آراء الإمام ابن ماجه الأصوليّة من خلال تراجم أبواب سننه
لفضيلة الشّيخ العلاّمة
د.سعد بن ناصر الشّثري
عضو هيئة كبار العلماء
و
عضو اللجنة الدائمة للإفتاء
قام بتنسيقه ونشره : سَلمان بن عبد القادر أبو زيد
غفر اللَّهُ له ولوالدَيه ولجميع المسلمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
« المقدّمة »
الحمد لله الذي تفضل على هذه الأمة بحفظ دينها ، وصلاح أمرها ، ورفعة شأنها ، نحمده سبحانه ، هيأ لهذه الأمة علماء يعلمون جاهلها ويرشدون ضالها ، فله الحمد سبحانه أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ، هو الحق لا يستحق العبادة أحد سواه ، ولا يحتاج أحد من الخلق إلى واسطة في خطاب ربه ودعائه ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وأمينه على وحيه ، اتباعه سبب لمحبة الله ، وطاعته سبب لدخول جنة الخلد ، فصلى الله على هذا النبي الكريم ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه الهداة الأبرار والسادة الأطهار ، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد :
فإن الله تعالى بفضله هيأ لهذه الأمة من يحفظ لها دينها ، فنقلوا كتاب الله نقلا متواترا لا مجال للتشكيك فيه ، ونقلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وميزوا صحيحها من غيره ،
وصنفت المؤلفات في السنن والأحاديث ، ومن أبرز هذه المؤلفات الكتب الستة : صحيح البخاري ومسلم ، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، ومن هنا اهتم علماء الأمة بهذه الكتب ، وصنفوا حولها المصنفات في الكلام عن معانيها وشروحها وأحكامها ورجالها واختصاراتها وزوائدها وصحيحها ، إلا أنه لم يتصد أحد من المؤلفين للحديث عن القواعد الأصولية التي قررها هؤلاء الأئمة ، أو طبقوها على الأحكام الشرعية في عناوين الأبواب التي يسميها العلماء بـ (التراجم) ، ومن هنا ظهرت فكرة هذا البحث .
فرغبت أن أتناول تراجم الإمام ابن ماجه بالدراسة؛ لأستخرج منها القواعد والآراء الأصولية التي سار عليها الإمام في استخراج أحكام تراجمه .(1/1)
وتراجم الإمام ابن ماجه على أنواع :
النوع الأول : ما ليس له علاقة مباشرة بالأحكام الشرعية ، ومن أمثلة ذلك : (باب في بدء الإيمان) (1) ، و (باب في القدر) (2).
ومن ذلك أيضا أبواب الفضائل(3).
النوع الثاني : التراجم التي تساق على جهة الاستفهام والسؤال ، مثل قوله : (باب الرجل يستيقظ من منامه هل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ؟) (4)، و (باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل؟) (5)، و (باب في الحائض كيف تغتسل ؟) (6)، و (باب أين يجوز بناء المساجد ؟) (7).
النوع الثالث : التراجم التي يفهم الحكم منها عند قرنها بما وضع تحتها مثل : (باب من سن سنة حسنة) (8)، و (باب تغطية الإناء) (9)، و(باب الاستنجاء بالحجارة) (10)، و (باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء) (11)، و(باب الوضوء بالنبيذ) (12).
النوع الرابع : التراجم التي صرحت بالحكم منسوبا لقائل ، سواء كان هذا القائل معروفا أو ليس بمعروف ، مثل قوله : (باب من كره أن يوطأ عقباه) (13)، و (باب من دلك يده بالأرض بعد الاستنجاء) (14) ، و (باب من كان لا يرفع يديه في القنوت) (15).
النوع الخامس : التراجم التي صرح المؤلف فيها بالحكم من غير نسبته إلى قائل ، مثل قوله : (باب كراهية البول في المغتسل) (16)، و (باب كراهة مس الذكر باليمنى) (17)، و (باب كراهية الخلع للمرأة) (18)، و (باب الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت) (19).
__________
(1) السنن 1 / 22
(2) السنن 1 / 29
(3) السنن 1 / 36 ـ 73
(4) السنن 1 / 138
(5) السنن 1 / 175
(6) السنن 1 / 210
(7) السنن 1 / 245
(8) السنن 1 / 74
(9) السنن 1 / 129
(10) السنن 1 / 114
(11) السنن 1 / 108
(12) 10) السنن 1 / 135
(13) 11) السنن 1 / 89
(14) 12) السنن 1 / 128
(15) 13) السنن 1 / 373
(16) السنن 1 / 11
(17) السنن 1 / 113
(18) السنن 1 / 662
(19) السنن 1 / 394(1/2)
والنوع الأول لا علاقة له باستخراج الأحكام الشرعية ، ومن ثم فهو خارج عن موضوع هذا البحث .
والأنواع من الثاني إلى الرابع لم يصرح فيها الإمام ابن ماجه بالحكم منسوبا لنفسه ، ومن ثم لم تدخل في هذا البحث ، وإني لآمل أن يهيئ الله لها باحثا يستخرج بواسطتها القواعد الأصولية التي بنى عليها العلامة ابن ماجه هذه التراجم .
فهذا البحث اقتصرت فيه على التراجم التي وجد الحكم فيها صريحا من غير نسبة لقائل ، بحيث يتأكد الباحث أن ابن ماجه يرى هذه الأحكام ، وتوصل إليها باجتهاده ، وهذه التراجم منها ما يتعلق بالمسائل الأصولية مباشرة بحيث يقرر فيها حكما أصوليا مثل كلامه في قاعدة القياس ، ومنها ما يقرر فيه حكما فقهيا مبنيا على دليله ، فيأتي الباحث فيوضح القاعدة الأصولية التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل .
وقد رتبت هذا البحث من : مقدمة ، وفصلين ، وخاتمة . وهذه المقدمة فيها أهمية الموضوع وحدوده وخطة البحث ومنهجه .
الفصل الأول : آراء ابن ماجه في مباحث الأحكام والأدلة :
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : مدلول لفظ الكراهة .
المبحث الثاني : مدلول لفظ الرخصة .
المبحث الثالث : حجية القياس .
الفصل الثاني : آراء ابن ماجه في دلالات الألفاظ :
وفيه ستة مباحث :
المبحث الأول : تخصيص العام بعلة الحكم .
المبحث الثاني : مفاد صيغة الأمر .
المبحث الثالث : مفاد صيغة النهي .
المبحث الرابع : دلالة صيغة لا تفعل على النهي .
المبحث الخامس : استفادة النهي من ترتيب العقوبة على الفعل .
المبحث السادس : استفادة النهي بوصف ظرف بنقيضه .
الخاتمة : وفيها خلاصة البحث وأهم نتائجه وتوصياته .
أما منهج البحث : فقد ذكرت أولا رأي الإمام ابن ماجه في المسألة الفقهية ، ثم ذكرت الدليل الذي اعتمد عليه ، ومن ثم استنبطت القاعدة الأصولية التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل .(1/3)
هذا وأسأل الله - عز وجل - أن يوفقني للقول الصواب والعمل السديد ، وأن يجنبني الزلل في القول والعمل ، وأن يرزقني النية الصالحة والأجر الجزيل ، والرفعة في الدرجات . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الفصل الأول : آراء الإمام ابن ماجه في مباحث الأحكام والأدلة :
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : مدلول لفظ الكراهة .
المبحث الثاني : مدلول لفظ الرخصة .
المبحث الثالث : حجية القياس .
المبحث الأول : مدلول لفظ الكراهة :
أطلق الإمام ابن ماجه حكم الكراهة في عدد من المسائل في تراجم أبواب سننه في بضع عشر موضعا ، والأغلب أنه لا يريد بلفظ الكراهة ما اصطلح عليه أخيرا ، وإنما يريد بلفظ الكراهة التحريم بحسب المصطلحات الأصولية المتعارف عليها عند المتقدمين ، ويدلك على أن الإمام ابن ماجه يقصد التحريم بلفظ الكراهة أمور :
أولها : أنه أطلق لفظ الكراهة في مسائل ورد الحديث بالنهي عنها بلفظ النهي الصريح المفيد للتحريم(1)، ومن ذلك :
قوله : (باب كراهية لبس الحرير) (2)، واستدل عليه بحديث : « نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الديباج والحرير ».
ومن ذلك : قوله : (باب كراهية المعصفر للرجال) (3)، واستدل عليه بحديث : « نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المفدم ».
ومن ذلك : قوله : (باب ما يكره من الأسماء) (4)، وأورد فيه أحاديث صريحة في النهي عن عدد من الأسماء(5)
__________
(1) سيأتي بحث ذلك مفصلا في المبحث الثالث من الفصل القادم .
(2) سنن ابن ماجه ص1187 كتاب اللباس باب رقم 16.
(3) سنن ابن ماجه ص1191 كتاب : اللباس باب رقم 21 .
(4) سنن ابن ماجه ص1229 كتاب الأدب باب رقم 31 .
(5) أخرجه ابن ماجه من طرق : أولها : من حديث عمر برقم 3729 ، وأخرجه الترمذي 2835 ، وقال : غريب ، هكذا رواه أبو أحمد وهو ثقة حافظ ، والمشهور عند الناس هذا الحديث عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس فيه عمر .
وثانيها : من حديث سمرة أخرجه ابن ماجه برقم 3730 ، ومسلم 2137، والترمذي 2836 وصححه، وأبو داود 4958.(1/4)
.
ثانيها : أنه أطلق لفظ الكراهة على أفعال في مسائل استدل عليها بأحاديث وردت بترتيب العقوبة على فاعل هذه الأفعال ، وهذا مما يدل على تحريم هذا الفعل(1)، ومن أمثلة ذلك : قوله : (باب كراهية الخلع للمرأة) (2)، واستدل عليه بحديث : « لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة »، وحديث : « أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ».
ومن أمثلته : قول ابن ماجه : (باب ما جاء في كراهة الأيمان في الشراء والبيع) (3)، واستدل عليه بحديث :« ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم » الحديث .
ومن أمثلته : قول ابن ماجه : (باب كراهية لبس الحرير) (4)، واستدل عليه بحديث : « من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ».
ثالثهما : أنه أطلق لفظ (الكراهة) على أفعال ورد النهي عنها بصيغة (لا تفعل) الدالة على التحريم عند تجردها من قرائن على قول جمهور العلماء .
ومن ذلك : قوله : (باب كراهية البول في المغتسل)(5)، واستدل عليه بحديث : « لا يبولن أحدكم في مستحمه» . ومن ذلك : قول ابن ماجه : (باب كراهة مس الذكر باليمين والاستنجاء باليمين)(6)، واستدل عليه بحديث : « إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه »، وبحديث : « إذا استطاب أحدكم فلا يستطب بيمينه ليستنج بشماله »، ومن ذلك : قول ابن ماجه : (باب كراهية النخامة في المسجد)(7) ، واستدل على ذلك بحديث : « إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ».
__________
(1) سيأتي بحث هذه القاعدة في المبحث الخامس من الفصل الثاني .
(2) سنن ابن ماجه ص 662 كتاب الطلاق باب رقم 21 .
(3) سنن ابن ماجه ص 744 كتاب التجارات باب رقم 30 .
(4) سنن ابن ماجه ص 1187 كتاب اللباس باب رقم 16 .
(5) سنن ابن ماجه ص111 كتاب الطهارة باب رقم 12.
(6) سنن ابن ماجه ص113 كتاب الطهارة باب رقم 15 .
(7) سنن ابن ماجه ص251 كتاب المساجد باب رقم 10.(1/5)
رابعها : أنه في مسألة النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها ، أورد الحديث فيها بأنه : « كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها» ، وقد حمل العلماء هذا الحديث على الكراهة دون التحريم؛ لأدلة وردت في ذلك(1)، ولهذا لما ذكر ابن ماجه المسألة لم يعبر عنها بلفظ الكراهة مع موافقة ذلك للفظ الحديث ، وإنما عبر عنها بلفظ النهي ، والنهي يشمل المكروه عند جماهير العلماء؛ ولذلك قال ابن ماجه :( باب النهي عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها)(2).
وبمقارنة رأي الإمام ابن ماجه في إطلاق لفظ الكراهة بمعنى التحريم بآراء الأصوليين ، لا نجد هذا الرأي خارجا عن طريقتهم ، فإن الأصوليين ذكروا أن لفظ الكراهة تطلق على عدد من المعاني منها التحريم(3)، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم ، فإن الله ذكر شيئا من المحرمات في سورة الإسراء ، ثم قال : ? كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ? [الآية 38] .
وإن كان المشهور عند الأصوليين إطلاق لفظ الكراهة على النهي غير الجازم(4).
والحنفية يقسمون المكروه إلى قسمين :
أولهما : المكروه تنزيها ، وهو ما نهي عنه نهيا غير جازم .
وثانيهما : المكروه تحريما وهو ما نهي عنه نهيا جازما بدليل ظني(5).
وإذا أطلقوا لفظ الكراهة انصرف هذا اللفظ عندهم غالبا إلى المكروه تحريما(6).
المبحث الثاني : مدلول لفظ الرخصة :
__________
(1) انظر : فتح الباري 2 / 49 ، فقد ورد في البخاري برقم 569 أن بعض الصحابة ناموا قبل العشاء ، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) سنن ابن ماجه ص 229 كتاب الصلاة باب رقم 12.
(3) روضة الناظر 1 / 206 ، البحر المحيط 1 /296 ، التقرير والتحبير 2 /143 .
(4) تقريب الوصول ص 100 ، البحر المحيط 1 / 296 ، شرح الكوكب المنير 1 / 413.
(5) تيسير التحرير 1/ 53، فواتح الرحموت 588 .
(6) الحكم التكليفي ص : 221.(1/6)
عبر الإمام ابن ماجه بلفظ الرخصة في عدد من المواضع من تراجم أبواب السنن ، وبدراسة هذه المواطن يجد الباحث أنه يطلق لفظ الرخصة على معان مختلفة :
المعنى الأول : يشمل الصور التي وجدت فيها علة التحريم لكن استثنيت هذه الصور بدليل خاص بها ، أو بتعبير آخر : (المسائل التي ورد النص بالإباحة فيها مع وجود معنى فيها أنتج التحريم في غير هذه المسألة) . ومن أمثلة ذلك : قوله : (باب الرخصة في ذلك - يعني استقبال القبلة عند قضاء الحاجة- في الكنيف)(1)، فاستقبال القبلة في الكنيف عند قضاء الحاجة يوجد فيه المعنى الذي ثبت التحريم له ، وهو كونه مستقبلا القبلة عند البول والغائط الذي تكلم عنه المؤلف في باب آخر ، حيث قال : (باب النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول)(2)، ولكن المؤلف استثنى من ذلك حال الكنيف؛ لورود الدليل بالإباحة فيه ، وسماه رخصة .
ومن أمثلة ذلك : قول ابن ماجه : (باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت)(3)، فجعل إباحة الصلاة في أوقات النهي لمن كان بمكة رخصة بعد أن قرر النهي عن الصلاة في تلك الأوقات ، حيث قال : (باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة)(4).
ومن أمثلة ذلك أيضا : تسميته أكل المحرم للصيد الذي لم يصد من أجله رخصة حيث قال : (باب الرخصة في ذلك إذا لم يصد له)(5)، بعد تقريره النهي عن الصيد للمحرم في قوله : ( باب ما ينهى عن المحرم من الصيد)(6).
__________
(1) سنن ابن ماجه ص116 كتاب الطهارة باب رقم 18.
(2) سنن ابن ماجه ص115 كتاب الطهارة باب رقم 17.
(3) سنن ابن ماجه ص398 كتاب إقامة الصلاة باب رقم 149.
(4) سنن ابن ماجه ص396 كتاب إقامة الصلاة باب رقم 148.
(5) سنن ابن ماجه ص 1033 كتاب المناسك باب رقم 93.
(6) سنن ابن ماجه ص1032 كتاب المناسك باب رقم 92.(1/7)
ومن أمثلة ذلك أيضا : : قوله : (باب ما رخص فيه من الرقى)(1)وأورد فيه حديث :« لا رقية إلا من عين أو حمة » ، فالجميع فيه علة النهي وهو كونها رقية إلا أن النص ورد بإباحة ما كان للعين أو حمة مع وجود معنى التحريم فيها .
وإطلاق لفظ الرخصة على هذا المدلول ، هو منهج الأصوليين ويعبرون عنه بقولهم : (استباحة المحظور مع قيام الحاظر)(2).
والمعنى الثاني : يتعلق بالمسائل التي تعارضت فيها الأدلة منعا وإباحة ، فهو يطلق لفظ الرخصة على أدلة الإباحة في هذه المسائل ، ومن أمثلة ذلك : قوله : (باب الرخصة بفضل وضوء المرأة)(3)، ومن أمثلة ذلك أيضا : أنه لما عقد بابا بعنوان : (الوضوء من مس الذكر)(4) ، قال بعده : (باب الرخصة في ذلك)(5)، وأورد فيه الأحاديث التي تدل على عدم إيجاب الوضوء من مس الذكر ، وبعد هذا الباب مباشرة (باب الوضوء مما غيرت النار)(6)، أورد فيه أحاديث توجب ذلك ، وبعده (باب الرخصة في ذلك)(7)، أورد فيه ابن ماجه أحاديث تدل على عدم وجوبه .
المعنى الثالث : ما فيه توسعة على المكلفين وإن لم يوجد فيه علة التحريم ، وهذا المعنى استعمله المؤلف مرة واحدة ، حيث قال : (باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة فيه)(8).
__________
(1) سنن ابن ماجه ص1161 كتاب الطب باب رقم 34.
(2) كشف الأسرار للبخاري 2 / 544 ، شرح تنقيح الفصول 85 ، قواعد ابن اللحام 114 ، روضة الناظر 1 / 259 ، شرح مختصر الروضة 1 / 459 ، أصول السرخسي 1 / 117.
(3) سنن ابن ماجه ص 132كتاب الطهارة باب رقم 33.
(4) سنن ابن ماجه ص 161 كتاب الطهارة باب رقم 63.
(5) سنن ابن ماجه ص 163 كتاب الطهارة باب رقم 64.
(6) سنن ابن ماجه ص163 كتاب الطهارة باب رقم 65.
(7) سنن ابن ماجه ص164 كتاب الطهارة باب رقم 66.
(8) سنن ابن ماجه ص131 كتاب الطهارة باب رقم 32.(1/8)
ومثل هذا لا يجعله الأصوليون من باب ما يسمى رخصة في الاصطلاح الأصولي ، وإن صح إطلاق هذا اللفظ عليه من باب التجوز(1).
وقد يكون مراد الإمام ابن ماجه بهذا ، المعنى الأول ، وذلك أن سؤر الهرة فيه شيء من المعنى الذي في سؤر الكلب ، ومع ذلك جاء الدليل بالوضوء من سؤر الهرة بخلاف الكلب؛ لأن ابن ماجه عقد الباب المتعلق بسؤر الهرة بعد الباب المتعلق بسؤر الكلب(2).
المبحث الثالث: حجية القياس :
قد يفهم من كلام الإمام ابن ماجه القول بعدم حجية القياس ، ويبدو ذلك جليا فيما يأتي:
أولا: أنه أورد في أحد تراجمه عبارة يفهم منها ذم الرأي والقياس ، فقال: (باب اجتناب الرأي والقياس)(3).
ثانيا: أنه أورد في الباب السابق قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ، ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا ». فكأنه يرى أن القياس والرأي ليسا من العلم في شيء .
أما جمهور الأصوليين فإنهم يرون حجية القياس(4).
ويسوقون على ذلك أدلة عديدة(5).
__________
(1) المغني للخبازي 89، المستصفى 1 / 330 ، روضة الناظر 1 / 260.
(2) سنن ابن ماجه ص130 كتاب الطهارة باب غسل الإناء من ولوغ الكلب.
(3) السنن 1 / 20.
(4) التلخيص 3 / 154، الوصول 2 / 243، ميزان الأصول ص 556 ، المحصول 2 / 245، وانظر: الرسالة ص 476، التبصرة ص 419، شرح اللمع 2 / 760، أصول السرخسي 2 / 118، إحكام الفصول 460، شرح تنقيح الفصول ص 385، العدة 4 / 1281، التمهيد 3 / 365، المسودة ص 367، شرح مختصر الروضة 3 / 242 .
(5) انظر: التفريق بين الأصول والفروع 2 / 159.(1/9)
وأجاب الجمهور على ما ذكره ابن ماجه من أدلة بأجوبة عديدة ، ملخصها أن ما ورد في منع قول الإنسان بما رآه يعني فيما لا يرجع إلى أصل يقاس عليه ، توفيقا بين ذلك وبين النصوص الورادة بحجية القياس(1).
والذي يظهر لي أن الإمام ابن ماجه لا يخالف الجمهور في ذلك ، بل هو موافق لهم ويدل على ذلك أمور:
أولا: أن مما أورده الإمام من ذم الرأي إنما يراد به المقابل للنص ، أو الرأي المجرد الصادر من غير المجتهد ، كما في حديث: « اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم » . قال ابن حجر : " قوله: (باب ما يذكر من ذم الرأي) أي الفتوى بما يؤدي إليه النظر ، وهو يصدق على ما يوافق النص وعلى ما يخالفه ، والمذموم منه ما يوجد النص بخلافه ، وأشار بقوله: (من) إلى أن بعض الفتوى بالرأي لا تذم ، وهو إذا لم يوجد النص من كتاب أو سنة أو إجماع "(2).
ثانيا: أن الإمام ابن ماجه من علماء الأمة الذين لهم مكانة ومنزلة فيها ، ولو كان لا يرى الاحتجاج بالقياس ، أو يفهم ذلك من كلامه لاشتهرت النسبة إليه بذلك .
ثالثا: سنن ابن ماجه موضع عناية الأمة ، من خلال روايته وشرحه والتعليق عليه ، والاعتراض على مواطن منه ، ونحو ذلك ، فلو كان القول بعدم صحة استنباط الأحكام الشرعية بواسطة القياس يفهم من كلام ابن ماجه ، لكان موضع عناية من هؤلاء العلماء الذين اهتموا بسننه .
الفصل الثاني: آراء الإمام ابن ماجه في دلالات الألفاظ:
وفيه ست مباحث:
المبحث الأول: تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة .
المبحث الثاني: مفاد صيغة الأمر .
المبحث الثالث: مفاد صيغة النهي .
المبحث الرابع: دلالة صيغة لا تفعل على النهي .
المبحث الخامس: استفادة النهي من ترتيب العقوبة على الفعل .
المبحث السادس: استفادة النهي في الفعل بوصف ظرف بنقيضه .
* * * * * * * * * * *
المبحث الأول: تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة:
__________
(1) فتح الباري 13 / 291.
(2) فتح الباري 13 / 282.(1/10)
قرر الإمام ابن ماجه كراهة البول في مكان الاغتسال فقال: (باب كراهة البول في المغتسل)(1)، واستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم :« لا يبولن أحدكم في مستحمه فإن عامة الوسواس منه ».
ثم نقل عن الطنافسي قوله: "إنما هذا في الحضيره؛ فأما اليوم فلا ، فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير ، فإذا بال فأرسل عليه الماء فلا بأس "(2).
فكأنه فهم من الحديث أن النهي عن البول في المغتسل للابتعاد عن النجاسة عند الاغتسال ، ولما كان الاغتسال في التراب سابقا نهي عن البول في مكان الاغتسال لئلا يكون ذلك سببا في النجاسة ، لكن إذا كان المغتسل مبنيا بحيث إذا أرسل عليه الماء غسل البول فلا مانع من البول فيه ، وهذا تخصيص لعموم الحديث بالنهي عن البول في المستحم من خلال قصر الحكم العام على مكان علته المستنبطة .
وتخصيص الحكم بعلته المنصوصة لا إشكال في صحته وجوازه ، ولكن الكلام في مسألة: هل يصح أن تعود العلة المستنبطة على أصلها بالتخصيص؟ للعلماء في ذلك قولان :
الأول : جواز تخصيص النص بعلته المستنبطة(3) ، واستدلوا عليه بأنه كتخصيص العلة بحكم آخر وهو جائز فكذا هنا(4).
الثاني: عدم جواز ذلك ، وبالتالي فإن من شروط صلاحية الوصف للتعليل أن لا يعود على أصله بالتخصيص؛ لأنه تعارض عموم النص مع العلة المستنبطة ، والعموم منسوب للشارع ، والعلة المستنبطة منسوبة للمجتهد ، فقدم العموم المنسوب للشارع(5).
__________
(1) سنن ابن ماجه ص111 كتاب الطهارة باب رقم 12.
(2) سنن ابن ماجه ص 111.
(3) شرح الكوكب المنير 4 / 82، الفائق 4 / 313، البحر المحيط 5 / 152، نهاية الوصول 8 / 3553، جمع الجوامع بحاشية العطار 2 / 291، وقد وجد اضطراب في نسبة الأقوال لأصحابها، ولم أرغب تحرير النسبة لخروجها من خدمة عنوان البحث.
(4) نهاية الوصول 8 / 3553.
(5) البحر المحيط 5 / 152.(1/11)
والذي يظهر لي ترجح القول الثاني لوجاهة تعليلهم ، وأما قياسه على تخصيص حكم آخر بالعلة فهذا قياس لا يصح لوجود الفرق بينهما من وجهين:
أولهما: أن التخصيص بالعلة لحكم آخر إنما ثبت بعد التسليم بصلاحية هذا الوصف للتعليل ، وفي مسألتنا وقع النزاع في صلاحية الوصف للتعليل .
ثانيهما: أن العلة في الأصل المقيس عليه إنما خصصت حكما آخر غير الدليل الذي استنبط منه كون الوصف علة ، وفي مسألتنا خصص نفس الدليل المستنبط منه التعليل . كما قد يجاب بمنع حكم الأصل .
المبحث الثاني: مفاد صيغة الأمر :
من صيغ الأمر: الفعل المضارع المسبوق بلام الأمر(1)، كما هو معروف عند الأصوليين . والإمام ابن ماجه أورد فعلا مضارعا مسبوقا بلام الأمر وجعله على الاستحباب فما منهجه في ذلك؟
قال ابن ماجه : (باب من يستحب أن يلي الإمام)(2) فذكر الحكم بالاستحباب ، واستدل عليه بحديث: « ليلني منكم أولو الأحلام والنهى »، وهذا قد يؤخذ منه حكمان:
أولهما: أن المستحب عنده مأمور به حقيقة ، وهذا هو رأي جمهور الأصوليين(3).
ثانيهما: أن الأمر عنده يفيد الاستحباب عند تجرده ، وهذا يخالف رأي الجماهير الذين يرونه مفيدا للوجوب(4)، وإن كان استنباط هذا الرأي لابن ماجه فيه ما فيه؛ لأنه يحتمل أن ابن ماجه صرف هذا الأمر بخصوصه عن الوجوب لقرينة ، فهو يرى أن الأمر المجرد يفيد الوجوب ، لكن هذا الأمر صرف لقرينة خاصة .
المبحث الثالث: مفاد صيغة النهي :
__________
(1) البحر المحيط 2 /356، تفسير النصوص 2 / 234، الأمر والنهي لرمضان ص 12.
(2) سنن ابن ماجه ص 312، كتاب إقامة الصلاة باب رقم 45.
(3) انظر: العدة 1 / 248، التمهيد 1 / 174، روضة الناضر 1 / 190، أصول السرخسي 1 / 14، إحكام الفصول 78، البرهان 1 / 249.
(4) روضة الناظر 2 /604، قواطع الأدلة 2 / 476، الإبهاج 2 / 42، أصول السرخسي 1 / 132، ميزان الأصول 96.(1/12)
أورد ابن ماجه صيغة النهي وبوب لها بالكراهة في عدد من المواطن في سننه ، فاستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: « لا يبولن أحدكم في مستحمه ». كراهة البول في المغتسل(1)، ومن قوله: « إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه » : كراهة مس الذكر باليمين والاستنجاء باليمين ، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: « إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه » استفاد كراهة النخامة في المسجد(2).
فقد يظن بأن ابن ماجه يرى أن النهي لا يفيد إلا الكراهة ، ولا أرى ذلك صحيحا ، بل ابن ماجه يوافق الجمهور في أن النهي يفيد التحريم . بدليل ما يأتي :
أولا: أن ابن ماجه يعبر بلفظ الكراهة وهو يريد التحريم كما سبق بيانه ، والكراهة قد تطلق ويراد بها التحريم .
ثانيا: أن ابن ماجه عبر بلفظ النهي فيما ورد تأثيم فاعله مما يدل على أنه يرى أن النهي للتحريم ، لأن الإثم إنما يلحق فاعل الحرام فهو يقول: (باب النهي أن يستلج الرجل في يمينه ولا يكفر)(3)، ويستدل عليه بحديث :
« إذا استلج أحدكم في اليمين فإنه آثم له عند الله من الكفارة التي أمر بها ».
فعبر بالنهي فيما فيه إثم مما يدل على أنه يرى أن النهي مفيد للتحريم .
المبحث الرابع: دلالة صيغة " لا تفعل " على النهي :
__________
(1) انظر: سنن ابن ماجه ص 111 كتاب الطهارة باب رقم 12.
(2) سنن ابن ماجه ص 251 كتاب المساجد باب رقم 10.
(3) سنن ابن ماجه ص 683 كتاب الكفارات باب رقم 11.(1/13)
أورد ابن ماجه هذه الصيغة " لا تفعل " في مواطن من سننه وبوب عليها بأنها للنهي ، فأخذ (النهي عن البول في الماء الراكد "(1) من حديث: « لا يبولن أحدكم في الماء الراكد »، واستفاد (النهي أن يرى عورة أخيه)(2) من حديث: « لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل »، وفهم (النهي عن تقدم رمضان بصوم)(3) من حديث: « لا تقدموا صيام رمضان بيوم ولا يومين » واستنبط: (النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت)(4) من حديث:« إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت».
والقول بأن صيغة (لا تفعل) دالة على النهي هو مذهب الجماهير(5).
المبحث الخامس: استفادة النهي من ترتيب العقوبة على الفعل :
قرر الإمام ابن ماجه أن بعض الأفعال منهي عنه واستدل على ذلك بأحاديث ترتب العقوبة على تلك الأفعال وذلك في مواطن عديدة .
فمثلا قرر ابن ماجه (النهي عن تخطي الناس يوم الجمعة)(6) أخذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: « من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم ».
وقرر (النهي عن المشي على القبور والجلوس عليها)(7).
أخذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: « لأن يجلس أحدكم على جمرة تحرقه خير له من أن يجلس على قبر ».
بينما قرر ابن ماجه كراهية بعض الأفعال؛ لأن الشرع قد رتب العقوبة عليها ، وهذا يؤكد ما قرر قريبا من أنه يرى أن لفظ الكراهة يراد به ما اصطلح عليه أخيرا بالتحريم .
__________
(1) سنن ابن ماجه ص 124 كتاب الطهارة باب رقم 25.
(2) سنن ابن ماجه ص217 كتاب الطهارة باب رقم 137.
(3) سنن ابن ماجه ص528 كتاب الصيام رقم 5.
(4) سنن ابن ماجه ص684 كتاب الكفارات باب رقم 13.
(5) العدة 2 / 425، تيسير التحرير 1 / 375، شرح الكوكب 3 / 77، اللمع 14.
(6) سنن ابن ماجه ص 354 كتاب إقامة الصلاة، باب رقم 88.
(7) سنن ابن ماجه ص 499 كتاب الجنائز باب رقم 45.(1/14)
ومن المواطن التي قرر فيها ابن ماجه الكراهة لفعل؛ بناء على ترتيب العقوبة على ذلك الفصل قوله: (باب كراهية الخلع للمرأة)(1)؛ استدلالا بحديث: « إيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة».
وتقريره (كراهية الأيمان في الشراء والبيع)(2) لما ورد من حديث: « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» وذكر منهم:«المنفق سلعته بالحلف الكاذب».
ومن أمثلة ذلك قوله: (باب كراهية لبس الحرير)(3)، واستدل على ذلك بحديث: « من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ».
والأصوليون يذكرون أن الفعل يوصف بالتحريم بناء على ورود خطاب الشارع بترتيب العقوبة على ذلك الفعل(4).
المبحث السادس: استفادة النهي عن فعل بوصف ظرف بنقيضه :
إذا ورد في الشرع بأن الزمان متصف بوصف يناقض فعلا ما؛ فهل يعتبر ذلك دليلا على أن هذا الفعل منهي عن إيقاعه في ذلك الزمان؛ لأن الزمان متصف بنقيض ذلك الفعل؟
ظاهر تصرف ابن ماجه أنه نهي عنه وذلك أنه قرر (النهي عن صيام أيام التشريق)(5)؛ استدلالا بوصف النبي صلى الله عليه وسلم أيام التشريق بأنها أيام أكل وشرب .
ولم أجد لذلك شاهدا في السنن إلا هذا الموطن ، إلا أن استفادة النهي من ذلك متقررة عند العلماء مما يجعل المرء يغلب موافقة ابن ماجه لهم في ذلك .
« الخاتمة » :
__________
(1) سنن ابن ماجه ص 662 كتاب الطلاق باب رقم 21.
(2) سنن ابن ماجه ص744 كتاب التجارات باب رقم 30.
(3) سنن ابن ماجه ص 1187 كتاب اللباس باب رقم 16.
(4) الحكم التكليفي للبيانوني 198، أصول الفقه الإسلامي للطنطاوي ص 73.
(5) سنن ابن ماجه ص 548 كتاب الصيام باب رقم 35.(1/15)
الحمد لله ، وبعد: فمن خلال هذه الدراسة يظهر لنا عمق الجوانب الأصولية لدى الإمام ابن ماجه رحمه الله ، وقد اقتصرت هنا على تراجم الإمام ابن ماجه التي وجد الحكم فيها صريحا من غير نسبة لقائل ، سواء كانت متعلقة بالقواعد الأصولية مباشرة أو فيها حكم فقهي مبني على دليل شرعي ، فيتم إبراز القاعدة التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل .
هذه خلاصة البحث ، أما عن نتائجه ، فقد تم استعراضها في ذات البحث لكن من أهمها ما يأتي:
1 - هذه الدراسة تبين لنا أنواع تراجم الإمام ابن ماجه بالنسبة لعلاقتها بالأحكام الشرعية والقواعد الأصولية .
2 - أن القواعد الأصولية كانت محل عناية العلماء في أوائل مراحل التدوين ، مما يدل على أنها كانت تحت أنظار العلماء السابقين للتدوين في زمن الصحابة والتابعين ، بل هي موجودة في زمن التشريع؛ لأن كثيرا من القواعد مبنية على أدلة شرعية .
3 - أطلق الإمام ابن ماجه لفظ (الكراهة) وأراد به التحريم حسب الاصطلاح الأصولي .
4 - أطلق الإمام ابن ماجه لفظ (الرخصة) مريدا به استثناء بعض الصور من التحريم مع وجود علة التحريم فيها لدليل خاص كما هو منهج الأصوليين ، وأطلق أيضا لفظ الرخصة على أدلة الإباحة في المسائل التي تعارضت فيها الأدلة منعا وإباحة ، وأطلق أيضا لفظ (الرخصة) على الوضوء من سؤر الهرة ، فهذا يحتمل أنه يريد به نفس الإطلاق الأول؛ لمماثلة سؤرها لسؤر الكلب ، ويحتمل أن يريد به إطلاق لفظ الرخصة على ما فيه توسعة ، والأصوليون لا يطلقون على ذلك رخصة إلا من باب التجوز .
5 - قد يفهم من كلام الإمام ابن ماجه عدم القول بحجية القياس ، وبتمحيص النظر ظهر لي أنه يرى حجيته ، والعبارات عنه في ذم القياس إنما هي في ذم المتكلف منه مما هو مقابل للنص .
6 - ظاهر عبارة ابن ماجه تدل على أنه يرى جواز تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة وهو قول لبعض الأصوليين ، لكن الباحث رجح خلاف هذا القول .(1/16)
7 - يرى ابن ماجه أن المندوب مأمور به حقيقة كما هو رأي الجمهور .
8 - قد يفهم من كلام ابن ماجه أن النهي إنما يفيد الكراهة ، لكن حقيقة مذهبه أنه يرى أن النهي مفيد للتحريم بحسب الاصطلاح الأصولي .
9 - يرى ابن ماجه أن صيغة ( لا تفعل) دالة على النهي إذا تجردت عن القرائن كما هو رأي الجمهور .
10 - يرى ابن ماجه أن الفعل يعتبر محرما منهيا عنه إذا رتب الشارع العقوبة على فعله .
وهذه النتائج تظهر بعض منزلة الإمام ابن ماجه العلمية في القواعد الأصولية . وهذا يدعوني إلى أن أوصي بالاهتمام بكتب الأحاديث النبوية وخصوصا الكتب المسندة التي اهتم أصحابها بكتابة عناوين لأبوابها؛ لأن ذلك يفيدنا في معرفة المراحل الأولى لتدوين القواعد الأصولية ، ويفيدنا في تعرف التطور التاريخي لهذا العلم سواء في مصطلحاته أو في الآراء فيه ، كما يفيدنا في إظهار أدلة أخرى للقواعد الأصولية لم يذكرها الأصوليون ، ويفيدنا في تعرف بعض التطبيقات للقواعد الأصولية .
ولا يعني ذلك إغفال غيرها من الكتب كالشروح أو الكتب المؤلفة في ترتيب المدونات الحديثية ، فإن لها مشاركة قوية في ذلك .
هذا وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية للرجوع إلى المصادر الأصلية في مسائلنا العلمية . وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم (1).
__________
(1) « مجلة البحوث الإسلاميّة »، العداد : 63 ، ص 211 .(1/17)