الإمام أحمد ودفاعه عن السنة
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
محنة الإمام أحمد:
قال الإمام ابن كثير (10: 334): فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة فقالوا: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين. فعند ذلك حمي واشتد غضبه وكان ألينهم عريكة وهو يظن أنهم على شيء. قال أحمد: "فعند ذلك قال لي لعنك الله ".(1/1)
ثم قال المعتصم: طمعت فيك أن تجيبني ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه. قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر وكان معي شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي فجردوني منه وصرت بين العقابين فقلت يا أمير المؤمنين الله الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرءٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلاّ بإحدى ثلاث". وتلوت الحديث وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فبمَ تستحل دمي ولم آت شيئاً من هذا ؟. يا أمير المؤمنين أذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك. ولم تؤثر هذه النصوص الصحيحة الثابتة في المعتصم بل زادته طغياناً وعلواً وفساداً. قال الإمام أحمد: فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويقول له المعتصم: شد قطع الله يديك ويجيء الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك فضربوني أسواطاً فأغمي عليّ، وذهب عقلي مراراً فإذا سكن الضرب يعود عليّ عقلي، وقام المعتصم إليّ يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل، وأعادوا الضرب ثم عاد إليّ فلم أجبه فأعادوا الضرب ثم جاء إليّ الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري، وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلاّ وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين.(1/2)
قال الإمام ابن كثير: " ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطاً وقيل ثمانين سوطاً ولكن كان ضرباً مبرحاً شديداً جداً، وقد كان الإمام أحمد رجلاً طوالا رقيقاً أسمر اللون كثيراً التواضع رحمه الله تعالى ".
قلت: لولا الله عز وجل ثم الإمام أحمد ووقوفه أمام تلك القوة الباغية الطاغية بذلك الإيمان الراسخ وتضحيته وفداؤه لما كان لنا هذا القرآن وهذه السنة ولاندثرت معالم الحق وينابيع الخير وطمست عقيدة السلف، ولما كان للإمام ابن تيميه عليه الرحمة ذلك الجهاد القوي المتين الذي يضرب به المثل أمام الخلائق، ولما كان لمجدد القرن الثاني عشر شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ذلك النصيب الأوفر من الدعوة المحمدية التي أقام بها الدولة المحمدية في شبه الجزيرة العربية ولا تزال قائمة حتى الآن، فالفضل لله عز وجل كله ثم للإمام أحمد رحمه الله تعالى.
قال الحافظ ابن حجر في( التهذيب: 1: 75) نقلاً عن ابن حبان في كتابه (الثقات) مشيراً إلى الإمام: أحمد كان حافظاً متقناً فقيهاً ملازماً للورع الخفي مواظباً على العبادة الدائمة أغاث الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذاك أنه ثبت في المحنة وبذل نفسه لله حتى ضرب بالسياط للقتل فعصمه الله تعالى عن الكفر وجعله علماً يقتدى به، وملجأ يلجأ إليه. وقال أبو الحسن ابن الزاغوني: كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه فوجد كفنه صحيحاً لم يَبْلَ وجنبه لم يتغير وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة ) انتهى.
قلت: ليس هذا بغريب في الإسلام فقد وردت في الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى قصة مماثلة وقعت لصحابي جليل استشهد في غزوة أحد ثم أخرجه ابنه بعد ستة أشهر فوجده كما كان رضي الله عنه(1).
__________
(1) بل حدث أن كشفت أجسام بعض شهداء أحد بعد عشرات السنين فظهرت حديثه العهد كأنما دفنت ليومها.(1/3)
قلت: ترجم للإمام أحمد السيد صديق حسن خان القنوجي البخاري المتوفي سنة 1248هـ. العالم السلفي الجليل صاحب تفسير فتح البيان في التاج المكلل ص 24 – 28 فأجاد وأفاد مع الاختصار، وكانت وفاته رضي الله تعالى عنه في مائتين وإحدى وأربعين. وسوف أتعرض لترجمته -إن شاء الله تعالى- في بحث مستقل بالتفصيل. وأما الآن فأضع أمامكم مخطوطاً مصوراً عظيماً يوجد في مكتبة الحرم المكي في علل الحديث ومعرفة الرجال، فهو كتاب لصاحب هذه الترجمة العاطرة، الذي يعتبر أول كتاب في الإسلام في علل الحديث فيما أظن، ومن العجيب أنه لم يرد له ذكر في الفهارس الموجودة لدينا ككشف الظنون وذيوله وفي الرسالة المستطرفة للكتاني. وكذا في كتب أصول الحديث التي توجد الآن في مكتبتنا الإسلامية على ما أظن والله أعلم. وهذا أمر يستغرب منه أشد الاستغراب وكيف لا ؟ وقد ذكرت كتب علل الحديث للمؤلفين الذين لا وزن لهم بالنسبة لهذا الرجل العظيم الذي أنقذ الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورفع به شأن السنة المحمدية وكل ما كتب في حق الإمام أحمد رحمه الله فهو قليل جداً من كثير فكتابة الذي أنا بصدده فهو ( علل الحديث ومعرفة الرجال ) الذي طبع منه الجزء الأول في أنقرة بتركيا نشره الدكتوران المسلمان طلعت و إسماعيل جراح أوغلي عام ( 1963)م نشراه عن النسخة الفريدة الموجودة بمكتبة آياصوفيا تحت رقم (3380) عورضت على أبي علي بن الصواف (359 – 970 ) في سنة 343 وقوبلت بنسخة عبد الله بن الإمام أحمد بن محمد ابن حنبل مع تعليقات وحواش. وكان هذا المجهود العلمي الكبير من كلية الإلهيات بجامعة أنقرة.
قلت: إن كتاب الجرح والتعديل للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي فرع لهذا الكتاب، إن قارنت بين عبارتيهما يظهر لك كل شيء مما يدل على أن كتاب علل الحديث للإمام أحمد أصل أصيل في علل الحديث والله أعلم.(1/4)
والجزء الأول المطبوع في تركيا قد خدم خدمة جبارة ممتازة من قبل الدكتورين المذكورين، وقد وعدا بأن يخرجا الجزء الثاني للكتاب إلاّ أن هذا الوعد الكريم قد مضى عليه أكثر من تسع سنوات ولم أدر ماذا جرى لها، والنسخ التي وردت في هذه البلاد المقدسة كانت محدودة جداً على ما أظن من تركيا الإسلامية.
يقع هذا الجزء الأول من الكتاب مع التحقيق في خمسمائة صفحة واليأس مسيطر على ذوي الحاجة من طلاب الحديث بأن حصل مانع للأخوين الكريمين من إخراج بقية الكتاب أو جاء على أحدهما أو على كليهما نداء رباني فلباه أو هناك أمور أخرى لا نعلمها والله أعلم بهما وبما فعلا.
وأما المخطوط الذي أنا بصدد تعريفه فهو مصور بصورة فوتوغرافية مأخوذة من مكتبة أياصوفيا بتركيا ورقم الكتاب هناك بتلك المكتبة هو (3380) وهو واقع في 178 ورقة والمطبوع منه إلى 97 ورقة والباقي الذي لم يطبع حسب ما بلغ علمي إحدى وثمانون ورقة. وقد ذكرت من قبل أن المطبوع هو الجزء الأول فأحب أن أوضح هذا الأمر لئلا يشكل على أهل العلم. إن الجزء الأول المطبوع مشتمل على أربعة أجزاء حقيقية حسب ترتيب المؤلف رحمه الله تعالى، وأما تسمية المطبوع بالجزء الأول فهو من اصطلاح الناشرين فالكتاب كله واقع في ستة عشر جزءاً. والأجزاء الأربعة الأول المطبوعة أكبر حجماً من الأجزاء الثمانية الباقية التي لم تطبع حسب ما بلغ علمي والتي تقع في إحدى وثمانين ورقة في مخطوطنا هذا والله تعالى أعلم.
وأما آخر عبارة المطبوع من الأجزاء الأربعة فهي كالآتي:
قلت: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قرأت على أبي أبو بدر قال: صليت على جنازة ابن أبجر أنا وسفيان الثوري فتقدم عليه أخ له(1)وفي رأيه شيء فصلى عليه وكان في رواية شيء فكبر عليه خمساً فلما فرغ من الرابعة سلم سفيان فأقبل عليّ ثم قال ما يريدون إلى هذا انتهى.
__________
(1) هكذا في أصل المقال " المجلة".(1/5)
وأما آخر العبارة من الأجزاء الثمانية الباقية غير المطبوعة فهي كالآتي: حدثني أبي قال سمعت سفيان يقول قال لي عمر بن وهب يعني سنداً أنه لا يحدثك به أنه لا يذكره، قال سفيان فقلت لعبد الرحمن سمعت أباك فحدث عن عائشة فسكت ساعة ثم قال: نعم.
آخر الجزء السادس عشر من أجزاء عبد الله بن أحمد وهو آخر الكتاب ( والحمد لله وحده وصلى الله وملائكته على محمد النبي وآله وسلم تسليماً ).
قلت: ويقع هذا الكتاب المبارك العظيم النفع في ستة عشر جزءاً وقد كتب على غلافه الكلمات التالية: الجزء الأول من كتاب العلل ومعرفة الرجال عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى رواية أبي علي محمد أحمد بن الحسن الصواف عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أبي عبد الله سماع عبيد الله بن أحمد لأبي الحسن علي ابن الحسن بن أحمد المقري. وسمعه قراءة على الشيخ أبي الفتح محمد أحمد أبي الفوارس علي بن أبي علي بن الصواف وذلك في محرم سنة ثنتي عشرة وأربعمائة وسمع جميعه -أيضاً- محمد بن ضران بن الحسين المزارع وعبد الواحد ...الخ. وقد كتبت عبارة أخرى على الغلاف أيضا
ً وهي كالآتي: (وقف هذه النسخة الجليلة سلطاننا الأعظم وخاقان المعظم السلطان ابن السلطان محمود خان وقفاً صحيحاً رضا لمن طالع وتبصر).
قلت: هناك عبارة واقعة على الغلاف وهي تدل على أن هذه النسخة كانت في الحرمين في عصر من العصور ثم ذهب بها إلى تركيا ومن العجيب العجاب كيف كانت تنقل هذه النسخ الثمينة بعد وقف صاحبها على مكتبات الحرمين !(1/6)
قلت: هذه النسخة -والله تعالى أعلم- فريدة في العالم كما ذكر الدكتوران الكريمان في تحقيقهما على الكتاب المذكور، فهذه النسخة التي أمامي في مكتبة الحرم المكي مأخوذة من مكتبة أياصوفيا وهي التي أشار إليها الأخوة، وزد على ذلك ما ذكره كارل بروكلمان في تاريخ الأدب العربي -الذي نقله إلى العربية الدكتور عبد الحليم النجار( ج 3: 312)-يقول: المذكور 8 كتاب العلل والرجال لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل الشيباني الذهلي أياصوفيا 3380 ( انظر 249، 17 الفهرست)، قلت: يوجد الجزء الثاني عشر من الكتاب في معهد المخطوطات العربية راجع الفهرست ج 2: 110 وقد صور هذا الجزء من مكتبة الظاهرية بدمشق الذي سجل هناك برقم 544 – ف46 راجع نفس المرجع وكتب هذا الجزء بخط قديم في سنة 341 في عشر ورقات.(1/7)