إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب:70)
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل ضلالة في النار
اعلم أخي في الله علمني الله وإياك أن تراجم الرجال من أهم أبواب العلم حيث بها تتسق العروة ويؤتى بالمفقود من حلق اتصال سلسلة الخلف بالسلف وتتأتى الأسوة بالمشاهدة الحسية أو المعنوية ثم تتأتى التربية على أثر ذلك وعلى منوال ذاك فتخرج الأجيال المنشودة التي بها ينتصر المسلمون حيث إن القراءة عن الشجعان تورث الشجاعة وعن المتقين تورث التقوى وتأسي الرجل بغيره أحرى أن يتشكل على شاكلته ويعمل على نسقه، ويقرر كلامي هذا ما أورده الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه (الأذكياء) حين ذكر في المقدمة دواعي تصنيفه لمثل هذا الكتاب فقال: "وفي ذلك ثلاثة أغراض:(1/1)
أحدها: معرفة أخبارهم بذكر أحوالهم- قلت: يعني السلف-، والثاني: تلقيح لباب السامعين إذا كان فيهم نوع استعداد لنيل تلك المرتبة وقد ثبت أن رؤية العاقل ومخالطته تفيد ذا اللب فسماع أخباره تقوم مقام رؤيته كما قال الرضي:
فاتني أن أرى الديار بطرفي ... ... فلعلي أعي الديار بسمعي
وذكر عن المأمون قوله لإبراهيم: لا شيء أطيب من النظر في عقول الرجال، قال: والثالث: تأديب المعجب برأيه إذا سمع أخبار من تعسر عليه لحاقه" أ.(1/2)
هـ كلامه، قلت: صدق هذا العلم الشامخ، فليس شيء في الدنيا يقرب إلى ما عند الله مثل مخالطة عباد الله تعالى الصالحين الذين يذكرون بالله دومًا بالقوال تارة وبالفعل تارات، وأشهد على الشيخ النادرة شبيه السلف العلامة: عطاء بن عبدا للطيف حفظه الله ورعاه وأطال عمره بالخير وأبقاه، فلقد أخذنا منه أشياء كثيرة باللحظ قبل اللفظ وربما بدون لفظ فكان وجوده معنا ومخالطته بنا نعم المعين على تمحيص السير إلى الله تعالى 0 من أجل ما ذكره ابن الجوزي آنفا، وما ذكرته شرعت بفضل الله عز وجل في عمل ترجمة لهذا الحبر الذي انشقت الأرض عنه فأبصرناه بيننا ألا وهو شيخي المفضال النادرة الشيخ: عطاء بن عبد اللطيف حفظه الله تعالى، وذلك ردًا لشيء لا يسوى بإزاء جميله العظيم الذي أسداه الله إلي على يديه، ثم تبصرة لإخوتي وبني جلدتي بأسوة لهم مثل السلف يعيش بين ظهرانيهم، فمن أراد فروع العلم فالشيخ بحر لا تكدره الدلاء، ومن أراد السلوك فيكفيه النظر إليه ليكون من الزهاد والعباد، ومن أراد الحديث فدونك البحر، وبالجملة فلقد طفت يسيرًا ورأيت كثيرًا وما رأيت مثل الشيخ ولا رأي مثل نفسه، فالشيخ يغرف من بحر وغيره يغرف من السواقي، بحر لا تكدره الدلاء وحبر يقتدي به الأخيار الألباء، وهذا أمر برهانه وجوده ودليله وقوعه، وإذا قالت حزام فصدقوها ولا ينبؤك مثل خبير، فلقد رأيت الشيخ وعاشرته مدة ثلاث سنين تقريبًا لا تفوتني أكثر حركاته وألمح أكثر أفعاله وأعرف بفضل الله كيف يفكر من كثرة حديثي معه والتمعن في كلامه وشيء من المعرفة أنعم به الله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فالحمد لله من أجل هذا صرت بفضل الله خبيرًا بالشيخ حقًّا حتى أن من أصحابنا الذين يعرفون الشيخ من قديم من كان يستشكل أشياء يفعلها الشيخ ويسألني فيها وكنت بفضل الله تعالى أجيب عن جميعها كما سترى في الجزء الملحق بهذه الرسالة وهذه نعمة الله التي أسداها لا إله غيره ولا رب سواه.(1/3)
فإليك أخي هذا التقرير والتحبير لتجتمع لديك إن شاء الله تعالى به الدلائل ويستقيم بسيرة الشيخ لديك كل معوج ومائل وتماط عنك بمعرفة هذه الحقائق أكثر الرذائل والله المسئول ألا يجعل الهوى بين هذه الفضائل وبين قلبك حائل، إنه ولي ذلك وعليه قادر.
فأقول وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم:
لقد رأيت الشيخ منذ ثلاث سنين تقريبًا وقبل ذلك كنت أسمع عن الشيخ وأعلم ممن سبقوني أن كل علم في مدينتنا حلوان حفظها الله من قبل هذا المبارك؛ لأنه وإن كان قد انقطع إلى التصنيف والعبادة وغيرهما من لوازم الحياة إلا أنه كان يُدَرِّسُ قبل ذلك لرؤوس طلابها، وكان ينتصب للفتوى. فحدثني عضا لطلبة أنه كان يجمع الأسئلة التي تصدر من جميع طلبة العلم تقريبًا ثم يحملها إليه فينظر الشيخ فيها ثم يجيب عليها، وكان الكل عليه في ذلك عالة إذا استشكلت مسألة أو ساء فهم أو اضطرب أرسلوا إليه فسرعان ما يحل هذا الإشكال ويزول الاضطراب بيسير الكلام من شفتي هذا الحبر النادرة.
وحدثني الشيخ: خالد صقر حفظه الله قال: إننا إلى الآن نحيل المسائل علىالشيخ0(1/4)
ولا أريد بهذا التقليلَ من قدر الدعاة في حلوان لا سيما شيخ الدعاة فيها: الشيخ الرباني شيخنا الشيخ: مصطفى بن محمد حفظه الله تعالى، فقد حمل لواء الدعوة إلى الله تعالى سنين عددًا، ونشأ جُلُّ الشباب في حجره وأنا منهم، لكنني أردت أن أنبه على فضل شيخنا جزاه الله عنا أهلَ حلوان خير الجزاء وجزاه خيرًا عن كل من انتفع بعلمه في داخل البلاد أو خارجها، أقول: فكان هذا دأب الشيخ في حلوان بما قدره الله له من التسبب في ذلك0 وكنت بعد هذا الكلام العظيم عن الشيخ أشتاق إلى رؤيته، بيد أن الأمر كان لا يتفق في كثير من الأحوال حتى أتاح الله عز وجل وقدر لي رؤيته لَمَّا نقل تجارته من مكانها القديم إلى سوق المساكن الاقتصادية وهذا السوق كان بجوار بيتي، فأخذني بعض إخواني إلى السوق لرؤية الشيخ، فلما رأيته أكبرته ووقعت هيبته في قلبي حتى أنني حقَّا لم أملأ عيني من النظر إلى وجهه؛ خشية أن يقع بصره على وأنا أنظر إليه، فانصرفت سريعًا إلى خارج السوق وراودت صورة الشيخ نفسي حتى أنني لم أنسها حين رؤيتها وإلى لحظة كتابة هذه الأسطر، ثم قدر الله تعالى لي أن أرى بعض تصانيف الشيخ لما كنت أدرس صحيح البخاري في مدرسة الشيخ الجليل: حسن أبي الأشبال في عابدين بمسجد أنصار السنة في شارع قَوَلَةَ، فبينما أنا أطوف على بائعي الكتب بعد خروجي من المسجد إذ وقعت عيني على كتاب أنار اسم الشيخ غلافه وهو كتاب: ( إعلام الرجال والنساء بتحريم المكث في المسجد على الجنب والحائض و النفساء)، فسألت الكُتَبِيَّ عن ثمنه وأخذته وانصرفت وأنا جذلًا مسرورًا غاية السرور بهذا الكتاب وتصفحته في الحافلة وقبل الرجوع إلى البيت من فرط إعجابي به وشوقي إليه، فلما ذهبت إلى البيت قرأته بعناية فسرعان ما أخذتني الدهشة من قوة استدلال الشيخ وحسن تصنيفه وإيراده للأدلة وأدبه مع مخالفيه في الرد عليهم، وأبهرني حقًّا كلامه على الحديث المضعف وتقرير أنه يصلح للحجة، فإني(1/5)
أحب هذا العلم جدًّا وأشتهيه، وبالجملة فلقد أبهرني هذا الكتاب عامة وهذا البحث خاصة فأخذت بعدها أنعي على الناس حوله كيف يتركونه يمشي على الأرض؟! مَثَلُ هذا يُحْمَلُ على الأعناق وهو من منة الله تعالى على أهل حلوان لكن الخير لا يأتي طفرة وإنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ثم ذهبت بعد ذلك أبحث كل مبحث عن سيرة الشيخ ومواقفه وشغلت مجالسي بذكره، وما جلست غالبًا إلا مع من يعرفه وأمضي في صحبته مدة فجمعت من المعلومات الكثير والكثير ومن المواقف والملح عن الشيخ الأكثر حتى صرت كما قررت آنفًا مرجع الإخوة في الحديث عن الشيخ ولا أنسى إن نسيت هذا الصوت الجَهْوَري الذي أحسست به حقًّا يصوت في نفسي حينما رأيته في حانوته الذي أخذه في وسط السوق وكان ترك الأول وكنت أعمل في مكان بين يدي حانوت الشيخ على يساره فسمعت صوتا جهوريا يصوت في نفسي قائلًا: هذا حماد بن سلمة مرتين أو ثلاثا، ثم قال: هذا حماد الذي لم يكن يضيع وقته، ومنذ هذا الحين وقد تعرفت على الشيخ وعرفني وقويت العلاقة التي بيني وبينه، والحق أنني كنت آخذ منه في العلم إرشادات ما سمعتها من أحد قبله وكانت ملاحظتي إياه في أفعاله خير إرشاد لي كطالب علم صغير ولا غرو فالشيخ مدرسة ينهل الطلبة من أعماله وأقواله وحكمته وحكومته ما يصنع العلماء الرجال ويشحذ الهمم ويأتي على ما يختلج النفوس من باطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولا يستقر في القلب إن شاء الله تعالى وقدر بعد خلطة الشيخ إلا الخير "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ".(1/6)
فهذا الشيخ حفظه الله تعالى قد ألفيته جامعة تبث الخير في جميع المناحي كوابل أوله في الخير كآخره ، وهذا الأمر لمن خالط الشيخ معلوم محتوم ففتح الله تعالى بإرشادات الشيخ عقلي وذهبت أفكار كثيرة منتكسة من رأسي وتقدمت أضعاف ما كنت عليه قبل ملاقاة هذا الحبر الجليل وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كما في ترجمته لابن الجوزي: "ملاقاة الرجال تلقيح لألبابهم" فهذه يد للشيخ على وإخواني لا يجزيه عليها إلا الله تعالى.
ولقد أتاح لي الإله بفضله ... من ليس تجزيه يدي ولساني
حبرًا لقيت بأرض حلوان فيا ... أهلًا بحبر عاش في حلوان(1/7)
وهذه المدرسة التي وصفت آنفا هي شخص الشيخ حفظه الله تعالى سلفية محضة، لا تكاد تقرأ عن السلف شيئًا إلا وجدته في الشيخ يفعله وببراعة ففي العلم مثال للسلف، فكان يُعقد له مجلس في عوالي حلوان عند منطقة تسمي مدينة الموظفين فكان يُدَرِّسُ فيها الفقه من كتاب (منار السبيل) وأصول الفقه من كتاب وهبة الزحيلي المسمى (أصول الفقه الإسلامي ) فكان بحثًا رشيدًا أريبًا لا درسًا عاديًا كغيره، كأن الله بعث أبا إسحاق الشيرازي الشافعي فدرس هذه المواد وكان يجلس من بعد العصر فبلغ أن قد سجل له بعض الطلبة أشرطة كاسيت لهذين الشرحين فشرح خمس ورقات من كتاب منار السبيل في أكثر من اثني عشر شريطًا، كل شريط يسع ساعة ونصف الساعة وكذا في كتاب أصول الفقه. وحدثني من جلس في هذا المجلس: أن الشيخ شرح مسألة فقال: "هذه المسألة اختلف العلماء فيها على سبعة مذاهب" قال لي محدثي: ثم أغمض عينيه، قلت: وهذا دأب الشيخ، وأخذ في سرد السبعة مذاهب وعزو كل مذهب إلى قائله، ثم عقب بذكر أدلة كُلٍّ، ثم عقب بمناقشة كل دليل، ثم عقب بالتفصيل بين الصحيح والسقيم من الأدلة، ثم رَجَّحَ مع ذكر الدليل من الكتاب والسنة وفعل سلف الأمة ومن الأصول على ما ذهب إليه ورجحه، وكل ذلك وهو مغمض العين لا ينظر في كتاب ولا دفتر عنده يصحح الصحيح ويزيف المزيف وكل ذلك في أسلوب رصين مكين متين.
هيهات أن يأتي الزمان بمثله ... ... إن الزمان بمثله لبخيل
* أما عن الحديث:(1/8)
فلا يعرف قدر الشيخ في هذا الفن إلا من قد درسه ولتراجع على سبيل المثال أخي في الله كتاب الشيخ العظيم (إمعان النظر في تقريب الحافظ بن حجر) لتعلم أنه بقية السلف حقًا والله لكأن الحافظ ابن حجر هو الذي ناقش نفسه لا الشيخ هو الذي ناقشه، ومن أراد معرفة ذلك فليطلع على ما مدحه به الشيخ الألباني كما في ثنايا هذه الرسالة لتعلم قدر الشيخ كيف يمدحه سَيِّدٌ من سادة محدثي هذا العصر بل هو كبيرهم مطلقًا وهو العلامة الألباني رحمه الله تعالى، فقال على كتابه (فتح من العزيز الغفار..) قال: " ففرحت به فرحًا كبيرًا وازداد سروري حينما قرأته وتصفحت بعض فصوله وتبين لي أسلوبه العلمي وطريقته في معالجة الأدلة المختلفة التي منها بل هي أهمها تخريج الأحاديث وتتبع طرقها وشواهدها ... " إلى آخر كلامه وسيأتي بتمامه عند ذكر ثناء العلماء على الشيخ عطاء وَمَنْ مدحه الألباني فقد قفز القنطرة حقًا وكفى بمدح مثل هذا الطَّوْد الأشم للشيخ مفخرة ومنقبة.
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعاد بعد أبوالا
*أما عن الذكر:
فقد رأيت مثالًا للسلف حقًا فلسان الشيخ قَلَّ أن يفتر عن الذكر في جميع أحواله تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالت عنه عائشة رضي الله عنها: "كان يذكر الله على كل أحواله" وكنت أرى من الشيخ في الذكر عجبًا حقًا، فكان في دكانه يبيع ويأخذ المال من الزبائن ثم يعطيهم البضاعة والباقي إن كان لهم وهو في ذلك كله يذكر الله لا يفتر إلا نادرًا يسيرًا إذا تكلم أو اضطر إلى ذلك، وحدثني أخي وكنا مع الشيخ نتعشى عند بعض الإخوة وكان أخي محمد بين يدي الشيخ أمامه فقال لي وقد اغرورقت عيناه بالدمع: لقد رأيت الشيخ يذكر الله وهو يأكل! قلت: يعني كأنه يعطل الطعام في فيه قليلًا ويذكر ثم يستمر في المضغ وهذا لم يتفق إلا لبعض السلف فضلًا عن الخلف إلا ما علمنا من سيرة العلامة ابن باز رحمه الله تعالى.(1/9)
أقول: وكان الشيخ يحثني على الذكر قائلًا: اجعل من وقتك للذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرني أنه لما حج أتى ببعض السبح وعقدها بعضها في بعض حتى كان عددها يربو على الألف حصاة ثم كان يجلس يسبح عليها -ومذهب الشيخ: أن السبحة جائزة وليست ببدعة بأدلة كثيرة أذكر بعضها في الملحق بهذه الرسالة إن شاء الله تعالى- لقد صدقت نفسي فهذا هو حماد بن سلمة.
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضي لكم كلمي
*أما عن أتباعه للسنة:(1/10)
فحدث ولا حرج، أخبرني بعض أصدقائي قال: أتيت الشيخ ببرتقالة في رمضان ليفطر عليها، فقال: لا إلا على التمر، فقال لا أجد الآن هنا تمرًا، قال: إذًا أفطر في البيت على تمر لا أفطر على شيء سواه، قال: فالبرتقالة هدية يا شيخ فأخذها ولم يردها، وكنت أجالسه على الطعام كثيرًا فكان يقول: كلوا في إناء واحد واشربوا في إناء واحد فلقد رغب في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم -يعني في الاجتماع على الأكل- ووضع بجواره الشاي الساخن فتركه فسئل في ذلك، فقال: لا أشرب الحار وذكر حديثًا، وَقَلَّ أن يسئلَ فيفتي بالرأي ليس إلا الحديث والأثر يعظم ذلك جدًا إذا أراد الخروج من المسجد قعد ليلبس النعل قاعدًا والناس يمرون عليه وهو في ذلك لا يتغير على وجاهته وهيبته فيجلس لأجل السنة وكان كثيرًا ما ينبه إذا دعاه أخ على الطعام أن يجعل الطعام على الأرض من أجل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أما هيئته فَسُنِّي مخضرم فالقميص قصير وما رأيته مسبلًا قط لا عمدًا ولا سهوًا مع أنه يذهب إلى كراهة الإسبال لغير الخيلاء -وهذا مذهب الجمهور- ومع ذلك لا يسبل، وقد أطال شعر رأسه تسننًا وكان يأمر به ولو قليلًا.(1/11)
إذا التفت التفت جميعًا وإذا مشي أسرع حتى أنه عرف بهذه السرعة بين الإخوة وإذا تكلم تكلم بالعربية المحكمة -قلت: وعربية الشيخ قوية جدًا، حسن المعاشرة من عرفه أحبه ولا يبغضه إلا حاسدُ أو ناقص كما سيظهر في الملحق بهذه الرسالة إذا سئل أجاب بكل ما يتعلق بهذا السؤال حتى صار جوابه حقًا جواب الحكيم لا يترك استفسارًا للسائل إلا أجاب عنه قبل أن يسأل حتى يقوم ريان من الأدلة والتفصيل وما ذلك إلا لفرط علمه وسعة إطلاعه ووفور ذكائه وسيلان ذهنه لا يمل من كثرة ترديد الإجابة وإعادتها وكلما سكت السائل كلما أعاد الشيخ الإجابة فلا يحوجه إلى قوله أعد أو لم أفقه حتى يشفى العي ويتعلم الجاهل وهو في ذلك قد أسهب وأطيب وأطال من غير إملال وما ذلك إلا لحسن قصده وتقواه واتصاله بالله ولا نزكيه على الله.
وكل يدعي وصلا بربي ... وربي لا يقر لهم بذاك
إذا اشتبكت دموع في عيون ... سيعرف من بكى ممن تباكي
* وأما عن تواضعه وحسن خلقه:
فلقد رأيته سهل الخلق لين الكنف تعتريه حدة هي من حسن خلقه لا سوئها، وهذا لا يفقهه إلا من أمعن النظر في تراجم السلف فسيعلم أن من مظاهر حسن خلق أبي بكر رضي الله عنه غضبه يوم الردة على عمر رضي الله عنه، وشدة عمر في الحق أيضًا من جميل أخلاقه وكذا سائر الصحابة والسلف، وهذا ابن تيمية رحمه الله تعالى كانت تعتريه حدة أهلك الله بها المبتدعة وجلى على يديه السنة، وكذا الإمام النووي رحمه الله حفظ الله به أموال الناس لفرط هذه الحدة في الله تعالى وهذا ضد لا يظهر حسنه إلا بضده إذا جمع معه كما قال القائل:
ضدان لما استجمعا حسنا ... ... والضد يظهر حسنه بالضد(1/12)
فمن رأى الشيخ في حدته رآه أيضًا رقيق الشمائل نبيل الخصائل مستجمعًا لأكثر الفضائل، فَأُقْسِمُ بالله غير حانث: ما رأيت في مرتبته بمن يفعل مثل فعله في معاملة الناس وخفض الجناح لهم لا سيما القريبين منه، ومن ذلك: أنني رأيته بعيني يستمع من غلام صغير ما أتم الثالثة عشرة ومع ذلك فإنه يسأل والشيخ يجيب لا يحتقره ولا يبعده بل يقربه ويدنيه ويجيب عليه كأنه شيخُُ طاعن في السن لا طفل صغير، وسأله بعض الغلمان يومًا في مسألة تختص بالاعتكاف فأراد الشيخ أن يعرف المسجد الذي تدور حوله المسألة فأخذ الغلام وذهب معه إلى المسجد ثم أفتاه بعدما رآه وعاينه ثم رجع فركب وذهب إلى بيته وكان ذلك بعد عناء يوم طويل يعمل فيه في دكانه، وجلس إليه شاب يسأله فأخذ يضع يده على قدم الشيخ عند السؤال ويعلو صوته أحيانًا والشيخ إلى الأرض ينظر لم ينهه ولم يكترث بذلك فلما مضى ذَكَرَ ذلك للشيخ أحد طلابه مستنكرًا فعل السائل فقال الشيخ وبمنتهى التواضع وعدم الاكتراث: ما شعرت بذلك، وقد دق هاتفي يوما فإذا الشيخ يقول لي كلفني فلان أن أخبرك بموعد وليمته فأنكرت الأرض من تحتي كيف يكلف هذا الطالب مثل الشيخ بهذا ولكن إن تعجب فعجب تواضع الشيخ المنقطع النظير في هذا الزمان فلله دره من قدوة ماثله0 وحدثني أخ قال: كان عندي أمر أهمني فأردت أن أسأل الشيخ فكأنني ذهلت من فرط تفكيري في هذا الأمر حتى أنني أرسلت إليه أن ائتني قال: فلم أشعر إلا والشيخ داخل عليَّ في دكاني وهو يقول لي: ماذا أردت؟ ألم ترسل إلي؟ قال: فاستحييت واعتذرت، وحدثني آخر وقد جاء من السوق متعجبًا قال: قد حدث أمر عظيم وأخذ يمدح الشيخ قائلًا: ما رأيت مثله، فقلت له: ما الأمر؟ قال: اشتريت من الشيخ أشياء كثيرة فأردت أن أنصرف فانقطع الكيس الذي أحمل فيه حاجتي فأراد الشيخ أن يحمل معي كيسًا من الأكياس ويوصلني إلى البيت وعمد إلى الكيس بالفعل وحمله وقال لي: هيا امض أوصلك فامتنعت حتى رددت(1/13)
الشيخ على إلحاح منه، ولقد كان الشيخ بيننا كأب حنون يعرف مشاكل كل واحد فينا يفكر فيها ويريد حلها وإبداء المساعدة، فلما رزقني الله تعالى بابنتي هاجر حدث لها شيء في سرتها فأخبرته فأرشدني إلى دواء ومضى يعلمني كيف أستعمله ويواسيني بالتخفيف عني من هذا الأمر قرابة الساعة ثم لما كان في اليوم التالي وجدت وأنا في دكان لبعض إخواني أن قد أتاني الشيخ على غير عادته ثم قال لي: يا سمير كيف حال ابنتك هاجر؟ فبشرته بخير مستحييًا، وكان جيرانه من التجار لا يبالون به كعادة الطغام، فكان بعضهم ربما آذاه بالغناء طوال النهار وبالصوت العالي الأجش ثم يغلق حانوته في آخر اليوم ويترك الكناسة بجوار محله ومحل الشيخ ولا يزيلها فلا يمنع ذلك الشيخ أن يخرج عندما ينتهي من عمل اليوم على سدة محله ويكنسها حتى يتعجب الناس من فعله ذلك ومن فعل جاره هذا! وربما حثه البعض على أن لا ينظف عند الغلام فيسكت وهو يديم الذكر وينظف عند الغلام أيضًا وعدل عن تجارة الحبوب إلى الاتجار في اللحم وكان يقول: إن الذبح الصحيح فرض على الكفاية وأكثر الموجود الآن لا يحسن يستوفي فقه الذبح عمليًا فأرجو أن أسد هذا الباب، قلت: ومن قبل كان قد أثار مسألة حرف الضاد وصلاة الفجر وقبلة المساجد فهذا الرجل رجل أمة يحمل همها كلها فجزاه الله عنا خيرا، فلما تاجر في اللحم حقد عليه بعض جيرانه من تجار اللحم وبينما هو يومًا جالس في حانوته جاء بعض الضباط ومعهم طبيب فأخذوا من عنده ذبيحة ضأن ثمنت بثماني مئة جنيه، فلما انصرفوا رفع جاره صوت المذياع بالغناء وأخذ يرقص ويغني، فقلنا له: ادع عليه يا شيخ، فقال: لا لا أنا لا افعل ذلك، فقال له أخ: لو أعطيتهم شيئا ردوا عليك الذبيحة، فقال الشيخ: لا أعطيهم شيئا، فقلت له: ألم يفت بعض العلماء أن هذا جائز، فقال: نعم وقد أفتى البعض الآخر بعدم الجواز وأنا سآخذ بهذا القول ولن أدفع شيئًا، قلت: فليتعلم طلاب العلم الذين يبحثون عن(1/14)
الرخص ويتركون العزائم حتى في مسائل الخلاف غير المعتبر، ولم يكن الشيخ على هذا الخلق معنا فحسب أو مع جيرانه ولو من غير الملتزمين فحسب بل كان مهتمًا ومغتمًا لأمر الأمة جميعها، فقد سأله أخ وأنا شاهد فقال له: أريد لحمًا كثيرًا لنوسع على الناس يا شيخ ـوكان قد اشترى لحمًا كثيرًا صدقة على الفقراءـ فتجهم وجه الشيخ وقال: كيف يفرح الناس بالعيد والعراق سيضرب، ثم قال بمنتهى الحسرة التي لم أرها في الشيخ من قبل: الناس نائمون، ثم قال: والله لولا أن الله جعله عيدًا ما اتخذناه عيدًا لأجل إخواننًا في العراق، قلت: فكيف بالذين يضحكون ويلعبون ولا كأن إخوانهم يمتحنون!!.
فحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكلُ إناء بالذي فيه ينضح
*أما عن هيبة الشيخ ومروءته وحشمته:(1/15)
فلقد رأيت من ذلك شيئا عظيمًا قَلَّ أن يتفق لأحد في هذا الزمان إلا الأفراد الذين يعدون على الأصابع فيما أعلم وإن كانت الشرطة لتدخل محل الشيخ بمنظر مهيب يبحثون عن اللحم ويتأكدون من الأختام والشيخ في ذلك جالس ما قام لهم ينظر إلى الأرض ولا ينظر إ ليهم والسوق من حوله يرتجف، وكان هؤلاء الضباط يهابونه جدًّا كأشد ما ترى من هيبة، وأحس أنه يتمنى الخروج من محل الشيخ من فرط هيبة الشيخ، فلو كانت هناك تعليمات قالها للشيخ وبكل أدب ثم يسلم وينصرف، وهذا أمر نادر كما هو معلوم لمن عالج هؤلاء القوم وإني لأحدث عن نفسي، فكان الشيخ ربما احتد وهو يتكلم في الموضوع فيعلو صوته فأجد خوفًا في نفسي يعلم به الله تعالى، بل إن لم يتكلم وسكت لكنه لم يضاحكني وجدت ذلك أيضًا وربما قيل: إنني متكلف في ذلك لفرط تعظيمي للشيخ، فأقول: فكيف بمن لا يعرفه ودخل عليه لأول مرة وهو من العوام؟! فلقد حدثني منذ أيام من كتابة هذه الأسطر بعض الإخوة أنه ذهب إلى الشيخ في مسألة، قال: فكنا نرتجف حتى خرجنا من عنده، ولا أبالغ إن قلت: إن كل من خالط الشيخ وجد هذا حتى من الذين لا يصلون فهذا بائع في السوق رأيت منه ذلك بعيني وكان قد باع للشيخ رياشة لتنظيف الدجاج بثمن آجل فجاء يطلب الثمن قبل الموعد فاستأذنت الشيخ في كلامه وتفهيمه الأمر إجلالًا للشيخ أن يعامل مثله فأذن فكلمته فإذا به يتمطى ويشير في كلامه إلى أنه لو أراد سرقتها من الدكان لسرقها وهو في ذلك واضع قدما على أخرى وأنا أريد مسالمة هذا الجاهل حتى لا يحتك به الشيخ، وبينما نحن كذلك إذ دخل الشيخ فإذا به ينزل قدمه العليا عن السفلى ويحمر وجهه ويشير إلى بأصبعه السبابة قائمًا على شفتيه ـ يعني يريد أن يقول: لا تقل له ما حدث ـ فلما تكلم الشيخ، قال له متلجلجًا: يا شيخ قد أنهيت هذا الأمر مع البركة ده - هذه عبارته- قال الشيخ: مَنْ البركة؟ فقال له وأشار إِلَيَّ، فقال الشيخ: سمير؟ طيب، ثم انصرف(1/16)
الشيخ وأخذت أنا وصاحبي نوبخه ونضحك عليه وأخبرت الشيخ فضحك أيضًا.
نور الوقار وعز سلطان التقي ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
*أما عن زهد الشيخ وورعه:
فأمر مشتهر كاشتهار النار على علم، فالكل يعلم ورع الشيخ الشديد حتى أن بعض الجهال يظنه متشددا وليس هو كذلك كما سأبين إن شاء الله تعالى. والمقصود أن الشيخ نسيج وحده في هذا المضمار فاقرأ تجد عجبا.(1/17)
ربما أومأ الشيخ إلى الأرض ليلتقط بعض أوراق الجرائد ثم يضعها في حقيبة معه يحملها دائمًا ولم أكن أعلم سبب حمله لها قبل هذا الوقت، فسئل الشيخ عن هذه الأوراق فقال: هذا الورق من الجرائد من صفحة الوفيات فيها، وتكثر فيه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ لذلك أُجِلُّهَا أن تكون على الأرض وتحت أقدام الناس، وحدثني من كان يعمل مع الشيخ: أنه كان لا يشتري نوعًا من البضائع التي كتب على غلافها اسم من أسماء الله ويشتري غيرها ممن يخلو من هذا ويترك الشئ لأقل شبهة! قال هذا الأخ: إن الشيخ وجد على صفيحة ملح اسمًا من أسماء الله تعالى فأمر بردها ولم يقشطها ليكون قد أمر غيره بالمعروف وقد أتت هذه بثمارها، فحدثني هذا الأخ: أن شركة السكر غيرت اسمًا اتخذته كشعار لها لأجل رد الشيخ عليهم بضاعتهم، وكان حدثهم بالسبب فكان اسم الشركة الكريم فغيروه بعد معرفة المسألة من الشيخ، قلت: فأين هذا ممن يتساهل كأشد التساهل ويعد فعل الشيخ من التشدد بلا طائل؟!! ولقد ترك الشيخ شراء الذبيحة من المذبح مع أنه هو الذابح لها بيده وأخذ يشتري من تاجر مثله وتحمل الفرق، وقال بعض العاملين عنده: إنه ربما ترك الدجاجة لا يبيعها لأقل شبهة طرأت له وكان يشتري الدقيق الأسمر من بعض الباعة أيام كان علَّافًا فأخبر بعد ذلك أنهم يشترون هذا الدقيق من الأفران الحكومية وليس ذلك لهم فقطع الشراء من هذا الدقيق ثم حسب المبلغ الذي دفعه في هذا الدقيق من قبل ثم اشترى تذاكر القطار ثم قطعها، وقال: هذا مال الحكومة وينبغي أن يرد إليها، وأعطاه بعضُ الإخوة يومًا كتابًا وقال: هذا قد طبع على نفقة بعض من كان يضع أمواله في البنوك فلما علم الحكم أفتاه بعض الناس بأن يشتري بفوائد أمواله كتبًا وشرائط ويوزعها مجانًا، فقال الشيخ: هذا غلط وهذه أموال ينبغي أن ترد إلى أصحابِهَا، وأصحابُهَا هم الحكومة فيشتري شيئًا حكوميًا لا ينتفع هو به حتى لا يرد المال إلى البنوك فتعمل(1/18)
به في الربا مرة أخرى، فقال له الأخ: فانظر في الكتاب وقل لنا ملاحظاتك على كاتبه، فقال: لا أنظر فيه0 قلت: فليت شعري أين طلاب العلم لينهلوا من ورعه بل من ورع السلف؟! فإن عمر بن عبد العزيز كان قد دخل في بيت المال وفيه مسك للمسلمين فَسَدَّ أنفه، فقال له الحارس: يا أمير المؤمنين يرحمك الله إنك لم تأخذ منه شيئًا، فقال: ويحك وهل ينتفع منه إلا بريحه؟!! ولكن هذا أمر لا يعرفه كثير من الطلبة الآن إلا باسم التشدد والتعسير على الناس ولا يعلمونه الناس إما لعموم البلوى أو لأنهم ما تعلموه أصلًا !! وهذان أمران أحلاهما مر!!0
فإن كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم.
*أما عن ملبس الشيخ:
فمتواضع جدًّا وكأنه منذ سنين لم يأتي بغيره ومع ذلك لم يتخرق وقالت إحدى العابدات: إنما يخرق الثوب من المعاصي وقد لبس الأمام أحمد نعله ستة عشر عامًا ما غيرها ولا أبدلها، وآثار السلف في الزهد كثيرة جدًّا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها". رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
والشيخ إن شاء الله من أهل هذا الحديث فلباسه كما وصفت ويزيد أنه خفيف في شدة البرد ترى الشيخ خفيف الملبس جدًّا حتى يشفق الناظر له عليه، ومع ذلك فإنه لا يكترث إيثارًا لما عند الله تعالى وإن كان هذا الأمر ليس واجبًا كما هو ملاحظ في الحديث لكن يجمل بأهل الفضل، وقد كان أُوَيْسٌ القرني ليس له إلا قماشة على ظهره، وقال الإمام أحمد: الزهد ما كان عليه أُوَيْسٌ لم يجد من الملبس شيئًا حتى جلس في قوصرة من العري. وبالجملة فحال الشيخ هي التي نقرأ عن السلف في الكتب فلله دره من مُحْيِ لسيرهم وباعث لأخلاقهم ولله دره من مؤثر ومحب لله على من سواه.
عذابي فيك عذب ... وبعدي فيك قرب(1/19)
وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني لما تحب أحب
* أما عن غضب الشيخ لله تعالى وصدعه بالحق وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
فحدث ولا حرج، فكان رجل من جيران الشيخ في السوق يكثر أن يسب الله والدين ولا يصلى فسمعه الشيخ فجاءت امرأته تريد الشراء من الشيخ فنهرها ونهره وقال لهما: لا تشتروا من عندي شيئًا وأمر ولده عبد الله ألا يبيع لهما حتى ولو كان غائبًا ليرتدع ويعرف خطأه، وربما قال قائل: لو دعاه لكان خيرًا من ذلك، فنقول: هذا قصور في الفهم؛ لأن الهجر دعوة، وقد أَلَّفَ السيوطي رحمه الله رسالة تبين ذلك أسماها( الزجر بالهجر) وقد رأينا من ذلك ما شاء الله تعالى على يدي هذا الشيخ المبارك حفظه الله، فإني كنت عند الشيخ يومًا فجاء شاب ليسلم عليه فلم يرد عليه السلام ومنعنا أيضًا من مصافحته، فقال الشاب: أعلم أن ذلك من أجل أني أسب الدين يا شيخ وخجل وأخذ يعتذر.(1/20)
وفي مسجد السوق انحرفت القبلة كثيرًا أو إن صح اللفظ انحرف الناس عن القبلة فعلم الشيخ بذلك؛ لأنه دائمًا يحمل بوصلة معه فلما عرض الأمر على إدارة المسجد أَبَوْا أن يعدلوا الصف أو ينبهوا المصلين بذلك فامتنع الشيخ عن الصلاة هناك وامتنعنا معه وكان من العجيب أن بعض العوام أيضًا قد امتنع حتى خف الناس في المسجد جدًّا وأجبر الرجل على أن يأتي الشيخ ويعتذر عما بدر منه في حق الشيخ على أن يضبط الشيخ لهم القبلة فكان الأمر كذلك ورجع الناس ولله الحمد والمنة، فهذه هي ثمرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لله تعالى وهجر العاصي في الله تعالى فبمثل هذا فليعمل الصادقون وقد هجر عبد الله بن مغفل رضي الله عنه ابنَ عمه من أجل سنة واحدة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم فرآه يخذف فنهاه وحدثه بالنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأتمر وكان غلامًا حدثًا ومع ذلك قال له عبد الله بن مغفل: والله لا كلمتك أبدًا، قال النووي رحمه الله في شرحه للحديث: وفيه جواز هجر العاصي دائمًا، فهذا هو المعين الذي ينهل منه شيخنا حفظه الله تعالى.
إن كنت ويحك لم تسمع مناقبه ... فاسمع مناقبه من هل أتي وكفى
*أما عن دعاء الشيخ(1/21)
فأقول مقدمًا بين يدي هذه الفقرة أن كرمات الأولياء والعلماء قد قررها أهل العلم في كتبهم وحضوا الناس على مصاحبة الصالحين والتوسل إلى الله بدعائهم وقد استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم واستسقي عطاء السليمي ببعض العباد، وهذا الأمر فيه مذلة أقدام بين الإفراط والتفريط، ونحن أمة وسط، فلا نقول: إن فلانا يدعي علم الغيب مثلًا وأيضًا لا نقول: إن هذا الأمر بدعي ومنكر، والوسطية أن نثبت للأولياء كراماتهم ولا نتعدى هذا الحد إلى ما ينافي الإسلام والعقيدة الصحيحة وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على سؤال الدعاء بالمغفرة من أويس القرني فلم نر عمر رضي الله عنه تمسح به أو سجد بين يديه أو لحس يده لكن سأله الدعاء وفقط، وكذا تكون الوسطية فكم تعنّى الناس من إنكار أشياء هي من الدين لا لشيء إلا عصبية لقول قائل أو لفتوى مُفْتٍ، وقد قال السخاوي في الفتح: كانت أسماء الفقهاء السبعة توضع في أوراق وتوضع الأوراق في الشيء يدخر فلا يقربه السوس ولا الآفة، وكانوا يضعون الموطأ في يد المرأة التي ضربها المخاض فتلد وبسهولة وسرعة مذهلة، وهذا مالك بن دينار كان في أصحابه فقام رجل يشتمه ومالك ساكت حتى أكثر عليه فقال: اللهم إن هذا قد عطلني عن ذكرك فاكفنيه بما شئت فسقط الرجل ميتًا، وقال بعض العلماء لطالب عنده: لا تنتفع بهذا الحديث الذي تكتب - يدعو عليه- فمات الطالب قبل أن يبث منه حرفًا، وتفرس الشافعي في البويطي فقال: أنت تموت في الحديد فكان كذلك في فتنة خلق القرآن، إلى غير ذلك من كرامات ودلالات تبين أن لهؤلاء العلماء فضلهم وأيضًا هي نقمة على أعدائهم، وقد دعا أبو مسلم الخولاني على امرأة خببت زوجته عليه فعميت، وإنما ذكرت هذه التوطئة حتى لا يتطاول الغمر ويستغرب الجاهل الأمر الذي سأذكر عن شيخي والله المستعان0 تقول زوجة الشيخ: لما كان الشيخ يؤدي الخدمة العسكرية قال له بعض أصحاب الرتب العالية(1/22)
لما رأى عليه جميل الخصائل ومخايل النجابة قال: يا شيخ عطاء -هكذا كانوا يدعونه في الجيش- إني تزوجت امرأتي هذه منذ سنين وأنا أحبها غير أنها لا تنجب ولا أريد طلاقها فادعو الله لي أن يرزقني بالذرية الصالحة، قالت: فدعا له الشيخ طويلًا وبعد فترة وجيزة إذا بهذا الرجل يأتي الشيخ ويقبله ويقول: إن زوجتي حبلى يا شيخ عطاء، وهو في ذلك يشكر الشيخ ويقول: لا أنسى هذا المعروف، وقد رأيت أشياء إن دلت فإنما تدل على أن الشيخ ممن يلتمس دعاؤه لصلاحه ومراقبته وورعه فقمن أي يتقبل الله دعاءه، وهذا أمر برهانه وجوده ودليله وقوعه وحدوثه.
آثاره تنبيك عن أخباره ... ... حتى كأنك بالعيان تراه(1/23)
فهذا صديق لي كان أبوه دائمًا معارضًا له ومخالفًا وسابًّا له وشاتمًا فنزل الأخ يومًا مغضبًا من أبيه فأتى الشيخ وقال له: يا شيخ حدث مع أبي كذا وكذا فادع لي فدعا له الشيخ بصلاح الحال، يقول الأخ: فرجعت فدخلت غرفتي وفتحت كتابًا وجعلت أذاكر وإذا بباب حجرتي يفتح ويدخل منه أبي ومعه كوب من الشاي وضعه أمامي ثم ربت على كتفي بحنان لم أعهده من قبل ثم قال: وفقك الله يا بني ثم خرج، قال الأخ: فعجبت من ذلك وعلمت أن هذا ببركة دعوة الشيخ وقد رأيت من ذلك بنفسي وأنا مع الشيخ في زيادة منذ أن عرفته وإلى ساعة كتابتي لهذه السطور ولله الحمد وقد حدث معي شئ من هذا الضرب ففي شهر رمضان الفائت 1423هـ كانت زوجتي حبلى بولدي بلال حفظهم الله جميعًا، وكان من أمر هذا الحمل أنه كان منذ بدايته شديدًا حتى أن المشيمة كانت قد تدلت إلى عنق الرحم وقضت الطبيبة المختصة بأن الولد لو نزل سقطًا سيكون بإجراء عملية جراحية ولو لم ينزل سقطًا فكذلك أيضًا، قالت الطبيبة: والأرجح أنه سينزل سقطًا فركبني شئ من الهم فأتيت الشيخ وطلبت منه الدعاء فدعا لي بخير ثم انصرفت وما هي إلا أيام حتى قالت الطبيبة وهي متعجبة في غاية العجب: إن المشيمة قد ارتفعت إلى وضعها الطبيعي والولد في أفضل أحواله وكانت ولادته من أفضل الولادات بفضل الله عز وجل ثم بدعاء الشيخ المبارك، وقد يقول قائل: أبدع به عن سلفه وضل الطريق ولم يبق له من الزاد إلا الحقد وقلة العقل إن هذا كان شيئا مقدرًا حصل هكذا اتفاقًا فيقال لمثل هذا:
ومن يك ذا فم مرًا مريضًا ... يجد مرًا به الماء الزلال(1/24)
وختامًا أقول أخي في الله: هذه كلمة موجزة جدًّا جدًّا عن هذا العالم الضخم المدره و إلا فهو يستحق أكثر من ذلك، ولو أطلقت العنان للقلم فربما لا يكفي ورق طويل ومداد كثير فالشيخ بئر عميقة هيهات أن يتوصل المرء بعبارته إلى قعرها لكن اللبيب يفهم بالإشارة أما المستكبر فلا تنفعه رزمًا من الأوراق وبحارًا من المداد ولكن حسبي من هذا الجهد الضئيل أن أرد العجز إلى الصدر وأجعل بما ذكرت وبما سأذكر إن شاء الله لمكسور همتنا جبر، أما الشيخ فهو أعظم من أن يصفه كلمي أو أن ينبه على شأوه قلمي لكن هذا ما تحصل للنظر الكليل والذهن الضئيل فما كان من توفيق فمن الرب الجليل وما كان من خطأ فمني وأستغفر الله في كل قيل0
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل
... أما والآن فأشرع إن شاء الله في ترجمة الشيخ حفظه الله والتي أسميتها ( تلقيح اللباب بسيرة صنو الأصحاب)
( تلقيح اللباب بسيرة صنو الأصحاب)
قال الشيخ محدثا عن نفسه(1/25)
اعلم علمني الله وإياك أن ترجمة العالم لنفسه لا شيء فيها مطلقًا، وعلى ذلك درج السلف وكانوا أحرص الناس على الخير رضي الله عنهم فهذا سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم يقول : (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فذكر نسبه وهذا من عيون التراجم، وقال ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم، وقد ذكر كيفية طلبه للعلم وصبره على ذلك، وقالت عائشة رضي الله عنها: فُضِّلْت على صواحباتي بعشر خصال، وكذلك ذكر عمر رضي الله عنه كيفية طلبه للعلم مع جاره الأنصاري، وكذلك مَنْ بعدهم فقد ترجم النووي لنفسه في طلبه للعلم، وكذا العسقلاني وله معجم سمى فيه شيوخه والسيوطي ترجم لنفسه في حسن المحاضرة وابن باز والألباني رحمهم الله جميعا، وهذا شيخنا النادرة يجيز هذا الأمر على ورعه الشديد المعروف وإيثاره للخمول لكن لما في الأمر من المصلحة الظاهرة رضي الكل بذلك0 وإن كان البعض يقول: لم يكونوا يترجموا للأحياء!! قلت: هذا عجب فلقد ترجم الإمام الذهبي للإمام ابن كثير وقد مات ابن كثير بعده بزمن طويل والذهبي شيخه، وقد قدمت بهذه المقدمة حتى أرد الاعتراضات التي ربما تدور في أذهان البعض الذين أنا لهم مجرب،فلقد اعترضوا على الشيخ بأشياء يخر العاقل منها على قفاه ضحكا فأردت تقديم الأدلة هذه لإقناع المنصفين وإن كنت أعلم أن هناك من سيعترض أيضا وبعد هذه ألأدلة السابقة فإن حب الاعتراض المجرد عن الدليل مرض عياذا بالله تعالى من ذلك ولله در الشيخ كان كثيرًا ما يقول لنا إرضاء الناس غاية لا تدرك0 والله المستعان0
قال الشيخ: ولدت في الشرقية في قرية المعالي (كفر قرموط) 1-6-1944 م0(1/26)
قال: وأراد والدي أن يعلمني في الأزهر لكن لم أستمر وآثرت المدارس ألأميري على الأزهر، وكنت أجلس في مجالس الوعاظ بالقرية وآخذ منهم، وكنت أسأل أبي عن بعض المسائل الفقهية وكان أزهريًا، وكنت لا أقرأ إلا في العطلة الصيفية لأنني كنت أنشغل قبل ذلك بالدراسة 0 وبدأت الاجتهاد في الطلب بعد انتهائي من المرحلة الثانوية0
عجيبة من العجائب:قال الشيخ: أنفع شيء للجد في الطلب هو الخوف0 فلما علمت أن القرآن فرض على الكفاية أقسمت بالله تعالى أيمانا مغلظة أن أحفظ القرآن في شهر !!! وبالفعل استعنت بالله تعالى وبدأت أحفظ حتى رزقني الله به في شهر كما نويت فأبر الله يميني ولم أحنث0 قال: وأذكر أنني ذهبت إلى مسجد الاستقامة بالجيزة، وكنت أسكن هناك فمكثت فيه أربع ساعات فحفظت الجزء الأول من سورة البقرة!!!
هيهات أن يأتي الزمان بمثله إن الزمان بمثله لبخيل
قال الشيخ: وكنت أقرأ في رياض الصالحين وهو عند أبي وكنت أقرأ في الفقه لتصحيح العبادة وقرأت نيل الأوطار والقول المفيد في حكم الاجتهاد والتقليد للشوكاني، وذلك من أجل أنني علمت أن الاجتهاد واجب على البعض لوجوب إتباع الدليل فمن ثم قرأت فيه0 قلت: فكان الخوف هو الدافع على كل خير والله الموفق للصواب0
الشيخ في الجامعة:
لقد أصبحت الجامعة منفذًا لكثير من الشرور حتى هم المرء أن يبحث عن من يفتيه بحرمتها، لكن الرجال يثبتون جدارتهم في كل مكان والمحنة تميز الناس والله المستعان0
قال الشيخ: كنت أعتقد أن الجامعة مكان معصية من أجل الخلطة وغيرها ولكن ما بد، ففكرت في ذلك فعزمت على أن أدخل المحاضرة آخر الطلبة وكنت أقعد في المدرج القريب من الباب؛ لأكون أول طالب يخرج من المدرج وهكذا حتى انتهيت من الجامعة، قلت: يا لله العجب فإن هناك من الدعاوي التي تحض الطلبة على مصاحبة الفتيات المتبرجات من أجل الدعوة - زعموا-!!!!(1/27)
قال الشيخ: وفي الامتحانات تتشوف نفوس الطلبة إلى بعض الدقائق الزائدة عن الوقت المحدد، فقال المراقب يومًا: سأعطيكم ربع ساعة على الوقت المحدد، ففرح الطلبة كثيرًا وشكروه، لكنني نظرت فوجدت أن هذا ليس بجائز وليس لهذا المراقب الحق في ذلك، فلما انتهى الوقت المحدد أغلقت الورقة ولم أنتفع من هذا الوقت الزائد بشيء -قلت: هذا لا يستطيعه إلا الأفذاذ الذين يخافون من الله ويقاومون أنفسهم وشهواتهم مراقبة لله0
قصة عجيبة عن الشيخ:
إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثقلًا عظيمًا في الإسلام وبه يأتي الإسعاف من الله عز وجل وقد قال الحافظ في الفتح: (000 الأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف وإن أدي ذلك إلى فراق الوطن)، فاقرأ أخي هذه القصة العجيبة عن الشيخ هذا النادرة شبيه السلف بحق0
فهناك حقبة من الزمان هامة جدًّا في حياة الشيخ حفظه الله تعالى وهي فترة خدمته العسكرية فقد ظهرت فيها من الشيخ أعاجيب، ولولا أن الشيخ هو الذي حدثني بها بنفسه لما استطعت تصديقها من غرابتها أو إن شئت فقل: من ضعف القلب عن القيام بأحكام الله تعالى والثبات عليها وفي أحلك الظروف!!.(1/28)
قال الشيخ: تخرجت من كلية الهندسة وبعد أن أتممت الدراسة تحتم عَلَيَّ أن ألتحق بالجندية؛ لأنهم إنما كانوا أخروني عن الخدمة العسكرية من أجل الجامعة فذهبت بلحيتي فقيل لي: احلقها فأبيت فقيل: إن لم تحقلها عوقبت بالمحاكمة، وتحت الضغط حلقتها ثم مكثت في الجيش أسبوعين ثم أعطوني أجازة فتغيبت عن الجيش أربعة عشر شهرًا؛ وذلك من أجل حلق لحيتي وكانت فترة عجيبة تركت بيت أبي؛ لأنه قد غلب على ظني أنهم سيبحثون عني في بيت أبي ثم ذهبت إلى المعادي وأستاجرت هناك حجرة وأشار عليَّ البعض أن أبيع بعض الحلوى وقالوا: خذ صندوقًا وطف على المحلات فطفت طويلًا والناس لا يريدون الشراء؛ إذ لكل بائع رجل يبتاع منه ولا يريد تغييره فتركتها، ثم عملت محفظًا للقرآن للأطفال الصغار وقد استأجرت مكانا؛ لذلك قال: وكنت آتي مسجد الفتح بالمعادي فجلست يومًا وكان إمامه يعطي دروسًا فأخطأ في أشياء رددتها عليه في المجلس فلما انتهى من المجلس نهرني واتهمني بأشياء إلا أنه لم يستطع إلا أن يقول للناس فيما بلغني بعد: هذا الرجل فقيه فاطلبوا منه العلم، ثم قال: وضاقت عليَّ المعيشة جدًا حتى أنني عزمت على الرجوع للجيش حتى أعمل بعد انتهاء الخدمة العسكرية بشهادتي كمهندس فرجعت إلى بيت أبي تحسبًا أنهم سوف يأتونني هناك، لكن لم يحدث ذلك فدخل عليَّ أبي يومًا وقال لي: لقد رأيت لك رؤيا وتفسيرها أنك لو أمسكت على دينك ستنجو، قال الشيخ: إنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأقسمت بالله حينها ألا أحلق لحيتي أبدًا، وتوكلت على الله وذهبت إلى الوحدة الأساسية بلحيتي وبالقميص!!، فلما رآني أحد القادة هناك وكان ضابطًا، قال لي وقد اعتنقني: أين كنت يا شيخ عطاء كده تعمل في نفسك كده! ثم تركني أبيت في مكان الجنود!!! ثم لما أصبحت لبست ملابس العسكرية وخرجت أمشي فتعجب الناس من هيئتي! هل هذا شكل لجندي يلبس ملابس الجندية ومع ذلك لحيته كبيرة ضخمة حتى هَمَّ بعض(1/29)
المسئولين هناك أن يبطش بي لولا أن الضابط الذي استقبلني لما جئت كان قد أوصاه على الجندي عطاء، فلما قيل لهذا المسئول هذا الكلام تركني ورحب بي وقال: أهلًا يا شيخ عطاء وأجلسني وكف عني، ثم قيل لي بعد ذلك: لابد لك من المحاكمة العسكرية من أجل التغيب ثم لم يقل لي أحد: احلق لحيتك وما فعلت!! ثم قيل لي: أبشر فالقاضي هناك يصلى ويعرف الله ولن يضرك كثيرًا إن شاء الله تعالى، قال الشيخ: ومشيت إلى مكان المحاكمة قرابة ثمانية كيلو على قدمي ثم كان قد قُدِّرَ لي أن القاضي المسلم قد مرض وكان بدلًا منه قاض نصراني، وأيضًا لم أحلق لحيتي فلما حاكمني لم تكن محاكمتي من أجل لحيتي إنما كانت من أجل تغيبي؛ لذا لم يتعرض للحيتي من قريب أو بعيد ـ قلت: لكن هذا من بركته وهيبته بما قدر الله له ذلك و إلا فهو يحاكم كجندي فكيف بهذه اللحية الطويلة لكن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كرامات وإسعافات من الله لا توصف- قال الشيخ: وحكم عليَّ بإحدى عشر شهرًا سجن ثم تأدية الخدمة بعدها ثم كانت حياته معهم أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وظهرت هناك أشياء عجيبة قصها الشيخ فقال: قضيت السجن في المسجد ولم أدخل سجن الوحدة إلا قليلًا فكنت أؤذن وأصلى بهم وأخطب الجمعة، قلت: ولم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في هذه الظروف فقد حكى لي أن خطيب الوحدة الأزهري قام فخطب يوم الجمعة فلما نزل ليصلى لحن في صلاة الفاتحة فقرأ: (الذين) بالزاي بدل الذال وهذا مبطل للصلاة، قال الشيخ: فقمت بعد أن انتهي من خطبته وبينت للناس أن الصلاة باطلة فأعاد بعضهم الصلاة، قلت: لا يخفى أن في المسجد ضباطًا كبارًا لا يستطيع الجندي العادي أن يقف أمامهم فقط فكيف بالجندي السجين؟!! فلما رأى الخطيب الأزهري قوة الشيخ العلمية وسعة إطلاعه اتخذه معلمًا، فكان الشيخ يذاكر له في المواد العلمية لا سيما وهو ذاهب للامتحان ثم كان الشيخ بعد هو إمام المسجد الشامل، حتى أنه(1/30)
حدثنا قال: كنت أصلى في رمضان بهم التراويح أقرأ قراءة خفيفة ثم أصلى بعدها مع بعض الجنود الذين يؤثرون الإطالة، قال: فكنت ربما أصلى بهم الركعتين بسورة البقرة كاملة!! قلت: ولحبه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه لمَّا دخل سجن الكتيبة وجد كبيرهم هناك يأخذ حصة أكبر من الطعام والشاي و ذلك لأنه كان خياطًا يخيط ملابس أكابر الضباط فأنكر الشيخ عليه ذلك وطلب المساواة بين المساجين وقامت معركة بينه وبين هذا الرجل انتهت بأن قد أذعن الكل لمراد الشيخ، وكان هدي الشيخ الظاهري هداية في نفسه فإدمانه للذكر منذ الصغر أثار عجب المساجين حتى ظن بعضهم أنه مصاب بمرض في فمه يجعله يتحرك هكذا، قال الشيخ: ورزقني الله بمن قد تاب على يدي فقد كان هناك شاب أسرف على نفسه في المعاصي فكان يصلى معي وتاب إلى الله عز وجل ولما جاء أهله لزيارته عرفهم عليَّ وقال: اشكروا الشيخ عطاء لقد تغيرت بسببه، قال: وعظموني هناك جدًا لأجل حكايات ذكرت عني منها أن البات جاويش الذي أمسك بي لحلق لحيتي قسرًا بعد عودتي إلى الجندية قال هذا الرجل لقد سببته يومًا فانحرف فمي وحدث به اعوجاج والضابط الذي أخرجني من المسجد وأعادني إلى السجن حدثت له مصيبة كبيرة بعد أيام فإذا به يقول لي: يا شيخ عطاء هل دعوت عليَّ؟ قال الشيخ: وكان الجندي المسجون إذا أراد الخروج خرج على ذمة جندي مثله، لكنني كنت على ذمة ضابط!! وهذا أمر لم يحدث في الجندية أبدًا، قال: وكنت أُكْثِرُ من الذكر وأنا في السجن وحضرني قول الله عز وجل:(فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (الصافات:143)(1/31)
قال: فأكثرت من التسبيح والاستغفار الذي أثار عجب الحاضرين، قال: ومن العجيب أنني خرجت يومًا وبلا تصريح وأنا محكوم عليَّ بالسجن لا أخرج منه أبدًا فضلًا عن أن أخرج من الكتيبة حتى تنتهي مدة السجن ومع ذلك خرجت من أجل دخول عيد الفطر، قلت: ما خرج الشيخ للنزهة وإنما خرج للأمر بالمعروف أيضًا، خرج لأجل أحكام زكاة الفطر وكثرتها وقلة علم الناس فيها، كذا قال، كأنه أراد الخروج لأجل تعليم أحكام الزكاة للناس فَقَبَّحَ اللهُ أَلْسِنَةً لَا زالت تشيع أنه لا ينفع أحدا بعلمه ولا يبثه، قال الشيخ: ولما عدت إلى الوحدة الأساسية أدخلوني السجن من أجل خروجي بلا تصريح ثم خطبت لهم الجمعة، وكان حضرها قائد كبير وكنت أتحدث عن سب الدين، فلما انتهيت قال لي: لقد خطبت يا شيخ عطاء خطبة بديعة إذا أردت أي شئ فأرسل إلى ومحى لي تغيبي عن السرية. قلت: فماذا يقول الذي أشاع أن الشيخ لا يصلح للعوام فهذه خطبة علمية محضة لا يتخيلها المرء إلا هكذا، ومع ذلك فهمها الناس لكنه َوَحر الصدر والله المستعان، قال الشيخ: فخرجت في عيد الأضحى بعدها وبتصريح من هذا القائد ثم فرج الله عني لما علمت أن هناك ما يسمي بكشف عائلة يثبت أن العائل كبرت سِنُّهُ وأن ولده هو العائل الوحيد فحينئذ يعافى هذا الولد من الخدمة العسكرية وكانت هذه المواصفات تنطبق عليَّ فخرجت من العسكرية تمامًا وباشرت حياتي بعد، قلت: ولا أنسي أخي في الله تعالى ألا أترك هذه الحقبة من حياة الشيخ تمر كالهباء المنثور ولكن ينبغي أن نتعلم منها أشياء، من أهمها: أولا: معرفة الشيخ وقدره وأنه منّة من الله علينا أهل حلوان حيث يعيش بيننا.(1/32)
ثانيًا: منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي اعتبرها البعض الآن تفريقا وفتنة ولا تنبغي حيث إن الخرق متسعًا وينبغي اعتباره فانتهكت حرمات الله تعالى وتفشت البدع ولا زال الخرق متسعًا ويتسع ولا حول ولا قوة إلا بالله!!! ثالثا :أن الأمر بيد الله تعالى يصرفه كيف شاء فكن على الجادة ولا يضرك كثرة المخالفين0
( ثناء زوجة الشيخ عليه )(1/33)
إن من البدهي عند كل ذي لب رام ترجمة لعالم أن يسأل زوجته ذلك لأنها من أوثق المراجع حيث هي تعرف كثيرًا مما خفي على غيرها؛ ذلك لأنه لا يستطيع تخبئة شيء من عبادته وسلوكه وتقواه عنها إلا بالعناء المعنّي والتي واللتيّا، من أجل ذلك كان هذا الباب بالنسبة لي من المفاخر تحصيلا وتدوينًا ونشرًا لتحصل الأسوة به وليعرف قدر الشيخ حفظه الله، وقد أدلت هذه الزوجة الفاضلة المثالية هذا البيان عن الشيخ لزوجتي، فتفضلت وقالت: التزم الشيخ وهو ابن ست عشرة سنة وكان قد تورع جدًا منذ نعومة أظفاره في الالتزام فنظر إلى أمر المعاصي وأنكرها وهجرها جملة وتفصيلًا وتحمل أشياء كثيرة وشديدة على النفس جدًا من جراء ذلك، ومن ذلك أنه كان يركب الأتوبيس فتفكر فيه فوجد أن المتبرجات والمدخنين وغيرهم من أصحاب المعاصي التي يظهرونها تجمعوا في هذه الحافلة فصارت الحافلة مكان معصية ومع أنه يسوغ له الترخص في ركوبها؛ إذ أنها تقصر المسافة وتقي الجسد من عناء السير الطويل وتنجز المصالح الكثيرة إلى غير ذلك من فوائد، لكنه مع علمه بفوائدها أخذ على نفسه ألا يركبها غضبًا لله تعالى ومنابذةً وهجرًا لأصحاب المعاصي، قالت أم يحيى زوجة الشيخ: فكان يمشي على قدميه ليقضي مصالح نفسه وكان يقصر الطريق على نفسه بالذكر، فقال لها: كنت أقول عليٌ أن أسبح ألفًا وأنا ذاهب، وكذا وأنا عائد وأصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ألفًا، قال: فكنت لا أحس بنصب المشي يقصر ذلك ويذهبه ذكر الله تعالى، قلت: فإن قيل: عطل مصالح نفسه ولا يقول بذلك أحد فإن في مثل هذه المواصلات فوائد لا يستغني الناس عنها غالبًا، قلت: كن سلفيًا تشفى من وساوسك فإن السوق أيضًا لا تقل فوائده عن هذه المواصلات بل هي أعظم بكثير، فإنه الطعام والشراب والذي به قوام الأبدان ومع ذلك كان أهل التراجم يثنون على بعض السلف عند الترجمة لهم فيقولون: ما دخل السوق قط أو لم ير في السوق قط فلله در الشيخ من(1/34)
سلفي مطبق وعابد منذ نعومة أظفاره نفعنا الله بصحبته. قالت أم يحيى: وقال لي: إنه عاهد ربه ألا يكذب وكانت ترى منه في ذلك عجبًا، قالت: فربما أصنع له الطعام الشهي اللذيذ فأقول له: ما رأيك فيه؟ فيقول: متوسط فأعجب من قوله هذا حتى فوجئت بعهده هذا مع الله والشيخ منذ نعومة أظفاره لم يكذب في أدنى شيء، قلت: ويجوز للشيخ أن يترخص بشيء من التعريض في ذلك كأن يقول: هذا أفضل طعام يقصد اليوم أو يقول: ما أكلت مثله يعني في نفس اليوم إلى غير ذلك من تعريضات سائغة مباحة، لكنه أورع من ذلك وإذا كان قد عاهد الله على ألا يكذب فلا للكذب ولو كان مباحا غفر الله للشيخ وحفظ عليه عهده ونفعنا ببركته آمين.(1/35)
*وأما عن عبادة الشيخ: فتقول أم يحيى: تزوجت الشيخ منذ ثلاث وعشرين سنة ما رأيته ترك نافلة قط ولا ترك قيام الليل أبدًا وكان يشتد في رمضان جدًا حتى أنه صلى بنا في البيت أول ليلة في رمضان فركع بعدما أطال القيام جدًا فأطال الركوع أيضًا حتى ظننت أنني سأصاب بالدوار وسجد فأطال حتى كاد الدم من طول سجوده أن ينقذف من أنفي وأطال حتى أنه قرأ في هاتين الركعتين بثلاثة أجزاء، وقالت: لي معه ثلاث وعشرون سنة ما فاتته صلاة الفجر قط إلا مرة واحدة استيقظ فيها وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله فاستيقظت على حوقلته وكانت الساعة السابعة وقد خرج معه بعض الناس في رحلة العمرة فلما جاؤا حدثوا عنه عجبًا، قالوا: كان ربما لا ينام وكان في غاية الشدة في العبادة حتى أنهم قالوا لي: كيف يقدر الشيخ على هذه العبادة ربما نام أقل من ثلاث ساعات ثم ينبعث للقيام والذكر والصلاة وقراءة القرآن وكان يقول لنا: هل جئتم لتناموا؟!! ثم قالت: والشيخ يقرأ القرآن عن ظهر قلبه وهو به ماهر جدًا ومع مهارته يحب أن يقرأ من المصحف، قلت: وحدثني ولده عبد الله أن الشيخ يقرأ ورده كل يوم تسميعًا لا ينظر في المصحف، قلت: لقد ذكرنا الشيخ بالسلف فهذا مسروق بن الأجدع حج فما نام إلا ساجدًا كما قال الذهبي في السير.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... ... إن التشبه بالكرام فلاح(1/36)
*وأما عن طلب الشيخ للعلم: فتقول أم يحيى: لقد رأيت علماء كثيرين كانوا لنا جيرانًا لكنني ما رأيت مثل الشيخ قط لا يتواجد في البيت إلا ومعه الكتاب وإذا دخل مكتبته مكث بالساعات لا يطلب طعامًا ولا شرابًا ولا كوبًا من الشاي كغيره، وربما أخبرته بوجود الطعام فلم يخرج إليه حتى أكون أنا التي أذكّره فيقول لي: والله لقد نسيت، وربما لا ينام إلا ثلاث ساعات ثم يقوم مجدًا في طلب العلم وربما نام أكثر من ذلك قليلًا على حسب طاقته، ولعل هذا هو الحادي لأخي على أن يزوجني من الشيخ حيث كان يقول: ما رأيت مثله قط، قالت أم يحيى: بدأ الشيخ حياته العلمية بدراسة الفقه، قلت: فصار مزكى فيه وهو ابن أربعة وعشرين سنة كما سيأتي في ثناء الشيخ محمد عمرو، قالت: ثم اعتزل الناس ثلاث أو أربع سنين وعكف على طلب الحديث، قلت: فصار ممدوحًا فيه أيضًا من قبل الأكابر كالعلامة الألباني، قالت أم يحيى: وكان يأتيه الدكتور محمد عبد المقصود فيستفتيه، وكذا كان يأتيه الشيخ: مصطفى محمد و نخبة من العلماء كانوا أيضًا يأتون الشيخ للفتوى ومناقشة المسائل، قالت: وما رأيت أحدًا دخل على الشيخ قط إلا كان معه كالطالب بين يدي أستاذه، وقد أتاه بعض العلماء في مسألة ليناظروه فعرضوا أدلتهم في ربع ساعة تقريبًا ثم تكلم الشيخ تمام الساعتين حتى أبهرهم بعلمه، قالت أم يحيى: ربما كَلَّ الشيخ من القراءة فيستطرح على الفراش وحتى ينام يأمرني أن أقرأ له. قلت: يا لله العجب ما سمعنا بهذا إلا في آبائنا الأولين.
هيهات أن يأتي الزمان بمثله ... ... إن الزمان بمثله لبخيل(1/37)
*أما عن بكاء الشيخ وتأثره بالسلف: فتقول أم يحيي: إن الشيخ يخفي هذه الأشياء جدًا حتى لا تكاد تراها عليه. قلت: يراها عليه ويعرفها من قرأ عن السلف ونظر إلى قسمات وجه الشيخ حفظه الله تعالى فلا مدفع لهذا البكاء أبدًا إذ الدنيا لا تخلو من مواقف مؤثرة ربما كانت هذه المواقف في الخلوة وربما كانت في الجلوة ولابد أن يعرّف اللهُ الناسَ بأقدار عباده الصالحين فالبخاري كان يخفي دخوله المسجد لالتقاط الشوائب العالقة بأرضه لكن أبى الله إلا أن يطلع على ذلك بعض عباده حتى نترضي عن البخاري رحمه الله وفى كتب أهل الكتاب أوحى الله إلى بعض أنبيائه قل لعبادي يخفوا أعمالهم وعليٌ إظهارها، وهذا عمل الجارحة فكيف بعمل القلب؟! فإنه لابد من ظهوره ولو طال إخفاؤه، فقلوب العباد في زيادة وهذا أدعى لظهور ذاك. ولله در عائشة رضي الله عنها حين قالت:
من لا يزال دمعه مقنعًا ... ... فإنه في مرة مدفوق
قالت أم يحيي حفظها الله: أما عن بكاء الشيخ فإنه لا يظهره لكن أعرف خشوعه عند قراءة القرآن فإذا قرأ كأنه انفصل عن الدنيا وما رأيته بكى إلا مرة واحدة كان يذكرنا بسيرة الإمام أحمد فأطال في سيرته وأسهب وأكثر ثم قال وهو يسردها وقد تغير وجهه: هؤلاء هم السلف هؤلاء هم السلف ثم فضخ البكاء وقام عنا وانصرف. قلت: فلله در الشيخ يعيش معنا وروحه مع السلف ألا فليتعلم طلاب العلم، فهذا هو الدواء الناجع والإكسير النافع لأمراضنا.
جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن
فليعجب الناس مني أن لي بدنًا لا روح فيه ولي روح بلا بدن(1/38)
*أما عن زهد الشيخ فتقول أم يحيى: ما أمرني مرة بكي قميصه لكن إن فعلت فلا بأس ولو قلت له: انتظر حتى أقوم بكي القميص فيقول: أنا لا أهتم بمثل هذا وما رأيته يجدد في البيت بمعني أن يهدم القديم ويأتي بجديد، وكان يقول: لا أهدم لبنة من بيتي سليمة لأبني مكانها أبدًا، قالت: وأقل شيء يرضيه، ما عاب طعامًا قط، ثم قالت: لو ترك الشيخ لعاش على حصيرة كالأوائل ولا يكترث بخشونة العيش وقلة ذات اليد، لقد ترك الشيخ الدنيا من شله. قلت: وقد قدمت شيئًا مما رأيت منه في ذلك في صدر هذه الرسالة ولله الحمد والمنة.
*وأما عن بره بوالديه: فتقول أم يحيى: بلغ في طاعة والديه المبلغ الأعلى لو طلبه أبوه ترك كل شيء وذهب إليه، وبلغ من طاعته وبره بأمه أنها قالت له يومًا في شيء ما: (بلاش كذا) على سبيل الإدلاء بالرأي المجرد بحيث إنه ليس أمرًا جازمًا، ومع ذلك امتنع عنه وكانت دهشتها حينما سألته عن هذا الشيء قال: ألم تقولي لي: (بلاش) فعجبت من طاعته في شيء ليس بأمر أصلًا. قلت: الجزاء من جنس العمل فإن أبا الشيخ رجل نحسبه لله طائع خاشع، قالت عنه أم يحيى: الشيخ عبد اللطيف معه العالمية من الأزهر محافظ على قيام الليل وهو رجل مسن جدًا فإن عجز عن القيام قرأ القرآن إلى الفجر ومجلسه كله مجلس علم، قالت: لأنني درست الشريعة في كلية الحقوق يمضي المجلس كله أو أكثره في اختباري في المواريث وغيرها، وإذا أراد أن يتلطف ذكر أبيات الشعر ثم سألني عن معنى لكلمات غامضة في ثنايا الأبيات، قالت: وهو رجل ضحوك بسوم. قلت: لا يستقيم الظل والعود أعوج (ذرية بعضها من بعض).
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... ... على ما كان عوده أبوه(1/39)
*وعن فراسة الشيخ: تقول أم يحيى: لا يفلح أحد أن يخبئ عليه شيئًا ربما يفتح الموضوع قبل أن يذكر له وينظر في وجه الإنسان فيعرف ما يريده. قلت: اتقوا فراسة المؤمن فإنه يري بنور الله (كلام صحيح إلا أن الحديث لا يصح مرفوعًا) والله أعلم، وقد قرر ابن القيم في خاتمة كتابه الروح أن الفراسة تنبع عن التقوى والشيخ في هذا الباب سيد ضخم ولا نزكيه على الله ونحسبه على خير.
*( الشيخ الشاعر):قالت أم يحيى: لدى الشيخ دواوين شعر كثيرة، فالشيخ شاعر وهو بفضل الله يعرف موازين الشعر ويعرف البيت السوي من المكسور. قلت: وهذه ظفرت بها عالية من فم الشيخ ودونك القصيدة العطائية والتي ألفها الشيخ في وقت فراغه على مكتبه أيام كان يعمل مهندسًا في أحد الشركات بلا مراجع ولا دواوين بل هكذا ارتجالًا، وقد أخبرني أنه أيضًا ألف نونية على وزن نونية الشيخ السبكي في مائة وخمسين بيتًا على نفس المكتب وبنفس الظروف المذكورة أعلاه فلله دره من جامعة لأكثر الخير.
*( عاجل بشرى المؤمن )(1/40)
قالت أم يحيى: اتصلت بي يومًا أخت فقالت: إنها تعرف أخًا قص عليهم رؤيا للشيخ غير أنه أخذ عليهم ألا يصرحوا باسمه فاستجابوا لذلك، وهذه الرؤيا هي أنه كان اختصم مع الشيخ يومًا في مسألة فرجع إلى بيته فنام قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تخاصم عطاء إنه عندنا مرضي، قال: فقمت من نومي فزعًا باكيًا واصطلحت مع الشيخ وأرضيته، قلت: وأنا والله قد حكى لي بعض الإخوة عن هذا الأخ الرائي لهذه الرؤيا وقال: إنها كانت إبّان وجود الشيخ في مسجد الاستقامة وكان يصلى بهم إمامًا ويدرس لهم في التفسير وغيره وكنت سآخذها عالية من في الأخ الرائي لولا ما حال بيني وبين ذلك، قالت زوجة الشيخ: رأت ابنتي أمامه رؤيا أثناء الحملة الصليبية على أفغانستان فنامت حزينة على أحداث الحرب فرأت في نومها النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي وعائلة الشيخ يمشون خلفه، ثم رأت أمامه الشيخ بجوار النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم واضعًا يده على كتف الشيخ وهما يتماشيان، قالت: فقصت أمامه هذه الرؤيا على الشيخ فابتسم ولم يقل شيئًا، لكن تهلل وجهه وانبسطت أساريره وظهرت عليه علامات الفرح، ورب قائل يقول لما لم يسألها عن وصفه حتى لا يكون شيئا آخر سوله لها الشيطان لغرض ما؟! نقول: إن المذهب الذي يرجحه الشيخ أن الشيطان لا يتمثل في صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولو بالزعم الكاذب فلا يستطيع أصلًا أن يقول: أنا النبي صلى الله عليه وسلم من أجل هذا لم يسأل وعلى كل حال فابنته لها مساس بالعلم ولعله يعرف منها أنها تعلم أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذا لم يسأل والله المستعان. قلت: وأنا والله أرجو بصحبة الشيخ الزلفى عند الله تعالى ببركة دعائه ومجاورته والله الموفق للصواب لا إله غيره ولا رب سواه.
*( الشيخ الأب):
يا خير أب لعيال لو لا ديننا ... لوددت أن لك يا حبيبي أنسب(1/41)
قالت زوجة الشيخ: كان الشيخ يعلمني أحكام التجويد والفقه ويختبر أبناءه في الصلاة والوضوء والاستنجاء وحتى في استقبال القبلة وربما اختبرني أيضًا تأكدًا. ولا يغضب إلا لأحكام الله تعالى وتقرير الحلال والحرام، وأما عن بناته فيعمل لهن كشف هيئة عن الحجاب والنقاب ليطمئن أن الحجاب مستوف للشروط. قلت: وزوجة الشيخ منتقبة وكذا ابنته مع أن الشيخ يفتي بأن النقاب سنة وليس بفرض.
*( محنة الشيخ):
لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيرًا يصب منه"، وهذا الموفق حياته كلها سلسلة من الابتلاءات أمنية وبين الإخوة المتعصبين والجاهلين، فنظرًا لتورع الشيخ المعروف ضاق عليه التعايش مع الناس جدًا وقد مضى طرف من هذه الأشياء في صدر الرسالة، قالت أم يحيى: مات لي طفلان بعد الولادة فغسلهما الشيخ وظهر الحزن على وجهه لكن لم ينطق إلا بكلام الرجال المؤمنين ولقد بكيت يومًا على أحدهما فقال لي: إنما نحن كالجبال في وجه الابتلاءات ـ يعني تصبري ـ وكان يقول لي: أما الأولاد فنحتسبهم عند الله تعالى، وأهم شيء أن تحافظي على صحتك. قلت: يا لله العجب قام بحق الكل بكلام قليل رصين ولقد ابتلي الشيخ بسبب بعض الفتاوى التي لا ترضي أصحاب الهوى الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان ولا ينجو منهم عالم رباني، فهذا هو الألباني رحمه الله كانت الشتائم تنهال عليه مسجلة على شرائط كاسيت في غضون الدروس العلمية - زعموا- بعد فتوى صلاة التراويح والنقاب، وكذا الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى بعد فتوى الاستعانة بالكفار، وهذا شيخنا شنعوا عليه بسبب بعض الفتاوى ورأوا من الحكمة والفقه!! أن يبعدوه وينفروا الناس عنه فسعوا في إفساد مجالسه والحط عليه والله من ورائهم محيط.
ودع الذين إذا أتوك تنسكوا ... ... وإذا خلوا فهم ذئاب خراف
(كلمة جامعة فذة من زوجة الشيخ)(1/42)
وفي آخر الحوار مع زوجة الشيخ قالت لها زوجتي: أريد كلمة أخيرة منك في زوجك الشيخ عطاء. قالت: أنا أتلذذ بخدمته وأعمل على توفير وقته أجبر بذلك نقص عملي، ثم قالت: آمل أن تنفعني صحبته في الجنة. قلت: وهذه الكلمة على وجازتها إلا أنها درس شامل للنساء وبخاصة أزواج العلماء وطلاب العلم ألا فليتعلمنه جيدًا.
فلو كن النساء كمن ذكرنا ... ... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
*** ثناء العلماء الأجلاء على المفضال النادرة الشيخ عطاء***
وهذه ثلة من أهل العلم شاركت في ركب المدائح والثناء على هذا الشيخ المبارك:
*(ثناء العلامة المحدث: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني):
قال الشيخ الألباني رحمه الله في خاتمة كتابه (حكم تارك الصلاة):(1/43)
تنبيه ثان. بعد كتابة ما تقدم بأيام أطلعني بعض إخواني على كتاب هام بعنوان: (فتح من العزيز الغفار بإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار) تأليف عطاء بن عبد اللطيف أحمد ففرحت به فرحًا كبيرًا وازداد سروري حينما قرأته وتصفحت بعض فصوله وتبين لي أسلوبه العلمي وطريقته في معالجة الأدلة المختلفة التي منها- بل هي أهمها- تخريج الأحاديث وتتبع طرقها وشواهدها وتميز صحيحها من ضعيفها ليتسنى له بعد ذلك إسقاط ما لا يجوز الاشتغال به لضعفها والاعتماد على ما ثبت منها ثم الاستدلال به أو الجواب عنها وهذا ما صنعه الأخ المؤلف- جزاه الله خيرًا- خلافًا لبعض المؤلفين الذين يحشرون كل ما يؤيدهم دون أن يتحروا الصحيح فقط كما فعل الذين ردوا علىَّ في مسألة وجه المرأة من المؤلفين في ذلك من السعوديين والمصريين وغيرهم، أما هذا الأخ (عطاء) فقط سلك المنهج العلمي في الرد على المكفرين فتتبع أدلتهم وذكر ما لها وما عليها ثم ذكر الأدلة المخالفة لها على المنهج نفسه ووفق بينها وبين ما يخالفها بأسلوب رصين متين وإن كان يصحبه- أحيانًا- شيء من التساهل في التصحيح باعتبار الشواهد ثم التكلف في التوفيق بينه وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على كفر تارك الصلاة كما فعل في حديث أبي الدرداء في الصلاة: " ... فمن تركها فقد خرج من الملة" فإنه بعد أن تكلم عليه وبين ضعف إسناده عاد فقواه بشواهده!! وهي في الحقيقة شواهد قاصرة لا تنهض لتقوية هذا الحديث ثم أغرب فتأول الخروج المذكور بأنه خروج دون الخروج!!، والحق أن كتابه نافع جدًا في بابه فقد جمع كل ما يتعلق به سلبًا أو إيجابًا قبولًا أو رفضًا دون تعصب ظاهر منه لأحد أو على أحد، وأحسن ما فيه الفصل الأول من الباب الثاني وهو كما قال: "في ذكر أدلة خاصة تدل على أن تارك الصلاة لا يخرج من الملة" وعدد أدلته المشار إليها اثنا عشر دليلًا، ولقد ظننت حين قرأت هذا العنوان في مقدمة كتابه أن منها حديث الشفاعة هذا؛(1/44)
لأنه قاطع للنزاع عند كل منصف- كما سبق بيانه- ولكنه- مع الأسف- قد فاته كما فات غيره من المتأخرين أو المتقدمين على ما سلف ذكره غير أنه لابد لي من التنويه بدليل من أدلته لأهميته وغفلة المكفرين عنه ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن للإسلام صوي ومنارًا كمنار الطريق ... " الحديث وفيه ذكر التوحيد والصلاة وغيرها من الأركان الخمسة المعروفة والواجبات ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ... فمن انتقص منهن شيئًا فهو سهم من الإسلام تركه ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراءه" وقد خرجه المومي إليه تخريجًا جيدًا وتتبع طرقه وبين أن بعضها صحيح الإسناد ثم بين دلالته الصريحة على عدم خروج تارك الصلاة من الملة- إلى أن قال الشيخ:- وختامًا فليراجع هذا الكتاب-قلت: يقصد كتاب الشيخ- من كان عنده شك في هذه المسألة والله سبحانه وحده الموفق للصواب. أ.هـ كلامه رحمه الله0
*(ثناء العلامة: ابن عثيمين رحمه الله تعالى):
وقد حدثني بعض الإخوة عمن سمع الشيخ وكان يقطن في الحجاز أن الشيخ العثيمين رحمه الله لما بلغه هذا الكتاب لشيخنا الشيخ عطاء قال: "هذا الرجل عالم حقًا" قلت: هذا من الشيخ رحمه الله قمة الإنصاف الذي نفتقده تمامًا أو شبه تمام الآن بين الطلبة بل وبين بعض الدعاة والعلماء فالشيخ عطاء يخالف الشيخ العثيمين، بل وقد رد عليه في هذا الكتاب، ومع ذلك ما امتنع هو أو طلابه كما سيأتي من الثناء بالحق (فلله درهم كم علمونا وما رأيناهم والموعد الله)
سيبدو لكم في مضمر القلب والحشا سريرة حب يوم تبدو السرائر
*( ثناء علماء الحجاز):(1/45)
لقد أخبرني محمد عبد الحميد (مصري يعيش في السعودية منذ سنين) قال محمد: لقد عرفت الشيخ من السعودية لا من هنا، لما وصل كتابه في حكم تارك الصلاة إلى السعودية قال العلماء هناك من طلاب الشيخين ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله تعالى: "هذا الرد رد عالم" قلت: وقد أحدث كتاب الشيخ ضجة عظيمة في غير ما مكان لأجل البحث العلمي الرصين، ويكفيك أن الألباني رحمه الله تعالى أحال عليه كما سبق في ثنائه على الشيخ -ملحوظة: لم أستمع من محمد هذا إلا الثناء وبالهاتف وقد بلغني عنه أشياء أنا له فيها مخالف إن صحت عنه0قلت وبعد كتابة هذه الأسطر جالست الرجل !! فوجدته يقدح في كل علماء الساحة تقريبا ويبدعهم وقال هم اشد علينا من اليهود والنصارى!!! وقد رد على هذا الحزب الضال شيخنا الشيخ عطاء حفظه الله في درس له خاص وحذر الشيخ منهم وقال بإثم من تابعهم أو كثر سوادهم 0 والله المستعان.
*(ثناء الشيخ أبي ذر القلموني):
وقد سألته عن الشيخ حفظه الله فقال: لم أره من قبل إلا أنني سمعت عنه أنه عالم جليل ثم أرسل معي للشيخ نسخة من كتابه (عون الرحمن) هدية وأهداني أيضًا نسخة وقال: أقرىء الشيخ عطاء مني السلام- وقد فعلت- وقال لي الشيخ عطاء بعدما أخبرته: هل شكرته إنابة عني؟ قلت: نعم فتبسم الشيخ- وهذه لي من المفاخر ولله الحمد والمنة.
*(ثناء المحدث الشيخ: محمد عمرو بن عبد اللطيف):
سمعت شيخنا أبا الأشبال حفظه الله تعالى يقول: لو أن هناك في مصر أبدالًا فهم الشيخ محمد عمرو بن عبد اللطيف والشيخ محمد بن عبد المقصود والشيخ محمد بن إسماعيل المقدم. قلت: وإليك ثناء الأبدال على النادرة المفضال.(1/46)
وقد اتصلت بالشيخ محمد بن عمرو عبد اللطيف حفظه الله تعالى في دار التأصيل وسألته عن الشيخ فتفضل قائلًا: عهدي بالشيخ بعيد منذ خمس وعشرين سنة تقريبًا؛ لذا لا أذكر أشياء كثيرة إلا أنني أزكيه في الفقه ولم اقرأ له في الحديث شيئًا- قلت: لم يكن الشيخ عطاء قد صنف في الحديث بعد فقد انتصب الشيخ للتدريس والتصنيف وهو في سن صغيرة وكان في إبان هذه الفترة منشغلًا بالفقه كما سبق من كلام زوجته، ولو اطلع الشيخ محمد عمرو على مؤلفاته الحديثيه لزكاه فيها أيضا كيف لا وقد زكاه إمام المحدثين في هذا الزمان وهو الألباني رحمه الله؟ كما سبق ذكره. ثم قال لي الشيخ: كما أنني أزكيه في الورع فقد كان الشيخ يصنع الصابون في بيته بيده لشبهة الشحوم- قلت: والشيخ مهندس كيميائي- ثم رأيت أنني أثقلت على الشيخ وهو مريض مجهد فأنهيت معه المكالمة وقليل نافع خير من كثير مُلْهٍ لا وزن له والعاقل يحدوه القليل والمتكبر لا يكفيه كثير ولا قليل والله الموفق للصواب.
*(ثناء الشيخ: محمد بن عبد المقصود):(1/47)
وفي الحقيقة لم أستطع ملاقاة الشيخ لظروف مرضه وكذا لظروف أمنية، إلا أنه صرح لأخي زوجة الشيخ أنه يحب الكلام عن الشيخ عطاء وأعطاه رقم الهاتف والذي لا يعطيه لأحد إلا النادر، لكن من أجل الظروف الفائت ذكرها والتي حالت بيني وبين الاتصال به أيضًا فقد أخذت الثناء ولكن نازلًا فحدثت به زوجة الشيخ، قالت: كان الشيخ محمد بن عبد المقصود جارًا لنا وكان مريضًا يومًا فقلت: له إن الشيخ يهم أن يعودك فقال: إنني إذا رأيته داخلًا عليَّ لا أستطيع إلا أن أقوم من فراشي وأقبل يده على ما أنا فيه من مرض، قالت: وكان يعظمه جدًّا ويقدمه ويحترمه، وقد سبق أن الشيخ كان يأتيه ليستفتيه، وحدثني صديق يعد تراجمًا للدعاة والعلماء المعاصرين فأراد أن يترجم للدكتور: محمد فامتنع فحدثه الأخ أنه سيترجم عن الشيخ عطاء فقال له الدكتور: هذا يستحق أن يترجم له وأين نحن من الشيخ عطاء؟!،وعلى شريط مسجل قال الدكتور محمد وسئل عن مسألة كتابة الكاتب على كتابه: حقوق الطبع محفوظة، فقال: سألت الشيخ ابن باز فقال كذا وكذا وسألت الشيخ عطاء فقال كذا وذكر فتوى الشيخ، وهذا أمر يحدث في شرائط كثيرة في فتاوى الدكتور: محمد بن عبد المقصود كما حدثت بذلك.
ولا يخفى ما في هذا الكلام من رفع لرتبة الشيخ عطاء من الدكتور محمد لرتبة العلامة بن باز رحمة الله وهذا هو الصواب الواضح لكل ذي عينين والله اعلم0
*( ثناء شيخ الإسكندرية الفاضل: محمد بن إسماعيل المقدم):
وقد أوصيت بعض الإخوة أن يسأله عن الشيخ عطاء فقال الأخ: رأيت الشيخ يوقره جدًّا ويحترمه احترامًا بالغًا وقال عنه: هذا الشيخ نادر الوجود في هذا الزمان، وقال: كتب الشيخ كلها عندي، وذكر الأخ عنده مسألة حرف الضاد وما لاقاه الشيخ من جرائها فقال: لا ينبغي أن ينكر ذلك على الشيخ ولا تنبغي مثل هذه المعاملة مع مثل الشيخ عطاء، : وأظهر الشيخ محمد التوقير البالغ للشيخ عطاء أ.هـ كلامه بمعناه.(1/48)
ثناء الشيخ ابي إسحاق الحويني : قال أحب أن اقابل الشيخ وما رأيته من قبل وأحب أن أعلم في أي شىء يخالفني فأناقشه فإن كان الصواب معه رجعت لقوله0
ولما كان الشيخ يعمل في العلافة كان يشتري الأرز من كفر الشيخ فقال بائع الأرز جاءني الشيخ الحويني وأوصاني بالشيخ عطاء ومدح الشيخ وعظم شأنه0
*( ثناء العلامة القرآني المقرئ الشيخ: عرفان بن محمد بن إبراهيم الحامولى):(1/49)
وقد كان هذا الثناء لَمَّا ذهب إليه الشيخ عطاء يسأله عن حرف الضاد وأقر الشيخ عرفان أن الضاد تشبه الظاء شيئًا ما سماعًا وتختلف مخرجًا وكذا قال جمع من أكابر القراء وشرائطهم موجودة عند الشيخ وعندنا والشاهد: أنني قد سمعت الشرائط المسجلة مع هؤلاء المشايخ وأثار انتباهي شدة احترام الشيخ عرفان للشيخ عطاء حتى أنه ما قطع جملة في الغالب في أثناء حديثه مع الشيخ إلا أن قال له: (حضرتك قلت كذا أو أقول لحضرتك كذا أو يا سيدنا الشيخ إلى غير ذلك)، ثم قال له الشيخ عطاء: هل تسمح لي أن أقرأ عليك هذا الحرف أو بعض الآيات التي تضمنت هذا الحرف حتى تعلم هل أنا أقرأه صحيحًا أو لا.(1/50)
وقد أبهرني الشيخ عرفان لما قال ردًا على الشيخ: أنا لا أستطيع أن أقول لك نعم ونفسي لا تطاوعني فأنا أعلم أن حضرتك يا شيخ تحفظ البخاري ومسلم وغيرهما فأنت أفضل مني، وقال الشيخ عرفان والشريط عندي: (أنا أكون قليل الأدب لو أقرأتك وأنت أفضل مني بل أنا الذي أقرأ عليك)، فقال الشيخ عطاء متواضعًا: أنا لست أحفظ هذا الذي قلت، فقال الشيخ عرفان: لو أخبرني واحد فقط لقلت كذب عليَّ لكن هذا الأمر متوافر عنك عند كثير من الناس وأحسن إلى الشيخ وعظمه جدًّا وليراجع الشريط من له أدنى شك فيما قلت، وقد نسخناه ولله الحمد، وانظر أخي في الله تعالى إلى هذا الفارق بين هذا القارئ الكبير الضخم وبين بعض ما لا يصلح أن يكون عنده طالب من فرط جهله وضيق عطنه؛ ومع ذلك يتواضع هذا الضخم العالم ويعرف للعلماء حقهم، وغيره مع قلة علمهم وجهلهم العظيم ساء أدبهم مع الشيخ وأعملوا ألسنتهم الحداد فيه ووصفوه بما هو منه بريء، ومع ذلك فمن المفارقات العجيبة أن بعض المادحين يكافئ أمثال هؤلاء على سوء أدبهم!! فيقول: هذا الريحانة أو الهدية، أو يقول: هذا من منة الله علينا تلبيسًا على العامة، ولا يدري هذا القائل أن الشيخ ينبغي أن يكون على درجة سلوكية تربوية تؤهله لأن يكون معلمًا و إلا فسوف يكون شؤمًا على من يعلمه، ولعل هذه هي آفة هذا الزمان وسبب محنتنا المحناء وهي قلة الرجال، ولله در ابن الجوزي رحمه الله لما قال عن بعض شيوخه: "كان طول سكوته وسرعة عبرته يعملان في أكثر مما يعمله علمه"، وقد نص أهل العلم على اختيار الشيخ المعلم وأن هذا من آداب الطالب حتى قال بعضهم: كنا إذا أردنا الكتابة عن شيخ سألنا عنه حتى يقال: هل تريدون أن تزوجوه وهذا من كثرة السؤال مع التدقيق فما أسعد زماننا بقوم لم يعبئوا بهذه النكتة السلفية العتيقة الهامة والله المستعان.
أتهجوه ولست له بكفء ... ... فشركما لخيركما الفداء
*( ثناء الشيخ مصطفى بن محمد):(1/51)
وقد اتصلت به هاتفيا فقال في الشيخ كل خير رجاع للحق إذا علمه .
تلاميذ الشيخ ومن انتفع به
لقد انتفع بالشيخ واستفاد منه خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى فيأتيه الناس في السوق للفتوى ولرد المبتدعة ومناظرتهم، ونحن الآن حديثو عهد ببدعة أطلت برأسها في حلوان واستدعى الأخوة الشيخ لدفعها والمناظرة عليها وهي بدعة مشينة تبنى على تحطيم الرؤوس وسب العلماء وتفسيق بعض الدعاة وسمي هذا المذهب السافل بالسلفية!! وهي منه براء والغرض أنني لا أكون صادقا إن قلت: إنني سأذكر كل من انتفع بالشيخ لكنني سأذكر الرؤوس المعروفين وفقط والله المستعان .
1- الشيخ محمد بن عبد المقصود: حدثني الشيخ أنه كان يأتيه يسأله وقد سبق0
2- الشيخ محمد بن عمرو بن عبد اللطيف: قال الشيخ: "كانت علامات الإخلاص تلوح عليه وكان يأتيني للسؤال قبل أن يقبل بكليته على الحديث" .
4- الشيخ مصطفى بن محمد شيخ حلوان: حدثني الشيخ أنه كان يأتيه ليسمع عليه شرح كفاية الأخيار بالمعادي، ثم كان يأتيه في حلوان بعد انتقال الشيخ إليها، وقد تقدم كلام الشيخ خالد صقر أنه إلى الآن يحيل عليه بعض المسائل والله المستعان .
صفة الشيخ
أما عن وصف خلقة الشيخ
( من ديوان: الشيخ الإمام لي)
وجه جميل مشرق أكرم به ما أجمل القسمات والعرنين
وترى التواضع في انحناء جبينه في علم هادينا أمين مكين
إذا ما سمعت لحله إشكالة لعلمت قدر حجاه حق رصين
فالشيخ أبيض مشرب بحمرة، إلى القصر أقرب، نحيف، عريض الجبهه مع نتوء فيها قليل، خفيف العارضين قليلا، له جمة ليست بالكثة، إذا رأيته تذكرت السلف، فهو حقا ممن إذا رأيته ذكرت الله.
مصنفات الشيخ(1/52)
اعلم أخي طالب العلم أن بقاء الدين و الذكر إنما يكون بالتصنيف، فإن تأهلت لذلك فبادر ولا تتقاعس، ففي ذلك فضل عظيم .وقد ألف الشيخ كتبا عكف عليها الطلبة حقبة من الزمن فقد صنف وشنف وحرر وحبر وبرع وحصل وأجاد وأفاد وساد أقرانه بذهنه الوقاد في تحصيل العلم الذي منعه الرقاد وعبارته التي هي أشهر من كل شيء معتاد وخطه الذي هو أنضر من أزاهير الوهاد لقد طنت بذكره زمنا الأمصار وضنت بمثله الأعصار وهو أعظم من أن يصفه كلمي أو أن ينبه على شأوه قلمي0والله الموفق للصواب- من هذه الكتب:
1- الإله الحق والدين الحق ألفه وهو ابن 24سنة وفي آخره القصيدة العطائية في 63بيت ألفها على مكتبه وبلا مراجع بل ارتجالا وقد سبق .
2- فتح من الملك الأجل بتمييز اللفظ المحفوظ من اللفظ المعل. قلت: وهذا الكتاب قارب أن يكون مجلدا، ويكشف الشيخ فيه عن علل لخمس أحاديث وفقط !!!
3- تصحيح حديث: "من توضأ للجمعة فبها ونعمت" .
4- إعلام ذوي الرشاد بتصحيح حديث خمس صلوات كتبهن الله على العباد .
5- فتح من العزيز الغفار بإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار. وهو الذي زكى الشيخ فيه كما سبق .
6- فيض من رب الناس بإبطال رد ممدوح بن جابر من الأساس . وهو هام في تعلم فن المناظرة.
7- المختصر الواضح في فقه الطهارة والصلاة.
8- إعلام الأبي بحكم صوت المرأة على الرجل الأجنبي.
9- ترتيب مسند الإمام أحمد، وهو فيما أظن سيكون عروسا لهذا الزمان، وقد سألت الشيخ في كم مجلد سيكون؟ فقال: في نحو العشرين مجلدا وهو على وشك الخروج يسر الله إخراجه.
خاتمة(1/53)
الحمد لله الذي أعطى بالإنعام جزيلا وقَبِلَ من الشكر قليلا وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الذي لم يجعل له من جنسه عديلًا وعلى آله وصحبه بكرة وأصيلا، أما بعد فها نحن أخي القارىء قد رددنا العجز إلى الصدر وجعلنا بسيرة هذا العلم الشامخ لمكسور همتنا جبرا، وإلى هنا تنتهي سيرة هذا المبارك والتي أظن كما يظن المنصفون أيضًا أنها منهج متكامل محكم لجميع طوائف المسلمين من فقهاء ومحدثين ودعاة وزهاد وطلبة علم، منهج عملي محكم يصف كيفية السير إلى الله سبحانه وتعالى، وبه تنقطع الحجة لدى كثير ممن يبحث عن الأعذار بإزاء تقصيره في سيره إلى الله سبحانه وتعالى، فالشيخ في عصرنا ويعيش بين أظهرنا ويتحمل ما نتحمل من أعباء الحياة وربما ضيقها فقد انقطعت الحجة، فلن يقول قائل: بعد هذا السلف كانت حياتهم ألين من حياتنا وأبسط وأسهل، فيقال له: هذا هو الشيخ على الرغم من أنه ينصهر معنا في بوتقة واحدة تحمل معالم هذا الزمان إلا أنه أخرج هذه الأعمال المذهلة التي قرأت عنها آنفًا: فليس البكاء على الزمان وتقلبه، إنما البكاء على خساسة الهمم لقد انقطعت الحجة أُخي، وما بقي إلا العمل الجاد والحمل على النفوس الرعناء حملة صدق لتلين لك وتنقاد، فخذ الصبر زادًا لا ينفك عنك مطلقًا واستعن بالله فإنه هو المعين المقيت ولا تيأس ولا تكل ولا تمل حتى تضع يمينك في الجنة، وليكن الحادي لك في هذا المقام قول الملك العلام: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19)
"، وقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَاوَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 9)
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر ...
وفقني الله وإياك إلى ما يحبه ويرضاه 0
سيبقي الخط بعدي في الكتاب ... وتبلى اليد مني في التراب(1/54)
فيا ليت الذي يقرأ كتابي دعا لي بالخلاص من الحساب
وكتبه: أبو عبد الرحمن السيوطي
سمير بن مصطفى بن عبدالله
سامحه الله
(ردع الأفين عن سب العالم الرصين)
( إن الميدان الدعوى اليوم يموج بحالة من الخلل الناشيء عن التضخم الكمي الذي فرض نفسه على حساب التربية النوعية الأمر الذي أفرز كثيرا من الظواهر المرضية من أخطرها تطاول الصغار على الكبار والجهال على العلماء وطلبة العلم بعضهم على بعض حتى إن الواحد منهم ينسى قاموس التآخي وما أسرع ما يخرج إلى العدوان على إخوانه ويجردهم من كل فضل فلا يحلم ولا يعفو ولا يصبر ولكن يجهل فوق جهل الجاهلينا بل إن من طلاب (آخر الزمان ) من غاص في اوحال السب والشتم والتجريح وانتدب نفسه للوقيعة في أئمة كرام اتفقت الأمة على إمامتهم وهو لا يدري أنما ذلكم الشيطان يستدرجه إلى وحل العدوان وهو يحسب أنه يحسن صنعا ويتوهم أنه يؤدي ما قد وجب عليه شرعا فرحم الله من جعل عقله على لسانه رقيبا وعمله على قوله حسيبا0) قلت فيا ليت محمد بن عبد الحميد -هذا الساب للعلماء- وأشياعه يتعلمون من هذا الكلام لهذا الشيخ الهمام والله المستعان0
من كتاب حرمة أهل العلم للعلامة محمد بن إسماعيل المقدم0
الحمد لله الذي فضل العلماء العاملين على العالمين ونور بعلمهم آفاق السالكين ودحض بسيرهم الطغام المآفين وجعلهم حجة بينه وبين المتقين وصلى الله علي سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين وأصحابه العاملين العارفين وسلم آمين، أما بعد:(1/55)
فيقول الإمام ابن القيم رحمه الله:ـ فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام وعنوا بضبط قواعد الحلال من الحرام فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي في الظلماء حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59)(1/56)
قال ابن عباس رضي الله عنهما في إحدى الروايتين عنه: "أولو الأمر العلماء" وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "هم الأمراء" وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس، والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء. أ.هـ كلامه من إعلام الموقعين، قلت: ومن المعلوم أن قومًا عظم الله قدرهم إلى هذا الحد ينبغي أن يقيض لهم حراسًا يكونون لهم بمثابة الظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها الأذى ويميط عنها القذى ويحميها من السحاب ويبصرها في الضباب ثله من المخلصين يكونون حول هذه الطائفة والتي هي بمثابة الذئابة من المسلمين حتى لا يطعن فيهم طاعن أو مغرض فبهلاكهم تهلك الأمم، وقد نبهك على فضلهم ابن القيم آنفًا، من هذا المنطلق أردت أن أردف هذه الرسالة- ترجمة الشيخ- بملحق يعد بمثابة الأسنة التي تذود عن الشيخ لتؤتي الترجمة ثمارها، فقد ذكرت التعديل وها أنا ذا أرد التجريح ليوافق شن طبقه وتتسق الدائرة وتكتمل فتبين واضحة كالعروس المجلية لكل ذي عينين. ومن المعلوم أن أمثال الشيخ تكثر حولهم الأقاويل من جانب الحاقدين والنوكي، فكان ينبغي الذب عن أعراضهم حتى لا ينتشر الأمر بين الناس الذين لا يعلمون فيسقطوا العلماء واحدا تلو الآخر حتى تصير الأرض قفرًا من العلماء والفقهاء وحينئذٍ يتصدى كل مهوس وبليد فيقول على الله تعالى ما لم يقله ويفتي بما ليس في الكتاب والسنة في شيء ولا من العلم في ظل ولا فيئ فيضل ويضل وجبلةٌ أغلب الناس لا تمنعهم مطلقًا أن يكونوا لمثل هذا أشياعًا وأحزابًا وسوادًا أعظما يقول الإمام ابن قتيبة رحمه الله ما فحواه: الناس أسراب طير يتبع بعضهم بعضا فلو خرج رجل يدعي النبوة وهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين لوجد على ذلك أتباعًا ولو ادعى رجل الإلهية لوجد على ذلك أشياعًا وأحزابًا. أ.هـ كلامه. قلت: وكما قال الشاعر:
لكل ساقطة في الأرض لاقطة ... و كل نافقة يومًا لها سوق(1/57)
فها أنا ذا أردف خلف العروس عروسًا تجليٌ إحداهما كمال الأخرى، ما زلت معها حتى رف لونها وصفي ماؤها وفاح عبيرها، صنعتها لك صنعة من طب لمن حب، جمعت فيها بين تعديل الجرح تارة ورده بادي الرأي تارة أخرى، وأصلت وشنفت تارة ثالثة، وكل ذلك بمزيج ممزوج غير مخلوط يحنو بعضها على بعض، ما أُبْهِمَ هنا لعله بان هناك فخذها كلها جميعها ثم حدثني عما وجدت من طعم وأثر، وَأَسْأَلُ الله تعالى أن يجعلها قليلة المباني كثيرة المعاني وأن يحفظها حتى لا تصلها يد سارق ولا نار حارق وأن يجعلها خفيفة على العاتق تحمل في الظعن والإقامة، وأن يجعلني ممن أسهب وأطيب وأطال من غير إملال، إنه هو ولي ذلك والقادر عليه 0
قالوا عن الشيخ :
هذا هو العنوان الذي سأصدر إن شاء الله تعالى به كل فقرة رد، واعلم أنني قد أعرضت عن كثير من السباب المجرد الذي لا طائل في الرد عليه حيث إنه سوء أدب وجهل، وقد حث الله تعالى على الإعراض عن الجاهلين فقال: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199)(1/58)
وقد ذكرت كلامًا هو في الحقيقة من الجهل أيضًا بمكان عظيم إلا أنه يفضل على الأول بشيء يسير.والحق أن كلا الأمرين ذميم، ولولا أن الناس قد لاكوه لتركته من خساسته، لكن الأمر كما قيل: تعلمنا كبار العلم فلما اهتم الناس بصغارها تعلمناها لهم. والله المستعان، وسوف أسرد إن شاء الله تعالى هذه الاعتراضات الموجهة إلى الشيخ جملة ثم أكر عليها واحدة واحدة حتى أفندها وأفرق عسكرها إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان سبحانه وبحمده.وأردد بكل أسى قبل أن ألج في هذا الباب مع ابن عباس رضي الله عنهما قوله المشهور: "فَنِيَ النَّاسُ وَبَقِيَ النَّسْنَاسَ، قِيلَ: وَمَا النَّسْنَاسُ؟ قال: الَّذِينَ يُشْبِهُونَ النَّاسَ وَلَيْسُوا بِنَاسٍ" وما أوقع هذا النسناس على كثير من أهل زماننًا، كما سترى هذا النسناس واضحًا جليًا حينما أعرض عليك أسباب عدائهم ومعارضتهم للشيخ والتي لا تعدو أن تكون كهباء في الهواء وسراب بقيعة (وطالب القليل أقل منه) والله الموفق للصواب.
قالوا عن الشيخ:
1- ... وصفه بعضهم بالمهندس لينفي نسبته للعلم!!
2- ... مفرق!!
3- ... لا يسلم على أحد!!
4- لا ينظر لأحد!!
5- ... صاحب حدة شديدة!!
6- ... منعزل عن الإخوة!!
7- ... يبغض الإخوة!!
8- ... لا يصلح للعوام!!
9- ... موسوس!!
10- ... يخطئ ابن تيمية!!
11- ... قال عنه الألباني: متكلف!!
12- ... يفقد فقه الواقع!!
13- ... أشعري!!!!!!!!
14- ... مخالف للأكثر في فتواه!!
15- ... شديد في بث العلم وقليل الدعوة!!
هذا ما تحصل لي من اعتراضات على الشيخ، ومع أنها هشة ضعيفة بان ضعفها لكل أحد حتى أنه يحسن معالجتها الطالب المبتدئ، لكن هذا لا يتفق إلا للمنصفين الذين تهذبت نفوسهم وليس البكاء إلا على خساسة الهمم، والله المستعان. والآن أشرع في المناقشة والجواب بحول الملك الوهاب سبحانه وبحمده.(1/59)
أولًا: قالوا عن الشيخ: مهندس؛ وذلك لنفي العلم عنه. قلت: وهذه قولة رجل فاضل في الحقيقة إلا أنه تعتريه غضبة تذهب بعقله حقًا حتى أنه ربما أدان نفسه بأشياء يحسن تنكبها صغار القراء، وكان قد اختلف مع الشيخ في مسألة واحدة فطعن عليه كل مطعن وأبغضه، حتى أن بعض طلابه أخبر أنه يدعو عليه والمسألة محتملة ولا ينبغي فيها مثل هذا الفعل ولم يكتف الرجل بهذا بل ألف كتابا وقع في يدي ـوذلك بفضل الله تعالىـ وقدر الله لهذا الكتاب ألا يرى النور فلا يزال في أرحام المطابع لم يقذف بعد؛ وذلك لأن اللجان المختصة والتي أراد منها أن توقع على هذا، لما رأت فيه سبًّا لهيئات مسماة- فقد ذكر الشيخ في كتابه أسماء غير اسم شيخنا- فقالت اللجنة المختصة له: احذف هذه الأسماء!! واجعله بحثًا علميًا فقط وردته عليه، وكان درسًا لهذا الرجل ليعلم أن لحوم العلماء مسمومة وليست من السهولة في شيء، والحق أن المرء يحزن جدًّا حينما يرى المعلمين والرؤوس ينحدرون في هذه الهوة كالصبيان وكأن العلم لم يؤثر فيهم، وكانت مقدمة هذا الكتاب قد اشتملت على كذب وتدليس صريح كنت قد جهزت له جوابًا حتى إذا ما نشر وجد الجواب على أثره مباشرة ليتبين الحق من الباطل وليعلم الناس أن هذا الجليل المخبت هو في الحقيقة مدلس أو على أفضل الظن قد دلس، ولست بصدد مناقشته في ذلك حيث قد بتر الكتاب من أصله كما ذكرت آنفًا لا أخرجه الله ولا أحياه ولا حياه ولا بياه، لكنني بصدد مناقشته قوله:المهندس، ولعل البحث لا يحتاج إلى كثير مناقشة، فقد بلغك ثناء الأساطين على الشيخ في صدر الكتاب بما يغني ويكفي لتفنيد هذا الافتراء والحط المهين بلا طائل على العلماء ولله الحمد والمنة.
قالوا عن الشيخ: مفرق، قلت: يعني يتكلم في قضايا فرقت الناس وأثارت القلاقل بينهم، وهذه دعوى فرط وتكلف شطط.(1/60)
وأقول في الرد عليها مستعينًا بالله عز وجل: إن قولة مفرق هذه في غير محلها مطلقا؛ وذلك لأشياء لا يعتبرها هؤلاء القائلون بتلك المقالة.
وهذه الأشياء هي:
أولًا: نسألهم سؤالًا: هل من حق العالم المجتهد أن يرجح ما ترجح له من أقوال العلماء أم لا؟ فإن قيل له ذلك. قلنا: أدنتم أنفسكم إذ على الطلبة حينها أن يسمعوا ويطيعوا أو يسمعوا ويسكتوا ولا نلزمهم بمذهب الشيخ، لكن أيضًا يقال لهم: لا تعترضوا بسوء أدب حيث إن الشيخ لا زال في حماه ما خرج منه بل لو خرج من حماه كان عليك الأدب أيضًا في رده. لكن أن يقوم رجل فيسب الشيخ علانية ويمنعه من إلقاء الدروس في مسجده من أجل أن قد خالفه في مسألة خلافية فرعية لا تضر كلا الطرفين مطلقًا، فهذا ما لا نرتضيه ولا يرتضيه رجل شم رائحة العلم فضلًا عن طالب علم أو عالم محترف. وربما قال قائل: (وتلك القاله تقال أيضًا) لو سكت الشيخ عن هذه المسائل حتى لا يثير القلاقل لكان أولى، فنقول: ليس الشيخ من طلاب العلم الذين لا يحسنون ترجيح الراجح وتزييف المزيف، لكن الشيخ رجل عالم يحسن هذا الباب جيدًا، ومن استمع إليه وهو يفند المسائل ويناقش أربابها ويقرر الراجح فيها لعلم هذا الذي ذكرته آنفًا عن الشيخ وعلى المجتهد أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده ويفتي به أيضًا.(1/61)
وهذا أمر مقرر لا يحتاج إلى مزيد تفصيل، ويقال أيضًا: هلا قلتم للطلبة: تأدبوا بدلًا من أن تقولوا للشيخ: اترك مسائلك وترجيحاتك؟! وهلا قلتم لهم: لا مجال لإنكاركم هذا أبدًا، وليس من الأدب أن تعترضوا بمثل هذه الطريقة لا سيما والمعترضون ينحطون عن رتبة طلبة العلم بكثير، فضلًا عن أن يكونوا طلاب علم أو علماء، فَهَلَّا قيل لهم: دعوا العلماء من شركم ؟إنهم لا يحسنون المسائل ولا يدرون عن أي شيء تدور ولا أدلتها سلبًا أو إيجابًا، ومع ذلك يقوم أحدهم عبوس القسمات مشرف العرنين فيسب ويقبح، وهو بعد لا يحسن أحكام غسلا لجنابة!!! وقام الجهلاء بعد ذلك يرددون أن الشيخ مفرق وينبغي إبعاده عن الساحة، وأخذوا في تعطيل الشيخ وذود الناس عنه حتى يجتمعوا بعد شتات- زعموا- فتجمعوا لكن بشر قلوب، وآثارهم تنبيك عن أخبارهم، أفضلهم ربما لا يسوى وأعلمهم جاهل رأوا المنكر فسكتوا عليه رجاء التجميع لا التفريق، وأفتوا بغرائب الفتاوى التي تضحك حقًا عند سماعها من شدة غرابتها مع نكارتها، ومع ذلك يظن الرجل منهم أنه الفذ ومن ثم انتصب للحكم على الناس وتقديم من شاء وتأخير من شاء وهو في ذلك لا يدري أنه يجرح نفسه ويحط من قدرها والله المستعان، ثم يقال: هَلَّا ناقشتم القضايا والمسائل التي اعترضتم عليها وعلمتم قول من هذا الذي رجحه الشيخ قبل التهجم والتهكم؟! فها هي جلية أمامكم لتعلموا ضلال المنكرين على الشيخ وجهلهم، وهذه أربع قضايا رئيسية:(1/62)
الأولى: كيفية نطق حرف الضاد وهذه من كبارها والتي بلبلت بين كثير من القراء! حتى أنهم دعوا عليه بكرة وعشية وعلى أتباعه، وخلاصة القول: إن الشبه الذي بين حرفي الضاد والظاء من حيث السماع معلوم عند القراء الثقات الراسخين وعند العلماء والفقهاء العاملين، فمن طالع كتب المعاصرين وجد ذلك جليًا فضلًا عن كتب السلف، واقرأ إن شئت كتاب الدكتور: على صبرة المسمى بالعقد الفريد تراه يؤيد المسألة بشدة ويخبر أنه عرضها على علماء الأزهر فأقروا قراءته هذه، وقد سبق معنا في ترجمة الشيخ كلام العلامة القرآني الشيخ: عرفان، وكذا عدد من القراء المحترفين، وإني لأتساءل بعيدًا عن البحث العلمي: لو أن الشيخ قد جاء بقول غريب لا يعرفه أهل العلم فما الذي حمل العلماء قديمًا وحديثًا على عقد فصل يتكلمون فيه عن الفارق ما بين الضاد والظاء على أن مخرج الضاد عند المصريين مباين جدًّا جدًّا لمخرج الظاء وبينهما تباعد في المخرج والسماع محسوس ملموس؟!(1/63)
هذا عند القراء، أما عن العلماء والفقهاء فهذا ابن كثير في تفسير الفاتحة يرخص- مع تصحيحه لهذا الوجه- للعامي الذي لا يعرف كيفية إخراج الضاد أن يخرجها ظاء من مخرجها المعروف الخاص بها؛ وذلك لشدة الشبه بينهما، و قول ابن تيمية في الفتاوى أنه يجتهد في إخراجها ولو بدت ظاء وصلاته صحيحة، وكذا قال الألباني واعتبر المخرج أيضًا والشبه، وكذا نقل عن العلامة بن باز انه كان يقرأ الضاد شبيهه بالظاء والشيخ: عطية صقر الفقيه المصري، وكذا قال الشيخ: العثيمين في الشرح الممتع أن من قال "ولا الظالين" صحت صلاته لشدة الشبه بينهما، وهذا هو قول شيخنا الذي سبق إليه من قبل وهو أن الصلاة صحيحة، وقد أخبرني الشيخ أنه كان يقول ببطلان الصلاة لكنه رجع عن هذا القول وقال بصحة الصلاة بعد لما علم بوجود أسانيد مع الذين يقرءون هذه القراءة فما وجه الإنكار أصلًا؟! فترى من لا يعرف إلا شيخه وما قرأ كتابًا وما سمع أدلة المخالف ولا أخذ عن غير شيخه يقوم ويجادل ويغضب وربما ساء أدبه- وما أكثر هؤلاء- وما هذا إلا من جراء شيوخ متعصبين لآرائهم بثوا هذه العصبية في طلابهم فكان ما رأينا ( وما آفة الأخبار إلا رواتها).
أما عن مسألة النقاب:
فباختصار شديد هذا هو قول الجمهور أن النقاب سنة مستحبة وليس بفرض، وارجع إلى كتاب الحجاب للألباني فإنه على وجازته قد شفى، واعلم أن الشيخ يفتي بأن النقاب من العفة وهو أفضل ويخبر أن للزوج فضل في ذلك وكذا لزوجته، لكنه يقول: لا نؤثم أحدًا بلا سبب والله أعلم، وأما عند الفتنة فنحتاج إلى فتاوى خاصة كمسألة ذهاب المرأة إلى المقابر والله أعلم.
وأما عن صلاة الجماعة:
وأن الشيخ يفتي بأنها سنة مؤكدة فهذا قول الجمهور إلا أحمد وأهل الظاهر، وانظر المجموع للنووي جـ4 صـ163.
ثم كراهية السجائر:(1/64)
فهذه أيضًا فتوى قد سبق الشيخ إليها وهي فتوى الأزهر لعام 1926 وقد قرأتها منذ خمس سنين تقريبًا في مجلة التوحيد بنصها وقد أقروها أيضًا، والخلاف في هذه المسألة معروف أثبته واحد ممن يقول بحرمة السجائر وهو الشيخ العثيمين رحمه الله في الشرح الممتع، والشيخ لا يقول بالكراهة المطلقة بل هو يحرمها لكن على أناس بأعيانهم ممن صدق عليه أنه مسرف أو أنه يضر ضررًا بالغًا بها، وبالجملة فهذه كلها مسائل خلافية كان يسعنا الخلاف فيها كما وسع أسلافنا أمثالها، لكنها العصبية وحب الإنكار وشيء في النفس مع ذلك، والله الموفق.
وأما عن المسبحة:
فلا شك عند كل ذي عقل مجرب أن السبحة من الأشياء المعينة جدًّا على الذكر، فلا تكاد ترى أحدًا ممن يمسكون المسبحة في أيديهم إلا وهو يحركها ويذكر الله، ثم عند النظر لا يوجد دليل واضح الدلالة على أن السبحة بدعة أو حرام، وحديث أبي موسي عند الدارمي وهو قصة القوم الذين كانوا يسبحون على الحصى لا دلالة فيها أصلًا لأشياء منها:
أولا: أنه قول صحابي وليس هو بحجة على الأصح من أقوال الأصوليين.(1/65)
ثانيًا: أن ابن مسعود رضي الله عنه ما أوضح لهم وجه الإنكار بخصوص عمل معين من أعمالهم، وإنما أنكر العمل كله، وقد كان هناك أكثر من مخالفة كاجتماعهم على الذكر ووجود أمير للذاكرين يأمرهم بعدده "سبحوا مائة" ثم هم خوارج، كان لهم غير ذلك من المخالفات التي لعلها بلغت ابن مسعود رضي الله عنه أو تفرس فيهم فأنكر عليهم، ولو كان هذا الأمر غير معهود (التسبيح على الحصى) لما سكت أبو موسي رضي الله عنه ولجزم ببدعيته بادي الرأي، لكن الظاهر أنه استشكل الأمر من أجل أن التسبيح على الحصى معهود لكن التجمع له غير معهود فلعله أن يكون بمثابة الاجتماع على العلم أو لعله بدعة، فمن ثم استشكل الأمر وإنما حملت الأمر على ذلك للأدلة التي أسوقها بعد إن شاء الله وأما قوله: "عدوا سيئاتكم" فليس فيها حجة حيث هو مخرج على اجتهاد ابن مسعود، وقد ذكرت الرد عليه أعلاه ثم إنه لمن علم أساليب اللغة أن ذلك أسلوب تبكيت ولا دلالة فيه أبدًا كما هو واضح ولله الحمد والمنة.
أقول: وحيث إن كل المجلس كان مخالفًا أو منكرًا عليه ولا ندري أي شئ كان فيه صحيحًا فعلينا إذًا أن ننظر في كل فعل على حدة حتى نعلم وجه إنكار ابن مسعود رضي الله عنه، ومسألتنا التي ننظر فيها هي التسبيح على الحصى هل أنكرها ابن مسعود أو لا؟ فنحتاج إذًا إلى دليل خارجي يبين هل الفعل جائز أم لا؟ وهل هو داخل في إنكار ابن مسعود ضمنًا أو أصلًا؟ فإليك أدلة تفيد أن التسبيح على الحصى لا شئ فيه:
أولًا: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان له ألف حصاة يسبح عليها ثم يأمر الخادم فيجمعها كل يوم من تحت قدمه بعد التسبيح عليها. هذا أورده الذهبي في السير وسكت عليه والمعلوم أن الذهبي يناقش فكأنه أقر ذلك. انظر السير جـ2 صـ623(1/66)
ثانيًا: أن النووي قال في المجموع في مسألة السبحة يكون خيطها حرير هل يجوز التسبيح عليها أو اتخاذها؟ فعرض الأقوال في المذهب ومال إلى الجواز ولم يتعرض للسبحة من حيث البدعية أو الجواز مما يدل على أنه أقرها. انظر المجموع جـ4 صـ380
ثالثًا: أن الحافظ ابن حجر أقرها في الفتح عند ذكر التسبيح فقال: على اليد أو غير ذلك بل قد ذكر عنه أنه كان يسبح عليها لا تفارق كمه. انظر الفتح جـ2 صـ382 ولم أر تعليقًا للشيخ ابن باز على حاشية هذه الصفحة.
رابعًا: ترجم ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية في أكثر من موضع لبعض الصالحين الأفاضل الأكابر أنهم كانوا يستعملون السبحة وسكت دون نكير.
خامسًا: ذكر الشيخ عبد السلام الشقيري في كتابه السنن والمبتدعات عند إيراده بعض الاعتراضات على بعض البدع وهو موضوع كتابه، فلما أورد مسألة السبحة ما كان اعتراضه فيها إلا أن قال: "وترى حامل السبحة يطقطق بها رياءًا وسمعة". قلت: فلم يعترض على السبحة وإنما أورد الاعتراض على الرياء والمجاهرة بالأعمال وهو اعتراض تربوي حسن.
سادسًا: ذكر العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع أن من كان ينسى في الصلاة أصلى ثلاثًا أو أربعًا زيادة أو نقصًا قال الشيخ: له أن يحمل أربع حصيات أو نوى في جيبه، وكلما صلى ركعة ألقى نواة، فإذا نسي كم صلى نظر أمامه فعلم من عدد النوى، قلت: وهذه الإجابة هي عين إجابة الشيخ عطاء حفظه الله، فإنه يقول: إن هناك أورادًا لا يحسن المرء عدها على يديه أو على الأقل ليس كل الناس يحسن ذلك ومن ثم تظهر أهمية السبحة. قلت: ومصداق كلام الشيخ عندي قد حدثني بعض الإخوة أنه يخطئ في تسبيح ما بعد الصلاة وهو ثلاث وثلاثون كما هو معلوم فكيف بأوراد المائة أو من أراد أن يزيد على ذلك؟! انظر الشرح الممتع جـ3 صـ344.(1/67)
أضف إلى ذلك أن رد استحباب السبحة إلى البدعية من أجل أنها عادة يهودية أو هي من هديهم ليس بظاهر بل هو إلى الخطأ ربما يكون أقرب؛ لأنه كما تقرر في علم الأصول أن شرع من قبلنا شرع لنا إلا إذا كان في شرعنا ما يخالفه ويأباه وينفر منه، فأين يا ترى في شرعنا ما ينهى عن السبحة بل قد جاءت أحاديث كثيرة تشير إلى التسبيح على الحصى، وهي وإن كان فيها ضعف إلا أنها بمجموعها تدل على أن لها أصلًا، وكان الحديث الضعيف عند الإمام أحمد أولى من أقوال الرجال، وساق النووي في المجموع الإجماع على أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، وإن كان السخاوي قد خرق هذا الإجماع بقول ابن العربي المالكي، ثم إذا أضيفت هذه الآثار وإقرارات العلماء المذكورة آنفًا إلى هذه الأحاديث يستوي الأمر ويعلم أن السبحة ليست ببدعة. وأقول: لو اعتبرنا أن هذا الأمر فيه أخذ ورد وخلاف بين أهل العلم فلا يحق لأخ شم رائحة العلم أن يذم الشيخ بها أو أن يختلف معه من أجلها فهذه مسألة خلافية يا أولي النهي والحجا!!
قالوا عن الشيخ: لا يسلم على أحد!
قلت: وهذه في الحقيقة قولة صدرت من رجل عظيم القدر في قلبي جدًّا إلى الآن، وليس هو ممن يلقي الكلام على عواهنه إلا أنه للسان ذلات ولكل جواد كبوة والنقص في أصل الطبيعة كامن.(1/68)
ولقد بلغني أنه اعتذر للشيخ وصار يعظمه وقد كان كذلك من قبل ولله الحمد والمنة، لكن لا يمنع هذا من مناقشة هذه القولة أيضًا؛ حتى لا نترك شيئًا إلا ناقشناه ورددناه عن الشيخ بحول الله عز وجل، فأقول: إن قوله لا يسلم على أحد قولة عامة لا قيد لها ولا خطام؛ ذلك لأنه لا يشهد كل أحوال الناس إلا الله عز وجل ثم إن قائل هذه المقالة لم يسأل الشيخ عن سبب عدم إلقاء السلام، والمعلوم أن الإنسان العاقل لا يفعل شيئًا إلا بحكمة فكيف بعالم جليل مثل الشيخ، فكان في هذا الأمر تقصير شديد وتسرع في إلقاء الحكم على الشيخ، وأقول وبمنتهى الثقة والحزم ثقة من خبر الشيخ ولازمه وتعرف على شخصيته، فأقول والله المستعان:(1/69)
أولًا: يمنع الشيخ من السلام على الناس غضبه لله تعالى فهو لا يسلم على سبابي الدين ولا العصاة معصية ظاهرة ولا على الذين لا يصلون وهذا من باب الغضب لله الموافق للسنة الصحيحة، فلقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه ثوبًا من حرير فغضب ولم يكلمه حتى ذهب وأحرقه، وكذا هجر كعب بن مالك وصاحبيه في القصة المعروفة وهجر إحدي زوجاته لما سبت صفية رضي الله عنهم جميعًا إلى غير ذلك من أدلة ربما لا تعجب البعض! ويقولون: هكذا يتفرق الناس فيقال لهم: فليتفرق الناس وليرضى رب الناس فعسى الله أن يجمعهم من بعد فرقة ببركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدلني الألباء منكم لو جمعنا الناس بعد فرقة وهم عصاة فيكون لتجميعهم أثر، لا والله بل تفرقتهم يومها أولى، ثم يقال: وهل هذا الأسلوب يفرق؟ لا والله لقد رأينا فوائد عظيمة عادت على المسلمين من أجل هذا الهجر في الله تعالى وقد تقدم في عجز الرسالة الأولى كيف اعتدلت قبلة مسجد غابت منحرفة سنين ببركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والهجر في الله تعالى، ومن لم يجعل الله له نورًا فماله من نور (وتلاحظ المصلحة والمفسدة في الهجر، فليس كل عاص يهجر بادي الرأي، فللهجر آداب ينبغي أن تتعلم، لكن لا نقول بترك الهجر كلية فإن فيه فوائد وإصلاحات لا تكون إلا به والله الموفق للصواب).
ثانيًا: لو قيل: ربما لا يسلم على الإخوة أيضًا، فيقال: هذا تعميم غير مُرْضي، وأنا حجة على قائل هذه القالة، فربما انحرف الشيخ عن طريقه حتى يأتي ويسلم عليَّ وبيده مصافحة، وحدثني بعض الإخوة أن الشيخ ترك طريقًا وعبر الآخر ليسلم عليه ثم عاد إلى الطريق نفسه مرة أخرى، ولا ينسى قائل هذا القول أن السلام سنة ورده فريضة، وهذا اعتبار هام بمعرفته يعلم أن الشيخ ربما انشغل بالذكر عن غيره من كل شئ حتى السلام لا سيما والشيخ ربما أغمض عينيه وهو في الشارع أحيانًا، وحينئذ لا ينكر عليه بتاتًا والله المستعان.(1/70)
قالوا عن الشيخ: لا ينظر لأحد.
وهذه لعمري ممدحة لا مثلبة ومنقبة لا منقصة وقائل هذه عجيب!! وماذا يريد من وجه الشيخ؟ وهل من شروط الإفتاء أن ينظر المفتي لسائله؟ وربما قيل: ينبغي أن يكون قد غسل وجهه قبلها وتعطر وسرح شعر لحيته ورأسه واكتحل وبل شفتيه بريقه حتى لا تبدو قبيحة المنظر حيث الوجه الحسن يعود على السائل بالراحة النفسية فلا يفزع عند السؤال ويعي الإجابة جيدًا!!!!!!! يا قومنا اتقوا الله وافطموا النفس عن ثدي الهوى، فوالله وتالله وبالله لهذا الهراء وهذه الهزرمة من جراء هوائكم وترك العنان للنفس ترتع أينما شاءت ومتى شاءت وكيف شاءت. ألا فليعلم هذا المتعنت صاحب هذا القول أن غض البصر عن كل شيء لا حاجة لك به منفعة لقلبك ولمًّا لما تفرق منه، وفي هذا يقول الإمام الغزالي رحمه الله ما فحواه: ينبغي ترك فضول الكلام والنظر والطعام والشراب والنكاح. قلت: وليس غض البصر عن المحرمات بحسب، بل يستحب عن المباحات أيضًا التي هي من الفضول وليست من الأصول؛ وهذا بن مسعود رضى الله عنه يجلس معه رجال يوما كما في الحلية فينظر أحدهم إلى سقف بيت بن مسعود ويشير إلى عش طائر فقال له بن مسعود والله ما رأيته إلا الآن وما نظرت إليه قط0 ولذلك يشاهد الناس أن الأعمى غالبا يكون أرق قلبًا وأعظم فهمًا وحفظًا ممن سواه؛ وذلك لأن العين منفذ على القلب لو تشتتت تشتت القلب بتشتتها وهذه دقيقة تربوية سلوكية ينبغي على السالك معرفتها قبل إنكارها والله الموفق.
قالوا عن الشيخ: لا يضحك و فيه حدة شديدة نفرتنا.(1/71)
قلت: وهذه أيضًا كالسابقة لها، فهل ينبغي للعالم أن يحفظ كَمًّا من الألغاز والملح حتى إذا ما أتاه السائل أضحكه قبل الإجابة عليه أم ماذا؟! إن قلة الضحك من الحزم والتقوى وليعلم هذا المعترض أن من السلف من أقسم ألا يضحك حتى يعلم من أهل الجنة هو أم لا، مثل مسعود بن خراش، فسل أبا بكر كيف كان بكاؤك يجبك كنت إذا صليت لا تعرف صلاتي من البكاء وسل عمر رضي الله عنه كيف كان بكاؤك؟ يجبك: خط البكاء في وجهي خطين أسودين من كثرة البكاء، سل عثمان وعلياًَ، لقد قال أهل التراجم: إن الإمام النووي كان عديم الضحك واللعب حازم الرأي.
أَلا فأثبت أيها المعترض العرش ثم انقش ولتقرأ عن سلفك ثم لتنكر ما بدا لك ولله در ابن مسعود رضي الله عنه حين قال: "عليك بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة" ثم ينبغي أن يعلم أن هذه القالة هي محض افتراء على الشيخ و إلا فقد جالسنا الشيخ كثيرًا وما علمنا عنه أنه لا يضحك، بل هو ضحوك بسوم لكن عندما يسمع عجبًا لا غمط فيه ولا سب ولا تجاوز لحد من حدود الله تعالى، بل وربما علا صوته بالضحك، وهذا أمر معلوم يسأل عنه القريبون من الشيخ، ولله الحمد والمنة.
قالوا عن الشيخ: منعزل عن الأخوة غير مختلط بهم.(1/72)
قلت: تلك شكاة ظاهر عنك عارها ولا إله إلا الله، لقد بلغت العقول إلى مثل هذا حتى أنها صارت ترى الحق باطلًا والباطل حقًا، لقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في العزلة كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" قال: ثم من؟ قال: "رجل منعزل في شعب من الشعاب يعبد ربه" رواه البخاري ومسلم وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يعتزل في شعب له يرعى غنمًا فيأتيه ولده قائلًا: إن الناس يختلفون على الملك وأنت ههنا؟!! فضرب سعد في صدر ولده وقال له: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" رواه مسلم- والغني يعني القنوع كما في الترغيب- قلت: وهذا سعيد بن المسيب كان لا يخرج من بيته إلا إلى المسجد أو إلى بيت ابنته لزيارتها فقط، وهذا الإمام أحمد يقول ولده عبد الله عنه مادحًا: وكان أصبر الناس على الوحدة. فانظر كيف ساقها مساق المدح، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تفضيل العزلة مطلقًا، وذهب البعض الآخر إلى تفضيل الخلطة مطلقًا، وفصل شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة تفصيلًا حسنًا قال: "إذا كان الشيء مما يؤمر فيه المرء بالخلطة كالجماعة والجمعة والجنائز وغير ذلك استحبت له الخلطة وما كان غير ذلك فلا بأس" أ.هـ كلامه بمعناه. قلت: فما أسعد زماننا بقوم أتوا في المسألة بقول رابع ألا وهو: إن من لا يختلط بالناس يذم مطلقًا ويذكر بالسوء وينابذ؟!!!!! وهذا لعمري ما علمت عليه من سلف في آبائنا الأولين، فينبغي للعالم بل ولطالب العلم أن يحفظ وقته ما استطاع، ومخالطة بعض الناس مضيعة للقلب فضلًا عن الوقت، وكذلك من فضائل العزلة أنها مناط الحشمة والمروءة لا سيما للعالم بين الناس، وهي وإن كانت شديدة على النفس أنفع في لقاء الله غدًا كما قال الشاعر:
ألم تر أن المرء تدوي يمينه ... ... فيقطعها عمدًا ليسلم سائره(1/73)
أسأل الله لي ولإخواني الهداية والتثبيت إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قالوا عن الشيخ: يبغض الإخوة.
وهذا لعمري عجيب جدًا إذ أنه حكم ظاهري لم يقله أحد خالط الشيخ وجالسه، و إلا لم يتفوه بهذا الكلام مطلقًا، فنحن بحمد الله تعالى ندعوا الشيخ فيلبي دعوتنا ونعطيه أبناءنا فيرقيهم ويقبلهم ويجعلهم في حجره ويحنو عليهم ويقضي لنا بعض مصالحنا إذا استعنا به فيها واستطاعها ويضاحكنا ويحل مشاكلنا، وهو معنا كالأب المشفق الرحيم على عياله، فهلا أخبرني هذا القائل تلك المقالة من أين أتي بها؟ وكيف؟!!!!! ويسأل بعضهم فيقول: إن الشيخ شديد المعاملة معنا وهو في ذلك لا يصبر على ذل طلب العلم، بل إذا أراد أن يسأل سأل وفي أي وقت، ومع ذلك ينبغي على أي أحد عالم كان أو غيره أن يجيبه وإلا صار متعنتًا يبغض الإخوة والناس أجمعين، ونصيحتى إلى هذا الأخ أن يرجع إلى السلف ويرى: كيف كان الشيوخ يعاملون الطلبة حتى يأخذ الدربة على معاملة العلماء؟ و إلا فلا يتعنى. ذكر الخطيب البغدادي- على سبيل المثال الواحد مراعاة للاختصار- في كتابه (شرف أصحاب الحديث) أن سليمان بن مهران الأعمش قال له طالب يومًا: يا إمام أريد إسنادًا، فلزق وجهه بالحائط، وقال: هذا إسناد. فما علمنا أن هذا الطالب سب الأعمش أو هجره، بل صبروا على ذل طلب العلم، ومن ثم ملأت أحاديث الأعمش دواوين الإسلام، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "مَنْ خَدَمَ الْمَحَابِرَ خَدَمَتْهُ الْمَنَابِرُ"
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... ... إن التشبه بالكرام فلاح
قالوا عن الشيخ: لا يصلح للعوام.
قلت: وهذه القولة في الحقيقة كالهباء في الهواء والسراب بقيعه، والواقع يشهد بضدها ولو مشى قائلها خطوات إلى مسجدنا حيث مجلس الشيخ للفتوى لعلم أن مجلس الشيخ يضم عددًا لا بأس به من العوام الذين هم ليسوا بطلاب علم، وحينها سيعلم قائل هذا القول أنه قد أغرق النزع وأبعد النجعة وتكلف ما ليس له به علم0(1/74)
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ... ... فأقم عليهم مأتمًا وعويلًا
وليت شعري أمن النضار خلقت أم من طين حتى تحكم على الناس بما رأيت وتنزل الناس ما شئت من المنازل وبلا هوادة ولا تروي ولا سابقة ميزان من علم؟! وإني لأتساءل: ما معنى: لا يصلح للعوام؟! ويقال أيضا: ليس كل أحد يصلح أن يجلس في مجلس الشيخ! وإني لأضيف إلى تكذيب الواقع لهذا الكلام إلقاء الكلام على عواهنه، فهذه الكلمة لا مفهوم لها في الواقع، فمن المعلوم أن الكلام الذي لا يبلغ فهمي حد معرفته فإنني ألقيه ولا أحفظه أو أحفظه ولا اعرف معناه وهذا يحدث لأهل العلم أحيانا فيذكر كلمة أو أكثر ثم يقول لم أفهمها أو لم أعرفها، وهذا دارج لكن لمن قطع من عمره قسطا في القراءة ثم يقال: هذا صد عن سبيل الله ذلك لأن أمزجة الناس مختلفة ودرجة أفهامهم أيضا مختلفة فما فهمه هذا جهله غيره وبالعكس، فكيف يستطيع المرء أن يفرق بين هذين الرجلين حتى يخرج حكمًا سديدًا بعد ذلك؟ فربما صددت رجلًا عن هذا المجلس لأنني أظن أنه لا يفهم وأكون في ذلك خاطئًا، وهؤلاء هم سلفنا لم يكونوا يفعلوا مثل هذه الأشياء، فعلى قدر بغضهم للبدعة والمبدعة لم يكونوا ليحجزوا الناس عن حضور مجالسهم أو عن حضور مجالس من قال بالبدعة ولو مكرهًا متأولًا. فهذا رجل قال ليحيى بن معين في محضر أبي خيثمة: أكتب عن علي بن المديني، فقال أبو خيثمة: لا ولا كرامة، فقال يحيى بن معين: اكتب عنه إن لم تجد غيره (كذلك فليكن فعل الرجال)، وإني لأنعي زمانًا كان الطالب فيه إذا حدث عن شيخه. قال: حدثني الحبر البحر وكان يكرر الثقة بعد قوله: حدثني؛ حتى ينقطع نفسه، فإلى هذا آل أمرنا ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالجملة فالكلمة كما يرى القارئ المنصف لا طائل تحتها ولا معنى لها، بل هي سقط من الكلام حقًا، ولعل دافعه الهوى والله المستعان.
قالوا عن الشيخ: يخطئ ابن تيمية.(1/75)
وهذه دعوى شطط وتكلف فرط، وجوابا عليه أقول: إننا لا نعبد ابن تيمية على حبنا له وتقديمنا له على كثير غيره، بل وقد حدثنا شيخنا أبو الأشبال أن الناس عالة في عامة علمهم على ابن تيمية وتلاميذه ومن تأثر به، ومع ذلك فنحن نعتقد أن الشيخ غير معصوم وأنه بشر يخطئ ويصيب، وقد قال تلميذه الذهبي في ترجمته من السير: "ولا أدعي له العصمة ولقد خالفته في مسائل كثيرة في الأصول والفروع" أ.هـ كلامه بتصرف. وهو نفسه لا يحب ذلك منا فما من إمام متبوع إلا وقد رهب أصحابه من الافتتان به وحداهم إلى الكتاب والسنة، وأقوالهم في ذلك متواترة متكاثرة، وعلى سبيل المثال يقول الإمام أحمد: "لا تقلدني ولا تقلد الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا" أضف إلى ذلك أنني أشهد ما سمعت الشيخ يقول في مسألة على ابن تيمية: كلامه مردود أو ساقط أو غير ذلك من الألفاظ، بل إن الشيخ لا يقول ذلك على أحد ممن هم دونه فضلًا عنه ومنذ أيام قلائل جاء أخ للشيخ بكتاب لينظر الشيخ فيه فإذا به لابن تيمية فقال الشيخ ابن تيمية مالي ولهذا أأنظر أنا في كتاب لابن تيمية ؟! هذا ما قاله الشيخ تقريبا0 ولكنه ربما قال: قال ابن تيمية كذا وكذا والأحوط قول الجمهور أو الراجح قول الجمهور مثلا، وهذه عبارات لا غبار عليها لدى كل متحيز منصف، أما المتعصب فيعدها من الكبائر، وأنا مع الأسف قد رأيت مثل هذا الضرب من الناس فقد ناقشت رجلًا يومًا في مسألة فأرسل إليَّ يقول: وهذا قول أحمد وهو حجة على من دونه!!!!! فأسأل الله تعالى أن يُعَبِّدَنَا وإخواننا جميعًا له وحده وعلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى درب السلف الصالحين.
قالوا عن الشيخ: موسوس!!
وهذه لا ينبغي أن تذكر إلا أن هذه الجزئية أكثر انتشارًا في الناس، ويروجها قوم وجهاء عند بعض الناس- والدعوى أوسع من المضمون- وها أنا ذا أرد عليها مضطرًا لا سيما وقد انتشرت في زمان عز فيه الإنصاف كما عزت فيه السلفية.(1/76)
وما عن رضى كانت سليمى بديلة ... ... ولكنها للضرورات أحكام
فقائل هذا رجل متخصص في باب العقيدة- زعموا- ولا يدرس غيرها، ومع ذلك دخل المسجد يومًا فوجد بخورًا معلقًا على جدار المسجد فقال: احملوه من هنا يحرم!! على المرء أن يصلى إلى نار، وهذه المقالة على فقرها من الإسناد إلى معتمد إلا أنها أيضًا من ضرب إلقاء الكلام على عواهنه كما في الفقرة قبل الفائتة، فمن المعلوم أن البخور ليس نارًا على وجه الدقة، ولم يكره ذلك من السلف إلا ابن سيرين- يعني أن يصلى الرجل إلى التنور- ورد الحافظ في الفتح عليه وقرر ألا كراهة أيضًا لدلالة الحديث على خلافها وهو حديث: "تفلت عليَّ البارحة جني ومعه شعلة نار..) الحديث، فلو أن مدرس العقيدة!! تكلف ورجع إلى كتب أهل العلم لوجد ريًا لظمأه في هذا الباب، ولكنه مع هذا العي وضيق العطن يطعن في أمثال شيخنا بمثل هذه المطاعن، فيقال له: ألا تستحيي على نفسك تقع في العلماء وأنت قفرًا من الفهم فضلًا عن العلم؟ ومن كان بيته من الزجاج فلا يقذف الناس بالحجارة، فقد قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
إن البدار برد شيء لم تحط ... ... علمًا به سبب إلى الحرمان
وكما قيل
ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب
وكما قال السخاوي تزبب قبل أن يتحصرم!!(1/77)
وخذ مثالا واحدًا يشفي لك وساوسك أيها الساب للعلماء لتعلم أن الوسوسة ليست من الجرح الذي يرد به أهل العلم أو يتكلم بسببه فيهم، لقد ذكر ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لا تقتدوا بي في الطهارة فإني موسوس) فما رأي العالم الجليل في هذه؟!!!!!!!!! خذ الأخرى ذكر الذهبي في السير أن الأعمش قال: "آية التقبل الوسوسة؛ لأن أهل الكتاب كانوا لا يعرفون الوسوسة وكانت أعمالهم لا تصعد إلى السماء" ولا أقول ذلك ترغيبًا في الوسوسة بل هي داء، لكن العاقل ينظر لأجمل الشيء ويشير إليه، والفاحش الطاعن يتتبع عثرات الخلق حتى يتتبع الله عثرته نسأل الله السلامة، وكلام الأعمش السابق ربما حمل على الاحتياط في العبادة وخشية عدم التقبل والله أعلم، ولقد كان السلف رحمهم الله تعالى لا يرون ذلك قادحًا في العلماء بل كانوا ينهلون منهم النافع ويتركون لهم ما لا ينفعهم وما ذموهم بل مدحوهم وأخفوا عيبوهم، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في (البداية والنهاية) مثل هذا في ترجمة عماد الدين محمد بن يونس الفقيه فقال عنه: "رئيس الشافعية في الموصل"- مع أنه كان موسوسًا- فلينظر الطاعن إلى أسلافه كيف كانوا يفعلون؟ ثم يتعلم أن ينسج على منوالهم بدلًا من الطعن في الناس وهو محل طعن خصيب لمن أراد أن يجول فيه، فلا تقل ما تلام عليه، وقد قيل: "إياك ومما يعتذر منه"،ثم اعلم أيها الطاعن أن قولتك هذه إن لم تكن جرحا فهي غيبة أم هذه أيضا لا يعرفها أستاذ العقيدة!! أما إن كان المقصود بالوسوسة الاحتياط في العبادة فهذا أمر مستحب مندوب إليه في غير ما وسوسة، وهذا قد قرره النووي في المجموع، وكذا ابن حجر في الفتح وغيرهم، وانظر على سبيل المثال فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري لما أخبره أبو بكرة رضي الله عنه النهي عن كراء الأرض، وكان ابن عمر يكري على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك امتنع عن الكراء(1/78)
خشية أن يكون هناك نهي لم يبلغه، واعلم يا عبد الله أن الشيخ سيد من سادة المتواضعين، وقد اعترف الشيخ بنفسه في أكثر من موطن أن فيه شيئا من الوسوسة لكنها لا تضره في معتقد ولا عبادة ولا غيرها، وغاية ما فيها مع الشيخ أنها ربما كلفته شيء من المشقة زائد عن غيره ممن سلم منها، وكان يقول أيضًا: "لا يعرف الوسوسة إلا من به وسوسة" فانظر أيها المنصف إلى هذا الطاعن بغير علم ولا تأصيل وإلى هذا المتواضع الغامط لحظ نفسه واحسب كم بينهما من التفاوت.
فحسبكم هذا التفاوت بيننا ... ... وكل إناء بالذي فيه ينضح
وها أنا ذا أردد متوجعًا مع أبي الفإلي رثاءه حسرة على العلم والمتصدرين للتعليم من الطغام الصغار كما في أماليه:
تصدر للتدريس كل مهوس ... بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس
قالوا عن الشيخ: ذمه الألباني بقوله: متكلف!
قلت: وهذه من أعجب ما سمعت وما بلغني أعجب منها، وقد مر معنا في الترجمة كيف احتفل الألباني رحمه الله تعالى بالشيخ وبكتابه بعبارة مفعمة بالتعظيم والاعتراف للشيخ بالعلم حتى أنه أحال على كتابه في خاتمتها كما رأيت، ومع ذلك فإنني مقر أنها لفظة الشيخ الألباني لكنني أنفي المعنى المستفاد منها شكلًا وموضوعًا حيث إن الشيخ قال: "..وإن كان يصحبه أحيانًا شيء من التساهل.. ثم التكلف في التوفيق بينه وبين الأحاديث.." فهذه العبارة إن دلت فإنما تدل على مدح لا ذم، لكن ذلك عند العقلاء الفاقهين فمن كانت عيوبه تعد فهو صاحب فضل كما قال القائل:
من ذا الذي ترجي سجاياه كلها ... كفى بالمرء نبلًا أن تعد معايبه
فمن ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط؟!! ...
وهذه العبارة لا تدل أصلًا على ما دلل عليه هذا الطاعن بقوله: ألم تر إلى الألباني قال عنه: متكلف!! وهذا كما أسلفت من العجب كخبط عشواء ركب متن عمياء؛ و ذلك لأمور:(1/79)
أولًا: أنه مع الأسف قد كذب إن صح ذلك عنه، وقد سبقت الجملة معنا في الترجمة كاملة وها هنا قد سقت بعضها آنفًا، ولم يقل الألباني رحمه الله في الشيخ: هو متكلف، وهناك فرق شاسع بين وصف هذا الطاعن وبين ما دلت عليه عبارة الألباني كما هو واضح.
ثانيًا: قول الطاعن متكلف هكذا على الإطلاق تدليس حيث لم يقلها الشيخ بل قال: "يصحبه أحيانًا شيء من التساهل.. ثم التكلف" وهذه العبارة إن دلت فإنما تدل على شيء يسير جدًّا من التساهل يطرأ على الشيخ في مرات نادرة والنادر لا حكم له0 وبهذا يتبين أن قول الطاعن متكلف من أقبح التدليس.
ثالثًا: بمعرفة ما سبق يعلم أن هذا لا يطعن في الشيخ ولا يصفه من المتساهلين كما هو مقرر في علم المصطلح!! ومن ثم لم يقل الألباني رحمه الله: متساهل وإنما قال: "يصحبه أحيانًا"، فالأولى حكم مستقر والثانية وصف منفصل طاريء والبون بينهما شاسع يعرفه من كان له قلب!!
رابعًا: ينبغي أن يعلم أن هذه المقولة انفرد بها الألباني رحمه الله وهو وإن كان سيِّدًا في هذا المضمار إلا أن حكمه مع بساطته وقربه إلى المدح والتعديل منه إلى أبسط التجريح، إلا أنه ربما أخطأ فيه كما هو معلوم والله المستعان.
فأقول: أين هذا التقرير في هذا الطعن بلا مستند0
ولا أتمنى الشر والشر تاركي ... ولكن متى يطعن على الشيخ أركبه
...
قالوا عن الشيخ: يفقد فقه الواقع.(1/80)
قلت: وهذه أيضًا كلمة مجملة مشكلة تحتاج إلى فهم وتوضيح، فما معنى كلمة: يفتقد فقه الواقع؟! قيل: إنه يصدر أحكاما لا يسقطها على الواقع، قلت: فها قد علمت حكم المسألة ومن السهولة بعد ذلك أن تعلم هل تستطيعها أم لا؟ وفي هذه الحالة يكون المستفتي هو الذي يفتي نفسه، فمثلًا يقال: لا تحل الميتة إلا عند المخمصة، فرحل رجل فساخت قدمه في الفيافي والقفار وأصابته مخمصة فهو مفتي نفسه إن خشي الموت أكل و إلا فلا وهكذا،هذا إن وافقنا على المصطلح الفائت و إلا فالفتوى إسقاط الحكم على الواقع ثم إخراج الفتوى وهذا بين في فتوى الشيخ0و أما إن كان المقصود هو لي أعناق الأدلة مع الواقع وإصدار الفتوى هكذا كما يحب المستفتي ويشتهي، فهذا نعوذ بالله أن يتصف به شيخنا ولا سائر شيوخنا ونعوذ بالله من ذلك، فهذه مسخطة لله تعالى مرضاة للعباد ويوشك أن يسخط بها العباد عليك، وكذا يسخط الله تعالى وتتحقق الخسارة الفادحة، نعوذ بالله من الخذلان وأزيدك أننا لم نر من الشيخ ذلك مطلقا، بل كان يسأل ويدقق في المسألة حتى يحيط بها علمًا ثم يسأل عن باقي أطرافها ويعتبرهم ويعتبر أحوالهم، ومن ذلك ما سمعته بأذني. قال الشيخ: حد الفقير أنه هو الذي لا يجد ما يسد جوعه وحاجته، لكننا لم نر هذا النوع الآن فحتى لا نعطل الزكاة نخرجها لأقرب من اتصف بهذه الأوصاف. أليس هذا فقه واقع؟!! والشيخ يفتي في من طلق امرأته ثلاثًا تأسيسًا أنها بانت بينونة كبرى، ومع ذلك فقد استفتاه بعض إخواننا عن أبيه وكان قد فعلها فسأل الشيخ عنه فعلم أن أباه رجل عامي لا يفقه قوله تأسيسًا أو تأكيدًا، فقال له: اذهب فمره أن يرد أمك، وحسبها واحدة أليس هذا من فقه الواقع؟!!
أقلوا عليهم لا أبًا لأبيكم ... ... و إلا فسدوا المكان الذي سدوا
قالوا عن الشيخ: أشعري.(1/81)
قلت وهذا افتراء واضح وقائله كذاب أشر، وعزاؤنا أن العلماء السالفين الكبار قد طعن عليهم بمثل هذه الافتراءات وكذا طعنوا على الشيخ، وهذا إن دل فإنما يدل على أن الشيخ يسامي السالفين فقد قالوا عن الشاطبي: ناصبي، وعن القاضي عياض: يهودي، وعن ابن حجر والنووي: أشعريان، وعن الإمام أحمد: إنه كافر مشبه، والشافعي: رافضي، وابن تيمية: كافر يقتل حدًا حيث إنه مشبه. ولا أجد ردًّا لمثل هذه الترهات إلا قول العلامة أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي في مثل هذا قال: "رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز" ولا أقول: العوام بل العلماء!!، ثم ذكر الخلاف بين الحنابلة والشافعية وذكر صولة كلٍّ عندما يترأس من ينصره، ففي أيام ابن يونس استطال الحنابلة على الشافعية فظلموهم، وفي أيام النظام استطال الشافعية على الحنابلة فظلموهم، ثم قال أبو الوفاء رحمه الله تعالى كلامًا هو بحق بيت القصيدة وعلم الفريدة وهو دواء لهذا العي الذي انتشر بين أوساط الملتزمين قال:" فتدبرت أمر الفريقين فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم وهل هذه إلا أفعال الأجناد يصولون في دولتهم ويلزمون المساجد في بطالتهم. أ.هـ كلامه. قلت وقد ابتلي الشيخ بهؤلاء الأجناد لكن على شاكلة ملتزمين والله المستعان.(1/82)
فأقول ردًا على هذه الافتراءات: هب جدلًا أن الشيخ أشعريًا،هل هذا يكفل لك كطالب علم أن تترك الشيخ وتهجره ولا تأخذ منه علمًا من أجل ذلك؟! سبحانك هذا بهتان عظيم وتنكب للمنهج السلفي مبين، فنحن نرى صحيحي البخاري ومسلم حشنا برواة، منهم الشيعة والقدرية والجبرية وغير ذلك من أصناف الفرق أصحاب البدع، ومع ذلك أخذ عنهم إماما المحدثين، أم كانت هذه الحقيقة قد غابت عنهم وصحت لك أيها الطاعن؟!! اعلم أخي علمني الله وإياك أن أبا الفرج بن الجوزي كان حنبلي الفروع- يعني الفقه- أشعري المعتقد، ومع ذلك يقول تلميذه ابن قدامة المقدسي: "كنا ننكر عليه أشياء في الصفات" ومع ذلك ترجم له ابن قدامة ترجمة حافلة وأثنى على شيخه ثناءً جميلًا، ألا فلتتعلموا يا طلاب العلم، بل إن قتادة بن دعامة كان قدريًا ومع ذلك أخذ الناس عنه العلم، وهذا جرير بن عبد الحميد قال بعضهم: سمعته على المنبر يسب معاوية ومع ذلك وثقه الحافظ في التهذيب ولا زالت آثاره مدونة في دواوين الإسلام ولازال الناس يترضون عليه،(ولا أقول هذا للتهوين من أمر البدعة ولكن ليعلم الطاعن منهج سلفه في كيفية أخذ العلم عن المبتدعة) إذا علمت ذلك تبين لك أيها الطاعن أنك مخطئ في هذا التشنيع على الشيخ وأقول تشنيعًا؛ لأنه مغاير للحقيقة، ومن الواضح أن قائل هذا الكلام والطاعن بهذا الطعن جاهل في هذا الباب لم يحط به علمًا، فقد اختلف العلماء من حيث الرواية عن المبتدعة على ثلاثة أقوال: الأول يردها مطلقًا، والثاني: ضده، والثالث وهو الراجح عند ابن حجر والسخاوي وهو فعل أصحاب الكتب المشهورة كالبخاري ومسلم وغيرهم من العلماء: أن الراوي المبتدع تقبل روايته إن لم يرو ما يقوي بدعته ويدعو إليها فحينئذ ترد روايته. ويستفاد مما قررته آنفًا أن هذا الطاعن قد أخطأ من ثلاثة وجوه:
أولًا: الجهل بالمسألة مع خوضه فيها.
ثانيًا: القدح في أعراض الناس بل سادة الناس وهم العلماء.(1/83)
ثالثًا: عدم البينة على كلامه هذا المنكر الخبيث.
وأقول مستطردًا: إنك أيها الطاعن لم تتبين أي شيء في هذه المسألة أو أنك كاذب في نفس الأمر عمدًا، أحلاهما مر!!! وهذا لأنني شاهد عيان على هذا الأمر خصوصًا وعلى هذه المسألة خصيصًا فحين بلغني هذا الكلام تحينت اجتماع الإخوة مع الشيخ ثم سألته عن الصفات والاستواء فأجاب: بعقيدة أهل السنة من الإثبات للصفة ونفي الكيفية من حيث التصور العقلي لا الكيفية في نفس الأمر ثم زاد الحسن حسنًا وعزا ذلك لابن تيمية وابن القيم وذكر كلامهم، وسألته عن الصفات فأجاب بما أسلفت إلا أنه لا يحط على العلماء الذين أوَّلُوا الصفات وقال لي: ثبتت بعض هذه الصفات بأخبار آحاد فلا أستطيع تضليل أحدًا أَوَّلَهَا، قلت: وهذا فعل الشيخ ابن باز رحمه الله، فما قال عن ابن حجر في حاشيته على الفتح ضال أو غيرها، ولكن يثبت مذهب أهل السنة فقط ولا يسب ولا يطعن بل و يستدرك لكن بكل أدب0وقد ذكر الألباني الأشاعرة في أهل السنة بل وقال بن تيمية هم أقرب الناس إلى أهل السنة والجماعة بل هم أهل السنة في بلاد الرافضة0(1/84)
قال الشيخ: لكني أقول بقول ابن تيمية وابن القيم. قلت: فها أنا ذا شاهد عيان حجة عليك ولست أنا فحسب بل وجمع من الإخوة يشهدون على ذلك، ولعل قائل هذه القالة يرتدع أكثر من هذا إذا سمع شريط الشيخ في الرد على السبابين هذا الحزب الجديد الذي خرج يسب العلماء ويبدعهم بلا مستند فقد أدبهم الشيخ في هذا الشريط جيداً وأرى بعد هذه الدلائل الناصعات أنك أيها الطاعن قد وقعت في حيص بيص!!! ولا أحرج عليك أكثر من هذا لكن أقول لك نصيحة من مشفق: كف عن أذى الشيخ لا يلحقك هذا الأذى في عقر دارك من جراء ما قلت وأشعت-وكأن قدِ- ، فإن الطعن في الأعراض لا يجوز فكيف إذا كان عرض عالم مثل الشيخ؟!! قال النبي صلى الله عليه وسلم: "..فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا" رواه البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه.(1/85)
قالوا عن الشيخ: كثير المخالفة لأكثر العلماء المعاصرين ولو أنه وافق لكان أوفق. قلت: وهذه الكلمة من أخف الطعن على الشيخ بل ظاهرها الاسترشاد؛ ولذلك أقول: أيها الأخ اعلم أن من المقرر في علم الأصول أن على العالم إذا ترجح لديه شئ أن يفتي به، وذلك هو السر في فتاوى سلفية لبعض العلماء تجدها شديدة الغرابة؛ وذلك لأنه اعتقدها، وهذا أيضًا من علامات صحة القلب وهو ألا يضعف بكثرة المخالفين، فقد قاله ابن القيم رحمه الله في (إغاثة اللهفان): "أن هذا من علامات صحة القلب" وقد قيل لإسحاق بن راهويه وقد أفتى في مسألة: قال بها أخوك أحمد بن حنبل. قال: والله ما ظننت أن يقول بقولي أحد. وعمل العلماء بازاء مثل هذه الفتاوى إن كانت خاطئة نبهوا على خطئها وفقط دون أي تعنيف؛ لأن قائلها مأجور غير مأزور لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران فإن أخطأ فله أجر واحد" فهذه حكومة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وهي أعدل وأحكم وأفضل كما هو بيّن، فمخالفة الشيخ لغيره من العلماء لا بأس بها لا سيما وقد خالف المعاصرين دون المتقدمين، فأكثر مسائل الشيخ التي اعترض عليها الناس إنما أفتى بها أكثر السلف، كمسألة حكم صلاة الجماعة مثلًا وقد سبق تفصيل ذلك، وبهذا التأصيل يتبين أن هذا لا مغمز فيه أصلًا والأهم هو موافقة السلف إذ هم منبع العلم وأصول المسائل عندهم لا عندنا، وغاية ما وصل إليه المعاصرون هو الترجيح بين أقوالهم فحسب.
إن ثبت هذا والذي قبله عُلِمَ أن الشيخ قد خرج من هذه أيضًا ولازال الناس يختلفون، ومن لم يعرف الخلاف لا يعرف الفقه ولا يفقه الدين؛ لأن الله تعالى فرق العلم بين الناس بنسب معلومة حسب ما قدره سبحانه وتعالى، فما نقص عند هذا كمل عند الآخر وبالعكس، وإن كان الكل لله فقيرًا وأنى له الكمال من خلق ظلومًا جهولًا (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19)(1/86)
وقل لمن يدعي في العلم شيئًا ... عرفت شيئًا وغابت عنك أشياء ...
ثم اعلم أن الخلاف المعتبر بين أهل العلم ليس بمذمة مطلقًا و إلا لما اختلف السلف، ولكنه تحقيق لمشكل وتوضيح لغامض وتبيين لمجمل وتخصيص لمخصوص وإظهار لفوائد الآيات والأحاديث، والاحتجاج بالآية والأحاديث في غير ما مجال مما يبين لغيرنا عظمة ديننا وكلام ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وتحقيق أسلافنا رضي الله عنهم، وأيضًا من فوائده: تقليل الخلاف فيما بيننا لا سيما إذا كان الخلاف معتبرًا له وجه من النظر، ومن ثم يكون توسعة على الناس ومجلبة للود واتساع الأفق.
فساغ لي الشراب وكنت قبلًا ... ... أكاد أغص بالماء الفرات
قالوا عن الشيخ: لا يدعو إلى الله وشديد في بث العلم.
قلت: وقبل أن أدبج ردًّا على هذه، أتساءل هذا السؤال والذي كررته في هذه الرسالة وهو: هل أنت سلفي؟ فإن قلت: نعم فعلى ضوء قراءتك عن السلف، هل كانوا يرون أن من انشغل بالعبادة مع ما هو فيه من العلم الغزير، هل رأيتهم قالوا عنه: إنه مخطئ آثم؟!! فأجيبك قائلًا: لا والدليل هو ما ذكره الذهبي في (السير) في ترجمة علقمة صاحب ابن مسعود وأفضل طلابه: أنه قيل له هلَّا جلست في المسجد وتسأل وتقرىء، فقال: "لا أحب أن يطأ الناس عقبي ويقولون هذا علقمة".
قلت: مع أنه كان من أعلم الناس لا سيما بشيخه أبن مسعود رضي الله عنه، وفي ترجمة مُرَّة الهمداني قال الذهبي عنه: "كان يصلي ستمائة ركعة في اليوم والليلة"، وعلق الذهبي قائلًا: "فلم يتفرغ هذا السيد العابد لبث العلم وهل ثمرة العلم إلا العمل؟" قلت: فهذا هو الذهبي أقر مُرَّةَ على ذلك، ومع هذا يقال: لقد دعوا أيضًا وآراؤهم مدونة في كتب الفقه وغيرها، إن علم ذلك علمت أن الدعوة فروع كثيرة وليست فرعًا واحدًا وهذا أصل ثان أقرره أيضًا والله الموفق للصواب.(1/87)
أما قولك عن الشيخ: قليل الدعوة؛ فلعل فيما مضى رد على هذا القول وأزيدك فأقول: إن هذه العبارة مليئة بالأغاليط؛ ذلك لأنها إن دلت فإنما تدل على ضيق عطن وأفق من اتهم الشيخ بها من حيث فهمه لمعنى الدعوة إلى الله، فإن الله تعالى قد خلق الدعوة إليه في قلوب المسلمين جميعهم مؤمنهم ومنافقهم ومرائيهم؛ وذلك لأنه عزيز والانتساب إلى العزيز عز في نفس الأمر فيرنو لهذه المرتبة كل صادق وكاذب وما تولد منهما، والدليل على ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار وفيه: "..ويؤتى بقارئ القرآن فيقال له: ما فعلت فيه؟ فيقول: تعلمت القرآن فيك وعلمته فيك، فيقال: كذبت بل ليقال: قارئ وقد قيل..) رواه البخاري فتأمل جيدًا هذا الحديث ثم أردفه بهذا أيضًا: "يؤتى بعالم فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور حمار برحى فيقال له: يا فلان مالك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلي كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه" رواه البخاري. قلت: فتأمل هاتين اللفظتين: ( تأمرنا، وعلمته)، ففيهما دلالة على أن الرجل في كلا المثالين مُرَاءٍ ولا يعمل بما يقول ومع ذلك فإنه قد علم ودعا إلى الله تعالى ردحًا من الزمان كفل له أن يكون له طلبة يعرفونه واشتهر بينهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا بحمد الله واضح لكل ذي عينين، فإن قيل: فَلِمَ تركهم الله في بهاء بين الناس ومروءة ولم يفضحهم؟ يقال: لأن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر كما قال صلى الله عليه وسلم، وما أكثرهم!.(1/88)
إذا ثبت هذا فأردفه بآخر وهو أن الدعوى ليست مقتصرة على نوع واحد، لكن من علم حديثًا فقد دعا ومن علم آية فقد دعا ومن حسن ظاهره فقد دعا ومن أفتى فقد دعا ومن أتى بغيره إلى المسجد فقد دعا، فأي نوع من أنواع هذه الدعوة تركه الشيخ؟! إن كان قد ترك نوعًا فقد فعل آخر وهكذا، فالشيخ يدعو على أية حال كما سبق تقريره ولوحظ من هذا التأصيل الفائت، فأي طعن يوجه إليه إذًا؟!! إن قصد أخونا تركه للدعوة المنبرية، قلنا له: ألم يؤلف كتبًا كما سبق في ترجمته؟ بل هو الآن منشغل بكتاب لعله يكون بمثابة العروس المجلية في هذا الزمان وهو كتاب (ترتيب مسند الإمام أحمد) أليست هذه دعوة؟ مع أنني أزيدك إن كنت لا تدري أن للشيخ مجلسًا شهريًا للفتاوى في مسجد الحق بحلوان خلف المعهد الأزهري ـوقد انقطع هذا الدرس لظروف !!!-لكن له الآن مجلس فتوى آخر في مسجد الصديق بحلوان وأيضًا كان له مجلس فقه بمدينة الموظفين كما سبق، أضف إلى ذلك المجالس الخاصة التي تكون على أثر دعوةً للشيخ من أحد طلابه في منزله لعقيقة أو وليمة أو غير ذلك، وفي دكانه يفزع إليه كل رؤوس الطلبة في حلوان تقريبًا وكنت أرى بنفسي السائلين وهم يدخلون واحدًا تلو الآخر في دكان الشيخ يستفتونه في مسائل الطلاق التي أحالها عليه الشيخ: مصطفى محمد شيخ حلوان حفظه الله تعالى، وقد حدثني الشيخ أنهم ربما أتوه في بيته للسؤال.وتقول زوجة الشيخ إلى الآن يأتي الشيخ محمد بن عبد المقصود للشيخ في البيت للزيارة والنقاش وقد مضى ذلك في ترجمة الشيخ، فهل هذه أيضًا ليست بدعوة؟! أم أن القوم لا يعرفون معنى كلمة (دعوة)؟!!. ...
و إلا فليدلني الألباء كيف خرج الآن وفيما مضى طلاب علم ينسبون للشيخ كما سبق في ترجمته أم أنهم نسبوا أنفسهم إليه بلا تعليم ولا تعلم ولا إرشاد؟!!
والدعاوي إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء(1/89)
إن ثبت ذلك فقد نقضت هذه الدعوى وهدم هذا المبنى وأزيد أيضًا قائلًا: أهمس إليك أخي القارئ بهذا السؤال الذي كررته كثيرًا هل أنت سلفي؟ إن قلت: نعم، قلت: فالسلف لم يكونوا يفكرون بمثل فكرك هذا، ولكنهم كانوا مختلفين تمامًا في معاملة الشيوخ، فاسمع بارك الله لك في سمعك إلى هذه الوصية: إنك وارد على الشيخ لا العكس فينبغي لك أن تعلم أنه ينبغي عليك أن تتشكل كما يعجب شيخك وتروض نفسك على طباعه، فإن أرادك أن تأخذ العلم واقفًا مثلًا أو لم يسمح لك بالقعود أو قال لك: امكث على باب بيتي في البرد القارص حتى أعطيك العلم في الصباح فبها ونعمت، المهم أن يحصل العلم والتربية، وهذا لا يكون إلا من قبل شيخك واستمع إلى أخبارهم يرحمك الله، هذا هو الإمام العلامة الكبير: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وكان قد وقف ببابه السيد العابد الكبير المعظم: زين العابدين بن النبي صلى الله عليه وسلم فتركه على بابه زمنًا طويلًا وقام يصلي فقيل له: أوقفت ابن بنت رسول الله على بابك كل هذا الزمان فقال: "اللهم غفرًا لا يدرك هذا الشأن إلا بالذل والنصب". وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "كنت أعلم أن الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عنده آية من كتاب الله تعالى فآتيه فأجده نائمًا فأقيل على بابه تسفي عليَّ الريح رمالًا حتى يخرج فإذا رآني قال: لو أمرتني لأتيتك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول: أنت أحق".وهذا ابن خزيمة ذكر بعض شيوخه بمصر و هو أبو عبد الله البوشنجي وقال: "لولا أنه كان شديدًا في بث العلم لما خرجت من مصر وما منعه ذلك من الصلاة عليه لما توفي والثناء عليه فيما بين ذلك" ومن المواقف التي تذكر لابن خزيمة مع البوشنجى أنه صلى يوما على جنازة ثم توجه إلى راحلته فأمسك بن خزيمة بلجامها وغيره بالغرز وثالث بالغرز الثاني فلما استوى على الراحلة مضى ولم يكلم أحداً منهم.(1/90)
قلت: هكذا فليكن الأدب يا طلاب العلم مع الشيوخ، فإن الشيخ ينبغي أن يكون صنو أبيك وأمك، بل لعله أن يكون أفضل منهما بالنسبة لآخرتك، فهو الذي يدلك عليها والأبوان إنما يدلان غالبًا على الدنيا وشتان بين هذا وذاك،ولله در محمد بن هارون الدمشقي فقد قال معلماً0
لمحبرة تجالسنى نهارى أحب إلي من أنس الحبيب
ورزمة كاغد فىالبيت عندى أحب إلي من عدل الدقيق
ولطمة عالم في الخد منى ألذ لدي من شرب الرحيق
وأما عن ترك العلماء للمجالس الدعوية الظاهرة فقد وقع هذا في سلفنا. فهذا أبو عاصم الضحاك بن مخلد لما علم أن شعبة قد ترك التحديث فقال له الضحاك: إن رجعت إلى التحديث فسأعتق غلامي هذا، فقال له شعبة: "أنت نبيل" فسمي من يومها النبيل. وهذا الأعمش وهو من أئمة القراءات ولكن لم يقرئ إلا ثلاثة فقط. وهذا بشر بن الحارث الحافي كان إذا جلس للتحديث وجلس إليه أكثر من اثنين قام وترك التحديث وقد ترك السيوطي التحديث واعتزل عن الناس في منزل له، ولو بحثت أخي في كتب التراجم والتواريخ لرأيت من هذا الكثير،فقبل أن تطعن تعّلم وأثبت العرش ثم انقش، وقبل أن تتكلم اقرأ وتعلم فإن الله خلق لنا لسانا واحدا وأذنين حتى يكون السمع أكثر ولتكون القراءة والمعرفة قبل وأكثر من الكلام والتصدر، فهؤلاء السالفين ما سمعنا أن طلابهم سبوهم ولا شنعوا عليهم ولا شغبوا، فتعلم الأصول أولًا ولا تكن مثلما قال القائل: "أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل".
وهذه موعظة أختم بها هذه الفقرة وهي من عالم جليل يسمي ( يموت) وعظ ولده يومًا فأبلغ في أبيات شعرية رقراقة وأسوق لك منها بيتًا هو الذي نحتاجه في هذا المقام والله المسئول أن تعيه جيدًا قال:
وإن بخل العليم عليك يومًا ... ... فذل له وديدنك السكوت(1/91)
قلت: فلم يقل فسبه وشنع عليه وذب الناس عنه، وصدق القائل يوم قال: "من خدم المحابر خدمته المنابر" وأزيدك أخيرًا: إن الشيخ ما امتنع عن هذه الدعوة المنبرية الجهرية إلا لكثرة مخالفتكم له، فإن هذه الطعون الفائت ذكرها إنما صدرت من طلاب علم يلقون الكلام على عوانه كما يعلم ذلك المنصفون، فمثل هؤلاء الجهال يحق للعالم أن يعتزلهم ولو بقي العلم في صدره إلى أن مات، ولا ينكر ذلك أحد شم رائحة السلفية واستقراء حياة السلف فهذا عبد الرحمن بن مهدي كان إذا قطٌ أحد القلم في مجلسه ترك المجلس ودخل بيته، فإن قيل: هذا البويطي صاحب الشافعي يوصي إخوانه بأن يتحملوا طلابهم وأن في ذلك رفعة للشيخ، وكان الشافعي يقول كثيرًا متمثلًا بهذا البيت:
أهين لهم نفسي لكي يكرمونها ... ولا تكرم النفس التي لا تهينها
قلت: هذه وصية البويطي والشافعي من قبله، لكن لمن يستحقون اسم طلاب العلم، والمطلوب فيها: الصبر على شدة حبهم للعلم مما يحوج الإمام إلى حبس نفسه عليهم والصبر على كثرة إلحاحهم في الطلب والرفق بالغريب منهم وبذل النفس له، وهذا لا غبار عليه مطلقًا والعلماء مطالبون بهذا والشيخ أيضًا يفعله مع طلابه ولا ينبؤك مثل خبير، لكن من المعلوم لكل ذي لب فضلًا عن كل ذي علم وفقه أن الطالب الذي يسب شيخه ويشنع عليه لا لشيء إلا لأجل مخالفته في الرأي، فهذا لم يشم رائحة العلم؛ لذا لا تجد منه نتيجة ولا كثير أثر وانظر تخبر!!! ففي هذا وأمثاله يقول الشافعي لما أن حدث معه مثلما حدث مع الشيخ من طلاب الإمام مالك وظنوا أن الشافعي سيوافق مالكًا على كل شيء فلما خالفه رأى منهم مثلما رأى الشيخ من هؤلاء الطلبة الذين أحكي فأنشأ قائلًا:
أأنثر درًّا بين سارحة النعم ... أأنظم منثورًا لراعية الغنم
لعمري لئن ضيعت في شر بلدة فلست مضيعا بينهم درر الحكم
فإن فرج الله الكريم بلطفه وصادفت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدا واستفدت وداده و إلا فمكنون لدي و منكتم(1/92)
فمن منح الجهال علما أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
ولله در الأعمش فقد قال: "لا تعلقوا الدر في رقاب الخنازير" والله الهادي إلى سواء السبيل.
أخي في الله لعل هذا الرد السابق وما قبله كان قد أفادك، فلا للطعن تعد وكن سلفيًا في كل شيء فإن استطعت أن لا تحك جسدك إلا بأثر سلفي فافعل، وليعلم الطاعنون جيدًا أن الشيخ من أكابر العلماء كما تبين من ترجمته ومن ثناء الناس عليه، فلينتفع به الطلاب قبل فقده، فإن فقد العالم بلية حقًا ومحنة محناء.
لعمرك ما البلية فقد مال ... ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن البلية فقد فذ ... ... يموت بموته خلق كثير
وها أنا ذا أنعي على زمان نحياه خرج الطغام السفلة على هذا العالم المدرة فسبوه وأغلظوا له وافتروا عليه، ومن قبل كان سباب العلامة الألباني يسجل على شرائط في غضون دروس علمية زعموا، وكذا سباب العلامة ابن باز الكل تعرض لجور السفهاء، ولم ينجو منهم حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عطلوا سنته من أجل تعصب لمذاهب ورجال،
وقد أحس الشافعي بهذه المحنة فدبج أبياتًا ينعي فيها على كثير من الناس فقال:
ليت الكلاب كانت لنا مجاورة ... وأننا لا نري ممن نرى أحدا
إن الكلاب لتهدأ في مرابضها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا
فأنج نفسك واستأنس بوحدتها ... تلفى سعيدًا إذا ما كنت منفردا
(لحوم العلماء مسمومة)
وهذا فصل حسن أردت بإيراده الردع لكل إنسان لا يخشى الله عز وجل ولا يتقه إلا إذا أصيب بعذاب ظاهر أليم، وبئس هذا العبد فإن الحر تكفيه الإشارة لكن عسى أن تكون هذه المواقف التي أنا لها شاهد عيان يكون لها تأثير في مثل هذا العبد وأن تكون بمثابة النذير لكل من تحدثه نفسه بالوقيعة في العلماء وأهل الفضل والله الموفق.(1/93)
وهذه حكاية عجيبة سردها لنا يومًا شيخنا أبو الأشبال حفظه الله تعالى ليؤصل عندنا أن لحوم العلماء مسمومة وليعلمنا أن نحجم ألسنتنا عن الناس عامة وعن العلماء خاصة، ومن منهجه هذا قد استحلبت هذه الخاتمة قال الشيخ: كان قوم يلعبون بالكرة وسقطت في مرمى أحدهم فقال: (جول) وقال الآخر: (لا)- يكذبه- وإذا بأحدهم يتطاول قائلًا: ستسكت أو آتيك بالشيخ ابن باز يفتيك أنها جول- وكان هذا بعد فتوى الشيخ أثناء حرب الخليج- قال الشيخ أبو الأشبال: فذهبت الكرة بعيدًا وذهب هذا الولد يعدو خلفها حتى انحاز وبلا سبب أو مقدمات عن الكرة لتذهب عنه بعيدًا ويتحول هو في جهة مغايرة ليرتطم بحائط فيسقط من ساعته ميتًا. وذكر الشيخ لنا أيضًا عن غلام كان يسب الشيخ الألباني ويتطاول عليه فأرداه الله في هوة سب العلماء فألف كتابًا أسماه ( إلقام الحجر للحافظ ابن حجر) ثم تردى بعد ذلك حتى سقط في هوة الفتوى بغير علم فأفتى أن المفروضة صلاتان أو ثلاث!!! وقد قال الحسن: "إن من نصرة الله لك أن ترى ظالمك يعمل بمعصية الله"0
ولا غرو فهم وفد الله وخاصته وهم ورثة الأنبياء، ولا يتطاول عليهم أحد إلا ذب عنهم الله سبحانه بنفسه غيرة لخاصته وأهله، وأشهد بالله ما تطاول أحد على الشيخ فيما أعلم ثم لم يعد لتعظيمه والإقرار له بالفضل والاعتذار والتوبة من فعله ورد هذا السب عنه إلا خذل وصار منبوذًا أو على الأقل لا يزال غمرًا لا يؤبه له ولا يرفع الناس به رأسًا، وإليك أمثلة حية شاهدتها أو عاصرتها وأنا شهيد عليها أمام الله عز وجل:(1/94)
فهذا غمر عندنا له قصة عجيبة لا يلحظها إلا من أدرك ما قدمته أعلاه، وذلك أن هذا الشخص كان يبغض الشيخ جدًّا إلا أنه كان يضمر ذلك في نفسه ولا يفصح به إلا في مجالس خاصة ليس فيها إلا من هو على شاكلته- وما أكثر هؤلاء الذين يتعاملون بالتقية ولو أظهروا لنوظروا ولو نوظروا لخذلوا ودحضوا- فلما علم أن الشيخ لا محالة سيعطي دروسًا جن جنونه وذهب كل مذهب وكان أخوف وأقل من أن يواجهني أو يعترض لما أظهره مسبقًا من الموافقة، فذهب إلى بعض الإخوة ونفث ما في صدره وأكثر حتى تكلم لمدة ساعة تقريبًا مع هذا الأخ يشجب فيها ويستنكر ويعترض ويسب ويكذب ويفتري حتى بلغني هذا الكلام، وكان هذا تاريخًا لسقوطه وأول سقطة أنني لما واجهته كذب، وقال: لم أقل. فصار بين الناس كذابًا، ومن يومها فصاعدًا قد وقع في أكثر من خطأ حتى أنه إلى لحظة كتابتي هذه السطور مبغوض من جمع كبير من الإخوة الذين كانوا يعظمونه من قبل حتى أن البعض اتهمه بالسرقة، وصار يشيع ذلك بين الناس، وإن كنت أورد مثل هذا فمن أجل الموعظة وفقط لا لأنني أرضاه، لا من أجل هذا الغمر، وإنما لأنه حد من حدود الله وأعجب من ذلك أنه قد تغير لسانه حتى استدرك الناس عليه في قراءة القرآن فهو لا يحسن قراءة الفاتحة! ومن ذلك أن امرأته كانت حبلى وكانت قد واجهت عسرًا في حملها هذا، وأخبرنا بعد ذلك أنها صارت في خير حال وأن الطبيب المختص أخبر أنها ستحتفظ بمولودها هذا بلا أي ضرر عليها أو عليه، ثم سقط الأنوك في هذه الهوة الساحقة وهي سب العلماء فوالله وتالله وبالله ما هي إلا أيام حتى وجدناه قد جاء بابنته بنت الشهور المعدودة سقطًا وبلا مقدمات ولا أسباب، نعم كانت هناك أسباب طبية ظاهرة لكنها أتت فجأة وبلا مقدمات على غير المعهود، فلم يستفد الأعمى من هذه الحادثة بل هو محارب للإخوة إلى اليوم وإلى لحظة كتابتي هذه السطور- هداه الله-.(1/95)
وهذه قصة أخرى شاهدتها أيضًا وهي أن رجلًا كان كثير المعارضة للشيخ وكان كثير الإنكار عليه لا سيما في قراءته بحرف الضاد، خصوصًا أن الشيخ يظهرها في الصلاة السرية أيضًا فتسمع منه وكان لهذا الرجل على عدائه هذا أعوان، فوالله لقد سمعت من العامة ذمه وبشدة بعد الرضى عنه والقبول وتفرق الناس من حوله حتى أقرب الناس له والموافقون على كلامه، وقد رأيت أعوانه قد ابتلي أحدهم بحادث على إثر ملاحاة كانت بينه وبين الشيخ بسبب تأخر الشيخ في المسجد فأساء الأدب مع الشيخ، ثم انصرف فارتطم بعدها بسيارة هشمت عظام أسفل حقوه، فلما أفاق من الجراحة والتي هي تركيب مسامير صناعية بدلًا من عظامه المتهشمة، فلما أفاق كان أول كلام دار على لسانه أن قال لزائره: قل للشيخ عطاء يسامحني فأخبر الشيخ، فقال: أما إني سأدعو له. وآخر اختلف مع الشيخ في مسألة يسوغ الخلاف فيها فتعصب لرأيه وطفق يسب الشيخ ويدعو عليه فأراد أن يحفظ الناس القرآن فقطع شوطًا كبيرًا ولم يخرج واحدًا يستظهر القرآن، ولقد رأيته يطلب منه إماما في بعض المساجد فكان يأتي كل يوم بواحد ليختبره عمليًا فيخطىء ويكثر خطؤه، وهكذا دواليك حتى عرض أمام عيني ثلاثة أو أربعة ما أحسن أحد منهم الصلاة بالناس فضلًا عن أخطاء في الأداء، وهكذا ما تخرج من تحت أيديهم رجل يملأ العين، وكيف تنبت أرض نكد ليس فيها كثير خير حتى تبثه في غيرها، ولكنهم عن هذا غافلون وهذا القصاب الذي ذكرته في صدر هذه الرسالة والذي فرح لما أخذ الضأن من الشيخ وأخذ يغني ويرقص ويظهر الشماتة، أقسم بالله لقد رأيت شقته بعد صلاة العصر حرقت تمامًا وما راعني إلا لما رأيت أهل بيته، فعلمت بعدها أنها شقته وكانت حديثة الشراء والتشطيب.
(وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (ابراهيم:42)
خاتمة(1/96)
الحمد لله وكفي وسلام على عباده الذين اصطفي لا سيما أميرهم المجتبى صلى الله عليه وسلم أما بعد.
فها قد رددت الطعون بما فتح الله عن شيخي وسيدي النادرة الشيخ عطاء، وليس ذلك لإماطة الأذى عن الشيخ خشية أن يلحقه أو أن يتدني لا. لا. فالشيخ نجم وبينه وبين ذلك مثل ما بين الثرى والثريا، ولكنني أرد ذلك لتعليم ناشيء مسلم وردع مصر مجرم، فمن المعلوم أن هناك طلاب علم نشأوا لا يعرفون الشيخ ولا رأوه ولست الآن بصدد تفصيل أسباب ذلك، لكن ليعلم القاصي والداني أن الشيخ سماء بالنسبة لهذه الطعون المغرضة وما طعن عليه ولا سبه إلا حاسد مأفون، وكل من طعن عليه سفلة لا يرفعون إلى الآن رأسًا ولا وزن لهم عند العالمين ولا ينبؤك مثل خبير، ومن المعلوم أن طعن هؤلاء الذين هم بهذه الصفات إنما هو عند العقلاء مدح لا ذم كما قال الشاعر ولله دره:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهو الدليل على أني كامل
فلتحلق يا شيخنا في سمائك العالية التي تربو عن الدنايا ولتربأ بنفسك عن مخالطة أمثال هؤلاء الطاعنين الجاهلين وقد رزقك الله ثلة من المخلصين يذودون عنك كل كذب وزور وافتراء ولتتجلى في حلتك الزاهرة القشيبة ليلوذبك النشأ الطيب الذي يبحث عن العلم مع العمل لينهل من بحرك الزاخر ويقطف من بستانك الوارف العامر نفعنا الله بك وزادك علمًا إلى علمك وشرفًا إلى شرفك وتقوى إلى تقواك، ولتتقبل يا سيدي مني هذه الأبيات اعترافًا بفضلك ومدحًا مني لشخصك ولا أدعي عصمتك لكنني أشهد بالله أني لم أر مثلك ولم أبالغ في أبياتي هذه بل هذا ما أعتقده فيك ولا أظن يخالفني في ذلك كل منصف فلا يعرف الفضل لذوي الفضل إلا أولو الفضل، وكما قيل: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار وقد استمجد شيخنا على كثير ممن يليه؛ لذا قلت فيه:
ماذا أقول وقد فقدت بناني ... وأنا أحدث عن إمام عالي
جفت دمائي في العروق وذاك من فرط اكتراثي بسيرة المفضال(1/97)
لا تحسبن أخي أني مفرط أو أنني في الشيخ رجل غال
لو قد عرفت الشيخ عن كثبٍ لقلت ... كثير مدح الشيخ فيه قلال
بل لو نظرت إليه نظرة منصف ... لرأيت زهد صحابة أو تالى
لو شئت فانظر علمه أو همه أو قوله أو فعله أو حال
ستري بحق نسيج وحد نادر ... هذا سراج زماننا المتلالي
يا رب فاقبل سيرة في شخصه واربط على قلبي السليب العاني
ولك المحامد كلها حمدا كما يرضيك لا يبلي على الأحوال
واغفر بفضلك للذي لها قد نظم ما ناح قمري على الأطلال
ثم الصلاة على النبي محمد وعلى الصحاب وتابع والآل
(من ديوان :الشيخ الإمام للمؤلف)
وأخيرًا أخي في الله تعالى: هذا هو الكتاب بين يديك آمنا كحمام مكة فتقبله قبولًا حسنًا واحلب واشرب وقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا منه ثم ادع لجامعهابغفران الذنوب وستر العيوب، وأعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق، والحمد لله أولا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا سبحانه وبحمده وتقدس.
وكتبه: أبو عبد الرحمن السيوطي
سمير بن مصطفى بن عبد الله
سامحه الله
جميل الخصال
رأيت بعيناي شيخ أشم جميل الثنايا عظيم الهمم
فلله درك يا من له جميل الصفات وخير الشيم
تأسى بخير الأنام فصار له فى فروع العلوم حكم
فبحر الحديث وفى جانبيه علا الزهد واشتد عود الكرم
أديبا أريبا إذا رمته أبيا تقيا ورب العم
كثير الحياء شديد الورع بشتى الدروب له مستهم
فقيها ذكيا إذا جئته كذا فى الأصول نراه علم
تجرد من كل حظ وضيع فيرعى الحياد إذا ما حكم
غريبا يعيش بهذا الزمن كمسلم حل بلاد العجم
له فطنة لا يراها الغبي إذا الخطب حل بنا أو ألم
على قارب العلم طوق النجاة لكل شريد إذا ماعزم
(قاله الأخ الشاعر:محمد بن يونس)(1/98)