بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة القاهرة
كلية دار العلوم
قسم الفلسفة الإسلامية
" موقف الإمام أبي حامد الغزالي من الفلاسفة "
إشراف
الأستاذ الدكتور / السيد رزق الحجر
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم
إعداد الطالب
موسى بن محمد بن هجاد الزهراني
للسنة التمهيدية للماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم
2003-2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) [آل عمران:102].
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) [النساء:1].
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) [الأحزاب:70-71].(1/1)
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ .(1)وبعد : فهذا عرض لموضوع ( موقف الإمام الغزالي من الفلاسفة ) ، مقدم لأستاذنا الفاضل ، الأستاذ الدكتور / السيد رزق الحجر ، أستاذ الفلسفة الإسلامية ، بكلية دار العلوم ، حفظه الله ورعاه . وقد قسمته:
إلى مقدمة ، وتمهيد ، وستة فصول ، وخاتمة :
التمهيد ويتضمن :
? المبحث الأول : في ترجمة الإمام أبي حامد الغزالي .
? المبحث الثاني : تجربة الغزالي حتى وصوله لليقين .
? الفصل الأول : عرض موقف الغزالي من الفلاسفة .
? الفصل الثاني : أبدية العالم .
? الفصل الثالث : صدور العالم عن المبدأ الأول .
? الفصل الرابع : الصفات الإلهية .
? الفصل الخامس : علم الله بالجزئيات المتغيرة .
? الفصل السادس : الطبيعيات وفيه مبحثان :
1- السببية .
2- المعاد .
? الخاتمة وأهم النتائج .
? المصادر والمراجع .
? الفهارس .
أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرض هذه القضية ، ومناقشتها علمياً بما يفيد ، وأن يجزي عني أستاذي الأستاذ الدكتور / السيد رزق الحجر ، خير الجزاء ، وأن يوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
تمهيد
المبحث الأول :
ترجمة الإمام أبي حامد الغزالي
__________
(1) - ـ هذه خطبه الحاجة كانت سبباً في إسلام الصحابي الجليل ضماد الأزدي ، رواها الترمذي وحسنه ( 1105)، والنسائي (6/89)، وابن ماجه ( 1892)، انظر تخريجها مبسوطاً في كتاب ( خطبة الحاجة ) للشيخ : محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله - .(1/2)
ولد أبو حامد الغزالي محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -وقيل الغزّالي بتشديد الزاي نسبة لعمل أبيه غزالاً للصوف على طريقة أهل بلده - بقرية "غزالة" القريبة من طوس من إقليم خراسان عام (450هـ = 1058م)، وإليها نسب الغزالي. ونشأ الغزالي في بيت فقير لأب صوفي لا يملك غير حرفته، ولكن كانت لديه رغبة شديدة في تعليم ولديه محمد وأحمد، وحينما حضرته الوفاة عهد إلى صديق له متصوف برعاية ولديه، وأعطاه ما لديه من مال يسير، وأوصاه بتعليمهما وتأديبهما.
اجتهد الرجل في تنفيذ وصية الأب على خير وجه حتى نفد ما تركه لهما أبوهما من المال، وتعذر عليه القيام برعايتهما والإنفاق عليهما، فألحقهما بإحدى المدارس التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، والتي كانت تكفل طلاب العلم فيها.
ودرس الغزالي في صباه على عدد من العلماء والأعلام، أخذ الفقه على الإمام أحمد الرازكاني في طوس، ثم سافر إلى جرحان فأخذ عن الإمام أبي نصر الإسماعيلي، وعاد بعد ذلك إلى طوس حيث بقي بها ثلاث سنين، ثم انتقل إلى نيسابور والتحق بالمدرسة النظامية، حيث تلقى فيها علم أصول الفقه وعلم الكلام على أبي المعالي الجويني إمام الحرمين ولازمه فترة ينهل من علمه ويأخذ عنه حتى برع في الفقه وأصوله، وأصول الدين والمنطق والفلسفة وصار على علم واسع بالخلاف والجدل.
وكان الجويني لا يخفي إعجابه به، بل كان دائم الثناء عليه والمفاخرة به حتى إنه وصفه بأنه "بحر مغرق".
استقر المقام بالغزالي في نيسابور فترة طويلة حيث تزوج وأنجب، وظل بها حتى توفي شيخه الإمام الجويني في عام (478هـ = 1085م) فغادرها وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره.
خرج الغزالي إلى "المعسكر" فقصد الوزير السلجوقي "نظام الملك" الذي كان معروفا بتقديره العلم ورعايته العلماء.(1/3)
واستطاع الغزالي أن يحقق شهرة واسعة بعد أن ناظر عددا من الأئمة والعلماء وأفحم الخصوم والمنافسين حتى اعترفوا له بالعلم والفضل، فارتفع بذلك ذكره وذاع صيته، وطار اسمه في الآفاق.
واختاره نظام الملك للتدريس بالمدرسة النظامية في بغداد فقصدها في سنة (484هـ = 1091م) وكان قد بلغ الرابعة والثلاثين من عمره، وقد استُقبل فيها استقبالا حافلا، وكانت له مهابة وجلال في نفوس العامة والخاصة، حتى غلبت حشمته الأمراء والملوك والوزراء.
وصرف الغزالي همته إلى عقد المناظرات، ووجّه جهده إلى محاولة التماس الحقيقة التي اختلفت حولها الفرق الأربعة التي سيطرت على الحياة الفكرية في عصره وهي: "الفلاسفة" الذين يدّعون أنهم أهل النظر والمنطق والبرهان، و"المتكلمون" الذين يرون أنهم أهل الرأي والنظر، و"الباطنية" الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالأخذ عن الإمام المعصوم، و"الصوفية" الذين يقولون بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
توفي الإمام الغزالي :
في (14 من جمادى الآخرة 505هـ = 19 من ديسمبر 1111م) عن عمر بلغ خمسا وخمسين عاما، وترك تراثا صوفيا وفقهيا وفلسفيا كبيرا، بلغ 457 مصنفا ما بين كتاب ورسالة، كثير منها لا يزال مخطوطا، ومعظمها مفقود(1).
المبحث الثاني :-
تجربة الغزالي حتى وصوله لليقين .
__________
(1) - مصادر الترجمة : إحياء علوم الدين 1/ 3-17 تهافت الفلاسفة / مقدمة د: سليمان دنيا 49 .(1/4)
يروي لنا الغزالي في المنقذ من الضلال تجربته من الشك إلى اليقين " فهو منذ ريعان عمره وحتى قبل بلوغ العشرين وحتى الخمسين يقتحم لجة كل العلوم النظرية والعملية بحثاً عن اليقين هذا الذي طال جميع أصناف الطالبين في أيامه ، الباطنية ، والفلسفة ، وعلم الكلام ، والصوفية وحتى الزنادقة لم يغربوا عن باله ، وكان في ذلك متعطشاً لدرك حقائق الأمور " غريزةً وفطرةً وضعن في جبلته لا باختياره ولا جبلته " فانحلت عنه أولاً رابطة التقليد ، وانكسرت عليه العقائد المورثة ، وتحرك باطنه إلى طلب الفطرة الأصلية ، وحقيقة العقائد العارضة لتقليد الوالدين والأستاذين ؛ ومن هنا فإن تركيز الغزالي على أن باطنه قد تحرك يعني انه حدد معياراً نفسياً ، وداخلياً لطلب الحق ، حيث تسكن النفس إلى ما تعتقد " وينكشف لها العلوم انكشافاً لا يبقى مع ريب ولا يقارنه ، إمكان الغلط ، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك(1)" .
__________
(1) - المنقذ من الضلال 21 مقدمة .(1/5)
بدأ الغزالي رحمه الله بحثه عن اليقين :- " أولاً بتفحص المحسوسات ، فلم يأمن لها ، ومن أين ذلك " وأقواها حاسة البصر ، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ... ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك ... " ثم انتقل إلى الضروريات العقلية وتفحصها وخلص إلى أن لا أمان معها ، " فبم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد واثقاً بي ، فجاء حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ، فلعلَّ وراء إدراك العقل حاكماً آخر ، إذا تجلَّى كذّب العقل في حكمه ، كما تجلَّى حاكم العقل فكذّب الحس في حكمه ". وتوقفت النفس هنا وأخذت تؤيد أقوالها هذه بحالة المنام ، فأنت ترى في المنام ما تظنه صحيحاً ، ثم بعد أن تستيقظ تعلم أن لا أصل لجميع متخيلاتك ومناماتك . وقد يكون الأمر كذلك في أحلام اليقظة ، " وقد تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها ... ولعلّ تلك الحالة ما يدّعيها الصوفية أنها حالتهم ". أو كقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " الناس نيامٌ إذا ماتوا انتبهوا "(1)فلعل حياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة . فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن ، ويقال له عند ذلك : (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(2) .
وهكذا بلغت الشكوك قمتها ، ودام الأمر كذلك مدة شهرين حتى أُعضِلَ هذا الداء ولم يتيسر علاجه بنصب الأدلة . حتى شفى الله من هذا المرض ، بنور قذفه في الصدر ، أعاد الضروريات العقلية مقبولة ، موثوقاً بها على أمن ويقين .
وهكذا تحدد معيار اليقين عند الغزالي بنور إلهي ، هو مفتاح أكثر المعارف عقلية كانت أم روحية أم تجريبية . إنها معيارية نفسية دلالتها سكون النفس وانكشاف الغطاء وتثبيت العقل .
__________
(1) - قال في إحدى النسخ : ليس بحديث ولكن من كلام على بن أبى طالب رضي الله عنه .
(2) - سورة : ق 22.(1/6)
ويبدأ بتصنيف الطالبين :-
بعد خروجه من حال الشك ، وانطلاقاً مما حصله من معيار لليقين ، انحصرت عند الغزالي أصناف الطالبين في أربع فرق :
أ – علم الكلام :
بدأ الغزالي بدراسة علم الكلام ، وصنَّف فيه مؤلفات ، ووجده في نهاية الأمر " علماً وافياً بمقصوده هو غير وافٍ بمقصودي أنا ". لقد ألقى الله إلى عباده على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - عقيدة هي الحق ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار . ثم لهج بعض المبتدعة أموراً مخالفة للسنّة وكادوا يشوشون العقيدة على أهلها ، فندب الله لهم طائفة من المتكلمين للذب عن العقيدة بكلام مرتب .
ب – الفلسفة :
وبعد الفراغ من علم الكلام ، ابتدأ الغزالي بعلم الفلسفة وحصَّل فيه أقوالهم وبراهينهم ، حتى فاقهم في فهم ما قالوه ، " فلا يقف على فساد علم من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوي أعلمهم في ذلك العلم ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة . وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساد حقاً ".
وكان اطلاع الغزالي على علوم الفلسفة ، أثناء تدريسه في بغداد ، وقد أتى على منتهى علومهم في أقل من سنتين ، ثم واظب على التفكر فيها قريباً من سنة ، حتى انكشف له ما فيها من خداع وتلبيس .
وهو يصنف الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام :
- الصنف الأول : الدهريون ، وهم الذين جحدوا الصانع ، وهؤلاء هم الزنادقة .
- الصنف الثاني : الطبيعيون ، وهم اعترفوا نتيجة كثرة اشتغالهم بعلم التشريح ، بوجود فاطر حكيم مطلع على غايات الأمور وأبعادها .(1/7)
- الصنف الثالث : الإلهيون، المتأخرون من الفلاسفة ، أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو . هؤلاء ردّوا على الصنفين الأولين ، وإذا تتبعنا الغزالي في حكمه على الفلاسفة ، نرى أن المعيار الذي استعمله هو معيار الإيمان ، وحكم من خلاله عليهم . فالدهريون والطبيعيون زنادقة لمخالفتهم أصول الإيمان . أمَّا الإلهيون وأبرزهم أرسطو ، فإن الغزالي يُبدي اهتماماً واضحاً بهم . وهو اعترف بفضل أرسطو في ترتيب المنطق ، وتهذيب العلوم ، وتحرير ما لم يكن محَّرراً من قبل . وهو ينظر إلى أرسطو ، بأنه استبقى من رذائل الذين أتوا قبله " بقايا " لم يوفق " للنزع عنها ". وفي هذا الحكم تخفيفي على هذا الفيلسوف الذي يجب تكفيره في مسائل وتبديعه في مسائل أخرى .
ج – مذهب التعليم :
وبعد الفراغ من الفلسفة وأدلتها ، وجد الغزالي أن علمها غير وافٍ بما هو مطلوب ( اليقين ) وأن العقل ليس كاشفاً للغطاء ، وليس محيطاً بكل المُعضِلات . وكان قد سمع بمذهب التعليمية ، وأنهم يقولون أن اليقين يؤخذ من الإمام المعصوم ، فأراد الاطلاع على ما في كنانتهم . ثم جاءه أمر من الخليفة بالرد عليهم ، وكشْف حقيقة مذهبهم فألَّف في ذلك كتابه المعروف " المستظهري " الذي لامه بعضهم عليه ، لأنه قرّر فيه حججهم ورتبها ثم رد عليها ، وفي ذلك نشرٌ لمعتقدهم من حيث لا ندري . فلربما قرأ البعض ترتيب حججهم فاقتنع بها ، دون أن يقرأ الردود عليها . يجيب الغزالي على ذلك ، بأن شبهة الباطنية كانت قد انتشرت بين الناس ، وتعاظم أمرهم فكان لا بد من الرد عليهم ، وذلك لا يكون إلاً بفهم مذهبهم أولاً ، حتى نفوقهم في ذلك ، ومن ثم نبين تهافت أقوالهم .
د : الصوفية:(1/8)
بعد الفراغ من العلوم السابقة ، اقبل الغزالي على طريق الصوفية ، فوجد أن طريقتهم تتم بعلم وعمل . وكان العلم أيسر عليه ، فحصَّله من مطالعة كتب مشاهيرهم ، كالمكي ، والمحاسبي ، والجنيد ، والشبلي ، وأبي يزيد البسطامي . وظهر له كل ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى كنه مقاصدهم إلاَّ بالعمل ، أي بالذوق والمشاهدة وتبدل الصفات والأحوال . فالفرق كبير بين أن تكون سكراناً ، وبين أن تعرف حد السكر ،وبين أن تكون شبعاناً ، وبين أن تعرف حد الشبع . لقد علم يقيناً أنهم أرباب أحوال وليسوا بأصحاب أقوال ، والمسألة ليست بهذه السهولة ، فإن الدخول في طريقتهم يقتضي التخلي عن أمور كثيرة ، والتسلح بأمور لا يمكن دخول ذلك الدهليز بدونها . وكان قد حصل معه إيمان يقيني بالله وباليوم الآخر وبالنبوّة ، وظهر عنده أنه غير طامع بأمور الدنيا ، فما باله لا يُقرَّر ؟.(1/9)
يصف لنا الغزالي أحواله ، فيرى أنها غير نافعة في حق الله تعالى ، فهو منغمس في العلائق ، ويصف لنا أعماله وأحسنها التدريس والتعليم ، وهو فيها مقبلٌ على علوم غير مهمة ، ومحرَّكها وباعثها طلب الجاه وانتشار الصيت . فلم يزل يتفكر في كل ذلك وهو متردد بين رغبات الدنيا ودواعي الآخرة ، بين وساوس الشيطان ، ومنادي الإيمان ، وقد دام الأمر قريباً من ستة أشهر . وفي نهاية المطاف ، التجأ الغزالي إلى الله التجاء المضطر ، فأجابه المجيب إذا دعاه ، وسهَّل على قلبه الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب . وأظهر هو أمر الخروج إلى مكة وهو يدبر أمر السفر إلى الشام ، وذلك مخافة أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمه البقاء في الشام فيحاولون ثنيه . وخروج الغزالي من بغداد بعد أن تخلَّى عن كل شيء ، ثم دخل إلى الشام وأقام فيها قريباً من سنتين في عزلة وخلوة ، ورياضة ومجاهدة ، معتكفاً في مسجد دمشق ، حيث يدخل إلى منارة المسجد ويغلق بابها على نفسه . ثم رحل بعدها إلى القدس ، إلى المسجد الأقصى ، ومن ثمَّ تحركت فيه داعية الحج ، فسار إلى الحجاز .
رغم كل هذه العزلة ، بقيت هواجس الدنيا تُشغِل بال الغزالي ، وتشوَّش عليه خلوته . وقد دامٍ الأمر عشر سنين ، انكشف له من خلالها أمور لا تحصى . فقد علم يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السيَر ، وأن أخلاقهم أزكى الأخلاق ، " بل لو جُمِعَ عقل العقلاء وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً " إلا أن الكشف الحقيقي والأهم هو ما ظهر له ، من أن طريقة الصوفية لازمة من نور النبوّة .فجميع ما يقوم به المتصوفون من حركات وسكنات، في ظاهرها وباطنها ، " مقتبسة من نور مشكاة النبوة ، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نورٌ يُستضاء به " .
الفصل الأول(1/10)
عرض موقف الغزالي من الفلاسفة
في هذا الفصل نعرض لرأي الغزالي في الفلاسفة ، وفي الفلسفة ، وإلزاماته لهم واتي بنى عليها القول بتكفيرهم في مسائل ثلاث ، هي :
1- القول بقدم العالم .
2- القول بأن العذاب في النار على الأرواح دون الأبدان .
3- القول بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات .
ونستعرض من خلال هذا الفصل ما عقد الغزالي رحمة الله عليه من أهم الفصول التي ألزم فيها الفلاسفة ورد عليهم بها ، وسفه أقوالهم وحط من شأنهم واستأصلهم عليهم بمعاوله :
ولنبدأ في عرض مسائله :
المسألة الأولى : القول بقدم العالم :
ذكر الغزالي للفلاسفة وأربعة أدلة على قدم العالم واعتبرها من أهم أدلتهم التي لو ذُكرت لسودت أورقاً ، وقد حذف من هذه الأدلة " ما يجري مجرى التحكم أو التخيل "(1)واقتصر " على إيراد ماله وقع في النفس " .(2)
أدلة قدم العالم عند الفلاسفة :
الدليل الأول : استحالة صدور حادث من قديم .
الدليل الثاني : دليل الزمان .
الدليل الثالث : مادة الإمكان .
الدليل الرابع : الإمكان .
و هي كالتالي :
تخطيط هيكلي
الدليل الأول :
__________
(1) - مشكلة الصراع بين الفلسفة والدين 31 .
(2) - السابق والصفحة .(1/11)
قالت الفلاسفة باستحالة صدور حادث من قديم ؛ لأنه لو فرض القديم الذي هو الباري تعالى(1)ولم يصدر عنه العالم مثلاً ، لكان ذلك لعدم وجود مرجح يرجح وجوده ؛ لأن وجوده ممكن إمكاناً صرفاً ؛ فإن حدث العالم بعد ذلك حصل السؤال لماذا تجدد المرجح ؟ ومن الذي أحدثه ؟ ولم حدث الآن وليس من قبل ؟ هل لعجز القديم(2)عن إحداثه قبل حدوثه ؟ أم لتجدد غرضٍ ؟ أم لوجود آلة كانت مفقودة ؟ أم لأنه لم يكن مريداً لوجوده ثم حدثت الإرادة فافتقرت إلى إرادة أخرى ؟ . وهكذا يتسلسل إلى غير نهاية .
فصدور الحادث من القديم من غير تغير فيه محال ، وتقدير تغير حال القديم محال فثبت " قدم العالم لا محالة " .(3)
ويقدم الغزالي اعتراضين على هذا الدليل :
الاعتراض الأول :
أن حدوث العالم في الوقت الذي حدث فيه حصل بإرادة قديمة من شأنها تمييز الشيء عن مثله، وقدم العالم مرفوض ؛ لأن قدمه يؤدي إلى دورات لا متناهية للفلك ، مع أن لهذه الدورات سدساً وربعاً وثلثاً .(4)
الاعتراض الثاني :
__________
(1) - مع التنبه إلى أنه لم يرد عن السلف تسمية الله تعالى باسم القديم لعدم ورود النص ، فالأسماء والصفات توقيفية كما نعلم . قال في شرح العقيدة الطحاوية : وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم ، وليس هو من الأسماء الحسنى.... ، فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام . وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف . شرح العقيدة الطحاوية 21 . و انظر مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها . د / ناصر بن عبدالكريم العقل . ط1 دار الوطن بالرياض .
(2) - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
(3) - راجع تهافت الفلاسفة 90-91-92. ومشكلة الصراع بين الفلسفة والدين 33.
(4) - مشكلة الصراع 33 نقلاً عن الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي 90 .(1/12)
لابد من تجويز صدور حادث من قديم ؛ لأن في العالم حوداث لا يمكن إنكارها ، فإن استندت هذه الحوادث إلى حوادث إلى غير نهاية يُستغنى عن الصانع وهو محال فوجب استناد الحوادث إلى طرف ينتهي إلى تسلسلها وهو القديم . وقد رفض الغزالي صدور الحادث عن القديم بواسطة الحركة الدورية الثابتة المتجددة التي هي أول الحوادث .(1)
الدليل الثاني : الزمان .
فيرى الغزالي أن الفلاسفة يرون تقدم الله على العالم ويكون ذلك بإحد أمرين :
إما :
1- بالذات . أو 2- بالزمان .
زعموا أن القائل بأن العالم متأخر عن الله والله متقدم عليه ليس يخلو إما أن يريد به أنه متقدم بالذات لا بالزمان كتقدم الواحد على الاثنين فإنه بالطبع مع أنه يجوز أن يكون معه في الوجود الزماني وكتقدم العلة على المعلول مثل تقدم حركة الشخص على حركة الظل التابع له وحركة اليد مع حركة الخاتم وحركة اليد في الماء مع حركة الماء فإنها متساوية في الزمان وبعضها علة وبعضها معلول إذ يقال: تحرك الظل لحركة الشخص وتحرك الماء لحركة اليد في الماء ولا يقال تحرك الشخص لحركة الظل وتحرك اليد لحركة الماء وإن كانت متساوية. فإن أريد بتقدم الباري على العالم هذا لزم أن يكونا حادثين أو قديمين واستحال أن يكون أحدهما قديماً والآخر حادثاً. وإن أريد به أن الباري متقدم على العالم والزمان لا بالذات بل بالزمان فإذن قبل وجود العالم والزمان زمان كان العالم فيه معدوماً إذ كان العدم سابقاً على الوجود وكان الله سابقاً بمدة مديدة لها طرف من جهة الآخر ولا طرف لها من جهة الأول. فإذن قبل الزمان زمان لا نهاية له وهو متناقض ولأجله يستحيل القول بحدوث الزمان. وإذا وجب قدم الزمان وهو عبارة عن قدر الحركة وجب قدم الحركة ووجب قدم المتحرك الذي يدوم الزمان بدوام حركته(2).
وهذه صيغة أولى للفلاسفة في قدم الزمان ، ولهم فيه صيغة ثانية هي :
__________
(1) - السابق 33-34. ...
(2) - تهافت الفلاسفة 110 .(1/13)
لو فرض العالم حادثاً ، ألم يكن الله قادراً أن يخلقه قبل أن خلقه بقدر سنة أو أكثر ؟ وإذا لم يكن جائزاً إطلاق لفظ السنين قبل حدوث الفلك يقال : إذا قدّرنا أن العالم قد دار منذ وجوده إلى اليوم ألف دورة مثلاً ، أفلم يكن الله قادراً على خلق عالم قبله ينتهي إلينا بألف ومائة دورة ؟ وعالم ثالث ينتهي بألف ومائتي دورة ؟(1).
واعترض الغزالي على هاتين الصيغتين :-
" فعلى الأول اعترض بأن تقدير الزمان قبل العالم هو من عمل الوهم ؛ لأن الزمان مخلوق ؛ وعجز الوهم عن تقدير تناهيه كعجزه عن تقدير تناهي الأجسام ؛ فيتوهم أن وراء العالم ملأ أو خلاء واعترض على الصفة الثانية بأنها من عمل الوهم أيضاً ، وأقرب طريق لدفعه مقابلة الزمان بالمكان ؛ فكما أنه لا يمكن تقدير خلق الفلك الأعلى في سمكه أكبر مما خلق بذراع أو ذراعين أو ثلاثة ، كذلك لا يمكن تقدير إمكانات زمنية قبل هذا العالم(2).
الدليل الثالث :- الإمكان .
دليل الفلاسفة أنهم يرون أن العالم قبل وجوده ممكن ، أي ليس بممتنع ، وهذا الإمكان لا أول له ، حتى لا يوصف العالم قبل ذلك بامتناع الوجود فإمكانه إذن أزلي ، والموجود بهذا الإيمكان وجوده أزلي أيضاً لأن معنى كونه ممكناً وجوده أنه ليس محالاً وجوده ، ولو صح أن لإمكانه أولاً لكان قبل ذلك غير ممكن وجوده أي محالاً وجوده ولكان الله غير قادر عليه ، وبطلانه بديهي .
ويقرض عليه الغزالي بأن العالم ممكن بمعنى انه ممكن الحدوث أزلاً فلا وقت من الأوقات إلاَّ ويتصور إحداثه فيه ، واقتراض وجود لا ينتهي طرفه غير ممكن ؛ لأنه كتقدير العلم أكبر مما هو ، وتقدير خلق آخر فوقه ، وهو غير ممكن ذلك(3).
الدليل الرابع : دليل الإمكان .
__________
(1) - مشكلة الصراع 47 .
(2) - السابق .
(3) - التهافت 118 ومشكلة الصراع 54 .(1/14)
قالوا: كل حادث فالمادة التي فيه تسبقه إذ لا يستغني الحادث عن مادة فلا تكون المادة حادثة وإنما الحادث الصور والأعراض والكيفيات على المواد. ... ممكنة له وبيانه أن كل حادث فهو قبل حدوثه لا يخلوا إما أن يكون ممكن الوجود أو ممتنع الوجود أو واجب الوجود ومحال أن يكون ممتنعاً لأن الممتنع في ذاته لا يوجد قط ومحال أن يكون واجب الوجود لذاته فإن الواجب لذاته لا يعدم قط فدل أنه ممكن الوجود بذاته. فإذن إمكان الوجود حاصل له قبل وجوده وإمكان الوجود وصف إضافي لا قوام له بنفسه فلا بد له من محل يضاف إليه ولا محل
إلا المادة فيضاف إليها كما نقول: هذه المادة قابلة للحرارة والبرودة أو السواد والبياض أو الحركة والسكون .
هذا مذهب الفلاسفة ، والاعتراض عليه أن يقال :
الإمكان يرجع إلى قضاء العقل ، فهو قضية عقلية ، وحكم عقلي . فالممكن هو الذي إذا قدّر العقل وجوده لم يمتنع . كالسواد مثلاً ، الذي يقدَّر العقل إمكانه قبل وجوده . فان طرأ على جسم يضاف إليه قيل : هذا الجسم قبل حلول السواد فيه كان ممكناً أن يسودّ . فالإمكان هنا للجسم . ولكن ما حكم نفس السواد في ذاته ؟ هل هو ممكن ؟ ولا بد من القول بأنه ممكن ، وتعقّل ذلك لا يفتقر إلى وجود شيء يضاف إليه .
كذلك القول في نفوس الآدميين فهي حادثة عند الفلاسفة ، وهي قبل حدوثها ممكنة ، دون أن يكون لإمكانها ذات ولا مادة .
ثم إن الإمكان لو استدعى الامتناع شيئاً يقال إنه امتناعه . والممتنع لا وجود له لا في ذاته ولا في مادة .(1/15)
ولو أجيب بأن الامتناع كالإمكان ، يستدعي موضوعاً يضاف إليه ، وأن السواد في نفسه ممتنع لا ممكن ، و أن النفس قديمة ، وأنه لو سلم حدوثها فهي منطبعة في مادة ، تابعة للمزاج ، فتكون في مادة كما ذهب إليه جالينوس . يردّ هذا الجواب بأن الكليات بحسب اعتراف الفلاسفة موجودة في الأذهان لا في الأعيان كاللونية والحيوانية مثلاً . ثم إن العذر بالنفوس باطل أيضاً فليس لإمكانها قبل حدوثها شيء يضاف إليه ، لأن إضافتها إلى المادة بعيدة ، وإلاّ جازت إضافتها إلى الفاعل الذي هي غير منطبعة فيه ، كما تجوز إضافتها إلى المادة التي هي ليست منطبعة فيها بعد(1).
الفصل الثاني
أبدية العالم
الأزلية والأبدية قضيتان متلازمتان تقريباً ، إذا بحثت الأولى بحثت الثانية بشكل متماثل . فالأزلية أو القدم تعني الوجود اللامتناهي في الماضي ، والأبدية تعني الوجود اللامتناهي مستقبلاً .
وكل من تحدث في مسألة الأبدية جعلها فرعاً للمسألة الأولى ، أي الأزلية ؛ لأن الحجج والأدلة نفسها جارية فيها . قال الغزالي : " ليعلم أن هذه المسألة فرع الأولى ، فإن العالم عندهم ( أي الفلاسفة ) كما هو أزلي لا بداية لوجوده ، فهو أبدي لا نهاية لآخره ، ولا يتصور فناؤه ...".(2)
ومسألة أبدية العالم هي فرع لمسألة قدمه ، وأدلة الفلاسفة الأربعة التي ذكرت في الأزلية ، جارية في الأبدية :
أ العالم معلول ، وعلته أزلية أبدية فكان المعلول مع العلة. ويقولون: إذا لم تتغير العلة لم يتغير المعلول. وعليه بنوا منع الحدوث وهو بعينه جار في الانقطاع .
ب العالم إذا عدم فيكون عدمه بعد وجوده فيكون له بعد ففيه إثبات الزمان ؛ لأنه ملازم للحركة .
__________
(1) - مشكلة الصراع 58-59. وانظر التهافت 119-123.
(2) - مشكلة الصراع 69 .. وانظر الكلام مطولاً في التهافت 125.(1/16)
ت إن إمكان الوجود لا ينقطع. فكذلك الوجود الممكن يجوز أن يكون على وفق الإمكان(1).
ث إذا عدم العالم بقي إمكان وجوده إذ الممكن لا ينقلب مستحيلاً وهو وصف إضافي. فيفتقر كل حادث بزعمهم إلى مادة سابقة وكل منعدم فيفتقر إلى مادة ينعدم عنها. فالمواد والأصول لا تنعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض الحالة فيها .
والجواب عن هذه الأدلة ، ما أجيب به عليها في قدم العالم .
وللفلاسفة في أبدية العالم دليلان آخران :
الأول:
دليل جالينوس لا يظهر أن الشمس لا تقبل الانعدام ما تمسك به جالينوس إذ قال: لو كان الشمس مثلاً تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في مدة مديدة والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف سنين لا تدل إلا على هذا المقدار فلما لم تذبل في هذه الآماد الطويلة دل أنها لا تفسد .
والاعتراض عليه : لعلها تفسد بغير طريق الذبول كما في حال البغتة . فقد يفسد الشيء بغتة . والشمس التي يقال إنها كالأرض مائة وسبعين مرة أو ما يقرب منه لو نقص منها مقدار جبال مثلاً لكان لا يبين للحس فلعلها في الذبول وإلى الآن قد نقص مقدار جبال وأكثر .
الثاني :
العالم لا تنعدم جواهره لأنه لا يعقل سبب معدم له وما لم يكن منعدماً ثم انعدم فلا بد وأن يكون بسبب وذلك السبب لا يخلوا إما من أن يكون إرادة القديم وهو محال لأنه إذا لم يكن مريداً لعدمه ثم صار مريداً فقد تغير أو يؤدي إلى أن يكون القديم(الله ) وإرادته على نعت واحد في جميع الأحوال والمراد يتغير من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم(2).
__________
(1) - و هذا الدليل عند الغزالي لا يقوى " فإنا نحيل أن يكون أزلياً ولا نحيل أن يكون أبدياً لو أبقاه الله تعالى أبد إذاً ليس من ضرورة الحادث أن يكون له آخر ومن ضرورة الفعل أن يكون حادثاً وأن يكون له أول . انظر التهافت 125 .
(2) - التهافت بتصرف 125. وانظر مشكلة الصراع 69-17 بتصرف وحذف .(1/17)
واعترض الغزالي على ذلك كله بأن الإيجاد والإعدام بإرادة القادر ؛ فإذا أراد الله أوجد، وإذا أراد أعدم . وإذا وجب أن يصدر عن الله فعل فالصادر هو تجدد العدم ، والعدم واقع مضاف إلى القدرة ، فإذا وقع حادث بإرادة قديمة لم يفترق بين أن يكون الحادث عدماً أو وجوداً(1).
وهكذا نرى الغزالي مرة أخرى يدحض حجج وتعلقات الفلاسفة في مسألتي القدم والأبدية بإلزامات لا يملكون معها إلا أن يسلّموا لقوله ، وهذا يدل على عمقه وسبره أغوار القوم .
الفصل الثالث
صدور العالم عن المبدأ الأول
ويرى الغزالي أن الفلاسفة اتفقت على أن للعالم صانعاً وفاعلاً " لكن هذا القول هو تلبيس على أصلهم ؛ لأنه بحسب أصلهم لا يتصور أن يكون العالم من صنع الله وفعله، وذلك من ثلاثة أوجه :
أ الفاعل بالإرادة والعلم والاختيار :
الفاعل هو من يصدر عنه الفعل بإرادته وعلمه واختياره ، وعند الفلاسفة العالم لازم من الله لزوم المعلول من العلة ، كالظل من الشخص ، والنور من الشمس ، وهو لزوم ضروري . وليس هذا من الفعل في شيء ؛ إذ لا يجوز أن يسمى كل سبب بأي وجه كان فاعلاً ، ولا كل مسبب مفعولاً ، وإلاّ أصبحت الجمادات فاعلة ، ولا تسمى فاعلة إلا بالاستعارة .
وقسمة الفعل إلى فعل بالطبع وفعل بالإرادة باطل ؛ لأن الفعل يتضمن الإرادة ضرورة.
والفعل بالطبع يسمى فعلاً مجازاً ، وتسمية الفاعل فاعلاً عن طريق اللغة هو مجاز أيضاً؛لأن من ألقى انساناً في النار فمات ، كان هو القاتل دون النار .
والخلاصة أنه إذا لم يكن الله مريداً ولا مختاراً ، لم يكن صانعاً ولا فاعلاً إلاّ مجازاً ، ولا يكفي أن يكون سبباً لوجود العالم ليكون فاعلاً له ؛ لأن المعني بالفعل ما يصدر عن الإرادة حقيقة(2).
ب- إيجاد الموجود :
__________
(1) - الأخير 71 . التهافت من 124 – 133. بحذف يقتضيه المقام .
(2) - مشكلة الصراع 80 . وانظر التهافت 136.(1/18)
الفعل عبارة عن الإحداث ، أي إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، والعالم عند الفلاسفة قديم ، أي موجود أزلاً . والموجود لا يمكن إيجاده ، فكيف يكون العالم فعلاً لله ؟ .
وقول الفلاسفة بأن الإيجاد لا يكون إلا لموجود ، هو عبارة عن نسبة الفاعل الموجِد إلى المفعول الموجَد ، يجاب عليه أن الفعل يتعلق بالفاعل من حيث الحدوث ، أي الخروج من العدم إلى الوجود . فالوجود غير المسبوق بالعدم ، لا يصلح أن يكون فعل الفاعل . ويجوز كون العلة والمعلول حادثين أو قديمين ، لكن معلول العلة ليس فعلاً ، ولا يسمى فعلاً إلا بالمجاز والاستعارة ، فحركة الماء بالإصبع لا تجعل الإصبع فاعلاً ؛ لأن الفاعل ذو الإصبع ،وهو المريد . وإن كان الفلاسفة لا يعنون بكون العالم فعلاً إلا كونه معلولاً بالنسبة إلى الله ، فقد ظهر أن الله ليس فاعلاً عندهم تحقيقاً ، إنما يطلق عليه اسم الفاعل مجازاً .(1)
ج صدور الواحد عن الواحد :
قالت الفلاسفة : إن الواحد لا يصدر عنه إلا شيء واحد . ولما كان العالم مركباً من مختلفات ، فلا يتصور أن يكون فعلاً لله بموجب أصلهم .
وأسباب الكثرة كما يقول الفلاسفة ، هي إما اختلاف القوى الفاعلة ، أو اختلاف المواد ، أو اختلاف الآلات ، وكل هذه الأسباب محالة على الله تعالى ، فبقي أن تكون الكثرة صادرة منه بطريق توسط العقل المجرد الأول ، الذي يعرف نفسه ويعرف مبدأه ، فيلزم عن وجوده ثلاثة أمور :
1- عقل ثان .
2- ونفس الفلك الأقصى .
3- وجرمه .
وعن العقل الثاني صدر العقل الثالث ، وهكذا حتى العقل العاشر ، العقل الفعّال الذي يلزم عنه حشو فلك القمر ، وهي المادة القابلة للكون والفساد ، وكل عقل يصدر عنه عقل آخر من حيث أنه يعقل مبدأه ، ونفس من حيث أنه ممكن الوجود .
طريقة الصدور هذه في نظر الغزالي عبارة عن تحكمات وظلمات لو حكاها الإنسان عن منام رآه لاستدل بها على سوء مزاجه .
__________
(1) - السابق والصفحة .(1/19)
والاعتراض عليها من خمسة أوجه :
الأول : إن كان في ممكن الوجود كثرة ؛ لأن إمكانه غير موجود ، ففي واجب الوجود كثرة أيضاً ؛ لأن وجوبه غير وجود .
الثاني : المعلول الأول إن كان عقله نفسه وعقله غيره عين ذاته فلا كثرة فيه ، وإن كان غيره ففي الأول الذي يعقل نفسه ويعقل غيره كثرة . والقول بأن الأول لا يعقل إلاّ ذاته هو مذهب شنيع هجره ابن سينا وسائر المحققين .
الثالث : عقل المعلول الأول ذات نفسه هل هو عين ذاته أو غيره ؟ فإن كان عينه فهو محال ؛ لأن العلم غير المعلوم . وإن كان غيره فليكن كذلك في المبدأ الأول فيلزم منه كثرة .
الرابع : أن المعلول الأول لا يكفي فيه تثليث ، فإن جرم السماء الأول يلزم عند الفلاسفة من معنى واحد ، من ذات المبدأ . وفيه تركيب من وجوه : أحدها أن الفلك الأقصى انقسم إلى نقطتين هما القطبان ، فإن كانت جميع أجزاء الفلك الأقصى متشابهة ، فلِمَ لزم تعين نقطتين من بين سائر النقط لتكونا قطبين ؟ وإن كانت الأجزاء مختلفة فما مبدأ الاختلافات ، والجوم الأقصى لا يصدر إلا من معنى واحد بسيط .
الخامس : ما الفرق بين من يقول : إن كون المعلول الأول ممكن الوجود اقتضى وجود جرم الفلك الأقصى منه ، وإن عقله نفسه اقتضى وجود نفس الفلك منه ، وإن عقله المبدأ الأول اقتضى وجود عقل منه ، وبين قائل عرف وجود إنسان غائب ، وأنه ممكن الوجود ، وأنه يعقل نفسه وصانعه فقال : يلزم من كونه ممكن الوجود وجود فلك ! إلخ .... وهذا ما لايقنع به مجنون .
وينتهي الغزالي بعد هذه الاعتراضات على مبدأ الصدور ، إلى التنصل من إقرار مذهب بدل مذهب الفلاسفة . يقول :
" نحن لم نخض في هذا الكتاب خوض ممهد ، وإنما غرضُنا أن نشوش دعاويهم وقد حصل " .(1/20)
ثم يعتبر البحث في كيفية صدور الفعل من الله بالإرادة طمعاً في غير مطمع . فلامانع أن يقال : " المبدأ الأول عالم قادر مريد يفعل مايشاء ويحكم ما يريد ، يخلق المختلفات والمتجانسات كما يريد على مايري " .(1)
الفصل الرابع
الصفات الإلهية
أهم النقاط التي دار الصراع حولها بين الغزالي والفلاسفة في هذا الموضوع خمس :
1. الله واحد .
2. ليس له صفات زائدة على ذاته .
3. لا يشارك غيره في فصل أو جنس .
4. ماهيته عين وجوده .
5. أن ليس بجسم .
1- الوحدانية :
الله واحد ، وهو واجب الوجود . وللفلاسفة على وحدانيته دليلان :
الأول :
لو كانا اثنين ، لكان وجوب الوجود مقولاً على كل واحد منهما ، ووجوب أحدهما إن كان له ذات لا يكون معه الآخر واجباً ، وإن كان له لعلة فإنه يكون معلولاً .
والمقصود بواجب الوجود ما لا علة له ، فلا بد لواجب الوجود أن يكون واحداً .
والاعتراض على هذا الدليل أن التقسيم خطأ ؛ " لم يستحيل ثبوت موجودين لا علة لهما وليس أحدهما علة للآخر فقولكم: إن الذي لا علة له لا علة له لذاته أو لسبب تقسيم الخطأ لأن نفي العلة واستغناء الوجود عن العلة لا يطلب له علة. فأي معنى لقول القائل: إن ما لا علة له لا علة له لذاته أو لعلة إذ قولنا: لا علة له سلب محض والسلب المحض لا يكون له سبب. ولا يقال فيه: إنه لذاته أو لا لذاته "(2).
__________
(1) - مشكلة الصراع 80-82 . وانظر التهافت 134- 154.
(2) - مشكلة الصراع 102 . وانظر التهافت 160-171 . وتهافت التهافت لابن رشد 2/ 460-462.(1/21)
الثاني : إذا فرض واجبا الوجود لكانا متماثلين أو مختلفين(1). فإن كانا متماثلين فلا يعقل التعدد والاثنينية ، كالسوادين في مكان وزمان واحد ، فإنهما سواد واحد ، وإلاّ جاز في حق كل شخص أنه شخصان . وإن كانا مختلفين كانا مركبين ، ومحال أن يكون واجب الوجود مركباً .
والاعتراض : أن المتماثلين لا يتصور تغايرهما ، لكن هذا النوع من التركيب ليس محالاً في المبدأ الأول ؛ لأنه لا برهان عليه .
ثم إن الفلاسفة ينفون الكثرة عن الله من كل وجه " ومع هذا يقولون إن الله مبدأ وأول موجود... ومع هذا فإنهم يقولون للباري: إنه مبدأ وأول وموجود وجوهر وواحد وقديم وباق وعالم وعقل وعاقل ومعقول وفاعل وخالق ومريد وقادر وحي وعاشق ومعشوق لذيذ وملتذ وجواد وخير محض. وزعموا أن كل ذلك عبارة عن معنى واحد لا كثرة فيه وهذا من العجائب "(2). والعمدة في فهم مذهبهم رد هذه الأمور جميعاً إلى السلب والإضافة
فالباري أولٌ بالإضافة إلى الموجودات بعده . ومبدأٌ بالإشارة إلى وجود غيره منه ، وموجود بمعنى معلوم . وجوه ر بمعنى سلب الحلول في موضع عنه ، وقديم بمعنى سلب العدم أولاً ، وباق بمعنى سلب العدم آخراً ، وواجب الوجود بمعنى أن لا علة له ، وهو عقل بمعنى أنه بريء عن المادة ، وعاقل لذاته ، ومعقول من ذاته ، وخالق وفاعل وباريء بمعنى أن وجود غيره حاصل منه وتابع لوجوده ، كما يتبع النور الشمس ، والإسخان النار ، وهو غير كاره لما يفيض عنه ، وعالم بأن كماله في فيضان غيره منه ، فيكون علمه علة فيضان كل شيء ، وهو قادر بمعنى كونه فاعلاً المقدورات ، ومريد بمعنى راض ، فترجع الإرادة إلى القدرة ن والقدرة إلى العلم ، والعلم إلى الذات .
__________
(1) - قال الله تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) الأنبياء (22) .
(2) - التهافت 160- 171.(1/22)
وهو حيٌ بمعنى الفعّال الدّرّاك . وجواد إضافة إلى فعله وسلباً عن الغرض والحاجة ، وخير محض ، أي بريء عن النقص ، وعاشق ، ومعشوق ، ولذيذ ، وملتذ ، بمعنى إدراك كماله الحاصل له .(1)
هذه هي أصول الوحدانية كما أوردها الغزالي وهي الأساس في بحث باقي الصفات ؛ لأن الوحدة لا تتحقق إلاّ بنفي الكثرة ، أي بنفي الصفات الزائدة والانقسام والتركب والجسمانية .
2 – هل لله صفات زائدة على ذاته ؟
يمكن أن تنحصر الصفات كلها في ثلاث :
? العلم .
? القدرة .
? الإرادة .
ولقد اتفقت الفلاسفة والمعتزلة كما يقول الغزالي على استحالة إثبات العلم والقدرة والإرادة لله ؛ لأنها توجب الكثرة فيه ، فهي كلها ترجع إلى ذات واحدة ، وليست زائدة على الذات .
ولهم في ذلك مسلكان :
الأول : الصفة والموصوف ، إما أن يستغني كل واحد منهما عن الآخر ، فيكونا واجبي وجود ، وهو محال كما سبق وبيّن . أو يحتاج كل واحد للآخر فلا يكون الآخر واجب وجود . أو يحتاج أحدهما دون الآخر فيكون معلولاً له ، فيكون الآخر واجب وجود والمعلول يفتقر إلى سبب ، فترتبط ذات واجب الوجود بسبب .
الاعتراض :
أنه لا استحالة في قطع تسلسل العلل " بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما لا فاعل لذاته ، ولكنها تكون متقررة في ذاته "(2).
الثاني : العلم ، إن لم يكن داخلاً في ماهية الأول ، كان تابعاً للذات ، وكان الذات سبباً فيه ، فكان معلولاً ، فكيف واجب الوجود ؟ وبإثبات الذات والصفة ، وحلول الصفة في الذات ينشأ تركيب .
والتركيب يحتاج إلى مركب وهو الجسم . والأول ليس جسماً كما سيأتي بيانه .
__________
(1) - مشكلة الصراع 103 نقلاً عن مقاصد الفلاسفة للغزالي 240 . ولا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان . وانظر التهافت : 160-171.
(2) - مشكلة الصراع 104 نقلاً عن التهافت : 130 .(1/23)
والجواب أن " الأول موجود قديم لا علة له ولا موجِد ، فكذلك يقال هو موصوف قديم، ولا علة لذاته ولا لصفته ، ولا لقيام صفة بذاته ، بل الكل قديم بلا علة . وأما الجسم فإنما لم يجز أن يكون هو الأول ؛ لأنه حادث " .(1)
3-نفي التركيب عن الله :
قالت الفلاسفة : الأول لا حدّ له ؛ لأنه تركيب فيه . ومشاركة له في الوجود ليست مشاركة في الجنس ؛ لأن الوجود في الأشياء مضاف إلى ماهيتها لا يدخل فيها . والمشاركة في كون الأول علة لغيره كسائر العلل ، هي مشاركة في إضافة لازمة لا تدخل في الماهية . كذلك المشاركة في الجوهر ؛ لأن معنى الجوهر أنه موجود لا في موضوع . والمشاركة في مقومات الماهية مشاركة في الجنس المحوج إلى المباينة بالفصل، و ليس للأول ماهية سوى الوجود الواجب(2).
جواب الغزالي على ذلك :
أن استحالة التركيب بنيت على نفي الصفات ، وقد ورد الحديث عنه . أما انقسام الشيء إلى الجنس والفصل فليس كانقسامه إلى ذات وصفة ، فالصفة غير الذات و النوع والفصل ، ليس غير الجنس من كل جهة : " فمهما ذكرنا النوع فقد ذكرنا الجنس وزيادة. وإذا ذكرنا الإنسان فلم نذكر إلا الحيوان مع زيادة نطق " .
ثم إن كان الأول عند الفلاسفة عقلاً مجرداً ؛ فإن سائر العقول التي هي المباديء للوجود عقول مجردة . فهذه الحقيقة تشمل الأول ومعلوله الأول ، وهي حقيقة جنسية .(3)
4- ماهية الواجب نفس وجوده :
وجود الواجب عين ماهيته بحسب الفلاسفة ؛ لأنه لو كان ماهية لكان مضافاً إليها ، وتابعاً لها ولازماً ، والتابع معلول فيكون معلولاً وهو متناقض .
__________
(1) - مشكلة الصراع 105 . التهافت : 172- 183 .
(2) - السابق والإحالة .
(3) - مشكلة الصراع 105 . وانظر التهافت 184-189.(1/24)
جواب الغزالي : بأن للواجب حقيقة وماهية ، وتلك الحقيقة موجودة أي ليست معدومة. والماهية في الأشياء الحادثة لاتكون سبباً للوجود ، فكيف في القديم ؟ فالوجود بلا ماهية ولا حقيقة غير معقول(1).
5- الأول ليس بجسم :
قالت الفلاسفة : إن الأول ليس بجسم ؛ لأن الجسم لا يكون إلا مركباً منقسماً إلى أجزاء بالكمية ، وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية(2). وواجب الوجود لا يقبل القسمة بهذه الوجوه .
وجواب الغزالي على ذلك :
بأنه " إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجد له لم يبعد تقدير مركب لا مركب له وتقدير موجودات لا موجد لها إذ نفي العدد والتثنية بنيتموه على نفي التركيب ونفي التركيب على نفي الماهية سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه "(3).
فمن لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم أصلاً .(4)
الفصل الخامس
علم الله بالجزئيات المتغيرة
__________
(1) - ======== 106 . ======== 190- 195.
(2) - نقلاً عن مقاصد الفلاسفة : 210 .
(3) - تهافت الفلاسفة 193- 195 .
(4) - مشكلة الصراع 106.(1/25)
من الفلاسفة من قال : الله لا يعلم إلا نفسه(1). ومنهم من ذهب على أنه يعلم غيره كابن سينا الذي يزعم أن الله يعلم الأشياء علماً كلياً لا يدخل تحت الزمان ، ولا يختلف بالماضي والحاضر والمستقبل " ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي(2)" . وتغير حال المعلوم يوجب تغير الذات العالمة ، ككسوف الشمس مثلاً فإنه يُعلم قبل حصوله بأنه معدوم ، وحال حصوله بأنه كائن وبعد حصوله بأنه كان وليس كائناً الآن . وبما أن التغير محال على الله ، فهو بزعم الفلاسفة لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلاثة . وهو يعلم الكسوف وجميع صفاته وعوارضه ، علماً يتصف هو به في الأزل ، فلا يعزب عن علمه شيء ، لكن علمه بهذه الأحوال ، قبل الكسوف وحالة الكسوف وبعد الانجلاء ، على وتيرة واحدة لا يختلف ولا يوجب تغيراً في ذاته .
فجميع الحوادث منكشفة للباري ، انكشافاً واحداً متناسباً لا يؤثر فيه الزمان . وفيما يخص الأشياء المنقسمة بالمادة والمكان ، كأشخاص الناس والحيوانات فهو يعلمها بشكل كلي ، كأن يعلم الإنسان المطلق بعوارضه وخواصه وقواه . أما شخص زيد مثلاً فلا يعلم عوارضه ؛ لأنها داخلة في المحسوسات ، فلو أطاع زيد الله أو عصاه لم يكن الله عالماً بما يتجدد من أحواله بل يلزم من قول الفلاسفة أن يكون محمد قد تحدى بالنبوة ، والله لا يعلم في تلك الحالة أنه تحدى بها ؛ لأنه يعلم فقط أن من الناس من يتحدى بالنبوة ، وأن صفاته يجب أن تكون كذا ، أما النبي المعين بشخصه فلا يعرفه . " وهذه قاعدة اعتقدوها ، واستأصلوا بها الشرائع بالكلية "(3).
واعترض الغزالي على الفلاسفة من وجهين :
__________
(1) - والله تعالى يقول : " إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " فاطر 38 .
(2) - تهافت 198.
(3) - السابق 199.(1/26)
الأول : إذا كان غرضهم نفي التغير عن الله وهو متفق عليه ، فما المانع أن يعلم الله الكسوف بأحواله الثلاثة ، قبل وجوده وحال كونه وبعد انجلائه ، بعلم واحد في الأزل والأبد لا يتغير ؟ وأن تنزل منه هذه الاختلافات منزلة الإضافة المحضة ؟ كأن يكون الشخص على يمينك ، أو قدامك ، أو إلى شمالك ، وهذه إضافات تتعاقب عليك ، والمتغير هو ذلك الشخص دونك .
وليس من الضروري أن يحصل من العلم بالكون ، والانقضاء بعده ، تغيّر . فلو خلق الله لنا علماً بقدوم زيد غداً عند طلوع الشمس ، لكنا عند طلوع الشمس عالمين بمجرد العلم السابق بقدومه ، ونعلم بعده بنفس العلم أنه قدم . والعلم الواحد كاف للإحاطة بهذه الأحوال الثلاثة . وإذا جاز أن لا يوجب العلم بالأنواع والأجناس والعوارض الكلية تغيراً ، يجوز أن لا يوجب العلم بأحوال الشيء الواحد المنقسم بانقسام الزمان تغيراً ؛ لأن الاختلاف والتباعد بين الأجناس والأنواع المتباعدة أشد من الاختلاف الواقع بين أحوال الشيء المنقسم .
الثاني : إذا جوز الفلاسفة صدور حادث من قديم ، فما المانع أن تكون العلوم الحادثة من هذا القبيل ؟ وليكن حدوث الشيء سبباً لحدوث العلم به . وإن كان الله سبباً لحدوث الحوادث بوسائط ثم يكون حدوث الحوادث سبباً لعلمه بها ، فيكون هو السبب في تحصيل العلم لنفسه بالوسائط . وإن قالوا إن كمال الله في أن يكون مصدراً لجميع الأشياء ؛ فإن كماله أيضاً في أن يعلم جميع الأشياء(1).
الفصل السادس
الطبيعيات
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : السببية :
قال الغزالي في التهافت : " ضرورياً الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا " .(2)
وكل شيئين متغايرين ، لا يتضمن إثبات أحدهما إثبات الآخر ، ولا نفي أحدهما متضمن نفي الآخر .
__________
(1) - مشكلة الصراع : 131 . والتهافت : 198- 205 .
(2) - التهافت : 139 .(1/27)
وليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدمه عدمه ، مثل الري والشرب ، والشبع والأكل ، والاحتراق ولقاء النار ، والموت وجز الرقبة . بل يجوز عند الغزالي وقوع الملاقاة بين القطن والنار دون الاحتراق ، ويجوز انقلاب القطن رماداً محترقاً دون ملاقاة النار ، والفلاسفة ينكرون ذلك ويدّعون استحالته .
والنار ليست فاعلاً بالطبع ، لا يمكنه الكف عما هو طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له كما يقول الفلاسفة ، بل فاعل الاحتراق هو الله ، بواسطة الملائكة أو بغير واسطة . ولا دليل على أن النار فاعل ، سوى مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار ، لكن المشاهدة تدل على الحصول عنده لا على الحصول به . والأكمه الذي تنكشف الغشاوة عن عينه نهاراً فيرى الألوان ، يظن أن فاعل الإدارك عنده فتح البصر ، حتى إذا غابت الشمس علم أن سبب انطباع الألوان في بصره نور الشمس ، إذن من أين يأمن الخصم أن تكون علل الحوادث وأسبابها في مبادىء الوجود ، تفيض عنها عند حصول الملاقاة بينها ؟ .
وإن سلّم الفلاسفة أن الحوادث تفيض عن مبادئها ؛ فإن هذا الفيض باللزوم والطبع ، لا لا على سبيل التروي والاختيار ، كصدور الشعاع من الشمس ، فتفترق المحال في قبوله بحسب استعداداتها ، فالجسم الصقيل يقبله ويعكسه والهواء لا يمنع نفوذه ، وبعض الأشياء تلين به ،وبعضها يتصلّب ، والثوب يبيض والوجه يسود . فالمبدأ واحد والآثار مختلفة لاختلاف استعدادات القوابل ، وعلى هذا المعنى أنكر الفلاسفة وقوع إبراهيم في النار مع عدم الاحتراق ؛ لأن ذلك لا يمكن إلا بسلب الحرارة من النار ، وذلك يخرجه عن كونه ناراً ، أوبقلب ذات إبراهيم وبدنه حجراً حتى لا تؤثر فيه النار ، ولا هذا ممكن ولا ذاك .
وإذا أنكر لزوم المسببات عن أسبابها ، وأضيفت إلى إرادة مخترعها ، جاز انقلاب الكتاب غلاماً ، والرماد مسكاً ، والحجر ذهباً ؛ لأن هذا ممكن والله قادر على كل شيء ممكن .(1/28)
والجواب عن هذا : أن الله يفعل بالإرادة والاختيار ، ويمكنه أن يخلق الاحتراق عند ملاقاة القطنة النار ، أو لا يخلقه .
والممكنات التي لم تقع يخلق الله لنا علماً بأنه يفعلها . والعلم بحدوث الممكن جائز للنبي لا العامي : " فلا مانع إذن أن يكون الشيء ممكناً في مقدورات الله ، ويكون قد جرى في سابق علمه أنه لا يفعله ، مع إمكانه في بعض الأوقات ، ويخلق لنا العلم بأنه ليس يفعله في ذلك الوقت ، فليس في هذا الوقت ( أي كلام الفلاسفة ) إلا ... تشنيع محض " .
ويجوز كما قال الغزالي : أن يُلقى النبي في النار فلا يحترق ، وذلك إما بتغيير صفة النار فتقصر سخونتها على جسمها ، أو بتغيير صفة النبي بإحداث صفة في بدنه نخرجه عن كونه لحماً وعظماً ، وأن يطلي نفسه بالطلق(1)لا يتأثر بالنار ، والذي لم يشاهد ذلك ينكره ، ثم إذا كان التراب يتسحيل نباتاً ، والنبات عند الحيوان دماً ، والدم منياً ثم حيواناً ، وهذا بحكم العادة واقع في زمن متطاول ، ففي مقدور الله أن يدير المادة في هذه الأطوار في وقت قريب ، وتحصل باستعجال هذه القوى معجزة النبي .(2)
المبحث الثاني : المعاد :
قالت الفلاسفة :
إن النفس تبقى بعد الموت سرمدياً ، إما في لذة عظيمة إذا كانت كاملة زكية ، وإما في ألم عظيم إذا كانت ناقصة ملطخة . أو يتفاوت الناس في درجات الألم واللذة كما يتفاوتون في المراتب الدنيوية . والسعادة تنال بالكمال والتزكية ، والكمال يحصل بالعلم، و الزكاء بالعمل .
__________
(1) - ذرور معدني لطيف المجس . ( المنجد ) نقلاً عن مشكلة الصراع 144.
(2) - مشكلة الصراع 144 . التهافت 139- 215.(1/29)
والنفس الجاهلة المنشغلة بالبدن وشهواته في الحياة الدنيا ، تتألم في الآخرة بفوات اللذة النفسية ، وإن لم تحس بالألم في حياتها ؛ فلأن البدن يلهيها وينسيها ألمها ، كالخدر الذي لا تحس بالنار . فاللذات الجسدية حقيرة بالاضافة إلى اللذات الروحانية العقلية ، والدليل على ذلك أن الملائكة التي ليست لها اللذات الحسية هي أشرف حالاً من البهائم . كما أن الإنسان نفسه يؤثر اللذات العقلية على الحسية، فيهتم بالغلبة دون الأنكحة والأطعمة،
وبالحشمة دون قضاء الوطر ، وبلذة الثناء والإطراء دون خطر الموت .
وتزكية النفس تتم بالعمل والعبادة . فالنفس المواظبة على الشهوات تنال الأذى ، لعجزها عن الأتصال بالملائكة ، ولعجزها عن تحصيل اللذة الجسمانية المعتدلة بعد أن تستلب منها آلتها ، وهي البدن لذلك وجب الإعراض عن الدنيا ، والاكتفاء بتوسط الشرع في الأخلاق ، كالجواد الذي هو وسط بين البخل والتبذير ، والشجاعة التي هي وسط بين الجبن والتهوّر .
إذن ، السعيد من الناس من جمع فضيلتي العلم والعمل . والهالك من عُدِِِِِم هاتين الفضيلتين . ومن له فضيلة العلم دون العمل فهو العالم الفاسق الذي يتعذب مدة ثم لا يدوم لكمال نفسه بالعلم . ومن له فضيلة العمل دون العمل يسلم وينجو عن الألم ، لكنه لا يحظى بالسعادة الكاملة .
ومن مات بنظر الفلاسفة قامت قيامته .
والجواب بنظر الغزالي ، أن " أكثر هذه الأمور ليس على مخالفة الشرع . فإنا لا ننكر أن في الآخرة أنواعاً من اللذات أعظم من المحسوسات ، ولا ننكر بقاء النفس عند مفارقة البدن ، ولكنا عرفنا ذلك بالشرع ... وإنما أنكرنا عليهم من قبل دعواهم معرفة ذلك بمجرد العقل ". لكن الذي يخالف الشرع هو إنكار حشر الأجساد ، وإنكار اللذات وللآلام الجسمانية في الجنة والنار . فالجمع بين السعادتين ، الروحانية والجسمانية متحقق .والأمثال التي ضربت في ذلك لا تحتمل التأويل .(1/30)
وذهبت الفلاسفة إلى أنه لو قُدَّر بعث الأجساد ، لكان ذلك :
- إما بجمع مادة البدن التي تبقى تراباً ، وتركيبها وخلق الحياة فيها ابتداءً .
- وإما يردّ البدن الأول بجمع أجزائه،على أن النفس موجود يبقى بعد الموت .
- وإما بردِّ النفس إلى البدن ، أي بدن كان ؛ لأن الإنسان إنسان بالنفس .
وهذه الأقسام الثلاثة باطلة ، لأن استئناف الخلق بحسب القسم الأول هو إيجاد لمثل ما كان لا لعين ما كان . وجمع أجزاء البدن بحسب القسم الثاني يؤدي إلى معاد الأقطع ، ومجذوع الأنف وناقص الأعضاء ، وهذا مستقبح بحق أهل الجنة ، كما أن أجزاء البدن تندثر وتختلط بغيرها من الأبدان وتدخل في بعضها البعض . وبطلان القسم الثالث حاصل لأن الأبدان المتناهية لا تفي بالأنفس غير المتناهية ، ولأن توارد النفس على أكثر من بدن هو قول بالتناسخ ، والتناسخ باطل .
واعترض الغزالي على أوجه الاستحالة هذه :
باختيار القسم الثالث وإقراره ، شرعاً . فالنفس باقية بعد الموت ، وذلك " دلّ عليه الشرع في قوله :
( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )(1)
وردّ النفس ممكن إلى أي بدن كان ، سواء كان من مادة البدن الأول أو من مادة استؤنف خلقها . فالمهم هو النفس ، لا البدن الذي يتبدل من الصغر إلى الكبر ، بالهزال والسمن وغير ذلك . والتناسخ ينكره الشرع ، أما البعث فلا ينكره ، فان سمي البعث تناسخاً فلا مشاحة في الأسماء . والله قادر على تدبير الأمور .(2)
الخاتمة وأهم النتائج
بعد هذا التطواف السريع في عرض أهم القضايا التي قررها الفلاسفة وناقشها الغزالي مناقشة ملزمة تدل على رسوخ قدمه في هذا العلم ، نستطيع الخروج بالنتائج التالية :
__________
(1) - آل عمران 169 .
(2) - مشكلة الصراع 157-159 . تهافت الفلاسفة 274 – 282 .(1/31)
? أولاً : انقلاب الغزالي على الفلاسفة في كتابه ( تهافت الفلاسفة ) بعد أن كان واحداً منهم ، وسبر أغوار علومهم ، وبذَّ أقرانه منهم فيه ، ثم انقلب عليهم مفنداً شبههم ، راداً عليهم ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس الخبر كالمعاينة "(1). وإن " العوان لاتعلم الخِمر "(2).
? ثانياً : الغزالي رحمه الله يكفر الفلاسفة في ثلاث مسائل :
o قولهم بقدم العالم ، وقد بينا بطلان قولهم فيما سبق من كلام الغزالي ورده عليهم .
o قولهم : بوقوع العذاب على الأرواح دون الأبدان .
o قولهم : إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات .
? ثالثاً : استيفاء الغزالي لحجج الخصوم ودحضها بحججٍ عقلية ونقلية ، وهذا يدل على سعة معرفته بالقوم وإحاطته بمخازيهم ونقاط ضعفهم .
? رابعاً : لجوء الغزالي إلى التصوف ولاعتقاد فيه أنه هو الطريق المخلص و(المنقذ من الضلال)! ، كما أوضحنا في رحلته من الشك إلى اليقين .
? خامساً : لم أشأ أن أبين عقيدة أهل السنة والجماعة في طيات البحث عند كل مبحث لأن الهدف تبيين آراء الغزالي فقط في رده على الفلاسفة ؛ لكون ذلك سيتطلب تطويلاً في البحث ، والغرض الاختصار على لب الأمر وهو تبيين تهافت الفلاسفة عند الغزالي .
نسأل الله تعالى أن يغفر له ويرحمه ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا علماً . والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أهم المراجع والمصادر
1. القرءان الكريم .
2. صحيح الجامع الصغير وزيادته : للشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني ت(1420) هـ .
3. إحياء علوم الدين . للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي ت( 505) هـ
__________
(1) - ( صحيح) رواه أحمد والحاكم والطبراني عن ابن عباس وهو في صحيح الجامع برقم ( 5374) .
(2) - مثل مشهور : أي أن المرأة التي هي نصف في النساء لا تُعلم كيف تضع الخمار على رأسها بخلاف الصغيرة .(1/32)
4. تهافت الفلاسفة : للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي ت( 505) هـ
ت : د : سليمان دنيا . دار المعارف . ط الثامنة .
5. المنقذ من الضلال : للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي ت( 505) هـ.
ت :د: سميح دغيم . دار الفكر اللبناني .
6. مشكلة الصراع بين الدين والفلسفة : د : رضا سعادة . الدار العالمية .
7. تهافت التهافت : للقاضي أبي الوليد محمد بن رشد ت ( 595) هـ . ت : د : سليمان دنيا . دار المعارف . ط الرابعة .
8. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي .
9. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها: د: ناصر بن عبد الكريم العقل . دار الوطن الرياض .
الفهارس
الموضوع الصفحة
المقدمة ..............................................................2
التمهيد ..............................................................4
المبحث الأول : ترجمة الإمام الغزالي ...............................4
المبحث الثاني : رحلته من الشك إلى اليقين ..........................6
الفصل الأول : عرض موقف الغزالي من الفلاسفة ..................10
الفصل الثاني : أبدية العالم ..........................................15
الفصل الثالث : صدور العالم عن المبدأ الأول ........................17
الفصل الرابع : الصفات الإلهية ..................................... 20
الفصل الخامس : علم الله بالجزئيات المتغيرة .........................25
الفصل السادس : الطبيعيات :.........................................27
المبحث الأول : السببية ..............................................27
المبحث الثاني : المعاد ..............................................29
الخاتمة وأهم النتائج .................................................31
المراجع والمصادر ..................................................32(1/33)
الفهارس ............................................................33(1/34)