بسم الله الرحمن الرحيم
جوانب من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية
المحاضرة الأولى
الحمد لله العلى الأعلى الذي خلق فسوي والذي قدر فهدي ، أحمده على ما منح محمدا من الهدي وجعل السنة المطهرة قدوة لمن اقتدي ، الذي خلق فأحيا وحكم على خلقه بالموت والفنا ، والبعث إلي دار الجزاء والفصل والقضا لتجزى كل نفس بما تسعي ، كما قال في كتابه جل وعلا : ( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِل الصَّالحَاتِ فَأُوْلئِكَ لهُمْ الدَّرَجَاتُ العُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا وَذَلكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّي ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم تزل على ألسنة الرسل ، شهادة تضيء لنا أقوم السبل ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله دينه على سائر الملل ، وأصلي وأسلم على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله ، خاتم رسله وأنبيائه ومبلغ رسالاته وأنبائه ، صاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء المعقود ، فأكرم بمقامه وحوضه ولوائه ، والرضا عن آله وصحبه وأوليائه ، الذين هم للدين بدور اهتدائه ، ونجوم إقتدائه ، واعتلائه واحتفائه ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ الفَائِزُونَ لوْ أَنْزَلنَا هَذَا القُرْآنَ على جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ لعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) أما بعد .(1/1)
فحديثنا بإذن الله ، يدور حول عالم جليل ، قل أن يوجد له بين أهل العلم نظير ، هو العلامة مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية الحراني الحنبلي ، شيخ الإسلام ابن تيمية ، ولد في حران في العاشر من ربيع الأول سنة 661 ه إحدي وستين وست مئة ، وبقي بها إلي أن بلغ سبع سنين ، ثم انتقل به والده رحمه الله إلي دمشق ، فنشأ بها أتم إنشاء وأزكاه ، وأنبته الله أحسن إنبات وأوفاه ، وكانت صفات النجابة عليه لائحةً ، ودلائلُ العناية فيه واضحةً ، كان شيخ الإسلام في صغره إذا ذهب إلي الكتاب يعترضه يهودي ويوقفه ثم يسأله عن بعض الأمور العلمية ، فتظهر في إجابات ابن تيمية ، الفطنة والقدرة العقلية ، كان يجيبه عنها بسرعة بديهية ، حتى تعجب منه اليهودي ، حتى صار يوقف ويسأله كلما مر في طريقه إلي الكتاب ، وابن تيمية يخبره بما يدل على فساد ما عليه أهل الكتاب ، فلم يلبث هذا اليهودي أن اسلم وحسن إسلامه ، وكان ذلك ببركة الشيخ على صغر سنه ، ولم يزل ابن تيمية منذ صغره مستغرقا في طلب العلم وختم القران صغيرا ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه واللغة ، حتى برع في ذلك براعة نادرة ، وقد سمع من ذوي الروايات الصحيحة العالية ، كتب الحديث البارزة كمسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم وجامع الترمذي وسنن أبي داوود وسنن النسائي وابن ماجة والدار قطني ، سمع كل واحد من هذه الكتب عدة مرات ، وأول كتاب حفظه في الحديث الجمع بين الصحيحين للإمام لحميدي ، وقلما وجد كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه وألم بما فيه ، وكان الله قد خصه بسرعة الحفظ وإبطاء النسيان ، لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء غالبا إلا ويبقي على خاطره ، إما بلفظه أو معناه ، وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه ، فقد جمع الله له ما خرق بمثله العادة ، ووفقه في جميع أمره وحباه بالزيادة ، وجعل مآثره في الإمامة من أكبر شهادة ، حتى اتفق كل ذي عقل سليم أنه يدخل تحت(1/2)
ما أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لهَذِهِ الأُمَّةِ على رَأْسِ كُل مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهَا دِينَهَا ) .
قدم بعض العلماء من حلب إلي دمشق ، فقال لبعضهم سمعت في هذه البلاد بصبي يقال له : أحمد بن تيمية ، وأنه سريع الحفظ والبديهة ، وقد جئت قاصدا لدمشق لعلى أراه ، فقال له خياط : إنه يذهب إلي الكتاب من هذا الطريق وسوف يمر بعد ساعة ، فاقعد عندنا هذه الساعة وسوف تراه بإذن الله ، فجلس الشيخ الحلبي قليلا ، فمر الصبيان في طريقهم إلي الكتاب ، فقال الخياط للشيخ الحلبي ، هو هذا الصبي ، الذي معه لوح كبير ، فناداه الشيخ الحلبي ، فجاء إليه ابن تيمية ، فأخذ الشيخ اللوح فالذي كان معه نظر فيه ، ثم قال : يا ولدي امسح هذه الكتابة التي على اللوح حتى أملي عليك شيئا تكتبه ، ففعل ابن تيمية ، فأملي عليه من متون الأحاديث ثلاثة عشر حديثا ، وقال له : اقرأ هذا ، فنظر نظرة وتأمله مرة ، ثم أعطي اللوح للشيخ الحلبي ، وأخذ يسمعه كل الأحاديث التي كتبها ، كأحسن ما تسمع ، فقال له الشيخ الحلبي : يا ولدي امسح هذه الكتابة ففعل ، فأملي عليه عدة أسانيد انتخبها وانتقاها من ذاكرته ، ثم قال اقرأ هذا أيضا ، فنظر نظرة وتأمله مرة كما فعل أول مرة ، وأسمعه كل الأسانيد التي كتبها ، كأحسن ما تسمع ، فقام الشيخ الحلبي وهو يقول : إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم ، فإن هذا لم ير مثله في قوة الحفظ واستذكار العلم ،(1/3)
نشأ ابن تيمية رحمه الله في تصون تام وعفاف ، وتعبد واقتصاد في الملبس والمأكل ، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره ، ويناظر ويفحم الكبار من الأعيان ، ويأتي بما تتحير فيه الأذهان ، فأفتي وله تسع عشرة سنة بل أقل من ذلك ، وشرع في الجمع والتأليف في وقته ذلك ، ولما مات والده وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم ، قام مقام والده في تدريس العلم ، وقام بوظائفه في الفتيا وله إحدى وعشرون سنة ، واشتهر أمره ، وذاع صيته في أرجاء المعمورة ، وأخذ في تفسير القرآن الكريم ، في جمع عظيم من المسلمين ، كان يجلس على كرسيه ويتكلم من حفظه ، لا يتلعثم طول المجلس ، ينطلق في الكلام بصوت جهوري فصيح ، مع التنبه في كلامه على الحديث الضعيف والصحيح ، ولم يزل على ذلك تقيا سلفيا ، عابدا ناسكا ، صواما قواما ، ذاكرا لله تعالى ، مستعينا به في كل أمر وعلى كل حال ، رجاعا إلي الله تعالى في سائر الأحوال ، وقافا عند حدوده وأوامره ، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، لا تكاد نفسه تشبع من العلم ، فلا تروي من المطالعة ، ولا تمل من المقارنة والمذاكرة ، ولا تكل من البحث والمناظرة ، وقل أن يدخل في علم من العلوم أو باب من أبوابه ، إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب ، ويستدرك عليه في ذلك العلم على حذاق أهله ، وكل من برع في فنه ، يقول أحدهم لقد سمعته في مبدىء أمره يقول : إنه ليقف خاطري في المسألة التي تشكل على ، فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل ، حتى ينشرح الصدر ويزول الإشكال وينحل ، وربما أكون ماشيا في السوق أو جالسا في المسجد ، أذكر الله عندما أقوم أو أقعد أو أرقد ، أداوم على الذكر والاستغفار ، حتى يفتح الله ويزول الإشكال .(1/4)
يقول أحد المصاحبين لشيخ الإسلام في نشأته ، كنت إذا اجتمعت به في مجلس مع أحد المشايخ المشهورين وتكلم أجد لكلامه صولة على القلوب ، وتأثيرا في النفوس ، وهيبة مقبولة ، ونفعا يظهر أثره ، وتنفعل له النفوس التي سمعته أياما كثيرة ، حتى كان مقاله بلسان حاله ، وحاله ظاهر له في مقاله ، شهدت ذلك منه غير مرة .
ولم يبرح ابن تيمية في ازدياد من العلوم ، ونشر العلم والاجتهاد في الخير ، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم ، والتواضع في العمل والحلم ، والزهد والورع والشجاعة ، والكرم والإنابة والمهابة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسائر أنواع الجهاد ، مع العفة والصبر والصدق ، والإخلاص والعمل على نفع الخلق ، والابتهال إلي الله بالدعاء ، وكثرة الخوف والرجاء ، وشدة التمسك بالكتاب والسنة .
وكان رحمه الله سيفا مسلولا على المخالفين ، وشوكة في حلق المبتدعين ، وإماما قائما ببيان الحق ونصرة الدين ، وكان بحرا لا يتكدر ماؤه ، وحبرا نحريرا تقدم آراؤه ، طنت بذكره الأمصار ، وضنت بمثله الأعصار .
ويذكر العلامة كمال الدين بن الزملكاني أنه كان إذا سئل عن فن من العلم ، ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدا لا يعرف هذا العلم كابن تيمية ، وكان الفقهاء من سائر الطوائف ، إذا جلسوا معه استفادوا في منه مذاهبهم ، واستفتوه في أدق مسائلهم ، ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع ، ولا تكلم مع أحد إلا اقتنع ، فما من علم من العلوم ، إلا فاق أهله في حسن التصنيف وجودة العبارة ، والترتيب والتقسيم وتبيين الأدلة بغزارة .(1/5)
يقول ابن سيد الناس المصري دلني الحافظ جمال الدين الممثل على رؤية الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا ، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا ، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته ، أو أفتي في الفقه فهو مدرك غايته ، أو ذكر الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته ، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته ، ولا أرفع من درايته ، برز في كل فن على أبناء جنسه ، ولم تر عين من رآه كمثله ، ولا رأت عينه كمثل نفسه ، كان يتكلم في التفسير ، فيحضر مجلسَه الجمُ الغفير، ويردون من بحر علمه العذب النمير ، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير ، ثم يذكر ابن سيد الناس المصري أن شيخ الإسلام دب إليه من أهل بلده داء الحسد ، وألب عليه أهل النظر كل من ينتقد ، في حنبليته أو فيما يعتقد ، فحفظوا عنه في ذلك كلاما ، وسارعوا بسببه عند الحكام ملاما ، وأوسعوه تبديعا وسهاما ، وزعموا أنه خالف طريقهم ، وفرق فريقهم ، فنازعهم ونازعوه ، وقاطع بعضهم وقاطعوه ، ثم نازع طائفة أخرى من الطرق الصوفية ، يزعمون أنهم على كشوفات ذوقية حقيقية ، فكشف زيغهم وبين خدعهم ، وأبطل بدعهم ، فكفروه وكتبوا فيه عند الأمراء محاضر ، وألبوا عليه سفهاء العامة بين الأكابر ، حتى سجن بالديار المصرية .
ولو تحدثنا عن غزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته ، وسعة نقله في فتاواه ومنصوصاته ، فأما غزارة علومه ، فمنها معرفته بعلوم القرآن ، واستنباطه لدقائقه ، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله ، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه ، وفنون حكمه وغرائب نوادره ، وباهر فصاحته وظاهر ملاحته ، فإنه فيه من الغاية التي يُنتهي إليها ، والنهاية التي يعول عليها ، ولقد كان إذا قرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم ، يشرع في تفسيرها ، فينقضي المجلس بجملته والدرس برمته، وهو في تفسير بعض آية منها .(1/6)
ولقد أملي في تفسير : ( قل هو الله أحد ) مجلدا كبيرا سماه جواب أهل العلم والإيمان في أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، وأملي في تفسير قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوي ) قرابة خمس وثلاثين كراسة ، أما معرفته بسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وقضاياه ، ووقائعه وغزواته وسراياه ، وما خصه الله تعالى من كراماته ومعجزاته ، ومعرفته بصحيح المنقول وسليمه ، ومكذوبه وضعيفه وسقيمه ، وبقية المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في أقوالهم وأفعالهم ، وفتاواهم وأحوالهم ، وأحوالهم وجهادهم ، فإنه كان من أضبط الناس لذلك وأعرفهم فيه ، وأسرعهم استحضارا لما يريده منه ، فإنه قل أن يذكر حديثا أو يستدل به ، إلا وعزاه إلي مصدره في كتب السنة ، ونص على حكمه صحيحا كان أو حسنا أو ضعيفا ، وذكر اسم روايه من الصحابة ، وقل أن يسأل عن أثر إلا وبين في الحال حاله ، وحال أمره وذاكره .
ومن أعجب الأشياء في ذلك أنه في محنته بمصر لما أخذ وسجن وحيل بينه وبين كتبه ، صنف عدة كتب صغارا وكبارا ، وذكر فيها ما احتاج إلي ذكره من الأحاديث والآثار ، وأقوال العلماء في الأخبار ، وأسماء المحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهم ، وعزا كل شيء من ذلك ، إلي ناقليه وقائليه بأسمائهم ، وذكر أسماء الكتب التي ذكر فيها ، وأي موضع هو منها ، كل ذلك بديهة من حفظه ، لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه ، ثم بعد ذلك نقبت واختبرت واعتبرت وروجعت ، فلم يوجد فيها بحمد الله خلل ولا تغير ، ومن جملة هذه الكتب التي ألفها في السجن من ذاكرته ، كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول ، وهذا من الفضل الذي خصه الله تعالى به .(1/7)
ومن غزارة علومه ما منحه الله تعالى من معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم ، وكثرة أقوالهم واجتهادهم ، وما روي عن كل منهم من راجح ومرجوح ، ومقبول ومردود ، في كل زمان ومكان ، وبصره الصحيح الثاقب ، ونظره السليم الصائب ، الذي يتعرف فيه على الحق فيما قالوه ونقلوه ، وعزوه ونسبوه ، والأماكن التي بها أودعوه ، حتى كان إذا سئل عن شيء من ذلك ، كأن جميع المنقول عن الرسول مصور بين يديه ومسطور يستحضر أقوال العلماء ، ويذكر منها ما شاء الله ، ويذر منها ما يشاء ، وهذا قد اتفق عليه كل من رآه أو وقف على شيء من علمه ممن لا يغطي عقله الجهل والهوى .
وأما مؤلفاته ومصنفاته فإنه يصعب إحصاؤها ، أو تجمع أسماؤها ، فهي كثيرة جدا ، سواء كانت مصنفات كبيرة أو صغيرة ، وهي منشورة في البلدان ، فقل أن يخلو منها مكان ، بعضها مجلدات كثيرة كبيرة ، وبعضها كتب صغيرة ، يقول ابن قيم الجوزية في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية : مما رأيته في التفسير أوراق على الاستعاذة وقاعدة في الفاتحة وفي الأسماء التي فيها وفي قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين ، وقد ذكر ابن القيم ما رآه مما أملاه شيخ الإسلام في تفسير القرآن سورة سورة ، وقد جمع الدكتور محمد السيد الجليند ما استطاع من مختارات في دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية ، فبلغت ستة أجزاء كبيرة ، ويكفي كما ذكرنا أن شيخ الإسلام أملي في تفسير : ( قل هو الله أحد ) مجلدا كبيرا سماه جواب أهل العلم والإيمان في أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، وأملي في تفسير قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوي ) قرابة خمس وثلاثين كراسة .(1/8)
وقد أكثر شيخ الإسلام من تأليفه في العقيدة وأصول الدين ، والرد على المبتدعين والمخالفين ، فقد تعددت الطوائف والفرق على الساحة الفكرية ، وأصبحت كالأوبئة البيئة ، التي انتشرت فيها أمراض الجهمية والمعطلة والأشعرية ، والمجسمة والمشبهة والسليمية ، والمناطقة والفلاسفة والدهرية ، والشيعة والقدرية والباطنية ، والحلولية والنصيرية والصوفية ، إضافة إلي حركة اليهودية والنصرانية ، وفساد الحالة السياسية ، كل ذلك تطلب فكرا ثاقبا خارقا ، وعقلا ممحصا واعيا مدققا ، يرفع راية القرآن والسنة على هذه الأمراض الفكرية ، ويحصن المسلمين بالأمصال الوقائية ، بحيث يري المؤمن ماء الحق الذي غطاه زبد الباطل ، فكان شيخ الإسلام موسوعة علمية يرجعك إذا صاحبته إلي العقيدة السلفية ، في أي مصنف من مصنفاته أو مؤلف من مؤلفاته .(1/9)
ولقد أكثر رحمه الله التصنيف في العقيدة وأصول الدين ، فضلا عن غيره من بقية علوم الدين ، فسأله أبو حفص البزار عن سبب ذلك فقال : الفروع أمرها قريب ، وكان أبو حفص البزار قد التمس منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة للناس في الإفتاء ، فقال له ما معناه : فروع الدين أمرها قريب ، وإذا قلد المسلم فيها أحد العلماء جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن من خطأه ، وأما العقيدة وأصول الدين ، فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء ، كالمتفلسفة والملاحدة والباطنية ، والقائلين بوحدة الوجود والدهرية ، والقدرية والنصيرية والجهمية ، والحلولية والمعطلة والمجسمة والمشبهة ، والراوندية والكلابية والسليمية ، وغيرهم من أهل البدع ، رأيت هؤلاء قد تجاذبوا في العقيدة بأزمة الضلال ، وبان لي أن كثيرا منهم إنما أراد إبطال الشريعة المقدسة ، المحمدية العلية الظاهرة ، والظاهرة على كل دين ، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم ، ولهذا قل أن سمعت أو رأيت ، معرضا عن الكتاب والسنة مقبلا على مقالاتهم ، إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم ، وقطع حجتهم وأضاليلهم ، أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم ويمثل ف دلائلهم ، ذبا عن الملة الحنيفية ، والسنة الصحيحة الجلية ، ولا والله ما رأيت فيهم أحدا ممن صنف في هذا الشأن ، وادعي علوم المقام إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام ، وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح المبين ، وعما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين ، وأتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات ، التي سموها بزعمهم حِكَميات وعقليات ، وإنما هي جهالات وضلالات ، وكونه التزمها معرضا عن غيرها أصلا ورأسا ، فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم فتخبط فيها ولم يفرق بين الحق والباطل ،(1/10)
وآلا فالله أعظم لطفا بعباده ، أن لا يجعل لهم عقلا يقبل الحق ويثبته ، ويبطل الباطل وينفيه ، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى ، أوقع من أوقع في الضلال ، وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ، ميزانا يزن به العبد الواردات التي ترد على القلب ، فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق ، وما هو من قبيل الباطل ، ولم يبعث الله الرسل إلا إلي ذوي العقل ، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده ، فكيف يقال إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى ، هذا باطل قطعا يشهد له كل عقل سليم ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ، ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جل همي إلي الأصول وألزمني أن أوردت مقالاتهم وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية ) .
يقول أبو حفص البزار : وقد أبان بحمد الله تعالى فيما ألف فيها الحق من الباطل لكل بصير ، وأعانة بتوفيقه حتى رد عليهم أهواءهم وبدعهم ، وآراءهم وخدعهم ، مع الدلائل النقلية بالطريقة العقلية ، حتى إنه يجيب عن كل شبهة من شبههم ، بعدة أجوبة جلية واضحة ، يعقلها كل ذي عقل صحيح ، ويشهد لصحتها كل عاقل فصيح .(1/11)
يقول ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ومما صنفه في الأصول مبتدئا أو مجيبا لمعترض أو سائل كتاب الإيمان في مجلد ، وكتاب الاستقامة في مجلدين ، وكتاب جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية في أربع مجلدات ، وكتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية في ست مجلدات ، وكتاب درء تعارض العقل والنقل أربع مجلدات ، ومنهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية أربع مجلدات ، وكتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح في مجلدين ، وكتاب الرد على أهل كسروان الرافضة في مجلدين ، وكتاب الهولاكونية وهو جواب سؤال ورد على لسان هولاكو ملك التتار في مجلد ، وكتاب في الوسيلة في مجلد ، وكتاب في الرد على البكري في الاستغاثة في مجلد ، وشرح على أول كتاب الغز نوي في أصول الدين في مجلد لطيف ، وكتاب في الرد على المنطق في مجلد كبير ، وشرح عقيدة الأصفهاني ، وشرح مسائل من الأربعين للرازي في مجلدين ، والمسائل الإسكندرانية رد فيه على ابن سبعين وغيره في مجلد ، وكتاب في محنته في مصر في مجلدين وتكلم فيه على الكلام النفسي وأبطله من نحو ثمانين وجها ، وكتاب الكلام على إرادة الرب وقدرته نحو مائة ورقة ، وقواعد وفتاوى الكيلانية ، وهو جواب في مسألة القرآن في مجلد لطيف ، وقواعد في إثبات المعاد والرد على ابن سينا في مجلد ، والتدمرية وفيها تحقيق الإثبات في الأسماء والصفات ، وحقيقة الجمع بين القدر والشرع ، والفتوى الحموية ستون ورقة كتبها بين الظهر والعصر ، والمراكشية والواسطية والبعلبكية والقادرية والأزهرية وكتاب إبطال قول الفلاسفة بإثبات الجواهر العقلية ، وكتاب إبطال قول الفلاسفة بقدم العالم في مجلد كبير .(1/12)
وقد ذكر ابن القيم من أسماء كتبه مما رآه هو فقط ما يضيق المقام عن سرده لكم ، وأما فتاواه ونصوصه وأجوبته على مسائل العقيدة فهي أكثر من يقدر أحد على إحصائها ، ودون بمصر منها على أبواب الفقه سبعة عشر مجلدا وهذا ظاهر مشهور ، وجمع أصحابه أكثر من أربعين ألف مسألة ، وقل أن وقعت واقعة وسئل عنها إلا وأجاب فيها بديهة بما بهر واشتهر وصار ذلك الجواب كالمصنف الذي يحتاج فيه غيره لفهمه ، إلي زمن طويل ومطالعة الكتب الكثير ، يقول تاج الدين محمد ابن الدوري أنه حضر مجلس الشيخ رضي الله عنه ، وقد سأله يهودي عن مسألة في القدر قد نظمها شعرا في ثمانية أبيات ، أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة - إذا ما قضي ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه مني فما وجه حيلتي - دعاني وسد الباب عني فهل إلي دخولي سبيل بينوا لي قضيتي - قضي بضلالي ثم قال ارض بالقضا فما أنا راض بالذي فيه شقوتي - فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا فربي لا يرضي بشؤم بليتي - فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي فقد حرت دلوني على كشف حيرتي - إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة فهل أنا عاص في إتباع المشيئة - وهل لي اختيار أن أخالف حكمه فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي - فقال تاج الدين : فلما وقف عليها فكر لحظة يسيرة وانشأ يكتب جوابها وجعل يكتب ونحن نظن أنه يكتب نثرا فلما فرغ تأمله من حضر من أصحابه وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيتها تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتا وقد أبرز فيها من العلوم ما لو شرح بشرح لجاء شرحه مجلدين كبيرين ، فأجاب شيخ الإسلام مرتجلا بعد الحمد الله رب العالمين ، سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية - فهذا سؤال خاصم الملأ العلا قديما به إبليس أصل البلية - ومن يك خصما للمهيمن يرجعن على أم رأس هاويا في الحفيرة - ويدعي خصوم الله يوم معادهم إلي النار طرا معشر القدرية – وأخر يرد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية والناس في انبهار وإعجاب إلي(1/13)
أن قال : وأما رضانا بالقضاء فإنما أمرنا بأن نرضي بمثل المصيبة - كسقم وفقر ثم ذل وغربة وما كان من مؤذ بدون جريمة – إلي أن قال : وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت من الفروق بعلم ثم أيد ورحمة - يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي يقدره نحو العذاب بعزة - ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم بأعمال صدق في رجاء وخشية - وأمر إله الخلق بين ما به يسوق أولي التنعيم نحو السعادة - فمن كان من أهل السعادة أثرت أوامره فيه بتيسير صنعة - ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل بأمر ولا نهي بتقدير شقوة - ولا مخرج للعبد عما به قضي ولكنه مختار حسن وسوأة - فليس بمجبور عديم الإرادة ولكنه شاء بخلق الإرادة - ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة بها صار مختار الهدي بالضلالة – إلي أن قال : فدونك فافهم ما به قد أجبت من معان إذا انحلت بفهم غريزة - أشارت إلي أصل يشير إلي الهدي ولله رب الخلق أكمل مدحة - وصلي إله الخلق جل جلاله على المصطفي المختار خير البرية .
يقول أبو حفص البزار : حدثني غير واحد من العلماء الفضلاء النبلاء ، المهتمين بالخوض في أقاويل المتكلمين لإصابة الثواب ، وتمييز القشر من اللباب ، أنه لم يزل حائرا في تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم ، وأنه لم يستقر في قلبه منها قول ، ولم يبن له من مضمونها حق ، بل رآها كلها موقعة في الحيرة والتضليل ، وجلها ممعن بتكلف الأدلة والتعليل ، وأنه كان خائفا على نفسه من الوقوع بسببها في التشكيك والتعطيل ، حتى من الله تعالى عليه بمطالعته مؤلفات هذا الإمام الجليل ، أحمد بن تيمية شيخ الإسلام ، وما أورده من النقليات والعقليات في هذا النظام ، فما هو إلا أن وقف عليها وفهمها ، فرآها موافقة للعقل السليم وعلمها ، حتى انجلي ما كان قد غشيه من أقوال المتكلمين من الظلام ، وزال عنه ما خاف أن يقع فيه من الشك وظفر بالمرام .(1/14)
ثم يقول أبو حفص البزار : ومن أراد اختبار صحة ما قلته ، فليقف بعين الإنصاف ، العرية عن الحسد والانحراف على مختصراته في هذا الشأن ، كشرح العقيدة الأصبهانية ونحوها إن شاء أن يقف على مختصراته ، وإن شاء أن يقف على مطولاته ، فلينظر في تخليص التلبيس من تأسيس التقديس ، والموافقة بين العقل والنقل ، ومنهاج الاستقامة والاعتدال ، فإنه والله يظفر بالحق والبيان ، ويستمسك بأوضح برهان ، ويزن حينئذ في ذلك بأصح ميزان .
فهذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية قطع حياته لميراث النبوة ، فكان إماما وقدوة ، فيها إلي علم تكون به إماما مطاعا إن أمرت وإن نهيت - وتجلو ما بعينك من غشاها وتهديك السبيل إذا ضللتا - وتحمل منه في ناديك تاجا ويكسوك الجمال إذا اغتربتا - ينالك نفعه ما دمت حيا ويبقي ذخره لك إن ذهبتا - يمثل د بكثرة الإنفاق منه وينقص به إن كفا شددتا - فلو قد ذقت من حلواه طعما لآثرت التعلم واجتهدتا - ولم يشغلك عنه هوى مطاع ولا دنيا بزخرفها فتنتا - فرأس العلم تقوى الله حقا وليس بأن يقال لقد رأستا - إذا ما لم يفدك العلم خيرا فخير منه أن لو قد جهلتا - وإن ألقاك فهمك في مهاو فليتك ثم ليتك ما فهمتا - ولا تحفل بمالك واله عنه فليس المال إلا ما علمتا - وليس لجاهل في الناس معني ولو ملك الأرض له تأتي - وما يغنيك تشييد المباني إذا بالجهل نفسك قد هدمتا - لئن رفع الغني لواء مال لأنت لواء علمك قد رفعتا - وإن جلس الغني على الجبال لأنت على الكواكب قد جلستا - وإن ركب الجياد مسومات لأنت بمنهج التقوى ركبتا - فقابل بالقبول صحيح نصحي فإن أعرضت عنه فقد خسرتا – ولنا لقاء آخر بإذن الله مع شيخ الإسلام ابن تيمية وسيرته العلمية ، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .(1/15)