستطيع توضيح معنى هذه الظاهرية أو على الأقل بيان بعض تجلياتها من خلال المتن الحزمي وقبل ذلك أذكر أن المواقف السابقة لم يحالفها الصواب في تحديد معنى الظاهر، فالبعض منها وقف فأعاد ما قاله ابن حزم، ففسر الماء بالماء، والآخر جزأ المنظومة الفكرية الحزمية، وصنفها إلى أنها رد فعل على القائسين ألا تكون رد فعل على اللغويين؟ أليس هو الذي "أحبه خصومه بدقته اللغوية؟"(1). أيمكن أن تصنف منظومة ابنة حزم في رفضها للقياس؟ أعتقد أن حصرها في هذا المجال تجن على الفكر الحزمي. والموقف الذي جعلها في مقابل الباطنية اتجاه بعيد، بحيث الظاهرية ليست مذهبا في العقيدة فحسب ولكنها مذهب متكامل يطبق في التاريخ وفي الأصول وفي العقيدة وفي الفقه… أما الاتجاه الأخير الذي نفى التأويل عند ابن حزم، فقد وقع في نوع من الإطلاق وباعد الصواب، إذ كيف يمكن ذلك وابن حزم يقول "إن الأحكام المختلف فيها فرض علينا تتبعها وابتغاء تأويلها وطلب حكمها"(2)، والأكثر من هذا فابن حزم الذي ينهى عن التأويل ما لبث أن طبقه في كثير من الآيات والأحاديث، فقد أول قوله تعالى "أم لهم شركاء لهم من الدين ما لم يأذن به الله" (الشورى /19 بقوله "إن كل ما لم ينص عليه فهو شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وهذه صفة القياس وهذا حرام"(3).
وأول قوله تعالى ليحمله على القياس "ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه"-الطلاق/1- "فكل من حرم أو أحل شيئا قياسا على ما أحل أو حرم الله فقد تعدى حدود الله"(4).
__________
(1) -نظرات : الأفغاني سعيد، ص : 53.
(2) -الإحكام : ابن حزم سعيد، ص : 53.
(3) -نفسه 8/17.
(4) -نفسه 8/18.(2/4)
وأول حديث الرجل الذي ولد ولدا أسودا، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم - وقال له: لعل هذا عرقا نزعه-من دلالته على القياس إلى نفي الشبه الذي يبنى عليه القياس" وذلك لأن الرجل جهل خلاف ولده في شبه اللون علة نفيه عن نفسه، فأبطل رسول الله- صلى الله عليه وسلم -حكم الشبه وأخبره أن الإبل الورق قد تلدها الإبل الحمر، فأبطل عليه السلام أن تتساوى المتشابهات في الحكم ومن المحال الممتنع أن تكون من له مسكة عقل بقيس ولادات على ولادات الإبل"(1).
إن ابن حزم وإن أخذ بالظاهر، فهذا لا يعني أنه ينفي بالمرة وبالإطلاق التأويل، فهو يبتدئ بالظاهر كنقطة تمثل الحقيقة. ولكن عندما لا يجد سبيلا إلى ذلك فإنه يعدل عن الظاهر إلى معنى آخر، ولعل هذا ما يظهر من المفهوم المخالف لقوله "قول الله تعالى يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر أو إجماع إن ضرورة حس"(2).
وكذلك يمكن أن نلتمس التأويل الحزمي من حديثه عن تخصيص العام؛ فالعام وحمله على عمومه هو الظاهر عند ابن حزم وهو الحقيقة، ولكن حين يوجد ما يصرفه عن العموم ينتقل إليه، وقد تظهر-كذلك-تأويلاته من خلال حديثه عن المناقل سواء في باب أقسام الأحكام أو في العموم أو في النسخ أو في نقل الأسماء عن مسمياتها. إن الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها فيخرج بذلك الأمر عن وجوبه إلى سائر وجوهه، وعن الفور إلى التراخي وعن الظاهر إلى التأويل، وعن العموم لكل ما يقتضي إلى تخصيص بعضه (وكل ذلك) بذكر الدلائل التي تدل على أن الأسماء قد انتقلت عن مسمياتها"(3).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم سعيد، ص : 7/106.
(2) -الفصل : ابن حزم 2/122.
(3) -الإحكام : ابن حزم 3/135.(2/5)
إن المنهج التأويلي مفروض على ابن حزم وعلى غيره من الأصوليين "فالتأويل لم يكن بدعة انتزعه الدارسون، ولكنه اتجاه فرضته اللغة العربية"(1) والتي وتتمثل في أنه ليس لكل معنى لفظ بل المعاني كثيرة وغير متناهية وعليه "لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ لأن المعاني التي يمكن أن تعقل لا تتناهى والألفاظ متناهية"(2).
وابن حزم نفسه يزكي هذا الوضع"لو كانت اللغة أوسع حتى يكون لكل معنى في العالم اسم مختص به لكان أبلغ للفهم وأحل للشك وأقرب للبيان"(3).
__________
(1) -التصور اللغوي عند الأصوليين : د. السيد احمد عبد الغفار، ص : 119.
(2) -المزهر في علوم اللغة : عبد الرحمن السيوطي 1/41.
(3) -رسالة مراتب العلوم : ابن حزم، ص : 67.(2/6)
إن هذه الظاهرة التي تصدق على اللغة وتحمل الباحث اللغوي على التأويل هي نفسها تصدق على النص التشريعي، فأحكامه متناهية تقتضي التعامل معها بالمنهج التأويلي وإلا بقيت كثير من الأحداث بدون أحكام ونقول هذا بالنسبة لابن حزم على الرغم من إيمانه بكمال الشريعة "أنه ليس شيء اختلف فيه إلا وهو في القرآن، فصح بنص القرآن أنه لا شيء من الدين وأحكامه إلا وقد نص عليه"(1). وأقول إننا نقول بذلك-كذلك- لأن ابن حزم قد استعمل المنهج التأهيلي "أن ابن حزم ينهي عن صرف النص عن معناه الظاهر، ولكنه يبيح أحيانا لنفسه ذلك…"(2) فابن حزم ينهي عن صرف النص عن معناه الظاهر، ولكنه يبيح أحيانا لنفسه ذلك…" فابن حزم وإن استعمل التأويل(3) فقد استعمله بطريقته الخاصة التي تختلف عن باقي الفقهاء، وهذا ما سنشير إليه من خلال حديثنا عن الظاهرية:
-ظاهرية ابن حزم
-باطنية الباجي.
__________
(1) -الإحكام في أصول الأحكام : ابن حزم الأندلسي 8/3.
(2) -ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس : سالم يفوت، ص : 74.
(3) -انظر قول ابن كثير في ابن حزم: "والعجب كل العجب منه انه كان ظاهريا حائرا في الفروع لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره.. وكان مع ذلك أشد الناس تأويلا في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات، لأنه كان أولا قد تضلع في علم المنطق-البداية والنهاية-، 12/72.(2/7)
-ظاهرية ابن حزم:
لقد رأينا كيف تضاربت الأقوال في تحديد معنى ظاهرية ابن حزم وقد استعبدنا كل هذه الأطروحات لعدم تدقيقها وتعاملها مع المتن الحزمي فالظاهرية لا تحدد بالألفاظ الفضفاضة
وإنما تحدد بالوقوف عند نسقها المتكامل الذي يتجلى في مفهوم الظاهر والنص والوجوب والتحريم والتراخي والفور والعموم والخصوص والحقيقة والمجاز…
1-الظاهر والنص:
النص "هو اللفظ في القرآن أو السنة المستدل به على حكم الأشياء وهو الظاهر نفسه"(1). هذا المعنى الذي أعطاه للنص هو نفسه الظاهر بحيث لا فرق عنده بين الظاهر والنص، ونفس المذهب ذهب إليه الشافعي ف "سمى الظاهر نصا"(2). لكن المالكية بل مالك روى عنه أنه قد "طبق في فروعه التفرقة بين النص والظاهر"(3). فلا عجب حين اختلف الباجي عن ابن حزم في التمييز بين الظاهر والنص، فالظاهر عنده هو "المعنى الذي يسبق إلى فهم السامع من المعاني التي يحتملها اللفظ"(4). فاللفظ الظاهر يحتمل معاني متعددة ولكن في أحدها أظهر، وهنا يختلف مع ابن حزم الذي يعطي للظاهر مرتبة عليا في البيان، فهو ليس محتملا لمعاني ولا يسبق إلى فهم سامعه بل هو النص "النص هو الظاهر نفسه"(5) وهنا يختلف كذلك مع الباجي الذي يجعل مرتبة البيان في النص أبعد من الظاهر"النص هو ما رفع في بيانه إلى أبعد غاياته"(6).
__________
(1) -الإحكام في أصول الأحكام : ابن حزم الأندلسي 1/42.
(2) -المنخول من تعليقات الأصول : الغزالي، ص : 165.
(3) -مالك، حياته، عصره، أراؤه وفقهه: أبو زهرة 222.
(4) -كتاب الإشارة في الأصول المالكية : أبو الوليد الباجي، مخطوطة، أنظر المطبوعة 8.
(5) -الإحكام : ابن حزم 1/42.
(6) -كتاب الحدود : أبو الوليد الباجي، ص : 42، والمنهاج في ترتيب الحجاج : الباجي 15.(2/8)
إن هذه التفرقة التي ذهب إليها الباجي هي التي اتفق عليها جميع الأصوليين، فالآمدي يميز بين النص والظاهر ويعتبر الظاهر "ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ويحتمل غيره احتمالا مرجوحا"(1). وهو كذلك ما ذهب إليه الغزالي "هو الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع"(2). إن القطعية التي ظنها ابن حزم الظاهر لا يقبلها الغزالي ولا يقبلها جمهور الأصوليين لاحتمال معنى: الظاهر معاني متعددة مع احتماله للتأويل. وابن حزم وإن كان لا ينكر تأويل الظاهر فهو لا يرى تأويله إلا بالنص أو بالاجتهاد ليبقى في دائرة النص أو القطع، ولكنه رغم ذلك فالظاهر والنص يختلفان من جهة "أن المعنى المستفاد من النص، فقد قصده الشارع أصالة من سوق الكلام فازداد قوة وضوح، وأما المعنى المستفاد من الظاهر فلم يقصده الشارع أولا وبالذات من سوق الكلام، بل قصده تبعا ليمهد للمعنى الأصلي"(3). ويمكن توضيح هذا الفرق بقوله تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا" (البقرة: 275)، فالمعنى المتبادر هو حل البيع وحرم الربا وه معنى يتضح بمجرد سماعه دون بذل فكر وتأمل، ولكنه نص في التفرقة بين البيع والربا لأن التفرقة بين البيع والربا هو المعنى المقصود أصالة من نزول الآية. وعرف من سباق الآية"(4).
أعتقد أن الذي جعل ابن حزم يسوي بين النص والظاهر ويعطي معنى النص للظاهر هو إرادته إسقاط المدلول الذي يحمله النص لأن "الظاهر لا يخرج العبارة عما حملت ألفاظها من مدلولات، أما النص فهو تحميل العبارة مدلولات أكثر مما يبدو في ظاهرها بالنظر إلى قصد الشارع بما يظهر من القرائن(5).
__________
(1) -الإحكام في أصول الأحكام : الآمدي 2/198.
(2) -نفسه 2/198.
(3) -المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي : فتحي الدريني، ص : 54.
(4) -نفسه ص : 52.
(5) -التصور اللغوي عند الأصوليين : السيد أحمد عبد الغفار، 146.(2/9)
إن ما جعل ابن حزم يسقط مقصدية النص هو إيمانه بالحفاظ على نسقية فكره، فالظاهر عنده عليه مدار كل فكره وعليه مدار كل أصوله "وخمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديته"(1)، وقد ثبت ذلك بالوحي. قال تعالى "اتبع ما أوحي إليك من ربك" (الإنعام: 106) فأمر باتباع الوحي النازل المسموع الظاهر فقط. وثبت بالأحاديث "وقد أتت الأحاديث الصحاح بحمل كل كلام على ظاهره"(2).
إن الظاهر الذي يعنيه ابن حزم ليس هو الحرفية هكذا وبهذه البساطة، بل إن الظاهر الذي يعنيه هو حمل اللفظ على عمومه ووجوبه "فكل من لم يحمل كلام الله على ظاهره وعمومه وجوبه فقد كفر"(3). كما هو حمل للفظ على معناه الذي وضع له لغة "فكل خطاب ول قضية فإنما تعطيك ما فيها لا تعطيك حكما في غيرها، وان ما عداها موافق لها ولا أنه مخالف لها…"(4). كما أن الظاهر عنده يعني حمل المسميات على أسمائها ولا يحل للمرء حل لفظ عن معناه إلى آخر إلا بنص(5).
إن ما يمكن استنتاجه مما سبق أن ابن حزم حين يطلق عبارة الظاهر فهو لا يعني بها الوقوف ضد الحرفية كما يعتقد، وإنما يعني بها حمل الكلام على حقيقته، وحقيقته تتمثل في حمل أمر على الوجوب والتحريم والفور والعموم.
2-الوجوب والتحريم:
__________
(1) -الفصل : ابن حزم 3/3.
(2) -الإحكام : ابن حزم 3/17.
(3) -نفسه 3/127.
(4) -نفسه 7/2-3.
(5) -انظر النبذة الكافية : ابن حزم، ص : 36.(2/10)
إن ما يعبر عن ظاهرية ابن حزم هو حمله لفظ الأمر على الوجوب مع فرض التسليم، إن الصيغة إذا وردت مجردة فهي للوجوب "ذهب أصحاب الظاهر إلى القول بأن الأمر والنهي الوجوب في التحريم أو الفعل"(1) وهو وإن كان يتفق مع الباجي في حمل الأمر على وجوب فإن الباجي انطلق من منطلق البحث في صيغة الأمر بمعنى هل للأمر صيغة تخصه فقد أن "للأمر صيغة تختص به"(2) اتفاقا مع بعض المالكية وأبي حنيفة والشافعية وخلافا رضي أبي بكر الذي ذكر أنه "ليس للأمر صيغة"(3) والدليل الذي أسسه الباجي لهذه المسألة هذه من تقسيمات أهل اللغة للكلام، فقد قسموا الكلام إلى أمر ونهي وخبر واستخبار وقولك "افعل" والنهي قولك "لا تفعل"، "ولم يشترطوا في شيء من هذه المعاني قرينة على المراد بها فدل ذلك على أن الصيغة بمجردها تدل على ذلك"(4)، لكن قد يعترض بالدلالات التي ترد بها هذا الصيغة، فقد ترد ويراد بها التهديد كقوله تعالى "اعلموا ما (فصلت 40) وقد ترد ويراد بها الندب والامتنان والإرشاد والسخرية…
ووجوبه فقد كفر"(5). كما هو حمل للفظ على معناه الذي وضع له لغة "فكل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها لا تعطيك حكما في غيرها، وأن ما عداها موافق لها ولا انه مخالف لها…(6). كما أن الظاهر عنده يعني حمل المسميات على أسمائها ولا يحل للمرء نقل لفظ عن معناه إلى آخر إلا بنص(7).
إن ما يمكن استنتاجه مما سبق أن ابن حزم حين يطلق عبارة الظاهر فهو لا يعني بها الوقوف عند الحرفية كما يعتقد، وإنما يعني بها حمل الكلام على حقيقته، وحقيقته تتمثل في حمل الأمر على الوجوب والتحريم والفور والعموم.
2-الوجوب والتحريم :
__________
(1) -الإحكام / ابن حزم الأندلسي 3/2.
(2) -إحكام الفصول في أحكام الأصول : أبو الوليد الباجي، ص : 190.
(3) -نفسه 190.
(4) -نفسه.
(5) -الإحكام : ابن حزم 3/127.
(6) -نفسه 7/2-3.
(7) -انظر النبذة الكافية : ابن حزم، ص : 36.(2/11)
إن ما يعبر عن ظاهرية ابن حزم هو حمله لفظ الأمر على الوجوب مع فرض التسليم، إن هذه الصيغة إذا وردت مجردة فهي للوجوب ذهب أصحاب الظاهر إلى القول بأن الأمر والنهي على الوجوب في التحريم أو الفعل"(1) وهو إن كان يتفق مع الباجي في حمل الأمر على الوجوب فإن الباجي انطلق من منطلق البحث في صيغة الأمر بمعنى هل للأمر صيغة تخصه فقد ذكر أن "للأمر صيغة تختص به"(2) اتفاقا مع بعض المالكية وأبي حنيفة والشافعية وخلافا للقاضي أبي بكر الذي ذكر أنه "ليس للأمر صيغة"(3) والدليل الذي أسسه الباجي لهذه المسألة استمده من تقسيمات أهل اللغة للكلام، فقد قسموا الكلام إلى أمر ونهي وخبر واستخبار فالأمر قولك "افعل" والنهي قولك "لا تفعل"، "ولم يشترطوا في شيء من هذه المعاني قرينة تدل على المراد بها فدل ذلك على أن الصيغة بمجردها تدل على ذلك"(4)، لكن قد يعترض عليه بالدلالات التي ترد بها هذه الصيغة، فقد تريد و يراد بها التهديد كقوله تعالى: "اعلموا ما شئتم" (فصلت 40) وقد ترد ويراد بها الندب والامتنان والإرشاد والسخرية…
إن هذه المعاني أضاف إليها الشيرازي لإيراد الأمر بمعنى الإباحة وأخرج الجميع من الأمر، ولهذا وجدنا تلميذه بدوره يخرج الإباحة من الأمر "إذا ثبت أن الأمر له صيغة تختص به فالذي عليه محققوا أصحابنا أن الإباحة ليست بأمر"(5)، "إن الإباحة هي الإذن وذلك لا يسمى أمرا"(6)، فالأمر إذن هو ما لا يحتمل إلا الإيجاب والندب وبمجرده يدل على الإيجاب ولا يصرف عنه إلى الندب إلا بقرينة"(7).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم الأندلسي 3/2.
(2) -إحكام الفصول في أحكام الأصول : أبو الوليد الباجي، ص : 190.
(3) -نفسه 190.
(4) -نفسه.
(5) -إحكام الفصول في أحكام الأصول : أبو الوليد الباجي، ص : 193.
(6) - اللمع في أصول الفقه : أبو إسحاق الشيرازي، ص : 12.
(7) -الإشارات في الأصول المالكية : ص : 11، وإحكام الفصول : الباجي، ص : 195.(2/12)
إن هذا المعنى الذي وصل إليه الباجي هو نفسه الذي دافع عنه ابن حزم وهو المعبر عن ظاهريته وعليه فكل من حمل الأمر المجرد على الندب والوجوب، فذلك تعسف إلى النصوص وخروج عن الدين. إن من حمل لفظ الأمر على الاشتراك بين الوجوب والندب قد أخل بما وضعت له اللغة "لكل مسمى من عرض أو جسم رسما يختص به"(1)، أما حمله على الإباحة، وإن حمله عليها مصداقا لقوله تعالى "إذا حللتم فاصطادوا" (المائدة 2). فإن هذا الحمل كان بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه لما انحدر إلى منى، ولم يصطد فدل ذلك على أنه ليس بنص"(2).
إن ابن حزم لكي يعطي لحمله هذا نوعا من المشروعية أعطى ضوابطا لمعرفة الندب من الوجوب والندب من الإباحة، فلفظ لو إذا دخل على الكلام فهو للندب كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - "لو غسلتم" ولفظ أو "ولا جناح" فهو للإباحة كما في قوله تعالى { فدية من صيام أو صدقة } (البقرة : 196)، ولفظ "عليكم" فهو للإيجاب كما في قوله تعالى { كتب عليكم القتال } (البقرة: 216). مشروعية حمل الأمر على الوجوب لا تقتصر على هذه الضوابط بل أسس لها بنصوص من الكتاب:
-قوله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وغن لم تفعل فما بلغت رسالاته } (المائدة: 69).
-وقوله تعالى: { وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أن تكون لهم الخيرة من أمرهم } (الأحزاب: 35).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 3/3.
(2) -نفسه 3/11 و 79.(2/13)
إن إيمان ابن حزم يحمل كل الشريعة على ظاهرها أدى به إلى مناقشة حمل الأمر بعد الحظر على الوجوب وكذلك حمل الحظر بعد الوجوب على التحريم وهو نفس الموقف الذي أخذ به الباجي، إلا أن الطريقة التي عرض بها ابن حزم هذا المحور تختلف عن طريقة الباجي، فالباجي قد برهن على حمل عن الأمر بعد الحظر على الوجوب بطريقة قياسية "قد أجمعنا على أن لفظ الأمر إذا تجرد عن القرائن اقتضى الوجوب، وهذا لفظ الأمر قد تجرد عن القرائن فاقتضى الوجوب كالمبتدأ"(1).
أما ابن حزم فقد نظر إلى هذه المسألة في إطار مراتب الشريعة وطبقها على اعتبار أنها نسخ " فإذا نسخ الحظر نظرنا، فإن جاء نسخه بلفظ فهو فرض واجب فعله بعد أن كان حراما، وإن كان أتى فعل تقدم النهي فهو منتقل إلى الإباحة فقط، والنهي باق على الاختيار وكذلك الأمر إذا أتى بعده بخلافه فهو متنقل إلى الإباحة والأمر باق على الندب…"(2).
إن هذه الطريقة التي سار عليها ابن حزم في التعامل مع قضية الحظر بعد الأمر والعكس كانت حاضرة في ذهن الباجي ف "لفظة أفعل إذا وردت بعد الحظر ليس فيها أكثر من انقضاء وقت الحظر وذلك لا يدل على انتقاء الوجوب بعده…"(3).
إن إتقان ابن حزم والباجي على حمل الأمر على الوجوب والنهي على التحريم ليس بدعة، فقد كان ذلك رأي جمهور الأصوليين "اختلف أهل العلم في صيغة أفعل وما في معناه هل هي حقيقة في الوجوب أم فيه مع غيره فذهب الجمهور إلى أنها حقيقة في الوجوب أيضا"(4).
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 200.
(2) -الإحكام : ابن حزم 3/77.
(3) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 201.
(4) -إرشاد الفحول : الشوكاني، ص : 94 والمعتمد 1/51.(2/14)
إن ابن حزم في أخذه بهذا الرأي كان يعتقد-مسايرة للعلماء-أن ذلك تعبير عن الحقيقة وهو الحقيقة نفسها التي ينبغي للباحث الأصولي الانطلاق منها، والحقيقة لا تتمثل إلا في حمل اللفظ على عمومه وعلى وجوبه "وكل من لم يحمل كلام الله على ظاهره وعمومه ووجوبه فقد كفر"(1).
3-الفور والتراخي:
ينطلق ابن حزم من حمل الأمر على الفور، والذي حمله على هذا هو الحفاظ على نسقه الظاهري، ولذلك أعتقد أنه لو حمل الأمر على التراخي لاقتضى حمل الأمر على التخيير، لأن الوجوب يؤدى عنده بأول الوقت وفي أول الوقت "فرض الأوامر البدار… لقوله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
(آل عمران :133) (2)، فليس في الأمر المطلق ما يجعل المأمور متراخيا عن فعل الفعل، فالفعل عنده يؤدى بأمر واحد، ومن هنا سيرفض فكرة تكرار الفعل ولو أدت به إلى القول بالمقاصد "إن القول بالتكرار باطل لأنه تكليف ما لا يطاق
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 3/127.
(2) -نفسه 3/45.(2/15)
أو القول بلا برهان"(1)، وهذا الاتجاه الذي ذهب إليه ابن حزم يختلف اختلافا كليا عن مذهب الباجي، فالباجي يرى أن الأمر يحمل على التراخي وليس في هذا إسقاط للواجب لأنه سيكون كالواجب الموسع "قال أصحاب مالك: جميع الوقت وقت للوجوب"(2)، لكن يعترض على الباجي أو بالأحرى على دعواه في حمل الأوامر على التراخي بقضية إيمانه بعدم حمل الأمر على التكرار، وهذه الدعوى تجعل المكلف يفعل فعلا واحدا، والفعل الواحد لا يقع في زمانين وإنما يقع في زمان واحد وفي أول الزمان وهذا لا يكون إلا مع الفور، إن الباجي يعتقد انه ولو حمل الأمر على التراخي، فإن المأمور قد أدى ما عليه (سواء في أوله أو في وسطه أو في آخره) لأن الأمر غير مؤقت ولأن الفعل وإن كان فعلا واحدا فهو فعل واحد من الجنس "وذلك لا يختص به زمان دون زمان كما لو قال: صل ركعة واحدة في هذا اليوم من أوله إلى آخره لكان مخيرا في أن يفعل ذلك في أي الأوقات شاء"(3).
إن ما يراهن عليه الباجي هو الحفاظ على نسقه الفكري في رفع الحرج عن الناس، لأنه يعتقد لو حمل الأمر على الفور أو ضيق من الوقت الموسع لأوقع الناس في الحرج "وقد وسعه الله لما في تضييقه من الحرج على الناس وإلزامهم ترك بتصرفاتهم ومعاشهم بمراعاة أول الوقت فرفع الله تعالى الحرج عن عباده بتوسعة وقت الوجوب…"(4).
أما ابن حزم فإنه كان يراهن على الحفاظ على مقولته في حمل الأمر على الوجوب لاعتقاده، أن حمل الأمر على التراخي سلب للوجوب بل سلب للظاهر.
4-العموم والخصوص:
__________
(1) -نفسه 3/74.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 215.
(3) -نفسه 213.
يلاحظ أننا ربطنا أشكال الفور بالتكرار لاعتقاد بعض الأصوليين أن عدم التكرار يترتب عنه فعل واحد والفعل الواحد يقع في الزمان الأول بخلاف الباجي.
انظر الإحكام 3/65-67، إحكام الفصول : الباجي 216 و ما بعدها.
(4) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 216-217.(2/16)
لقد سبق لابن حزم أن حمل الأمر على الوجوب بدون الحديث عن صيغته وهنا-كذلك-تحدث عن العموم، ورأى حمل الكلام على عمومه وعلى ما يقتضيه دون توقف(1). وهو بهذه الطريقة يختلف عن الجمهور، فقد اعتاد جمهور الأصوليين على البحث هن صيغ الأمر وصيغ النهي وصيغ العموم، قال الشيرازي: "للعموم صيغة بمجردها تدل على استغراق الجنس والطبقة"(2)؛ ونفس المذهب ذهب إليه الغزالي وذكر الصيغ التي تحتمل العموم "اعلم أنها عند القائلين بها خمسة أنواع، الأول ألفاظ الجموع.. الثاني من وما إذا وردا للشرط والجزاء..
والثالث ألفاظ النفس.. والرابع الاسم المفرد إذ دخل عليه الألف واللام لا للتعريف.. والخامس الألفاظ المؤكدة.." (3). وقد سار على نفس المنوال المقدسي وذكر أن هذه الأنواع هي التي اختلف الناس فيها "اختلف الناس في هذه الأقسام الخمسة"(4).
والاختلاف في هذه الأنواع استقر في القول بالعموم والوقف والخصوص، فأصحاب العموم قالوا: إن للعموم صيغة… وأصحاب الوقف احتجوا بأنهم سيروا اللغة ووضعها فلم يجدوا في وضع اللغة صيغة دالة على العموم سواء وردت مطلقة أو مقيدة بضروب من التأكيد. أما أصحاب الخصوص وفي مقدمتهم ابن المنتاب المالكي فإنه قد قال: إنه ليس للعموم صيغة تخصه وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في الخصوص"(5). هذان المذهبان الأخيران يختلفان مع مذهب الشيرازي الذي يرى "للعموم صيغة بمجردها تدل على استغراق الجنس والطبقة"(6).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 3/98.
(2) -التبصرة في أصول الفقه : أبو إسحاق الشيرازي، ص : 105.
(3) -المستصفى : الغزالي 2/35-36.
(4) -روضة الناظر وجنة المناظر : ابن قدامة المقدسي، ص : 196.
(5) -إرشاد الفحول : الشركاني، ص : 115-116.
(6) -التبصرة في أصول الفقه : الشيرازي، ص : 105.(2/17)
على كل ليس مرادنا عرض هذه المواقف ولكن مرادنا بيان أن طريقة الجمهور تعتم بالأس الأساسي للبحث في العموم وهو البحث في الصيغة بمعنى هل له صيغة ؟ هذه الطريقة غير واردة عن ابن حزم ولا تهمه، فالذي يهمه هو حمل الألفاظ على العموم بدون ذكر صيغه وألفاظه، ومن هنا سيختلف مع مناظره الباجي الذي رأى ألا يتحدث عن العموم إلا بعد التأسيس له بالبحث عن صيغة، فتحدث عن صيغ العموم أو ما أسماه بألفاظ العموم فحصرها في:
-لفظ الجمع كالمسلمين والمؤمنين
-ألفاظ الجنس كالحيوان والإبل
-ألفاظ النفي كقوله "ما جاءني من أحد"
-والألفاظ المبهم ك "من" فيمن يعقل و "ما" في ما لا يعقل وأي ومتى في الزمان وأين في المكان.
-والاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام نحو الرجل والإنسان…(1).
وبعد ذلك انتهى إلى القول "إذا ثبت ذلك، فهذه الألفاظ موضوعة للعموم فإذا وردت وجب حملها على عمومها إلا ما خصه الدليل"(2).
ولعل الباحث يلمس من خلال هذا الفرق بين هذا الكلام الذي يؤسس كلامه على البحث وبين تقرير ابن حزم وجب حمل كل لفظ على عمومه(3). لكن الباحث وهو يتفحص المتن الحزمي لا بد أن يتساءل عن أسباب ذلك أو على الأقل البواعث التي جعلت ابن حزم ينهج هذا الاتجاه: تجاه الدعاوي المباشرة.
إن تفسير هذه القضية يجعلنا أمام عدة اختيارات:
-إما انه يرفض تخصص العموم في هذه الصيغ، وهذه لا يستبعد خاصة وأنه عرف العام ب "حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة…"(4).
-وإما انه يرفض العملية القياسية التي يتم بها اختيار ألفاظ العموم فاقتضى رفض الأصل الذي تقاس عليه ومن هنا لا داعي للحديث عن ألفاظ العموم
أو صيغ العموم.
-وإما أنه يريد بناء العموم على ما يقصد من الألفاظ وهذا بعيد لأنه سيسقطه في المقاصد(5).
__________
(1) -الإشارات : أبو الوليد الباجي، ص : 25-26.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 234.
(3) -الإحكام : ابن حزم 3/108.
(4) -الإحكام : ابن حزم 3/108.
(5) -نفسه 1/42.(2/18)
-وإما أنه يريد تحطيم دعوى خصومه وهنا يكون البحث الأصولي غير مهم بالنسبة للبحث الجدلي، وهذا لا يستبعد، خاصة وان لنا ما يبرره في المتن الحزمي "ونوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله"(1).
-وإما أنه يريد أن يساير نسقه الظاهري وهو حمل كل الألفاظ على عمومها وهذا ما يريد ولذلك قال ويلفظ كل "وجب حمل كل لفظ على عمومه، وعلى مقتضيه دون توقف ولا نظر"(2)، وهذا ممكن وله مايبرره في نسقه الظاهري وهو حمل كل الألفاظ على عمومها وهذا ما يريد ولذلك قال وبلفظ كل "وجب حمل كل لفظ على عمومه وعلى ما يقتضيه دون توقف ولا نظر"(3)، وهذا ممكن وله ما يبرره في نسقه الفكري:
1-إن ابن حزم إيمانا منه بالحفاظ على نسقه في العموم(4) أدخل النساء مع الرجال في خطاب الذكور وادعى أنه ليس للذكور لفظ مجرد في العربية غير اللفظ الجامع لهم والإناث "إنه ليس لخطاب الذكور-خاصة-لفظ مجرد في اللغة العربية غير اللفظ الجامع لهم وللإناث"(5).
__________
(1) -الموافقات : الشاطبي 3/153-154.
(2) -الإحكام : ابن حزم 1/96.
(3) -نفسه 3/98.
(4) -نفسه 3/83-84.
(5) -نفسه 3/18.(2/19)
ولهذا فلا يجوز حمل خطاب الذكور على الذكور فقط بل وجب حمله عليهما، وهذه الدعوى من الأصوليين من اعتقدها، فصاحب المسلم الثبوت قال "مسألة جمع المذكر السالم ونحوه مما يغلب فيه الرجال على النساء.. يصح إطلاقه على المختلط من الرجال والنساء تغليبا"(1)، وإن كان بعض الأصوليين اعترض على فكرة بناء دخول النساء مع الرجال على مسألة غلب التذكير على التأنيث واعتبرها ليست شاهدا لمثل هذه الدعوى "وليس في هذا ما يدل على أن اللفظ يفيد ظاهره المؤنث"(2). والباجي وهو من معارضي فكرة دخول النساء مع الرجال في الخطاب يرى أن الذي حمل هؤلاء على ادعاء هذه الدعوى هو إيمانهم بحمل خطاب الله على العموم، وهذا مما يصطدم مع الصيغة التي وضعت للتذكير في اللغة العربية(3)، وعليه فالنساء لا يدخلن في الخطاب مع الرجال "لأن النساء لفظ مخصوص، فكما لم تدخل الرجال في خطاب النساء لم تدخل النساء في خطاب الرجال"(4).
ب-خطاب الأحرار خطاب للعبيد:
يرى ابن حزم أن الظاهر يقضي بحمل الخطاب على عمومه، ولهذا فلا مجال للقول بأن العبيد غير مخاطبين بالخطاب الإلهي "ففرض استواء العبيد مع الأحرار"(5)، وهذه الدعوى نفسها ذهب إليها الباجي خلافا لابن خويز منداد، ودليل ابن حزم على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الأحرار وللعبيد ولا فرق "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى العبيد مع الأحرار بعثا مستويا بإجماع الأمة، ففرض استواء العبيد مع الأحرار"(6).
__________
(1) -فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه : محب الله بن عبد الشكور 1/273.
(2) -المعتمد : الحسين البصري 1/233.
(3) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 245.
(4) -اللمع في أصول الفقه : أبو إسحاق الشيرازي، ص : 21.
(5) -الإحكام : ابن حزم 3/87.
(6) -نفسه 3/87.(2/20)
إن ابن حزم في دراسته لهذه المسألة لم يحدد محل النزاع، فالأصوليون يميزون بين الخطاب الذي يعم العبيد والأحرار لغة كقوله تعالى "يا أيها الناس"، وقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا"، ففي حدود هذا المستوى ليس هناك اختلاف بين الأصوليين في حمل هذه العبارات على العبيد والأحرار(1).
وإنما الاختلاف في هل هم مخاطبون بالشريعة ؟ فالبعض يرى أنهم غير مخاطبين بمطلق أمر صاحب الشرع إلا بدليل لأنهم "لا يدخلون في أكثر الأوامر في الشرع كالجمعة والحج والجهاد"(2)، والعض الآخر رأى أنه على الرغم من عدم دخولهم في بعض الأوامر فإن ذلك لا يقوم كدليل على خروجهم من المخاطبة بالصلاة والصيام وعلل خروجهم من أمر الجمعة والحج إلى نفس العوارض التي قد تسقط بعض الفرائض عن المريض والمسافر والحائض."-وخروجهم- عن بعض الأحكام كوجوب الحج والجهاد والجمعة إنما هو لأمر عارض وهو فقره واشتغاله بخدمة سيده ونحو ذلك كالمريض والمسافر والحائض يتناولهم الخطاب المذكور ويخرجون عن بعض الأحكام كوجوب الصوم والصلاة على المريض لأمر عارض وهو المرض والسفر والحيض"(3).
ج-أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لواحد أمر للجميع:
__________
(1) -انظر المنخول : الغزالي، ص : 143، المعتمد 1/278. انظر القوانين الفقهية، فهناك من يشترط الحرية في الشهود، ص: 264، وهذه الفكرة هي التي ثار عليها ابن حزم.
(2) -التبصرة : الشيرازي، ص : 76.
(3) -المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل : ابن بدران الدمشقي، ص : 110.(2/21)
يرى ابن حزم أنه لا خلاف بين المسلمين في اعتبار أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لواحد من أصحابه أمرا للجميع إلا ما علم أه خاص، فلا يشك أحد أن أمره- صلى الله عليه وسلم - "للمستحاضة أمر لكل مستحاضة وإقامته ابن عباس وجابرا عن يمينه في الصلاة حكما على كل مصل وحده مع إمام"(1) وبصيغة عامة ف "لا خلاف بين أحد في أن أمره لأصحابه- صلى الله عليه وسلم -وهم حاضرون، أمر إلى كل من يأتي إلى يوم القيامة"(2).
د-عطف الأوامر بعضها على بعض:
إن ما يندرج في نسف العموم الحزمي، حمله للمعطوفات بعضها على بعض لأنه ليس هناك اختلاف في قول القائل: اضرب زيدا وعمرا وخالدا وبين قوله اضرب هؤلاء، لذلك وجب حمل هذه المعطوفات بعضها على بعض خاصة وأن لهذا ما يبرره في اللغة العربية فالواو موضوعة للعطف(3) التي تفيد الجمع والإشراك بين المعطوفات. وإذا صح ذلك فإنه ينبغي الاعتقاد كذلك بعود الاستثناء على جميع المعطوفات لأنه يكون لا فرق بين حمل المعطوفات بعضها على بعض بدون استثناء ومع الاستثناء "وإذا وردت أشياء معطوفات بعضها على بعض ثم جاء استثناء في آخر، فإن لم يكن في الكلام نص بيان على أن ذلك الاستثناء مردود على بعضها دون بعض فواجب حمله على أنه مردود على جميعها"(4). وحول هذه الدعوى يلتقي ابن حزم والباجي، ويلتقيان ليس فقط في الدعوى بل يلتقيان كذلك في الدليل "الاستثناء المتصل يحمل من الكلام معطوف بعضها على بعض يجب رجوعه إلى جميعها..
والدليل على ذلك أن المعطوف بعضه على بعض بمنزلة المذكور جميعه باسم واحد"(5).
__________
(1) -الإحكام / ابن حزم 3/89.
(2) -نفسه 3/89.
(3) -إحكام الفصول : الباجي 182 والإحكام لابن حزم 1/51.
(4) -الإحكام : ابن حزم 4/21.
(5) -إحكام الفصول : الباجي 277-278.(2/22)
هـ-يذهب ابن حزم إلى القول: أن أقل الجمع ثلاثة(1)، خلافا لبعض أصحابه وأصحاب مالك وفي مقدمتهم الباجي الذي يرى أن أقل الجمع اثنان وهذا القول الذي ذهب إليه الباجي يرجع إلى اختيار إحدى روايات مالك فقد قال: "القاضي أبو بكر رحمه الله مذهب مالك أن أقل الجمع اثنان"(2)، وهذه الرواية تختلف عن رواية عبد الوهاب الذي يرى أن مذهب مالك في المسألة هو ثلاثة.
أما ابن حزم فمذهبه في هذه القضية أسسه على تمسكه بمذهب الشافعي من جهة ومذهب بعض أهل اللغة الذين قسموا الأسماء إلى ثلاثة أقسام الآحاد والتثنية والجمع، وفرقوا بين كل مرتبة من هذه المراتب "إن الألفاظ في اللغة إنما هي عبارات عن المعاني، ولا خلاف بين العرب في أن الاثنين لهما صيغة في الأخبار عنهما، غير الصيغة التي للثلاثة فصاعدا، وأن للثلاثة فصاعدا إلى ما نهاية له من العدد، صيغة غير الخبر عن الاثنين، وهما صيغة الجمع، ولا خلاف بين أحد من أهل اللسان في أنه لا يجوز أن يقال: قام الزيدون وأنت تريد اثنين.. فلا يجوز أن يبدل ضمير الجماعة إلا من الجماعة ولا ضمير الاثنين إلا من الاثنين ولو كان ذلك لرفع الإشكال وارتفع البيان"(3).
5-الحقيقة:
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 4/2.
(2) -شرح التنقيح : القرافي، ص : 233.
(3) -الإحكام : ابن حزم 4/8.(2/23)
إن ما تبغي من هذا المفهوم ليس الوقوف عند معانيه اللغوية وإنما نبغي الوقوف عند بعض تجلياته في المتن الحزمي، فالدارس لا ينسى أقوال ابن حزم بعد حديثه عن بعض الدعاوي، فهو دائما يقول حمل الأمر على الوجوب وعلى الفور وعلى العموم ويذكر بعد ذلك "هذا هو الحق" "والحقيقة ما ذكرنا"، أو يقول "هذا هو الحق الذي لا يجوز غيره"، وكثيرا ما يقول موقفه أو دعواه ويعقبها بقوله كل من حمل هذا على غير ذلك فقد أفسد الحقائق، وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا جوز تعديه إلا بنص أو إجماع لأن من فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله"(1). إن ابن حزم يعتقد أم ما ذهب إليه هو الحقيقة ولهذا فلا يحق للمناظر أن يناقش في خلاف دعواه "لأنه لا يشك في آرائه بأي نوع من أنواع الشك"(2). ومن هنا صعوبة المناظرة مع ابن حزم لأنه "يجادل وقد سبق الجدل إيمان بأنه لا حجة لغيره"(3)، بل إنه لا يناظر ليصل إلى الحقيقة وإنما يناظر عن آراء سبق أن اعتقدها، فهو يذكرنا بالجدل الكلامي الذي يعتقد صاحبه ثم يجادل (أو يبرهن الأمر الذي سيؤدي بالمتكلم إلى التأويل).
__________
(1) -الفصل : ابن حزم 3/3.
(2) -ابن حزم : أبو زهرة 206.
(3) -نفسه.(2/24)
على كل لا نريد الدخول في هذه القضايا الآن لأن لها محلها ولكن نريد أن نقول إن الحقيقة عند ابن حزم تتمثل في كل تلك المفاهيم التي سبق وأن أشرنا إليها، لكن هذه المفاهيم قد تعترضها بعض العوارض ربما نصية أو قياسية، فصنيع ابن حزم في هذا الحال هو التأويل ولا مفر له من التأويل "إن الأسماء المنقولة عن معانيها تكون بأربعة أوجه: أحدها نقل الاسم عن بعض معناه الذي يقع عليه دون بعض، وهذا هو العموم الذي استثنى منه شيئا ما، فبقي سائره مخصوصا من كل ما يقع عليه، كقوله تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } (آل عمران: 173). والوجه الثاني ينقل الاسم عن موضوعه في اللغة بالكلية وتعليقه على شيء آخر كنقل الله تعالى اسم الصلاة عن الدعاء فقط إلى حركات محدودة وكنقل الأمر الوارد عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة.. ونقل له عن موضوعه إلى الندب هو غير معناه.. وكنقل الأمر عن إلزام العمل به إلى المهلة فيه"(1).
والوجه الثالث نقل خبر عن شيء ما إلى شيء آخر اكتفاء بفهم المخاطب كقوله تعالى { واسأل القرية } (يوسف: 82)، وإنما أراد أهل القرية، فأقام الخبر عن القرية، مقام الخبر عن أهلها.
والوجه الرابع نقل لفظ عن كونه حقا موجبا لمعناه إلى كونه باطلا محرما وهذا هو النسخ كنقله تعالى، الأمر بالصلاة إلى بيت المقدس.." (2).
وكل منقل من هذه المناقل لا بد له من الدليل ولكن ليس أي دليل فبعض المناقل تكون بالطبيعة وأخرى تكون بالنقل "إن البرهان الدال على النقل الذي ذكرنا ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما، إما طبيعة وإما شريعة، فالطبيعة هو ما دل العقل بموجبه على أن اللفظ منقول عن موضوعه إلى أحد وجوه النقل الذي قدمنا مثل قوله تعالى: { كونوا حجارة أو حديدا } (الإسراء: 50).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 3/135.
(2) -نفسه 3/136.(2/25)
علمنا بضرورة العقل أنه أمر تعجيز، لأنه لا يتصور أحد أن يصير حجارة أو حديدا، ولو كان أمر تكوين لكانوا كذلك، فلما وجدهم العقل لم يكونوا حجارة ولا حديدا، علم أنه تعجيز"(1).
أما الشريعة "فهي أن يأتي نص قرآن أو سنة… أو إجماع على أحد وجوه النقل الذي ذكرنا، كما دل الإجماع على أن اسم أب في قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } (النساء:22) منقول عن الاقتصار على الأب وعلى الأجداد من الأب والأم وإن بعدوا: إلى الآباء من الرضاعة والأجداد من الرضاعة لقوله عليه السلام يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"(2).
إن ابن حزم وإن أشار إلى الدليل الطبيعي أو العقلي فهو لا يشير إليهما إلا نادرا لأنه ليس مراد في أطروحته "من خصص الظاهر أو العموم بقياس أو بدليل خطاب، أو يقول صاحب، فذلك كله باطل"(3). "وأما من نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب، فإنه لا مدخل للعقل فيه"(4).
إن الدليل الذي يريده ابن حزم هو الدليل النقلي، والنقلي فقط، وسيتضح هذا أكثر لو عدنا بذاكرتنا إلى المفاهيم التالية:
6-من الحقيقة إلى الاستثناءات:
لقد سبق أن ذكرنا أن الحقيقة معناها حمل اللفظ على ظاهره وعلى وجوبه وعلى فوره وعلى عمومه وعلى ناسخه المنقول وعلى حمل الأسماء على مسمياتها، إلا أنه قد تعترض الحقيقة بعض العوارض فتخرجها عن حقيقتها، فهذه العملية مقبولة عند ابن حزم وهي التي تستثنى من حقيقته "الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها، فيخرج بذلك الأمر عن وجوبه إلى سائر وجوهه وعن الفور إلى التراخي وعن الظاهر إلى التأويل وعن العموم لكل ما يقتضي إلى التخصيص بعضه"(5).
إلا أن الأمر الغير المقبول هو حمل هذه الحقيقة على غير ظاهرها وبدون دليل والدليل الذي يقصده ابن حزم هو الدليل وهذا ما سنظهره من خلال المناقل التالية:
__________
(1) -نفسه 3/137.
(2) -نفسه.
(3) -الإحكام : ابن حزم : 3/139.
(4) -نفسه 3/140.
(5) -نفسه 3/135.(2/26)
-من الوجوب إلى الندب أو الإباحة / من التحريم إلى الكراهة: نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب فإنه لا مدخل للعقل فيه وإنما يؤخذ من نص آخر
أو إجماع فقط"(1).
-من الفور إلى التراخي: "فرض الأوامر البدار إلا ما أباح التراخي فيها نص آخر أو إجماع"(2).
-من المنسوخ إلى الناسخ: "القرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة، والسنة تنسخ بالقرآن وبالسنة والإجماع المنقول عن النبي- صلى الله عليه وسلم - (3).
-من الحقيقة إلى المجاز: "إن الاسم إذا تيقنا بدليل نص أو إجماع أو طبيعة أنه منقول عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقوف عنده، فإن الله تعالى هو الذي علم آدم الأسماء كلها، وله تعالى أن يسمي ما شاء بما شاء..(4).
-من نفي التشببيه إلى التشبيه: "التشبيه بين الأشياء المشبهة حق مشاهد فإذا شبه الله عز وجل ورسوله- صلى الله عليه وسلم - شيئا بشيء فهو صدق وحق.." (5).
-من نفي دليل الخطاب إلى دليل الخطاب: "إن كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها، ولا تعطيك حكما في غيرها، لا أن ماعداها موافق لها ولا أنه مخالف لها، لكن كل ماعداها موقوف على دليله"(6).
-من نفي التعليل إلى التعليل : "ما علله الله ورسوله حق، ولا يمكن لأحد أن يعلم علن تحريم كذا، في تحليله أو إيجابه إلا بالنص"(7).
إن الدارس وهو ينظر إلى هذه العملية التي قام بها ابن حزم لا يسعه إلا أن يسجل الملاحظات التالية:
1-إن ما نريد من هذه الدراسة التي تحدثنا عنها سابقا هو الوقوف عند النسق الحزمي –من خلال متنه- من جهة، ووضع المناظرة الأصولية بين ابن حزم والباجي في إطارها من جهة أخرى.
__________
(1) -نفسه 3/45.
(2) -نفسه 3/139.
(3) -الإحكام : ابن حزم : 4/120-107.
(4) -نفسه 4/28.
(5) -نفسه 4/38-39.
(6) -نفسه 7/2-3.
(7) -ملخص إبطال القياس : ابن حزم 49.(2/27)
2-إن اعتقاد ابن حزم أن الحقيقة في النص فإنه قد انحصر في النص مما أوقعه في أخطاء فقهية شنيعة نذكر منها مثلا واحدا على سبيل المثال لا الحصر قوله ".. إن البائل في الماء الراكد الذي لا يجرى حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره، وحكمه التيمم إن لم يجد غيره، وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره، إن لم يغير البول شيئا من أوصافه وحلال الوضوء به والغسل به لغيره، فلو أحدث في الماء أو بال خارجا منه ثم جرى البول فيه فهو طاهر، يجوز الوضوء منه الغسل له ولغيره إلا أن يغير ذلك البول والحدث شيئا من أوصافه الماء"(1).
3-إن ابن حزم وإن دخل حبال التأويل، فقد دخله في حدود النص وهذا كله ليحافظ على الحقيقة لأن التأويل بالنص ليس كالتأويل وبالرأي. ومن هنا فإن المناقل النصية لا تعتبر خروجا عن الحقيقة بل هي الحقيقة نفسها. أما ماعداها فهو باطل، ولهذا السبب يؤكد ابن حزم على المناقل النقلية "وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص فقد يكون بالقرآن للقرآن، وبالحديث للقرآن وبالإجماع للقرآن، وقد يكون بالقرآن للحديث، وبالحديث للحديث، وبالإجماع المنقول للحديث…"(2).
__________
(1) -المحلي : ابن حزم 1/135-136. وقد وقع في هذه الأخطاء لنفيه للمقاصد 1/109.
(2) -الإحكام : ابن حزم 1/81.(2/28)
4-أن تشبه ابن حزم بالنص سيجعله متباعدا مع الفقيه المالكي الذي يرى الأخذ بالنص والرأي، فالتخصيص الذي لا يراه ابن حزم إلا بالنص، فالباجي يجوزه بالقياس "يجوز تخصيص عموم السنة بالقرآن وتخصيص عموم القرآن وأخبار الآحاد بالقياس الجلي والخفي"(1)؛ بل إن الباجي يجوز نسخ القرآن بالقياس المنصوص على علته "فأما المنصوص على علته فمثل أن يقول: { حرمت عليكم الخمر } لأجل ما فيها من الشدة والنهي عن ذكر الله وعن الصلاة فهذا يجوز أن ينسخ به مع التعبد بالقياس.. ولا فرق في ذلك بين أن ينص الرسول- صلى الله عليه وسلم - على العلة بنطق وبين أن يعلم ذلك بقصده عند ذكره بعض ما نهى عنه"(2).
5-إن ما يظهر لنا من خلال النسق الحزمي أن ابن حزم لا يريد الوقوف عند الحقيقة وكفى وإنما يريد أن يضع حدا مع المقاصد(3) المالكية، ومن هنا جاء رده للأحاديث التي تفيد-أن-"للقرآن بطن"(4).
تصميم
المرحلةI:
الظاهر = الحقيقة
حمل خطاب الله على الفور العموم
الوجوب
خطاب الذكور خطاب الأحرار عطف المعطوفات خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
خطاب النساء خطاب العبيد بعضها على بعض لواحد خطاب الجميع
مناقل النصوص الرجال دون الأحرار دون لا يعود عليها خطاب
(التأويل) النساء العبيد جميعا للواحد
إذا كان بدليل من الإباحة التراخي الخصوص
نص أو إجماع فهو لا النذب
يخرج عن الحقيقة
التأويل = الحقيقة
المرحلة II:
الظاهر = الحقيقة
الوجوب الفور العموم
خطاب للرجال خطاب للأحرار عطف المعطوفات خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
والنساء والعبيد بعضها على بعض لواحد خطاب
? ? عود على جميعها خطاب للجميع
خطاب الرجال خطاب الأحرار ? ?
مناقل بالرأي أو دون النساء دون العبيد لا تعود على خطاب للواحد
بلا دليل المعطوفات
الإباحة التراخي الخصوص
النذب
__________
(1) -الإشارات : الباجي 33-35.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 429-430.
(3) -بجميع تجلياتها : قياس –استحسان-رأي…
(4) -الإحكام : ابن حزم 3/16.(2/29)
-باطنية الباجي:
إن قضية الباطن التي أثرنا سابقا لا يمكن فهمها على ضوء الاستنتاجات الاستشراقية، وإنما ينبغي فهمهما في ضوء النسق الظاهري السابق، كما ينبغي فهمها على ضوء الفهم المالكي للباطن، فمما لاشك فيه أن ابن حزم قد قوض الباطن ورفضه-كيف لا وهو يتناقض مع مفهومه "الظاهر"-ولو أدى به الأمر إلى رفض بعض النصوص الحديثية والآثار الدينية(1).
إن قضية الباطن كانت مطروحة في النصوص القديمة، وقد أعيد إثارتها من طرف المالكية على اعتبار أنهم يمثلون هذا الاتجاه، وإن كانوا لا يسمونها في بعض الأحيان بهذا الاسم وإنما يسمونها القياس المرسل أو العلة أو المصالح وربما لم ينعتوها باسم، بل اكتفوا بتطبيقها في بعض النصوص التشريعية، فلذلك كثيرا ما كنا يتجاوزون المعنى "الظاهري" بحثا عن المعنى الدلالي الثاني، وإلا فلماذا بحثوا عن علة الحكم، ولماذا بحثوا القياس ولماذا بحثوا مفهوم المخالفة والموافقة ؟
إننا لا نشك انهم بحثوا هذه المحاور بحثا عن الدلالة الثانية للنص أو بعبارة أوضح عن مقصد الشارع ومثال بسيط يوضح ذلك، فتفسير المالكية لقوله تعالى "أقيموا الصلاة (البقرة: 110) لا يقف عند البحث عن المعنى الأول الذي هو البحث عن صيغته(2)؛ وإنما تجاوزه إلى البحث عن إرادة المشرع من ذلك، وإرادته تتمثل في "المحافظة على الصلاة.. والإدامة لها"(3).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 3/17.
(2) -نفسه 3/3. انحصر نقاش ابن حزم في هذا المحور.
(3) -الموافقات : الشاطبي 3/87-88.(2/30)
فلماذا إذن لم يقف المالكية عند المعنى الأول الظاهري من النص ؟ لماذا كلفوا أنفسهم عناء البحث عن الدلالة الثاني ؟ إن المالكية فد أدركوا بحسهم المرهف أن الشريعة إنما انبنت على المقاصد ولهذا، فلا مفر لهم من الوقوف عند هذه المقاصد الشرعية، إنهم أدركوا أن الشريعة ليست "نصوصا لغوية على أساس من قواعد النحو وأساليب البيان فحسب، بل هي قبل كل شيء يمثل إرادة المشرع من التشريع(1). إنهم أدركوا كذلك أن المنهج الذي ينبغي أن تتعامل به الشريعة يجب أن يكون مناسبا لمادتها وليس شيئا أكثر مناسبة لذلك من المقاصد، ومن هذا المنطلق سيختلفون مع الظاهرية "الذين لا يكلفون أنفسهم مشقة البحث عن مراد الشارع ولا عن السبب الموجب للحكم ولا عن المصلحة التي هي غاية التشريع(2).
ولعل هذا ما سيجعل الهوة بين المدرستين جد متباعدة لأن عدم اعتبار مقصد الشرع سيجعلهم يتنكرون للعلة التي هي مظنة حكم المقصد "فأول ذنب عصي الله به التعليل لأوامر الله بلا نص وترك اتباع ظاهرها وذلك قول إبليس "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا تكونا ملكين" استنبط علة لنهي الله لهما عن أكل الشجرة ولم يصح التعليل عن صحابي ولا قال به قط"(3).
ولهذا، فلا غرو أن يتنكر ابن حزم لكل علة مستفادة من بعض النصوص كقوله تعالى "ولكم في القصاص حياة" (البقرة: 179) وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الرطب أينقض إذا يبس ؟ قالوا نعم قال فلا إذا وكقوله- صلى الله عليه وسلم - "إنما الاستئذان من أجل البصر"(4).
__________
(1) -المناهج الأصولية : فتحي الدريني، ص : 27.
(2) -نفسه 30.
(3) -ملخص إبطال القياس : ابن حزم، ص : 49.
(4) -نفسه 47.(2/31)
إن ابن حزم يذهب-كما يظهر من خلال هذه النصوص- إلى إنكار التعليل وهو يذهب إليه لا لشيء إلا إنكارا للقياس واعتقاده أن القياس ينشئ الأحكام مع العلم أن القياس ليس إلا مظهرا لحكمة الحكم أو منهجا يثبت علة الحكم في الأصل، ولهذا قال الأصوليون "القياس مظهر للحكم لا مثبت للحكم"(1).
وعليه أن القياس لا يشكل إلا المرحلة الأولى لنفي المقاصد، بل لنفي البحث في الدلالة الثانية أو الباطن، ولعلي أقصد بها ما قصده الشاطبي وهو يميز بين الظاهر والباطن "إن المراد بالظاهر هو المفهوم العرفي والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه"(2).
والوقوف عند هذين المصطلحين سيوضح لنا المعنى القصدي الذي يهدف إلى تجليته.
إن المعنى الظاهري كما وضحه صاحب الموافقات هو الدلالة الأولى غير المرادة من خطاب الشارع، وهي دلالة تدرك من الوقوف عند بعض الفوارق البيانية والبلاغية كفهم "الفرق بين ضيق في قوله تعالى "ويجعل صدره ضيقا حرجا وبين ضائق في قوله { وضائق به صدرك } والفرق بين النداء { يا أيها الذين آمنوا ويا أيها الذين كفروا.. } (3)، والوقوف عن مثل هذه الدلالات الأولى كثيرا ما تترتب عليها أخطاء في فهم مقصود الشارع. قال تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعف له أضعافا كثيرة } (البقرة: 245) قال أبو الدحداح أن الله كريم استقرض منا ما أعطانا هذا معنى الحديث وقالت اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء. إن الفهم الذي وصل إليه أوي الدحداح هو الباطن والمعنى المراد أن الفهم التمهيدي فلم يزد على مجرد القول العربي الظاهر(4).
__________
(1) -شرح التلويح على التوضيح : التفتازاني 2/53.
(2) -الموافقات : الشاطبي 3/228.
(3) -الموافقات : الشاطبي 3/222-230.
(4) -نفسه 3/231.(2/32)
إن الوقوف عند المعنى الدلالي الأول كثيرا ما يتسبب في أخطاء ليست تشريعية وحسب وإنما يتسبب في أخطاء عقيدية ولعل وقفة مع تفسير المشبهة لقوله تعالى { يجري بأعيننا مما علمته أيدينا وهو السميع العليم } (1)، يوضح الخطأ الذي يرتكب على إثر التعلق بالظاهر، فقد اعتبروا أن لله يدا وعينا… إن من وقف مع مجرد الظاهر لاشك أنه سيقتحم من مثل هذه المتاهات البعيدة عن النص، وعلى أي فإن المدرسة المالكية ترى أن كل من زاغ عن الباطن، فلاشك انه واقع في حبال الأخطاء والمتاهات ولم لا، ولدينا من متاهات ابن حزم ما لا يحصى كثرة:
-لا يجب غسل الإناء من ولوغ الخنزير لعدم وجود النص
-لا يشترط الطهارة للصلاة على الجنازة.
-يجوز للمجنب قراءة القرآن والجلوس بالمساجد.
-لا يشترط في البيع صيغة
-جعل لحم الجزور ناقضا للوضوء
-أثبتوا غسل اليد ثلاثا بعد النوم(2).
والغريب أن ابن حزم يعتقد انه صاحب الحق وأهل الباطن هم أصحاب الضلال والباطل، أخطأ مالك-في نظره- حين قال بعدم إرضاع الشريفة وضرب المتهم.. (3).
والحق أن ابن حزم لم يدرك مغزى ذلك أو أنه تجاهل مذهب المالكية تنكرا للتعليل والمصلحة لأكثر أنه ادعى أنها ما أنزل الله بها من سلطان وإنما هي من صنيع اتباع الفقهاء(4).
إن متاهات ابن حزم لم تقف عند التنكر للمقاصد، بل تعدتها إلى التنكر لدليل الخطاب لكل قضية فإنما تعطيك ما فيها، ولا تعطيك حكما في غيرها، لا أن ماعداها موافق لها، لا أنه مخالف لها، لكن ماعداها موقوف على دليله"(5).
__________
(1) -نفسه 3/232.
(2) -رسالة في المفاضلة بين الصحابة : ابن حزم. نشر سعيد الأفغاني، ص : 63-64.
انظر أمثلة أخرى: المحلى : ابن حزم 1/69-136-244.
(3) -القوانين الفقهية : ابن جزي، ص : 192.
(4) -وهذا خلاف ما ذهب إليه بعض الباحثين، فالاستصلاح والأخذ به كان منذ فترة مبكرة ترجع إلى عصر الصحابة. انظر المناهج الأصولية: الدريني، ص: 10.
(5) -الإحكام : ابن حزم 7/2-3.(2/33)
إن الدارس ما كان ليظن بمثل ابن حزم-وهو العالم اللغوي- أن يذهب هذا المذهب، فإذا بهذا العالم يهفو هذه الهفوة لا لشيء إلا انتصارا لما اعتقد مسبقا، ولا لشيء-كذلك-إلا ضدا لقول المالكية بالمقاصد "كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده باطل"(1).
لقد صدق من تأسف على مثل ابن حزم ق عدم أخذه بالمقاصد بل عدم أخذه بدلالة النص "أما ابن حزم، وهو الذي يمثل الصورة الواضحة من الجمود على ظاهر لغوية النص، مهدارا قوته المنطقية في التشريع فإنك تراه قد أمات في نفسه حتى في الحس اللغوي، حين أنكر دلالة النص، فضلا عن إحجامه العنيد من الارتقاء إلى أفق المنطق التشريعي"(2).
وعلى الجملة فإن ابن حزم قد زاغ عن الصواب في نظر الشاطبي لأنه مال عن الباطن وكل من زاغ عن ذلك فقد مال عن الصراط المستقيم "فكل من زاغ عن الصراط المستقيم فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما وكل من أصاب الحق وصادف الصواب، فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه"(3).
__________
(1) -المناهج الأصولية : فتحي الدريني، ص : 31.
(2) -نفسه، ص : 391.
(3) -الموافقات : الشاطبي 3/232-233.(2/34)
إن الحق-إذن-الذي ادعاه ابن حزم في الظاهر سيدعيه المالكية في الباطن بل يدعيه الباطنية في الظاهر والباطن، فالمالكية من خلال تحليلهم للنصوص لا يفرطون في الدلالة الأولى ولا الدلالة لأن الأولى هي التي تشكل الوضع اللغوي الذي لابد منه "كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء.." (1)، ويأخذون بالمعنى الثاني لأنه يوقفهم على الدلالة المقصدية من النص، ومن هنا ابتعدوا عن الفرط والتفريط واستقروا على العدل "لكل علم عدلا وطرفا وفرطا وتفريطا والطرفان هما المذمومان والوسط هو المحمود.." (2)، فالذين أخذوا القرآن بالسان سقطوا في الفرط، ولعله يقصد هنا الظاهرية "والشياطين وهم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخيال وضحكة السامع نعود بالله من الخذلان"(3)، أما الذين لم يأخذوا باللسان وأرادوا المقاصد فهذا من المحال الغير الممكن.
إن الشاطبي في هذه العجالة التي ينتقد فيها الخصوم وبالخصوص أهل الظار لا ينسى أن يعطي بعض الأمثلة على ذلك، ناخذ منها واحدا على سبيل المثال لا الحصر. قال تعالى: { أقيموا الصلاة } (البقرة : 110) لا يقتضي النزاع حول صيغته هل هو للوجوب أم للندب ؟ وإنما ينبغي الوقوف عند معناه الباطني وهو "المحافظة على الصلاة والإدامة لها"(4).
إن هذه الظاهرة التي ذكر الشاطبي تصدق على النصية، فقد أغرقت نفسها في المناقشات الشكلية والصورية لبعض الأوامر دون الوقوف عند مقاصد الشارع من ذلك، وهذا كله لأنها تنفي التعليل ولا تبغي السؤال عن علية الأشياء(5)، فالله فعال لما يريد، فعلا: { إن ربك فعال لنا يريد } (هود: 107) ولكن ماذا بعد ذلك ؟
__________
(1) -نفسه 3/233.
(2) -نفسه 3/248.
(3) -نفسه 3/236.
(4) -نفسه 3/87-88.
(5) -الإحكام : ابن حزم 4/101- 1/93- 7/15 – 8/112.(2/35)
إن الدارس بوقوفه على عدة مفاهيم من مثل ذلك يكاد يقول بمرجئية ثانية دشنها ابن حزم إبان القرن الخامس الهجري بالأندلس، ولكن أنى له وقد وجدت لابن حزم بعض الاستثناءات التي تدل على اهتمامه بالمعنى الثاني للنص، قال تعالى: "كونوا حجارة أو حديدا"(الإسراء:50) علمنا بضرورة العقل أنه أمر تعجيز لأنه لا يقدر أحد أن يصير حجارة أو حديدا.." (1)، بل الأكثر من هذا يكاد يصرح بهذا المعنى المقصدي "وأما الصوت الذي يدل بالقصد فهو الكلام الذي يخاطب الناس به فيما ينهم ويتراسلون بالخطوط المعبرة عنه في كتبهم لإيصال ما استقر في نفوسهم من عند بعضهم إلى بعض، وهذه هي التي عبر عنها الفيلسوف بأن سماها الأصوات المنطقية الدالة"(2).
إن هذا الإشكال يضع الباحث أمام اختيارين لا ثالث لهما إما أنه متناقض في أفكاره، وهذا لا ينكر وإما أن ظروف الجدل(3) اقتضت من ابنه حزم أن يتقمص جميع الوجوه لكي لا يباهت أمام خصومه.
على أي، فابن حزم سيعترض عليه من قبل المالكية على أساس تنكره للدلالة الثاني ووقوفه عند الظاهر مثلما اعترض على أستاذه من قبل "قد يحكى إمام الحرمين عن ابن سريج انه ناظر أبا بكر بن داود الأصبهاني في القول بالظاهر، فقال له ابن سريج أنت تلتزم الظواهر وقد قال "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين. فقال مجيبا الذرتان ذرة وذرة، فقال ابن سريج فلو عمل مثقال ذرة ونصف، فتبلد وانقطع.." (4).
__________
(1) -نفسه 3/137، وإن اختلف مع البدخشي في القصد 2/18.
(2) -التقريب لحد المنطق : ابن حزم 105-106.
(3) -الإحكام : ابن حزم 4/133.
(4) -الموافقات : الشاطبي 3/91.(2/36)
-المناظرات:
لقد ألمحنا سابقا إلى الإطار العام للمناظرات المزمع التحدث عنها، لما لهذا الإطار من أهمية في فهم الأسس والمنطلقات التي ينطلق منها الفقيهان أو المذهبان الظاهري والمالكي، ولم يبق إلا الحديث عن هذه المناظرات آخذين بعين الاعتبار القضايا التالية:
1-سنميز في هذه المناظرات بين مناظرة ابن حزم للمالكية ومناظرة الباجي لابن حزم، وإن كان ابن حزم لم يميز بينهما، ولكن باجتهاد منا استطعنا بيان القضايا التي تخص المالكية والقضايا التي تخص الباجي، وهذا التمييز له ما يبرره، فالمالكية لم يكونوا على وتبرة واحدة من الاجتهاد، فالباجي كان فقيها مجتهدا في المذهب ولعل اجتهاداته جعلته يختلف مع المالكية وهذا بشهادة ابن حزم(1).
2-لا ننكر الصعوبات التي وجدنا في فصل موقف المالكية عن موقف الباجي وكذلك عن موقف باقي الفقهاء، فمعروف أن ابن حزم بمذهبه هذا قد خاصم جميع المذاهب، وفي كثير من الأحيان لا يتعرض لذكر اسم المذهب ولا صاحب الموقف.
3-إننا في دراستنا هذه رأينا أن نتصرف في المتن الحزمي من الجهة الباجي وكذلك عن موقف باقي الفقهاء، فمعروف أن ابن حزم بمذهبه هذا قد خاصم جميع المذاهب، وفي كثير من الأحيان لا يتعرض لذكر اسم المذهب ولا صاحب الموقف.
3-إننا في دراستنا هذه رأينا أن نتصرف في المتن الحزمي من الجهة الشكلية لنقدمه على شكل محاورات بدعوى وتثنى بالدليل وتثلت بالجواب وبعدها بالدليل.. ونحن بهذه الطريقة سنسهل علينا العمل من جهتين معرفة الدعوى من جهة ومعرفة الدليل من جهة أخرى، وهذه العملية كان لا بد من السير عليها خاصة بالنسبة لكتاب ابن حزم المعروف بكثرة مواقفه وعدم ترتيب مادته ترتيبا مركزا كما هو الشأن بالنسبة للباجي.
4-إننا في هذه المناظرات سنأخذ أولا: المناظرة بين المالكية وابن حزم حول إشكال الأمر بين الوقف والوجوب.
وسنأخذ ثانيا المناظرة بين ابن حزم والباجي حول الدعاوى التالية:
أولا: أقل الجمع
ثانيا: خطاب النساء والرجال
ثالثا: الفور والتراخي
رابعا: دليل الخطاب
__________
(1) -الذخيرة : ابن بسام، القسم الثاني، المجلد : 1، ص : 36.(2/37)
أولا: المناظرة بين المالكية وابن حزم
1-المناظرة حول دعوى الأمر بين الوجوب والوقف:
اعترض ابن حزم على الواقفية اعتراضا قويا لأن الوقف والأخذ بالظاهر على طرفي نقيض(1)، ولهذا فليس من قبيل الصدف أن يخصص ابن حزم بعض الانتقادات لهذا المذهب وخاصة لكبار ممثليه من المالكية كابن المنتاب والقاضي أبي بكر الباقلاني، فلقد اعترض ابن حزم على الواقفية في كل المسائل الأصولية ومن جملة اعتراضاته، اعتراضه على حمل الأمر على الوقف، فالواقفية ترى أن الأمر لا يحمل على الوجوب بل لا حمل على أي معنى استعمالي آخر إلا بدليل أو قرينة، والذي أظهر هذا الاختلاف هو الاستعمالات المتعددة التي يرد عليها وبها الأمر، فهو يرد ويراد به المعاني التالية:
-الإيجاب كقوله تعالى: { أقيموا الصلاة } (البقرة: 110)
-الندب كقوله تعالى: { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } (النور: 33).
-الإرشاد كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } (البقرة: 282).
-الإباحة كقوله تعالى: { كلوا من الطيبات } (المؤمنون: 51).
-الوعيد كقوله تعالى: { اعلموا ما شئتم } (فصلت: 40)
-التأديب كقوله- صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي مسلمة { سم الله وكل بيمينك } .
-الامتنان كقوله تعالى: { فكلوا مما رزقكم الله } (النحل: 114) (2).
إن التناظر ليس واقعا في هذه المعاني التي يستعمل فيها الأمر وإنما واقع في المعنى الذي يحمل عليه الأمر إذا ورد مجردا، بمعنى هل الأمر حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداها أم أنه حقيقة في معنى من هذه المعاني مجاز فيما عداها..؟
فحول هذا السؤال تشكلت مذاهب متعددة منها:
__________
(1) -تفسير النصوص في الفقه الإسلامي: د.محمد أديب صالح 2/26.
(2) -تفسير النصوص في الفقه الإسلامي: د.محمد أديب صالح 2/235.(2/38)
أ-مذهب يقول بحمل الأمر على الوجوب، وهو مذهب محكي عن الشافعي(1)، واختاره الحسين البصري "لفظة افعل حقيقة في الوجوب"(2)، وهذا المذهب هو نفسه مذهب ابن حزم "الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الأخذ مظاهرها وحملها على الوجوب..." (3)، وهو كذلك مذهب مالك وأصحابه، وأما اللفظ الذي هو الذي هو مدلول الأمر فهو موضوع عند مالك (رحمه الله) وعند أصحابه للوجوب"(4).
ب-مذهب يقول يحمل الأمر على الندب، وهو مذهب مروي عن الشافعي، وذهب إليه أبو الحسن بن المنتاب المالكي وأبو الفرج…(5).
ت-مذهب يقول بحمل الأوامر على الإباحة.
ث-مذهب يحمل الأمر على سبيل الاشتراك اللفظي بين الوجوب والندب وهو مذهب محكي عن المرتضى من الشيعة(6).
ج-مذهب يقول بحمل الأمر على سبيل القدر المشترك بينهما وهو الطلب وهو رأي أبي منصور الماتريدي(7).
ح-مذهب يقول يحمل الأوامر على الوجوب والندب والإباحة مع اختلافهم في الاشتراك، فمنهم من يرى حمله على سبيل الاشتراك اللفظي، ومنهم من يرى حمله على سبيل الاشتراك المعنوي، وقد اختار البيضاوي احتمال الأمرين(8).
خ-مذهب يقول بحمل الأمر على الأحكام الخمسة "الوجوب والندب والتحريم والكراهية والإباحة"(9).
د-مذهب يقول بحمل الأمر على الوجوب والندب والإباحة والتهديد وهو مذهب جمهور الشيعة(10).
__________
(1) -إرشاد الفحول 94.
(2) -المعتمد : الحسين البصري 1/51.
(3) -الإحكام: ابن حزم 3/2-3.
(4) -شرح التنقيح : القرافي، ص : 127.
(5) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 198.
(6) -الإبهاج في شرح المنهاج : السبكي 2/23.
(7) -حاشية البناني على متن جمع الجوامع : عبد الوهاب السبكي 1/375-376.
(8) -الإيهاج في شرح المنهاج: السبكي 2/26.
(9) -حاشية البناني على متن جمع الجوامع : عبد الوهاب السبكي 1/376.
(10) -إرشاد الفحول : الشوكاني 94. انظر كذلك الإبهاج 1/256.(2/39)
ذ-مذهب يقول بحمل الأمر على الوجوب وحمل أوامر النبي- صلى الله عليه وسلم - على الندب، وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو بكر الأبهري(1).
ر-مذهب يقول بالوقف واختلفوا في أسباب الوقف "منهم من قال هو مشترك كلفظ العين ومنهم من قال لا ندري أيضا أنه مشترك أو وضع لأحدهما (يعني الوجوب أو الندب واستعمل في الثاني مجاز.." (2).
وهذا المذهب الذي اختاره الغزالي "والمختار أنه متوقف عليه"(3). وهو مذهب الآمدي والأشعري" ومنهم من توقف وهو مذهب الأشعري رحمه الله، ومن تابعه من أصحابه كالقاضي أبي بكر والغزالي وغيرهما وهو الأصح"(4).
إن هذا المذهب الأخير يتراءى لنا من خلال الأحكام انه مذهب يهدف إلى تعطيل الشريعة "يقال لمن قال بالوقف: ماذا تصنع إن وجدت أوامر واردة من الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم - خالية من قرينة بالجملة ولا دليل هناك يدل على أنها فرض ولا على أنها ندب، فلابد من أحد ثلاثة اوجه: إما أن يقف أبدا، وفي هذا ترك استعمال أوامر الله تعالى وأوامر رسوله- صلى الله عليه وسلم - وهذا نفسه ترك الديانة أو يجعل ذلك على الندب، فيجمع وجهين أحدهما القول بلا دليل، والثاني استجازة مخالفة الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم - بلا برهان أو يحمل ذلك على الفرض، وهذا قولنا، وفي ذلك ترك لمذهبه وأخذ بالأوامر فرضا بنفس لفظها دون قرينة وبالله التوفيق(5).
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي 198 والإحكام : ابن حزم 2/24.
(2) -المستصفى : الغزالي 1/423.
(3) -نفسه 1/423.
(4) -الإحكام : الآمدي 1/14-15.
(5) -الإحكام : ابن حزم 3/27.(2/40)
لكن هذا الموقف الذي اتخذه ابن حزم من هذا المذهب، إذا نظرنا إليه خارج الخصومة بين ابن حزم والمالكية لوجدناه مذهبا له دعامته وله أهدافه التي يهدف إليها، فهو ليس كما يعتقد مذهب رجعي أو مذهب مرجئي بل مذهب يهدف اتباعه إلى تقعيد أصول الفقه على القطع ولا يمنعون -مع ذلك- من الأخذ بالظن. يقول ابن السبكي: "إن شيخنا أبا الحسن الأشعري والقاضي أبا بكر يطلبان في مسائل أصول الفقه القطع، ولا يكتفيان بالظن إلا فيما نذر من فروعه، فإذا توقف الشيخ أو القاضي فاعلم أو وقفتهما إنما هي عن القطع ولا يمنعان الظن.." (1).
إن ما ذكره ابن حزم في الإحكام لا يصدق على هذا المذهب، فكيف يقال ذلك ومذهب الوقف يهدف إلى بناء الأصول على القطع.
إن ابن حزم على عادته يراهن على الحفاظ على ظاهريته ولو أدى به ذلك إلى المغالطة، إنه يريد حمل الأمر على الوجوب، والوجوب والوقف لا يجتمعان، إن ابن حزم في مذهبه هذا لم يكن يهدف إلى بناء الأصول على القطع كما يظن ولكن يهدف فيما يهدف إليه إلى الحفاظ على نسقه الظاهري، وهذا النسق لا يعقل أن يقال أنه بكامله قطعي، وخاصة في مسألة حمل الأمر على الوجوب، فليس لابن حزم في حمل هذا الأمر نقول متواترة تجعل الأصولي يحسم في ذلك، ولهذا رأينا الواقفية اعترضت على حمل الأمر على الوجوب بدليل أن "يكون مدركه عقليا أو نقليا، الأول محال العقول لا مدخل لها في المنقول، لا ضرورة ولا نظرا، والثاني، فإما أن يكون قطعيا أو ظنيا، والقطعي غير متحقق فيما نحن فيه والظني إنما ينفع أن لو كان إثبات مثل هذه المسألة مما يقنع فيه بالظن وهو غير مسلم فلم يبق غير التوقيف"(2).
__________
(1) -حياة الشيرازي : حسن هيتو 197-198.
(2) -الإحكام : الآمدي 2/15.(2/41)
إن الواقفية وغن كانت لا تثبت شيئا ولا تنفيه، فهي مع ذلك تقدم دليلها الاعتراضي على حمل الأوامر على معنى من المعاني السابقة "الوقف غير حاكم والساكت عن الحكم لا يفتقر إلى دليل"(1).
إن ما يهدف إليه هذا المذهب هو بناء الأصول على القطع، ولهذا كان لابد من التريث في حمل الأوامر على إحدى المعاني المعروفة، وهذه الظاهرة التي تسير عليها الواقفية تتناقض والظاهر لأن الظاهر يعني الفرض المسبق لحمل الأمر على الوجوب من غير وقف، ولهذا فلا يتهاون ابن حزم أكثر للقول بحمل الأوامر على الوجوب ابتداء، وبناء على الأدلة التالية:
-إن هذه اللغة قد أطبقوا على حمل الأمر على الوجوب لأنه لا يعقل أن يقال أن لفظ افعل لا يفهم منا لا تفعل "ومدعي هذا على اللغات وأهلها في أسوأ حال الكهان. وقد قال تعالى: { قتل الخراصون } (2) (الذاريات: 10).
-إذا كان هناك إجماع على أن دليل حمل الأوامر على الوجوب كامن في اقتران الأمر بوعيد، فإن كل الأوامر مقترنة بالوعيد "اعلم أن الوعيد من الله عز وجل، قد اقترن بجميع أوامر نبيه- صلى الله عليه وسلم - قي قوله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره، أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (3) (النور: 63).
-إن اقتران مخالفة أوامره بالمعصية دال على حمل الأمر على الوجوب قال تعالى: { ومن يعصى الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا }
(الجن: 23). "ولا عصيان أعظم من أن يقول الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - افعل أمر كذا، فيقول المأمور لا أفعل.." (4).
__________
(1) -الإحكام : الآمدي 2/15.
(2) -الإحكام : ابن حزم 3/13.
(3) -نفسه 3/14.
(4) -نفسه 3/15.(2/42)
-وقد أورد حديثا عن أبي هريرة مفاده أن الأقرع بن حابس سأل النبي- صلى الله عليه وسلم - عن الحج بقوله "أحجنا هذا لعامنا أم للأبد". فقال-ص-: بل للأبد ولو قلت نعم لوجب. قال على: فبين عليه السلام في هذا الحديث بيانا لا إشكال فيه، أن كل ما أمر به فهو واجب"(1).
-استدل بحديث بربرة وكانت قد سألت النبي- صلى الله عليه وسلم - إذ قال لها:
لو راجعتيه يعني النبي- صلى الله عليه وسلم - زوجها مغيثا، فقالت أتأمرني يا رسول الله، قال: لا إنما أشفع، فقد دل هذا عند ابن حزم على التمييز بين الأمر والشفاعة فالأمر للإيجاب والشفاعة لا توجب على أحد(2).
-وقال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته } (المائدة: 68).
وقد ذكر ابن حزم أن هذه الآية دالة على أن "من لم يفعل ما أمر به فقد عصى"(3).
-قال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } (الأحزاب: 36). "قال علي: انبلج الحكم بهذه الآية ولم يبق للشك مجال، لأن الندب تخيير، وقد صح أن كل أمر الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم - لا اختيار فيه لأحد وإذا بطل الاختيار، فقد لزم الوجوب ضرورة…"(4).
-ومما يبين أن أوامر الله كلها على الفرض، حتى يأتي نص أو إجماع أنه ليس فرض قوله تعالى " قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه،فقدره، ثم السبيل يسر، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء نشره، كلا لما يقض ما أمره" (عيسى: 17-23). قال علي : فعدد الله تعالى في كفر الإنسان انه لم يقض ما أمره به وكل من حمل الأوامر على غير الفرض، واستجار تركها، فلم يقض ما أمره"(5).
__________
(1) -نفسه 3/17-18.
(2) -الإحكام : ابن حزم 3/21.
(3) -نفسه.
(4) -نفسه.
(5) -نفسه 3/31.(2/43)
-بسند عن جابر بن سمرة قال: سأل رجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فلا تتوضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال: نعم أتوضأ من لحوم الإبل. "قال علي: فأورد عليه السلام الوضوء الذي ليس عليه واجبا بلفظ التخيير وأورد الآخر بلفظ الأمر فقط، ولو كان معناهما واحدا، فما كان عليه السلام مبينا للسائل ما سأله وهذا ما لا يظنه مسلم"(1).
والملاحظ أن أدلة ابن حزم وإن كانت لا ترقى إلى أدلة المتكلمين في حمل الأمر على الوجوب، فهي تحمل في باطنها بعض العلل التي تقوضها:
1-إذا كان هناك إجماع من قبل أهل اللغة على حمل الأمر على الوجوب فلماذا اختلف الفقهاء في ذلك؟
2-قوله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره" (النور: 63) معناه عدم فعل ما علم أنه واجب عليه "وليس فيه ما يدل على أن كل أمر للوجوب } (2).
3-وأما قوله تعالى { وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا اقتضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعصى الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } (الأحزاب : 36)، فمراده لا يحمل على المعنى الذي يريده ابن حزم من الأمر وغنما يحمل على "اعتقاد وجود المأمور به أو ندبه وفعله على ما هو عليه، إن كان واجبا، فواجب، وإن كان نذبا فنذب"(3).
4-أما حديث بربرة، فهو عبارة عن سؤال "طلبا للثواب بطاعته"(4) والثواب قد لا يكون بالفعل الواجب فقط بل قد يكون بالفعل المنذوب-كذلك-.
5-أما سؤال الأقرع بن جابس، فليس فيه ما يدل على وجوب الحج من جهتين:
الأولى : لوجوب الحج بقوله تعالى: { لله على الناس حج البيت }
(آل عمران: 97).
الثانية : السؤال سؤال عن وحدة الفعل أو تكراره لا على وجوب الحج.
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 3/32.
(2) -الإحكام : الآمدي 2/18.
(3) -نفسه.
(4) -نفسه 2/19.(2/44)
إن الحديث عن اعتراض واقفية المذهب الشافعي ينقلنا تلقائيا إلى الحديث عن الاعتراضات المتبادلة بين ابن حزم والمالكية، والقصد من هذا البيان جهد الاتجاهين في إجهاض مذهب الخصم:
دعوى ابن حزم: تتلخص في حمل الأمر على الوجوب "ذهب أصحاب الظاهر إلى القول بأن ذلك على الوجوب في التحريم أو الفعل"(1).
دعوى الخصم: لا يحمل الأمر على الوجوب وإنما الأمر على الوقف "قال بعض المالكية أن أوامر القرآن والسنن ونواهيها على الوقف.." (2).
سند الواقفية : وجود أوامر مصروفة عن مواضعها.. دل على عدم حمل الأمر على الوجوب وغيره.
اعتراض ابن حزم: لا يعقل التوقف لسبب وجود بعض الألفاظ مصروفة عن مواضعها(3).
اعتراض الواقفية: ما سند حمل الأمر على الوجوب هل بنفسه أو بدليله فإن كان بنفسه ثمة اختلاف، وإن كان بدليل "فإذا لم يدل هو فدليله أحرى أن لا يدل"(4).
جواب ابن حزم: عبارة عن تقرير في المعرفة ووسائلها "إننا عرفنا إيجاب الأوامر ببديهة العقل، وبالتمييز الموضوعين فينا.." (5)، هذا لإضافة للنصوص الدالة على ذلك.
اعتراض ابن حزم: جاء في شكل سؤال عكسي على الواقفية "بأي شيء يدل الأمر على أنه على الوقف أبنفسه أم بدليله؟"(6).
جواب ابن المنتاب المالكي: إن دليلنا على حمل الأمر على الوقف قول الله مخبرا عن العرب" ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا"(7) (محمد: 16)، فلو فهموا أن الأوامر على الوجوب لما كان لسؤالهم معنى.
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 3/2-3.
(2) -نفسه 3/2.
(3) -نفسه 3/6.
(4) -نفسه 3/8.
(5) -نفسه 3/9
(6) -نفسه.
(7) -نفسه 3/10.(2/45)
اعتراض ابن حزم: "..إنما حكى الله عز وجل ذلك عنهم منكرا عليهم"(1). وأضاف ابن حزم إلى هذا الاعتراض الأخير بعض التناقضات المالكية عند استعمالهم للأمر، فمرة يحملونه على الوجوب ومرة على الندب وأخرى على الوقف، وختم بمحاولة يهدف منها إلزام الواقفية، فالأمر إذ ورد مجردا فهو:
-إما أن يحمل على الوقف أبدا وفيه تعطيل للشريعة بل للدين
-وإما أن يحمل على الندب وهو قول بلا دليل، والقول بلا دليل مخالفة لله ورسوله.
-وإما أن يحمله على الفرض وهذا قول ابن حزم(2).
وفي ختام هذه المناظرة لا يفوتني أن أسجل بعض الملاحظات التي سنحتاج إليها في محلها:
-الملاحظة الأولى: هذه المناظرة لا تخلو من بعض المصطلحات التناظرية مثل دعوى، دليل، جواب، اعتراض، ومطالبة بدليل…
-الملاحظة الثانية: هذه المناظرة لا تخلو من أسئلة الرامية أي أنها تضع المجيب أمام اختيارين أو ثلاثة، وفي كلتا الحالتين يكون ملزما، مثلا سؤال الواقفية "بأي شيء تدل على أنه على الوجوب أبنفسه أو بدليله ؟ فإن قلتم بنفسه، ففي ذلك اختلفنا، وإن كان بدليله فإذا لم يدل هو فدليله أحرى أن لا يدل"(3).
-الملاحظة الثالثة : هذه المناظرة لا تخلو من الأسئلة العكسية، قالت الواقفية بأي شيء يدل الأمر على الوجوب أبنفسه أو بدليله ؟ واعترض ابن حزم "بأي شيء يدل الأمر على أنه على الوقف أبنفسه أو بدليله"(4).
-الملاحظة الرابعة : هذه المناظرة لا تخلو من مغالطات، فابن حزم يعترض الواقفية بالتناقض، مرة يأخذون بالندب ومرة بالوقوف ومرة بالوجوب، وهذا التنقل في هذه المواقف عند المالكية بل عند غيرهم ضرورة تفرضها الشريعة لأن الانتقال من الوقف إلى الوجوب أو إلى الندب لا يكون إلا بالسند
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 3/10.
(2) -الإحكام : ابن حزم 3/28.
(3) -نفسه 3/8.
(4) -نفسه 3/9.(2/46)
-الملاحظة الخامسة: هذه المناظرة لا تخلو من الاعتراض على وجه الدليل ومثال ذلك اعترض ابن حزم على تأويل ابن المنتاب لقوله تعالى
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ما قال آنفا" (محمد:16).
-الملاحظة السادسة: هذه المناظرة لا تخلو من أدلة واعتراض، فالاعتراض مثلته الواقفية على اعتبار أنها لا تدعي شيئا بينما ابن حزم برهن على حمل الأمر على الوجوب بالأدلة، ومن هنا سيأتي اعتقاد ابن حزم أن الواقفية مذهب ليس له ما يدعمه كمذهب، بل إن مذهب المالكية ليس مذهبا يرقى للتناظر "فلم يكن ليقوم أحد بمناظرته فعلا، وسلموا له الكلام.. فحادوا عن مكالمته"(1).
-الملاحظة السابعة: هذه المناظرة لا تخلو من اتهام ابن حزم للمالكية بالتناقض وعدم ذكر الدليل وهذا الاتهام لا تخلو منه أية مناظرة ناظر فيها ابن حزم المالكية، وهدفه من ذلك الوصول إلى تسجيل انتصارات على المالكية ولو كانت مغالطية.
__________
(1) -المدارك : القاضي عياض 4/805.(2/47)
ثانيا-المناظرة بين ابن حزم والباجي:
إن ضعف المالكية بالأندلس جعلهم يستنجدون بأبي سليمان الباجي المتضلع في ميدان المناظرة والجدل، كيف لا وهو المتمرس على الجدل والدارس له بل والمؤلف فيه، درس هذا العلم على شيوخ أفذاذ كأبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي والدامغاني وابن عمروس والسمناتي.. والتقى بآخرين ونهل من معين معارفهم، هذا زيادة على ممارسته للجدل والمناظر بالشرق والغرب مما اعترف له بالرياسة في هذا الفن(1).
إذن فوضعية الباجي هذه تؤهله لأن يخوض الجدال مع أبي محمد الذي قلب الأندلس بمناظراته التي قصرت عنها ألسنة فقهاء المالكية، لما كان لابن حزم من حسن "تصرف في فنون الكلام والنظر وكان لكلامه طلاوة، وقد أخذت قلوب الناس، وله تصرف في فنون تقصر عنها ألسنة فقهاء الأندلس في ذلك الوقت لقلة استعمالهم في ذلك الوقت لقلة استعمالهم النظر وعدم تحققهم به، فلم يكن يقوم أحد بمناظرته فعلا بذلك شأنه، وسلموا الكلام له وعلى اعترافهم بتخليطه فحادوا عن مكالمته، فلما ورد أبو الوليد الأندلس وعنده من الإتقان وللتحقيق والمعرفة بطرق الجدل والمناظرة ما حصله في رحلته أمله الناس بذلك فجرت له معه مجالس.." (2).
-الجلسة الأولى: حول دعوى حمل الأمر على الفور
-الجلسة الثانية: حول دعوى أقل الجمع ثلاثة
-الجلسة الثالثة: حول دعوى خطاب الذكور وخطاب الإناث
-الجلسة الرابعة: حول دعوى دليل الخطاب.
الجلسة الأولى: حول دعوى حمل الأمر على الفور:
إن الأمر المراد طرحه باعتباره دعوى هو الأمر المطلق على اعتبار أن الوقت المؤقت بوقت محدد ليس فيه مجال للتناظر، هذا من جهة، من جهة أخرى أن الأمر المطروح كدعوى تداخلت فيه الآراء مع الشكل السابق ومع قضية تكرار الفعل، ولهذا سيحرص كل من الطرفين أن يناقش قضية الأمر المؤقت والمحدد الطرفين وغير المحدد، فالأول يرى فيها ابن حزم والباجي أنه لا دخل للنقاش فيه والثاني فيه نوع من التداخل أما الثالث فهو الذي سيدور حوله الخلاف:
دعوى ابن حزم : فرض الأوامر البدار:
الدليل: قال تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم" (آل عمران: 133).
وقال تعالى: "واستبقوا الخيرات" (البقرة: 148).
وقال تعالى: "والسابقون السابقون أولئك المقربون" (الواقعة: 10).
وقال عليه السلام: "لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى"(3).
اعترض على دليل ابن حزم:
__________
(1) -طبقات الشافعية الكبرى: السبكي 3/105 ومعجم الأدباء 11/246.
(2) -المدارك: القاضي عياض 4/805.
(3) -الإحكام : ابن حزم 3/45.(2/48)
إن هذه الأدلة سبقت مساق المسارعة إلى المغفرة لا إلى الفعل، هذا مع العلم أن النبي –ص- قد أخر بعض الأوامر كتأخيره للحج(1).
جواب ابن حزم:
إن ما يراد من الآية هو المسارعة إلى الأعمال الموجبة للمغفرة "وقد أيقنا بقوله تعالى: { هل تجزون إلا ما كنتم تعلمون } (النمل: 90) أن أحدا لا يؤتى المغفرة إلا بعمل صالح يقتضي له وعد الله تعالى بالرحمة والمغفرة.. وعلمنا ذلك يقينا أن مراد الله تعالى بقوله: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } إنما هو سارعوا إلى الأعمال الموجبة للمغفرة من ربكم(2).
وأما تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج "فقد حج عليه السلام قبل الهجرة ورآه جبير بن معطم واقفا بعرفة.. ويكفي من هذا كله أننا على يقين من الله تعالى أمره بتأخير الحج حتى يعهد إلى المشركين أن لا يقربوا المسجد الحرام(3).
دعوى الباجي : الأمر المطلق لا يقتضي الفور:
الدليل: لأن صيغة افعل لا تتضمن الزمان وإذا كانت فإذا وردت فلا ينبغي حملها على الفور(4).
اعتراض على الباجي: الأمر إذا ورد وجب حمله على فعل واحد وإذا كان كذلك ففاعل الفعل إذا فعله في أول الوقت أدى ما أمر به وسقط عنه ما بعده(5).
جواب الباجي: إذا أداه متراخيا فقد أدى الفعل بثاني الوقت وسقط عند الأول(6).
اعتراض: إذا كان لفظ افعل يقتض الوجوب، فإنه لا يحمل على الوجوب إلا مع الفور.
جواب: إن تقديم الفعل لا تصير إليه إلا بدليل كما هو الشأن بالنسبة لتقديم الاعتقاد.
الجلسة الثانية حول دعوى أقل الجمع:
إن أصل طرح هذه الدعوى يعود إلى النص القرآني نفسه، فالنص كثيرا ما يخبر عن الاثنين بالجمع متجاوزا بذلك الصيغة التي وضعت للأفراد وللتثنية وللجمع، وهذا المشكل النصي هو السبب الرئيسي الذي أدى بالأصوليين إلى الاختلاف وبعدها إلى التناظر.
دعوى ابن حزم: أقل الجمع ثلاثة
__________
(1) -نفسه.
(2) -نفسه.
(3) -نفسه 3/51.
(4) -إحكام الفصول : الباجي، ص ، ص : 212.
(5) -نفسه.
(6) -نفسه 213.(2/49)
دعوى الباجي: أقل الجمع اثنان(1).
دليل الباجي: ورد القرآن بذلك. قال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } (الأنبياء: 78). وقال تعالى: { وهل أتاك نبؤ الخصم إذا تسووا المحراب إذ دخلوا على داود ففرغ منهم، قالوا لا تخف، خصمان بغى بعضهما على بعض.. } (ص: 21)؛ ووجه الاستدلال بهذه الآيات أن لفظ الجمع وقع على الاثنين.
جواب ابن حزم: الآية الأولى لا حجة لهم فيها لأنها إخبار عن ثلاثة: المرسلان وفرعون المرسل إليه "فالمستمعون-إذن-ثلاثة بيقين"(2).
الآية الثانية ليس فيها ما دل على اعتبار أقل الجمع اثنان "لأن الضمير في حكم العربية أن يكون راجعا إلى أقرب مذكور إليه، وأقرب مذكور إلى الضمير قوله تعالى { غنم القوم" فالقوم وداود وسليمان جماعة بلا شك… } (3).
الآية الثالثة: هذه الآية-بدورها-ليس فيها ما يحتج به "لأن الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة وقوعا مستويا"(4). كوقوعه على الألب والحرب فتقول "هو ألب علي وهو حرب علي، وهما حرب علي وألب علي، وهم حرب علي وألب علي.." (5)؛ إذن فليس هناك إمكان للقول انهما اثنان ودون القول انهم جماعة، وزيادة على هذا أن قوله تعالى { هذان خصمان اختصموا في ربهم } (الحج: 19)؛ إنما نزلت في ستة نفر علي وحمزة وعبيدة والحرث وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة…"(6).
دليل الباجي: إجماع أهل اللغة على إمكان قول المخبر عن نفسه وعن آخر معه "قلنا فعلنا فتقع كتابة الجمع على الإسفين"(7).
اعتراض ابن حزم: ليس الخبر عن الاثنين كالخبر عن الجماعة "لأن ذلك قياس والقياس فاسد"(8). مع العلم أنه في اللغة قياس "وإنما هي مسموعة"(9).
__________
(1) -نفسه 249.
(2) -الإحكام : ابن حزم 4/7.
(3) -نفسه 4/4-5.
(4) -نفسه 4/6.
(5) -نفسه 4/5.
(6) -الإحكام : ابن حزم 4/5.
(7) -إحكام الفصول : الباجي 250.
(8) -الإحكام : ابن حزم 4/3-4.
(9) -نفسه 4/4.(2/50)
دليل ابن حزم: لا خلاف بين أهل اللسان بل بين واحد أن للاثنين صيغة في الإخبار عنهما غير الصيغة المخصصة للجمع (الثلاثة فما فوق) وعليه فلا يجوز أهل اللسان وقوع أحدهما على الآخر وإلا "وقع الإشكال وارتفع البيان"(1).
اعتراض الباجي: إن العرب لم تقل "إن لفظ الجمع لا يقع على الاثنين وإنما أرادوا أن لفظ الاثنين لا يقع على الجميع، وذلك لا يمنع من وقوع لفظ الجميع على الاثنين.." (2).
الجلسة الثالثة حول دعوى خطاب الله المذكور:
الأصل في خطاب الله أنه خطاب للجميع وخاصة عند وروده بصيغة لفظ الذكورية لأن الشرع لازم للجميع ومن غير تمييز بين الرجل والمرأة، لكن ورود الأمر-في بعض الأحيان- خاصا بالنساء سيطرح مشكلا للأصوليين، بمعنى هل ما ورد بصيغة الذكورية خاص بالذكور أم يشمل الذكور والإناث معا؟ حول هذا الإشكال سيتم التناظر بين الظاهرية والمالكية:
دعوى ابن حزم: خطاب الذكور يدخل فيه الرجال والإناث.. (3) .
دليل ابن حزم:
1-أنه لا خلاف بين المسلمين أن النساء مخاطبات بقوله تعالى "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" (البقرة: 110).
2-ولا خلاف بين المسلمين كافة أن النساء وكل بني آدم مخاطبين بقوله تعالى "يا أيها الناس اتقوا ربكم" (لقمان: 33).
3-إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أحب الناس إليه فقال عائشة" ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس باللغة التي بعث بها، فحمل اللفظ على عمومه في دخول النساء مع الرجال.." (4).
4-ليس لخطاب الذكور-خاصة- لفظ مجرد في اللغة العربية غير اللفظ الجامع لهم وللإناث(5).
لفظ "افعلوا" يجمع المذكر والمؤنث لأن القرآن خطاب للجميع ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث للجميع.
__________
(1) -نفسه 4/8.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 251.
(3) -إحكام الفصول : ابن حزم 3/80
(4) -إحكام الفصول : ابن حزم 3/83-84.
(5) -نفسه 3/81.(2/51)
دعوى الباجي: خطاب الذكور لا يدخل فيه الرجال والإناث(1).
دليل الباجي: للنساء أسماء تخصهن دون الرجال (مسلمة، مسلمتان، مسلمات "فإذا كان ذلك كن مخصوصات بلفظ التأنيث والرجال مخصوصين بلفظ التذكير، ولذلك قال تعالى { إن المسلمين والمسلمات" فخاطب كل فريق باللفظ الموضوع له } (2).
والدليل الثاني: أن لفظ التذكير موضوع للمذكر خاصة "ولذلك قال أهل العربية أن الواو في الجمع تدل على خمسة أشياء الجمع والسلامة ومن يعقل والرفع والتذكير…"(3).
اعتراض المالكية: بحديث أم سلمة وفيه شكوى النساء على الله في ذكره الرجال دون النساء فنزلت "إن المسلمين والمسلمات".
جواب ابن حزم: هذا الحديث غير صحيح، وروايته مرسلة لا تقوم بها الحجة(4).
اعتراض المالكية: إن خطاب الله ورد بلفظ يخص النساء ولفظ يخص الرجال كقوله تعالى "إن المسلمين والمسلمات" (الأحزاب: 35).
جواب ابن حزم: أول هذا الخطاب وغيره بإرادة الله للتكرار والتوكيد "إنه لا ينكر التوكيد والتكرار"(5).
ولا ينسى ابن حزم على عادته أن يذكر بعض التناقض الذي وقع فيه المالكية وخالفوا بذلك مذهبهم في حمل خطاب الله على الذكور دون الإناث "ثم هم يأتون إلى خطاب النبي- صلى الله عليه وسلم - للرجل الواطئ في رمضان بالكفارة، فقالوا الواجب على المرأة من ذلك ما على الرجل.. (6).
الجلسة الرابعة حول دعوى دليل الخطاب:
__________
(1) -إحكام الفصول ، ص : 244.
(2) -نفسه 244-245.
(3) -نفسه 245.
(4) -الإحكام : ابن حزم 3/84.
(5) -نفسه 3/85.
(6) -نفسه 3/86.(2/52)
صنف الأصوليون مفعول الأصل خارج المباحث اللغوية(1)، فابن حزم صنفه مع القياس والباجي صنفه كما لو انه مبحث مستقل عن المباحث اللغوية كالظاهر والنص.. وهذه العملية قد حدث بكثير من الدارسين إلى عدم بحث هذا المحور ضمن الدراسات اللغوية، بل منهم من لم يتحدث عنه إطلاقا لكن الباجي وإن تحدث عن هذا المحور من اللغة، ففحوى الخطاب باعتباره جزءا من معقول الأصل يعتبره مبحثا من مباحث اللغة "فهو ما يفهم من نفس الخطاب من قصد المتكلمين بعرف اللغة"(2)، ولا يقتصر الباجي على ذلك، يل ينتقد من أدخل هذا المبحث في القياس كالشافعي وأبي تمام البصري" والذي ذكراه ليس بصحيح(3)، لأنه "لما وجدنا أنفسنا عالمة بالمراد عند ورود الخطاب علمنا أن ذلك من جهة اللغة دون القياس"(4). وأما لحن الخطاب فهو بدوره لا يعقل أن يكون مبحثا خارج عن اللغة لأنه عبارة عن الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به"(5).
وأما الاستدلال بالحصر فهو في نظر الباجي نوع "يلمس من عرف التخاطب"(6)، والتخاطب لا يتم إلا داخل اللغة وباللغة لأنها هي أداة التخاطب.
__________
(1) -شرح التنقيح : القرافي ، ص : 53-270.
(2) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 508.
(3) -نفسه 508.
(4) -نفسه 509-510.
(5) -نفسه.
(6) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 510.(2/53)
والملاحظ أن هذا المذهب الذي ذهب إليه الباجي قد لا يصدق على ابن حزم لأن ابن حزم ناقد لهذه المفاهيم اللغوية وبحسب استعمالاتها عند الفقهاء فهو مرة ينتقدها على أساس إنها قياس وعلى اعتبار أن الفقهاء أسموها قياسا، ومنهم من "سمى القسم الأول قياسا"(1)، ومرة أخرى ينتقدها على أساس أنها مسائل لغوية وهو يتمحور حسب استعمال الفقهاء لذلك وإن كان يظهر أن ابن حزم يعتبر هذه المسائل من القياس(2)، لما لمس فيها من تعليل وخاصة مفهوم المخالفة المشروط بالشرط أو الصفة لأن "ربط الحكم بالوصف يومي، بأن عليته ذلك مفهوم المخالفة المشروط بالشرط أو الصفة لأن "ربط الحكم بالوصف يومي، بأن عليته ذلك الوصف، ومعلوم أنه إذا انتفت العلة، انتفى المعلول، فكانت العلة-الوصف- عند انتفائها دليلا على انتفاء الحكم"(3). ولهذا وجدنا ابن حزم صنف هذا المبحث مع القياس وانتقد هذا المبحث بحرارة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن عدم ضبط مصطلحات هذا المحور كثيرا ما يوقع الدارس في خلط، فالأستاذ سالم يفوت قد انتهى إلى القول بان الباجي يتفق مع ابن حزم في رفض دليل الخطاب "يبطل الباجي دليل الخطاب كابن حزم"(4). لكن في هذا الخطاب تعميم ظاهر يفهم منه أن الباجي يبطل لحن الخطاب وفحوى الخطاب وينفي مفهوم المخالفة.
لكن بالدرس والتحميص وجدناه يأخذ بهذه المفاهيم بل ويأخذ بدليل الخطاب على اعتبار أن دليل الخطاب عند ابن حزم لم مراتب متعددة.
1-منه ما يفهم منه أن ماعدا القضية التي خوطبنا بها، فحكمها كحكم هذه التي خوطبنا بها ومثال هذه المرتبة قوله تعالى { ولا تقل لهما أف } (الإسراء: 23)، ففهم من هذه الآية أن غير أف بمنزلة أف. وهذه المرتبة عند الباجي تسمى بفحوى الخطاب، وهذا الأصل معتبر لدى الباجي.
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 7/4.
(2) -نفسه 7/3.
(3) -المناهج الأصولية : فتحي الدريني، ص : 447.
(4) -ابن حزم والفكر الفلسفي : سالم يفوت 240.(2/54)
2-ومنه ما لا يفهم أن ماعدا القضية التي خوطبنا بها، فحكمها بخلاف حكم هذه التي خوطبنا بها "ومثال هذه المرتبة قوله- صلى الله عليه وسلم - في سائمة الغنم ف يكل أربعين شاة شاة"، ففهم من هذا غير السائمة (المعلوفة) لا زكاة فيها، وحول فهم هذا الحديث يلتقي الباجي وابن حزم، ولكن على فهم هذا الحديث فقط أما صورة هذه المرتبة، فقد طبقها الباجي في الاستدلال بالحصر وهو جزء من مفهوم المخالفة. وهو نفس هذه المرتبة التي تحدث عنها ابن حزم.
3-ومنه ما لا يفهم آن ماعدا القضية التي خوطبنا بها موافق لحكم هذه التي خوطبنا بها ولا مخالف. ومثال هذه المرتبة قوله تعالى { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } (النحل:8) ففهم المالكية من ذكر الركوب والزينة أن ماعداها ممنوع كالأكل ونحوه.
إن ما يطلبه الباجي ويتفق فيه مع ابن حزم هو مرتبة من مراتب دليل الخطاب بل نوع من أنواع مفهوم المخالفة وهو مفهوم الشرط- "إن تعليق الحكم بالاسم والصفة بدل على انتفاء الحكم عمن عداهما، وهو الصحيح عندي" (1).
وإلا ماذا نقول عن مفهوم الحصر أليس نوعا من أنواع مفهوم المخالفة ؟ وماذا نقول في فحوى الخطاب أليس محورا من محاور دليل الخطاب ككل؟
النتيجة التي نريد الوصول إليها أن عدم ضبط مصطلحات هذا المبحث كثيرا ما يوقع الدارس في بعض الأخطاء، وحتى لا نقع في حبال الخطأ نحدد هذه المفاهيم على الشكل التالي:
أولا-دليل الخطاب عند حزم يتضمن:
*مفهوم المخالفة
*مفهوم الموافقة
*القياس.
ثانيا-معقول الأصل عند الباجي يتضمن:
1-لحن الخطاب "وهو الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به"(2)،ويسمى عند الشافعية والحنفية ب"دلالة الاقتضاء" وقد أجاز ابن حزم هذا المبحث وإن لم يعطه اسما خاصا، ولهذا فلا اختلاف بين ابن حزم والباجي حول هذا المفهوم.
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي 514-515.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 507.(2/55)
2-فحوى الخطاب "وهو ما يفهم من نفس الخطاب من قصد المتكلمين بعرف اللغة(1) ويسمى هذا المصطلح عند الشافعي قياسا جليا ويسمى عند الحنفية بدلالة النص أو مفهوم الموافقة(2)، وهذا الدليل ينتقده ابن حزم سواء في شكله القياسي
أو الدلالي.
3-الاستدلال بالحصر "ألفاظ الحصر يدل ظاهرة على نفي الحكم عن غير المنصوص عليه"(3) ، وهذا الاستدلال هو عبارة عن نوع من أنواع مفهوم المخالفة ولا شك أن هذا النوع قد رفضه ابن حزم وهو ينتقد دليل الخطاب.
4-دليل الخطاب "هو أن تعلق الحكم على الصفة تدل على انتقاء ذلك الحكم عمن لم توجد فيه"(4) ، وهذا الدليل يشمل الدليل السابق، لكن لما كان الباجي يحبذ الأول وينتقد نوعي مفهوم المخالفة المتمثل في الاسم والصفة لجأ إلى هذه الطريقة، فاعتقد البعض أنه ينفي دليل مفهوم المخالفة المتمثل في الاسم والصفة لجأ إلى هذه الطريقة، فاعتقد البعض أنه ينفي دليل الخطاب بجميع أنواعه.
الآن وقد حددنا مجالات الاختلاف يستحسن الحديث عن المناظرة حول دعوى دليل الخطاب.
الشكل الأول: مفهوم الموافقة:
دعوى ابن حزم: ينفي فيها مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة بجميع أنواعه "كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها، ولا تعطيك حكما في غيرها، وان ماعداها موافق لها، ولا أنه مخالف لها، لكن كل ماعداها موقوف على دليله"(5).
__________
(1) -نفسه 508.
(2) -مفتاح الوصول : التلمساني، ص : 90.
(3) -إحكام الفصول : الباجي 510.
(4) -نفسه 514.
(5) -الإحكام : ابن حزم 7/2-3.(2/56)
دعوى الباجي: تتمثل في أخذه بفحول الخطاب والاستنباط منه، لأنه يفهم من قصد المتكلم قوله تعالى: { فلا تقل لهما أف } (الإسراء:23)، فهذا يفهم من جهة اللغة المنع من الضرب والشتم"(1)، وكذلك قوله تعالى: { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } (آل عمران: 75) "فنص على القنطار ونبه على ما دونه ونص على الدينار ونبه على ما دونه"(2).
اعتراض ابن حزم: "إن الخطاب لا يفهم منه إلا ما اقتضى لفظه فقط"(3).
إن الباجي لم يستدل على دعواه (فجرى الخطاب) لانشغاله بالرد على الشافعي وأبي تمام اللذان اعتبرا الضرب والشتم المحرم بالآية من باب قياس الأولى "واحتجوا بأن التأفيق في اللغة غير للضرب والشتم، فوجب أن يكون المنع مع ذلك معلوما من طريق المعنى والقياس"(4).
الشكل الثاني: مفهوم المخالفة : (الحصر)
دعوى ابن حزم: رفض ابن حزم مفهوم الاستدلال بالحصر.
دعوى الباجي: تأويل قوله- صلى الله عليه وسلم - : "إنما الولاء لمن أعتق" إلى القول "أن غير المعتق لا ولاء له"(5).
اعتراض ابن حزم: "ولولا قوله- صلى الله عليه وسلم - "إنما الولاء لمن أعتق ما وجب للمعتق ولاء على المعتق، لأن ذلك إيجاب شريعة وشرط، والشرائع لا تكون بإذن الله تعالى على لسان رسول - صلى الله عليه وسلم - وكل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل"(6).
دليل الباجي: إن الاستعمال العربي بفهم منه ذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - { إنما الأعمال بالنيات } وإنما قصد به عمل من لانية له"(7).
اعتراض ابن حزم: هذا هو الشغب، قال تعالى: { أن ليس للإنسان إلا ما سعى } (النجم: 39)، فعلمنا بهذه الآية بطلان" أن يجزى عمل بغير نية"(8).
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي 508.
(2) -نفسه.
(3) -الإحكام : ابن حزم 7/44.
(4) -إحكام الفصول : الباجي 510.
(5) -نفسه 510-511.
(6) -الإحكام : ابن حزم 7/16.
(7) -إحكام الفصول : الباجي 511
(8) -الإحكام : ابن حزم 7/17-18.(2/57)
لكن الاعتراض القوي الذي أظهره ابن حزم هو حين طرح هذا المبدأ على فقهيات خصمه والعجيب أن أصحاب مالك استدلوا بهذا الحديث وهم أترك الناس له:
1-قالوا إن كثيرا من فرائض الحج التي تبطل الحج بتركها يجزى بغير نية.
2-الوقوف بعرفة يجزى بلا نية
3-الصيام تجزى يوم رمضان يجزى بنية قبله
4-الصلاة تجزى بلا نية يجزى من غسل الجنابة(1).
وبصفة عامة يعترض ابن حزم على مفهوم المخالفة بعكس الآيات التالية:
1-قوله تعالى : { لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } (الأنعام: 152)، أفي هذه الآية إباحة لأكل مال اليتيم بالتي هي أحسن؟
2-قوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } (التوبة: 36)، أفي الآية إباحة للظلم في سائر الأشهر غير الحرم؟
3-قوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } (النور: 33)، أفيها إباحة للبغاء إن لم يرد تحصنا ؟
4-قوله تعالى: { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم } (المائدة: 96)، أفيه ما يدل على منع أكل الحيوان والثمار؟
__________
(1) -نفسه 7/19.(2/58)
2-الاعتراض على الاستدلال ببعض أوجه القراءات القرآنية:
سبق أن تحدثنا عن الدلالة وأهميتها في علم المناظرة، وبقي الإشارة إلى أهمية القراءات وأثرها في اختلاف الأصوليين، علما بأن هذا الاختلاف قد اتخذ مسارين:
الأول: الاختلاف على القراءة الأحادية: فالشافعية والمالكية والظاهرية مجمعون على عدم الاحتجاج بالقراءة الأحادية لأنها ليست قرأنا، ولهذا لم يشترطوا التتابع في صيام كفارة اليمين كما لم يشترطوا قطع اليمنى عند السرقة الأولى"(1).
__________
(1) -البرهان في أصول الفقه : الجويني 1/666 وهو يعني بها القراءة الشاذة.(/)
أما الحنفية فتأخذ بالقراءة الأحادية وتستخرج على ضوئها الأحكام، فالتتابع شرط في كفارة اليمين قراءة لقوله تعالى: { فصيام ثلاثة أيام متتابعة } ، وقطع اليمنى شرط في السرقة قراءة لقوله تعالى: { السارق والسارقة فاقطعوا أيمانها } (1).
الثاني: الاختلاف على القراءة المتواترة: إن النوع السابق من القراءة لم يكن الوحيد "الذي أثار اختلافا بين الأصوليين بل القراءة المتواترة هي بدورها ساهمت-بقدر اتساع دلالتها-في توسيع التناظر بين الفقهاء ومن هذه المناظرات نشير إلى:
1-استدلال المالكي على وجوب الوضوء بلمس النساء على من استدل على وجوب الطهارة قراءة لقوله تعالى : { أولامستم النساء } (النساء: 43) (2).
2-استدل المالكية على عدم وطإ المرأة-وإن انقطع دمها- حتى تغتسل قراءة بالتشديد لقوله تعالى: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } - على من استدل على إباحة وطئها بعد انقطاع دمها اعتمادا على قراءة قوله تعالى: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } (البقرة : 220) بالتخفيف(3).
إن ما يزيد من الحديث عن القراءة هو إسهامها في توسيع دائرة التناظر على المعنى، فباختلاف القراءة المتواترة يختلف المعنى.
إن الباجي لم يناظر ابن حزم في القراءات المتواترة وذلك راجع إلى أن ابن حزم لم يثر بعض القضايا التي من شأنها أن تثير مناظره الباجي فقد اكتفى ابن حزم في دراسته للقراءات على نقض الدعاوى التالية:
1-إن الداجن أكل صحيفة فيها آية متلوة، فذهبت البتة
2-إن القرآن أخذه عثمان بشهادة رجلين وشهادة واحد
3-إن قراءات قرآنية كانت على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأسقطها عثمان(4).
هذا إضافة إلى إشارته إلى بعض المناظرات البسيطة التي حدثت حول هذا الموضوع بقرطبة(5).
__________
(1) -نفسه 1/667.
(2) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي، ص : 62. انظر كذلك المحلى 1/244.
(3) -المنهاج : الباجي، ص : 63.
(4) -الإحكام : ابن حزم 1/96 – 4/65- 79-80-113-125.
(5) -نفسه 4/156-171 و 6/111/114.(2/59)
الفصل الثاني:الاعتراض على الاستدلال بالسنة
مرسل سعيد بن المسيب، ومرسل الحسن البصري وغيرهما سواء، لا يؤخذ منه بشيء.
.........................................................ابن حزم.
إذا علم حال الراوي أنه لا يرسل إلا عن الثقات وجب قبول خبره كما قبلنا جميعا خبر سعيد بن المسيب.
.........................................................الباجي
محتوى الفصل الثاني
-مقدمة
I-ابن حزم المناظر المحدث والباجي المناظر الأصولي:
أولا: الخبر المتواتر
ثانيا: شروط قبول الخبر
ثالثا: الإكثار من الراوية
II-ابن حزم الظاهري والباجي المالكي:
-أوليتان:
-رفض الترجيح
-الإيمان بالقطع
III-المناظرات:
-دعوى حصول العلم بالخبر الواحد
-دعوى وجوب العمل بالخبر المرسل
-دعوى التعارض والترجيح(2/60)
الاعتراض على الاستدلال بالسنة
مقدمة
يتم الاعتراض على الاستدلال بالسنة من جانبين مهمين: الإسناد والمتن.
أما الاعتراض على الإسناد، فيكون بالمطالبة من جهة، وبالقدح من جهة أخرى، والمطالبة هي أن تلزم المستدل بإثبات طريق لخبره، وذلك كأن يستدل المخبر بخبر منكر أو خبر غير مشهور كاستدلال بعض الحنفية بقول ه - صلى الله عليه وسلم -" المختلعة يلحقها الطلاق مادامت في العدة..".
أما إذا استدل المستدل بخبر منكر أو مشهور كحديث النيات فلا يستحسن المطالبة لما فيها من تعبير عن بلادة المعترض.
أما الاعتراض بالقدح والتجريح، فقد يتم عبر مرحلتين:
الأولى: الطعن في الرأي بالكذب أو البدعة أو كثرة الخطأ
والثاني: أن يطعن فيه بالجهالة
إن هذه الطرف التي يعترض بها الجدلي على الحديث قد نجد مثلها عند المحدث، فالمحدث بدوره يعترض على الحديث بالغرابة والإنكار والطعن في الراوي بسبب الكذب والبدعة وعدم الضبط والجهالة.. لكن ما لا نجده عند المحدث- والذي يعبر عن اختلاف المحدث عن الجدلي- هو إخضاع بعض الطرق النقدية السندية لمذهبية الجدلي وتحميلها ما لا يقبله المحدث، أعني أن المحدث لا يتفق مع الجدلي في :
1-القول بعدم الاعتراض على الخبر المرسل
2-القول بعدم الاعتراض على الخبر المطعون فيه من طرف السلف
3-القول بعدم الاعتراض على الخبر الذي أنكره الراوي..(1).
إن الاختلاف بين المحدث والجدلي يتسع لو تطرقنا إلى الاعتراض على المتن والاعتراض على المتن عند الجدلي لا اختلاف عليه بينما نقد المحدث للمتن فيه أخذ ورد، فكثير من الدراسين يذهبون إلى القول بعد اهتمام المحدث بنقد المتن "الحق أن المحدثين عنوا عناية بالنقد الخارجي ولم يعنوا بهذه العناية بالنقد الداخلي، وقد بلغوا الغاية من نقد الحديث من ناحية رواته جرحا وتعديلا، فنقدوا رواة الحديث في أنهم تقات أو غير تقات، وبينوا مقدار درجتهم في الثقة، وبحثوا هل تلاقى الراوي والمروى عنه أو لم يتلاقيا، وقسموا الحديث باعتبار ذلك ونحوه إلى حديث صحيح وحسن وضعيف وإلى مرسل ومنقطع، وإلى شاذ وغريب وغير ذلك.." (2).
__________
(1) - المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي، ص : 80-83.
(2) - ضحى الإسلام : أحمد أمين 2/130.(2/61)
حقا أن المحدث قد اعتنى بنقد الإسناد-أولا- ولعل الضرورة والدواعي المنهجية تفرض عليه أن ينتقد الإسناد وبعدها المتن "إذا أخبرك رجل عن آخر خبرا، كان أول ما يسبق إلى خاطرك أن تستوثق من صدق المخبر، بالنظر في حاله وأمانته ومعاملته وغير ذلك، فإذا استوثقت منه نظرت بعد ذلك في الخبر نفسه"(1). ولهذا وجدنا النقد عند المسلمين يتبع مرحلتين: الأولى الإسناد والثانية المتن، وقد حكموا لهذا الأخير معايير لضبطه وهذه المعايير هي:
1-مخالفة مضمون المتن لقضايا العقل والواقع
2-مخالفة مضمون المتن لصريح القرآن
3-مخالفة مضمون المتن لصريح السنة
4-مخالفة مضمون المتن للعرف
5-مخالفة مضمون المتن للأدلة القطعية(2).
أما القواعد نقد المتن الأخرى، فيمكن لمسها من خلال المصطلحات التالية:
1-الشاذ : وهو عبارة عن مخالفة المروى لواقع الفعل المحكي عنه(3).
2-المنكر: وهو عبارة عن مخالفة المروى لمحاسن الشريعة(4).
3-المعلل: وهو عبارة عن وجود علة في المتن المروى، وقد تظهر هذه العلة من خلال ركاكة المروي أو إدراج الراوي(5).
4-المضطرب: هو عبارة عن رواية الحديث على "أوجه مختلفة".. لا يمكن الجمع بينهما(6).
5-المدرج: هو عبارة عن إدراج الراوي في حديث النبي –ص- "كلاما لنفسه أو لغيره.. فيتوهم انه من الحديث"وهو عبارة عن إبدال راوي لشيء آخر(7).
6-المقلوب: وهو عبارة عن إبدال راوي لشيء آخر(8).
__________
(1) -السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي : مصطفى السباعي، ص : 270.
(2) -منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي: صلاح الدين بن أحمد الأدلبي، : 236.
(3) - نفسه 294.
(4) - نفسه 198.
(5) -تدريب الراوي: السبوطي 1/254.
(6) -نفسه 1/262 ومنهج نقد المتن 197.
(7) - نفسه 1/268.
(8) - منهج نقد المتن: الأدلبي، ص : 201.(2/62)
7-الموضوع: وهو عبارة عن نسبة حديث للنبي –ص- ويظهر ذلك من خلال ركاكة اللفظ وفساد المعنى ومخالفة المتن للأدلة الشرعية وللبديهيات العقلية…(1).
إن ما نريد الوصول إليه من هذا العرض المركز هو الوقوف على الاختلاف بين نقد المتن عند المحدثين والاعتراض على المتن عند الجدليين، ويظهر هذا الاختلاف من خلال مقارنة مصطلحات المحدثين بمصطلحات الجدليين فالاصطلاح الحديثي يرتكز على نقد المتن بسبب الشذوذ والإنكار والتعليل والاضطراب والإدراج والقلب والوضع، بينما الاعتراض على المتن عند الجدليين يرتكز على:
1-الاعتراض على المتن بأن المستدل لا بقول به
2-الاعتراض على المتن بالمنازعة في مقتضاه
3-الاعتراض على المتن بالمشاركة في الدليل
4-الاعتراض على المتن باختلاف الرواية
5-الاعتراض على المتن بدعوى النسخ
6-الاعتراض على المتن من جهة التأويل
7-الاعتراض على المتن من جهة المعارضة(2).
ونظرا لهذا الاختلاف بين المحدثين والجدليين آثرنا أن نميز في هذه الدراسة بين:
I-ابن حزم المناظر المحدث والباجي المناظر الأصولي من جهة
II-ابن حزم الظاهري والباجي المالكي من جهة أخرى
__________
(1) -نفسه 205 والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: مصطفى السباعي 97.
(2) - المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي، ص : 90. انظر الفصل الخاص بالجانب المنهجي.(2/63)
I-ابن حزم المناظر المحدث والباجي المناظر الأصولي:
ليس غريبا أن نتحدث عن ابن حزم المحدث إذا ما علمنا أن ابن حزم قد اعتم منذ الوهلة الأولى من حياته بتعلم الحديث وسماعه، فقد سمح الحديث من علماء محدثين من أمثال: عبد الرحمن الأزدي-ت 410هـ- وأحمد بن أحمد الجسور-ت 401 هـ- والهمداني ومحمد بن إسحاق وعبد الله الأزدي.. (3).
وظل يهتم بالحديث حتى تألق نجمه وعرف بالحافظ. قال الحميدي: "كان ابن حزم حافظا للحديث"(4).
__________
(3) - ابن حزم : أبو زهرة، ص : 87-88.
(4) - لسان الميزان : ابن حجر العسقلاني 4/199.(/)
إن اهتمام ابن حزم بالحديث تطور إلى أن أظهر عدة سمات اجتمع فيها ابن حزم مع مذهب المحدثين وفي الوقت نفسه اختلف مع مذهب الأصوليين ويظهر هذا الاختلاف من خلال النقاط التالية:
أولا: الخبر المتواتر
ثانيا: شروط قبول الخبر
ثالثا: الإكثار من الرواية.
أولا: الخبر المتواتر:
اشتهر بين أوساط المحدثين أن الخبر المتواتر لا يدخل في الدراسات النقدية الحديثية، لأن نظرة المحدث إلى الأخبار تكون لأجل نقد الإسناد، وهذا الخير نقله الكواف لا يقتضي نقد إسناده، بل يقتضي التسليم بمتنه وإسناده دون نقاشه "ومن المشهور المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص وإن كان الخطيب الحافظ قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث ولعل لكونه لا تشمله صناعتهم…"(1).
إن دعوى عدم مناقشة الخبر المتواتر من المحدثين قد يعترض فيها على صاحب المقدمة، خاصة وأن بعض أهل الحديث قد ذكروا الخبر المتواتر "فقد ذكره أبو عبد الله الحاكم وأبو محمد بن حزم وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم من أهل الحديث"(2).
غير أن ذكرهم للحديث المتواتر لم يكن بالطريقة والشكل الذي ناقشه به الأصوليون "وهؤلاء المذكورون لم يقع في كلامهم أنه تواتر عند - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا
أو أن الحديث الفلاني متواتر.." (3).
__________
(1) -التقييد والإيضاح في شرح مقدمة ابن الصلاح للحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي،
ص : 265.
(2) - نفسه.
(3) - نفسه.(2/64)
فعلا، إن الدراسات الأصولية تختلف كليا من دراسات المحدثين لهذا بالخبر، فابن حزم وإن تحدث عنه فلم يتحدث عنه إلا من جهتين: الأولى أفادته للقطع، والثانية عدد حد المتواتر(1)؛ بينما عمق الأصوليون بحثهم ودراستهم في هذا الجانب، فقسموا الخبر إلى المتواتر اللفظي والمتواتر المعنوي(2)؛ وتميزوا عن المحدثين ببحث العلم الحاصل بالخبر المتواتر:
-فمنهم من رأى أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر على ضروري.
-ومنهم من رأى أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر اكتسابي.
-ومنهم من رأى أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر نظري.
واشترطوا لحصول هذا العلم الضروري شروطا:
-أحدهما العقل
-وثانيهما الاضطرار إلى علم ما أخبروا عنه.
-وثالثهما أن يبلغوا عدد حد التواتر(3).
والملاحظ أن تمسك ابن حزم باتجاه المحدثين جعله لا يعبأ بدراسة الخبر المتواتر على شاكلة الأصوليين في حين نجد الباجي الأصولي قد درس الخبر المتواتر دراسة مستفيضة، فتحدث عن مدى إفادته للعلم وشروطه وميزه عن الخبر الواحد بخلاف ابن حزم، فقد جعل الخبر الواحد والمتواتر سيان يفيدان العلم معا، وهذا يدل على مدى تأثره بمنهج المحدثين، فأغلبيتهم قد جعلوا الخبر الواحد يفيد العلم شأنه شأن الخبر المتواتر، "قال بعض المحدثين: ما يحكي إسناده أوجب العلم"(4).
ثانيا: شروط قبول الخبر:
__________
(1) - الإحكام : ابن حزم 1/104.
(2) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي، ص : 76-77.
(3) - إحكام الفصول: الباجي، ص : 322.
(4) -اللمع في أصول الفقه : الشيرازي، ص : 72. انظر الكوكب المنير، مجلد : 2، ص : 349 والمنخول، ص : 252.(2/65)
اشترط ابن حزم لقبول الخبر الضبط والفقه والعدالة واتصال الإسناد(1). ولهذا، فلا يقبل الأخبار التي لا تجتمع فيها هذه الشروط ومن هنا يأتي رده للخبر المرسل لأنه لا يمكن الناقل من معرفة حال الراوي ولا يمكنه من استبيان الشروط السابقة. والتزام ابن حزم بهذه الشروط من باب التزامه بضوابط المحدثين وأحكام المحدثين، فالمرسل حديث حكم عليه المحدث بالضعف فلا داعي للاستنباط منه لأن في ذلك تجاوز لشروط المحدثين ودور النقد عند المحدثين. وفي هذا الإطار يسجل الاختلاف الأولي بين ابن حزم المحدث والباجي الأصولي، فالأصولي يرى إمكان استنباط الأحكام من النصوص الظنية وهذا ما عليه الفقهاء ولذلك يقال الفقه ظني لاعتماده على النصوص الظنية سواء من جهة الرواية أو من جهة الدلالة.
والاختلاف-كذلك-بين ابن حزم المحدث والأصولي العقلي يكمن في كون بعض الأصوليين قد اشترطوا شروطا أخرى لقبول الخبر، فالحنفية قد اشترطوا التواتر فيما تعم به البلوى، وهذا الشرط لا يقبله ابن حزم لا لشيء إلا أنه لا يدخل في إطار الشروط التي اشترطها المحدث "وقد قال بعض المتكلمين في الدين بقلة الورع، فمن يدعي أنه من أهل القول بقبول السنن من الآحاد، أن الخبر إذا كان مما تعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد وهذا الكلام فاسد متناقض، أول ذلك أن الدين كله تعظم به البلوى، ويلزم الناس معرفته"(2).
واشترط المالكية في قبول بعض الأخبار مطابقتها للعمل وهذا كذلك مما رده ابن حزم المحدث لأنه لم يشترطه المحدثون أصحاب هذه الصنعة "وذهب أصحاب مالك إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حين يصحبه العمل.. وهذا من أفسد قول وأشره سقوطا…"(3).
ثالثا: الإكثار من الرواية:
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 1/121 –136-138.
(2) -نفسه 1/115-116.
(3) -نفسه 2/97.(2/66)
ما يدل على انتماء ابن حزم للمحدثين دعوته إلى الإكثار من الرواية، وهذه الدعوى قد حمل لواءها-منذ القدم-أنصار الحديث في وجه أهل الرأي "اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب وإبراهيم والزهري، وفي عصر مالك وسفيان، وبعد ذلك قوم يكرهون الخوض بالرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بدا، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "(1) ؛ وكان من نتائج حملة المحدثين على الرأي أن ظهر صراع بين الاتجاهين، فأصحاب الحديث "يعيبون أهل الرأي بأنهم يتركون بعض الأحاديث لأقيستهم.."(2)؛ بل يعيبونهم بعدم معرفتهم بالسنن "أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحة من سقيمه…(3).
وبالمقابل ينتقد أهل الرأي أصحاب الحديث بجمع الرواية والإكثار منها دون فقهها"… وأهل الحديث والأثر، فإن الأكثرين إنما وكدهم: إنما وكدهم: الروايات وجمع الطرق وطلب الغريب والشاذ.. ولا يفهمون المعاني، ولا يستنبطون سرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها.. (4).
وفي هذا الإطار يمكن فهم دعوى ابن حزم، فهي دعوى تهدف إلى نقد أهل الرأي عموما والمالكية على وجه الخصوص "ولا أضل وأجهل ولا أبعد من الله عز وجل، ممن يزجر عن تبليغ كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأمر بأن لا يكثر من ذلك ثم يفني دهره بالإكثار من تبليغ آراء مالك، وابن قاسم، وسحنون… ألا إن ذلك هو الضلال البعيد، والفتيا بالآراء المضلة المتناقضة وبالله تعالى نعتصم"(5).
والحديث عن هذه السمات بنقلها تلقائيا إلى الحديث عن ملاحظتين:
__________
(1) -الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف : ولي الله الدهلوي، ص : 46.
(2) -تاريخ التشريع : الخضري، ص : 144.
(3) -الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف : ولي الله الدهلوي، ص : 65.
(4) -نفسه 64.
(5) -الإحكام : ابن حزم 2/145.(2/67)
الملاحظة الأولى: أن تمسك ابن حزم بالحديث يرجع إلى عدة أسباب منها ما هو موضوعي ومنها ما هو إيديولوجي، فالجانب الموضوعي يتمثل في اهتمام ابن حزم بالسنة كمصدر تشريعي. لكن ما هو إيديولوجي يتمثل في استغلال اتجاه المحدثين والحديث لمعارضة أهل الرأي، فمعلوم أن علماء الأندلس كانوا ينقسمون إلى أهل حديث على الرواية المالكية والفقه على الطريقة المالكية(1) وهذا الاتجاه الأخير هو الذي ساد بالأندلس، وكان يعرف باتجاه أهل الرأي، فكان خير وسيلة لمعارضة هذا الاتجاه وتهميشه هو الاعتناء بالحديث ولعل هذا ما ذهب إليه ابن حزم، فاعتنى وانتصر لبقي ابن مخلد في الأندلس ول ينتصر له لأنه نشر مذهب الشافعي، وإنما لأنه نشر رواية ابن أبي الشيبة ولأول مرة في تاريخ الأندلس(2)، وبنفس الدرجة اعتنى ابن حزم بمذهب ابن حنبل ومذهب الشافعي لصداقتهما لمذهب المحدثين واعتنائهما بالحديث وبالقدر الذي اهتم فيه بهذه المذاهب نازع مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك لتمسكها بالرأي " صوب ابن حزم سهام نقده وتعنيفه لهذين المذهبين لتوسعهما في الرأي.. أما الحنابلة والمحدثون بعامة، فلم يتعرض لهم على الإطلاق…"(3).
__________
(1) -الإنصاف : ولي الله الدهلوي، ص : 65. انظر محمد بن وضاح القرطبي مع بقي بن مخلد : نوري معمر، ص : 30. انظر كذلك مدخل إلى أصول الفقه المالكي: المختار ولد أباه،
ص : 63.
(2) -المقتبس من أنباء الأندلس: ابن حيان القرطبي، ص : 264.
(3) -الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن 3 الهجري : عبد المجيد محمود،
ص : 396.(2/68)
وهكذا يظهر أن اهتمام ابن حزم بالحديث لم يمن اهتماما بريئا بل كان يحمل خلفيات، وأهم هذه الخلفيات وضع حد مع أصحاب الرأي وخاصة المالكية في شخص الباجي بالأندلس "… صفة أهل زماننا فإنهم يقولون: نحن مؤمنون بالله وبالرسول، ونحن الطائعون لهما.. وإذا دعوا إلى آيات من قرآن حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخالف كل ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك، فمن قائل: ليس عليه العمل.. (..) إن قول المؤمنين إذا دعوا إلى كتاب الله وكلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وهذا جواب أصحاب الحديث… اللهم فتبثنا فيهم ولا تخالف بنا عنهم واكتبنا في عدادهم، واحشرنا في سوادهم.آمين رب
العالمين.." (1).
الملاحظة الثانية: كثيرا ما ذكر ابن حزم أنه من أهل الحديث "أن أصحاب الظاهر من أصحاب الحديث (ض) أشد اتباعا وموافقة للصحابة- ض-"(2).
وقد اشتهر ابن حزم بذلك حتى أن بعض أهل زمانه سحب عند صفة الفقيه "عن ابن حجر قال حدثني عمر بن واجب قال كنا باشبيلية ندرس الفقه فدخل أبو محمد فسمع ثم سأل عن شيء من الفقه فأجبت فاعترض، فقيل له ليس هذا من مسجلاتك"(3).
صحيح أن ابن حزم اشتهر بالحديث، ولكن هذا لا يمنع من اشتهاره بالفقه-كذلك-وإلا كيف وابن حزم قد كتب في الفقه، بل وأسس مذهبا ظاهريا.
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 1/103.
(2) -النبذة الكافية في أحكام أًصول الدين : ابن حزم، ص : 36.
(3) -لسان الميزان : ابن حجر العسقلاني 4/199.(2/69)
II-ابن حزم الظاهري والباجي المالكي:
إن ابن حزم وغن اتفق مع المحدثين، فهذا لا يسحب عنه صفة الفقيه لأن ابن حزم ساير مذهب المحدثين فينا يتفق وظاهريته، أما ما يختلف معها فقد انتقده، فانتقد المحدثين في قولهم فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام، لجنوحهم عن مذهبه الظاهري "مما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أن قال فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام"(1) وانتقدهم في قولهم فلان أعدل لما في هذا من تناقض مع مذهبه الظاهري "وقد غلط قوم آخرون منهم (أي المحدثون) فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا ترجيح خبر الأعدل من هو دونه في العدالة"(2).
بالنسبة للإدعاء الأول فليس فيه ما يدل على صدقه، فهو تقسيم باطل لأن تقسيم البشر العدل مقبول في كل شيء، والفاسق لا يحتمل في شيء، والعدل الغير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء ومن كان عدلا في بعض نقله فهو عدل في سائره ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره.." (3).
أما بالنسبة للإدعاء الثاني: فليس في النصوص ما يدل على التمييز بين العدل والأعدل "إن الله عز وجل لم يفرق بين خبر عدل آخر أعدل من ذلك"(4) وحتى ولو كان ذلك فالعدل قد يعلم ما لا يعلمه الأعدل(5) ولو رجعنا إلى مفهوم العدالة لعملنا أنها تعني التزام العدل والقياس بالفرائض لا دخل لها في الرواية"(6).
إن هدف ابن حزم من هذا الانتقاد هو إعطاء فسحة لظاهريته وظاهريته في مبحث الحديث تحكمها أوليتين أساسيتين:
الأولية الأولى: رفض الترجيح
والأولية الثانية: الإيمان بالقطع
الأولية الأولى-رفض الترجيح:
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 1/143.
(2) -الإحكام : ابن حزم 1/143.
(3) -نفسه.
(4) -نفسه 1/143-144.
(5) -نفسه 1/144.
(6) -نفسه 1/145.(2/70)
فقد رفض ابن حزم الترجيح بناء على نفي التعارض بين النصوص التشريعية(1)، لأنه لا يعقل التعارض بين النصوص الصادرة عن الله تعالى: { لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } (النساء: 82) وإذا كانت الأولية كذلك فابن حزم لا يقبل ادعاء الباجي المبني على الترجيح.
1-الأعدل يقدم على العدل
2-ترجيح الأخبار بالعمل
3-ترجيح الخبر المرسل بالخبر المسند
4-ترجيح الخبر بالقياس(2).
الأولية الثانية-الإيمان بالقطع:
فكما ادعى ابن حزم رفض الترجيح ادعى القطع، فالنصوص القرآنية والحديثية قطعية، فلا داعي لبناء الشريعة على الظن(3) وكل ادعاء يشتم منه الظن فهو معارض في نظر ابن حزم، ولهذا تعارض مع الباجي في المسائل التالية:
1-الاستنباط من الحديث المرسل
2-الأخذ بالإجازة
3-الأخذ بقول الصحابي السنة كذا.
والملاحظ أن هذين الأوليتين سيكون لهما أثر كبير في تعميق الحجاج بين ابن حزم الظاهري والباجي المالكي، وبوقفة مع الدعاوي التالية يظهر ذلك:
1-دعوى خبر الواحد يفيد العلم
2-دعوى الجهالة
3-دعوى الخبر المرسل
4-دعوى طرق الرواية
5-دعوى صيغة الأفعال
6-دعوى الإجازة
7-دعوى التعارض والترجيح
تصميم
Iالظاهرية والمحدثون
تشترك الظاهرية مع مذهب المحدثين في:
1-الأخذ 2-رفض 3-الإكثار 4-نقد 5-شروط 6-قبول خبر
بالأدلة الظاهرة الإرسال من الرواية الرأي قبول الخبر الرجل والمرأة والعبد
= = = = = =
المحدثون
II اختلاف الظاهرية مع المحدثين
المحدثون
التحمل في الأخذ بخبر الأعدل مقبول قبول الرواية عن كل الأحكام والأوثق بالأولى الإجازة الصحابة
(السنة كذا فعلنا كذا)
7 8 9 10
? ? ? ?
11 12 13 14
الظاهرية
III القطع والظن
الظاهرية الظاهرية
رفض الترجيح الإيمان بالقطع لا فرق بين لا تعارض بين عدم الترجيح عدم تقوية
? ? عدل وأعدل النصوص بالعمل الإرسال
الإيمان وعدم ادعاء بالإسناد
بالترجيح القطع ? ? ? ?
عدم قبول عدم القول قول الصحابة = عامل الرفض ...
الإرسال بالإجازة السنة كذا هو القطع
ليس سنة
? ? ?
الباجي = عامل القبول :
عدم ادعاء القطع
الإرسال ظن الإجازة ظن قبول الصحابي السنة كذا، ...
بالمجهول بالمجيز ظن باشتراكها مع سنة
الصحابي
انظر الإطار 1 و2
__________
(1) -نفسه 1/100.
(2) - إحكام الفصول : الباجي. باب الترجيحات
(3) -الإحكام : ابن حزم 1/125.(2/71)
III -المناظرات :
قسم علماء الأصول الأخبار إلى قسمين: أخبار متواترة وأخبار آحاد وأضاف بعضهم إلى هذين الخبرين، الخبر المستفيض "ذكر أبو إسحاق آخر بين التواتر والمنقول آحادا وسماه المستفيض"(1) غير أن ابن حزم الباجي اقتصرا على تقسيم الأخبار إلى قسمين: أخبار منقولة نقلا متواترا وأخبار منقولة نقلا آحادا ونسجا حولهما دعاوى متعددة أهمها: دعوى أفادتها للعلم، فقد ادعى ابن حزم أن الخبر المتواتر يفيد العلم القطعي وهو نفس ادعاء الباجي وإن كان هناك اختلاف بينهما في بعض الشروط نشير إليها بعد الإشارة إلى العلم المستفاد من الخبر المتواتر، بمعنى هل العلم الحاصل بالخبر المتواتر ضروري أم نظري…
أولا: مذهب يرى أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر ضروري، وهو مذهب جمهور الفقهاء، والمتكلمين من المعتزلة والأشاعرة، ومذهب ابن حزم من الظاهرية والباجي من المالكية… "وهو علم لزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه ولا الخروج منه"(2)، ويقع بحاسة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وبالإدراك من غير هذه الحواس كعلم الإنسان بالمرض والصحة والفرح والغضب والضروري هو ما نحتاج فيه إلى واسطة كقولنا القديم، لأننا مضطرين إلى معرفته والضروري عند الغزالي هو ما يحتاج في حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مؤدية إليه، مع أن الواسطة حاضرة في الذهن(3).
__________
(1) -البرهان في أصول الفقه : م. الجويني 1/584.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 170.
(3) -الإحكام : الآمدي 1/232. انظر كذلك روضة الناظر: ابن قدامة المقدسي، ص: 86.(2/72)
وما يعبر عن هذا الضرورة أننا نجد أنفسنا مضطرة إلى معرفة الأشياء فقد وجدنا من أنفسنا العلم بوجود مكة وبغداد والأمم السالفة… وهذا العلم يشترك فيه الكبير من البشر والصبيان ويشترك فيه من يحسن النظر والاستدلال ومن لا يحسنها.
والعلم الحاصل بالضرورة لا يعتبر شك ولا يقع فيه اختلاف لأن الاختلاف مكمن العلم الحاصل بالنظر، لأن "النظر مضطرب العقول ولهذا يتصور الاختلاف فيه نفيا وإثباتا"(1).
ثانيا: مذهب يرى أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر نظري وهو مذهب العكبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة والدقاق من أصحاب الشافعي… وهو "ما احتاج إلى تقدم النظر والاستدلال ووقع عقيبته بغير فعل"(2) أو هو "ما لم يفد العلم بنفسه ما لم ينتظم في النفس مقدمتين"(3):
الأولى: إن المخبرين لا يجمعون على الكذب
والثانية : أن العلم بالواقعة مبني على شعور النفس بصدق المخبرين(4).
ثالثا: مذهب الوقف وهو مذهب الآمدي: وهو بتوقف في طبيعة العلم الحاصل لا في العلم لأنه يجزم بحصول العلم مطلقا عن الخبر المتواتر خلافا لمذهب السمنية والبراهمة(5).
يظهر من خلال التقسيم أن الاختلاف بين هذه المذاهب لفظي اكثر منه جوهري "لأن القائل بأنه ضروري لا ينازع في توقفه على النظر في المقدمات والقائل بأن نظري لا ينازع في أن العقل يضطر إلى التصديق به"(6).
كما يظهر أن ابن حزم والباجي متفقان في الدعوى، ولكنهما يختلفان في شروطها، فالباجي يشترط فيمن يقع العلم بخبرهم الشروط التالية:
أولا: العقل: لأن المجانين لا يقع العلم لنا بخبرهم ولو بلغوا عدد التواتر.
__________
(1) -البرهان في أصول الفقه : م. الجويني 1/567.
(2) -إحكام الفصول : الباجي، ص 171.
(3) -روضة الناظر : ابن قدامة المقدسي، ص : 86.
(4) -نفسه، ص : 86. مذكرة في أصول الفقه : الأمين الشنقيطي، ص: 99.
(5) -الإحكام : الآمدي 1/220.
(6) -المدخل إلى مذهب الإمام أحمد : ابن بدران الدمشقي، ص : 90.(2/73)
ثانيا: أن يضطروا إلى علم ما أخبروا عنه لأن عنه لأن اضطرار المخبرين دال على صدق خبرهم.
ثالثا: أن يبلغوا عددا يقع الصدق بخبرهم(1).
وهذه الشروط التي اشترطها الباجي هي نفسها التي ذهب إليها الشيرازي في لمعه والآمدي في أحكامه وإن أضاف إليها شرطين متعلقين بالمستمع:
الأول: الأهلية لقبول العلم المخبر به
الثاني: عدم العلم بالعلم المخبر به(2).
غير أن ابن حزم لم يشترط شروطا للخبر المتواتر، فاطمئنانه كمحدث على الخبر جعله يصدق بالمخبر والخبر دون قيد، وإن كان يتظاهر باشتراط العدد وإنما هو وقف على القرائن الدالة على صدق المخبر، وهذه القرائن تتمثل في البديهة والاستقراء "إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا، ولا دسسا ولا كانت لهما رغبة فيما أخبرا به ولا رهبة منه، ولم يعلم أحدهما بالآخر، فحدث كل منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توحيد مثله، وذكر كل واحد منهما مشاهدة، أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت، فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه"(3). فابن حزم بنفيه اشتراط العدد كان يطمح لإعطاء الاعتبار لخبر الواحد وجعله في منزلة الخبر المتواتر "إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعلم معا، وبهذا تقول"(4) ونفس الطريقة سار عليها الجويني، فقد اعتبر صدق الأخبار متوقف على القرائن لا على العدد لأنه قد يتوافر العدد الكافي في المخبرين ويقع الكذب "لا يتوقف حصول العلم بصدق المخبرين على حد محدود وعدد محدود، ولكن إذا أثبت أنه الصدق ثبت العلم به"(5).
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي 322.
(2) -الإحكام : الآمدي 1/228-229.
(3) -الإحكام : ابن حزم 1/107.
(4) -نفسه 1/119.
(5) -البرهان في أصول الفقه: م.الجويني 1/576.(2/74)
إن تمسك ابن حزم بقرائن الصدق ونفيه شرط العدد كان يهدف إلى التسوية بين الخبر المتواتر والخبر الواحد في طبيعة العلم، فإذا كان الخبر المتواتر يفيد العلم، فكذلك الخبر الواحد. وحول هذه الدعوى تحاج ابن حزم والباجي، وأود قبل استعراض هذه المحاججة أن أشير إلى:
أولا: مذهب المحدثين في الخبر الواحد.
ثانيا: ومذهب الفقهاء في الخبر الواحد.
أولا: دعوى المحدثين:
ادعى المحدثون أن الخبر الواحد يفيد العلم، وقد ادعى هذه الدعوى ابن الصلاح وابن حزم وبعض المحدثين(1) وابن حنبل إلا أن الروايات قد تضاربت في شأنه، فبعض الروايات ادعت أنه يقول بعدم حصول العلم(2) بخبر الواحد
"لا يحصل العلم به" وأخرى ادعت العكس(3)، وهذا الادعاء الأخير هو الذي نرجح له من مبررات، فابن حنبل الفقيه-المحدث ميال إلى أقوال المحدثين، فلا ضير أن يشاطرهم الرأي في هذه المسألة وقد ذهب ابن قاضي الجبل إلى القول "مذهب الحنابلة في أخبار الآحاد يصلح لإثبات أصول الديانات"(4). والاستشهاد بالأخبار الآحاد في أصول الدين لا يكون إلا بالأخبار التي يعتقد أنها تفيد العلم لأن أصول الدين لا تثبت بالأخبار الظنية، هذا إضافة إلى أن المقدسي الحنبلي قد رجح هذا الاتجاه "يحتمل أن يكون خبر الواحد عنده مفيد للعلم…"(5).
__________
(1) -المنخول من تعليقات الأصول: الغزالي، ص : 252.
(2) -المدخل إلى مذهب ابن حنبل : ابن بدران الدمشقي 91.
(3) -روضة الناظر: ابن قدامة المقدسي، ص : 91 والمدخل، ص: 91.
(4) -شرح الكوكب المنبر: ابن النجار، ص: 91.
(5) -روضة الناظر : ابن قدامة، ص: 91.(2/75)
وادعاء أصحاب الحديث لهذه الدعوى لا يعني أنهم مجمعون عليها بل نجد من المحدثين من رفض ادعاء حصول العلم بالخبر الواحد، فقد رفض أبو عبد البر-وهو من المحدثين-أن يفيد خبر الواحد العلم " قال أبو عمر: الذي نقول به: أنه يوجب العمل دون العلم.." (1).
غير أن أكثر أهل الحديث يذهبون إلى حصول العلم بخبر الواحد، فابن الصلاح قد ادعى هذه الدعوى واشترط لها شروط المحدثين، فقد اشترط أن تكون هذه الأخبار التي يفترض فيها العلم من مستندات البخاري ومسلم "ما أسنده البخاري ومسلم العلم اليقيني والنظري واقع به…"(2) وقد نهج بعض المحدثين نفس الاتجاه وإن خالفوا ابن الصلاح في تحديد الأخبار بمسندي البخاري ومسلم "قال بعض المحدثين ما يحكى إسناده أوجب العلم"(3) وقد اقتفى ابن حزم آثار المحدثين واشترط نفس الشروط التي تنتمي لصناعة الحديث، فقد اشترط العدالة والإسناد والثقة… "ما نقله الواحد، فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا"(4).
وابن حزم بنهجه اتجاه المحدثين، يكون قد خالف ما شرطه الأصوليون في الخبر المفيد للعلم، فابن حزم قد ادعى هذه الدعوى مجردة عن القرائن، أي لم يشترط اقتران قرينة بالخبر…(5)، واشترطها النظام والآمدي "والمختار حصول العلم بخبره، إذا احتفت به القرائن…(6) كما اشترطها الباجي، فاشترط في الخبر المفيد للعلم الشروط التالية:
أولا: خبر الله تعالى لأن الصدق من صفات نفسه
ثانيا: خبر من اتصف بالمعجزة لأن المعجزة دليل صدقه
ثالثا: إذا أخبر صاحب المعجزة أن المخبر لا يكذب فإنه يعلم صدقه
__________
(1) -التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد : ابن عبد النمري 1/8.
(2) -شرح الكواكب المنير: ابن النجار 351، المجلد : 2.
(3) -اللمع في أصول الفقه : الشيرازي، ص : 72.
(4) -الإحكام : ابن حزم 1/109.
(5) -الإحكام : الآمدي 1/234
(6) -نفسه 1/234.(2/76)
رابعا: أن يقر النبي - صلى الله عليه وسلم - المخبر على خبره، فهذا يعلم صدقه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الكذب.
خامسا: أن يجمع الصحابة على خبر المخبر بدون إنكار فهذا يعلم صدقه "لأن العادة جارية أن من أخبر بخبر وأضافه إلى مشاهدة عدد كثير بحضرتهم فإن أكثرهم أو كلهم يتسرع إلى تكذيبه والرد عليه، وهذا مما يعلم مستقر العادة"(1).
سادسا: خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول(2).
إن ما يظهر من خلال هذا أن أصحاب الحديث متمسكون بشروط المحدثين لكن تمسكهم بهذا يضعنا أمام إشكال مهم. على شروط صحة الخبر تقتضي العلم؟
إن الشروط التي اشترطها المحدوثون أمثال مالك والبخاري ومسلم في الأخبار لم يقصدوا بها إفادة العلم، وإنما قصدوا أن تكون شروطا في صحة الأخبار، لأن هذه الشروط لم تكن توقيفية بل كانت توفيقية (اجتهادية) لا ترقى بالخبر إلى إفادة العلم القطعي "والتحقيق في أحاديث الصحيحين أنها مفيدة للظن القوى الغالب لما حصل فيها من اجتهاد الشيخين في نقد رجالها وتحقيق أحوالها أما حصول العلم بها فلا مطمع فيه وذلك في غيرها من الأقسام الأخر الأولى"(3). ومن هنا تكون دعوى خبر الواحد تفيد العلم لأن الصحابة يقبلون الخبر الواحد وأن الخبر الواحد حجة عند الشافعي.. دعوى مغلوطة لان قبولهم للخبر واحتجاجهم به لا يقوى كدليل على أنه يفيد العلم ما ادعى الشافعي-قط- أن الخبر الواحد يفيد العلم وكل ما ادعاه أنه حجة(4). إذا توافرت فيه شروطه، والحجة أو القبول
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي، ص: 330.
(2) -نفسه.
(3) - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل : ابن بدران الدمشقي، ص: 92.
(4) -رسالة الشافعي، ص : 35.(2/77)
أو الصحة لا تعني العلم "أن تصحيح الأئمة للخبر جرى مجرى الحكم الظاهر فإذا استجمع خبر من ظاهره عدالة الراوي وثبوت الثقة به، وغيرهما مما يدعاه المحدثون، فإنهم يطلقون فيه الصحة ولا وجه إذا للقطع بالصدق والحالة هذه…"(1).
إن هذا الإدعاء الذي ادعاه ابن حزم كان يهدف إلى إلزام خصمه التسوية بين الخبر المتواتر والخبر الواحد بل التسوية بين الخبر الواحد والقرآن وهي تسوية تهدف بالأساس إلى نفي الظن عن الخبر الواحد "قد صح أن لله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وان نقول أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، وقال عليه السلام كذا، وفعل عليه السلام كذا، وحرم القول في دينه بالظن، وحرم تعالى أن يقول عليه إلا بعلم، فلو كان الخبر المذكور يحوز فيه الكذب أو الوهم لكنا قد أمرنا الله تعالى بأن نقول عليه ما لا نعلم، ولكان الله تعالى قد أوجب علينا الحكم في الدين بالظن الذي لا بتيقنه، والذي هو الباطل الذي لا ينبغي من الحق شيئا… فصح يقينا أن الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه، موجب للعمل والعمل معا…"(2).
ثانيا: دعوى الفقهاء:
ذهب أغلب الفقهاء إلى نفي حصول الفهم بالخبر الواحد مطلقا، وقد ذهب بعض فقهاء المالكية والمعتزلة والخوارج، وذكر ابن عبد البر أن أغلب أهل الفقه والنظر يذهبون إلى نفي حصول العلم بالخبر الواحد "والذي عليه أكثر أهل العلم منهم: أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر…"(3).
__________
(1) -البرهان في أصول الفقه: م. الجويني 1/585.
(2) - الإحكام: ابن حزم 1/125-126.
(3) -التمهيد : ابن عبد البر 1/7.(2/78)
وذهب البعض الآخر منهم إلى إفادته للعلم إذا حفت به القرائن وهو مذهب الآمدي واختاره ابن السبكي والنظام، ورفضه الباجي لعدم حصول العلم بالأخبار المقرونة بالقرائن "أنا نجد أنفسنا غير عالمة بشيء مما أخبرنا عنه الواحد والاثنان، وإن افترقت به القرائن التي ادعاها، ومما يدل على ذلك أن الحاكم يرى المدعي باكيا لاطما وجهه ويدعي الظلم على خصمه، ولا يقع له بدعواه
العلم..." (1).
إن مذهب الباجي في الأخبار التي يقع بها العلم هي تلك الأخبار التي توفرت فيها شروطها، وهذه الشروط لا تنتمي لشروط المحدثين كما هو الشأن بالنسبة لشروط ابن حزم، ولكن هي شروط أغلب الأصوليين، فقد اشترط أبو يعلى في الخبر الذي يوجب العلم أربعة شروط:
-الأول: أن تتلقاه الأمة بالقبول
-الثاني: أن يقر النبي- صلى الله عليه وسلم - المخبر على خبره
-الثالث: أن يقر النبي- صلى الله عليه وسلم - بصدق المخبر
-الرابع: أن يجمع على خبره(2).
فهذه الشروط التي ذهب إليها أبو يعلى قد ذهب إليها الشيرازي بعد أن أضاف إليها شرطين:
-الأول: أن يكون المخبرون عددا لا يصح منهم التواطؤ على الكذب.
-والثاني: أن يكون الخبر في الأصل عن مشاهدة أو سماع(3).
ومن الأصوليين من اكتفى بشرط واحد في حصول العلم بخبر الواحد، فأغلبيتهم قد اشترطوا في الخبر المفيد للعلم قبوله من قبل الأمة ورفضه البعض الآخر كابن عقيل وابن الجوزي والقاضي أبو بكر الباقلاني وأبو حامد وابن برهان وفخر الرازي والآمدي "لا يفيد العلم ما نقله آحاد الأمة المتفق عليهم إذا تلقي بالقبول(4).
__________
(1) -إحكام الفصول: الباجي، ص : 326.
(2) -خبر الواحد في السنة وأثره في الفقه الإسلامي : سهير رشاد مهنا، ص : 24-25.
(3) -اللمع في أصول الفقه : الشيرازي، ص : 72.
(4) -الكوكب المنير: ابن النجار، ص: 351، المجلد :2.(2/79)
ورفض الجويني والشيرازي والباجي أن يفيد خبر الواحد العلم بناء على شروط المحدثين في الرواة، لأن الرواة معرضون للسهو والخطأ، ومن هنا عرضة الخبر للكذب والوهم، ومن هنا –كذلك- عدم إفادته للعلم "خبر الآحاد ما قصر عن التواتر وذل لا يقع به العلم وإنما يغلب على ظن السامع له صحته لثقة المخبر به لأن المخبر وإن كان ثقة يجوز عليه الغلط والسهو.." (1) ولعله من المفيد الإشارة إلى الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى:
إن دعوى خطأ الرواة وسهومهم سيترتب عنها دعوى عدم إفادة الخبر الواحد للعلم، وهي دعوى قد ذهب إليها بعض الفقهاء أمثال الجويني والشيرازي والباجي، وهذه الدعوى التي اعترض عليها ابن حزم وبرهن على خلافها بالبراهين التالية:
1-احتجاج الخصم: "بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز عليه الكذب والوهم…"(2). دعوى باطلة تحتاج إلى برهان لصدقها، إذ كيف تصح "والله قد برأ بعد الأخبار من ذلك"(3).
2- إن المعتزلة وكل من خالف ابن حزم قد وافقوه على "أن خبر النبي
-ص- في الشريعة لا يجوز فيه الكذب والوهم.." (4).
3-ادعى أصحاب القياس بالإجماع على عصمة القياس من الخطأ "لقيام دليل ادعوه"(5). فإذا كان كذلك "فإن وجدنا نحن برهانا على أن خبر الواحد المتصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الشريعة لا يجوز عليه الكذب والوهم فقد صح قولنا وقولهم.." (6).
__________
(1) -الإشارات في الأصول المالكية : الباجي، ص: 52-53.
(2) -الأحكام : ابن حزم 1/113.
(3) -الأحكام : ابن حزم 1/119.
(4) -نفسه
(5) -نفسه1/120.
(6) -نفسه(2/80)
4-إن الخبر الواحد المتصل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في أحكام الشريعة يوجب العلم "ولا يجوز فيه البتة الكذب ولا الوهم لدليل قوله تعالى في حق نبيه "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" (النجم: 3). وقال تعالى: { إنا نحن تزلنا الذكر وإنا له لحافظون } . (الحجر:9)… ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة التشريعية غب أن كل وحي نزل من عند الله، فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى بيقين"(1).
5-قال تعالى { ولن تجد لسنة الله تبديلا } (الأحزاب /62) { ولن تجد لسنة الله تحويلا } (فاطر/43). فقد دلت الآيتان على عدم التغيير فلو كان العكس كما يدعي الخصم "لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لها تبديل ولا تحويل بل كذبا ولكانت كلماته كذبا، وهذا ما لا يجيزه مسلم أصلا"(2).
6-إن رواة الأخبار غير معرضين للكذب لأنهم "معصومون من تعمد الكذب"(3).
الملاحظة الثانية:
أن ابن حزم يعد أن برهن على نقيض الدعوى أشار إلى ثلاثة اعتراضات:
الاعتراض الأول: هل ممكن أن يكون في الشريعة أخبار موهومة لم يقف على وهمها وكذبها أحد من جهابذة الإسلام ؟
الاعتراض الثاني: هل ممكن أن تكون هناك أخبار غير منسوخة وجهلها جهابذة الإسلام؟
__________
(1) -نفسه 1/121.
(2) -نفسه 1/128.
(3) - نفسه 1/130، وهكذا يستنتج ابن حزم أن الأخبار لها مصداقيتها "كل من ادعى جواز الكذب في الأخبار تكذيب للصحابة 1/134.(2/81)
الاعتراض الثالث: كيف يعمل نفاة إفادة العلم بالخبر الواحد "بخبر ينسب إليه الشك والوهم؟"(1) أفلا يكونوا قد عملوا بالباطل؟ بالظن ؟ قال تعالى: "إن الظن لا يغني من الحق شيئا" (النجم/28). وقد صح أن الله افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأن نقول أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا أو قال عليه السلام كذا… وحرم القول في دينه بالظن.. فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب أو الوهم لكان قد أمرنا الله تعالى بأن نقول عليه ما لا نعلم، لكان تعالى قد أوجب علينا الحكم في الدين بالظن"(2).
الملاحظة الثالثة:
ادعى الباجي أن خبر الواحد يوجب العمل دون العلم لكن هذا "لا يمنع من أن يجب العمل لما لم يقع به العلم كشهادة الشهود وقول المفتين وترتيب القياس فإنه يجب العمل بذلك كله وإن لم يقع به العلم"(3).
الملاحظة الرابعة:
إن ابن حزم الذي انتصر لحصول العلم بالخبر الواحد بناء على انتفاء الكذب عن المخبر بالخبر الواحد أو الاثنين ما لبث أن نفاه "نقل الرجل والرجلان والأكثر وهو جائز عليهم الكذب، فهذا لا يعلم صحة نقلهم ضرورة في كل
وقت.." (4).
-دعوى وجوب العمل بالخبر المرسل:
قيد علماء الأصول والحديث الخبر المفيد للعمل بقيدين أساسين:
-الأول: قبول الراوي
-الثاني: صحة الإسناد.
__________
(1) -نفسه 1/123.
(2) -نفسه 1/125.
(3) -إحكام الفصول : الباجي 325.
(4) -الأصول والفروع: ابن حزم الأندلسي 94. قارن هذا النص بنص آخر ورد في النبذة يدعي فيه عصمة الرواة، ص : 54.(2/82)
واشترطوا في قبول الراوي العدالة والضبط والبلوغ والإسلام "أجمع الجماهير من أئمة الحديث والفقه أنه يشترط -في الراوي- أن يكون عدلا ضابطا وبأن يكون مسلما بالغا عاقلا سليما من أسباب الفسق وخوارم المروءة"(1) وأضاف بعضهم إلى هذه الشروط شروط الفقه، وقد ذهب إليه الإمام مالك "والمنقول عن مالك أن الراوي إذا لم يكن فقيها، فإن كان يترك روايته.." (2) وذهب أبو حنيفة إلى مثل هذا الشرط "ونقل عن أبي حنيفة مثله"(3)، ووافقهما ابن حزم فاعتبر الفقه من الشروط الضرورية في الرواية "لا يكون المحدث إلا فقيها"(4). وذهابهم هذا المذهب يرجع إلى نفي مظنة سوء الفهم عن المحدث "أن غير الفقيه يسوء فهمه فيقهم الحديث على خلاف وضعه، وربما خطر له أن ينقله بالمعنى الذي فهمه معرضا عن اللفظ،، فيقع الخلل في مقصود الشارع، فالحزم أن لا يروى عن غير فقيه.." (5).
وقد خالفهم الباحي، فنفى عن الراوي شرط الفقه "ليس من شرط المخبر أن يكون فقيها وإنما شرطه أن يضبط ويعي ما سمع"(6). بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نظر الله امرأ سمع مقاتلي فوعاها". وقال صلى الله عليه وسلم "فرب حامل فقه ليس بفقيه..".
وبالمقابل نفى الفقهاء والمحدثون أخبار كل من يعرف:
-أولا: بالفسق
-ثانيا: بالسهو والغفلة
-ثالثا: بالجهالة(7).
__________
(1) -تدريب الراوي: السيوطي 1/300. الإحكام: ابن حزم 1/138.
(2) -المدخل إلى مذهب الإمام أحمد : ابن بدران الدمشقي 369.
(3) -الكوكب المنير: ابن النجار، ص : 416، المجلد : 2.
(4) -الإحكام : ابن حزم 1/184-140.
(5) -شرح التنقيح : القرافي، ص : 370.
(6) -إحكام الفصول : الباجي 366.
(7) -نفسه.(2/83)
واشترط لصحة الإسناد أن يكون متصلا "اعلم أم من شرط السند أن يكون مقبول الرواة متصلا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - .."(1) إلا أن هذا الشرط ليس مطردا فأغلبية الفقهاء، قد ذهبوا إلى استثنائه، فقد استثناه مالك كما استثناه الإمام الشافعي وأبو حنيفة والباجي-عدا ابن حزم المحدثون-وهكذا فسمحوا لأنفسهم الأخذ بالأخبار المنقطعة والمرسلة والمعضلة، وفي الغالب اجمعوا على أخذ الأخبار المرسلة، وإن كان الإرسال عند الفقهاء يعني الانقطاع والأعضال "المرسل من الحديث هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي- صلى الله عليه وسلم - ناقل واحد فصاعدا وهو المنقطع أيضا.." (2). وزاد الخطيب البغدادي، فأدخل المعلق في الإرسال "يدخل فيه-
أي المرسل-المنقطع والمعضل والمعلق"(3) وقد أطلق الآمدي الإرسال فجعله شاملا لجميع أنواع الانقطاع "وصورته أن يقول من لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان عدلا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(4). وقصره بعضهم على سقوط الصحابة من الإسناد "كقوله نافع (تابعي) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا أو فعل كذا أو فعل بحضرته كذا ونحو ذلك وهذا هو المشهور"(5) وقد ذهب ابن الصلاح إلى تصوير مذاهب الفقهاء والمحدثين في المرسل على النحو التالي:
أولا: انقطاع الإسناد قبل الوصول إلى التابعي
ثانيا: قول أصاغر التابعين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كقول الزهري وابن حازم ويحيى بن سعيد الأنصاري قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا.
ثالثا: قول الراوي عن رجل أو عن شيخ عن فلان(6).
__________
(1) -مفتاح الوصول: التلمساني، ص : 10.
(2) -الإحكام : ابن حزم 2/2.
(3) -فتح المغيث في شرح ألفية الحديث للعراقي: م. السخاوى 1/136.
(4) -الإحكام : الآمدي 1/299.
(5) -المراسيل مع الأسانيد : م.ابن الأشعت السجستاني 1/26.
(6) -البرهان في أصول الفقه : الجويني 1/633. التقييد والإيضاح، ص: 70-71-72.(2/84)
غير أن الصورة التي لا اختلاف فيها بين المحدثين-كما يقول ابن الصلاح- "حديث التابعي الكبير الذي لقي جماعة من الصحابة وجالسهم كعبيد الله بن عدى بن الخيار ثم سعيد بن المسيب وأمثالها إذا قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - "(1).
وهذه الصورة هي التي أطبق عليها المحدثون الأصوليين لان الأصوليين قد أخذوا في تعريف الإرسال بالمعنى الشامل لجميع صوره "اعلم أن المرسل في اصطلاح أهل الأصول غير المرسل في الاصطلاح المشهور عند المحدثين، فضابط المرسل الاصطلاح الأصولي هو ما عرف أنه سقط من سنده طبقة من طبقات السند… فالمرسل في اصطلاح أهل الأصول يشمل أنواع الانقطاع ليدخل فيه المنقطع والمعضل.." (2).
موقف الإمام مالك من الخبر المرسل:
معلوم أن الإمام مالك كان يأخذ بالخبر الواحد، وأخذه بهذا الخبر ارتكز على شروط اشترطها في الراوي والمروي.
لقد اشترط فيه العدالة والعدالة المعرفة "فلا يقبل من غير عدل، ولا يقبل من مجهول لأن من يرد العدول إذا كانوا لا يعرفون ما يحملون أحرى بان يرد من لا يعرف"(3) ولهذا رد أصحاب مالك: المضمضة والاستنشاق فريضتان في الغسل من الجنابة ثلاثة "لأن الحديث لم يرو إلا من طريق بركة بن محمد وقال الدار قطني كان يضع الحديث"(4) كما اشترط فيه الضبط والفهم فلم يقبل حديث الرواة الكثير السهو والغفلة "وقد رد أحاديث كثيرين من معاصريه، مهما تكن عدالتهم ما داموا لم يكونوا من أهل الشأن وإن أحدهم أؤتمن على بيت مال ما خان"(5).
__________
(1) -التقييد والإيضاح : شرح مقدمة ابن صلاح، ص: 70-71.
(2) -مذكرة أصول الفقه : الأمين الشنقيطي، ص : 143. أما تعريف الفقهاء للمرسل فهو قول غير الصحابي في كل عصر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الكوكب، ص: 574، المجلد: 2.
(3) - مالك: أبو زهرة، ص: 247.
(4) -مفتاح الوصول : التلمساني 13.
(5) - مالك: أبو زهرة، ص : 248.(2/85)
كما اشترط في السند أن لا يكون منقطعا لأن انقطاع السند عند العلماء خلل يوجب رد الحديث به، وعلى هذا الأساس فالمنقطع والموقوف والمرسل كلها أحاديث عند أهل علم المصطلح غير صحيحة.
ويتضح لنا من خلال هذه الشروط أن مالكا لم يأخذ الحديث إلا عن ثقة عارف لما يحمله ولما يحدث به، معرفة تامة بمعنى "أن يكون حافظا أن حدث من حفظه، عالما لما يحيل المعاني، ضابطا لكتابه، إن حدث من كتابه يؤدي الشيء على وجهه مقظا غير مغفل، ثقة في دينه عدل جائز الشهادة، مرضيا، وأن يروي عن مثله سماعا واتصالا حتى يتصل ذلك بالنبي- صلى الله عليه وسلم - "(1) وبهذا يكون مالك أول من انتقى الرجال حين اشترط هذه الشروط في قبول الرواية ولقد قال مرة
"لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ من سوى ذلك ولا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواء ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة، إذا كان لا يعرف ما يحدث"(2). وقال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد فأدركت سبعين ممن يحدث : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذه الأساطين وأشار إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فما أحدث عنهم شيئا، وان أحدهم لم أؤتمن على بيت المال لكان أمينا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن"(3).
هذا إن دل شيء فإنما يدل على حيطة مالك وتشدده في أخذ الحديث والاحتجاج به ولهذا قيل إن العلم يزيد وعلم مالك في نقصان مستمر.
لكن رغم كل هذه الشروط، فإن المتصفح لموطأ مالك يلاحظ عليه أنه يأخذ بالبلاغات والمرسلات من الأحاديث المقطوعة السند والانقطاع علة تقدح في صحة الحديث، فكيف لمالك المتشدد في الرواية يأخذ بذلك؟
__________
(1) -التمهيد : ابن عبد البر 1/28.
(2) -نفسه 1/66.
(3) -نفسه 1/67.(2/86)
-قال مالك عن جعفر بن محمد بن أبيه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد"(1).
-وقال مالك عن زيد بن أسلم "أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعى له رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بسوط، فأتى بسوط مكسور فقال فوق هذا، فأتى بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال دون هذا، فأتى بسوط قد ركب به ولان، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلد، ثم قال أيها الناس، آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورة شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من بيد لنا صفحته نقم عليه كتاب"(2).
-قال مالك عن داوود بن الحصين عن الأعرج "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك"(3).
فهذه الأحاديث الثلاثة كلها مرسلة فلم يذكر فيها الوسطاء الآخذين عن النبي- صلى الله عليه وسلم -.
أما البلاغات التي جاءت في الموطأ فكثيرة نذكر منها واحدا على سبيل المثال لا الحصر "مالك أنه بلغه أن رجلا أتى عبد الله ابن عمر، فقال يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلا سلفا اشترطت عليه أفضل مما أسلفته، فقال: عبد الله بن عمر فذلك الربا…"(4).
وحول هذه المراسلات المالكية دار عراك طويل بين العلماء فانقسموا بسبب ذلك إلى فريقين:
__________
(1) -نفسه 2/134.
(2) -التمهيد : ابن عبد البر 5/321.
(3) -نفسه.
(4) -موطأ الغمام مالك، ص: 568.(2/87)
فريق رد الأخبار المالكية المرسلة لأنها منقطعة، والانقطاع علة تمنع من وجوب العمل بها واستدلوا على ردهم لهذا الأخبار بما "أجمع عليه العلماء من الحاجة إلى عدالة المخبر، وأنه لا بد من علم ذلك، فإنه حكى التابعي عمن لم يلق لم يكن بد من معرفة الواسطة، فقد صح أن التابعين، وكثيرا منهم رووا عن الضعيف وغير الضعيف، فهذه نكتة عندهم في رد المرسل لأن مرسله يمكن أن يكون سمعه ممن يجوز قبول نقله وممن لا يجوز، ولا بد من معرفة عدالة الناقل، فبطل لذلك الخبر المرسل للجهل بواسطة"(1).
أما أنصار المرسلات المالكية (ومنهم مالك فيوجبون العمل بالمسند والمرسل ما لم يعترضه العمل الظاهر ببلده، ولهذا نجد مالكا يرسل حديث الشفعة ويعمل به ويرسل حديث اليمين مع الشاهد ويوجب القول به ويرسل حديث ناقة البراء بن عازب في جنايات المواشي، بل بالغ بعض المالكيين في اعتبارهم للمرسلات واعتقدوا "أن مراسيل الثقات أولى من المستندات واعتلوا بأن من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك، ومن أرسل من الأئمة حديثا مع علمه، ودينه، وثقته، فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر"(2).
والمتتبع لهذا يجد أن مالكا كان يرسل الأحاديث ولكن بشرط يشترطه في الراوي وهو أن يكون ثقة، فالعبرة إذن ليست بالإرسال ذاته وإنما بالشخص الذي أرسل(3).
__________
(1) -التمهيد : ابن عبد البر النمري 1/6.
(2) - نفسه 1/3.
(3) -نفسه 1/39.(2/88)
ويظهر كذلك أن مالكا كان متتبعا سنة عصره، فالحسن البصري وسفيان بن عيينة كلهم كانوا يرسلون الأحاديث، والإرسال عندهم لا يعني إلا كثرة عدد الصحابة الراوين لذلك الحديث "روى عن الحسن البصري أنه قال: إذا اجتمع أربعة من الصحابة على حديث أرسلته إرسالا"(1). وقال كذلك " متى قلت لكم حدثني فلان، فهو حديثه لا غير، ومتى قلت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سمعت من سبعين أو أكثر"(2). كما أن إرسالهم للحديث لا يعني أنه منقطع، بل إنه مسند، ولا داعي-إذن- لإسناده إلا بطلب من السامع أو المستفسر لذلك "قال محمد بن إسحاق الإمام سألت يحيى عن هذا الباب فقال: "حديث إسرائيل عن أبي بردة عن أبيه عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ، فأسنده وقد كانوا يحدثون بالحديث، فيرسلونه، فإذا قيل لهم عمن أسندوه"(3). فالإرسال-إذن- كان من شيمة العصر خاصة وان الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد استفحل أمره، ولم تشع فكرة اتصال الحديث إلا بعد أن تداعت الفرق وأهل الأهواء بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد قال ابن سيرين
"م كنا نسند الحديث إلا بعد أن وقعت الفتنة"(4).
والملاحظ أن الإرسال معناه إسقاط الصحابي من السند، وطلب إسناد الحديث لازم لصحته، بحيث به يتمكن الدارس من معرفة مدى مكانة الراوي، أي هل هو معدل أم مجرح…؟
فما دام الإسناد يمكن من معرفة حال الراوي، ومادام الصحابي هو الساقط من السند، فإن حال الصحابة-كلهم-كما أجمع أهل العلم عدول، فلا داعي-إذن-للمطالبة بإيصال التابعي بالصحابي.
موقف الشافعي:
__________
(1) -مالك : أبو زهرة، ص : 250.
(2) -نفسه.
(3) -بناء الفروع على الأصول: التلمساني، ص: 17.
(4) -مالك : أبو زهرة 251. تدريب الراوي 1/202.(2/89)
تضاربت آراء الفقهاء حول موقف الشافعي من الخبر المرسل، فبعض الفقهاء ادعى أن الشافعي يرد الخبر المرسل مطلقا"(1) ظاهر مذهب الشافعي رد المراسيل مطلقا" وهذا رأى القاضي عبد الوهاب، والقاضي أبو بكر الصنعاني.. وقد ذهب إليه ابن جرير الطبري وذلك لما ادعى أن الشافعي أول من خرق إجماع التابعين في قبولهم المرسل ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين…"(2) وسار في نفس الاتجاه الباجي، فاعتقد أن بداية إنكار حجية المرسل بدأت بعد المائتين "إنكار كونه حجة بدعة حدثت بعد المائتين وذلك لقبولهم مراسيل الأئمة من غير نكير…"(3).
__________
(1) -شرح التنقيح : القرافي 380.
(2) -تدريب الراوي : السيوطي 1/198.
(3) -فتح المغيث : السخاوى، 1/139. الكوكب المنير، ابن النجار، ص : 577.(2/90)
وقد أوضح ابن عبد البر المقصود من هذا الكلام، فاعتقد أن الطبري بقصد الشافعي أول من رد المرسل "وكأنه عني أن الشافعي أول من رده"(1) وهذا الاعتقاد قد لا يقبله ابن عبد البر إنما هو حكاية عن ابن جرير وفيها ظن كبير، ولهذا لم يجد ابن عبد البر يدا من استهلالها يقول "زعم الطبري"(2) خاصة وان هذه الحكاية محجوجة بما جاء في كلام مسلم، ولهذا تعرض لها الشوكاني قائلا: "ويجاب عن قول الطبري أنه لم ينكره أحد إلى رأس المائتين بما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن عباس أنه لم يقبل مرسل بعض التابعين"(3). ومحجوجة كذلك بقول ابن سيرين "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"(4). فتحديد إنكار المرسل بالمائتين تحديد غير دقيق، كما أن تحديده بالشافعي غير صحيح وكل ما يقال أن الشافعي أول من تحدث عنه بالتفصيل. وحديث الشافعي عن المرسل لا يعني أنه يرفضه بإطلاق كما جاء في الدعاوى السابقة ولا يعني أنه يأخذ به وبإطلاق كما يزعم بعض الفقهاء.
__________
(1) -التمهيد : ابن عبد البر 1 / 4 .
(2) -نفسه.
(3) -إرشاد الفحول : الشوكاني 65.
(4) -التمهيد : ابن عبد البر النمري 1 / 4. انظر كذلك التدريب : السيوطي 1/203.(2/91)
وليس-كذلك- صحيحا أن يكون الشافعي قد اكتفى بأخذ مراسيل ابن المسيب كما يدعي بعض الفقهاء "اشتهر عن الشافعي أنه لا يحتج إلا بمراسيل سعيد بن المسيب"(1) بدعوى أن مراسيله أورده داود في مراسيله بسند جبير عن ابن المسيب(2)، ولم يرده إلا لأنه لم يعرف إسناده من جهة أخرى(3)، فليس معقولا أن يقال أن الشافعي يأخذ بمرسل سعيد هكذا وبإطلاق وإنما يأخذ بمراسيله وبمراسيل غيره بشروط " حدثنا الربيع بن سليمان في كتاب الرسالة قال: قال الشافعي (رض) المنقطع مختلف، فمن شاهد أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من التابعين، فحدث حديثا منقطعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر بأمور"(4):
أولا: أن يسند ذلك الخبر من وجه آخر
ثانيا: أن يروى ذلك الخبر عن غير شيوخ المرسل
ثالثا: أن يعضده قول صحابي
رابعا: أن يعضده قول أكثر أهل العلم(5).
موقف ابن حزم والباجي:
__________
(1) -تدريب الراوي : السيوطي. هامش، ص : 1/199.
(2) -الحديث المرسل : "حجيته وأثره في الفقه الإسلامي : محمد حسن هيتو، ص : 44.
(3) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 355.
(4) -كتاب المراسيل : الحافظ الرازي، ص : 15. الرسالة : الشافعي، ص : 451.
(5) -الرسالة : الشافعي، ص : 462-463.(2/92)
بحثنا في الموقفين السابقين موقف الإمام الشافعي، وانتهينا إلى أنهما يقبلان المرسل بشروطهما، وسنحاول في هذه الدعاوى أن نبحث موقف ابن حزم والباجي من الخبر المرسل، فابن حزم بالرغم من انتصار لأكثر آراء الشافعي(1) فإنه في هذه المرة خالفه، فجنح إلى رفض الخبر المرسل(2) دفعا للظن المتوهم من الإرسال، فالخبر المرسل يوحي بجهالة الواسطة بين الراوي والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الواسطة المجهولة تحتمل أن تكون ثقة وغير ثقة وتحتمل أن تكون عدلة وغير عدلة، كما تحتمل أن تكون مجرحة أو معدلة فالراوية التي تحتمل هذه الاحتمالات تقتضي الرد، وعلى حد تعبير ابن حزم تقتضي التوقف " من جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل، وأغافل هو أم حافظ أو ضابط ؟ ففرض علينا التوقف عن قبول خبره…"(3).
وقد ذهب ابن حزم إلى هذا الاتجاه حتى في الحالات التي تنفي معها الجهالة المحتملة.
-ففرض أن يقول العدل حدثنا الثقة لإمكان "أن يكون عنده ثقة من لا يعلم جرحته ما يعلم غيره"(4).
-ورفض أن يقول العدل "عن رجل من الصحابة" أو حدثني من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون أن يسميه لأن من الصحابة من ارتد عن الإسلام " وقد ارتد قوم ممن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام كعبينة بن حصن، والأشعت بن قيس والرجال وعبد الله بن سرح"(5).
__________
(1) - إحكام الفصول : الباجي. نشرة التركي، ص : 35.
(2) -انظر كم حديث رده بسبب الإرسال. الأحكام : 2/76 – 2/70.
(3) -الإحكام : ابن حزم 1/139.
(4) -نفسه 2/2.
(5) - نفسه 2/3.(2/93)
-كما رفض ابن حزم أن يستشهد للإرسال بأفضلية عصر الصحابة لأن عصرهم عرف الكذابين.. " قد توجه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - رجل إلى قوم ممن يجاور المدينة فأخبرهم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يعرس بامرأة منهم، فأرسلوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - من خبره بذلك فوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه رسولا وأمر بقتله إن وجده حيا، فوجده قد مات"(1) وكذلك قد عرف هذا العصر بالمنافقين "وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم" (التوبة 101) وانتهى ابن حزم كذلك إلى رفض مرسل الحسن البصري وسعيد(2) وجميع المرسلات، كما رفض سكوت التابعي عن ذكر الصحابي أو عن الواسطة "فلأي معنى سكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته ولا يخلو سكوته عند من أحد الوجهين، إما انه لم يعرف من هو ولا عرف صحبته ودعواه الصحبة أو لأنه كان من بعض من ذكرنا"(3).
وهكذا استنتج أن "لا يقبل إلا من عرف اسمه وعرفت عدالته وحفظه"(4) لأن عدم ذكر الاسم مظنة الجهالة بالرواة المفضية إلى رد الأخبار "كل خبر لم يأت قط إلا مرسلا أو لم يروه قط إلا بمجهول أو مجرح ثابت الجرحة فإنه بللا شك موضع لم يقله رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إذا لو جاز أن يكون حقا لكان ذلك شرعا صحيحا غير لازم لنا…"(5).
وقد ذهب أصحاب الحديث إلى رفض الخبر المرسل للجهل بالراوي الساقط من السند "ترك الراوي لذكر من حدثه يتضمن جهالة عينه وصفته، ولو ذكر اسمه وعرف السامع عينه، ولن يعرف عدالته، ولم يجز له العمل بحديثه فأولى أن لا يجوز له قبوله إذا لم يعرف عينه ولا عدالته"(6).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 2/3-2.
(2) -نفسه 2/2.
(3) -نفسه 2/3.
(4) -نفسه 2/4.
(5) -نفسه 1/136.
(6) -المعتمد : الحسين البصري 2/147.(2/94)
ولهذا أجمعوا على عدم قبول المراسيل "عن الإمام أحمد-رضي الله عنه- رواية ثانية: أن المراسيل ليست بحجة قال: ابن عبد البر هو قول أهل الحديث وقال ابن الصلاح هو المذهب الذي استقر عليه أهل الحديث ونقاد الأثر"(1).
غير أن أصحاب الأصول والفقهاء قد أوجبوا العلم بالخبر المرسل "والمختار قبول مراسيل العدل مطلقا ودليله الإجماع والمعقول"(2) وإليه ذهب الباجي فاعتبر مرسلات التقات مقبولة "أنه إن كان المعروف من حاله أنه لا يرسل إلا عن الأئمة كمالك والثوري وشعبة وجب قبول خبره لأنه لا سبيل إلى تعديل هؤلاء ولا إلى تجريحهم(3) كما اعتبر الرواية عن التقات مقبولة".. إذا علم من حال الراوي أنه لا يرسل إلا من التقات وجب قبوله خبره كما قبلنا جميعا خبر سعيد بن المسيب"(4). فالعبرة عند الأصوليين وخاصة الباجي ليست بذكر اسم الراوي لأنه قد يذكر اسمه وتجهل عدالته "لا يعلم حال الراوي في عدالته وإن علم اسمه ونسبه وصفته وعرفت عينه وعدالته،أما بالإشارة إليه أو رؤيته أو بإضافته إلى صناعة أو أمر يتميز به، لوجب أن يحتج بخبره"(5).
ومن هذا المنطلق اختلف ابن حزم والباجي، فابن حزم العبرة عنده بذكر النسب والاسم، ولهذا رفض كل الأخبار التي سقطت منها الواسطة أو عممت صفتها بدون الاسم والنسب كقول الراوي "عن الثقة" "عن العدل" "عن الرجل الصحابي" "عمن صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وليس هذا وحسب بل يرفض كل الإمكانات المفضية إلى الظن، فإذا كانت عبارة حدثنا الثقة وحدثنا من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحتمل الظن لأن الثقة قد يرسل عن الثقة وعمن ليس بثقة فكذلك يرفض جميع الكيفيات التي يروي بها الصحابي الأخبار لاحتمالها أن تكون عنه
__________
(1) -الكوكب المنير : ابن النجار 579، المجلد : 2.
(2) -الإحكام : الآمدي 1/299.
(3) -إحكام الفصول : الباجي 353.
(4) -نفسه 354.
(5) - نفسه 267.(2/95)
أو عن النبي- صلى الله عليه وسلم -. ومن هذه الطرق التي يرفض:
أولا: قول الصحابي: أمرنا بكذا "فليس هذا إسنادا ولا يقطع على أنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينسب أحد قول لم يرو أنه قال، ولم يقم برهان عن أنه قاله…"(1).
ثانيا: قول الصحابي: السنة كذا، فهذه كذلك لا تعني أنها سنة عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - وكل ما يعني "أن ذلك هو السنة عنده على ما أداه إليه اجتهاده"(2) بدليل أن "ابن عباس قرأ أم القرآن على الجنازة في الصلاة وجهر، فقال أنها السنة وكذلك روى عن أنس أنه أفطر في منزله في رمضان إذا أراد السفر قبل أن يخرج وقال إنها سنة"(3).
ثالثا: قول الصحابة فعلنا كذا وكذا بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - "لا يدخل في دائرة النصوص عندهم، فلا يصح الاحتجاج به"(4).
ولا ننسى كذلك رفضه للإجازة لما فيها من إرسال وعدم إسناد وغن كانت الإجازة عند بعض المحققين ليست من قبيل الإرسال ولا تجرى مجراه "تجوز الرواية بالإجازة ويجب العمل بالمروى بها خلافا لمن قال من أهل الظاهر ومن تابعهم أن لا يجب العمل وانه جار مجرى المرسل، وهذا باطل بأنه ليس في الإجازة ما يقدح في إبطال المنقول بها وفي الثقة.." (5).
بينما نجد الباجي فإنه يقبل جميع هذه الطرق لأنها لا تحتمل إلا الرواية عن النبي-ص-.
أولا: إذا قال الصحابي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا فالذي عليه أهل العلم أنه سمعه منه… وحمل ذلك على أن غيره أخبره عنه يحتاج إلى دليل(6).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 2/72.
(2) -الإحكام : ابن حزم 2/72.
(3) -نفسه 2/73.
(4) -الاتجاهات الفقهية : عبد المجيد محمود، ص : 362.
(5) -التقييد والإيضاح: شرح مقدمة ابن الصلاح، ص: 181.
(6) -إحكام الفصول : الباجي 385.(2/96)
ثانيا: إذا قال الصحابة أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا والسنة كذا فالظاهر أنه أمر من الله ورسوله وأن السنة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل أن الصحابة إذا قالوا ذلك.. فإنما يقصدون إثبات شره بتحليل أو تحريم، وقد ثبت أنه لا يجب ذلك إلا بأمره وتحريمه - صلى الله عليه وسلم - (1).
ثالثا: إذا قال الصحابي كانوا يفعلون كذا وأضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الفعل قلا ينكر انه بمنزلة المسند، ولا يكون كذلك إلا إذا صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)؛ وكما قيل هذه الطرق قبل الإجازة وادعى فيها الإجماع "ادعى أبو الوليد الباجي وعياض الإجماع عليها"(3). غير أن هذا الادعاء غير صحيح فقد رفضها ابن حزم والشيعة وطوائف من المحدثين: "وأبطلها جماعات من الطوائف وهو إحدى الروايتين عن الشافعي وقال بعض الظاهرية ومتابعيهم لا يعمل بها كالمرسل"(4)؛ كما أبطلها جماعات من المحدثين كشعبة، قال: "لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة"(5).
أما عن رواية الثقة عن الرجل لم يسميه بأوضح عبارة أو يذكره فإن الباجي يأخذ به ويحتج به، واحتجاجه به مبني على البراهين التالية:
أولا: إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين على العمل بالمرسل "قال ابن جرير الطبري... إنكار المرسل بدعة ظهرت بعد المائتين"(6).
ثانيا: كثرة رواية عبد الله به عباس عن النبي- صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت بخبره أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -إلا نحلوا من سبعة أحاديث، وسائر حديثه كله فلا يذكر فيه اسم المخبر له عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - "(7).
__________
(1) -نفسه 386.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 388.
(3) -تدريب الراوي : السيوطي هامش : 1/29. التقييد والإيضاح، ص: 180.
(4) -ادريب الراوي : السيوطي 2/30. التقييد والإيضاح، ص : 181.
(5) -تدريب الراوي: السيوطي، هامش 2/30.
(6) -إحكام الفصول، الباجي، ص : 349-350.
(7) -نفسه 350-351.(2/97)
ثالثا: ليس كل ما يرويه الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سمعوه مه بل سمعوا بعضه، والبعض الآخر من بعض أصحابه "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتناوب هو وجار له على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا غاب عمر نزل جاره وأخبره بأحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك اليوم ولم يرو عمر عن جاره ذلك كلمة واحدة، بل أخباره كلها يرويها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -"(1).
رابعا: كثيرا ما يروي التابعون الأخبار من غير إسناد معللين ذلك بكثرة المخبرين لذلك الخبر" روى عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا قلت حدثني فلان عن عبد الله فهو حديثي، وإذا قلت قال عبد الله فقد سمعته من غير واحد عنه"(2).
خامسا: كثيرا ما ترك الصحابة آرائهم لخبر مرسل، فقد ترك عمر رأيه لخبر مرسل عن عروة "من أحيا أرضا ميتة فهي له"(3).
سادسا: ولو بحثنا في أخبار الفقهاء لوجدناهم قد استشهدوا بالخبر المرسل(4).
دعوى التعارض والترجيح:
__________
(1) -نفسه 350.
(2) -إحكام الفصول، الباجي، ص : 352.
(3) -نفسه.
(4) -نفسه.(2/98)
اختلف الفقهاء في القول بالتعارض، فالبعض ذهب إلى نفي التعارض عن الشريعة الإسلامية، لأنه لو فرضنا ذلك لكانت الشريعة غير تامة ولكان إيراد الله من هذه الشريعة هو تكليفنا ما لا يطاق. وذهب آخرون وهم أغلب العلماء إلى جواز وقوع التعارض الظاهري بين النصوص التشريعية "وذهب جمهور الأصوليين ومذهب عامة الفقهاء-كلهم- إلى أنه يوجد التعارض بين الأدلة الشرعية العقلية أو النقلية القطعية أو الظنية في الواقع"(1) واجمعوا على أن منشأ التعارض ليس هو النصوص وإنما منشؤه المجتهد الناظر في هذه النصوص…" والحق أن هذه الشريعة السماوية المنزلة من الشارع الحكيم بريئة من التناقض والاختلاف، خالية من التعارض والتنافي، لاستلزامه للعجز والجهل المحالين على الله تعالى، كما أن من المعلوم أم ما يظهر بشكل التناقض أو التعارض ليس على ظاهره، بل لنقص في الباحث وعجز من المجتهد عن درك الحقيقة وفهم مراد الشارع"(2).
ولهذا، فالناظر في الشريعة يقتضي أن ينظر إليها نظرة كمال "وأن ما يوقن أن لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر…"(3)، وإلى هذا ذهب ابن حزم على أن الشريعة ليست متعارضة في ذاتها" فإذا ورد النصان.. فلا يخلو ما يظن به التعارض منهما- وليس تعارض-"(4)، وإنما هو عبارة عن احتمالات ذات أربعة وجوه" إما أن يكون أحدهما أقل معاني من الآخر، أو يكون أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو يكون أحدهما موجبا والثاني نافيا"(5). فواجبنا في هذه الحالة نفي التعارض بالنظر إلى:
1-استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني.
2-دخول بعض المعاني في أكثرها.
3-حمل النصوص على محتملاتها الزمانية والمكانية والعددية والشخصية.
__________
(1) -التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية : عبد الله عزيز البرزنجي 60.
(2) -نفسه 335.
(3) -التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية : عبد الله عزيز البرزنجي 60
(4) -الإحكام : ابن حزم 2/22.
(5) -نفسه.(2/99)
4-النظر إلى النص الموافق عليه ولم لم يرد واحد منهما بتركه فنأخذ بالثاني(1).
وكأني بابن حزم يريد من هذه الطريقة نفي التعارض التام عن الشريعة الإسلامية لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن والحديث، فكيف والله بقول مخبرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"(2) (النجم/3).
إن ما حدا بابن حزم إلى هذا الاتجاه هو جعله النص القرآني والسنة النبوية وحيا من الله "والقرآن والسنة وحي وهو يقول فيهما ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا"(3).
إذن فكل ما يتوهم أنه تعارض، فليس كذلك وحتى ولو كان فإن حله قد اقترحه ابن حزم في الاحتمالات الأربع السابقة كي يضع حدا مع دعوى ترك الحديثين المتعارضين من جهة ودعوى التخبير من جهة أخرى.
الدعوى الأولى:
ذهب إليها بعض أصحاب ابن حزم وهي خاطئة "ذهب بعض أصحابنا إلى ترك الحديثين إذا كان أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو أحدهما موجبا والآخر مسقطا…"(4) وهذا خطأ، وقد بين ابن حزم خطأه من الجهات التالية:
أ-ليس هناك تعارض ين النصوص لقوله تعالى: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } (النساء/82).
ب-إنهم بتركهم الخبرين، فلا شك أن الحق في أحدهما "ولا يحل لأحد أن يترك الحق اليقين أصلا"(5).
ج-إن قاعدتهم هذه غير مطردة، فيأخذون باستثناء أقل المعاني من الإثر في النصوص القرآنية ويرفضونها في الأخبار النبوية" وقد بينا..أنه لا فرق بين وجوب جاء في القرآن وبين وجوب ما جاء في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - "(6).
الدعوى الثانية:
__________
(1) -نفسه 2/22-35.
(2) -نفسه 2/35.
(3) -نفسه.
(4) -الإحكام : ابن حزم 2/38.
(5) -نفسه 2/39.
(6) -نفسه.(2/100)
الاختيار بين المتعارضين دعوى ذهب إليها الباجي، لكنه ذهب إليها عند تعذر الجمع بين المتعارضين "إن تعارض الخبرين على وجه لا يمكن الجمع بينهما فإن علم التاريخ عمل بالأحدث منهما وإن جهل التاريخ رجع إلى سائر أدلة الشرع، فإن عدم ذلك كان الناظر مخير في أن يأخذ بأيهما شاء…"(1). والباجي باتباعه هذه الطريقة يكون قد أضرب مع أصحاب ابن حزم المباشرين والقائلين بالحظر العقلي ومع أبي داود القائل بالإباحة العقلية "إنه إذا لم يكن في العقل حظر ولا إباحة ولا استعمال أحدهما على وجه النسخ وعدمت أدلة الشرع على تلك الحادثة، ولم يكن بد من ترك الحادثة لا حكم فيها، والتخيير بين الحظر والإباحة ولا يجوز ترك الحادثة لا حكم فيها مع ورود الشرع، فلم يبق إلا أن يحكم بالتخيير"(2).
إن هذا التخيير الذي لجأ إليه الباجي لحل مشكلة التعارض بين النصوص هو ما لا يقبله ابن حزم، فابن حزم يريد أعمال جميع النصوص لأنها كلها وحي ولأنها-كذلك- ليس فيا ما يعبر عن تفاضل بعضها على بعض، فهي ذات قوة واحدة "إذا كانت النصوص كلها سواء في باب الوجوب الأخذ بها، فلا يجوز تقوية أحدها بالآخر"(3).
وهذا خلاف لجمهور الأصوليين الذين يؤمنون بترجيح النصوص وتقوية بعضها على بعض "الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم، لأن ذلك كالمعتذر"(4).
ولهذا فلا ضير أن تقدم الأدلة المرجحة بما يدل على قوتها "الترجيح في أخبار الآحاد يراد لقوة غلبة الظن بأحد الخبرين عند تعارضهما. والدليل على ذلك إجماع السلف على تقديم بعض الأخبار الآحاد على البعض الآخر"(5) ويتم ذلك على النحو التالي:
1-تقديم خبر مروى في قصة مشهورة عن أهل النقل على خبر منفرد.
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي 258.
(2) -نفسه 258-259.
(3) -الإحكام : ابن حزم 2/40.
(4) -الموافقات : الشاطبي 1/16.
(5) -إحكام الفصول : الباجي 733.(2/101)
2-تقديم خير الأضبط والأحفظ على خبر من هو دونه في الضبط والحفظ
3-تقديم خبر، رواته أكثر من رواة الخبر الآخر..
4-تقديم خبر من سمع من الرسول- صلى الله عليه وسلم - على خبر من كتب إليه
الرسول- صلى الله عليه وسلم -.
5-تقديم خبر متفق على رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خبر مختلف فيه.
6-تقديم خبر الراوي صاحب القصة على من ليس كذلك.
7-تقديم خبر إجماع أهل المدينة على خبر مخالف لعمل أهل المدينة.
8-تقديم خبر المتقصي في الأخبار على من دونه.
9-تقديم خبر سالم من الاضطراب على خبر مضطرب.
10-تقديم خبر مسند على خبر مرسل.
11-تقديم متن خالي من الاختلاف على متن خبر مختلف ومضطرب.
12-تقديم متن خبر منطوق بحكمه على متن خبر محتمل الحكم.
13-تقديم متن خبر مستقل بنفسه على خبر مفتقر إلى غيره.
14-تقديم متن متعلق بعموم ما لم يجمع على تخصيصه على الخبر المجمع على تخصيصه.
15-تقديم متن الخبر الذي يقصد به بيان الحكم على الخبر الذي لا يقصد به بيان الحكم.
16-تقديم متن الخبر المؤثر في الحكم على خبر غير المؤثر.
17-تقديم متن الخبر الوارد في غير سبب على الخبر الوارد في سبب في غير سبب الخبر.
18-تقديم متن خبر قد قضى به على الآخر في موضع من المواضع على غيره في سائر المواضع.
19-تقديم متن خبر معناه منقولا بألفاظ وعبارات على متن خبر روى بلفظ واحد ومن طريق واحد.
20-تقديم متن خبر ينفي النقص عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على خبر يضيفه إليهم(1).
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي 733/770.(2/102)
عملية الترجيح هذه قد رفضها ابن حزم، فقد سبق أن قلنا إنه يرفض ترجيح المحدثين للأخبار المروية بطرق متعددة لأنها وإن رويت بروايات متعددة فهي واحدة "إن الخبر وغن روي من طرق ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فهو كله خبر واحد.." (1) كما رفض قولهم فلان أعدل من فلان لأنه "لا معنى لتفاضل العدالة.. إذا لا نص ولا إجماع ولا دليل على مراعاة عدل وأعدل منه، وإنما للواجب العدالة فقط…"(2) ولم يفته-كذلك- أن يخطيء الأصوليين في ذهابهم مثل هذا المذهب، فخطأهم في الترجيحات التالية:
1-ترجيحهم لخبر معمول به على خبر غير معمول به، وهذا باطل، فليس في هذا الترجيح ما يدل على صدقه، فهو محجوج بإبطال العمل ولو فرض أنه حجة، فإن الخبر قبل العمل لا يخلو "أن يكون حقا واجبا أو باطلا، فإن كان حقا واجبا لم يزده العمل به قوة، لأنه لا يمكن أن يكون حق أحق من حق آخر وإن كان باطلا، فالباطل لا يحققه أن يعمل به"(3).
2-ترجيحهم لحبر الأضبط والأتقن على خبر غيره وهذا خطأ، فليس في الشريعة ما يدل على تقديم خبر الأعدل ولا الأوثق على من دونه، فهذه إذن "دعوى لا برهان من نص ولا إجماع، وما كان كذلك فهو ساقط"(4).
3-ترجيحهم لخبر رواه جماعة على من رواه منفردا، دعوى متناقضة "مع ظاهر القرآن الذي نقله أهل الأرض لخبر نقله واحد"(5).
4-ترجيحهم خبر موافق لعمل أهل المدينة على خبر مخالف لعملهم وهذا فاسد من وجوه:
-أولها: أن المالكية لم يعرفوا عمل من يريدون.
-ثانيها: أن عمل المالكية مع الخبر لا يخلو إما أن يكون له أول وإما أن لا يكون له أول "فإن قالوا لا أول له جاهر بالكذب.. وإن قال: له أول قيل له يجب على قولك أن ذلك العمل الأول باطل لا يجوز اتباعه…"(6).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 1/141.
(2) -نفسه 2/149.
(3) -الإحكام : ابن حزم 2/40.
(4) -نفسه 2/42.
(5) -نفسه.
(6) -نفسه 2/97.(2/103)
-ثالثا: إن عمل المالكية مع الخبر المسند لا يخلو إما أن يكون الخبر المسند حقا أو لا يكون حقا، فإن كان حقا فالعمل "لا يزيد الحق درجة في أنه حق.. ولا يبطله أن يترك العمل به…"(1). وإن كان الخبر باطلا قبل العمل به، فالباطل لا يحققه العمل به…"(2).
-رابعا: إن هذا العمل المراد الترجيح به إن كان عمل محمد - صلى الله عليه وسلم -فهو متناقض كان عمل أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو عائشة فهو كذلك متناقض مع سننهم(3).
فأما تناقض العمل المالكي مع العمل النبوي(4) فيظهر من خلال الفقهيات التالية:
1-إن المالكية رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -الإفطار في السفر، فقالوا الصوم أفضل.
2-إن المالكية رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة بالناس جالسا وهو أصحاء، فقالوا صلاة من صلى كذلك باطلة.
3-رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده، فقالوا من تطهر كذلك باطل حتى يتدلك.
4-رووا أنه - صلى الله عليه وسلم -صلى على النجاشي وهو غائب وأصحابه خلفه فقالوا ليس عليه العمل.
5-رووا أنه - صلى الله عليه وسلم - على قبر، فقالوا ليس عليه العمل.
6-رووا أنه - صلى الله عليه وسلم - إباحة نكاح بخاتم حديد، فقالوا ليس عليه العمل.
7-رووا عنه - صلى الله عليه وسلم -وسلم أنه أنكح رجلا امرأة بسورة من القرآن فقالوا ليس عليه العمل.
أما تناقض العمل المالكي مع عمل أبي بكر الصديق(5):
-رووا عنه أنه صلى بالبقرة في ركعتين، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا عنه أنه قرأ في الثالثة من المغرب بعد أم القرآن { ربنا لا تزغ قلوبنا… فقالوا ليس عليه العمل } .
-رووا عنه أنه أمر أميرا وجهه إلى الشام أن لا يقطع شجرا مثمرا، فقالوا ليس عليه العمل.
__________
(1) -نفسه 2/98.
(2) -نفسه 2/98-99.
(3) -الإحكام : ابن حزم 2/100.
(4) -نفسه 2/100-105.
(5) -نفسه 2/106.(2/104)
-رووا أنه أمره أن لا يعقر شاة ولا بعيرا إلا لمأكله، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا أنه نهاه عن تخريب العامر، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا أنه يهودية أن ترقى عائشة رضي الله عنها، فقالوا ليس عليه العمل.
أما تناقض العمل المالكي مع عمل عمر بن الخطاب(1):
-روى المالكية عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في صلاة الصبح سورة الحج وسورة يوسف فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا أنه سجد في الحج سجدتين، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا أنه نزل عن المنبر يوم الجمعة وهو يخطب، فسجد.. ثم رجع إلى خطبته فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا أنه سجد في النجم سجدة، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا أنه أمرا وتميما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة في ليالي رمضان، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا أن الناس كانوا يقومون أيام عمر بثلاث وعشرين ركعة في حياة رمضان، فقالوا ليس عليه العمل.
أما تناقض العمل المالكي مع عمل عثمان(2):
-رووا عن عثمان أنه كان يصلي الجمعة ثم ينصرف وما للجدران ظل، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا عنه أنه أذن على المنبر. في يوم العيد، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا عنه أنه كان يغطي وجهه وهو محرم، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا عنه أنه نهى عن الفرن والمتعة، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا عنه أنه صلى بمنع أربع ركعات، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا عنه أنه كان يكثر من قراءة يوسف في صلاة الصبح، فقالوا ليس عليه العمل.
-رووا عنه النهي عن الحكرة، فقالوا ليس عليه العمل.
وأما رفض ترجيحهم:
-ليس عمل أهل المدينة بأفضل من عمل غيرهم لأن المدينة كان بها المنافقون "ومن أهل المدينة مردوا على النفاق…"(3).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 2/107.
(2) -نفسه 2/111.
(3) -الإحكام : ابن حزم 4/204.(2/105)
-ترجيحهم خبر لم يثبت فيه التخصيص على خبر ثبت فيه التخصيص، وهذا الترجيح غير صائب لإمكان الجمع فيه بين المتعارضين بقاعدة استثناء أقل المعاني على الأكثر معاني(1).
-ترجيحهم خبر ورد جوابا على سؤال على آخر ورد ابتداء وهذا تحكم لا برهان لأنه "لا فرق بين ما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم - وما ورد ابتداء(2).
-ترجيحهم خبر بعضده أكثر الأثمة على خبر منفرد وهذا بدوره ترجيح فاسد لان الخبر لا يتقوى بالأخبار الأخرى ولا براوية الأئمة له وإنما قوته في ذاته(3).
-ترجيحهم خبر يميل إليه أكثر الناس على غيره المنكر وهذا لا معنى له "لأن كثرة القائلين بالقول لا تصحح ما لم يكن صحيحا قبل أن يقولوا به، وقلة القائلين بالقول لا تبطل ما كان حقا قبل أن يقول به أحد"(4).
-ترجيحهم خبر راوي أشد تقصيا على خبر ومن دونه".. لا معنى له، لأن من حفظ أشياء كثيرة، فليس ذلك بمانع أن يحفظ غيره بعض ما غاب عنه، مما جرى في تلك الأشياء التي حفظ أكثرها…"(5).
-وترجيحهم خبر مؤثر في الحكم على خبر غير مؤثر فيه، ومثلوا لهذا الاختلاف في زوج جديدة حرا كان أم عبدا وهذا غير معقول لان التأثير الذي ذكروا تحكم بلا دليل"(6).
-وترجيحهم خبرا منقولا من طرق متعددة وبألفاظ مختلفة على خبر منفرد وهذا خطأ لأن "كثرة الرواة.. قدمنا إبطال الاحتجاج بها لأنهم يتركون أكثر ما نقله أهل الأرض-برهم وفاجرهم- وهو ظاهر القرآن لما نقله واحد فكيف يجوز لمن فعل ذلك أن يغلب ما نقله ثلاثة على ما نقله واحد، وليس في التناقض وقلب المعقول أكثر من هذا…"(7).
قبل الختام أود الإشارة إلى الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى:
أن ابن حزم رغم دفاعه عن نفي التعارض، فإن الباحث لا يسعه إلا أن يسجل عليه تناقضات مت أوليته، ويظهر تناقضه من خلال قوله:
__________
(1) -نفسه 2/51.
(2) -نفسه 2/52.
(3) -نفسه 2/53-54.
(4) -نفسه 2/54.
(5) -نفسه 2/55.
(6) -نفسه 2/57.
(7) -الإحكام : ابن حزم 2/58.(2/106)
-التجريح يقدم على التعديل(1).
-نقل الأحاديث من طرق متعددة "قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته"(2).
-الأخذ بالخبر المرسل المعاضد بالإجماع "قد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح لما فيه… فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن…"(3).
-القول بتعارض الفعل مع القول وحله بالنسخ أو باستثناء الأقل من الأكثر(4).
-عملية الجمع بين المتعارضين التي قدم ابن حزم هي في حد ذاتها تعبير عن ترجيح بطرق حزمية"(5).
-اتفاقه مع الباجي على بعض الترجيحات كترجيح الخبر المقصود به بيان الحكم على الخبر الغير المقصود به ذلك، وكاتفاقه معه على تقديم خبر الراوي صاحب القصة على من ليس كذلك(6).
الملاحظة الثانية:
إن ابن حزم عند انتقاده للترجيح لا يستثني المستثنيات التي استثنى الباجي، فقد رفض الباجي أن يكون هناك ترجيح خبر حاظر على خبر مبيح، لأن مثل هذا الترجيح غير صحيح(7).
الملاحظة الثالثة:
إن نفي ابن حزم لتقوية الأخبار والأدلة لا يهدف إلى إثبات "أن الحديث الصحيح يملك صدقه في نفسه"(8). وحسب، بل تهدف إلى نقض الأسس التي يرتكز عليها خصمه، وخير أس يتركز عليه خصمه هو الترجيح، فلا عجب أن ينتقد ابن حزم هذا الأس، ويكون هدفه من ذلك هو معاكسة المالكية.
الملاحظة الرابعة:
إن انتقاد ابن حزم للعمل مبالغ فيه : فقد زعم أن مالكا روى في موطئه أكثر من أربعين مسألة خالف فيها عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمل الخلفاء من بعده "بيد أن لما سردها ظهر أن ابن حزم يعد عملا، أي فعل عن رسول الله دون أن يعبر استمراريته، أو تقويم صحة الراوي لهذا الفعل.." (9).
الملاحظة الخامسة:
إن ابن حزم أخذ بالتقوية على الأخبار لكان أدل على القطعية التي يدعيها في طريقته(10).
__________
(1) -نفسه 1/146.
(2) -نفسه 1/149.
(3) -نفسه 2/70.
(4) -نفسه 4/55.
(5) - نفسه 2/22 و 2/35.
(6) -نفسه 2/43.
(7) -إحكام الفصول: الباجي 766، قارن ب الأحكام : ابن حزم 2/41.
(8) -ظاهرية ابن حزم: سالم يفوت، ص: 136.
(9) -مدخل إلى أصول الفقه المالكي : المختار ولد أباه، ص : 68-69.
(10) -الموافقات : الشاطبي 1/16.(2/107)
الفصل الثالث:الاعتراض على الاستدلال بالقياس
"قال تعالى: يصف كلامه تبيانا لكل شيء… { فنص الله تعالى على أنه لم يكل بيان الشريعة إلى أحد من الناس، ولا إلى رأي ولا إلى قياس… }"
...........................................................ابن حزم
"إن القياس من جملة ما بين به الكتاب الأحكام…"
...........................................................الباجي
محتوى الفصل الثالث
-مقدمة
I-أوليات:
أولا-القياس بين الفقه والمنطق
ثانيا-جدلية تناهي النصوص وكمالها
ثالثا- جهل الإنسان (المعرفة)
رابعا- المباح (الأحكام)
II-المناظرات:
1-الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه
2-نفي الاستحسان والاستنباط والرأي
3-نفي التقليد
4-نفي القياس
5-قوادح التعليل.(2/108)
الاعتراض على الاستدلال بالقياس
مقدمة
إذا كان مبحث التناظر يظهر بخفاء في مبحثي الكتاب والسنة، فإنه في هذا المبحث يظهر بجلاء واضح، فالاعتراضات على الاستدلال بالكتاب لا تعدو أن تكون حول بعض القضايا التأويلية اللغوية أو بعض قضايا القراءات القرآنية.
أما السنة النبوية، فقد استقطبت من موضوع الجدل بمبحثي: الاعتراض على الحجية والاعتراض على الدلالة. أما القياس فقد حظي بدراسة جد معمقة في ميدان المناظرة، ولعل ذلك راجح إلى أن القياس كمبحث اجتهادي سيثير العديد من الاعتراضات(1) ، منها ما يرجع إليه كمصدر ومنها ملا يرجع إلى العلة وطرق استخراجها، فالقياس وإن اكتسب مشروعية من طرف أغلب الفقهاء، فإن أهم مبحث فيه-وأعني التعليل- قد لقي اعتراضات متعددة، فقد اعترضوا على التعليل بالاعتراضات التالية:
-المطالبة بتصحيح العلة
-الاعتراض على العلة بالقلب
-الاعتراض على العلة بفساد الوضع
-الاعتراض على العلة بالنقض
-الاعتراض على العلة بالكسر
__________
(1) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 149، ويمكن إيجاد هذه الاعتراضات في جميع المصادر الأصولية باب القوادح أو باب الاعتراض على العلة.(/)
-الاعتراض على العلة بأنها لا تجرى في معلولاتها
-الإعراض على العلة بعدم التأثير
-الاعتراض على العلة بالمعارضة(1).
وهذه الاعتراضات وغيرها كلها اعتراضات جدلية دخلت أصول الفقه، الأمر الذي أدى ببعضهم إلى انتقاد هذا الجانب بشدة، فاعتبره ترفا فكريا والبعض الآخر صرفه عن فن الأصول لأنه لا يجدي في ميدان الاجتهاد والاستنباط، فميدانه ينبغي أن يطلب خارج فن الأصول "فهي ليست فائدة من جنس الفقه ولا تمزج بالأصول التي يقصد بها تدليل طرق الاجتهاد للمجتهدين"(2).
إن هذه الاتجاه الذي ذهب إليه الغزالي قد حدا بكثير من الدارسين المعاصرين إلى صرف فن الجدل عن فن الأصول "وبعد طول التفكير وتدقيق النظر فيما كتبه من تعرضوا لتلك القوادح، ونظرا إلى أن غالب تلك المفسدات ترجع إلى ما تقدم بسطه في أركان القياس وشروطها، فإن النفس قد مالت آخر الأمر إلى عدم إدراجها في هذه المحاضرات لما قرره الغزالي من أن البحث فيها مرجعه إلى فن الجدل وأدب البحث والمناظرة"(3).
صحيح أن يكون لكل فن مبحثه الخاص ولكن غير صحيح أن نفصل علما عن علم خاصة إذا كان العلم قد أنشأ وترعرع في أحضان علم آخر فعلم أصول الفقه كموضوع لم ينشأ إلا في أحضان الكلام وأحضان الجدل ولهذا فلا مجال للقول بفصل علم الأصول عن علم الجدل، فعلم الجدل يعتبر القطب المحرك لهذا العلم، فهو الذي أظهر هذا الفن، فلولا الاختلافات والمناظرات بين الفقهاء حول بعض المسائل ما كان ليظهر علم أصول الفقه وكيف يعقل فصل هذا الفن عن علم الأصول وهو الذي يهدف إلى "تصحيح الدليل أو بيان فساده…"(4).
__________
(1) - Argument d’autorité/ Turki p.11. voir théologiens et juristes de l’Espagne musulmane / Abdel Majid- Turki p.11.
(2) -المستصفى : الغزالي 2/350.
(3) -أصول الفقه : العربي اللوه. ص : 204.
(4) -نفسه 204.(2/109)
إن علم الجدل ضرورة أصولية يحتاجها الفقيه الأصولي للحفاظ على دعواه من جهة وللبرهنة على أصوله من جهة أخرى، ولهذا لا نستغرب إذا ما وجدنا كل الكتابات الأصولية قد استخدمت الطرق الجدالية- ناهيك عن التصريحات لهذا الاستعمال-، فصاحب "المسلم الثبوت" بعد أن مارس فن المناظرة في محاوره مؤلفه لم يسعه أن خصص محورا لهذا الفن داخل مؤلفه(1). وكذلك صنع الشيرازي والجويني، بل والغزالي، فهو إن دعا فصل علم الجدل عن علم الأصول، فإنه لم يحالفه الحظ في هذا الفصل، فجاء مؤلفه عبارة عن تحاور وتناظر مع الخصوم ويكفي الدارس أن يقف على مبحث حجية الكتاب وحجية السنة وحجية القياس ومبحث القوادح…
وقد كان-قبله- دأب علماء الأصول ابن حزم الذي اتخذ من الجدل غاية وهدفا للرد على المشفعية وعلى مخالف الحق "نوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله"(2) وعلى هذا النهج سار الباجي في كتابه "إحكام الفصول وهو كتاب أصولي مصوغ في قالب جدلي"(3).
I-أوليات:
ولكي نظهر هذا الجانب الجدلي في مبحث القياس والذي يشكل رحى هذا الفصل أود قبل ذلك أن أقف على نموذج الباجي وابن حزم من جهة، وعلى بعد الأوليات التي حركت التناظر بينهما حول مبحث القياس من جهة أخرى:
أولا: القياس بين الفقه والمنطق
ثانيا: جدلية تناهي النصوص وكمالها
ثالثا: جهل الإنسان (المعرفة)
رابعا: الإباحة (الأحكام) (4).
__________
(1) -فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت : محب الله عبد الشكور 2/330.
(2) -الإحكام : ابن حزم 1/96.
(3) -إحكام الفصول: الباجي. مقدمة الناشر عبد المجيد التركي، ص : 100.
(4) -أشار عبد الجميد التركي إلى ثلاثة محددات فقط. انظر: مناظرات في أصول الشريعة، ص : 360 (إرادة الله العلوية وعلمه المطلق- جهل الإنسان أصلا-إكمال الشريعة).
Voir : Argument d'Autorité / Turki, p. 26.(2/110)
أولا-القياس بين الفقه والمنطق:
ليس من المعقول دائما أن نتحدث عن الأثر المتبادل بين الفكر اليوناني والفكر الإسلامي(1)، إذا ما كان لدينا فقيهان متميزان بموافقهما من المنطق اليوناني، فالفقيه الظاهري ابن حزم يصرح صراحة بأهمية المنطق والاستفادة منه في العلوم الشرعية، وقد ذهب إلى أكثر من هذا، فسلب الفهم عن كل من لم يؤت هذا العلم "وليعلم من قرأ كتابنا هذا من منفعة هذه الكتب ليست في علم واحد فقط بل في كل علم، فمنفعتها في كتاب الله عز وجل وحديث نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفي الفتيا في الحلال والحرام، والواجب والمباح من أعظم منفعة وجملة ذلك في فهم الأسماء التي نص الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم - عليها وما تحتوي عليه من المعاني التي تقع عليها الإحكام على حسب ذلك والألفاظ التي يختلف عباراتها وتتفق معانيها، وليعلم العالمون أن من لم يفهم هذا القدر فقد بعد عن الفهم عن ربه تعالى وعن النبي-ص-، ولم يجز له أن يفتى بين اثنين لجهله بحدود الكلام، وبناء بعضه على بعض، وتقديم المقدمات، وإنتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان وتصدق أبدا، ويميزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب أخرى ولا ينبغي أن يعتبر بها(2).
إن هذا الاتجاه الذي دعا إليه ابن حزم له جذوره في القدم، فقد كان العلماء قبله على اتصال بالمنطق كالشافعي…(3).
__________
(1) - Etude de philosophie Musulmane du droit Ch. Chehata XX III studia islamica P.7 -24
(2) -التقريب لحد المنطق : ابن حزم 4/102.
(3) -مناهج البحث عن مفكري الإسلام : النشار، ص : 69. انظر صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام: السوطي، ص : 14. وجاء من بعد الشافعي من أخذوا بالمنطق كالجويني والغزالي. انظر مناهج البحث، ص : 73.(2/111)
لكن بجانب هذا الاتجاه وجد الاتجاه آخر اتخذ من المنطق موقفا معاديا ولعل مناظر ابن حزم يعتبر من أوائل من تمسكوا بهذا الرأي، ونقل من المشرق إلى الغرب "المنطقي مستحقر"(1). وبصفة عامة، فقد عادى أهل الأندلس المنطق واعتبروه خروجا عن الدين، وهكذا ذكر الكلاعي وهو ينصح ابنه ويحذره من الفلسفة ومن تعاطي الفلسفة:
يجعجعن الكلام ولا طحينا
على العادات بهة فدعينا
وما هم عندنا متشرعينا
بحي ناطق ميتا دفينا
وخرس قد ثووا متبكمينا
وفلسفة الفلاسفة اجتنبها
وقفت على أصول قد بنوها
وتنقض الأصول بكل شرع
كالإنسان الذي حدوه حدا
وهذا الحد منتقض بطفل
إلى أن قال:
يقول بقولهم ويدين دينا
وردا للشرائع أجمعينا
ولا معنا فهم كمذبذبينا
فقد شانوا الشرائع منتمينا
وقد كان ابن حزم في ضلال
متابعة لفلسفة وكفر
فلا معهم يكون على اتفاق
(2)عليهم لعنة الرحمن تترا
__________
(1) -ابن حزم الأندلسي : زكريا إبراهيم 104.
(2) -نصحية أبي عبد الله الكلاعي الميورقي الأندلسي : ت. الأستاذ أبو خبزة.
مخطوطة في ملكنا و 5 و 6 قرأنا هذا التحقيق بالمخطوطة الموجودة بالخزانة ابن يوسف بمراكش. رقم 426.(2/112)
ولم يخل كتاب صناعة المنطق لابن طملوس من تصوير مثل هذه المواقف الأندلسية من المنطق بل ومن كل العلوم الجديدة، فقد ألفت الأندلس شيوع علوم متعددة إلا صناعة علم الكلام وصناعة المنطق، وكان أهل هذه الجزيرة لما ألفوا الفقه والنوازل المالكية، اعتقدوا أن كل جديد فيه خرق للإسلام ولهذا نفروا من علم الكلام والمنطق وغيرها كالتصوف "فلم يبق علم لم يتناوله علماء الإسلام حتى كثر التأليق فيه والمناظرة بينهم بسببه في المجالس حتى يتهذب ويخلص ويغلب من الغرابة حيث بالغت سائر العلوم التي تداولوها إلا صناعة المنطق فإني رأيتها مرفوضة عندهم مطروحة لديهم لا يحفل بها ولا يلتفت إليها وزيادة إلى هذا أن أهل زماننا ينفرون عنها وينفرون ويرمون العالم بها بالبدعة والزندقة وقد اشترك في هذا الأمر عنهم دهماؤهم وعلماؤهم"(1). ولعل هذه الصورة التي لقيها ابن حزم الأندلسي بالأندلس وأهله عي التي ادعته إلى البحث عن أسباب تمسك أهل الأندلس بهذه المواقف فأرجأها إلى:
1-الجهل بهذا العلم وأهميته ودوره
2-تمسك أهل الأندلس بالنوازل المالكية
وهو نفس الاستنتاج الذي وصل إليه ابن طملوس، فقد ألفوا الفقه المالكي فقط فكلما جاءهم جديد نفروا منه ولكن عندما يعرفونه يصادقونه…(2).
__________
(1) - كتاب المدخل لصناعة المنطق : ابن طلموس، ص : 8، (طبعة حجرية).
(2) -نفسه ص : 10-11.(2/113)
ونظرا لما كان يطبع أهل الأندلس من الجهل بعلوم الأوائل، فإن ابن حزم رأى من الواجب عليه أن يؤلف ديوانا لبيان علم المنطق "ولقد رأيت طوائف من الخاسرين شاهدتهم أيام عنفوان طلبنا وقبل تمكن قوانا في المعارف وأوان مداخلتنا صنوفا من ذوي الآراء المختلفة كانوا يقطعون بظنونهم الفاسدة من غير يقين بحث موثوق به على الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة، فعمدة غرضنا وعلمنا إنارة هذه الظلمة بقوة خالقنا الواحد عز وجل لنا، فلا قوة لنا إلا به وحده ولا شريك له"(1).
إن دعوى التأليف في المنطق لا تقتصر على هذا السبب بل لها أسباب متعددة أبرزها غعطاء مكان القياس الأرسطي كحل لأهم معضلات الرأي، فبالقياس الأرسطي تمكن ابن حزم من تقديم نموذج لتجاوز القياس الفقهي وبه-كذلك- تمكن من تجاوز أهم المشكلات التي سقط فيها الفقهاء، عند تعاملهم مع هذا الأصل. وبوقفة عند دوافع لأخذ ابن حزم بالقياس الأرسطي ورفض القياس والفقهي يظهر ذلك:
الدافع الأول: القياس بين القطع والظن:
سبق أن أشرنا في المباحث السابقة إلى أن ابن حزم يولي أهمية كبرى لبناء الشريعة على القطع وكل ما يتعارض مع القطع، فإنه يتحول عنه إلى ما يضمن له تلك الخاصية، وقد يظهر هذا الاتجاه بشكل واضح في مبحث القياس، فقد رفض ابن حزم القياس الفقهي لينتقل عنه إلى القياس الأرسطي ظنا مذموم والثاني برهاني مقبول في نظره، والخصائص التي أضفت على القياس الفقهي الظنية هي:
__________
(1) -التقريب لحد المنطق: ابن حزم 4/231-232.(2/114)
-إنه ليس قياسا وإنما هو عبارة عن استقراء ناقص، وتسميته بالقياس تعتبر مغالطة من قبل بعض الفقهاء "اعلم أن المتندمين يسمون المقدمات قياسا فتحيل إخواننا القياسيون حيلة ضعيفة سفسطائية وأوقعوا اسم القياس على التحكم والسفسطة فسموا تحكما بالاستقراء المذموم قياسا"(1).
-ومما أضفى على القياس الفقهي الطابع الظني أنه يعتمد في استخراج علله على مسالك عقلية-استقرائية لا تظفر بالجزئيات فتجيء ناقصة.
ومن هنا تأتي ثورة ابن حزم على الفقهاء والنحاة لأنهم اعتمدوا مثل هذه الطرق وهي كلها استدلالات ظنية لا تفي بالقطع.
إن ما يضمن لابن حزم القطع بل الحقيقة هو تجاوز القياس الفقهي (الاستقراء إلى القياس المنطقي لاعتماد هذا الأخير على قضايا مستمدة من أوائل العقل والحس "فينبغي لكل طالب حقيقة أن يقر بما أوجبه العقل أو يقر بما شاهد وأحس وبما قام عليه البرهان… وأن لا يسكن إلى الاستقراء أصلا.." (2).
إن ما ينبغي ملاحظته أن ابن حزم قد ابتعد عن الحق حين قصر مسائل العلة في المسالك العقلية "الاستخراجية، فالمسالك لا تنحصر في هذا الصنف بل هناك مسالك نصية تعتمد الكتاب والسنة والإجماع، وإذا كان كذلك فالقياس لا يحكم بأكمله أنه ظني بل فيه ما هو قطعي، ووجود العلة في الفرع قطعيا كان القياس متفقا عليه"(3). وحتى لم فرضنا أن القياس ظني فإن الفقهاء جميعا متفقون على الأخذ به(4).
__________
(1) -التقريب لحد المنطق : ابن حزم 158. تسمية القياس الفقهي باستقراء تعبير عن استنقاص بالقياس المناظرات في أصول الشريعة الإسلامية : التركي، ص : 435.
(2) -التقريب لحد المنطق : ابن حزم 166.
(3) -شرح التنقيح : القرافي، ص : 387.
(4) -المنخول من تعليقات الأصول : الغزالي، ص : 327.(2/115)
ومما أبعد ابن حزم عن الحق-كذلك- أنه اعتقد "القطيعة في البرهان"(1)؛ وهذا ما تستبعده المدرسة الاستدلالية الحجاجية لأن البرهان وإن كان يعتمد على قضايا تدخل في إطار أوائل العقل والحس(2)، فإنه لا يخلو من إقناع السامع ببعض المسلمات التي لا دخل للبرهنة فيها "إن برهان احتجاج مموه، والانتصار له لا يعني انتصارا للحقيقة، بل هو اختيار موقف، إنه تمسك بأدنى درجات اليقين، ذلك أن البرهان حتى في أعلى صوره في المنطق والرياضيات لا يقدم لنا سوى يقين مصطنع، لأن المقدمات التي ينطلق منها ليست بديهية بل اقناعية لا مكان للبداهبة فيها"(3).
الدافع الثاني: القياس والظاهر:
__________
(1) -رسائل : ابن حزم، 4/413.
(2) -إحكام الفصول : الباجي. نشر التركي، ص : 67.
(3) -مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد : 412، ص : 1986 إن ضمان البرهان المنطقي صعبة تقتضي مطابقته للوقائع وعدم معارضته للحقائق العقلية، المنهج عند ابن حزم / نايف، المجلد: 14، ع: 7، س : 87.
Voir : Le champs de l’argumentation /chain Perleman P. 24.
هدف إقامة البرهان على الحقيقة في حد ذاته هدف إقناعي. انظر نظرية القياس الأصولي: سليمان داود، ص : 355.(2/116)
لقد سبق أن بحثناه في الأنساق اللغوية لابن حزم وبقي الإشارة إلى تكامل هذا النسق مع القول بالقياس المنطقي، فالظاهرية الحزمية في اللغة تريد البقاء عند النص ولكي تكمل هذا النسق لا بد لها من رفض القياس الفقهي والأخذ بالقياس المنطقي لان هذا الأخير يضمن لها الانسجام التام مع الظاهر، وفي الأخذ بالقياس الأرسطي ما يمكنها من تجاوز التعليل، لأن ظاهرية ابن حزم وإن كانت ترفض القياس، فهي بالأولى ترفض التعليل و "وإذا كان ابن حزم خصما لدودا للقياس فلأنه يعترض صراحة على نظرية التعليل…"(1). وتجاوز القياس الفقهي والأخذ بالأرسطي يضمن كذلك لابن حزم تجاوز دليل الخطاب بمفهومه المخالف والموافق، لأن القضية التي يتألف منها "لا تعطيك اكثر من نفسها"(2)، هذا ناهيك عن النتيجة التي تضمن لابن حزم تجاوز نقل حكم الأصل إلى الفرع لأن النتيجة لازمة عن المقدمتين السابقتين.ة "اعلم أن باجتماعهما… تحدث أبدا عنهما قضية ثالثة صادقة أبدا لازمة ضرورة لا محيد عنها تسمى هذه القضية الحادثة عن اجتماع القضيتين الأولى والثانية نتيجة لأنها انتتجت عن تينك القضيتين والأوائل يسمون القضيتين والنتيجة معا في اللغة اليونانية السلجسموس(3).
__________
(1) -مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية : التركي، ص : 328.
(2) -التقريب لحد المنطق : ابن حزم 4/219.
(3) -نفسه 4/ 219-220.(2/117)
إن تضمن النتيجة في القضيتين السابقتين يسجل أول عقم بالنسبة للقياس الأرسطي في مقابل القياس الفقهي، فالقياس المنطقي يهدف إلى إقامة برهان "على حقيقة معلومة لا للكشف عن حقيقة جديدة"(1). بينما المنطق الإسلامي ينتج وفق حدود مضبوطة، وهذا الفارق هو ما حدا ببعض الفقهاء أن استبعد القياس المنطقي عن القياس الفقهي "قد زعمت الفلاسفة أن القياس لا يصح ولا يتم من مقدمة واحدة ولا يكون عنها نتيجة وإنما ينبني القياس من مقدمتين فصاعدا، أحدهما قول القائل: "كل حي قادر" والثانية "كل قادر فاعل" وهذا ليس من القياس بسبيل ولا له به تعلق"(2)، وذلك راجع إلى ما استنتجناه سابقا من اعتبار القياس الفقهي منتج والقياس الأرسطي غير منتج "ما قالوه ليس من القياس بشيء، وإنما هو ضم قول إلى قول يقتضي أمرا من الأمور، وهو موجب ضم القولين ومقتضاه من غير حمل شيء على شيء ولا قياسه عليه وما سموه نتيجة فإنما هو موجب ضم أحد القولين إلى الآخر"(3).
الدافع الثالث: المنطق ضرورة تناظرية:
ادعى بعض الباحثين أن ابن حزم يعتبر أول من طبق علوم الأوائل على الشريعة الإسلامية. "وفي تطبيقه المنطق اليوناني على كثير من المسائل الفقهية يمكن أن نقول أنه أول من مزح منطق اليونان بعلوم المسلمين"(4). لكن الناظر في رسائل ابن حزم يلاحظ أنه يميز بين النص والإجماع والدليل بينما المنطق يستمد معارفه من العقل ويهدف إلى:
-التمييز بين البرهان والشغب
-والرد على المشغبة
-والتمييز بين الحق والباطل(5).
__________
(1) -المنطق الوضعي: زكي نجيب محمود 2/166.
(2) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 529-530.
(3) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 529-530.
(4) -نظرية القياس الأصولي : سليمان داود، ص : 241.
(5) -رسالة مراتب العلوم : ابن حزم 4/72 ورسالة التقريب لحد المنطق 4/103.(2/118)
هذه الأهداف إذا ما نظرنا إليها في إطار الدعوى السابقة فإننا نجد أنفسنا أمام تناقض، إذ كيف القول بأنه يطبق المنطق على الشريعة وقول ابن حزم أن الخصائص الشرعية غير الخصائص المنطبقة(1).
إن ابن حزم لم يأخذ بالمنطق كطريقة في الاستنباط وإلا لما أمكنه الاستنباط لأن المنطق يهدف بالأولى إلى إقامة البراهين على حقائق معلومة فهو من هذا الجانب غير منتج للأحكام، ولكن من جهة أخرى هو يقنع أو يبرهن على الأحكام، ولهذا فاستغلال ابن حزم للمنطق كان استغلالا جداليا(2)، وهذه ضرورة تفرض على ابن حزم الذي نصب نفسه خصما لكل النحل والملل "كان اتجاهه إلى مجادلة أهل المذاهب والنحل الأخرى أن ينازع بقوة منطقية في المناظرة والجدل"(3).
ومن هذا المنطلق سيكون الخلاف بين الباجي وابن حزم خلاف في منطلقات الجدل، فالأول مزود بالمنطق الإسلامي بينما الثاني له منطلق منطقي.
الدافع الرابع : معاكسة أهل الأندلس:
إن تمسك أهل الأندلس بالمواقف المالكية وخاصة فقه النوازل وفقه المستخرجة سيثير العديد من المشاكل بين الظاهرية والمالكية بالأندلس وسيتسبب في تعميق الخلاف والجدال بينهما، ولذلك كانت جل الاعتراضات الحزمية مركزة على أخذ المالكية بالنوازل وأخذهم بالقياس "وقد كانت الخصومة بين ابن حزم وفقهاء المالكية عنيفة بالغة العنف لأن إبطال القياس والرأي والتقليد كانت تعني حربا لا هوادة فيها على فقهاء المالكية بالأندلس يومئذ"(4).
__________
(1) - الإحكام : ابن حزم 1/15-17.
(2) -ابن حزم الأندلسي :
(3) -التقريب لحد المنطق : ابن حزم: نشرة إحسان عباس 4/34.
(4) -رسائل ابن حزم : نشرة إحسان عباس 3/20.(2/119)
والمالكية بدورها لم تأل جهدا من انتقاد ابن حزم خاصة عند تمسكه بالمنطق(1)، ولهذا كثيرا ما كانت مالكية الأندلس تتهم ابن حزم بالرد على الشرعي بالمنطقي "فإن خصمك يحتج أنه لا يلزمه الخروج عما قيده الشيوخ الثقات عنهم وتضمن ذلك كتب جمة هي معلومة مشهورة مسموعة رواية رواها الثقات عنهم وهم في جملتهم عدد كثير، إلى قول واحد يطلب التعليل والاحتجاج ويرد بالمنطقي على الشرعي(2) .
ويزيد الباجي في تعميق هذا الخلاف حين ينتقد المنطق الفلسفي ويعتبره بدعة دخلت الأندلس من طريق بعض الأغمار "ولولا من يعتني بجهالتهم من الأغمار والأحداث لنزهنا كتابنا عن ذكر الفلاسفة، ولكن قد نشأ أعمارا وأحداث جهال عدلوا عن قراءة الشرائع وأحكام الكتاب والسنة إلى قراءة الجهالات من المنطق واعتقدوا صحتها وعدلوا على متضمنها دون أن يقرأوا خصومهم من أهل الشرائع الذين أحكموا هذا الباب وحققوا معاينة"(3).
ثانيا: جدلية تناهي النصوص وكمالها:
تناهي النصوص من المحاور التي اهتم بها الأصوليون، وذلك لما لها من علاقة بالرأي عامة والقياس خاصة، ولهذا فمبحث كمال الشريعة كان يتمحور في ظل اتجاهين متناقضين، اتجاه أهل النصوص ويمثلهم ابن حزم واتجاه أهل الرأي ويمثلهم الباجي.
فاتجاه ابن حزم يرى أن النصوص كاملة وتامة "وجدناه قد قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } (المائدة/3)، فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى"(4).
وكل ما كمل وتناهى، فليس لأحد أن يضيف عليه شيئا سواء أكان قياسا
__________
(1) -رسالة التقريب : ابن حزم 4/98.
(2) -رسالة سئل فيها سؤال التعنيف : ابن حزم 3/73.
(3) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 530.
(4) -الإحكام : ابن حزم 1/10. منظومة للإمام ابن حزم في قواعد أصول الفقه، تحقيق محمد ابراهيم الكتاني، مجلة معهد المخطوطات، المجلد: 21، مايو 75، ج: 1، ص : 149.(2/120)
أو استحسانا "لم يكل الشريعة إلى أحد من الناس ولا إلى رأي ولا إلى القياس"(1)، لأنه لما حدد أن النص كامل فقد "صح يقينا أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل ثم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -"(2).
إن هذه الدعوى التي ذهب إليها ابن حزمة ستكلفه أن يوجه بعض النصوص ويضعف أخرى:
1-فقد ضعف حديث معاذ "أجتهد رأيي" لأنه يتناقض مع قوله تعالى "أكملت لكم دينكم" "وما فرطنا في الكتاب من شيء" (الإنعام/38) و"تبيانا لكل شيء" (النحل/89). فإن هذا الحديث ظاهر الكذب والوضع لأن من المحال البين أن يكون الله تعالى يقول "اليوم أكملت لكم دينكم.." (المائدة/3) ثم يقول رسوله- صلى الله عليه وسلم -: إنه ينزل في الديانة ما لا يوجد في القرآن"(3).
2-وحل مشكلة تعارض قوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم" مع ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخميس قبل موته عليه السلام بأربعة أيام "أتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعدي بقوله : "كل هذه النصوص حق لا تعارض بين شيء منها بوجه من الوجه لأن الآية المذكورة نزلت يوم عرفة في حجة الوداع قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أشهر حتى ولو نزلت بعد ذلك شرائع لما كان نزولها معارضا للآية المذكورة، لان الدين في كل وقت تام كامل"(4).
3-وحل مشكلة القول بكمال الشريعة وكيفية كمالها بتقسيمها إلى ثلاثة أقسام، فهي كاملة بقوله تعالى: "خلق لكم ما في الأرض جميعا" (البقرة/29) فصح "أن كل شيء في الأرض وكل عمل فمباح حلال إلا ما فصل الله تحريمه باسمه نصا عليه.. فإن وجدنا شيئا حرمه النص بالنهي عنه أو الإجماع باسمه ولا مجمعا عليه، فهو حلال بنص الآية الأولى"(5).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 8/18.
(2) -نفسه 1/10.
(3) -الإحكام : ابن حزم 7/112. النبذة الكافية : ابن حزم، ص : 59-60.
(4) -الإحكام 8/11.
(5) -نفسه 8/13-14.(2/121)
4-وكان لابد لابن حزم من حل هذه المشكلة بوضوح خاصة عند الاعتراض عليه ببيان الكيفية التي تدل على كمال الشريعة "فإن قالوا: أرونا جميع النوازل منصوصا عليها قلنا: لو عجزنا على ذلك لما كان عجزنا حجة على الله تعالى ولا على رسوله- صلى الله عليه وسلم -، فلم ندع حكم-الواحد فالواحد منا- الإحاطة بجميع السنن، لكن حسبنا إننا نقطع بأن الله تعالى بين لنا كل ما يقع من أحكام الدين إلى يوم القيامة…"(1).
أما اتجاه الباجي فقد ذهب إلى القول بتناهي النصوص، وبني هذا القول على تأويل قوله تعالى { وما فرطنا في الكتاب من شيء } (الأنعام/38) إلى القول بأن القياس من جملة ما بين به الكتاب الأحكام(2).
وكذب ادعاء إحاطة النصوص بجميع أحكام الحوادث اعتمادا على بيان قصور النص عن ذكر الأحكام "الجد والكلالة والحرام والعول.." (3)، ولم يتصور هذا الاتجاه كمال الشريعة بمعزل عن القياس "لا يمتنع أن ينبت الحكم تارة بالنص وتارة بالقياس الموافق للنص"(4).
وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم - في عهده يستعمل الرأي والقياس "فكيف به اليوم مع انختام الوحي وانقطاع ورود النص على الأحكام مع ما يطرأ للناس ويحدث مما يتقدم فيه حادثة(5).
والناظر إلى هذا المبحث لا يسعه إلا أن ينظر إليه خارج التناظر المذهبي بمعنى ما حقيقة هذا المبحث هل الشريعة كاملة أم متناهية ؟
1-موقف الشافعي:
__________
(1) -نفسه 8/6.
(2) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 603، وهذا التأويل ناتج عن اختلافهما في المنطلقات.
(3) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 616 وروضة الناظر وجنة المناظر: ابن قدامة 258.
(4) -نفس المصدر، ص : 617. روضة الناظر : المقدسي 251. الفقيه المتقفه، البغدادي الخطيب 1/205.
(5) -إحكام الفصول : الباجي، ص : 579.(2/122)
يرى الشافعي أن الشريعة كاملة من جهة ومتناهية من جهة أخرى لذلك، فالناظر فيها لا يسعه إلا أن يطلب الحق من جهة النص أو من جهة القياس لأن النوازل في نظر الشافعي تنقسم إلى قسمين: قسم يكون فيه بعينه حكم منصوص عليه يلزم اتباعه وهو النص. وقسم ثاني لم يكن فيه بعينه حكم، فيلزم طلب حكمه على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد هو القياس(1).
2-موقف صاحب التيسير:
يرى صاحب التيسير أن قوله تعالى: { تبيانا لكل شيء } (النحل/89) لا تعني أن كل شيء مفصل في القرآن "إذ ليس كل الأشياء مفصلة في القرآن لكن معنى كل شيء أنه يتضمن شيء إجمالا، وقد يتضمن كل شيء إلا أن المجتهد تقاصر عن فهمه وإداركه"(2).
3-موقف ابن القيم:
يرى ابن القيم أن الشريعة كاملا أصلا "والصواب وراء ما عليه الفرق أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث"(3). غير أنها تظهر متناهية وذلك "مقدار النصوص في فهم المجتهد وعلمه ومعرفته لا مقدارها في نفس الأمر"(4).
4-موقف الشاطبي:
يرى الشاطبي أن الشريعة كاملة من حيث إنها تفي بجميع الكليات من ضروريات وحاجيات وتحسينات لكنها متناهية من جهة عدم إيفائها بالجزئيات وتكامل الشريعة بين جزئياتها وكلياتها يتمثل في "تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكلا في نظر المجتهد…"(5)، وهكذا فسر الشاطبي مبحث التناهي والكمال فاعتبر "الجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم، وقد نص العلماء على هذا المعنى، فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجرى عليها ما لا نهاية له من النوازل"(6).
__________
(1) -رسالة الشافعي، ص : 477.
(2) -تسيير التحرير: محمد أمين المعروف بأمير بادشاه 4/106-107.
(3) -أعلام الموقعين : ابن القيم الجوزية 1/337.
(4) -أعلام الموقعين : ابن القيم الجوزرية 1/232-233.
(5) -الاعتصام : الشاطبي 2/305.
(6) -نفسه.(2/123)
يظهر من خلال هذه النصوص أن هناك جانب منصوص عليه فيقتضي اتباع النص فيه، وهناك جانب يحتاج إلى تدخل المجتهد قصد استنباط حكمه استنادا إلى كليات النص أو إلى أصل الحكم، وفي كلتا الحالتين يقتضي النص الاجتهاد سواء في فهمه أو في تنزيل الجزئيات على الكليات"(1).
ثالثا: جهل الإنسان (المعرفة):
اختلاف ابن حزم مع الباجي حول بعض المصادر المعرفية سيكون عاملا أساسيا في توسيع دائرة الاختلاف حول "الرأي" عامة و "القياس" خاصة فالمعرفة عند ابن حزم لا تكتسب بالإلهام "لا شيء يعلم بالإلهام"(2)، وهي كذلك غير مكتسبة بالإمام أو التقليد مع نفي الاعتقاد في اكتسابها بالخبر والخبر فقط، وإنما تكتسب بالعقل والحواس "طرق المعارف معروفة محصورة وهي الحواس والعقل…"(3)، وإذا كانت المعرفة تعتمد الحواس والعقل فإنه لا إمكانية لتصور المعرفة بدون عقل إذا العقل القوة المصححة لما يستوجبه الحواس "وبهذه القوة (أي العقل) عرفنا صحة ما توجيه الحواس"(4)، والعقل لا يقتصر دوره على تقويم الحواس، بل دوره يكمن في فهم مراد الله وتمييزه للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه(5). و العقل الحزمي إذا كان محصورا في هذين الخاصيتين فهو قاصر عن اتخاذ مسلك معين كالقياس لأنه ليس في العقل قياس وليس فيه تحريم أو تحليل "وأما من ادعى أن العقل يحلل ويحرم.. فهو منزلة من أبطل موجب العقل جملة"(6).
__________
(1) -بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ابن رشد 1 / 2-3.
(2) -الإحكام : ابن حزم 1/17.
(3) -نفسه 7/92-93. انظر التدليل على ذلك 1/66.
(4) -نفسه 1/17. ورسالة التقريب : ابن حزم 4/313 وما بعدها.
(5) -الإحكام : ابن حزم 1/69.
(6) -نفس المصدر 1/28. وانظر كذلك 1/29.(2/124)
حول هذه النقطة يختلف ابن حزم مع الباجي، فالباجي يرى أن العقل أثناء تفكيره يتخذ مسلكا معينا من مسالك الرأي سواء أكانت استحسانا أو قياسا… ولذلك تشبعت مصادر الباجي المعرفية الخاصة بالتشريع فهي بالإضافة إلى النص تشمل القياس والمصالح والاستحسان… بينما مصادر المعرفة الدينية عند ابن حزم فهي تقتصر على أربعة مصادر. قال علي : "ووجدنا القرى ألزمنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه، وأما أمرنا به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، مما نقله عن الثقات أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه عليه السلام فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا فنظرنا فيها فوجدنا منها جملا إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه، فكان ذلك كأنه وجه رابع إلا أنه غير خارج على الأصول الثلاثة التي ذكرنا…"(1).
إن اختلاف الباجي مع ابن حزم حول هذه الأصول المعرفية التشريعية لا يمنع من اتفاقهما حول المصادر التي تكتسب بها المعارف الضرورية والنظرية "إذا الضروري ما لزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه ولا الخروج مه وهو يقع من ستة أوجه، والحواس الخمس التي هي حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الشم وحاسة الذوق وحاسة اللمس، والسادس ما علمه المخلوق ابتداء من غير إدراك حاسة من هذه الحواس كالعلم بحال نفسه من صحته وسقمه وفرحه وحزنه وغير ذلك.
__________
(1) -نفسه 1/67-68.(2/125)
والعلم النظري ما احتاج إلى تقدم نظر واستدلال ووقع عقيبه بغير فصل(1)؛ وإذا كان ابن حزم يضفي على العلم النظري مشروعية العلم الضروري وذلك باعتماد هذا الأخير على المقدمات النصية بمعنى أنه بإمكان العلم النظري أن يصبح علما ضروريا "النظر إذا كان موجودا، لا يحتمل إلا وجها واحدا من مقدمات إجماعية ومما يوجب علما بالضرورة، أو من نقل مقبول بالتواتر لا معارض له، فالعلم موجبه علم ضروري…"(2).
إن المرحلة الحسية والعقلية التي سبق أن أشرنا إليها تعتبر مرحلة متأخرة عن مرحلة الجهل لأن أصل الإنسان أنه يولد جاهلا، فليس في عقله أو في نفسه ما يستوجب المعارف الاكتسابية أو الاضطرارية أو هما معا وإنما "الصحيح من هذه الأقاويل أن المراد أن المرء يخرج إلى الدنيا لا معرفة له بشيء ولا بحركاته إلا حركات طبيعية…"(3)، والحركات الطبيعية في نظر ابن حزم لا تعتبر معرفة، فالمعرفة الحقة هي التي تكون بالعقل والحس وليس العقل والحس بتشريع سابق(4)، ولهذا فلا تعليل ولا تحريم إلا بالنص لأن أصلا الإنسان جاهل، ولذلك أرسل الله رسوله ليعلم الناس الكتاب والحكمة "يعلمكم الكتاب والحكمة" (البقرة:151).
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي 170-171. انظر كذلك : الإحكام : ابن حزم 1/66.
(2) -الأصول والفروع : ابن حزم، ص: 95-96.
(3) -نفسه، ص : 92 والإحكام : ابن حزم، 8/10.
(4) -الإحكام : ابن حزم 1/54. انظر كذلك موقف ابن حزم من : هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أم على الإباحة، الإحكام 1/52 وما بعدها.(2/126)
إن ما يهدف إليه ابن حزم من هذا التمهيد المعرفي هو سلب إمكانية صدور الأحكام في غياب النص(1)، وبمعنى صريح إصدار الإحكام اعتمادا على قياس ولهذا استبعد احتجاج من رأى انكسار البيضتين بناء على أخرتين، واعتبر المعرفة المكتسبة على إثر ذلك إنما هي معرفة بديهية" إذا تصادمتا تكسرتا، علمنا أن ذلك حكم كل بيضة لم تنكسر قالوا: وهذا قياس.. وهذا خطأ ولو نعلم ذلك قياسا، ولكن علمنا بأول العقل وضرورة الحس"(2).
رابعا : المباح (الأحكام)
قسم ابن حزم الشريعة إلى ثلاثة أقسام: واجب وحرام ومباح "الشريعة كلها إما فرض… وإما حرام… وإما مباح مطلق"(3)، وحكم المباح قد استمده ابن حزم من قوله تعالى "وخلق لكم ما في الأرض جميعا" (البقرة/29) ومعناه "أن الله تعالى قد أحل لنا ما خلق في الأرض"(4)، وبهذا المعنى استبعد ابن حزم تفسير من قال إنه يعني "الاعتبارية"(5)، لأن هذا خروج عن اللغة "تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان"(6).
إن دفاع ابن حزم عن المباح لا يعني إلا دفاعا عن بقاء حكم المسكوت عنه في عداد العفو(7) "الأصل أن لا حكم على أحد ولا شيئا حراما على أحد.." (8).
__________
(1) -انظر الإحكام : ابن حزم 6/136. انظر حدود المعرفة في التصوير الحزمي 7/29-93 وقارن بحدود المعرفة في تصور الجويني، فوقبة حسين، مجلة إعلام العرب، ع : 40، ص :146.
(2) -الإحكام : ابن حزم 7/181.
(3) -النبذة الكافية : ابن حزم، ص : 66-67 الأحكام : ابن حزم 8/13-14، الأبطال 43-44.
(4) -الإحكام : ابن حزم 6/12.
(5) -نفسه 1/58.
(6) -نفسه 1/58.
(7) -تيسير التحرير : محمد أمير 4/107-108.
(8) -الإحكام : ابن حزم 5/35.(2/127)
وكما يهدف إلى الدفاع عن العفو يهدف إلى استبعاد إصدار الأحكام في حق المسكوت عنه بالطريقة القياسية "الكل متفق على أن الدين لا تحريم فيه… فقد كان الدين والإسلام ولا تحريم فيه ولا إيجاب، ثم أنزل الله تعالى الشرائع فما أمر به فهو واجبن وما نهى عنه فهو حرام، وما لم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق حلال كما كان، هذا أمر معروف ضرورة بفطرة العقول من كل واحد، ففي ماذا يحتاج إلى القياس أو إلى الرأي"(1).
والباجي باعتباره منافحا عن القياس لم ير إلا الاعتراض على فكرة العفو والسكوت عنه "وهذه الطائفة (أي نفاة القياس) فلا يخلو أن تحكم في العفو عنه بهواها وشهوتها أو لا تحكم فيه بشيء، فإن حكمت بالهوى والشهوة، فقد زادت على الحال التي عابتها على القائسين لأم القائس لا يحكم بالقياس إلا إذا وجد النص، فإذا عدمه لم يحكم عند عدمه إلا بما يوجبه الدليل والاعتبار لا بما يوجبه الهوى والشهوة"(2).
__________
(1) -نفسه 8/2.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 570.(2/128)
II-المناظرات:
والواضع من هذه الأولية وغيرها-القياس بين الفقه والمنطق وجدلية تناهي النصوص وكمالها وجهل الإنسان- أن ابن حزم يقصد إلى إعطاء أولوية لظواهر النصوص وفي الوقت نفسه يقصد إلى إقصاء الرأي عامة من الأصول والقياس خاصة وبوقفة مع مواقفه من قضايا الرأي ندرك ذلك:
1-نفي الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه:
ليس صحيحا أن يتمسك المالكية(1) ببعض الأحكام بناء على الاحتياط والخوف لأن تلك الأحكام تدخل في المشتبهات التي ليس المرء بمتيقن من خلالها أو حرامها، ولذلك، فالأمور إذا لم يتيقن أنها حرام أو حلال فهي في حكم المباح "تلك المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي على حكم الحلال بقوله تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } ، فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا"(2) (البقرة/29).
2-نفي الاستحسان والاستنباط والرأي:
إن ما يجمع بين هذه المصادر هو رجوعها إلى الرأي، فالمستحسن لا يستحسن إلا اعتمادا على هواه "إن الاستحسان شهوة واتباع للهوى وضلال"(3)، وكذلك الشأن بالنسبة للاستنباط فهو يكتسب مشروعيته من الرأي والقياس وكل ذلك باطل "وأما الاستنباط فإن أهل القياس ربما سموا قياسهم استنباطا.. وهذا باطل"(4)، وبطلانه يرجع إلى أنه يستمد من الرأي، والرأي عند ابن حزم مذموم بالأدلة التالية:
-عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"(5).
-قال أبو بكر: "أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد"(6).
-عن عمر (رضي الله عنه) قال: "يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مصبيا لان الله عز وجل كان يريه، وإنما هو منا للظن والتكلف"(7).
__________
(1) -انظر دراسة قيمة في هذا الباب : سد الذرائع في الشريعة الإسلامية : هشام البرهاني، ص : 723. وما بعدها. انظر موقف مالك من الذرائع. أحكام الفصول : الباجي، ص: 689. وانظر موقف المالكية من هذا الدليل. الإحكام 6/9. 14-15.
(2) -الإحكام : ابن حزم 5/35.
(3) -نفسه 6/17.
(4) -الإحكام : ابن حزم 6/21.
(5) -نفسه 6/39 و 6/46.
(6) -نفسه 6/41.
(7) -نفسه 6/42.(2/129)
-قال عمر (رضي الله عنه) : "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن.." (1).
-عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله، وبرهة بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ثم يعملون بالرأي، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا"(2).
-عن شهاب قال: "دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي"(3).
-وقال مالك بن أنس: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن"(4).
-عن ابن حنبل قال سمعت أبي يقول: "الحديث الضعيف أحب إلينا من الرأي"(5).
3-نفي التقليد:
كل رأي أو اعتقاد في من دون النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبر تقليدا، فاتباع الصحابة(6) والتابعين وتابعيهم… يدخل في مفهوم التقليد، وهدف ابن حزم من تضييق ما دون هذا المفهوم يرمي إلى الاقتصار على النصية المتمثلة في القرآن والسنة كما ترمي إلى نفي الرأي، وخاصة ذلك الذي تمسك به المالكية والمتمثل في تقليد مالك "ولا يتمثل في عقل ذي عقل أن في تقليد عمر لأبي بكر ما يوجب تقليد أهل زماننا لمالك"(7).
4-نفي القياس:
__________
(1) -نفسه.
(2) -نفسه 6/51.
(3) -نفسه 6/55.
(4) -نفسه.
(5) -نفسه 6/58.
(6) -يستشهد ابن حزم كثيرا براوية ابن عبد البر النمري.
-الهوى يقصد به الرأي عامة.
يستشهد بعض الأحيان بأقوال الصحابة وهذا تناقض مع هذا الطرح.
(7) -الإحكام : ابن حزم 6/67. ويمكن الاطلاع كذلك على الصفحات التالية: 6/62- 63- 67 – 83- 70 – 71 – 119 – 131 – 143 – 148 – 150 – 169 – 172.
وينفي التقليد لأن فيه رجوع لعمل أهل المدينة(2/130)
يؤرخ ابن حزم لظهور القياس بالقرن الثاني الهجري، وكأني بالفقيه الظاهري يقصد بهذا التاريخ انتشار القياس وكثرة استعماله، أما تاريخ ظهوره، فيرجع إلى ما قبل القرن الثاني الهجري(1)، وبنظرة في كتب السير وكتب الحديث والفقه والأصول يتأكد لدينا أن القياس قد ظهر منذ عهد النبوة، والواقف على كتب الحديث يجد ما يثبت به هذا الادعاء، فقد أخرج الإمام البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة تحت عنوان باب من شبه أهلا معلوما بأصل.. عن أبي سلمة بن أبي هريرة أن أعرابيا أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود وغني أنكرته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل لك من إبل، قال: نعم. قال: فما ألوانها، قال: حمر. قال: هل فيها من أورق. قال: إن فيها لورقا. قال: فأنى ترى ذلك جاءها. قال يا رسول الله عرق نزعها. قال: ولعل هذا عرق نزعه ولم يرخص له في الانتقاء منه"(2).
وأخرج البخاري في كتاب الحج تحت عنوان باب وجوب الحج وفضله حديثا عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) قال كان الفضل رديف رسول الله-ص- فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليه وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. فقالت يا رسول الله : إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا لا يثبت على الراحلة ففأحج عنه قال: نعم"(3).
وإذا تجاوزنا ما أخرجه البخاري إلى ما أخرجه مسلم فإننا نجد كثيرا من الأحاديث التي تدل على ممارسة النبي-ص- للقياس والتعليل نذكر منها مثالين على سبيل المثال لا الحصر:
1-ما أخرجه مسلم في كتاب البيوع تحت عنوان باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا(4).
__________
(1) - La logique juridique des origines jusqu’à shafii /M. Turki L.V. II Studia Islamica P. 43.
(2) -البخاري بحاشية السندي : 4/264، المجلد الرابع.
(3) -نفسه 1/264. المجلد الأول.
(4) -صحيح مسلم 5/13 المجلد الثالث وما بعدها.(2/131)
2-وما أخرجه من حديث ذكر الفضائل في باب "شفقته على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم"(1).
هذا فضلا عما أخرجه الإمام أحمد في مسنده "عن جابر عبد الله عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: هشهشت يوما فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : صنعت اليوم أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم "قلت لا بأس بذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففيم"(2) ؟
إن الاشتعال بالقياس لم يكن مقصورا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان الصحابة على اتصال وثيق بهذا المصدر، ولهذا فليس صحيحا أن يعتقد أن الصحابة كانوا مجمعين على نفي القياس "فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس فقط خلط.." (3). فكيف يصح هذا الادعاء وعمر يقول: "أقول في الجد برأيي"(4)، وقد كان قبله أبو بكر يقول في الكلالة "أقول فيها برأيي"(5).
وأما ما روى عنهما في ذم الرأي بما تضمنه من قياس، فإنما يعني بالرأي والهوى أو الرأي الباطل في مقابل النص الصريح(6).
وقد سار التابعون على سيرة أسلافهم فأخذوا بالقياس والرأي.
__________
(1) -نفسه 7/63 كتاب أقيسة النبي-ص- عبد الرحمن الأنصاري، ص : 83.
(2) -مسند الإمام أحمد وبهامشه كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، المجلد : 1، ص : 21 باب مسند عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
(3) -الفتاوى : ابن تيمية 19/199-200.
(4) -إحكام الفصول : الباجي 597.
(5) -نفسه 596.
(6) -اجتهاد الرسول-ص- : نادية شريف العمري 306 وإحكام الفصول : الباجي 616.(2/132)
وهكذا إلى أن تسلم الفقهاء هذا المشعل وبالغوا في التمسك بالقياس والرأي(1). وممن اشتهر بالقياس من الفقهاء الفقيه أبو حنيفة، فقد كان يكثر من استعمال القياس "قال أبو عمر الذين رووا عن أبي حنيفة ووثقوه وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس…"(2).
وكان مالك من الفقهاء الذين اعتنوا بهذا الأصل وخرجوا على ضوئه كثيرا من الأحكام وقد صدق ابن رشد لما اعتبر مالكا أمير المؤمنين في الرأي "رحم الله مالك بن أنس فإنه كان أمير المؤمنين في الرأي والآثار وأعرف بالقياس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"(3).
أما الفقيه الشافعي فقد أثر عنه أنه قال: "ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم ما نص في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع أو في القياس على هذه الأصول ما في معناها"(4).
لكن رغم ذلك فالفقيه الظاهري رفض القياس واعتبره بدعة ظهرت إبان القرن الثاني الهجري (حدث القياس في القرن الثاني) فالفقيه الظاهري حرصا منه على ظاهريته رأى أن يبطل القياس بناء على الأدلة التالية:
__________
(1) -إعلام الموقعين : ابن القيم الجوزية 1/205.
(2) -جامع بيان العلم وفضله: ابن عبد البر النمري 2/149.
(3) -مواهب الخليل لشرح مختصر خليل: الخطاب، المجلد : 1، ص : 24.
(4) -جامع بيان العلم وفضله : ابن عبد البر 2/62.(2/133)
ليس في النص القرآني أو الحديث ما يفيد صراحة القياس باطل، قد يوجد في النص ما يمكن أن يتأول ليحمل على القياس، ولهذا فابن حزم من الصعوبة عليه أن يجد نصا ظاهريا يفيد أبطال الرأي والقياس، وكل ما هناك أن ابن حزم مفروض عليه أن يتأول بعض النصوص أو يحمل مضمونا على القياس، ولذلك نجد ابن حزم في هذا المحور كثيرا ما يغالط(1) عند سرده لأدلته وتعليقه عليها. فقد نعت القياس بالظنية ونعته بالخروج عن الدين كما وصفه بالتكلف والزيادة في الشريعة وحمل عليه كل الخصائص التي تحمل على الرأي المذموم. وهذه بعض الخصائص التي تستشف من تعليقات ابن حزم على النصوص القرآنية والحديثية والآثارية:
1-القياس قول في الدين بغير علم:
قال تعالى : "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا"(2).
وقال تعالى : أم كنتم شهداء إذا وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم" (الأنعام:144).
وقال تعالى : "إن هي إلا أسماء أسميتموها أنتم وإباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن" (النجم :23).
2-القياس في مقابل البيان فألهي زيادة في الشريعة:
قال تعالى : "تبيانا لكل شيء (النحل: 89). وقال لرسوله- صلى الله عليه وسلم - "لتبين للناس ما نزل إليهم (النحل:44). وقال تعالى ة:"أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم" (العنكبوت: 51). وأجمع على تصديق قوله تعالى في كمال الشريعة(3).
3- القياس دين لم يأذن به الله:
__________
(1) -مخطوطة مثارات الغلط في الأدلة : التلمساني و 53 وما بعدها. خزانة ابن يوسف رقمها 168، ونسخة أخرى رقمها 481، مجموع نشرها المؤلف سنة 1991.
(2) -الإحكام : ابن حزم 8/9.
(3) -نفسه 8/18-19-38.(2/134)
قال تعالى :أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله"(1) (الشورى: 21). وقال تعالى: "وإن منهم فريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله"
(آل عمران: 78).
4-القياس تعد لحدود الله:
قال تعالى "ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه"(2) (الطلاق: 1)، ويسند عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد وحدودا فلا تغيروها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان لها رحمة بكم فلا تبحثوا عنها".
5-القياس رد إلى غير الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -:
قال تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول.." (النساء: 59) وشرح عطاء بن رباح الآية بقوله : "ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله"(3).
6-القياس افتراء وكذب على الله:
قال تعالى: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب" (النحل: 116).
وقال تعالى: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون"(4) (يوسف : 59).
7-القياس ضرب للأمثال:
وقال تعالى : "فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون" (النحل: 74) عن أبي هريرة من قوله لابن عباس "إذا أتاك الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فلا تضرب له الأمثال.." (5).
8-القياس تسوية بين شيء وآخر:
يسند ابن عمر قال: أن عمر رأى رجلا من آل عطارد قباء من ديباج أو حرير.. فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عمر تسويته بين الملك والبيع والانتفاع وبين اللباس والمنهي، وأنكر على أسامة تسويته بين الملك واللباس أيضا"(6).
9-القياس فتنة :
__________
(1) -نفسه 8/17.
(2) -الإحكام : ابن حزم 8/18.
(3) -نفسه 8/19-34.
(4) -نفسه 8/19-20.
(5) -نفسه 8/20-26.
(6) -نفسه 8/24.(2/135)
يسند عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : :تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلوا الحرام ويحرمون الحلال"(1).
10-القياس شؤم:
يسند إلى محمد بن سيرين قال: "القياس شؤم، أول من قاس إبليس فهلك، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس"(2).
إن استغلال ابن حزم لهذا النصوص بهذا الشكل دعت الفقيه المالكي الباجي مناظر ابن حزم إلى معارضتها بالأدلة التالية:
1-من خصائص القياس الظن:
ليس في قوله: "إن الظن لا يغني من الحق شيئا" (النجم: 28) وقوله "إن تظن إلا ظنا" (الجاثية:32) ما يفيد أن القياس ظن لأن القياس المبني على العلامة لا يلحقه ما يسمى بالظن وحتى ولو دخله الظن فإنه ليس كظن الكفار، وبهذا فالظن الذي تحدثت عنه الآية هو ظن الكفار "إن المراد بالآية ظن الكفار الذي هو من غير إمارة، وليس كذلك الحكم بالقياس، فإنه ظن يتعلق بإمارة كالحكم بشهادة الشاهدين عن ظن عدالتهما"(3).
2-القياس من البيان:
لا يستفاد من قوله: " ما فرطنا في الكتاب من شيء" (الأنعام: 38) و"تبيانا لكل شيء" (النحل: 89) اقتصار الكتاب على البيان أو بمعنى آخر تضمن الكتاب لكل أحكام الحوادث "لأن من الحوادث ما لم يرد فيه نص كالجد والكلالة والحرام والعول…"(4)، ولهذا فلولا القياس "لكنا قد نسبنا إلى الباري تعالى التفريط في الكتاب لأحكام كثيرة لا ذكر لها مثل الصيد المقتول في الحرم وكذلك حكم ثوب طار في وجب صباغ ودينار وقع في محبرة كاتب وإنسان نائم وقع في فمه دينار فابتلعه…"(5).
3-القياس ضرب للأمثال:
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 8/25.
(2) -نفسه 8/32.
(3) -إحكام الفصول الباجي 606-607. انظر كذلك، ص : 574.
(4) -نفسه 616.
(5) -إحكام الفصول الباجي 568-569. انظر كذلك 603-570.(2/136)
ليس هناك ما يمنع من ضرب الأمثال مادام القرآن قد استعمل أنواعا متعددة من ذلك، فقد استعمل النص قياس العلة قوله تعالى: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" (آل عمران: 59)، واستعمل قياس الدلالة كما في قوله تعالى: { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت أن الذي أحياها لمحيي الموتى أنه على كل شيء قدير } (فصلت:39). واستعمل قياس الشبه كقوله تعالى حكاية عن اخوة يوسف { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } (يوسف: 77) (1).
هذا فضلا عن تصريحه الصريح بضرب الأمثال كما في قوله تعالى: { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال } (إبراهيم: 47) "فاحتج عليهم تعالى أن رأوا آثار من قبلهم ممن أصابهم العقاب بمثل فعلهم وجعل ذلك حجة عليهم، ولو لم يكن القياس الحجة القاطعة لم يكن في ذلك توضيح لهم ولا إقامة بحجة عليهم"(2).
4-القياس اجتهاد بالدليل وليس افتراء وكذبا على الله:
لم يسمع الباجي في هذا الاعتراض إلا أن يعكس استدلال الخصم عليه فالتحليل والتحريم والكذب الذي علق بالقياس فهو من خصائص المباح؛ والمباح هو مقصود من قوله تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } (النحل: 116) "إن هذه الآية إنما نهى فيها عن مثل فعلكم في تحريمكم المعفو عنه وتحليله بالهوى والشهوة من غير دليل فأما القياس فإنه لا يحلل ولا يحرم إلا بدليل شرعي فليس بمفتر على الله الكذب"(3).
__________
(1) -انظر أنواع هذه الأقيسة أضواء البيان: الشنقيطي 4/615-624 وإعلام الموقعين 1/133-148.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 572. الأغراض من ضرب الأمثال، الإعلام 1/190.
(3) -نفسه 607(2/137)
والناظر إلى هذين الموقفين يلاحظ، وكأن هناك تعارض بين النصوص، لكن الواقع أن الفقهين قد عارضا بينهما على مذهبيتهما في القواعد اللغوية والشرعية والتأويلية، ويظهر ذلك لو وقفنا على محور التعارض.
أولا: آية الاعتبار:
تعتبر آية الاعتبار قاعدة أساسية في الاستدلال على مصداقية القياس "فاعتبروا يا أولي الأبصار" (الحشر:2)، "هي قاعدتهم بظنهم في القياس"(1)، ولهذا فكل انطلاقه للتحاج حول القياس تنطلق من قوله تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار"، وهي انطلاقة تحتم على الفقيه الأصولي أن يتعامل مع هذه الآية من جانبين مهمين: الأول إثبات لغة أن الاعتبار هو القياس، ومن جهة لأخرى تأويل الآية لتحمل على القياس، وإلا لما كان في الآية ما يدل على القياس، فقد انطلق الباجي من المنطلق الأول، فاعتبر هو القياس "فالاعتبار عند أهل اللغة هو تمثيل الشيء بغيره وإجراء حكمه عليه ومساواته به.." (2)، ولم يكتف الباجي بذلك، بل أثبت هذا المعنى اعتمادا على ما "روى عن تعلب (رحمه الله) أنه فسر قوله تعالى: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" "بأن المراد به القياس وأن الاعتبار هو الحق…"(3)، وإلى هذا التفسير ذهب جل الفقهاء(4) "والاعتبار الشيء بغيره وإجراء حكمه عليه…"(5)، وقد ذكر بعض الصحابة يفسرون الاعتبار بالتمثيل والتسوية والمقايسة "قال ابن عباس في الأسنان: اعتبر حكمها في الأصابع في أن ديتها متساوية. وقال اعتبر بهذا وقولهم أن في عبرة "معناه أن فيه ما يقتضي جمل غيره عليه…"(6)، غير أن الفقيه الظاهري قد رفض هذا التفسير "ولا علم أحد قط في اللغة التي نزل بها القرآن أن الاعتبار هو القياس"(7).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 7/75.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 553.
(3) -نفسه.
(4) -انظر فصل المقال 28-29 ابن رشد –بيان العلم 2/68-شرح البدخشي 3/15-الإبهاج3/9-10-الروض 255.
(5) -المعتمد : حسين البصري 2/223-224.
(6) -نفسه
(7) -الإحكام : ابن حزم 7/75.(2/138)
وابن حزم يتهم القوم باتباع هذه التسمية لأن التسمية لا يعتمد فيها إلا على النص وإقامة البرهان. قال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباكم ما أنزل الله بها من سلطان } (النجم : 23). فأبطل الله تعالى كل تسمية إلا تسمية قام بصحبتها برهان: أما من لغة مسموعة من أهل اللسان وإما منصوصة في القرآن وكلام النبي-ص- وما عدا ذلك فباطل"(1)، وعلى هذا المذهب اعترض ابن حزم على أن كل آيات الاعتبار التي تأولها الفقهاء لحملها على القياس "وزاد بعضهم جنوحا فاحتج في إثبات القياس بقوله الله تعالى: { إن كنتم للرؤيا تعبدون } فال أبو محمد : وهذا من الجنون ما هو لأن العبارة إنما هي في اللغة البيان عن الشيء"(2)، أما الاعتبار فقد فسره ابن حزم بالتعجب "فظهر أن تساوي الأشياء لا يوجب تساوي حكمها وصح أن معنى العبرة التعجب فقط وهذا أمر يدريه النساء والصبيان"(3).
وبناء على هذا التفسير اللغوي يظهر الاختلاف على المستوى التأويلي فالباجي المنتصر للقياس يعطي لآية الاعتبار معنى مقايسة حال أهل الشقاق بحال أهل النظير "فكأنه قال في هذه الآية: اعلموا أنكم إذا صرتم إلى الخلاف والشقاق ساءت حالكم حال بني النضير واستحققتم من العقاب مثل الذي استحقوه"(4).
بينما يرى ابن حزم أن الله أتى على خلاف ما استحسن الكفار والمؤمنون "فنص تعالى كما تسمع على أنه أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وأن المؤمنين لم يظنوا قط ذلك، وأن الكفار لم يستحسنوا قط فثبت بالنص في هذه الآية أن أحكام الله عز وجل جارية على خلاف ما يحسب الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم"(5).
ثانيا-حديث معاذ بن جبل (رضي الله عنه):
__________
(1) -نفسه 7/74-75.
(2) -نفسه 7/78.
(3) -الإحكام ابن حزم : 7/76. إبطال القياس والرأي : ابن حزم، ص : 9.
(4) -إحكام الفصول : الباجي 553.
(5) -الإحكام : ابن حزم 7/76-77.(2/139)
إذا كان الاعتراض السابق يرتكز على التأويل، فإن الاعتراض على الخبر يرتكز بالأساس على الإسناد(1)، ولهذا فليس غريبا أن يحتد النقاش بين الفقيهين حول سند هذا الحديث، وليس غريبا-كذلك- أن يتأثر خبر معاذ بمذهبية في أصول الفقه: فالفقيه المالكي المنافح عن القياس والاجتهاد بالرأي لم يجد بدا في الدفاع عن هذا الخبر"… خبر معاذ (رضي الله عنه) مشهور وتلقته الأئمة والعلماء بالقبول وطريقه العلم... (2) .
بينما اعترض ابن حزم الظاهري على مصداقية هذا الخبر " فإن ذكروا حديث معاذ" أجتهد رأيي ولا آلوا "فإنه حديث باطل.."(3)، وبطلانه يتمثل في "إنه عن قوم مجهولين لم يسموا… وفيه الحارث ابن عمرو وهو مجهول لا يعرف من هو…"(4).
غير أن الباجي المالكي لم يعتبر الجهالة عاملا لرد خبر مشهور ومقبول لدى الأوساط الفقهية"… إنه وإن كان من رواية آحاد أو منقطعا أو مجهول الرواة فإنه خبر تلقته الأمة بالقبول ولم يعترض عليه أحد بالرد والإنكار…"(5) ، وإلى هذا الجواب ذهب الفقهاء "فإن اعترض المخالف بأن قال لا يصح هذا الخبر لأنه لا يروى إلا عن أناس من أهل حمص يسموا فهم مجاهيل فالجواب أن أقول الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ يدل على شهوة الحديث وكثرة رواته، وقد عرف فضل معاذ وزهده والظاهر من حال أصحابه الدين والقفة والزهد والصلاح…."(6).
__________
(1) -لست أريد أن يصل القارئ إلة نتيجة نفيناها في مبحث السنة وهي أن الدراسة الحديثية تركز على الإسناد دون المتن، فابن حزم وإن ركز على نقد الإسناد فقد ركز كذلك على نقد المتن. انظر الأحكام 6/36-112 7/113، أبو زهرة : ابن حزم، ص : 425.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 579- التبصرة : الشيرازي 425.
(3) -النبذة الكافية : ابن حزم 59-60.
(4) -الإحكام : ابن حزم 7/112.
(5) -إحكام الفصول : الباجي 580.
(6) -الفقيه المتفقه : الخطيب البغدادي 1/189. انظر كذلك الإعلام 1/202 والتبصرة 425.(2/140)
إن اعتراض ابن حزم على هذا الخبر لا يقتصر على جهالة رواته وإنما تعداه إلى معارضته بخبر آخر "وقد رواه أيضا أبو إسحاق الشيباني عن أبي عون فخالف فيه شعبه"(1). وقد ذكر الباجي خبرا آخر معارضا لحديث معاذ وأجاب بالاعتراضات التالية:
1-إن رواية عبد الرحمن بن عثمان لا تعارض روايات معاذ بن جبل لأنها ليست في "الانتشار بمثابة روايتنا.." (2).
2-إن السلف قد عملوا بهذا الخبر وتلقوه بالقبول بخلاف رواية عبد الرحمن بن عثمان.
3-إن زيادة الراوي الثقة مقبولة وفي خبر معاذ الحكم باجتهاد الراوي فيجب قبوله والعمل به.
4-إن رواية عبد الرحمن بن عثمان فيها أمر بالكتابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أشكل عليه الحكم ولم يعلم وجها في القياس"(3).
ثالثا: -الإجماع:
استدل الباجي على حجية القياس بإجماع الصحابة على مسائل كثيرة اعتمادا على القياس، ومن ذلك إجماعهم على خلافة أبي بكر قياسا على إمامته في الصلاة "أنهم أجمعوا على إمامة أبي بكر-رضي الله عنه- بالرأي لقيام الدليل على بطلان القول بالنص على جل بعينه"(4).
غير أن ابن حزم استبعد أن يكون ما في تقديم أبي بكر للخلافة ما يدل على القياس، وذلك بناء على الاعتراضات التالية:
-استخلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في غزوة تبوك "فقياس الاستخلاف على الاستخلاف اللذين يدخل فيهما الصلاة والأحكام أولى من قياس الاستخلاف على الصلاة وحدها"(5).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 6/35.
(2) -إحكام الفصول : الباجي 581.
(3) - إحكام الفصول : الباجي 580-581. روى عبد الرحمن بن عثمان عن معاذ بم جبل أن رسول الله –ص- قال حين بعثه إلى اليمن: "إذا جاءك ما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله فاكتبه إلي حتى أكتب إليك بذلك"، إحكام الفصول 580.
(4) -إحكام الفصول : الباجي 585.
(5) -الإحكام : ابن حزم 7/119.(2/141)
-إن خلافة أبي بكر منصوص عليها "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص عليه.. وهذا هو قولنا الذي ندين الله تعالى به"(1).
-إن تقديم المسلمين لأبي بكر إنما يرجع إلى تقديم أفضلهم "وحكم الإمامة أن يكون في الأفضل"(2).
-إن علة الخلافة غير علة الصلاة حتى يمكن قياس الخلافة على الصالة "الخلافة ليست علتها علة الصلاة، لان الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد الذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسير الفاضلة، وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها الأقرشي.. عالم بالسياسة ووجوهها وإنما الصلاة تبع للإمامة وليست الغمامة تبعا للصلاة، فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الإمامة التي هي أصل على الصلاة التي هي فرع من فروع الإمامة ؟ هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس"(3).
5-قوادح التعليل:
__________
(1) -نفسه 7/120 وكذلك 7/128.
(2) -نفسه 7/121.
والملاحظ أن رسالة عمر التي استدل بها مثبتوا القياس قد جرى عليها ما جرى على خبر معاذ، فقد ضعف ابن حزم رجالها. اعتراضات ابن حزم ولا تقتصر على هذه الاعتراضات، بل له اعتراضات أخرى كاعتراضه على القائسين بالتناقض 7/45-52.
(3) -الإحكام : ابن حزم 7/125.(2/142)
بحث علماء الأصول التعليل بحثا معمقا وذلك لما لهذا المبحث من أهمية في الدراسات الأصولية وخاصة مبحثي القياس والمصالح. وقد كان الصحابة وتابعوهم-رضي الله عنهم- قد بحثوا هذا المبحث إلا أنهم بحثوه بطريقة تختلف عن طريق المتأخرين، فطريقة الصحاب والتابعين كانت عملية تعتمد الإشارة إلى العلة انطلاقا من النص واعتمادا على بعض المؤشرات التعليلية الواردة في القرآن والسنة "وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة واللام تارة، وبأن تارة ومجموعهما تارة، وبكي تارة بأجل تارة، وترتيب الجزاء على الشرط تارة، وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة وترتيب الحكم على الوصف المقتضى له تارة، وبلما تارة، وبأن المشددة تارة، وبلعل تارة وبالمفعول له تارة.." (1) ، وهكذا كانت السنة "قد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها، ليدل على ارتباطها بها، وتعديها بتعدي أوصافها وعللها كقوله - صلى الله عليه وسلم -.. إنما جعل الاستئذان من أجل البصر.." (2).
أما طريقة المتأخرين فهي طريقة نظرية(3) أكثر منها عملية تعتمد بيان حد العلة وضوابطها ومسالك العلة وقوادحها:
تعريف العلة:
العلة تأتي لأحد ثلاث معان، قال ابن فارس أحدهما تكرير والآخر عائق يعرق والثالث ضعفه في الشيء، وعلى ذلك اختلفوا فبعضهم قال إنها مأخوذة من العلل وهو الشربة بعد الشربة وبعضهم يقول إنها المغير ومنه سمي المرض علة والمريض عليلا(4).
__________
(1) -إعلام الموقعين : ابن القيم الجوزية 1/197.
(2) -نفسه 1/98.
(3) -تعليل الأحكام : مصطفى شلبي، ص : 12.
(4) -مجلة أضواء الشريعة، ع : 11، ص : 257.
Voir : Etude de philosophie Musulmane du droit Ch. Chehqtq XX III. Studia Islamica P.21.(2/143)
ومنهم من عدها الباعث على الفعل، وعلى أي فإن تعريف العلة لغة يتردد بين المرض والدواعي والتكرر. قال صاحب نشر البنود: "العلة مأخوذة من علة المرض التي تؤثر فيه عادة ومن الدواعي إلى الشيء تقول علة إكرام زيد لعمر عمله"(1).
أما تعريفها في الاصطلاح فقد اختلفوا فيه اختلافا كبيرا، فالمعتزلة تعرف العلة بأنها "ما اقتضى حكما قام به كالعلم علة العالمية"(2).
أما تعريفها عند أهل السنة فإنه من تعريف المالكية بحيث العلة عندهم جميعا هي "الوصف المعرف للحكم يوضع الشارع لعامة عليه"(3).
والملاحظ أن العلة عند المالكية ليست إلا علامة جعلها الشارع للحكم وعليه فأي علة غير معتبرة من قبل الشارع لا تعد علة "والعلة الشرعية لا توجب الحكم في الأصل بنفسها وإنما توجبه بجعل صاحب الشرع لها علة مثال ذلك أن السكر قد كان موجودا في الخمر ولم يدل ذلك على تحريمها حتى جعله صاحب الشرع علة في تحريمها فليست على عن الحقيقة وإنما إمارة الحكم وعلامة عليه"(4).
شروط العلة:
أ-أن تكون العلة وصفا ظاهرا، ومثاله الإسكار فإنه وصف ظاهر في تحريم الخمر بخلاف ما إذا عللنا حكم القصاص بالقتل العمد، العمد وصف خاص بأفعال المكلفين وهو خفي فلا يصح اعتباره وصفا مستقلا، بل لا بد من اعتبار العلة المركبة الدالة على ذلك كالقتل العمد العدواني، ومن هنا لنا فائدة اعتبار المالكية للعلة المركبة كتعليلهم لتحريم الربا بالاقتيات والادخار، وحتى نتصور هذا الشرط بوضوح نضرب مثالا بالبيع، فإن من شروطه التراضي بين الطرفين والتراضي وصف خفي متعلق بالنفوس، وتفاديا لخفائه جعل الشارع له ما يدل عليه فأوجب الإيجاب والقبول.
__________
(1) -نشر البنود : الشنقيطي 2/130.
(2) -نفسه، وليس صحيحا أن تعتبر العلة رابطا بسيطا بين جزئين.
(3) -نفسه.
(4) -مقدمات : ابن رشد، ص : 23.(2/144)
ب-أن تكون العلة وصفا منضبطا معنى ذلك أن الوصف لا ينبغي أن يختلف باختلاف النسب والآفاق والكثرة والقلة، فإن كان كذلك فلا يصح القياس عليه ومثاله السفر، فإن الشرع رخص للمسافر القصر لأجل المشقة، لكن المشقة المعتبرة في القصر غير منضبطة لأنها تتفاوت من شخص لآخر وبين مسافة وأخرى لذلك ضبطها الشرع، إلا أنه قد يتعذر على المجتهد وجود وصف منضبط ففعل المالكية في هذه الحال أن يعللوا الحكم بالحكمة، التي هي جلب المصلحة ودرء المفسدة. قال القرافي:"وحجة الجواز أن الوصف إذا جاز التعليل به فأولى بالحكمة لأنها أصله"(1).
ج-أن تكون العلة وصفا متعديا ومعناه ألا تكون مقصورة على الأصل، فإن كانت كذلك فلا يصح التعدى بها الفرع لانعدام العلة فيه، ومثالها لا يجوز قياس إباحة الإفطار للمشتغل بالأشغال الشاقة، على المريض والمسافر.
مسالك العلة:
إن علماء الأصول لا يكتفون-عند خوضهم في القياس-على مجرد وجود علة جامعة بين الأصل والفرع لا على مجرد تلك الشروط الخاصة بالعلة بل لا بد من قوانين تشعرهم بتحقق وجود جامع بين الأصل والفرع، ولذا اكتشفوا طرقا تدل من الشارع أو من المجتهد على اعتبار العلة(2).
1-النص:
وهو قسمان: الصريح وغير الصريح
الصريح وهو الذي لا يحتمل غير العلة وهو مراتب:
-المرتبة الأولى: أن يقال: افعل كذا العلة كذا، فهذه المرتبة أظهر مرتبة من حيث الوضوح بحيث أوردها الشاعر على صيغة العلة.
-المرتبة الثانية: أن يقال: افعل كذا السبب كذا.
-المرتبة الثانية: أن يقال من اجل كذا قوله تعالى: { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } (المائدة:32).
-المرتبة الرابعة: أن يقال: كذا لأجل كذا كقوله عليه السلام: "إنما جعل الاستئذان لأجل البصر".
-المرتبة الخامسة: أن يعلل الحكم بكي كقوله تعالى: "كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم" (الحشر:7).
__________
(1) -شرح التنقيح : القرافي 406.
(2) -مناهج البحث عند مفكري الإسلام : النشار، ص : 96.(2/145)
ب-الإجماع:
"وهو أن يثبت كون الوصف علة في الأصل بالإجماع"(1).
ومثاله أولا: إجماعهم على ثبوت الولاية على مال الصغير (يقاس عليها الولاية في الزواج).
ومثاله ثانيا: إذا كان للمرأة إخوان أحدهما شقيق والثاني أخ للأب فمن إذن يكون أولى بعقد النكاح عليها الأخ الشقيق أم الأخ للأب ؟ اختار ابن القاسم تقديم الأخ الشقيق لأن مزيد القرابة من جهة الأم له تأثير في الميراث بالإجماع فوجب أن يكون كذلك في النكاح بالقياس عليه.
ج-الإيماء:
وهو اقتران الوصف بالموصوف كقوله تعالى: { السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } (المائدة:38). وكذلك "الزانية والزاني فأجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" (النور:2) فالعلة في المثال الأول السرقة وفي المثال الثاني الزنا.
ويلاحظ أن للإيماء أنواع:
الأول: حكم الشارع بعد سماع وصف كما في حديث الأعرابي الذي أتى النبي-ص- قائلا: "واقعت أهلي نهار رمضان فقال له - صلى الله عليه وسلم -: اعتق رقبة "فذكر الأعرابي للوقاع نهار رمضان يدل على أنه علة الحكم الذي أصدره النبي- صلى الله عليه وسلم - والوقاع علة مقدرة(2).
الثاني : تفريق الشارع بين حكمين بالشرط:
ومثاله حديث مسلم "الذهب بالذهب والفضة بالفضة… مثلا بمثل سواء سواء بسواء يدا بيد، فإن اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إن كان يدا بيد "والتمييز بيم منع البيع في هذه الأشياء متفاضلا وبيم جوازه عند اختلاف الجنس ولو لم يكن لعلة الاختلاف لجاز.
الثالث: أن يفرق بين حكم اثنين بالغاية ومثاله:
قوله تعالى : { فلا تقربوهن حتى يطهرن } . "فإن طهرن فلا مانع من قربانهن فالتفرق بين المنع من قربانهن في الحيض وجوازه في الطهر لو لم يكن لعلة لكان بعيدا"(3).
د-السبر والتقسيم:
__________
(1) -بناء الفروع على الأصول : التلمساني، ص : 148.
(2) -علم أصول الفقه : عبد الوهاب خلاف، ص : 76.
(3) -نشر البنود : الشنقيطي 2/162-163.(2/146)
يقول العرب هذه القضية لا يسبر غورها إلا العقل، أي أن العقل هو الذي يختبرها فيكون معنى السبر لغة الاختبار، أما التقسيم فدلالته اللغوية تنحصر في الافتراق.
ومن المفيد ونحن بصدد الحديث عن هذا المسلك أن نتعرض لملاحظتين:
الملاحظة الأولى: أن الأصل في عبارة هذا المسلك أن نقول التقسيم والسبر لأن وظيفة كل منهما تقتضي ذلك، فوظيفة التقسيم هي جمع الأوصاف دون النظر فيها، بينما وظيفة السبر أن ينظر المجتهد في هذه الأوصاف بعين الاختبار فيعين وصفا من هذه الأوصاف صالحا لربط الحكم به "كأن بحصر أوصاف البر في قياس الذرة عليه في كل من الاقتيات من الأذكار من الطعم والكيل ومن المالية وغير ذلك فيبطل ما عدا الاقتيات مع الادخار بعدم الاطراد وهو وجودها مع عدم انتفاء الحكم الذي هو ربوية الفضل فيتعين الاقتيات والادخار لعلية ربا الفضل"(1).
الملاحظة الثانية: أن وظيفة السبر والتقسيم في نظر بعض الأصوليين لا تختلف عن وظيفة تنقيح المناط وتخريج المناط قال العسكفي: "تنقيح المناط على تعيين على من أوصاف مذكورة وتخريج المناط هو استخراجها من أوصاف غير مذكورة"(2).
ومثال الثاني: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع البر بالبر مثلا بمثل يدا بيد ولم يذكر العلة هل هي الاقتيات أو الادخار أو الكيل أو الطعم أو المالية.
__________
(1) -نفسه 2/165.
(2) -شرح التنقيح : القرافي 389.(2/147)
فهذه الأوصاف استخرجها المجتهدون وعينوا واحدا منها كل حسب ظنه وهذا معنى تخريج المناط، فالفرق إذن بينه وبين تنفيح المناط هو أن هذا الأخير ذكرت أوصافه وعلى المجتهد تعيين واحد من بينها، بينما الثاني لم يذكر فيه الأوصاف، فكانت عملية المجتهد مزدوجة، استخراج الأوصاف ثم تعيين واحد منها، إلا أن العسكفي والغزالي على طرفي نقيص، فالغزالي في معرضه حديثه عن تنقيح المناط المناط يذكر أنه إلغاء للفارق "كما تقول لا فارق بين الصفة وبيع الرؤية إلا الرؤية"(1).
ومهما يكن من أمر فإن السبر والتقسيم في وظيفته يشمل عمل كل من تنقيح المناط وتخريج المناط، إذ به نتمكن من استخراج الأوصاف غير مذكورة كما مثلنا لذلك عند معرض حديثنا عن قياس الذرة على البر (وهذا يسمى بتخريج المناط عند العسكفي) كما نتمكن به من تعيين وصف من ين أوصاف متعددة مذكورة وقد مثلنا له بحديث الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان (وهذا ما يسمى بتنقيح المناط).
هـ-الوصف المناسب:
المناسبة معناها لغة الملائمة أي الموافقة وتسمى بالإخالة أي الظن ومن المالكية من أسماها بتخريج المناط خلافا للسبكي الذي أسماه بالمناسب ولعل الاختلاف بين ابن الحاجب والسبكي اختلاف اسمي فقط، بحيث إن بكل من تخريج المناط والمناسبة يستطيع المجتهد تعيين الوصف المناسب للحكم "وذلك بإبداء مناسبة بين العلة والحكم مع الاقتران بينهما في دليل حكم الأصل مع السلامة للوصف المعين من القوادح العلية"(2).فمثلا حديث مسلم "كل مسكر حرام" فالإسكار مناط للحكم، وزوال العقل المطلوب حفظه وصف مناسب للحرمة.
أما معناه في الاصطلاح فقد ذكر الشنقيطي المالكي أنه "الوصف المناسب الذي تضمن ترتب-أي استلزام-الحكم عليه ما اعتنى به الشارع في شرع الأحكام من حكمة لحصول مصلحة ودفع مفسدة"(3).
__________
(1) - شرح التنقيح : القرافي 388 .
(2) -نشر البنود : الشنقيطي 2/171.
(3) -نشر البنود : الشنقيطي 2/173.(2/148)
كما عرفه القرافي بأنه " ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة"(1).
يلاحظ انطلاقا من هذه التعاريف أن المالكية متفقون على اعتبار المناسب ما التزم مصلحة، وهذا ليس بغريب عن المالكية، فما تنصيبهم للوصف المناسب دليلا على علة القياس إلا دليلا على رعاية المصالح، وحتى نلمس ذلك نلقي الأضواء على العلة من حيث اعتبار الشارع لها أو عدم اعتباره لها.
المناسب قسمان:
قسم نص الشارع على اعتباره
وقسم لم ينص الشارع على اعتباره.
ما نص الشارع على اعتباره يمكن تقسيمه إلى قسمين:
1-المناسب المؤثر: "وهو الذي يكون عينه معتبرا في عين الحكم"(2)، كقوله تعالى: "السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" (المائدة/38)، فإن علة عين السرقة معتبر في عين القطع، هذا من جهة النص، أما الإجماع، تعليلهم ولاية المال على الصغير بالصغير.
2-مناسب ملائم "وهو الذي يعتبر عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم إن جنسه في جنس الحكم"(3).
المثال الأول: الصغر وصف مناسب لثبوت ولاية الأب في تزويج ابنته البكرة الصغيرة، والصغر في الولاية على مال الصغير ثبت بالإجماع إلا أن ثبوت ولاية الأب على تزويج ابنته الصغيرة البكر لم ينص عليه بنص أو إجماع، ولكن لما كان جنس الولاية على النفس ملائم للولاية على التزويج صح قياس أحدهما على الآخر بدعوى أن جنسهما واحد.
__________
(1) -شرح التنقيح : القرافي، ص : 391.
(2) -بناء الفروع على الأصول : التلمساني، ص : 149.
(3) -نفسه 388.(2/149)
المثال الثاني: الجمع بين الصلاتين في وقت واحد حال المطر مع عدم الدلالة على أن علة الإباحة هي المطر لما روى عن أنس بن مالك قال: "كتن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس آخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما". "فالسفر إذن حسب الحديث هو علة الإباحة في الجمع بين الصلاتين". وبما أن السفر والمطر نوعان من جنس واحد وهو ما يوجب التيسير فاعتبار الشارع السفر مبيحا بالجمع بين الصلاتين يدل على اعتبار ما هو من جنسه وهو المطر، مبيحا للجمع بين الصلاتين"(1).
المثال الثالث: "تعليل القصاص في الأطراف بالجناية التي هي معتبرة في القصاص في النفس بالإجماع فإن جنس الجناية معتبر في القصاص"(2).
ما لم ينص الشارع على اعتباره وهو قسمان:
1-المناسب الغريب: "وهو ما يثبت الحكم على وفقه في صورة من الصور"(3)، ومثاله فتوى يحيى الليثي لسلطان الأندلس عبد الرحمان الداخل حيث جامع جاريته في نهار رمضان، وندم على فعله هذا فطلب الليث لأن يستفتيه فأفتاه بصيام شهرين متتابعين، فهذا الحكم ملغى لأن النص يخيره- بدون تمييز بين ملك أو غيره-بين العتق أو الإطعام أو الصيام عند من يعتدون بالاختيار والأخذ عند من يأخذون بالترتيب.
2-المناسب المرسل: وهو الذي لم ينص الشارع على إلغائه ولا اعتبار لذلك عد مرسلا ويسمى بالاستصلاح كما يسمى بالمصالح المرسلة. ومن أمثلته
÷ ÷ ÷ ÷
وهدم جار مسجد للضيق
جمع الصحابة للقرآن
(4)وتولية الصديق للفاروق
قوادح العلة:
__________
(1) -مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه : عبد الوهاب خلاف، ص : 54.
(2) -بناء الفروع على الأصول: التلمساني، ص : 149.
(3) -بناء الفروع على الأصول: التلمساني، ص 159.
(4) -نشر البنود: الشنقيطي 2/190.(2/150)
هي عبارة عن مجموع "الاعتراضات الواردة على قياس العلة"(1)، وهي اعتراضات تدخل ضمن فن الجدل وآداب البحث "وأصل هذا المبحث من فن الجدل"(2)، ولهذا رأى بعض الفقهاء إخراجه من علم أصول الفقه على الرغم من ذلك هو مبحث بفرض نفسه داخل علم الأصول لأن مبنى هذا العلم قائم على التدافع والتنافي سواء بالأشكال المعروفة في هذا المبحث من الاعتراض على العلة بالاستفسار وفساد الاعتبار وفساد الوضع…(3) أو غيرها من الاعتراضات التي تكون تدافعا بين فقيه وآخر.
والشكل الأول وهو ما درج عليه جل الفقهاء باستثناء ابن حزم، فقد اكتفى ببعض الاعتراضات على بعض أدلة الخصوم دون البحث في قوادح العلة.
إن الاعتراضات الفقهاء على التعليل لا يعني ككل بل إنهم يعترضون على العلة قصد تهذيبها وتنقيحها، ولهذا وجدنا الفقهاء يثبتون العلة مرة وينفونها مرة أخرى، ونفيهم لها لا يعني إلا نفي التعليل الفاسد، أما التعليل الصحيح فيثبتونه ويبرهنون عليه،وهكذا برهن الباجي على التعليل بالأدلة التالية:
1-هناك نصوص يستفاد منها التعليل كقوله تعالى: "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم" (الحشر/7) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما نهيتكم لأجل الدافة"(4).
2-إذا كان جائزا تعليق الحكم على الأسماء والأعيان، فمن الممكن تعليق الحكم على العلة"(5).
3-نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التفاضل في البر لمعنى الطعم والاقتيات وكان بمنزلة أن يقول: "حرمت عليكم التفاضل في البر لأنه مطعوم مقتات"(6).
4-إن علل القياس علل شرعية مبينة على ما بنيت عليه أصول الشريعة ودلت عليه النصوص(7).
__________
(1) -الإحكام : الآمدي 3/141
(2) -مذكرة في أصول الفقه : الشنقيطي 284.
(3) -ابن حزم يعترض على العلة بعدم الاطراد
(4) -إحكام الفصول: الباجي 537.
(5) -نفسه 538.
(6) -نفسه 541 وانظر كذلك، ص : 618.
(7) -نفسه 545-546.(2/151)
5-لما كانت العلل العقلية مؤثرة في أحكامها ولدت العلل الشرعية على ذلك(1).
أما ابن حزم فقد برهن على بطلان التعليل بالأدلة التالية:
1-أخبر الله تعالى أن البحث من علة مرادة ضلال "وليقول الذين قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء"(2) (البقرة/26).
2-إن الله هو المتكفل لعلة مراده، قال تعالى: { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } (3).
3-إن خطأ إبليس ناشيء عن تعليل أوامر به. قال تعالى حاكيا عن إبليس { أنا خبر منه خلقتني من نار وخلقته من طين } (4) (الأعراف/12).
4-إن الله قد حرم التقول في الدين بناء على نفي التعليل. قال تعالى "وأما الذين كفروا سيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا"(5).
5-إن العلل التي يقول بها أصحاب القياس ما قال بها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم" وإنما هو أمر حدث في أصحاب الشافعي وأتبعهم عليه أصحاب أبي حنيفة ثم تلاهم فيه أصحاب مالك"(6).
6-اختلاف الفقهاء في طرد العلة دليل على فسادها وبطلانها "فقد طرد الشافعي علة الأكل في الربا، ومنع أوب حنيفة ومالك من ذلك، وطرد أوب حنيفة علة الوزن والكيل، ومنع مالك والشافعي من ذلك، وطرد مالك علة الادخار والأكل ومنع أبو حنيفة الشافعي من ذلك"(7).
ولعل الناظر إلى هذا التدافع بين متبني القياس ونفاته يدرك أن الفقيه الظاهرين إما نفى التعليل لإثبات الأغراض التالية:
__________
(1) -نفسه 547.
(2) -الإحكام : ابن حزم 8/112.
(3) -نفسه.
(4) -الإحكام : ابن حزم 8/113.
(5) - نفسه 8/114.
(6) -نفسه 7/117.
(7) -نفسه 8/6.(2/152)
أولا: الحفاظ على الظاهر: لأن التعليل والظاهر لا ينسجمان، فالأول يقصد إلى البحث في المعنى المقصدي، بينما الثاني يبقى مع اللفظ "أصحاب الرأي والقياس وحملوا معاني النصوص فوق ما حملها الشارع، وأصحاب الألفاظ الظواهر قصروا معانيها عن مراده، فأولئك قالوا إذا وضعت قطرة من دم في البحر فالقياس أنه ينجس… وهؤلاء قالوا: إذا بال جرة من بول وصبها في الماء لم تنجسه/ وإذا بال في الماء نفسه وأو أدنى شيء نجسه.." (1).
ثانيا: الحفاظ على القطعية: إن الطرق التي تستخرج بها العلل ظنية وذلك كالطرد والتقسيم والسبر والدوران وغيرها من المسالك، بل منها ما هو قطعي كالعلة المستخرجة اعتمادا على النص والإجماع.
ثالثا: الحفاظ على المعتمد(2): قد استدل ابن حزم على بطلان التعليل بقوله تعالى: :لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"، ظنا أن التعليل يمس الكمال الإلهي والحق أن التعليل الشرعي ليس فيه ما يدل على هذا الادعاء "فالفارق كبير بين علة النصوص الشرعية وعلة أفعال الله"(3)، والفارق يتسع بين ابن حزم والباجي إذا ما علمنا أن العلة عند الفقيه المالكي ليست إلا عالمة، فانتفى بذلك ما يسمى بنقض الكمال الإلهي "إن القول بالعلامة ناتج عن اتجاه عقائدي عند المتكلمين، فقد أطلق متكلموا الأشاعرة على العلة العلامة حتى يرفعوا عن العلة التأثير اتباعا لما يعتقدونه من أنه "لا فاعل إلا الله" وأنه علة ولا معلول عندهم…"(4)
__________
(1) -الاتجاهات الفقهية : محمود عبد المجيد، ص : 331. إعلام الموقعين 1/228 أضواء البيان، ص : 648. المناظرات في أصول الشريعة 319.
(2) -الإحكام : ابن حزم 8/120.
(3) -ابن حزم : أبو زهرة 437.
(4) -نظرية القياس الأصولي: سليمان داود 366. الأشاعرة ينفون التعليل في العقيدة ويثبتونه في الشريعة. انظر التعليل: شلبي، ص: 98.
المالكية يسمون العلة علامة وذلك حتى يتمكنون من:
1-ادعاء صحة العلة الواقفة 4-صحة تعليل الأصل بعلتين.
2-صحة تعليل الأصل بعينه 5-النفي يكون علة
3-صحة اختلاف العلامات 6-جعل الاسم علة(2/153)
.
في الختام لا يسعني إلا تسجيل الملاحظات التالية:
أولا: إن الاعتراض والاستدلال في هذا المبحث تأسس على:
أ-التأويل: لأنه ليس في القرآن أو السنة ما يدل على القياس فيبقى التأويل هو المصدر الأساس لإثبات أو نفي هذا المبحث، فالباجي وابن حزم اعتمدا هذا المبدأ ولكن اختلفا في استعمالهما له، فابن حزم يظهر من تأويله أنه يغالط(1)، بينما الباجي يؤول في إطار معقول ومشروع.
ب-التناقض: فقد اعتمد ابن حزم على بيان التناقضات المالكية مبحث القياس والتعليل وإن كان الباجي لا يعتمد هذا المبدأ بكثرة(2).
ثانيا: إننا في دراستنا للقياس لم نرد الوقوف على جميع الاستدلالات والاعتراضات ولكن حاولنا إن تكتفي بإعطاء عناوين تجمع هذه الأدلة جميعها والاكتفاء بواحد منها إذا كان هناك ما يجمع بينهما.
ثالثا: إن دراسة ابن حزم للقياس لم تخرج عن ظاهرة النفي والإثبات، فهي إما ناف ينفي وإما مثبت لدعوى وهذا ما جعل مبحث القياس عنده يتسم بالبساطة، وتظهر بساطته لما اعترض على التعليل، والتعليل عند الفقهاء اتخذ طابعا جداليا عميقا واصطلحوا عليه بالقوادح وهذا ما لا نجده عند ابن حزم.
رابعا: إن ابن حزم يقول بالأدلة الواقفة، ولكن ينفي الانتقال والتعدي من الأصل إلى الفرع وهذا يرجع إلى أن جميع النصوص أصول وليس هناك ما يسمى فرعا.
خامسا: إن نفي ابن حزم للقياس والرأي عامة دعته للأخذ بالدليل واستصحاب الحال وأقل ما قيل قصد توسيع أدلته(3).
سادسا: نفيه للتعليل دعاه لنفي كل ماله صلة بالتعليل كالاشتقاق(4).
__________
(1) -انظر مغالطات ابن حزم: استشهاده بآية "لا يسأل عما يفعل" والحق أن الآية بمعزل عن الموضوع فوضعها هنا مغالطة " التعليل: شلبي 102.
انظر كذلك تأويلات ابن حزم 8/90-11-112. قارن بتأويلات الباجي، ص : 553-566-572-580-611. إحكام الفصول
انظر كذلك تأويلات ابن حزم 7/3-200, 8/3-42.
(2) -الأحكام : ابن حزم. تناقضات التعليل 8/114-120. وتناقضات القياس 8/43-75.
(3) -الأحكام : ابن حزم. تناقضات التعليل 5/105.
(4) -نقض المنطق : ابن تيمية، ص : 18.(2/154)
الفصل الرابع:منهج المناظرة
"إذا كنت ناقلا فالصحة أو مدعيا فالدليل"
........................................منلا حنفي
محتوى الفصل الرابع
-مقدمة
-هيكل المناظرة
I-الدعوى
II-الدليل
III-الاعتراض
كيفية الاعتراض في المناظرة العقلية
-المنع (المناقضة)
-النقض
-المعارضة
كيفية الاعتراض في المناظرة الشرعية
أولا-كيفية الاعتراض على الكتاب
ثانيا-كيفية الاعتراض على السنة
ثالثا-كيفية الاعتراض على القياس
شروط المناظرة وآدابها.(2/155)
هيكل المناظرة
لم يكن علم أصول الفقه قاصرا على إنتاج المادة الأصولية وكفى، بل تعداها إلى إنتاج وصوغ مادة جدالية كثيرة يمكن إظهارها من خلال وقوفنا على الهيكل العام للمناظرة:
I-الدعوى:
لم يفرد علماء المناظرة والبحث تعريفا للدعوى، وكل ما هناك أن في عباراتهم ما يفيد إطلاق الدعوى على الاعتقاد، ولعل ذلك راجع إلى أن الاعتقاد نفسه هو تشبث الناظر بقضايا قد تحتمل الكذب والصدق "الاعتقاد هو استقرار حكم ما في النفس وقد يكون حقا ويكن باطلا…"(2).
وعلماء الأصول إن لم يعتنوا بتعريف الدعوى، فقد اعتنوا ببعض المسائل التي تقتضي أن تنعت بالدعوى وتحدثوا عن ما يستدعي تسميتها بالدعوى.
القسم الأول: أسموه بمجالات المناظرة
القسم الثاني: أسموه بالشروط التي تستدعي المناظرة.
القسم الأول: مجالات المناظرة
ليس كل موضوع قابل للمناظرة، بل هناك مواضيع مجالا للمناظرة ومن جملتها :
-المفردات : وهي كل ما انتسب إلى عالم التصورات وتشمل الاسم والفعل والحرف كما تشمل الجدل (التعريف) والمركب الإضافي التقييدي وغير التقييدي(3).
__________
(2) -رسائل ابن حزم 4/413.
(3) -المستصفى : الغزالي 1/11.(/)
-الجمل الإنشائية: وهي "الكلام الذي لا يحتمل الصدق والكذب لذاته" وتشمل الأوامر والاستفهام والتمني والنداء…(1).
إن هذين العنصرين لا يدخلهما التناظر إلا من جهتين: فالمفردات تكون محلا للتناظر من جهة غموض مفرداتها أو من جهة إخلالها بشروط حدودها.
أما الجملة الإنشائية، فبدورها تستدعي كلما استلزمت أسلوبا خبريا(2)،
أو ادعاء نقليا(3).
والدعوى التناظرية لا تقتصر على هذين الجانبين بل تظهر في كل القضايا التي يلتزم صاحبها بشروط معينة كالشروط الحدية أو الشروط التقسيمية أو الشرط الخبرية.
1-شروط التعريفات:
يقسم علماء البحث التعريف إلى أربعة أقسام:
-التعريف اللفظي: وهو عبارة عن تعريف لفظ بلفظ آخر أظهر منه عند سامعه(4).
-التعريف التنبيهي: ومعناه إحضار معنى في ذهن المخاطب كان معلوما عنده من قبل بالحد والرسم(5).
-التعريف الحقيقي: ومعناه تعريف ماهية الشيء وحقيقته التي لها وجود في "الما صدق" بالحد والرسم(6).
-التعريف الاسمي: وهو تعريف ماهية وهمية لا يعلم وجودها في "الما صدق"(7).
واشترطوا في التعريف اللفظي والتنبيهي أربعة شروط تستدعي الدعوى والتناظر وهي:
أ-أن يكون تعريفه جامعا.
ب-أن يكون تعريفه مانعا.
ج-أن يكون تعريفه غير جامع بين النقيضين
د-أن يكون تعريفه أظهر عند السامع من المعرف(8).
أما شروط التعريف الاسمي، فيمكن إجمالها في أربعة شروط:
__________
(1) -آداب البحث : منلا حنفي، ص : 7، وعلم المعاني : عبد العزيز عتيق، 74.
(2) -علم المعاني: عبد العزيز عتيق، 75.
(3) -آداب البحث : منلا حنفي، ص : 7.
(4) -منطق العرب من وجهة نظر المنطق الحديث، عادل فخوري 62.
(5) -آداب البحث والمناظرة: الشنقيطي، القسم II ، ص : 21.
(6) -ضوابط المعرفة : حنبكة الميداني، 385 بتصرف.
(7) -منطق العرب : عادل فخوري، بتصرف، ص : 60-61.
(8) -وهي نفس شروط المناطقة. انظر المنطق : العلامة الزنجاري، ص : 23.(2/156)
أ-أن يكون التعريف الاسمي والحقيقي خاليا من الأخطاء اللفظية
ب-أن يخلو التعريف الاسمي والحقيقي من لفظ مجازى غير مقترن بقرينة تدل عليه.
ج-أن يخلو التعريف الاسمي والحقيقي منم لفظ مشترك غير مقترن بقرينة تدل على مراده.
د-أن يخلو التعريف الاسمي والحقيقي من لفظ غريب ظاهر(1).
2-شروط التقسيمات:
قسم علماء البحث والمناظرة التقسيم إلى نوعين:
النوع الأول: تقسيم الكل إلى أجزائه
النوع الثاني: تقسيم الكلي إلى جزئياته(2).
وعرفوا الأول بأنه "تحصيل الحقيقة المركبة بذكر جميع أجزائها التي تتركب منها"(3)، واشترطوا في هذا النوع شرطان أساسيان:
أ-أن يكون التقسيم جامعا لكل أجزاء المقسم ومانعا من دخول أي جزء ليس منه.
ب-أن يكون كل قسم من أقسام المعرف مباينا لغيره من الأقسام، كما يشترط في هذه الأقسام وباجتماعها تشكل وحدة المقسم.
وعرفوا الثاني بأنه "ضم قيود متباينة أو متخالفة إلى المقسم لتحصيل أقسام متباينة أو متخالفة بعدد تلك القيود…"(4).
ويشترط في هذا النوع ثلاثة شروط:
أ-أن يكون التقسيم جامعا مانعا.
ب-أن يكون كل قسم غير مساو للمقسم ولا أعم منه ولا مغايرا له ولا أعم منه ولا أخص منه من وجه.
ج-أن يكون كب قسم غير مساو لغيره من الأقسام وإلا بينهما عموم وخصوص(5).
ثالثا : شروط التصديق(6).
التصديق هو "كل مركب تام يحتمل الصدق والكذب لذاته"(7)، والتصديق ينقسم إلى قسمين: "تصديق بديهي وتصديق نظري".
__________
(1) -آداب البحث والمناظرة : الشنقيطي، القسم II ، ص : 24.
(2) -ضوابط المعرفة : حنبكة الميداني 395.
(3) -آداب البحث والمناظرة : الشنقيطي 7.
(4) -ضوابط المعرفة: حنبكة الميدانني 397. أنظر منطق أرسطو: بنشر عبد الرحمن بدوي 3/1061.
(5) - ضوابط المعرفة: حنبكة الميداني، ص: 397.
(6) - وهي الأقوال الخبرية، كما يسميها الأستاذ طه عبد الرحمن. أنظر أصول الحوار 81.
(7) - ضوابط المعرفة: حنبكة الميداني 411.(2/157)
الأول: التصديق البديهي: وهو كل خبر غبر محتاج إلى نظر واستدلال. وهو ينقسم إلى قسمين: قسم لا يعتبر مجالا للمناظرة، وقسم يعتبر مجالا للمناظرة.
أما عن القسم الثاني الذي لا يحتاج إلى نظر فهو بدوره ينقسم إلى خمسة أقسام:
أ-التصديق البديهي الأولي: وعرفه الغزالي "بالعقليات المحضة التي أفضى ذات العقل بمجرده إليها من غير استعانة بحس أو تخيل مجبل على التصديق بها..."(1).
ب-التصديق البديهي الفطري: هو قضية حكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها أو عدم ثبوتها له بعد تصورها بواسطة قياس نظري طبيعي..(2).
ج-التصديق البديهي التجريبي: هو كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع بوساطة التجريب، وقد عبر عنها الغزالي "باطراد العادات"(3).
د-التصديق البديهي الحسي: هو كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع اعتمادا على إدراك الحواس الظاهرة(4).
هـ-التصديق البديهي الوجداني: وهو كل قضية بحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع اعتمادا على الإدراك الباطني، وقد سماها الغزالي بالمشاهدات الباطنية ومثل لها "بعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وجميع الأحوال الباطنية"(5).
أما القسم الذي يعتبر محلا للمناظرة، فينقسم إلى قسمين :
أ-التصديق الخفي الحدسي: وهو كل قضية يحكم فيها العقل بنسبة المحمول للموضوع استنادا إلى الحدس(6).
ب-التصديق الخفي المتواتر: وهو كل قضية حكم العقل فيها بنسبة المحمول للموضوع اعتمادا على أخبار جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب(7).
__________
(1) - المستصفى: الغزالي 1/44.
(2) - ضوابط المعرفة: الميداني، بتصرف، ص: 463.
(3) -المستصفى: الغزالي 1/45 هناك تعريف آخر: ضوابط المعرفة، ص: 414.
(4) - آداب البحث والمناظرة: الشنقيطي، القسم2، ص:33 بتصرف.
(5) - المستصفى: الغزالي 1/45.
(6) - ضوابط المعرفة: الميداني 415.
(7) - آداب البحث والمناظرة: الشنقيطي، القسم2، ص: 35 والمستصفى 1/46.(2/158)
الثاني: التصديق النظري: وهو ما يحتاج في إدراكه إلى تأمل وضابطه عند أهل هذا الفن هو كل قضية لا يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها إلا بعد النظر فيها والاستدلال عليها(1).
ومعلوم أن هذا النوع هو الذي يعتبر المجال الحقيقي للتناظر، فقد لا يسلم بحقيقته المعارض إلا بعد الاقتناع بدليله ومقدماته، وعليه فقبوله للتناظر يأتيه من جهة ادعائين:
الادعاء الأول: يتمثل في النقل.
والادعاء الثاني: يتمثل في النسبة الخبرية بين الوصف والموصوف(2).
أما شرطه فيتمثل في :
أ-صحة النقل (3).
ب-صحة النسبة بين الوصف والموصوف.
وختاما، نلاحظ أننا لم نشر إلى الدعوى الشرعية، فالادعاء الشرعي لم يقتصر على هذه الأقسام –التعريفات والتقسيمات والتصديقات-؛ بل يتعداها إلى ادعاءات هي من صميم موضوع المناظرة الشرعية وذلك كأن يدعي المناظر الأصولي:
-أن للأمر صيغة.
-أن الأمر يحمل على الوجوب.
-أن الأمر يحمل على الفور.
-أن الأمر يحمل على العموم.
-أن خطاب الذكور يشمل الإناث.
-أن خطاب الأحرار خطاب للعبيد…(4).
II-الدليل:
الدليل هو "المرشد إلى المطلوب"(5) ويشتق منه الدال وهو "المعرف بحقيقة الشيء"(6) وقد قيل الدليل والدال بمعنى واحد "وقد يسمى الدليل دالا"(7). والمستدل هو "الطالب للدليل"(8)، وهذا المعنى يقع من السائل لأنه يعترض المسؤول بالمطالبة، ويقع من المسؤول لطلبه الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس…
__________
(1) - آداب البحث والمناظرة: الشنقيطي، القسم2، ص: 35.
(2) - المستصفى: الغزالي 1/11.
(3) - متن الآداب العضدية، ص: 1 وحاشيتها، ص: 7.
(4) - أنظر الإحكام: ابن حزم، وإحكام الفصول: الباجي. وقد أشرنا إلى هذا في مبحث التطبيقات.
(5) - الفقيه والمتفقه: الخطيب البغدادي 2/23.
(6) - رسائل ابن حزم 4/413.
(7) - الإحكام: ابن حزم 1/39 والفقيه والمتفقه 2/23.
(8) - كتاب الحدود: الباجي، تحقيق نزيه حماد، ص: 40.(2/159)
والاستدلال هو "طلب الدلالة وقد يكون ذلك بالنظر والرؤية وقد يكون بالسؤال"(1).
والدليل عند علماء الكلام هو ما أفضى إلى يقين أما الدليل المفضي إلى الظن، فليس بدليل وإنما هو أمارة وإلى هذا المعنى ذهب الفارابي "العلم لا يحصل إلا ببرهان"(2).
أما الفقهاء فأغلبيتهم ينعتون "الدليل الظني والقطعي"(3). بالدليل، ولهذا فالأدلة عندهم تنحصر في: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والمصالح والعلم…
ولهذه الأدلة شروط وترتيب خاص نشير إليهما:(4).
أنواع الأدلة وشروطها:
1-الكتاب:
مصدر الأدلة النقلية والعقلية، يشترط في الاحتجاج به الشروط التالية:
أ-يشترط فيه التواتر "فإن لم يكن متواترا لم يكن قرآنا"(5).
ب-يشترط فيه وضوح الدلالة ووضوح الدلالة النصية تخضع لتراتيب تتمثل في: تقديم المنطوق على المفهوم وتقديم النص على الظاهر وتقديم البيان على الإجمال..
ج-ويشترط فيه أن يكون مستمر الأحكام أي ألا يكون منسوخا.
د-ويشترط فيه أن يكون راجحا لا مرجوحا، وذلك اعتمادا على سنده
أو على دلالته(6).
2-السنة:
الدليل النقلي الثاني بعد الكتاب، ويشترط في الاحتجاج بها ما يشترط في الكتاب، وإن كان هناك تخلف –أحيانا- للشرط الأول، فقد يستدل بها وإن بم تكن متواترة ولهذا فليس التواتر شرطا في الاستدلال بها ولكن يشترط في السنة كخبر واحد صحة الإسناد، ولصحته ينبغي توافر الشرطين التاليين:
أ-أن يكون سند الخبر الواحد مقبول الرواة، ولقبول رواته لابد من توافر شرطي العدالة والضبط.
__________
(1) - الكافية في الجدل : م. الجويني، ص: 47.
(2) - المنطق عند الفارابي: نشر رفيق العجم 3/53.
(3) - أنظر الفقيه والمتفقه: البغدادي 2/24.
(4) - سنقتصر على الكتاب والسنة والقياس لأنها هي التي أخذناها كنماذج في الإطار العملي والإطار النظري.
(5) - مفتاح الوصول: التلمساني، ص: 5.
(6) - نفسه، ص:20.(2/160)
ب-أن يكون سند الخبر الواحد متصل الرواية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
3-القياس :
دليل عقلي يحتج به إذا توافرت له أركانه وشروطها ومن أركانه الأصل والفرع وحكم الأصل والعلة.
أ-الأصل: "هو ما ينبني عليه غيره"(2) ويشترط فيه أن تكون علته موجودة فيه لأن مقصود المجتهد هو إثبات حكم الأصل في الفرع، بناء على اشتراكهما في العلة.
كما يشترط فيه أن لا يتقدم حكم الفرع على الأصل لأنه لو ثبت الحكم في الفرع لما التجأ إلى القياس ولكان أخذنا بحكم الفرع أولى من أخذ حكم الأصل.
ج-حكم الأصل: وهو ما ورد به الأصل متخذا صفة الفرضية (الإيجاب) أو الحرمة أو الكراهية (الممنوع) أو الندب، فهو إذن لا يخرج عن هذه الأوصاف ومن شروطه:
-أن يكون حكم الأنصل حكما شرعيا لا لغويا، وبهذا الشرط نخرج القياس في اللغات(3).
-أن بكون معقول المعنى أي يدرك العقل سبب شرعيته وعلى هذا الأساس فلا يجوز القياس في المسائل التعبدية والكفارات والحدود…(4).
د-العلة: في الاصطلاح الاعتزالي: "ما افتضى حكما قام به كالعلم علة العالمية(5) وهي في الاصطلاح النسبي(6). "الوصف المعرف للحكم بوضع الشارع علامة عليه"(7).
ومن شروط هذا الركن:
أ-أن تكون العلة وصفا ظاهرا ومثاله الإسكار، فإنه وصف ظاهر في تحريم الخمر.
ب-أن تكون العلة وصفا منضبطا ومعنى ذلك أن الوصف لا ينبغي أن يختلف باختلاف النسب والآفاق والكثرة والقلة…(8).
ج-أن تكون العلة وصفا متعديا ومعناه ألا تكون مقصورة على الأصل، فإن كانت كذلك فلا يصح التعدي بها إلى الفرع لانعدام العلة فيه.
ترتيب الأدلة:
__________
(1) - نفسه، ص: 10.
(2) - نشر البنود: الشنقيطي 2/115.
(3) - بناء الفروع على الأصول: التلمساني 153.
(4) - نشر البنود: الشنقيطي 2/110. أنظر الأمثلة تنقيح القرافي 415-416.
(5) - نفس المصدر 2/130.
(6) - فالاصطلاح السني قريب من تعريف المالكية للعلة.
(7) - نشر البنود 2/130.
(8) - شرح التنقيح: القرافي 406.(2/161)
إن الترتيب المتعارف عليه عند علماء الأصول للأدلة المتفق عليها يخضع للترتيب التالي: الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس.
غير أن هناك بعض الفقهاء وخاصة منهم المالكية قد رتبوا هذه الأدلة على ترتيب غير معهود، فقدموا الإجماع على الكتاب والسنة والقياس بدعوى عدم قبوله للنسخ "الإجماع مقدم على الكتاب والسنة والقياس لأن الكتاب يقبل النسخ والتأويل…"(1).
وقدموا القياس على الخبر، بل قدموه على كل منصوص بدعوى تضمنه للحكمة في مقابل تضمن النص للحكم "القياس يقدم على خبر الواحد عند مالك رحمه الله، لأن الخبر إنما ورد لتحصيل الحكم، والقياس متضمن للحكمة، فيقدم على الخبر"(2).
وبناء على هذا، فالترتيب المالكي لهذه الأدلة يكون على الشكل التالي :
الإجماع ثم القياس ثم الكتاب ثم السنة.
أما ترتيب الأخبار والمعاني، فترتيبها يخضع لشروط وقيود نشير إليها كالآتي:
1-ترجيح الأخبار: وينقسم إلى ترجيح للسند وترجيح للمتن.
الترجيح السندي:
-ترجيح خبر مروى في قصة مشهورة عند أهل النقل على خبر عارى منها.
-ترجيح خبر الأضبط والأحفظ على من هو دون ذلك.
-ترجيح الخبر الأكثر رواة على غيره الأقل رواة.
-ترجيح خبر من قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خبر من قال: كتب إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
-ترجيح خبر من اتفق على وضعه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على خبر من اختلف في ذلك.
-ترجيح خبر من لم تختلف الرواية عنه على غيره.
-ترجيح خبر صاحب القصة على غيره.
-ترجيح خبر عاضده عمل أهل المدينة على غيره.
-ترجيح خبر من عرف بالتقصي للحديث.
-ترجيح سند خبر خالي من الاضطراب على غيره(4).
الترجيح المتنى :
-ترجيح متن خال من الاضطراب والاختلاف على غيره.
__________
(1) - نفسه 337.
(2) -نفسه 387.
(3) -"خبر من قال كذب… "زيادة في مخطوطة الإشارة وغير موجودة في المطبوع (انظر باب الترجيحات).
(4) -الإشارات: الباجي، ص: 137-145 بتصرف.(2/162)
-ترجيح متن منطوق الدلالة على محتمل الدلالة.
-ترجيح متن مستقل بنفسه على غير المستقل بنفسه.
-ترجيح متن عام متفق على تخصيصه على غيره المختلف معه في القصد.
-ترجيح متن مؤثر في الحكم على غير المؤثر فيه.
-ترجيح متن غير قد قضى به عن الآخر.
-ترجيح متن ورد بألفاظ متغايرة على غيره الوارد بلفظ واحد(1).
ترجيح المعاني :(2)
-ترجيح العلة المنصوص عليها على غير المنصوص عليها.
-ترجيح العلة العائدة على أصلها بالتخصيص على غيرها.
-ترجيح العلة الموافقة للفظ الأصل على المخالفة له.
-ترجيح العلة المطردة المنعكسة على غير المطردة المنعكسة.
-ترجيح العلة التي يشهد لها أصول كثيرة على غيرها.
-ترجيح قياس رد الفرع إلى الأصل من جنسه على غيره الذي رد الفرع إلى الأصل من غير جنسه.
-ترجيح العلة المتعدية على الواقفة.
-ترجيح العلة التي تعم فروعها على غير التي لا تعم فروعها.
-ترجيح العلة العامة على الخاصة(3).
-ترجيح العلة المنتزعة من أصل منصوص عليه على أخرى منتزعة من أصل غير منصوص عليه.
-ترجيح العلة القليلة الأوصاف على أخرى كثيرة الأوصاف(4).
ونختم هذا الفصل بالملاحظات التالية:
أولا: إننا عنونا هذا المبحث بالدليل وعدلنا عن الاستدلال وذلك لما لهذين المصطلحين من اختلاف، فالدليل دليل بنفسه "وإن لم يستدل به"(5)، بينما الاستدلال لا يكون كذلك إلا بالمستدل.
__________
(1) - نفسه 145-153 بتصرف.
(2) - وهو عبارة عن ترجيح للأقيسة ويكون ترجيحها خاصا بالعلة.
(3) - سقط هذا الترجيح بأكمله من المطبوع وهو ثابت في مخطوطة الإشارة للباجي
(باب الترجيحات).
(4) - قارن عبارة المطبوعة عبارة صعبة، ولهذا اعتمدنا عبارة المخطوطة (الإشارة للباجي)، ص: 161. ونظر كذلك الإشارات: الباجي 157-161.
(5) - كتاب الحدود : الباجي، ص: 38.(2/163)
ثانيا: إننا وإن اقتصرنا على هذه الأدلة، فهذا لا يعني أن النظار المسلمين يكتفون بهذه الأدلة، بل يستدلون بأدلة أخرى كالمصالح والاستحسان والاستصحاب والدليل…
ثالثا : إننا إذا أخذنا بهذه الأدلة كما اتفق عليها النظار وإلا فإن دليل القياس بالنسبة لابن حزم لا يعتبر من الأدلة.
رابعا: إن ابن حزم وإن اشتهر بأخذه بالأدلة النصية، فإنه كان يأخذ عند تعذر النص بالأدلة العقلية كالدليل والبرهان وعند تعذرها يستصحب بالحال(1).
خامسا : إن النظار المسلمين عند استدلالهم على دعوى لا يقتصرون على دليل واحد، بل كثيرا ما يستدلون بأدلة مختلفة وكثيرة، فيستدلون بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول، ولعل هذه هي قاعدة أكثر النظار المسلمين "التكثير من الأدلة قوة وليس بعده عجزا إلا جاهل منقطع"(2).
سادسا: إثبات الشيء أو نفيه يقتضي الدليل، وهذا ما ذهب إليه الباجي كما ذهب إليه ابن حزم(3)، خلافا لداود الذي ادعى أن لا دليل على النافي(4).
سابعا: الدليل رهين بالدعوى وإن كان بعض علماء النظر قد أجازوه للمعترض إلا أن أغلب فقهاء هذا الفن قد أجازوا به "السند" واشترطوا ألا يكون السند إلا بعد دليل المدعي وإلا كان المعترض غاضبا لحق المدعي(5).
__________
(1) - حياة ابن حزم: أبو زهرة، ص: 210.
(2) - التقريب لحد المنطق: ابن حزم 4/334 ويمكن أن يلمس هذا عند الباجي.
(3) - الإشارات : الباجي، ص: 131. الإحكام : ابن حزم 1/75.
(4) - الإشارات : الباجي 131.
(5) - التقريب : ابن حزم 4/322 والمزن الماطر على الروض الناظر في آداب المناظر: أحمد السياغي 31-52.(2/164)
والمدعي يستوجب عليه الدليل في الحالات التي تقتضي التدليل كأن تكون الدعوى نظرية غير معلومة. أما والعكس كأن يكون الادعاء بديهيا أو نظريا معلوما فإنه غير مطالب بالدليل، ولا بأس من مطالبته بالتنبيه(1) عند بعض أهل هذا الفن لا تكون –كذلك- إلا إذا كان البديهي خفيا، أما إذا كان البديهي أوليا فتمتنع المطالبة بالتنبيه(2).
والمطالبة بالدليل لا تقتصر على الأقوال الخبرية بل تطلب في كل الأخبار –إنشائية كانت أم خبرية- النقلية غير المعلومة وإلا لما استوجب المعترض طلبها "إن كنت ناقلا بأي وجه كان، فيطلب منك الصحة "صحة النقل إن لم تكن معلومة للطالب لأنها لو كانت معلومة فطلبها لا يليق بمجال المناظر من حيث هو مناظر لأن فرضه إظهار الصواب"(3).
ثامنا : إن أحوال الدليل والاستدلال تتغير تبعا لتغير الدعاوى والمدعي والمعترض وهذه أحوال الدليل مع حالتها المؤثرة فيها:
الدليل مع الدعوى
بديهية
النظرية
الدعوى
-
دليل
المدعى
-
بسند
المعترض
الدليل مع الاعتراض
المعارضة
المنع
شاهد
دليل
III-الاعتراض :
الاعتراض المرحلة الثالثة الحقيقية بعد الدعوى والدليل وهو عبارة عن "مقابلة الخصم في كلامه بما يمنعه من تحصيل مقصوده بما باينه"(4).
والاعتراض هو الوظيفة الثالثة التي يقوم بها المعترض، ولقيامه بهذه الوظيفة يتحتم عليه انتهاج طرق جدالية نظرية متعارف عليها بين أهل هذا الفن، فوظيفة تبتدئ عادة بأبسط عمل إلى أعقده وخلال هذه الفترة يقطع المعترض عدة مراحل ويلتزم عدة ضوابط، وهذه المراحل التي يقطعها الاعتراض هي ما سنشير إليها ضمن المحورين التاليين:
1-السؤال الجدلي:
__________
(1) - حاشية الصبان على شرح آداب البحث : منلا الحنفي، ص: 8.
(2) - نفسه ص: 8. والمزن الماطر: أحمد السياغي 48-49.
(3) - حاشية الصبان، ص: 7.
(4) - الكافية في الجدل: م. الجويني 67.(2/165)
تناول علماء الإسلام السؤال من عدة جوانب كل واحد من جهة اختصاصه، فمن علماء الإسلام من ركز حديثه على المحظور من الأسئلة فاعتبر السؤال الاحتمالي(1)، وكثرة الأسئلة من الأسئلة المذمومة "الإكثار من الأسئلة مذموم والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح من ذلك قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد بكم تسؤكم"(2)، ومن العلماء من تجاوز هذا الطرح وافترض التسليم بصحة جميع الأسئلة، فركز حديثه عن أدوات السؤال وخصائصها وطبيعة السؤال وعلاقته بالجواب والمستجوب، وهذا الطرح الأخير هو الذي نهجه علماء هذا الفن سواء من تأثر بالسؤال الجدلي الأرسطي أو من اكتفى بالأسئلة الجدالية الأصولية.
إن السؤال عند أهل هذا الاتجاه يبتدئ عادة من السائل وتتحد طبيعته انطلاقا من غرض السائل.
-فإن كان غرضه المعرفة سمي مسترشدا.
-وإن كان غرضه المناظرة سمي مناظرا(3).
هذا مع اختلاف بين الأصوليين الجدليين في طرح هذه العلاقة، فقد طرح صاحب الموافقات قسمة أخرى رباعية "السؤال أما أن يقع من عالم أو غير عالم وأعني بالعالم المجتهد وغير العالم المقلد. وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المسؤول عالما أو غير عالم فهذه أربعة أقسام:
-الأول سؤال العالم.
-والثاني سؤال المتعلم.
-والثالث سؤال المتعلم لمثله.
-والرابع هو الأصل الأول سؤال المتعلم للعالم(4).
__________
(1) - الموافقات : الشاطبي 4/187.
(2) - نفسه 4/184. والفقيه والمتفقه 2/7.
(3) - الكافية في الجدل: م. الجويني 531-533.
(4) - الموافقات 4/183.(2/166)
وأصدر حكما في الثلاثة الأولى مع تفصيله في القسم الرابع "فأما الأول والثاني والثالث فالجواب عنه مستحق… وأما الرابع، فليس الجواب بمستحق بإطلاق، بل فيه تفصيل فيلزم الجواب إذا كان عالما بما سئل عنه متعينا عليه في نازلة واقعة أو في أمر نص شرعي بالنسبة إلى المتعلم لا مطلقا. ويكون السائل ممن يحتمل عقله الجواب…"(1).
والسائل في هذه الحالات لابد له من الاعتماد على أدوات تخدم غرضه ومقصده، فهو إما أن يطرح سؤاله ب "هل": هل هذا الشيء موجود فيلزم المجيب الإجابة "بلا أو نعم"(2).
وإما أن يطرح سؤاله بالألف إذا قابلها أم ك أعندك دراهم أم دنانير؟ فيتعين عليه الإجابة بأحدهما دون الإجابة بلا أو نعم. وهكذا بالنسبة لباقي الحروف التي يعتمدها السائل ويستغلها لأغراضه الجدالية.
إذا كان السائل يفترض فيه المعرفة بطبيعة الحروف فإنه من باب الأولى أن يعرف طبيعة الأسئلة وغرضه من الأسئلة.
-فإن كان غرضه تفريضا سأل "بما تقول في كذا" ؟
-وإن كان غرضه حجرا ومنعا سأل بقوله النبيذ حرام أم حلال ؟
-وإن كان غرضه الإجمال سأل ب هل المسلم يقتل بالكافر(3) ؟
إن هذا الطرح بهذا الشكل قد يوجد بكثرة عند المتأثرين بالجدل الأرسطي بينما علماء هذا الفن من الأصوليين اكتفوا بالحديث مباشرة عن السؤال الجدلي وهو :
1-السؤال عن المذهب ويكون بما تقول في كذا ؟
ويقابله الجواب ب كذا وكذا.
2-السؤال عن الدليل ويكون ب ما دليلك عليه ؟
ويقابله الجواب ب كذا وكذا.
3-السؤال عن وجه الدليل ويكون بالاستفسار.
__________
(1) - نفسه 4/183-184.
(2) - الكافية : م. الجويني 72-87.
(3) - التقريب: ابن حزم 329-330. الكافية في الجدل: م. الجويني 83. منطق الفارابي 3/43. الفقيه والمتفقه 2/51.
قد حصر ابن حزم السؤال في الأنواع التالية: هل: سؤال عن وجوده، فما هو: سؤال الجوهر أو الرسم، بكيف: سؤال الهيئة، لم في هذا يقع الاعتراض.
والملاحظ أن كل سؤال يطابقه جواب الكافية 76.(2/167)
ويقابله الجواب بالبيان.
4-السؤال على وجه القدح ويكون بالمطالبة وهي المطالبة بتصحيح الأخبار والاعتراض وهي الاعتراض على نفس الدليل بما يطلبه والمعارضة وهي مقابلة دليله بمثله أو بما هو أقوى منه.
ويقابله جواب المسؤول بما يبطل هذه الاعتراضات(1).
ولم يكتف أهل هذا الفن بهذه الأسئلة الجائزة في المناظر، بل تحدثوا عن الأسئلة المحظورة وهي أسئلة ينبغي للمتناظرين تلافيها وهي:
1-أن يعارض السائل المسؤول بما يقوله به، كأن يقول له: أنت تقول كذا أو لم تقول كذا(2).
2-أن يعارض السائل مشعبا يقصد التشنيع ولا يقصد طلب الحق(3).
3-أن يسأل عما لا ينفع في الدين.
4-أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها (الغلوطات)
5-أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات.
6-أن يسأل السؤال إلى حد التكلف.
7-أن يظهر من سؤاله معارضة كتاب أو سنة أو رأي..
8-أن يسأل عن المتشابهات.
9-أن يسأل سؤال التعنت والإقحام وطلب الغلبة(4).
وهذه الأسئلة المحظورة هي من نفس الشروط التي ينبغي للسائل تجاوزها، وهكذا نلاحظ في ختام هذا الفصل الملاحظات التالية:
1-أن السؤال عن المذهب ووجه الدليل لا يعتبران إلا في حالة غموض هذين النوعين.
2-أن السؤال عن الدليل يختلف باختلاف نوعية الدليل، فإن كان دليل الخصم من القرآن اقتضى منهج المناظرة أن يسأل السائل بالمنازعة في أحكامه أو المنازعة في مقتضى لفظه، أو بالمعارضة.
وإن كان دليله من السنة طالبه بإسناد حديثه أو القدح في إسناده أو الاعتراض على متنه أو ادعاء نسخه أو معارضته بخبر غيره. وإن كان دليله من القياس عارضه بغيره من النصوص أو بالمنع أو بالفرق…(5).
__________
(1) - الفقيه والمتفقه: البغدادي 2/40. الحجاج 36-41. الكافية 77. الإحكام: 1/71-72.
(2) -التقريب لحد المنطق: ابن حزم 4/332.
(3) - نفسه 4/332.
(4) - الموافقات : الشاطبي 4/188-189.
(5) - هذا نموذج على طريقة البغدادي في كتابه الفقيه المتفقه 2/43-44.(2/168)
3-إن السؤال الجدلي ينبغي أن يخضع للتراتبية التالية.
-السؤال عن المذهب.
-السؤال عن الدليل.
-السؤال عن وجه الدليل.
-السؤال الاعتراضي(1).
4-إن طرق الأسئلة التي أشرنا إليها قد نجد بعض صورها في متني الأحكام لابن حزم وأحكام الفصول للباجي.
-السؤال العكسي (3/101-102: الإحكام)
-سؤال الإفراج (3/108: الإحكام)
-أسئلة تفويضية اختيارية (3/123 : الإحكام)
-طرح الأسئلة بكيف وهلا وما…(2).
2-كيفية الاعتراض :
كيفية الاعتراض أو وظائف السائل ينبغي تقسيمها إلى قسمين:
-وظائف السائل في المناظرة العقلية.
-وظائف السائل في المناظرة الشرعية.
وذلك لما يظهر من اختلاف بين الوظيفتين كما وكيفا.
كيفية الاعتراض في المناظرة العقلية:
تنحصر وظائف المعترض (السائل) في المناظرة العقلية في ثلاث وظائف المنع والنقض والمعارضة، وإن كان هناك من ادعى انعدام انحصارها في هذه الوظائف "حصر وظائف السائل في المنع والنقض الإجمالي والمعارضة… الحصر في الثلاثة استقرائي ووقوع منع الملتزمات في المناظرة غير معلوم على أن إثباتها في بعض الصور صعب أيضا"(3).
غير أن المتعارف عليه عند أهل هذا الفن من أنواع الاعتراض استقر في الوظائف الثلاثة السابقة: (المنع والنقض والمعارضة)(4).
2-1-المنع (المناقضة):
لغة هو :نقيض الإعطاء"(5)، وفي الاصطلاح هو "طلب الدليل على مقدمة دليل المستدل"(6) وقيل هو "امتناع السائل عن قبول ما أوجبه المعلل من غير دليل"(7).
__________
(1) - الكافية في الجدل : الجويني 79.
(2) - انظر إحكام الفصول: الباجي. والإحكام : ابن حزم. نفس الصفحات التي أشرنا إليها في المتن.
(3) -حاشية الصبان على شرح آداب البحث : لمنلا الحنفي، ص: 10 و 16.
(4) - انظر مجموع المتون الكبرى، ص: 549.
(5) - المزن الماطر : أحمد السياغي 21.
(6) - نفسه 22.
(7) - التعريفات : الجرجاني 250.(2/169)
واستقر معناه عند أهل هذا الفن في طلب الدليل ".. المنع في عرفهم طلب الدليل…"(1). وللمنع في عرف أهل الفن معنيان "الأول أعم يتناول النقض والمناقضة والمعارضة جميعا، والثاني يقال له مناقضة…"(2)؛ والمعنى الأخص هو الذي نقصد الوقوف عنده وهو الذي ينعت بالمناقضة وتساويه مع المناقضة في الحد ناتج عن كونهما يعترضان على مقدمات الدليل "المناقضة منع مقدمة معينة من مقدمات الدليل أو كل منهما مجردا أو منع السند…"(3) وكذلك المنع هو اعتراض على "بعض مقدمات الدليل أو كلها على سبيل التعيين…"(4).
ومنع بعض مقدمة الدليل أو كلها لا يعني إلا مطالبة بالدليل لأن منع مقدمة الدليل أو كلها ليس دليلا. ومن هنا اشترط أهل هذا الفن أن يكون منع المانع مطالبة وإلا كان منعه غصبا للمعلل(5)، ولهذا السبب كذلك منع أهل هذا الفن أن يقرن المانع امتناعه بالاستدلال ولكن لا يمنع من استناده إلى سند يتقوى به "منع مقدمة من مقدماته (المطلوب) أو كل واحدة منها على التعيين فذلك يسمى منعا مجردا أو مناقضة ونقضه نقض تفصيلي ولا يحتاج في ذلك إلى شاهد وإن ذكر شيء يتقوى به سمي سندا للمنع"(6).
وعليه فالمنع عبارة عن طلب للدليل ويكون بالاعتراض على مقدمة الدليل وبعبارة المنع:
-امنع هذه الدعوى
-هذه الدعوى ممنوعة
-لا أسلم لك هذه الدعوى
-هذه الدعوى غير مسلم بها
-ممنوع غير مسلمة(7).
__________
(1) - متن حاشية الصبان، ص: 10.
(2) - نفس المصدر 13 (المتن).
(3) - نفس المصدر 13 (الشرح).
(4) - نفس المصدر 14 (متن).
(5) - التقريب: ابن حزم 322.
(6) - المزن الماطر: أحمد السياغي 22.
(7) - أصول الحوار: د. طه عبد الرحمن، ص: 76.(2/170)
وقد يكون الاعتراض على مقدمات الدليل مجردا أو بسند. والسند هو"ما يذكره المانع معتقدا أنه يستلزم نقيض الدعوى التي يوجه إليها المنع"(1)، وينقسم إلى نوعين: نوع يؤخذ فيه بعين الاعتبار الصورة التي يرد عليها ونوع يؤخذ فيه بعين الاعتبار بنسبة إلى نقيض الدعوى(2).
النوع الأول ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
-السند الليمي: وهو عبارة عن اعتراض السائل على دعوى الخصم بإمكان تجويزاحتمال عقلي آخر.
-السند القطعي: وهو عبارة عن اعتراض السائل بسند قطعي فيه ما يدل على منافاة دعوى المعلل.
-السند الجبلي: وهو عبارة عن تنبيه الخصم إلى خطئه وتعيين موضعه.
أما النوع الثاني فينقسم إلى ستة أقسام:
-ما يكون فيه السند نفس نقيض الدعوى الممنوعة
-ما يكون فيه السند مساويا لنقيض الدعوى الممنوعة
-ما يكون السند فيه أخص مطلقا من الدعوى الممنوعة
-ما يكون أعم مطلقا من نقيض الدعوى الممنوعة.
-ما يكون فيه السند أعم من نقيض الدعوى في وجه وأخص فيه في وجه
-ما يكون فيه السند مباينا لنقيض الدعوى الممنوعة(3).
2.2- النقض:
لغة "الكسر"(4) واصطلاحا "خدش مجموع الدليل بتخلف الحكم عنه واستلزامه فسادا آخر"(5) وقيل "ادعاء السائل يطلان دليل المعلل مع إقامته الدليل على دعوى بطلانه"(6) .
وادعاء السائل بطلان المعلل يكون ببيان تخلي المدلول عن الدليل، ويكون بنسبة استلزام المحال أو الدور السبقي لدليل المعلل أو يكون بإثبات مصداقية دليل المعلل على مدعى آخر غير الذي برهن به المعلل.
__________
(1) - آداب البحث: الشنقيطي، القسم 2، ص: 41. انظر مجموعة المتون الكبرى545.
(2) - آداب البحث / الشنقيطي 46 القسم2. ضوابط المعرفة: الميداني 420-423 بتصرف.
(3) - آدال البحث: الشنقيطي،القسم 2،ص 46-48.
(4) - المزن الماطر: أحمد السياغي، ص، 21 .
(5) - حاشية الصبان على شرح آداب البحث: لمنلا الحنفي 13 (شرح).
(6) - آدال البحث: الشنقيطي، القسم2 ص 55.(2/171)
وبطلان دليل المعلل لا يكون إلا بشاهد(1) من السائل ولا يكون إلا انقضا للدليل بخلاف المنع فإنه يكون على مقدمات الدليل ولا يستوجب شاهد المنع ولعل هذا راجع إلى أن المعلل على هذه المرحلة يكون قد استشهد على دعواه، فلا يقع الغضب.
وقسم علماء البحث هذا النوع من الاعتراض إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: النقض الحقيقي:
وهو عبارة عن التزام السائل بذكر جميع عناصر دليل المعلل من غير زيادة ولا نقصان ثم يشرع في نقضها وبيان وهنها.
القسم الثاني: النقض الحقيقي المكسور:
وهو عكس النقض الحقيقي المشهور لأن السائل فيه لا يلتزم إيراد عناصر الاستدلال بل يحذف منها بعض الأجزاء التي تمكنه من الاعتراض على المعلل، وهذا الاعتراض لا ينبغي أن يتكئ عليه السائل في المناظرة لأنه غير معتبر.
القسم الثالث: النقض الشبهي:
وهو عبارة عن إبطال الدعوى من طرف السائل بناء على بيان مخالفة المعلل لإجماع العلماء أو منافاته لمذهبه(2).
3.2-المعارضة:
لغة المقابلة على سبيل الممانعة وهي اصطلاحا "إقامة الدليل على خلاف ما أقام عليه الخصم…(3) أو هي "مقابلة دليله بدليل يباينه إنتاجا"(4).
وتكون المعارضة بإثبات نقيض المدعى أو نفيه كما تكون بإنتاج دليل يساوي نقيض الدعوى أو إثبات الأخص من النقيض(5).
وتتم هذه العملية تبعا للصور التالية:
أ-معارضة بالقلب: وهي عبارة عن قلب دليل المستدل دليل للسائل وهي كثيرا ما تكون في المغالطات
ب-معارضة بالمثل: وهي أن يكون دليل المستدل والمعارض كلاهما من ضرب واحد في الصورة دون المادة
__________
(1) - المزن الماطر: أحمد السياغي، ص،22.
(2) - آداب اليحث: الشنقيطي، القسم 2، 56-57 بتصرف، وكذلك ضوابط المعرفة 444.
(3) - المزن الماطر: أحمد السياغي، ص،22.
(4) - حاشية الصبان على شرح آداب البحث ص : 18.
(5) - أصول الحوار : د. طه عبد الرحمن 79.(2/172)
ج-معارضة بالغير: وهي أن يكون دليل المستدل مخالفا لدليل المعارض مادة وصورة(1).
كيفية الاعتراض في المناظرة الشرعية:
حصر بعض الدارسين اعتراض السائل في المناظرة الشرعية في خمس وظائف "الوظائف المقررة للسائل المعترض للسائل المعترض على أدلة المدعي المعلل عند الأصوليين…خمسة…"(2).
والواقع أنها غير منحصرة في عدد، فهي تفوق هذه الوظائف الخمسة، وتختلف هذه الوظائف باختلاف أدلة المعلل، وهذا ما سنظهره لو تطرقنا إلى:
أولا: كيفية الاعتراض على الاستدلال بالكتاب.
ثانيا: كيفية الاعتراض على الاستدلال بالنسبة.
ثالثا: كيفية الاعتراض على الاستدلال بالقياس(3).
تصميم
المنع المعنى الأعم -المناقضة
... ... ... -النقض
... ... ... والمنع بالمعنى الأخص يسمى مناقضة.
الاعتراض بالمنع
الدعوى
بلا دليل
المدعي
المطالبة بالدليل
مقدمة الدليل
و يعترض على الدعوى بالسند أو بغيره، إن اعترض بالسند سمي مستدلا وإن لم يعترض بسند سمي مانعا مجردا.
السائل
أولا: كيفية الاعتراض على الاستدلال بالكتاب:
__________
(1) - أصول الحوار : د. طه عبد الرحمن 79.
(2) - أصول الحوار : د. طه عبد الرحمن 79.
(3) - انظر الحاشية: الصيان (شرح)، ص:22-23. المرن الماطر 22و53و65.
تراتبية الاعتراض المنع (المناقضة)
... ... النقيض…مع الشاهد
... ... المعارضة …مع الشاهد
الاعتراض ... بالقلب
... ... بالمثل
... ... بالغير
وتتحدد هذه الأشكال تبعا للدليل المعارض:
-دليل المعارضة إن كان عين دليل المعلل سمي قلبا
-دليل المعارضة إن كانت صورته كصورته سمي معارضة بالمثل
-دليل المعارض إن كانت صورته ومادته ليست كصورته سمي معارضة بالغير، والملاحظ أن هذه الصور الاعتراضية ترد على الدليل كما ترد على لعبة ويشترط في إيرادها على العلة أن تكون بعد إقامة دليل على مقدمة المعلل.(2/173)
اختلف الباجي والبغدادي حول عدد أوجه الاعتراض على الاستدلال بالكتاب، فالبغدادي يرى أن الاعتراض على الاستدلال بالكتاب يكون بثلاثة وظائف اعتراضية:
أ-أن ينازع في كونه محكما ويدعى أنه منسوخ
ب-أن ينازعه في مقتضى لفظه
ج-أن يعارضه بغيره(1).
بينما الباجي يرى أن الاعتراض على الاستدلال بالكتاب يكون بالأوجه التالية:
-الاعتراض عليه بأن المستدل لا يقول به
-القول بموجبه والمنازعة في مقتضاه
-الاعتراض عليه بدعوى المشاركة في الاستدلال
-الاعتراض عليه بدعوى النسخ
-الاعتراض عليه باختلاف القراءة
- الاعتراض عليه بالتأويل
- الاعتراض عليه بالمعارضة(2).
وهذا الاعتراضات هي نفسها التي ذهب إليها الشيرازي وإن كان الباجي قد جمع بين القول بالموجب والمنازعة في المقتضى، وهو الأمر الذي لم يرتضيه الشيرازي حيث فصل بينهما واعتبر القول بالموجب وظيفة(3) اعتراضية كباقي الوظائف، وبهذا يكون عدد الأوجه الاعتراضية عند الشيرازي ثمانية(4):
الاعتراض الأول المستدل لا يقول به:
الاعتراض على المعلل بهذه الوظيفة طريق صحيح في الاعتراض على دليل وإبطاله "إذ لا يجوز أن يثبت الحكم من طريق"(5) ويعتقد المعلل خطأه أو بطلانه وذلك كأن يستدل بأصل من الأصول أو فرع من الفروع وهو يعتقد بطلانهما.
__________
(1) - .الفقيه المتفقة: الخطيب البغدادي 2/43-44.
(2) - .المنهاج في ترتيب الحجاج: الياجي42.
(3) - .كتاب المعونة في الجدل: الشيرازي 147.
(4) - وهي عند الباجي سبعة. انظر المنهاج في ترتيب الحجاج.
(5) - وهي عند الباجي سبعة. انظر المنهاج في ترتيب الحجاج.(2/174)
ومثال هذا النوع قد نجده في المناظرة الشرعية، فقد اعترض ابن حزم على المالكية جواز أخذهم بمقتضى حديث ابن عباس(1) مع اعتقادهم في فروعهم أن "ما عدا الطعام جائزا بيعه قبل أن يستوفي…(2)، وهذا استدلال خاطئ لأن المالكية لا يقولون بمضمونه عند قياسهم على غير الطعام "فمن المحال أن يحتج امرؤ بشيء يقر أنه خطأ لا يجوز أن يؤخذ به
الاعتراض الثاني: القول بموجب الدليل والمنازعة في مقتضاه(3):
هذان الاعتراضان ينصبان على اللغة، ولذلك فالاعتراضات في هذا المحور تخص النص والظاهر والعام والمجمل وتكون على هذا الشكل الثنائي(4):
-قد يحمل المعلل دليله على النص فيعترض عليه المسائل بحمله على الإجمال أو الاحتمال.
-وقد يحمل المعلل دليله على الظاهر بالوضع فيعترض عليه المسائل على الظاهر بالعرف أو الدلالة.
-قد يحمل المعلل دليله على المعنى الظاهر، فيعترض عليه المسائل بحمله على ما هو أظهر منه(5).
-قد يحمل المعلل دليله على العموم لتناول محل النزاع، فيعترض عليه السائل بدعوى الإجمال ومنع دعوى تناول محل النزاع.
-قد يحمل المعلل دليله على الإجمال لحاجته لذلك، فيعترض عليه السائل بمنع الإجمال(6).
الاعتراض الثالث: الاعتراض على الاستدلال بالكتاب بدعوى المشاركة:
الاعتراض بدعوى المشاركة اعتراض صحيح، ولذلك كان من حق السائل "..أن يدعي المشاركة"(7)، وهي اعتراض السائل بنفس دليل المعلل "حد الاشتراك في الدلالة- مساواة الخصم خصمه فيما يورده على التنافي"(8).
__________
(1) - وهي عند الباجي سبعة. انظر المنهاج في ترتيب الحجاج.
(2) - وهي عند الباجي سبعة. انظر المنهاج في ترتيب الحجاج.
(3) -نفسه 7/150.
(4) -جمع الباجي بين هذين الاعتراضين لأنهما يخصان اللغة واللغة الاحتمالية.
(5) -الكافية في الجدل : م. الجويني 224-225.
(6) -الكافية في الجدل : م. الجويني 96.
(7) -نفسه 113.
(8) -نفسه 68.(2/175)
إن ما يسمح بالمشاركة في الدليل هو استدلال المعلل والسائل بالظاهر أو العموم، فالظاهر قد يحمله المعلل على معنى، فيعترض عليه السائل بمعنى آخر (الاشتراك) وقد يستدل المعلل بلفظ يشمل غيره ويعترض عليه الآخر بما يحتمله(1).
أما العموم فقد يستدل المعلل بدعواه ويعترض السائل بقصوره عن ذلك(2).
الاعتراض الرابع: اعتراض على الاستدلال بالكتاب باختلاف القراءات
الاعتراض على الاستدلال بالكتاب من جهة القراءات يتخذ شكلين:
الأول: يتخذ شكل مشاركة
الثاني: يتخذ شكل معارضة
الأول: كأن يستدل المستدل بقراءة فيعترض عليه السائل بأخرى تتناول قراءته
الثاني: كأن يستدل المستدل بقراءة فيعترض عليه السائل بأخرى تعارضها معارضة النفي(3).
الاعتراض الخامس: الاعتراض على الاستدلال بالكتاب بدعوى النسخ
الاعتراض بادعاء النسخ غير قادح مادام لم يدل دليل على صحته وهو يقع من أربعة وجوه:
الأول: أن يدعي المستدل النسخ اعتمادا على النقل
__________
(1) -أن يتعلق كل واحد منهما بلفظ من الدليل غير اللفظ الذي ذهب إليه الآخر. انظر المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي، ص : 104. استشهد ابن حزم على حمل الأوامر على البدار بقوله تعالى { "تسارعوا إلى مغفرة من ربكم } فتأول المغفرة بالفعل واعترض عليه الخصم بحمل المعنى على الجزء الآخر الذي هو المغفرة. الإحكام 3/45، وأبطل حزم القياس بقول ابن عمر قال: يا أيها الناس: الرأي إنما كان من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مصيبا لأن الله عز وجل كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف 6/42.
واستشهد الباجي بنفس النص على مدح القياس والرأي.
-تابع التأويلات لآية الاعتبار 7/74-75 وفصول الإحكام : الباجي 554.
-ولاحظ كذلك الاشتراك الناتج عن قرائتين. الإحكام 4/65.
(2) -المنهاج في ترتيب الحجاج : الباجي 58.
(3) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي ص: 62: ابن حزم 4/65. والكافية: م.الجويني،
ص : 224.(2/176)
الثاني: أن يدعي المستدل النسخ اعتمادا على التاريخ
الثالث: أن يدعي المستدل النسخ اعتمادا على أصله في نسخ شرع من قبلنا.
الرابع: أن يدعي المستدل نسخ جميع أحكام الآية بناء على نسخ حكم واحد من أحكامها(1).
الاعتراض السادس: اعتراض على الاستدلال بالكتاب من جهة التأويل:
الاعتراض في هذا الباب على ضربين:
الأول تأويل الظاهر وذلك كان يستعمل المستدل اللفظ فيما يستعمل فيه كثيرا أو يتأوله ويحمله على خلاف ذلك، فيتعرض عليه السائل بتأويل آخر مخالف لتأويل المستدل.
الثاني: تخصيص العموم وذلك كأن يدعي المستدل التخصيص فيعترض عليه المستدل بدعوى العموم(2).
الاعتراض السابع: اعتراض على الاستدلال بالكتاب بالمعارضة:
المعارضة "مقابلة السائل المستدل بمثل دليله أو ما هو أقوى منه(3)، وهي إما أن تكون بنطق(4) أو بعلة.
__________
(1) -إن هذا الاعتراض لم يشر إليه صاحب المعونة، فاكتفى بالاعتراضات الثلاثة الأولى. انظر المعونة في الجدل، ص : 151-152. نشرة.عبد المجيد التركي، قارن بكتاب المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي، ص : 64.
(2) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 67 والمعونة في الجدل.. فقد ادعى الباجي تخصيص خطاب الأوامر الخاص بالنساء "من ادعى أن للنساء خطاب خاص لا يدخل مع الرجال استشهد بأن لهن خطاب خاص بقوله تعالى : { المسلمين والمسلمات } .
الإحكام 3/82. ومن ادعى أن للعبيد خطاب وللأحرار خطاب خصص قوله تعالى: { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فيعترض عليه مدعي العموم بأن الآية عامة في العبيد والأحرار "الإحكام 3/87-88. إحكام الفصول 24.
حمل بعضهم "أجتهد رأيي" على الاجتهاد بالرأي فلم يخصصوه وعمموه على كل اجتهاد.. قياس استحسان.. بينما ابن حزم تأوله وخصصه بقوله: { إنما معناه استنفذ جهدي حتى أرى الحق في القرآن والسنة } الإحكام : 6/36-37.
(3) -إحكام الفصول: الباجي 174 وكتاب الحدود: الباجي 79.
(4) -ينطق يشمل : (الكتاب والسنة).(2/177)
فإن كان الاعتراض بالمعارضة ينطق فهو لا يخلو من الأحوال التالية:
-إما أن يكون أعم من الدليل
-أو أخص من الدليل
-أو مثله في العموم والخصوص(1).
أما إذا كان الاعتراض بالمعارضة بعلة، فلا يخلو أن تكون الآية المستدل بها:
-إما نصا لا يحتمل التأويل
-وإما ظاهرا يحتمل التأويل
-وإما عموما يحتمل التخصيص
-فإن كانت الآية نصا غير محتمل للتأويل، فلا يقبل معارضتها بالقياس.
-وإن كان ظاهرا محتملا للتأويل فيقبل معارضتها
-وإن كانت الآية عموما تحتمل التخصيص فهي مما يقبل المعارضة(2).
-وإن كان يشترط في هذه المعارضة أن تكون:
أ-إما معارضة دليل بدليل يماثله في القوة
ب-وإما معارضة دليل بدليل أقوى منه(3).
ثانيا: كيفية الاعتراض على الاستدلال بالسنة
يمكن الاعتراض على الاستدلال بالسنة من جانبين:
الأول: الاعتراض على الإسناد
الثاني: الاعتراض على المتن.
الأول: الاعتراض على الإسناد نميز فيه بين اسنادين:
أ-الإسناد المتواتر
ب-الإسناد الواحد
أ-الإسناد المتواتر بدوره ينقسم إلى قسمين:
-الإسناد المتواتر اللفظي
-الإسناد المتواتر المعنوي
فالإسناد الأول لا يمكن الاعتراض عليه، فهو منزلة النص القرآني من جهة ثبوته(4).
أما الإسناد الثاني، فيمكن الاعتراض عليه وذلك لاشتراكه بين الخبر المتواتر والخبر الواحد من جهة المعنى. ولهذا فاستدلال المستدل بالخبر المتواتر المعنوي يمكن السائل من الاعتراض عليه بأنه خبر واحد.
ب-أما الاسناد الواحد فيمكن الاعتراض عليه من جهتين:
__________
(1) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 119.
(2) -نفسه، ص: 70.
(3) -كتاب الحدود: الباجي 79.
المعارضة سؤال صحيح وان أنكره قوم. انظر الكافية : م.الكافية : م.الجويني 418 ويشترط في صحتها أن تكون بجنسها. الكافية 412-413. انظر أنواع المعارضة.
(4) -الكافية في الجدل: م.الجويني 93.(2/178)
الأول: المطالبة والتصحيح(1).
والثاني: الطعن والتجريح.
-ومن الاعتراض بالمطالبة ما هو مستحسن وذلك كأن يستدل المستدل بخبر منكر أو غير مشهور فللسائل "الاعتراض بالمطالبة".
-ومنه ما هو ممتنع وذلك كأن يستدل المستدل أو المعلل بخبر مشهور فيعترض عليه السائل بالمطالبة على الخبر المشهور(2).
الثاني: الاعتراض بالطعن والتجريح:
أما الاعتراض بالطعن والتجريح، فيكون باعتراضين:
الاعتراض الأول: القدح في الراوي بالطعن
ويكون بوجوه:
أ-أن يطعن في الراوي بالكذب
ب-أن يطعن في الراوي من جهة الدين
ج-أن يطعن في الراوي بكثرة الخطأ والسهو (عدم الضبط)
الاعتراض الثاني: القدح في الراوي بالجهالة(3).
والملاحظ أن هناك اختلاف كبير في بعض الاعتراضات على السند، وهي اختلافات ناتجة عن مذهبية المعترض في الحديث ومن هذه الاعتراضات المختلف فيها:
-أن يعترض على الحديث بالإرسال
-أن يعترض على الحديث بالجهالة لأنه لم يرو إلا عن واحد
-أن يعترض على الحديث بزيادة فلان قد خالف فلان
-أن يعترض على الحديث لأن السلف قد طعنوا فيه
-أن يعترض على الحديث لأن راويه لم يعمل به
-أن يعترض على الحديث لأنه موقوف على الراوي
-أن يعترض على الحديث لأن راويه قد أدرج فيه
-أن يعترض على الحديث لأن به زيادة، لم تنقل نقل الأصل
-أن يعترض على الحديث لأن لفظه ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم -
-أن يعترض على الحديث بالاشتراك عند روايته بالسنة كذا
-أن يعترض على الحديث بمخالفته للقياس
-أن يعترض على الحديث لأنه روى آحادا وهو ما تعم به البلوى
__________
(1) -نفسه 68. المعونة في الجدل : الشيرازي، ص : 52. الملاحظ أن المطالبة قد تكون ببيان وجه الدليل ولكن هنا نفصرها على المطالبة بالدليل. انظر الكافية 68. وإن كان البغدادي قد رفضها.
(2) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 76-77.
(3) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 79-80. قارن بالفقيه والمتفقه : البغدادي 2/44.(2/179)
-أن يعترض على الحديث لمخالفته للأصول(1).
الثاني: الاعتراض على المتن:
تنقسم السنة من جهة متنها إلى ثلاثة أقسام:
أولا: السنة القولية
ثانيا: السنة الفعلية
ثالثا: السنة الإقرارية(2).
أولا: السنة القولية : تنقسم من حيث ورودها إلى قسمين:
-سنة قولية واردة ابتداء
-سنة قولية وإرادة على سبب(3).
الاعتراض على الاستدلال بالسنة القولية الواردة ابتداء:
إن الاعتراض على السنة القولية الواردة ابتداء هو نفس الاعتراض على الاستدلال بالكتاب "فالمبتدأ (أي السنة الواردة ابتداء) كالكتاب يتوجه عليه ما يتوجه على الكتاب"(4).
غير أن الناظر وبدقة يلاحظ أن هناك اختلافا طفيفا بين هذا الاعتراض والاعتراض إلى الاستدلال بالكتاب، ولعل هذا الاختلاف يلمس من خلال استبدال مبحث القراءات في الكتاب بمبحث اختلاف الراوية في السنة(5)، كما يلمس في مبحث النسخ، هذا ناهيك عن استبعاد ما لا يلحق بالاعتراض على الاستدلال بالسنة الواردة ابتداء وكل هذه الإضافات سنشير إليها من خلال المحاور التالية:
1-الاعتراض على الاستدلال بالسنة باختلاف الرواية:
يتم الاعتراض على الاستدلال بالسنة باختلاف الرواية بوجهين:
أ-حلول لفظ محل أخر
ب-حلول حركة محل أخرى(6).
2-الاعتراض على السنة القولية الواردة ابتداء بدعوى النسخ:
يتم هذا الاعتراض بثلاثة اوجه:
أ-أن يدعي النقل الصريح للنسخ
ب-أن ينقل خبرا ينافي آخر فيدعي نسخه به اعتمادا على التنافي
__________
(1) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 80، قارن بالكفاية في الجدل : الجويني 92.
(2) -كتاب المهونة في الجدل: الشيرازي، نشرة عبد المجيد التركي 165.
(3) -نفسه 165 والمنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 125.
(4) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي، ص : 56. نشرة عبد العزيز العمريني.
(5) -إحكام الفصول : الباجي. مقدمة الناشر، ص : 118.
(6) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 107.(2/180)
ج-أن ينقل خبرا ينافي عمل الصحابة فيدعي نسخه به اعتمادا على هذا التنافي
د-أن يدعي نسخه بناء على أنه شرع لمن قبلنا(1).
والملاحظ أن هناك اعتراضات ألحقت بهذا المبحث وإلحاقها أو لإضافتها إليه تخضع دائما لمذهبية المجادل، فإن كانت من مذهبه فيعترض بها على خصمه الذي يرفض أن تكون من دعواه ومذهبه، وهذه الاعتراضات هي:
-أن يحمل معنى الخبر معين فيقوم الدليل على أحدهما فيمتنع الاحتجاج به
-أن يعترض على الخبر بدعوى أن السائل لا يقول بعمومه.
-أن يعترض على الخبر بدعوى تعلقه بالأعيان
-أن يعترض على الخبر بدعوى المشاركة خطأ (كخروجه عن المسألة المتنازع فيها).
-أن يستدل المستدل فيعترض عليه المخالف باختلاف راويه في ذلك الخبر
-أن يدعي نسخ الحكم بالقياس على نسخ غيره(2).
الاعتراض على الاستدلال بالسنة القولية الواردة على سبب:
تنقسم السنة الواردة على سبب إلى قسمين:
-سنة قولية نقل حكمها من غير سبب (مع ورودها على سبب)
-سنة قولية نقل حكمها مع سببها.
الاعتراض على السنة القولية التي نقل حكمها من غير سبب:
يمكن الاعتراض على السنة القولية التي نقل حكمها من غير سبب في حالة ادعاء المعلل حملها على سبب ولا يمكن قبول ادعائه هذا إلا بدليل "فلا يصح تعليق الحكم على بعض الأحوال دون بعض إلا بدليل"(3).
الاعتراض على السنة القولية التي نقل حكمها مع سببها:
يمكن الاعتراض على السنة القولية التي نقل حكمها مع سببها اعتمادا على الأوجه التالية:
1-يمنع أن يكون ذلك السبب له متعلق بالحكم
2-أن يدعي السائل في السبب المنقول تأثيرا أو زيادة لفظ على السبب المنقول.
3-أن ينتقل إلى سبب آخر غير سبب المستدل بدليل(4).
__________
(1) -الباجي قصرها على ثلاثة. انظر المنهاج، ص : 111 وهذه إضافة الشيرازي : المعونة. انظر الفقيه المتفقه 2/44-47.
(2) -المنهاج في ترتيب الحجاج : الباجي 11 وما بعدها.
(3) -نفسه 125.
(4) -المنهاج في ترتيب الحجاج : الباجي ص : 125.(2/181)
والملاحظ أن الاعتراض على الاستدلال بأفعاله-ص- هي نفس الاعتراضات على متن السنة القولية وإن كان هناك إضافة فهي لا تعدو أن تكون في محور إمكان الاعتراض على السنة الفعلية "منع الاستدلال بها"(1) وذلك كأن يعترض السائل على المستدل بالمنع مع الاحتجاج بهذا المصدر.
وإذا ألحقنا الاعتراض الفعلي بالاعتراض القولي، فإننا كذلك نلحق الاعتراض التقريري بالاعتراض والجواب الفعلي من جهة والقولي من جهة أخرى "إقرار على القول وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتراض وإقرار على الفعل وه كفعله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتراض…"(2)..
فالإقرار القولي يمكن الاعتراض عليه بنفس اعتراضات السنة القولية، أي يمكن الاعتراض عليه:
1-المستدل لا يقول به
2-المنازعة في المقتضى
3-المشاركة في الدليل
4-اختلاف الرواية
5-دعوى النسخ
6-التأويل
7-المعارضة(3).
أما الإقرار الفعلي، فيمكن الاعتراض عليه بنفس اعتراضات السنة الفعلية أي يمكن الاعتراض عليه:
1-الامتناع من الاستدلال به
2-المستدل لا يقول به
3-المنازعة في المقتضى
4-دعوى الإجمال
5-المشاركة في الدليل
6-اختلاف الرواية
7-دعوى النسخ
8-التأويل
9-المعارضة(4).
الجواب على الاعتراض:
هو المرحلة الأخيرة التي تقطعها المناظرة والتي يصير فيها المستدل معترضا بنفس وظائف السائل(5) مع استغلاله لكل الإمكانات والطرق التي يتمكن بها من دفع اعتراض السائل أي:
__________
(1) -هذه الإضافة هي التي لم ينتبه إليها الشيرازي، ولهذا قطع بجعل اعتراض الفعل هو نفسه اعتراض القول " أما الفعل فإنه يتوجه عليه على القول من الاعتراض". انظر المعونة 187. قارن بالحجاج، ص : 127.
(2) -المعونة في الجدل : الشيرازي 198، انظر تحقيقا آخر هناك خطأ، ص : 78.
(3) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 90.
(4) -نفسه 127-128.
(5) -انظر أصول الحوار: د.طه عبد الرحمن 79. ومجموع المتون الكبرى 549-550.(2/182)
-إذا كان السائل مانعا فعلى المستدل دفع منعه وذلك بتوضيح مراده من الدعوى أو بإقامة دليل على عين الدعوى المعترض عليها أو أخرى تساويها أو إبطال سندها(1).
-إذا كان السائل مانعا فعلى المستدل دفع نقضه وذلك ببيان عد تخلف الدعوى عن الدليل أو ببيان عدم استلزامها للمحال والتسلسل، وله كذاك الحق في دفع النقض ببناء دليل آخر(2).
-إذا كان السائل معارضا فعلى المستدل دفع معارضته، وذلك بطلب المعلل من السائل إقامة الدليل على مقدمته التي بنى عليها دليله المنافي لدليل المعلل
أو يعترض المعلل على دليل السائل الذي اعترض به على المعلل، إما بعدم صلاحية دليله وإما باستلزامه للمحال أو يحاول المعلل إثبات دعواه بدليل آخر غير الذي اعتمده لدعواه المنقوضة"(3).
-إذا اعترض السائل بدعوى عدم استدلال المعلل بالدليل المستدل به، فللمعلل بيان أن ذهب إليه السائل ليس كما اعتقد المعلل.
-إذا اعترض السائل بدعوى القول بالموجب والمنازعة في المقتضى، فللمعلل بيان دعوى الإجمال والاحتمال والخفاء... واستبعادها مع إثباته للنص،
أو لمعنى أظهر…..
-إذا اعترض السائل بدعوى المشاركة، فللمعلل استبعاد هذا الاعتراض وذلك بقصر معناه الذي ذهب إليه على معنى واحد أو احتمال واحد.
-إذا اعترض السائل بدعوى اختلاف القراءة، فللمعلل إثبات ادعائه وذلك عن طريق الجمع بين قراءته وقراءة خصمه أو بمعارضتها بما هو أقوى منها.
-إذا اعترض السائل بدعوى استبعاد النسخ، فللمعلل إثباته وذلك اعتمادا إلى النقل الصريح أو التاريخ.
__________
(1) -أصول الحوار : د. طه عبد الرحمن 79.
(2) -أصول الحوار : د.طه عبد الرحمن 78. انظر كذلك : آداب البحث والمناظرة : الشنقيطي، القسم II ، 56-57، وانظر ضوابط المعرفة : الميداني 444.
(3) هذه الاعتراضات تخص المناظرة العقلية. انظر آداب البحث: الشنقيطي، القسم II ، ص 66.(2/183)
-إذا اعترض السائل بدعوى التأويل فللمعلل حق استبعاد تأويل خصمه مع إقامة دليل على تأويله (سواء في الاشتراك أو في التخصيص أو في التقييد…)
-إذا كان اعتراض لسائل بالمعارضة، فللمعلل استبعاد معارضته وذلك بادعائه أن دليل اعتراضه ليس مثل دليله في القوى ولا هو أقوى منه(1).
ثالثا: كيفية الاعتراض على الاستدلال بالقياس:
يتم الاعتراض على الاستدلال بالقياس (كأصل وأركان وعلاقة بين أصل وفرع) اعتمادا على الاعتراضات التالية:
1-المطالبة
2-الاعتراض
3-المعارضة.
1-المطالبة: وهي "مؤاخذة الخصم بتبيين الحجة"(2).
وهي على وجوه:
-مطالبة المستدل بتصحيح إثبات الحكم بالقياس
-مطالبة المستدل بالدليل على ما جعله أصلا
-مطالبة المستدل بالدليل على ما جعله حكما
-مطالبة المستدل بالدليل على ما جعله علة
-مطالبة المستدل بإثبات الوصف (أو العلة) في الأصل
-مطالبة المستدل الوصف في الفرع
-مطالبة المستدل بتصحيح العلة وإثبات علاقتها بالحكم(3).
2-الاعتراض: يفترض للوصول إلى الاعتراض أن يخرج المستدل من مرحلة الدعوى المجردة على الدليل إلى الدعوى المستدل عليها، ولقطع هذه المرحلة لا بد له من الإجابة على جميع وجوه المطالبة وسلامة هذه الإجابات من المطالبة نفسها، فإذ ذاك تدخل دعوى المستدل مرحلة الدعوى المستدل عليها، ويبقى على المستدل أن تسلم أدلته من الاعتراض والمعارضة.
الاعتراض: هو عبارة عن مجموع الاعتراضات الموجهة للقياس والعلة
أ-الاعتراضات الموجهة للقياس تكون بالأوجه التالية:
__________
(1) -استخرجناها من الاعتراضات السابقة مع الاعتماد على كتاب الحجاج، ص : 42 وما بعدها، والمعونة، ص : 145 وما بعدها.
(2) -الكافية في الجدل : الجويني 68.
(3) -المنهاج في ترتيب الحجاج : الباجي 149-150.
Voir : La signification de la dialectique / Sinaceur p.18 – Académie 1-1984! n(2/184)
-لأن يعرض السائل على المستدل بأن المسألة المختلف فيها لا يجوز إثباتها بالقياس، وذلك كأن يقول السائل لا يصح إثبات الحكم بهذا الأصل، وهذا الاعتراض يصدر عادة من نفاة القياس أو نفاة صدق القياس على بعض المسائل(1).
-أن يعترض السائل على المستدل بأن ما جعله علة لا يجوز أن يكون علة وذلك من وجهين:
أ-أن يدعي السائل أن أصل المستدل منسوخ
ب-أن يدعي السائل أن علة أصل المستدل خفية لا تعلم(2).
-أن يعترض السائل على المستدل بأن ما جعله علة لا يجوز أن يكون علة وذلك من وجهين:
أ-أن يعترض السائل على المستدل بعدم جواز تقدم الحكم قبل العلة
ب-أن يعترض السائل على المستدل بعدم جواز تقدم الحكم على العلة(3).
أن يعترض السائل على المستدل بأن ما جعله حكما لا يجوز أن يكون حكما وذلك اعتمادا على الاعتراضين التاليين:
أ-إلحاق الحكم بالمجمل
ب-التشبيه بالأعيان المتضادة(4).
-أن يعترض السائل على المستدل بالممانعة في حكم الأصل، ولا يتم له هذا الاعتراض إلا بعد توفره على الشروط التالية:
أ-أن يكون لمن ينصره مذهب في المنع لا يختلف
ب-أن يكون قوله يختلف
ج-ألا يعرف له قول في ذلك(5).
-أن يعترض السائل على المستدل بالممانعة في علة (وصف) الأصل ويكون ذلك تارة على أصل السائل وأخرى على أصل المسؤول.
أما المنع على أصل السائل فيكون على الأوجه التالية:
أ-منع الوصف في الأصل
ب-منع الوصف في الفرع
ج-منع الوصف بينهما(6).
-أن يعترض السائل على المستدل ادعاءه صحة تعليله(7).
ب-الاعتراضات الموجهة للعلة: وتكون بالأوجه التالية:
__________
(1) -المنهاج في ترتيب الحجاج : الباجي 151.
(2) -نفسه 155.
(3) -نفسه 158.
(4) -نفسه 161.
(5) -نفسه 163.
(6) -المنهاج في ترتيب الحجاج : الباجي 165.
(7) -لما يدعي المستدل علة الحكم يعترض عليه بالمطالبة لكن ما يدعي الصحة فيعترض عليه بالمعارضة، لأن هناك فرق بين مرحلة المطالبة ومرحلة الاعتراض.(2/185)
-الاعتراض على العلة بالقول بالموجب: وهو اعتراض على العلة بخروجها من موضع النزاع(1).
-الاعتراض على العلة بالقلب: وهو اعتراض على العلة بعدم اختصاصها بالحكم المستدل عليه وصدقها على صدق هذا الحكم المستدل عليه. أو هي "مشاركة الخصم للمستدل في دليله"(2).
وهي على ضربين:
أ-قلب بجميع أوصاف العلة.
ب-قلب ببعض أوصاف العلة.
أما القلب بجميع أوصاف العلة فهو مفسد للعلة لأن العلة المفروض فيها أن يكون لها متعلق بالحكم أما وان يكون لها متعلق بضده فذلك مفسر لها.
أما القلب ببعض أوصاف العلة فهو غير مفسد لها لأن العلة "وإن قلبت ببعضها.. إنما وجبت بأخرى"(3).
-الاعتراض على العلة بفساد الوضع: وهو اعتراض على العلة بتعلقها بضد ما تقتضيه إن هو بيان "أن الحكم المعلق على العلة يقتضي نقيضه"(4).
ويعرف ذلك من النص تارة ومن الأصول تارة أخرى.
-الاعتراض على العلة بفساد الاعتبار: وهو اعتراض على اعتبار "الشيء بما لا يقتضي اعتباره به"(5) ويعرف ذلك.
أ-بجمع حكمين فرق بينهما النص
ب-بناء التحقيق على التغليط
ج-اعتبار الفرع بالأصل.
-الاعتراض على العلة بالنقض: يعترض على العلة بالنقض عند تخلف الحكم عنها "النقض وجود العلة ولا حكم"(6).
-الاعتراض على العلة بالكسر(7): يعترض على العلة بالنقض عند وجود معنى العلة مع مختلف الحكم(8).
__________
(1) -الكافية في الجدل : الجويني 161 والمنهاج : 173.
(2) -كتاب الحدود : الباجي 88.
(3) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 176.
(4) -روضة الناظر: المقدسي 306-307.
(5) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 178.
(6) -شرح اللمع : الشيرازي : نشرة التركي 2/889. القرافي 399.
(7) -هذا الباب قد سماه الباجي باب الاعتراض على القياس بالكسر وإنما هو باب في الاعتراض على العلة.
(8) -كتاب المعونة في الجدل: الشيرازي 246.(2/186)
-الاعتراض على العلة بالمطالبة بإجرائها في معلولاتها: وهو مطالبة المستدل بإجراء علة حكم ما فيها يشابهه من الأحكام، وعند عدم إجرائها في الحكم الآخر يثبت فسادها(1).
-الاعتراض على العلة بعدم التأثير: وهو اعتراض على العلة بوجود الحكم مع وجودها أو عدمها، وعدم التأثير عند بعض الفقهاء يعتبر قدحا في العلة(2)؛ بينما الباجي يرى أن وعدم التأثير لا يقدح في العلة لأن "التأثير دليل صحة العلة (وليس عدمه دليلا على فسادها"(3) وعدمه لا يدل على فساد العلة لا وعلى صحتها(4).
-الاعتراض على العلة بالمعارضة: للوصول إلى مرحلة المعارضة ينبغي لدعوى المستدل ودليله أن يكونا سليمين من كل الاعتراضات السابقة، فإذا سلمت دعواه ودليله من هذه الاعتراضات فعندئذ يمكن للسائل أن يعترض على المعلل بالمعارضة وهي آخر ما يمكن الاعتراض به. وهي عبارة عن "مقابلة الخصم للمستدل بمثل دليله أو بما هو أقوى منه"(5).
وتكون المعارضة بالعلة:
1-يذكر ما يوجب الفرق بين الفرع والأصل
2-يذكر ما يوجب الفرق بين معنى يتعلق بالحكم في الأصل وبين معنى يتعلق بالحكم في الفرع(6).
وكختام لهذا المبحث أود الإشارة إلى الملاحظات التالية:
1-يظهر من خلال ما استعرضناه سابقا أن هناك اختلافا بين المناظرة العقلية والمناظرة الشرعية، ويظهر هذا الاختلاف على مستويين:
__________
(1) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 195.
(2) -انظر شرح التنقيح : القرافي 401.
(3) -المنهاج في ترتيب الحجاج: الباجي 195-196.
(4) -إحكام الفصول : الباجي 652.
(5) -كتاب الحدود : الباجي 79.
(6) -المنهاج : الباجي 201.(2/187)
-المستوى الأول يظهر في كمية الاعتراض، فالاعتراض في المناظرة الشرعية يفوق بكثير الاعتراض في المناظرة العقلية، فهو لا يقتصر على وظائف المناقضة والنقض والمعارضة، بل يتعداها إلى ابتكار وظائف أخرى كالقول بموجب العلة والممانعة وفساد الوضع والمناقضة والمعارضة والكسر…(1).
-أما المستوى الثاني: فيظهر في اختلاف محتويات ومضامين وظائف السائل في المناظرة العقلية عن مضامين وظائف السائل في المناظرة الشرعية.
فإذا كانت المناقضة في المناظرة العقلية تعني المطالبة بالدليل وتقتصر على مناقضة الدعوى المجردة ومنع مقدمة معينة من مقدماتها، فإن المناقضة (المنع مطالبة بالدليل ممانعة لحكم الأصل لما يدعيه المستدل (المعلل علة في الأصل ومنع أن تكون العلة علة للحكم منع لوجودها في الفرع(2).
وإذا كان النقض في المناظرة العقلية يعني ادعاء السائل بطلان دليل المعلل مع إقامته الدليل على دعوى بطلانه فإن النقض في المناظرة الشرعية يعني تختلف الحكم عن العلة ومنه ما يأتي بمعنى التخصيص وهو مالا يعتبر نقضا في المناظرة الشرعية.
وإذا كانت المعارضة في المناظرة العقلية تعني إقامة الدليل على خلاف ما أقام عليه الخصم وتكون بالقلب أو المثل أو الغير، فإن المعارضة في المناظرة الشرعية تكون إما بالغير أو بالمثل، أما المعارضة بالقلب فهي غير داخلة في المعارضة وإن جاءت بمفهومها "مشاركة الخصم للمستدل في دليله"(3).
__________
(1) -انظر مخطوطة في الجدل: لابن البنا الأزدي المراكشي و 2، ص : 4، مكتبة جامعة ليدن، رقم : (6) Bd OR. 8411
(2) -آداب البحث والمناظرة : الشنقيطي، القسم II، ص : 98-99.
(3) -هذا ناهيك عن استعمال هذه الاعتراضات في مبحث القياس بأكملها. انظر إحكام الفصول : الباجي 647-672.(2/188)
2-إن استعرضنا لمنهج المناظرة الشرعية والعقلية لم يكن الهدف منه الوصول إلى مقارنة المناظرة الشرعية بالعقلية وإنما يهدف بالدرجة الأولى إلى الوقوف على مدى تطبيق هذا المنهج في المناظرة العملية. ولهذا فالناظر بهذا المنهج وللممارسة التناظرية يظهر له أن ممارسي هذا الفن قد استعملوا بعض الوظائف التناظرية، فاستعملوا:
-المطالبة والمنع(1).
-المعارضة(2)
-المشاركة(3)
-القول بالموجب والمنازعة في المقتضى(4)
-التأويل(5)
-اختلاف القراءات(6)
-الاعتراض على الإسناد(7).
3-إن المناظرة-كما استعرضنا-سواء الشرعية أو العقلية، لا يمكن أن تصل إلى هدفها المنشود إلا بالتزام المتناظرين بمنهجية المناظرة من جهة وآدابها من جهة أخرى، أي ينبغي للمتناظرين أن يلتزما الشروط التالية:
شروط المناظرة وآدابها:
-تقييد المتناظرين بالمسالك الاقناعية الصحيحة، وذلك بالتزامهما بإثبات صحة النقل للأمور المنقولة والتزامهما بتقديم الأدلة للأمور المراد ادعاؤها يقول أهل المناظرة "إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل"(8)
__________
(1) -إحكام الفصول : الباجي 532-534.
(2) -نفسه 244-249-250-597.
(3) -نفسه 555-574. الإحكام : ابن حزم 7/100.
(4) -إحكام الفصول 223-554. الإحكام : ابن حزم 3/42.
(5) -الإحكام : ابن حزم 3/85 و 8/18.
(6) -نفسه 4/65.
(7) -نفسه 6/32.
(8) -مجموع المتون الكبرى 543.
تتبع آداب المناظرة في :
1-مجموع المتون الكبرى، ص : 543-550.
2-مناهج الجدال في القرآن : الألمعي 535.
3-ديوان الشافعي، ص : 11.
4-آداب البحث والمناظرة: الشنقيطي 76.
5-ضوابط المعرفة : الميداني 374.
6-الفقيه والمتفقه : البغدادي 2/19/ و 31.
7-فن الإقناع : الأوروبي 114-148.
8-كتاب الاختلاف عند الرسول وأصحابه : عبد الصاحب الحسن العاملي 304-336، ينقل عن الغزالي أفاق المناظرة، ص : 309 وما بعدها.
9-أصول الحوار: طه عبد الرحمن 70-70.
10-الموافقات : الشاطبي 4/189.
11-إحياء علوم الدين : الغزالي 3/43 – 47.
12-الكافية في الجدل : الجويني 529 – 541.
13-التقريب لحد المنطق : ابن حزم 4/330 – 344.
14-المنهاج في ترتيب الحجاج : الباجي 9/10.(2/189)
.
-أن لا يكون المناظر مؤمنا بشيء يناقض دعواه المراد إثباتها
-ينبغي للمناظر أن يحترز من احتمال دعواه أو دليله للتناقض
-أن يستعد كل من المتناظرين للتسليم بالأوليات الأولى، فلا ينبغي للمعارض أن يعترض على المسلمات
-لا ينبغي للمناظر أن يطعن في أدلة خصمه إلا في حدود ما هو مقبول في طرق الطعن المتعارف عليها عند أهل هذا الفن.
-ينبغي للمتناظرين أن يلتزما المراحل التي تخضع لها المناظرة _دعوى-دليل-اعتراض-جواب).
-ينبغي للمتناظرين الالتزام بالنتائج التي وصلت إليها المناظرة
-ينبغي للمتناظرين الابتعاد عن الإتيان بالألفاظ الغربية والمشتركة.
-ينبغي للمناظر أن لا يكون متسرعا في إفحام خصمه، فذلك يفوت عليه رويته الفكرية.
-لا ينبغي للمناظر أن يخرج عن الموضوع لأن في ذلك إفحام له.
-ينبغي للمتناظرين أن يقصدا إلى إظهار الحق.
-لا ينبغي للمناظر أن يعتقد أن خصمه أقل منه
-لا ينبغي للمناظر أن يكون في حالة تفسد عليه مزاجه الفكري، كأن يكون جائعا أو ظامئا أو خائفا…
-لا ينبغي للمناظر أن يعتقد أن خصمه أقوى منه
-لا ينبغي للمناظر أن يكون معجبا بجداله.
-ينبغي للمناظر أن يتجنب السخرية والسب والشتم وكل الأخلاق الذميمة من حسد وحقد وغيبة وتزكية للنفس ونفاق واستكبار أو رياء.
-ينبغي للمتناظرين تقديم تقوى الله على المناظرة
-ينبغي للمناظر أن يواظب على مطالعة كتبه ورياضة نفسه بذكر السؤال والجواب.
-ينبغي للمناظر ألا يناظر فيما لا يعلم.
-ينبغي للمناظر أن يناظر من يكون في مكانته المعرفية
-ينبغي للمناظر تجنب من يقصد بيان غير الحق
-ينبغي للمناظر أن يحقق ما يسمعه من خصمه
-ينبغي للمناظر الرجوع إلى الحق إن ظهر له
-ينبغي للمناظر أن يقبل على خصمه ويحسن الاستماع إليه
-ينبغي للمناظر فهم كلام خصمه وتلخيصه
-ينبغي للمناظر أن يجتنب التقول على خصمه
-ينبغي للمناظر أن يحافظ على غرضه من المناظرة.
استنتاج عام(2/190)
"كان لكلام ابن حزم طلاوة، وقد أخذت قلوب الناس، وله تصرف في متون تقصر عنها ألسنة فقهاء الأندلس في ذلك الوقت لقلة استعمالهم النظر وعدم تحققهم به فلم يكن يقوم أحد بمناظرته فعلا بذلك شأنه، وسلموا الكلام له وعلى اعترافهم بتخليطه، فحادو عن مكالمته، فلما ورد أبو الوليد الأندلس وعنده من الإتقان والتحقيق والمعرفة بطرق الجدل والمناظرة ما حصله في رحلته أمله الناس بذلك فجرت له معه مجالس…"
القاضي عياض
استنتاج
الهدف الذي تطمح الرسالة لتحقيقه يتمثل في البحث عن مدى التزام ابن حزم والباجي بطرق المناظرة، ولتحقيق المناظرة، ولتحقيق هذا الهدف قسمنا البحث إلى قسمين كبيرين:
القسم الأول: تطبيقي تتبعنا فيه المناظرات حول بعض القضايا المتعلقة بالكتاب والسنة والقياس.
القسم الثاني: نظري وتتبعنا فيه شروط المناظرة وآدابها. وبطرحنا للقسم الأول على الثاني الاستنتاجات التالية:
1-التزام الفقيه الظاهري والمالكي بالطرق المنهجية للمناظرة، ويظهر هذا لو تتبعنا طريقتهما في التعامل مع الدعوى، فالفقيهان يعرضان الدعوى ويبرهنان عليها ويردان على اعتراضات المعترضين، وهكذا تعطينا هذه الطريقة إمكان للحديث عن الهيكل العام للمناظرة والمتمثل في:
أ-الدعوى
ب-الدليل
ج-الاعتراض
د-الجواب(1).
2-التزام الفقيه الظاهري والمالكي بعرض الدعاوى القابلة للاعتراض، بمعنى آخر، فالفقيهان لا يتناظران حول المسلمات أو أوائل العقول، بل يتناظران في المسائل الأصولية الاجتهادية كتناظرهما حول:
أ-النقل القرآني والحديثي
ب-الدلالة القرآنية والحديثية
ج-القياس والتعليل
__________
(1) - انظر الدعاوى المتعلقة بالكتاب والسنة والقياس
كتاب إحكام الفصول : الباجي. الإحكام : ابن حزم.(2/191)
3-التزام الفقيه الظاهري والمالكي بالتراتبية التي تخضع لها المناظرة، فالفقيهان لا يعترضان على الدعوى إلا بعد البرهنة عليها إيمانا منهما بإعطاء الأولوية لبرهان صاحب الدعوى، وإيمانا منهما-كذلك- بالابتعاد عن الغضب.
4-التزام الفقيه الظاهري والمالكي بالبرهنة على الدعاوى المتبناة من طرفهما ويكون دليلهما:
إما نصي (كتاب-سنة)
وإما اجتهادي.
والاختلاف بين الفقيهين على الدليل الاجتهادي واقع، فالفقيه الظاهري يعتمد الدليل البرهاني المستمد من الكتاب والسنة أو المستمد من لمنطق اليوناني(1).
بينما الباجي يعتمد الأدلة الاجتهادية الأصولية كالقياس والاستحسان والمصالح…
5-التزام الفقيه الظاهري والمالكي يعرض تسلسلي للأدلة، يبتدئ عادة بالكتاب والسنة ثم الإجماع ثم الأدلة الاجتهادية.
6-التزام الفقيه الظاهري والمالكي بالاستدلال بالأدلة النصية أو الظاهرية وأحيانا يستدل الفقيه الظاهري بأدلة لا تسعفه ظاهرا ولا نصا، فيلجأ اضطرارا إلى المغالطة والتأويل البعدين.
7-التزام الفقيه الظاهري والمالكي بالمسالك المنهجية الخاصة بالاعتراض، فيتخذ اعتراضهما المراحل التالية:
أ-الاعتراض بالسؤال الجدلي: ويتحدد هذا السؤال تبعا لطبيعة السائل وغرضه، فهو إما سؤال عن المذهب أو عن الدليل أو عن وجه الدليل، أو سؤال بالمطالبة أو سؤال على نفس الدليل ببطله وذلك عن طريق مقابلة دليله بمثله
أو بما هو أقوى منه.
ب-الاعتراض بالوظائف التناظرية المعروفة في فن المناظرة كالمنع والنقض والمعارضة، وإن كان كل من الفقيهين يتجاوز هذه الاعتراضات، فاعترضا على الكتاب ب (المطالبة والمشاركة والمنازعة والتأويل والنسخ واختلاف القراءة(2)، واعتراضا على السنة (بالمطالبة والإرسال والجهالة والاشتراك والتأويل والنسخ والمشاركة(3)… والمعارضة…).
__________
(1) -الإحكام : ابن حزم 6/60.
(2) -الإحكام: ابن حزم 6/118.
(3) -نفسه 7/194.(2/192)
كما اعترضا على القياس (بالاعتراض والمعارضة(1).
ج-الاعتراض بالسؤال العكسي: ويعتمد فيه الفقيهان على معارضة الأدلة بالأسئلة العكسية(2) للدليل المطروح، هذا مع اعتمادها على الأسئلة الإفراجية والتفويضية الاختيارية إضافة إلى الأسئلة الإلزامية الاحراجية(3). وهي الأسئلة الكثيرة التي نجدها خاصة عند الفقيه الظاهري.
8-التزام الفقيه الظاهري والمالكي طرقا لعرض اعتراضهما، فالفقيه الظاهري يعترض اعتمادا على طرق مختلفة، فمرة يقدم دعوى الخصم ويعترض عليها ويعد ذلك يؤسس لدعواه، ومرة يقدم دعواه ويؤسس لها بالأدلة ويعود لانتقاد أدلة ودعوى خصمه دون اتخاذ ترتيب معين وتنظيم قار في مناظرته. بينما الفقيه المالكي يعتمد –غاليا- على تقديم دعواه ويبرهن وبعد ذلك يتعرض لدعوى خصمه ودليله، فينتقدهما منتهيا بتأييد دعواه بأدلة متعددة ومختلفة تبتدئ بالنصوص وتثنى بالاجتهاد.
9-إن التزام الفقيه الظاهري والمالكي بهذه المسالك لا يعني أنهما التزما بها بشكل دائم وموحد، فالفقيه الظاهري كثيرا ما يخرج عن الموضوعية إلى ضدها وكثيرا –كذلك- ما يخرج عن الطرق التناظرية، فيغالط(4)، بل يسفسط سواء في مرحلة الاستدلال أو في مرحلة الاعتراض.
وليس هذا وحسب، بل أنه كثيرا ما يذهب إلى الابتعاد عن الآداب التناظرية فيلجأ إلى السب والطعن في الخصم وعبارة أوقح الناس(5) وبعض أهل الجهل(6) ونعت الخصم بالحمار(7). كثيرا ما تكون مرافقة لاعتراضه على خصمه.
__________
(1) -اعتراضات الباجي على العلة تختلف عن اعتراضات ابن حزم، ولهذا ستظهر اصطلاحات جدلية جديدة مع الباجي. إحكام الفصول، ص : 532-340 – 604 -549-628 –661 –663 -667.
(2) -الإحكام : ابن حزم 3/101 – 102 – 123- 108.
(3) -نفسه 3/40. إحكام الفصول : الباجي 337.
(4) -قد أشرنا إلى بعض المغالطات ضمن هذا البحث. انظر فصل القياس.
(5) -الإحكام : ابن حزم 6/67.
(6) -نفسه 6/98.
(7) -نفسه 6/65.(2/193)
إن هذه الظاهرة لا نجدها بكثرة عند خصمه(1) ولعل ذلك راجع إلى الطبيعة النفسية لكل من الفقيهين(2).
الخاتمة
{ وترى الجبال جامدة وهي تمر مر السحاب }
قوله تعالى
الخاتمة
إن الباحث في المناظرة لا يسعه إلا أن يسجل حقيقة تظهر من الممارسات التناظرية، ولعل أهم حقيقة يمكن ظان تسجل تكمن في اللغة القرآنية. فاللغة القرآنية ولاشك حمالة لأوجه متعددة بالنسبة للمخاطبين لا بالنسبة للمتكلم الأزلي… ولهذا فالإنسان مهما حاول الابتعاد عن التناظر فهو ولا شك ساقط في حبالهن ولا يرجع ذلك إلى طبيعة القرآن الكريم فقط، بل يرجع إلى نسبية المعارف الإنسانية… وهذا غيره من شأنه أن يخفي الوقوف بدقة على مراد الله من كلامه الأزلي… وعنصر الخفاء كان لا بد منه خاصة لما يتعلق الأمر بإعجاز الله المتمثل في تحقيق الاختلاف. وإن الاختلاف الواقع بين بني البشر لا يعني إلا الاختلاف على قراءة النص الأزلي الذي اتخذه الله عز وجل وسيلة لتحقيق إعجازه، وهكذا يكون لا داعي لإحداث سلاليم للتفاهم مادام المتكلم الأزلي يريد الاختلاف ومادام المتكلم-كذلك-يبطن أشياء من المستحيل اطلاع المخاطب عليها… وهنا يكون لا داعي للبحث عن : هل أراد الله عز وجل أن نفهم عنه كما أراد أو أراد أن نفهم ما في وسعنا فهمه ؟
__________
(1) -لم يشر الباجي لمثل هذه الكلمات النابية وإن أشار فهي لا تخرج عن : المتحذلقة كما في الصفحة 569 والمتفقة كما في الصفحة 632 أو شذوذ بعضهم كما في الصفحة 634.
(2) -رسالة المفاضلة بين الصحابة : ابن حزم، تحقيق سعيد الأفغاني 129-130.(2/194)
فهارس
فهرست الآيات القرآنية
-يوسف /77
1-قوله تعالى: "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل"
-النساء /43
2- "أو لا مستم النساء"
-النحل /125
3- "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة…"
-الانعام /106
4- "واتبع ما أوحي إليك"
-فصلت /40
5- "اعملوا ما شئتم"
-المائدة /2
6- "وإذا حللتم فاصطادوا"
-الأحزاب /35
7- "إن المسلمين والمسلمات…"
-التوبة /36
8- "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا.."
-المائدة /96
9- "أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم"
-الحجر /9
10- "إنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون"
-الأنعام /144
11- "أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله.."
-النجم /23
12- "إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم"
-العنكبوت /51
13- "أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم"
-الشورى /21
14- "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله
-النساء /59
15- "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"
-الجاثية /32
16- "إن تظن إلا ظنا"
-آل عمران /59
17- "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم"
-الأعراف /12
18- "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"
-النحل /89
19- "تبيانا لكل شيء"
-البقرة /29
20- "خلق لكم ما في الأرض جميعا"
-آل عمران /173
21- "الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم"
-الواقعة /10-11
22- "والسابقون السابقون أولئك المقربون"
-المائدة /38
23- "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"
-البقرة /196
24- "ففدية من صيام أو صدقة"
-النور / 33
25- "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا"
-النحل /114
26- "فكلوا مما رزقنهم الله"
-النور /63
27- "فليحذر الذين يخالفون عن أمره"
-البقرة /148
28- "فاستبقوا الخيرات"
-الحشر /2
29- "فاعتبروا يا أولي الأبصار"
-النحل /74
30- "فلا تضربوا لله الأمثال"
-يونس /58
31- "قل أرأيتم ما أتزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا"
-الذاريات /10
32- "قتل الخراصون"
-عبس /17-23
33- "قتل الإنسان ما أكفره"
-البقرة /216
34- "كتب عليكم القتال"
-الإسراء /50
35- "كونوا حجارة أو حديدا"
-المؤمنون /51
36- "كلوا من الطيبات"
-الحشر /7
37- "كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم"
-هود / 107
38- "إن ربك فعال لما يريد"
-آل عمران /97
39- "ولله على الناس حج البيت"
-الإسراء /23
40- "ولا تقل لهما أف"(2/195)
-الأنعام /152
41- "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن"
-النساء /82
42- "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"
-النحل /44
43- "لتبين الناس ما نزل إليهم"
-الأحزاب /36
44- "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله.."
-البقرة /245
45- "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"
-الأنعام /38
46- "ما فرطنا في الكتاب من شيء"
-الطلاق /1
47- "ومن يعتد حدود الله فقد ظلم نفسه"
-المائدة /32
48- "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل"
-العنكبوت /46
49- "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن
-البقرة /275
50- "وأحل الله البيع وحرم الربا"
-آل عمران /133
51- "سارعوا إلى مغفرة من ربكم"
-يوسف /82
52- "واسأل القرية"
-النساء /22
53- "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"
-البقرة /110
54- "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"
-البقرة /179
55- "ولكم في القصاص حياة"
-الجن /23
56- "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم"
-محمد /16
57- "ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا"
-البقرة /222
58- "ولا تقربوا حتى يطهرن"
-النمل /88
59- "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب"
-الأنبياء /78
60- "وداوود وسليمان إذا يحكان في الحرث.."
-ص : 21
61- "وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا الحرب"
-النحل /8
62- "والخيل والبغال والحمير لتركبوها"
-آل عمران /75
63- "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار لا يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك"
-النجم /39
64- "وإن ليس للإنسان إلا ما سعى"
-النور /33
65- "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء"
-النجم /3-4
66- "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"
-الأحزاب /62
67- "ولن تجد لسنة الله تبديلا"
-فاطر /43
68- "ولن تجد لسنة الله تحويلا
-التوبة /101
69- "وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق.."(2/196)
-الإسراء /36
70- "ولا تقف ما ليس لك به علم"
-آل عمران /78
71- "وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب
-النحل /116
72- "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب"
-النجم /28
73- "وإن الظن لا يغني من الحق شيئا"
-فصلت /39
74- "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة
-إبراهيم /45
75- "وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم"
-البقرة /26
76- "وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا"
-المائدة /67
77- "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"
-البقرة /282
78- "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين…"
-لقمان /33
79- "يا أيها الناس اتقوا ربكم"
-المائدة /3
80- "اليوم أكملت لكم دينكم"
-البقرة /151
81- "ويعلمكم الكتاب والحكمة"
فهرست الأحاديث النبوية
1-قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرطب : "أينقض؟"
2-قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما جعل الاستئذان من أجل البصر"
3-عن جابر بن سمرة قال "سأل رجل الله - صلى الله عليه وسلم - "أأتوضأ من لحوم الغنم؟
قال : إن شئت فتوضأ.."
4-قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الولاء لمن أعتق"
5-قوله- صلى الله عليه وسلم -: "أتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعدي"
7-قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها"
8-قوله- صلى الله عليه وسلم - للأعرابي : "اعتق رقبة"
9-قوله- صلى الله عليه وسلم - :"إنما نهيتكم لأجل الدافة"
10-حديث عن أبي هريرة أن الأقرع بن حابس سأل النبي- صلى الله عليه وسلم - عن الحج بقوله : "أحجنا هذا لعامنا أو للأبد ؟"، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "بل للأبد.."
11-قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : "بما تقضي أن عرض لك القضاء؟"
12-عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(2/197)
13-قال - صلى الله عليه وسلم -: "تفرق أمتي على بضع وسبعين فرقة.."
14-قوله - صلى الله عليه وسلم - : "سم الله وكل بيمينك"
15-قوله- صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الغنم في كل أربعين شاة شاة"
16-حديث عمر-رضي الله عنه- : "هشهشت يوما وانا صائم.. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - : "ففيم.."
17-قال مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - "قضى باليمين مع الشاهد"
18-قال مالك عن زيد بن أسلم : "أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا له بسوط… فقال : "فوق هذا"
19-مالك عن داود بن الحصين عن الأعرج أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - "كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك"
20-قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو غسلتم"
21-حديث بريرة وكانت قد سألت النبي- صلى الله عليه وسلم - إذا قال لها: "لو راجعيته"
22-قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى".
23-قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال قوم يتأخرون حتى يأخذهم الله تعالى"
23-قوله - صلى الله عليه وسلم - : "المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة"
24-قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : "من قال في القرآن برأيه فليتبوا مقعده من النار"
25-حديث الخثمعية تسأل عن الحج عن أبيها، فأجابها النبي- صلى الله عليه وسلم - "بنعم"
26-نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع البر بالبر
27-نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن التفاضل في البر
28-حديث الرجل الذي تنكر لابنه.. أن امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : هل لك من إبل"؟"
29-قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"
قائمة المصادر والمراجع
-القرآن الكريم
1-الإحكام في أصول الأحكام : ابن حزم(2/198)
تحقيق الشيخ احمد محمد شاكر. منشورات دار الآفاق الجديدة. بيروت، ااطبعة الأولى، 1980.
2-إحكام الفصول في أحكام الأصول : أبو الوليد الباجي
تحقيق عبد المجيد التركي: دار الغرب الإسلامي.بيروت الطبعة الأولى، 1986.
3-الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي: ابن عبد الكافي السبكي.
دار الكتب العلمية: بيروت، الطبعة الأولى، 1984.
4-ارشاد الفحول : الشوكاني
دار الفكر، د.ت.ط
5-الاعتصام : الشاطبي
دار الفكر، د.ت.ط
6-إعلام الموقعين : ابن القيم الجوزية
دار الفكر. بيروت، د.ت، الطبعة
7-الإحكام في أصول الأحكام : الآمدي
دار الفكر. الطبعة الأولى، 1981
8-الأصول والفروع: ابن حزم
دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الأولى، 1984.
9-الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف: ولي الله الدهلوي
مراجعة عبد الفتاح أو غدة. دار النفائس. بيروت، الطبعة الثالثة، 1986
10-آداب البحث والمناظرة : الأمين الشنقيطي
طبعة شركة المدينة المملكة العربية السعودية. جدة 1 و 2 ، د.ت.ط
11-انتصار الفقيه السالك لترجيح مذهب الإمام مالك : الراعي الأندلسي
تحقيق أبو الأجفان . دار الغرب الإسلامي. بيروت، الطبعة الأولى، 1981
12-أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء: مصطفى الحسن مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة، 1985.
13-اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم : نادية شريف العمري
مؤسسة الرسالة.بيروت، الطبعة الأولى، 1981.
14-أشبيلية في القرن الخامس الهجري: صلاح خالص
دار الثقافة. بيروت، 1965
15-الاتجاه العقلي في التفسير /دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة د. نصر حامد أبو زيد
دار التنوير، الطبعة الأولى، 1982
16-أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين بن محمد الشنقيطي عالم الكتب. بيروت، ج : 1، الطبعة الرابعة، د.ت.ط(2/199)
17-الأصول. دراسة ابستمولوجية لأصول الفكر اللغوي العربي : تمام حسان دار الثقافة. البيضاء، الطبعة الأولى، 1981.
18-إحياء علوم الدين: الإمام الغزالي
دار الثقافة. بيروت، د.ت.ط
19-آراء أبي بكر العربي الكلامية (العواصم والقواصم)
تحقيق عمار الطالبي. الشركة الوطنية للنشر. الجزائر، د.ت.ط
20-أرادب المغربي: محمد بن تاويت ومحمد الصادق عفيفي
مكتبة المدرسة. دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، 1960
21-الإمتاع والمؤانسة : أيو حيان التوحيدي
منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت. لبنان، د.ت.ط.
22-الأخلاق عند الرسول وأصحابه: عبد الصاحب الحسن العاملي
مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. بيروت، الطبعة الأولى، 1969.
23-أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام:
محمد العروسي، دار المجتمع. جدة، م.ع.ي، الطبعة الأولى، 1984.
24-الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري : عبد المجيد محمود مكتبة الخانجي،1979.
25-أصول الشاشي: أبو علي الشاشي
دار الكتاب العربي. بيروت، 1982
26-أصول الفقه : العربي اللوه
مطابع الشويخ. تطوان، الطبعة الثانية، 1984
27-أصول الفقه : الخضري
دار الفكر، الطبعة السابعة، 1981
28-بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ابن رشد
دار المعرفة، الطبعة السادسة، 1982
29-البرهان في أصول الفقه: الإمام الجويني
تحقيق عبد العظيم الديب. دار الإنصاف. القاهرة، الطبعة الثانية،1400 هـ
30-البداية والنهاية : ابن كثير
مكتبة المعارف.بيروت، الطبعة الخامسة، 1983
31-التقريب لحد المنطق: ابن حزم
تحقيق إحسان عباس.بيروت، 1959
طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1983
32-التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد : ابن عبد البر النمري مطبعة فضالة. الطبعة الثانية، 1979.
33-تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي : السيوطي
دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الثانية،1979(2/200)
34-تيسير التحرير : محمد أمين المعروف بأمير باد شاه
دار الفكر. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر، د.ت.ط
35-ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان : المرتضى اليماني المشهور بابن الوزير دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الأولى، 1984.
36-تاريخ علماء الأندلس: أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن النبهاني
منشورات دار الآفاق الجديدة . بيروت، ص : 1980
37-التبصرة في أصول الفقه : أبو إسحاق الشيرازي
تحقيق محمد حسن هيتو. دار الفكر. دمشق، ط : 1980
38-تحقيق المذهب : أبو الوليد الباجي / تحقيق عبد الرحمن بن عقيل الطاهري عالم الكتب .م.ع.س. الرياض، الطبعة الأولى، 1983
39-التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح : الحافظ زين الدين العراقي تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان / دار الفكر.بيروت، د.ت.ط
40-تاريخ علماء الأندلس: ابن الفرضي
الدار المصرية للتأليف. المكتبة الأندلسية، الطبعة السادسة، 1966
41-تاريخ ابن خلدون المسمى العبر : ابن خلدون
مؤسسة جمال. بيروت، ط : 1979
42-تاريخ افتتاح الأندلس : ابن القرطبة
تحقيق ابراهيم الأبياري /دار الكتاب اللبناني. بيروت، الطبعة الأولى، 1982
43-تاريخ الدولة الأموية في الأندلس : عبد المجيد نعنعي
دار النهضة العربية. بيروت، د.ت.ط
44-التصور اللغوي عند الأصوليين : د.السيد أحمد عبد الغفار
شركة عكاظ، الطبعة الأولى، 1981-1401
45-التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية : عبد اللطيف عبد الله عزيز البدانجي مطبعة العاني. الجمهورية العراقية، وزارة الأوقاف، الطبعة الأولى،1977
46-تاريخ الشعوب الإسلامية : كارل بوكلمان
ترجمة نبيه أمين ومنير البعلبكي. دار العلم للملايين. بيروت، الطبعة العاشرة، 1984.
47-تيارات النقد الأدبي في الأندلس في القرن الخامس الهجري : مصطفى عليان عبد الرحيم
مؤسسة الرسالة. بيروت، الطبعة الأولى، 1984-1404
48-تاريخ النقد الأدبي في الأندلس : د.محمد رضوان الداية(2/201)
مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1981
49-تاريخ الأدب أل أندلسي. عصر الطوائف والمرابطين : إحسان عباس
دار الثقافة. بيروت، الطبعة السادسة، 1981
50-التاريخ السياسي والاجتماعي لاشبيلية في عهد دول الطوائف :د.محمد بنعبود مطابع الشويخ. تطوان، ط : 1983
51-تاريخ الجدل : الإمام أبو زهرة
دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، 1980
52-تعليل الأحكام : مصطفى شلبي
دار النهضة العربية.بيروت، ص : 1981
53-تفسير النصوص في الفقه الإسلامي : محمد أديب صالح
المكتب الإسلامي.بيروت. الطبعة الثالثة، 1984
54-التربية الإسلامية وفلاسفتها : محمد عطية الأبراشي
ط عيسى البابي الحلبي. مصر، الطبعة الثالثة، 1975
55-تاريخ الفكر الأندلسي : انجل بالنثيا
ترجمة حسين مؤنس، الطبعة الأولى، 1955 – مكتبة النهضة المصرية
56-جمهرة أنساب العرب : ابن حزم
تحقيق عبد السلام محمد هارون / دار المعارف. مصر، د.ت.ط.
57-جامع بيان العلم وفضله : ابن عبد البر
دار الكتب العلمية. بيروت ، ط : 1978
58-جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس : الحميدي
تحقيق إبراهيم الأبياري. دار الكتاب اللبناني. مكتبة المدرسة، الطبعة الثانية، 1983.
59-جذوة المفتبس في ذكر ولاة الأندلس : الحميدي
الدار المصرية للتأليف الأندلسية الثالثة، ط : 1966
60-الجدل في القرآن الكريم : محمد التومي
الشركة التونسية لفنون الرسم، ط: 1980
61-حاشية العلامة الشيخ محمد بن علي الصبان على شرح آداب البحث لمنلا حنفي مطبعة تونس 1344 هـ
62-حاشية العلامة البناني على شرح جمع الجوامع : ابن السبكي
دار الفكر، 1402
63-حاشية العطار على جمع الجوامع : الإمام ابنة السبكي
دار الكتب العلمية. بيروت، د.ت.ط
64-ابن حزم الأندلسي (رسالة في المفاضلة بين الصحابة)
تحقيق سعيد الأفغاني –دار الفكر، الطبعة الثانية، بيروت 1969
65-ابن حزم الأندلسي / زكريا إبراهيم
الدار المصرية للتأليف والنشر، د.ت.ط.(2/202)
66-ابن حزم رائد الفكر العلمي : عبد اللطيف شرارة
دراسات أندلسية. بيروت د.ت.ط.
67-ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي والحضاري : د. عبد الحليم عويس دار الاعتصام. القاهرة، د.ت.ط
68-ابن حزم الكبير : عمر فروخ
دار لبنان. بيروت، ط : 1980
69-ابن حزم صورة أندلسية : طه الحاجري
دار الفكر العربي، د.ت.ط
70-ابن حزم الأندلسي حياته الأدبية : عبد الحكيم خليفة
دار العربية. بيروت د.ت.ط
71-ابن حزم الأندلسي (عصره ومنهجه وفكره التربوي : حسان محمد حسان دار الفكر العربي. القاهرة، د.ت.ط
72-ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس : سالم يفوت
المركز الثقافي العربي. البيضاء. الطبعة الأولى، 1986
73-ابن حزم (حياته عصر أراؤه وفقهه) : أبو زهرة
دار الفكر العربي، د.ت.ط
74-حياة الشيرازي : هيتو محمد حسن
دار الفكر. دمشق
75-الحركة اللغوية في الأندلس (منذ الفتح العربي حتى نهاية عصر ملوك الطوائف: ألبير حبيب مطلق
منشورات المكتبة المصرية.
79-خبر الواحد في السنة وأثره في الفقه الإسلامي : سهير رشاد مهنا
دار الشروق. القاهرة، الطبعة الأولى
80-خلاصة تاريخ الأندلس: الأمير شكيب أرسلان
منشورات مكتبة الحياة. بيروت، ط : 1983
81-ديوان الإمام الشافعي : الشافعي
مؤسسة الزعمي. دار الجيل. بيروت. لبنان، الطبعة الثالثة، 1974
82-دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة : د. الطاهر أحمد مكي دار المعارف، الطبعة الأولى، 1980
83-دلالة الألفاظ على الأحكام من حيث الوضوح والخفاء : النماري عقى-دكتوراه – إشراف عبد العزيز عمر، سنة 1985، م.ع.س
84-الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة : أبو الحسن علي بن بسام
تحقيق إحسان عباس. الدار العربية للكتاب. ليبيا-تونس، ط : 1978 وطبعة دار الثقافة. بيروت، ط : 1979
85-رسائل ابن حزم الأندلسي : تحقيق إحسان عباس
المؤسسة العربية للدرسات والنشر. بيروت، الطبعة الأولى، ج I ط 1980، ج II ط 1981، ج III ط 1981.(2/203)
86-الرسالة : الشافعي
تحقيق أحمد محمد شاكر. دت.ط وط
87-رسالتان في معنى القياس : لشيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم
تحقيق عبد الفتاح محمود عمر. دار الفكر. عمان، الطبعة الأولى، 1987
88-رفع الملام عن الأئمة الإعلام : ابن تيمية
ط : الشؤون الدينية. قطر /المكتبة العصرية. صيدا بيروت. د.ت.ط
89-روضة الناظر وجنة الناظر: ابن قدامة المقدسي
دار الكتاب العربي. بيروت، الطبعة الأولى، 1981
90-الروض المعطار في خبر الإقطار-معجم جغرافي-: محمد عبد المنعم الحميدي تحقيق إحسان عباس. مكتبة لبنان، الطبعة الثانية، 1984
91-رسائل فلسفية : أبو بكر محمد بن زكريا الرازي
دار الآفاق الجديدة. بيروت، الطبعة الأولى، 1973
92-رسالة في علوم الحديث وأصوله : كمال الدين الطائي
مطبعة سلمان الأعظمي. بغداد 1971
93-رفع العتاب والملام عمن قال العمل بالضعيف اختيار إجرام : أبو عبد الله محمد بن قاسم. تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي.
دار الكتاب العربي. بيروت، الطبعة الأولى، 1985
94-السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي : مصطفى السباعي
المكتب الإسلامي-دمشق، الطبعة الثانية، 1978
95-سد الذرائع في الشريعة الإسلامية : محمد هشام البرهاني
مطبعة الريحاني. بيروت، الطبعة الأولى، 1985
96-شرح الكوكب المنير: أحمد عبد العزيز علي الفتحي
تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد. دار الفكر. دمشق، 1980
97-شروط الأئمة الستة ويليه شروط الأئمة الخمسة : الحافظ أبي بكر محمد بن موسى الحازمي. دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الأولى، 1984.
98-شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه : التفتازاني
دار الكتب العلمية. بيروت، ط : 1957.
99-شرح البدخشي، مناهج العقول ومعه شرح الأسنوي، نهاية السول : الإمام عبد الرحيم الأسنوي.
دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الأولى، 1984
100-شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول : القرافي(2/204)
دار الفكر، القاهرة. تحقيق طه عبد الرؤوف، الطبعة الأولى، 1973
101-شرح اللمع : أبو إسحاق الشيرازي
تحقيق عبد المجيد تركي. دار الغرب الإسلامي. بيروت. الطبعة الأولى، 1988.
102-الشافعي : حياته وعصره وأراؤه وفقهه : أبو زهرة
دار الفكر العربي، ط : 1978
103-شرح العلامة محمد بن حسين على الواليدية في آداب البحث والمناظرة للعلامة محمد المرعشي
مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر الطبعة الأخيرة، 1961
104-الشعر والبيئة في الأندلس : ميشال عاصي
المكتب التجاري. بيروت، الطبعة الأولى، 1970
105-صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام : جلال الدين السيوطي
دار الكتب العلمية. بيروت، د. ت .ط
106-ضحى الإسلام : أحمد أمين
مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثامنة
107-ضوابط المعرفة : حنبكة الميداني
دار القلم. دمشق. بيروت، الطبعة الأولى، 1975
108-طبقات الشافعية : ابن تقي الدين السبكي
المطبعة الحسنية المصرية الشهيرة، الطبعة الأولى
109-طبقات الأمم : صاعد الأندلسي
تحقيق العيد بوعلوان. دار الطليعة، الطبعة الأولى، 1985
110-ظاهرة التأويل وصلتها باللغة : السيد أحمد عبد الغفار
دار المعرفة الجامعية د. ت. ط
111-عيون المناظرات : أبو علي عمر السكوني
تحقيق سعد غراب. منشورات المكتبة التونسية، 1976
112-العواصم من القواصم : ابن العربي
تحقيق العلامة محب الدين الخطيب. دار الكتب السلفية. القاهرة، الطبعة الأولي، 1405 هـ
113-عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي : ابن العربي
دار الفكر د.ت.ط
114-عيون الأنباء في طبقات الأطباء : ابن أبي اصبيعة
دار الثقافة. بيروت. لبنان، الطبعة الثالثة، 1981
115-العلوم والآداب والفنون : محمد المنوني
مطبوعات دار المغرب للتأليف. الرباط ، 1977
116-العصر العباسي الأول : شوقي ضيف
دار المعارف. مصر ، الطبعة الثانية
117-العصر العباسي الثاني : شوقي ضيف
دار المعارف، الطبعة الثالثة
118-علم المعاني : عبد العزيز عتيق(2/205)
دار النهضة العربية. بيروت، ط : 1974
119-فصول الأحكام : أبو الوليد الباجي
تحقيق أبو الأجفان محمد. الدار العربية للكتاب والمؤسسة الوطنية للكتاب، 1985.
120-الفصل في الملل والأهواء والنحل : ابن حزم الأندلسي
دار المعرفة. بيروت، الطبعة الثانية، 1975
121-فتح المغيث، شرح ألفية الحديث للعراقي، الإمام السخاوى
دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الأولى، 1983
122-في أصول الحوار وتجديد علم الكلام : د. طه عبد الرحمن
المؤسسة الحديثة. البيضاء، الطبعة الأولى، 1987
123-الفتح المبين في طبقات الأصوليين. مصطفى المراغي
الناشر محمد أمين وشركاؤه. بيروت، الطبعة الثانية، 1974
124-فقه الإمام الأوزاغي : عبد الله محمد الجبوري
مطبعة الإرشاد : بغداد، ط : 1977
125- فن الإقناع ليونيل روبي
ترجمة محمد علي العريان، مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة، 1961
126-فهرست مخطوطات دار الكتب الظاهرية : عبد الحميد حسين
مطبوعات اللغة العربية. دمشق، 1970
127-الفكر الأخلاقي : ماجد فخري
الأهلية للنشر. بيروت 1978
128-في بلاغة الخطاب الاقناعي : محمد العمري
دار الثقافة. البيضاء، الطبعة الأولى، 1986
129-في فلسفة اللغة : كمال يوسف الحاج
بيروت. دار النهار للنشر، الطيعة الثانية، 1978
130-قضايا المنهج في اللغة والأدب : مجموعة مقالات لأساتذة باحثين (مقال الأستاذ التهامي الراجي)
دار توبقال، الطبعة الأولى، 1987
131-ابن قدامة وآثاره الأصولية : تحقيق عبد العزيز عبد الرحمن السعيد
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. كلية الشريعة. الرياض، ط : 2، 1979
132-قاعدة في الجرح والتعديل وقاعدة في المؤرخين : تاج الدين السبكي
تحقيق عبد الفتاح أبو غدة. دار الوعي. حلب، الطبعة الثانية، 1978
133-القوانين الفقهية : ابن جزى
طبعة لبنان .د ت .ط
134-كتاب المنهج في ترتيب الحجاج : أو الوليد الباجي(2/206)
تحقيق عبد المجيد تركي. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، بيروت، 1987
135-كتاب المعونة في الجدل : أبو إسحاق الشيرازي
تحقيق عبد المجيد تركي. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1988
136- الكافية في الجدل : الإمام الجويني
تحقيق فوقية حسين محمود. مطبعة عيسى البابي الحلبي. القاهرة، ط : 1979
137-كتاب الفنون : ابن عقيل الحنبلي
تحقيق جورج المقدسي. دار المشرق. بيروت. لبنان، 1970
138-كتاب المدخل لصناعة المنطق : محمد بم طلموس
المطبعة الأبيرقية. مدريد 1916 – ط حجرية-
139-كتاب الحدود في الأصول : أو الوليد الباجي
تحقيق نزيه حماد. مؤسسة الزعبي. لبنان، الطبعة الأولى، 1973
140-كتاب التوحيد : أبو المنصور الماتريدي
تحقيق فتح الله خليف. دار المشرق. بيروت، 1970
141-كتاب فصل المقال : ابن رشد
دار المشرق. بيروت، الطبعة الخامسة
142-كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام : البزدوي : شرح تأليف الإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري
دار الكتاب العربي. بيروت. لبنان، ط : 1974
143-كتاب تأويل مختلف الحديث : ابن قتيبة الدينوري
دار الكتاب العربي. بيروت، د . ت . ط
144-كتاب الموطأ : الإمام مالك
منشورات دار الآفاق الجديدة. بيروت، الطبعة الثانية، 1981
145-كتاب الفقيه والمتفقه : الخطيب البغدادي
دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الثالثة، 1980
146-كتاب التعريفات /الجرجاني
مكتبة لبنان. بيروت، ط : 1978
147-كتاب المراسيل : الحافظ الرازي
دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الأولى، 1983
148-كتاب أقيسة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم : ناصح الدين عبد الرحمن الأنصاري
تحقيق حسن جابر وعلي أحمد الخطيب. مطبعة السعادة، الطبعة الأولى، 1973
149-اللمع في أصول الفقه : أوب إسحاق الشيرازي
دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الأولى، 1985
150-لسان الميزان : ابن حجر العسقلاني
دار الفكر، د. ت .ط
151-مخطوطة في الجدل : ابن البناء المراكشي(2/207)
في ملكية الباحث، نشرها المؤلف بمجلة كلية الآداب- مراكش العدد التاسع 1994.
152-مخطوطة أبي عبد الله الكلاعي الميورقي
قرأناها على تحقيق أبي خبزة وهي مخطوطة موجودة بمراكش – ابن يوسف-
153-مخطوطة مثارات الغلط في الأدلة : أو عبد الله سيدي محمد بن أحمد بن علي الحسني – خزانة ابن يوسف بمراكش – نشرها المؤلف سنة 1991 مطبعة التيسير ط 1.
154-مخطوطة الإشارة : أبو الوليد الباجي
وهي موجودة بخزانة ابن يوسف بمراكش، نشرها المؤلف سنة 1988 مطبعة النجاح الجديدة ط1.
155-المزن الماطر على الروض الناظر في آداب المناظر : الحسين بن أحمد السياغي
مركز الدراسات والبحوث اليمني. صنعاء، الطبعة الأولى، 1984
156-المعونة في الجدل : الشيرازي أبو إسحاق
تحقيق علي بن عبد العزيز العميريني. مركز المخطوطات والتراث. الكويت، الطبعة الأولى، 1987.
157-منظومة الإمام، ابن حزم في قواعد أصول الفقه الظاهرية
تحقيق محمد ابراهيم الكتاني – جامعة الدلو العربية – معهد المخطوطات العربية.
المجلد : 21، ج : 1، مايو 1975. أعدنا تصحيحها ونشرها سنة 1988.
158-المستصفى من علم الأصول: الغزالي وبهامشه مسلم الثبوت : محب الله بن عبد الشكور / دار الفكر. بيروت، د . ت. ط.
159-المغني في أبواب التوحيد والعدل : القاضي عبد الجبار
تصحيح طه حسين وأمين الخولي. وزارة الثقافة. مصر. مطبعة دار الكتب، 1962
160-المحلى : ابن حزم الأندلسي / تحقيق لجنة إحياء التراث العربي
دار الآفاق الجديدة. بيروت ، د.ت.ط
161-متن البخارى بحاشية السندي
دار الفكر، د.ت.ط
162-مقدمة ابن خلدون
دار القلم. بيروت، الطبعة الأولى، 1978
163-مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث
دار الكتب العلمية. بيروت، ط : 1978
164-المعتمد في أصول الفقه : أبو الحسين البصري المعتزلي
دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الأولى، 1983
165-الموافقات في أصول الأحكام : الشاطبي
دار الفكر، د .ت.ط
166-مجموع الفتاوى : ابن تيمية(2/208)
المكتب التعليمي السعودي بالمغرب. مكتبة المعارف. الرباط، د. ت .ط المجلد
20-19-9
167-منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل : ابن الحاجب
دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان، الطبعة الأولى، 1985
168-المنطق عند الفارابي
تحقيق رفيق العجم. دار المشرق. بيروت، ط : 1986
169-منطق أرسطو
تحقيق عبد الرحمن بدوي. دار القلم. بيروت-الكويت، الطبعة الأولى، 1980
170-المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل : ابن بدران الدمشقي
دار إحياء التراث العربي، د .ت . ط
171-مفتاح الوصل في علم الأصول : الشريف التلمساني
منشورات مكتبة الوحدة العربية – البيضاء، د . ت .ط
172-معيار العلم في فن المنطق : الإمام الغزالي
دار الأندلس. بيروت، الطبعة الثالثة، 1981
173-المنخول من تعليقات الأصول : الإمام الغزالي
تحقيق محمد حسن هيتو. دار الفكر. دمشق، 1980
174-ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل : ابن حزم تحقيق سعيد الأفغاني. مطبعة جامعة دمشق، 1960
175-المنطق : السيد إبراهيم الموسوي الزنجاري
مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. بيروت، الطبعة الأولى، 1979
176-المقتبس من أنباء أهل الأندلس : ابن حيان القرطبي
تحقيق محمود علي مكي، دار الكتاب العربي. بيروت. لبنان، 1973
177-المسائل في الخلاف بي البصريين والبغداديين : أبو رشيد النيسابوري المعتزلي
تحقيق معن زيادة ورضوان السيد. معهد الإنماء العربي. طرابلس. ليبيا، الطبعة الأولى، 1979.
178-معجم الأدباء : ياقوت الحموى
مطبعة دار المأمون . مصر، الطبعة الأخيرة، ج : 11
179-مجموع المتون الكبرى
مطبعة الاستقامة. القاهرة، 1958
180-مناظرات فخر الدين الرازي في بلاد ما وراء النهر
تحقيق فتح الله خليف. دار المشرق. بيروت، 1966
181-المراسيل مع الأسانيد : أبو داود سليمان بن الأشعت
تحقيق الشيح عبد العزيز عز الدين. دار القلم. بيروت، الطبعة الأولى، 1986
182-المزهر في علوم اللغة : عبد الرحمن السيوطي(2/209)
دار الفكر، د . ت. ط
183-المنطق الوضعي : زكي نجيب محمود
طبع القاهرة، 1961
184-المنحى الاعتزالي في البيان وإعجاز القرآن : أحمد أبو زيد
مكتبة المعارف. الرباط، الطبعة الأولى
185-محمد بن وضاح القرطبي مع بقي بن مخلد : نوري معمر
مكتبة المعارف. الرباط، الطبعة الأولى، 1983
186-مدخل إلى أصول الفقه المالكي : محمد المختار ولد أباه
الدار العربية للكتاب، ص : 1987
187-موقف الفقهاء من الفلسفة الإسلامية في الغرب الإسلامي في القرنين السادس والسابع الهجري: الأمين مصطفى بوخبزة
رسالة ماجستير. قسم الفلسفة. كلية دار العلوم. جامعة القاهرة إشراف د.عبد اللطيف محمد العيد، 1986.
188-المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي : د. فتحي الدريني.
الشركة المتحدة للتوزيع. سوريا. الطبعة الثانية، 1985
189-مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية بين ابن حزم والباجي : عبد المجيد تركي دار الغرب الإسلامي. بيروت، الطبعة الأولى، 1986 / ترجمة وتحقيق وتعليق عبد الصبور شاهين. مراجعة : عبد الحليم محمود.
190-المنطق والنحو الصوري : طه عبد الرحمن
دار الطليعة. بيروت، الطبعة الأولى، 1983
192-المعالم في علم أصول الفقه : فخر الدين الرازي، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض
دار عالم المعرفة-القاهرة، ط 1994.
193-مالك (حياته وعصره –أراؤه وفقهه) : محمد أو زهرة
دار الفكر العربي، الطبعة الثانية
194-مناهج البحث عند مفكري الإسلام : علي سامي النشار
دار المعارف. القاهرة، الطبعة الرابعة، 1978
195-منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي : صلاح الدين الأدلبي
دار الآفاق الجديدة. بيروت، الطبعة الأولى، 1978
196-المناظرات في الأدب العربي إلى نهاية القرن الرابع : أحمد أمين مصطفى
دار النشر للطباعة، 1984
197-مذكرة في أصول الفقه على روضة الناظر للعلامة ابن قدامة : محمد الأمين الشنقيطي.
دار القلم، بيروت، د . ت .ط(2/210)
198-المدخل إلى أصول الفقه المالكي : محمد عبد الغني الباجقني
دار لبنان. بيروت، الطبعة الثانية، 1983
199-مفتاح كنوز السنة : أ.ي فنسنك
نقله إلى العربية فؤاد عبد الباقي. دار القلم. بيروت، الطبعة الثانية، 1985
200-المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : محمد فؤاد عبد الباقي
دار الفكر. بيروت، د.ت.ط
201-المنهج الظاهري في العقائد عند ابن حزم : إعداد سعيد بنكروم محمد، إشراف د.عبد اللطيف محمد العيد. القاهرة، 1986.
202-مختصر تنقيح الفصول : الإمام القرافي
مركز إحياء التراث المغربي، ط : 1988
203-المقدمات الممهدات : ابن رشد
دار صادر –بيروت، د . ت ط.
204-نشر البنود على مراقي السعود : سيدي عبد الله الشنقيطي
إحياء التراث الإسلامي. المغرب والإمارات. مطبعة فضالة، د . ت . ط
205-نقض المنطق : ابن تيمية. تحقيق عبد الرازق حمزة وسليمان عبد الرحمن
مكتبة السنة المحمدية، د . ت .ط
206-النبذة الكافية في أحكام أصول الدين : ابن حزم
تحقيق محمد أحمد عبد العزيز. دار الكتب العلمية. بيروت، الطبعة الأولى، 1985
207-نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب : أحمد بن محمد المقري
تحقيق إحسان عباس /دار صادر. بيروت، 1968.
ونشر : M Dozy G puyat amsterdam Oriental Presse 1967
208-نظرية القياس الأصولي : محمد سليمان داود
دار الدعوة. الإسكندرية، 1984-1304
209-النسخ في دراسات الأصوليين : نادية شريف العمري
مؤسسة الرسالة. بيروت، الطبعة الأولى، 1985
210-نظرات في اللغة عند ابن حزم : سعيد الأفغاني
دار الفكر . د . ت. ط
211-نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : علي سامي النشار
دار المعارف. القاهرة، الطبعة السابعة، 1977.
الدوريات
1-أعمال ندوة ابن رشد. كلية الآداب. الرباط
دار النشر المغربية. البيضاء، أبريل 1978.
2-دراسات. مجلة علمية تصدر عن الجامعة الأردنية – عماد البحث العلمي-عمان، العدد : 7 المجلد : 14 ، 1978.(2/211)
3-دراسات عربية. العدد : 4، السنة 19 فبراير 1983
4-دراسات وبحوث لغوية – رقم: 2. مركز البحث والإعلام الوثائقي للعلوم الاجتماعية والإنسانية. وهران 1983. جامعة وهران
5-الفكر العربي المعاصر. العدد : 41 السنة 1986
6-مجلة كلية فاس، العدد : 6 – 1983-1982. مطبعة النجاح الجديدة
7-مجلة دار الحديث الحسنية، العدد الثاني، 1981
8-مجلة الإنماء العربي للعلوم الإنسانية. بيروت، العدد : 42، السنة : 7
9-مجلة الثقافة المغربية : العدد : 1، السنة 1970
10-مجلة كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم، العدد : 3، 1404-1403، م. ع. س، جامعة الإمام محمد بن سعود.
11-مجلة كلية الآداب – مراكش العدد 9/1994، مطبعة إدويسعدن 1994.
12-ندوات أكاديمية، المملكة المغربية، السفر : 12، السنة 1985.
13-ندوة الإمام مالك، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، مطبعة فضالة، ط: 1980.
قائمة المراجع الأجنبية
1-Arnaldez (R) Grammaire et théologie chez Ibn Hazn de cordou
Edition vrin Paris 1956
2-Arnaldez ( R) La place du coran dans les usules Al FIQH d’après
les muhalla d’Ibn Hazem / Studia Islamica XXXII.
3-Blanche (R ) Le raisonnement
Presses Universitaire de France 1973.
4-Chehata (ch) Etude de philosophie musulmane du droit / studia Islamica XXIII
5-Doze (R) Supplément aux dictionnaire Arabes beyrouth 1968.
6-Gimarat (0) Un problème de théologie Musulmane ; Dieu veut-il les actes mauvais ? thèses et arguments
Sudia Islamica VXL Maison neuve Larouse 1974.
7-Magdi (W) A diction ary of literary termes Beirut 1974.
8-Makdissi (G) Ibn Aqil (et la résurgence de l(Islam tradition a liste au XI siècle) institut Français de Damas 1963.
9-Oléron (P) L’argumentation
CO (que sais-je presse universitaire de France 1983).(2/212)
10-Perelman (ch) Le champs de l'argumentation
Presses universitaires de Bruxelles 1970.
11-Si Naceur (A) Signification de la dialoctique
Académia n° 1 – 1984.
12-Turki (A) Polémique entre Ibn Hazem et Bàji sur les principes de la loi musulmane / Alger 1976.
13-Turki (A) Introduction de l'Art de la polémique
Maison neuve et larose – Paris 1978.
14-Taha (A) Langage et philosophie
Imprimerie de Fédala 1979.
فهرست الموضوعات
تقديم
الإهداء
مقدمة
مدخل : تاريخ المناظرة بالأندلس
عوامل شيوع المناظرة بالأندلس
أولا : العامل الداخلي
ثانيا : العامل الخارجي
الفصل الأول : الاعتراض على الاستدلال بالكتاب
I-الاعتراض على الدلالة الأصولية
-ظاهرية ابن حزم
-باطنية الباجي
المناظرات
أولا : المناظرة بين المالكية وابن حزم
ثانيا : المناظرة بين ابن حزم والباجي
II-الاعتراض على الاستدلال ببعض أوجه القراءات القرآنية
-الاختلاف على القراءة الآحادية
-الاختلاف على القراءة المتواترة
الفصل الثاني : الاعتراض على الاستدلال بالسنة
I-ابن حزم المناظر المحدث والباجي المناظر الأصولي
-أولا : الخبر المتواتر
-ثانيا : شروط قبول الخبر
-ثالثا : الإكثار من الرواية
II-ابن حزم الظاهري والباجي المالكي
أوليتان
-رفض الترجيح(2/213)
-الإيمان بالقطع
III-المناظرات
-دعوى حصول العلم بالخبر الواحد
-دعوى وجوب العمل بالخبر المرسل
-دعوى التعارض والترجيح
الفصل الثالث : الاعتراض على الاستدلال بالقياس
I-أوليات
أولا : القياس بين الفقه والمنطق
ثانيا : جدلية تناهي النصوص وكمالها
ثالثا : جهل الإنسان (المعرفة)
رابعا : المباح (الأحكام)
II-المناظرات:
-1 نفي الاحتياط وقطع الذرائع المشتبه
-2 نفي الاستحسان والاستنباط والرأي
-3 نفي التقليد
-4 نفي القياس
-5 قوادح التعليل
الفصل الرابع : منهج المناظرة
I-الدعوى
II-الدليل
III-الاعتراض
كيفية الاعتراض في المناظرة العقلية
كيفية الاعتراض في المناظرة الشرعية
استنتاج عام
خاتمة
فهرست الآيات القرآنية
فهرسة الأحاديث النبوية
قائمة المصادر والمراجع
فهرس الموضوعات
رقم الإيداع القانوني : 98/1136
مطبعة فضالة
زنقة ابن زيدون – المحمدية (المغرب)
الهاتف : 32.46.45 (03) الفاكس : 32.46.43(03)(2/214)