أصول التصحيح
للعلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد..
…فإني منذ بضع سنين مشتغل بتصحيح الكتب العلمية في مطبعة"دائرة المعارف العثمانية" وتبين لي بعد الممارسة قيمة التصحيح العلمية والعملية وما ينبغي للمصحح أن يتحقق به أولا ثم ما يلزمه أن يعمله ثانيا.
…ورأيت غالب الناس في غفلة عن ذلك أو بعضه, فمن لم يشتغل بقراءة الكتب العلمية ومقابلتها وتصحيحها،يبخس التصحيح قيمته ويظنه أمرا هينا لا أهمية له ولا صعوبة فيه. ولما كان أكثر المتولين أمور المطابع من هذا القبيل عظمت المصيبة بذلك ولهم طرق:
الطريقة الأولى..
…من يكتفي بالتصحيح المطبعي أعني جعل المطبوع موافقا للنسخة القلمية, فتارة تكون نسخة واحده, وخطأ هذا بغاية الوضوح عند من كان عنده معرفه علمية واطلاع على النسخ القلمية فإنها لا تكاد نسخة قلميه عن خطأ وتصحيف وتحريف وأقل ذلك أن يشتبه على القارئ فيقرأ غلطا وقد رأينا من هذا كثيرا. مع أن الأصل صحيح ولكنه أخطأ في القراءة.
…إما لكون خط الأصل سقيما أو معلقا أو غير منقوط وهذا كثير في الكتب العتيقة أو تشتبه بعض حروفه ببعض وهذا كثير جدا, هذا فضلا عما يكون في الأصل نفسه من الخطأ فإنك لا تكاد تجد كتابا قلميا واحدا مبرءا عن الغلط, ويقع في أوروبا أن يطبعوا الكتاب بطريق التصوير,كما فعلوا بكتاب الأنساب للسمعاني, وفي هذا ترك الأغلاط التي في الأصل على ما هي وزيادة أنه عند العكس كثيرا ما تخفى النقاط وبعض الحروف الصغيرة.
…وتارة تكون عدة نسخ قلميه ويكلف المصحح أن يجعل أحدها أُمَّاً ويثبت مخالفات النسخ الأخرى على الهامش وفي هذا من النقائص:
1- أنه كثيرا ما تجتمع عدة نسخ على الخطأ.(1/1)
2- بعض النسخ قد تكون مخالفتها خطأ قطعيا فإثباتها تسويد للورق وتكثير للعمل يؤدي إلى ارتفاع قيمة الكتاب المالية فيضر ذلك من يريد اقتناءه وبالمطبعة أيضاً؛لأن كثيرا من الراغبين في اقتناء الكتب يصدهم غلاؤها عن اشترائها وربما عارضتها مطبعة أخرى فطبعت الكتاب بنفقة أقل قناعة عن... فأقبل الناس على هذا وتركوا تلك.
3- إن حيلتهم العمل إلى إسقاط لقيمة النسخة المطبوعة وللمطبعة؛لأن العارف بدل أن يفهم من إثبات الأغلاط الواضحة أمانة المطبعة ومصححها وشدَّة تحريهم يفهم أنه ليس فيهم أحد من أهل العلم يعلم أن ذلك غلط واضح.
4- أن كثيرا من المطالعين لا يميزون بين الصواب والخطأ ففي الطبع على الطريقة المذكورة حرمان هؤلاء من بعض الفائدة وإيقاع بعضهم في الغلط وتليفهم المشقة إذا أرادوا أن يستشهدوا بشيء من الكتاب.
…وبعض المصححين ينبه على أن الخطأ بأنه خطأ, وهذا وإن اندفع به بعض النقائص المذكورة فقد زاد نقصا آخر وهو أن التنبيه على الغلط يلزمه أن يبين المصحح مستنده في التغليط فيعظم حجم الكتاب وقد بيّنا ما فيه.
فأما إذا كان المصحح غير ماهر فلأمر أشد فإنه قد يُصحِّح الغلط ويخطئ الصواب وهذا ينقص قيمة المطبوع العلمية والمالية؛ لأن الناظر فيه يرى أن الكتاب لم يصححه عارف ماهر.
…وأيضا ففي ذلك إيقاع لغير العارفين في الغلط, ومع ما تقدم فإننا نقطع أنه لم يطبع كتاب قط على هذه الطريقة مع استيفاء جميع الاختلافات فإن من نسخ الكتب التي طبعت على هذه الطريقة ما لا نقط فيه البتة أو نقطُه قليل. فلو وفَّى المُصحِّح بهذه الطريقة لكنت الحواشي ثابتة مع كل كلمة منقوطة يمكن تصحيفها.(1/2)
…ومن هنا نعلم أن المصحح فزع إلى الطريقة الرابعة ولكن لم يعتمدها مطلقا بل خلط وخبَّط وفي هذا مفسدة عظيمة فإن ولي أمر المطبعة إنما يأمر بالتزام الطريقة الثانية لأنه لا يرى الاعتماد على معرفته فيحمله ذلك على إحالة التصحيح إلى غير عارف ثقة بأنه لا حاجة للمعرفة وإذ كان الطبع مقيدا بالنسخ وفي هذا ما فيه.
الطريقة الثانية..
وهي الرائجة في بعض المطابع في مصر وغيرها أن يقاول صاحب المطبعة بعض أهل العلم والمعرفة على تصحيح الكتاب الذي يريد طبعه, ويدفع إلفيه النقل الذي يراد الطبع عليه وذلك غالبا بعد مقابلته بالأصل، فيصحح هذا العالم بمعرفته ونظره وبمراجعة المظان من الكتب العلميَّة,ويكتب تصحيحاته على النقل، ثم يأخذه صاحب المطبعة, ويكتفي به التصحيح الحقيقي. ويكتفي بمن يُصحَّح تصحيحا مطبعيا أعني الذي يطبَّق المطبوع على ذلك النقل.
…ففي هذه الطريقة ثلاث أيد تُناوب التصحيح:
الأولى: التصحيح بالمقابلة على الأصل. الثانية: التصحيح الحقيقي. الثالثة: التصحيح المطبعي.
وفيها نقائص:
النقيصة الأولى:
…أن التصحيح بالمقابلة كثيرا ما يُوكل إلى غير أهله. فإن التصحيح بالمقابلة ينبغي أن لا يعتمد فيه إلاّ على عالم ممارس للتصحيح إما كونه عالما فلأمور:
الأول: أن النسخ القلمية كثيرا ما تكون غير منقوطة ويكون خطها رديئا أو مغلقا وتشتبه فيه بعض الحروف ببعض فالمقابل إذا لم يكن عنده أهلية تامة فإنه يقلد الناسخ ويتبعه.
الثاني:أن النسخ القلميه كثيرا ما يكون فيها الضرب والتضبيب وغير الماهر قد لا يفهم ذلك.
الثالث: أن النسخ القلمية كثيرا ما يكون فيها الإلحاق والحواشي وغير الماهر ربما وضع الإلحاق في غير موضعه, وربما اشتبه عليه الإلحاق بالحواشي فيجعل الحواشي إلحاقا وعكسه وهذا موجود بكثرة!(1/3)
الرابع:أن الناسخ إذا كان عارف فكثيرا ما يتصرف بمعرفته فيحرَّف ويصحَّف ويبدل يغير كما وقع في نسخ كتاب "الاعتصام" للشاطبي, ونبه عليه مصحه السيد محمد رشيد رضا. فإذا كان المقابل غير أهل قلد الناسخ.
الخامس:أن غير المتأهل لا يكون عنده غالبا ما يحمله على شدة التحري.
السادس: أن الناسخة كثيرا ما يكون بالإملاء يمسك شخص الأصل ويملي على الناسخ فينسخ هذا الناسخ بحسب ما يسمع وكثيرا ما تتشابه الكلمات لفظا وتختلف خطاً مثل علا وعلى, وحاذر وحازر, عند من ينطبق بالذال زايا ونحوه حامد وهامد, وثائر وسائر, وقال وغال, وترتيب واريب وغريب, وأشباه ذلك كثيرة.
…والمقابلة تكون بين اثنين أيضا فإذا لم يكن المقابل أهلاً لم ينتبه لتصحيح الأغلاط الناشئة عما ذكر إلى غير ذلك. وأما كونه ممارسا للتصحيح فلان غير الممارس لا يكون عنده صبر الممارس وتأنيه وتثبته ومعرفته بمظان الغلط, وسيأتي إيضاح هذا أن شاء الله تعالى في شروط المصحح.
النقيصة الثانية:
…أولا:أن المصحح الأوسط وإن كان بغاية العلم والمعرفة قد لا يتبين له الغلط أو يتبين له ويرى أن ما وقع في النقل محتمل من حيث المعنى فيدعه, أو ينبه عليه في الحاشية وفي ذلك تكثير حجم الكتاب. وإن أهل العلم لا يعتمدون على التصحيح في الحاشية اعتمادهم على ما هو ثابت في الأصل. وأهم من ذلك أن أهل العلم يرون أن الأصل المنقول منه غير صحيح ولا معتمد والشاهد على هذا كتاب "الاعتصام" للشاطبي, فإن العلامة السيد محمد رشيد رضا صححه معتمدا على نقل كان ينسخ من النسخة التي في المكتبة الخدوية وكان يجد أغلاطا في النقل كثيرة فمنها ما أصلحه, ومنها ما نبه عليه, ومنها ما تركه وكان يظن أن الخلل في الأصل ثم تبين له بعد أن الأصل صحيح في الجملة وأن معظم الخلل إنما هو في النقل إذا كان الناسخ يغير برأيه.(1/4)
…ثانيا: أن هذا المصحح الأوسط لا يكون عنده في الغالب مكتبة جامعة تتوفر فيها الكتب التي ينبغي للمصحح مراجعتها.
…ثالثا: أنه يكون غالبا ممن لم يمارس التصحيح وسيأتي في شرائط المصحح أن الممارسة من أهمها.
…رابعا: أنه في الغالب لا يكون له معاون مثله أو قريبا منه في المعرفة وسيأتي في شرائط المصحح أن اجتماع مصححين ذوي أهلية له أهمية.
…خامسا: أنه يكون في الأكثر غير منتصب لتصحيح الكتب ولا متخذ ذلك حرفة ولا شك أن المتخذ لذلك حرفة أحرص على الإتقان من غيرة.
…سادسا: الغالب أن ذوي المطابع لا يعطون هذا المصحح الأوسط الأجرة التي ترضيه بل يساومونه فيأخذ منهم ما سمحوا به وبقدر ما نقصوه تضعف همته عن احتمال المشقات في إتقان العمل كما في سائر الصنائع.
النقيصة الثالثة:
أن صاحب المطبعة يكتفي في هذه الطريقة بأن يكل التصحيح المطبعي إلى من ليس عنده أهلية تامة ولا ممارسة كافية؛لأنه يرى أنه ليس على هؤلاء إلاّ التصحيح المطبعي، أعني تطبيق المطبوع على النقل الذي صححه المصحح. ولكن هذا التصحيح معناه المقابلة بأن يمسك شخص النقل المُصحح وآخر الأوراق المطبوعة فيقرأ ممسك الأوراق غالبا, وربما يقع في الأوراق المطبوعة أغلاط تشتبه مع الأصل لفظا فلا ينتبه لها ممسك الأصل, وربما لا يكون عند هذين من الممارسة للتصحيح ما يحملها على التثبت والتأني والمقابلة كلمة بكلمة. وأيضا فقد يعرض عند الطبع تبدل وتغير مثل: كلمة ابن بين علمين يكون في النقل في السطر الأول فتسقط الألف ثم تكون في الطبع أول سطر فيدعها هذان بلا ألف أيضا مع أن الصواب إثبات الألف حينئذ. وقد يقع في الكتاب مثلاً(وكان عبد الله من أهل الغفلة) فيقع "عبد الله" في النقل في سطر ويقع في المطبوع "عبد" في سطر وكلمة الجلالة في آخر. ومثل هذا مكروه ولهذا نظائر.
الطريقة الثالثة..(1/5)
…أن ينشئ ولي أمر المطبعة على نفقتها محلاً للتصحيح, ويرتب فيه مكتبة ثم يريد طبع كتاب، يقاول بعض أهل العلم على تصحيحه في مكتبة المطبعة وهذه كالتي قبلها تقريبا.
الطريقة الربعة..
…أن ينشئ صاحب المطبعة مكتبة ويرتب فيها مصححين يتقاضون مرتبات شهرية ويتولون التصحيح بأقسامه الثلاثة.
المقابلة والتصحيح الحقيقي والمطبعي:
…وتكون المقابلة على نسخ قلميه عديدة إن وجدت أو واحدة فقط وهذه أصوب الطرق وأولاها بالسلامة من النقائص على شرط أن يكون المصححون ذوي أهلية وخبرة. تم بحمد الله.(1/6)