ابن العربي المالكي ومنهجه في كتابه: (أحكام القرآن)
( أ. د. أحمد عباس البدوي (1)
مُقَدِّمَة:
الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق المبين، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعل رسالته باقية إلى يوم الدين.
أيَّده بالمعجزات الظاهرة والأدلة الباهرة، الحسية منها والعقلية، وفي مقدمتها القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنَّه [فصلت: 42]، أنزله الله عليه بلسان عربي مبين، كما هي سنته سبحانه وتعالى مع رسله، حيث قال تعالى [إبراهيم: 4]، وقومه الذين بعث فيهم - صلى الله عليه وسلم - عرب خُلَّص، أصحاب فصاحة وبلاغة وبيان، لذا اقتضت حكمة البارئ جلَّ وعلا أنْ ينزل القرآن الكريم على رسوله بوساطة أمين الوحي جبريل بلسان عربي مبين، كما أخبر سبحانه بذلك حيث قال: [الشعراء: 192-195]. وأناط الله سبحانه وتعالى برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بيان هذا القرآن للناس، فقال مخاطباً له:
[النحل: 44].
وفي مقام آخر خاطبه سبحانه بقوله : [النحل: 64].
فقام - صلى الله عليه وسلم - بأمر تبليغ الرسالة وبيان القرآن الكريم قولاً وفعلاً، أي بيَّنه بالقول كما بيَّنه بالعمل، إلى أنْ بلَّغ رسالة الله كاملة غير منقوصة، كما أخبر سبحانه وتعالى بذلك في آية سورة المائدة: [المائدة: 3].
__________
(1) (() المحاضر بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة، دولة الإمارات العربية المتحدة.(1/1)
وحمل الراية من بعده - صلى الله عليه وسلم - صحابته الكرام عليهم رضوان الله، انتشروا في الأرض يبلغون دعوة الإسلام، يعلمون القرآن ويبينونه للناس، فكانت هناك مدارس للتفسير في مختلف الأمصار الإسلامية؛ فمدرسة التفسير في المدينة وعلى رأسها الصحابي الجليل أُبي بن كعب، ومدرسة التفسير في العراق نهل تلاميذها من شيخهم رجل القرآن الصحابي عبد الله بن مسعود، وكان حبر الأُمَّة عبد الله بن عباس على رأس مدرسة التفسير بمكة المكرمة.
وتوزع تلامذتهم وتلامذة تلامذتهم في أقطار الأرض المختلفة، مروراً بالشام ومصر وبلاد المغرب العربي إلى الأندلس، حيث برز علماء أجلاء نهضوا بأمر الدعوة إلى الله ينشرون القرآن وعلومه والحديث الشريف والفقه وأصوله.
ومن هؤلاء عالِمنا الفقيه المالكي القاضي أبو بكر بن العربي (468-543هـ) ـ عليه رحمة الله ـ، الذي نهل من علم أهل المغرب، واستفاد من علماء المشرق العربي، وترجم لنا ذلك عملياً في كتبه التي خلفها من بعده، والتي منها كتابه: "أحكام القرآن" في أربعة مجلدات، والذي كتب الله له القبول عند أهل العلم من طلاب وعلماء وتداولته الأيدي، وتناقلته الألسنة، ووعته القلوب.
وكنتُ ممن حباه الله على الاطلاع على بعض كتب هذا العالِم منذ أيام الدراسة الثانوية، حيث عشت معه في كتابه: "العواصم من القواصم"، ثم كانت أيام الدراسة الجامعية، وكان كتابه: "أحكام القرآن" من المراجع التي كثيراً ما رجعنا إليها، واستفدنا منها، ثم فيما بعد كنتُ أدرِّس مادة: "مناهج المفسرين" لطلبة الجامعات في السُّودان والمملكة العربية السعودية وفي المملكة الأردنية، ولفت نظري منهج ابن العربي في كتابه: "أحكام القرآن" فأحببتُ أنْ أبيِّن منهجه فيه، وقد كان. فكانت هذه الدراسة بعنوان: "ابن العربي المالكي ومنهجه في كتابه: "أحكام القرآن".(1/2)
رجعتُ فيها في الأساس إلى مقدمة ابن العربي في كتابه، واستخلصت منهجه منها، واستفدت من كتاب أستاذنا الدكتور/ محمد حسن الذهبي "التفسير والمفسِّرون"، الذي أرى أنَّ كل من جاء بعده قد استفاد منه، وكتاب الدكتور/ مصطفى المشني "ابن العربي ومنهجه في التفسير".
محاور الدراسة:
أهم محاور هذه الدراسة هي: ترجمتُ للمؤلف، ثم ذكرتُ أهم مصادره التي رجع إليها والتي اعتمدها في كتابه هذا، ثم وقفتُ مع منهجه في وقفات ثمانيَ، وفي كل وقفة أذكر رأيه وأورد مثالاً مما كتبه، لأنَّه بالمثال يتضح المقال.
الوقفة الأولى: تناولت فيها بيان ابن العربي لكل سور القرآن الكريم من الفاتحة إلى الناس، ولكنه لا يفسر إلاَّ آيات الأحكام في السورة.
الوقفة الثانية: بيَّنتُ فيها اهتمام ابن العربي بذكر سبب نزول الآية، متى وجد إلى ذلك سبيلاً.
الوقفة الثالثة: وضَّحتُ فيها مدى اهتمام ابن العربي بالقراءات وتوجيهها.
الوقفة الرابعة: بيَّنتُ فيها إنصاف ابن العربي لمن يخالفه الرأي.
الوقفة الخامسة: أظهرتُ فيها شدته في بعض الأحيان، ونقده اللاذع لمن يخالفه الرأي.
الوقفة السادسة: بيَّنتُ اهتمامه باللُّغة، ومناقشته من خلال فهمه للُّغة العرب.
الوقفة السابعة: في هذه الوقفة وضَّحت موقف ابن العربي من الإسرائيليات.
الوقفة الثامنة: أظهرتُ فيها أنَّ ابن العربي يذكر تجاربه من خلال تفسير الآية ـ إنْ وجد مناسبة لذلك ـ.
هذا والكتاب فيه كثير من مجالات الدراسة، فهو موسوعة علمية، ولعل الله سبحانه وتعالى يوفق لإظهار عمل علمي آخر من كتاب: "أحكام القرآن"، ودونك عزيزي القارئ الدّراسة.
.. وبالله التوفيق ..
التعريف بابن العربي المالكي:(1/3)
هو محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي، يكنى أبو بكر الأشبيلي، ويشترك ابن العربي ـ صاحب الترجمة ـ مع ابن عربي الصوفي، صاحب كتاب: "الفتوحات المكية"، في الكنية واللقب، فكل منهما يكنى أبو بكر، كما يلقب كل منهما بابن العربي. ويفرَّق بينهما بـ "أل" التعريف، فيقال للفقيه المالكي: ابن العربي، ويقال للصوفي: ابن عربي.
"وُلِدَ ابن العربي ـ رحمه الله تعالى ـ عام ثمان وستين وأربعمائة من الهجرة ببلده أشبيلية، وقرأ القراءات، ثم رحل إلى مصر والشام وبغداد ومكة، وكان يأخذ من علماء كل بلد يرحل إليه، حتى أتقن الفقه والأصول وقيَّد الحديث واتسع في الرواية.
رحلته إلى المشرق:
رحل القاضي أبو بكر مع والده سنة 485هـ في مستهل جمادى الأولى، وقصد الشام، وقصد أبا بكر محمد بن الوليد الطرطوني وتفقَّه عنده، وقد لَقِيَ بالشام كثيراً من العلماء وأهل الحديث.
ولما كانت بغداد ـ حماها الله وأقال عثرتها ـ حينذاك تعج بالعلماء والمحدثين الذين طار ذكرهم في البلاد، فقد ودَّع القاضي أبو بكر الشام بعد أنْ قضى إربه منها، وقصد بغداد ودخلها، وسمع بها من أبي الحسين المبارك عبد الجبار الصيرفي، كما سمع من غيره من الشيوخ.
رحل القاضي أبو بكر للحج في سنة تسع وثمانين وأربعمائة فحجَّ ولَقِيَ كثيراً من العلماء في موسم الحج، ثم عاد إلى بغداد مواصلاً أخذه من الشيوخ بجد لا يعرف الفتر، فأخذ عن الأئمة وعلى رأسهم حُجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي، وقيَّد الحديث واتسع في الرواية، وأتقن مسائل الخلاف والأصول والأحكام على أئمة العلم في بغداد.
وبعد هذا رحل القاضي قاصداً وطنه الأندلس، وفي طريقه دخل مصر وأقام بالإسكندرية عند شيخه الطوسي وكتب عنه، كما لَقِيَ علماء آخرين من المحدثين، فكتب عنهم وكتبوا عنه، فأفادهم واستفاد منهم (1) .
علم ابن العربي وخُلُقه:
__________
(1) كتاب الصلة، 2/558.(1/4)
كان ابن العربي من أهل التفنن في مختلف العلوم، قد أخذ من كل فن بطرف مع براعة فائقة في الحديث والفقه، متقدماً في المعارف كلها، متكلماً في مختلف أنواعها، ثاقب الذهن حاضر البديهة، حريصاً على نشر العلم وأدائه، وكان فصيحاً، حافظاً، أديباً، شاعراً، كثير الملح، خفيف المجلس، فقد جمع إلى سعة علمه خُلُقاً فريداً ومعشراً طيباً، مع ثبات وكثرة احتمال.
ويذكر ابن الزبير في كتابه: "الصلة" فيقول: "إنَّ القاضي ابن العربي كان في مقامه بأشبيلية ملتزماً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أصيب من جراء ذلك بذهاب كتبه وماله، فاحتمل ذلك وأحسن الصبر.
وزيادة على مكانته العلمية اتصف ابن العربي بصفات كثيرة كلها خير وبركة. فقد كان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، متقدماً في المعارف كلها متكلماً في أنواعها، نافذاً في جمها حريصاً على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تميز الصواب منها، يجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الود" (1) .
هذه الصفات هيأت له وضعاً اجتماعياً متميزاً وسط أهله وعشيرته، حيث سكن بلده وشور فيه، وسمع ودرس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، ورُحِلَ إليه للسماع، قال الذهبي: "قال القاضي عياض، وهو ممن أخذوا عنه: استقضى ببلده، فنفع الله به أهلهان لصرامته وشدة نفوذ أحكامه، كانت له في الظالمين سورة مرهوبة، وتؤثر عنه في قضياه أحكام غريبة، ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثه" (2) .
مؤلَّفاته:
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق، ص 448، القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث، د. بشير الترابي، ص 139-140.(1/5)
هذا التكوين العلمي لعالِمنا ابن العربي، والذي أبرزنا بعضاً منه، أثمر ثماراً طيبة ظهر بعض منها في كتبه التي خلفها من بعده، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر، حيث إنَّ طبيعة هذا البحث لا تسمح بسرد كل ما ألَّفه ابن العربي:
[1] كتابه: "أحكام القرآن"، الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن.
[2] المسالك في شرح موطأ مالك.
[3] عارضة الأحوذي على كتاب الترمذي.
[4] العواصم من القواصم.
[5] الناسخ والمنسوخ.
[6] القانون في تفسير القرآن.
[7] أنوار البحر في تفسير القرآن.
وغير ذلك مما لم نذكره وهو كثير، للعلة السابقة التي ذكرتها.
التعريف بمصادر ابن العربي:
يُعَدُّ هذا الكتاب من أهم كتب التفسير الفقهي، خاصة عند المالكية، ويقع في أربعة أجزاء، وقد طبع محققاً، حقَّقه علي محمد البيجاوي، حيث يقول في مقدمته: "وها أنا ذا أقدِّم هذه الطبعة الجديدة، وأبذل فيها جهداً جديداً في الضبط والشرح والتحقيق، راجياً أنْ يكون ذلك كفاءً لما لقيه الكتاب من تقدير الباحثين وإقبالهم" (1) .
أهم مصادر ابن العربي المالكي لكتابه: "أحكام القرآن":
تنوعت المصادر التي رجع إليها ابن العربي في إعداد هذا الكتاب، فقد رجع إلى كتب التفسير بالرواية، وعلى رأس من أخذ عنهم محمد بن جرير الطبري "ت 310هـ" في كتابه: "جامع البيان في تفسير القرآن"، ومن أمثلته قوله [الحج: 52].
فبعد أنْ ذكر كثيراً من الروايات الباطلة التي اغتر بها بعض الرواة وردها على أعقابها قال ـ رحمه الله تعالى ـ: "وقد أعددنا إليكم توصية أنْ تجعلوا القرآن إمامكم وحروفه أمامكم، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها، وما هُدي لهذا إلاَّ الطبري بجلالة قدره، وصفاء فكره، وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده وذراعه في النظر".
__________
(1) مقدِّمة المحقق.(1/6)
وكأنَّه أشار إلى هذا الغرض وصوَّب على هذا المرمى فقطرس (1) بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطلة، لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، لكنه فعَّال لما يريد، عصمنا الله بالتوفيق والتسديد.
فأنت ـ عزيزي القارئ ـ ترى مدى اعتزاز ابن العربي بالطبري وثقته فيه، وهو محق في هذا. ومن مصادره كتاب: "شفاء الصدور" للنقاش، وهو مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 140 و634، والنقاش هو أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد الموصلي، توفى عام 361هـ.
ومن أمثلة ما نقله ابن العربي عن النقاش عند تفسيره لقوله تعالى:
[الأحزاب: 28-29].
يقول العربي: "الثالث: إنَّ أزواجه طالبنه بما لا يستطيع، فكان أولهنَّ أم سلمة سألته ستراً مُعْلماً فلم يقدر عليه، وسألته ميمونة حُلة يمانية، وسألته زينب بنت جحش ثوباً مخططاً، وسألته أم حبيبة ثوباً سحولياً، وسألته سودة بنت زمعة قطيفة خيبرية، وكل واحدة منهن طلبت منه شيئاً إلاَّ عائشة، فأُمِرَ بتخييرهنَّ.
قال ابن العربي: "حكاه النقاش، وهذا بهذا اللفظ باطل، ثم قال: والصحيح ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: جاء أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الناس جلوساً عند بابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأُذن لأبي بكر، ثم أقبل عمر فاستأذن فأُذن له بالدخول، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً وحوله نساؤه واجماً ساكتاً، قال: فقال أبو بكر: لأقولنَّ شيئاً يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: أرأيت يا رسول الله بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: هنَّ حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده، ثم اعتزلهنَّ شهراً، ثم نزلت آية التخيير.
__________
(1) فقطرس: أي أصاب القرطاس.(1/7)
يقول ابن العربي: "فقد خرج من هذا الحديث الصحيح أنَّ عائشة طلبته أيضاً، فتبيَّن بطلان قول النقاش" (1) .
فابن العربي لا ينقل عن النقاش نقل المسلّم له، بل ينقده ويصوِّب ما يراها خطأً.
ففي المسألة السابقة الذكر ـ التخيير ـ يقول: "وذكر جماعة من المفسرين أنَّ المخيرات من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعاً، وذكر النقاش أنَّ أم حبيبة وزينب ممن سألن النبي - صلى الله عليه وسلم - النفقة، ونزلت لأجلهنَّ آية التخيير، وهذا كله خطأ عظيم" (2) .
يقول الدكتور/ مصطفى المشني معلقاً على ما ذكره ابن العربي: "وهكذا ينقل ابن العربي قول النقاش، ثم يعرضه على النقل والعقل، ويرده بمقتضى ما يثبت في الحديث الصحيح، وبذا يميِّز ابن العربي أثناء نقله بين الغث والثمين، وفق قواعد علمية دقيقة تقوم على ما ثبت من الكتاب والسُّنَّة الصحيحة" (3) . تفسير الجصاص الحنفي، وتفسير الكيا الهراسي الشافعي، ومن مصادر ابن العربي في تفسيره أحكام القرآن تفسير الجصاص الحنفي، وهو القاضي أبو بكر الرازي الحنفي "ت 370هـ"، وتفسيره أحكام القرآن. والكيا الهراسي هو علي بن محمد الطبري "ت 504هـ".
وابن العربي في نقله عن هذين العالمين لم يكن ينقل نقلاً مسلّماً في كل حال، بل كان كما يقول المشني: "بيد أنَّ الملحوظ هنا أنَّ نقل ابن العربي عن هذين المفسريْن اتسم بالرد والتعقيب في الغالب الأعم، ثم بالموافقة أحياناً مع العلم أنَّ أخذه عنهما بقدر محدود" (4) .
فمثلاً عند قول الله عزَّ وجلَّ: [النساء: 52-53]، قال ابن العربي: "فيها عشر مسائل:
المسألة الأولى :
__________
(1) أحكام القرآن، 5/1518.
(2) المصدر السابق.
(3) ابن العربي المالكي وتفسيره أحكام القرآن، دار عمار.
(4) المرجع السابق.(1/8)
قال إسماعيل القاضي: زعم بعض أهل العراق أنَّ السيد إذا زوَّج عبده من أَمَته أنَّه لا يجب فيه صداق، وكيف يجوز هذا ونكاح بغير صداق سفاح؟ وبالغ في الرد، وبيَّن أنَّ الله ذكر نكاح كل امرأة فقرنه بذكر الصداق، فقال في الإماء: وقال تعالى [المائدة: 3]، وقال [الممتحنة: 10].
فيكف يخلو عنه عقد حَكَمَ الشرع فيه بأنْ يجب في كل نوع منه، حتى أنَّه لو سكت في العقد عنه لوجب بالوطء؟!
قال ابن العربي: وهذا الذي ذكره القاضي إسماعيل هو مذهب الشافعي وأبو حنيفة.
وقد تعرَّض الحنفيون والشافعيون للرد على إسماعيل، فرد عليه أبو بكر الرازي في كتابه: "أحكام القرآن"، ورد عليه علي بن محمد الطبري الهراسي في كتابه: "أحكام القرآن"، فتعرضوا للارتقاء في صفوفه بغير تمييز.
ثم فصَّل ابن العربي قوليْ الرازي والهراسي وقال: "قال الرازي: يجب المهر ويسقط، فقال لا تكون استباحة البضع بغير بدل، ويسقط في الثاني حيث يستحقه المولى، لأنَّها لا تملكه، والمولى هو الذي يملك مالها. ولا يثبت للمولى على عبده دين.
وقال الطبري: إنَّ المهر لو وجب لشخص على شخص، فمن الذي أوجبه؟ وعلى من وجب؟ فإنْ قلت: وجب للسيد على العبد فهذا محال أنْ يثبت له دين على عبده، ووجوبه لا على أحد محال، وكما أنَّ العقد يقتضي الإيجاب؛ كذلك الملك يقتضي الإسقاط، وليس إيجابه ضرورة الإسقاط، كما يقال: إنَّ إثبات الملك للابن ضرورة العتق، لا يتصور بدون الملك، أمَّا إسقاط المهر فلا يقتضي إثباته، فوجب ألاَّ يجب بحال.
قد دلَّ الدليل على أنَّ العبد لا يملك بالتمليك أصلاً، وإذا لم يملك ولا بُدَّ من مالك واستحال أنْ يكون السيد مالكاً، فامتنع لذلك وعاد الكلام إلى أصل آخر، وهو أنَّ العبد هل يملك أم لا؟(1/9)
قال القاضي أبو بكر: أمَّا قول الرازي أنَّه يجب ويسقط فكلام له في الشرع أمثلة، منها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. فمن المتفق عليه بيننا وبين الشافعية والحنفية هو فيما إذا قال لرجل: أعتق عبدك عني على ألف درهم، فقال سيده: هو حر، فإنَّ هذا القول ـ وهو كلمة: هو حر ـ يتضمن عقد البيع ووجوب الثمن على المبتاع وخروجه عن يد البائع وملكه والعتق، ويجب الملك ثم يسقط، كل ذلك بصحة البيع والعتق (1) .
هذا ولابن العربي ـ رحمه الله تعالى ـ مصادر أخرى لم يُسِّم أصحابها، بل كان يكتفي بالنقل عنهم، يقول د. المشني: "وبجانب ما ذكر من المصادر؛ فإنَّ هناك مصادر أخرى لم يذكرها ابن العربي على وجه التعيين أو التخصيص، وإنَّما كان يكتفي بالنقل عن جملة المفسرين أو بعضهم ويعبِّر عن ذلك بعبارة تفيد ذلك، مثل: روى المفسرون، وقال أهل التفسير، وقال علماء التفسير ...إلخ" (2) .
ومن أمثلة ذلك عند تفسيره لقول الله تبارك وتعالى [الذاريات: 17].
قال: "المسألة الثانية: تكلَّم المفسرون في قوله . لأجل أنَّ ظاهره يعطي أنَّ نومهم بالليل كان قليلاً، ولم يكن كذلك، إنَّما مدح الله عزَّ وجلَّ من يصلي قليلاً، لأنَّ الأول ليس في الإمكان، وإنَّما معناه كانوا يهجون قليلاً من الليل، ومدح الله تعالى السهر بالقليل، لأنَّ عمل العبادة كله قليل" (3) .
ومن أمثلة ذلك أيضاً عندما تعرض لتفسير قول الله تعالى [الجمعة: 9].
__________
(1) أحكام القرآن، 1/397-398.
(2) مصطفى المشني، ص 54-55.
(3) الجزء الرابع، ص 1729.(1/10)
قال ابن العربي: "المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى تختص بوجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء، فلا تدخل تحت الخطاب. واختلف الناس فيمن يأتي الجمعة من الداني والقاصي اختلافاً متبايناً بيّناه في المسائل وغيرها من الخلافيات. وجملة القول إنَّ المحققين من علمائنا قالوا: إنَّ الجمعة تلزم من كان على ثلاثة أميال من المدينة ..." (1) .
ونجد أنَّ ابن العربي في بعض المسائل لا يسلم لهؤلاء المفسرين بكل ما ينقل عنهم، فهو يتعقبهم ويرد عليهم ربما رداً فيه عنف في بعض الأحيان وإن كان القائلون بذلك القول من علماء السادة المالكية.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تبارك وتعالى [عبس: 1]، قال ابن العربي: "فيها مسألتان:
المسألة الأولى: لا خلاف في أنَّها نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى، وقد رُوِيَ في الصحيح، قال مالك: إنَّ هشام بن عروة حدثه عن عروة أنَّه قال: نزلت في ابن أم مكتوم، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: يا محمد علمني مما علمك الله، وعند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: يا فلان هل ترى بما أقول بأساً، فيقول: لا، ما أرى بما تقول بأساً، فأنزل الله عزَّ وجلَّ .
قال المالكية من علمائنا: "اسم ابن مكتوم عمرو، ويقال: عبد الله، والرجل من عظماء المشركين هو الوليد بن المغيرة، ويكنى أبا عبد شمس، أخرجه الترمذي مسنداً، قال: أنبأنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي حدثني أبي قال: هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: نزلت ، فذكر مثله.
__________
(1) أحكام القرآن، 4/1806.(1/11)
المسألة الثانية: هذا مثل قوله تبارك وتعالى [الأنعام: 52]، معناه نحوه حينما وقع، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّما قصد تألف الرجل الطارئ ثقة بما في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه، مخافة أنْ يكبه الله في النار على وجهه (1) .
وأمَّا قول علمائنا: إنَّه الوليد بن المغيرة، وقال آخرون: إنَّه أمية بن خلف، فهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، وذلك أنَّ أمية والوليد كانا بمكة، وابن أم مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافريْن أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر معه مفرداً ولا مع أحد.
فأنت ترى أنَّ ابن العربي قد نقل عن مفسرين لم يسمهم، وأشار في مناقشته إلى علماء من المالكية ولم يسمهم أيضاً، رد عليهم آراءهم مستنداً إلى صحيح المروي والتاريخ.
رجوع ابن العربي إلى أمهات كتب المالكية:
إضافة إلى ما أوردناه من مصادر ابن العربي فإنَّا نجد أنَّ عالمنا قد رجع إلى كثير من كتب المالكية، في مقدمتها:
[1] الموطأ، لإمام المذهب الإمام مالك بن أنس "ت 179هـ"، وقد جعله كما يقول الدكتور/ مصطفى المشني: "مصدراً أصيلاً رجع إليه في مواضع متعددة، فمثلاً عند تفسيره لقول الله تبارك وتعالى [البقرة: 173]، يقول: المسألة التاسعة: هذا الضرر الذي بيَّناه يلحق، إمَّا بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة أو بفقر لا يجد فيه غيره، فإنَّ التحريم يرتفع عن ذلك بحكم الاستثناء ويكون مباحاً، فأمَّا الإكراه فيبيح ذلك كله إلى آخر الإكراه. وأمَّا المخمصة فلا يخلو أنْ تكون دائمة، فلا خلاف في الشبع منها.
__________
(1) رواه البخاري، حديث رقم 27، 1/18، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تألف قلب من خاف على إيمانه لضعفه.(1/12)
وإنْ كانت نادرة فاختلف العلماء على قولين: أحدهما: يأكل حتى يشبع ويتضلع، قاله مالك، وقال غيره: يأكل على قدر سد الرمق، وبه قال ابن حبيب وابن الماجشون، لأنَّ الإباحة ضرورة تقدر بقدر الضرورة.
وقد قال مالك في موطئه الذي ألَّفه بيده وأملاه على أصحابه وأقرأه وقرأه عمره كله: يأكل حتى يشبع، ودليله أنَّ الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحاً، ومقدار الضرورة إنَّما هو من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتى يجد، وغير ذلك ضعيف.
ومن مصادر ابن العربي المالكي من كتب المالكية، كتاب: "المختصر"، لعبد الله بن الحكم "ت 214هـ".
ومثال ما أخذ منه: عند تفسيره لقول الله تبارك وتعالى [المائدة: 6]، قال ابن العربي ـ رحمه الله تعالى ـ:
المسألة السابعة والأربعون: ذكر الله تعالى أعضاء الوضوء وترتيبها وأمر بغسلها معقبة، فهل يلزم كل مكلف أنْ تكون مفعولة مجموعة في الفعل كجمعها في الذكر أو يجزئ التفريق فيها ؟
فقال في المدونة وكتاب محمد: إنَّ التوالي ساقط، وبه قال الشافعي، وقال مالك وابن القاسم: إنَّ فرَّقه متعمداً لم يجزه ويجزيه ناسياً، وقال ابن وهب: لا يجزيه ناسياً ولا متعمداً، وقال مالك في رواية ابن حبيب: يجزيه في المغسول ولا يجزيه في الممسوح، وقال ابن عبد الحكم: يجزيه ناسياً ومتعمداً (1) .
هذا ومن مصادر ابن العربي المالكي كذلك كتاب: "الواضحة" لعبد الملك بن حبيب الأندلسي "ت 238هـ"، و"المدونة" لعبد السلام بن سعيد المعروف بـ: "سحنون" "ت 240هـ"، وكتاب: "العتبية" لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي "ت 254هـ".
__________
(1) أحكام القرآن، 2/581.(1/13)
وغير ذلك كثير يعصب استقصاؤهم في هذه الورقة البحثية، ولكننا أردنا أنْ نشير إشارة سريعة إلى المصادر التي استقى منها الفقيه المالكي ابن العربي مادة كتابه: "أحكام القرآن"، وهي مصادر أصيلة، غنية، دسمة، متنوعة. فجاءت ثمراتها في هذا الكتاب المبارك القيم الذي يتداوله العلماء وطلاب العلم، فيفيدون منه فوائد جمة.
منهج ابن العربي في تفسيره:
خير من بيَّن منهج ابن العربي المالكي في تفسيره هو ابن العربي نفسه، فلننظر نظرة المتدبر في مقدمته التي صدر بها كتابه هذا، قال ـ رحمه الله تعالى ـ: "... ولما مَنَّ الله سبحانه وتعالى بالاستبصار في استثارة العلوم من الكتاب العزيز، حسبما مهدته لنا المشيخة الذين لقينا، نظرناها من ذلك المطرح، ثم عرضناه على ما جلبه العلماء، وسبرناه بعيار الأشياخ، فما اتفق عليه النظر اثبتناه، وما تعارض فيه شجرناه وشحذناه"، حتى خلص نضاره ورق عراره، فنذكر الآية ثم نعطف على كلماتها بل حروفها، فنأخذ بمعرفتها مفردة ثم نركبها على أخواتها مضافة، ونحفظ في ذلك قسم البلاغة، ونحترز عن المناقضة في الأحكام والمعارضة، ونحتاط على جانب اللُّغة، ونقابلها في القرآن بما جاء في السُّنَّة الصيحة، ونتحرى وجه الجميع إذ الكل من عند الله، وإنَّما بُعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ليبيِّن للناس ما نزل إليهم، ونعقب على ذلك بتوابع لا بُدَّ من تحصيل العلم بها منها حرصاً على أنْ يأتي القول مستقلاً بنفسه، إلاَّ أنْ يخرج عن الباب فنحيل عليه في موضعه، مجانبين للتقصير والإكثار، وبمشيئة الله نهتدي فمن يهده الله فهو المهتدي لا رب غيره".(1/14)
إنَّ ابن العربي ـ رحمه الله تعالى ـ يتناول تفسير القرآن من الفاتحة إلى سورة الناس، سورة سورة، ولكنه يقف مع آيات الأحكام التي في السورة، وهو في عمله هذا يبدأ ببيان معنى المفردة القرآنية إنْ كانت مما يحتاج إلى بيان، ثم يبيّنها مركبة ولا يتجاوز النكات البلاغية إن ظهرت في النص القرآني، ويستفيد من اللُّغة العربية ويناقش في بعض الأحيان القراءات.... إلخ.
والكتاب مهم ويُعَدُّ مرجعاً للتفسير الفقهي عند المالكية، كما كتاب "الجصاص" عند الأحناف، وكتاب "الكيا هراسي" عند الشافعية، وكلاهما كتاب موسوم بـ: "أحكام القرآن".
وكما يقول الدكتور/ محمد حسين الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "إنَّ الكتاب يعتبر مرجعاً مهماً للتفسير الفقهي عند المالكية، وذلك لأنَّ مؤلفه مالكي تأثَّر بمذهبه فظهرت عليه في تفسيره روح التعصُّب والدفاع عنه، غير أنَّه لم يشتط في تعصًّبه إلى الدرجة التي يتقاضى فيها عن زلة علمية تصدر من مجتهد مالكي، ولم يبلغ بع التعسُّف إلى الحد الذي يجعله يفند كلام مخالفيه إذا كان وجيهاً مقبولاً".
والذي يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح الإنصاف لمخالفيه أحياناً، كما يلمس منه روح التعصُّب المذهبي التي تستولي على صاحبها، فتجعله أحياناً كثيرة يرمي مخالفه وإنْ كان إماماً له قيمته بالكلمات المقذعة اللاذعة تارة بالتصريح وأخرى بالتلميح (1) .
وقد قيل: بالمثال يتضح المقال، فيحسن بنا أنْ نذكر بعض الأمثلة مما ذكره هذا العالِم الجليل حتى نبيِّن مقالته من تفسيره، بقدر ما يفتح الله به، مع مراعاة طبيعة هذا البحث التي لا تسمح لنا بالإطالة والاستطراد، ولكنَّ عزاءنا أنَّ الكتاب متداول بين أيدي العلماء وطلاب العلم وكل من له اهتمام بهذا الشأن، وليكن ذلك في وقفات :
__________
(1) التفسير والمفسرون، 2/450.(1/15)
الوقفة الأولى:ولتكن هذه الوقفة من سورة البقرة، حيث بدأ بالآية الثالثة منها، وهي قول الله تبارك وتعالى [البقرة: 3]، قال: فيها مسألتان:
المسألة الأولى: "يؤمنون"، قد بيّنا حقيقة الإيمان في كتب الأصول ومنها تؤخذ.
المسألة الثانية: "بالغيب" وحقيقته ما غاب عن الحواس مما لا يوصل إليه إلاَّ الخبر دون النظر، فأفهموه (1) .
ثم ذكر اختلاف العلماء ورجَّح بعد ذلك الرأي الذي اختاره وبه استقل، فقال: وقد اختلف فيه ـ أي الغيب ـ على أربعة أقوال:
الأول: ما ذكرناه كوجوب البعث، ووجود الجنة ونعيمها، والنار وعذابها والحساب.
الثاني: بالقدر.
الثالث: بالله.
الرابع: يؤمنون بقلوبهم الغائبة عن الخلق، بألسنتهم التي يشاهدها الناس، معناه ليسوا بمنافقين.
ثم قال: وكلها قوية، إلاَّ الثاني والثالث، فإنَّه يدرك بصحيح النظر، فلا يكون غيباً حقيقة وهذا الأوسط وإنْ كان عاماً فإنَّ مخرجه على الخصوص، والأقوى هو الأول أنَّه الغيب الذي أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام مما لا تهتدي إليه العقول، والإيمان بالقلوب الغائبة عن الخلق، ويكون موضع المجرور على هذا رفعاً.
وعلى التقدير الأول يكون نصباً، كقولك: مررتُ بزيد، ويجوز أنْ يكون الأول مقدراً نصباً، كأنَّه يقول: جعلت قلبي محلاً للإيمان، وذلك الإيمان بالغيب عن الخلق، ثم قال: وكل هذه المعاني صحيحة، لا يحكم له بالإيمان ولا بحمى الذمار، ولا يوجب له الاحترام إلاَّ باجتماع هذه الثلاث، فإنْ أخلَّ بشيء منها لم يكن له حرمة ولا يستحق عصمة.
وبدأ سورة آل عمران من الآية الواحدة والعشرين، وهي قوله تعالى [آل عمران: 21]، وسورة النساء بدأها من قوله تبارك وتعالى [النساء: 1]، لأنَّه تطرق فيها إلى حكم ذوي الأرحام، وهكذا مع كل سور القرآن.
__________
(1) أحكام القرآن، 1/8.(1/16)
الوقفة الثانية:اهتمام ابن العربي بذكر سبب نزول الآية متى وجد لذلك سبيلاً، وإنْ وجد للآية أكثر من رواية في سبب النزول رجَّح إحدى الروايات بما ظهر لديه من مرجحات.
مثال ذلك في تفسيره لسورة المدثر، قال في الآية الأولى [المدثر: 1]، فيها مسألتان:
المسألة الأولى: روى العدل في الصحيح، واللفظ للبخاري، قال يحيى بن أبي كثير: سألتُ أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، فقال: ، قلتُ: إنَّهم يقولون: [العلق: 1]، فقال أبو سلمة: سألتُ جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلتُ له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلاَّ ما حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: (جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيتُ شيئاً، فأتيتُ خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليَّ ماءً بارداً، فنزلت [المدثر: 1-7].
وقال بعض المفسرين: إنَّه جرى على النبي - صلى الله عليه وسلم - من عقبة بن ربيعة أمر، فرجع إلى منزله مغموماً فتلفف واضطجع، فنزلت .
وهذا باطل، وقيل: أراد بمن تدثر بالنبوة، وهذا مجاز بعيد، لأنَّه لم يكن نبياً بعد، على أنَّها أول القرآن، ولم يكن تمكَّن منها بعد أنْ كانت ثاني ما نزل.
ومثال آخر على اهتمام ابن العربي بذكر سبب النزول، عند تفسيره لقول الله تعالى [المؤمنون: 2]:
فيها ست مسائل:
المسألة الأول: في سبب نزولها:(1/17)
روى الزهري عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن عبد القارئ قال: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فأنزل عليه يوماً، فلبثنا ساعة، ثم سُرِّيَ عنه، فاستقبل القبلة ورفع يديه، وقال: (اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، ثم قال: أُنزل عليَّ عشر آيات من أقامهنَّ دخل الجنة، ثم قال حتى ختم عشر آيات. رواه الترمذي وغيره (1) ، وهو صحيح، وإنْ كان قد تكلَّم فيه أبو عيسى وقطعه. ثم قال ابن العربي: "وكان سبب نزولها في رواية محمد أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقلب بصره
في السماء إذا صلى، فنزلت آية، قال محمد: إنْ لم تكن ، فلا أدري أية آية هي؟
قال القاضي: هو محمد بن سيرين، وهذا الحديث مقطوع مظنون، فمقصوده غير مقطوع، فسقناه على حاله لكم حتى نكون في معرفته سواء معكم (2) .
الوقفة الثالثة: اهتمام ابن العربي بالقراءات:
إنَّ الفقيه ابن العربي ـ رحمه الله تعالى ـ يهتم بأوجه القراءة التي في النص القرآني بياناً لها وتوجيهاً. فمن ذلك مثلاً في الآية الأولى من سورة النور، يقول:
المسألة الثانية: قوله (فرضناها) يقرأ بتخفيف الراء وتشديدها، فمن خفَّف فمعناه أوحيناها معينة مقدرة، كما يقول: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين.
ومن شدَّد فمعناه على وجهين: إمَّا على معنى وضعناه فرائض فرائض، أو فرضاً فرضاً، كما تقول: نزَّلت فلاناً، قدرت له المنازل واحداً بعد واحد، وفي صحيح مسلم فنزَّلني زيد، أي رتب لي منازل كثيرة.
الثاني على معنى التكثير، وهو صحيح لا اعتراض عليه (3) . ومن ذلك أيضاً عند تفسيره لقول الله تبارك وتعالى [المزمل: 6].
__________
(1) صحيح مسلم، 5/117.
(2) أحكام القرآن، 3/1307.
(3) المرجع السابق، 3/1324.(1/18)
قال ابن العربي: قرئ بفتح الواو وإسكان الطاء، فمن قرأه كذلك: نافع وابن كثير والكوفيون، وقرئ بكسر الطاء مدوداً، وممن قرأه كذلك أهل الشام وأبو عمرو.
فأمَّا من قرأه بفتح الواو وإسكان الطاء؛ فإنَّه أشار إلى ثقله على النفس لسكونها إلى الراحة في الليل وغلبة النوم فيه على المرء.
وأمَّا من قرأه بكسر الفاء وفتح العين، فإنَّه من المواطأة وهي الموافقة، لأنَّه يتوافق فيه السمع لعدم الأصوات، والبصر لعدم المرئيات، والقلب لفقد الخطرات، قال مالك: هدواً من القلب وفراغاً له.
قال ابن العربي: المعنيان فيه صحيحان، لأنَّه يثقل على العبد، وأنَّه الموافق للقصد (1) .
الوقفة الرابعة: في إنصافه لمن يخالفه الرأي:
وإذا أردت أنْ أضع يدك على شيء من إنصاف الرجل ـ يعني لمن يخالفه ـ واستعماله لعقله كما يقول الدكتور/ محمد حسين الذهبي: فانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تبارك وتعالى من سورة البقرة [البقرة: 187]. قال: الاعتكاف في اللُّغة هو اللبث، وهو غير مقدر عند الشافعي وأقله لحظة ولا حد لأكثره. وقال مالك وأبو حنيفة: هو مقدر بيوم وليلة، لأنَّ الصوم عندهم من شرطه.
قال علماؤنا: لأنَّ الله تبارك وتعالى خاطب الصائمين، وهذا لا يلزم في الوجهين. أمَّا اشتراط الصوم فيه بخطابه تعالى فلا يلزم بظاهره ولا باطنه، لأنَّها حال واقعة لا مشترطة، وأمَّا تقديره بيوم وليلة، لأنَّ الصوم من شرطه فضعيف، فإنَّ العبادة لا تكون مقدرة بشرطها، ألا ترى أنَّ الطهارة شرط في الصلاة وتنقضي الصلاة وتبقى الطهارة (2) .
__________
(1) أحكام القرآن، 4/1877.
(2) أحكام القرآن، 1/95.(1/19)
يقول الذهبي: فأنت ترى أنَّ المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ لم يرقه هذا الاستدلال الذي أظهر بطلانه، وهذا دليل على أنَّه يستعمل عقله الحر أحياناً، فلا يسكت عن الذلة العلمية فيما يعتقد، وإنْ كان فيها ترويج لمذهبه، أما في مقام إنصاف ابن العربي لمن خالفه الرأي فيظهر ذلك على سبيل المثال لا الحصر في تفسيره لقول الله تعالى [المائدة: 6].
قال ـ رحمه الله تعالى ـ بعد أن ذكر في تفسير هذه الآية كثيراً من الأحكام استخرجها منها، قال:
المسألة السابعة والعشرون:
قوله تعالى (برؤسكم) الرأس عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذكره الله سبحانه وتعالى في الوضوء، وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل أولاً فيه للزم مسحه جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم، انتزاع بديع من الآية، وما أشار مالك إلى نحوه، فإنَّه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء، فقال: أرأيت لو ترك بعض وجهه أكان يجزيه؟ ومسألة مسح الرأس في الوضوء معضلة ويا طالما تتبعتها لأحيط بها حتى علمني الله بفضله إياها، فخذوها مجملة في علمها مسجلة بالصواب في حكمها، واستيفائها في حكم المسائل: "... ثم قال رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في مسح الرأي على أحد عشر قولاً:
الأول: إنَّه إنْ مسح منه شعرة واحدة أجزأته.
الثاني: ثلاث شعرات.
الثالث: ما يقع عليه الاسم. ثم قال ـ رحمه الله ـ: ذكر لنا هذه الأقوال الثلاثة فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس عن الشافعي.
الرابع: قال أبو حنيفة: يمسح الناصية (1) .
الخامس: قال أبو حنيفة: إنَّ الغرض أنْ يمسح الربع.
السادس: قال أيضاً أبو حنيفة في روايته الثالثة: لا يجزيه إلاَّ أنْ يمسح الناصية بثلاث أصابع أو أربع (2) .
السابع: يمسح الجميع، قاله مالك.
الثامن: إنْ ترك اليسير من غير قصد أجزأه.
__________
(1) أحكام القرآن، للجصاص، 3/346 وما بعدها.
(2) المرجع السابق.(1/20)
التاسع: قال محمد بن سلمة: إنْ مسح ثلثه أجزأه.
العاشر: قال أبو الفرج: إنْ مسح ثلثه أجزأه.
الحادي عشر: قال أشهب: إنْ مسح مقدمه أجزأه.
قال ابن العربي: "فهذه إحد عشر قولاً، ومنزلة الرأس في الأحكام منزلته في الأبدان، وهو عظيم الخطر فيها جميعاً، ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسُّنَّة.." (1) .
وبعد أنْ تتبع ابن العربي هذه المطالع واحداً واحداً ويلتمس لكل منها متكأ قال: ".. إنَّ القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات في مقصود الشريعة، ولا جاوزوا طرفيها للإفراط، فإنَّ للشريعة طرفين:
أحدهما: طرف التخفيف في التكليف.
والآخر: طرف الاحتياط في العادات، فمن احتاط استوفى الكل، ومن خفَّف أخذ بالبعض (2) .
في هذا النص يظهر لنا سماحة ابن العربي وإنصافه لمخالفيه، وسعة أفقه في استيعاب آراء الآخرين، وعدم تعصُّبه لما يخالف فيه غيره. ومع ذلك فالرجل ـ رحمه الله تعالى ـ قد اشتد في بعض المواقف مع من يخالفه الرأي، نرى هذا من خلال هذه الوقفة، وهي:
الوقفة الخامسة:
حينما تعرض ابن العربي لتفسير آية سورة النساء، وهي قول الله تعالى [النساء: 34]، قال ابن العربي ـ رحمه الله تعالى ـ :
المسألة الحادية عشرة:
قوله تعالى فيه أربعة أقوال:
الأول: يوليها ظهره في الفراش.
والثاني: لا يكلمها وإنْ وطأها، قاله عكرمة وأبو الضحى.
والثالث: لا يجمعها وإياه فراش ولا وطء حتى ترجع إلى الذي يريد، قاله إبراهيم والشعبي وقتادة والحسن البصري، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك وغيرهم.
والرابع: يكلمها ويجامعها، ولكن بقول فيه غلظ وشدة إذا قال لها: تعالي، قاله سفيان.
__________
(1) أحكام القرآن، 2/568.
(2) المصدر السابق، ص 570.(1/21)
قال الطبري: ما ذكره من تقدم معترض، وذكر ذلك واختار أنَّ معناه: يربطن بالهجار، وهو الحبل في البيوت، وهي المراد بالمضاجع، إذ ليس لكلمة "اهجروهن" إلاَّ أحد ثلاثة معان، فلا يصح أنْ يكون من الهجر الذي هو الهذيان، فإنَّ المرأة لا تداوى به، ولا من الهجر الذي هو مستفحش من القول، لأنَّ الله لا يأمر به، فليس له وجه إلاَّ أنْ تربطوهنَّ بالهجار، ثم أردف عقب ذلك.
قال ابن العربي ـ يرد على الطبري ـ: يا لها من هفوة من عالِم بالقرآن والسُّنَّة!! وإني لأعجبكم من ذلك!! إنَّ الذي أجراه على هذا التأويل، ولم يرد أنْ يصرح بأنه أخذ منه، وهو حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك، أنَّ أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك، قال: وعتب عليها وعلى ضرتها، فعقد شعر واحدة بالأخرى، وضربهما ضرباً شديداً، وكانت الضرة أحسن اتقاءً، وكانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر أثراً، فشكته إلى أبيها أبي بكر، فقال لها: أي بنية اصبري، فإنَّ الزبير رجل صالح، ولعله أنْ يكون زوجك في الجنة، وقد بلغني أنَّ الرجل إذا ابتكر بالمرأة تزوجها بالجنة.
فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير لذلك.
يقول ابن العربي: وا عجباً له مع تبحُّره ـ أي الطبري ـ في العلوم وفي لغة العرب كيف بَعُدَ عليه صواب القول، وحاد عن سداد النظر؟ فلم يكن بُدٌّ والحالة هذه من أخذ المسألة من طريق الاجتهاد المفضية بسالكها إلى السداد.(1/22)
فنظرنا في موارد (هـ جـ ر) في لسان العرب على هذا النظام فوجدناه سبعة: ضد الوصل، ما لا ينبغي من القول، مجانبة الشيء، ومنه الهجرة، هذيان المريض. ونظرنا في هذه الموارد فألفيناها تدور على حرف واحد وهو البعد عن الشيء، فالهجر قد بعد عن الوصل الذي ينبغي من الألفة وجميل الصحبة، وما لا ينبغي من القول قد بعد عن الصواب، ومجانبة الشيء بعد الفراغ منه وأخذ في جانب آخر عنه، وهذيان المريض قد بعد عن نظام الكلام، وانتصاف النهار قد بعد عن طرفيه المحمودين في اعتدال الهواء وإمكان التصرف، والشاب الحسن قد بعد عن العاب (1) .
والحبل الذي يشد به البعير قد أبعده عن استرساله في تصرفه واسترساله ما ربط عن تقلقله وتحركه، وإذا ثبت هذا وكان مرجع الجميع إلى البعد، فمعنى الآية: أبعدوهن في المضاجع، لا يحتاج هذا إلى هذا التكلُّف الذي ذكره العالِم، وهو لا ينبغي لمثل السدي والكلبي، فكيف أنْ يختاره الطبري؟!!
الوقفة السادسة: مناقشاته اللُّغوية:
كثيراً ما يحتج ابن العربي المالكي باللُّغة ويناقش على ضوئها كثيراً من المسائل، ويرجح ما يراه من خلال اقتناعه بما ساق من أدلة، وربما استشهد بآراء آخرين يخالفونه الرأي، ولكن إنْ وجد الحق فيما يعتقد معهم أخذ برأيهم.
ومن أمثلة ذلك تفسيره لسورة العصر، ولم يفسر منها إلاَّ كلمة واحدة هي قوله تعالى [العصر: 1].
قال ابن العربي: من حلف ألا يكلم رجلاً عصراً لم يكلمه سنة، ولو حلف ألا يكلمه العصر لم يكلمه أبداً، لأنَّ العصر هو الدهر...
ثم قال ابن العربي: بناء (ع ص ر) ينطلق على كثير من المعاني، فأمَّا ما يتعلق بالزمان؛ ففيه أربعة أقوال:
الأول: العصر الدهر.
والثاني: الليل والنهار، قال الشاعر (2) :
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أنْ يدركا ما يتمما
والثالث: العصر الغداة والعشي، قال الشاعر:
__________
(1) العاب: العيب والذم.
(2) وهو حميد بن نور.(1/23)
وأمطله العصرين حتى يملني ... ويرضى بنصف الدَّيْن والأنف راغم
وقيل: إنَّ العصر مثل الدهر، قال الشاعر:
سبيل الهوى وعر وبحر الهوى غمر ... ويوم الهوى شهر وشهر الهوى دهر
يريد: عاماً.
والرابع: إنَّ العصر ساعة من ساعات النهار، قاله مطرف وقتادة.
قال القاضي - رضي الله عنه - : إنَّما حمل مالك يمين الحالف، ألا يكلم امرأ عصراً على السنة، لأنَّه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان. وقال الشافعي: يبر بساعة إلاَّ أن تكون له نية.
قال ابن العربي: وبه أقول، إلاَّ أنْ يكون الحالف عربياً، فيقال له: ما أردت؟ فإذا فسَّره بما يحتمل قيل فيه، وإنْ كان الأقل، ويجب على مذهب مالك أنْ يحمل على ما يفسِّر (1) .
فأنت ترى ـ عزيزي ـ القارئ ـ إنَّ ابن العربي انتصر لما يريد بيانه بالمنافسات اللُّغوية والاستشهاد بأشعار العرب.
الوقفة السابعة: ابن العربي والإسرائيليات:
تقل رواية الإسرائيليات عند ابن العربي ويتعقبها في بعض الأحيان، وربما روى الخبر من غير أنْ يعلِّق عليه، فمثلاً عند تفسيره لقول الله تعالى [البقرة: 67].
قال:" المسألة الأولى: في سبب ذلك رُوِيَ عن بني إسرائيل أنَّه كان فيها من قتل رجلاً غيلة بسبب مختلف فيه بين قوم، وكان قريبه فادعى به عليهم، وترافعوا إلى موسى - عليه السلام - فقال له القاتل: قتل قريبي هؤلاء القوم، وقد وجدته بين أظهرهم، فانتفوا من ذلك ـ يعني نفوا ذلك عنهم ـ، وسألوا موسى - عليه السلام - أنْ يحكم بينهم برغبة إلى الله تعالى في تبيين الحق، فدعا موسى - عليه السلام - ربه، فأمرهم بذبح بقرة وأخذ عضو من أعضائها يضرب به الميت فيحيا ويخبرهم بقاتله ... إلخ.
__________
(1) أحكام القرآن، لابن العربي، 4/1979.(1/24)
ثم قال ابن العربي: "المسألة الثانية: في الحديث عن بني إسرائيل: كثر استرسال العلماء في الحديث عنهم في كل طريق، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
ومعنى هذا الخبر الحديث عنهم بما يخبرونه به عن أنفسهم وقصصهم، لا بما يخبرون به غيرهم، لأنَّ إخبارهم عن غيرهم مفتقر إلى العدالة والثبوت إلى منتهى الخبر، وما يخبرون به عن أنفسهم فيكون من باب إقرار المبدأ على نفسه أو قومه فهو أعلم بذلك، وإذا أخبروا عن شرع لم يلزم قوله، ففي رواية مالك عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أمسك مصحفاً قد تشرمت حواشيه، فقال: ما هذا؟ قلتُ: جزء من التوراة، فغضب، وقال: (والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلاَّ اتباعي).
ثم قال في المسألة الرابعة: قوله تعالى [هود: 69].
قدمه إليهم نزلاً وضيافة، وهو أول من ضيَّف الضيف.
ثم قال: وفي الإسرائيليات أنَّه كان لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه، فلقي يوماً رجلاً فلما جلس معه على الطعام قال له إبراهيم: سَمِّ الله، قال له الرجل: لا أدري ما الله؟ قال له: فاخرج عن طعامي، فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل فقال له، يقول الله: إنَّه يرزقه على كفره مدى عمره، وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم مسرعاً فرده، فقال: ارجع، فقال: لا أرجع، تخرجني ثم تردني لغير معنى. فأخبره بالأمر، فقال: هذا رب كريم، آمنت، ودخل وسمَّى الله وأكل مؤمناً (1) .
الوقفة الثامنة: تجارب ابن العربي:
عند تفسيره لقوله الله تعالى في سورة هود: [هود: 87].
قال يبيِّن آراء العلماء في حكم من يكسر الدنانير ويخزنها: المسألة الرابعة:
"إذا كان هذا معصية وفساداً يرد الشهادة، فإنَّه يعاقب من يفعل ذلك، واختلف في عقوبته على ثلاثة أقوال:
__________
(1) أحكام القرآن، 3/1061.(1/25)
الأول: قال مالك: يعاقبه السلطان على ذلك، هكذا مطلقاً من غير تحديد للعقوبة.
والثاني: قال ابن المسيب ونحوه عن سفيان: أنَّه أمر بجلد رجل، فقال ابن المسيب: ما هذا؟ فقالوا: رجل كان يقطع الدراهم، قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض ولم ينكر جلده.
والثالث: قال أبو عبد الرحمن التميمي: كنت عند عمر بن عبد العزيز قاعداً وهو إذ ذاك أمير المدينة، فأتي برجل يقطع الدراهم، وقد شهد عليه، فضربه وحلقه، فأمر فطيف به وأمره أنْ يقول: هذا جزاء من يقطع الدراهم، ثم أمر به أنْ يرد إليه، فقال له: إنَّه لم يمنعني أنْ أقطع يدك إلاَّ أنَّي لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم، فقد قدمت في ذلكن فمن شاء فليقطع.
قال ابن العربي: أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه، وأما حلقه فقد فعله عمر كما تقدم. وقد كنت أيام الحكم بين الناس ـ يعني أيام توليه القضاء ـ أضرب وأحلق، وإنَّما فعلت ذلك بمن يربي شعره عوناً على المعصية، وطريقاً إلى التجمُّل به في الفسوق، وهذا هو الواجب في كل طريقة إلى المعصية، أنْ يقطع إذا كان ذلك غير مؤثر في البدن.
فأنت ـ عزيزي القارئ ـ ترى أنَّ ابن العربي إنْ وجد فرصة يحكي تجاربه التربوية لمعالجة قضايا المجتمع.
الخاتمة:
وبعد هذه السياحة مع ابن العربي المالكي في كتابه: "أحكام القرآن"، التي قصدت من ورائها بيان منهجه الذي سلكه في كتابه: "أحكام القرآن، أرجو أنْ أكون قد بيَّنت للقارئ الكريم الخط الذي رسمه عالمنا لنفسه للسير في تفسير كتاب الله تعالى.
وإنْ كان استخراج المنهج من كتاب ـ مهما كان ـ ليتوقف على مدى فهم المطلع وتجاوبه مع مادة الكتاب. والذي أعانني على هذا العمل بعد توفيق الله هو مُقَدِّمَة ابن العربي نفسه، حيث كانت هي الضوء الذي سرت على شعاعه.
آمل أنْ يجد القارئ ما يدفعه لمزيد من الاطلاع والاستفادة من هذا الكتاب القيم.
.. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..(1/26)