سيرة الصحابة: الأئمة الأربعة : الدرس 4/6 لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
الموضوع : الإمام الرباني أحمد بن حنبل 1/ 2 .
تفريغ : م. م . عرفان النابلسي
التدقيق اللغوي : الأستاذ أحمد مالك .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، أنهينا في الدرس الماضي موضوع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، وننتقل اليوم إلى إمام ثالث ، هو الإمام الرباني أبو عبد الله أحمد ابن محمد بن أحمد بن بلال بن أسد الدهلي الشيباني ، أعني ابن حنبل ، وأشدُّ ما لفت نظري كلمة الإمام الرباني:
[ سورة آل عمران ]
معنى الإنسان الرباني ، أي أنه لا يتحرك إلا بتوجيهات الله ، لا يحب إلا لله ، لا يبغض إلا لله ، لا يعطي إلا لله ، لا يمنع إلا لله ، لا يصل إلا لله لا يقطع إلا لله كل حياته مشغولة بذكر الله بالدعوة إلى الله بخدمة الخلق إلى أن يلقى الله ، والله عز وجل أمرنا أن نكون ربانيين، فهناك إنسان رباني ، وهناك إنسان شهواني ، الشهواني مع مصالحه ، مع نزواته ، مع غرائزه ، مع أهدافه الخسيسة ، أما الرباني ينطلق من توجيهات الله ، نفسه ليست له ، فنيت نفسه في حب الله ، يعطي لله ، يمنع لله ، يسامح لله ، يغضب لله ، يرضى لله ، لا يتكل إلا على الله ، لا يرجو إلا الله ، لا يعلق الأمل إلا بما عند الله لا يخاف إلا الله .(1/1)
أيها الإخوة ، يجب أن نكون جميعاً ربانيين ، الإمام الرباني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن بلال بن أسد الدهلي الشيباني ، قال حرملة : سمعت الشافعي يقول : "خرجت من بغداد، وما خلفت بها أفقه ، ولا أزهد ، ولا أورع ، ولا أعلم من أحمد بن حنبل" ، هل لفت نظركم في هذه المقولة شيء ؟ الإمام الشافعي يقول :"خرجت من بغداد ، وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل" ، شيء في هذه المقولة يلفت النظر ، من جانب آخر يا ترى هل دعاتنا ، ويعرف بعضهم قدر بعض ؟ أم يطعن بعضهم ببعض ، هل هناك إنصاف ، هل عندك الجرأة الأدبية أن تقول : فلان إنسان جيد ، إنسان عالم ، إنسان ورع ، وأنت عالم مثله، أما توجد عداوة ؟! إن لم ننصف بعضنا ، إن لم نعرف قدر بعضنا نسقط جميعاً من عين الله ، الإمام الشافعي يقول "خرجت من بغداد ، وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل".
وقال المزني : قال لي الشافعي :" رأيت ببغداد شاباً إذا قال حدثنا قال الناس : صدق ، قلت : ومن هو ؟ قال : أحمد بن حنبل" .
إخواننا الكرام ، الدعوة إلى الله دعوتان ؛ دعوة إلى الله خالصة ، ودعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله ، الدعوة إلى الله من خصائصها الاتباع ، وإنكار الذات ، والتعاون ، والاعتراف بالفضل ، والدعوة إلى الذات المغلفة بالدعوة إلى الله من خصائصها الابتداع ، والتنافس ، وإنكار الفضل ، والطعن في الآخرين ، فقبل أن تدعو إلى الله يجب أن تتأكد ما إن كنت حقيقةً تدعو إلى الله ، أم تدعو إلى ذاتك ، وأنت لا تدري .
قال الزعفراني : قال لي الشافعي - وهذا قول ثالث - : "ما رأيت أعقل من أحمد" .
بالمناسبة الإنسان لا يزيد عن أن يكون عقلاً يدرك ، وقلباً يحب ، والنبي عليه الصلاة والسلام بحكمةٍ بالغة ربط العقل بالقلب فقال : أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .*(1/2)
ذات مرة ضربتُ مثلاً : لو وضعنا على طاولة قطعة ماس ثمنها ثمانية ملايين ليرة ، هي بحجم جبة البندق ـ برلنت ـ وكأس كريستال ثمنه ألف ليرة ، وقطرميز ثمنه عشرون ليرة ، وقلنا لك : اختَرْ ، ألا أستطيع أن أكتشف عقلك من اختيارك ؟ أنت استكبرته ، ألا أستطيع أن أكتشف عقلك من اختيارك ؟ إذا كان عقلك أرجح اخترت أصغر قطعة ثمنها ثمانية ملايين ، أكبر شيء القطرميز ، والوسط الكأس ، وأصغر شيء الماس ، فعن أبي قتادة : أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمركم به ، ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلكم تطوعا ".
[ ابن المجبر أحاديث الإحياء للحافظ العراقي ]
فإذا رأيت إنسانًا كل همه طاعة الله ، كل همه التقرب إليه ، كل همه موالاة أحبابه ، معاداة أعدائه ، كل عطائه لله ، كل منعه لله ، كل وقته لله ، لا يرضى إلا إذا رضي الله ، هذا الإنسان إذا قلت له ما أعقلك ، ففعلاً ليس هناك من هو أعقل منه .(1/3)
يروى أن أبا سفيان لما فتح النبي مكة المكرمة قال : يا محمد ما أعقلك ، وما أرحمك ، وما أوصلك ، وما أحكمك ؛ عقل ، رحمة ، حكمة ، صلة ، لذلك لا يمكن أن يسمَّى العاصي عاقلاً ، ولو كان يحمل شهادة بورد ، أبداً ، لا يمكن أن يسمى العاصي عاقلاً ، لكن يسمى ذكياً في اختصاصه ، في الاحتيال ، في كسب المال ، في الإيقاع بين الآخرين ، هو ذكي جداً، ذكاء شيطاني ، أمّا أن يسمى عاقلاً فلا ، إنما الدين هو العقل ، وَمَن لا عقل له لا دين له ، لمجرد أن تعصي الله فأنت مدموغ بالغباء والكفر ، لقول الإمام الغزالي : "يا نفس لو أن طبيباً منعكِ من أكلة تحبينها ، لاشك أنكِ تمتنعين ـ مثل واقعي ، رجل معه ضغط شرياني ، يقول له الطبيب : اترك اللحم ، يقول : حاضر طبيب ـ يا نفس أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟ ـ يقول له الطبيب : اترك الملح ، فلا يذوق الملح شهرين ، بع بيتك ، يعرضه للبيع مباشرة ، وسريعا ـ يا نفس أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟ إذاً ما أكفركِ !! أيكون وعيد الطبيب ـ يقول له الطبيب يصبح معك جلطة انتبه ـ أشد عندك من وعيد الله جهنم ، إذًا الجلطة أشد وأخوف عندك من جهنم ، قال : إذاً ما أجهلكِ.
فكل إنسان يصدق الطبيب ، ولا يصدق الله ما أكفره ، وكل إنسان يرى وعيد الطبيب أشد من وعيد الله ، فما أجهله ، وكل من يعصي الله مدموغ بالجهل والكفر .(1/4)
وعن الشافعي - وهو قول رابع - قال : "أحمد إمام في ثماني خصال ، إمام في الحديث ، إمام بالفقه ، إمام في القرآن ، إمام في اللغة ، إمام في السنة ، إمام في الزهد ، إمام في الورع ، إمام في الفقر "، أما عند الفقر فهناك تعليق جيد : يقول التجار : إذا لم تملك مكتبًا فخمًا ، وسيارة غالية فلا تستطيع أن تعمل ، ولا بد لك من سمعة كبيرة ، وهذه أثرها خاص بالتجارة ، هذه الكلمات تشير إلى مظهر الغني ، مكتب فخم ، ومركبة فخمة ، ومظاهر فخمة ، فترى الناس يشترون ، ويوكلونك وكالات ، ويثقون بك ، أما عند العلماء فبالعكس ، كلما كان العالم أكثر زهداً ارتفع عند الله ، لأنه إذا انغمس في الرفاهية لم يصدقه الناس ، ولو ادعى الورع والزهد .
يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال : بل نبياً عبداً ، أجوع يوماً فأذكره ، وأشبع يوماً فأشكره ، فإذا رأيت عالمًا حياته خشنة ، ووسط ، فهذا وسام شرف له ، لأنه الورع حسن ، لكن في العلماء أحسن ، والسخاء حسن ، لكن في الأغنياء أحسن ، والتوبة حسنةٌ ، لكنها في الشباب أحسن ، والحياء حسن ، لكن في النساء أحسن ، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن ، والعدل حسن لكن في الأمراء أحسن .
وعن الشافعي قول خامس : "قال أحمد إمام في ثماني خصال ، إمام في الحديث ، إمام بالفقه ، إمام في القرآن ، إمام في اللغة ، إمام في السنة ، إمام في الزهد ، إمام في الورع ، إمام في الفقر".
ورد عن النبي أنه قال : الفقر فخري ، والزهد حرفتي واليقين قوتي ، والعلم سلاحي والمعرفة رأس مالي ، والرضى غنيمتي ، وذكر الله أنيسي .
وقال إسحاق سمعت يحيى بن آدم يقول : "أحمد بن حنبل إمامنا " .(1/5)
الإنسان بالتواضع ، وخدمة الخلق ، وإنكار الذات يحبه الناس ، ما أخلص عبد لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة ، قال بعض العلماء : "لو أحمد بن حنبل لم يبذل نفسه لِما بذلها له لذهب الإسلام" ، وهناك أمرٌ خطير وقع في عصر الإمام أحمد بن حنبل ، فقد شاعت بدعة لا أصل لها ، وهي أن القرآن مخلوق ، وقد اعتنق هذه البدعة الخليفة ، وأي عالم لا يقر أمام الناس بهذه البدعة يُقتل ويسجن ، ويعذب ، وأكثر علماء زمانه قالوا : القرآن، والإنجيل ، والتوراة ، والزبور كلها مخلوقة ، كما تريدون ، والقائلُ منهم يقصد أصابعه عندما يَعُدُّ هذه الكتب ، ومَن قال كذلك سلِم من العذاب ، إلا الإمام أحمد بن حنبل ، فقدْ رفض أن يقر بهذه البدعة ، فدخل السجن ، وضرب ، وعذب سنوات عدة ، إلى أن أكرمه الله ، وأظهر الحق على يديه .
قال بعض العلماء : : "لو أحمد بن حنبل لم يبذل نفسه لِما بذلها له لذهب الإسلام" ، لذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى رأى طفلاً صغيرًا أمامه حفرة ، كاد أن يقع فيها فقال له : "إياك يا غلام أن تقع ـ وكان الطفل ذكياً جداً ـ فقال : بل إياك أنت يا إمام أن تقع ، إني إن وقعتُ وقعتُ وحدي ، ولكن إنك إنْ سقطتَ سقطَ العالَمُ معك" ، أحيانًا تكون الأنظار معقودة بعالم يسقط فيسقط الناس معه ، يخيب ظنهم ، أحياناً تُعلِّق الآمال على عالم ، فإذا تكلم بخلاف قناعته سقط ، لذلك قال تعالى :
[ سورة الأحزاب ]
لماذا ضَنَّ الله عز وجل على هؤلاء الدعاة بالصفات الكثيرة ؟ أليسوا صادقين ؟ ألم يذكر أنهم صادقون ، ألا يصلُّون ؟ أمَا ذكر ذلك ؟ ألا يصومون أمَا ذكر ذلك ؟ أليسوا أمناء ؟ أمَا ذكر ذلك ؟ قال تعالى :
[ سورة الأحزاب ](1/6)
يخشونه فقط ، لأنّ هذه صفة اسمها في البلاغة صفة مترابطة مع الموصوف ترابطًا وجوديًّا ، فإذا ألغينا الصفة ألغينا الموصوف ، تقول الطائرة كبيرة ، والبيت كبير ، صفة عادية، قل : غالية الثمن ، واليخت أيضاً غالي الثمن ، قل : فخمة ، والباخرة فخمة ، لكن قل: تطير ، فهذه الصفة تنفرد بها الطائرة ، فإذا ألغيناها ألغينا الطائرة ، الطائرة التي وضعت قرب مسجد الشيخ رسلان هل تطير ؟ هذه مطعم ، وليست طائرة ، كانت طائرة قبل هذا ، ما دام أنها لا تطير فإذاً ليست بطائرة ، بل هيكل طائرة ، وربنا عز وجل لما ذكر الذين يبلغون رسالات الله ، ما ذكر من صفاتهم إلا صفة واحدة ، هي أنهم يخشون الله ، ولا يخشون أحداً إلا الله ، فإذا تكلموا بالباطل إرضاءً لمن يخشونه ، وسكتوا عن الحق إرضاءً لمن يخشونه ، فماذا بقي من دعوتهم ؟ انتهت ، ليس لنا علاقة باستقامتهم ، إنه صائم ، ويصلي ، صادق ، أمين ، يهمنا إن سكت عن الحق إرضاءً لمن يخشاه أو نطق بالباطل إرضاءً له انتهى أمره ، فهذه صفة مترابطة مع الموصوف ترابطًا وجوديًّا .
[ سورة الأحزاب ](1/7)
أحمد بن حنبل إمام الدنيا ، هو إنسان مؤمن ، مؤمن كبير ، عالم جليل ، فقيه ، ثم يصل إلى أعلى مرتبة إمام الدنيا ، في الكتب أحيانا يقول لك المؤلِّف : فريد عصره ، ووحيد زمانه، الإمام أحمد بن حنبل وصل إلى أعلى درجة ، ورغم ذلك جاءه وفد من المغرب معه ثلاثون سؤالاً ، طرحوها عليه فأجاب عن سبعة عشر سؤالاً ، والباقي قال لهم : لا أدري ، فقالوا : هل من المعقول أنّ الإمام أحمد لا يدري ؟ قال لهم : قولوا لمن أرسلكم : إنّ الإمام أحمد بن حنبل لا يعلم ، العلم هكذا ، كلمة (لا أعلم) وسام شرف ، هل تصدقون أن الذي يعلم كل شيء لا يعلم شيئاً ، يجب أن تكون دقيقًا في كلامك ، سألوك سؤالاً دقيقًا في الفقه اتركه للغد ، راجعه ، لا تتسرع ، وإنْ تعطِ جوابًا سريعًا تصغر ، ابقَ علميًّا ، كلمة (لا أعلم) أفضل مليون مرة من أن تعطي فتوى غير صحيحة ، لأنه تعلق الناس بك ليس شيئًا قليلا ، وأنا عندي سواء أن يحرِّم شخص حلالاً ، أو أن يحلل حراماً ، فهما سيان ، وهذا شيء يمكن أن يكون .
مرة أخ كان يعاني من الفقر حدًّا لا يوصف ، وهو يعمل في مهنة يدوية تزينية ، فجاءه شخصٌ وعرض عليه أنْ يصنع أغلفة مصاحف لكنه رفض ، لأن المتقدِّمَ غير مسلم ، فما رضي أن يعامله ، فمن قال لك ؟ الصفقة جائزة ، وهذا جهل ، لكنه حرم نفسه رزقًا كبيرًا لجهله ، فالنبي تعامل مع أهل الكتاب ، فمِن الجهل ، أنْ تحرِّم الحلال ، وتحلَّ الحرام .(1/8)
بالمناسبة أي إنسان يقول لك : هذا حرام فشيءٌ سهلٌ ، أما أن يقول لك : حلال ، فلا بد أن يعطيك الرخصة ، والدليل ، فقبل أن تقول : حلال أو حرام عُدَّ إلى المليون ، وارجع إلى المراجع ، أو اسأل ، وهذه نقطة مهمة جداً ، قال علي بن المديني : "ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل ـ وفي قول : إنه حفظ ألف ألف حديث ، أيْ مليون ـ وبلغني مع ذلك أنه كان لا يحدث إلا من كتاب" ، هذا الذي أمامك أمانة في عنقك ، سمعت عن خطيب أنه قادر على أنْ يلقي خطبة ، ولو كان يستلقي على الفراش ، ويتكلم لشدة ثقافته وتمكنه ، يمكن أن يلقي خطبة لا يستطيعها إنسان بعد تحضير شهر ، ومع ذلك لا يلقي على الناس خطبةً إلا من ورقة ، فقالوا له : لماذا يا سيدي ؟ قال : لأن هذه الخطبة أمانة سوف أحاسب عنها كلمةً كلمة ، وحرفاً حرفاً .
مرة سألوا أحد رؤساء الجمهوريات في أمريكا : كم تعِدُّ لخطاب يلقى في عشر دقائق ؟ قال: عشر ساعات ، كم تعِدُّ لخطاب يلقى في ساعة ، قال : ساعة ، كم تعد لخطاب يلقى في ثلاث ساعات ، قال : لا أعدُّ له إطلاقاً ، عند ذلك أقول كلَّ ما يخطر على بالي .
والله عز وجل جمع لك الناس ، وقال تعالى :
[ سورة الجمعة ]
مَن جمع لك الناس ؟ الله عز وجل ، إنّهم لم يأتوا رغبةً في شخصك ، بل جاؤوا ينفذون أمرًا إلهيًّا ، فما دام الله عز وجل هو الداعي فكيف يكون أن إعدادك للخطبة ؟ لا بد من إتقانها الإتقان كله .
قال علي بن المديني : "ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، وبلغني مع ذلك أنه كان لا يحدث إلا من كتاب" ، ولنا به أسوةٌ حسنة ، إن هذا العلم دين ، حديث حديث ، آية آية، تفسير دقيق ، ضبط للنصوص ، شرح أصولي ، لأن هذا أمانة ، والمسلم سلَّمك قياده، وقال لك علمني ، " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ".
[ السيوطي ، ضعيف ](1/9)
ابن عمر دينك دينك ، إنه لحمك ودمك ، خذ عن الذين استقاموا ، استقامت عقيدتهم ، واستقامت نصوصهم ، واستقامت أخلاقهم ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا.
قال علي بن المديني : "أمرني سيدي أحمد بن حنبل ألاَّ أحدث إلا من كتاب" ، مرة سيدنا عمر قال : "كنت قد أعددت كلاماً قاله عني أبو بكر" ، قال خطيب يومًا : أصعد إلى المنبر وليس في ذهني ما أقوله ، وأتركه على التيسير .
مرة قال لي شخص حضر خطبة : فتح ثمانية وعشرين موضوعًا ، ولم يغلق واحدًا ، خطر له خاطر قاله ، وهذا خطأ فادح ، حدثنا رجل توفي رحمه الله ، له أب من رواد مسجد ، يلاحظ شخصًا في أثناء الخطبة يجلس على الباب الخارجي للمسجد ، يتسلى مع المارة ، والخطيب على المنبر ، هل هذا معقول والخطيب على المنبر؟! خطيب يلقي خطبة ، وأنت جالس تتسلى مع المارة ، فجاء ، وقال له : يا رجل ، أنت مسلم ، وحرام عليك ما تفعله ، والخطبة مستمرة ، والخطيب على المنبر ، قال له : أنت مِن كم سنة لك في الجامع ؟ قال له : ست سنوات ، قال له : أنا منذ ثمانية وعشرين عامًا ، فاذهبْ ، وأحْضِرْ لي كلمة من كلام الخطيب حتى أكمل لك الخطبة كلها ، فمنذ ثمانية وعشرين عامًا لا يوجد في الخطبة تجديد ولا جديد .
إذا كان الله عز وجل هو الذي دعا الناس إلى المسجد ، فينبغي أن تعد كلامك ، وإعداد الكلام احترام للحاضرين ، واحترام لوقتهم ، واحترام لمجيئهم ، ولأشخاصهم ، لأنهم اختاروك على غيرك ، قال سيدنا عمر : "كنت قد أعددت كلاماً قاله عني أبو بكر" .(1/10)
قال أحد العلماء : "أحمد بن حنبل حجة الله على خلقه" ، كيف ؟ يعني لو فرضنا أن الفساد عمَّ ، والناس كلهم مدُّوا أيديَهم إلى الحرام ، وأحد الناس يعاني من أشد أنواع الفقر ، وما مد يده ، فهذا حجةٌ على مَن حوله ، أحيانا يعمُّ الفساد ، ويقول لك رجل : أنا أعمل بقدر الراتب ، لو وجدت إنسانًا مِن ذوي الراتب المحدود يعمل بإخلاص فهذا الإنسان حجةٌ على مَن حوله .
كل الناس يطلقون أبصارهم في الحرام ، وشاب في مقتبل العمر يغض بصره غضاً حازماً نقول هذا الشاب حجةٌ على الشباب ، والله عز وجل في كل زمان له أولياء هم حجةٌ على من عاصرهم ، معظم الناس انحرفوا ، وفلان لماذا لم ينحرف ؟ في الزراعة قاعدة لطيفة ، أنت بعت بذورًا لخمسين فلاحًا ، وجاءك ثلاثة منهم يقولون : ما نبت البذر ، لكنَّ واحدًا نبت عنده البذر نباتًا جيدًا ، فهذا الواحد حجة على مائة ، ويكون الخطأ منهم ، لأنه لو كان الخطأ من البذر لما نبتتْ بذرة واحدةٌ ، فالخطأ بالمزارع ، لأنّ مزارعًا آخر نبت عنده البذر نباتًا جيدًا ، فمعنى هذا أن هذا المزارع حجة على بقية المزارعين ، لذلك الأنبياء حجةٌ على الخلق ، فمن هو النبي ؟ النبي بشر ، ولولا أنه تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر ، يحب كما نحب ويشتهي كما نشتهي ، ويغضب كما نغضب ، ويخاف كما نخاف ، ويرجو كما نرجو، ويجوع كما نجوع .
قال عليه الصلاة والسلام : " أوذيت بالله وما أوذي أحد مثلي ، وخفت بالله وما خاف أحد مثلي ، ومضى علي ثلاثون ما بين يوم وليلة لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال "*
إذًا جاع النبي ، وخاف ، قال تعالى :
[ سورة القصص ]
هذا سيدنا موسى خرج من مصر خائفًا ، فالنبي يشبع ، ويجوع ، ويرتوي ، و يظمأ ، ويطمئن ، لولا أن النبي عليه الصلاة و السلام تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر .(1/11)
قال أبو الحسن الميموني ، قال لي علي بن المديني بالبصرة قبل أن يمتحن ، و بعدما امتحن أحمد بن حنبل ، وضرب ، وحبس ، وأُخرج : يا ميموني ما قام أحد في الإسلام ما قام به أحمد بن حنبل ، فتعجبت من هذا عجباً شديداً ، و أبو بكر الصديق رضي الله عنه و قد قام في الردة، و أمر الإسلام ما قام به ، قال الميموني : فأتيت أبا عبيد القاسم بن سلام فتعجبت إليه من قول علي، قال : فقال لي أبو عبيد مجيباً : بأي شيء يا أبا عبيد ذكرت له أمر أبي بكر ؟ قال : إن أبا بكر وجد أنصاراً ، وأعواناً ، و أن أحمد بن حنبل لم يجد ناصراً واحداً " ، عندما امتحن ، ودعي إلى أن يقر أنَّ القرآن مخلوق لم يجد ناصراً واحداً ، ضحى بحياته ، و قال : أنا لا أقبل ، هذه عقيدتي ، ودخل السجن ، وعُذب ، وضُرب بالسياط ، ولم يكن له ناصر ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :" اشتقت لأحبابي ، قالوا : أو لسنا أحبابك ؟ قال : لا أنتم أصحابي أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ، أجره كأجر سبعين ، قالوا : منا أم منهم ؟ قال : بل منكم ، قالوا : و لمَ ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً و لا يجدون " .(1/12)
إذا أحَبَّ الشاب في زماننا أن يستقيم فأولُ مَن يعارضه أهلُه ، المسلمون الذين يصلون في المساجد منهم مَن يريد اختلاطًا ، غناء ، أجهزة لهو ، هكذا ، أول من يعارض الشاب الذي أراد أن يصطلح مع الله أهله : لأنكم تجدون على الخير معواناً و لا يجدون ، فإذا كان سيدنا أحمد بن حنبل له موقف رائع ، وهو أنه حينما نطق بكلمة الحق ، و لم يعبأ بأحَدٍ ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، لم يجد و لا ناصراً واحداً ، لكن الله كان معه ثم نصره ، قال أبو جعفر : كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين ، وقال بعضهم : "ما رأيت أحداً أجمع لكل خير من أحمد بن حنبل" ، أنا أردت من هذه الدروس الخمسة أو الستة أن تقول : إنْ قلت : فلان حنبلي ، فلان شافعي ، فلان حنفي ، فلان مالكي ، أنْ تدرك أنّ هؤلاء أعلام كبار ، هؤلاء جمعوا بين العلم والعمل ، جمعوا بين العلم و العبادة ، بين العلم و الطهر ، بين العلم و الإخلاص ، هؤلاء قدوة لنا ، وهم علماء كبار ، وخلاصة الأُمّة ، والإمام الحسن البصري ، وأنتم جميعا تعرفون قصته، لما أدى واجب العلم ، وتحدث في عهد الحجاج بكلام أغضب الحجاج ، والحجاج وما أدراكَ به ، قال لمن استمع لكلامه : يا جبناء ، والله لأسقينَّكم من دمه ، أول شيء طلب السياف ليقطع رأسه ثم قال : ائتوني به ، دخل الإمام الحسن البصري رأى الحجاج غاضباً ، والسياف جاهز و النطع ـ رداء يوضع فوق الأثاث الثمين لئلا يصاب بالدم عند قطع الرأس ـ تمتم الحسن البصري بكلمات ما فهمها أحد ، ثم وقف الحجاج ، واستقبله ، وقال له : أهلاً بأبي سعيد ، وأدناه من مجلسه ، ثم أجلسه على سريره ، ومازال يدنيه منه ، ويثني عليه حتى قال له : يا أبا سعيد أنت سيد العلماء ، ثم عطره ، واستفتاه ، وأكرمه ، وضيفه ، وشيعه ، نظر السياف ، لماذا أحضرتموني إذًا ؟ فلحقه الحاجب ، وقال له : يا أبا سعيد لقد جيء بك لغير ما فعل فيك ، فماذا قلت لربك ؟ قال له : قلت : يا ملاذي عند كربتي(1/13)
، يا مؤنسي في وحشتي ، اجعل نقمته علي برداً و سلاماً كما جعلت النار برداً و سلاماً على إبراهيم ، فاستجاب الله له ، وألقى في قلب الحجاج هيبته وتعظيمه .
إخواننا الكرام ، مَن هاب الله هابه كل شيء ، جرِّبْ ، لا تخش إلا الله ، وسيسبغ الله عز وجل عليك الهيبة و الجلال .
يروون قصة سمعتها من رجل لا يزال حيًّا يرزق ، هذا الرجل يكون والده التلميذ الأول للشيخ بدر الدين الحسني ، الذي أرسل إليه السلطان عبد الحميد الصدر الأعظم ـ الدولة العثمانية كانت تبسط سلطانها على الدول العربية كلها ، شرقاً و غرباً ، شمالاً و جنوباً ، مدة أربعمائة عام ـ وهي دولة تحكم دول شمالَ إفريقيا بأكملها ، والشرق الأوسط بأكمله ، و العراق و إيران و الحجاز ، فما قيمة صدرها الأعظم ـ رئيس وزارتها ـ شخصية كبيرة جداً، فلهيبة الشيخ بدر الدين عند السلطان أرسل له الصدر الأعظم يدعوه لحضور احتفال في استنبول ، ركب البارجة ، وتوجه نحو بيروت ، ثم ركب مركبة إلى دمشق ، و دخل على الشيخ ينقل له دعوة السلطان لحضور الاحتفال في استنبول ، قال له : يا با أنا لا أحب هذه الزيارات ، من شدة هيبته كان إذا رفض شيئاً لا يجرؤ أحد أن يعيد عليه الطلب ، وكذا الحال إنْ قلت : ليس لديّ رغبة ، وأنا مشغول ، ومع ذلك يسحبونك بسيف الحياء ، شئتَ أم أبيت ، قال الشيخ : ليس عندنا وقت ، فأجاب : هذا لا يصير ، يا أستاذ نريدك ، كان لشدة هيبته لا يستطيع أحد أن يعيد عليه الطلب ثانية ، قال له : أنا يا با لا أرغب في الحضور ، سلم عليه ، واعتذر منه ، رجع هذا راكبًا بارجة ، ووصل إلى الإسكندرون ، ثم تذكّر أنّ الصدر الأعظم ، يأتي إلى الشام ، ويدعو عالماً ، ثم يذهب معه ، فكَبُرَت عليه أن يرجع خائبًاً ، فقرر أنْ يرجع، ويأخذه بالقوة ، فرجع خمسة أيام أخرى بالبحر ، وصل للشام دخل عليه ، وكان يصلي، فسلم ، وقال له : يا با أنت رجعت ، فارتبك ، وقال له : نسيت أن أقبل يدك سيدي ،(1/14)
فرجعتُ لأقبِّلها ، فدَقِّق النظر رعاك الله .
على قدر الطاعة ، على قدر الاستقامة ، على قدر الإخلاص يلبسك الله ثوبَ التقوى والهيبة، وأحياناً تجد رجلاً ليس له قدر أبداً ، لكثرة معاصيه ، وتقصيره ، فمن اتقى الله هابه كل شيء .
الظاهر بيبرس ، هذا القائد الذي ردّ المغول ، من أكبر القواد ، ردّ أكبر هجمة تترية على المسلمين ، وبلادهم ، قال : "واللهِ ما استقر ملكي حتى مات العز بن عبد السلام ، لشدة هيبته" .
قلت لبشر بن الحارث : ألا صنعت كما صنع أحمد بن حنبل ، عندما وقف موقفاً حازماً من موضوع خلق القرآن ، فقال : تريد مني مرتبة النبيين ؟ لا يقوى بدني على هذا ، حفظ الله أحمد بن حنبل بين يديه ، ومن خلفه ، ومن فوقه ، ومن أسفل منه ، وعن يمينه ، وعن شماله، فالله قد حفظه ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ و إذا كان عليك فمن معك ؟ قال بعضهم : سمعت بشر بن الحارث يقول : سئل عن أحمد بن حنبل بعد المحنة فقال : أأنا أسأل عن أحمد بن حنبل ؟ أُدْخِلَ الكير ـ أي السجن ـ فخرج ذهباً أحمر ، أي خرج ذهباً ، ولماذا الماس غالٍ ؟ هناك قطعة ماسٍ بثمانية ملايين ، حجمها قدر حبة البندق لماذا ؟ لأن الماس أساسه فحم ، ولكنه تحمل ضغطاً بشكل غير معقول ، ضغطٌ و حرارة حوَّلت الفحم ماسًا ، فكل واحد منا إذا تحمل ضغطاً وحرارة يصبح ماساً ، لا تصبح ماساً إلا تحت الضغوط الشديدة ، والاستقامة ، والتحمل ، فأنت معد لجنة عرضها السماوات و الأرض ، هذه لا تأتي بركعتين بلا وضوء ، ولا بليرتين تعطيهما فقيرًا ، لا بد من انضباطٍ كاملٍ ، يصحبه صبرٌ ، قال تعالى :
[ سورة العنكبوت ]
مستحيل لا بد مِن فتنة ، قال : أُدخِل الإمام أحمد الكير ، فخرج منه ذهباً أحمر ، لذلك :
[ سورة البقرة ]
بعض الأئمة قال : "بستاني في صدري ، ماذا يستطيع أن يفعل أعدائي بي ؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، و إن حبسوني فحبسي خلوة ، و إن قتلوني فقتلي شهادة ، فماذا يفعل أعدائي بي؟".(1/15)
لذلك قال بعضهم : "في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة" ، أية جنة في الدنيا ؟ جنة القرب ، أنت استقمْ على أمره ، وأطِعْه ، وأخلص له ، ثم انظر كيف يقربك ؟ و كيف يسعدك؟ و كيف يدافع عنك ؟ و كيف يلقي عليك ثوب الهيبة ؟ قال له : نسيت أن أقبل يدك سيدي ، قال بعضهم : ما رأت عيناي روحاً في جسد أفضل من أحمد بن حنبل ، أي هل هؤلاء الأئمة الكبار من غير جبلة أمْ من جبلتنا ؟ و الله من جبلتنا ، ربهم ربنا ، إلههم إلهنا ، قرآنهم قرآننا، دنياهم دنيانا ، البطولة مجالها مفتوح لكل مؤمن ، تفضل و صلِّ قيام الليل ، تعلَّم القرآن ، علِّم القرآن ، اخدم الناس ، قال تعالى في الحديث القدسي : "ومَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين" .
قال بعضهم : "إذا رأيتم الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلموا أنه صاحب سنة" ، فعَن سَلْمَانَ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا سَلْمَانُ لا تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ ، قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ أُبْغِضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ ؟ قَالَ تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي " .
هذا كلام غير معقول ، أنْ يبغض رسول الله ، مثلاً قال : حب الأنصار مِن الإيمان ، وبغضهم من النفاق ، نقطة دقيقة ، إنسان مؤمن ، مخلص ، مُتَفَانٍ في محبٌّ لله ، متفان في طاعته ، إن كنت تكرهه فهذه علامة نفاق ، و إن كنت تحبه فهذه علامة إيمان ، قال : "إذا رأيتم الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلموا أنه صاحب سنة" ، مطبق للسنة ، "وإذا رأيت الرجل يقع في أحمد بن حنبل فاعلم أنه مبتدع" ، إذا وُجِد إنسان يكرهه فاعلم أنه مبتدع ، نحن الآن عندنا سنة نبوية مطهرة ، فلو أنّ إنسانًا أعطاك توجيهًا خلاف السنة ، و أنت قبلت هذا التوجيه ، ورفضت السنة ، فهل عندك إيمان ؟ لا ، والله لا إيمان لك ، هل يعلو عندك إنسان على رسول الله ؟.(1/16)
قال لي أخ كان في مؤتمر مفتي دولة بأوربا الشرقية ، يضع خاتمَ ذهبٍ كبيرًا قال : جلس قريبًا مني ، قال له : يا أستاذ ، يا إمام - مفتي بلد أوربي بمؤتمر إسلامي - قال له : الذهب حرام على الرجال ، وذكر له حديثًا لرسول الله ، فقال له : هناك قول للإمام أبي حنيفة بالجواز ، قال له : هل هذا معقول ؟ قال له : عجيب أمرك ، أنا أقول لك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت تقول : قال الإمام أبو حنيفة ، إذاً لا يعرف الفرق بين الرجلين .
يقول الإمام الشافعي : "الحديث مذهبي ، فإذا جاء الحديث خلاف كلامي فاضربوا بكلامي عُرض الطريق" ، الحديث قاعدة ، أنا أؤكد على هذا ، لو تلقيت توجيهاً من أكبر إنسان في الأرض ، افرضه من شيخك ، ووجدت حديثاً صحيحاً خلاف كلام شيخك ، فماذا تعمل ؟ يجب أن تلقي بكلام شيخك عُرض الطريق ، وأن تأخذ بحديث رسول الله ، هذا هو الإيمان ، قد يكون مخطئًا ، فهو ليس معصوماً ، والأصل في التشريع قولُ النبي عليه الصلاة والسلام ، فكل واحد منكم يتلقى توجيهاً يخالف توجيهات النبي ، ثم ينفذِّها ، ولا يعبأ بتوجيهات النبي فكأن الإيمان قد خُلِع من قلبه ، النبي معصوم بأقواله ، وأفعاله ، وإقراره ، وأحواله ، لا ينطق عن الهوى ، كلامه وحي غير متلو ، بنص القرآن الكريم ، قال تعالى :
[ سورة النجم ](1/17)
كلامه العادي غير القرآن ، إن هو إلا وحي يوحى ، وقال بعضهم : ما أعلم في أصحابنا أفقهَ منه ، وما رأيت أكمل منه ، اجتمع فيه فقه ، و زهد ، وأشياء كثيرة ، وما رأيت مثله في فنون العلم ، والفقه ، والزهد ، والمعرفة ، وكل خير ، و هو أحفظ مني ، وما رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ منه ، الإنسان لماذا يحسد ؟ إذا قلت لي الحسد جبلة بالإنسان ، أنا لي اعتراض ، من خلق هذه الجبلة ؟ هل مِن أحَدٍ غير الله ؟ لماذا خلق هذه الجبلة في الإنسان ؟ وهل الله عز وجل يخلق في الإنسان صفة سيئة ، ويحاسبه عليها ؟ مَنْ عنده جواب على هذا السؤال ، الله أقره وقال :
[ سورة الفلق ]
أصل الحسد حيادي ، لمَ خلقه الله في الإنسان ، خلَقَهُ مِن أجل أنْ يغار من أخيه ، من أجل أن يتنافس معه في الخير ، نحن نقرأ عن أحمد بن حنبل ، ألا يجب أن نغار ، ونكون مستقيمين ، ورعين ، نتعلم ، نعلم ، نقف موقفًا جريئًا لا نتخاذل ، والحقيقة أنّ الحسد انحرافٌ للغيرة المشروعة ، كيف أنه يوجد زواج وزِنا ، ربنا سبحانه هو الذي صمم الأنثى ، فلماذا صممها ؟ لتكون زوجة ، هل صممها لتكون عاهرة ؟ لا ، هذا انحراف ، وهي حيادية ، فقدْ أعطاها صفاتها لتكون زوجةً .(1/18)
وحينما خلَقَ ربنا في الإنسان روحَ التنافس ، أو تسميه تنافسًا ، تسميه غيرة ، تسميه حسدًا، تسميه غبطة ، هلْ أتألّم إنْ سمعتُ عن رجل فاقني ؟ لا ، بل يجب أن أكون مثله ، أصل هذه الجبلة مشروع ، وجيد جداً ، إما أنْ تنحرفَ هذه الجبلة عند أهل الدنيا فتكون حسداً ، وإما أنْ تستقيم عند أهل الدين فتكون غبطة ، فالعلماء قالوا : المؤمن يتمنى أن يكون كمن تفوق عليه في أعمال الآخرة ، إنسان حفظ كتاب الله ، إنسان طلب العلم ، علم العلم ، الله رفع شأنه ، أنتَ تألمتَ لأنك دونه ، فحثثتَ الخطى كي تكون مثله ، هناك قصة تعرفونها ، عن رجل من الصعيد جاء ابنه عالمًا ، فغار منه ، فركب جحشته إلى القاهرة ، وقصدَ الأزعر ، فسأل : أين الأزعر ؟ أي أزعر هذا ؟ أزهر يا بني ، وليس أذعر ، عمره خمسة وخمسون عاماً ، طلب العلم ، وتعلم القراءة ، والكتابة ، وحفظ كتاب الله ، وتعلم ، وعاش ستًّا وتسعين سنة ، وما مات إلا وهو شيخ الأزهر ، يجب أن تغار ، أن تغار لأن فلاناً عنده فيلا ، وأنا ليس عندي مثلها ، فلان عنده سيارة ماركة ستمائة ، وأنا عندي دونها بكثير ، فهذه الحياة إذًا تعاش ، لا تغار من هذا ، لتكنْ غيرتك من نوع ثان ، لتكن في طلبِ الآخرة ، يجب أن تغار في شؤون الآخرة ، قال : أحصينا استشهادات أحمد في العلوم فوجدناه يحفظ سبعمائة ألف حديث ، أحد العلماء جمعوا كتبه ، وقسموا صفحات كتبه على حياته ، فكان يكتب كل يوم تسعين صفحة ، منذ أن ولد حتى مات ، أنت كم صفحة تقرأ في اليوم ؟ فقط تقرأ ، لا تكتب ، و تؤلف ، قراءة فقط ، يجب أن نغار جميعًا ، قال تعالى :
[ سورة المطففين ]
[ سورة الصافات ](1/19)
وإن قلت : أنا عندي عمل شاق ، نقول لك : نظِّمْ وقتك ، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار ، نظم وقتك ، لابد من أن تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لمعرفة الله ، وقتاً لمعرفة منهجه، وقتاً لطلب العلم وقتاً لتربية أولادك ، وقتاً كي ترقى به عند الله ، هناك نقطة أحب أن أعلق عليها تهمنا جميعاً ، لو تخيلنا رجلاً سافر إلى بلد أجنبي ليأخذ دكتوراه ، وهو فقير ، فلو أخذ دكتوراه في اختصاص نادر جداً ، يرجع ليشغل أعلى منصب في بلده ، ويتقاضى أعلى دخل ، هذا مثل افتراضي ، نحن نركز على المثل ، إذًا يرجع رأساً ليسكن أفخر بيت بالشام ، و له في المصيف بيت ، ويركب آنقَ سيارة ، و لكن أخذ الدكتوراه نادرة جداً ، وهو فقير ، فهناك يجب أن يعمل في بلاد الغرب ، ويدرس ، وجد عملاً مثلاً بألف فرنك لمدة ساعتين فهذا دخلٌ يكفيه ، وجد عملاً لأربع ساعات ، ولكن الأجر بأربعة آلاف فرنك ، واللهِ هذا أفضل ، وجد عمل لست ساعات بستة آلاف فرنك ، وجد عملاً ثماني ساعات ، وهو يفرح بهذا الدخل الاستثنائي ، ولكن على حساب الدكتوراه ، والعلم ، ثم لو وجد عملاً كحارس لأربع وعشرين ساعة بعشرين ألف فرنك فهل يكون رابحًا بها ؟ دققوا في المثل ، أي إذا كان عملك قد امتص كل وقتك ، وأعطاك مليونًا فأنت أكبر خاسر ، عندئذ ألغيتَ وجودك ، وألغيت هويتك ، كيف تعرف الله ؟ كيف تعبده ؟ كيف تدعو إليه ؟ فالدخل إذا كبر جداً على حساب الآخرة أصبح أكبر خسارة ، لابد من وقت فراغ ، يجب أن تنفقه في طاعة الله ، قال : قدم صديق لنا من خراسان ، فقال : إني اتخذت بضاعة ، ونويت أن أجعل ربحها لأحمد بن حنبل ، فكان ربحها عشرة آلاف درهم ، أردت حملها إليه ، ثم قلت : حتى أذهب إليه ، فأنظر كيف الأمر عنده ، ذهبت إليه فسلمت عليه ، فقلت : فلان ، فعرفه ، فقلت : إنه ابتاع بضاعة ، وجعل ربحها لك، وهو عشرة آلاف درهم ، فقال : جزاه الله عني خيراً ، نحن في غنى ، وسعة ، وأبى أن يأخذها ،(1/20)
عفة ، لقد كان إماماً في الفقه والتعفف والتجمل ، وبهذا يرقى الإنسان ، أبى أن يأخذها .
قال : حُمل إلى الحسن ميراثه من مصر مائة ألف دينار ، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس ، كل كيس ألف دينار ، فقال يا أبا عبد الله هذا من ميراث حلال فخذها فاستعن بها على علتك ، قال : لا حاجة لي بها أنا في كفاية فردَّها ، ولم يقبل منها شيئاً ، وهذا بعض ورعه ، رحم الله أحمد بن حنبل ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
و الحمد لله رب العالمين(1/21)
سيرة الصحابة: الأئمة الأربعة : الدرس 5/6 لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
الموضوع : الإمام الرباني أحمد بن حنبل 2/ 2 .
تفريغ : م. م . عرفان النابلسي
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، لازلنا مع الإمام الجليل أحمد بن حنبل ، إلا أن أحد الإخوة الكرام سألني : ما الحكمة من هذه الدروس التي تتعلق بالأئمة الأربعة ، الذين يكثر الحديث عنهم في كل مجلس علم ، وفي كل درس فقه ، وفي كل جامعة وفي كل كلية ؟
أيها الإخوة ، أضرب لكم المثل التالي : إنسان عنده آلة صنعت عام ألف وتسعمائة وثلاثين ، متواضعة جداً ، يعمل بها ، صاحب هذه الآلة إن لم يزر معملاً أرقى من المعمل الذي صنعت به ، يظن أن هذه الآلة أرقى آلة في العالم ، وعندئذٍ لا يطوِّرها ، أما حينما يطلع على معامل أحدث ، وأكبر ، وأسرع ، وأدق وأكثر فائدةً ، تصغر آلته في نظره ، وهو الآن يصغر معها إن بقي على ما هو عليه .(2/1)
الإنسان إذا انفتح على الآخرين ، واطلع على ما عندهم ، قرأ عن العلماء السابقين ، المحققين العاملين ، المخلصين ، المتبحرين يصغر إلا أنه الآن يصغر من أجل أن يكبر ، أما لو عزل نفسه عن دراسة أحوال العلماء والفقهاء ، والدعاة ، والذين رفعوا راية هذا الدين ، إذا عزل نفسه عن هؤلاء العظام يكبر في نفسه ، ويظن أنه أكبر الناس ، وهو في الحقيقة أصغرهم ، فبين أن تصغر لتكبر ، وبين أن تتوهم أنك كبير ، ولست في الحقيقة كبيراً ، لما يطلع الإنسان يتحجم ، ولما يتحجم يرسم هدفًا كبير لنفسه يسعى إليه .
أحيانا الإنسان يقتدي بهؤلاء العلماء بجرأتهم ، بإخلاصهم ، بورعهم ، بتواضعهم ، بتعففهم ، بتقشفهم ، بزهدهم ، بصدق توكلهم ، بحرصهم على رضاء الله عز وجل ، يقتدي بهم ، والإنسان أحياناً يستفيد من خبرات الآخرين ، من هو العاقل ؟ هو الذي لا يجعل من نفسه ضحيةً لمعلوماته ، قد تتعلم فكرةً أو حقيقةً على حساب نفسك فأنت الضحية ، إذًا تعلمت بعد أن ضحيت ، أما العاقل يستفيد من خبرات الآخرين لهذا قالوا : السعيد من اتعظ بغيره والشقي لا يتعظ إلا بنفسه .
إذاً نحن مع الانفتاح لا مع الانغلاق ، مع الإطلاع لا على التقوقع مع التعاون لا مع التنافس ، مع أن تكون جندياً في جيش ، لا أن تتوهم أنك قائد جيش ، ولا يوجد جيش إطلاقاً .(2/2)
أيها الإخوة ، مازلنا مع الإمام أحمد بن حنبل ، عن سليمان بن حرب أنه قال لرجل : سل أحمد بن حنبل ما يقول في مسألة كذا ، فإنه عندنا إمام ، فأحمد بن حنبل ما الذي اكتسبه ؟ اكتسب ثقة الناس ، وصدقوني أن أثمن شيء تمتلكه ثقة الناس ، لأنهم إذا وثقوا فيك أمكنك أن توجههم ، وأمكنك أن تعلمهم ، وأمكنك أن ترعاهم ، ومكّنوك من أن ترعاهم ، ومكّنونك من أن توجههم ، ومكّنوك من أن تكون قدوةً لهم ، إذا وثقوا فيك ، فلذلك أعيد وأكرر ألف تصرف ذكي وحكيم ودقيق يشد الناس إليك ، لكن تصرفًا واحدًا أحمق ينفرهم منك ، ولعل في الآية الكريمة خير مؤيد لهذه الفكرة ، قال تعالى :
[ سورة آل عمران ]
بسبب الرحمة التي استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم ، بهذا اللين اجتمعوا نحوك ، انضموا إليك ، وثقوا بك ، جعلوك قدوةً لهم ، جعلوك أسوةً لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب ، لو لم تستقر الرحمة في قلبك لكان مكان الرحمة القسوة إذاً لانفضوا من حولك ، فاعفُ عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر .
سئل أحمد بن حنبل ما يقول في مسألة كذا فإنه عندنا إمام ، والناس ليسوا أغبياء ، من ظن أن الناس أغبياء فهو وحده الغبي ، الناس يعرفون الحق من الباطل ، يعرفون المخلص من غير المخلص يعرفون الصادق من الكذاب ، يعرفون المنتفع من عمل ما من غير المنتفع ، ويعرفونه بحدسهم ، في بعض الدول الأجنبية نظام المحلفين ، نأخذ من الطريق خمسين رجلاً لا على التعيين من حِرَفٍ متنوعة ، ومن ثقافات متنوعة ، نعرض عليهم قضية قضائية معقدة ، نقول ولهم : ما رأيكم ، رأيهم رأي الفطرة ، رأيهم رأي بسيط ، لكنه صادق ، القاضي أحياناً يعرض القضية على خمسين محلفاً ، وهؤلاء يدلون بآرائهم ، وفي الأعم الأغلب تأتي آراؤهم صحيحة ، لأنهم ليسوا مع هؤلاء ، وليسوا مع هؤلاء ، لا يتعرضون إلى ضغوط شديدة فتغيِّرَ مجرى أحكامهم .(2/3)
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول : قدمت صنعاء ، أنا ويحيى بن معين ، فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته ، وتخلف يحيى ، فلما ذهبت أقرع الباب قال لي جارٌ له بقّالٌ : لا تدقَّ الباب ، فإن الشيخ يهاب ، عندما الإمام النووي من نوى ، أبو سليمان الداراني من داريا ، يوجد علماء اشتهرت القرية التي ولدوا فيها ، النيسابوري من نيسابور ، أكثر العلماء الكبار كانوا من قرى ، ولكن هذه القرى أصبحت علماً في تاريخ العلم .
الإمام أحمد بن حنبل توجه إلى صنعاء ، مضى إلى عبد الرزاق في قريته ، فلما هم يدق الباب قال له بقال جارُه : لا تدق الباب ، فإن الشيخ يهاب ، قال : فجلست ، حتى إذا كان قبل المغرب خرج فوثبت وقبَّلتُ يديه ، وفي يدي أحاديث انتقيتها ، فسلمت عليه ، وقلت : حدثني بهذه يرحمك الله ، فإنني رجل غريب ، قال: ومن أنت ؟ قال : أنا أحمد بن حنبل فتقاصر ، وضمَّني إليه ، وقال : بالله أنت أبو عبد الله ؟! ثم أخذ الأحاديث ، وجعل يقرؤها حتى أظلم الليل ، فقال للبقال : هلم المصباح ، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب ، فالمقصود : أين وصل صيته ؟ إلى صنعاء ، حيث استقبله هذا العالم الجليل ، وتقاصر أمامه .
فكن كما يرضي الله عز وجل ، واترك الأمر لله ، فإنّ الله عز وجل هو الذي يرفعك ، فلا ترفع نفسك ، إن رفعتها خفضك الناس ، أمّا إن تواضعت لله رفعك الله عز وجل ، عندنا آية بهذا المعنى :
[ سورة الشرح ]
ترى علماء كبارًا هذا أصله قصاب ، وهذا نجار ، هذا دولاتي ، نسمع بعالم كان يعمل (دولاتيًا) ، فلما توفي مشى في جنازته أكثر من ألف إنسان ، ورفعنا لك ذكرك ، وكل آية تتوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام لكل مؤمن منها نصيب بقدر إيمانه واستقامته ، إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ، وهذا حقٌّ وصدقٌ .(2/4)
قال بعضهم : أخبرني عبد الله بن المبارك ، وكان شيخاً قديماً ، قال : كنت عند إسماعيل ، فتكلم إنسان بشيء فضحك بعضنا ، وثَمَّ أحمد بن حنبل ـ أيْ كان في ذاك المجلس ـ قال : فأتينا إسماعيل فوجدناه غضبان ، فقال : أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل ، انظرْ إلى العلماء الصادقين ، إنهم ملوك .
وهنا نقطة مهمة ؛ إنّ الأقوياء في الأرض ملكوا الرقاب ، بإشارة يحركون ملايين الناس ، أما الأنبياء فقد ملكوا القلوب ، وشتان بين أن تملك الرقاب ، وبين أن تملك القلوب ، زارنا ضيف من دولة آسيوية ، فالذي رافقه اعتذر له أن المطاعم مغلقة اليوم ، لأنه يوم عيد مولد رسول الله ، قال هذا الرجل : من كم سنة ولد ، فقال له : من ألف وخمسمائة عام ، فصعق ! هل من المعقول أنّ إنسانًا من ألف وخمسمائة عام لا تزال ذكراه عطرة في قلوب الناس ؟ الأنبياء ملكوا القلوب ، أنت يكفي أن تقف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتنظر إلى مئات الألوف الذين يمشون أمام قبره ، ويبكون ، ماذا أعطاهم هذا الإنسان ؟ ولم يشاهدوه، ماذا أعطاهم ؟ هل أعطاهم المال ؟ كماله رفعه .
قال بعضهم :" ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيماً منه لأحمد بن حنبل ولا أكرم أحداً مثله ، كان يقعده إلى جنبه ويوقره ولا يمازحه" .
إخوانا الكرام ، إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم ، إنسان مسلم وقور مستقيم ، هل تصدق أنك إذا أكرمته فكأنك أكرمت الله عز وجل ، مجتمع المؤمنين مجتمع منضبط ، مجتمع فيه محبة ، فيه توقير، فيه احترام ، فيه مهابة .(2/5)
والله مرة دخلنا إلى بيت أذكر ذلك كثيراً ، أحد إخواننا أحب أن يشتري بيتًا ، فقال لي : هل تذهب معي لتشاهد البيت ، قلت له : نعم ، دخلنا إلى غرفة فيها جهاز اللهو مفتوح على مسلسل ، وأمامه ولد مستلقٍ على ظهره ، رجلاً فوق رجل يتابع المسلسل ، دخلت أنا ، ومعنا اثنين ، فلم يتحرك والده ، ما هذا الأدب ؟ أين أخلاق المسلمين ، النبي الكريم رأى شاباً يمشي أمام شيخ ، فقال له : من هو ؟ قال : أبي ، قال : لا تمشِ أمامه ، ولا تقعد قبله ، ولا تناده باسمه .
مرة أخ حدثني قال لي : والله تزوجت امرأة ، وقعدت على الأرض جالسًا ومرتاحًا ، وهي جالسة على أريكةٍ ، فطرقته بقدمها ، وقالت له غيِّر القناة ، ثم طلَّقها بعد هذا ، ما هذه الزوجة ؟ والأبوة ؟ هذا مجتمع الانحراف ، مجتمع التفلت ، مجتمع تخلق بآداب الكفار .
لنا أخ أرسلوه في بعثة إلى فرنسا في دورة تدريبية ، قال لي : أحببت أن أتعلم البراتيك ، وقف على نهر السين ، ووجد شابًا هائمًا ، يتعلق نظرُه بمياه النهر ، فسأله عن اسمه ، وعن مشكلته ، قال له : آه لي في الحياة أمنية واحدة ، قال له : ما هي ؟ قال : أن أقتل أبي ، قال له : ولمَ ؟ قال : لأني أحب فتاةً فأخذها مني، انظروا إلى هذا الأب ، وإلى هذا الابن .
الأب في الإسلام مقدس ، هل تصدقون أن الله سبحانه وتعالى ينتظر من عبده أن يذكره كما يذكر أباه ، فهل ثمّة آية في هذا المعنى ؟ قال تعالى :
[ سورة البقرة ]
معنى هذا أنّ الأب مقدس ، قال تعالى :
[ سورة التوبة ]
بدأ بالأب ، لأنه مصدر الاعتزاز الاجتماعي ، أنا ابن فلان ، وفي بالفقه قضية تحيِّر الناس ، وهي أنّ الابن إنْ مات في حياة أبيه ، فأولاد هذا الابن المتوفى لا يرثون شيئاً ، كيف ؟ لكن ما فات هؤلاء هو حكمة الشارع العظيم ، والنبي قال : " العم والد " . [الجامع الصغير ـ السيوطي ضعيف ](2/6)
لو أن هذا الأب نصيبه خمسون ألفًا ، والأعمام أعطوا أولاد المتوفى خمسين ألفًا وانتهى الأمر ، فالشرع قال: لا ، الابن الذي يموت في حياة أبيه لا يأخذ شيئاً ، لكن أعمام أولاده الصغار مكلفون برعاية أولاد أخيهم حتى نهاية الحياة ، وهذا أفضل وأكمل ، ولكن الناس الآن أكثروا في قطع الأرحام ، ويجري العمل شرعًا بالوصية الواجبة ، أما الأكمل أن العم والد ، وعليه رعايتهم ، وليأخذ هو الخمسين ألفًا من الميراث .
يقول عبد الرزاق : "ما رأيت أحداً أفقه ، ولا أورع من أحمد بن حنبل ، وما رأيت مثلَه ، وما قدم علينا مثلُه"، سبحان الله فربنا عز وجل يبعث على كل مائة عام مَن يجدِّد لهذه الأمة دينها ، وليس معنى هذا أنه واحد ، لكن (مَن) تعني أكثر من واحد ، وفي كل بلد هناك رجل مجدِّد ، كلما فرغ الدين من مضمونه ، وبقي منه الطقوس ، والشكليات ، والحركات ، والاحتفالات ، والأناشيد ، والولائم ، والمزاهر ، والكلابيات ، والمسابح، والعطور ، والمسواك ، ولكن لا تقوى ، ولا استقامة ، تدخل إلى محل تجاري تجد قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ، هو يريد أن يفتح الله عليه بوفرة البضاعة ، يكتب : استقم كما أمرت ، ومن تاب معك ، والحقيقة لا تجد أيّةَ استقامة .
مرة كنت أصلي في مسجد ، وهذه القصة قديمة من عشرين سنة ، وهذا المسجد في أحد مصايف الزبداني، فمشيت مع رجل يتجه نحو سيارته ، فلما وصلت ، وكنتُ قد ظننته إنسانًا ملتزمًا فوجدت امرأة متفلتة أشدَّ التفلت ، كيف جمع بين خروج زوجته ، وبين ارتياده المسجد ؟ .(2/7)
قال يحيى بن معين : "واللهِ ما تحت أديم السماء أفقه من أحمد بن حنبل ، وليس في شرق ولا غرب مثله" ، وقال بعضهم : "أجاب أحمد بن حنبل عن ستين ألف مسألة بأخبرَنا وحدَّثنَا " ، ستين ألف مسألة أجاب عنها بالأحاديث ، أخبرنا وحدثنا ، هؤلاء الذين يحملون السنة أناس عظام جداً ، هؤلاء الذين نقلوا لنا سنة رسول الله يجب أن نحترمهم احتراماً كبيراً.
قال بعضهم : "أجمع المسلمون على أحمد بن حنبل" ، وقال : "كنت إذا رأيته خُيِّل إليَّ أن الشريعة لوح بين عينيه" ، أي قضية يجبُّ عنها ، وحاجة الناس إلى العالم كحاجتهم إلى الهواء ، حاجة الناس إلى الدين حاجتهم إلى الهواء لأنه كتلة من لحم ودم فيها شهوات تريد أن تأكل أطيب الطعام ، تريد أن تتزوج ، تريد أن تعلو في الأرض ، فإذا كانت بلا منهج ، فالفساد واقع ، بلا منهج يعتدي ، العدوان من لوازم أي إنسان يتحرك بلا منهج ، فالمنهج أساسي ، وإليكم هذا السؤال : طريق كله منعطافات ، وعلى اليمين وديان ، وعلى الشمال جبال ، وفي الطريق نفسه صخور وتلال ، وأكمات ، وحفر ، فحاجة هذه المركبة إلى مقود ماسَّة وضرورية ، وحاجتها إلى سائق حكيم لازمةٌ حتمًا ، لمجرد أن يغفل السائق يقع الحادث لا محالة ، ولمجرد أن يتعطل المقود يقع الحادث وقوعًا حتميًّا ، والإنسان في الحياة الدنيا دونَه مزالق كثيرة ، النساء مزلق ، المال مزلق ، التجارة مزلق ، الزواج مزلق ، النزهة مزلق ، يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل .
قال إسحاق : إني لأقيس أحمد إلى كبار التابعين ، وهو حجة بين الله وبين عبيده في أرضه ، ولا يُدرَك فضلُه".(2/8)
إخواننا الكرام هناك نقطة مهمة جداً ؛ في كل مجتمع ، في المدرسة ، في كل دائرة ، ومستشفى ، في كل ثكنة ، في كل مجتمع ، لله عز وجل فيه حجةٌ على بقية الناس ، يجعل هناك رجلاً مستقيمًا ، والضغوط نفسها ، ضِيق الدخل نفسه ، القسوة نفسها ، المغريات نفسها ، ومع ذلك فالمؤمن علَم يطبِّق منهج الله عز وجل في كل مكان ، في كل مجتمع ، في كل مؤسسة ، في كل مستشفى ، في كل دائرة إنسان مستقيم ، أحياناً يقولون في الغابات الكثيفة إذا قلعوا أشجار غابة ، أو قلعوا أشجارًا للاستعمالات الخشبية يُبقُون علامات ، وحدودًا بين الأراضي ، وربنا عز وجل في كل مجتمع له علامات ، فالمؤمن حجة الله على مَن في هذه الدائرة ، الكل يأخذون مالاً حراماً ، وهو لا يأخذ ، بل الدنيا تحت قدمه ، أنت أنصحك لوجه الله : كن أنت الحجة ، وإياك أن تكون أنت المحجوج .
قال بعضهم : "لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماماً في بطن أمه" ، هذا الكلام أسوقه للآباء ، أحياناً يكون للأب طفل فيه تفتح كبير ، وذكاء ، وطيب ، وبراءة ، فهذا الطفل له مستقبل كبير ، فإياك أن تسوقه وإخوته بعصًا واحدة ، إذا توافرتْ في الطفل علائمُ الذكاء والنجابة وطلب العلم ، وحَفِظَ كتابَ الله صغيرًا ، فهذا الطفل يجب أن تكرِّس كل حياتك من أجله ، وانتبِهْ فقد يكون داعية كبيرًا ، أو مصلحًا اجتماعيًا بارزًا ، أو معلمًا جليلاً ، وكل هذه الخصائص والأعمال في صحيفتك ، أسوق هذه النصيحة للآباء الذين عندهم أبناء متميِّزون ، ألمعية ، تعلق بالدين ، والله أجد عندنا كثيرًا من الإخوة الصغار الذين أسمع منهم إجاباتٍ صعبٌ أنْ تُصدَّق ، إجابة محكمة دقيقة ، بلغة فصيحة ، وهم صغار جداً ، وهذه علامات نجابة ، فكل أب له ابن بهذا المستوى يجب أن يقف حياته ، وإمكاناته وكل جهوده من أجل تفجير طاقات ابنه ، ليكون امتدادًا له ، وليكون خليفة له .(2/9)
قال بعضهم : "لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماماً في بطن أمه" ، وربنا عز وجل له حكمة بالغة ، يعطي مؤشرات مبكرة ، فترى في الطفل النجيب علائم النجابة في سن مبكرة ، نحن يهمنا أن نكشف العبقريات ، نكشف الطاقات العالية ، نكشف الألمعية في الأبناء ، فكل أب يهمل ابنه والله يعد في حقه مجرماً ، لأن الابن أكبر ثروة يملكها الأب والدليل اسمعوا هذا الحديث :" خير كسب الرجل ولده "
الإنسان قد يحصل مالاً ، يكسب سمعة ، تجارة واسعة ، مرتبة علمية عالية ، ينشئ مسجدًا ، يعمر ميتمًا ، يؤلف كتابًا ، النبي يقول : " خير كسب الرجل ولده " ، من ربّى ولده صغيراً سُرَّ به كبيراً ، يدخل على قلب الأب من السرور والبهجة الشيء الكثير ، إذا رأى ابنه مؤمناً مستقيماً ، صالحاً ، متوازناً ، ممّا لا سبيل إلى وصفه ، وإذا اختار أن يغترب إلى بلاد المشركين ، واكتشف أن لابنته صاحباً ، أو أن ابنه ينحرف انحرافاً خطيراً ، أو انحرافاً شاذاً ، يدخل على قلبه من الألم ما لا سبيل إلى وصفه ، فالآباء إذا أرادوا أن يسعدوا فعليهم بتربية أبنائهم على القيم الإسلامية ، وإذا أرادوا أن ينجوا من الكآبة فليُرَبُّوا أبناءهم تربية رشيدة حكيمة ، لذلك هناك مثل بسيط في التعليم .(2/10)
إذا كان لدى الطالب امتحان في هذا الكتاب ، فيمكنه أنْ يستلقي ، ويقرأه تصفحًا ، فإذا أمكن أن نعطي للجهد وحدات نقول : لقد بذل جهداً في قراءة هذه الكتاب ، فالقراءة الأولى بنسبة خمسة بالمائة ، بعد أن ينتهي من قراءته لم يذكر ولا كلمة منه ، وكأنه لم يقرأه ، أما إذا جلس على طاولة ، وأمسك بيده قلم رصاص ، ولخص كل فكرة ، ووضع خطًّا تحت الأفكار الرئيسية ، ووضع أسئلة مقترحة في كل فصل ، وأعاد الأفكار ، وكتبها ، فقدْ بذل خمسة وثمانين بالمائة من الجهد ، بمعنى أنه يمكن أن يذكر كلَّ أفكار الكتاب ، الشيء نفسه في تربية الأولاد يمكن أن تبذل جهدًا بسيطًا في تربية الأولاد ، كأنْ يسأل الأبُ ابنَه : هل نجحت يا بني ، فيقول : نعم ، نجحت ، تسأل والدَه : في أي صف ابنك ؟ يقول : واللِه لا أذكر ، ثم يسأل ابنَه : يا بني أنت في أي صف أنت ؟ فلا يعرف ابنه في أي صف هو ، نجح أم لم ينجح ، هذه مشكلة، أما عندما يكون للأب عناية بالغة ، ولاسيما في دين الابن ، انظر كيف أنّ أكثر الناس يهتمون بدنيا أبنائهم ، ولا يهتمون بدينهم ، فإذا أهملوا دين أبنائهم ، وتفلَّت أبناؤهم من منهج الله يشبُّون وهم لا يعرفون حق آبائهم، أحياناً أب يقف حياته كلها من أجل ابنه ، فيسافر خارج البلاد ، ويتزوج بأجنبية ، ويأخذ إقامة دائمة ، وينسى أباه وأمه ، وكأن الذي ربّاه ما فعل شيئاً ، إذًا الإسلام منهج كامل .
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : "كان أبي يذاكر بألف ألف حديث" ، وقال بعضهم : "إن عاش هذا الفتى سيكون حجةً على أهل زمانه ، ويعني أحمد بن حنبل" .
يقول بعضهم : "لولا الثوري لمات الورع ، ولولا أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين" ، قال : إذا رأيت رجلاً يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة . قال بعضهم : إني لأتزين بذكر أحمد بن حنبل .(2/11)
بصراحة هل يوجد رجل منا ليس له سهرة مع أقربائه ، أو لقاء ، أو وليمة ، أو أمسية ، أو نزهة ، لا تجد إنسانًا إلا وعنده أقل من لقاء أو لقاءان في الجمعة مع أقربائه ، هذا اللقاء ماذا ينبغي أن تقول فيه ؟ هناك موضوعات تبعث في النفس الضيق ، التشاؤم ، والسوداوية ، وهناك موضوعات تزين المجلس في التعبير الشائع ، تعطر المجلس ، بل إن عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمات ، فحاولْ في كل جلسة أن تحدث الناس عن عالم جليل ، له أعمال طيبة ، له موقف نبيل ، له كرم ، له شجاعة ، له فصاحة ، له قوة منطق ، حاول أن تذكر أشخاصاً تفوقوا على أقرانهم ترى أن الناس تعلقوا بهم واستبشروا ، والحقيقة أنّ الإنسان إما أن يرتفع ، وإما أن يسقط ، إذا حدثتنا عن الساقطين نسقط معهم ، وإن حدثتنا عن المتألقين نتألق معهم ، إن حدثنا عن أناس انحرفوا لعل الانحراف يُزَيَّنُ لنا ، لذلك اجتهدْ أن تجعل في كل مجلس حديثاً عن الصالحين ، وصحابة رسول الله يشغلون قمة القائمة .
قال أحدهم : دخلت على ذي النون السجن ، ونحن بالعسكر ، فقال :" على أي حال سيدنا ، يعني أحمد بن حنبل" ، العظيم عظيم ، دخل السجن قالوا : إذا لسعت الحشرة حصاناً تبقى الحشرة حشرةً ، والحصان حصاناً، لا ينتقص من قدر الحصان أنْ لسعته حشرة ، ولا يزيد من قيمة الحشرة أنها لسعت حصاناً ، الحشرة حشرة والحصان حصان ، العظيم عظيم لو دخل السجن ، فقال :" على أي حال سيدنا ، يعني أحمد بن حنبل" .
قال الدهلي : "جعلت أحمد إماماً فيما بيني وبين الله" ، والحقيقة تعبير لطيف ، أنت مؤمن تسعى إلى الله ، فيجب أن يكون الشخص بينك وبين الله قدوة لك ، تسأله فيجيبك ، وتقتدي بأفعاله ، وتتخلق بأخلاقه ، وتأنس بالقرب منه ، وتذكِّرك رؤيته بالله ، فعن عمر بلفظ : "خياركم الذين إذا رُؤوا ذُكِر اللهُ بهم ".
[ ورواه البيهقي ](2/12)
إذا رأى رجل شخصًا شهوانيًّا تقفز نفسُه إلى الشهوات التي يمارسها ، وإذا رأى إنسانًا حجمه المالي كبير تقفز نفسه إلى بيته وسيارته ، وتجارته ، وأرباحه ، أما إذا رأيت ولياً لله تذكّرَ اللهَ مباشرةً ، "عن عمر بلفظ :
خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله بهم "
[ ورواه البيهقي ]
قال النسائي : "جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث والفقه ، والورع ، والزهد ، والصبر" ، ودائماً إنْ التقينا بإنسان علْمُه دقيق جداً ، ولكن معاملته غير راقية نقول : ليت أخلاقه كعلمه ، أحياناً تلتقي بإنسان أخلاقه عالية جداً ، لكن معلوماته متواضعة ، تقول : ليت علمه كأخلاقه ، أما هذا الإنسان فقد جمع بين المعرفة بالحديث ، وبين الفقه والورع ، والزهد ، والصبر ، فهذه هي البطولة لذلك لا ينصر هذا الدينَ إلا مَن أحاطه مِن كل جوانبه ، ورع ، وزهد ، وصبر ، وجرأة ، واستقامة وعلم ، ومعرفة ، وتحقق .
عن المزني قال سئِل عن أحمد بن حنبل : متى تألق ؟ فقال : يوم المحنة ، وأبو بكر يوم الردة ، وعمر يوم السقيفة ، وعثمان يوم الدار ، وعلي يوم صفين .
الإنسان قد يتألق بموقف تألقًا رائعًا جداً ، سيدنا أحمد بن حنبل تألق يوم المحنة ، محنة خلق القرآن .(2/13)
قال العباس : سمعت أبا جعفر الأنباري يقول : لما حُمِل أحمدُ بن حنبل - دققوا في هذا القول - : لما حُمِل أحمد بن حنبل يراد به المأمون ، أُخبِرتُ فعبرتُ الفرات إليه ، فإذا هو في الخان ، فسلمت عليه ، فقال يا أبا جعفر تعني ـ أي أتعبت نفسك ـ فقلت : ليس هذا عناء ، قال : فقلت له : يا هذا ـ الآن أبو جعفر الأنباري لما علم أن أحمد بن حنبل حُمل إلى المأمون ليعترف أن القرآن مخلوق ، وإلا أدخل إلى السجن ـ أنت اليوم رأس ، والناس يقتدون بك ، فو الله إن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبنَّ بإجابتك خلقٌ مِن خلقِ الله كثيرٌ ـ في بعض البلاد الإسلامية أفتى عالِمٌ بجواز الفائدة ، والإيداع بالبنوك ، ففي اليوم التالي أُودِع في البنوك أربعة وثمانون مليارًا ، ألم يقل له : يا غلام إياك أن تسقط قال : بل أنت يا إمام إياك أن تسقط ، الغلام قال : إني إنْ سقطتُ سقطتُ وحدي ، ولكن إن سقطتَ أنتَ سقط معك العالَم ، بلد إسلامي صدرت فتوى من المفتي بجواز الاستثمار الربوي ، فردّ عليه في اليوم التالي ثمانية وعشرون عالماً ، لكن الأموال أودعت ـ وإن لم تُجِب ليمتنعنّ خلقٌ من الناس كثيرٌ ، ومع هذا فإن الرجل ـ المأمون ـ إن لم يقتلك ، فإنك تموت ، ولا بد من الموت ، فاتَّقِ الله ، ولا تجبهم إلى شيء ، فجعل أحمد يبكي ، وهو يقول : ما شاء الله ، ما شاء الله .
قال صالح بن أحمد بن حنبل ابنه الثاني : "ربما رأيت أبي يأخذ الكسرة ـ كسرة خبز ـ ينفض عنها الغبار، ويجعلها في قصعة ، ويصب عليها الماء ، ثم يأكلها بالملح " ، كان متقشفاً جداً ، وكان يأكل من عمل يده ، وكان دخله قليلاً ، مع كل هذا العلو في الأرض ، ومع كل هذه السمعة الطيبة ، ومع كل هذا التعظيم كان فقيراً .(2/14)
الحقيقة أن الحديث عن هذا العالم الجليل حديث يطول ، والأقوال فيه كثيرةٌ جداً ، قال : "كان أبو عبد الله لا يجهل ، وإن جُهل عليه حلم ، واحتمل ، ويقول : يكفيني الله ، ولم يكن بالحقود ولا العجول ، كثير التواضع ، حسن الخُلقِ ، دائم البشر ، لين الجانب ، ليس بفظٍّ ، وكان يحب في الله ، ويبغض في الله ، وإذا كان في أمرٍ مِن الدين اشتد له غضبه ، وكان يحتمل الأذى من الجيران" .
أيها الإخوة ، كنت أتمنى أن ننتهي في هذا الدرس من مناقب الإمام أحمد بن حنبل ، وعلى كلٍ يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل : "توفي أبي رحمه الله يوم الجمعة ضحوةً ، ودفناه بعد العصر باثنتي عشرة ليلة من ربيع الآخر ، سنة إحدى أربعين ومائتين للهجرة ، وصلى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر ، غلبنا على الصلاة عليه ، وكنا قد صلينا عليه نحن والهاشميون داخل الدار" ، وقال : "مرض أبو عبد الله تسعة أيام ، وكان ربما أذِن للناس فيدخلون عليه أفواجاً ، يسلمون عليه ويردُّ بيده ، وتسامع الناس ، وكثروا ، فأغلق الباعة دكاكينهم" ، ثمة وصف طويل جداً لهذه الوفاة ، التي أحدثت اضطراباً شديداً جداً بين الناس ، وقد قيل : مشى في جنازته أكثر من ثمانمائة ألف .
أيها الإخوة ، الناس بعلمائها ، والعلماء بورعهم ، و لا يكون العالم عالماً إلا إذا كان ورعاً ، أمّا كمعلومات فأيُّ إنسان يحصّل المعلومات ، فهي ثقافة ، أما قيمته ففي ورعه ، والباب مفتوح ، وكل إنسان ممكن أن يقتدي بهذا الإمام العظيم ، وكلُّ إنسان يمكن أن يطلب العلم ، ويتعلَّم ويرقى عند الله ، ودائماً المؤمن طموح ، وعلو الهمّة من الإيمان ، وهؤلاء الأعلام قدوة لنا فأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهؤلاء الذين مضوا إلى ربهم ، وقد تركوا آثاراً عظيمة ، والإنسان قيمته بما أحدث من أثر .(2/15)
ذات مرة أخ من إخواننا حضر فترة طويلة عندنا ، ثم توفي ، أخبرني ابنه صباحاً توجهت إلى موعد الصلاة عليه في جامع في آخر الحي ، فأبَّنه رجل من أهل العلم ، ماذا قال ؟ قال : أخوكم أبو فلان ، كان مؤذناً ، ترحموا عليه ، أنا دهشت إلى هذا التأبين السريع ، إذًا ماذا سيتكلم ؟ هل يتكلم عن مساحة بيته ؟ عنده تزيينات من جبصين ، أثاث فخم جداً ، كل دنياه غير خاضعة للحديث عنه ، قلت في نفسي : اعمل عملاً يستطيع المؤبِّن أن يتكلم عنك بأقل مِن خمس دقائق ، أنت سوف تؤبن فلانًا ، ماذا ستقول عنه ؟ إذا لم يكن له عمل صالح ، فليس له أثر ، إذًا فلتكنْ لك خدمة في سبيل الإسلام ، لتُذكَر من خلالها ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ ؛ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ "
[ الترمذي ـ النسائي ـ أبو داود ـ أحمد ـ الدارمي ]
مرة سألت طلابي سؤالاً فقلت : أعطوني اسمَ تاجر كبير عاش في الشام عام ألف وثمانمائة وخمسة وسبعين ، انتظرت دقيقتين فلم يجب أحد منهم ، فقلت لهم : وأنا لا أعرف أحدًا ، أما سيدنا عمر ، صلاح الدين الأيوبي ، أبو حنيفة ، الشافعي ، أحمد بن حنبل ، فهؤلاء الرجال ذِكْرُهم على الألسنة ، مِن هنا قال سيدنا علي : يا بني ، مات خزان المال ، وهم أحياء ـ وهم في أوج حياتهم ميتون ـ والعلماء باقون ما بقي الدهر .
يقولون لك : عُقِد قرانٌ في (الشيراتون) ، كلف ستين مليونًا ، فالحديث عن هذا العقد ، وعن هذا البذخ حديث بمعرض الذم لا المدح ، دفعٌ وذلٌّ ، يروون أن إنسانًا دفع ليرةً ذهب ، وغداً يدفع ليرتين ليس لها قيمة إلا مع الإخلاص ، ومهما أردت أن تنتزع إعجاب الناس بالمال طريق مسدود ، لا ارتقاء فيه .(2/16)
وقد دعيتُ إلى عقد قران يوم الجمعة عقب صلاة الفجر بمسجد وكان هناك تجلٍّ عمَّ الحاضرين ، ومن دون صالات ، من دون تكاليف ، فالأمور كلما تبسطت كلما كانت أقرب إلى الواقع ، فاللهم ألهمنا الرشاد والسداد .
والحمد لله رب العالمين(2/17)