جامعة محمد بن عبد الله شعبة الدراسات الإسلامية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وحدة القرآن والحديث وعلومها
- فاس -
كتاب "بداية المجتهد وكفاية المقتصد" لابن رشد
ودوره في تربية ملكة الاجتهاد
بحث لنيل دكتوراة في الدراسات الإسلامية
إعداد الطالب الباحث تحت إشراف الأستاذ
محمد بولوز الدكتور أحمد البوشيخي
السنة الجامعية
2006-2007
( إهداء(
إلى أمي وأبي اللذين ربياني وسهرا على تنشئتي وتعليمي..
إلى زوجتي وأبنائي وأقربائي الذين تحملوا معي آثار الانشغال بهذا العمل المبارك..
إلى طلبة العلم الشرعي الراغبين في اقتحام عقبة الاجتهاد..
إلى العلماء الربانيين العاملين، رغبة في نصحهم و إرشادهم..
إلى عموم أمة الإسلام التي أتمنى لها عزة ووحدة وقوة..
إلى روح ابن رشد الفقيه الفيلسوف رحمه الله وأسكنه فسيح جناته..
أهدي هذا العمل العلمي الذي أرجو أجره وثوابه من رب العالمين.
الحمد لله الذي علم بالقلم،علم الإنسان ما لم يعلم.وأخرج من شاء من عباده من ظلمات الجهل والضلال والهوى والطغيان، إلى نور العلم والهداية والتقوى والاستقامة.وأنار بضيائه الأبصار وبوحيه العقول والبصائر،وحفظ بشريعته الدين والنفوس وصان العقول والأعراض واحتاط للأموال ومصالح العباد.
وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على خير من ولدت النساء, محمد وعلى آله وصحبه الكرام.صفوة خلق من له الخلق والأمر, الذي يخلق ما يشاء ويختار،خلق ما يدب على الأرض فاختار منهم بني الإنسان،واختار من الناس الأنبياء والرسل،واختار من هؤلاء أولي العزم ،واختار من أولي العزم محمدا،فجعله خاتم رسالاتهم،وواضع اللبنة التي اكتمل بها البناء.ومبلغ آخر وحي بين الله وعباده ,وضمنه النداء العلوي لبني البشر "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"(المائدة:4)(1/1)
فبطلت المناهج إلا منهج الإسلام"ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" (آل عمران84)وسدت الطرق إلى الله إلا ما كان من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم،قال تعالى:" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المومنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا"(النساء 114)وقال عز و جل :" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم،قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين"(آل عمران:31 32)
وورث العلماء العاملون هذا الميراث العظيم, وعلى رأسهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم،وأخذ المشعل بعدهم التابعون،ثم أتباع التابعين،ثم الأئمة المجتهدون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.فتدرج حال الناس نحو الأفضل والأحسن بمقدار اجتماع العلم النافع فيهم والعمل الصالح،وتسرب إليهم سوء الحال بمقدار ضعفهما فيهم، أو افتراقهما وتشتت ميراث النبوة، حتى حسب كل فريق أنه على الدين كله.
ومن روعة الدين الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ورائه جميع الأنبياء، قدرته على ملاحقة الحوادث والمستجدات، واستيعاب تنوع واختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال بحيث لا يكاد يند شيء عن النص أو الفهم عن النص.
وتبقى آلية الاجتهاد الفاعل المؤثر في بسط رداء التدين، ومد ظله ليشمل النوازل والجديد من قضايا الحياة، التي لها صلة بالناس ،وتقتضي حكما في الشرع .وهذا الاجتهاد يستوجب شروطا وتأهيلا وتكوينا لملكته ،وهو ما يحاول هذا البحث مقاربته والغوص في بعض ما تيسر من تفاصيله،انطلاقا من نموذج جعلته كالوتد أو الآخية أسرح بعيدا قبله وبعده وأحوم في محيطه وما حوله، ويكون أحيانا هدفا في حد ذاته، وأخرى مجرد وسيلة أو قل: قاربا أخلص به كلما تلاطمت بي أمواج الاجتهاد أو خفت الضياع في دروب المجتهدين.(1/2)
ذلك النموذج والقارب هو الكتاب العظيم "بداية المجتهد وكفاية المقتصد" للفقيه الأصولي العظيم ابن رشد الحفيد،فجاء عنوان البحث "كتاب بداية المجتهد وكفاية المقتصد"لابن رشد ودوره في تربية ملكة الاجتهاد ".
وقد جاء الباب الأول ليجيب عن سؤال: لماذا هذا الاختيار لهذا النموذج بالذات ليكون منطلقا لمدارسة تربية ملكة الاجتهاد ؟ وعنونته ب"ابن رشد الفيلسوف الفقيه وكتاب "البداية" وعقدت
الفصل الأول فيه للحديث عن عصر ابن رشد وحياته الشخصية والعلمية وفلسفته وعقيدته وشيوخه وموسوعية تكوينه وغزارة إنتاجه،وتحدثت عن بعض أسباب محنته،كما عرجت في هذا الفصل عن الحالة المدنية و الاجتماعية ونهضة الفنون و العمران بما يجعلها بيئة مناسبة للتداول في أمور التجديد والاجتهاد.
ثم جاء الحديث في المبحث الثالث من هذا الفصل عن آثار ابن رشد وتأثيره الفقهي والأصولي، واعتمدت التسلسل التاريخي بدءا من بعض من عاصره ,كأبي الفضل محمد بن أبي القاسم البقالي الخوارزمي الحنفي (ت 586ه ) ثم بعده بقليل كشهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي (ت 684ه) وابن دقيق العيد (702ه) وغيرهما إلى المتأخرين كالإمام السيوطي (ت911ه) وأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت914ه) ومحمد بن علي الشوكاني (ت1255ه ) وماء العينين بن محمد فاضل بن مامين(ت1328ه).ثم تأثيره العلمي التجريبي والفلسفي.وتحدثت عن بعض تلامذته وأبنائه.
وفي الفصل الثاني من هذا الباب عرفت بكتاب "البداية" بدءا بتحقيق اسم الكتاب ونسبته لابن رشد وتاريخ كتابة "البداية" ونسخ الكتاب وطبعاته وترجمته إلى اللغات الأجنبية.
وفي المبحث الثاني من هذا الفصل تناولت:أهمية موضوع "البداية" انطلاقا مما ورد فيه من مسائل الأحكام والمسائل المتفق عليها والمسائل المختلف فيها ،ونكت الخلاف التي نبه عليها.(1/3)
…وأفردت بالحديث المسائل المنطوق بها في الشرع،من آيات الأحكام وأحاديث الأحكام وقمت ببعض المقارنات في ذلك مع بعض الكتب والأمهات،ثم قمت بجرد أعلام ومذاهب "البداية"من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين والفقهاء المستقلين, ثم أتباع المذاهب: المالكية والشافعية والحنفية والظاهرية والحنبلية ومذاهب الخوارج والشيعة ثم علماء وفقهاء مختلف الأمصار المذكورون في "البداية" وكذا أهل الحديث في"البداية" وحاولت بيان حجم كل فئة في "البداية" انطلاقا من بعض الإحصائيات والرسوم البيانية التوضيحية.وذكرت في هذا المبحث أيضا أقوال العلماء في "البداية".
…وفي المبحث الثالث من هذا الفصل تناولت :مصادر "البداية"،وأصل مادة الكتاب،وركزت على"الاستذكار"باعتباره أم مصادر"البداية"ثم كتب الحديث والسنن ثم كتب الفقه والخلاف.
وفي المبحث الرابع ركزت على منهجية ابن رشد وأسلوبه في عرض مادة "البداية" وبدأت بالمنهجية المثلى عنده،وقمت ببعض المقارنات في مجال المنهجية،مع"استذكار" ابن عبد البر، و"المنتقى" للباجي، و"المجموع شرح المهذب"للنووي"، وشرح معاني الآثار"للطحاوي و"المغني" لابن قدامة (ت 620ه) و"المحلى" لابن حزم(ت456ه) ثم تحدثت عن المنهج العام في تعامله مع المادة الفقهية وكذا منهج تعامله مع مذاهب الفقهاء،ثم ما سلكه من منهجية علمية في كتابه وما توخاه من أسلوب تعليمي.
وبعد هذه الجولة في الباب الأول مع كتاب "البداية" جاء الباب الثاني ليجيب عن معنى تربية ملكة الاجتهاد عند ابن رشد،فكان لزاما المرور على جملة من المفاهيم والمصطلحات لتزداد الصورة وضوحا،فعقدت الفصل الأول في الاجتهاد ومجاله وعرفت بحقيقته وأنواعه وحكمه وحاله بين الاستمرار والانقطاع،وما يجوز فيه الاجتهاد وما لا يجوز،وأحوال الاجتهاد في "نطاق النص" وفيما"لا نص فيه"ثم بعض مجالات الاجتهاد المعاصر.(1/4)
وتناولت في المبحث الثالث من هذا الفصل شروط المجتهد،معرفا فيه المجتهد ومراتب المجتهدين من مستقلين ومنتسبين وخاصين بمذهب بعينه ومجتهدين في الترجيح والفتيا،ثم تناولت الشروط العلمية بما في ذلك الأصول الكبرى من كتاب وسنة وإجماع،وشروط الفهم والاستنباط من عربية وأصول فقه ومقاصد شرعية ومعرفة الناس والحياة ...
وفي الفصل الثاني تناولت مستويات وشروط تربية ملكة الاجتهاد،فعرفت بالملكة وسبل تحصيلها والعوائق التي تحول دون تحقيقها،وفي المبحث الثاني،بينت الشروط الضرورية لتربية ملكة الاجتهاد سواء في مجال البيئة المحيطة وتوفر القدوة وصياغة المناهج الهادفة في كفاياتها ومهاراتها وطرق تدريسها والمنهج المعتمد في استثمار النصوص بالاستنباط أو الاستدلال والاستقراء والمقارنة والموازنة.
وكذا أهمية التجربة الذاتية ومنهج تغليب أسلوب الحوار والمناقشة والتدريب على البحث والتصنيف والتطبيق الميداني،وأهمية الوسائل التعليمية(والكتب المقررة)،والحاجة إلى صدق العزيمة وحسن الخلق واقتران العلم بالعمل والتشجيع على التعلم الذاتي وترسيخ النظرة النقدية والاهتمام أكثر بالأصول لكونها تقدح زناد الاجتهاد.
وجعلت المبحث الثالث من هذا الفصل يخدم ما اعتبرته مقصدا رئيسا لكتاب البداية فعنونته ب" تربية ملكة الاجتهاد أحد أهم أغراض "البداية".فذكرت سبب تأليف "البداية"والغرض منها،ووضعت خطاطة لمقاصد "البداية" وحددت هدفها الأول في الدعوة إلى الاجتهاد،والهدف الثاني: فهم الخلاف من خلال نشر المذاهب الفقهية و بسط أدلتها والدعوة إلى نبذ التعصب و الدوران مع الدليل حيث دار واعتماد الرفق و الحكمة في النزوع إلى التجديد و العودة إلى الاجتهاد.(1/5)
والهدف الثالث يكمن في إصلاح التعليم الفقهي وذلك بالاهتمام بالأصول ووضع قوانين لتنظيم القول الفقهي ،والتدرب على الاستنباط وحسن النظر والاستدلال،وبذل نصائح في الاجتهاد كاعتماد الواقعية والعقلانية ومنهج التيسير و رفع الحرج والدعوة إلى المرونة و رفض الجمود والأخذ بالعادة و التجربة،واعتماد الترابط المنطقي ،وسلوك مسلك التقوى وحسن الخلق وتدرب أهل الذاهب على حسن الدفاع عن مذاهبهم.
وخصصت الباب الثالث للحديث عن آيات وأحاديث الأحكام ودورها في تربية ملكة الاجتهاد،فكان الفصل الأول في إبراز دورها المركزي في الاجتهاد وبينت أهمية تعلم الأحكام وإعمالها وعرفت بآيات الأحكام ومعناها عند المفسرين والمحدثين والأصوليين وبينت أقسام الأحكام وأركانها ومكونات أصنافها،وما يدخل في الأحكام وما لا يدخل فيها وأهميتها والغرض منها وعلاقتها بسعادة الدنيا والآخرة والعمران والإيمان وأمور الاعتقاد وعرجت على بعض القواعد في الأحكام.من خلال محاور من مثل: موقع الأحكام من مجمل الشرع، ومصادر الأحكام والطرق التي تثبت بها،والأحكام والاجتهاد وطرق استنباط الأحكام وعلاقة الأحكام بالسلطان وخصائص النبي ( في الأحكام والنسخ في الأحكام وغيرها.
وفي المبحث الثالث من هذا الفصل تناولت الأحكاميين وكتب الأحكام وعناية العلماء بآيات الأحكام،أبرزت فيه عناية العلماء بآيات الأحكام،ونماذج من علماء وشيوخ الأحكام ونماذج من كتب الأحكام ،وبعض المطبوعات الحديثة في الأحكام.
أما الفصل الثاني فتناولت فيه خصوصيات آيات وأحاديث الأحكام ودورها في تربية ملكة الاجتهاد،فخصصت المبحث الأول لآيات الأحكام ناقشت فيه عدد آيات الأحكام وخصوصيات بعض آيات الأحكام.
وخصصت المبحث الثالث لأحاديث الأحكام تناولت فيه أهمية العلم بها، وعدد أحاديث الأحكام المحتاج إليها في الاجتهاد. وبعض القواعد التي تخص أحاديث الأحكام.(1/6)
وفي الفصل الثالث تناولت نماذج تطبيقية من الاجتهاد الخاص بآيات وأحاديث أحكام "البداية" انطلاقا من بعض المحاور من مثل:مبررات المجتهدين في عدم إعمال النص،إما لعدم وجود نص في المسألة،أوعدم الإطلاع على الحديث أوالقول بأن النص منسوخ أوالقول بوجود ما يعارضه.
ثم تناولت في المبحث الثالث من هذا الفصل نماذج من أوجه الاجتهاد الخاصة بآيات الأحكام في "البداية"، وهم الأمر القراءات القرآنية والخلاف الواقع في البسملة.وفي المبحث الرابع: دور معرفة أسباب النزول وأسباب الورود في الفهم والاستنباط.
أما الفصل الرابع فخصصته لدور تعلم دلالات الألفاظ في تربية ملكة الاجتهاد،فكان المبحث الأول في تعلم ما يتعلق بالنص والمجمل وضمنه أيضا نماذج من المشترك وقواعد فيه.والمبحث الثاني في تعلم ما يتعلق بالظاهر والمؤول وضمنه في إطار التأويل حمل المطلق على المقيد.
والمبحث الثالث في تعلم ما يتعلق بالعموم والخصوص،وضمنه الاستثناء وعلاقته بالعام.وكذا العام بين الإطلاق والتقييد.
والمبحث الرابع في تعلم ما يتعلق بالأمر والنهي،والمبحث الخامس في دور تعلم ما يتعلق باللغة في الاجتهاد والاستنباط.وضمنه بعض ما يتعلق بالبلاغة وله علاقة بالاستنباط.
وخصصت الباب الرابع لدور ما عدا الكتاب والسنة من الأصول في تربية ملكة الاجتهاد،فكان الفصل الأول في دور تعلم الإجماع والقياس في تربية ملكة الاجتهاد،وتناولت في المبحث الأول مفهوم الإجماع عند ابن رشد وصيغ الإجماع في "البداية"وممن يكون الإجماع؟ ثم أهميته ودوره في تربية ملكة الاجتهاد.وبعض مصادر ابن رشد في ذكر الإجماع،وبعض الكتب المطبوعة في موضوع الإجماع بحسب تاريخ طبعها.(1/7)
وأما المبحث الثاني فكان في تعلم القياس ودوره في تربية ملكة الاجتهاد،تناولت فيه مفهوم القياس والفرق بينه وبين(الخاص يراد به العام) عند ابن رشد،وأوجه استعماله له،وموقع القياس في أصول الفقه،ومشروعيته وأنواع الأقيسة ومراتبها،وأركان القياس وبعض القواعد فيه.ونماذج من الأقيسة وبعض ما كتب في القياس بعد ابن رشد.وبعض الكتب في العلة والتعليل .
وتناولت في الفصل الثاني دور تعلم ما يتعلق بقول الصحابي والاستحسان وشرع من قبلنا والاستصحاب والعرف في تربية ملكة الاجتهاد،وخصصت المبحث الأول للحديث عن الاستحسان، تناولت فيه مفهومه وعلاقته بالمقاصد ومشروعيته وبعض ما كتب فيه بعد ابن رشد.
والمبحث الثاني لأقوال وأعمال الصحابي وضبطت حسب الاستطاعة مفهوم "قول الصحابي وحررت محل النزاع فيه وبينت منه ما له علاقة بالسنة وكذا ما له علاقة بالإجماع وحجية قول وعمل الصحابي وذكر سبب الوزن المعتبر لكلامهم في الشرع،وبعض ما يشبه القواعد الأصولية في أقوال وأفعال الصحابة.ومنهجهم في الاجتهاد.
وفي المبحث الثالث تناولت تعلم ما يتعلق بشرع من قبلنا فتحدثت عن مفهوم شرع من قبلنا وحجيته ونماذج مما ورد في "البداية"منه وفي المبحث الرابع تناولت دليل الاستصحاب من خلال "البداية". ودوره في تربية ملكة الاجتهاد من خلال الكلام عن مفهومه وصيغة الاستصحاب في البداية وأنواعه.
وفي المبحث الخامس تناولت تعلم ما يتعلق بالعرف والعادة والتجربة ومعرفة بعض الأحكام المرتبطة بالأحوال الظرفية،فرأيت فيه مفهوم العرف ومشروعية اعتباره وعلاقته بالمقاصد ونماذج من إعماله وبعض القواعد فيه.
وفي الفصل الثالث من هذا الباب الأخير خصصت الكلام عن تعلم مراعاة المقاصد والمصالح والأعراف في الاجتهاد ومعرفة ما يتعلق بالذرائع والاستحسان،فكان المبحث الأول في المقاصد والمصالح فتناولت مفهوم المقاصد(1/8)
وجذور هذا العلم قبل ابن رشد:أو ما أسميته المقاصد بين البسط والقبض،فبدأت بالمقاصد عند الصحابة ثم عند الأئمة وفقهاء الأمصار،وبعدهم عند ثلة من العلماء إلى زمن ابن رشد و تكلمت عن المقاصد في "البداية".وكذا مفهوم المصلحة عند ابن رشد وموقفه منها،ونماذج من الأخذ بالمصالح والتفسير المقاصدي للنصوص.
ثم تناولت المقاصد بعد ابن رشد،وبعض ما كتب في الموضوع بعده وخصوصا من بداية القرن الماضي.
وفي المبحث الثاني تناولت دور تعلم ما يتعلق بالذرائع في تكوين ملكة الاجتهاد، فبدأت بالحديث عن سد الذرائع وفتحها،وتكلمت في مفهومها ومشروعيتها وحالها في القرآن والسنة وعمل الصحابة بها،وأخذ الأئمة بها وصيغها في "البداية" وعلاقة الذرائع بالمقاصد،ونماذج من استعمالها وبعض القواعد فيها،وبعض ما كتب فيها.
ثم عقدت في آخر البحث ملحقا، في بعض الأصول والقوانين والقواعد الفقهية من خلال "البداية" رأيتها نافعة في الفهم والاستنباط،وإن كانت بحاجة إلى مزيد من التنقيح والتحرير وحسن التصنيف،وقصدي أن تكون مادة بين يدي الباحثين وطلبة ملكة الاجتهاد،شأنها في ذلك شأن ما لم يتيسر لي تحرير القول فيه والدخول في معامع الترجيح لبعض الأمور داخل البحث.
وحسبي أني جمعت ما أعتبره مدونة في علم الاجتهاد، أقترحها لمن رأى فيها ذلك أو على الأقل لم يجد ما يفضلها في هذا المجال،لتكون أحد المقررات الدراسية لتكوين المجتهدين إن صح في مثل زماننا أن يكون لهذا الأمر العظيم معهد أو تخصص جامعي في مستوى عال.(1/9)
وهذا القصد هو الذي جعلني أتعامل مع "البداية" باعتبارها مشروعا للاجتهاد، يسمح بالتطوير والتتميم والإكمال وربما في بعض الجوانب بإعادة البناء،فارتأيت تقديم كثير من مادته تقديما أصوليا يناسب مباحث الأصول مادام صاحبه نفسه يطرح مرارا أن كتابه وضع في الأصول لا في الفروع،ولم أر بعد ذلك من حرج في الاستفادة ممن جاء قبله أو بعده في ترميم تلك المباحث الأصولية وخصوصا في الجانب النظري لتتكامل مع الصور التطبيقية التي جادت بها "البداية".
ولا يفوتني في آخر مقدمة هذا البحث،أن أتوجه بجزيل الشكر وجميل العرفان لجميع من ساعدني من قريب أو بعيد بقليل أو كثير في إنجاز هذا العمل،وإن عجزت عن تذكر وذكر من قام بذلك في حقي خلال هذه السنوات الطويلة، فإني أكل الأمر للعليم الجواد الكريم سبحانه أن يوفيهم من خير الجزاء والنعم، ويعطيهم من فضله ما به يسعدون في الدنيا والآخرة.
وممن حضرني من هؤلاء أفراد عائلتي: أمي وأبي وزوجتي وأبنائي وإخواني وأخواتي،لما تحملوه معي أثناء إنجاز العمل من التفريط في بعض حقوقهم وإرباك بعض برامجهم في العطل والإجازات والتقصير في صلة الرحم، وبما قدمه لي بعضهم من مساعدة في تصفيف بعض أجزاء هذا البحث.
ويأتي بعدهم مباشرة أستاذي المشرف الدكتور أحمد البوشيخي حفظه الله الذي تفضل بقبول الإشراف على هذا العمل العلمي ولم يبخل علي بتوجيهاته وإرشاداته، والأكبر من ذلك صبره علي، وعلى إصراري على الإبقاء على بعض مواد هذا العمل رغم طولها أحيانا.
ولا أنسى كذلك فضل رئيس الوحدة التي أنتمي إليها: الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله،و الذي أعتبره _بعد توفيق الله _سببا مباشرا في أن يرى هذا العمل النور حيث أخرجني _بعد أن التقينا في تظاهرة ثقافية عابرة_ مما انتابني من بعض اليأس من إتمام هذا العمل في صيغة سابقة مغايرة، في النظام الجامعي السابق.(1/10)
فدعاني لتسجيل الموضوع بما يناسب وحدة القرآن والسنة،فأحيى به الله ما كان سيكون في عداد الموات،وأنقذني بذلك مرتين: مرة عند إعادة تسجيل الموضوع بصيغة جديدة،ومرة بفتح عيني على مخرج ضمن هذه الوحدة المباركة حيث اتضحت لي الصورة بعد تخبط في صيغة هلامية كنت سميتها "بداية المجتهد ونهاية المقتصد تحليل ودراسة" ضعت في ثناياها،ويئست من تلمس المخرج فيها، حتى يسر الله الصيغة الجديدة "بداية المجتهد وكفاية المقتصد"ودوره في تربية ملكة الاجتهاد".
ولا أنسى أيضا فضل بعض الجلسات العلمية واللقاءات العابرة مع ثلة من العلماء، جزاهم الله عنا كل خير، تذاكرت معهم في شأن هذا البحث، سواء في صيغته الأولى أو الثانية ،وأذكر منهم الشيخ المكي الناصري رحمه الله والأستاذ الغازي الحسيني والشيخ عبد العزيز بن الصديق والدكتور مصطفى بنحمزة والدكتور أحمد الريسوني والدكتور محمد الروكي والدكتور جمال الدين العلوي رحمه الله والدكتور التونسي عبد المجيد النجار..
كما لا أنسى مساعدة العاملين بالخزانة الملكية بالرباط، والخزانة العامة بها أيضا وخزانة القرويين بفاس وخزانة كلية الآداب بالرباط ..
أسأل الله أن ينفع بهذا العمل وأن يأجرنا عليه بما به يثقل ميزان الحسنات يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم،وأن يغفر لنا ما كان فيه من الزلل والتقصير،والحمد لله رب العالمين.
الباب الأول
ابن رشد الفيلسوف الفقيه وكتاب "البداية "
الفصل الأول
عصر ابن رشد
وحياته الشخصية والعلمية
المبحث الأول
قبس من عصر ابن رشد
[ 520 هـ / 595 هـ ](1/11)
قبل ولادة ابن رشد الحفيد بسنة،أي عام 519ه كان جده في رحلة إلى مراكش يستنجد بعلي بن يوسف بن تاشفين ( ويبين له القاضي أمر الأندلس وما أصيب به المسلمون من النصارى المعاهدين بها .و ما جروه إليها و جنوه عليها من استدعاء ابن ردمير و تقويته على المسلمين و إمداده ، و ما في ذلك من نقض العهد و الخروج عن الذمة، فلقي نظره بالقبول،وأفتاه بتغريبهم و إجلائهم عن أوطانهم و هو أخف ما يؤخذ به في عقابهم. ونفذ عهده إلى جميع بلاد الأندلس بإزعاج المعاهدين إلى ناحية مكناسة و سلا و غيرهما من بلاد العدوة)1 كما جاء ابن رشد الجد في مهمة أخرى،وهي طلب عزل الأمير أبي الطاهر أخ علي بن يوسف و تقديم غيره في ولاية الأندلس2 و قد كان اضطراب أمر الأندلس_شأن بلاد الثغور عامة_ مؤشرا على ضعف الدولة المركزية فقد (اختلت حال أمير المسلمين (علي بن يوسف بن تاشفين )...
و ظهرت في بلاده مناكر كثيرة و ذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد و دعواهم الاستبداد، و انتهوا في ذلك إلى التصريح ، فصار كل منهم يصرح أنه خير من علي أمير المسلمين ، و أحق بالأمر منه ، واستولى النساء على الأحوال، و أسندت إليهن الأمور ، وأمير المسلمين في ذلك يزيد تغفله ، و يقوى ضعفه، وقنع باسم إمرة المسلمين ، وبما يرفع إليه من الخراج ، وعكف على العبادة ، و أهمل أمور الرعية ... فاختل لذلك عليه كثير من بلاد الأندلس...لاسيما منذ قامت دعوة ابن تومرت بالسوس)3.
و هكذا تدرجت أحوالهم من سيئ إلى أسوأ . و لا زال أمرهم إلى أفول و نجم الموحدين في صعود إلى أن انقرضت الدولة المرابطية بضرب عنق آخر ملوكها إسحاق بن علي بن يوسف سنة 542ه.(1/12)
و لم تكن حالة العالم الإسلامي في بقية الأقطار تبعث على الاطمئنان فالدولة العباسية بالعراق و دولة الفاطميين بمصر بلغتا إلى طور الهرم المزمن الذي لا قيام بعده فعاد ابن تومرت [485ه_524] من المشرق بعد أن أخذ عن الغزالي و أبي بكر الشاشي و ابن عبد الجبار ببغداد،وعن أبي بكر الطرطوشي بمصر و قرأ على ابن حمدين بقرطبة.و هو يحمل مشروع التغيير ليس فقط على المستوى المحلي إنما مشروع خلافة إسلامية عامة تضم تحت لوائها العالم الإسلامي بكامل حدوده و تتولى زعامتها الدولة الموحدية4.
و قد ذكر صاحب المعجب في أخبار المغرب أنه ذكر للغزالي ما فعل علي بن يوسف بن تاشفين من ملوك المرابطين بكتبه التي وصلت إلى المغرب من إحراقها و إفسادها،وابن تومرت حاضر ذلك المجلس. فقال الغزالي حين بلغه ذلك : ليذهبن عن قليل ملكه و ليقتلن ولده ،و ما أحسب المتولي لذلك إلا حاضرا مجلسنا5.
و أيا كان صدق هذه النبوءات من عدمها فإن انتشارها يبين اختلاف الأسس التي ستقوم عليها الدولة الجديدة عن سابقتها، فقد تسلح الموحدون بفكر الغزالي في مواجهة الفكر الباطني الإسماعيلي الذي عرف شيوعا كبيرا في شرق العالم الإسلامي و غربه فقابلوا دعوتهم بمثلها و اجتهدوا في تعرف مذاهبهم الباطنية و كان رئيسهم محمد بن تومرت يتلقب بالمهدي و ينتمي إلى آل البيت6.
و (لأجل أن تؤدي هذه الدولة مهمتها حق تأدية،أراد ابن تومرت ومؤسسها من بعده أن تكون حضارتها مطبوعة بطابع العظمة و التجديد في سائر مظاهرها)7.(1/13)
و لهذا لقبوا ملوكهم بأمراء المؤمنين و الخلفاء و اجتهدوا في توسيع نفوذ الدولة فامتدت من المحيط الأطلسي إلى قرب حدود مصر طولا و من الصحراء الكبرى إلى جبال الشارات بالأندلس ، و كان أسطولهم أكبر أسطول في وقته ، و كان جيشهم أكبر ما شاهده المغرب الإسلامي (و نطقت بهذه العظمة آثارهم متمثلة في صوامع الكتبية و اشبيلية و حسان)8. و كانت لهم همة عالية في الجهاد و الاهتمام بأمور الدين، فهذا ابن جبير الذي جال في كثير من ممالك العالم الإسلامي يقول: (و ليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب ، لأنهم على جادة واضحة(...) كما أنه لا عدل و لا حق و لا دين على وجهها إلا عند الموحدين)9.
أما عن التجديد فقد كان شاملا في الأفكار والآداب والفنون والإدارة والحرب . فأسست المارستانات و المدارس العديدة و المكاتب العامة و دور الضيافة و ظهرت الابتكارات في مختلف المجالات .
_الحالة المدنية و الاجتماعية :
انتشر الأمن في غير ما حقبة من أيام الموحدين (حتى كانت الظعينة تخرج من بلاد نول لمطة و تنتهي إلى برقة وحدها لا ترى من يعرض لها و لا من يكلمها)10.
و شاعت الحرية في هذا العهد في الجملة و تدفقت على الناس الأموال حتى (كان خراج إفريقيا وحدها في كل سنة وقر مائة و خمسين بغلا(...) وأنفق الناصر في غزوة إفريقية مائة و عشرين جملا ذهبية..ولما تمت بيعة المنصور كان أول شيء فعله أن أخرج مائة ألف دينار ذهبا من بيت المال ففرقها في الضعفاء من بيوتات بلاد المغرب(...)، و فرق في عيد سنة 594ه 73000 شاة(...).(1/14)
كما جعل يوسف المرتبات للأطباء و المهندسين و الكتاب و العلماء والطلبة و الشعراء و غيرهم)11 ، وعرف التعليم توسعا كبيرا شمل الرجال والنساء والأحرار و العبيد ، و وظفوا (بعض المثقفات معلمات بقصر الخلافة و تذكر هنا الأدبية الشاعرة حفصة بنت الحاج الركونية الغرناطية ، كانت أستاذة وقتها و انتهت إلى أن علمت النساء في دار المنصور و توفيت بمراكش آخر سنة 586ه)12 ومن بنات الخلفاء التي حافظ عليهن التاريخ (زينب بنت يوسف بن عبد المومن التي أخذت عن ابن عبد الله بن إبراهيم علم الكلام و غير ذلك و كانت عالمة صائبة الرأي فاضلة معروفة)13.
و من النساء الأندلسيات امرأة تسمى خيرونة أو خدونة كانت فقيهة صالحة توفيت سنة 594ه و كما اختص الخلفاء الموحدون بأطباء لأنفسهم كذلك اختص نساؤهم بطبيبات لأنفسهن و من هؤلاء أخت الحفيد أبي بكر بن زهر و بنتها (كانتا عالمتين بصناعة الطب و المداواة و لهما خبرة جيدة بما يتعلق بمداواة النساء ، و كانتا تدخلان إلى نساء المنصور)14.
_ الرعاية الصحية:
لقد كان اهتمام كبير بالطب العام فأسس يعقوب المنصور(ت595ه_1199م ) مارستانات للمرضى و المجانين في عديد من بقاع البلاد . يحدثنا المراكشي في المعجب عن واحد منها و هو مستشفى مراكش يقول: (و بنى يعقوب المنصور بمدينة مراكش بيمارستان15 ما أظن أن في الدنيا مثله و ذلك أنه تخير ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد،و أمر البناءين بإتقانه على أحسن الوجوه(...) و أمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات و المأكولات، و أجرى فيه مياها كثيرة تدور على جميع البيوت (...) و أجرى له ثلاثين دينارا في كل يوم برسم الطعام (...) و أقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة و الأدهان و الأكحال .(1/15)
و أعد فيه للمرضى ثياب ليل و نهار للنوم من جهاز صيف و شتاء.فإذا بريء المريض فإن كان فقيرا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل (...) و لم يقصره على الفقراء دون الأغنياء. بل كان من مرض بمراكش من غريب حمل إليه و عولج (...) و كان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله يعود المرضى و يسأل عنهم ، يقول : كيف حالكم ؟ و كيف القومة عليكم ؟ إلى غير ذلك من السؤال ، ثم يخرج ، و لم يزل مستمرا على هذا إلى أن مات رحمه الله)16.
و كانت هذه المستشفيات غاية في التنظيم، فقد ذكر ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء عن نظام المستشفيات ما يلي : (كانت البيرمارستانات منقسمة إلى قسمين منفصلين بعضها عن بعض : قسم الذكور و قسم الإناث ، و كل قسم مجهز بما يحتاجه من آلة و عدة و خدم و فراشين من الرجال و النساء . و قوام و مشرفين و في كل قسم من هذين القسمين عدة قاعات لمختلف الأمراض (...) و لكل قسم رئيس ...) وقد رجح الأستاذ محمد المنوني أن تكون هذه التنظيمات معتمدة أيضا في المستشفيات الموحدية استنادا لقول صاحب المعجب:ما أظن أن في الدنيا مثله17.
ومن عجائب تنظيمات الموحدين الطبية و احتياطاتهم أيام الوباء ما جاء في القرطاس ( أنه في سنة 571ه كان الطاعون الشديد بمراكش و أحوازها(...) فكان الرجل لا يخرج من منزله حتى يكتب اسمه و نسبه و موضعه في براءة "ورقة" و يجعلها في جبينه ، فإن مات حمل إلى موضعه و أهله)18.
_نهضة الفنون والعمران :(1/16)
ارتقت الفنون في كثير من مظاهرها على عصر الموحدين و نهضت مجموع الصناعات لهذا العهد و عرفت تقدما كبيرا و ازدهارا قل نظيره في زمانهم و بالأخص إبان عظمة الدولة حيث الوفرة و الجودة و الإتقان و الإبداع و الاختراع فقد كان في فاس وحدها في عهد المنصور و ابنه الناصر من معامل الصناعات : داران للسكة و 3064 معملا لنسج الثياب و 47 من ديار عمل الصابون و 86 من ديار الدبغ و 116 دارا للصباغة و12 معملا لتسبيك الحديد و النحاس 11 مصنعا للزجاج و 400 حجرة لعمل الكاغد و 118 دارا لعمل الفخار19.
(و من الشواهد على إتقان الصناعات الإتقان الفائق، ما كانت عليه أبنيتهم من التفنن العظيم و التأنق الفائق ، حسبما يعلم من مشاهدة ما بقي قائما منها ، وما حفظ وصفه، و قد قال بعضهم : إن إتقان البناء من شواهد التقدم و الرقي . و لا ينتج الأبنية الفخمة الشامخة إلا حضارة ضخمة ، و شعوب لها شأن في فنون الهندسة و العمارة و نزعة إلى حسن الذوق)20.
و يتحدث المؤرخون أن مصانع الحرير بمدينة قرطبة وحدها كانت تستخدم ثلاثين و مائة ألف عامل ن و كان تسويقها يغطي شمال إفريقية إلى أواسط القارة حتى السودان 21 كما أن صناعة السفن عرفت ازدهارا كبيرا ، يقول ابن خلدون:
(لما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة و ملكوا العدوتين ، أقاموا خطة الأسطول على أتم ما عرف و أعظم ما عهد .. و انتهت أساطيل المسلمين حينئذ في الكثرة والاستجابة ، إلى ما لم تبلغه من قبل و لا بعد فيما عهدناه)22.
و كانت لتلك الأساطيل مصانع متوافرة منبثة على طول مراسي المملكة الموحدية و قد ( امتدت من مرسى سلا إلى المهدية و طنجة و سبتة و بادس و الريف إلى تونس )23.(1/17)
و كان المغرب متفوقا في صناعة السلاح ، ومعامله توجد في جميع جهات الموحدين ، تنتج مقدارا كبيرا من السلاح ، كما كان للموحدين اعتناء خاص بصناعة استغلال المناجم و قد ذكر صاحب المعجب 24 عددا مما كان معروفا إذ ذاك بالمغرب و الأندلس من معادن الذهب و الفضة و الحديد و الكبريت و الرصاص و الزئبق..
و تطورت الصناعة الميكانيكية و ظهرت في كثير من المظاهر.ونأخذ المقصورة الميكانيكية مثالا لهذا التقدم الرائع، فقد كانت المقصورة التي يجلس فيها خلفاء الموحدين أثناء صلاة الجمعة ذات تركيب عجيب ، فقد كانت تسع نحو ألف شخص ، و كانت تتحرك بواسطة عجلات تثبت في أسفلها و لها ستة أذرع أو جوانب تمتد بواسطة مفاصل متحركة ، و قد صنعت هذه العجلات و المفاصل بحيث لا يترتب عليها عند تحريكها أقل صوت ، بل تدور جميعها في أتم سكون ، و نظمت المحركات بطريقة هندسية دقيقة بحيث تتحرك جميعا في وقت واحد ، متى رفع الستار عن أحد البابين الذين يدخل منهما أمير المؤمنين إلى المسجد عند صلاة الجمعة، و كانت المقصورة تبرز من جانب و يبرز المنبر من الجانب الثاني،وتلتف الجوانب في نفس الوقت حول مجلس أمير المؤمنين ، كذلك نظم المنبر بحيث يفتح بابه متى صعد إليه الخطيب ، و يغلق من تلقاء نفسه متى أخذ الخطيب مكانه وذلك كان دون أن يسمع أثر لهذه المحركات ، كذلك نظمت أبواب المقصورة على هذا النمط ذاته25.
وقد بلغت هذه المقصورة حدا من الإتقان والدقة والغرابة عجز معه عدد من الشعراء عن وصفها، يقول صاحب المعجب :(ولم يكن فيهم من تصدى لوصف الحال حتى قدم أبو بكر بن مجير فأنشد قصيدته التي أولها:
أعلمتني ألقي عصا التسيار فهي بلدة ليست بدار قرار
طورا تكون بمن حوته محيطة فكأنها سور من الأسوار
وتكون حينا عنهم مخبوءة فكأنها سر من الأسرار
وكأنها علمت مقادير الورى فتصرفت لهم على مقدار
فإذا أحست بالإمام يزورها في قومه قامت إلى الزوار(1/18)
يبدو فتبدو ثم تخفى بعد كتكون الهلالات للأقمار
فطرب المنصور لسماعها وارتاح لاختراعها )26 كما كان على باب جامع الكتبيين بمراكش (ساعات ارتفاعها في الهواء خمسون ذراعا تنزل فيها عند انقضاء كل ساعة صنجة وزنها مائة درهم ، تتحرك بنزولها أجراس يسمع وقعها من بعد و تسمى عندهم الفحانة ذكرها العمري في مسالك الأبصار)27.
و نموذج آخر يبين روعة الإتقان و ما بلغته العقلية الإسلامية إبان عصور الازدهار .إنه ثابوت مصحف عثمان رضي الله عنه، فقد صنعت له أغشية بعضها من السندس و بعضها من الذهب و الفضة، و اتخذ للغشاء محمل بديع و اتخذ للمحمل كرسي ثم اتخذ للجميع ثابوت يصان فيه، و هذا وصف بقلم شاهد عيان أحد أصدقاء ابن رشد و هو أبو بكر بن طفيل يقول : (و له ثابوت المصحف في أحد غواربه باب ركبت عليه دفتان : قد أحكم ارتجاجهما ، و يسر بعد الإبهام انفجارهما ،و لانفتاح هذا الباب و خروج هذا الكرسي من تلقائه و تركب المحمل عليه ما دبرت الحركات الهندسية(...) و انتظمت العجائب المعنوية و الحسية(...) و ذلك أن بأسفل هاتين الدفتين فيصلا فيه موضع قد أعدله مفتاح لطيف يدخل فيه ، فإذا أدخل المفتاح فيه ، و أديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى الداخل من تلقائهما و خرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته(...) فإذا كمل الكرسي بالخروج و كمل المحمل بالتقدم إليه، انغلق الباب برجوع الدفتين إلى موضعهما من تلقائهما . دون أن يمسهما أحد . و ترتيب هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف أي شيء آخر(...) و صحة هذه الحركات اللطيفة على أسباب و مسببات غائبة عن الحس في باطن الكرسي، و هي ما يدق وصفها و يصعب ذكرها)28.
- الحياة العلمية :
لا شك أن المظاهر السابقة ترتكز على بنية علمية متينة في مختلف المجالات ، سواء من حيث المناهج، أو التنوع أو التشجيع و انتشار المعاهد من جوامع و كتاتيب و مدارس و مجالس الخلفاء و الوزراء.(1/19)
و قد عرفت المدارس في عهد الموحدين تنوعا مهما فكان منها مثلا: المدرسة العامة لتخريج الموظفين و المدرسة الملكية لتعليم أمراء الموحدين و مدرسة تعليم الملاحة و عرفت انتشارا واسعا لا في المغرب فحسب بل و في إفريقية و الأندلس29.
و يذكر صاحب الحلل الموشية نموذجا لمنهاج المدرسة العامة لتخريج الموظفين بمراكش قال فيه :( ووقف عبد المومن الحفاظ صغار الطلبة لحفظ "كتاب الموطأ" هو "كتاب أعز ما يطلب" وغير ذلك من تواليف المهدي . وكان يدخلهم كل يوم جمعة بعد الصلاة داخل القصر، فيجتمع الحفاظ فيه و هم نحو ثلاثة آلاف كأنهم أبناء ليلة من المصامدة و غيرهم.قصد بهم سرعة الحفظ و التربية على ما يريده ، فيأخذهم يوما بتعليم الركوب و يوما بالرمي بالقوس ، و يوما بالعوم في بحيرة صنعها خارج بستانه مربعة ، طول تربيعها نحو ثلاثمائة باع ، و يوما يأخذهم بأن يحذقوا على قوارب و زوارق صنعها لهم في تلك البحيرة فتأدبوا بهذه الآداب تارة بالعطاء و تارة بالأدب . و كانت نفقتهم و سائر مئونتهم من عنده، و خيلهم و عددهم كذلك ، و لما كمل له هذا المراد فيهم عزل بهم أشياخ المصامدة عن ولاية الأعمال و الرئاسة ، و قال العلماء :أولى منكم فسلموا لهم)30.
و قد ذكر صاحب الإعلام أن عبد المومن أسس عدة مدارس بمراكش و استدعى ابن رشد الحفيد ليستعين به على تنظيمها31.
و عرفت المجامع العلمية ازدهارا كبيرا سواء منها مجامع الخلفاء أو الأمراء التي يعقدونها مع أشياخ علماء الموحدين و كبار العلماء من الواردين عليهم من مختلف الجهات و التي كانت حافلة بالمذاكرة و المناظرة في أنواع العلوم : عربية ، فقه أصول ، طب ، فلسفة ، وغيرها و كان لكل فن مجلس يفتتح بإلقاء مسألة من العلم يلقيها الخليفة بنفسه أو بإذن بعض الحاضرين و كانت مطبوعة بالنظام و التزام الجد و المحافظة على الآداب، و تختم بالدعاء يدعو الخليفة و يؤمن الوزير32.(1/20)
و كانت العادة أن لا ينتصب للتدريس في الجوامع إلا من انتهت إليه المهارة في العلم و الدين في وقته ، و يذكر صاحب المعجب أنه كان في قرطبة وحدها ثلاثة آلاف مقلس و كان لا يتقلس عندهم في ذلك الزمان إلا من صلح للفتيا33. و كان في حي واحد من أحياء قرطبة 170 امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي34.
و عموما فقد (قام في هذه الزاوية الممتازة من العالم تسامح لا تكاد الأزمنة الحديثة تعرض مثيلا له علينا ، و ذلك أن النصارى و اليهود و المسلمين كانوا يتكلمون بلغة واحدة ، و ينشدون عين الأشعار ، و يشتركون في ذات المباحث الأدبية و العلمية و قد زالت جميع الحواجز التي تفصل بين الناس فقد كان الجميع متفقين على الجد في حقل الحضارة المشترك و تغدو مساجد قرطبة ، التي كان الطلاب فيها يعدون بالألوف . مراكز فعالة للدراسات الفلسفية و العلمية...)35. و يروي ياقوت الحموي وهو يتحدث عن بعض جهات الأندلس بأنه قل أن ترى من لا يقول شعرا و لا يعاني أدبا و لو مررت بفلاح خلف فدانه و سألته عن الشعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه في أي معنى طلبت منه36. ذلك أن اللغة العربية كانت وحدها وسيلة المعارف لجميع الأجناس و كان النصارى و اليهود يؤلفون بها و شبابهم يتباهى بمعرفة العربية و آدابها و يقبل على ما يؤلف بها بما فيها مؤلفات الفقه37.(1/21)
و(يكفي لنعرف المستوى الذي وصل إليه العلم و التعلم أن النساخ بقرطبة _ وصل بهم الأمر أن عجزوا بالوفاء بكفاية العلماء و الأطباء و الفلاسفة و استدعي النساخ من بغداد و من أنحاء العالم الإسلامي ، كما ظلت مصانع الورق بشاطبة وطليطلة وقفا على قرطبة كما ازدهرت صناعة تجليد الكتب ازدهارا كبيرا38. حيث كان الإقبال على اقتناءها سواء من الناس من يقرأ و من لا يقرأ39. فلا عجب بعد هذا أن تكون قرطبة في زمان الموحدين كما أورد صاحب نفح الطيب و(كانت بحق مركز الكرماء و معدن العلماء)40و( منتهى الغاية ومركز الراية وأم القرى وقرارة أولي الفضل والتقى ووطن أولي العلم والنهى وقلب الإقليم وينبوعا متفجرا للعلوم وقبة الإسلام وحضرة الإمام ودار صوب العقول وبستان ثمر الخواطر وبحر درر والقرائح ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر وفرسان النظم والنثر وبها أنشئت التأليفات الرائقة وصنفت التصنيفات الفائقة )41
و قد حاول الخلفاء الموحدون تعميم التعليم على نطاق واسع و قد بالغ عبد المومن في التعليم الإجباري فجعله حتما لازما على كل مكلف من الرجال و النساء و الأحرار و العبيد . و رخص لمن يفهم اللسان الأمازيغي دون العربي أن يقرأ بلسانهم عقيدة ابن تومرت بالأمازيغية و تعلم ما يتعلق بالصلاة و أكد على العوام حفظ : أم القرآن و ما تيسر من القرآن وكذا مجموع أحاديث الصلاة الذي كان يعقوب المنصور يمليه بنفسه، وكان يجعل لمن حفظه الجعل السني من الكسا والأموال42.
أما عن كتب و مواد الدراسة في هذا العهد فقد ذكر منها المنوني ما يلي :
-ففي القرآن وقراءاته: المنصف في رسم هجاء المصحف و شرح أبي عمرو الغافقي على قصيدة الحصري في القراءات.(1/22)
-وفي علم الحديث: صحيح البخاري ، و صحيح مسلم و سنن أبي داود و سنن الترمذي و سنن النسائي و مسند البزار الكبير و موطأ مالك و موطأ ابن تومرت (أعز ما يطلب) و أحاديث الجهاد التي أمر يعقوب المنصور بجمعها ، و شهاب الأخبار في الحكم و الأمثال و الآداب من الأحاديث النبوية للقضاعي.
-و في العقيدة :عقيدة ابن تومرت (بالعربية و الأمازيغية) والقواعد والإمامة له أيضا، و شعب الإيمان للقصري ،والعقيدة البرهانية للسلالجي.
-و في السيرة :كتاب سيرة ابن إسحاق بتهذيب ابن هاشم .
-و في الفقه: الأحاديث التي جمعها ابن تومرت في الطهارة و أحاديث الصلاة التي أمر يعقوب المنصور بجمعها و الأحكام الصغرى لعبد الحق ،و النواذر لابن أبي زيد وكتاب ابن يونس و تهذيب البراذعي للمدونة و رسالة ابن أبي زيد، وتأليف عباد بن برجان في الفرائض.
-و في الأصول : كتاب البرهان لإمام الحرمين والتلخيص مختصر التقريب والإرشاد له،و المستصفى للغزالي ورجز ابن الكتاني .
-و في التصوف: رعاية المحاسبي و الإحياء للغزالي .
-و في النحو و اللغة و الأدب: كتاب سيبويه ،و الجمل بشرحه لأبي بكر العبدري ،وشرح أبيات الجمل لابن هشام اللخمي السبتي والنكت على شرح الأعلام لشواهد كتاب سيبويه له أيضا.و مقدمة الجزولي المسماة بالقانون ،وشرح أبي ذر على غريب السير لابن إسحاق،والمذهبة في الحلي والشياب لابن اصبغ الأزدي،ورسالة القلم والدينار لابن ماكولا،ومقصورة ابن دريد بشرح ابن هشام السبتي و مقامات الحريري و صفوة الآداب و نخبة ديوان كلام العرب للجراوي .
-وفي الحساب والجبر: لب اللباب في مسائل الحساب لأبي الحسن بن فرحون القيسي، ومنظومة ابن الياسمين في الجبر..43.(1/23)
و قد عرفت الحركة العلمية امتدادا لازدهارها إبان عهد ملوك الطوائف و العصر المرابطي فاستمر العطاء والإنتاج في الغرب الإسلامي وتوالى التراكم المعرفي . فإذا عرف عهد ملوك الطوائف تمزقا و ضعفا سياسيا فإنه على المستوى العلمي عرف بروز أسماء بارزة أثرت في ثقافة من بعدهم،و من بين هؤلاء: أبو محمد علي بن حزم ( ت 456ه) المفكر والعالم والمؤرخ و الناقد للأديان و المدارس الفلسفية و الأدبية و الشاعر و الفقيه السياسي ، وكذلك أبوالوليد الباجي ( ت 474ه) الذي اشتهر بردوده على ابن حزم و وصف بأنه من أئمة المسلمين و ناصر المذهب المالكي في الغرب الإسلامي. و ابن عبد البر ( ت 460ه) شيخ علماء الأندلس و كبير محدثيها،والذي قال فيه الباجي : (لم يكن للأندلس مثل أبي عمر ابن عبد البر في الحديث وهو أحفظ أهل المغرب)44.
و قد تحدث أحد المستشرقين و هو يصف هذه الفترة :(إن النضوج العقلي اللازم لإخراج كتاب في تاريخ الأديان "إشارة إلى الملل و النحل لابن حزم" أو قاموس للفكر المتشابه "إشارة إلى قاموس ابن سيدة ( ت 458ه)على مثل هذا النمط الذي كتبت به هذه المصنفات الإسبانية الإسلامية لم تصل إليه أوروبا حتى القرن 19)45.
و قد استمر هذا الوضع في عهد يوسف بن تاشفين الذي قال فيه ابن الأثير في الكامل :( وكان حسن السيرة خيرا عادلا يميل إلى أهل الدين والعلم ويكرمهم ويصدر عن رأيهم ولما ملك الأندلس (...) جمع الفقهاء وأحسن إليهم )46 وقال عنه صاحب الحلل الموشية:(وكان يفضل الفقهاء و يعظم العلماء و يصرف الأمور إليهم و يأخذ فيها برأيهم و يقضي على نفسه و غيره بفتياهم )47(1/24)
و كذلك عظم شأن الفقهاء في زمان علي بن يوسف فكان لا يقطع في أمر من الأمور صغيرا أو كبيرا إلا برأيهم فعلت مكانتهم ، و اشتد نفوذهم .. و كان الفقهاء عندئذ يؤثرون علم الفروع بعنايتهم أي ما يتعلق بالعبادات و المعاملات و يهملون علم الأصول، يقول صاحب المعجب:( ولم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من علم علم الفروع أعني فروع مذهب مالك فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها )48 ورغم ذلك فقد نبغ عدد من العلماء في مختلف التخصصات منهم: أبو علي الصدفي ( ت 514) انصرف إلى إقراء الحديث خاصة، و أبو علي الغساني الجياني (498ه) رئيس المحدثين بقرطبة ، وكان له بصر باللغة والأدب ومعرفة بالغريب والشعر والأنساب وأبو بكر محمد بن سليمان بن فتوح الأوربوالي ( ت 519) اعتنى بالحديث فألف كتاب التنبيه على أوهام أبي عمر ، وذيل كتاب الصحابة لأبي عمر بن عبد البر.
وكذلك أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد (450_520) الذي انتهت إليه الرئاسة العلمية في أوانه في الفقه المالكي. و كذلك عبد الله بن الفراء (ت 514) الذي عرض على يوسف بن تاشفين أن يقسم أمام الناس بأنه لم يبق في بيت المال شيء لما طالب بالمعونة المالية للمساهمة في أعمال الجهاد،وكذلك القاضي عياض (476ه_544ه) و ابن بشكوال(491_540ه) صاحب الصلة، و ابن الآبار صاحب المعجم، والضبي صاحب بغية الملتمس. وابن عطية (481_542) صاحب الوجيز في التفسير،وأحمد بن خلف الأنصاري صاحب الإقناع في القراءات، و ابن المرابط ( ت 485) صاحب شرح البخاري.وأبو بكر بن العربي (468_563ه) صاحب أحكام القرآن .و كذلك أبو بكر يحيى بن عبد الله الفهري ( ت 507) الذي كان مذهبه النظر في الحديث و التفقه فيه . وابن القاسم الشعبي المالقي ( ت 497) تصرف في الأقضية مذاهب الاجتهاد49 ..(1/25)
وأما في زمن الموحدين فقد ازداد الاهتمام بالتفسير وبرز في عهدهم كثير من المفسرين منهم أبو الحسن علي بن أحمد الحرالي المراكشي ( ت637) اقرأ الفاتحة في نحو ستة أشهر، و ابتدع علما جديدا لقواعد التفسير تتنزل في التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام.وعبد الجليل بن موسى الأنصاري ( ت 608) ألف تفسيرا يقع في 60 مجلدا50 .
و كان لملوك الموحدين اعتناء بعلوم التجويد و القراءات و الرسم وأنشأوا للمحافظة على القرآن الكريم حزبا منه يقرأ يوميا بعد صلاة الصبح والمغرب وهي العادة الباقية إلى اليوم .و كذا ازدهر الحديث ازدهارا كبيرا وأعطى الخلفاء في ذلك القدوة للأمة فاشتهر عن أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن أنه كان يحفظ أحد الصحيحين،51ونال طلاب الحديث المكانة الكبيرة في دولتهم وبخاصة أيام يعقوب المنصور حيث نال عنده طلبة الحديث ما لم ينالوا في أيام أبيه وجده ، و كان أبو يوسف نفسه يملي جملة من الأحاديث التي جمعها العلماء من كتب السنة ويأخذهم بحفظها ويجعل لمن فعل الجعل السني من الكسا والأموال52 ، و يعقوب كان يحفظ متون الأحاديث و يتقنها،والمامون كان معدودا من حفاظ الأحاديث ..53
وكان من أبرز الأعلام أيضا أبو الحسن علي بن عبد الملك الكتامي الحميري الفاسي يعرف بابن القطان من أبصر الناس بصناعة الحديث ، و أحفظهم لأسماء رجاله ،وأشدهم عناية بالرواية54(1/26)
و قد ازدهر الفقه على هذا العهد ازدهارا كبيرا وخصوصا في المذهبين الظاهري و المالكي : وكانت فكرة نبذ الفروع و الاهتمام بالأصول أحد مميزات الفئة الحاكمة و بعض من شايعها في هذا الاتجاه و كانت هذه (الفكرة متأصلة من ابن تومرت ولكنها لم تظهر إلا على عهد يعقوب ،أبرزها و نفذها بالفعل (...) حيث أمر برد الناس إلى قراءة الحديث و كتب بذلك إلى طلبة المغرب و الأندلس و العدوة ..)55. و ذكر صاحب المعجب أن كلا من يوسف و عبد المومن كانا يميلان إلى هذا الرأي ، إلا أنهما لم يظهراه و أظهره يعقوب قال :( يشهد لذلك عندي ما أخبرني غير واحد ممن لقي الحافظ ابا بكر بن الجد أنه أخبرهم قال لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر،أنا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله، أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا فأي هذه الأقوال هو الحق وأيها يجب أن يأخذ به المقلد.
فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك فقال لي وقطع كلامي يا ابا بكر ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف أو هذا وأشار إلى كتاب سنن أبي داود وكان عن يمينه، أو السيف. فظهر في أيام يعقوب هذا ما خفي في أيام أبيه وجده، ونال عنده طلبة العلم أعني علم الحديث مالم ينالوا في أيام أبيه وجده)56 كما انتعش المذهب الظاهري، وممن انتحل هذا المذهب من المغاربة: أبو الحسن علي بن محمد بن خيار البلنسي الأصل الفاسي (541_605) و أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن هارون يعرف بابن الكماد ( ت 633) وكذا أبوالخطاب بن دحية الكلبي السبتي (547_633) وقد ظهر ذلك عموما في الاهتمام بأحاديث الأحكام كاستدراك القاضي الصقلي على الأحكام الكبرى لعبد الحق57 .(1/27)
و قد تبنى الأستاذ المنوني رحمه الله هذا الاتجاه أي كون الموحدين ظاهرية في الفقه انطلاقا من الأدلة التي توفرت لديه فعلق على رأيه الشيخ عبد الله كنون رحمه الله في المقدمة التي كتبها لكتاب المنوني "حضارة الموحدين "جاء فيها :(فإننا لا نخفي عدم قبولنا لبعض الآراء التي ذهب إليها في بعض المسائل كترجيحه أن الموحدين كانوا ظاهرية في الفقه و أن دعوتهم لنبذ مذهب مالك لم تكن إلا للتمسك بمذهب داود و تأويله للنصوص التي تدل على أنهم كانوا أهل سنة و حديث و أن دعوتهم كانت للاجتهاد المطلق بما يؤيد نظره و يعضض ترجيحه..)58.
و الحقيقة أن الأستاذ المنوني لم يعمم الحكم في كتابه إنما حصر الأمر في الفئة الحاكمة و من شايعها و أكد في موضع آخر من كتابه أن أغلب الفقهاء بقوا على مناصرة المذهب المالكي حيث قال : (وبقدر ما كان خلفاء الموحدين محبين للمذهب الظاهري كان أكثر فقهاء عصرهم من المغاربة و غيرهم ساخطين على هذا المذهب متعصبين للمذهب المالكي مناصرين له)59.
و من أبرز شيوخ المالكية في الأندلس مثلا : سليمان بن عبد الواحد الغرناطي ( ت 599) ألف في الفقه كتاب المسائل المجموعة على التهذيب للبرادعي في تسعة
أسفار، وجعفر بن عبد الله الخزاعي الأندلسي ( ت 624) و عبد الله بن علي الأنصاري الأوسي الأندلسي ( ت 646) كان يدرس الأصول و مذهب مالك بإشبيلية و قرطبة60 .
بل هناك من تصدى لهذا المذهب وجاهر بالرد على شيخ الظاهرية الثاني ابن حزم منهم : أبو عبد الله محمد بن محمد بن سعيد الأنصاري الإشبيلي المعروف بابن زرقون (539_621) ألف المعلى في الرد على المحلى لابن حزم ، و كذا قاضي مراكش و إشبيلية أبو محمد عبد الحق بن عبد الله الأنصاري المهدوي الأصل ( ت 631) له كتاب في الرد على بن حزم 61.(1/28)
و قد شهد ابن رشد الحفيد بأن المذهب الذي بقي سائدا زمن الموحدين و خصوصا في الأندلس هو المذهب المالكي حيث يقول :(و إن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة التي هي جزيرة الأندلس62 .
و بالإضافة إلى الفقه و الفرائض و أصول الفقه و أصول الدين ، فقد عرفت باقي العلوم انتشارا واسعا و اهتماما كبيرا كاللغة و البيان و العروض كما أن التاريخ ازدهر بهذا العهد بما يتناسب و مقام الموحدين العلمي فألفت كتب في السير و الأنساب و التراجم و تاريخ الملوك و تاريخ البلدان و البرامج و الفهارس ، كما كانت للجغرافيا دولة أيما دولة في هذا العهد بما توافر من السائحين و الجغرافيين و بما اكتشف فيه من المجاهل ، و يعتبر الشريف الإدريسي السبتي (494ه_562ه) خير نموذج لذلك .و من روائعه المائدة الفضية أو الخريطة الأرضية و الخريطة الحائطية التي تعتبر بحق أقدم خريطة عالمية يعرفها التاريخ . و قد وضع كتابا يشرحها فيه اسمه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" . كما كان لعلوم الفلسفة نفاق كبير في هذا العهد أيضا ، وكان يوسف الموحدي نفسه على رأس المشتغلين بها ،و بفضل هذا الاهتمام من يوسف قام ابن رشد بترجمة كتب "أرسطو" الطبيعية 63
كما كان للعلوم العددية من حساب و جبر و معاملات و هندسة نهضة كبيرة و كذلك علوم الهيئة و الميقات و علوم المنطق و المناظرة و الجدل الذي (توافرت أسباب شيوعه في هذا العصر بما حمل عليه الموحدون الناس من القول بالمهدوية و العصمة و ما يتبع ذلك و بما ألزموهم من اعتناق المذهب الظاهري ..64.(1/29)
كما كان للطب دولة و صولة و اهتم به الموحدون أيما اهتمام ظهر ذلك في اعتنائهم بالطب الخاص و العام و بإكرام أهله و احترامهم ، و قد كان ابن رشد ممن ناله حظ من ذلك ، كما عرفت الآداب نهضة كبيرة موسومة بالإجادة و التفنن و الإبداع فوجد شعراء عباقرة متفننون تناولوا أكثر أبواب الشعر و تنوعت الكتابة إلى ديوانية و اجتماعية و سياسية و أدبية و غيرها 65.
المبحث الثاني
حياة ابن رشد
( 520 هـ / 595 هـ (
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد 66و سمي باسم جده و كني بنفس كنيته و اشتهر عند المسلمين في كتب الطبقات بأبي الوليد القاضي،والفيلسوف وبأبي الوليد الأصغر ولقب بابن رشد الحفيد و عرف عند الغربيين ب:Averroes وولد لأهل بيت فقه و علم. و تعتبر أسرته من أكبر الأسر الأندلسية بل من مفاخر قرطبة، بحيث شغلت زمنا طويلا مركزا ممتازا في الفقه و القضاء و السياسة، وكانت موضع إجلال دولة المرابطين ثم دولة الموحدين على اختلافهما في النزعات و الميول.
فرأت الأسرة في ابن رشد الحفيد امتدادا لمجدها، فاهتمت بتكوينه تكوينا أصيلا متينا، فحفظ القرآن الكريم، ودرس اللغة العربية و آدابها، و حفظ شعر أبي تمام و غيره. وسمع الموطأ و حفظه، ثم سمع المدونة وأتقنها فهما ، ودرس الفقه عن أئمة عصره ، وعلم الكلام على شيوخ الأشاعرة . وأخذ الأصول عن المعتنين بهذا الفن، و روى الحديث، و حفظ منه. لكن بقيت الدراية أغلب عليه من الرواية. 67حيث اتصل بشيوخ عصره في الطب و الحكمة حتى انتهت إليه الإمامة دون أهل عصره في الفلسفة و علوم الأوائل و كان يفزع إليه في الفتوى في الطب كما يفزع إليه في الفقه. 68(1/30)
و لم تثبت له رحلة خارج الأندلس في مرحلة التحصيل،غير أنه راسل الشيوخ خارج الأندلس و هو بعد لم يتجاوز السادسة عشر من عمره69 . و قد عاصر في فترة شبابه سقوط دولة و قيام أخرى و انشغل طوال الأحداث الجسيمة لتلك الفترة بتكوينه الذاتي منغمسا في العلم و البحث متجاوزا لدائرة الفقه و القضاء إلى دائرة الطب و الفلسفة و علوم الأوائل، فتفتحت أمامه أبواب الوجاهة، و ناسب الظرف الجديد كما ناسب أبواه من قبل ظرفهما ، فنال الحظوة و الشهرة و إكرام الأمراء بالعطايا و الإنفاق و إسناد القضاء و التشجيع على التأليف.فاستدعاه عبد المومن بن علي سنة 547ه و هو بعد في السابعة و العشرين من عمره ليستشيره و يستعين بآرائه في إصلاح التعليم و إنشاء المعاهد بمراكش .
وقدكان عبد المومن ممن نادى من الأمراء الموحدين برد ( الناس إلى قراءة حديث و استنباط الأحكام منها و كتب بذلك إلى جميع طلبة العلم من بلاد الأندلس و العدوة )70.و في سنة 558ه توفي عبد المومن فخلفه أبو يعقوب يوسف و كان يحب العلم و يكرم العلماء فاتصل به ابن رشد بمراكش بحضور ابن طفيل -الفيلسوف الشهير- وكان هذا اللقاء سببا في تصدي ابن رشد لتقريب عبارة فلاسفة اليونان والتأليف في الحكمة وعلوم الأوائل ،وقد نقل المراكشي في المعجب ما جرى بحسب رواية أحد تلاميذ ابن رشد قال: أخبرني تلميذه الفقيه الأستاذ أبو بكر بندود بن يحيى القرطبي قال: سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأيهم في السماء؟ يعني الفلاسفة أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل.(1/31)
ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت فعرف ما عندي من ذلك فلما انصرفت، أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب وأخبرني تلميذه المتقدم الذكر عنه قال استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه ويذكر غموض أغراضه، ويقول لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس.
فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبر سني واشتغالي بالخدمة وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه، قال أبو الوليد فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس 71 .
و في سنة 564 ه ولاه أبو يعقوب القضاء في إشبيلية و بها ابتدأ خطة القضاء و بقي عليها مدة72. و في سنة 566 ه عينه نفس الأمير قاضيا في قرطبة و مكث في هذا المنصب مدة تزيد على عشر سنوات و في 578ه استدعاه إلى مراكش و عينه طبيبه الخاص ثم أرجعه بعد ذلك إلى قرطبة و عينه قاضي القضاة بها .(1/32)
و في سنة 580ه توفي أبو يعقوب يوسف و خلفه ولده يعقوب الملقب بالمنصور بالله فلقي في البداية ما ناله من والده من حظوة و إكرام و تقريب و احترام فكان من أطبائه المقربين 73 و في سنة 591ه جاز المنصور إلى الأندلس و مر بقرطبة و هو متوجه إلى غزو الفرنج 74 بقيادة ألفونس ملك البرتغال ، فاستدعاه و قربه حتى تجاوز به الموضع الذي كان يجلس فيه أبو محمد عبد الواحد بن الشيخ حفص الهنتاني 75 مما أثار حفيظة حساده . فأقام المنصور بالأندلس إلى آخر عام 593ه و في هذه السنة قبل رحيله إلى مراكش تغير على ابن رشد و هو شيخ فوق السبعين فاعتقله وأهانه و نفاه إلى اليسانة 76 و أبعد عنه أصحابه وعزلهم عن القضاء77 ومنع تلاميذه و مريد يه من الاتصال به بحرق كتبه في التعاليم ، كل ذلك وقع بعد محاكمة علنية بجامع قرطبة بمحضر الفقهاء78 و أعيان الدولة و بمشهد ملأ من المسلمين.
_ أسباب المحنة :
يشير بعض المؤرخين 79 إلى أن السبب في المحنة التي أصابت ابن رشد هو ما رمي به من الزندقة و الكفر و ما زعم من تشكيكه في وجود قوم عاد رغم ذكر قصصهم في القرآن . وكذلك العثور على عبارة :(فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة ) في بعض كتبه .
و هي أمور يصعب التسليم بها . إذ ما يؤخذ على الرواية الأولى أن صاحبها ادعى أن ابن رشد، قال ذلك وسط جمع من الطلبة، و هو أمر كفيل بالإدانة و الانتقام لشرف الدين ،غير أن المحنة لم تحدث إلا بعد ذلك بمدة، الأمر الذي يحيط الحادث بجملة من الشكوك، و خصوصا في مثل وسط يعيش عزة الإسلام آنذاك مع وجود حساسية في البيئة اتجاه الاشتغال بالفلسفة عموما و بالأحرى النطق بما يخالف النصوص الصريحة.(1/33)
فهذا المقري يوصي أبناءه بما يلي:( وإياكم والعلوم القديمة والفنون المهجورة الذميمة فأكثرها لا يفيد إلا تشكيكا ورأيا ركيكا ولا يثمر في العاجلة إلا اقتحام العيون وتطريق الظنون وتطويق الاحتقار وسمة الصغار وخمول الأقدار والخسف من بعد الإبدار وجادة الشريعة أعرق في الاعتدال وأوفق من قطع العمر في الجدال هذا ابن رشد قاضي المصر ومفتيه وملتمس الرشد وموليه عادت عليه بالسخطة الشنيعة وهو إمام الشريعة)80 فسبيل الفلسفة (محجور وضرم مسجور وممقوت مهجور)81 ويقول أيضا عنها(وهذا العلم ممقوت بالأندلس لا يستطيع صاحبه إظهاره ، فلذلك تخفى تصانيفه )82 و في موضع آخر ( و كل العلوم لها عند أهل الأندلس حظ و اعتناء إلا الفلسفة و التنجيم فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم . و لا يتظاهر بهما خوف العامة ، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة و يشتغل بالتنجيم أطلقت العامة عليه اسم زنديق و قيدت عليه أنفاسه ، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان ، أو يقتله السلطان تقربا لقلوب العامة ، و كثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن )83. و بهذه الشهادة يمكن استبعاد ما رمي به ابن رشد من إنكار وجود قوم عاد.
كما أن العبارة المذكورة في اتهام ابن رشد_ إذ وجدت حقا في بعض كتبه_ قد تكون بترت من سياقها أو قد يكون الغرض من إيرادها التحدث عن عقائد قوم سابقين و علوم الأوائل .ثم إن الرجل من خلال كتاباته يبدو قوي الإيمان بالله تعالى وبالتالي لا يمكن أن يراوده لحظة رد خبر أوحى به الله تعالى إلى خاتم النبيين أو يشرك بالله و هو يعلم أن الشرك ظلم عظيم لمقام الألوهية .
ومن بعض كلام ابن رشد الذي يرد هذه المزاعم قوله :(من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا بالله تعالى )84. و لعل اجتهاده في تعلم تلك العلوم و تعليمها و التعمق فيها لم يكن منه إلا سعيا وراء مزيد من اليقين و جمع نور العقل إلى نور الوحي ليزداد بصيرة و إيمانا .(1/34)
فهو يتحدث مثلا عن الدافع الذي حركه لتخليص كتاب جالينوس ( و أكثر ما حركني إليه ابناي أبو القاسم و أبو محمد ، إذ كان لهما مشاركة في هذه الصناعة و في العلوم الحكمية التي لا يتم النظر في هذه الصناعة إلا بها ،كما بين ذلك جالينوس في مقالاته أن الطبيب الفاضل هو فيلسوف بالضرورة ، و معنى الفيلسوف المحب في علوم الحق ، و شرح هذا الاسم يرفع عن السامع له المنصف الشناعة التي لحقت هذه التسمية في زماننا هذا من قبل قوم انتسبوا إلى علم الشرع ، مما تعرفه العامة و الله الموفق للصواب بفضله و رحمته )85.
و لا ينفك يذكر الله تعالى و هو في حديثه عن الفلسفة الموجهة للخاصة و ليست لعامة الجمهور86 . وهذا أبو الحسن بن قطرال(563ه-651ه) يروي عنه أنه قال ( أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة ، و قد حانت صلاة العصر ، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه)87 . و هناك من يذكر أسبابا أخرى غير هذه ، و لها علاقة بالوشاية و الدسائس المعهودة في بلاط الحكام من طرف المنافسين و الحساد فادعوا مسه بالأسس الفكرية للدعوة الموحدية التي يشكل فكر الغزالي أحد مكوناتها . و الذي كان أستاذا مبرزا لشيخهم المهدي ابن تومرت88
و بكونه أيضا نال من المنصور فوصفه في بعض كتبه بأنه ملك البربر، و أزال التكلف مع الخليفة و ناداه بما لا يليق و أدبيات البلاط في جلساته الخاصة معه فكان يقول : اسمع يا أخي . كما أن البعض رد ذلك إلى ما يثير الريب في علاقة ابن رشد مع والي قرطبة أبو يحيى أخو المنصور من حدوث صداقة كبيرة خشي المنصور عواقبها .
و على أي لا يبعد أن يستجيب المنصور و هو في مواجهة الأعداء و أحوج ما يكون إلى وحدة الصف و استمالة الجمهور و موالاتهم و هم في العادة لا يميلون إلى الفلسفة و لا يحبون من يظهرها و يتعاطاها .(1/35)
لكن ما عرف عن الرجل من أخلاق و سجايا بحيث خدم الأندلسيين و لم يصرف جاهه في رفعة و استزادة ثروة ، و ما عرف في خلقه من إباء و شمم و قوة نفس و تواضع وكذا موقع أسرته ذات الحسب الأصيل في العلم و السيادة و خدمة المسلمين حكاما و محكومين كل هذا جعل الرجل فوق الظنون و عاد إليه رضى الأمير و جانب من الجمهور(و من الناس من تعامى عن حاله و تأول مرتكبه في انتحاله) 89.
فأعاده المنصور إلى مراكش بعد ما نأى عن جو الحرب في الأندلس و بعد عن جو المشاحنات بقرطبة و شفع له جماعة ، فقربه و أزال وحشته و أكرمه . غير أن جرح النكبة كان عميقا و خصوصا مع وهن العظم و اشتعال الرأس شيبا ، فأصابه مرض،فلم يعمر طويلا بعد العفو عنه فتوفي رحمه الله بمراكش يوم الخميس سنة 595ه . ثم نقلت جثته إلى قرطبة تنفيذا لوصيته .
-الحياة العلمية :
ذكر صاحب الديباج أن ابن رشد عني بالعلم من صغره إلى كبره حتى ( حكي أنه لم يدع النظر و لا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه و ليلة بنائه أهله )90 كما عرف بصحة النظر و جودة التأليف و البصر الدقيق بالأصول و الفروع . فهو فقيه ألف في الفقه ،و طبيب ألف في الطب و أصولي ألف في الأصول و لغوي ألف في اللغة و حكيم ألف في الفلسفة .
و كان من حسن حظه أن نبتت مواهبه في أسرة علمية عريقة و في بلدة قيل عنها أنها بغداد الغرب الإسلامي و التي قال فيها الشاعر91 :
بأربع فاقت الأمصار قرطبة منهن قنطرة الوادي و جامعها
هاتان اثنتان، والزهراء ثالثة و العلم أعظم شيء هو رابعها
و يذكر المقري عنها قوله :(اعلم أنه لعظم أمر قرطبة كان عملها حجة بالمغرب حتى إنهم يقولون في الأحكام هذا مما جرى به عمل قرطبة )92 فنبت بين قوم عمالقة في تخصصات عديدة .
_شيوخه :(1/36)
أخذ ابن رشد الحفيد عن شيوخ كثيرين و خالط عددا كبيرا من العلماء ممن كانت تعج بهم قرطبة و إشبيلية و سائر بلاد الأندلس فكان لهم جميعا مشاركة في تكوينه و تخريجه و التأثير فيه . و لكي تتضح صورة متانة التكوين العلمي الذي حظي به ابن رشد نذكر أجل هؤلاء الشيوخ و أوسعهم علما و شهرة، ذلك أن معظم الذين درس عليهم ابن رشد الحفيد كانوا تلاميذ جده كما أن مؤلفات جده في علم الكلام و الفقه كانت مصدرا للحفيد ليس فقط في العلوم الإسلامية و إنما أيضا في كتاباته الفلسفية. يقول رينان عن الجد : ( كان جده فقيها مشهورا في المذهب المالكي ، له مجموعة ضخمة من الفتاوى (...) و يتخيل إلى الناظر في صفحات هذا الكتاب الطريف أنه يلمس أصول فكر الشارح )93.
_ابن رشد الجد :
هو محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن رشد يكنى أبا الوليد ولد في شهر شوال من سنة 450ه و اشتهر بابن رشد الجد تمييزا له عن الحفيد و بابن رشد الأكبر تمييزا له عن ابن رشد الأصغر و بابن رشد الفقيه تمييزا له عن ابن رشد الفيلسوف . و أطلق عليه الفقهاء في مذهب مالك "ابن رشد" فإذا نقلوا عنه أو رجحوا قوله أو ذكروا رأيه و أثبتوه فهم يعنونه و لا يقصدون غيره94.وقد قرب للناس المذهب المالكي أحسن تقريب. قال صاحب نفح الطيب :(قرب الإمام ابن رشد مذهب مالك تقريبا لم يسبق إليه)95(1/37)
كان أبوه أحمد بن أحمد بن محمد عالما جليلا معدودا في الثقاة و محسوبا من العدول عاش مع ابنه 32 سنة فكان معلمه الأول و لم يكن لابن رشد الجد رحلة خارج الأندلس بل اكتفى بقرطبة وكان في بيته ومدينته ما يغنيه ،فحفظ القرآن الكريم و بعض كتب الحديث و تعلم العربية و الأدب و انتقل إلى الفقه و درس أصول الفقه و أصول الدين و أخذ التاريخ و الأخبار واطلع على مسائل الخلاف ، و أسباب الاختلاف و عرف معاقد الإجماع و مواطن الاتفاق و قرأ التفسير و شرح الحديث و تعلم علم الفرائض. و بالجملة فقد أخذ العلوم الإسلامية و أتقن فروعها و تخرج على أيدي المهرة من شيوخها 96.
و لقد تتلمذ لشيوخ عديدين، منهم: أحمد بن محمد بن رزق الأموي ( ت 477ه) تلميذ ابن عبد البر ( ت 463ه) . حيث تأثر به ابن رشد الجد في الفقه و في التأليف و به تهيأ إلى الافتاء و الشورى و البصر بالمسائل و العلم بالنوازل . و ثاني شيوخه هو أحمد بن عمر بن أنس بن قطبة العزري ويعرف بابن الدلائي ( ت 478) طلب منه الجد أن يجيزه مروياته، فأجازه ما رواه و استفاد منه إسناده، و به وصل روايته لصحيح البخاري عن طريق أبي ذر الهروي ، كما تتلمذ على يد آخرين من أمثال: ابن أبي العاقل الجوهري ( ت 478) و عبد الملك بن سراج (ت 489) و ابن الطلاع ( ت 497) الذي كانت إليه الرحلة في زمانه لسماع الموطأ و المدونة ثم الحسين بن محمد بن أحمد الفساني (498ه) تلميذ ابن عبد البر و أبي الوليد الباجي و غيرهم كثير97.(1/38)
و قد كان ابن رشد الجد ذا معرفة واسعة بعلم الحديث رواية و دراية، و كان من أكابر أهل السنة و عالما من علماء الأشاعرة ، و هو أول من تولى قضاء القضاة بقرطبة من أسرته فازداد به منزلة عند الأندلسيين و تقديرا بين القرطبيين و صار مقدما عند أمير المسلمين و عظيم المنزلة معتمدا في العظائم أيام حياته 98 كما أنه لقي القبول عند الناس في تدريسه، لتنوع علومه و أخذه عن جلة الشيوخ و تحليه بحميد الخصال، فقد كان حسن الدين كثير الحياء قليل الكلام نزيها متواضعا، وصفه تلميذه ابن بشكوال بقوله ( حسن الخلق ، سهل اللقاء كثير النفع لخاصته و أصحابه جميل العشرة لهم، حافظا لعهدهم كثيرا لبرهم )99.و كان راعيا لمصالح أهل قرطبة حاقنا لدمائهم ، يضاف إلى ذلك كثرة تصانيفه و جودتها وتخصصه في الفقه المالكي و انشغاله بمسائل الخلاف و مواطن الاتفاق مما هيأ له حظوظ الإشراف على المذهب و التفرد بالزعامة فيه في بلاد الأندلس و المغرب وماجاوره وقته 100.
و من بعض تلامذته الذين يحتمل التقاء الحفيد بهم : أبو محمد بن برنجال ( ت 536ه) و أبو عبد الله محمد أصبغ الأزدي قاضي قرطبة من طرف الجد ( ت 536) و أبو القاسم التميمي ( ت 540) الذي يعرف بابن الورد و قد انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي بعد شيخه ابن رشد وكذا الى أبي بكر بن العربي و لم يتقدمهما أحد من بلاد الأندلس101 ،و من تلامذته كذلك أبو الحسن محمد المعروف بابن الوزان ( ت 543) من أهل قرطبة اشتهر بالفقه و الحديث ، و هو الذي تولى جمع أجوبة شيخه ابن رشد و فتاويه و قام بقراءتها عليه، ومنهم أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض ( ت 544ه) و كذا ابنه أبو القاسم بن رشد ( ت 563ه) ومنهم أبو القاسم محمد بن محمد ( ت 571ه) الذي يعرف بابن الحاج و له معرفة بالفقه و مسائله و بالخلاف فيه ، و أبو القاسم بن بشكوال (578ه)102.(1/39)
و قد توفي ابن رشد الجد رحمه الله ليلة 11 ذي القعدة سنة 520ه بعد ازدياد حفيده بشهر واحد، و دفن بمقبرة بني العباس بالروضة التي دفن فيها سلفه ، وقد صور ابن الوزان حضور جنازته بما يلي:
( و كان مشهده حفيلا ، و التفجع عليه جليلا لم ير أحد من أهل زماننا مشهدا أكثر تولها و تفجعا، و يحق ، فقد كان رحمه الله طود علم و إنسان فضل و حلم ، و كوكب ذكاء و فهم وواحد جلالة و ديانة وفدر ورجاحة و أمانة )103.
و من مؤلفاته : المقدمات لأوائل كتب المدونة، و كتاب البيان و التحصيل و الشرح و التوجيه و التعليل في مسائل العتبية . و اختصار الكتب المبسوطة ليحيى بن إسحاق بن يحيى و كتاب التهذيب لكتب الطحاوي في مشكل الآثار و كتاب الفتاوى و كتاب التقليد و التقييم و تلخيص كتاب الحسن و القبح في الكلام لمحمد الحسيني المشتهر بالحكيمي و كتاب حجب المواريث و مختصر الحجب ( و هو جزء من تأليفه على مذهب مالك مما روي عن زيد بن ثابت و كتاب الرد على المرادي ( و هو معاصر لابن رشد و كان عالما بالفقه و الكلام )104.
-ابن رشد الأب :(1/40)
هو أحمد بن أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن رشد كناه ابن بشكوال بأبي القاسم 105 ولد سنة 487ه . و ترعرع في كنف والده على الدين و الصلاح و الفضل و التواضع و رباه على حب العلم ، و اكتفى بالرواية عمن لقيه بالأندلس، و ألم بالثقافة الإسلامية في أصولها و فروعها و برز في التفسير و الحديث و الفقه و العربية. و من شيوخه أبو علي الصفي المعروف بابن سكرة ( ت 517 ) و أبو محمد عبد الله بن محمد بن عتاب ( ت 528) و أبو الحسن يونس بن مغيث المعروف بابن الصفار ( ت 532) و القاضي أبو بكر بن العربي ( ت 543) و لازم أباه أبا الوليد الجد ( ت 520) وقام على كتبه من بعده مثل ما أورد صاحب التكملة لكتاب الصلة في ترجمة عبد الرحيم بن عيسى بن يوسف المعروف بابن ملجوم(ت603ه) عندما قال : (وأجاز له جميعهم إلا ابن رشد فإنه أجاز له المقدمات وشرح العتبية من تأليف أبيه )106و له تفسير جمعه في أسفار، و شرح على سنن النسائي، و برنامج حافل جمع فيه شيوخه و مروياته . تولى القضاء بقرطبة سنة 532ه . وولي قاضي القضاة سنة 537ه . ثم طلب من الأمير المرابطي أن يعفيه لما ثارت العامة و استطالت الأيدي. ثم تفرغ للتدريس طالبا السلامة من الناس مكتفيا بنشر العلم و تقييده إلى أن توفي سنة 563ه بقرطبة يوم الجمعة 13 رمضان 107(5).
_ أبو بكر بن سليمان بن سمحون الأنصاري ( ت 563ه ) كان من أهل قرطبة نشأة ووفاة اختص بإقراء القرآن و تعليم العربية و الحساب و كان موصوفا بحسن التعليم و جودة الفهم, وجد منه ابن رشد عناية سهلت عليه الاستيعاب و سلامة الفهم ، وعده صاحب الديباج من شيوخه108 .(1/41)
_ أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال ( ت 578ه ) تلميذ جد ابن رشد الحفيد . كان واسع الرواية و الدراية و كان حجة فيما يرويه و يسنده . ألف خمسين كتابا تشهد له بالحفظ و بتنوع العلوم التي يحملها ، و عمر طويلا،وقد تفقه عليه ابن رشد 109 . ولابن بشكوال شهرة بين جميع مصنفي السير ، و هو حجة في الحديث و لم يكن له نظير في معرفة تاريخ الأندلس. وأهم كتبه كتاب الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، والمعجم في سيرعلماء الأندلس و تكملة المعجم لابن الفرضي في السير، وغيرها 110.
_ أبو جعفر بن هارون الترجالي من أعيان أهل إشبيلية تميز في العلوم الفلسفية و حققها و اعتنى بكتب الحكماء المتقدمين و برع في صناعة الطب و أتقنها و خبر أصولها و فروعها فوفق في المعالجة و نجح في مداواة الناس و حمدت طريقة علاجه ، و كان عالما بصناعة الكحل و اشتغل بالحديث على شيخه أبي بكر بن العربي ، و كانت له وجاهة عند أبي يعقوب يوسف أمير الموحدين ، أخذ عنه ابن رشد الحفيد العلوم الطبية والفلسفية111.
_أبو مروان عبد الملك بن محمد البلنسي المعروف بابن جريول سكن قرطبة و كان أحد الماهرين في صناعة الطب معترفا له بالسبق فيها و التقدم وهو من شيوخ ابن رشد في الطب ، قال صاحب التكملة لكتاب الصلة : كان من أهل المعرفة بالطب والتقدم في صناعته وعنه أخذه القاضي أبو الوليد بن رشد112.
_ عبد الملك بن مسرة من أهل قرطبة و من مفاخرها و أعلامها أخذ الموطأ عن أبي عبد الله محمد بن فرج سماعا ، و أخذ عن جماعة من شيوخ ابن بشكوال كابن رشد الجد في الفقه و أبو بكر بن مفوز في الحديث و الرجال و الضبط . و كان ممن جمع الله له الحديث و الفقه مع الأدب البارع و الحظ الحسن و الفضل و الدين و الورع و التواضع و الهدي العالج و كان على منهج السلف المتقدم . تفقه عليه ابن رشد الحفيد113 و توفي سنة 552ه 114.(1/42)
- أبو جعفر عبد العزيز بن حميد بن الغليبي ( ت 548ه) من أهل قرطبة و قاضي الجماعة بها سمع من أبيه و غيره وولي قضاء بلده سنة 529ه ثم عزل وولي مكانه أبو القاسم ابن رشد ( والد الفيلسوف ) ولما أعفي أبو القاسم من القضاء أعيد أبو جعفر ثانية ، و كان أبو الحسين بن سراج يقول في أسرة بني حميدين : ( لا تزال قرطبة دارعصمة و نعمة ما ملك أزمتها أحد بني حميدين ) و قد ذكره ابن عبد الملك من شيوخ ابن رشد في الفقه 115 .. و تجدر الإشارة إلى أن والده أبو عبد الله ( ت 508) هو الذي تولى و تزعم الطعن على الغزالي و الفتوى بإحراق الإحياء زمن علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي سنة 503ه 116.
-الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري (536ه) كان قيما على مذهب الإمام مالك ، إليه انتهت رئاسته في عهده في المهدية بإفريقية عموما و كان محققا في الفقه نظارا فيه بلغ رتبة الاجتهاد و كان طبيبا يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه . ألف في الفقه و الأصول والحديث وعلم الكلام و غيرها مما يدل على طول باعه و تنوع علومه . و قد انتشر ذكره و ذاع إنتاجه بالأندلس و بالمشرق و رحل إليه الناس ، و تهافتت عليه المكاتبات من الأندلس تستجيزه فراسل أصحابها و منحهم الإجازات ، راسله ابن رشد الحفيد كما راسله من قبل القاضي أبو الفضل عياض و بعث إليه من قرطبة و هو لم يستوف العقد الثاني من عمره يستمنحه إجازة فكتب إليه من المهدية و أجازه117 .
- أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ ويعرف بابن باجة قال صاحب عيون الأنباء في طبقات الأطباء وكان من جملة تلاميذ ابن باجة أيضا القاضي أبو الوليد محمد بن رشد، وابن باجة هذا هو من باجة من الأندلس وكان في العلوم الحكمية علامة وقته وأوحد زمانه118
- موسوعية التكوين و غزارة الإنتاج :(1/43)
لقد تضافرت كل العوامل الذاتية و الموضوعية و قبلها جميعا إرادة الله تعالى و قدرته في تهيئ الجو المناسب لظهور مثل هذه الشخصية الفذة التي يعد أمثالها على رؤوس الأصابع في التاريخ الإنساني.فكانت له مشاركة فعالة في أغلب المجالات المعرفية المعروفة في عصره وامتازت ثقافته بالشمول و عطاؤه بالتنوع: شمل العقيدة وعلم الكلام واللغة العربية والفقه والأصول وعلم المنطق والطب والفلسفة.وإن كانت المحنة التي تعرض لها سببا في غالب الظن في بروز جانب و ضمور آخر .
فبالإضافة إلى تأليفه في العربية، فإن تلخيصه لفن الشعر (لأرسطو يشهد بعلو كعبه في الأدب العربي ولا سيما في شعر ما قبل الإسلام . وتجد كل صفحة من هذا الكتاب استشهادا بعنترة وامرىء القيس والأعشى وأبي تمام والنابغة والمتنبي وكتاب الأغاني...)119 كما أن هناك من يرى أن نزعته إلى الفلسفة بدت أول ما بدت في الفقه، ذلك بأن (الذي يعتد برأيه وتفكيره ويحاول أن يدرس ويبحث بعقله لا أن يروي ويصدق مايرويه كله فحسب،ويجتهد في تعرف علل الأحكام الشرعية على اختلافها باختلاف أئمة الفقهاء.ويوازن بين هذه الآراء بعقله ونظره .ذلك الذي يكون هذا حاله في الفقه،لا يكون بعيدا عن الفلسفة.بل قد يكون قد دخل فيها من بعض نواحيها ما دامت الفلسفة هي البحث عن العلل ومحاولة فهم العالم وقوانينه)120ولهذا وصفه ابن أبي أصيبعة بأنه (مشهور بالفضل معتن بتحصيل العلوم،أوحد في علم الفقه والخلاف )121 .(1/44)
ووصفه ابن الآبار بأنه (كان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزغ إلى فتواه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب، حكى عنه أبو القاسم بن الطيلسان أنه كان يحفظ شعري حبيب والمتنبي ويكثر التمثل بهما في مجلسه ويورد ذلك أحسن إيراد وله تصانيف جليلة الفائدة منها كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه أعطى فيه أسباب الخلاف وعلل ووجه فأفاد وأمتع به ولا يعلم في فنه أنفع منه ولا أحسن مساقا)122 فقد كان فقيها ،عالما حافظا للفقه،بصيرا بأقوال الفقهاء بارعا في علم الفرائض والأصول، وسنحاول إبراز هذا الجانب بما فيه الكفاية فيما يلي من مباحث بحول الله .
كما كان متميزا في علم الطب (وهو جيد التصنيف حسن المعاني وله في الطب كتاب الكليات وقد أجاد في تأليفه وكان بينه وبين أبي مروان بن زهر مودة. ولما ألف كتابه هذا في الأمور الكلية قصد من ابن زهر أن يؤلف كتابا في الأمور الجزئية لتكون جملة كتابيهما ككتاب كامل في صناعة الطب (...) ومن كلام أبي الوليد ابن رشد في هذا المجال قوله :من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا بالله.123ولهذا لا غرابة بأن يصبح الطبيب الخاص للأمير أبي يعقوب يوسف الموحدي رغم أنه لم يستكمل الجانب التطبيقي من صناعة الطب ولم تكن له كبير ممارسة فهو يقول في كتابه الكليات:(وهذا الجزء من الطب هو الذي أرى بأنه يعوقنا عن الكمال في هذه الصناعة،وذلك أني لم أزاولها كبير مزاولة اللهم إلا في نفسي أو في أقرباء لنا أو أصدقاء...)124.(1/45)
كما أنه كان على علم بعلم الفلك (ويوجد بين ملاحظاته ما يفوق أفق عصره بمراحل )125 ورغم ما يبدو من مسحة الشمول على معارف ابن رشد فإن شهرته تعود أساسا إلى الفلسفة والتي كانت في بعض جوانبها سببا في ضمور شهرته في جوانب معرفية أخرى وخصوصا لدى المسلمين إلى عهد قريب (قال ابن الزبير:كان من أهل العلم والتفنن،وأخذ الناس عنه واعتمدوه إلى أن شاع عنه ما كان الغالب عليه في علومه من اختيار العلوم القديمة والركون إليها(...)وحاد عن ما عليه أهل السنة.فترك الناس الرواية عنه..)126.
فلسفته وعقيدته:
قسم بعض الدارسين فلسفته إلى قسمين رئيسيين: قسم تركيبي انتقائي لم يكن فيها بدعا من الفلاسفة المسلمين الذين سبقوه بحيث حرص مثلهم على التوفيق بين الدين والفلسفة، ويمثل هذا القسم كتبه الثلاثة:فصل المقال،والكشف عن مناهج الأدلة، ومقالة فيما يعتقده المشاءون وما يعتقده المتكلمون.
وقسم تحليلي نقدي تمثله شروحه لكتب أرسطو، وفيها امتاز على غيره من الفلاسفة وجعله معدودا من كبارهم وأثبت له مدرسة متميزة دعاها الغربيون بالرشدية (ولم يكن مجرد شارح أو ناقل وإنما كان ممثلا للعبقرية الإسلامية التي تجلو الغوامض.وتضيف أكثر مما تأخذ،وكان أثناء شرحه يدخل فلسفته الأصلية فيما يشرح،وتبدو شخصيته قوية في شروحه فيحذف ما يرى حذفه،ويضيف ما تجب إضافته وأحيانا يبقي على النص لا يغير فيه شيئا.وهكذا يصول صولة الخبير والعبقري الناقد ويجول جولة العالم العظيم)127 .(1/46)
فانتهى أمره عند الغربيين بشرحه الأكبر إلى تكوين قطب ثبت في الفلسفة (فالطبيعة تفسر بأرسطو وأرسطو يفسر بابن رشد)128ورغم هذا الإعجاب الظاهري من الغربيين بفلسفة ابن رشد وتباكيهم على مصير الفلسفة في بلاد المسلمين بعد ابن رشد وخصوصا منهم رينان صاحب كتاب "ابن رشد والرشدية" فإنهم لا يلبثون يلمحون بل ويصرحون بأن أكبر عقل في نظرهم للحضارة الإسلامية لا يعدو أن يفهم عن العقل اليوناني الغربي ويشرح للناس مقصوده و من ثم يشكر له عدم إتيانه كثير مناقضات للمعنى الحقيقي رغم تعامله مع ترجمات مبهمة غالبا129.
فهي لاتعرض غير ترجمة لاتينية من ترجمة عبرية لشرح قام على ترجمة عربية من ترجمة سريانية من أصل يوناني ولهذا فهي شروح كما يقول رينان:(لا يمكن أن يكون لنا بها غير متعة تاريخية، وإن من الجهد الضائع أن نحاول استخراج نور منها لتفسير أرسطو،وذلك كما لو أريد الإطلاع على راسين بمطالعته في ترجمة تركية أو صينية)130.
ويشير العقاد إلى ضرورة التمييز في الفلسفة الرشدية بين فلسفته كما فهمها الأوروبيون في لغتها اللاتينية أو العبرية التي ذاعت إبان سلطان محاكم التفتيش حيث نسب إلى ابن رشد كل ما يسوغ تحريم فلسفته من إلحاد وزندقة،وبين فلسفته كما كتبها هو واعتقدها ودلت عليها أقواله المحفوظة لدينا131,وهذا ما يؤكده سلفادور غوميث نوغاليس أستاذ الفلسفة بالمعهد الإسباني العربي للثقافة بجامعة مدريد حيث يقول:(فابن رشد ليس هو الملحد العقلي كما صوره رينان ،وليس هو الأرسطي الوثني الذي سلبنا الأبدية الشخصية للنفس الإنسانية بل هو مسلم أصيل حاول أن يتعمق في مدلولات الوحي القرآني من أجل طمأنة أهل دينه في المعضلات التي يمكن أن يطرحها العقل أو رجالات الديانات الأخرى)132 .(1/47)
ولعل القسم الأول من فلسفته هو الذي يمكن الاطمئنان إلى أنه يشكل فكر الرجل وعقيدته ولعل(ابن رشد تنبه إلى هذا فكتب مناهج الأدلة في صورة إسلامية بينما كانت شروحه لكتب أرسطو (...)خروجا عن الفكر الإسلامي متابعة لروح يوناني لفظه الإسلام لفظا تاما)133 ولئن جاءت فلسفة الكندي وابن سينا وابن طفيل وابن ماجة وغيرهم تعبيرا عن محاولة التوفيق بين العقل والنقل فإن فلسفة ابن رشد قد حققت هذه الغاية وخاصة أن محاولة السابقين عنه قد اعتراها بعض النقص والقصور فانطلق من مبدإ أن العقل والدين يعبران في النهاية عن حقيقة واحدة. والحق لايضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
وورود الظاهر والباطن في الشر ع يوافق اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم وفيه تنبيه للراسخين في العلم على التأويل المناسب .فمثلا في الإستدلال على وجود الله يرفض أدلة أهل الظاهر والمتكلمين والمتصوفة وينقدها جميعا ثم يستدل بدليل العناية الإلهية الذي يلتقي مع استشهادات القرآن الكريم فهو برهان عقلي وديني أيضا وكذلك دليل الاختراع فكل شيء مسخر لابد أن يكون مخلوقا وإذا ثبت حدوثها كان ذلك دليلا على وجود الخالق وأجزاء العالم المخترعة لابد لها من مخترع وهو يوافق أدلة القرآن مثل قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت) (الغاشية 17 ) .(1/48)
فهو دائما يشفع براهينه العقلية بآيات من القرآن الكريم تزيد براهينه قوة وتؤكد تطابق العقل والنقل وكذلك الشأن في الوحدانية حيث يستدل بقوله تعالى:(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (الأنبياء:21)ويقول:(فكأنه قال:لو كان فيهما آلهة إلا الله لوجد العالم فاسدا في الآن، ثم استثنى أنه غير فاسد، فواجب إلا أن يكون هنالك الإله واحد)134.وهذا الأسلوب العقلي في البرهنة يتخذه ابن رشد في معالجة كثير من المسائل العقائدية الأخرى مثل صفات الله، واضعا في الاعتبار ضرورة التفريق بشكل حاسم بين عالم الغيب وعالم الشهادة وكذلك برهنته على صحة القضاء والقدر والبعث وخلود النفس بأدلة تقنع الخاصة والعامة معا. وهكذا حققت فلسفته إمكانية طالما اشرأبت إليها أعناق المفكرين والفلاسفة وهي التقاء العقل بالدين وتطابق الحكمة والشريعة.
وما يؤخذ على ابن رشد بغض النظر عن مضمون فلسفته وخصوصا في شروحه على كتب أرسطو_ الإعجاب الشديد بأرسطو إذ كان يراه الإنسان الأكمل والمفكر الأعظم الذي وصل إلى الحق الذي لا يشوبه باطل، وأنه حتى لو تم اكتشاف أشياء جديدة في الفلك والطبيعة لما غير ذلك من هذا الحكم شيئا. ويرى أن مذهبه لا يتعارض مع أسمى معرفة يستطيع أن يبلغها إنسان، ويرى أن الإنسانية عبر تاريخها بلغت في شخص أرسطو درجة عالية يستحيل أن يسطو عليها أحد.
بل يعتبره أسمى صورة تمثل فيها العقل الإنساني، ويميل إلى تسميته بالفيلسوف الإلهي .فهو يقول في تلخيص القياس:(فما أعجب شأن هذا الرجل وما أشد مباينة فطرته للفطر الإنسانية حتى كأنه الذي أبرزته العناية الإلهية لتوقفنا معشر الناس على وجود الكمال الأقصى في النوع الإنساني محسوسا ومشارا إليه بما هو إنسان ولذلك كان القدماء يسمونه الإلهي)135. ولهذا فإنه ليس (في أقاويل أرسطو شيء يحتاج إلى تتميم )136 وأن (نظره فوق جميع الناس)137. وهو أقصى ما يمكن أن يبلغه الشطط في الإعجاب والتقدير.(1/49)
ولعل وقوعه رحمه الله في مثل هذه الأخطاء وغيرها قد جر عليه ردود فعل عدد من الفقهاء وصل بعضها إلى رميه بسوء المعتقد، فهذا ابن دقيق العيد(ت 702ه) يرد عليه في رفضه تكفير الفلاسفة بسبب إنكارهم لقضايا مجمع عليها في الاعتقاد (وقد قال ابن دقيق العيد : أما من قال : إن دليل الإجماع ظني , فلا سبيل إلى تكفير مخالفه كسائر الظنيات , وأما من قال : إن دليله قطعي , فالحكم المخالف فيه إما أن يكون طريق إثباته قطعيا أو ظنيا . فإن كان ظنيا , فلا سبيل إلى التكفير , وإن كان قطعيا , فقد اختلفوا فيه ولا يتوجه الخلاف فيما تواتر من ذلك عن صاحب الشرع بالنقل , فإنه يكون تكذيبا موجبا للكفر بالضرورة , وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي , أعني أنه ثبت وجود الإجماع به إذا لم ينقل أهل الإجماع الحكم بالتواتر عن صاحب الشرع , فتلخص أن الإجماع تارة يصحبه التواتر بالنقل عن صاحب الشرع وتارة لا . فالأول لا يختلف في تكفيره , والثاني قد يختلف فيه .
فلا يشترط في النقل عن صاحب الشرع لفظ معين , بل قد يكون ذلك معلوما بالقطع بأمور خارجة عن الحصر , كوجوب الأركان الخمسة . فتنبه لهذا , فقد غلط فيه من يعتقد في نفسه , ويعتقد من المائلين إلى الفلسفة , حيث حكم بكفر الفلاسفة لإنكارهم علم البارئ عز وجل بالجزئيات , وحدوث العالم , وحشر الأجساد , فتوهم هذا الإنسان أن يخرج على الخلاف في مخالف الإجماع , وهو خطأ فاحش , لأن هذا من القسم الذي صحب التواتر فيه الإجماع تواترا قطعيا معلوما بأمور غير منحصرة . ا هـ . وكأنه يريد ابن رشد , فإن له كتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال " ورد على الغزالي في تكفير الفلاسفة في ذلك . )138 .(1/50)
ومن ذلك أيضا رد (شهاب الدين أحمد بن أحمد بن حمزة الرملي الأنصاري الشافعي ت 975ه) صاحب فتاوى الرميلي 139 في معرض سؤال عن إثبات جهة العلو لله تعالى كما رأى ذلك عدد من العلماء من بينهم ابن رشد الحفيد فقال بعد بيان رأي الأشاعرة :( أما قول ابن رشد الحفيد فمردود إذ هو كذب حمله عليه اعتقاده الفاسد وقد قال الإمام أبو علي عمر بن محمد بن خليل الإشبيلي السكوني الأشعري ( ت 717ه) وليحترز من كلام ابن رشد الحفيد ; لأن كلامه في المعتقد فاسد . ا هـ)
ولا يخفى ما في هذا الكلام من شدة وغلظة وخصوصا ما يتعلق برفض تأويل ظاهر بعض صفات الله تعالى إذ هو المنهج المعتبر عند سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والفرقة وهو الأسلم عند التحقيق إذا خلا الأمر من التشبيه والتجسيم. يقول ابن حجر عند حديثه عن اختلاف الأمة في النصوص التي يفيد ظاهرها الجهة والعلو والنزول: (ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال منزها الله تعالى عن الكيفيه والتشبيه وهم جمهور السلف ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم(...) قال البيهقي وأسلمها الإيمان بلا كيف ) 140(1/51)
ومن أخطائه رحمه الله تعالى اعتقاده أن علوم الفلسفة مطلوبة لمعرفة حقيقة الشريعة وهو ما تصدى للرد عليه الإمام الشاطبي (ت 790ه)حيث يقول: وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الإتصال أن علوم الفلسفة مطلوبة إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها ولو قال قائل إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها مع القطع بتحققهم بفهم القرآن ،يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير فلينظر امرؤ أين يضع قدمه)141 ومهما يكن،فيمكن أن نقول مع ابن تيمية إن ابن رشد أقرب من تفلسف من أهل الإسلام إلى الإسلام142.
المبحث الثالث
آثار ابن رشد
التأثير الفقهي والأصولي:
لا يذكر ابن رشد الحفيد عادة إلا ويقرن بتأثيره الفلسفي والفكري العام وخصوصا عند غير المسلمين.ويبدو الحديث عن الجوانب الفقهية والأصولية باهتا ،و الحال أننا أمام مجالين مختلفين: مجال الفلسفة الذي يبقى محدودا في تأثيره على مستوى الأمة، ومحدودا في عدد المنشغلين به، حيث يسهل فيه التميز والبروز.بخلاف المجال الفقهي الذي يشكل السواد الأعظم من ثقافة الأمة ويشتغل فيه بحر زاخر من الأعلام.(1/52)
يضاف إلى هذا طبيعة شخصية ابن رشد الذي غلب على عطائه وإنتاجه الجانب الفلسفي فكانت شهرته فيه أكبر.ولا شك أن هذه الشهرة وما صاحبها من نكبة ومحنة قد تكون ألقت بظلال من النفرة في بعض الأوساط الفقهية فقللت من تأثيره فيها،وكذا وجود جده-أحد الأعلام البارزين في الفقه المالكي في الغرب الإسلامي- والذي خطف منه الأضواء بحيث لا يذكر ابن رشد في الفقه إلا وينصرف الاهتمام إلى الجد ، كما قال أستاذي الفاضل العلامة أحمد بن محمد البوشيخي حفظه الله في رسالته عن الفندلاوي (لم يكن للمالكية كبير عناية بكتب الخلاف،ولا بالنقل عنها،لأنها بمقارنة المذهب بغيره ،ونقل أقوال وأدلة غيره،مع أقواله وأدلته،تعتبر في نظرهم قد أساءت إلى إمام المذهب وحطت من قدره وقيمته،يدلك على هذا أن كتاب "بداية المجتهد"وهو ما هو،وكان معلوما للعلماء منذ تأليفه،ومع ذلك فإنا نكاد ألا نقف على نقل عنه مصرح به،لدى مالكية المغرب قبل هذا القرن العشرين تقريبا،وحيثما ذكر ابن رشد في كتبهم فالمراد جده)143
وفي هذا الكلام أيضا إشارة إلى مبرر آخر في ضعف الاهتمام به،ويتعلق الأمر بطبيعة تأليف ابن رشد الذي نزع فيه نحو التأصيل وبسط أدلة وأسباب الاختلاف وعرض المذاهب المختلفة،وهي بضاعة عزيزة في سوق غلب عليه فقه الفروع الخاص بالمذهب المتبع.
ثم إن الحديث عن التأثير في المجال الفقهي إذا استثنينا أئمة المذاهب والمجتهدين داخلها وأصحاب الوجوه والآراء المعتبرة فيها،يصعب تحديده بدقة أمام كثرة الشيوخ الذين يأخذ عنهم التلميذ والمؤلفات المبسوطة في هذا الشأن، فلا يبقى أمامنا سوى اعتماد بعض المؤشرات الظنية مثل مجرد التلمذة عليه، وأخذ من بعده من كتبه بنقل نص أو تلخيص رأي أو مناقشته في موقف، أو مجرد الإحالة عليه وذكر إسمه أو كتابه.وهذا مما يصعب استقصاؤه وتتبعه عبر القرون بعده .وقد حاولت القيام بشيء مما ذكر، وفيما يلي بعض ما تيسر من ذلك:(1/53)
قال الإمام بدر الدين بن محمد بهادر الزركشي (ت794ه) صاحب البحر المحيط :( وحكى صاحب " الكبريت الأحمر" عن ابن رشد،أن الحكم في الأفعال كالحكم في الأقوال ) 144 وذكر في موضع آخر أن كتاب "الكبريت الأحمر" لأبي الفضل الخوارزمي، والذي يبدو أنه: أبو الفضل محمد بن أبي القاسم البقالي الخوارزمي الحنفي (ت 586ه )صاحب جمع التفاريق في الفروع 145 وإذا ما صح هذا يكون- من خلال ما وصل إلينا - من أوائل من نقلوا عن ابن رشد أي في حياته، ويقابله في الضروري في أصول الفقه لابن رشد قوله:(وإذا وردت أفعاله عليه السلام تفسيرا أو بيانا لعام،كان حكمهما حكم القولين إذا تعارضا)146 ووجب التنبيه أن ابن رشد ألف الضروري في أصول الفقه حوالي 552ه فيكون الإطلاع عليه أمرا ممكنا.
وبعده الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي (ت 684ه) لخص كلام ابن رشد في "البداية "في كتابه "الفروق" غير أنه سماه قواعد ابن رشد ، قال القرافي:( تنبيه : قال ابن رشد في كتاب القواعد: الذين قصروا الربا على الستة إما منكرو القياس وهم الظاهرية أو منكرو قياس الشبه خاصة وأن القياس في هذا الباب شبه فلم يقولوا به وهو القاضي أبو بكر الباقلاني فلا جرم لم يلحق بما ذكر في الحديث إلا الزبيب فقط ; لأنه من باب لا فارق وهو قياس المعنى وهو غير قياس الشبه وقياس العلة ) 147 .(1/54)
يقابله في "البداية": (إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين إما قوم نفوا القياس في الشرع أعني استنباط العلل من الألفاظ وهم الظاهرية وإما قوم نفوا قياس الشبه وذلك أن جميع من ألحق المسكوت عنه ههنا بالمنطوق به فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك المالية وقال علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال يريد منع العين وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفا وكان قياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى إذ لم يتأت له قياس علة فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة لأنه زعم أنه في معنى التمر) 148
وكأني بالقرافي بوضعه لكتاب "الفروق" يستجيب لدعوة ابن رشد، فلطالما أكد على وضع قوانين للقول الفقهي تساعد على ضبط تفريعاته وعلى البث في المستجدات من غير مناقضة الأصول ،من ذلك قوله:( أن الإنسان إذا سئل عن أشياء متشابهة في أوقات مختلفة ولم يكن عنده قانون يعمل عليه في تمييزها إلا ما يعطيه بادىء النظر في الحال، جاوب فيها بجوابات مختلفة فإذا جاء من بعده أحد فرام أن يجري تلك الأجوبة على قانون واحد وأصل واحد عسر ذلك عليه وأنت تتبين ذلك من كتبهم )149 وفي نفس هذا السياق يقول الإمام القرافي في مقدمة كتابه "الفروق" بعد الحديث عن أصول الفقه: (والقسم الثاني(أي من أصول الشريعة) قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه , لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه.(1/55)
وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل , وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه , ويشرف ويظهر رونق الفقه ويعرف وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف , فيها تنافس العلماء وتفاضل الفضلاء , وبرز القارح على الجذع وحاز قصب السبق من فيها برع, ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت وتزلزلت خواطره فيها واضطربت , وضاقت نفسه لذلك وقنطت , واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات , واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب .
وأجاب الشاسع البعيد وتقارب وحصل طلبته في أقرب الأزمان وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان فبين المقامين شأو بعيد وبين المنزلتين تفاوت شديد)150 ويبين بعد ذلك شرف الاهتمام بالقواعد وبأنها تعدل شرف الأصول على الفروع .151
ونجد نفس الإحساس يعبر عنه ابن دقيق العيد (702ه) عندما كان بصدد الحديث عن البدع ومدى الصعوبات التي تواجه من يتصدى للتمييز بين المقبول والمردود منها في مجالات الحياة الدنيوية وقضايا الفروع وكذا بدع الاعتقاد،فقال:( فهذا ما أمكن ذكره في هذا الموضوع , مع كونه من المشكلات القوية , لعدم الضبط فيه بقوانين تقدم ذكرها للسابقين .)152 ثم يوجه كلامه للنظار بضرورة التزام قوانين بعينها دفعا للتناقض وهدم ما يكون بناه في موضع آخر ،فالواجب: (أن يستمر على طريقة واحدة , ولا يستعمل في مكان ما يتركه في آخر , فيتثعلب نظره, وأن يستعمل القوانين المعتبرة في ذلك استعمالا واحدا . فإنه قد يقع هذا الاختلاف في النظر في كلام كثير من المتناظرين) 153(1/56)
وفيما يمكن أن يكون من أثر للمنهج المعتمد في "البداية " من ميل إلى تقديم الدليل على مجرد الانتساب إلى المذهب نجد نماذج في صفوف المالكية مثل أبي القاسم بن عبد الله بن محمد بن محمد الأنصاري المعروف بابن الشاط (ت 723ه ) يبدو ذلك من خلال ترجيحه مذهب الشافعي لما لاح له قوة دليله( قال العلامة ابن الشاط ما خلاصته ومذهب الشافعي أقوى من مذهبنا على الإطلاق لا في بادئ الرأي فقط كما زعم الشهاب )154
وهذا أبو حيان النحوي الأندلسي(ت745ه) يصنف(مسلك الرشد في تجريد مسائل نهاية ابن رشد) غير أنه لم يكمله155 .
و بخصوص ضبط القول الفقهي بأصول وقوانين أيضا وأمام تضارب آراء بعض فقهاء الحنابلة في تفسير قول الإمام أحمد (أكره كذا) يقول محمد بن مفلح بن محمد المقدسي (ت763ه) في كتابه الفروع :( ذكرنا أن الصواب الرجوع في ذلك إلى القوانين , فإن دلت على تحريم أو كراهة عمل به ) 156 كما عبر الفقيه الحنفي محمد بن محمد بن محمود البابرتي (ت786ه) عن الصعوبة في الحسم في بعض الفروع حيث قال:( ولو ثبت أن وجوب الكيلين عزيمة والاكتفاء بالكيل الواحد رخصة أو قياس أو استحسان لكان ذلك مدفعا جاريا على القوانين لكن لم أظفر بذلك)157 .
ويقول بدر الدين الزركشي(794ه) في مقدمة كتابه (المنثور في القواعد الفقهية): (فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة هو أوعى لحفظها وأدعى لضبطها (...) وهذه قواعد تضبط للفقيه أصول المذهب , وتطلعه من مأخذ الفقه على نهاية المطلب وتنظم عقده المنثور في سلك وتستخرج له ما يدخل تحت ملك، أصلتها لتكون ذخيرة عند الاتفاق وفرعت عليها من الفروع ما يليق بتأصيلها على الخلاف والوفاق)158 .(1/57)
وقد كانت آراء ابن رشد الأصولية معتبرة ومشهورة عند العلماء بشهادة صاحب البحر المحيط159 في مقدمة كتابه حيث ذكر مصادره وعد منها "المستصفى " للغزالي "وقال عنه:( وقد اعتنى به المالكية أيضا , فشرحه أبو عبد الله العبدري في كتابه المسمى بالمستوفى " , ونكت عليه ابن الحاج الإشبيلي وغيره, واختصره ابن رشد وابن شاس صاحب الجواهر " , وابن رشيق ) وهو يشير إلى الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى لابن رشد.
وقد ضمن كتابه فقرات منه مثل قوله: قال ابن رشد في مختصره: فمثال النص: { واسأل القرية } . فإنه يعلم قطعا أنه أراد أهل القرية . وكذا { حرمت عليكم أمهاتكم }. فإن المفهوم منه قطعا تحريم النكاح . ومثال المحتمل : ( لا صيام ) , فإنه يحتمل نفي القبول أصلا , أو نفي الكمال . وقوله : ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) فإنه متردد بين فضل الصلاة أو حكمها أو وقتها .160
ويقابله في الأصل قول ابن رشد في الضروري في أصول الفقه :فقرة 194 161 مع اختلاف بسيط مرده تلخيص صاحب البحر لبعض العبارات.وأخذ عنه موقفه من الظاهرية بخصوص مفهوم الموافقة162 يقابله ما ورد في المقدمة الأصولية للبداية 163 باختلاف يسير .(1/58)
وقريبا من مقالة الزركشي في القواعد ذكرها ابن رجب الحنبلي (795ه) في مقدمة كتابه (القواعد)164 ،وناقش صاحب "طرح التثريب" الشيخ عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي (ت806ه) ما ذكره ابن رشد وجده في مسألة الكلب المصاب بداء الكلب وقضية غسله سبع مرات،حيث قال: (وأما من لم ير نجاسة الكلب , فإن بعضهم تكلف وحمل هذا العدد على المعنى الطبي , وأن العلة فيه ما يخاف من كون الكلب كلبا وذكر أن هذا العدد , وهو السبع قد جاء في مواضع من الشرع على جهة الطب , والتداوي كما قال صلى الله عليه وسلم:{ من تصبح كل يوم بسبع تمرات من عجوة المدينة لم يضره في ذلك اليوم سم } وكقوله صلى الله عليه وسلم في مرضه { اهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن } ونحو هذا . وقد عزاه صاحب المفهم وغيره إلى أبي الوليد بن رشد من المالكية .
وفي هذا من التعسف , والرجم بالظن ما لا يخفى , وقد رد هذا على قائله بجواب طبي أيضا , وهو أن الكلب الكلب لا يقرب الماء كما هو منصوص عليه في كتب الطب والله أعلم . وأجاب حفيده عن هذا أن امتناعه من الماء إنما هو في حالة تمكن الداء منه فأما في مبادئه فيقرب الماء وجعل بعضهم العلة في التسبيع كونه نهيا عن اتخاذه ولا معنى له وأي معنى مناسب بين كونه سبعا أو ثلاثا ؟ نعم يحتمل أن يكون النهي عن اقتنائه مقتضيا لزيادة العدد للتنفير عنه أما كونه سبعا فلا يظهر له وجه مناسبة .) 165 .(1/59)
ونص كلام ابن رشد في البداية كما يلي: (قال القاضي وقد ذهب جدي رحمة الله عليه في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا فيخاف منه السم قال ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض وهذا الذي قاله رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس فالأولى أن يعطي علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل وهذا طاهر بنفسه وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال إن الكلب الكلب لا يقرب الماء في حين كلبه وهذا الذي قالوه هو عند استحكام هذه العلة بالكلاب لا في مباديها وفي أول حدوثها فلا معنى لاعتراضهم وأيضا فإنه ليس في الحديث ذكر الماء وإنما فيه ذكر الإناء ولعل في سؤره خاصية من هذا الوجه ضارة أعني قبل أن يستحكم به الكلب ولا يستنكر ورود مثل هذا في الشرع فيكون هذا من باب ما ورد في الذباب إذا وقع في الطعام أن يغمس وتعليل ذلك أن في أحد جناحيه داء وفي الاخر دواء وأما ما قيل في المذهب من أن هذا الكلب هو الكلب المنهي عن اتخاذه أو الكلب الحضري فضعيف وبعيد من هذا التعليل إلا أن يقول قائل إن ذلك أعني النهي من باب التحريج في اتخاذه 166، وأحال على ابن رشد في موضع آخر من "طرح التثريب" في مسألة اشتراط النية في العبادات 167(1/60)
وفي شأن القواعد زاد الإمام السيوطي (ت911ه) في "الأشباه والنظائر"مقاصدها توضيحا وبيانا يقربها من دعوة ابن رشد ، حيث يقول في مقدمته:(ا علم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم , به يطلع على حقائق الفقه ومداركه , ومآخذه وأسراره , ويتمهر في فهمه واستحضاره , ويقتدر على الإلحاق والتخريج , ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة , والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممر الزمان , ولهذا قال بعض أصحابنا : الفقه معرفة النظائر)168
ونقل عن ابن رشد أيضا أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت914ه) في كتابه "المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إيفريقية والأندلس والمغرب"169 حيث أحال على كتاب الضروري في أصول الفقه لابن رشد في قضايا تهم بعض مباحث القياس170
ونقل له صاحب "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك" محمد بن أحمد بن محمد عليش 171 أبياتا فقهية - في الأمور التي تثبت فيها الشهادة بالسماع - يتمم فيها قصيدة لجده من غير أن يبين مصدرها إلا ما أحاله على "تنوير المقالة بحل ألفاظ الرسالة" لمحمد بن إبراهيم التتائي(ت 942ه) قال:(قال التتائي وثبت لابن رشد نظم عدد ذلك وهو قوله :
أيا سائلي عما ينفذ حكمه ويثبت سمعا دون علم بأصله
ففي العزل والتجريح والكفر بعده وفي سفه أو ضد ذلك كله
وفي البيع والأحباس والصدق والرضاع وخلع والنكاح وضده
وفي قسمة أو نسبة وولاية وموت وحمل والمضر بأهله
وزاد حفيده :
ومنها هبات والوصية فاعلمن وملك قديم قد يضمن بمثله
ومنها ولادات ومنها حرابة ومنها إباق فليضم لشكله
فدونكها عشرين من بعد سبعة تدل على حفظ الفقيه ونبله
أبي نظم العشرين من بعد واحد فأتبعتها ستا تماما لفعله ا هـ .)
هذا وقد سلمنا بما نسبه التاتائي لحفيد بن رشد رغم أن الناظم قال:(أبي نظم العشرين) بما قد يفيد أنه والد ابن رشد والمعروف أكثر بفقه الفروع وإن كان لا يبعد تسمية الجد أبا.(1/61)
وممن أخذ من كتبه محمد بن عبد الرحمن الحطاب أبو عبد الله المغربي (ت 954 ) صاحب "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" حيث نقل الاتفاق على لزوم النذر من "البداية"172 وأورد ملخصا للمناقشة السابقة التي أوردها الشيخ عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي (ت806ه) في "طرح التثريب" في مسألة نجاسة الكلب173.
وجاء في الفتاوى الفقهية الكبرى لأحمد شهاب الدين بن حجر الهيثمي الشافعي (ت973ه) قوله:(وقال الحفيد ابن رشد من متقدمي أئمتهم(أي المالكية) وأما تصرفه قبل الحجر فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ومما لم تجر العادة بفعله ) 174ويقابله في " بداية المجتهد"175 نفس العبارة باستثناء (لم تجر) عوض (لا تجري) كما في "البداية".
وممن أخذ عنه من غير أن يصرح بذلك الحسين بن محمد بن سعيد بن عيسى اللاعى المعروف بالمغربى المولود سنة 1048 صاحب " البدر التمام شرح بلوغ المرام " يقول الشوكاني في" البدر الطالع" عندما تناول سيرته:( وهو شرح حافل نقل ما في التلخيص من الكلام على متون الأحاديث وأسانيدها، ثم إذا كان الحديث فى البخارى نقل شرحه من فتح البارى، وإذا كان فى صحيح مسلم نقل شرحه من شرح النووى وتارة ينقل من شرح السنن لابن رسلان ولكنه لا ينسب هذه النقول الى أهلها غالبا مع كونه يسوقها باللفظ وينقل الخلافات من البحر الزخار للإمام المهدي أحمد بن يحيى وفى بعض الأحوال من نهاية ابن رشد ويترك التعرض للترجيح فى غالب الحالات وهو ثمرة الاجتهاد وعلى كل حال فهو شرح مفيد) 176(1/62)
وكذلك أحال على ابن رشد أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي الخرشي المالكي (ت 1101ه) في "شرح مختصر خليل" في مسألة القدر الذي يحصل به فضل الجماعة للمسبوق ،قال:(وقيد الحفيد أي :بأن يفوته اضطرارا خلاف ظاهر الروايات لكن له حظ من النظر)177 ويقصد قوله في "البداية":( و مالك إنما يحمل هذا الحديث والله أعلم على من فاتته الصلاة دون قصد منه لفواتها ولذلك رأى أنه إذا فاتته منها ركعة فقد فاته فضلها )178 .
وإلى نفس الإحالة أشار أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النفراوي (ت 1125ه) في "الفواكه الدواني" بقوله:( واختلف هل يحصل له فضل الجماعة أم لا ؟ قولان لابن القاسم وأشهب . وأقول : الأظهر منهما الحصول كما يشهد له الحديث السابق , وظاهره أيضا حصول الفضل , ولو فاتته بقية الصلاة مع الإمام اختيارا خلافا لتقييد حفيد بن رشد بما إذا فاته وباقي الصلاة اضطرارا)179 .
كذلك نقل عنه محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني ( ت1182ه) في "سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام" في عدة مسائل منها: مسألة وقت ذبح الأضاحي 180 ، وفي موضع آخر قال:( قال ابن رشد : إنما صاروا إلى الأخذ بأقوال الصحابة في هذه المسألة ; لأنه لم يثبت فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء . ( قلت ) : وروى العقيلي عن أحمد بن حنبل أنه قال : ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح )181 ،مع تغيير طفيف في العبارة حيث جاء في البداية (وإنما صار الجميع) عوض (إنما صاروا)182 .(1/63)
وفي موضع آخر رد صاحب سبل السلام ادعاء ابن رشد الإجماع على عدم جواز اشتراك أكثر من سبعة في النسك قال:( ادعى ابن رشد الإجماع على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة قال : وإن كان روي من حديث رافع بن خديج { أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل البعير بعشر شياه } أخرجه في الصحيحين ومن طريق ابن عباس وغيره { البدنة عن عشرة } قال الطحاوي : وإجماعهم دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة ا هـ. ولا يخفى أنه لا إجماع مع خلاف من ذكرنا وكأنه لم يطلع عليه) 183.
وأشار محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (ت 1230ه ) في " حاشية الدسوقي على الشرح الكبير "أي على (شرح الدردير على مختصر خليل) إلى نفس تقييد ابن رشد حصول فضل الجماعة بما إذا فاتته الصلاة اضطرارا، والذي أوره قبله كل من الخرشي والنفراوي184 و في موضع آخر أشار إلى ما نسب لابن رشد من عدم اشتراط النية في الذكاة من الكتابي ،مبينا أن مذهب الحفيد أن النية المطلوبة نية التحليل 185.
ونقل تلميذ الدسوقي أبو العباس أحمد الصاوي في "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" نفس تقييد ابن رشد السابق.186
ونقل عنه أيضا محمد بن علي الشوكاني (ت1255ه ) في "نيل الأوطار " 187 رواية لمالك في بيوع الربا ، ،وأحال عليه في موضع آخر188 ولخص كلام ابن رشد في حكم التقاط الغنم 189 وفي لزوم النذر بالمال إذا كان في سبيل البر190 ومن ذلك تبني صاحب نيل الأوطار لرأي ابن رشد في أن التخيير في آحاد الشيء لا يدل على عدم وجوبه قال: (التخيير في آحاد الشيء لا يدل على عدم وجوبه كما قال ابن رشد , وهو المتقرر في الأصول على أنه قد ذهب إلى الوجوب أهل الظاهر191 يقابله في الضروري (كما لا يجوز إتيان الأمر بالجمع بين الضدين كذلك لا يجوز إتيان الأمر بالتخلي عنهما،إذا لم يكن بينهما وسط)192 .(1/64)
وفي موضع آخر رد دعوى ابن رشد الإجماع بأن الشاة لا تجزئ سوى عن واحد في الأضحية والذي ذكره النووي وغيره 193 يقابله في البداية قوله: (وأجمعوا على أن الكبش لا يجزي إلا عن واحد )194 .ونقل عنه أيضا إجماع العلماء على أمر من غرس شيئا في أرض غيره بقلعه195.
ونقل الشوكاني نفس النص في كتابه "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار"196وأحال عليه أيضا في نفس الكتاب في مسألة هل يعتبر اليمين بكل ما له حرمة أم ليس يجوز إلا بالله فقط؟197 وكذا الإحالة على قول جمهور العلماء باشتراط تعليم جوارح الصيد198 .
وكدا نقل عنه محمد بن أحمد بن محمد عليش في ( منح الجليل شرح مختصر خليل ،كتب الكتاب عام 1287ه )،فقال:( وفي النهاية لحفيد ابن رشد وأما تراخي القبول عن الإيجاب في العقد من الطرفين فأجازه مالك " رضي الله عنه " إن كان يسيرا , ومنعه مطلقا الشافعي وأبو ثور رضي الله تعالى عنهما , وأجازه مطلقا أبو حنيفة " رضي الله عنه " . والتفرقة بين الأمد الطويل واليسير لمالك " رضي الله عنه " ا هـ)199
ثم لخص محمد علي بن الحسين المكي المالكي ( عندما كتب شرحه:"تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية" سنة 1344ه) "لأنوار البروق في أنواء الفروق" للقرافي (ت 684ه) حيث قال في مقدمة شرحه: وأما الإجماع فلا يكون إلا مستندا لأحد هذه الطرق الأربع ; لأنه لو كان أصلا مستقلا لاقتضى إثبات شرع زائد بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واللازم باطل ا هـ. ملخصا من بداية المجتهد لحفيد ابن رشد وعبد السلام والأمير على الجوهرة ورسالة الصبان البيانية والأنبابي عليها.200(1/65)
وكذا نقل في ( الشرح ) رأي ابن رشد في (القول بأن دلالة نحو تحريم التأفيف في الآية على تحريم الضرب لفظية لا قياسية) فقال:( وقد اقتصرت في المقدمة تبعا لابن رشد الحفيد في بدايته على القول بأن دلالة نحو تحريم التأفيف في الآية على تحريم الضرب لفظية لا قياسية وهو الذي اعتمده ابن السبكي في جمع الجوامع)201 وفي موضع آخر نقل عنه الإجماع في تحريم زوجات الآباء والأبناء202 .
وكذلك لخص في الشرح ما يتعلق بسبب قصر البعض الربا في ستة أصناف الواردة في الحديث وكذا رأي الشافعية والمالكية والحنفية تلخيصا يشبه نقل النص الكامل بتصرف يسير 203، وكذلك فعل في مسألة عدم استحلال مال الغاصب يقول :( ففي بداية المجتهد لأبي الوليد محمد بن رشد ما لفظه: وأصول الشرع تقتضي أن لا يستحل مال الغاصب من أجل غصبه (...) أعني ماله المتعلق بالمغصوب . ا هـ)204 وأيضا في حكم ما يضمن من المتلفات205وأيضا في الأصناف الثمانية الذين يستحقون الزكاة 206 وكذا في مسألة اعتبار الإبن من الأولياء في الزواج 207،وكذا في مسألة إنزال المرضعة منزلة الأم في التحريم 208 وكذا في تقسيم الغرر 209وكذا في إجارة المؤذن 210وكذا في أولوية الأب على الإبن في ولاية الزواج 211 وكذا في حكم النظر واللمس في تحريم الأم أم المرأة أو بنتها 212وكذا في تولي المرأة عقد النكاح 213وكذا في مسألة التطليق للضرر214،وفي مسألة التمليك 215، وفي كفارة الظهار 216،وكذا في مسألة ما يضمن وما لا يضمن 217، ثم نقل عنه في مواطن أخرى كثيرة 218وهي نقول غالبا ما تكون في قضايا أصولية أو تهم تعليل الأحكام او تبين سبب الخلاف أو أوجه الترجيح،والمثال التالي فيه إشارة إلى شرع من قبلنا قال صاحب الشرح: (قال حفيد ابن رشد في بدايته وهذا الاحتجاج على مذهب من يرى أنا مخاطبون بشرع من قبلنا . ا هـ ) 219(1/66)
وممن اهتم من المغاربة المتأخرين "بالبداية":الشيخ ماء العينين بن محمد فاضل بن مامين(ت1328ه) حيث نظم ما اتفق عليه فيها من الأحكام عام 1279ه ثم قام بشرحها في كتابه"دليل الرفاق على شمس الاتفاق"220 .
ولا تكاد تخلو كتب المعاصرين في المجال الفقهي والأصولي في مشارق الأرض ومغاربها من الأخذ من "البداية"مما يصعب استقصاؤه وتتبعه، ولو أخذنا مثلا لذلك "الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية" لوجدنا مواطن النقل والإحالة على "البداية" كثيرة 221.
التأثير العلمي التجريبي والفلسفي:
أشار الأستاذ هيرمان لاي 222في مقال له بعنوان"ابن رشد وتأثيره الفاصل على تطور العلوم الطبيعية منذ عصر النهضة وحتى كوبرنيك"223 إلى أن ابن رشد أضاف إلى تآليف ابن سينا في الطب معلومات طبية جديدة (وكان الطلبة في فيينا يعتمدون هذه الكتب في دراساتهم إلى حد القرن الثامن عشر )224.
كما أن ابن رشد أجرى (تجاربه الفلكية فبين كروية الأرض،وقدر مرور المريخ أمام الشمس(...)إذن فنقطة البداية في هذا التأثير هو ابن رشد ثم كيبلر Cepler ثم كليلي ثم نيوطون والدليل على ذلك أن الكتاب الذي ألفه كوبرنيك سنة 1543 م يذكر ابن رشد في أحد مراجعه)225.
كما أن مجموعة من المفكرين اعتنقوا أفكاره في الحرية ومبدأ المساواة (فشرعت الجامعات في فرنسا وايطاليا واسبانيا وانجلترا وألمانيا تعتنق هذا المذهب الواحدة تلو الأخرى (...) واتخذت هذه الأفكار أشكالا عامية فانتشرت في سواد الشعب )226كما كان للمذهب الرشدي أثر في تقوية الحركة المحاربة للثالوثية وخصوصا بعد ترويج الآلات المطبعية لشروح ابن رشد.وكان من رجال العلم أمثال العالم الكيميائي بويلboyle والفزيائي الرياضي نيوتن كلاهما كان يميل لتيار يسمى الموحدية unitarisme وهو مذهب معارض لعقيدة التثليث عند النصارى227.(1/67)
كما تأثر العالم والفيلسوف الألماني سونير Sonerت 1608م بأفكار ابن رشد إلى حد بعيد وحاول تطبيقها على العلوم الطبيعية في الطب228.
وأماعن تأثير ابن رشد في الميدان الفلسفي فإن الظروف التي أحاطت بابن رشد الحفيد في نكبته والجو العام الذي تلا ذلك في بلاد المسلمين،جعل أثره يشع أكثر في بلاد الغرب، فيذكر أنه كان له بعض التلاميذ من النصارى واليهود ذكر منهم رينان229بندود اليهودي وغيره من الذين فتنوا به حتى أنهم سموه روح أرسطو وعقله 230وكان أشدهم شغفا به وعناية موسى بن ميمون الذي صرح في كتابه "موري نبوخيم"(دلالة الحائرين) أنه تلميذ لابن رشد رغم أنه لم يلتق به231.
وكذلك لفي بن جرشون ويوسف بن يهودا والذين بواسطتهم تحدرت فلسفة ابن رشد إلى أوروبا المسيحية حيث تأثر بها كل من توما الاكويني وغيره،وتبنتها كثير من المعاهد والجامعات الأوروبية ونشأعن ذلك حركة فلسفية أخرى تسمى"الرشدية"استمد ديكارت واسبينوزا أهم آرائهما حول الدين والفلسفة.وكان أكبر الفلاسفة واللاهوتيين ينسبون أنفسهم إلى ابن رشد، خاصة منهم رواد النهضة الحديثة الذين كانوا يفاخرون بذلك ويتسمون بالرشديين اللاتين.
فأعجبوا بما حوته كتبه من نظريات، ونشأ عندهم ذلك التصور العقلي للكون الذي يدعو إلى توحيد النظرة بين الإيمان والعلم والعقل باعتبار أن صانع الكون واحد وعنه صدر كل ما فيه فهو منزل الوحي وخالق العقل232.وإن لم يكن ـ للأسف الشديد ـ هذا التصور الجديد سوى مرحلة انتقالية انتهت إلى نبذ الدين أو على الأقل تهميش أمره في الحياة العامة، وتكريس العلمانية والسير بعيدا نحو حضارة مادية بهت فيها الإيمان بالله.(1/68)
وقد ادعى إرنست رينان أن ( ابن رشد الذي كانت له سلسلة طويلة من التلاميذ لدى اليهود والنصارى مدة أربعة قرون وبرز اسمه مرات في معركة الذهن الإنساني لم تؤسس له مدرسة عند مواطنيه وأنه ،وهو أشهر العرب في نظر اللاتين،قد جهل من قبل أبناء دينه تماما)233.
واستدرك عليه العقاد بقوله:(فقد رزق ابن شد أنصارا ومعجبين من أصحاب الأديان الثلاثة لم يرزق مثلهم فيلسوف قبله ولا بعده.وهو الذي كان له مصادرون ومضطهدون من أتباع كل دين وخدام كل سلطان.ولو أن المصادرون عملوا قصدا وعمدا على نشر آرائه وشروحه لفاتهم بعض النجاح وأخطأهم بعض التدبير )234 وذكر من استمرار الاهتمام بابن رشد في العالم الإسلامي: برد الإمام ابن تيمية(661هـ728هـ)الذي ناقش فيه براهين مناهج الأدلة فوافقه في بعضها وعارضه في أخرى.
وقد أفرد الأستاذ عبد المجيد الصغير مقالة بعنوان"مواقف رشدية لتقي الدين ابن تيمية"235 أشار فيه إلى إمكانية تأثر ابن تيمية بابن رشد وخصوصا في الشعار الذي اتخذه لمنهجه النقدي الذي عنونه بأن"صريح المعقول موافق لصحيح المنقول".وكذلك في حملته على الإضافات والتأويل والجدل الذي سقط فيه المتكلمون،وإغنائه الكبير للنقد الرشدي للأشعرية والتوسع في نقد شخصية الغزالي وكذلك تعميقه لشعار "التوحيد" الذي أصبحت مهمته عنده القضاء على الفرقة وتوحيد الأمة أمام مخاطر الزحف التتري المستمر236 الأمر الذي يماثل تعميق ابن رشد لشعار "التوحيد" الذي حمله المهدي بن تومرت ومعه الدولة الموحدية في نقد العديد من الفرق الإسلامية بالمشرق ونقد بعض أثرها على الفكر المرابطي بالمغرب.(1/69)
كما انتقد ابن تيمية بدوره القياس الكلامي (قياس الغائب على الشاهد)،وأعاد النظر في الأدلة التي تساق في إثبات وجود الله تعالى فرفض أدلة المتكلمين ورجح دليل العناية الذي قال به ابن رشد، نظرا لبساطته وخلوه من التعقيد وقربه من البداهة .كما أن ابن تيمية يربط بين مفهوم السببية وبين صريح العقل ويعتبر مفهوم"العادة" الأشعري على طرفي نقيض مع مفهوم "الحكمة" الواجب نسبتها إلى الفعل الإلهي بل اعتبر من ينكر الأسباب "مصاب في عقله".
وكذلك صرح ابن رشد من قبل (من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مسبباتها،أنه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها والحكم هي المعرفة بالأسباب الغائبة ،والقول بإنكار الأسباب جملة هو قول غريب جدا عن طباع الناس).كما يؤكد ابن تيمية امتناع تعارض الأدلة القطعية إذ لا يجوز تعارض دليلين قطعيين (سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا (...)انها متوافقة متناصرة متعاضدة،فالعقل يدل على صحة السمع والسمع يدل على صحة العقل،وإن من سلك أحدهما أفضى إلى الآخر)237(1/70)
وهذا تلميذه ابن القيم يتبنى رأي ابن رشد في خطورة أمر التأويل ودواعيه عند حديثه عن إخراج النصوص عن ظاهرها لتوافق المذاهب والأراء المسبقة يقول: قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى بالكشف عن مناهج الأدلة " وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة , إلى أن قال : { وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } هؤلاء أهل الجدل والكلام , وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره (...) وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج , ثم المعتزلة بعدهم , ثم الأشعرية , ثم الصوفية , ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى , هذا كلامه بلفظه . ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين وما نال الأمم قديما وحديثا بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدة أسفار , والله المستعان .)238
وقد لمح ابن خلدون -الذي لخص كثيرا من كتب ابن رشد 239- إلى انتقال أثر ابن رشد مباشرة بعد ضمور التفكير الفلسفي بالغرب الإسلامي إلى الديار الغربية حيث قال:( بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة ودويتها جامعة متوفرة وطلبتها متكثرة والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما شاء ويختار)240 .
وقد ذكر العقاد استمرار الاهتمام بابن رشد إلى القرن التاسع للهجرة،حيث عهد السلطان محمد الفاتح العثماني إلى عالم زمانه خوجة زادة (ت893هـ)بالموازنة بين كتاب "تهافت الفلاسفة"للغزالي وكتاب "تهافت التهافت" لابن رشد فوضع كتابا في ذلك.
ومع بداية النهضة الحديثة في البلاد العربية والإسلامية عاودت هذه الفلسفة الظهور في المشرق العربي في أوائل القرن العشرين حيث دارت حولها مساجلة طويلة بين الأستاذ الإمام محمد عبده والأديب فرح أنطون مستلهما كتاب رينان (1823ـ1892) "ابن رشد والرشدية"241.(1/71)
تلامذة ابن رشد الحفيد:
اشتهر ابن رشد الحفيد بين الطلبة ،والشيوخ المعاصرين بتنوع العلوم فقصده طلاب العلوم الإسلامية كما أقبل عليه تلاميذ العلوم العقلية يتابعونه حيث وجد:في قرطبة وفي اشبيلية ومراكش ويأخذون عنه.ولا شك أن تلاميذته كثيرون غير أن المعروف منهم قليل ، ومن المرجح أن تكون النكبة التي أصابته ولاحقت أتباعه وتلاميذه سببا في انصراف المؤرخين عن ذكر العديد منهم.
وقد ذهب الذهبي عندما ذكر من تلامذة ابن رشد: الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك(ت640ه) إلى القول بأنه (لا ينبغي أن يروى عنه) 242 بل وذهب بعضهم إلى حد القول بأن:( كثر تلامذته أأأأاااااااااااااااااااااكككأكثر تلامذته من اليهود والنصارى،وقل من كان يقرأ عليه من المسلمين لأنه كان يرمى بضعف المعتقد )243.ومن غير شك ففي هذه الأحكام كثير من المبالغة ففترة النكبة لم تتجاوز السنتين، وهؤلاء بعض من حفظت أسماؤهم من تلاميذه:
_ أبو عبد الله محمد بن سحنون الندرومي من مواليد 580 هـ وهو من تلاميذ ابن رشد المتأخرين.خدم الناصر الموحدي بالطب في آخر دولته وخدم ولده المستنصر أيضا، تميز في العربية والحديث والطب.و له من الكتب اختصار كتاب المستصفى للغزالي244 .
- الفقيه الأستاذ أبو بكر بندود بن يحيى القرطبي تلميذ ابن رشد راوي قصة لقائه بالخليفة الموحدي ( قال سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري...) إلى آخر ما ذكر245.
- يوسف بن أحمد بن طاوس(620ه) من أهل جزيرة شقر أبو الحجاج النحوي صحب ابن رشد وكان إماما في العربية والطب آخر الأطباء بشرق الأندلس، عارف بعلوم الأوائل عارف بكتاب سيبويه فاق أهل زمانة246 .(1/72)
محمد بن محمد بن حبون المعافري ( 623ه)من أهل مرسية يكنى أبا بكر سمع ببلده أبا القاسم بن حبيش وأبا عبد الله بن حميد ولقي أبا بكر بن الجد وأبا الوليد بن رشد وأبا موسى الجزولي فأخذ عنهم وسمع منهم وأقرأ العربية والاداب وكان له حظ من قرض الشعر .247
_محمد بن عامر بن فرقد بن خلف القرشي الفهري (627ه)من أهل مورو وسكن إشبيلية يكنى أبا القاسم روى عن جماعة كثيرة منهم أبو بكر بن الجد وأبو عبد الله بن زرقون وأبو الوليد بن رشد وسمع من قاضي قسطنطينية أبي الفضل قاسم بن علي بن عبدون بعض كتاب الترمذي وكان عدلا فاضلا متواضعا موصوفا بالرجاحة كثير الرواية.248
_محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن محارب القيسي (و554 -ت 641ه) من أهل الاسكندرية ودخل الأندلس وأصله من المغرب سمع أبا الطاهر بن عوف وأبا عبد الله بن الحضرمي ويروي عن ابن رشد .249
_عبيد الله بن عاصم بن عيسى بن أحمد بن عيسى بن محمد الأسدي من أهل رندة وإمام جامعها والخطيب به يكنى أبا الحسن روى عن أبي بكر بن الجد وأبي عبد الله بن زرقون وأبي القاسم الحوفي وأبي جعفر بن مضاء وأبي الوليد بن رشد قال صاحب التكملة لكتاب الصلة (وكان من أهل العناية بالرواية حدث وأخذ عنه وأجاز لبعض أصحابنا في سنة( 635ه )250
_عبد الرحمن بن علي بن يحيى بن القاسم (ت 608ه) من أهل الجزيرة الخضراء وأصله من العدوة ومن قبيلة أمازيغية يقال لها بطوية روى عن أبيه أبي الحسن وأبي بكر بن الجد وأبي إسحاق بن ملكون وأبي الوليد بن رشد وغيرهم وكان عالما متفننا متحققا بالفقه والقراءات والعربية حدث ببلده وأقرأ وأخذ عنه .251(1/73)
_عبد الرحمن بن دحمان بن عبد الرحمن بن دحمان الأنصاري (ت 627ه) من أهل مالقة يكنى أبا بكر أخذ القراءات عن عمه أبي محمد القاسم بن عبد الرحمن وسمع منه كثيرا ومن أبي عبد الله بن الفخار واختص بالقاضي أبي الوليد بن رشد وكان من أهل المعرفة بالعربية والقراءات حافظا لها مقرئا بها وكان يلقب أرون النحو وكان له حظ وافر من الأدب .252
_عبد الكبير بن محمد بن عيسى بن محمد بن بقي الغافقي (ت 616 ه)من أهل مرسية سكن إشبيلية يكنى أبا محمد روى عن أبيه أبي بكر وأبي عبد الله بن سعادة وله رواية عن أبي الحسن الزهري وأبي بكر بن الجد وأبي الوليد بن رشد وكان فقيها حافظا حسن الهدي والسمت مشاركا في علم الحديث بصيرا بالشروط قائما على مذهب مالك متقدما في الفتيا مع التفنن في غير ذلك من الطب وسواه وله مختصر في الحديث وألف تفسيرا نحا فيه إلى الجمع بين تفسير ابن عطية والزمخشري وولي خطة القضاء برندة والنيابة في الأحكام عن أبي الوليد بن رشد بقرطبة وقد حدث وأخذ عنه253
_علي بن محمد بن أبي تمام الطائي (ت 611ه) من أهل قرطبة يكنى أبا الحسن سمع من أبيه قرأ عليه الموطأ عن أبي عبد الله بن الطلاع وأبي الوليد بن رشد وسمع من أبي القاسم بن بشكوال كثيرا وأخذ القراءات و العربية عن أبي محمد بن دحمان وولي القضاء وكان يعقد الشروط حدث عنه ابن الطيلسان ووصفه بالورع والفضل . 254(1/74)
_سهل بن محمد بن سهل بن أحمد بن محمد بن أحمد بن ابراهيم بن مالك الازدي ( 640ه) من أهل غرناطة يكنى أبا الحسن سمع ببلده خاله أبا عبد الله بن عروس وأبا الحسن بن كوثر وبمالقة أبا القاسم السهيلي وأبا عبد الله بن الفخار وسمع أيضا أبا بكر بن الجد و أبا العباس بن مضاء و أبا الوليد بن رشد ولقي أبا عبد الله بن زرقون وأجاز له هو وأبو القاسم بن بشكوال وكان من جلة العلماء الأدباء والأئمة البلغاء الخطباء مع التفنن في العلوم والتصرف فيها.255 وقال عنه ابن فرحون : كان رأس الفقهاء وافر النصيب من الفقه وأصوله وخاتمة رجال الاندلس وبالجملة فحاله ووصفه في أقطار الغرب بل وفي غيرها من الشرق لا يجهله أحد فحدث عن البحر ولا حرج وله تعاليق جليلة على كتاب المستصفى في أصول الفقه وغير ذلك.256
_يحيى بن أحمد بن مسعود الأنصاري (614ه) من أهل قرطبة يكنى أبا بكر سمع من أبي القاسم بن غالب وأخذ عنه القراءات ومن أبي القاسم بن بشكوال وأبي محمد بن مغيث وأبي الوليد بن رشد كثيرا ورحل حاجا فأدى الفريضة وسمع بمكة من أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمود المكناسي إمام المالكية بها وقفل إلى بلده وولي خطة الشورى به .257
_عبد الرحمن بن القاسم بن يوسف بن محمد المغيلي(ت 619ه)من أهل فارس وبها نشأ ثم سكن غرناطة يكنى أبا القاسم ويعرف بابن السراج سمع أبا محمد بن عبيد الله فأكثر عنه وأبا عبد الله بن الفخار وأبا القاسم بن سمجون وأجاز له أبو بكر بن الجد وأبو القاسم بن حبيش وأبو عبد الله بن حميد وأبو محمد التادلي وأبو الوليد بن رشد وغيرهم وكان معنيا بلقاء الشيوخ وسماع العلم. 258(1/75)
_الحكيم الفيلسوف أبو جعفر أحمد بن عتيق ابن جرج المعروف بابن الذهبي (ت 632ه) كان من أعيان بلنسية مشاركا في الآدب وعلوم الشريعة ولكن الغالب عليه علم الفلسفة وكان أيضا طبيبا ماهرا وكان من أصحاب ابن رشد فلما سخط المنصور على ابن رشد طلب أصحابه فاختفى ابن الذهبي إلى ان عفا عنه .259
_علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم الجذامي القاضي(و555ه-ت632ه) المتفنن الحافظ من أهل غرناطة يكنى أبا الحسن ويعرف بابن القفاص كان فاضلا جليلا ضابطا لما رواه فقيها حافظا حسن التقييد وله تآليف واختصر كتاب الاستذكار لأبي عمر بن عبد البر وغير ذلك روى عن أبي محمد عبد الحق بابن بونة والقاضي أبي عبد الله بن زرقون وأبي القاسم بن حبيش وأبي زيد السهيلي وأبي عبد الله بن الفخار وأبي الوليد بن رشد260 .
_محمد بن ابراهيم المهري من أهل بجاية وهو من بني مرزقان (612 ه) من أهل إشبيلية رحل إلى المشرق ولقي جماعة وافرة من حملة الحديث كان علم وقته علما وكمالا وتفننا يتحقق بعلم الكلام وأصول الفقه حتى شهر بالأصولي واعتنى بإصلاح المستصفى لأبي حامد الغزالي وإزالة ما كان فيه من تصحيف وله عليه تقييد مفيد وامتحن بقرطبة سنة ثلاث وتسعين هو وأبو الوليد بن رشد محنتهما المشهورة من أجل نظرهما في علوم الأوائل فتحدث الناس بصبره في ذلك المقام وتجلده وثبات جأشه وكف بصره بأخرة من عمره أخذ عنه أبو محمد بن حوط الله سمع عليه الإرشاد لأبي المعالي الجويني.261
_يوسف بن محمد بن طملوس (620ه) من أهل جزيرة شقر صحب أبا الوليد بن رشد وأخذ عنه علمه وسمع من أبي عبد الله بن حميد وأبي القاسم بن وضاح وكان أحد العلماء والفضلاء وآخر الأطباء بشرق الأندلس مع الدماثة والفضيلة ولين الجانب والتحقق بعلوم الأوائل وكان له حظ صالح من النظم وتصرف في الآداب والعربية وله فيها تأليف .262(1/76)
ـ القاضي أبو القاسم محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي (ت601ه)من أهل مرسية أخذ عن أبي الوليد الحفيد علمه،وصحبه ولازمه بقرطبة واستقضاه في جهات متعددة من قرطبة.وفي جهات أخرى من الأندلس كالجزيرة الخضراء وشاطبة ثم صرف عن القضاء عند نكبة أبي الوليد وتتبع أصحابه ثم عفي عنه وولى قضاء دانية وتوفي بها وهو قاضيها،كان عالما أديبا وشاعرا ناثرا نزيه النفس كريم الأخلاق .263
ـ أبو محمد عبد الله بن سليمان حوط الله (612ه)وهو من تلاميذ ابن رشد والد الحفيد أيضا، وكان إماما في صناعة الحديث مقيدا ضابطا بصيرا بها معروفا بالإتقان مع الجلالة والورع والعدالة264.
ـ أبو بكر محمد بن محمد بن جهور الأسدي المرسي (ت 629ه)عده مخلوق تلميذا لوالد الحفيد265 وعده ابن الآبار تلميذا للحفيد وأثبت أنه حدث عنه وسمع منه 266ولعله أخذ عنهما جميعا.
ـ القاضي الشهيد أبو الربيع سليمان ابن موسى بن سالم الكلاعي المعروف بابن سالم الأندلسي (ت634ه)جمع بين الفقه و الحديث والأدب.أخذ عن خيرة الشيوخ من أهل المشرق والمغرب وتولى قضاء إشبيلية فسار في أحكامه بأجمل سيرة،صنف تصانيف حسانا في الحديث والسيرة النبوية،له كتاب "الإكتفاء" والاعلام بأخبار البخاري وله فهرست وغيرها. والكلاعي هذا شيخ ابن الابار أخذ عن أبي الوليد الحفيد وعد من تلاميذه النبهاء الفضلاء267.
ـ القاسم بن محمد بن أحمد الأوسي القرطبي المعروف بابن الطيلسان (ت642ه)اعتنى بالفقه واهتم بالحديث وتفنن في العربية وعلم القراءات أخذ عن مائتي شيخ منهم أبو الوليد ابن رشد الحفيد وله كتب تعالج الانحراف وترغب في التزام الكتاب والسنة وقد خرج من قرطبة سنة 636هـ حين تغلب العدو عليها وتوجه إلى مالقة فتولى إمامتها وخطبة قصبتها268.(1/77)
ـ أبو عبد الله محمد بن يحيى بن هشام الأنصاري الخزرجي المعروف بابن البرذعي (ت 649هـ)كان إماما في صناعة العربية وماهرا في الآداب،اجتمع لديه النثر والشعر لقي ابن رشد الحفيد وغيره وألف تآليف269.وقد وهم د.الطاهر صاحب كتاب "ابن رشد وكتابه المقدمات" حيث أخطأ في العد واعتقد أن الفاصل بين ولادة ابن هشام الأنصاري ووفاة الحفيد 10 سنوات ،ورتب على ذلك استبعاد التلمذة بين ابن هشام وابن رشد270، والحال أن الفاصل هو 20 سنة.فقد ولد ابن هشام سنة 575 وتوفي الحفيد سنة 595هـ.
- صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي (ت 598ه) وسنه دون الأربعين على ما ذكر صاحب الإحاطة،وهو من أهل مرسية تتلمذ على أبي الوليد ابن رشد وأجاز له أبو القاسم بن بشكوال 271
أبناء أبي الوليد الحفيد:
- أبو القاسم احمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد ابن رشد (ت 622هـ)من شيوخه والده وجده أبو القاسم أحمد (ت 563هـ)وأبو القاسم بن بشكوال تلميذ جده.وأبو القاسم بن رشد فقيه حافظ بصير بالأحكام.وولي القضاء ببعض جهات الأندلس فسلك فيه سيرة أسلافه وحمدت سيرته272.
-أبو محمد عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد ابن رشد اشتغل بالطب واعتنى به كأبيه فكان في عداد العالمين بالصناعة الفاضلين فيها المشكورين في أفعالها،كان موجودا في قرطبة حين امتحن أبوه،وشاركه في تلك النكبة التي وقعت زمن يعقوب المنصور،وقد دخلا مسجدا بقرطبة لأداء صلاة العصر فأخرجهما العامة وأهانوهما.وقد تهيأ له العمل في بلاط الناصر الموحدي محمد بن يعقوب (ت610هـ)وقد صنف في صناعة الطب مقالة في حلية البرء273.(1/78)
وذكر صاحب عيون الأنباء أن الحفيد خلف أولادا قد اشتغلوا بالفقه واستخدموا في قضاء الكور.لكنه لم يحصرهم ولم يثبت أسماءهم274.والثابت ذكر ابن رشد لابنيه السابقين في مقدمة كتاب تلخيص المزاج حيث قال: وأكثر ما حركني إليه (أي تلخيص كتاب المزاج لجالينوس ) ابناي أبو القاسم وأبو محمد إذ كان لهما مشاركة في هذه الصناعة وفي العلوم الحكمية التي لا يتم النظر في هذه الصناعة إلا بها)275.
وذكر بعض الباحثين قولا يفيد بأن بعض أولاد ابن رشد، لجأوا بعد وفاة والدهم إلى بلاط هوهنشاوفن (بألمانيا) وعاشوا هناك!276
مؤلفاته:
تعددت جوانب التأليف عند صاحبنا فهو فقيه ألف في الفقه، وهو طبيب ألف في الطب، وهو أصولي ألف في الأصول، وهو لغوي ألف في اللغة ، وهو حكيم ألف في الفلسفة.فرغم تقلبه في أحضان المناصب وتنقله بين المغرب والأندلس كان دائم المطالعة والتأليف حتى حكي أنه لم يدع النظر والدراسة سوى ليلة وفاة والده وليلة بنائه بأهله،وسود فيما صنف وقيد وألف عشرة آلاف ورقة ، واختلف أصحاب الطبقات في عدد مؤلفاته.فذكر ابن الآبار منها أربعة277:
كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"في الفقه وكتاب "الكليات في الطب"و "مختصر المستصفى" في الأصول ،والذي عده صاحب نفح الطيب من الكتب المتداولة في زمانه حيث قال: (وأما أصول الدين وأصول الفقه فللإمام أبي بكر بن العربي الإشبيلي من ذلك ما منه كتاب العواصم والقواصم المشهور بأيدي الناس وله تصانيف غير هذا و لأبي الوليد بن رشد في أصول الفقه ما منه مختصر المستصفى)278 وكتاب الضروري في العربية.(1/79)
وعد الصفدي سبعة وأربعين 279وعد ابن أبي أصيبعة منها خمسين280.وأثبت مخلوف أنها تنوف عن الستين281.وأثبت رينان معتمدا على مخطوط محفوظ في خزانة الاسكوريان أنها 78 كتابا ورسالة282.ويعتبر كتاب "المتن الرشدي" لجمال الدين العلوي أوسع دراسة في مؤلفات ابن رشد. ويمكن الاعتماد عليها في التعريف بمؤلفاته، وقد أوصلها وحاول حصرها في 108مؤلف ومقال ورسالة 283وتجدر الإشارة إلى أنه أهمل بعض المؤلفات التي أوردها رينان في كتابه من غير أن يبين موقفه منها بالرفض أو القبول، ،على أن بعض الدارسين أشاروا إلى أن العنوان الواحد قد يدل على رسائل مختلفة،أو يكون للرسالة الواحدة عناوين مختلفة.وسأكتفي بالتعريف بكتب الفقه والأصول والعربية وعلم الكلام والعقيدة وما له علاقة قريبة بالعلوم الإسلامية :
كتب العقيدة وعلم الكلام:
1ـ شرح عقيدة الامام المهدي:كذا ورد ذكره في (برنامج الفقيه الإمام الأوحد أبي الوليد ابن رشد ) ولا توجد اليوم نسخة عربية معروفة لهذا الشرح،كما لا توجد إحالة في كتب ابن رشد عليه284.
2- مقالة في كيفية دخوله في الأمر العزيز وتعلمه فيه وما فضل من علم الامام المهدي: ذكرها صاحب"البرنامج" السابق وصاحب "الذيل والتكملة"، وهي تحكي كما هو واضح توحيد ابن رشد على الطريقة الموحدية في المراحل الأولى من تآليفه ،كما أن مجرد نسبة هذه المقالة إلى ابن رشد فيه دلالة ما على مارسه المشروع الموحدي من تأثير أو توجيه أو إلهام 285(1/80)
3ـ كيف يدعى الأصم إلى الدخول في الإسلام؟ :انفرد بذكرها "الذيل" دون غيره من الفهارس قديمها وحديثها وقد جعل جمال الدين العلوي من هذا الانفراد مبررا للحكم عليها بأنها (من النصوص المنحولة قطعا،رغم وثاقة قائمة الذيل)286 وهو مبرر غير مقنع إذ أن الانفراد ليس خاصا بهذه الرسالة، كما أن الحكم بغرابتها عن روح المتن الرشدي لا يتأتى من مجرد استغراب العنوان إذ قد يكون من بعض التفاصيل التي تثار في علم الكلام.
4ـ مسألة في أن الله تبارك وتعالى يعلم الجزئيات:انفرد بذكرها "البرنامج" و"الذيل" والراجح أنها المشهورة اليوم بالضميمة في العلم الإلهي ،وقد ألفت حوالي ( 574 ه)287.
5ـ مقالة في الجمع بين اعتقاد المشاثين والمتكلمين من علماء الإسلام في كيفية وجود العالم في القدم والحدوث:ذكرها ابن أبي أصيبعة والذهبي والمعروف أنها من بين النصوص المفقودة في لغتها الأصلية،ولكن هناك من بين آثارابن رشد ما قد يعوض فقدها،كالكشف والتهافت288.
6-فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال:ذكره معظم من ترجموا لابن رشد وهو مشهور و مطبوع. ألف حوالي 574هـ289.
7ـ مناهج الأدلة في الكشف عن عقائد الملة: ذكره معظم من ترجموا لابن رشد وهو مشهور و مطبوع. ألف حوالي ( 575 ه)290.
8ـ تهافت التهافت : ذكره معظم من ترجموا لابن رشد وهو مشهور و مطبوع. ألف ما بين ( 576ـ 577 ه)291.
الفقه والأصول:
1-بداية المجتهد ونهاية المقتصد:أجمعت على ذكره الفهارس القديمة كلها.وكذا الفهارس الحديثة.رغم ما بينها من خلافات بسيطة في صياغة العنوان. وسوف نعود للحديث عن الكتاب إذ هو موضوع هذه الرسالة.وقد ألف عام:(563ه) ما عدا كتاب الحج الذي أضيف إليه بعد حوالي عشرين سنة.(1/81)
2-كتاب في الفقه على مذهب مالك: لم تذكره الفهارس ولكن ابن رشد أفصح عن عزمه على تأليفه في كتاب "البداية"حيث قال:( ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها...) 292ولا يعلم هل وفى ابن رشد بوعده أم لا، وإن كان يبدو من الراجح أنه لم يفعل إلا أن تثبت له نسبة كتاب" الدرس الكامل في الفقه" الذي ذكره رينان293 ،إذ لو كان كذلك لنقل على الأقل في كتب التراجم وإن خفي أصله.فالدواعي متوفرة بحسب موضوعه البعيد عن المؤاخذات، وكذا مايعرف به ابن رشد من جودة التأليف وتميزه.
3ـ كتاب الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى: وهو الكتاب الذي أحال إليه ابن رشد في "بداية المجتهد" حين قال:( وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي وهو الذي يدعى بأصول الفقه )294 وقد ألف عام:(552ه) كما أثبت ذلك محقق الكتاب جمال الدين العلوي ضمن سلسلة المتن الرشدي295،وهو مطبوع.
4ـ شرح كتاب المقدمات لجده:انفرد بذكره الصفدي في الوافي بالوفيات والمؤكد أنه وهم وقع فيه صاحبنا،وإن كان يختلف عن الوهم الذي وقع فيه ابن أبي أصيبعة ومن نقل عنه حين نسب إلى أبي الوليد ما ألفه ابن رشد الجد كالتحصيل والمقدمات..) 296.
وقد ذكر رينان مؤلفات أخرى لم يجزم في نسبتها لابن رشد بسبب وجود ابن رشد آخر هو أبو عبد الله محمد بن عمر والذي عاش حوالي سنة 700 للهجرة وتوجد مؤلفاته أيضا في الأسكوريال297،وهي:
(5) ـ الدعاوى: في ثلا ث مجلدات توجد بمكتبة الاسكوريال تحت رقم:1021 ورقم:1022
(6)ـ الدرس الكامل في الفقه : يوجد بمكتبة الاسكوريال تحت رقم:1021 ورقم:1022.وإن صحت نسبته لابن رشد الحفيد فقد يكون هو الكتاب الذي وعد به في فروع الفقه المالكي.
(7)ـ رسالة في الضحايا بالأسكوريال أيضا رقم:1126
(8) ـ رسالة في الخراج بالاسكوريال رقم:1126(1/82)
(9) ـ مكاسب الملوك والرؤساء والمرابين المحرمة بالأسكوريال رقم:1127
(10) ـ التنبيه إلى الأخطاء في المتون في ثلاثة أجزاء ،ذكره ليون الإفريقي.
العربية والمنطق:
(1) ـ الضروري في النحو:انفرد الذيل بذكر هذا العنوان أما التكملة لابن الابار فتقول:وكتابه في العربية الذي وسمه بالضروري ولعله الذي يذكره الصفدي بهذا العنوان "كتاب في العربية" يقول جمال الدين العلوي:"ونحن لا نعلم شيئا عن هذا الكتاب وهو من النصوص المفقودة في أصلها العربي"298.وقد خرج الكتاب إلى التداول وطبع بعد وفاة صاحب هذه العبارة تحت عنوان "الضروري في صناعة النحو"،سنة2002 بالقاهرة تحقيق ودراسة الدكتور منصور علي عبد السميع.
(2) ـ مقالة في الكلمة والاسم المشتق:كذا وردت في الذيل أما في البرنامج فقد وردت بصيغة أخرى (كلام له على الكلمة والاسم المشتق) وصاحب المتن الرشدي يرجح أنها المقالة الموجودة ضمن مجموع من المقالات المنطقية والطبيعية التي قام بنشرها سنة 1983.299
(3) ـ الضروري في المنطق:كذا ورد في البرنامج وفي الذيل وعيون الأنباء والذهبي [وضعه حوالي 552هـ] .300
(4) ـ مسائل في مختلف أقسام المنطق التي تضاف عادة إلى الشروح.وتوجد ترجمة عبرية لاثنين منها كما ذكر رينان301.
- أما عن المؤلفات الطبية والفلسفية فهي كثيرة نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
(1) ـ المختصر في النفس وضع ما بين 553ه و555ه .وهو ضمن الجوامع الصغار والشروح الصغرى.
(2) ـ الجوامع الطبيعية(وتحتوي:السماع الطبيعي،السماء والعالم،الكون والفساد ) ألف حوالي: 554هـ
(3) ـ جوامع ما بعد الطبيعة ألف سنة: 556هـ.
(4) ـ كتاب الكليات في الطب ألف سنة: 557هـ .
(5) ـ تلخيص المقولات ألف سنة: 560 هـ .
(6) ـ تلخيص العبارة ألف سنة:561 هـ .
(7) ـ تلخيص القياس ألف سنة: 562 هـ. (وهو الجزء الثالث من أجزاء الاركانون ).
(8) ـ تلخيص الجدل ألف سنة: 563 هـ.(1/83)
(9) ـ جوامع الحس والمحسوس ألف سنة: 565 ه
(11) ـ تلخيص البرهان ألف سنة:565ه
(12) ـ تلخيص السماع الطبيعي ألف سنة: 565ه
(13) ـ تلخيص السماء والعالم ألف سنة: 566هـ.
(14) ـ تلخيص الكون والماء ألف سنة: 567 هـ .
(15) ـ مقالة في جهات النتائج في المقاييس المركبة وفي معنى المقول على الكل ألف سنة:567هـ.
(16) ـ تلخيص الآثار العلوية ألف سنة: 568.
(17) ـ تلخيص السفسطة ألف سنة: 569.
(18) ـ تلخيص كتاب النفس ألف سنة: 569 .( وهو الجزء الأخير من طبيعيات أرسطو) .
(19) ـ تلخيص الخطابة ألف سنة: 570هـ 571هـ.
(20) ـ تلخيص الشعر ألف سنة: 571هـ.
(21) ـ شرح أرجوزة ابن سينا في الطب ألف سنة: 575.
(22) ـ شرح البرهان ألف سنة: 579 هـ .
(23) ـ شرح السماء والعالم ألف سنة: 584 هـ.
(24) ـ شرح كتاب النفس ألف سنة: 586 هـ.
(25) ـ شرح ما بعد الطبيعة ألف سنة: 588ـ 590هـ .
(26) ـ تلخيص كتاب الاستقسات ألف سنة: 588 هـ.
(27) ـ تلخيص كتاب المزاج (الطب) ألف سنة: 588هـ.
(28) ـ تلخيص كتاب القوى الطبيعية ألف سنة: 588 هـ .
(29) ـ اختصار العلل والاعراض (الطب) ألف سنة: 588 هـ .
(30) ـ تلخيص كتاب الحميات ألف سنة: 589هـ (الطب) .
(31) ـ تلخيص كتاب الأدوية المفردة لجالينوس (الطب).
(32) ـ مقالة في معنى المقول من الكل ألف سنة: 591 هـ .
(33) ـ مقالة على المقالة السابعة والثامنة من السماع الطبيعي لأرسطو ألف سنة: 592هـ .
(34) _ كتاب الضروري في السياسة وهو مختصر ابن رشد لكتاب السياسة المنسوب لأفلاطون ويبدو أن أصله العربي مفقود،وقد قام الدكتور أحمد شحلان بنقل نسخة عبرية منه إلى العربية طبعه مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت 1998.
الفصل الثاني
التعريف
بكتاب " البداية"
المبحث الأول
اسم الكتاب ونسبته لابن رشد
ما سمى به ابن رشد كتاب "البداية":(1/84)
اشتهر الكتاب باسم: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد ) عند أغلب أصحاب كتب التراجم 302 وفي كل النسخ المطبوعة للكتاب لحد الآن أو بالأحرى المعروف منها ،غير أن بعض النسخ المخطوطة 303 كنسخة فاس ونسخة الرباط .تحملان اسم(بداية المجتهد وكفاية المقتصد)،وقد أورد صاحب الذيل والتكملة304 الإسمين معا مما يدل على أن الكتاب معروف بهما منذ وقت مبكر، غير أن المتداول بكثرة هو لفظة نهاية" عوض "كفاية".
ولعل التساهل الذي مصدره عدم الشعور بوجود فرق كبير بين اللفظين في المعنى)305 هو الذي حذا بالبعض للتصحيف المخل، المغير للمعنى والمحرف للمقصود ،فسماه بعضهم306 (البداية والنهاية ) وسماه آخر (النهاية لأبي الوليد ..)307 وسماه ثالث وهو أشدها تحريفا (كتاب نهاية المجتهد في الفقه)308 فأصبح ما وضعه المؤلف ليكون بداية انطلاق للمجتهد هو النهاية له .
وهو لعمري تصرف لا يليق، وتحكم في وسم مولود لم يعان غير المؤلف مخاضه،وخصوصا بعد ما كفانا صاحب الأمر فسمى كتابه في ثنايا الكتاب حيث قال:(بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم ،فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك ،ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب (بداية المجتهد وكفاية المقتصد)309 وسماه في موضع آخر على سبيل الإختصار (كتاب المجتهد)310 وفي بعض النسخ (كتاب بداية المجتهد)311 ولهذا أدعو من خلال هذه الرسالة إلى إعادة الأمور إلى نصابها وتسمية الكتاب بما سماه به صاحبه بغير زيادة ولا نقصان وفاء بالوصية وأداء للأمانة ،فيسمى الكتاب :بداية المجتهد وكفاية المقتصد.
تاريخ كتابة "البداية"وسبب تأخير كتاب الحج:
لم يذكر ابن رشد تاريخ تأليف البداية بشكل مباشر غير أن إشارة منه في آخر كتاب الحج تكاد تحسم القول فيه إذ صرح بما يلي:(1/85)
(وبتمام في هذا بحسب ترتيبنا تم القول في هذا الكتاب بحسب غرضنا.ولله الشكر والحمد كثيرا ،على ما وفق وهدى ومن به من التمام والكمال.وكان الفراغ منه يوم الأربعاء،التاسع من جمادى الأولى الذي هو عام أربعة وثمانين وخمسمائة ،وهو جزء من كتاب : المجتهد الذي وضعته منذ أزيد من عشرين عاما أو نحوها ،والحمد لله رب العالمين )312 وعلق الناسخ بقوله:(كان رضي الله عنه عزم حين تأليف الكتاب أولا ألا يثبت كتاب الحج ثم بدا له بعد فأثبته)313.
ومفهوم النص يفيد أن تأليف الكتاب كان حوالي سنة 563 أو 564هـ على وجه التقريب .وبهذا يكون الكتاب قد ألف بعد (مختصر المستصفى) أو الضروري في علم أصول الفقه والذي صرح صاحب تقديم هذا الكتاب بأنه ألف سنة:552ه . أي ألف الجانب التطبيقي ( الفقه) بعد الجانب النظري:الأصول بحوالي:عشر سنوات. ويدعم فكرة ما قاله في "البداية" نفسها: (وقد تكلمنا في العمل(عمل أهل المدينة) وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي وهو الذي يدعى بأصول الفقه) 314
وكان من الممكن عدم الوقوف عند مسألة تاريخ تأليف "البداية" لوضوحها لولا أن صاحب رسالة "ابن رشد وعلوم الشريعة "ذهب يؤكد أن تاريخ تأليف البداية هو سنة أربعة وثمانين وخمسمائة ويوافق هذا التاريخ شهر جوان من سنة 1188للميلاد)315 وهو وهم وقع فيه عندما كان بصدد تصحيح ما اعتقد خطأه عند الفيلسوف الفرنسي رينان الذي ذكر في كتابه "ابن رشد والرشدية" كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" .(1/86)
وذكر أنه يخيل إليه أنه هو الكتاب الذي عزي إلى ابن رشد وذكر بعنوان "كتاب المعتقد"في قائمة الكتب التي ( يشتمل عليها مخطوطنا العربي)316 فرد عليه بقوله: (ولقد عثرت ببداية المجتهد على نص يتحدث فيه ابن رشد عن كتاب سابق ألفه وسماه"المجتهد " فبت على يقين من أن هذا الكتاب هو الذي وقع التصحيف في عنوانه فكتب "المعتقد" بدل "المجتهد"317ولم تذكر كتب التراجم ولا صرح ابن رشد في البداية بوجود هذا الكتاب غير نفس "بداية المجتهد" الذي أضاف إليه كتاب الحج بعد مرور حوالي عشرين عاما.
وليت الأمر وقف عند مجرد خطأ في التاريخ،ولكن رتب على ذلك نتائج تحتاج الى مراجعة جذرية لأنه يبدو له كما يقول (فرغ للتأليف في الفقه أثناء هذه الفترة،بعد أن أشبع نهمه من التأليف في الفلسفة وشروحها..)318 وهو اعتقاد سوف يلقي بظلاله بدون شك على عمله في كتابه"ابن رشد وعلوم الشريعة" وما رتبه على ذلك من استنتاجات، في حين أن واقع الاشتغال المبكر بالفقه وأصوله فعل في ابن رشد عكس ذلك تماما حيث وجه فلسفته نحو الاعتدال وجعله يعتقد (أن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة (...)المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالطبع بالجوهر والغريزة )319 وجعله بذلك أقرب الفلاسفة إلى روح الإسلام وجوهره.
ويرجع بنا تاريخ البداية إلى السنوات الأولى من حكم أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن حيث ستعرف الدولة الموحدية مزيدا من الاستقرار والتمكن وسيصبح ابن رشد وجيها في بلاط الموحدين بعد معرفته الأولية به زمن عبد المومن ليشارك في وضع المناهج التعليمية للبلاد،وسيستدعى أثناء تأليفه للبداية أو بعده بقليل 564هـ لتولي خطة القضاء بإشبيلية ثم قرطبة بعد ذلك.(1/87)
وهكذا سيتخلى ابن رشد عن نظرته التشاؤمية لواقعه والتي تزامنت مع الفترة الإنتقالية الصعبة ـ سقوط دولة وقيام أخرى ـوالتي كان همه فيها تحصيل "الأمور الضرورية التي لا غنى للكمال الإنساني عنها)320 فجاءت كتب المختصرات قبل "البداية"مثل المختصر في المنطق والمختصر في النفس وتلخيص المقولات وتلخيص العبارة ومختصر المستصفى والضروري في النحو وغيرها.فكان الغرض مثلا من تجريد الأقاويل الضرورية من صناعة المنطق هو تحصيل ما هو ضروري منها لأن (طلب الأفضل في زماننا هذا يكاد أن يكون ممتنعا )321
ونفس التعبير نجده في مختصر النفس حيث يقول) والقول في هذه الأشياء على الإستقصاء يستدعي قولا أبسط من هذا بكثير،لكن قولنا جرى في هذه الأشياء بحسب الأمر الضروري فقط.وإن فسح الله في العمر وجلى هذه الكرب ،فسنتكلم في هذه الأشياء بقول أبين وأوضح وأشد استقصاء من هذا كله.لكن القدر الذي كتبناه في هذه الأشياء هو الضروري في الكمال الإنساني وبه تحصل أول مراتب الانسان .وهذا القدر لمن اتفق له الوقوف عليه بحسب زماننا هذا كثير...)322(1/88)
وهكذا بالإضافة إلى هذا ، وبعد أن كتب في أصول الفقه ما يراه يحقق الحد الأدنى من الكمال الإنساني وانسجاما مع الوضع الجديد حيث زوال الكروب والفتن (وقد رفع الله كثيرا من هذه الشرور والجهالات والمسالك المضلات بهذا الأمر الغالب)323.فوجب الانطلاق نحو البناء والإبداع ووضع خطة لتكوين المجتهدين لينسجموا مع الدولة الجديدة التي تهفو نحو التجديد والوحدة والعظمة.وما دمنا مع تاريخ "البداية" تحسن الإشارة إلى ظاهرة مراجعة ابن رشد لأعماله السابقة في مرحلة معينة من عمره 324وتتزامن تقريبا مع التاريخ المسطر في آخر كتاب الحج"بالبداية"والملاحظ أن مراجعته ل"بداية المجتهد"لم تغير من الصياغة القديمة لأبوابه أو كتبه (وإنما أضافت إلى متن الكتاب كتابا آخر هو كتاب الحج وقد تمت هذه الإضافة في مرحلة الشروح كما يوضح ذلك التاريخ الذي ذيل به الكتاب المضاف )325 والسؤال المطروح لماذا أخر ابن رشد كتاب الحج مدة عشرين سنة، بل لماذا قرر عدم إثباته في الكتاب أولا ثم بدا له بعد فأثبته؟.
لم يصرح ابن رشد لا في كتاب الحج ولا خارجه في عموم كتاب "البداية" عن سببب هذا التأخير، أو عن نية عدم إدراجه أصلا في الكتاب .الأمر الذي لا يبقي غير افتراض بعض الاحتمالات.وأقواها تبلور موقف لديه يفيد غياب أحد أهم شروط هذه العبادة الذي هو الاستطاعة لأهل المغرب عموما وأهل الأندلس على وجه الخصوص بسبب عدم توفر الأمن ووجود مخاطر وأهوال في طريق من يعزم على أداء هذه الفريضة سواء في البر أو البحر.(1/89)
فداخليا الأمور بدأت تميل نحو الاستقرار أثناء كتابة "البداية" إذ تم التخلص من آخر أمراء المرابطين منذ أكثر من عشرين عاما من كتابة البداية أي سنة 542ه التي ضرب فيها عنق إسحاق بن علي بن يوسف المرابطي، واستتب فيها الوضع للموحدين،باستثناء وقائع في أطراف البلاد مثل سقوط مدينة "يابرة" في يد الاسبان سنة 561ه،وكذا فتنة بن مردنيش ملك شرق الأندلس الذي امتنع على عبد المومن وعلى ابنه يوسف وحالف الاسبان واستمر ذلك إلى عام 567ه حيث استطاع أبو يوسف يعقوب الموحدي استكمال السيادة على جميع الأندلس.
أما في الحجاز فلم تنقطع أخبار الفتن التي يتعرض لها الحجاج منذ فترة ليست بالقصيرة والتي يصل صداها إلى الأندلس كل موسم حج بواسطة من تيسرت لهم سبل النجاة منها.فقبل فتح الأندلس في سنة 73ه كانت الحرب بين ابن الزبير (رض) والحجاج ببطن مكة ستة أشهر وسبع عشرة ليلة وقتل الحجاج عبد الله بن الزبير في الحرم واخذ بيعة أهل مكة لعبد الملك بن مروان 326 .
وفي سنة 199ه وقعت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين حين غلب مكة عمد إلى الكعبة فاخذ ما في خزائنها وقدر ب 70000 أقية ذهبية،وتصرف فيه وبطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ 327 .
وفي سنة 266ه وثبت طائفة من الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها وسار بعضهم إلى صاحب الزنج وأصاب الحجيج منهم شدة وبلاء شديد وأمور كريهة328 وبعد ذلك بثلاث سنوات قطع الأعراب على الحجيج الطريق وأخذوا منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها329 .
وفي أيام بني عبيد في سنة 17 3ه بطل الحج وأخذ الحجر الأسود وذلك أن أبا طاهر سليمان بن الحسن القرمطي دخل مكة يوم التروية فقتل الحجاج قتلا ذريعا ورمى القتلى في زمزم وأخذ الحجر الأسود من الكعبة وقلع بابها وبقى الحجر عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا شهرا ثم ردوه لخمس خلون من ذي القعدة سنة
39 3ه330 .(1/90)
وفي سنة 406ه ورد الخبر عن الحجاج بأنه هلك منهم بسبب العطش أربعة عشر ألفا وسلم ستة آلاف وأنهم شربوا بول الإبل من العطش،331 وفي سنة 539ه كانت فتنة عظيمة بين الأمير هاشم بن فليتة بن القاسم العلوي الحسيني أمير مكة وأمير الحج لذلك العام فنهب أصحاب هاشم الحجاج وهم في المسجد يطوفون ويصلون ولم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة332 .
ويذكر صاحب "البداية والنهاية" في حوادث سنة 557ه -أي قبل سنوات قليلة من تأليف "البداية"-غارة عبيد مكة على الحجاج حيث نهبوا أموالهم فتوقف السعي والطواف وامتنع الحج ورحل الحجاج إلى المدينة.
ويتحدث ابن جبير في رحلته التي كانت عام 578ه عما في الحرم من ظاهرة (المتلصصين فيها على الحاج المتختلسين ما بأيديهم، والذين كانوا آفة الحرم الشريف لا يغفل أحد عن متاعه طرفة عين إلا اختلس من يديه أو من وسطه بحيل عجيبة ولطافة غريبة)333 .
ويبلغ الأمر بالحجاج ترك بعض السنن خوفا من قطاع الطرق، يقول ابن جبير:( فلما كان يوم الخميس بكر الناس بالصعود إلى منى وتمادوا منها إلى عرفات وكانت السنة المبيت بها لكن ترك الناس ذلك اضطرارا بسبب خوف بني شعبة المغيرين على الحجاج في طريقهم إلى عرفات)334.
وإذا كان أثر ما يحدث بالحرم مشتركا بين جميع المسلمين ولم يرتبوا على ذلك مواقف كما فعل بعض الأندلسيين من هذه الفريضة العظيمة، إلا أن مخاطر الطريق الطويلة والبعيدة بين الأندلس وأرض الحجاز تعطي بعض العذر لتلك المواقف ،وتفسر تعامل ابن رشد مع كتاب الحج.(1/91)
ففي سنة 557ه حدثت اضطرابات في الدولة الفاطمية بمصر وهي معبر من معابر الحجاج المغاربة والأندلسيين،واستغل عموري الأول ملك الصليبيين المتحكم ببيت المقدس اختلال أحوالها فحول حربه ومناوشاته الصليبية من الشام إلى مصر،توج ذلك بوقعة البابين بين شاور الوزير الفاطمي المتحالف مع الصليبيين وجيش الشام بقيادة أسد الدين شيركوه الذي استقدمه الحاكم الفاطمي ضد وزيره عام 562ه.ووصل الأمر بشاور عام564ه إلى أن أمر بحرق القاهرة حيث استمر الحريق أربعة وخمسين يوما.ولم تستقر الأوضاع لشيركوه حتى وافته المنية فعين العاضد مكانه ابن أخي شيركوه، صلاح الدين وبعد عام من ذلك أفشل هذا الأخير غزوا استهدف مصر قاده تحالف الصليبيين والبزنطيين في وقعة دمياط.وفي سنة 567ه أنهى صلاح الدين حكم الفاطميين بمصر،وبعد عام من ذلك وجه حملة إلى إفريقيا واستولى على طرابلس الغرب،وفي سنة571ه استولى على القيروان335.
وهذا ابن جبير يبن بأفصح بيان ماكان يلاقيه الحجاج من أصناف الإهانات زمن الفاطميين والتي زال كثير منها بتولي صلاح الدين ويقول عن:( رسم المكس المضروب وظيفة على الحجاج مدة دولة العبيديين فكان الحجاج يلاقون من الضغط في استيدائها عنتا مجحفا ويسامون فيها خطة خسف باهظة وربما ورد منهم من لا فضل لديه على نفقته او لا نفقة عنده فيلزم أداء الضريبة المعلومة وكانت سبعة دناينر ونصف دينار من الدنانير المصرية التي هي خمسة عشر دينارا مؤمنية على كل رأس ويعجز عن ذلك فيتناول بأليم العذاب بعيذان (...) وربما اخترع له من أنواع العذاب التعليق من الانثيين او غير ذلك من الامور الشنيعة نعوذ بالله من سوء قدره )336(1/92)
وفي بعض المناطق يقع استغلال الحجاج باسم الزكاة بما يشبه المكوس وإلزام الناس الأيمان، يقول ابن جبير (وببلاد هذا الصعيد المعترضة في الطريق للحجاج والمسافرين كأخميم وقوص ... من التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها وإدخال الأيدي إلى أوساط التجار فحصا عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو دنانير ما يقبح سماعه وتستشنع الأحدوثة عنه كل ذلك برسم الزكاة دون مراعاة لمحلها أو ما يدرك النصاب منها حسبما ذكرناه في ذكر الاسكندرية من هذا المكتوب وربما ألزموهم الأيمان على ما بأيديهم وهل عندهم غير ذلك ويحضرون كتاب الله العزيز، يقع اليمين عليه فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها مواقف خزى ومهانة تذكرهم أيام المكوس).337
وعن مخاطر الطريق يقول أيضا:(والركوب من جدة إليها(عيذان) آفة للحجاج عظيمة إلا الأقل منهم ممن يسلمه الله عز وجل وذلك أن الرياح تلقيهم على الأكثر في مراس بصحارى تبعد منها مما يلي الجنوب فينزل إليهم البجاة وهم نوع من السودان ساكنون بالجبال فيكرون منهم الجمال ويسلكون بهم غير طريق الماء فربما ذهب أكثرهم عطشا وحصلوا على ما يتخلفه من نفقة أوسواها وربما كان من الحجاج من يتعسف تلك المجهلة على قدميه فيضل ويهلك عطشا والذي يسلم منهم يصل إلى عيذان كأنه منشر من كفن، شاهدنا منهم مدة مقامنا أقواما قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة وهيئاتهم المتغيرة آية للمتوسمين وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي ومنهم من تساعده الريح الى أن يحط بمرسى عيذان وهو الأقل).338(1/93)
ومن وصل إلى هذا المرسى فلن يكون بخير حال إذ تعامل عيذان مع الحجاج تعامل تطبعه القسوة وسوء الاستغلال ،وفي ذلك يقول ابن جبير في رحلته:( ولأهل عيذان في الحجاج أحكام الطواغيت وذلك انهم يشحنون بهم الجلاب حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنهم اقفاص الدجاج المملوءة يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفى صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة ولا يبالي بما يصنع البحر بها بعد ذلك ويقولون علينا بالألواح وعلى الحجاج بالأرواح هذا مثل متعارف بينهم )339.
ويستمر في الحديث عن خطورة بعض البيئات التي يمر بها الحجاج ويذكر أهوال البحر ووجود القرش الذي يبتلع الخلق ووجود قوم شبه عراة ليس لهم من الإسلام إلا النطق بالشهادتين يعيشون عيشة أقرب من عيشة الوحوش منها من عيشة بني الإنسان، إلى أن يقول عن بلدة عيذان (فالحلول بها من أعظم المكاره التي حف بها السبيل إلى البيت العتيق زاده الله تشريفا وتكريما وأعظم أجور الحجاج على ما يكابدون ولا سيما في تلك البلدة الملعونة)340 .
ولشدة ما كابده في رحلته من أهوال وما عاينه من معاناة الحجاج برر رأي من يرى من فقهاء الأندلس سقوط فريضة الحج عن أهل تلك البلاد، يقول:( فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب وبما يصنع بالحاج مما لا يرتضيه الله عز وجل فراكب هذا السبيل راكب خطر ومعتسف غرر والله قد أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال)341.(1/94)
وقد أورد الدسوقي في حاشيته ما يلي:( وفي تعليق المازري ما نصه قد علق الله الحج على الاستطاعة وبين العلماء أن الاستطاعة هي الوصول إلى البيت من غير مشقة مع الأمن على النفس والمال والتمكن من إقامة الفرائض وترك التفريط وارتكاب المناكير، وبسبب هذه الشروط فإن الشيخ أبا الوليد أفتى بسقوط الحج عن أهل الأندلس , وأفتى الطرطوشي بأنه حرام على أهل المغرب فمن غر وحج سقط فرضه ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر , وهذا قول أئمة المسلمين المقتدى بهم فاعلموه واعتقدوه , وفي مدخل ابن طلحة، السبيل السابلة اسم لا يكاد يوجد له مسمى فلقد دخلت الطريق من الأندلس إلى إشبيلية ثم إلى بجاية وعبرت الزقاق , وتخيلت وجود السبيل ثم خرجت إلى المهدية فلقيت في بلاد المغرب ما اعتقدت أن الحج معه ساقط على أهل المغرب بل حرام )342.
ثم قال الدسوقي في الأخير : ولكن الانصراف فيما بين الله وبين العبد أولى من تقحم هذه المخاطرات ولله الأمر من قبل ومن بعد، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم .
ورد ابن العربي أيضا على هؤلاء فقال: العجب ممن يقول :الحج ساقط عن أهل المغرب وهو يسافر من قطر إلى قطر ويقطع المخاوف ويخرق البحار في مقاصد دينية ودنيوية , والحال واحد في الخوف والأمن والحلال والحرام وإنفاق المال وإعطائه في الطريق وغيره لمن لا يرضي انتهى . ما نقله التادلي ونقله ابن فرحون)343
فابن رشد وإن لم يساير الفقهاء القائلين بسقوط الحج عن أهل الأندلس من الناحية النظرية بحيث لم يصرح بذلك في كتاب الحج،إلا أنه عمليا كاد يأتي- بنيته حذف الحديث عن الحج-أمرا لم يعهد في عادة الفقهاء حتى أولئك الذين نقلت عنهم تلك المواقف من هذه الفريضة، إذ المعروف من كتبهم إثبات كتاب الحج بجانب كتب العبادات الأخرى وعقد الفصول والأبواب الخاصة بفتاوى الحج.(1/95)
ولعل الدافع لإثباته بعد ذلك عندما كان بصدد مراجعة كتبه ومنها "البداية" بعد عشرين عاما،هو السير على عادة الفقهاء والتي كان يحرص على التزامها في كتابه344 كما أن الأوضاع عرفت بعض التحسن ولو إلى حين،فقبيل هذه المراجعة أي سنة 581ه سيتمكن الموحدون من استرداد بجاية بالجزائر من بني غانية وهي في طريق الحج كما أن عرب إفريقيا من بني هلال وبني سليم سيدخلون تحت طاعتهم عام 584ه،ويستطيع صلاح الدين الأيوبي بعد إسقاط حكم الفاطميين من توحيد الشام ومصر تحت إمرته عام 581ه،بل ويتمكن من دحر الصليبيين وتحرير القدس الشريف في السابع و العشرين من رجب عام583ه .
فذهبت بسب حكمه كثير من الشرور مثل المكوس المسلط على الحجاج وغيره يقول ابن جبير:( فمحى هذا السلطان هذا الرسم اللعين ودفع عوضا منه ما يقوم مقامه من أطعمة وسواها وعين مجبي موضع معين بأسره لذلك وتكفل بتوصيل جميع ذلك إلى الحجاز لأن الرسم المذكور كان باسم ميرة مكة والمدينة عمرهما الله فعوض من ذلك أجمل عوض وسهل السبيل للحجاج وكانت في حيز الانقطاع وعدم الاستطلاع وكفى الله المؤمنين على يدي هذا السلطان العادل حادثا عظيما وخطبا أليما فترتب الشكر له على كل من يعتقد من الناس أن حج البيت الحرام إحدى القواعد الخمس من الإسلام حتى يعم جميع الآفاق ويوجب الدعاء له في كل صقع من الأصقاع وبقعة من البقاع والله من وراء مجازاة المحسنين وهو جلت قدرته لا يضيع أجر من أحسن عملا )345
نسبة الكتاب إلى صاحبه:
توفرت لكتاب "بداية المجتهد وكفاية المقتصد"دلائل وبراهين قوية داخل الكتاب نفسه وخارجه تؤكد جميعها نسبته لابن رشد الحفيد.ولولا شبهة أثارها بعض أصحاب التراجم لما احتاج القول فيها إلى تفصيل.فقد أثار ابن عبد الملك في كتابه "الذيل والتكملة"346 بإيراده لرواية شكوكا حول نسبة كتاب"البداية" لابن رشد،وهو أمر لم يتابعه فيه ـ فيما أحسب ـ أحد.(1/96)
والشبهة كما يلي حيث جاء في سياق الحديث عن ابن رشد): واستقضي بإشبيلية ثم بقرطبة فنظر حينئذ في الفقه وصنف فيه كتابه المسمى"بداية المجتهد وكفاية المقتصد"ونقلت من خط التاريخي المقيد أبي العباس بن علي بن هارون ما نصه : أخبرني محمد بن أبي الحسين بن زرقون أن القاضي أبا الوليد بن رشد استعار منه كتابا ضمنه أسباب الخلاف الواقع بين أئمة الأمصار من وضع بعض فقهاء خرسان فلم يرده إليه وزاد فيه شيئا من كلام الإمامين أبي عمر بن عبد البر وأبي محمد ابن حزم ونسبه إلى نفسه.وهو الكتاب المسمى ببداية المجتهد ونهاية المقتصد .قال أبو العباس بن هارون:والرجل غير معروف بالفقه وإن كان مقدما في غير ذلك من المعارف..)347.
وهذا الاعتراض من صاحب هذا الادعاء ترده جملة أمور:
1 ـ ذكر المصنف أن ابن رشد نظر في الفقه حين استقضي بإشبيلية في حين رأينا في ترجمة حياته بأنه ولد لأهل بيت فقه وعلم وحفظ الموطأ وسمع المدونة وأتقنها فهما ودرس الفقه عن أئمة عصره.كما سبق أن رأينا أن تاريخ "البداية" حوالي 563هـ في حين لم يتول قضاء إشبيلية إلا في سنة564هـ ،وإذا كان في هذا نوع من التزامن أو قريبا من ذلك فإنه قطعا قد ألف في أصول الفقه قبل تأليف "البداية" بفترة فهو يذكر في ثنايا "البداية" ما يلي (وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي وهو الذي يدعى بأصول الفقه)348 .
وهل يمكن أن يؤلف ذلك من هو غير معروف بالفقه كما يذكر من نقل عنه المترجم هذا الادعاء؟ بل كيف يمكن عمليا في مثل زمان ابن رشد وفي مثل بيئة قرطبة التي كانت تعج بثلاثة آلاف من العلماء وطلبة العلم 349 كلهم صالح للفتوى، أن يتولى القضاء من ليس معروفا بالفقه ،وأكثر من هذا أن يتولى منصب قاضي القضاة فيما بعد حيث يرجع إليه في المعضلات وكبير المشكلات والإشراف على القضاة؟.(1/97)
2 ـ لم يعين بالضبط مؤلف الكتاب الذي ادعى أنه (من وضع بعض فقهاء خرسان) فتبقى دعوى بلا دليل وخصوصا أن الكتاب ليس من النوع العادي بل هو من الكتب الفريدة في بابها ولم تشتهر أية نسخة أخرى من الكتاب المزعوم والذي من الطبيعي أن تكون نسخه عديدة، باعتبار مجيئه من خرسان، إذ من المحتمل جدا أن يترك بعض الآثار في مصر من الأمصار التي قطعها في طريقه إلى الأندلس .
كما أن صاحب الدعوى ذكر أنه (زاد فيه شيئا من كلام الإمامين أبي عمر بن عبد البر وأبي محمد بن حزم ).وهي عبارة غير منضبطة لا تبين حجم الأخذ ولا كيفيته، ثم إن ابن رشد نفسه لا ينكر اعتماده في أمور على من سبقه كاعتماده المقدمات لجده والمنتقى للباجي والموطأ والمدونة ومسائل الخلاف لابن القصار والمحلى لابن حزم،ولكن كما ذكر(أكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو الاستذكار وأنا قد أبحث لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه)350.والمراجع المذكورة في غالبيتها محلية تناسب بيئة ابن رشد أكثر من مناسبتها لبيئة الخرساني المزعوم .
3 ـ لم تعبأ كتب التراجم الأخرى بنقل هذه الرواية، بل كلها تؤكد نسبة الكتاب إليه فذكر العباس بن إبراهيم أن :(له تصانيف جليلة منها كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه أعطى فيها أسباب الخلاف وعلل وووجه فأفاد وأمتع به..).351 وكذلك الشأن عند صاحب شجرة النور الزكية 352وصاحب تاريخ قضاة الأندلس 353وكتاب نفح الطيب 354وعيون الأنبياء 355وسيرة ابن رشد للذهبي356 وذكره رينان في دراسته "ابن رشد والرشدية" وقال عنه: (وقد ذكر هذا الكتاب ابن الآبار ومحمد ابن علي الشاطبي وابن أبي أصيبعة كما ذكر في قائمة الاسكوريال )357. وعموما لم أقف على تشكيك في نسبة الكتاب الى صاحبه عند المتقدمين غير الشبهة السابقة.(1/98)
4 ـ يبدو أن الأمر لا يعدو أن يكون حسابات شخصية وحزازات الأقران، فظروف ابن رشد والمكانة التي تبوأها عند أولي الأمر،ونزوعه نحو التجديد والاجتهاد وامتعاضه من التقليد ومتفقهة زمانه ، أمور تدعو بشكل طبيعي إلى أكثر من ذلك، حيث نشأ بينه وبين بعض أعيان قرطبة وحشة جرتها أسباب المحاسبة والمنافسة وطول المجاورة مما دفع بعضهم إلى تصيد الهفوات (والسعي بالوشاية الماحية لأبي الوليد كثير من الحسنات )358 بتعبير المترجم الذي أورد الشبهة، فكثيرا ما وصف ابن رشد بعض آراء الفقهاء بقوله:(وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم )359 أو بقوله ( وأقاويل هؤلاء شاذة ومردودة) 360. وأزال صفة الفقيه عمن يكتفي بحفظ الفروع (وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا..) 361
بل ويتهمهم بقلة الورع ( فكم من فقيه كان الفقه سببا في قلة تورعه وخوضه في الدنيا بل أكثر الفقهاء وهكذا نجدهم )362 ولا يتحرج من إلصاق صفة الجهل بهم لما شنعوا بالفلسفة وأهلها فيبين لهم أن (معنى الفيلسوف المحب للحكمة. وشرح هذا الاسم يرفع عن السامع له المنصف الشناعة التي لحقت هذه التسمية في زماننا من قبل قوم انتسبوا إلى علم الشرع وهم معرون مما تعرفه العامة والله الموفق للصواب بفضله ورحمته)363 فلا يبعد بعد هذا أن يكون عدم رد ابن رشد للكتاب إن كان قد استعاره فعلا لأسباب أخرى، فرتب عنه ذلك الفقيه استنتاجه الذي تعوزه الأدلة المقنعة .كما أن هذا السلوك يتنافى وما ذكر له من خصال حميدة وأخلاق فاضلة وجاه لم ينفقه(قط في شيء يخصه ولا في استجرار منفعة لنفسه )364.(1/99)
5 ـ حضور البيئة القرطبية والأندلسية عموما في الكتاب سواء من حيث المراجع والمصادر التي اعتمدها كما سبق أن أشرنا، أو من حيث ذكرها بالاسم. قال ابن رشد: (ولقد حدثني الأشياخ أنه كان العمل عليه بمسجد عندنا بقرطبة وأنه استمر إلى زماننا أو قريب من زماننا )365
وفي موضع آخر في كتاب الاجارة(وإن اختلفا في الأمرين جميعا في المسافة والثمن مثل أن يقول رب الدابة بقرطبة :اكتريت منك إلى قرمونة بدينارين ويقول المكتري:بل بدينار إلى إشبيلية (...)ويغرم من الثمن ما يجب له من قرطبة إلى قرمونة )366 كما يحكي لنا مسألة وقعت لجده :( وقد كانت وقعت هذه المسألة بقرطبة حياة جدي رحمه الله فأفتى أهل زمانه بالرواية المشهورة وهو أن لا ينتظر الصغير ،فأفتى هو رحمه الله بانتظاره على القياس فشنع أهل زمانه ذلك عليه، لما كانوا عليه من شدة التقليد حتى اضطر أن يضع في ذلك قولا ينتصر فيه لهذا المذهب وهو موجود بأيدي الناس...)367.
كما بين أن المذهب السائد في الأندلس في زمانه هو المذهب المالكي (وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا،إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون القارىء به مجتهدا في مذهب مالك)368.
6 ـ وجود تشابه كبير في القصد والعبارة بين كتاب "البداية"وبعض مؤلفات ابن رشد الأخرى مما يؤكد أن مؤلفها واحد .فإذا بدأنا بالنص الأخير الوارد في الفقرة السابقة نجد عبارة (مرتبا ترتيبا صناعيا )وهو نفس التعبير تقريبا في كتاب تلخيص الجدل ص 170 الذي كتبه في نفس السنة مع "البداية" 563هـ (...وإن كان في ذلك مخالفة لتعليم أرسطو في ترتيبه فإن هذا يشبه أن يكون أكثر صناعيا وأعون على الحفظ والتحصيل)369.(1/100)
وبصيغ أخرى يقول في أحد مؤلفاته : (فهذه هي حال المطالب التي ينبغي أن تطلب في هذا المعنى،وهي في كلام أرسطو موجودة إلا أن منها ما هي موجودة بالفعل ومنها ما هي موجودة بالقوة في أصوله التي أصل ،فنبتدىء نحن بعون الله منها بما هو موجود بالفعل في كلامه ثم بما هو موجود بالقوة في أصوله)370.فنجد هذا التعبير الفلسفي يتسرب إلى "البداية " مثل قوله: (فالنظر في هذا القسم منطو بالقوة في الجزء الأول ولكن النظر الصناعي الفقهي يقتضي أن يفرد بالتكلم فيه)371.
وكذا عبارة (وإن أنسأ الله في العمر..)الموجودة في آخر الفقرة السابقة،نجد ما يشبهها في التعبير في كتابه "شرح السماء والعالم"،حيث يقول:(ولعلنا إن أنسأ الله في الأجل أن نبين هذا المعنى عند شرحنا كلام أرسطو..)372 ،كما استخدم في مؤلفاته كلمة (النكت)التي كثيرا ما يرددها في "البداية" يقول في كتابه "تلخيص المزاج":( أحد ما حملنا على تلخيص كتبه-يقصد أرسطو-هو إيضاح ما فيها من هذه النكت..)373
وأما من حيث القصد فنجد النزعة التأصيلية وعدم الاهتمام بالفروع مسألة مشتركة عند ابن رشد بين الفقه ومجالات معرفية أخرى فهو يقول في الطب مثلا: (...ولذلك ما كانت هذه الصناعة تحتاج بعض فصول الأمور الكلية التي فيها إلى تجربة تحصل منها مقدمات جزئية تستعمل في شخص شخص، وليس يمكن أن تكتب هذه المقدمة في كتاب إذ كانت غير متناهية...)374 ويقابلها من "البداية"قوله : (وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية،والنصوص والأفعال والاقرارات متناهية ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى...)375.(1/101)
فالغرض الأساس من تأليف كتابيه: الكليات في الطب و "البداية" في الفقه هو وضع دساتير وقوانين للقول الطبي والقول الفقهي، وهذا ما نلمسه من النصين التاليين حيث تشابه المثالان فيهما إلى حد كبير،فهو يقول في كتاب الكليات (فإن كتابنا هذا إنما قصدنا فيه أن نجعله كالدستور والقانون لمن أحب أن يستوفي أجزاء الصناعة على هذا التقسيم والترتيب،وبالجملة فنسبته إلى هذه الصناعة يشبه أن تكون نسبة أسطقسات376 الصناعة الى الصناعة فكما أن الزواقين إنما يرسمون الصورة التي يقصدون تصويرها ثم يملؤون تلك الرسوم بالأصباغ والألوان حتى تحصل تلك الصورة على الكمال الأخير.كذلك حالنا نحن في هذا الكتاب )377.ويقول في كتاب "البداية": ( ونحن نذكر من هذه المسائل ما اشتهر الخلاف فيه بين الفقهاء ليكون ما يحصل من ذلك في نفس الفقيه يعود كالقانون والدستور الذي يعمل عليه فيما لم يجد فيه نصا عمن تقدمه أو فيما لم يقف على نص فيه لغيره...)378.
وفي موضع آخر حيث المثال القريب من مثال الأسطقسات، وهو ينتقد متفقهة زمانه (وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا يقدر على عملها ،وهو بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه،فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة وهو الذي يصنع للقدم خفا يوافقه...)379.
7 ـ الناظر في "البداية" يلمس جانبا من ثقافة ابن رشد، فكما رأينا أثر الجانب الفلسفي فيها.كذلك نشعر بابن رشد الطبيب وهو يصاحبنا في الكتاب ،فهو يربط أحيانا بين صناعة الفقه وصناعة الطب إذ يقول : ( وإن دلت على أنه قصد الإضرار بورثته منع من ذلك كما في أشياء كثيرة من الصنائع يعرض فيها للصانع الشيء وضده مما اكتسبوا من قوة مهنتهم إذ لا يمكن أن يجد في ذلك حد مؤقت صناعي ، وهذا كثيرا ما يعرض في صناعة الطب وغيرها من الصنائع المختلفة)380.(1/102)
ويشير في معرض حديثه إلى الدم الذي تراه الحامل مستعينا بثقافته الطبية وعلمه بأقوال أطباء اليونان (وبذلك أمكن أن يكون حمل على حمل على ما حكاه بقراط وجالينوس وسائر الأطباء)381 وفي موضع آخر(ومن فرق بينهما أوجب للعظام الحس ولم يوجبه للشعر ،وفي حس العظام اختلاف،والأمر مختلف فيه بين الأطباء )382.وقال في الذين يصيبهم انطباق العروق : (لقد قال الأطباء إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث )383.
كما تظهر شخصية القاضي بشكل واضح من خلال بعض المواقف في الكتاب، فمثلا في حكمه في إنكار البائع دعوى القائم يستعرض ما يراه بحكم التجربة دون أن يذكر آراء الفقهاء في ذلك (وأما إذا وجب الأرش فوجه الحكم في ذلك أن يقوم الشيء سليما ويقوم معيبا ويرد المشتري ما بين ذلك، فإن وجب الخيار قوم ثلاث اوتقويم بالعيب الحادث عند المشتري،فيرد البائع من الثمن ويسقط عنه قدر ما تنقص به القيمة المعيبة عن القيمة السليمة...)384.
نسخه وطبعاته:
عرف كتاب البداية انتشارا واسعا وطبع مرارا منذ أوائل هذا القرن الميلادي وأوائل القرن الهجري الماضي حيث ظهرت أول طبعة معروفة للكتاب سنة 1327هـ 385 بفاس وطبع باستانبول سنة 1915م386.وطبع بمصر سنة 1329هـ في مجلدين، ثم توالت الطبعات ،ومن أواخرها حسب علمي :
- طبعة دار الجيل لسنة 1409هـ 1989م قام محققها طه عبد الرؤوف سعد بتوثيق نصوصها وتحقق أصولها وتخريج أحاديثها ،وتقع في مجلدين387، الأول:894 صفحة والثاني: 855 صفحة.والمهم فيها 388 أنه وضع (لكل مسألة عنوانا يوضح للقارىء أين هو ويسهل عليه إذا أراد الرجوع لمسألة بعينها تهمه أن يرجع إلى الفهرسة الخاصة بكل جزء )389 بحيث يجد بغيته بكل سهولة ويسر. وصرح المحقق في المقدمة بأنه وقف على 17 نسخة مطبوعة للبداية بالمكتبة الأزهرية ودار الكتب المصرية تختلف طبعاتها وسنوات طبعها .وعلى مخطوط للكتاب بدار الكتب المصرية.(1/103)
- طبعة "دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة"-القاهرة- لسنة 1416ه -1995م شرح وتحقيق وتخريج عبد الله العبادي،سمى عمله بهامش البداية (السبيل المرشد إلى بداية المجتهد ونهاية المقتصد) وقد كتب مقدمته في 3/9/1412ه الموافق 3/4/1992م. وتقع هذه الطبعة في أربع مجلدات، الأول:571صفحة والثاني:585 صفحة والثالث:625 صفحة والرابع:533 صفحة.و قد عمل على تخريج الأحاديث وذكر مذهب الإمام أحمد حيث لم يذكره ابن رشد إلا نادرا،وأشار إلى المعتمد في المذاهب عندما يسند ابن رشد قولا لأحد الفقهاء المجتهدين كما قام ببعض الزيادات والتوضيحات وعلق على بعض ترجيحات ابن رشد.وذكر في مقدمته أنه اعتمد أربع نسخ مطبوعة: طبعة دار الفكر،وطبعة دار المعرفة للطباعة والنشر،وطبعة الاستقامة بالقاهرة،وطبعة دار الكتب الإسلامية.
- طبعة "دار ابن حزم"-بيروت- لسنة 1416ه -1995م حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه ماجد الحموي، وقد كتب مقدمته في 1/11/1412ه الموافق 4/5/1992م.وتقع هذه الطبعة في أربع مجلدات.وقد قام المعلق بوضع عناوين للأبواب والمسائل وخص كل مسالة بفقرة مزيلا التداخل وشرح ما يحتاج من الكلمات إلى شرح،وضبط الأحاديث بالشكل وخرجها وبين رتبتها معتمدا في ذلك على كتاب (الهداية في تخريج أحاديث البداية)لأحمد بن الصديق وكذا (طريق الرشد إلى تخريج أحاديث بداية ابن رشد) لعبد اللطيف بن إبراهيم آل عبد اللطيف وغيرهما،وذكر المعتمد من الأقوال في المذهب بغض النظر عن صاحب المذهب نفسه،ونسب الأقوال إلى مذاهبها إذا لم تكن منسوبة وصحح ما ورد خطأ في نسبتها،وزاد بعض المسائل والأحكام الناقصة في "البداية".(1/104)
-طبعة "دار الكتب العلمية"منشورات محمد علي بيضون-بيروت-لسنة1417ه-1996م تحقيق وتعليق ودراسة كل من الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود،وتقع هذه الطبعة في ست مجلدات وقد اعتمدا في عملهما النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم280 فقه تيمور،وعلى طبعة الحلبي،وعلى نسخة محمد علي صبيح التي قام بقراءتها محمد شاكر رحمه الله.ووضعا مقدمة أصولية مطولة تقع في 314صفحة ركزا فيها على أسباب الاختلاف بشكل عام ولم يتقيدا بمقدمة ابن رشد الأصولية ولا انطلقا منها واعتمدا كتاب (الهداية في تخريج أحاديث البداية) لأحمد بن الصديق وعمل المحققين له في تخريج الأحاديث مع زيادات يسيرة.
وقاما بتراجم الرجال الواردين في "البداية" والتعليق على بعض الألفاظ الغريبة وبعض المصطلحات والمسائل الفقهية ثم وضعا فهرسا لأطراف الأحاديث النبوية الشريفة مرتبة على حروف المعجم وفهرسا عاما لمسائل ومواضيع الكتاب مرتبة على حروف المعجم أيضا .ثم وضعا ملخصا للكتاب المحقق في مجلدين طبعته نفس الدار.
- طبعة "المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية" وقد قام بتحقيقها العلامة الشيعي محمد علي بحر العلوم، تحت إشراف محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للتقريب بين المذاهب الإسلامية،وقد قام المحقق ببيان آراء فقهاء الإمامية في ذيل المسائل المطروحة في "البداية" ، لكي يكون حسب تعبير أصحاب المجمع ( كتاباً كاملاً نافعاً شاملاً وفقاً للمذاهب الخمسة )390.
وأذكر فيما يلي بعض النسخ المطبوعة والمخطوطة التي لم يذكرها طه عبد الرؤوف سعد محقق طبعة دار الجيل:
أولا :خزانة القرويين.(1/105)
- نسخة مخطوطة ترجع إلى سنة 701هـ،رقمها 1190 علق عليها صاحب فهرس مخطوطات خزانة القرويين391 بقوله ) كتاب مشهور في الأوساط العلمية جزء ضخم بخط أندلسي جيد مرصع بعدة ألوان مختلفة متقن الكتابة مبتور أوله تم نسخة سنة 701هـ يبتدىء الموجود منه بقوله:إما أن يكون من قبلها ....من كتاب النكاح إلى آخر كتاب الأقضية، قال ناسخه نجز السفر الثاني بحمد الله وحسن عونه وجميل انجازه ...وباكتماله كمل جميع هذا الديوان الملقب ببداية المجتهد وكفاية المقتصد على يد محمد بن محمد بن أحمد بن يحيى القلني يقظه الله من سنة غفلته ...وذلك في غرة شهر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة.
- نسخة مخطوطة بخزانة القرويين من بداية المجتهد رقمها 1436 وهو:سفر متوسط مبتور الطرفين بخط مغربي به تصحيف قليل وهي نسخة غير معرف بها ولم يذكر ناسخها ولا تاريخ النسخ.
- نسخة مطبوعة من بداية المجتهد رقم 80 ط 1533 بخزانة القرويين،مجلد واحد في الحجم الصغير ويحتوي على جزأين صححها وقابلها على عدة نسخ مهمة نخبة من العلماء الأجلاء.مطبعة الاستقامة القاهرة 1357ـ1938.وفي آخره وضعت ترجمة المؤلف المنقولة من الديباج.
- نسخة من بداية المجتهد رقمها ط 80 14181 بخزانة القرويين طبع بالتصوير عن طبعة المرحوم محمد أمين الخانجي المأخوذة عن النسخة المولوية دار الفكر مكتبة الخاجي دون ذكر لتاريخ الطبعة.تقع في مجلد واحد مقسم إلى جزأين ،في آخر الجزء الثاني تقريض للبداية من محمد عبد الله الجزار بمشيخة الاسكندرية.
ثانيا- الخزانة الحسنية بالرباط:
- نسخة مخطوطة من كتاب بداية المجتهد وكفاية المقتصد للامام العلامة الحفيد بن رشد أثبت فيه مسائل الخلاف والوفاق ونبه فيه على نكت الخلاف فهو كتاب عظيم فضل مؤلفه جسيم ) رقمه 2641 بالخزانة الحسنية بالرباط عدد أوراقه 179ناسخة أحمد بن محمد بن المهدي المدغري عام 1260ه.
ترجمة الكتاب إلى اللغات الأجنبية:(1/106)
أشار المستشرق برونشفيك في دراسته (ابن رشد الفقيه) ضمن كتابه "دراسات إسلامية"392 إلى أن "البداية" ترجم ثلثها إلى اللغة الفرنسية حيث قام أحمد لعميش بترجمة تحتوي على ثلاثة أجزاء:
ـ جزء خاص بالزواج يحتوي على 311 صفحة.طبع بالجزائر سنة1926.
ـ جزء يحتوي على أبواب من المعاملات عدد صفحاته 124،وهو مطبوع.
ـ جزء يحتوي كتاب بالصرف وكتب أخرى عدد صفحاته 241 طبع بالجزائر 1940.
كما قام أحد المستشرقين بترجمة بعض الصفحات من "البداية" في المجلة الجزائرية للقانون عدد: ماي ـ يونيو1949.وترجم آخر كتاب الصيد في المجلة التونسية للقانون سنة 1954 وترجم أحد المستشرقين الألمان جزءا من "البداية" إلى اللغة الألمانية ظهر في كتاب له طبع ببون 1959.وقد أشار برونشفيك إلى ترجمة أخرى للمقدمة الأصولية للبداية ظهرت سنة 1955م .
كما وجدت في موقع ابن رشد على الانترنت ترجمة مقدمة "البداية"إلى اللغة الإنجليزية مع فهرس مفصل بنفس اللغة لمواضيع ومسائل الجزء الأول من الكتاب إلى حدود كتاب الاعتكاف.
المبحث الثاني
أهمية موضوع " البداية "
حدد ابن رشد في مطلع مقدمة كتابه موضوع "البداية" في إثبات (مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها ، والتنبيه على نكت الخلاف فيها ، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع ، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق به تعلقا قريبا ، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها ، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد)
ثم يقول في موضع آخر مفصلا أكثر موضوع كتابه:(أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار)393
فمادة كتاب "البداية" تشتمل على الأمور التالية:(1/107)
-1- مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها،وهذه المسائل في الأغلب الأعم هي المسائل المنطوق بها في الشرع:
أ-مسائل الأحكام: فموضوع الكتاب كما يقول صاحبه هو (مسائل الأحكام) أي القضايا التي يطلب حكمها في الشرع ويسأل عنها أو عن أدلتها، سواء كان منطوقا بها في الكتاب أو السنة أو مسكوتا عنها ،وقد أحصى طه عبد الرؤوف سعد أكثر من 6000 مسألة في "البداية" ، يقول متحدثا عن ابن رشد:(وفصل أصول الفقه ورتب عليها كثيرا من الفروع حتى أنه ذكر أكثر من ستة آلاف مسألة فوضعت لكل مسألة عنوانا يوضح للقارئ أين هو،ويسهل عليه إذا أراد الرجوع لمسألة بعينها تهمه أن يرجع إلى الفهرسة الخاصة بكل جزء يجد بغيته بكل سهولة ويسر) 394
وبعد تتبعها وجدت حوالي 3400 مسألة وهو ما يؤكده الفهرس المفصل الذي وضعه طه عبد الرؤوف سعد نفسه لمسائل "البداية" في آخر الكتاب الذي حققه ، والحال أن الأمر نسبي يختلف من حيث الإجمال أو التفصيل، إذ ما قد يعده البعض مسألة واحدة، قد يعتبره الآخر مسائل متعددة، استحضارا لتفريعاتها وما يمكن أن يندرج تحتها من مسائل أصغر منها.وقد وزع ابن رشد هذه المسائل على جزأين :الجزء الأول ويبتدئ بكتاب الطهارة وينتهي بكتاب الأطعمة والأشربة،والجزء الثاني ويبتدئ بكتاب النكاح وينتهي بكتاب الأقضية.ويشتمل هذان الجزآن على 72 كتابا ،وذلك إذا اعتبرنا حد شرب الخمر كتابا مستقلا رغم أن ابن رشد سماه (باب في شرب الخمر).(1/108)
فيكون بذلك الكتاب قد غطى معظم الكتب المتداولة عند الفقهاء،وقلت معظم لأنه لم يتناول بعضها مثل الوقف،وإحياء الموات،والاستصناع وغيرها من الكتب التي نجدها عند فقهاء آخرين،وإن كان ابن رشد قد يتناول جوانب منها عرضا في ثنايا كتب أخرى من غير أن يفردها بكتاب خاص، مثل المزارعة التي لها علاقة بالمساقاة، والسباق الذي عنده علاقة بالجعل.ثم بعد ذلك تتنوع تقسيمات وتسميات ابن رشد لما تحت الكتب ،فقد ذكر الأبواب 131مرة وذكر إحدى عشر قسما،وعشرين جملة،وعقد 134 فصلا،وذكر إحدى عشر جنسا،وسمى 160 قضية فقهية بقوله "مسألة" وأطلق على 54 منها "القول في كذا" وطرح 1106 تساؤلا،وأحيانا يقول: أحكام أو أركان أو أصناف أو أنواع كذا أو النظر في كذا وغير ذلك مما يصعب حصره .
* مقارنة تقريبية بين "البداية"وعدد من المراجع الأخرى بخصوص عدد المسائل:
الكتاب
نوعه
عدد المسائل
المدونة للإمام مالك(ت179ه)
فقه مالكي
6789
المحلى لابن حزم (456ه)
فقه ظاهري
2292
المنتقى للباجي (474ه)
فقه مالكي
4714
المبسوط للسرخسي(ت483ه)
فقه حنفي
10634
البداية لابن رشد (ت595ه)
فقه مقارن-مستقل
3400
المغني لابن قدامة(ت620ه)
فقه مقارن-يرجح م الحنبلي
7791
المجموع للنووي(ت676ه)
فقه مقارن،يرجح م الشافعي
4954
أسنى المطالب زكرياء الأنصاري(ت926ه)
فقه شافعي
6189
كشاف القناع لمنصور البهوتي(ت1051ه)
فقه حنبلي
9683
شرح مختصر خليل للخرشي(ت1101ه)
فقه مالكي
4978
الموسوعة الفقهية(الكويتية-معاصرة)
فقه مقارن-من غير ترجيح
13081(1/109)
فإذا اتخذنا (الموسوعة الفقهية ) معيارا باعتبارها الأوسع في عدد المسائل ضمن المراجع المبسوطة في الجدول أعلاه-رغم أنها لم تصل في تصنيفها الأبجدي إلا إلى حرف الكاف- فإننا نجد نسبة مسائل "المحلى" 395لابن حزم إلى الموسوعة تصل إلى 17.52%،ومسائل "البداية" تصل إلى 25.99% من المسائل.وتصل في "منتقى الباجي "39636.03% وفي "شرح مختصر خليل" 397إلى 38.05%.بينما تصل النسبة في "أسنى المطالب"398وهو في الفقه الشافعي إلى 47.31% ،وتصل في "المدونة"399إلى حوالي 52% من المسائل، وتصل في "كشاف القناع"400 في الفقه الحنبلي إلى 74.02%،وتبلغ ذروتها مع "مبسوط السرخسي"401في فروع الحنفية إلى 81.29%.وبالمقارنة بما يعد فقها مقارنا تصل النسبة في "مجموع النووي"40237.87%.وفي "مغني ابن قدامة"403 59.55% .
فإذا استثنينا "محلى" ابن حزم وجدنا "البداية" أقل الكتب المذكورة في الجدول من حيث عدد المسائل سواء تعلق الأمر بكتب المالكية أو عموم المذاهب أو كتب الفقه المقارن المرجحة غالبا مذاهب مؤلفيها. الأمر الذي يؤكد أن "البداية" موضوعة في الأصول (قال القاضي فهذا هو الذي رأينا أن نثبته في هذا الكتاب من المسائل التي ظننا أنها تجري مجرى الأصول وهي التي نطق بها في الشرع أكثر ذلك، أعني أن أكثرها يتعلق بالمنطوق به إما تعلقا قريبا أو قريبا من القريب)404 أي ليس الكتاب موضوعا للتفريعات البعيدة بل أراده أن يكون في الأصول أو قريبا منها.
وهذا ما يفسر رفضه الدخول في تفاصيل عدد من المسائل، مثل: قوله في باب النية:(وفي النية مسائل ليس لها تعلق بالمنطوق به من الشرع، رأينا تركها إذ كان غرضنا على القصد الأول إنما هو الكلام في المسائل التي تتعلق بالمنطوق به من الشرع)405 .(1/110)
ولعل منطق التأصيل والقرب جدا من المنطوق به يقلل من عرض المسائل البعيدة والنادرة والافتراضية وما يغلب عليه الرأي المجرد،وهو المنطق نفسه الذي نجده عند ابن حزم في مقدمة "المحلى" يقول:( نقتصر فيه على قواعد البراهين بغير إكثار , ليكون مأخذه سهلا على الطالب والمبتدئ , ودرجا له إلى التبحر في الحجاج ومعرفة الاختلاف وتصحيح الدلائل المؤدية إلى معرفة الحق مما تنازع الناس فيه، والإشراف على أحكام القرآن والوقوف على جمهرة السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمييزها مما لم يصح , (...) وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات مسند ولا خالفنا إلا خبرا ضعيفا فبينا ضعفه , أو منسوخا فأوضحنا نسخه .)406 ويظهر ذلك جليا كذلك عند من اتجه مباشرة إلى مدارسة نصوص الأحكام في القرآن أو الحديث ،حيث نجد في "أحكام ابن عربي"1429 مسألة فقهية أي فقط بنسبة 10.92%.وتنزل هذه النسبة في "أحكام الجصاص" رغم ما يعرف به الأحناف من كثرة التفريع إلى 8.99% لاحتوائه على 1177 مسألة فقهية.وقريب من هذا نجده فيمن تصدى لشرح أحاديث الحكام،فنجد في "نيل الأوطار" للشوكاني 1367 مسألة فقهية أي بنسبة 13.08%،وفي "سبل السلام" للصنعاني 1174 مسألة فقهية أي بنسبة 8.97%.
ب-مسائل الأحكام المتفق عليها:
وقد التزم ابن رشد في كتابه أن يورد ويبدأ بالمسائل المتفق عليها،وبعد تتبعها وجدت أن مجمل القضايا المجمع عليها يصل إلى 1034 مسألة،ويبقى هذا الإحصاء نسبيا لاحتمال الاختلاف فيه من جهة الإجمال أو التفصيل أو الأخذ بعين الاعتبار بعض الشذوذ الواقع في المسألة أو عدم الأخذ به،فمثلا يمكن أن يعتبر الإجماع في العيوب المؤثرة في الزواج من عور أو عمى أو قطع يد أو رجل أو غير ذلك إجماعا واحدا كما يمكن أن يحصى الإجماع حول كل عيب باعتباره مسألة مستقلة.(1/111)
كما أن ما أجمعوا على إبطال إجارته يمكن أن يرد مجملا أو يذكر مفصلا كتحريم إجارة كل منفعة كانت لشيء محرم العين،وتحريم إجارة كل منفعة محرمة بالشرع،وتحريم إجارة كل منفعة كانت فرض عين على الإنسان بالشرع.وكذلك قوله(واتفقوا على إجارة الدور والدواب والناس على الأفعال المباحة)407يمكن أن يعتبر إجماعا واحدا أو ثلاث إجماعات،وقد نحوت التفصيل في الغالب ولم ألتفت أحيانا إلى بعض الشذوذ الواقع عن الإجماع.
ومهما يكن فنحن بهذا الرقم في قضايا الإجماع نبقى بعيدين جدا عن ما قرره أَبُو إِسْحَاق الإسفراييني حين أوصلها إلى عشرين ألف مسألة،يقول صاحب البحر المحيط:( وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في " شرح الترتيب " : نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة . وبهذا يرد قول الملحدة إن هذا الدين كثير الاختلاف , إذ لو كان حقا لما اختلفوا فيه , فنقول : أخطأت بل مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة . ثم لها من الفروع التي يقع الاتفاق منها وعليها , وهي صادرة عن مسائل الإجماع التي هي أصول أكثر من مائة ألف مسألة )408 والذي يظهر أنه يتحدث عن الدين كله وليس عن الفروع الفقهية وحدها.
* مقارنة تقريبية بين "البداية"وعدد من المراجع الأخرى بخصوص عدد
* الإجماعات الواردة فيها:
الكتاب
نوعه
عدد الإجماعات
المدونة للإمام مالك(ت179ه)
فقه مالكي
22
المحلى لابن حزم (456ه)
فقه ظاهري
1046
المنتقى للباجي (474ه)
فقه مالكي
525
المبسوط للسرخسي(ت483ه)
فقه حنفي
155
البداية لابن رشد (ت595ه)
فقه مقارن-مستقل
1034
المغني لابن قدامة(ت620ه)
فقه مقارن-يرجح م الحنبلي
1483
المجموع للنووي(ت676ه)
فقه مقارن،يرجح م الشافعي
1791
أسنى المطالب زكرياء الأنصاري(ت926ه)
فقه شافعي
404
كشاف القناع لمنصور البهوتي(ت1051ه)
فقه حنبلي
570
شرح مختصر خليل للخرشي(ت1101ه)
فقه مالكي
335
الموسوعة الفقهية(الكويتية-معاصرة)
فقه مقارن-من غير ترجيح
2066(1/112)
الإجماع لابن المنذر (ت 318ه)
الإجماع
765
مراتب الإجماع لابن حزم
الإجماع
1058409
فالجدول يعطينا ترتيب الكتب بحسب ما ورد فيها من إجماعات كما يلي:الموسوعة الفقهية،المجموع،المغني،مراتب الإجماع410،المحلى ،البداية،الإجماع411،كشاف القناع،المنتقى،أسنى المطالب،شرح مختصر خليل،المبسوط ، المدونة.
ف"البداية" تحتل المرتبة الخامسة إذا اعتبرنا كتابي ابن حزم شيئا واحدا إذ لا يفصل بين مراتب الإجماع والمحلى سوى إثنى عشر إجماعا.
وأما عن نسبة الإجماعات إلى عدد المسائل إذا استثنينا الكتابين الأخيرين في الجدول باعتبارهما خاصين بموضوع الإجماع وليس عموم المسائل فإننا نجد النتيجة مرتبة كالآتي: المحلى 45.63%،المجموع 36.15% ، البداية 30.41% ،المغني 19.03% ، الموسوعة الفقهية 15.79% ،المنتقى 11.13% ،شرح مختصر خليل 6.72% ،أسنى المطالب 6.52%، المبسوط 1.45% ، المدونة 0.32%.
ف" البداية" تحتل المرتبة الثالثة في نسبة الإجماعات إلى عدد المسائل الواردة في الكتاب بحيث تقارب الثلث.كما نلاحظ أن عدد الإجماعات التي أوردها ابن رشد قريبة جدا من العدد الذي أورده ابن حزم في كتابيه وبعيدة بحوالي الثلث عن العدد الذي أورده ابن المنذر.
ج-مسائل الأحكام المختلف فيها:
من خلال إحصاء مادة: اختلف واختلفوا ، وجدت حوالي 1500 مسألة مختلف فيها ،ويشكل الجزء الأول من الكتاب أي من كتاب الطهارة إلى كتاب الأطعمة والأشربة حوالي 48% من القضايا الخلافية ،والمعاملات المالية حوالي 23% ،والأحوال الشخصية حوالي 12%،وأحكام الحدود والجنايات والقضاء حوالي 9%.(1/113)
غير أن استعراض مادة الكتاب تجعلنا نقف على ما يفوق هذا العدد باعتبار أن ابن رشد في مواضع عديدة يكتفي بذكر المذاهب في المسألة بقوله ذهب فلان إلى كذا وذهب آخر إلى كذا بغير أن يقول اختلف أو اختلفوا ،مما رجح عندي أنها تصل حوالي 2366 وذلك بخصم عدد المسائل المجمع عليها (1034) من عدد المسائل الإجمالية( 3400) انطلاقا من أن المسألة غير المجمع عليها تكون تلقائيا مختلف فيها.و بهذا الاعتبار تفوق المسائل المختلف فيها ثلثي مسائل "البداية".
* مقارنة تقريبية بين "البداية"وعدد من المراجع الأخرى بخصوص عدد القضايا الخلافية الواردة فيها:
الكتاب
نوعه
ع م المختلف فيها
المدونة للإمام مالك(ت179ه)
فقه مالكي
42
المحلى لابن حزم (456ه)
فقه ظاهري
1171
المنتقى للباجي (474ه)
فقه مالكي
974
المبسوط للسرخسي(ت483ه)
فقه حنفي
1250
البداية لابن رشد (ت595ه)
فقه مقارن-مستقل
1500
المغني لابن قدامة(ت620ه)
فقه مقارن-يرجح م الحنبلي
3581
المجموع للنووي(ت676ه)
فقه مقارن،يرجح م الشافعي
2186
أسنى المطالب زكرياء الأنصاري(ت926ه)
فقه شافعي
144
كشاف القناع لمنصور البهوتي(ت1051ه)
فقه حنبلي
67
شرح مختصر خليل للخرشي(ت1101ه)
فقه مالكي
222
الموسوعة الفقهية(الكويتية-معاصرة)
فقه مقارن-من غير ترجيح
7045
فالجدول يعطينا ترتيب الكتب بحسب ما ورد فيها من قضايا خلافية كما يلي:الموسوعة الفقهية، المغني، المجموع، البداية،المبسوط،المحلى،المنتقى،شرح مختصر خليل، ، أسنى المطالب، كشاف القناع ، المدونة. وإذا نظرنا إلى نسبة القضايا الخلافية إلى عدد المسائل في كل كتاب،فتأتي الموسوعة الفقهية في الرتبة الأولى بنسبة 53.85%،يليها المحلى بنسبة 51.09%،ثم المغني بنسبة 45.96%،ثم المجموع بنسبة 44.12%،ثم البداية بنسبة 44.11% ثم المنتقى بسبة 20.66%،ثم مختصر خليل بسبة 4.45%،ثم أسنى المطالب بنسبة 2.32%،ثم كشاف القناع بسبة 0.69%،ثم المدونة بنسبة 0.61%.(1/114)
ف"البداية" هنا تحتل المرتبة الخامسة.و أما إذا أخذنا بالرقم الذي رجحته فستصل النسبة إلى 69.58% .
ولا تخفى أهمية معرفة مسائل الأحكام المختلف فيها، فقد جاء في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال )يا عبد الله ابن مسعود ،قلت لبيك يا رسول الله، قال أتدري أي الناس أعلم؟قلت الله ورسوله أعلم ،قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وان كان مقصرا في العمل ...)412 ثم عقب الشاطبي بعد إيراده للحديث بقوله: (فهذا تنبيه على المعرفة بمواقع الخلاف ،ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف، فعن قتادة :من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه )413.
ولا تفوتنا الإشارة هنا على أننا بصدد الاختلاف المشروع في دين الله،أي الاختلاف المستدل عليه في فروع الفقه،يقول الإمام الخطابي:( والاختلاف في الدين: ثلاثة أقسام، أحدها: في إثبات الصانع ووحدانيته، وإنكار ذلك كفر. والثاني: في صفاته ومشيئته، وإنكارها بدعة. والثالث: في أحكام الفروع المحتملة وجوها، فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء، وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة.)414
وكتب الخلاف صنفان 415 :صنف يجمع الأقوال المتعددة والآراء العلمية المختلفة في المسألة الواحدة فيعرضها تارة بأدلتها وتارة مجردة عن الدليل ،وصنف يعرض لها من حيث نشأتها وأسبابها ،وهذا النوع الأخير قد تأخر التصنيف فيه عن الأول ،كما أنه يمتاز بقلة المؤلفات فيه وقد ذكر منها الدكتور محمد أبو الفتح البيانوني أربع مؤلفات قبل قرننا هذا حيث سيزدهر التأليف فيه أكثر وهي: ( كتاب الانصاف في التنبيه على أسباب الخلاف لأبي محمد عبد الله البطليوسي ( ت 521) وكتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" وكتاب"رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية وكتاب"الإنصاف في بيان أسباب الخلاف " لشاه ولي الله الدهلوي ت 1176هـ وهذه أشهرها416
د. التنبيه على نكت417 الخلاف:(1/115)
لم يكتف ابن رشد بذكر الخلاف الوارد في المسائل كما هو الشأن في معظم كتب الخلاف،وإنما تأتي أهمية الكتاب من هذه الناحية حيث فصل في ذكر أدلة المختلفين والوقوف على الأسباب الكامنة وراء تعدد الآراء والمذاهب،ذلك أن مجرد سرد الأحكام النهائية لكل فريق لا يقدح زناد ملكة الاجتهاد ولا يحقق المقصود من الكتاب.
ومن ضمن حوالي 2366 مسألة مختلف فيها وردت في "البداية" ذكر ابن رشد حوالي2800 سببا من أسباب الاختلاف.و أما عن التباين الواقع بين عدد المسائل المختلف فيها وعدد أسباب الاختلاف فراجع إلى ذكره أحيانا لأكثر من سبب واحد من أسباب الاختلاف للمسألة الواحدة.
* جدول يبين على وجه التقريب أسباب الاختلاف في "البداية" وحجم كل سبب منها:
أسباب الاختلاف
العدد
النسبة المئوية
القياس
429
%15.32
المعنى والتعليل
264
%9.43
اللغة
180
%6.43
الظاهر
177
%6.32
العام
162
%5.79
عمل الصحابي
161
%5.75
حجية الحديث
152
%5.43
المفهوم والمنطوق
107
%3.82
الخاص
102
%3.64
مقاصد
78
%2.79
النص/الرأي
78
%2.79
الاحتمال
63
%2.25
الوجوب والندب
59
%2.11
الناسخ والمسوخ
52
%1.86
اختلاف ألفاظ الحديث
47
%1.68
النص
45
%1.61
التأويل
45
%1.61
النهي
44
%1.57
عدم وجود النص
43
%1.54
التردد بين شيئين
43
%1.54
دليل الخطاب
39
%1.39
العرف/العادة
35
%1.25
الأمر
33
%1.18
المطلق والمقيد
30
%1.07
أفعال النبي ص
30
%1.07
سد الذرائع
28
%1.00
عمل أهل المدينة
27
%0.96
المجمل والمفسر
26
%0.93
اختلاف مبني على اختلاف آخر
26
%0.93
الاستحسان
25
%0.89
المصلحة
21
%0.75
الإباحة
17
%0.61
الاستصحاب
16
%0.57
معارضة الأصول
14
%0.50
التحريم والكراهة
14
%0.50
خاص بغير النبي (ص)
12
%0.43
القراءات
11
%0.39
عدم الاطلاع على الحديث
10
%0.36
خاص به ص
7
%0.25
لمن يوجه الخطاب
6
%0.21
عموم البلوى
6
%0.21
شرع من قبلنا
6
%0.21
خفاء الجهة التي صدر عنها التشريع
6
%0.21(1/116)
فحوى الخطاب
5
%0.18
عمل امصار اخرى غير المدينة
5
%0.18
الحقيقة والمجاز
5
%0.18
عمل الراوي بخلاف ما روى
4
%0.14
مفهوم الخطاب
3
%0.11
لحن الخطاب
1
%0.04
المبهم والمعين
1
%0.04
من خلال الجدول يشكل القياس أعلى نسبة في سبب الاختلاف حيث يصل إلى ربع المسائل أي 15.32% ،وإذا قسمنا هذه الأسباب حسب المجالات فسنجد أعلى نسبة تستأثر بها دلالات الألفاظ ب38.36% متبوعة بالأصول المختلف فيها بما فيها القياس أخذا بعين الاعتبار من لا يقول به كالظاهرية وذلك بنسبة 29.89% متبوعة بأسباب عامة مثل الموقف من تعليل الأحكام والتردد بين شيئين أو أكثر وخفاء الجهة التي صدر عنها التشريع والاختلاف المبني على اختلاف قبله وغيرها بنسبة 15.82% ثم الأسباب الراجعة إلى الأصول المجمع عليها من حيث المبدأ(الكتاب والسنة) بنسبة12.71% واخيرا ما يتعلق بالأحكام التكليفية بنسبة 3.21%.
ه.المسائل المنطوق بها في الشرع:
وهي ليست غير آيات وأحاديث الأحكام، والتي تعتبر من الأصول الأساسية التي يتفرع عنها غيرها من الأصول التابعة لها أو تفاصيل الفروع،ويعتبر كتاب "البداية"من هذه الناحية مصدرا غنيا جامعا لكثير مما يحتاجه الفقيه والمجتهد في مجال الأحكام.
-آيات الأحكام:(1/117)
تشتمل"البداية" على 805 آية بين ما أورده صريحا أو ألمح إليه أو كرره،فالصريح من غير تكرار215 آية وبالتكرار وصل إلى 591 آية ومجموع التلميحات214آية.وقد احتلت سورة البقرة في الصريح منها النصيب الأوفر ب 148آية أي 25.04% ، تلتها سورة المائدة ب 111 آية أي 18.78%، تلتها سورة النساء ب 89 آية أي 15.05%،ثم سورة النور ب30 آية أي 5.07%،ثم التوبة ب 18 آية أي 3.04%، ثم الأنفال ب 17 آية ثم سورة الطلاق ب 16 آية ثم الأنعام ب 13 آية ثم الحج ب 12 آية ثم المجادلة ب 9آيات ثم كل من آل عمران والأحزاب ب 7آيات ثم كل من الأعراف و النحل ب 6آيات ثم كل من سور الفاتحة و مريم والواقعة ب 5 آيات ثم باقي السور بأقل من ذلك والتي يصل عددها مع ما سبق 54 سورة.ويظهر من خلال هذه النسب أن السور الأربعة الأولى تحتوي على ما يقارب ثلثي آيات الأحكام.
* مقارنة تقريبية بين "البداية"وعدد من المراجع الأخرى بخصوص عدد آيات الأحكام الواردة فيها:
الكتاب
نوعه
ع آ الأحكام فيها
المدونة للإمام مالك(ت179ه)
فقه مالكي
160
المحلى لابن حزم (456ه)
فقه ظاهري
1306
المنتقى للباجي (474ه)
فقه مالكي
789
المبسوط للسرخسي(ت483ه)
فقه حنفي
939
البداية لابن رشد (ت595ه)
فقه مقارن-مستقل
805
المغني لابن قدامة(ت620ه)
فقه مقارن-يرجح م الحنبلي
1202
المجموع للنووي(ت676ه)
فقه مقارن،يرجح م الشافعي
571
أحكام القرآن418 للشافعي(ت 204ه)
آيات الأحكام- شافعي
210
أحكام القرآن419 للجصاص (ت 370ه)
آيات الأحكام- حنفي
1567
أحكام القرآن420 لابن عربي (ت553ه)
آيات الأحكام- مالكي
1972
الموسوعة الفقهية(الكويتية-معاصرة)
فقه مقارن-من غير ترجيح
2670(1/118)
فالجدول يعطينا ترتيب الكتب بحسب ما ورد فيها من آيات الأحكام كما يلي:الموسوعة الفقهية ثم أحكام القرآن لابن عربي ثم أحكام القرآن للجصاص ثم المحلى لابن حزم ثم المغني لابن قدامة ثم المبسوط للسرخسي ثم بداية المجتهد ثم المنتقى للباجي ثم المجموع للنووي ثم أحكام القرآن للشافعي ثم مدونة الإمام مالك.وإذا أخذنا أحكام القرآن لابن عربي معيارا باعتبار تخصصه في المجال وأسبقيته التاريخية عن ابن رشد وكونه الأوسع والأكبر بعد الموسوعة الفقهية ضمن كتب الجدول،فإننا نجد النسبة في الكتب التي أوردت المذاهب كما يلي:المحلى ب 66.22% والمغني ب 60.95% والمبسوط ب47.61% والبداية ب 40.82% والمجموع ب 28.95%.والحصيلة أن مادة آيات الأحكام في "البداية" نسبة معتبرة وخصوصا إذا استحضرنا حسن التوظيف والاستثمار.
-أحاديث الأحكام:
أوصل المحققون 421 لكتاب "الهداية في تخريج أحاديث البداية" للشيخ الحافظ أبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري ترقيم المادة الحديثية لكتاب "البداية"إلى 1799 بين ما أورده ابن رشد بشكل صريح أو ألمح إليه أو كرره أو أورده كاملا أو أورد جزءا منه، ولاحظت أن صاحب "الهداية" يورد بعض الأحاديث الموقوفة رغم التزامه في المقدمة بالاكتفاء بالحديث المرفوع حيث قال في مقدمة الكتاب:( واقتصرت فيه على الأحاديث المرفوعة،ولم أتعرض لتخريج الآثار الموقوفة).
ومن ذلك إيراده-ضمن ما خرجه- لقول ابن رشد:( ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه وهو قوله: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا)422.ومثال التلميح الذي أدرج في الترقيم والإحصاء:( واتفقوا في هذا الباب على انتقاض الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي لصحة الآثار في ذلك)423 وكذلك قوله:( اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية والأكثر على أنها غير صحيحة)424 وقوله أيضا :( للآثار التي وردت في المسح)425 .(1/119)
وقد أحصيت أحاديث "البداية" من غير تكرار فوجدتها تصل إلى:1460 ولم أعتبر من التكرار اختلاف الرواية مثل قوله :( وفي بعض رواياته (فليغسلها ثلاثا)426 فأعتبر الأصل وهذه الرواية حديثين أو قوله في موضع آخر:( وفي بعض طرقه :أولهن بالتراب)427 وقوله:(وفي بعضها وعفروا الثامنة في التراب) 428فأعتبر الأصل وهذين الطريقين ثلاثة أحاديث وكذا اختلاف الرواة مثل قوله: (وحديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المرأة تحوز ثلاثة أموال عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه، وحديث مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك خرج جميع ذلك أبو داود وغيره)429 فأعتبرهما حديثين مختلفين حديث واثلة وحديث مكحول ،وكذلك في قوله في حديث ( إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ):( وهو أشهر الأحاديث الواردة في إيجاب الوضوء من مس الذكر خرجه مالك في الموطأ وصححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وضعفه أهل الكوفة وقد روي أيضا معناه من طريق أم حبيبة، وكان أحمد بن حنبل يصححه. وقد روي أيضا معناه من طريق أبي هريرة وكان ابن السكن أيضا يصححه ولم يخرجه البخاري ولا مسلم)430 اعتبرتها ثلاثة أحاديث:حديث بسرة وحديث أم حبيبة وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم ، ولم أعتبر ما كرره كاملا أو أورد جزءا منه إذا جرده من السند.وتبلغ مع التكرار حوالي 1700.(1/120)
وقد وصل المحققان لكتاب "البداية" طبعة دار الكتب العلمية لسنة 1996 علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود في ترقيم أحاديث"البداية"إلى 1224 من غير تكرار.ورغم أنهما خصصا الأحاديث بترقيم متسلسل خاص يتميز عن باقي الهوامش إلا أن الإحصاء لا يبدو مقصودا لهما فقد وجدت أحيانا يعطيان رقما واحدا لعدد من الأحاديث مثل فعليهما عند قول ابن رشد:( وذلك أنه ورد في ذلك ثلاثة أحاديث)431 ولم يعملا على إيرادها في فهرس أطراف الحديث.كما أنه لم يحصيا بعض طرق الحديث مثل قوله في المثال الذي سبق ذكره أي (وفي بعض رواياته:فليغسلها ثلاثا) .
ويحدث أحيانا اختلاف في الاعتبارات فمثلا:اعتبرت في إحصائي قول ابن رشد:(صح أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا) إحالة على الأقل على ثلاث أحاديث،بينما اعتبراه في الإحصاء واحدا.وقريبا مما وجدته انتهى إليه ترقيم عبد اللطيف بن إبراهيم آل عبد اللطيف صاحب (طريق الرشد إلى تخريج أحاديث بداية ابن رشد) حيث وصل إلى 1513 غير أني وجدت فيه بعض التكرار مثل قوله عند رقم 96:(حديث عائشة وحديث أم سلمة رضي الله عنهما تقدما قريبا رقم 90و91 وكلاهما في حديث فاطمة بنت أبي حبيش)432 .(1/121)
وكذلك قوله عند رقم 112:(حديث حمنة بنت جحش تقدم سياقه بطوله وذكر مخرجيه رقم 98)433 كما يورد أحيانا أحاديث موقوفة على الصحابة مثل ما (روى عن عائشة أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء)434 ولاحظت أن صاحب "الهداية" أورده بدوره رغم رده على الشوكاني في رفعه إلى النبي صلى الله عيه وسلم بقوله:(وهو وهم إنما هو قول عائشة) وكأنه بدوره يراه في حكم المرفوع.ومثاله أيضا ما أورده عند رقم319 حيث قال:( أثر ابن عمر رضي الله عنه رواه مالك في الموطأ(أنه كان إذا رعف رجع فتوضأ ولم يتكلم ثم يرجع ويبني)435 وكذا عند رقم488 حيث قال:(أثر عمر رضي الله عنه : إن الله لم يكتب علينا السجود إلا أن نشاء)436
* مقارنة تقريبية بين "البداية"وعدد من المراجع الأخرى بخصوص عدد أحاديث الأحكام الواردة فيها:
الكتاب
نوعه
ع أحاد الأح فيها
المدونة للإمام مالك(ت179ه)
فقه مالكي
335
المحلى لابن حزم (456ه)
فقه ظاهري
1504
المنتقى للباجي (474ه)
فقه مالكي
1708
المبسوط للسرخسي(ت483ه)
فقه حنفي
1618
البداية لابن رشد (ت595ه)
فقه مقارن-مستقل
1700
المغني لابن قدامة(ت620ه)
فقه مقارن-يرجح م الحنبلي
2744
المجموع للنووي(ت676ه)
فقه مقارن،يرجح م الشافعي
2092
مشكل الآثار للطحاوي (ت321ه)437
أحاديث الأحكام-حنفي
559
بلوغ المرام لابن حجر (ت852ه)438
أحاديث الأحكام-شافعي
1610
سبل السلام للصنعاني(ت1182ه)
أحاديث الأحكام-زيدي مستقل
2311
نيل الأوطار للشوكاني(ت 1255ه)
أحاديث الأحكام-زيدي مستقل
2414
الموسوعة الفقهية(الكويتية-معاصرة)
فقه مقارن-من غير ترجيح
4937(1/122)
فالجدول يعطينا ترتيب الكتب بحسب ما ورد فيها من أحاديث الأحكام كما يلي:الموسوعة الفقهية ثم المغني لابن قدامة ثم نيل الأوطار ثم سبل السلام ثم المجموع للنووي ثم المنتقى للباجي ثم بداية المجتهد ثم المبسوط للسرخسي ثم بلوغ المرام ثم المحلى لابن حزم ثم مشكل الآثار للطحاوي ثم مدونة الإمام مالك.وإذا اتخذنا الموسوعة الفقهية معيارا رغم التكرار الكثير فيها فإن "البداية" تحتوي على34.43% من أحاديث الأحكام يفوق بذلك كلا من "المبسوط للسرخسي" الذي يصل إلى32.77% و"بلوغ المرام"الذي يصل إلى 32.61% رغم تخصصه في المجال،وكذا "المحلى" الذي يصل إلى 30.46% و"مشكل الآثار"ب11.32% و"المدونة ب6.78% فقط،وتأتي البداية قريبا جدا من "منتقى الباجي"الذي تخصص في شرح موطأ مالك والذي بلغ 34.59% ويتفوق على البداية كل من "المجموع" ب 42.37% و "سبل السلام"شارح بلوغ المرام ب 46.80% و"نيل الأوطار" شارح منتقى الأخبار439 ب 48.89% و"المغني"ب 55.58%.
-2- قول ابن رشد في موضوع الكتاب:(..أو تتعلق بالمنطوق تعلقا قريبا ، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها ، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد):
ويناسبه في الأصول ما هو قريب من النصوص من مجالات الاجتهاد سواء كان جماعيا كالإجماع وقول عموم فقهاء الأمصار وقول الجمهور أو كان فرديا كالقياس والاستحسان والقول بالمصالح وغيرها، شريطة أن يدور في فلك النصوص وأن لا يبعد في التفريع الذي هو أليق بكتب الفروع كما يكرر صاحب "البداية" مرارا ،كما يناسبه من جهة أخرى أقوال الصحابة وأفعالهم لأنهم (أقعد بفهم الأوامر الشرعية)440 بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب تعبير ابن رشد ، بل قول الصحابي لأمر بأنه (سنة) يجعل قوله في حكم المسند،وأحيانا يجري فعله مجرى التوقيف وخصوصا إذا لم يكن للقياس مدخل في ذلك الفعل.
أعلام ومذاهب "البداية":
أ-الصحابة:(1/123)
صرح ابن رشد في ذكره لمشهورات المسائل في كتابه بأنه يورد ما كان مستندا لصحابي أو سماع،يقول في شأن الاختلاف في تكبيرات العيد:( إنا نذكر من ذلك المشهور الذي يستند إلى صحابي أو سماع)441 ولهذا جاءت "البداية" غنية بأقوال الصحابة وخصوصا أقوال الكبار منهم ،فقد جاء ذكرهم إجمالا (أي قوله:الصحابة أو الصحابي) حوالي126 مرة وأما ببعض التفصيل فقد ورد في البداية 216 من الصحابة أي ما يشكل حوالي ثلث الأعلام الواردة في الكتاب والتي أحصيت فيها 661 علما.فكان من رجالهم 173 ومن نسائهم 43 وقد توزع هذا العدد بين رواة ومتحدث عنهم ومن له رأي،ففي الرواة 98 من الصحابة و15 من الصحابيات والذين تم الحديث عنهم من خلال الأحاديث أو غيرها 66 :45صحابيا و21 صحابية وأما من نقل لهم فقه ورأي فبلغ عددهم :ثلاثين من الصحابة وأربع صحابيات .
وأما الصحابة، فالخلفاء الراشدون :أبو بكر رضي الله عنه ت13ه ذكر 55 مرة و عمر رضي الله عنه ت 23ه ذكر 275 مرة وعثمان رضي الله عنه ت 35ه ذكر 70 مرة وعلي رضي الله عنه ت40ه ذكر 107 مرة .
ثم باقي الصحابة رضي الله عنهم أذكرهم بحسب ما ذكروا في البداية:عبد الله بن عباس ت68ه ذكر 266 مرة وعبد الله بن عمر ت74ه ذكر 164 مرة وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر ت 59ه ذكر 148 مرة وعبد الله بن مسعود ت32ه ذكر 120 مرة وجابر بن عبد الله ت72ه ذكر 108 مرة ثم أنس بن مالك ت92ه ذكر 61مرة وأبو سعيد الخدري ت74ه ذكر 53مرة ،وزيد بن ثابت ت45ه ذكر 36 مرة ورافع بن خديج ت74ه ذكر 25مرة ومعاذ بن جبل ت18ه ذكر 19مرة والمغيرة بن شعبة ت 50ه ذكر 17مرة ومعاوية بن ابي سفيان ت60ه ذكر 15مرة وأبو موسى الأشعري ت 44 وعبد الله بن الزبير ت 78ه ذكرا 14مرة وعمران بن الحصين ت 52ه ذكر 13مرة .(1/124)
وحذيفة بن اليمان ت 36ه وعمرو بن العاص ت43ه ذكرا 9مرات وسعد بن أبي وقاص ذكر 8 مرات والحسن بن علي ت49 ذكر 6 مرات وأبي بن كعب ت30ه ذكر 5 مرات ومحمد بن مسلمة ت 43ه ذكر4مرات و أبي الدرداء عويمر بن زيد ت31ه وأبي ذر جندب بن جنادة الغفاري الحجازي ت32ه و الزبير بن العوام ت 36ه وعبد الله بن عمرو بن العاص ت77ه ذكروا ثلاث مرات وأبو محذورة سمرة بن مِعين ت 59ه والعلاء بن زياد ذكرا مرتين، أبو زيد عقيل بن طالب بن عبد المطلب ت60 ذكر مرة واحدة.
وأما الصحابيات فهن: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ت57ه وذكرت في الكتاب 175مرة،وأم المؤمنين أم سلمة هند بنت أمية بن المغيرة المخزومية ت 59ه وذكرت في الكتاب 35مرة، وأم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية ت50ه ذكرت 19مرة،و أم عطية نسيبة بنت كعب ذكرت 12مرة.).
و تجدر الإشارة إلى أن من سجل له رأي في البداية لم أعتبره في الرواية أو الحديث عنه كما أن من جاء راويا لم أعتبره في المتحدث عنه.
وهذا رسم توضيحي لحجم ذكر آراء الصحابة في "البداية":
فعمر رضي الله عنه جاء ذكره في البداية 15% مقارنة مع باقي الصحابة،وابن عباس 14% وعائشة جاءت في المرتبة الثالثة وكذا ابن عمر ب 9% ثم أبو هريرة ب8% ثم كل من عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وعلي بن أبي طالب ب6% وعثمان ب4% وكل من أنس بن مالك وأبو بكر الصديق وأبو سعيد الخدري ب3% ثم كلا من زيد بن ثابت وأم سلمة ب2%ثم كل من رافع بن خديج ومعاذ بن جبل وميمونة بنت الحارث ب1%..
ب-التابعون:(1/125)
وذكر ابن رشد أقوال من جاء من بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم وجمهور فقهاء الأمصار من باب الأقرب من القريب وإيراد المذاهب والآراء وليس دائما من باب الاستدلال (قال القاضي فهذا هو الذي رأينا أن نثبته في هذا الكتاب من المسائل التي ظننا أنها تجري مجرى الأصول وهي التي نطق بها في الشرع أكثر ذلك أعني أن أكثرها يتعلق بالمنطوق به إما تعلقا قريبا أو قريبا من القريب)442
فمن ضمن 115 من التابعين ورد ذكرهم في البداية نجد 40 منهم له قول أو رأي و68 من الرواة من ضمنهم امرأة هي: فاطمة بنت المنذر وستة متحدث عنهم ،فذكر ابن رشد أقوال وآراء:الحسن بن أبي الحسن البصري ت110 ه ذكره 68مرة،وعطاء بن أبي رباح ت114 ه ذكره 63مرة، وسعيد بن المسيب ت94ه ذكره 42مرة، وابن شهاب الزهري ت 124ه ذكره 34.
وعمر بن عبد العزيز ت101ه ذكره 31 مرة ، وإبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي ت96ه ذكره 22مرة،ومحمد بن سيرين ت110ه ونافع مولى ابن عمر ت117ه ذكرهما 21مرة ،ومجاهد بن جبر ت104ه ذكره 19مرة ،وشريح القاضي ت78 ذكره 18 مرة ، أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان ت106ه ذكره 17 مرة ، عامر بن عبد الله بن شراحيل الشعبي ت103ه و قتادة بن دعامة السدوسي ت115ه أبو عبد الرحمن ربيعة بن فروخ المدني الملقب بربيعة الرأي ت 130ه ذكروا 16مرة ، سالم بن عبد الله بن عمر ت 106ه ذكر 15 مرة ، أبو عبد الله سعيد بن جبير بن هشام ت 95 ذكر 13 مرة ، عكرمة مولى ابن عباس ت 105ه ذكر 12مرة ،وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ت107 ذكر10مرات،وأبو سلمة بن عبد الرحمن ت94 ذكر ثماني مرات،وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري ت107ه ذكر سبع مرات،وعمرو بن دينار ت126ه ومكحول الدمشقي ت112ه ذكرا ست مرات،وأبو بكر بن عبد الرحمن ت 94ه.(1/126)
وأبو عبد الله زيد بن أسلم العدوي المدني ت 136ه ومسروق بن الأجدع ت62ه ذكروا أربع مرات ،وأبو عبد الرحمن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي ت 78ه و القاسم بن محمد ت 105ه و سويد بن غفلة ت80ه و مالك بن دينار ت 117ه ومطرف بن عبد الله بن الشخير ت95ه ذكروا ثلاث مرات، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ت120ه وأبو سعيد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري الخزرجي ت143ه وأبي نضرة العوفي المنذر بن مالك ت109ه.
وجابر بن زيد ت 90ه و حماد بن أبي سليمان ت120ه وعروة بن الزبير ت93ه وقبيصة بن ذؤيب ت 86ه وأبي جعفر محمد بن علي الباقر ت114ه ذكروا مرتين ، وأبو بكر بن عبد الله المزيني ت108ه وإياس بن معاوية ت122ه و ابن أبي مليكة ت117ه وعبيدة السلماني ت63ه و أبو مجلز لاحق بن حميد ت110ه ونافع بن الحارث (قاضي عمر بن الخطاب على مكة) ذكروا مرة واحدة.
وفيما يلي رسم توضيحي لحجم ذكر آراء التابعين:
من خلال تحديد نسب ذكر التابعين نجد الحسن البصري في الصدارة ب14% ثم عطاء بن أبي رباح ب13% ثم سعيد بن المسيب ب9% ثم عمر بن عبد العزيز ب6% ثم كل من إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين ونافع مولى بن عمر ومجاهد بن جبر وشريح القاضي ب4% وكل من طاوس والشعبي وقتادة وربيعة الرأي وسالم بن عبد الله وسعيد بن جبير ب3% ثم كل من عكرمة وسليمان بن يسار وأبو سلمة بن عبد الرحمن ب2% ثم كل من أبي قلابة وعمرو بن دينار ومسروق بن الأجدع ب1%...
ج- أتباع التابعين والفقهاء المستقلون:
وأما من بعدهم من أتباع التابعين والفقهاء وأئمة المذاهب فأذكرهم حسب تاريخ وفاتهم:(1/127)
عثمان بن سليمان البتي ت143ذكر16مرة، عبد الله بن شبرمة الضبي القاضي المعروف بابن شبرمة ت144ه ذكره17مرة، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ت148ه ذكره 66مرة، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ت149 ذكرثماني مرات ، أبو حنيفة النعمان ت150ه ، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي الأزدي ت154ه ذكر 27مرة، وسوار بن عبد الله القاضي ت156ه ذكر مرتين، ، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ت157ه ذكره108مرة، سفيان الثوري ت161ه ذكره 224مرة ، الليث بن سعد ت164ه ذكره 81مرة، عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ت164ه ذكره أربع مرات.
عبيد الله بن الحسن العنبري ت168ه ذكره مرة واحدة، أبو عبد الله الحسن بن صالح بن حيي الكوفي ت169ه ذكره تسع مرات، شريك بن عبد الله النخعي ت 177ه ذكر أربع مرات، مالك بن أنس ت179ه، عبد الله بن المبارك ت181ه ذكره سبع مرات، أبو البشر إسماعيل بن إبراهيم بن علية الأسدي ت193ه ذكره ست مرات، سفيان بن عيينة ت 198ه ذكره ثلاث مرات، محمد بن إدريس الشافعي ت204ه، عيسى بن دينار الأندلسي ت 212ه ذكره مرة واحدة، عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الهمداني الخريبي ت213ه ذكره مرة واحدة، وجنادة بن محمد بن أبي يحيى المري الدمشقي ت226ه ذكره مرة واحدة.
أبو ثور ت 240ه ذكره 176مرة ، أحمد بن حنبل ت241ه، أبو سليمان داود بن علي بن داود الظاهري ت270ه ذكره160مرة، ابن جرير الطبري ت310ه ذكره 17 مرة، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر ت318ه ذكره 32مرة، الحسن بن محمد التميمي صاحب كتاب الإنصاف ذكره مرة واحدة،سعيد بن مالك فقيه ذكره مرة واحدة.
د-أتباع المذاهب:
وأما من جاء بعد هؤلاء من أتباع المذاهب بعد أن فشا التقليد،فيمكن الوقوف عليهم من خلال استعراض المذاهب الواردة في البداية:(1/128)
1-المذهب المالكي:وهو أكثرها حظا في الكتاب حيث وردت مادة مالك/مالكية :2453 مرة،وإذا أضفنا ذكر فقهاء المذهب فإن العدد يصل إجمالا إلى 3094 مرة.وأما بالتفصيل فسأذكرهم بحسب حجم التكرار: أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم صاحب المدونة ت 191ه ذكر 198مرة، أشهب بن عبد العزيز بن داود المصري ت204ه ذكر 84مرة، أبو عمر بن عبد البر ت 363ه ذكر 73مرة. عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ت212ه ذكره 61مرة، عبد الله بن وهب ت 197ه ذكر 26 مرة، عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون الأندلسي صاحب الواضحة ت 238ه ذكر 24 مرة،سحنون بن سعيد ت 240ه وأبو محمد عبد الوهاب القاضي ت 362ه ذكرا 19مرة،محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ت 268ه ذكره 16 مرة.
أبو مصعب مطرف بن عبد الله بن مطرف ت220ه ذكر 13مرة، أصبغ بن الفرج ت 225ه ذكر 12 مرة،محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام المالكي المديني ت 216ه ومحمد بن المواز ت 245ه والمغيرة المخزومي من أصحاب مالك ذكروا تسع مرات .عبد الله بن نافع الصائغ ت 206ه ذكره ثماني مرات.أبو عمر عثمان بن عيسى بن كنانة المدني ت 186ه ذكره سبع مرات، علي أبو الحسن بن محمد الربعي المعروف باللخمي ت 498ه وأبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد ت520ه ذكرا ست مرات.
إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم القاضي ت282ه ذكر خمس مرات، أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير الليثي البربري المصمودي الأندلسي ت234ه وأبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان المصري ت355ه ذكرا أربع مرات، محمد العتبي بن أحمد بن عبد العزيز ت 255ه وأبو الحسن بن القصار ت 297ه ومحمد بن يحيى بن عمر بن لبابة الأندلسي صاحب المنتخبة ت214ه وأبو الوليد الباجي ت474ه ذكروا ثلاث مرات.ومحمد بن أحمد بن سهل البرمكي و يحيى بن عبد الله بن بكير المصري ت375ه ذكرا مرتين.(1/129)
أبو تمام المالكي ت256ه وأبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان المصري ت305ه يحيى بن عبد الله بن بكير المصري ت331ه وعبد الله بن الحسن بن سعدويه ت 350ه وأبو القاسم عبيد الله بن الحسن بن الجلاب صاحب الأبهري وصاحب التفريع ومسائل الخلاف ت378ه وأبو بكر بن رزق ت477ه ومحمد بن النوار وأبو الحسن طاهر بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري الشاطبي ت484ه وأبو بكر الطرطوشي ت 520ه وأبو عبد الله المازري ت 536ه ذكروا مرة واحدة
2-المذهب الشافعي:وردت في الكتاب مادة شافعي/ شافعية:1469 مرة،وإذا أضفنا ذكر فقهاء المذهب فإن العدد يصل إجمالا إلى 1499 مرة.وأما بالتفصيل فسأذكرهم بحسب حجم التكرار: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري ت264ه ذكر 16 مرة، أبو حامد الغزالي ت505 ه ذكر ست مرات، أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج القاضي ت306ه و أبو المعالي الجويني ت478ه ذكرا ثلاث مرات، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي صاحب معالم السنن ت388ه و أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر الدقاق ت 392ه و أبو بكر الباقلاني ت 403ه ذكروا مرة واحدة.
3-المذهب الحنفي:وردت في الكتاب مادة حنيفة/ حنفية/أحناف:1252 مرة،وإذا أضفنا ذكر فقهاء المذهب فإن العدد يصل إجمالا إلى 1422مرة.وأما بالتفصيل فسأذكرهم بحسب حجم التكرار: محمد بن الحسن الشيباني ت189ه ذكر73 مرة،القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ت 182ه ذكر 49 مرة ،زفربن الهذيل العنبري ت158ه ذكر21 مرة، أبو جعفر الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي المصري ت 321ه ذكر 17 مرة، أبو عبد الله الحسن بن صالح بن حيي الكوفي ت 169ه ذكر تسع مرات، أبو زيد عبد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي ت 430ه ذكر مرة واحدة.(1/130)
4-المذهب الظاهري:وردت في الكتاب مادة أهل الظاهر/الظاهرية:175مرة،ثم ذكر إمام المذهب أبو سليمان داود بن علي بن داود الظاهري الذي توفي 270ه 160مرة،و أبو محمد بن حزم ت456ه ذكر 26 مرة، أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الظاهري ت 324ه ذكر مرة واحدة.فيصل العدد الإجمالي بذلك إلى 362مرة.
5-المذهب الحنبلي:وردت في الكتاب مادة أحمد بن حنبل/حنبلي/حنابلة:251 مرة،يضاف إلى ذلك ذكر أحد فقهاء المذهب مرتين وهو أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ المعروف بالأثرم صاحب السنن 230ه ليصل العدد إجمالا إلى 253مرة.
6-مذاهب الخوارج والشيعة:
وأما عن المذهب الخارجي فلم ترد الإشارة إليه في الكتاب بشكل صريح غير مرتين وبشكل إجمالي من غير ذكر لمن ذهب منهم إلى الرأي المذكور،المرة الأولى عند قول ابن رشد: (يمنع فعل الصوم لا قضاؤه وذلك لحديث عائشة الثابت أنها قالت كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة وإنما قال بوجوب القضاء عليها طائفة من الخوارج)443 والمرة الثانية في حد السرقة حيث قال في اشتراط النصاب:
( وذلك أن الجمهور على اشتراطه إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال القطع في قليل المسروق وكثيره لعموم قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما الآية وربما احتجوا بحديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وبه قال الخوارج وطائفة من المتكلمين)444 كما ألمح إليهم ثالثة في معرض تعليقه على قول القائلين بقتل تارك الصلاة من غير جحود بقوله: (ولذلك صار هذا القول مضاهيا لقول من يكفر بالذنوب)445وفي موضع آخر قريب من هذا في حديثه عن اختلافهم في القول بالتكفير بالذنوب حيث قال:(لكن ليس هذا مذهب أهل السنة فلذلك ليس ينبغي أن يمنع الفقهاء الصلاة على أهل الكبائر)446(1/131)
والشيعة بدورهم لم يذكروا غير مرة واحدة عند قوله في الميراث:( وخالفت الشيعة في ذلك فقالت لا ترث بنت الابن مع البنت شيئا كالحال في ابن الابن مع الابن)447
وإذا نظرنا إجمالا إلى ذكر فقهاء الأمصار والمذاهب التابعة لبعضهم،نجد المذهب المالكي يحتل الصدارة بنسبة 32% من مجمل الآراء المذكورة في "البداية"وإذا استثنينا الصحابة والتابعين فنجده يحتل41% ويليه في الرتبة المذهب الشافعي الذي يصل 15% من مجمل الآراء و20% مع استثناء ما سبق،ثم يليه المذهب الحنفي بنسبة 14% من مجمل الآراء و19% مع الاستثناء.وبعده المذهب الظاهري بنسبة 4% والتي تصل إلى 5% مع الاستثناء، ثم بعده المذهب الحنبلي بنسبة واحدة في الحالتين والتي تصل إلى 3% ويصل سفيان الثوري إلى 3% أيضا ويصل أبو ثور إلى 2% وكل من الأوزاعي والليث بن سعد وابن أبي ليلى 1% وابن المنذر 0.43 % والقاسم بن سلام 0.36% وابن شبرمة والطبري 0.22% وعثمان البتي 0.21% وابن جريج 0.10% وابن المبارك 0.09% وابن علية 0.08% وشريك ومذهب الخوارج 0.05% والشيعة 0.01%...
وهكذا نجد هؤلاء العلماء والفقهاء مثلوا مختلف الأمصار:
فمن المدينة:أبو بكر ،وعمر،وعثمان،وزيد بن ثابت،وأبي بن كعب،وأم المومنين عائشة،وجابر بن عبد الله،وعبد الله بن عمر، سليمان بن يسار،وابن شهاب الزهري،وربيعة الرأي، قبيصة بن ذؤيب،ويحيى بن سعيد الأنصاري،وعبد الله بن نافع الصائغ،أبو بكر بن عبد الرحمن،عبد العزيز بن عبد الله بن سلمة الماجشون،عروة بن الزبير، أبي جعفر محمد بن علي الباقر، سعيد بن المسيب ،القاسم بن محمد،سالم بن عبد الله بن عمر، أبي سلمة بن عبد الرحمن، نافع مولى ابن عمر،أبي سلمة بن عبد الرحمن ،أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، الإمام مالك، أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم ،و محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام المالكي المديني..(1/132)
ومن مكة:عبد الله بن عباس،عبد الله بن الزبير، عطاء بن أبي رباح،أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان ،مجاهد بن جبر،عمرو بن دينار،عبد الله بن أبي مليكة،نافع بن الحارث،عكرمة مولى ابن عباس، سعيد بن جبير،عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، سفيان بن عيينة،محمد بن إدريس الشافعي...
ومن الشام: معاذ بن جبل ،أبي الدرداء عويمربن زيد،مكحول، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، ،جنادة بن محمد بن أبي يحيى المري الدمشقي..
ومن الكوفة: علي بن أبي طالب ،عبد الله بن مسعود، المغيرة بن شعبة،عبد الله بن أبي أوفى، عبد الله بن شبرمة،سليمان بن مهران الأعمش ،مسروق بن الأجدع، إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي،ابن مجلز،أبو عبد الله الحسن بن صالح بن حيي الكوفي،أبو عبد الرحمن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي..
ومن البصرة: عمران بن الحصين،معقل بن يسار الأشجعي،أبو موسى الأشعري ،جابر بن زيد،سفيان الثوري ،عبيد الله بن الحسن العنبري،أبو البشر إسماعيل بن إبراهيم بن علية الأسدي،عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الهمداني الخريبي، أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري ،الحسن بن أبي الحسن البصري ،محمد بن سيرين، مطرف بن عبد الله بن الشخير،قتادة بن دعامة،إياس بن معاوية،سوار بن عبد الله القاضي، محمد بن النوار..
ومن بغداد وباقي العراق:أحمد بن حنبل، أبو سليمان داود بن علي بن داود الظاهري،أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد التميمي الأبهري البغدادي، وأبو القاسم عبيد الله بن الحسن بن الجلاب صاحب الأبهري ، إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم القاضي المالكي البغدادي، محمد بن أحمد بن سهل البرمكي ،محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي ،عبد الله بن الحسن بن سعدويه..(1/133)
ومن مصر: عمرو بن العاص،عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن وهب ،يحيى بن عبد الله بن بكير المصري ،أشهب بن عبد العزيز بن داود المصري ،أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري،أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان المصري، علي أبو الحسن بن محمد الربعي المعروف باللخمي، أبو جعفر الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي المصري..
ومن الأندلس والغرب الإسلامي عموما: عيسى بن دينار الأندلسي ،محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة الأندلسي ،أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير الليثي البربري المصمودي الأندلسي،عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون الأندلسي ،أبو عمر بن عبد البر، أبو محمد بن حزم ،أبو الوليد الباجي ،أبو بكر بن رزق ،أبو الحسن طاهر بن مفوز،أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد ،أبو عبد الله المازري ،أبو بكر الطرطوشي (الأندلسي ولادة المصري إقامة ووفاة)، أبو بكر بن صفور..
أهل الحديث في"البداية":
كثير ممن سبق ذكرهم من أهل الآراء والمذاهب هم من أهل الحديث أيضا وخصوصا المتقدمين منهم، حيث كان يمزج قسم مهم من الصحابة والتابعين بين الرواية والدراية،وسأكتفي هنا بذكر من لم يرد في "البداية" غير راو للحديث أو له رأي معتبر في الجرح والتعديل، مع بعض الاستثناءات اليسيرة ممن ورد في الآراء وكذا في أهل الحديث والرواية .
بلغ مجموع الرواة والمحدثين في "البداية" 252 ،بلغ منهم من رواة الصحابة 114 ،ستة عشر من النساء و98 من الرجال،وأكتفي هنا بذكر من ذكر في الكتاب أكثر من عشر مرات وهم:عمرو بن شعيب ت 118ه ذكر 34 مرة، وعبادة بن الصامت ت 34ه ذكر 19مرة وسمرة بن جندب الفزاري ذكر 18مرة، وفاطمة بنت حبيش ذكرت 14مرة،وعمار بن ياسر ت 37ه ذكر 13 مرة ،وأبو عبد الله ثوبان ت54ه ،وأبو قتادة الأنصاري ت54ه ،وعقبة بن عامر ت 58ه ذكروا 12مرة ،وعمرو بن حزم ت51ه وأم المؤمنين حفصة بنت عمر ت41ه ذكرا عشر مرات..(1/134)
وأما عن باقي النساء فأم حبيبة بنت جحش ذكرت تسع مرات،وفاطمة بنت قيس ذكرت ثماني مرات،وأم هانئ ذكرت ست مرات،وأسماء بنت أبي بكر ت 73ه ذكرت ثلاث مرات،وبسرة بنت صفوان،وضباعة بنت الزبير،وزينب بنت جحش ت 20ه،وأم المومنين جويرية بنت الحارث،وأم الفضل بنت الحارث،وأم كرز الكعبية،والربيع بنت معوذ،وخولة بنت مالك بن ثعلبة،وليلى بنت قائف الثقفية،وميمونة بنت سعد ذكرن مرة واحدة.وتجدر الإشارة إلى أن الأربعة المذكورات في أصحاب الآراء أغزر رواية: أي عائشة،وأم سلمة ،وميمونة بنت الحارث،وأم عطية نسيبة،وخصوصا منهن الأولى والثانية.
وأما عن المحدثين وأهل الجرح والتعديل فجاءت أحوالهم في "البداية" كما يلي: مسلم ت261 ه ذكر 130مرة والبخاري ت256ه ذكر 123مرة وقد اعتبرت في هذا الإحصاء ما ذكره ابن رشد من الأحاديث المتفق عليها ،ومن المؤكد أن الأحاديث الواردة في "البداية" والموجودة في صحيحيهما أكثر من ذلك بكثير باعتبار قول ابن رشد:( ومتى قلت ثابت فإنما أعني به ما أخرجه البخاري أو مسلم أو ما اجتمعا عليه )448 وقد أحصيت ما قال فيه ثابت وثبت فوجدت 268مرة غير أنه لا يمكن حسم نصيب كل منهما إلا بتحقيق جميع الأحاديث وهو الأمر الذي تخصصت فيه بعض التصانيف449 ثم بعدهما أبو داود ت 275ه ذكر 106مرة ثم مالك ت179ه ذكر بصفته محدثا 95مرة.(1/135)
ثم الترمذي ت 279ه ذكره 38مرة،ثم ابن شهاب الزهري ت124ه ذكر بصفة التحديث 34 مرة ،أبو عمر بن عبد البر ت363ه ذكر بصفة التحديث 15 مرة،أحمد بن حنبل ت241ه ذكر محدثا 11مرة،النسائي ت303ه ذكر عشر مرات، عبد الرزاق بن همام الصنعاني ت211ه ذكر تسع مرات،الشافعي ت204ه ذكر محدثا ثماني مرات، أبو بكر بن أبي شيبة ت235ه ذكر خمس مرات،سفيان الثوري ت160ه ذكر محدثا خمس مرات، أبو محمد بن حزم456ه ذكر محدثا أربع مرات، زهير بن محمد بن قمير المروذي258ه و شعبة بن الحجاج 160ه و يحيى بن معين ت203ه ذكروا ثلاث مرات ، إسحاق بن راهوية ت 238ه وأبو جعفر الطحاوي ت321ه.
و سليمان بن مهران الأعمش ت 147ه ذكروا مرتين، أبو حنيفة محدثا ت150ه وأبو محمد عبد الرحمن بن أبي الزناد ت174ه ووكيع بن الجراح الكلابي ت197ه أبو بكر بن صفور والدارقطني ت385ه وأبو الحسن طاهر بن مفوز ت 484ه وأبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر محدثا ت318ه و أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي محدثا 157ه والليث بن سعد محدثا ت164ه وأبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن ت353ه الطبري ت310ه وسفيان بن عيينة ت198 ه ذكروا جميعا مرة واحدة.
وبهذه الجولة في مادة "البداية" يظهر بحق أنها جوهرة العقد في الكتب التي اهتمت بالخلاف الواقع بين المذاهب الفقهية حيث جمع فيه ابن رشد إلى ذكر أسباب اختلاف الفقهاء عرض الخلاف من لدن الصحابة إلى أن فشا التقليد مع ذكر الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها ، فجاء الكتاب غنيا في موضوعه بآيات الأحكام وأحاديث الأحكام ومواضع الإجماع ومختلف أنواع الأقيسة الرائجة بين الفقهاء ودلالات الألفاظ والمصادر الأصولية الأخرى.(1/136)
ومزج فيه ابن رشد الفقه والأصول بشكل لم يسبق إليه-فيما أحسب - مستعرضا مجمل الأبواب على عادة الفقهاء .فجاء الكتاب فريدا في بابه نافعا في مادته ممتعا في منهجه شغل به الناس الى الآن وخصوصا مع بداية هذا القرن الميلادي حيث نظر إليه كأحد أدوات التجديد ومظنة قدح زناد النظر والاجتهاد،و لا يزال هو المرجع المعتمد في الخلاف العالي في كثير من الجامعات الإسلامية وبخاصة فروع التشريع والفقه المقارن والقانون .وهوامش مؤلفات المحدثين في مباحث الشريعة خير دليل على أهميته واعتماده والشغف به إذ لا يكاد يخلو منه كتاب.
أقوال العلماء فيه:
قال فيه أبو عبد الله محمد بن يوسف بن زمرك (ت793هـ)بعد وفاة ابن رشد بما يقرب من مائتي عام:
أمولاي قد أنجحت رأيا وراية ولم تبق في سبق المكارم غاية
فتهدي سجاياك ابن رشد نهاية وان كان هذا السعد منك بداية
سيبقى على مر الزمان مخلدا450
وقال عنه ابن الآبار :( ولا يعلم في فنه أنفع منه ولا أحسن مساق )451 وذكره المقري وقال عنه : كتاب جليل معظم معتمد عليه عند المالكية 452 وفي موضع آخر يذكر الكتب المعتمدة في زمانه:453
(وأما الفقه فالكتاب المعتمد عليه الآن الذي ينطلق عليه اسم الكتاب عند المالكية حتى بالإسكندرية فكتاب التهذيب للبراذعي السرقسطي وكتاب النهاية لأبي الوليد بن رشد كتاب جليل معظم معتمد عليه عند المالكية وكذلك كتاب المنتقى للباجي )وقال مخلوف: (صاحبه أجاد فيه وأفاد)454 وذكره ابن فرحون وقال:( أفاد وأمتع به ولا يعلم في وقته أنفع منه ولا أحسن سياقا)455(1/137)
وقال فيه العباس ابن ابراهيم : ( له تصانيف جليلة منها كتاب"بداية المجتهد ونهاية المقتصد"في الفقه ،أعطى فيها أسباب الخلاف وعلل ووجه فأفاد وأمتع به ولا يعلم في حينه أنفع منه ولا أحسن مساقا)456 ،وقال عنه ناسخه :أحمد بن محمد بن المهدي المدغري القاضي وقته بمكناسة الزيتون عام 1260هـ (أثبت فيه مسائل الخلاف والوفاق ونسبه فيه على نكت الخلاف فهو كتاب عظيم فضل مؤلفه جسيم )457
وقال عنه محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي (ت 1376هـ) عند ذكره لابن رشد في الفكر السامي : ( له بداية المجتهد المطبوعة المتداولة دالة على باع وكمال اطلاع على اختصارها وبدايته نهاية غيره)458 ولا غرابة بعد ذلك أن يجعله من الكتب المعينة على الاجتهاد ،قال: ( ومن الكتب التي تعين على الاجتهاد جدا أحكام ابن عربي..وأحكام الجصاص الحنفي... وكتاب بداية المجتهد لابن رشد..)459 ولعلها من الكتب التي اقترحها لإصلاح القرويين عندما كان على راس وزارة العلوم والمعارف المغربية أيام المولى حفيظ.460.
و قد ذكر لي مجموعة من العلماء المغاربة منهم : الأستاذ المنوني رحمه الله و الشيخ عبد الله بن الصديق رحمه الله و الأستاذ الغازي الحسيني و الشيخ المكي الناصري رحمهم الله أن كتاب البداية بقي مغمورا _نسبيا_ إلى أن تقرر تدريسه في القرويين حوالي 1930 في إطار الإصلاح و تدريب الطلاب على الخلاف العالي، و ذكر الشيخ عبد الله بن الصديق أنه عندما التحق بالقرويين كان الشيخ بلعربي العلوي يدرس "البداية" بها .
وقرضه الشيخ محمد أحمد عرفة بكلمة عند تمام طبعته الأولى بمصر سنة 1329هـ مخاطبا مؤلفه :خلفت( آثارا جعلت لك مقعد صدق في كل نفس(...) وهذا كتابك قد خالط أجزاء النفس وهش إليه الحس(...)وأنشد يقول:
كأن خلال أسطره بحارا تدفق بالمعرفة بعد رمسي.
كتاب حاكه ابن رشد وأخرج آية في كل درس
ومزق من ظلام الشك ثوبا كما طرد الدجنة ضوء الشمس461(1/138)
وأوردها احد الشعراء في ثنايا مدح أحد ملوك بني مرين فقال:
( أمولاي قد أنجحت رأيا وراية ولم تبق في سبق المكارم غاية فتهدي سجايا كابن رشد نهاية وإن كان هذا السعد منك بداية
سيبقى على مر الزمان مخلدا)462
ويقول برونشفيك:وهو أحد المهتمين بالجانب الفقهي عند ابن رشد ،عن "البداية" بأنها ( جديرة حقا بكل اهتمام إذ هي تمثل أكمل نموذج لتطبيق أصول الفقه تطبيقا منهجيا على كامل أبواب الفقه السني463 يعتمدها الفقيه كالمعيار وكالمرجع للبيان والتأويل)464 ويعتبر أن عمل ابن رشد في البداية يناسب إلى حد بعيد ما تسعى إليه بعض الدول الإسلامية من استنباط الأحكام بمقارنة المذاهب المختلفة ،وأنه قدم نقدا تاريخيا متجاوزا لعصره لنسق فقهي قد اكتمل بنيانه واستقر أمره.465
وإذا كان غير مسلم ما يقال بان المؤلف الوحيد الذي أنتجه المغاربة في الفقه المقارن هو "البداية "ولا مشاركة لهم بغيره،فاني أميل - مع افتراض صحة هذا الادعاء-إلى اعتباره كافيا في بابه وأزعم أنه يشبه في علم الخلاف كتاب"الرسالة" للشافعي في علم الأصول ،وكتاب "الموافقات"في علم المقاصد ،وليس الشبه هنا من حيث النشأة والاختراع وإنما من جهة الأهمية والتنظيم والإبداع والقصد إلى مفاتيح الاجتهاد .
فهو كتاب ( عز نظيره فلم يؤلف أحد على منواله على الإطلاق ،فهو الكتاب الوحيد الذي جمع أصول الفقه واستشهد عليه بفروعه،فهو كتاب فقه وأصول في نفس الوقت معروض بطريقة ميسرة مفصلة ،من أراد الاجتهاد فعليه بدراسة هذا الكتاب ومن أراد الاقتصار على كتاب واحد يغنيه عن عشرات الكتب في الأصول والفقه فعليه أيضا بهذا الكتاب(...)فللكتاب من اسمه الحظ الأوفى والنصيب الوافر)466
وقال فيه صاحب البدر الطالع وهو ينظم شعرا في الإمام الصنعاني:467
وحين لقيته بادى بداء بوقت مثل إبهام القطاء
لقيت به الأئمة في فنون بفرد الشخص متحد الرواء
ففى علم الكلام أبا على وفى علم اللغات أبا العلاء(1/139)
وفي التصريف عثمان بن جنى وفي النحو المبرد والكسائى
وجار الله في علم المعانى وإبراز النكات من الخفاء
وابن كثير الشيخ المعالى من التفسير خافقة اللواء
وزين الدين في التحديث حفظا لإسناد ومتن ذا وكاء
ويحيى في الرجال بنقد قول جرى فيه بصفو أو جفاء
وفي التاريخ والأخبار جماعها الذهبى فهاق الاناء
وفي الفقه ابن رشد من تحلت نهايته بحسن الابتناء.
المبحث الثالث
مصادر البداية
أصل مادة الكتاب:
إذا قمنا بتفكيك مادة "البداية" سنقف على عناصر مختلفة من أصول متعددة ترجع إلى كتاب الله عز وجل و كتب الحديث والسنن و كتب الفقه والخلاف و كتب أصول الفقه بالإضافة إلى مصادر يصعب ضبطها مثل الثقافة الشخصية لابن رشد وتكوينه العلمي والفلسفي ورصيده اللغوي والأدبي وتأثير البيئة المحيطة به اجتماعيا وسياسيا وغيرها من العوامل المشتبكة.
"الاستذكار"أم مصادر"البداية"وأصل مادتها:
قبل تفصيل الكلام في مصادر "البداية" ، لا بد من الوقوف على ما صرح به ابن رشد بخصوص مصادره في هذا المجال، فقد قال رحمه الله في آخر كتاب الطهارة وقبل أن يشرع في الصلاة:( فهذا هو الذي رأينا أن نثبته في هذا الكتاب من المسائل التي ظننا أنها تجري مجرى الأصول وهي التي نطق بها في الشرع أكثر ذلك أعني أن أكثرها يتعلق بالمنطوق به إما تعلقا قريبا أو قريبا من القريب وإن تذكرنا لشيء من هذا الجنس أثبتناه في هذا الباب وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتاب الاستذكار وأنا قد أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه والله المعين)468(1/140)
فهو بهذا التصريح يفرض على الباحث في مصادر مادة كتابه،الرجوع بداية إلى "الاستذكار" قبل الحكم برجوعه إلى أي مصدر من المصادرالأخرى ،وفي الوقت نفسه يجعل الحسم صعبا في بعض المواطن التي يتشابه فيها النقل بين ابن عبد البر(ت463ه) وابن رشد، فيما يرجح أن تكون مصادر مشتركة،غير أن تقدم الأول والنقل الكثير للثاني عنه يغلب رجحان مصدرية "الاستذكار"على الاستقلال بالإطلاع على المذاهب والأقوال إلا ما تأكد مجيئه بعد ابن عبد البر.
ويستحسن ذكر بعض المصادر التي صرح بها ابن عبد البر في "الاستذكار" باعتبارها مصادر بشكل ما لابن رشد ومنابع غير مباشرة للبداية.فابن عبد البر يحيل لمن أراد التوسع والتفصيل بالرجوع إلى كتبه فذكر منها: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد469 والذي قال فيه ابن حزم هو كتاب في الفقه والحديث ولا أعلم نظيره470 ،وهو أصل مادة "الاستذكار"الذي يعتبر مختصرا له. وكتاب الإنصاف فيما بين العلماء في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم من الاختلاف471، وكتاب جامع بيان العلم وفضله472، وكتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب473، وكتاب الإشراف على ما في أصول فرائض المواريث من الاجتماع والاختلاف474، وكتاب اختلاف أقوال مالك وأصحابه475، وكتاب الكافي في فقه أهل المدينة476.
وكتاب بهجة المجالس وأنس المجالس477، كتاب الأجوبة عن المسائل المستغربة من كتاب البخاري478،وكتاب واضح السنن479،وكتاب له في الأصول480، وكتاب البيان عن تلاوة القرآن481و كتاب الكنى482،و كتابه الدرر في اختصار المغازي والسير483،وأما المؤلفات الأخرى التي ذكرها ابن عبد البر في الاستذكار لغيره من المؤلفين :فأحكام القرآن للشافعي484 وأحكام القرآن لإسماعيل القاضي المالكي485 وأحكام القرآن للطحاوي486 وأحكام القرآن لأبي يحيى زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي الشافعي487 وذكر من الأعلام أيضا(يحيى بن سلام الإمام صاحب التفسير)488 .(1/141)
ويظهر من كلام ابن عبد البر بل ومن تكوينه ومؤلفاته أنه اطلع على كتب الصحيح كلها حيث يقول في حديث:( وخرجه أهل الصحيح كلهم )489 ومنها صحيح البخاري 490 وصحيح مسلم491 وصحيح ابن حبان492 وكذا كتب السنن ومنها سنن الترمذي493 وكذا كتاب العلل له494 وسنن أبي داود495 والمجتبى للنسائي496 والسنن الكبرى للدارقطني497 وكتاب العلل له498 والمؤتلف والمختلف له أيضا499 واعتمد ما خرجه أهل التصنيف في ( المسند )500 مثل قوله:( وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في المسند)501 وكذا مسند بن أبي شيبة502 ومسند أبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري البزار503 ومسند الحميدي504 ومسند الطيالسي505 ومسند ابن الجعد506 وكذا المصنفات مثل مصنف هذا الأخير507 .(1/142)
ومصنف عبد الرزاق 508 وقال عن الترمذي أيضا وقد ذكر أبو عيسى الترمذي في المصنف)509 و(جامع) سفيان الثوري510 و تهذيب الآثار للطبري511 والمنتقى لابن الجارود512 وكتاب ( غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلام513 وما ذكره بن أبي الدنيا514 وذكر كتبا لكل من : أحمدبن شعيب و أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي 515 وابن قتيبة516 وابن المنذر517 وابن السكن518 ووكيع بن الجراح519 ،وما رواه سنيد في (كتابه الكبير)520 وكتاب أحمد بن زهير521 وما ذكره أبو زيد عمر بن شبة522 وما حدثه به: أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي 523 و خلف بن قاسم 524 و أبو زكريا يحيى بن محمد بن يوسف الأشعري525 و محمد بن إبراهيم526 ومحمد بن المثنى527 و محمد بن عبد الله بن حكيم528 و أبو عثمان سعيد بن نصر وإبراهيم بن شاكر529 و عبد الوارث بن سفيان530 و أحمد بن فتح531 و عبد الرحمن بن يحيى532 و أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن533 و عبد الله بن محمد بن أسد534 و أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن التاهوتي535 ومحمد بن عبد الملك536 و أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد537 و خلف بن سعيد538 و عبد الله بن محمد بن يوسف539 و وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد540 و يحيى بن يوسف541(1/143)
و أحمد بن عمر542 و أحمد بن قاسم بن عيسى543 و علي بن إبراهيم بن حمويه544 و محمد بن خليفة545 و أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد546 ومن نماذج مروياته قوله:( أخبرنا سهيل بن إبراهيم إجازة547 وقوله أيضا:( أخبرنا أبو عبد الله عبيد بن محمد قراءة مني عليه سنة تسعين وثلاثمائة في ربيع الأول قال أملت علينا فاطمة بنت الريان المستملي في دارها بمصر في شوال سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة قالت حدثنا...)548 وغير هؤلاء كثير.وأورد رواية وحيدة لأبي الدنيا قال:( وذكر بن أبي الدنيا قال حدثنا خالد بن خداش قال سمعت مالك بن أنس يقول بلغني أن أرواح المؤمنين مرسلة تذهب حيث شاءت )549 ورجع إلى كتاب الضعفاء للبخاري550 والضعفاء للنسائي551 واعتمد تاريخ ابن معين (رواية عثمان الدارمي)552 والتاريخ الكبير للخطيب البغدادي553 و تاريخ البخاري554 وتاريخ خليفة بن خياط555 وما ذكره الواقدي556 وما ذكر طاوس أن ذلك عنده في كتاب النبي557 وما ذكره ابن سعد558 وكذا الفاكهي في كتابه أخبار مكة559
وأما في أصول الفقه فالإضافة إلى إشارته لكتابه في الموضوع الذي أوردناه سابقا ذكر أحد من أكثر النقل عنهم بواسطة بقوله :( وقد أفرد لها -يقصد بعض آثار التابعين وغيرهم من السلف-أحمد بن خالد - رحمه الله - وكان أعلم رجل بالأندلس جمع علم الأصول والفروع كتابا جمع فيه ما انتهى من ذلك إليه )560 ويهمنا هنا نعته بأنه جمع علم الأصول والفروع.(1/144)
وفي اللغة:((الغريب ) المصنف عن الأموي)561 و ( الجمهرة) و( العين )562 وكتاب (الخليل)563 وفي موضع قال ابن عبد البر:وقال أهل اللغة منهم النضر بن شميل حكى ذلك عنه إسحاق بن منصور الكوسج564 وقال أيضا:( وأما العقيقة في اللغة فذكر أبو عبيد عن الأصمعي)565 وفي موضع آخر:( وقال الأخفش )566 و(قال أبو بكر بن الأنباري الصلاة تنقسم في لسان العرب)567 .وأورد أبياتا من الشعر لكل من: امرئ القيس568 و الأعشى569 و النابغة570 و لبيد571 و زهير572 و القطامي573 و إبراهيم بن هرمة القرشي574 وأبو دلف العجلي575 وتوبة بن الحمير576 وصالح بن عبد القدوس577والقاسم بن أمية بن أبي الصلت الثقفي578 و النميري579 و أبو العتاهية580...
وبخصوص المذاهب ،أورد المصادر التي اعتمدها ففي المذهب المالكي :أكثر من ذكرموطأ مالك581 موضوع الشرح في"الاستذكار" وأحال على رواته582 ومن فسره وشرحه كابن حبيب583 ثم المدونة له584 ،و الأسدية لابن القاسم 585والمستخرجة586 والعتبية587 كتاب (المبسوط) لإسماعيل بن إسحاق القاضي588 وكتابه أيضا في الرد على محمد بن الحسن589 وكتاب أبي بكر الأبهري590 وما ذكره أبو مصعب في مختصره عن مالك591 وذكر بن عبد الحكم في المختصر الصغير عن مالك592 وما ذكره ابن شعبان في كتابه593 .(1/145)
وما حكاه محمد بن خويز منداد البصري المالكي في كتابه في ( الخلاف ) )594 وما ذكره المغامي في كتابه ( فضائل مالك )595 وكتاب الدولابي في (فضائل مالك) أيضا596 ورجع إلى سماع أبي قرة موسى بن طارق من مالك597 وما ذكره أبو الفرج598 وما ذكره ابن حبيب عن بن الماجشون599 وما ذكر بن عبدوس في المجموعة لعلي بن زياد عن مالك600 وما رواه ابن وهب601 وما ذكره أبو بكر بن الجهمي في المذهب602 وما ذكره علي بن عبد العزيز عن القعنبي أحد رواة الموطأ603 وما رواه محمد بن الحسن عن مالك604 وما حكاه بن المواز605 وما ذكره بن نافع عن مالك606 وما ذكره محمد بن سحنون607 وما ذكره عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون608 وما ذكره داود عن مالك609 وما ذكره عيسى بن دينار610..
وفي المذهب الحنفي ذكر كتب الطحاوي مثل: (الخلاف) و (المختصر)611 وما ذكره ابن سماعة عن محمد بن الحسن612 وما ذكره محمد بن الحسن عن أبي يوسف613 وما ذكره محمد بن الحسن في ( الإملاء)614 وما ذكر أصحاب ( الإملاء ) عن أبي يوسف615..
وفي المذهب الشافعي:(الأم) و(المبسوط) و(الرد على مالك) و (اختلاف ابن أبي ليلى وأبي حنيفة) و (اختلاف الحديث للشافعي) و(كتابه القديم العراقي)و(كتابه الجديد المصري) للشافعي،وفي موضع قال ابن عبد البر (وقال الشافعي في ( الإملاء ) )616،وكتاب (الإملاء على محمد بن الحسن)و(الإملاء على كتاب مالك)617 و (اختلاف الأوزاعي وأبي حنيفة) للمزني ، وما رواه عنه: الزعفراني618 وما رواه بن خواز منداد619 وما ذكره عنه ابن المنذر620 وما ذكره عنه البويطي621 وما ذكره عنه الربيع622 .
وفي المذهب الحنبلي ما ذكره أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل623 وما رواه أحمد بن سعيد عنه أيضا624 وما ذكر الخرقي عن المذهب625 وما ذكره إسحاق بن منصور عن أحمد بن حنبل626 ..(1/146)
وفي آراء الأوزاعي:رجع إلى خويز منداد حيث قال:( وقال بن خويز منداد الغسل عند الإهلال عند مالك أوكد من غسل الجمعة وقال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري يجزئه الوضوء وهو قول إبراهيم )627 وفي موضع آخر يبين أن هذا الكتاب مرجع في آراء الأئمة الآخرين كالثوري والليث بن سعد وغيرهم يقول:( وقال بن خويز منداد معناه أن يكون الخرق لا يمنع الانتفاع به ومن لبسه يكون مثله يمشي فيه وينتفع به وبنحو قول مالك في ذلك قال الثوري والليث بن سعد والشافعي على اختلاف عنهم)628
وما ذكره عبد الرزاق عنه629 ، وكذا ما ذكره الوليد بن يزيد عنه630، وإلى ما ذكره الطحاوي والطبري يقول:( واختلفوا في ذلك عن الأوزاعي فذكر عنه الطحاوي والطبري)631 وكذا (اختلاف الأوزاعي وأبي حنيفة) للمزني وكذا ما ذكره أبو عبيد عن الأوزاعي632..
وفي المذهب الظاهري: كتاب أبي عبد الله أحمد بن محمد الداودي البغدادي المترجم (بجامع مذهب أبي سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني)633 و كتاب ( الموضح على مذهب أهل الظاهر ) لأبي الحسن بن المغلس634..
وهكذا يستحق كتاب "الاستذكار" بجدارة عنوانه الكامل: (الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار) وعرف ابن رشد بحق ما يختار،فأحال على مليء، وإذا أحيل أحد على مليء فليحل عليه كما يقول الفقهاء، وأحسن الإسناد،ومن أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك كما يقول المحدثون.(1/147)
وأعجب من قول صاحب كتاب "ابن رشد وعلوم الشريعة"كيف تسرع في القول:(وإذا كان ابن رشد قد اعتمده -ويقصد الاستذكار-فإنما اعتمده من حيث أنه مادة للفقه المالكي لا غير)635 ذلك أنه كما يقول ( وبالبحث عن الاستذكار وجدت أنه شرح لكتاب-الموطأ-وهو مختصر لشرح آخر مطول سماه التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد،ومن ثمة تبينت أن هذا الكتاب ليس في فقه الخلاف،وإنما هو في الحديث وفقه مالك )636 ويبدو أن صاحبنا بحث عن الكتاب ولم يبحث فيه واكتفى بظاهر عبارة حاجي خليفة في كشف الظنون بل وربما بما قاله في الصفحة التي أحال عليها في الهامش637 ولو انتقل إلى صفحة أخرى منه638 لأغراه عنوانه الكامل بالدخول فيه وتغيير حكمه بمجرد تصفح شيء منه.
ورغم أن ابن رشد ذكر في "البداية" أن أكثر ما عول عليه فيما نقله من نسبة المذاهب إلى أربابها هو كتاب الاستذكار لابن عبد البر639،إلا أن المتتبع للكتاب يصادف ذكر كتب أخرى وأقوال كثير من العلماء ممن يحتمل إطلاعه على مؤلفاتهم،ومن ذلك:
1 ـ كتب الحديث والسنن:
فقد أحال ابن رشد على صحيح البخاري حوالي 123 مرة بشكل مباشر أو غير مباشر حيث ذكر اسم البخاري 70 مرة مثل قوله: ( والحجة للقول الأول ما في كتاب البخاري أظنه في بعض رواياته قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم فإنه لا ينادي حتى يطلع الفجر )640 وأورد في موضع آخر ما خرجه البخاري641 ) أن رجلا أتى عمر رضي الله عنه فقال أجنبت فلم أجد الماء فقال لا تصل فقال عمار أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك فقال عمر اتق الله يا عمار فقال إن شئت لم أحدث به( 642(1/148)
وقوله أيضا: )وفي حديث643 أنس أنه قال أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل خرجه البخاري(644 ويكتفي أحيانا بالإحالة عليه مثل قوله ثابت حيث قال:) ومتى قلت ثابت فإنما أعني به ما أخرجه البخاري أو مسلم أو ما اجتمعا عليه 645( وقوله646 : )وقد احتج الجمهور لمذهبهم بالحديث الثابت وهو قوله عليه الصلاة والسلام جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ما لم يجد الماء( 647
ولكثرة نقل ابن رشد في كتابه عن "الاستذكار"،بحثت عن دفع احتمال أخذ مرويات البخاري عن ابن عبد البر فوجدت الذكر المباشر للبخاري في الاستذكار لا يتعدى 52 مرة بينما هو في "البداية" يصل كما أسلفنا إلى 70 مرة،وتتبعت عشرين حديثا عن البخاري في "الاستذكار" فوجدت ثمانية منها غير موجودة في "بداية" ابن رشد كما وقفت على عدد منها في "البداية" غير موجودة في "الاستذكار" فتأكد لي رجوعه المباشر إلى صحيح البخاري.
واعتمد ابن رشد صحيح مسلم،فقد أحال عليه حوالي 130 مرة وذكره بشكل مباشر 108 مرة بينما لم يذكر كذلك في "الاستذكار"سوى85 مرة،ومن ضمن ثماني أحاديث لمسلم في "الاستذكار" لم أجد سوى حديث واحد موجود فيهما معا،وقد جاء في "الاستذكار" ضمن الفقرة التالية: )وفي اليمين مع الشاهد ( آثار ) مرفوعة حسان أصحها حديث ابن عباس رواته كلهم ثقات أثبات رواه سيف بن سليمان المكي عن قيس بن سعد المكي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول الله قضى باليمين مع الشاهد. وقد ذكرناه من طرق عن سيف بن سليمان في ( التمهيد ) وقال يحيى القطان سيف بن سليمان ثبت ما رأيت احفظ منه وقال أحمد بن شعيب النسائي إسناد حديث ابن عباس في اليمين مع الشاهد إسناد جيد وقيس ثقة وخرجه مسلم ولم يذكره البخاري(648 .(1/149)
وأما نصه في البداية فهو كما يلي : )حديث ابن عباس ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد أخرجه مسلم ولم يخرجه البخاري(649 وأحيانا يرجع ابن رشد إلى صحيح مسلم كي يزيد ما أورده ابن عبد البر توضيحا مثل قوله 650: ( قال أبو عمر بن عبد البر: وقد ذكر جماعة من الحفاظ حديث ابن عباس فذكروا فيه الأنف والجبهة.قال القاضي أبو الوليد: وذكر بعضهم الجبهة فقط ،وكلا الروايتين في كتاب مسلم)651.
واعتمد ابن رشد سنن الترمذي حيث ذكره في "البداية" 38 مرة،ولم أجده مذكورا في الاستذكار سوى 13 مرة،وليس هناك من حديث مشترك بينهما سوى حديث واحد،هو حديث ثوبان ونصه في "البداية"652: )حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر قال معدان فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت له إن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر قال صدق أنا صببت له وضوءه. وحديث ثوبان هذا صححه الترمذي 653(
وعلق صاحب الهداية بقوله )إنما قال:هو أصح شيء في هذا الباب وبين العبارتين فرق )654 وفيه دلالة على رجوعه إليه.وقال ابن رشد عن حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس في الحلي زكاة ) وعن حديث بعده لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: والأثران ضعيفان وبخاصة حديث جابر)655 قال صاحب الهداية : ( ضعفه الترمذي وقال:قد رواه المثنى بن الصباح عن عمر ونحو هذا،والمثنى وابن لهيعة يضعفان في الحديث ،ولا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. وكان كلامه هو عمدة ابن رشد حيث قال: إنه أثر ضعيف)656.(1/150)
واعتمد سنن أبي داود حيث جاء ذكره في الكتاب حوالي 106 مرة وقد وجدت عددا منها غير مذكور في "الاستذكار" مما يفيد رجوعه إليه ،من ذلك قوله: )حديث657 أبي بن عمارة أنه قال يا رسول الله أأمسح على الخف قال نعم قال وثلاثة قال نعم حتى بلغ سبعا ثم قال امسح ما بدا لك خرجه أبو داود(658 وقوله: )والحديث الثاني659 ما خرجه أبو داود من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت استحيضت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن دم الحيضة أسود يعرف فإذا كان ذلك فامكثي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق(660.وفي مسألة متى يفطر الصائم ومتى يمسك .
قال ابن رشد: (وخرج أبو داود عن أبي بصرة الغفاري)661 ثم أورد الحديث .فعلق عليه صاحب الهداية بما يفيد رجوع ابن رشد إليه رغم ما وقع له من الوهم قال: (قلت: جعفر ليس هو راوي الحديث عن أبي بصرة بل هو أحد شيخي أبي داود في الحديث وإنما كرر أبو داود ذكره في الإسناد لحكاية لفظه فظن ابن رشد أنه راوي الحديث عن أبي بصرة)662.
وقد اعتبر صاحب الهداية سنن أبي داود من (الكتب المشهورة التي ينقل منها ابن رشد بكثرة)663.
واعتمد أيضا سنن الإمام النسائي ،فقد أحال عليه عشر مرات لم أجد في "الاستذكار" واحدة منها،وقد ذكره في ست منها مع غيره من أصحاب الصحاح والسنن وذكره منفردا في أربع وهي قوله:( حديث طلحة بن عبيد الله ذكره النسائي664 أن عبد الرحمن التميمي قال كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن محرمون فأهدي له ظبي وهو راقد فأكل بعضنا فاستيقظ طلحة فوافق على أكله وقال أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)665 وقال أيضا:( فذكر النسائي666 عن أبي بردة أنه قال يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك )667(1/151)
والثالث:( ما رواه يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد خرجه النسائي668) وقال في الرابعة:( وعمدة الكوفيين حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد وهذا الحديث مضعف عند أهل الحديث قال أبو عمر لأنه عندهم مقطوع قال وقد وصله بعضهم وخرجه النسائي )669
وقد رجعت إلى الاستذكار فلم أجد عبارة (وخرجه النسائي) فثبت أنها لابن رشد ،ولما عدت إلى سنن النسائي لم أجد هذا الحديث عنده ،وقد أشار صاحب "الهداية"إلى هذا الإشكال بقوله: ( هو كذلك ولكن النسائي خرجه في "الكبرى " لا في الصغرى الذي هو أحد الكتب الستة وهو المراد عند الإطلاق )670فابن رشد رجع أيضا إلى السنن الكبرى للنسائي غير أنه أطلق العبارة من غير تمييز بين السنن الصغرى والكبرى، والحال أنها عندما تطلق يقصد بها الصغرى ،واعتذر صاحب "الهداية" لابن رشد بقوله :( إلا أن ابن رشد كان قبل وجود هذا الاصطلاح الذي حدث في زمانه ولم يشتهر إلا بعده)671.
ورجع ابن رشد إلى سنن الدارقطني (ت385ه) حيث أحال عليه مرة واحدة في "البداية" وهي قوله: (والأصل في هذا ما روي عن ابن عباس لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد ولا مخالف له من الصحابة وكثير من الناس رأى هذا داخلا في باب الاجماع وهو ضعيف وهذا الحديث قد روي مرفوعا ذكره الدارقطني وذكر أن في سنده مجاهيل)672 وأورد صاحب الاستذكار نفس الحديث بغير ذكر لمن خرجه لا الدارقطني ولا غيره673.(1/152)
وبخصوص مصنف ابن أبي شيبة (235ه) فقد أحال عليه ابن رشد خمس مرات غير أن المتتبع لإحالاته يجدها جميعا في الاستذكار لابن عبد البر الأمر الذي يرجح عدم رجوعه إليه674 ومثاله: (والحجة للجمهور ما خرجه ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين سرية فأصابوا حيا من العرب يوم أوطاس فهزموهم وقتلوهم وأصابوا نساء لهن أزواج وكأن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثموا من غشيانهن من أجل أزواجهن فأنزل الله عز وجل والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم)675 .
وكذلك الشأن في مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني(ت211ه)676 توجد جميع إحالاته التسعة في الاستذكار،ومثاله:( أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وأبا هريرة كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة الرجال والنساء معا فيجعلون الرجال مما يلي الإمام ويجعلون النساء مما يلي القبلة وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه صلى كذلك على جنازة فيها ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة والإمام يومئذ سعيد بن العاص فسألهم عن ذلك أو أمر من سألهم فقالوا هي السنة وهذا يدخل في المسند عندهم)677 .
كما أنه اعتمد معالم السنن لأبي سليمان البستي حمد بن محمد الخطابي (ت388) وهو في شرح سنن أبي داود ،حيث قال:( وحكاه الخطابي في معالم السنن وهو شاذ ولكن دليله قوي لقوله تعالى والأنثى بالأنثى)678 وفي موضع آخر قال:( وخرج أبو داود عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرة بني لبون ذكر قال أبو سليمان الخطابي هذا الحديث لا أعرف أحدا من الفقهاء المشهورين قال به وإنما قال أكثر العلماء إن دية الخطأ أخماس وإن كانوا اختلفوا في الأصناف )679.(1/153)
وأما عن بعض المحدثين الواردة أسماؤهم في "البداية" مثل: سليمان بن مهران الأعمش (ت 147ه) فلم أجده مذكورا سوى مرتين وهما في "الاستذكار"680 ،و شعبة بن الحجاج (ت160 ه) ذكره ثلاثا ولم أجد غير اثنتين681 في "الاستذكار" وأما الأخرى682 فأخذها ابن رشد - على الراجح -عن مسلم683. وأبو محمد عبد الرحمن بن أبي الزناد (ت 174ه) أورده مرة ولم يأخذها من "الاستذكار".684 ووكيع بن الجراح ( ت 197ه ) أورده مرة واحدة أيضا وهي موجودة في كتاب ابن عبد البر685. وسفيان بن عيينة (ت 198ه) وجدت الإحالات الثلاث الموجودة في "البداية"موجودة أيضا في "الاستذكار"686. و يحيى بن معين(ت203 ه) ذكره ثلاثا جميعها في"الاستذكار"687.
وإسحاق بن راهوية (ت238ه) تتبعت تسع إحالات عليه في "البداية" وجدت سبعة منها في "الاستذكار"ولم أجد إحالتين، ووجدت واحدة منها أخذها ابن رشد عن مسلم688 وفي نفس الموضع من صحيحه وجدت أصل الإشارة إلى تلميذ إسحاق: زهير بن محمد (ت258ه) والتي وردت في "البداية"689 ولم ترد في "الاستذكار". وغير هؤلاء ممن تغلب عليهم صفة الفقه فأدرجهم مع الفقهاء،إلا أني لن أتعدى نزولا تاريخ وفاة أبي حنيفة رحمه الله لصعوبة تتبع ذلك وكثرتهم.(1/154)
وأما عن أئمة الفقه الذين وردت لهم بعض الروايات في "البداية" فبعد تتبعها وجدتها جميعا في "استذكار" ابن عبد البر،فأما مالك الذي بلغت مروياته في "البداية" حوالي 95 فمن البدهي أن تكون في الكتاب السالف الذكر باعتبارها المتن الذي يدور حوله شرح ابن عبد البر.وأما أبو حنيفة فقد وقفت على رواية واحدة له هي قوله:( ما روي عن أبي حنيفة أنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط)690 وأما الشافعي فوجدت له ثلاث روايات، الأولى قوله:( وروى الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم وروى أنه الذي كان يفتي به ابن عمر)691 والثانية قوله:( ومما احتجت به الشافعية حديث جبير بن مطعم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال يا بني عبد مناف أو يا بني عبد المطلب إن وليتم من هذا الأمر شيئا فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت أن يصلي فيه أي ساعة شاء من ليل أو نهار رواه الشافعي وغيره عن ابن عيينة بسنده إلى جبير بن مطعم).692 والثالثة قوله:( فعمدة من أوجبه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسعى ويقول اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي روى هذا الحديث الشافعي عن عبد الله بن المؤمل)693 .(1/155)
ووجدت للإمام أحمد رواية واحدة أوردها في قوله:( وما رواه أحمد بن حنبل عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده)694 ووقفت للإمام سفيان الثوري على أربع روايات:روايتين منها عن عمر رضي الله عنه،ورواية عن علي رضي الله عنه،ورواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميعها في الاستذكار695 .ووقفت للأوزاعي على ما يشبه الرواية بقوله: (وزعم الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء بخيبر)696 ورواية لليث ابن سعد ،قال ابن رشد:( رواه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة)697.
وبخصوص أصول مادة الجرح والتعديل والحكم على الأحاديث نجد حكم يحيى بن معين في قوله:( فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وعن نبيذ العسل فقال كل شراب أسكر فهو حرام خرجه البخاري وقال يحيى بن معين هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر)698
وذكر للطبري تصحيحه بعض الآثار مثل قوله:( اتفق الجمهور على منع قراءة القرآن في الركوع والسجود لحديث علي في ذلك قال نهاني جبريل صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا قال الطبري وهو حديث صحيح)699
ورجع إلى أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي (ت 321) في الحكم على بعض الأحاديث مثل ما روى مالك عن سعد بن أبي وقاص أنه قال:( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن شراء التمر بالرطب،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا :نعم،فنهى عن ذلك ) قال فيه الطحاوي:( خولف فيه عبد الله،فرواه يحيى بن كثير عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة )(1/156)
وقال: إن الذي يروي عنه هذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص هو مجهول)700 وفي موضع آخر قال ابن رشد 701 (وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة وإن كان قد روي من حديث رافع بن خديج ومن طريق ابن عباس وغيره (البدنة عن عشرة )وقال الطحاوي702 : وإجماعهم على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة).
ومن أهل هذا الشأن أيضا أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن (ت353ه)703 أورده مرة في "البداية"عند قوله:( وسبب اختلافهم في ذلك أن فيه حديثين متعارضين احدهما الحديث الوارد عن طريق بسرة انها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ وهو أشهر الأحاديث الواردة في إيجاب الوضوء من مس الذكر خرجه مالك في الموطأ وصححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وضعفه أهل الكوفة وقد روي أيضا معناه من طريق أم حبيبة وكان أحمد بن حنبل يصححه وقد روي أيضا معناه من طريق أبي هريرة وكان ابن السكن أيضا يصححه ولم يخرجه البخاري ولا مسلم)704
كما رجع في تصحيح بعض الأحاديث إلى تلميذ أبي عمر بن عبد البر الحافظ طاهر بن مفوز (ت484ه)705 حيث قال:(وأحاديث عمرو بن حزم اختلف الناس في وجوب العمل بها لأنها كتاب النبي عليه الصلاة والسلام).وذكر تصحيح ابن حزم لحديث صفوان بن عسال في المسح على الخفين وحديث القلتين في الماء الذي لا يتنجس وحديث إنما هو عرق في الاستحاضة وحديث أسماء بنت عميس في الاستحاضة أيضا ولم يرض حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه وقال في "المحلى" عن رواته (ابن أبي ليلى سيء الحفظ وعطية هالك)(1/157)
وقال في أبي الزبير راوي حديث الجذعة في الأضحية (مدلس عند المحدثين)706 ثم أورد ابن رشد قول أحد الحفاظ يدعى أبا بكر بن صفور707 يرد على ابن حزم في طعنه على هذا الحديث الأخير يقول:( وقد صحح هذا الحديث أبو بكر بن صفور وخطأ أبا محمد بن حزم فيما نسب إلى أبي الزبير في غالب ظني في قول له رد فيه على ابن حزم )708
3 ـ كتب الفقه والخلاف:
وسأبدأ بذكر الكتب التي ذكرها ابن رشد في "البداية"ثم أتناول أصحاب المذاهب والآراء المجتهدين منهم والمقلدين على السواء بداية من 150هجرية،وقد احتل ذكر كتب الفقه المالكي النصيب الأوفر،ومن المناسب جدا أن تحتل مصادره مكانة خاصة في الكتاب.و ذلك أن البيئة المحلية والأسرة الرشدية من المحاضن المهمة للمذهب ولهذا وردت إحالات عديدة على موطأ الإمام مالك تصل ثلاثا وأربعين إحالة مثل قوله: (فإن مالكا قال في الموطأ)709
و(هذا القول رواه مالك في الموطأ)710 و(أما مالك ففي الموطأ عنه مثل قول الشافعي)711 وقال في آخر كتاب القسامة (وأما القضاء الذي يعم أكثر من جنس واحد من أجناس الأشياء التي يقع فيها القضاء فيذكر في كتاب الأقضية وقد تجدهم يفعلون الأمرين جميعا كما فعل مالك في الموطأ فإنه ساق فيه الأقضية من كل كتاب)712 وغيرها من الإحالات.(1/158)
وذكر "المدونة"إحدى عشر مرة، مثل قوله: (وفي المدونة عنه-أي مالك- أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض وفي غير أيام الحيض رأت ذلك مع الدم أو لم تره) ونقله بتصرف يسير713 وقال في موضع آخر:( وقد قيل في المذهب يجوز بيع الغائب من غير صفة على شرط الخيار خيار الرؤية وقع ذلك في المدونة)714 ونصه فيها: (وقال بعض كبار أصحاب مالك وجلهم : لا ينعقد بيع إلا على أحد أمرين إما على صفة توصف له أو على رؤية قد عرفها أو اشترط في عقدة البيع أنه بالخيار إذا رأى السلع بأعيانها فكل بيع ينعقد في سلع بأعيانها على غير ما وصفنا فالبيع منتقض لا يجوز )715 وقد تتبعت إحالاته فلم أجده تابع ابن عبد البر سوى في ثلاث منها716 وينقل عادة بتصرف وتلخيص للمعنى وتظهر خبرته بالمدونة وحسن إطلاعه عليها، حتى إنه وعد أن يكتب كتابا بعد الفراغ من كتاب "البداية" في مذهب مالك على منهج ابن القاسم في ضبطه لأصول مالك واستنباطه الأحكام للمستجدات على منوالها،يريده كما يقول:( كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها وهذا هو الذي عمله ابن القاسم في المدونة)717.
وقد ذكر أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم (ت191 ه) 198 مرة تتبعت اثنا عشر منها فوجدت سبعة منها في "الاستذكار"718 واثنتين في "المدونة"719 وواحدة ذكرها ابن لبابة في المنتخب720 وأما سحنون بن سعيد (ت240 ه) فذكر19 مرة تتبعت سبعة منها فلم أجد سوى اثنتين في "الاستذكار"721(1/159)
ومما يرتبط بذكر "المدونة" أخذ ابن رشد من"الواضحة" و"العتبية" في كتابه فقال:(وأما قدر ما يترك للمفلس من ماله فقيل في المذهب :يترك له ما يعيش به هو وأهله وولده الصغار الأيام،وقال في "الواضحة" و"العتبية":الشهر ونحوه ويترك له كسوة مثله...)722. وفي موضع آخر ( وقال ابن القاسم في العتبية إن عق ليلا لم يجزه)723وقوله أيضا:(المشهور عند الأصوليين القضاء بالخصوص على العموم وهو لزوم الشروط وهو ظاهر ما وقع في العتبية وإن كان المشهور خلاف ذلك)724.وجميع هذه الإحالات ليس يوجد واحد منها في الاستذكار.و"الواضحة" كتاب في الفقه والسنن لعبد الملك بن حبيب السلمي القرطبي (ت 238ه) الذي انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي بالأندلس بعد يحيى بن يحيى725.
أما "العتيبة" فتتناول مسائل من المشكلات في فقه المالكية وهي لأبي عبد الله محمد العتيبي القرطبي (ت254ه)726 وقد ذكر ابن رشد كتابه هذا ثلاث مرات727 وتسمى أيضا المستخرجة وهي كتاب جمع فيه العتبي الأسمعة:سماع ابن القاسم عن مالك وسماع أشهب وابن نافع عن مالك، وسماع عيسى بن دينار وغيره من ابن القاسم ليحيى بن يحيى وسحنون ،وموسى بن معاوية وزونان ومحمد بن خالد وأصبغ وأبي زيد وغيرهم جمع كل سماع في دفاتر وأجزاء على حدة.
ثم جعل لكل دفتر ترجمة يعرف بها.وفي كل دفتر من هذه الدفاتر مسائل مختلطة من أبواب الفقه.وقد قام جد ابن رشد بترتيبها على أبواب الفقه وذكر في كل كتاب تلك السماعات فسماه "كتاب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل ".(1/160)
وقد أشار ابن رشد في "البداية" إلى اعتماد كتب جده هذا وخصوصا كتاب "المقدمات" الذي يدخل بدوره ضمن الكتب التي اهتمت بالتمهيدات والتعليقات والتقييدات والزيادات على المدونة والذي يظهر من اسمه "المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات"والذي تناول فيه ابن رشد الجد كتب المدونة ورسومها بما كان يمهد به لتلك الكتب ويقدمه بين يدي كل كتاب.
ويورد ما تيسر له من بسط وتحليل728 قال صاحب "البداية" عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات ): (وقد ذهب جدي رحمة الله عليه في كتاب "المقدمات"729 إلى أن هذا الحديث معلل،معقول المعنى ليس من سبب النجاسة بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا،فيخاف من ذلك السم،قال:ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله، فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض،وهذا الذي قاله رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية)730.
وفي اشتراط الاجتهاد فيمن يتولى القضاء قال ابن رشد (فقال الشافعي يجب أن يكون من أهل الاجتهاد ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب وقال أبو حنيفة يجوز حكم العامي قال القاضي وهو ظاهر ما حكاه جدي رحمة الله عليه في المقدمات عن المذهب لأنه جعل كون الاجتهاد فيه من الصفات المستحبة )731
وذكر جده في ثلاث مواطن أخرى غير هذه،الأولى عندما أورده في أصحاب مالك المتأخرين كأبي الوليد الباجي والمازري فيمن لهم تفصيلات متقاربة في بيع الشروط،وممن يفضلون الجمع بين الأحاديث ويقدمون إعمالها على الترجيح بينها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا732.الموطن الثاني وذكره فيمن لهم خيارات في المذهب كاختياره في القراض الفاسد لأحد أوجه قول ابن القاسم733.(1/161)
والثالث ذكر فيه بفتوى لجده خالف فيها أهل زمانه والتي تتعلق بانتظار الصغار فيؤخر قتل الجاني إذا كان للمقتول أولياء صغار وكبار وكان الصغار يحجبون الكبار حتى يكون لهم الخيار بين الدية و القصاص أو العفو734.هذه المواطن الخمسة التي ذكر فيها جده -رغم قلتها- تحمل دلالات مهمة،فجده من أعمدة الفقه المالكي المتأخرين، له تفصيلات في المذهب وترجيحات واختيارات.
وهوممن يبحثون في النصوص عن التعليل والمعنى المعقول،وممن يرون الاجتهاد مستحبا في القضاة الأمر الذي يعني عنده من باب أولى وجوبه في حق الفقهاء والمفتين،ولهذا يذكر حفيده بجرأته وشجاعته عندما واجه أهل زمانه بما لم يألفوه من الآراء فقابل تشنيعهم بوضع قول (ينتصر فيه لهذا المذهب وهو موجود بأيدي الناس)735
ولم يختر السلامة والانسحاب،وهذه المواقف أحد مصادر القوة العلمية والنفسية التي سيقتحم بها الحفيد -ليس فقط دائرة الترجيح والاختيار داخل المذهب-وإنما دائرة المذاهب الفقهية لأهل السنة والجماعة،وصيحته في الناس :أن هلموا لتربية ملكة الاجتهاد لنجتهد لزماننا كما اجتهد الأسلاف لزمانهم.
ورجع إلى بعض شروح المدونة أيضا مثل كتاب "المنتخب" لمحمد بن يحيى بن لبابة بن عبد الله الملقب بالبربري (ت336ه) ابن أخ وتلميذ الشيخ محمد أبو عبد الله بن عمر بن لبابة (ت314ه) الذي قال فيه أبو الوليد الباجي (ابن لبابة فقيه الأندلس)736 وقال فيه الصدفي (كان محمد بن لبابة من أهل الحفظ للفقه والفهم (...) وأعرفهم باختلاف أصحاب مالك )737 وقد ورث محمد بن يحيىعمه في الفقه والفهم وأخذ جل سماعه منه وكان من أحفظ أهل زمانه للمذهب عالما بعقد الشروط بصيرا بعللها وله اختيارات في الفتوى والفقه خارجة عن المذهب و"المنتخب" له أو "المنتخبة" على مقاصد الشرح لمسائل المدونة.(1/162)
قال فيه ابن حازم الفارسي: ليس لأصحابنا مثله738.ومما يدل على رجوع ابن رشد إليه قوله:(وأما شرط المسح على الخفين،فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء،وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافا شاذا وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ذكره ابن لبابة في "المنتخب" )739 وفي موضع آخر قال:( وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أنه يصح في غير المسجد وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد)740.والنقل في الموضعين غير موجود في "الاستذكار".
وممن ذكر لهم ابن رشد في "البداية"كتابا، أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان المصري شيخ المالكية صاحب كتاب (الزاهي في الفقه) (ت355ه) قال فيه القاضي عياض:( كان ابن شعبان رأس المالكية بمصر وأحفظهم للمذهب)741 وقال عن كتبه صاحب الديباج:( وألف كتاب الزاهي الشعباني المشهور في الفقه وكتابا في أحكام القرآن وكتاب مختصر ما ليس في المختصر وكتابا في مناقب مالك وكتاب الرواة عن مالك وكتاب جماع النسوان وكتاب مواعظ ذي النون الأخميمي وكتاب النوادر وكتاب الأشراط وكتاب المناسك وكتاب السنن)742
وقد أورده ابن رشد أربع مرات ليست في "الاستذكار" مما يرجح إطلاعه عليه :
الأولى عند قوله:(ولظهور عدم تناول اسم الماء للماء المطبوخ مع شيء طاهر اتفقوا على أنه لا يجوز الوضوء به ،وكذلك في مياه النبات المستخرجة منه ،إلا ما كتاب ابن شعبان من إجازة طهر الجمعة بماء الورد)743.والثانية في اشتراط دخول الوقت للتيمم قال:( ومنهم من لم يشترطه، وبه قال أبو حنيفة وأهل الظاهر وابن شعبان من أصحاب مالك)744(1/163)
والثالثة عند حديثه عن التفضيل بين الضحايا (وذهب الشافعي إلى عكس ما ذهب إليه مالك في الضحايا الإبل ثم البقر ثم الكباش وبه قال أشهب وابن شعبان)745،والرابعة أحال على كتابه "مختصر ما ليس في المختصر" حيث قال:( وأما طلاق الصبي فإن المشهور عن مالك أنه لا يلزمه حتى يبلغ وقال في مختصر ما ليس في المختصر إنه يلزمه إذا ناهز الاحتلام)746
ومن الكتب التي أكثر ابن رشد من ذكرصاحبها في "البداية" كتاب "الأموال" لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي الأزدي (ت 224ه) وصفه الذهبي بالإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون صاحب التصانيف التي سارت بها الركبان ،وكان أعلم الناس بأيام الناس والنحو واللغة والفقه وكتابه في "الأموال"747من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده 748 .ذكره ابن رشد 27 مرة في كتابه ومعظم الإحالات في "الاستذكار"،فقد تتبعتها فوجدت سبعة عشر منها فيه749.
ومن بين الإحالات التي لم أجد،تلك التي ذكر فيها صراحة كتاب "الأموال" أو ألمح إليه،من ذلك قوله:(وحكى أبو عبيد في كتاب الأموال عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا أذكر اسمه الآن أنه قيل له:لم كنتم تأخذون العشر من مشركي العرب؟فقال:لأنهم كانوا يأخذون منا العشر إذا دخلنا إليهم)750
والثانية وهي التي أشار فيها-على الراجح- إليه وذلك عند قوله: (وحجتهم ما روى مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء وهو حديث وإن أرسله مالك فقد أسنده عبد الرزاق وقد روي من طريق الزهري عن أبي هريرة فيه زيادة بيان وهو قوله فيه : ( فإن كان قبض من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء ) ذكره أبو عبيد في كتابه في الفقه وخرجه)751.(1/164)
ومنهم أيضا أبو مصعب مطرف بن عبد الله بن مطرف وهوابن أخت مالك و من أصحابه له مختصر عن مالك (ت220 ه) ذكر12 مرة تتبعتها فوجدت اثنتين فقط منها في "الاستذكار"752 وستة في "المنتقى"753،وقد ذكر كتابه المختصر فقال:( وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال لا يؤم الناس أحد قاعدا فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم وصلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن بعدي قاعدا)754 ورغم وجودها في "الاستذكار" فيحتمل إطلاعه عليه،رغم أنه لم يبق من الإحالات سوى أربعة غير واردة في المصدرين السابقين.
ثم أبو الوليد الباجي (ت474 ه) ذكر صراحة ثلاث مرات وذكر كتابه مرتين وأخذ عنه مرات عديدة من غير إشارة إلى ذلك وقد بينت في هذا المبحث بعض مواطن نقله. وبخصوص كتاب الباجي قال ابن رشد عند حديثه عن مذهب مالك في الربويين اللذين دخلت الصنعة أحدهما ولم تدخل الآخر:( وتفصيل مذهبه في ذلك عسير الانفصال فاللحم المشوي والمطبوخ عنده من جنس واحد والحنطة المقلوة عنده وغير المقلوة جنسان وقد رام أصحابه التفصيل في ذلك والظاهر من مذهبه أن ليس في ذلك قانون من قوله حتى تنحصر فيه أقواله فيها وقد رام حصرها الباجي في المنتقى)755
وقوله أيضا:( وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى عن الحسن البصري أنه لا يقتل الذكر بالأنثى)756 ثم ذكره ثالثة بغير ذكر لكتابه عند حديثه في بيوع الشروط والثنيا بقوله:( وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة وأحد من له ذلك جدي والمازري والباجي )757 .(1/165)
وممن ذكر كتابا له أبو المعالي الجويني (ت478 ه) ذكره ثلاث مرات،الأولى عند قوله:( كلما كانت السنة الحاجة إليها أمس وهي كثيرة التكرار على المكلفين كان نقلها من طريق الاحاد من غير أن ينتشر قولا أو عملا فيه ضعف وذلك أنه يوجب ذلك أحد أمرين إما أنها منسوخة وإما أن النقل فيه اختلال وقد بين ذلك المتكلمون كأبي المعالي وغيره)758والثانية عند قوله:( أما أبو حنيفة فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب أو الأخبار التي تنزل منزلة الأوامر وقد قال أبو المعالي إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له فإن إيجاب السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة أعني قراءة آية السجود قال ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة لكانت الصلاة تجب عند قراءة الاية التي فيها الأمر بالصلاة وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الاية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود)759
والثالثة عند قوله:( وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو بالاعتراف ومن الواجب ألا تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله وقد اعترف أبو المعالي في كتابه البرهان بقوة أبي حنيفة في هذه المسألة وهو شافعي)760
4-ذكر بعض من لم يورد ابن رشد مؤلفاتهم من الفقهاء:(1/166)
واخترت أن أبدأ فقط من تاريخ وفاة أبي حنيفة إلى زمان ابن رشد، وكلما وقفت على إمام من الأئمة أذكر من يحسب على مذهبه من العلماء والفقهاء .فقد جاء ذكر أبي حنيفة (ت150ه) مع مذهبه وعموم رجالاته: 1249مرة في "البداية" مما يصعب تتبع مصدر إحالاته وإن كنت أرجح أن يكون معظمها في "الاستذكار"761 فقد تتبعت ثلاثة عشر منها ووجدت فيه عشرة. والقليل جدا منها من الطحاوي ومن غيره من المصادر التي أوردت الخلاف. ومن أصحاب أبي حنيفة: زفر بن الهذيل العنبري من أكبر تلاميذ أبي حنيفة (ت 158ه) ذكر21 مرة تتبعت عشرة منها فوجدتها جميعا في "الاستذكار"762،أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (ت 182ه) ذكر49 مرة تتبعت ثلاثة عشر منها فوجدت إحدى عشر في "الاستذكار"763،محمد بن الحسن الشيباني (ت189 ه) ذكر73 تتبعت إحدى عشر منها فوجدت تسعة منها في "الاستذكار" 764مما يرجح أن يكون هذا الأخير مصدرا رئيسا له في نقل آراء وأقوال هذا الإمام.
أبو جعفر الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي المصري (ت 321 ه) ذكر 16 مرة ،ستة منها تابع فيها ابن عبد البر وبحثت في أربعة مما بقي فوجدتها في (شرح معاني الآثار) للطحاوي765 وعموما فإحالاته على الطحاوي تأتي في سياق تخريج حديث أو الحكم عليه أو ذكر المعتمد في المذهب أو قول إمامه أو تقرير قاعدة معتمدة عندهم أو نقل إجماع أو شرح حديث وتغليب معنى من معانيه أو الانتصار لرأي وهي أمور تخدم مجتمعة بعض ما قصده ابن رشد من "البداية"ويعين عليها أمثال هؤلاء الفحول766 .أبو زيد عبد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي (ت430 ه) ذكر مرة واحدة ،ورجح عندي من خلال السياق أنه الدبوسي رغم اكتفاء ابن رشد بقوله (أبو زيد) وهو من أكابر أصحاب الإمام أبي حنيفة وهو من أحسن من كتب الأصول على طريقة الحنفية من المتقدمين.(1/167)
وزعم صاحب "أبجد العلوم" أنه:( أول من أخرج علم الخلاف في الدنيا )767 وله من الكتب تأسيس النظر في اختلاف الأئمة و الأسرار في الأصول والفروع و تقويم الأدلة768.
سوار بن عبد الله القاضي (ت156 ه) ذكر مرتين أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت 157ه) ذكر 108مرة تتبعت إحدى عشر إحالة فوجدت منها ثمانية في "الاستذكار"769، سفيان الثوري (ت 161ه) ذكر219 مرة تتبعت أربعة عشر منها فوجدتها جميعا في "الاستذكار"770،الليث بن سعد(ت 164ه) ذكر 81 تتبعت إحدى عشر منها فوجدت عشرة في "الاستذكار"771عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون(ت 164ه) ذكرخمس مرات لم أجد منها في "الاستذكار" سوى واحدة772، عبيد الله بن الحسن العنبري (ت168 ه) ذكر مرة واحدة وهي موجودة في "الاستذكار"773
أبو عبد الله الحسن بن صالح بن حيي الكوفي (ت 169ه) ذكر تسع مرات تتبعت أربعة ووجدتها في "الاستذكار"774شريك بن عبد الله النخعي (ت 177ه) ذكر مرتين وهي في "الاستذكار"775
مالك/مالكية (ت 179 ه) ذكر2343 أبو عمر عثمان بن عيسى بن كنانة المدني من أصحاب مالك (ت186 ه) ذكر سبع مرات لم أجده في "المنتقى" ولا في "الاستذكار" إلا إحالة واحدة776،
،عبد الله بن وهب صاحب مالك صنف الموطأ الكبير والصغير (ت197 ه) ذكر26 مرة تتبعت ثلاثة عشر منها فوجدت سبعة منها في "الاستذكار"777 واثنتين في "المنتقى"778،أشهب بن عبد العزيز بن داود المصري (ت204 ه) ذكر84 مرة تتبعت خمسة عشر منها فوجدت تسعة في "الاستذكار"779 واثنتين في "المنتقى"780
ابن نوار يبدو أنه محمد بن النوار (روى عنه شعبة ت160.(1/168)
والنضر بن الشميل ت 204 ) ذكر مرة واحدة ، عبد الله بن نافع الصائغ (ت206 ه) ذكر ثماني مرات تتبعتها فوجدت أربعة منها في "الاستذكار"781، عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون (ت212 ه) ذكر61 مرة تتبعت خمسة عشر منها فوجدت عشرة في "الاستذكار"782 وواحدة في "المنتقى"783،عيسى بن دينار الأندلسي (ت212 ه) ذكر مرة وهي في "الاستذكار"784،محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام المالكي المديني (ت216 ه) ذكر مرة واحدة ولم أجدها في "الاستذكار" ولا في "المنتقى" ، أصبغ بن الفرج (ت225 ه) ذكر 12مرة ،تتبعت ثمانية منها فلم أجدها في "الاستذكار" ووجدت واحدة منها في "المنتقى"785يحيى بن يحيى بن بكير القرطبي (ت226 ه) ذكر مرتين، يحيى بن عبد الله بن بكير المصري سمع من مالك الموطأ 17 مرة (ت 231ه) ذكر مرة واحدة وهو موجود في "المنتقى"786 .
عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون الأندلسي صاحب الواضحة (ت238 ه) ذكر24 مرة .محمد بن المواز (ت 245ه) ذكر تسع مرات787،ولم أجد شيئا منها في "الاستذكار"ولا في"المنتقى". المغيرة المخزومي من أصحاب مالك (لم أقف على وفاته) ذكر تسع مرات ، علي بن محمد بن أحمد البصري من أصحاب الأبهري أبو تمام (ت256 ه) ذكر مرة واحدة788 ولم أجده في "الاستذكار" قال فيه صاحب الديباج:( كان جيد النظر حسن الكلام وله كتاب مختصر في الخلاف يسمى نكت الأدلة وله كتاب آخر في الخلاف كبير وكتاب في أصول الفقه)789.(1/169)
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم من أصحاب مالك (ت 268ه) ذكر16 مرة تتبعت أربعة فوجدت اثنتين منها في "الاستذكار"790 وواحدة في "المنتقى"791،إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم القاضي المالكي البغدادي (ت282 ه) له المبسوط و الأحكام ذكر خمس مرات792 لم أجد في "الاستذكار" غير إحالتين793،محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي له كتاب في مسائل الخلاف تفقه بإسماعيل القاضي (ت305 ه) ذكر مرة واحدة 794 لم أجده في"الاستذكار"محمد بن أحمد بن سهل البركاني المالكي البغدادي (ت310ه) ذكر مرتين795 أبو الفرج عمرو بن عمرو الليثي القاضي صاحب الحاوي في مذهب مالك (ت331 ه) ذكر مرة واحدة، عبد الله بن الحسن بن سعدويه المالكي الأبهري البغدادي (ت 350 ه) ذكر مرة واحدة796 ولم أجد موضع ذكره في "الاستذكار". .
وأبو محمد عبد الوهاب القاضي شيخ المالكية في زمانه (ت362 ه) ذكر19 مرة797 ليس فيها شيء في "الاستذكار"مما يرجح رجوعه إلى كتبه798 وخصوصا ما يتعلق بالخلاف حيث نقل عنه مرة رأيا للشافعية799 وكذا في تحقيق أقوال المذهب800.مما يرجح اطلاعه على كتبه.
أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد التميمي الأبهري البغدادي (ت375 ه) من أصحاب إسماعيل بن إسحاق القاضي ذكر مرتين801 وهما غير موجودتين في "الاستذكار" ولا في "المنتقى" مما يرجح رجوعه إلى كتبه، قال عنه صاحب الديباج:( وله التصانيف في شرح مذهب مالك والإحتجاج له والرد على من خالفه وكان إمام أصحابه في وقته(...) وشرح المختصرين الكبير والصغير لابن عبد الحكم وانتشر عنه مذهب مالك في البلاد وكان القيم برأي مالك في العراق في وقته معظما عند سائر علماء وقته (...)(1/170)
ولم يعط أحد من العلم والرياسة فيه ما أعطى الأبهري في آلاف من الموافقين والمخالفين ولقد رأيت أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إذا اختلفوا في أقوال أئمتهم يسألونه فيرجعون إلى قوله، وسمعته يقول: كتبت بخطي المبسوط والأحكام لإسماعيل واسمعة ابن القاسم وأشهب وابن وهب وموطأ مالك ،وموطأ ابن وهب، ومن كتب الفقه والحديث نحو ثلاثة آلاف جزء بخطي)802.
أبو القاسم عبيد الله بن الحسن بن الجلاب صاحب الأبهري المالكي البغدادي له التفريع ومسائل الخلاف (ت378 ه) ذكر مرة واحدة803 والإحالة غير موجودة لا في "الاستذكار" ولا في "المنتقى"، علي بن أحمد البغدادي القاضي أبو الحسن المعروف بابن القصار (ت397 ه) ذكر ثلاث مرات804 لم أجد شيئا منها في "الاستذكار" ولا في "المنتقى"مما يرجح إطلاعه على كتبه ويقوي ذلك قوله:( والذي حكيناه عن مالك هو الذي حكاه أهل مسائل الخلاف كابن القصار وغيره عنه )805 ،قال فيه صاحب الديباج:( تفقه بالأبهري (...)
وله كتاب في مسائل الخلاف لا أعرف للمالكيين كتابا في الخلاف أكبر منه وكان أصوليا نظارا (...) وقال أبو ذر هو أفقه من رأيت من المالكيين)806 ، أبو بكر الباقلاني (ت403 ه) ذكر مرة واحدة ،وقد ذكره ابن رشد لموقفه من قياس الشبه 807 وهي غير موجودة لا في "الاستذكار"و لا في "المنتقى" مما يرجح إطلاعه على كتبه وخصوصا ما يتعلق منها بالأصول .
ذكره القاضي عياض في طبقات المالكية فقال هو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة المتكلم على لسان أهل الحديث،وقال الذهبي:( سمعت علي بن محمد الحربي يقول جميع ما كان يذكر أبو بكر بن الباقلاني من الخلاف بين الناس صنفه من حفظه وما صنف أحد خلافا إلا احتاج أن يطالع كتب المخالفين سوى ابن الباقلاني)808 وكان مدرسا للأصول وله كتاب التقريب وعند الأشعرية إذا أطلق القاضي في الأصول فهو أبو بكر الباقلاني809 .(1/171)
أبو بكر أحمد بن محمد بن رزق الأموي على ما سماه تلميذه ابن رشد الجد (ت477 ه) وكناه الذهبي وغيره بأبي جعفر ووصفه بالإمام:( شيخ المالكية(...) روى عن محمد بن عتاب وأبي شاكر القبري وابن عبد البر تفقه به أبو الوليد بن رشد وقاسم بن الأصبغ وهشام بن إسحاق وكان من العلماء العاملين دينا صالحا حليما خاشعا يتوقد ذكاء قال أبو الحسن بن مغيث كان أذكى من رأيت في علم المسائل(...) قال ابن بشكوال كان مدار طلبة الفقه بقرطبة عليه في المناظرة والتفقه)810 وقد ذكر مرة واحدة.
علي أبو الحسن بن محمد الربعي المعروف باللخمي (ت498 ه) ذكر ست مرات811 وقال عنه صاحب الديباج :كان(فقيها فاضلا دينا متفننا ذا حظ من الأدب وبقي بعد أصحابه فحاز رياسة أفريقية جملة وتفقه به جماعة من أهل صفاقس أخذ عنه أبو عبد الله المازري وأبو الفضل النحوي وأبو علي الكلاعي وعبد الحميد الصفاقسي وعبد الجليل بن فوز وله تعليق كبير على المدونة سماه التبصرة مفيد حسن لكنه ربما اختار فيه وخرج فخرجت اختياراته عن المذهب)812
وقد نقل ابن رشد جملة من تلك الآراء813، أبوبكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الأندلسي الطرطوشي (ت520 ه) ذكر مرة واحدة814 لازم القاضي أبا الوليد الباجي بسرقسطة وأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع بالبصرة سنن أبي داود من أبي علي التستري وحكى بعض العلماء أن أبا بكر الطرطوشي أنجب عليه نحو من مئتي فقيه مفتي وله مؤلف في تحريم الغناء وكتاب في الزهد وتعليقة في الخلاف ومؤلف في البدع والحوادث وبر الوالدين والرد على اليهود والعمد في الأصول ورسالة في الرد على إحياء الغزالي815 .(1/172)
أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري المالكي(ت536 ه) كان أحد الأذكياء الموصوفين والأئمة المتبحرين وهو آخر المتكلمين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر كما وصفه بذلك القاضي عياض وزاد :ولم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه منه ولا أقوم بمذهبهم، أخذ عن اللخمي وأبي محمد عبد الحميد السوسي وغيرهما.
وله من الكتب: كتاب المعلم بفوائد شرح مسلم ومصنف كتاب إيضاح المحصول في الأصول وله تواليف في الأدب وله شرح كتاب التلقين لعبد الوهاب المالكي في عشرة أسفار هو من أنفس الكتب و شرح البرهان لأبي المعالي الجويني وكتب الرد على الإحياء وتبيين ما فيه من الواهي والتفلسف وكان بصيرا بعلم الحديث816 ذكر مرة واحدة817
عبد الله بن المبارك مولى بني حنظلة (ت 181ه) ذكر سبعة مرات خمس منها في "الاستذكار"818، أبو البشر إسماعيل بن إبراهيم بن علية الأسدي رئيس متفقهة البصرة في زمانه والمعروف بابن علية (ت193 ه) تتبعتها فوجدت أربعة في "الاستذكار"819 ذكر ست مرات سفيان بن عيينة (ت198 ه) ذكر مرتين ، عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الهمداني الخريبي فقيه البصرة (ت 213ه) ذكر مرة واحدة وهي موجودة في "الاستذكار"820 أبو ثور (ت240 ه) ذكر 176مرة تتبعت ثمانية منها فوجدتها في "الاستذكار"821.
وابن جريرالطبري (ت310 ه) ذكر17 مرة وقد تتبعتها فوجدتها جميعا في "الاستذكار"822سوى ثلاث إحالات:إحداهما في قول ابن جرير بالتخيير بين غسل الرجلين ومسحهما والثانية في إمامة المرأة والثالثة في تجويزه أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق823.الحسن بن محمد التميمي يبدو انه صاحب كتاب الإنصاف (لم قف على وفاته) ذكر مرة واحدة824.(1/173)
الشافعي (ت204 ه) ذكر ومعه المذهب الشافعي 1460مرة تتبعت ثلاثة عشر منها ووجدتها جميعا في "الاستذكار"825،أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري صاحب الشافعي (ت264 ه) ذكر17 مرة تتبعتها جميعا فوجدتها في "الاستذكار"826 غير ثلاثة منها827 ، أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج القاضي (ت 306ه) ذكر ثلاث مرات828 لم أجد منها في "الاستذكار" غير واحدة829.
قال فيه صاحب طبقات الشافعية (حامل لواء الشافعية في زمانه وناشر مذهب الشافعي(...) شيخ الأصحاب وسالك سبيل الإنصاف وصاحب الأصول والفروع الحسان وناقض قوانين المعترضين على الشافعي ومعارض جوابات الخصوم وقال الشيخ أبو إسحاق كان من عظماء الشافعيين وعلماء المسلمين وكان يقول له الباز الأشهب)830،
أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (ت318ه) ذكره ابن رشد 32 مرة831،وإن كان محسوبا في عداد فقهاء الشافعية فهو كما يقول النووي:( له من التحقيق في كتبه مالا يقاربه فيه أحد وهو في نهاية من التمكن من معرفة الحديث وله اختيار فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه بل يدور مع ظهور الدليل)832 وذكر الذهبي أنه من( حملة الحجة جار في مضمار ابن جرير وابن سريج وتلك الحلبة رحمهم الله)833 وقد نقل في هذه الإحالات عنه: الإجماع فهو صاحب الكتاب فيه والاختلاف فهو(ممن ذكر الخلاف)834
وينقل عنه الروايات ويصححها ويرجح من المذاهب ويختار،ويتصرف تصرف المشرف على الآراء والآثار،مثل قوله في المصلي:هل يرد السلام؟( ومن قال لا يرد ولا يشير فقد خالف السنة)835 وقد تتبعت ثلاثة من إحالاته836 فلم أجدها في "الاستذكار" مما يرجح أن تكون كتب ابن المنذر مصدرا من مصادر "البداية".أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر الدقاق الأصولي الشافعي (ت 392 ه) ذكر مرة واحدة وغير موجودة لا في "الاستذكار"و لا في "المنتقى" كان فقيها أصوليا شرح المختصر وله كتاب في الأصول على مذهب الشافعي837 وذكره بسبب رأيه الأصولي838 .(1/174)
أبو حامد الغزالي (ت505 ه) ذكر ست مرات839،أما الأولى عند قوله في مسألة هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن في غير سورة النمل:( وأما أبو حامد فانتصر لهذا بأن قال إنه أيضا لو كانت من غير القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك) والثانية عند قوله:(وحكى أبو حامد عن الشافعي أنه يحرم لحم الحيوان المنهي عن قتله قال كالخطاف والنحل فيكون هذا جنسا خامسا من المختلف فيه)
والثالث عندما علق على رأيه السالف:( وأما ما حكاه أبو حامد عن الشافعي في تحريمه الحيوان المنهي عن قتله كالخطاف والنحل زعم فإني لست أدري أين وقعت الأثار الواردة في ذلك ولعلها في غير الكتب المشهورة)والرابع عند قوله:( والشافعي يقول لا تنعقد الشركة إلا على أثمان العروض وحكى أبو حامد أن ظاهر مذهب الشافعي يشير إلى أن الشركة مثل القراض لا تجوز إلا بالدراهم والدنانير قال والقياس أن الإشاعة فيها تقوم مقام الخلط).
والخامس عند قوله:(وعن الشافعي قولان في رهن الثمر الذي لم يبد صلاحه ويباع عنده عند حلول الدين على شرط القطع قال أبو حامد والأصح جوازه ) والسادس قوله:(واختلف عن الشافعي في جواز التقاط الكافر قال أبو حامد والأصح جواز ذلك في دار الإسلام قال وفي أهلية العبد والفاسق له قولان فوجه المنع عدم أهلية الولاية ووجه الجواز عموم أحاديث اللقطة) وتعمدت سرد هذه الإحالات الستة لإبداء بعض الملاحظات،من ذلك أنها كلها في الفروع الفقهية وبالضبط في الفقه الشافعي بينما كان ينتظر أن تكون الإحالة عليه أكثر في القضايا الأصولية كما فعل مع الباقلاني والدقاق والجويني وإلى حد ما مع ابن حزم وهو لا يقل شأنا عن هؤلاء الفحول في مجال الأصول وخصوصا وقد خبر آراءه من خلال تلخيص المستصفى قبل أن يقدم على تأليف "البداية".(1/175)
ثم إن هذه النقول قصدت في عمومها أو كذلك يبدو إلى مواطن ضعيفة أي لا تظهر قوة آراء الغزالي ،فانتصاره لرأي الشافعي في مسألة البسملة ختمه ابن رشد بقول:(وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم) وما حكاه عن تحريم الحيوان المنهي عن قتله كالخطاف والنحل قال ابن رشد بعده: ( فإني لست أدري أين وقعت الأثار الواردة في ذلك ولعلها في غير الكتب المشهورة ) والباقي في بعض الشروح والترجيح.فهل يكون الأمر اتفاقا أم توحي بأن في نفس ابن رشد شيء من بقية خصومة فكرية ألقت بظلالها في رحاب الفروع ؟
والإمام أحمد (ت241 ه) ومذهب الحنابلة ذكر 245 مرة تتبعت عشرإحالات فوجدت تسعة840 منها في "الاستذكار"غير أن واحد ة وقع فيها خطأ،ومن أصحابه:أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الحنبلي المعروف بالأثرم صاحب السنن (ت230 ه) ذكر مرتين جميعها في "الاستذكار".841
أبو سليمان داود بن علي بن داود الظاهري البغدادي إمام الظاهرية (ت270 ه) ذكر160 مرة تتبعت عشر إحالات فوجدتها جميعا في "الاستذكار"842 إلا واحدة منها ولم أجدها لا في "محلى" ابن حزم ولا في "المنتقى"، أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الظاهري العراقي الذي يذكر أنه عنه انتشر مذهب داود بالعراق وهو صاحب الموضح في الفقه (ت 324ه) ذكر مرة واحدة843 ولم ينقله عن "الاستذكار" ولم أجده في "محلى" ابن حزم فرجح عندي رجوعه إليه.أبو محمد بن حزم (ت456 ه) ذكر 17 مرة إذا استثنينا ستا وردت له بخصوص الحديث وسبق الإحالة عليها،وهذه بدورها جميعا844 في "المحلى" سوى واحدة845 لم أجدها فيه ولا في "الإحكام" له وأغلب الإحالات فقهية وتتخللها آراء أصولية.
ولم يذكر في اللغويين غير خليل بن أحمد الفراهدي846 حيث كذبه في زعم بقاء الشفق الأبيض إلى ثلث الليل بينما اكتفى ابن عبد البر بنقل زعمه ،و أبي بكر بن الأنباري (ت328ه)847 ولم ينقله عن "الاستذكار".(1/176)
وتجدر الإشارة في ختام مبحث مصادر "البداية" إلى أن مادة الكتاب يمكن الاطمئنان إليها إلى حد كبير، فنصوص القرآن الكريم لا غبار عليها ومن السهل تحقيقها والتحقق منها ولم أجد في مطالعة الكتاب ما يستحق الذكر في ذلك، وأما الأحاديث الواردة في الكتاب، فممن تتبع أمرها الشيخ المحدث أحمد بن الصديق الغماري في كتابه:(الهداية في تخريج أحاديث البداية) فقد تتبع حالة ما يقارب ألفا وثمانمائة حديث واردة في "البداية"،ولم يخطئ ابن رشد إلا في تسعين منها،وهي نسبة على فرض التسليم بصحة كل ما قاله في ذلك، تبقى نسبة ضعيفة لا تتعدى 5% من مجمل أحاديث "البداية".
وقد خطأه في حوالي عشرين موضعا في ضبط رواة الأحاديث،وفي ثلاثة عشر موضعا بالقول بأنه لم يقف على الرواية التي أوردها ابن رشد.وفي اثنتي عشر موضعا بخطئه في صيغة الحديث ، وبمثل هذا العدد بالقول بأن الحديث لم يخرجه البخاري أو مسلم في الوقت الذي حكم فيه ابن رشد بأنه أخرجه أحدهما، وفي تسعة مواضع بأن الحديث لا أصل له،وفي خمسة أخرى قال ابن رشد بعدم صحة الحديث وهو صحيح،وفي مثلها حكم ابن رشد برفع الحديث وهو موقوف،وفي ثلاثة مواضع قال بأن الحديث متفق عليه وليس كذلك،وفي موضعين صحح الحديث وهو ضعيف،وفي موضع آخر ذكر بأن الحديث ليس في الصحيحين وهو موجود، وفي موضع حكم بتواتر الحديث وهو ليس كذلك.(1/177)
وأود التنبيه هنا إلى أن ابن رشد قد يتابع فيما أورد عليه ابن الصديق من ملاحظات، من قبله من علماء هذا الشأن، فهو لم يدع لنفسه أنه من أهل صناعة الحديث ،ولم يدعها له أحد. ومن ذلك ما أورده صاحب "الهداية" نفسه حيث ادعى ابن رشد أن المضمضة نقلت من فعله صلى الله عليه وسلم ولم تنقل من أمره فرد عليه الغماري بقوله:(بل نقلت من أمره أيضا كما نقلت من فعله) وذكر أنه ورد في ذلك حديث:(إذا توضأت فمضمض) وسنده صحيح (إلا أن هذه اللفظة لما لم يتفق عليها سائر الرواة،وذكرها أبو داود مفردة عن الحديث ،لم ينتبه لها أكثر الفقهاء فأنكروا وجود الأمر بها كما فعل ابن حزم وابن عبد البر وتبعه ابن رشد مع أن الأمر قد ورد من وجوه أخرى)848.
وأما بخصوص المذاهب وآراء الفقهاء، فبالإضافة إلى تبرئة ابن رشد نفسه بتوضيح مصادر مادته وخصوصا إحالته على "الاستذكار" ، فقد تتبع أحد المعاصرين أقوال المذاهب فيه وهو:د.عبد الله العبادي في عمله العلمي على هامش "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" والذي سماه:( السبيل المرشد إلى بداية المجتهد ونهاية المقتصد) حيث صحح نسبة الأقوال إلى أصحابها وبين الأخطاء الواقعة في ذلك حسب رأيه واجتهاده.(1/178)
وكانت ملاحظاته محدودة بالنظر إلى حجم الكتاب والعدد الكبير من الأقوال والآراء فمثلا لم تتعد خمسة مواطن في مذهب مالك849 وسبعة في مذهب أبي حنيفة850 وعشرة في مذهب الشافعي851 وموطن واحد في مذهب أحمد بن حنبل852 وابن سيرين 853 والليث بن سعد854 وابن المنذر 855 وأبي ثور856 وسفيان الثوري857 والنووي858 وزفر 859 وموطنان للحسن البصري860 وفي مسألة الاتفاق 861 وليس الأمر كذلك . وستة مواطن في الإجماع862 وأربعة حكى فيها الاختلاف863 وليس الأمر كذلك، وثلاثة مواطن قال فيها قال قوم في حين لم يسند فيها الرأي لأحد864 . وهي في مجموعها لا تتعدى سبعة وأربعين موطنا من بين حوالي خمسمائة وألف مسألة مختلف فيها أوردها في الكتاب أي بنسبة لا تتعدى 3.13 % .
- ويقل شأن هذه النسبة إذا استحضرنا جملة أمور :
1-تسليمنا مبدئيا بعمل صاحب (السبيل المرشد إلى بداية المجتهد ونهاية المقتصد ) رغم أن بعض صيغه في التعليق على ابن رشد ليست مقنعة علميا إذ أن عدم الإطلاع على رأي ليس حجة في إبطال مذهب المثبت، وخصوصا في المجال الفقهي حيث يصعب حصر المذاهب والإحاطة بالأقوال، يضاف إلى ذلك تعدد الآراء في المسألة الواحدة للفقيه الواحد، وقد يكون له فيها القديم والجديد أو يكون أحد الآراء اشتهر عنه دون الآخر . ولهذا يبقى قوله مثلا :( لم أر من نسب هذا القول لزفر 865 أو لهما (الثوري والحسن ) أوإلى مالك866 والليث867 والشافعي868 أو (لم أطلع على هذا الاختلاف)869 مسألة نسبية قابلة للأخذ والرد والنقاش .
2-ذكر ابن رشد لأهم المصادر التي اعتمدها في نسبة المذاهب إلى أصحابها-كما رأينا في هذا المبحث يخفف من مسؤوليته إلى حد كبير في هذا المجال ويحيلها عمن ذكر أنه نقل عنهم .(1/179)
3- الذي تعرف على ابن رشد من خلال مؤلفاته وخصوصا كتاب "البداية" يتأكد بأن تحقيق تلك الأقوال لم يكن صعبا عليه، وإنما اتجه اهتمامه أساسا إلى توضيح مناهج العلماء في استنباط الأحكام، وربط الفروع بالأصول والوقوف على أسباب الاختلاف ولم يكن قصده تحقيق الفروع الفقهية كما فعل ابن حزم في المحلي وابن قدامة في المغني والنووي في المجموع .. فكثيرا ما يؤكد ابن رشد (وليس كتابنا هذا كتاب فروع وإنما هو كتاب أصول870.
وأقول إذا ساد الاطمئنان في شأن آيات وأحاديث الأحكام و آراء ومذاهب العلماء، لم يبق من مادة الكتاب في الغالب الأعم ،سوى آراء ابن رشد وانتقاداته وترجيحاته.والحمد لله.
المبحث الرابع
منهجية ابن رشد وأسلوبه
في عرض مادة " البداية "
أولا- المنهجية المثلى عند ابن رشد
أورد ابن رشد نموذجا مثاليا للطريقة التي ود لو سلكها في الكتاب كله لولا خوف الطول ، وهي التي عرضها عندما كان بصدد المسألة الأولى871 من الباب الثالث المتعلق بالمياه,حيث ذكر الاختلاف الوارد في الباب، و أصحاب كل رأي فيه، و سبب الاختلاف الواقع بينهم، و عرض لمنهج العلماء في التعامل مع هذا السبب ،و كيف يدفع تعارض ظواهر الأحاديث, و بين ما يعترض كل رأي ووجاهة ما يراه . و رجح الأولى و الأحسن طريقة بعد مناقشة مستفيضة بل أحدث رأيا جديدا ودحض الرأي المخالف، و لم يبال أن يكون هو الرأي الذي استقر عليه الفقهاء أو يعجب به كثير من المتأخرين.
فقد بدأ حديثه في الباب الثالث في المياه بذكر أصل وجوب الطهارة و ما ورد من آيات في الموضوع و ذكر إجماع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها إلا ما كان من خلاف شاذ في الصدر الأول في التطهر بماء البحر , واعتبرأ صحابه محجوجون بتناول اسم الماء المطلق لماء البحر و بالأثر الذي خرجه مالك و هو قوله عليه الصلاة و السلام في البحر :(هو الطهور ماؤه الحل ميتته) .(1/180)
و كذلك إجماعهم على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا أنه لا يسلبه الطهارة و التطهير، إلا خلافا شاذا رد فيه ابن رشد على صاحبه. و اتفقوا على أن الماء الذي غيرت النجاسة إما طعمه، أو لونه أو ريحه أو أكثر من واحدة من هذه الأوصاف أنه لا يجوز به الوضوء , و أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه و أنه طاهر . و بعد ذكر الإجماع الوارد في الباب شرع في ذكر ما اختلف فيه من مسائل تجري مجرى القواعد و الأصول للباب .
وأولى هذه المسائل اختلافهم في الماء إذا خالطته نجاسة و لم تغير أحد أوصافه .
أ- الأقوال الواردة في الموضوع :
1-قول أهل الظاهر و رواية عن مالك :هو طاهر سواء أكان كثيرا أم قليلا .
2-قول أبي حنيفة و الشافعي : بالفرق بين القليل و الكثير .بحيث يكون نجسا إن كان قليلا و غير نجس إن كان كثيرا .و حد الكثرة عند أبي حنيفة إذا حركه آدمي من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطرف الثاني منه، و أما عند الشافعي فقلتان من قلال هجر و ذلك نحو خمسمائة رطل .
3- رواية عن مالك : أن النجاسة تفسد قليل الماء و إن لم تغير أحد أوصافه , و لم يحد في ذلك حدا.
4-رواية أخرى عن مالك: القول بكراهة الماء اليسير تحل فيه النجاسة اليسيرة.
ب-ذكر سبب الاختلاف:
حدده ابن رشد في تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في الموضوع و اختلاف العلماء في طريق الجمع بينها.
1-الأحاديث الواردة في الموضوع:
-حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء , فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده )872
-حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه).(1/181)
- ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم. أقول قد جاء في كتاب الطهارة من صحيح مسلم باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد من حديث أبي هريرة . قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم و هو جنب ) فقال رجل كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ فقال : يتناوله تناولا . و عند أبي داود كتاب الطهارة من السنن باب البول في الماء الراكد من وجه آخر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم و لا يغتسل فيه من جنابة).
و هي أحاديث يفهم من ظاهرها أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء . أما ما يفيد بظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء فهي الأحاديث التالية :
-حديث أنس الثابت :( أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها , فصاح به الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه. فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب ماء فصب على بوله ) إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب.
-حديث أبي سعيد الخدري كذلك أيضا أخرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: ( إنه يستقى من بئر بضاعة , و هي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب و المحائض و عفرة الناس , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الماء لا ينجسه شيء).
2- منهج العلماء في التعامل مع الأحاديث الواردة:
-أهل الظاهر و رواية عن مالك : استندوا في قولهم بطهر الماء سواء أكان كثيرا أم قليلا , إلى ظاهر حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد . و أما عن حديثي أبي هريرة فعندهم غير معقولي المعنى , و امتثال ما تضمناه يكون عبادة, لا لأن ذلك الماء ينجس , حتى أن الظاهرية أفرطت في ذلك, فقالت : لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح , لما كره الغسل والوضوء به.
- رواية الكراهة عن مالك: مستندها حمل حديثي أبي هريرة على الكراهة و حمل حديث الأعرابي و حديث أبي سعيد على ظاهرهما أي على الإجزاء.(1/182)
-و أما الشافعي و أبو حنيفة : فجمعا بين حديثي أبي هريرة و حديث أبي سعيد الخدري بأن حملا حديثي أبي هريرة على الماء القليل , و حديث أبي سعيد الخدري على الماء الكثير.ثم بين ابن رشد مستند كل منهما في حد الكثرة عندهما.
و لم يذكر مستند مالك في رواية أخرى عنه يرى فيها أن النجاسة تفسد قليل الماء و إن لم يتغير أحد أوصافه و لم يحد في ذلك حدا.
ج- تعقيب و مناقشة :
1-مذهب الشافعي و الإمام أبي حنيفة يعارضه حديث الأعرابي و لا بد.
2-الشافعية يتولون البحث عن مخرج لهذا التعارض بتفريقهم بين ورود الماء على النجاسة, و ورودها على الماء , فقالوا إن ورد عليها الماء كما في حديث الأعرابي لم ينجس , و إن وردت النجاسة على الماء كما في حديث أبي هريرة نجس.
3-الجمهور من الفقهاء يردون هذا الرأي و يعتبرونه تحكما.
4-ابن رشد يتولى الدفاع عن رأي الشافعية بأن له إذا تؤمل وجه من النظر, باستناده إلى إجماعين: إجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا كان الماء الكثير بحيث يتوهم أن النجاسة لا تسري في جميع أجزائه و أنه يستحيل عينها عن الماء الكثير. و يتفرع عن هذا الإجماع إجماع آخر على أن مقدار ما يتوضأ به يطهر قطرة البول الواقعة في الثوب أو البدن.
و يزيد المسألة تفصيلا بقوله :( فلا يبعد أن قدرا ما من الماء لوحله قدرا ما من النجاسة لسرت فيه ,و لكان نجسا . فإذا ورد ذلك الماء على النجاسة جزءا فجزءا فمعلوم أنه تفنى عين تلك النجاسة و تذهب قبل فناء ذلك الماء.وعلى هذا فيكون آخر جزء ورد من ذلك الماء قد طهر المحل )(1/183)
5-رد ابن رشد اعتراض الفقهاء المتأخرين على رأي الشافعية في نجاسة الماء القليل إذا وردت عليه النجاسة عندما قالوا:( لو كان قليل النجاسة ينجس قليل الماء.لما كان الماء يطهر أحدا أبدا إذ كان يجب على هذا أن يكون المنفصل من الماء عن الشيء النجس المقصود تطهبره أبدا نجسا) فقال ابن رشد بإنه قول لا معنى له وإن كان يعجب به كثير من المتأخرين وبأنهم احتجوا بموضع الإجماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك.والموضعان في غاية التباين،وهو يشير إلى ما سبق أن ذكره من إجماع العلماء على أن مقدار ما يتوضأ به يطهر قطرة البول الواقعة في الثوب،أو البدن.واختلفوا إذا وقعت القطرة من البول في ذلك القدر من الماء.
د- رأي ابن رشد في الموضوع:
يقول في ذلك (وأولى المذاهب عندي وأحسنها طريقة في الجمع هو أن يحمل حديث أبي هريرة وما في معناه على الكراهية وحديث أبي سعيد وأنس على الجواز لأن هذا التأويل يبقي مفهوم الأحاديث على ظاهرها أعني حديثي أبي هريرة من أن المقصود بها تأثير النجاسة في الماء ،وحد الكراهية عندي هو ما تعافه النفس وترى أنه ماء خبيث وذلك أن ما يعاف الإنسان شربه يجب أن يجتنب استعماله في القربة إلى الله تعالى وأن يعاف وروده على ظاهر بدنه كما يعاف وروده على داخله)873 ثم ختم المسألة بقوله:( ولوددنا لو أن سلكنا في كل مسألة هذا المسلك لكن رأينا أن هذا يقتضي طولا وربما عاق الزمان عنه وأن الأحوط هو أن نؤم الغرض الأول الذي قصدناه فإن يسر الله تعالى فيه وكان لنا انفساح من العمر فسيتم هذا الغرض )874 ولهذا ما لبث يذكر بأنه يورد غالبا من المسائل ما يجري مجرى القواعد والأصول وأمهات الأمور المتفق عليها والمختلف فيها.(1/184)
ويستحسن في هذا المجال عقد المقارنة بين ابن رشد وغيره، حتى يتضح الجديد عنده وما به يتميز،وسأعمد إلى هذه المسألة بعينها أي مخالطة النجاسة للماء بما لا يغير أحد أوصافه، وإن كان هذا بدوره لن يعطي الصورة كاملة.
لأننا نأخذ من ابن رشد أقوى ما عنده في الوقت الذي قد تكون قوة غيره من المؤلفين في غير هذه المسألة، إذ التأليف لا يكون عادة بنفس القوة في المواطن كلها فيفتح على المرء في مسألة ما لم يفتح له في أخرى ،ولكن يبقى التسديد والتقريب مبلغ المنى.فنأخذ من المذهب المالكي "استذكار" ابن عبد البر و"منتقى" الباجي ومن المذهب الشافعي "المجموع" للنووي ومن المذهب الحنفي "مشكل الآثار"للطحاوي ومن المذهب الحنبلي"المغني" لابن قدامة ومن المذهب الظاهري"المحلى"لابن حزم
-"استذكار" ابن عبد البر:
أورد ابن عبد البرالمسألة في باب الطهورللوضوء من كتاب الطهارة وبدأه كعادته:
1-بحديث الموطأ والذي فيه ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) فتحدث بما تيسر عن إسناده ثم بعض الروايات الأخرى التي تعضد الحديث محيلا على "التمهيد" له لمن أراد التوسع والاستزادة. ثم قال بعد ذلك:( وهذا إسناد وإن لم يخرجه أصحاب الصحاح فإن فقهاء الأمصار وجماعة من أهل الحديث متفقون على أن ماء البحر طهور بل هو أصل عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها وهذا يدلك على أنه حديث صحيح المعنى يتلقى بالقبول والعمل الذي هو أقوى من الإسناد المنفرد) ثم بين اختلاف رواة الموطأ في بعض الألفاظ ووجه ذلك.
2-ذكر آراء الصحابة بما فيها الشاذ الذي كره الوضوء بماء البحر كابن عمر معتبرا أن (ليس في أحد حجة مع خلاف السنة) وبين أن في المسألة وما يشبهها من الماء الكثير المستبحر إجماع من تدور عليهم وعلى أتباعهم الفتوى.
3-قال بعد ذلك:( وهذا موضع القول في الماء واختلاف ما فيه للعلماء):(1/185)
-فالكوفيون تفسد النجاسة عندهم قليل الماء وكثيره إذا حلت فيه إلا الماء المستبحر الذي لا يقدر آدمي على تحريك جميعه وذكر دليلهم.
- رواية المصريين من أصحاب مالك:رووا الرأيين معا عن مالك، والأول مثل رأي الكوفيين والثاني أن الماء القليل يفسده قليل النجاسة وإن الماء الكثير لا يفسده إلا ما غلب عليه من النجاسة أو غيرها فغيره عن حاله في لونه وطعمه وريحه وهو ما استقروا عليه غير أنهم لم يحدوا في ذلك حدا لا لأقله ولا لأكثره .
- الشافعي نحا منحى هذا القول الأخير غير أنه حد في ذلك حدا لحديث القلتين،فحكم بفساد أقل من القلتين تحل فيه النجاسة وبعدم فساد أكثر منها ما لم تتغير حاله.ثم بين ابن عبد البر حجته في ذلك،مشيرا على الجملة إلى الردود المتبادلة بين متأخري المذهبين الشافعي والمالكي في انتصار كل فريق لمذهبه.
-مذهب أهل المدينة من أصحاب مالك وهو الذي تبناه إسماعيل القاضي وغيره من البغداديين من متأخريهم وهو أن الماء لا تفسده النجاسة التي تحل فيه قليلا كان أو كثيرا في بئر أو مستنقع أو إناء إلا أن تظهر فيه وتغيره.ثم بين من ذهب مذهبهم من السلف والخلف.
4-الانتصار للمذهب الذي يراه راجحا وهو المذهب الأخير حيث قال:( وهو الصحيح عندنا في النظر وثابت الأثر وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد)875
-"منتقى" الباجي:
أوضح الباجي في مقدمة كتابه بعض معالم المنهج الذي اعتمده في الكتاب، وذكر أن "المنتقى" مخصص لمن تعذر عليه جمع كتابه"الاستيفاء"وبعد عليه درسه وتحير فيه لكثرة مسائله ومعانيه وصعب عليه فهمه وحفظه، ورغب أن يقتصر فيه على الكلام في معاني ما يتضمنه "الاستيفاء" من الأحاديث والفقه وأصل ذلك من المسائل بما يتعلق بها في أصل كتاب الموطأ ليكون شرحا له وتنبيها على ما يستخرج من المسائل منه.(1/186)
ويشير إلى الاستدلال على تلك المسائل والمعاني ليصلح للمبتدئ سواء اكتفى به أو جعله مقدمة تؤهله للتعامل مع"الاستيفاء" فانتقى من الكتاب ما يفي بالمقصود، وأعرض عن ذكر الأسانيد واستيعاب المسائل والدلالة وما احتج به المخالف وسلك فيه السبيل الذي سلكه في كتاب "الاستيفاء" من إيراد الحديث والمسألة من الأصل وإتباع ذلك ما يليق به من الفرع وأثبته شيوخ المالكية المتقدمين من المسائل وعد من الوجوه والدلائل.
وبين أن ما أورده من الشرح والتأويل والقياس والتنظير ليس طريقه القطع ،وإنما هو مبلغ اجتهاده وما أداه إليه نظره، وما تبيينه لمنهج النظر والاستدلال والإرشاد إلا من الأجل الاعتبار به للنسج على منواله لمن كان من أهل هذا الشأن ومن (لم يكن نال هذه الدرجة فليجعل ما ضمنته كتابي هذا سلما إليها وعونا عليها)876
وبخصوص وجه المقارنة فقد أورد الباجي المسألة في باب حكم الماء877 من كتاب العمل في الوضوء فانطلق بدوره:
1-من حديث الموطأ في الباب وهو نفسه الذي انطلق منه ابن عبد البر فبدأ بشرح نص الحديث من أول ألفاظه (إنا نركب البحر..) وما في ذلك من احتمال عدم إمكان حمل أكثر من ذلك الماء لموضع الضرورة أو باعتبار ذلك مرخصا فيه.ثم عقد فصلا لقوله (هو الطهور) فشرحه.وذكر الإجماع على طهارة ماء البحر بقوله:( لا خلاف في جواز التطهير بماء البحر إلا ما يروى عن عبد الله بن عمر) مذكرا أن حديث الباب نص في الحكم.(1/187)
ثم عقد بابا في حكم الماء الممنوع من استعماله.وقدم رأيه فيه الموافق لشيوخه العراقيين والمشهور من قول مالك على حد تعبيره.وهو جواز استعمال الماء الممنوع إذا لم يوجد غيره.وذكر الآراء داخل المذهب ومن وافقها خارجه، والمخالفة لما ذهب إليه أي القول بالجمع بين الوضوء والتيمم.وقول بعضهم بالتيمم فقط.ثم بين وجه كل قول وما يمكن أن يستنبط من قول ابن القاسم في ذلك بخصوص قليل النجاسة تحل في الماء القليل.وكذا في التيمم مع وجود الماء الممنوع استعماله.ثم عقد بابا آخر في صفة التطهير من هذا الماء وما فيه من تطهير المحل أو تطهير ما أصاب هذا الماء من جسم أو ثوب.ثم وصل إلى الباب المقصود لنا في المقارنة: (باب في الفرق بين الكثير والقليل منه).
2-ذكر بالفرق بين هذا الماء الذي نحن بصدده وبين الكثير الذي لا يؤثر فيه إلا التغيير.فأورد ضابطين:قلته وكثرته من جهة وبقاؤه و تجدده من جهة أخرى و أقوال المذهب في ذلك.ثم عقد فصلا في مراعاة قلة النجاسة و تخفيف حكمها و ذكر ما فيه من تفصيلات ، و حجج كل فريق من أصحاب مالك و علل مذهبهم فيه مثل عدم إمكان التحرز من الأمر أو لوجود الاختلاف فيه. و ما يستنبط من آرائهم من مواضيع أخرى و لها تعلق بمسألة الباب مثل رواية ابن القاسم عن مالك: الجب يوجد فيه الروث طافيا رطبا أو يابسا لا خير فيه قال الباجي :ولعله مبني على قوله بنجاسة أرواثها .
ثم عاد إلى أصل التقسيم ليتحدث عن الماء المضاف وهو الذي تغير بمخالطة ما ليس بقرار له وينفك عنه الماء غالبا، فذكر أن تغيره يكون من ثلاثة أوجه: لونه أو طعمه أو ريحه . واكتفى ابن الماجشون بتغير الطعم واللون ،ثم عقد مسألة واعتبر ما تغير بنجاسة خالطته فلا خلاف في نجاسته وما تغير بطاهر كالزعفران وغيره فإنه طاهر غير مطهر وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة هو طاهر مطهر .ثم ساق دليلا من القرآن والقياس.(1/188)
ثم فرع مسألة حول ما إذا وجد مريد الطهارة الماء متغيرا ولم يدر من أي شيء، فبين أنه ينظر إلى ظاهر أمره فيقضي عليه به وإن لم يكن له ظاهر يحمله على الطهارة، وأما إذا كان له ظاهر ينزف يومين وثلاثة فإن طابت و إلا لم يتوضأ منها ،وذكر مالك في موضع أنه خاف أن تسقيه قناة مرحاض ولو علم أنه ليس منه لم ير به بأسا. و في البئر يمتلئ من النيل إذا زاد ثم تقيم بعد زواله شهرا لا يستقي منها فتتغير رائحتها بغير شيء لا بأس بالوضوء منها . وقد روى أشهب عنه في العتبية قال لا يعجبني خوفا من تأثره بالمراحيض.
وفي ( مسألة ) عقدها فيمن كان عنده مياه فعلم نجاسة أحدها ولم يعلم عينه ،فمنع ابن القاسم التطهر بها وحكى ابن سحنون عن أبيه يتيمم ويتركها، وبه قال المزني ولرجال المذهب آراء غير هذه في الموضوع .ثم عقدا فصلا في شرح (الحل ميتته)
ويلاحظ هنا عند الباجي الميل إلى التقنين ووضع الضوابط وكثرة التفريع والدوران غالبا في فلك المذهب حيث لم يرد في هذه المسألة إذا استثنينا بعض الصحابة سوى الإمام الثوري خارج المذهب.
-"المجموع شرح المهذب"للنووي:
ونختار "المجموع" للفقيه الشافعي الإمام أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي (ت676ه) الذي شرح فيه "المهذب"878 لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (476ه).
وقد بين منهجيته العامة في مقدمة الكتاب879 ،فبخصوص المادة المعتمدة ذكر أن في كتابه جملا من العلوم كالتفسير والأحاديث , والآثار الموقوفة , والفتاوى , والأشعار, والأحكام والأسماء , واللغات..(1/189)
ويبين من الأحاديث : صحيحها , وحسنها , وضعيفها , مرفوعها , وموقوفها , متصلها , ومرسلها , ومنقطعها , ومعضلها , وموضوعها . مشهورها , وغريبها , وشاذها , ومنكرها , ومقلوبها , ومعللها , ومدرجها , وغير ذلك من أقسامها ويبين منها أيضا : لغاتها , وضبط نقلتها , ورواتها , وإذا كان الحديث في صحيحي البخاري , ومسلم اقتصر على إضافته إليهما , إلا نادرا , لغرض في بعض المواطن ; وما ليس في واحد منهما فيضيفه إلى ما تيسر من كتب السنن , وغيرها أو إلى بعضها . فإذا كان في سنن أبي داود , والترمذي , والنسائي أو في بعضها اقتصر على إضافته إليها , وما خرج عنها يضيفه إلى ما تيسر مبينا صحته أو ضعفه ثم يذكر دليلا للمذهب من الحديث [ الصحيح ] إن وجده , وإلا فمن القياس وغيره .
ويبين ما في الكتاب من ألفاظ اللغات , وأسماء الأصحاب , وغيرهم من العلماء , والنقلة , والرواة مبسوطا في وقت , ومختصرا في وقت بحسب المواطن , والحاجة , ويبين فيه الاحترازات , والضوابط الكليات .
وأما الأحكام التي هي مقصود الكتاب , فيوضحها , ويضم إلى الأصل الفروع , والتتمات , والزوائد المستجدة, والقواعد المحررة , والضوابط الممهدة حسب تعبيره. من ذلك ما يذكره في أثناء كلام المصنف , ومنها يذكره في آخر الفصول , والأبواب , ويبين ما ذكره الشيرازي, وقد اتفق أصحاب الشافعي عليه , وما وافقه عليه الجمهور , وما انفرد به أو خالفه فيه معظمهم, وهو قليل جدا كما ذكر, ويبين فيه ما أنكر على المصنف من الأحاديث , والأسماء , واللغات , والمسائل المشكلات , مع جوابه إن كان أهلا لذلك , وما أنكر على المزني في مختصره , و أبي حامد الغزالي في الوسيط , وعلى المصنف في التنبيه , مع بيان الراجح من الأقوال , والأوجه , والطرق من المرجوح ( ولو كان من الأكابر) .(1/190)
وعن مصادره فقد تتبع كتب أصحاب الشافعي من المتقدمين , والمتأخرين إلى زمانه من مبسوط , ومختصر , وغريب , ومشهور , وكذلك نصوص الإمام الشافعي كالأم والمختصر والبويطي , وما نقله المفتون المعتمدون من أصحابه, وتتبع فتاواهم ،فما كان مشهورا يقتصر على ذكره من غير تعيين قائليه لكثرتهم . إلا أن يضطر إلى ذلك لغرض مهم , وحيث يكون ما ينقله غريبا يضيفه إلى قائله في الغالب , وقد يذهل عنه في بعض المواطن ..
ويذكر في الكتاب: مذاهب السلف من الصحابة , والتابعين , فمن بعدهم من فقهاء الأمصار, بأدلتها من الكتاب , والسنة , والإجماع , والقياس , ويجيب عنها (مع الإنصاف إن شاء الله تعالى ) , ويبسط الكلام في الأدلة في بعضها , ويختصره في بعضها بحسب كثرة الحاجة إلى تلك المسألة , وقلتها , ويعرض عن الأدلة الواهية .
وأكثر ما ينقله من مذاهب العلماء من ( كتاب الإشراف , والإجماع ) لابن المنذر , ومن كتب أصحاب أئمة المذاهب , ولا أنقل من كتب أصحابنا من ذلك إلا القليل .
وإذا مر باسم أحد من رجال المذهب، أصحاب الوجوه أو غيرهم أشار إلى بيان اسمه , وكنيته , ونسبه , وربما ذكر مولده , ووفاته , وربما ذكر طرفا من مناقبه , ويجتهد في تجنب التكرار بالإحالة على ما سبق ذكره, إلا ما قصد منه زيادة في الإيضاح بل و لا يترك الإيضاح , وإن أدى إلى التطويل بالتمثيل , ونبه مع ذلك إلى أن طريقته في الكتاب جاءت متوسطة بين المطولات و المختصرات المخلات , ثم ختم ذلك بقوله:( واعلم أن هذا الكتاب , وإن سميته ( شرح المهذب ) فهو شرح للمذهب كله بل لمذاهب العلماء كلهم , وللحديث , وجمل من اللغة , والتاريخ , والأسماء , وهو أصل عظيم في : معرفة صحيح الحديث , وحسنه , وضعيفه , وبيان علله , والجمع بين الأحاديث المتعارضات , وتأويل الخفيات , واستنباط المهمات)880(1/191)
أما عن موضع المقارنة مع المسألة التي اخترناها من "البداية" فقد عقد في كتاب الطهارة بابين قبل الحديث عما يفسد الماء من النجاسة وما لا يفسده881،الأول فيما يجوز به الطهارة من المياه وما لا يجوز،والثاني ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده.فبدأ بقول المصنف ثم أعقبه بالشرح مبينا أن الماء المتغير بالنجاسة مجمع على نجاسته كما حكى ابن المنذر ثم ضعف آخر الحديث الذي أورده المصنف في الباب : { الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه } وحكم بأن شطره الأول صحيح أي (الماء طهور لا ينجسه شيء) ثم بقي الاحتجاج بالإجماع كما ذكر الشافعي.
بعد ذلك عقد النووي فرعا بين فيه اختلاف أهل المذهب وهو وقوع جيفة في الماء الكثير تروح بها بالمجاورة ولم ينحل منها شيء.ثم تعقب قول المصنف(إن تغير بعضه دون بعض نجس الجميع) فقال النووي:( هذه معدودة من مشكلات المهذب وليست كذلك) وذكر فيه وجهين الأول :أنه ينجس الجميع سواء كان الذي لم يتغير قلتين أو أكثر , والثاني وهو الصحيح الجاري على القواعد إن كان الباقي قلتين فطاهر و إلا فنجس.ثم تعقب حديث القلتين بأنه حسن ثابت وشرح لفظة الخبث ثم بين حكم المسألة : وهي إذا وقع في الماء الراكد نجاسة ولم تغيره , فحكى ابن المنذر وغيره فيها سبعة مذاهب للعلماء:
- (الأول) إن كان قلتين فأكثر لم ينجس , وإن كان دون قلتين نجس , قال النووي: وهذا مذهبنا ثم ذكر من معه ومنهم أحمد.
- ( الثاني ) : أنه إن بلغ أربعين قلة لم ينجسه شيء , حكوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ومحمد بن المنكدر.
- ( الثالث ) : إن كان كرا (أي يستوعب ما يقابل إثنا عشر وسقا) لم ينجسه شيء . وروي عن مسروق وابن سيرين
- ( والرابع ) : إذا بلغ ذنوبين لم ينجس , روي عن ابن عباس
- ( الخامس ) : إن كان أربعين دلوا لم ينجس روي عن أبي هريرة(1/192)
- ( السادس ) : إذا كان بحيث لو حرك جانبه , تحرك الجانب الآخر نجس , وإلا فلا , وهو مذهب أبي حنيفة.
- ( والسابع ) : لا ينجس كثير الماء ولا قليله إلا بالتغير وهو مذهب مالك وآخرين و قال ابن المنذر : وبهذا المذهب أقول , واختاره الغزالي و الروياني وقال النووي:(وهذا المذهب أصحها بعد مذهبنا) ثم شرع في حشد الأدلة لرد مذهب أبي حنيفة وتضعيف ما استند إليه مذهبه وبيان ما يقوي رأي الشافعية من الآثار مثل حديث أبي سعيد الخدري في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة، وما تسعفه به اللغة كرده على القول في حديث القلتين: إنما لم يحمل خبثا لضعفه عنه. وهذا يدل على نجاسته.
يقول النووي:( الحمل ضربان حمل جسم وحمل معنى , فإذا قيل في حمل الجسم : فلان لا يحمل الخشبة مثلا فمعناه : لا يطيق ذلك لثقله , وإذا قيل في حمل المعنى : فلان لا يحمل الضيم فمعناه : لا يقبله ولا يلتزمه ولا يصبر عليه ; قال الله تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها }
معناه : لم يقبلوا أحكامها ولم يلتزموها , والماء من هذا الضرب , لا يتشكك في هذا من له أدنى فهم ومعرفة) وكذا القواعد الأصولية كعدم الالتفات إلى القياس المخالف للسنة والحديث كقوله:( قال العلماء : أحسن تفسير لغريب الحديث أن يفسر بما جاء في رواية أخرى لذلك الحديث) لرد فهم لحديث القلتين رآه مرجوحا.وكذا تقوية الحجة من جهة الاعتبار والاستدلال بما أصله الشافعي والأصحاب فيتخير منها ما يراه الأحسن والأقوى.(1/193)
ثم انتقل إلى مالك وموافقيه وجاء بما احتجوا به وأورد ما رد به الشافعية، ثم عقد فرعا في رأي الظاهرية في التفريق بين بول الشخص في الماء الدائم من جهة، وبول غيره أو صبه في الماء أو بال في شط نهر , ثم جرى البول إلى النهر بل وحتى لو تغوط فيه، من جهة أخرى. وكيف منعوا الوضوء من الأول وأباحوه في الصور الأخرى.فقال النووي:( وهذا مذهب عجيب وفي غاية الفساد) ثم بين الخلاف الواقع في مقدار القلتين بين أصحاب الشافعي ورجح أنهما خمسمائة رطل بغدادية ثم بين بعد ذلك أن المقدرات المنصوصة لا يسوغ مخالفتها وما كان تقديره بالاجتهاد بسبب أنه لم يجئ نص صحيح فيه , فما قارب المقدر فهو في المعنى مثله .
ثم عقد فرعا فيما لو وقع في الماء نجاسة وشك هل هو قلتان أم لا ؟ فغلب النووي القول بأنه طاهر،و أما غير الماء من المائعات وغيرها من الرطبات فينجس بملاقاة النجاسة , وإن بلغت قلالا , وذكر أنه لا خلاف لأحد من العلماء في ذلك بسبب أنه لا يشق حفظ المائع من النجاسة , وإن كثر بخلاف كثير الماء .ثم تعقب قول المصنف (وإن كانت النجاسة مما لا يدركها الطرف) بقوله: معناه لا تشاهد بالعين لقلتها ثم استمر في الشرح وتناول ما يتفرع عنها من حكم في الماء أو الثوب يصيبه ذلك على عادة أهل المذهب فذكر فيها سبع طرق كلها في المذهب ثم قال: والصحيح المختار من هذا كله : لا ينجس الماء ولا الثوب وبين من قال بذلك ودليله.ثم بين حكم النجاسة في الميتة التي لا نفس لها سائلة-أي لا دم لها يسيل- كالذباب.(1/194)
وصحح حديث الذباب الذي أيد به المصنف قول من لا يرى في ذلك نجاسة.وأورد عرضا قولا عجيبا للخطابي في الرد على من لا خلاق له ممن استغرب اشتمال جناحي الذبابة على الداء والدواء في نفس الآن.ثم قال بعد أن أورد مختلف أقوال المذهب: والصحيح منهما : أنه لا ينجس الماء , هكذا صححه الجمهور. وقال إذا كثر بحيث يغيره ينجس.ثم فرع فروعا أخرى يظهر أن الأنسب لها موضع الأطعمة وما يحل من الحيوان وما ليس كذلك.ثم انتقل إلى مسألة ما إذا أراد أحد تطهير الماء النجس.
وعموما "فالمجموع"كما قال النووي ليس شرحا للمهذب فقط وإنما شرح مفصل للمذهب وجمع لشوارد، وغوص في ، وموسوعة لعدد من العلوم الإسلامية، ولا تعرض المذاهب الأخرى إلا لتدعم الرأي المعتمد في المذهب أو ليتم تقويمها وفق ميزان المذهب، فالنووي يظهر حماسة خاصة لمناصرة المذهب وداعية كبير للاعتقاد في أولوية اتباع مذهب الشافعي.
يقول في هذه المسألة بعينها:( . واعلم أنه حصل في هذه المسألة جملة من الأحاديث ذكرناها وبجميعها يقول الشافعي رحمه الله على حسب ما سبق , ولم يرد منها شيئا , وهذه عادته رحمه الله في تمسكه بالسنة وجمعه بين أطرافها ورده بعضها إلى بعض على أحسن الوجوه , وسترى إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب في نظائر هذه من مسائل الخلاف وغيرها , من ذلك ما تقر به عينك , وتزداد اعتقادا في الشافعي ومذهبه , فليس الخبر الجملي كالعيان التفصيلي)
-شرح معاني الآثار"لطحاوي:(1/195)
ذكر جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي رحمة الله عليه:مقصوده من الكتاب فقال:(سألني بعض أصحابنا من أهل العلم أن أضع له كتابا أذكر فيه الآثار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام التي يتوهم أهل الإلحاد والضعفة من أهل الإسلام أن بعضها ينقض بعضها لقلة علمهم بناسخها من منسوخها وما يجب به العمل منها لما يشهد له من الكتاب الناطق والسنة المجتمع عليها وأجعل لذلك أبوابا أذكر في كل كتاب منها ما فيه من الناسخ والمنسوخ وتأويل العلماء واحتجاج بعضهم على بعض وإقامة الحجة لمن صح عندي قوله منهم بما يصح به مثله من كتاب أو سنة أو إجماع أو تواتر من أقاويل الصحابة أو تابعيهم .
وإني نظرت في ذلك وبحثت عنه بحثا شديدا , فاستخرجت منه أبوابا على النحو الذي سأل , وجعلت ذلك كتبا , ذكرت في كل كتاب منها جنسا من تلك الأجناس)882
فمقصوده أحاديث الأحكام وليس عموم الآثار كما كان شأنه في كتابه"مشكل الآثار" بإزالة ما يتوهم من تعارض وبيان ما يكون به العمل والسير في ذلك توخيا للتنظيم على أبواب الفقه.ودعم من صح عنده قوله بالأدلة والحجج المناسبة.وهو في الغالب أبوحنيفة النعمان ،فهو كما قال النووي:( إمام أصحاب أبي حنيفة في الحديث والذاب عنهم)883
بخصوص موضع المقارنة بين كتاب الطحاوي وبين "البداية" فأول ما بدأ به في كتاب الطهارة باب الماء يقع فيه النجاسة884:
1-افتتحه بحديث من روايته إلى أبي سعيد الخدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من بئر بضاعة فقيل يا رسول الله إنه يلقى فيه الجيف والمحائض فقال إن الماء لا ينجس } ثم أورد روايتين عن أبي سعيد الخدري في نفس المعنى وأخرى عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي عن أمه وخامسة عن أبي نضرة عن جابر أو أبي سعيد في نفس المعنى بصيغ مختلفة.(1/196)
2-بين مذاهب العلماء في هذه الآثار فقال قوم بها وانتهوا إلى أن لا ينجس الماء شيء وقع فيه , إلا أن يغير لونه , أو طعمه , أو ريحه.وخالفهم آخرون فلم يروا فيها حجة.
3-الاستدلال على ضعف المذهب الأول وقوة مذهب الأحناف،و من ذلك:
-اعتبار البئر طريقا للماء إلى البساتين فيكون حكمها حكم الأنهار فلا تنجس حتى يتغير ماؤها
-الإجماع بأن النجاسة إذا وقعت في البئر فغلبت على طعم مائها أو ريحه أو لونه , أن ماءها قد فسد .وقدروا في الاحتمال أن بئر بضاعة وقع لها ذلك، فكان سؤال الناس بعد إزاحة النجاسة منه فسألوا هل يطهر الماء بذلك.فمعنى لا ينجس أي لا يبقى نجسا بعد إزالة النجاسة منه كحال الأرض والمسجد والمسلم وما يشبه ذلك مما وردت فيه آثار بأنه لا ينجس والمقصود فيه ما سبق.
-ساق أحاديث النهي عن البول في الماء الدائم وذكر ثمانية منها كلها من طريق أبي هريرة رضي الله عنه وأخرى من طريق سفيان عن أبي الزناد ورواية عن جابر رضي الله عنه ثم قال الطحاوي:( فلما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء الراكد الذي لا يجري دون الماء الجاري , علمنا بذلك أنه إنما فصل ذلك لأن النجاسة تداخل الماء الذي لا يجري , ولا تداخل الماء الجاري )
-أشار إلى حديث ولوغ الكلب في الإناء مستدلا بالأمر بغسله على نجاسة الماء والإناء رغم عدم تغير طعمه أو ريحه أو لونه.
-أكد الطحاوي أن تغليب المعنى الذي صار إليه في حديث بئر بضاعة هو السبيل للجمع بينه وبين الأحاديث التي ساقها في الباب من غير تناقض ولا تضاد.(1/197)
4-عرج بعد ذلك على من وقتوا في ذلك حدا فقالوا : إذا كان الماء مقدار قلتين لم يحمل الخبث محتجين بحديث القلتين الذي أورده من طريق ابن عمر مرتين ومن طريق ابن عمر عن أبيه مرتين أيضا ثم رواية خامسة موقوفة على ابن عمر.ومما رد به هذا الاحتجاج - عدم ورود مقدار القلة في هذه الآثار،فاحتملت قلال الحجاز وقامة الرجل بحيث يكون الماء لكثرته في حكم الأنهار فلا ينجس.
-وأما عن القول بأن الخبر يؤخذ على ظاهره , والقلال ليست غير قلال الحجاز المعروفة، فإنه ينبغي بمقتضى الأخذ بالظاهر أن يكون الماء إذا بلغ ذلك المقدار لا تضره النجاسة , وإن غيرت لونه أو طعمه أو ريحه ,فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك في هذا الحديث - وأما عن القول بأنه صلى الله عليه وسلم ذكر مسألة التغير في غير حديث القلتين، كما في حديث { الماء لا ينجسه شيء , إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه }
فقال الطحاوي: (هذا منقطع , وأنتم لا تثبتون المنقطع ولا تحتجون به فإن كنتم قد جعلتم قوله في القلتين على خاص من القلال جاز لغيركم أن يجعل الماء على خاص من المياه , فيكون ذلك عنده على ما يوافق معاني الآثار الأول ولا يخالفها )
-ختم بالهاجس الذي يشغله وهو درء ما يظهر من التعارض بين الآثار المروية في الباب ،وذلك أن أحاديث النهي عن البول في الماء الراكد وحديث ولوغ الكلب عامة لم يذكر فيها مقدار الماء وإنما هي حكم كل ماء لا يجري، فثبت أن ما في حديث القلتين هو على الماء الذي يجري بغير نظر إلى المقدار.(1/198)
5-ثم قال:(وهذا المعنى الذي صححنا عليه معاني هذه الآثار , هو قول أبي حنيفة , وأبي يوسف , ومحمد .) ثم ذكر بعض من تقدمهم ممن يوافق مذهبهم . كابن الزبير الذي نزح ماء زمزم لما مات فيها آدمي فجعل الماء لا ينقطع , فنظر فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود فقال ابن الزبير حسبكم . وما روي عن علي رضي الله عنه قال في بئر وقعت فيها فأرة فماتت . قال ينزح ماؤها . وما روي عن أبي هريرة من أنه نهى عن البول في الغدير وأباح ذلك لمن شاء إن كان جاريا .وعن الشعبي في الطير والسنور ونحوهما . يقع في البئر . قال ( ينزح منها أربعون دلوا ) وعنه أيضا سبعون دلوا و(عن إبراهيم في البئر يقع فيه الجرذ أو السنور فيموت ؟ قال : يدلو منها أربعين دلوا , قال المغيرة حتى يتغير الماء) وعن إبراهيم أيضا في الفأرة تقع في البئر قال ينزح منها دلاء وعن حماد بن أبي سليمان في دجاجة ينزح منها قدر أربعين دلوا أو خمسين , ثم يتوضأ منها.
ثم رد على من ألزمهم جدلا بطم البئر أو حفره وغسل جدرانه لتشرب حيطانه النجاسة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل إناء ولوغ الكلب ولم يأمر بكسره،وذكر اختلاف البئر عن الإناء في الغسل إذ يقع الماء في الأول داخلها وفي الثاني خارجه. ولما أجمعوا أن نزح طينها وحفرها غير واجب , كان غسل حيطانها أحرى أن لا يكون واجبا.
وهكذا يستميت الطحاوي في المنافحة والدفاع عن مذهب أبي حنيفة بما وجد من الآثار وتقليب أوجه النظر لرد المعاني الموجودة فيما يخالف المذهب من أحاديث الخصوم ولو أن يحمل مقدار القلتين على الماء الجاري وأن يقول في الماء الموجود في إناء ولغ فيه الكلب بأنه غير محدد المقدار !
-"المغني" لابن قدامة (ت 620ه):(1/199)
رتب الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد المعروف بابن قدامة كتابه "المغني" على شرح مختصر أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي (ت334ه) في الفقه متتبعا في ذلك مسائله وأبوابه , فيبدأ في كل مسألة بشرحها وتبيينها , وما دلت عليه بمنطوقها ومفهومها ومضمونها , ثم يتبع ذلك بما يشابهها مما ليس بمذكور في المختصر , فتجيء المسائل كتراجم لأبواب الكتاب وهو في كل ذلك يقصد شرح مذهب الإمام أحمد واختياره .
ويبين في كثير من المسائل ما اختلف فيه مما أجمع عليه , ويذكر لكل إمام ما ذهب إليه , ويشير إلى دليل بعض أقوالهم على ( سبيل الاختصار , والاقتصار من ذلك على المختار , وأعزو ما أمكنني عزوه من الأخبار , إلى كتب الأئمة من علماء الآثار , لتحصل الثقة بمدلولها , والتمييز بين صحيحها ومعلولها , فيعتمد على معروفها , ويعرض عن مجهولها )885
وبخصوص المسألة التي نحن بصدد عرض مختلف أوجه تناولها عند ثلة من العلماء ممن تعرض لأقوال المذاهب فيها،فقد بدأ صاحب "المغني" فيها في كتاب الطهارة - باب ما تكون به الطهارة من الماء-مسألة كان الماء قلتين فوقعت فيه النجاسة886- يقول الخرقي في مختصره: ( وإذا كان الماء قلتين , وهو خمس قرب , فوقعت فيه نجاسة فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة , فهو طاهر )
1- فبدأ بشرح القلة محددا المقدار الذي لا ينجس وهو خمسمائة رطل بالعراقي . وبين أن هذا هو ظاهر المذهب, وهو مذهب الشافعي .ثم ذكر ما يقوي رأيه من الأثر والنظر.
2- ثم بين ما دلت عليه المسألة بصريحها وهو أن ما بلغ القلتين فلم يتغير بما وقع فيه لا ينجس , ثم بمفهومها وهو أن ما تغير بالنجاسة نجس وإن كثر , وأن ما دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة , وإن لم يتغير.(1/200)
3- ثم ذكر من قال بهذه الآراء ومن خالف فيها وأدلة ذلك ، فنقل الإجماع في نجاسة ما تغير بالنجاسة،ولما ضعف حديث تغير الطعم وغيره قال بما أداه إليه النظر وهو أن الله تعالى حرم الميتة , فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه , فذلك طعم الميتة وريحها , فلا يحل له.يعني الوضوء والشرب.
- وأما ما دون القلتين إذا لاقته النجاسة فلم يتغير بها , فالمشهور في المذهب أنه ينجس ,وذكر من ذهب إليه من السلف كابن عمر وبه قال الشافعي .
- وذكر لأحمد رواية أخرى , وهي أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليله وكثيره , و مثل ذلك روي عن حذيفة , وأبي هريرة , وابن عباس ومالك والأوزاعي وغيرهم وهو قول للشافعي ; لحديث بئر بضاعة وعدم تفريق النبي صلى الله عليه وسلم في الماء بين القليل والكثير عندما سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة والتي تردها السباع والكلاب والحمر.
- ثم رجع إلى الرواية الأولى المعتمدة ليقويها بحديث غسل اليد قبل غمسها في الإناء وغسل الإناء من ولوغ الكلب رغم أن ظاهريهما عدم تغيير الماء، ومن جهة النظر القول بأن تحديد القلتين يدل على أن ما دونهما ينجس , إذ لو استوى حكم القلتين وما دونهما لم يكن التحديد مفيدا . وأما الأخبار التي يفيد ظاهرها خلاف هذا فخبر( أبي أمامة ضعيف , وخبر بئر بضاعة والخبر الآخر محمولان على الماء الكثير , بدليل أن ما تغير نجس , أو نخصهما بخبر القلتين , فإنه أخص منهما , والخاص يقدم على العام )
- وأما الزائد عن القلتين , إذا لم يتغير , ولم تكن النجاسة بولا أو عذرة , فلا يختلف المذهب في طهارته , ثم ذكر من يقول بذلك من السلف ، وهو قول الشافعي. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الكثير ينجس بالنجاسة , إلا أن يبلغ حدا يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه . وبين بعض اختلافهم في حده ودليلهم من جهة الأثر والنظر .(1/201)
- ثم رجع إلى الرد عليهم بقوله:(ولنا خبر القلتين , وبئر بضاعة , اللذان ذكرناهما ) و ذكر أن بئر بضاعة لا يبلغ الحد الذي ذكروه . مستدلا بمشاهدة وتقدير أبي داود ثم قال: وحديثهم عام وحديثنا خاص , فيجب تقديمه . وبخصوص الحد الذي لا ينجس به الماء فلما كان الاتفاق على وجود حد لذلك فما حدده النبي صلى الله عليه وسلم أولى من التحديد بمجرد الرأي والتشهي . ولأن حديثهم خاص في البول فابن قدامة يقول:( ونحن نقول به على إحدى الروايتين , ونقصر الحكم على ما تناوله النص , وهو البول ; لأن له من التأكيد والانتشار في الماء ما ليس لغيره) ثم رد تفسير حمل الخبث بدفعه أن في بعض ألفاظه { لم ينجس } و أنه لو أراد أن ما بلغ القلتين في القلة ينجس لكان ما فوقهما لا ينجس ثم ذكر ما يخالف ذلك من جهة اللغة وكأن النووي أخذه عنه.
- ذكر اختلاف رجال مذهب أحمد في مقدار القلتين هل هما خمسمائة على وجه التحديد الدقيق أو على جهة التقريب، وفائدة الخلاف أن من اعتبر التحديد , فنقص عن الحد شيئا يسيرا , لم يعف عنه , ونجس بورود النجاسة عليه , ومن قال بالتقريب عفي عن النقص اليسير عنده , وتعلق الحكم بما يقارب القلتين .
-ثم فصل فروعا أخرى مثل الاختلاف في المذهب في الشك يقع في بلوغ الماء قدرا يدفع النجاسة أو لا يدفعها،وكذا وقوع النجاسة في غير الماء من المائعات وحكم الماء المستعمل،وكذا إذا كان الماء كثيرا , فوقع في جانب منه نجاسة , فتغير بها ،وهل هناك فرق بين يسير النجاسة وكثيرها ؟(1/202)
والغديران إذا اتصل أحدهما بالآخر بساقية بينهما , هل يعتبران ماء واحدا ، وحكم الماء في جانب النهر ماء واقف , مائل عن سنن الماء , متصل بالجاري , أو كان في أرض النهر وهدة , فيها ماء واقف وكان ذلك مع الجرية المقابلة له دون القلتين، والعمل لتطهير الماء النجس، و تنجس العجين ونحوه هل من سبيل إلى تطهيره؟ ; لأنه لا يمكن غسله , وكذلك الشأن في الحبوب ونحوها تقع في الماء النجس , حتى انتفخ وابتل , هل تطهر أم لا؟ .
فابن قدامة بين مقصوده في بسط مذهب الإمام أحمد مع ذكر غيره من الأئمة (تبركا بهم , وتعريفا لمذاهبهم ) ولذا نجده هادئا يرد الآراء المخالفة في غير شدة ولا عنف، ويحرص أن يجد في كل مسألة يذهب فيها إمامه مذهبا من يوافقه وخصوصا من المذهبين الشافعي والمالكي.
-"المحلى" لابن حزم(ت456ه):
ذكر علي بن أحمد بن سعيد بن حزم في مقدمة كتابه "المحلى بالآثار" أنه بصدد شرح مختصر للمسائل التي جمعها في كتابه الموسوم " بالمحلى "يقتصر فيه (على قواعد البراهين بغير إكثار , ليكون مأخذه سهلا على الطالب والمبتدئ , ودرجا له إلى التبحر في الحجاج ومعرفة الاختلاف وتصحيح الدلائل المؤدية إلى معرفة الحق مما تنازع الناس فيه والإشراف على أحكام القرآن والوقوف على جمهرة السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمييزها مما لم يصح , والوقوف على الثقات من رواة الأخبار وتمييزهم من غيرهم والتنبيه على فساد القياس وتناقضه وتناقض القائلين به ) مطمئنا قارئه إلى أنه لم يحتج في كتابه إلا بخبر صحيح من رواية الثقات مسند ولم يخالف إلا خبرا ضعيفا بين ضعفه , أو منسوخا أوضح نسخه .
وأما عن المسألة موضع المقارنة فقد أوردها بدوره في كتاب الطهارة-مسألة حكم المائع إذا وقعت فبه نجاسة887-وسار فيها على المنهج التالي:(1/203)
1- بدأ بمختصره الذي يتولى شرحه فقال:( وكل شيء مائع - من ماء أو زيت أو سمن أو لبن أو ماء ورد أو عسل أو مرق أو طيب أو غير ذلك , أي شيء كان , إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء حرام يجب اجتنابه أو ميتة , فإن غير ذلك لون ما وقع فيه أو طعمه أو ريحه فقد فسد كله وحرم أكله , ولم يجز استعماله ولا بيعه , فإن لم يغير شيئا من لون ما وقع فيه ولا من طعمه ولا من ريحه , فذلك المائع حلال أكله وشربه واستعماله - إن كان قبل ذلك كذلك - والوضوء حلال بذلك الماء , والتطهر به في الغسل أيضا كذلك , وبيع ما كان جائزا بيعه قبل ذلك حلال..)
2- ثم قام باستثناء ثلاثة أمور من هذه القاعدة :
-حرمة الوضوء والاغتسال على البائل في الماء الراكد الذي لا يجري،ولا تشمل الحرمة غيره ،ولا هو نفسه إذا أحدث في الماء أو بال خارجا منه ثم جرى البول إلى الماء المقصود، كما أن الماء يبقى طاهرا حلالا شربه له ولغيره،كل ذلك ما لم يتغير الماء في شيء من أوصافه.
-كما يحرم استعمال ما ولغ فيه الكلب فإنه يهرق ولا بد .
-وكذا السمن الذائب يقع فيه الفأر ميتا أو يموت فيه أو يخرج منه حيا على أي حال يهرق كله - ولو أنه ألف ألف قنطار أو أقل أو أكثر - ولم يحل الانتفاع به جمد بعد ذلك أو لم يجمد وإن كان جامدا واتصل جموده , فإن الفأر يؤخذ منه وما حوله ويرمى , والباقي حلال أكله وبيعه والادهان به قل أو كثر , إلا الماء فلا يحل بيعه لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .(1/204)
3-البرهنة على ما قدم بقوله:( برهان ذلك : ما ذكرنا قبل من أن كل ما أحل الله تعالى وحكم فيه بأنه طاهر فهو كذلك أبدا ما لم يأت نص آخر بتحريمه أو نجاسته . وكل ما حرم الله تعالى أو نجسه فهو كذلك أبدا ما لم يأت نص آخر بإباحته أو تطهيره , وما عدا هذا فهو تعد لحدود الله تعالى) مؤيدا ذلك بآيات من الذكر الحكيم ومن قواعد جزم فيها مثل: -صح بهذا يقينا أن الطاهر لا ينجس بملاقاة النجس , -وأن النجس لا يطهر بملاقاة الطاهر .
-وأن الحلال لا يحرم بملاقاة الحرام -والحرام لا يحل بملاقاة الحلال بل الحلال حلال كما كان والحرام حرام كما كان , والطاهر طاهر كما كان والنجس نجس كما كان ,( إلا أن يرد نص بإحالة حكم من ذلك فسمعا وطاعة . وإلا فلا) .
4- الرد على المخالفين ،مثل الرد على القائلين بتنجس الماء بما يلاقيه من النجاسات، بأنه لا نجاسة إلا ما ظهرت فيه عين النجاسة، كالذي أجمعوا عليه مع الظاهرية على تطهير المخرج والدم في الفم والثوب والجسم. كما لا يحرم إلا ما ظهر فيه عين المنصوص على تحريمه فقط . ويذكر بأن تغير الحلال الطاهر بالنجس أو الحرام يستوجب الامتناع عن استعماله لأننا لا نقدر على استعمال الحلال إلا باستعماله لا أنه حرام أو تنجست عينه،
ولو قدرنا على تخليص الحلال الطاهر من الحرام والنجس , لكان حلالا،وكذلك النجاسة عندما تزال عن جرم طاهر،فالنجاسة في ذاتها لم تطهر والحرام لم يحل وإنما قدرنا على استعمال الطاهر كما كان. وكذلك إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام فصار شيئا آخر ذا حكم آخر. وكذلك الشأن في صفات عين الحلال الطاهر، كالعصير يصير خمرا , أو الخمر يصير خلا . فالأحكام للأسماء والأسماء تابعة للصفات .ويرفض ابن حزم أي تفريق بين الماء الوارد وبين الذي ترده النجاسة ويحكم على قولهم بالتخليط والفساد.(1/205)
وأجاز ابن حزم بيع المائعات تقع فيها النجاسة والانتفاع بها والاستصباح بها , وذكر أنه بيع الجرم الحلال لا ما مازجه من الحرام , وبيع الحلال حلال كما كان قبل . ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل . ثم ذكر عددا ممن رأى ذلك من السلف والأئمة منهم أبو حنيفة ونفى أن يكون ذلك من الغش. ثم قال:( إنما الغش ما كان في الدين , والنصيحة كذلك , لا في الظنون الكاذبة المخالفة لأمر الله تعالى ). وأضاف أن مثل ذلك يمكن أن يقال في البصاق ،وفي السلف من ذهب إلى أنه نجس كسلمان الفارسي وإبراهيم النخعي إلا أن أحدا لم يمنع ما وقع فيه بصاق.
5- بيان أوجه الأدلة التي ساقها فأورد في حكم البائل حديث أبي هريرة مرفوعا:{ لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه } . وساق حديثين آخرين عنه أيضا في نفس الموضوع ثم قال:( لو أراد عليه السلام أن ينهى عن ذلك غير البائل لما سكت عن ذلك عجزا ولا نسيانا ولا تعنيتا لنا بأن يكلفنا علم ما لم يبده لنا من الغيب)
-ثم أحال على كلامه في الكتاب عن ولوغ الكلب في الإناء.
- وأورد الأحاديث الخاصة بوقوع الفأرة في السمن فرجح رواية (فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه) على رواية (وإن كان ذائبا أو مائعا فاستصبحوا به أو قال : انتفعوا به) وقال بنسخ الرواية الأولى للثانية.ورجح أن يؤخذ مما حولها وهو أقل ما يمكن أن يؤخذ وأرقه غلظا،ورد حديث { خذوا مما حولها قدر الكف . } لكونه جاء مرسلا عن كذاب.وضعف رواية أخرى لعبد الجبار بن عمر.
6-بناء قاعدة على أساسها يفاصل ويحاكم بقية المذاهب:(1/206)
- فحديث الفأرة مقصور على موضعه لا يتعداه وأي تفصيل أو إضافات أو قياس هو تشريع جديد لم يأذن فيه الله حسب مذهبه فهو يقول:( ولا يجوز أن يحكم لغير الفأر في غير السمن , ولا للفأر في غير السمن ولا لغير الفأرة في السمن بحكم الفأر في السمن , لأنه لا نص في غير الفأر في السمن , ومن المحال أن يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما في غير الفأر في غير السمن ثم يسكت عنه ولا يخبرنا به , ويكلنا إلى علم الغيب والقول بما لا نعلم على الله تعالى , وما يعجز عليه السلام قط عن أن يقول لو أراد : إذا وقع النجس أو الحرام في المائع فافعلوا كذا , حاشا لله من أن يدع عليه السلام بيان ما أمره ربه تعالى بتبليغه) وعلى هذا الأساس سيرفض كل التفريعات التي بناها أصحاب المذاهب في هذه المسألة:
- رفض تفريعات الأحناف: بخصوص الحكم بعدم استعمال الماء الراكد الذي وقعت فيه نجاسة أو محرم إلا أن يكون إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الآخر، وكذا المائع غير أنه يجوز الاستصباح به والانتفاع به وبيعه بغير أن يحد فيه حد كالماء، ومتى وقعت النجاسة أو الحرام في بئر فإن البئر تنجس، وطهورها أن يستقى منها في العصفور والفأر عشرين دلوا وفي الدجاجة أو السنور أربعين وفي الشاة أن تنزح البئر حتى يغلبه الماء حسب أبي حنيفة وأبي يوسف,وإخراج مائتي دلو حسب محمد بن الحسن,وتنزح في الكلب والحمار.
وكذا لو بالت فيه شاة أو بعير.ولو وقع فيها بعرتان من بعر الإبل أو بعر الغنم لم يضرها ذلك. وأضاف ابن حزم تفريعات عديدة يطول ذكرها،ثم علق عليهم بقول حاد فيه تجريح:( وهذه أقوال لو تتبع ما فيها من التخليط لقام في بيان ذلك سفر ضخم , إذ كل فصل منها مصيبة في التحكم والفساد والتناقض , وإنها أقوال لم يقلها قط أحد قبلهم , ولا لها حظ من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة , ولا من قياس يعقل , ولا من رأي سديد , ولا من باطل مطرد , ولكن من باطل متخاذل في غاية السخافة)(1/207)
ويقول أيضا في سخرية لاذعة:( ومن عجيب ما أوردنا عنهم قولهم في بعض أقوالهم : إن ماء وضوء المسلم الطاهر النظيف أنجس من الفأرة الميتة ولو أردنا التشنيع عليهم بالحق لألزمناهم ذلك في وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإما أن يتركوا قولهم , وإما أن يخرجوا عن الإسلام أو في وضوء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وقولهم : إن حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر , فليت شعري هذه الحركة بماذا تكون أبإصبع طفل , أم بتبنة , أو بعود مغزل , أو بعوم عائم , أو بوقوع فيل , أو بحصاة صغيرة أو بحجر منجنيق , أو بانهدام جرف ؟ نحمد الله على السلامة من هذه التخاليط ) إلى غير ذلك من الكلام الشديد.
- ورفض تفريعات المالكية:مثل قولهم بنزح ماء البئر إذا ماتت فيه دجاجة وبنجاسة مائه فلا يؤكل طعام عجن به , ويغسل من الثياب ما غسل به , ويعيد كل من توضأ بذلك الماء أو اغتسل به صلاة صلاها ما كان في الوقت . قالوا وفي الوزغة أو الفأرة يستقى منها حتى تطيب , ولو وقع خمر في ماء فإن من يتوضأ منه يعيد في الوقت فقط , فلو وقع شيء من ذلك في مائع غير الماء لم يحل أكله , تغير أو لم يتغير , وإن بل في الماء خبز لم يجز الوضوء منه , ولو مات شيء من خشاش الأرض في ماء أو في طعام أو شراب أو غير ذلك لم يضره .
ويؤكل كل ذلك ويشرب , وقال ابن القاسم صاحبه : قليل الماء يفسده قليل النجاسة , ويتيمم من لم يجد سواه , فإن توضأ وصلى به لم يعد إلا في الوقت . ثم حكم على ابن القاسم بالتناقض كيف منع من أكل الطعام المعمول بذلك الماء ثم لم يأمر بإعادة الصلاة إلا في الوقت.(1/208)
ثم تعجب من تفريق أبي حنيفة ومالك بين ما لا دم له يموت في الماء وفي المائعات وبين ما له دم يموت فيها فيقول:(وهذا فرق لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة , ولا قول صاحب ولا قياس ولا معقول والعجب من تحديدهم ذلك بما له دم وبالعيان ندري أن البرغوث له دم والذباب له دم ) إلى غير ذلك من التفاصيل في إبطال تمييزهم بين الدم السائل وغير السائل،ويعيب عليهم في القياس كيف يأخذون به مرة ويدعونه مرة ولم لم يقيسوا على الذباب كل طائر أوكل ذي جناحين أو كل ذي روح, وعلى الدقش كل حيوان ذي أرجل , وعلى الدود كل منساب وعلى الفأر كل ذي ذنب طويل.فيدعوهم إلى الوقوف عند ما نطقت به النصوص أو السير بعيدا بالقياس وهو ما لم يفعلوه.
- ورفض تفريعات الشافعية: مثل قولهم إذا كان الماء غير جار , وكان أقل من خمسمائة رطل بالبغدادي , فإنه ينجسه كل نجس وقع فيه وكل ميتة , سواء ما له دم سائل وما ليس له دم سائل , كل ذلك ميتة نجس يفسد ما وقع فيه , فإن كان خمسمائة رطل لم ينجسه شيء مما وقع فيه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه فإن كان ذلك في مائع غير الماء نجس كله وحرم استعماله , كثيرا كان أو قليلا . وقال أبو ثور صاحبه : جميع المائعات بمنزلة الماء , واحتج أصحاب الشافعي لقولهم بحديث ولوغ الكلب في الإناء وحديث غسل اليدين قبل غمسهما في الإناء للمستيقظ من النوم وحديث النهي عن البول في الماء الراكد وحديث القلتين وكلها قد دلت عندهم أن الماء يقبل النجاسة ما لم يبلغ حدا ما .(1/209)
ثم اختلفوا في تحديد القلتين .قال ابن حزم:( وأظرف شيء تفريقهم بين الماء الجاري وغير الجاري فإن احتجوا في ذلك بأن الماء الجاري إذا خالطته النجاسة مضى وخلفه طاهر : فقد علموا يقينا أن الذي خالطته النجاسة إذا انحدر فإنما ينحدر كما هو , وهم يبيحون لمن تناوله في انحداره فتطهر به أن يتوضأ منه ويغتسل ويشرب , والنجاسة قد خالطته بلا شك , فوقعوا في نفس ما شنعوا وأنكروا) -ويقصد مذهب الظاهرية في التميز بين من بال في الماء الراكد وغيره حيث يحرم في حق الأول ولا يحرم على الثاني -واحتجوا بحديث الفأرة في السمن فيما ادعوه من قبول ما عدا الماء للنجاسة.
- وقال أحمد بن حنبل بقول الشافعي في تحديد القدر الذي لا تلحقه النجاسة , ولم يحد في القلتين حدا أكثر من أنه قال مرة : القلتان أربع قرب , ومرة قال : خمس قرب , ولم يحدها بأرطال ..
- ثم تتبع الأحاديث التي استند إليها الجمهور، وبين أنها حجة عليهم لا لهم رغم أن الأحاديث صحاح ثابتة لا مغمز فيها،وأكد أن الظاهرية تأخذ بها جميعا في الوقت الذي يخالف غيرهم ما فيها من أخبار،فالأحناف خالفوا حديث ولوغ الكلب في الإناء وقالوا بغسله مرة واحدة والحديث فيه سبع،والمالكية قالوا لا يهرق إلا أن يكون ماء والحديث عام في الماء وغيره،والشافعية خالفوه بالقول إذا كان ما في الإناء خمسمائة رطل لم يهرق ولم يغسل الإناء، وإن كان فيه غير الماء أهرق بالغا ما بلغ . ثم ذكر أن هذا ليس في الحديث أصلا لا بنص ولا بدليل، وقالوا : إن ولغ في الإناء خنزير كان في حكمه حكم ما ولغ فيه الكلب : يغسل سبعا إحداهن بالتراب . ولم يقولوا في السبع مثل ذلك. فقاسوا الخنزير على الكلب .(1/210)
ولم يقيسوا السباع على الكلب - وهو بعضها - وإنما حرم الكلب بعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع .ثم قال ابن حزم:( فقد ظهر خلاف أقوالهم لهذا الخبر وموافقتنا نحن لما فيه , فهو حجة لنا عليهم , والحمد لله رب العالمين كثيرا , وظهر فساد قياسهم وبطلانه , وأنه دعاوى لا دليل على شيء منها .) وقالوا جميعا بأن غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء مندوب والحديث يفيد الوجوب،وقالوا بزوال النجاسة بغسلة واحدة مخالفين الثلاث الواردة في حديث الاستيقاظ،وخالفوا حديث البول في الماء فقال الأحناف يجوز له الوضوء إذا كان مما إذا حركه آدمي من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطرف الثاني منه وخالفه الشافعي بحد خمسمائة رطل وخالفه مالك كله بالقول إذا لم يتغير الماء ببوله فله أن يتوضأ منه ويغتسل .
وقال في بعض أقواله إذا كان كثيرا ،وخالفوا جميعا حديث الفارة فأبوحنيفة ومالك والشافعي أباحوا الاستصباح به , وفي الحديث { لا تقربوه } وأباح أبو حنيفة بيعه.وخالف الحنفية حديث القلتين فالبئر عندهم وإن كان فيها قامتان أو ثلاث فإنها عندهم تنجس.ثم رد عليهم جميعا في التشنيع على المذهب في تعليق الحكم على البائل في الماء دون غيره ،وأورد عليهم أمثلة عديدة مما هي في مختلف المذاهب مما يشبه ذلك أو يقاربه كالتفريق في مس الذكر بين باطن الكف وظاهره،والتفريق بين الشريفة والدنية في النكاح،وبين لسان الكلب وذنبه،وبين بول الشاة إذا شربت طاهرا أو نجسا،وبين البول في مخرجه من الإحليل والبول إذا بلغ أعلى الحشفة،والتفريق بين بول ما يؤكل لحمه ورجيعه،إلى غير ذلك كثير حتى قال:( ولو تتبعنا سقطاتهم لقام منها ديوان).(1/211)
ثم ذكر أن لا سلف لهم فيما قالوا ذاكرا بعض سلفه فيما ذهب إليه ،ورد على من أثار في وجه الظاهرية إشكالا في الخمر أو الدم أو البول يقع في الماء ولم يظهر لشيء من ذلك في الماء طعم ولا لون ولا ريح , هل صار الخمر والبول والدم ماء ؟ أم بقي كل ذلك بحسبه ؟ فإن كان صار كل ذلك ماء فكيف هذا ؟ وإن كان بقي كل ذلك بحسبه فقد أباحوا الخمر والبول والدم , وهذا عظيم وخلاف للإسلام ؟ فأجاب بجواب فلسفي بأن العالم كله جوهرة واحدة تختلف أبعاضها بأعراضها وبصفاتها فقط . وبحسب اختلاف صفات كل جزء من العالم تختلف أسماء تلك الأجزاء التي عليها تقع أحكام الله عز وجل في الديانة . (...)
فالعنب عنب وليس زبيبا (...) وعصير العنب ليس عنبا ولا خمرا (...) ففي الماء مثلا ما دام يسمى ماء وما دامت تلك الصفات في تلك العين فهي ماء وله حكم الماء . فإذا زالت تلك الصفات عن تلك العين لم تكن ماء ولم يكن لها حكم الماء ،إلى غير ذلك مما أطال فيه البيان إلى أن شرد في النحاس إذا اختلط بفضة وعن القدر التي طبخت بخمر أو شيء من النجاسة والحرام.ورد على من يقول بغلبة الظن في الحكم على الماء بالنجاسة من المتأخرين الذين أرادوا الانفكاك من تخبط السابقين حسب تعبيره وحكم بشدة فساد مذهبهم من الذي رغبوا عنه.(1/212)
7-وأما عن الضابط الذي وضعه والرأي الذي انتصر له فهو:أن الماء لا ينجس أصلا , ولكنه طاهر بحسبه , لو أمكن تخليصه من جملة المحرم علينا لاستعملناه , ولكنا لما لم نقدر على الوصول إلى استعماله كما أمرنا سقط عنا حكمه، وهكذا كل شيء حاشا ما جاء النص بتحريمه بعينه فتجب الطاعة له , كالمائع يلغ فيه الكلب في الإناء , وكالماء الراكد للبائل , وكالسمن الذائب يقع فيه الفأر الميت , وإن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس ولم يقبل الخبث والقلتان ما وقع عليه في اللغة اسم قلتين , صغرتا أو كبرتا , ولا خلاف في أن القلة التي تسع عشرة أرطال ماء تسمى عند العرب قلة . وليس في هذا الخبر ذكر لقلال هجر أصلا ، ولا مزيد .
والأحاديث الواردة لا تدل عنده على قبول الماء النجاسة إنما معناها ما اقتضاه لفظها، وليس بعد ذلك سوى إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة الشارع لدخول الجنة والنجاة من النار.وفي آخر جولاته ذكر من قال بمذهبه في الماء لا ينجسه شيء ثمانية من الصحابة وإحدى عشر من غيرهم ثم قال:( فإن كان التقليد جائزا , فتقليد من ذكرنا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أولى من تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي .)
وماذا يقول مبتدئ في ابن حزم؟ أهو السيل الجارف الذي يجرف كل ذي جذور ضعيفة ويهدد ذوي الجذور العميقة ما لم يقفوا على أرض صلبة ؟ أم هو البحر في الأثر والنظر والجدال وإرهاق الخصوم مهما برعوا في سباحة الأفكار والمناظرة ؟ أم هو سيف الحجاج بلسانه لا يكاد ينجو منه إلا من رحم الله وقوي في الشرع استدلاله وبرهانه؟ ولعل من يطلع على هذه المسألة الفقهية التي نحن بصددها وأمثالها في كتبه، يدرك أن السابقين لم يبالغوا كثيرا فيما قالوه عن ابن حزم،وخصوصا وأننا صادفنا في هذه المسألة أمرا لا يكاد يذكر المذهب الظاهري إلا وتشنع عليه وهي التي تخص البول في الماء الراكد،ولا يبعد أن يكون ابن حزم قد أخرج كثيرا من أسلحته فيها.(1/213)
فلا غرابة أن يقول فيه بعض أهل البيان:لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان،ويقول ابن بشكوال:كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه،ويمدحه الذهبي بقوله:رأس في علوم الإسلام متبحر في النقل عديم النظير على يبس فيه وفرط ظاهرية في الفروع لا في الأصول وآخذه بأنه بسط لسانه ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب بل فجج العبارة وسب وجدع.
ولا عجب أن يجتهد معاصروه من العلماء والحكام في إبعاد الناس عن كتبه وإبعاده عن الناس حتى لا تكون به (فتنة) ويهدد المذهب وما جرى به العمل،وقد هال علماء المذهب ما رأوه منه حتى حكى أبو بكر بن العربي أن ابن حزم ملأ المغرب بالقول بالظاهر،وكان بمثابة الطوفان والزلزال الذي هز أصحاب المسائل والفروع فهبوا للذوذ عن حياضهم بمزيد من التأصيل والتحصين فكان أن حرك الماء الراكد في المذهب فنبغ أمثال ابن رشد الجد والمازري والطرطوشي وابن رشد الحفيد والشاطبي والقرافي وغيرهم،فبذلوا من الجهود ما بها أرجعوا التوازن وأضعفوا الافتتان واستقر المذهب.
ويبقى ابن حزم عملاقا يلقي بظلاله على من بعده ، يصعب على كل منصف تجاهله، من تتبع سيله ينتهي على مريع وخصب فيه خير كثير لا يضره الزبد،ولا أحد في الدنيا يكمل إلا من عصمه الله من الأنبياء.وكما قال بعض العلماء في كتبه:(الدر الثمين ممزوجا في الرصف بالخرز المهين فتارة يطربون ومرة يعجبون ومن تفرده يهزؤون)888.
وقد جاء ابن رشد الحفيد بعد أن هدأت زوبعة ابن حزم، فاستطاع أن يتعامل معه بتعقل ينتفع بعلمه ويستفيد ويعترف بإمامته في مجال الأثر فيذكر تصحيحه وتضعيفه لبعض الأخبار ويقر بقوته في بعض مواطن النظر ويضعفه في أخرى.(1/214)
وأما عن المسألة التي هي موضع المقارنة فابن حزم أوسعهم كلاما، فعلى مدار ثمان وعشرين صفحة بقي يصول ويجول ويبدئ ويعيد وأحيانا يزبد ويرعد في جرأة يقتحم بها على وقار الأئمة.وتلمس في المسألة أيضا وفاءه للمنهج الذي اختاره في القول بنفي القياس كله خفيه وجليه والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث والقول بالبراءة الأصلية واستصحاب الحال،لا يخجل مما يراه حقا ولو خالفته الدنيا واستغربه الناس،ويبقى مع هذا كله محامي مذهب ولو شنع على أهل المذاهب وأتباع الأئمة،ورافع راية من ضمن الرايات المرفوعة لهذه الشريعة الخالدة.
ويتبعه في التوسع "مجموع" النووي بثلاث وعشرين صفحة لأنه قصد بسط مذهب الشافعي وشرحه فجعل عمدته رجال المذهب وأظهر في كتابه ما يتقنه في صناعة الأثر وعلوم الحديث،ويعرض المذاهب بالتبع إما على سبيل المساندة أو المعارضة ويبالغ في احترام مالك وقد يحتد قليلا مع الأحناف ويستخف أحيانا بأهل الظاهر ويبقى الأدب والاحترام هو الغالب،ويليه"المغني" في حجم ما أعطاه للمسالة بثماني صفحات، فاعتنى فيه أيضا بالأثر وكان هادئا في عرض المذاهب غير أن الأولوية في البسط والتقديم تبقى للمذهب الحنبلي،ثم بعده الطحاوي بسبع صفحات والذي بدا وكأنه مشغول بقضيتين:
إحداهما تأصيل المذهب وإغناء آرائه بالمناسب من الآثار ودفع التهم في هذا المجال والثاني استمرار في الفروع بما قام به في مجمل الحديث بالبحث عن سبل الجمع بين الأحاديث التي يظهر من ظاهرها التعارض بعثا للطمانينة في نفوس المؤمنين وردا لكيد المشككين الضالين.(1/215)
ويأتي بعدهم في سعة التناول: الباجي بست صفحات ثم ابن عبد البر بأربع صفحات وابن رشد بثلاث.فأما الباجي فظهر في المسألة وكأنه القيم على المذهب يهتم بتقنينه وضبط فروعه ولا يعرض للخلاف خارج المذهب إلا يسيرا،وبالغ في التفريع داخل المذهب،وجمعه مع ابن عبد البر أن كليهما بصدد شرح الموطأ فيوردان من المسائل ما يتحمله الحديث أو قريب من ذلك ولهذا قد تكون لهما تفاصيل مما أورده أصحاب الكتب موضع المقارنة في مواضع أخرى من كتابيهما،وتميز عنه ابن عبد البر في مادة الحديث وبسط المذاهب في أدب جم ويعتبر أصل مادة "بداية" ابن رشد.وأما عن هذا الأخير فرغم أنه أقل حجما في الحيز الذي خصصه للمسألة فإنه امتاز بجملة أمور،من أهمها:
اختلاف أرضية الانطلاق والمقصد الذي يؤطر المسألة بل الكتاب كله،فالمسألة لم ينطلق فيها من نص مذهبي سواء في المسائل أو الحديث يشرحه كشأن جميع هذه الكتب الأخرى إلا ما كان من الطحاوي غير أن ما ندب نفسه إليه من المنافحة عن مذهب أبي حنيفة يلحقه في بعض الوجوه بهم.فابن رشد كان أكثر تحررا من غيره،والأقدر على التسوية بين المذاهب وتوفير ظروف تكافؤ الفرص بينها في عرض أدلتها وبسط براهينها،والأقدر أيضا على الترجيح بينها من غير ضغط نفسية الانتساب لأحدها،أو قيد شرح أحد متونها.ولهذا نجده في هذه المسألة وحده الذي ناصر مذهبا غير مذهبه الرسمي.ولهذا أمكننا القول: إذا كان أصحاب الكتب موضع المقارنة أئمة في مذاهبهم فابن رشد إمام في الفقه المقارن.
كما أنه من الناحية المنهجية كان تلخيصه كافيا لمقصوده ،جمع فيه ما تشتت في غيره وصار على طريقة واضحة بدأ فيها بالأصول أي: الآيتين والحديث ومواطن الإجماع والاتفاق وأصول الباب ثم المسألة موضع الخلاف والأقوال الواردة فيها والأدلة المعتمدة ثم مناقشتها والترجيح بينها.(1/216)
كل ذلك في موضوعية تامة وأدب رفيع.فيصلح كتابه فعلا أن يكون في البدايات وسلما نحو اقتحام الاجتهاد والتعامل بتجرد مع أمهات المذاهب كالتي بسطناها في هذه المقارنة،ولا أرى ذلك في "محلى" ابن حزم رغم أنه ذكر هذا المقصد في مقدمة كتابه وبأنه سيقتصر فيه (على قواعد البراهين بغير إكثار , ليكون مأخذه سهلا على الطالب والمبتدئ , ودرجا له إلى التبحر في الحجاج ومعرفة الاختلاف..) فابن حزم قد أكثر،ومأخذه ليس سهلا على الطالب والمبتدئ إلا أن يكون كبار علمائنا اليوم في منزلة طلابه يوم ذاك،كما أن كتابه هو البحر ذاته وليس درجا وسلما إليه.
ثانيا- المنهج العام في تعامله مع المادة الفقهية:
حكمت ابن رشد منذ البداية منهجية معينة في عرض المادة الفقهية فرضها عليه الهدف الذي سطره للكتاب، إذ لم يكن همه فيه تحقيق الفروع الفقهية و لا تفصيل الآراء الجزئية للفقهاء، و إنما توضيح مناهج العلماء في استنباط الأحكام، و ربط الفروع بالأصول، وطرح القضايا التي يراها بمثابة قواعد تصلح للبناء عليها.
إنه يستجيب لطموحه في أن تكون صناعة أصول الفقه تامة وكيلة وكافية. و تبعا لذلك وحتى تكون صناعة الفقه، ميدانا تطبيقيا وعمليا للإطار النظري: فهو يستجيب لما سبق أن طرحه في كتابه (الضروري في أصول الفقه) حيث يرى أن الأداة المستعملة في استنباط الأحكام ينبغي أن ترسم و يعدد الاختلاف الواقع فيها. و تعطى الأحوال و الموازين التي بها تستنبط الأحكام بحسب رأي رأي في تلك الأصول.
و بالجملة كيف لزوم بعض تلك الآراء فيها عن بعض ومناسبتها للفروع. حتى يقال مثلا كيف يكون الاستنباط على رأي الظاهرية و على رأي القائلين بالقياس. و بحسب رأي رأي من الآراء المشهورة. وهذا الوجه هو الأنفع في هذه الصناعة، وبهذا النظر يكون هذا الجنس من المعارف صناعة تامة و كلية و كافية في نظر الجميع من أهل الاجتهاد889(1/217)
و لهذا فهو في ميدان الفقه أيضا (ينقل بأمانة و موضوعية كل الآراء الصالحة حول القضايا التي تعتبر من الأصول والقواعد و يشفعها بأدلتها أو بالأحرى تلك التي تبدو له أبلغ من غيرها...و أحيانا لا يرضى كل الرضى عن كل ما قدمه الفقهاء من أدلة فيوحي بدليل من عنده يظهر له أحسن في القيام بالحجة المطلوبة (بل أحيانا يتردد) في قبول هذه أو تلك من الحلول المعروضة أو أدلتها و يدفعه إلى الإمساك عن الإدلاء برأي نهائي في القضية.
(كما نجد عنده) الحرص على تفهم سبب أو أسباب خلاف الفقهاء و شرحها و ذلك بعد عرض كل الآراء التي اتفقوا عليها، فيرجع هذه الأسباب لا إلى اعتبارات اجتماعية أو اقتصادية أو جغرافية أو تاريخية بل يرجعها على طريقة الأصولي البارع إلى قضايا تتعلق بالمنهجية الفقهية كتأويل محتمل لنص قرآن أو حديث أو صحة حديث أو ترجيح قياس على حديث أو الاعتماد على اتفاق ما أو توقف إزاء طرق مختلفة و لكنها متساوية من شأنها أن تخلف تنازعا فقهيا)890.
و بغض النظر عن المنهجية المثلى التي ود ابن رشد لو سلكها في الكتاب كله، فإنه مرة بعد أخرى يذكرنا بالحد الأدنى الذي لا يود النزول عنه في منهجية عرض القضايا الفقهية، إذ يقول في باب معرفة الذكاة المختصة بالصيد و شروطها (يجب أن يذكر منها ما اتفقوا منه عليه و ما اختلفوا فيه، و أسباب الخلاف في ذلك و ما يتفرع عنها من مشهور مسائلهم)891.
إذن فالأصل عنده ذكر ما تم الاتفاق حوله، ثم ما اختلفوا فيه ،و أسباب الخلاف، ثم يأتي دوره بحسب ما يقتضيه المقام. و إذا لم يكن في المسألة اتفاق، يورد أقوال الأئمة و دليل كل واحد ثم يذكر سبب الخلاف892 . و تارة يعرض المسائل المختلف فيها بإجمال ثم يفصل القول في واحدة واحدة، ثم يذكر سبب الخلاف و أدلة كل فريق893 . و أحيانا أخرى يورد الخلاف و قول كل فريق بغير إشارة إلى الأدلة أو سبب الخلاف894.(1/218)
فأول ما يبدأ به عادة، ذكر الاتفاق و الإجماع إن كانت المسألة محل اتفاق أو إجماع،ويورد ذلك بصيغ متقاربة مثل: اتفق المسلمون، اتفق العلماء، اتفقوا، اتفاقهم، اتفق الجميع، اتفق جميعهم، اتفق عامة الفقهاء، اتفق عوام الفقهاء، اتفق أكثر العلماء، اتفق جمهور فقهاء الأمصار بعد الصدر الأول، لا يجوز باتفاق.
أجمعوا، أجمع العلماء، وقع الإجماع، أجمعوا بالجملة، العلماء بالجملة مجتمعون، أجمع أهل العلم، مجمع على تحريم..، لا يجوز بإجماع... لا خلاف بين المسلمين، و لا خلاف بين العلماء، لا خلاف فيه، لا أعلم خلافا، لا يعلم اختلافا، معلوم من الكتاب و السنة و الإجماع ،و لا خلاف في ذلك...
أو يعبر بما يفيد الاتفاق و الإجماع مثل: ( كلهم يختار العشر الأواخر من رمضان كزمان محبب للاعتكاف..)895.
ثم يورد الخلاف بصيغ مختلفة في العبارة مثل قوله: و سبب اختلافهم، اختلف أهل الكلام الفقهي، اختلفوا، سبب الخلاف، الخلاف بينهم آيل إلى كذا...
و له في ذكر الخلاف أحوال: الغالب فيها أن يذكر دليل كل فريق، و أحيانا يورد سبب الخلاف فقط896 أو يورد الخلاف دون ذكر سببه897 أو يذكر أنهم اختلفوا و لا يورد الآراء898
ولا يكرر إذا كان نفس السبب قد مر من قريب و إنما يشير إليه إشارة899 مثل قوله: (وينبغي أن تعلم أن الاختلاف في وجوب الترتيب في التيمم ووجوب الفور فيه هو بعينه اختلافهم في ذلك في الوضوء و أسباب الخلاف هناك هي أسبابه هنا فلا معنى لإعادته)900 و كذلك قوله:(و قد تقدم هذا من قولنا و لا معنى لتكرير الشيء الواحد مرات كثيرة)901 وأحيانا لا يذكر سبب الاختلاف بشكل صريح و إنما يورد عمدة كل فريق902 ومرة أخرى لا يذكر باللفظ (اختلفوا في كذا) و إنما يطرح السؤال ثم يورد أوجه الخلاف فيه903.(1/219)
و أما عن دوره بعد عرض الخلاف و بسط الأدلة فيكمن في مناقشة الآراء المعروضة، و تأصيل الأقوال،والاجتهاد في إيجاد الأصول للفروع، و البحث عن القواعد الجامعة ليخلص بعد ذلك: إما إلى ترجيح ما يراه قويا منها، و انتقاد الضعيف فيها ،أو الاستقلال برأي في الموضوع، أو إسقاط الآراء جميعا و رفض البحث في المسألة أصلا، و الاكتفاء بالعرض، و توجيه المسائل إلى أصولها فيما يشبه قبولها جميعها عندما تكون محتملة. و بيان ذلك من خلال النماذج التالية:
1_ يشير ابن رشد مرارا إلى أنه سيهتم أكثر بالمسائل المنطوق بها في الشرع، أو المشهورة التي لها تعلق قريب بذلك. فمثلا عندما صادف في مسألة التكبير في صلاة العيدين العديد من الأقوال و الآراء قال: (حكى في ذلك أبو بكر بن المنذر نحوا من اثني عشر قولا إلا أنا نذكر من ذلك المشهور الذي يستند إلى صحابي أو سماع)904 .
2_ و عن ايجاد أصول للفروع، فهو مما يكرره دائما، ويذكر بأنه من مقاصده الكبرى في الكتاب، فليس قصده (في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل ، و ذلك إما من حيث هي مشهورة و أصل لغيرها و إما من حيث هي كثيرة الوقوع)905 .
و مثال تأصيله و تقعيده قوله: (كل رجعة من طلاق كان لرفع ضرر. فإن صحة الرجعة معتبرة فيه بزوال ذلك الضرر . و أصله المفسر بالنفقة إذا طلق عليه ثم ارتجع فإن رجعته تعتبر صحتها بيساره)906 و قوله: (و بالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو بالاعتراف..)907. و قوله: عن الأصل في الأيمان عند مالك أن (اليمين يجب على أقوى المتداعيين شبهة)908 و لذلك يوجب اليمين في مواضع على المدعي و في أخرى على المدعى عليه.(1/220)
و لا يخفي ابن شد صعوبة مسألة التأصيل هذه إذ يجد نفسه أحيانا كثيرة ، ينساق خلف التفريعات الفقهية. بل حتى التمييز أحيانا بين الفروع و الأصول ليس عملية سهلة أو مضمونة،وخصوصا في الأمور الاجتهادية الاستحسانية فإنه (يعسر فيها إعطاء أسباب تلك الفروق)909 ولا عيب في ذلك فقد رام قبله أبو الوليد الباجي حصر الأقوال في الربويات في المذهب المالكي في المنتقى فصعب عليه910.
فكيف بمن يريد ذلك في أبواب الفقه كلها بمختلف مذاهبه. و قد شرح ابن رشد سبب صعوبة إيجاد الأصول لكثير من الفروع بقوله :(وسبب العسر أن الإنسان إذا سئل عن أشياء متشابهة في أوقات مختلفة ولم يكن عنده قانون يعمل عليه في تمييزها إلا ما يعطيه بادىء النظر في الحال جاوب فيها بجوابات مختلفة فإذا جاء من بعده أحد فرام أن يجري تلك الأجوبة على قانون واحد وأصل واحد عسر ذلك عليه وأنت تتبين ذلك من كتبهم)911 .
3_ وابن رشد بعد عرض المتفق عليه و المختلف فيه و مسألة الاستدلال و التأصيل يكون بين مرجح و منتقد و مستقل برأيه و متوقف أو مسقط للآراء جميعا معتبرا أن الخلاف لا معنى له.و له عبارات في الترجيح مثل: (والأسعد في هذه المسألة هو مالك)912 (و هذا قوي كما ترى)913 و(حسن جدا)914 و(مذهب حسن) عندما قال:( ومن ذهب إلى أن يحمل تلك الأحاديث على الندب وحديث عمار على الوجوب فهو مذهب حسن إذ كان الجمع أولى من الترجيح عند أهل الكلام الفقهي)915 أو(طريقة جيدة) يقول:(و هي طريقة جيدة مبنية على أصول أهل الكلام الفقهي)916 أو (وهو الصواب والله أعلم)917 أو (و ما عليه الجمهور أظهر)918 .(1/221)
وأحيانا يقول:(و هو الأقيس )919 أو (أبين) مثل قوله:(قول أبي ثور على شذوذه هو أبين)920 وكذلك: (و هذا فيه حجة لائحة للجمهور )921 .أو (وهوالأولى)922 أو(وهو كما قال)923 وقوله:(و هو أحسن)924 ، (و هو معنى جيد)925 وقوله:( مالك في هذه المسألة أفقه من الجميع)926 أو (وهو أجود)927 وأحيانا يقول فقط: والفقه،مثل:(والفقه أن بالاختلاط يكون عمل الشريكين أفضل وأتم)928 وقوله:(وقياس مالك أقوى من قياس الشافعي)929 وقوله: (وما أحسن ما رأى أبو عمر بن عبد البر في هذه المسألة)930 ، (وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد)931 وقوله:(وهو الأعدل)932.
ومن أمثلة ترجيحاته ما قام به عند ميراث الجد.فأورد بداية إجماع العلماء على أن الأب يحجب الجد, وأنه يقوم مقام الأب عند عدمه مع البنين ، وأنه عاصب مع ذوي الفرائض،ثم ذكر اختلاف العلماء في حجب الإخوة الأشقاء أو الأب، وبين عمدة كل فريق وسبب الخلاف الواقع بينهم، ثم قال (فإن قيل:فأي القياسين أرجح بحسب النظر الشرعي؟ قلنا: قياس من ساوى بين الأب والجد، فإن الجد أب في المرتبة الثانية أو الثالثة, كما أن ابن الابن ابن في المرتبة الثانية أو الثالثة.وإذا لم يحجب الابن الجد وهو يحجب الإخوة فالجد يجب أن يحجب من يحجب الابن, والأخ ليس بأصل للميت ولا فرع، وإنما هو مشارك في الأصل .
والأصل أحق بالشيء من المشارك له في الأصل ، والجد ليس أصلا للميت من قبل الأب بل هو أصل أصله .والأخ يرث من قبل أنه فرع لأصل الميت ،فالذي هو أصل لأصله أولى من الذي هو فرع لأصله،ولذلك لا معنى لقول من قال إن الأخ يدلي بالبنوة ،والجد يدلي بالأبوة،فإن الأخ ليس ابنا للميت وإنما هو ابن أبيه ،والجد أبو الميت ،والبنوة إنما هي أقوى في الميرات من الأبوة، في الشخص الواحد بعينه أعني الموروث.وأما البنوة التي تكون لأب موروث ،فليس يلزم أن تكون في حق الموروث أقوى من الأبوة التي تكون لأب الموروث .(1/222)
لأن الأبوة التي لأب الموروث هي أبوة ما للموروث، أعني بعيدة، وليس البنوة التي لأب الموروث بنوة ما للمورث لا قريبة ولا بعيدة ،فمن قال :الأخ أحق من الجد ،لأن الأخ يدلي بالشيء الذي من قبله كان الميراث بالبنوة وهو الأب، والجد يدلي بالأبوة هو قول غالط مخيل .لأن الجد أب ما، وليس الأخ ابنا ما .وبالجملة الأخ لاحق من لواحق الميت ،وكأنه أمر عارض والجد سبب من أسبابه ،والسبب أملك للشيء من لاحقه)933 بهذه الحجة الدامغة والمنطق الراجح رد حجج المالكية والشافعية والحنابلة ورجح حجة أبي حنيفة وداود الظاهري وأبي ثور وغيرهم .
4 - ولاشك أن ابن رشد أثناء الترجيح يرد أدلة المخالفين، وقد ينتقدهم كما في المثال السابق عند قوله (هو قول غالط مخيل ) وله في ذلك أيضا عبارات مثل: قوله:(وهذا لا معنى له)934 وقوله:(ولذلك يضعف القول بتكرر الطلب)935 وقوله:(وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول عبادة إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم )936 وقوله:(ولذلك ما ذكر عن الخليل من أنه رصد الشفق الأبيض فوجده يبقى إلى ثلث الليل كذب بالقياس والتجربة)937 وقوله:(وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم )938 .
وكذلك:(وهذا فيه بعد )939 وقوله:(وهذا كله لعله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر )940 وقوله:(وهذا فيه ضعف)941 وكذلك قوله:(ففيه نظر)942 وقوله:(وذلك اضطراب جار على غير قياس )943 وكذلك:(وهو تشبيه فيه بعد )944 وقوله: (فلا وجه لقوله إلا وجه ضعيف)945 وقوله: (وأقاويل هؤلاء شاذة ومردودة بالسنن المشهورة )946 وقوله:(وهذا مخالف للنص )947 ومنه قوله: (ولكن كلا الفريقين لم يلزم أصله )948 وقوله: (وهذا قياس ليس بشيء)949 أو (فليس له حظ من النظر)950 أو (جمود كثير)951 وقوله:(فخارج عن القياس والسماع)952 .(1/223)
وأيضا:(وهذا النظر في الشّرع تغلغل في القياس وبعد عن الأصول المنطوق بها في الشرع)953 وقوله:(القياس الذي اعتمده القائلون بالتحديد ليس تسلم مقدماته)954 وقوله:(فهو في غاية الضعف)955 أو هو (غير سديد)956 وقوله:(ولذلك من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض)957 أو هو (غير جيد)958 أو (وهذا شذوذ مخالف للنص)959 وعن أبي حنيفة في مسألة (وهو في هذه المسألة ظاهري محض)960 وقال في موضع:(أجاب عن هذا بجواب لا تقوم به حجة)961 وفي موضع آخر:(وهو استحسان مبني على غير أصول)962 وقوله:(وهذا كله تخليط وإبطال للمعقول والمنقول)963 أو:(وقوله في ذلك ضعيف ومرغوب عنه)964.
ومن أمثلة انتقاداته: ما أورده في قراءة البسملة، حيث بدأ بذكر الاختلاف الواقع في قراءتها في افتتاح الصّلاة، وسبب الخلاف ،وأدلة كل فريق، ثم قال :(ولكن من أعجب ما وقع في هذه المسألة أنهم يقولون : ربما اختلف فيه هل (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من القرآن في غير سورة النمل؟أم إنما هي آية من القرآن في سورة النمل فقط؟ويحكون على جهة الرد على الشافعي أنها لو كانت من القرآن في غير سورة النمل لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن القرآن نقل تواترا.
هذا الذي قاله القاضي في الرد على الشافعي وظن أنه قاطع ،وأما أبو حامد فانتصر لهذا بأن قال إنه أيضا لو كانت من غير القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك ، وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم ، فإنه كيف يجوز في الآية الواحدة بعينها أن يقال فيها إنها من القرآن في موضع وإنها ليست من القرآن في موضع آخر ، بل يقال إن (بسم الله الرحمن الرحيم) قد ثبت أنها من القرآن حيثما ذكرت ،وأنها آية من سورة النمل. وهل هي آية من سورة أم القرآن ومن كل سورة يستفتح بها ؟ مختلف فيه ، والمسألة محتملة ، وذلك أنها في سائر السور فاتحة ، وهي جزء من سورة النمل، فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم)965(1/224)
فالذي أزعج ابن رشد هو : كيف يؤدي الخلاف في قراءة البسملة في الصلاة إلى تعريض قرآنيتها للشك ؟ ولهذا قال عن ذلك بأنه (تخبط وشيء غير مفهوم).
وفي كتاب بيع العرية أورد ابن رشد اختلاف الفقهاء في تعريف العرية،ومعنى الرخصة الواردة فيها، وفيما تجوز فيه العرية، ومقدارها، ثم أورد المواضع التي خالف فيها الشافعي مالكا، وذكر ما كان من شأن موافقة أبي حنيفة لمالك في أن العرية هي الهبة ، وخالفه في صفة الرخصة ، إذ الرخصة عنده من باب رجوع الواهب في هبته على صفة مخصوصة ، ثم أورد قولا فيه أن أباحنيفه غلب القياس على الحديث، وذكر المواضع التي خالف فيها الأحاديث ، ثم انتقده قائلا : (والعجب منه أنه سهل عليه أن يستثنيها من النهي عن الرجوع في الهبة التي لم يقع فيها الاستثناء بنص الشرع .وعسر عليه أن يستثنيها مما استثنى منه الشارع ، وهي المزابنة.والله أعلم)966.
5-وأحيانا لا يكتفي ابن رشد بالترجيح بين الآراء وانتقادها ،وإنما يدلي بدلوه ويستقل برأيه ،على عادة الفقهاء الكبار بعد أن يقدم ما يقتضيه المقام من اعتذار لأئمة هذا الشأن، حيث يقول مثلا : (ولولا أنه لا يجوز إحداث قول لم يتقدم إليه أحد في المشهور ، وإن كانت مسألة فيها خلاف لقيل : إن ما ينتن منها ويستقذر بخلاف مالا ينتن ولا يستقذر ، وبخاصة ما كان منها رائحته حسنة، لاتفاقهم على إباحة العنبر .وهو عند أكثر الناس فضلة من فضلات حيوان البحر ، وكذلك المسك ، وهو فضلة دم الحيوان الذي يوجد المسك فيه، فيما يذكر)967 .
ويرى أن للمرأة حق مباشرة العقد بنفسها وللأولياء حق الفسخ ، فظاهر قوله تعالى : (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم من معروف)(البقرة:238) يفيد (أن تعقد النكاح وللأولياء الفسخ إذا لم يكن بالمعروف وهو الظاهر من الشرع، إلا أن هذا لم يقل به أحد )968 .(1/225)
ثم إنه يرى قياس أوقات الصلوات الخمس وغيرها على وقت الجمعة في النهي عن البيع على جهة الندب وإن لم يقف على مثل هذا الرأي لأحد، يقول : (وأما سائر الصلوات فيمكن أن تلحق بالجمعة على جهة الندب لمرتقب الوقت . فإذا فات فعلى جهة الحظر،وإن كان لم يقل به أحد في مبلغ علمي )969
وفي دية العبد بعد أن أورد اختلاف العلماء بين قائل: على قاتله قيمته بالغة ما بلغت و زادت على دية الحر، و قال آخرون لا يتجاوز بقيمة العبد الدية، وقال غيرهم:فيه الدية غير أنه ينقص منها شيئا حتى لا تبلغ دية الحر .وبعد أن بسط أدلة كل طائفة قال: (ولو قيل فيه إنها تكون على النصف من دية الحر لكان قولا له وجه :أعني في دية الخطأ .لكن لم يقل به أحد )970.
ومن أهم عباراته عندما يكون غالبا بصدد الاستقلال برأيه قوله: (والحق...)971 كذا ،وذكر هذه الصيغة ثلاثة عشر مرة،ومنها: (والذي عندي في هذا...)972 وقوله:(و الأجود...)973 وقوله:(فالأولى...)974 وكذا:(والظاهر من الشرع..)975 وقوله:و الفقه مثلما قال في الخلع:( والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل) 976 وقوله:(وأولى المذاهب عندي و أحسنها طريقة في الجمع..)977 ويقول:(و الذي اعتقده...)978 أو:(لكن الحق في هذا أن يعتقد...)979 ومرة:(و الذي أقوله أنه لو كان واجبا قصد العين لكان حرجا..)980 وكذلك:(و الأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين...)981 .
فابن رشد في استقلاله إما يدلي برأي وسط، أو يستنتج الحكم بعد مقابلة الأدلة، أو يحكم الطبع والذوق الفقهي والأصولي.فيلمس المتتبع لعرض المادة الفقهية وجود حاسة فقهية رفيعة لديه، تمكنه من توقع الخلاف وان لم يقف عليه:(1/226)
فمثلا في فدية الأذى من مسائل الحج يقول: (و أما الوقت فالجمهور على أن هذه الكفارة لا تكون إلا بعد إماطة الأذى .و لا يبعد أن يدخله الخلاف قياسا على كفارة الأيمان)982 .
وكذلك الشأن عند حديثه عن مسألة تسمية أهل الكتاب الله على ذبائحهم إذا(لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة فقال الجمهور :تؤكل,وهو مروي عن علي.ولست أذكر في هذا الوقت خلافا.ويتطرق إليه الاحتمال بأن يقال إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام,فإذا قيل على هذا إن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك...)983
وكذلك تنبؤه بآراء الأئمة وتخريجها على أصولهم مثلما قال في شأن مالك:(والذي يجيء على أصوله أنها أيام حيض لا أيام طهر، إذ أقل الطهر عنده محدود وهو أكثر من اليوم واليومين )984 واستنبط من رواية ابن القاسم عن مالك أنه أمر الحاقن بإعادة الصلاة في الوقت وبعد الوقت وأن صلاة الحاقن فاسدة985. وفي جهة أخرى يقول : (والذي يجيء على أصل قول مالك فيه في المشهور عنه أن القول في الأجل قول الغارم قياسا على البيع )986
وخرج من تفريق مالك بين المتزوج في مرض الموت وزوجته بأن نكاح المريض لا يجوز.987 وفي موضع آخر طرح إمكانية وجود رأي آخر لمالك في مسألة عتق من أحاط الدين بماله قياسا على رأيه في الراهن إذا أحاط الدين بماله ، يقول: ( وقد يتخرج عن مالك في ذلك الجواز قياسا على ما روي عنه في الرهن ، أنه يجوز وإن أحاط الدين بمال الراهن ما لم يحجر عليه الحاكم )988.
وتنبأ برأي ابن حزم بضبطه أصوله وإن لم يقف على قوله في المسألة حيث قال : (هذا قياس قوله عندي وحجته وإن كنت لست أذكر في هذا الوقت احتجاجه في ذلك)989(1/227)
6-ولا يرى ابن رشد نفسه ملزما دائما بترجيح أو انتقاد أو استقلال برأيه أو استنباط واستخراج على أصول الأئمة،وإنما يكتفي أحيانا كثيرة بعرض الآراء ،حيث يبدو منه قبولها جميعا.فيتوقف عند ذلك أو يوجه المسألة إلى الأصل فيها أو يعبر بأن طبيعة المسألة محتملة،وفي أمثالها يقال كل مجتهد مصيب . فمثال عرضه للآراء دون ترجيح بينها، قوله بعد تفصيل الآراء فيمن أخرج الزكاة فضاعت: (فيتحصل في المسألة خمسة أقوال : قول إنه لا يضمن بإطلاق ، وقول إنه يضمن بإطلاق، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي، والقول الخامس يكونان شريكين في الباقي ..)990 ثم انتقل إلى المسألة التي تليها.
وفي موضع آخر في مسألة ما يثبت القذف به قال: (وأما بماذا يثبت فإنهم اتفقوا على أنه يثبت بشاهدين عدلين حرين ذكرين، واختلف في مذهب مالك هل يثبت بشاهد ويمين؟ وبشهادة النساء؟ وهل تلزم في الدعوى فيه يمين؟ وإن نكل فهل يحد بالنكول ويمين المدعي )991 ثم ختم بقوله بغير ترجيح ولا تفصيل: (فهذه هي أصول هذا الباب التي تبنى عليه فروعه)992 .
أو أحيانا يوجه المسألة إلى الأصل فيها بذكر نكت الخلاف، وهو الأمر الغالب في الكتاب، أو بذكر الأصل الذي ينبغي أن يحسم فيه الكلام ليحسم بعد ذلك في فروعه ومستلزماته. مثال ذلك قوله بعد ذكر اختلاف الفقهاء في غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء، وبيان أدلة كل فريق بأن الأصل أن الحديث المستدل به (لم يقصد به حكم البدء في الوضوء، وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به إذ كان الماء مشترطا فيه الطهارة)993(1/228)
فيكون الحكم بذلك وجوب طهارة الماء،لا وجوب غسل اليد إلا أن تكون أدلة أخرى فيصار إليها. وعند تكافؤ أدلة المختلفين يكتفي بعرض أنظار المختلفين مبينا أن المسألة في ذاتها محتملة، وفي أمثالها يقال :( فالمسألة لعمري اجتهادية )994 و(كل مجتهد مصيب )995 أو يترك فيها الأمر (لذوق المجتهد )996 .فهو يقول في اختلافهم في قراءة(بسم الله الرحمان الرحيم ) في الصلاة (فمن رأى أنها آية من أم الكتاب أوجب قراءتها بوجوب قراءة أم الكتاب عنده في الصلاة ومن رأى أنها آية من أول كل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة، وهذه المسألة قد كثر الاختلاف فيها . والمسألة محتملة)997.
وفي مسألة وطء الحائض في طهرها قبل الاغتسال، ذكر اختلاف العلماء في ذلك، وسبب اختلافهم، وأدلة كل فريق: حيث استند الجمهور إلى قوله تعالى (فإذا تطهرن )، وهو أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر، الذي هو انقطاع الدم. وقال ابن رشد عن دليلهم: (والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه ) واستند أبو حنيفة في تقوية مذهبه إلى قوله تعالى (حتى يطهرن ) وهو أظهر في الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض منه في التطهر بالماء ، ثم قال ابن رشد بعد ذلك (والمسألة كما ترى محتملة )998 .
7- وأحيانا يسقط الآراء جميعا أو يرفض البحث فيها أصلا أو يعتبر الخلاف لا معنى له، وخصوصا إذا كان في ذلك آثار مشهورة. ففي مسح الأذنين مثلا : قال ( وقد شذ قوم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه ، وذهب آخرون إلى أن يمسح باطنهما مع الرأس ويغسل ظاهرهما مع الوجه ، وذلك لتردد هذا العضو بين أن يكون جزءا من الوجه أو جزءا من الرأس ، وهذا لا معنى له مع اشتهار الآثار في ذلك بالمسح ، واشتهار العمل به )999 .
وفي مسألة اختلاف الفقهاء في جعل الإسلام شرطا في وجوب الوضوء قال (وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه ، لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي )1000 .(1/229)
وفي مسألة ولاء العبد المسلم إذا أعتقه النصراني قبل أن يباع لمن يكون؟ نقل ابن رشد اتفاق العلماء على أنه إذا أعتق النصراني الذمي عبده النصراني قبل أن يسلم أحدهما ثم أسلم العبد أن الولاء يرتفع فإن أسلم المولى عاد إليه وذكر اختلافهم في الحربي يعتق عبده وهو على دينه ثم يخرجان إلينا مسلمين؟ وبعد عرض الآراء في ذلك قال :وهذه المسائل كلها هي مفروضة في القول لا تقع بعد، فإنه ليس من دين النصارى أن يسترق بعضهم بعضا ، ولا من دين اليهود فيما يعتقدونه في هذا الوقت ويزعمون أنه من مللهم )1001
وقال في اختلافهم في لبن الميتة (ولا لبن للميتة إن وجد لها إلا باشتراك الاسم ،ويكاد أن تكون مسألة غير واقعة فلا يكون لها وجود إلا في القول )1002.
ثالثا- منهج تعامله مع مذاهب الفقهاء:
سبق تفصيل القول بخصوص الجانب الكمي من أعلام ومذاهب "بداية المجتهد وكفاية المقتصد" في مبحث موضوع "البداية" حيث ذكرنا من ورد فيها من الأعلام وله رأي، وأعرضنا عمن تحدث عنهم فقط، أو جاؤوا رواة ،وذلك من الصحابة والتابعين وتابعيهم والفقهاء المستقلين وأتباع المذاهب: المالكية،والشافعية والحنفية،والظاهرية،والحنبلية.وأوردنا النسبة الإحصائية لهذه المذاهب ،فوجدنا المذهب المالكي يحتل الصدارة بنسبة 32% من مجمل الآراء المذكورة في "البداية" .
ويليه في الرتبة المذهب الشافعي الذي يصل 15% من مجمل الآراء ،ثم يليه المذهب الحنفي بنسبة 14% من مجمل الآراء ، وبعده المذهب الظاهري بنسبة 4% ، ثم بعده المذهب الحنبلي بنسبة تصل إلى 3% ويصل سفيان الثوري إلى 3% أيضا ويصل أبو ثور إلى 2% وكل من الأوزاعي والليث بن سعد وابن أبي ليلى 1% وابن المنذر 0.43 % والقاسم بن سلام 0.36% وابن شبرمة والطبري 0.22% وعثمان البتي 0.21% وابن جريج 0.10% وابن المبارك 0.09% وابن علية 0.08% وشريك ومذهب الخوارج 0.05% والشيعة 0.01%...(1/230)
وأما عن الميزة العامة في تعامله مع مذاهب الفقهاء ، فهي المساواة بين المذاهب والتعامل معها وفق ما هو متاح ،وأقصد بالمساواة الناحية المبدئية: أي عدم وجود نية مسبقة كما يظهر من الكتاب لإقصاء مذهب أو التقليل من شأنه، أو جعل مذهب معين أرضية انطلاق وميزان تحاكم بقية المذاهب على أساسه بذكر من يوافقه ومن يخالفه كما شاهدنا من حال الكتب موضع المقارنة مع "البداية".
كما لا تعني المساواة: التطابق والتماثل وإنما الأخذ بعين الاعتبار وزن هذه المذاهب في الساحة ومدى انتشارها ولهذا نجد حصة الجمهور أكبر وخصوصا منها المذاهب الثلاث المالكية والشافعية والحنفية فمعظم الخلق من المسلمين يدينون الله عز وجل بإتباع أئمة هذه المذاهب.
ورغم النسبة المرتفعة التي احتلها المذهب المالكي في "البداية"يبقى واحدا من المذاهب المعروضة، فالكتاب كما يكرر صاحبه ليس موضوعا لبسط المذهب المالكي . وإنما كما قال في مقدمة كتابه سيذكر المسائل التي اتفق حولها العلماء ،والتي اشتهر الاختلاف فيها من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن خبت جذوة الاجتهاد وفشا التقليد . فاهتم بعرض الفقه عرضا مقارنا بين أشهر المذاهب والآراء السنية، بما فيه ذلك اهتمامه بالفقه الظاهري، معرضا عن ذكر مذاهب الطوائف الأخرى إلا ما كان من ذكر رأي الشيعة مرة في منع بنت الابن من الميراث إذا كانت مع البنت كالحال في ابن الابن مع الابن وكذا ذكر رأي الخوارج في القطع في قليل المسروق وكثيره والإشارة إلى تكفيرهم مرتكب الكبيرة .
وقد وهم المحققون لكتاب "الهداية في تخريج أحاديث البداية" لأبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني ، حين قالوا عن كتاب البداية : ( إن كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" هو كتاب في الفقه على مذهب إمام المدينة المنورة مالك بن أنس رحمه الله)1003(1/231)
فالذي يتصفح البداية لا يجد كبير عناء في إثبات هوية الكتاب الذي يروم عرض أشهر المذاهب والآراء لاستخلاص أسباب الاختلاف ، ووضع قواعد ضابطة للقول الفقهي بغض النظر عن المدرسة التي ينتسب إليها . بل إن صاحبه يصرح بذلك غير ما مرة . وأوضحها في ذلك قوله :( وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا ، إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون به القارئ مجتهدا في مذهب مالك ، لأن إحصاء جميع الروايات عندي شيء ينقطع العمر دونه )1004 فقوله :"سنضع" يفيد أن الكتاب الذي هو بصدده ليس موضوعا لذلك العرض .
وما سبقت رؤيته في طريقة عرضه لمسائل الكتاب ،ومنهج تعامله مع القضايا الفقهية: سواء في ترجيحاته أو انتقاداته، يبين موضوعيته وحرصه على المساواة يين المذاهب ودورانه مع الدليل حيث دار، فكما نال المذهب المالكي حظه من الدفاع وترجيح ما قوي دليله على باقي المذاهب الأخرى، فقد انتقده غير ما مرة، إما بتخلي فقهاء المالكية أحيانا عن أصولهم في بعض المسائل، أو مخالفة المذهب في بعض القواعد التي بني عليها، أو إبداء ملاحظات حول أصل ( عمل أهل المدينة ) حتى ولو كان من أبرز الأصول المميزة لهم . بل يحدث أحيانا أن يورد خلافات المذاهب الأخرى دون ذكر للمذهب المالكي.
كما فعل في مسألة: ( على من تجب صلاة العيد ) و في مسألة: ( وقت الصلاة على الجنازة ) وإن كان هذا نادرا غير أنه يفيد أن المذهب المالكي غير مقصود لذاته، وإنما قد يكون له بعض الامتيازات الشكلية: لكونه المذهب الذي ترعرع الكاتب في أحضانه ومذهب الأسرة التي ينتمي إليها ، والمذهب الغالب على (جزيرة ) الأندلس والمهيمن على الحياة العلمية والاجتماعية والقضائية فيها .(1/232)
ومن تلك الامتيازات أنه يورد الخلاف في بعض الأحيان داخل المذهب فقط دون غيره أو يكتفي بذكر رأي المالكية1005 أو يجعله أحيانا أساس بعض الأبواب ثم يعرض المذاهب الأخرى على سبيل المقارنة دون أن تنال نفس التفريع الذي يحظى به المذهب المالكي1006 .
ولا شك أن الطابع الغالب عند ابن رشد في عرضه للمذاهب وبسط آرائها هو اعتماد ما تيسر منها دون قصد إلى التمييز بينها فقد يحدث مرة أن يكتفي بعرض المذهبين المالكي والظاهري1007 أو الشافعي والمالكي1008 أو رأي الجمهور بمن فيهم المالكية والحنفية والشافعية . وأحيانا لا يفصل في ذكر أصحاب المذاهب إنما يكتفي يقوله : منهم من مذهب، وذهب قوم1009 وهكذا .
ومن المصطلحات التي تهم عرض آراء المذاهب في "البداية" مصطلح (الجمهور ) الذي قال عنه ابن رشد )إذا قلت .الجمهور. فالفقهاء الثلاثة معدودون فيهم ، أعني مالكا والشافعي وأبا حنيفة )1010 غير أنه تكون أحيانا بعض الاستثناءات التي تدخل في باب التفصيل أو التأكيد مثل قوله في غسل المرافق : (فذهب الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة إلى وجوب إدخالها )1011
وذلك إن لم يكن من خطأ من النساخ بإضافة الواو. وقد يخرج بعض الأئمة الثلاثة من الجمهور مثل قوله :( فذهب مالك والشافعي والجمهور إلى أن ذلك لا يجوز حتى تغتسل وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ذلك جائز إذا طهرت لأكثر أمد الحيض )1012 أي وطء الحائض في طهرها وقبل الاغتسال. فخرج هنا أبو حنيفة من الجمهور ، ومرة يخرج الشافعي ومعه الكوفيون أيضا حيث يقول عن اختلاف الفقهاء (فذهب الجمهور إلى أنه لا يبني لا في حدث ولا في غيره، مما يقطع الصلاة إلا في الرعاف فقط. ومنهم من رأى أنه لا يبني لا في الحدث ولا في الرعاف وهو الشافعي وذهب الكوفيون إلى أنه يبني في الأحداث كلها )1013.(1/233)
ومرة يفهم خروج الجميع من لفظ (الجمهور ) سوى مالك،حيث يقول ( وأما نوع الخلع فجمهور العلماء على أنه طلاق . وبه قال مالك .وأبو حنيفة سوى بين الطلاق والفسخ . وقال الشافعي : هو فسخ ، وبه قال أحمد وداود ومن الصحابة ابن عباس )1014 . وقد يستبدل أحيانا لفظ (الجمهور) بلفظ (الجماعة) كما هو الشأن في هبة المشاع غير المقسوم حيث قال: (مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور : تصح وقال أبوحنيفة لا تصح ، وعمدة الجماعة أن القبض فيها يصح كالقبض في البيع وعمدة أبي حنيفة أن القبض فيها لا يصح إلا مفردة كالرهن )1015.
ومهما يكن فهذه الاستثناءات في استعمال ابن رشد للفظ الجمهور لا يلغي قاعدته في هذا الاصطلاح.
بعض المؤاخذات المنهجية على ابن رشد:
وما يمكن أن يسجل على ابن رشد من ملاحظات-تبدو سلبية بالمقارنة مع منهجه العام ومقصده من الكتاب- والتي لا تنقص أبدا من قيمة عمله ، وإنما تعتبر استثناءات في منهج تعامله مع المادة الفقهية ومذاهب الفقهاء .ومن بعض ما تم تسجيله في ذلك :
- تردده أحيانا في كون سبب الخلاف الذي ذكره في المسألة هو السبب الحقيقي ، ففي مسألة اشتراط دخول الوقت للتيمم ذكر في "البداية" سبب اختلاف الفقهاء وهو : هل ظاهر آية الوضوء (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ..) يقتضي أن لا يجوز التيمم والوضوء إلا عند دخول الوقت وبعد ذلك قال فالأولى : (أن يقال في هذا إن سبب الخلاف فيه هو قياس التيمم على الصلاة ، لكن هذا يضعف، فإن قياسه على الوضوء أشبه )1016.(1/234)
- وأحيانا يخرج عن منهجه فلا يكتفي بالمسائل المنصوص عليها والمنطوق بها أو القريبة من ذلك وإنما يسترسل مع آراء الفقهاء ويتابعهم في تفريعاتهم ،مثل ما فعل في مسألة (غيبة الأب عن ابنته البكر )1017 وفي مسائل من الطلاق : مثل تعليق الطلاق بالشرط المجهول الوجود1018 وتبعيض المطلقة1019 وتكرير الطلاق لغير المدخول بها1020 والطلاق المقيد بالاستثناء1021 وغيرها . وكذا في مسألة بيع السلم إذا حان أجله قبل قبضه1022 .
- وفي بعض الأبواب الفقهية الأخيرة من الكتاب يدخل مباشرة إلى الأحكام كما فعل في كتاب الوديعة ،حيث قال مباشرة بعد عنوان الكتاب:( وجل المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار هي في أحكام الوديعة)1023 وفي كتاب الاستحقاق بدأ مباشرة بقوله:( وجل النظر في هذا الكتاب هو في أحكام الاستحقاق)1024 وغيرها،كما يغلب في بعض الكتب الطابع القضائي على العرض الفقهي حيث يكثر من افتراض منازعات واختلاف المتعاقدين.
والواقع أن هذه المسألة تتجاذب ابن رشد حيث عبر عنها بالقول:( والقول في القسامة هو داخل فيما تثبت به الدماء وهو في الحقيقة جزء من كتاب الأقضية ولكن ذكرناه هنا على عادتهم وذلك أنه إذا ورد قضاء خاص بجنس من أجناس الأمور الشرعية رأوا أن الأولى أن يذكر في ذلك الجنس وأما القضاء الذي يعم أكثر من جنس واحد من أجناس الأشياء التي يقع فيها القضاء فيذكر في كتاب الأقضية وقد تجدهم يفعلون الأمرين جميعا كما فعل مالك في الموطأ فإنه ساق فيه الأقضية من كل كتاب )1025 وقد فعل بدوره الأمرين معا. وفي الباب الثالث من كتاب الحجر سرد الأقوال سردا، مركزا في الغالب على مذهب الإمام مالك من غير دليل ولا تعليل كالمتعب الذي يريد التخلص، وختم بقوله والفروع كثيرة 1026(1/235)
- ومرة يذكر أن الفقهاء اختلفوا في مسألة دون ذكر لآراء الذين اختلفوا حيث يمر مباشرة إلى سبب الاختلاف، مثل قوله في آخر كتاب الاعتكاف ( واختلفوا هل يخرج من المسجد أم ليس يخرج ، وكذلك اختلفوا إذا جن المعتكف أو أغمي عليه هل يبني أو ليس يبني بل يستقبل والسبب في اختلافهم في هذا الباب أنه ليس في هذه الأشياء شيء محدود من قبل السمع فيقع التنازع من قبل تشبيههم ما اتفقوا عليه بما اختلفوا فيه)1027.
- وأود في ختام هذه المؤاخذات أن أشير إلى ملاحظة عنت لي وأنا أطالع قليلا في "المتن الرشدي": كيف أن ابن رشد في "البداية" ولشدة حرصه على التأصيل، انتقد فيما يشبه اللوم الأئمة الذين أصلوا للمذاهب المتبعة،وما يحدث لهم أحيانا في بعض المسائل من القول فيها بأجوبة مختلفة:يخالف فيها القول اللاحق ما قالوه في السابق والمسألة واحدة.ورد ذلك إلى :( أن الإنسان إذا سئل عن أشياء متشابهة في أوقات مختلفة ولم يكن عنده قانون يعمل عليه في تمييزها إلا ما يعطيه بادىء النظر في الحال جاوب فيها بجوابات مختلفة فإذا جاء من بعده أحد فرام أن يجري تلك الأجوبة على قانون واحد وأصل واحد عسر ذلك عليه وأنت تتبين ذلك من كتبهم)1028 .
وودت لو اعتذر لهم على الأقل بمثل ما اعتذر للفلاسفة في موقف مشابه،حيث طالب بعدم مؤاخذة العلماء إذا حدث أن سهوا أحيانا عن أصولهم.يقول في كتابه "تلخيص المزاج":(..وهذا كله على أصول جالنوس،لكن ليس بمنكر على الناظر أن يؤصل أصولا في علم، ثم يسهو عن تلك الأصول في موضع من المواضع.ولذلك لا ينبغي أن يتطرق إلى العلماء في أمثال هذه المواضع،وخاصة إذا كانوا هم الذين أفادونا الأصول التي بها وقفنا على سهوهم في هذه المواضع )1029 وقد يكون هذا مما سها فيه رحمه الله،أو رأى أن الشرع لا يجوز فيه ما قد يجوز في غيره لأن الأمر دين.
رابعا- اعتماد المنهجية العلمية(1/236)
الناظر في البداية يسهل عليه الخروج بانطباع عام حول الأخلاقيات العلمية الرفيعة التي يمتاز بها ابن رشد في كتابه , حيث يدور مع الدليل حيث دار،ويبحث عن الصواب بغض النظر عن قائله , و لا يتعصب لجهة بعينها و يحرص على الموضوعية و التثبت، و يتحلى بالصبر و التواضع و الإنصاف . و يرد بغير ما حرج كل ما يرفضه عقله، أو يخالف التجارب الإنسانية ، و يعرض عن الافتراضات الخيالية .
و من ذلك قوله:( وشذ بعضهم فأوجب حرمة للبن الرجل وهذا غير موجود فضلا عن أن يكون له حكم شرعي وإن وجد فليس لبنا إلا باشتراك الاسم )1030 و كذلك قوله في نفس السياق (ولا لبن للميتة إن وجد لها إلا باشتراك الاسم ويكاد أن تكون مسألة غير واقعة فلا يكون لها وجود إلا في القول)1031
و قريب من ذلك رده اشتراط إصابة عين القبلة لمن كان لا يبصرها، و ذلك لاتفاق المسلمين على الصف الطويل خارج الكعبة مما يدل على أن الغرض ليس هو استقبال عينها. وكذا لما في قصد العين من الحرج (فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك، فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها)1032. فهو يستعين بثقافته العلمية ليبين صعوبة الأمر على عموم الأفراد لما يقتضيه من شروط لا تتوفر إلا لخاصة الخاصة فسقط به التكليف و تعين قصد الجهة فحسب .
كما تظهر طريقته العقلانية في الاستدلال في مواطن كثيرة: منها حديثه في الباب الخامس من كتاب الذبائح (فيمن تجوز تذكيته و من لا تجوز ) حيث خاض الفقهاء في ذبائح أهل الكتاب و فيما هو محرم عليهم و ما حرموه على أنفسهم وحكم شحومهم و الدخول في نياتهم و اعتقاداتهم و تسميتهم الله و غير ذلك .(1/237)
قال ابن رشد : (والحق أن ما حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع فيجب أن لا يراعى اعتقادهم في ذلك ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه، لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا واعتقاد شريعتنا لا يصح منهم، وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به فذبائحهم والله أعلم، جائزة لنا على الإطلاق و إلا ارتفع حكم آية التحليل جملة فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم )1033
و كذلك الشأن عند حديثه عن الواجب على من ترك الصلاة عمدا من غير جحود1034 فرغم مصير جمهور الفقهاء إلى الحكم بقتله كالحنابلة و المالكية و الشافعية بغض النظر عن طبيعة القتل هل هو قتل كفر أو حد ؟ فقد ناقش المسألة بهدوء، حيث اتجه بداية إلى تدقيق المصطلح قائلا:( وعلى الجملة, فاسم الكفر إنما يطلق بالحقيقة على التكذيب, و تارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب إلا أن يتركها معتقدا لتركها هكذا ) ثم بين أن (حمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه . لا يجب المصير إليه إلا بدليل ) ذلك أنه ليس معدودا في الثلاثة الذين نص الشرع على قتلهم في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان . أو زنا بعد إحصان, أو قتل نفس بغير نفس).
كما أن القول بقتله حدا ( فضعيف ولا مستند له , إلا قياس شبه ضعيف إن أمكن، و هو تشبيه الصلاة بالقتل في كون الصلاة رأس المأمورات , و القتل رأس المنهيات ) ثم انتهى ابن رشد، إلى أن الحكم عليه حكم الكافرين في جميع أحكامه مع أنه مؤمن . شيء مفارق لأصول أهل السنة و الجماعة ( و لذلك صار هذا القول مضاهيا لقول من يكفر بالذنوب).(1/238)
و أما عن الموضوعية فتتجلى في صدقه و صراحته في البحث العلمي و نبذ التعصب و إفساح المجال للآراء لتجادل عن نفسها دون تحيز، إلا ما جذبه إليه الصواب، أو ما يعتقده كذلك . فلا يتحرج من وصف الرأي المجانب للصواب بالاضطراب و لو كان المالكية أبرز القائلين بذلك الرأي المرجوح حيث يقول :( و أما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث ) يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم ( المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا لبيع الخيار ). و الذي يعتبر إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد و أصحها1035.
كما أنه لا يجد حرجا في قوله (لا أعلم) مثل قوله: (وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض أو لا تخرجه وبين الخفي والظاهر فلا أعلم له مستندا في هذا الوقت)1036 و كذلك قوله في بيع الحنطة في تبنها بعد الدرس (فأما إذا كان مكيلا فجائز عند مالك ولا أعرف فيه قولا لغيره )1037 و يبالغ في الاحتياط في إطلاق الأحكام حيث تكثر عنده عبارات : ( فيما أحسب ) وذكرها حوالي أربعين مرة و (يشبه أن يكون) كذا.. ذكرها ثمانية وثلاثين مرة.
وقوله( لعله) وقفت على أربعة عشر منها ، ويكثر من العبارة المشهورة عند العلماء (والله أعلم )، و يتردد أحيانا في الرد و القبول مظهرا مواطن الضعف و القوة في الآراء، مثل قوله في مسألة صرف الصدقة إلى الأصناف الذين تجب لهم الزكاة مبينا أن ظاهر اللفظ في النص الشرعي (يقتضي القسمة بين جميعهم والمعنى يقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة إذ كان المقصود به سد الخلة )1038(1/239)
و ختم بقوله (فالأول أظهر من جهة اللفظ وهذا أظهر من جهة المعنى )1039 و رغم تحريه الكبير في إتباع المنهج العلمي في البحث فإنه يشرك القارئ معه في مزيد من التدقيق و تدارك النقص و إصلاح الوهم و الخطأ فهو يقول: (وأنا قد أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه )1040. و في أمثلة كثيرة تظهر بجلاء براءة صاحب "البداية" من التعصب حيث يختار داخل المذهب المالكي أو خارجه بغير حرج .
ففي مسألة البيع و الصرف يختار رأي أشهب بعد أن يورد الخلاف ( وأجاز أشهب الصرف والبيع وهو أجود لأنه ليس في ذلك ما يؤدي إلى ربا ولا إلى غرر )1041
و في الاختلاف الواقع في مسألة هيئة الجلوس للتشهد يختار مذهب الطبري حيث قال : (وذهب الطبري مذهب التخيير وقال هذه الهيئات كلها جائزة وحسن فعلها لثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول حسن )1042. ويرجح مرة أخرى رأي أبي حنيفة ففي مسألة إجبار الأب البالغ و الثيب غير البالغ على الزواج يعرض للاختلاف ،و يبين سببه،و أدلة كل فريق،و يعقب بقوله:(والأصول أكثر شهادة لتعليل أبي حنيفة)1043
فالذي يظهر من خلال تعامله مع مختلف المذاهب أنه يرى الخلافات الفقهية من الخلاف الطبيعي الذي لا ضرر فيه , بل فيه من اليسر الشيء الكثير و فيه دلالة واضحة على مرونة قواعد الشريعة، الأمر الذي يشعر بالاطمئنان لكل المذاهب المعتبرة حيث يبقى التنافس بينها فقط في قوة الدليل و مناسبة الأحوال .(1/240)
و من تأصل مذهب الإنصاف و عدم التعصب عند صاحبنا توليه أحيانا كثيرة الدفاع حتى عن بعض نقط الضعف عند بعض المذاهب . فمثلا : في الشيء الذي تزال به النجاسة ذهب الشافعية إلى أن للماء مزيد خصوصية فيمنع غيره إلا في موضع الرخصة فقط و هو المخرجان، و لما طولبوا ببيان ماهية الخصوصية و مبررها لجأوا إلى القول بأنها عبادة ( إذ لم يقدروا أن يعطوا في ذلك سببا معقولا ) على عادة الفقهاء حيث يلجؤون إلى القول : ( عبادة ) إذا ضاق عليهم المسلك مع الخصم .
فيتطوع ابن رشد بمدهم بما يمكن أن يقنعوا به بغير اللجوء إلى ذلك القول حيث يقول : (ولو راموا الانفصال عنهم بأنا نرى أن للماء قوة إحالة للأنجاس والأدناس وقلعها من الثياب والأبدان ليست لغيره ولذلك اعتمده الناس في تنظيف الأبدان والثياب لكان قولا جيدا وغيره بعيد بل لعله واجب أن يعتقد أن الشرع إنما اعتمد في كل موضع غسل النجاسة بالماء لهذه الخاصية التي في الماء ولو كانوا قالوا هذا لكانوا قد قالوا في ذلك قولا هو أدخل في مذهب الفقه الجاري على المعاني )1044 و رغم علو شأن ابن رشد في الفقه عامة و قدرته على الاجتهاد , لا تفارقه شيمة التواضع سواء في أسلوبه حيث يكثر عنده تعبير (في غالب ظني )1045, ( فيما علمت )1046, ( أحسب )1047, (أنا الشاك)1048...(1/241)
أو في اعتذاره أمام الأئمة الكبار بعد أن أورد اختلافهم في نجاسة ما سوى بول ابن آدم غير الرضيع و رجيعه حيث يقول : (ولولا أنه لا يجوز إحداث قول لم يتقدم إليه أحد في المشهور وإن كانت مسألة فيها خلاف، لقيل إن ما ينتن منها ويستقذر بخلاف ما لا ينتن ولا يستقذر، وبخاصة ما كان منها رائحته حسنة لاتفاقهم على إباحة العنبر وهو عند أكثر الناس فضلة من فضلات حيوان البحر وكذلك المسك وهو فضلة دم الحيوان الذي يوجد المسك فيه فيما يذكر)1049 ولم يكن ابن رشد يرى مانعا من الاستفادة من التجارب الإنسانية و المعطيات العلمية1050 في فهم بعض القضايا الفقهية , و إبداء الرأي فيها .
و لهذا نجده يرد بعض أسباب الاختلاف إليها مثل اختلاف الفقهاء في الدم الذي تراه الحامل فاعتبر السبب في ذلك عسر الوقوف على ذلك بالتجربة و اختلاط الأمرين (فإنه مرة يكون الدم الذي تراه الحامل دم حيض وذلك إذا كانت قوة المرأة وافرة والجنين صغيرا وبذلك أمكن أن يكون حمل على حمل على ما حكاه بقراط وجالينوس وسائر الأطباء )1051 و كذلك قوله في اختلاف الفقهاء حول طهارة عظام الميتة (وفي حس العظام اختلاف والأمر مختلف فيه بين الأطباء )1052(1/242)
و كذلك قوله في استحباب تعجيل دفن الموتى (إلا الغريق ،فإنه يستحب في المذهب تأخير دفنه مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته قال القاضي وإذا قيل هذا في الغريق فهو أولى في كثير من المرضى مثل الذين يصيبهم انطباق العروق وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء حتى لقد قال الأطباء إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث)1053 كما أن ابن رشد يوظف في منهجه العلمي ثقافته الفلسفية و المنطقية و يظهر شغفه الكبير بالمبادئ العقلية منذ شروعه في مقدمة الكتاب حيث يقول في شأن القياس : ( وما سكت عنه الشارع فلا حكم له ودليل العقل يشهد بثبوته ، وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية ، والنصوص ، والأفعال ، والإقرارات متناهية ، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى)1054 كما أنه يأتي أحيانا كثيرة بمناقشات رائعة تمتاز بالإنصاف و حسن العرض للآراء مهما كان موقفه منها , مجليا نكت الخلاف .
و نأخذ على سبيل المثال نموذجين : الأول يتعلق باختلاف الفقهاء في القليل من الأنبذة الذي لا يسكر . فبعد أن عرض أدلة الحجازيين و العراقيين . و ما يقال من قوة حجة الحجازيين من طريق السمع و ظهور حجة العراقيين من طريق القياس , بين بداية جوهر الخلاف بين الفريقين، و الذي يرجع إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا . ثم تدخل ليثبت ما يراه حقا حيث يقول (لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا فالواجب أن يغلب على القياس وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها،ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون )1055 .(1/243)
و بما أن الأمر ينتهي هنا إلى الذوق العقلي فقد يتساوى الذوقان فيكثر الاختلاف في هذا النوع حتى يقال : كل مجتهد مصيب . و بعد أن مهد بكل هذه الحيثيات لم ير حرجا في إبداء ما يراه صوابا حيث وقف إلى جانب الجمهور و بين أن تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر في قوله صلى الله عليه و سلم { كل مسكر حرام } سدا للذريعة،ووجب إلحاق ما وجدت فيه علة الخمر بالخمر .
و على من يزعم وجود الفرق إقامة الدليل. أما إذا تم التسليم بصحة قوله صلى الله عليه و سلم: { ما أسكر كثيره فقليله حرام }
فلزمتهم الحجة لأنه (نص في موضع الخلاف ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس )1056. و خصوصا و أن القياس هنا يقصد به الجمع بين انتفاء مضرة الخمر ووجود المنفعة لقوله تعالى: { قل فيهما إثم كبير و منافع للناس } في الوقت الذي نجد الشرع يغلب حكم المضرة على المنفعة،فحرم القليل منها و الكثير فوجب (أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه علة تحريم الخمر إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي)1057 .
أما النموذج الثاني فيتعلق باشتراط الولاية في صحة النكاح فبعد أن بين اختلاف العلماء في هذه المسألة بين جاعلها من شروط صحة النكاح و بين من يرى جواز عقد المرأة نكاحها بغير ولي إذا كان كفؤا , و من فرق بين البكر و الثيب فاشترط الولي في البكر ولم يشترطه في الثيب، و بين من يرى الولي من شروط التمام لا من شروط الصحة. حدد سبب الاختلاف حيث لم تأت آية و لا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح .(1/244)
و النصوص المستشهد بها محتملة و الأحاديث مختلف في صحتها . فأورد مشهور ما احتج به كل فريق ووجه الاحتمال فيه ووجه ضعف العمل بالأحاديث , و لم يفته التعرض لجهة المعاني حيث بين أوجه الاحتمال فيها لينتهي إلى ما يراه صوابا في المسألة حيث يقول :( فقد يجب أن يعتقد أحد أمرين إما أنه ليست الولاية شرطا في صحة النكاح وإنما للأولياء الحسبة في ذلك وإما إن كان شرطا فليس من صحتها تمييز صفات الولي وأصنافهم ومراتبهم ولذلك يضعف قول من يبطل عقد الولي الأبعد مع وجود الأقرب )1058 .
رابعا-اعتماد الأسلوب التعليمي
لما كان الغرض من بداية المجتهد وكفاية المقتصد كما سنبين أكثر فيما سيأتي : هو العناية بأمر التأصيل ، وقصد إصلاح التعليم الفقهي، بالاهتمام بالاستدلال ، والتدرب على استنباط المسكوت عنه، من المنطوق به وتنظيم المعلومات، لتسهيل الضبط ،والاستيعاب، ووضع قوانين، ودساتير للقول الفقهي وصولا إلى فهم الخلاف الفقهي، وترسيخ التسامح المذهبي، وتمهيدا لولوج باب الاجتهاد، فإن ابن رشد استحضر الحس التعليمي، وهو يعرض مادة كتابه، حيث اهتم بضرب الأمثلة وحسن التمثيل، وتلخيص المقصود.
والاهتمام بالشرح والتفسير، وحسن توظيف السؤال، وإشراك القارئ ،والسير به وفق المعتاد من طريقة الفقهاء.فهو يعتمد توضيح ما يراه في حاجة إلى ذلك من الآراء الفقهية بضرب الأمثلة المناسبة:(1/245)
فهذا الشافعي لا يرى الدم سببا في تحريم الميتة ، وحكم ابن رشد بقوة مذهبه في ذلك حيث أنه ( لو كان الدم هو السبب في تحريم الميتة لما كانت ترتفع الحرمة عن الحيوان بالذكاة ، وتبقي حرمية الدم الذي لم ينفصل بعد عن المذكاة . وكانت الحلية إنما توجد بعد انفصال الدم عنه لأنه إذا ارتفع السبب ارتفع المسبب الذي يقتضيه ضرورة لأنه إن وجد السبب والمسبب غير موجود فليس هو سببا ، ومثال ذلك أنه إذا ارتفع التحريم عن عصير العنب وجب ضرورة أن يرتفع الإسكار إن كنا نعتقد أن الإسكار هو سبب التحريم )1059 .
وكما مثل هنا بمسألة الإسكار فإنه أتى بأمثلة تطبيقية في مسألة إيتيان المأموم ما فاته من الصلاة إذ يقول: فمن أدرك ركعة من صلاة المغرب على المذهب الأول : أعني مذهب القضاء قام إذا سلم الإمام إلى ركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة من غير أن يجلس بينهما ، وعلى المذهب الثاني : أعني على البناء قام إلى ركعة واحدة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويجلس ،ثم يقوم إلى ركعة يقرأ فيها بأم القرآن فقط . وعلى المذهب الثالث يقوم إلى ركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة 1060.
ويهتم أيضا بالشرح والتفسير لما يراه في حاجة إلى ذلك مثل قوله : (وينبغي أن تعلم أن السنة والرغيبة هي عندهم من باب الندب،وإنما تختلفان عندهم بالأقل والأكثر أعني في تأكيد الأمر بها وذلك راجع إلى قرائن أحوال تلك العبادة)1061. وكذلك عند ما يقول : ( والسبب في اختلافهم تشبيه الزكاة بالديون ، أعني أن يتعلق الحق فيها بالذمة له بعين المال ، أو تشبيهها بالحقوق التي تتعلق بعين المال له بذمة الذي يده على المال كالأمناء وغيرهم )1062.(1/246)
ولا ينسى ابن رشد أيضا اعتماد تقنية التلخيص التي تساعد المتعلم على حسن الاستيعاب وجمع شتات المتفرق من المعلومات ، فنجد عبارات مثل :(فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال )1063 . وكذا (فيتحصل في الخلع خمسة أقوال )1064 وقوله:فيحصل في هذه المسألة الخلاف في ثلاثة مواضيع 1065. وكذا :فيتحصل في الكنايات الظاهرة ثلاثة أقوال 1066. وفي مسألة ضياع الزكاة بعد إخراجها (فيتحصل في المسألة خمسة أقوال )1067 .
ويلحق بهذا أيضا اهتمامه بالمهم وكراهيته التعمق لغير حاجة وتجنب التكلف حيث يقول : (والاحتجاجات التي يحتج بها كل من الفريقين في ترجيح الحديث الذي رجحه كثيرة يطول ذكرها .وهي موجودة في كتبهم ولكن نكتة اختلافهم هو ما أشرنا إليه )1068
وعن وجوب الصلاة يقول : (أما وجوبها فبين من الكتاب والسنة والاجتماع وشهرة ذلك تغني عن تكلف القول فيه )1069.
وتبعا لذلك فهو يكره التعمق الذي يصادفه في بعض المذاهب مثل قوله:(حتى لقد اختلف المتأخرون من أصحابه هل من شرط المسجد السقف أم لا وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا وهذا كله لعله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر)1070 ولهذا يستحسن الرفق بالمتعلمين والاكتفاء بالمشهورات مثل: ما فعل عند ختم الصوم المفروض حيث قال :( فهذه مشهورات ما يتعلق بالصوم المفروض من المسائل )1071 وفي موضوع آخر ( ونحن نذكر مشهور ما اتفقوا عليه من هذين الجنسين وما اختلفوا فيه )1072 .(1/247)
ويحرص أن يكون الذي يذكره من المسائل (ما يجري مجرى القواعد والأصول )1073 لجميع ما في الباب الفقهي، كما أنه يعتمد في التفهيم الربط، و التذكير بما سبق في الأبواب المتقدمة , فعندما كان مثلا بصدد بسط الاختلاف في كفارة المتمتع قال : ( و هذه المسألة نظير مسألة من طلع عليه الماء في الصلاة و هو متيمم ) 1074. والتي تلتقي معها في أصل واحد هو هل ما هو شرط في ابتداء العبادة هو شرط في استمرارها ؟ . وكذلك قوله : (وسبب الخلاف أن للحج تحللا يشبه السلام في الصلاة وهو التحلل الأكبر )1075 .
ويستخدم أسلوب الافتراض ويعلم طريق الاستنباط ، ففي مسألة عدم العلم بأن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة ، ذكر ابن رشد رأي الجمهور بأنها تؤكل رغم أنه لا يعلم من خالف ذلك فإنه احتمل أن يرد الخلاف فيه،يقول :( ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا .ويتطرق إليه الاحتمال بأن يقال إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام . فإذا قيل على هذا إن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك ..) 1076 وفي مسألة أفضل ما يضحى به بعد ذكر ما يراه سببا للخلاف قال :( ويمكن أن يكون لاختلافهم سبب آخر . وهو هل الذبح العظيم الذي فدي به إبراهيم سنة باقية إلى اليوم وأنها الأضحية ؟ .. )1077 .
فهو يتحرى الوصول بالمتعلم إلى سبب الاختلاف ما أمكن، حيث يقلب المسألة من عدة وجوه ويفترض ما يراه مناسبا ، ويتصور حلولا لمشكلات مفترضة بناء على أصول الفقهاء ،ففي غيبة الأب عن ابنته البكر أورد ما اتفق عليه فقهاء المذهب المالكي، وما اختلفوا فيه ثم قال : (وليس يبعد بحسب النظر المصلحي الذي انبنى عليه هذا النظر أن يقال إن ضاق الوقت وخشي السلطان عليها الفساد زوجت وإن كان الموضع قريبا ..)1078 وفي بيع السمك في البركة قال ( أبو حنيفة يجوز ، ومنعه مالك والشافعي فيما أحسب . وهو الذي تقتضي أصوله )1079(1/248)
وتيسيرا على المتعلم أيضا يسير وفق المعتاد ويؤلف على عادة الفقهاء، وإن كان يري أحيانا أن بعض المباحث خاصة بأبواب فقهية معينة دون التي توضع فيها 1080 ويشرك القارئ أحيانا معه في عرض المسائل وتأملها مثل قوله :(وإنما يكون قولهم (أي الفقهاء ) خلاف الآثار لو جعلوا صلاته (أي الوتر ) بعد الفجر من باب الأداء فتأمل هذا ) 1081 إلى أن يقول أيضا ( فينبغي أن تتأمل صفة النقل في ذلك عنهم )1082 وتجدر الإشارة إلى أن ابن رشد طلب التأمل من قارئه سبعا وعشرين مرة في كتابه.
كما أنه لا يبخل بذكر فائدة الاختلاف في بعض المسائل،ليكون حافزا على معرفة سببه وتعلم موضع استخدامه مثل قوله في وقت وجوب زكاة الفطر بعد تحديد سبب الخلاف (وفائدة هذا الاختلاف في المولود يولد قبل الفجر من يوم العيد وبعد مغيب الشمس هل تجب عليه أم لا تجب )1083 وقوله في ميقات زمان الحج بعد أن أورد الاختلاف فيه (وفائدة الخلاف تأخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر )1084 .
وعموما نجد الحس التعليمي حاضرا بقوة، رغم أن صاحب الكتاب ذكر في مقدمته بأنه بصدد إثبات ما فيه لنفسه، فإنه يورد ألفاظ التعلم والتعليم بشكل صريح . يقول :( فإذا أريد أن يكون القول في هذه (مسائل الصلاة ) صناعيا وجاريا على نظام ، فيجب أن يقال أولا فيما تشترك فيه هذه كلها . ثم يقال فيما يخص واحدة واحدة منها . أو يقال في واحدة واحدة منها . وهو الأسهل .(1/249)
وإن كان هذا النوع من التعليم يعرض منه تكرار ما ، وهو الذي سلكه الفقهاء ونحن نتبعهم في ذلك . فنجعل هذه الجملة منقسمة إلى ستة أبواب ..)1085 وكذلك قوله في كتاب الفرائض ( والتعليم في هذا يمكن على وجوه كثيرة قد سلك أكثرها أهل الفرائض . والسبيل الحاصرة في ذلك بأن يذكر حكم جنس جنس من أجناس الباقية من الوارثين )1086، وبعد بسطه للمسائل المشهورة التي وقع الخلاف فيها والمسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها بين أن تعلمها ومعرفتها يجري مجرى الأصول في النوازل والمسكون عنه ( ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة من النوازل ..)1087 سواء على مذهب من المذاهب وإن لم ينقل عن صاحب المذهب في ذلك قول أ و بحسب الحق الذي يؤديه إليه اجتهاده.…
خامسا-أسلوب ابن رشد في بداية المجتهد:
في أثناء تناولنا لمختلف المطالب المكونة لمبحث"منهج ابن رشد في البداية"،تعرضنا لكثير من الجوانب التي لها علاقة بالأسلوب، سواء تعلق الأمر: بحرص ابن رشد على الموضوعية، وعدم إطلاق الأحكام،وطريقته في الترجيح والانتقاد، وسيادة الروح العلمية النقدية، والطابع المنطقي لتسلسل الأفكار، وأسلوبه التعليمي الذي يعتمد:التدرج،والانتقال من الإجمال إلى التفصيل، ومن السهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المركب، ويعتمد أحيانا الشرح والتفسير.
أما ألفاظه فدقيقة واضحة تناسب المجال الفقهي وإن كانت أحيانا تعلوها مسحة أدبية رفيعة، وتراكيبه رصينة متأنية تجيء مع الألفاظ على قدر المعاني،ولا يشعر القارىء بأي تكلف بل يجد أسلوبا مرنا سهلا محكما خاليا من التعقيد، فصاحب "البداية" يتجنب الإطالة المملة،والاختصار المخل بالمعنى، وإذا أسهب أحيانا لانت ألفاظه وتراكيبه وتبقى شخصيته قوية وبارزة تصاحبك طول الكتاب لا يغمرها تعدد الأقوال وكثرة الآراء.(1/250)
يتأدب مع الأئمة وعامة الفقهاء فلا تجد في الكتاب سبا ولا شتما ولا حدة أو توتر مزاج، يتحاشى التهجم على مخالفيه، ولا يغرق في الحجاج والمخاصمة ،بل لا تشعر أبدا بأن له خصما بعينه،يبالغ في التواضع ويحتاط في العبارة ويكثر من قوله "أحسب"1088"فيما علمت"1089 "فيما أذكر"1090، " فيما أظن "1091وقال مرة"أنا الشاك في الكسر"1092 تأكيدا منه على الصدق والأمانة،وعندما لا يكون متأكدا من أمر يشعر القارىء بذلك مثل قوله:(فلعله إنما أوجب )1093 ومرة يشعرك وكأنه يملي من حفظه مثل قوله: (والحجة للقول الأول ما في كتاب البخاري أظنه في بعض رواياته، قال النبي صلى الله عليه وسلم:( وكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم فإنه لا ينادي حتى يطلع الفجر)1094وقوله : (وفروع هذا الباب كثيرة لكن الذي حضر منها الآن في الذكر هو ما ذكرناه )1095.
وإذا أحس بأن مقصده لم يتضح بما فيه الكفاية ، زاد في التفصيل والبيان مثل قوله:( والسبب في اختلافهم تشبيه الزكاة بالديون ،أعني أن يتعلق الحق فيها بالذمة لا بعين المال )1096.وقوله : ( وينبغي أن تعلم أن السنة والرغيبة هي عندهم من باب الندب وإنما تختلفان عندهم بالأقل والأكثر:أعني في تأكيد الأمر بها،وذلك راجع إلى قرائن أحوال تلك العبادة)1097 .
ويقوم بعملية التشبيه مثل تشبيه صناعة الفقه بصناعة الطب حيث تتكون الملكة من كثرة الممارسة، يقول: (ووجه عمل الفاضل العالم في ذلك أن ينظر إلى شواهد الحال، فإن دلت الدلا ئل على أنه قصد بالنكاح خيرا لم يمنع النكاح ،وإن دلت على أنه قصد الإضرار بورثته منع من ذلك كما في أشياء كثيرة من الصنائع يعرض فيها للصناع الشيء وضده مما اكتسبوا من قوة مهنتهم إذ لا يمكن أن يحد في ذلك مؤقت صناعي ،وهذا كثيرا ما يعرض في صناعة الطب وغيرها من الصنائع المختلفة)1098.(1/251)
ومرة أخرى ينتقل إلى تشبيه القدرة على الإجتهاد بامتلاك صناعة الخفاف عوض تكديسها في دكان والقيام على بيعها مثل حال كثير من متفقهة زمان ابن رشد الذين ( عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا يقدر على عملها وهو بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه،فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة وهو الذي يصنع للقدم خف يوافقه)1099.
ويهتم بشرح بعض المصطلحات مثل لفظ: الجمهور، كما سبق ذكره، وقوله في (ثبت)أو(ثابت):( ومتى قلت:ثابت ـ للحديث ـ فإنما أعني به ما أخرجه البخاري أو مسلم،أو ما اجتمعا عليه)1100وقوله في مصطلح: مدلس (زعم محمد بن حزم أن أبا الزبير مدلس عند المحدثين ،والمدلس عندهم من ليس يجري العنعنة من قوله مجرى المسند لتسامحه في ذلك)1101
وقوله في البراءة الأصلية: (وأعني بالبراءة الأصلية عدم الحكم)1102 ، وقوله في (اشتمال الصماء ):( وهو أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء)1103 وقوله في معنى"عبادة محضة": (أعني غير معقولة المعنى)1104.(1/252)
ويستعير تعابير ذات منحى فلسفي1105 وتحيل على مرجعية كلامية وتخبر عن شخصية متبحرة في علوم شتى، تشرب عدة مفاهيم، وأحسن توظيفها بحسب ما يقتضيه المقام ،فنجد عبارات مثل: (النظر الصناعي الفقهي)1106 وهذه العبارة بهذه الصيغة لم أجد من استعملها غيره في المجال الفقهي والأصولي لا قبله ولا بعده1107.وكذا عبارة (الكلام الفقهي)1108 وهذه أيضا لم أجد أحدا قبله استخدمها بهذه الصيغة في المجال الفقهي والأصولي،ووجدت قريبا منها بعده عند جمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد الحنفي الزيلعي (ت 762ه) في كتابه:(تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق)1109 ،وكذا عبارة: (المجتهد النظار) 1110 والتي لم أجدها بدورها بهذا التركيب بين المجتهد والنظار إلا عند ابن رشد ،وقد استخدمها من بعده كاتب مقدمة "فتاوى الإمام السبكي"1111وهو يترجم له حيث وصفه "بالمجتهد النظار".أما كلمة "النظار" لوحدها فموجودة في كتب الفقه والأصول وقد أكثر منها الإمام الجويني في كتابه "البرهان". و(القانون)1112 و (الدستور)1113و (وأريد أن يكون القول في هذه صناعيا وجاريا على نظام)1114و (الذوق العقلي)1115 والتي لم أجد من استخدم هذه العبارة في الفقه والأصول غيره.و (المتأخرون من أهل النظر)1116 و (النظر المصلحي)1117 وهو تركيب لم أجد من استعمله غيره.
وكما سبقت الإشارة في مبحث إثبات نسبة الكتاب إليه،فإن أسلوبه في التعبير يتشابه بين "البداية" ومؤلفاته الأخرى. فنجد في كتاب تلخيص الجدل (...وإن كان في ذلك مخالفة لتعليم أرسطو في ترتيبه فإن هذا يشبه أن يكون أكثر صناعيا وأعون على الحفظ والتحصيل)1118 ويستخدم في مؤلفاته كلمة (النكت1119) التي كثيرا ما يرددها في "البداية" يقول في كتابه "تلخيص المزاج":( أحد ما حملنا على تلخيص كتبه-يقصد أرسطو-هو إيضاح ما فيها من هذه النكت..)1120(1/253)
وكذا عبارة (وإن أنسأ الله في العمر..) الموجودة في البداية عندما وعد بتاليف في الفروع الفقهية على مذهب مالك،نجد ما يشبهها في التعبير في كتابه "شرح السماء والعالم"،حيث يقول:(ولعلنا إن أنسأ الله في الأجل أن نبين هذا المعنى عند شرحنا كلام أرسطو..)1121
وبخصوص كلمة (الدستور) و(القانون) يقول في كتاب الكليات (فإن كتابنا هذا إنما قصدنا فيه أن نجعله كالدستور والقانون لمن أحب أن يستوفي أجزاء الصناعة على هذا التقسيم والترتيب،وبالجملة فنسبته إلى هذه الصناعة يشبه أن تكون نسبة أسطقسات1122 الصناعة الى الصناعة فكما أن الزواقين إنما يرسمون الصورة التي يقصدون تصويرها ثم يملؤون تلك الرسوم بالأصباغ والألوان حتى تحصل تلك الصورة على الكمال الأخير.كذلك حالنا نحن في هذا الكتاب )1123.
ويجتهد ابن رشد أيضا في تجنب التكرار فيحيل القارىء على مواضع فصل فيها القول مثل قوله: (وإنما اختلفوا في وقت النية على ما تقدم، وأما الركن الثالث وهو الامساك عن المفطرات فهو بعينه الامساك الواجب في الصوم المفروض والاختلاف الذي هنالك لاحق ههنا)1124 أي في الصيام المندوب .
وأما عن المسحة الأدبية فمثل قوله : ( وأما حديث ابن عباس فهو لعمري ظاهر في الفرق بين الثيب والبكر،لأنه إذا كان كل واحد منهما يستأذن ويتولى العقد عليهما الولي فبماذا ليت شعري تكون الأيم أحق بنفسها من وليها؟)1125.
وما يمكن قوله هو أن ابن رشد لم يكن مبدعا فقط على مستوى الآراء والأفكار والمنهج وطريقة وضع كتابه،وإنما كان أيضا مبدعا في أسلوبه وطريقة تعبيره واختيار ألفاظه ومصطلحاته ونحت تراكيب جديدة في المجال الفقهي والأصولي،أو المجيء بها إليه من مجالات أخرى،فتنساب فيه من غير أن تبدو غريبة عن مجاله.
……
الباب الثاني
تربية ملكة الاجتهاد
عند ابن رشد
الفصل الأول
الاجتهاد ومجاله
المبحث الأول
حقيقة الاجتهاد وأنواعه
1-حقيقة الاجتهاد:
الاجتهاد في اللغة:(1/254)
أصل "الاجتهاد"في اللغة من مادة (ج ه د) ومنه الجهد بفتح الجيم وضمها: الطاقة ، والجهد بالفتح: المشقة، يقال جَهَدَ دابته و أجْهَدَهَا: إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، و جَهَدَ الرجل في كذا أي جدَّ فيه وبالغ ، وجاهَدَ في سبيل الله مُجَاهَدَةً و جِهَاداً والاجْتِهادُ و التَّجَاهُدُ: بذل الوسع و المَجْهودِ1126 والجِهاد: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أَو اللسان أَو ما أَطاق من شيء.1127
وجاء في لسان العرب: جَهَدَ يَجْهَدُ جَهْداً و اجْتَهَدَ، كلاهما: جدّ، وقال:الأَزهري: الجَهْد بلوغك غاية الأَمر الذي لا تأْلو على الجهد فيه؛ تقول: جَهَدْت جَهْدي و اجْتَهَدتُ رأْيي ونفسي حتى بلغت مَجهودي والجَهاد، بالفتح، الأَرض الصلبة، و أَجْهَدَتْ لك الأَرض: برزت. وفلان مُجهِد لك: محتاط. وقد أَجْهَد إِذا احتاط؛ ويقال: أَجْهَدَ لك الطريقُ و أَجهَدَ لك الحق أَي برز وظهر ووضح. و جَهَدَت اللبن فهو مجهود أَي أَخرجت زبده كله1128.
فالاجْتِهادُ:افْتِعَال من الجُهْد وهو: بَذْل الوسْع في طَلَب الأمر,1129 يقول ابن حزم:( وحقيقة معناها أنه استنفاد الجهد في طلب الشيء المرغوب إدراكه حيث يرجى وجوده فيه أو حيث يوقن بوجوده فيه هذا مالا خلاف بين أهل اللغة فيه)1130
فالأصول اللغوية لكلمة اجتهاد تحيل على معان عديدة، لبها: بذل الجهد والطاقة والوسع،والمبالغة في الجد لبلوغ غاية الأمر،وفيه معاني:البروز والظهور والوضوح والإخراج والاحتياط،وورد في الجهاد بفتح الجيم معنى الأرض الصلبة.وكأني بالمجتهد وعملية الاجتهاد برمتها، في حاجة على هذه المعاني جميعا:فالاجتهاد بحاجة إلى الدليل القوي حتى يستند إلى أرض صلبة، ولا بد فيه من الاحتياط من مجانبة الصواب قدر الإمكان.(1/255)
والمجتهد يستخرج الحكم من الدليل،ولا يعمل في سرية أو خفاء إنما أمره واضح وبارز وظاهر للعيان يعلم بقوله العلماء بل وأحيانا عموم الناس ،وهو في كل هذا بحاجة لبذل الوسع والطاقة والجهد حتى يفوز بالأجرين.ولأمر ما اجتمع الاجتهاد والجهاد في أصول مشتركة، غير أن الأول أظهر في الفكر والثاني أظهر في العمل.وهما سبيلان للفوز والنجاح.
الإجتهاد في الاصطلاح:
وأما من جهة الاصطلاح فلم يرد في "البداية" تعريف مباشر للاجتهاد لا في متن الكتاب ولا في مقدمته الأصولية التي وضعها قبل الشروع في كتب الفقه وأبوابه.وجاء في الجزء الرابع من كتابه في الأصول عن الاجتهاد بأنه:( بذل المجتهد وسعه في الطلب بالآلات التي تشترط فيه)1131فالاجتهاد عنده استنباط واستخراج للمفقود واتخاذ موقف إيجابي اتجاه ما يطرأ من مسائل جديدة،وليس ترديدا للموجود،وبه يستحق العالم لقب الفقيه. يقول ابن رشد في "البداية": (رأينا أن نذكر في هذا الكتاب (كتاب الصرف) سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد (...) وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه)1132 وهو أيضا: موازنة بين الظواهر، وتركيب وترجيح، ومقايسة، ومراعاة الأصول والمتغير من الأحكام، واعتماد الظن المعتبر في الشرع والراجح إذا تعذر القطع واليقين.
فهو يقول في مسألة الخلاف الواقع في وطء الحائض في طهرها وقبل الاغتسال:( وكذلك فرض المجتهد هاهنا إذا انتهى بنظره إلى مثل هذا الموضع أن يوازن بين الظاهرين فما ترجح عنده منهما على صاحبه عمل عليه)1133.(1/256)
وقوله في الخلاف الواقع في القليل من النبيذ الذي لا يسكر(فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا وهي مسألة مختلف فيها لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا فالواجب أن يغلب على القياس وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون)1134
وما ذكره أيضا في مسألة الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب وهل يجوز فيها التشميت ورد السلام؟ وبعد استعراض أدلة المختلفين،قال عن الأوامر إذا اختلفت:
( حدثت من ذلك تراكيب مختلفة ووجبت المقايسة أيضا بين قوة الألفاظ وقوة الأوامر)1135
وفي موضع آخر عند حديثه عن اختلاف الفقهاء في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر،بين حقيقة الاجتهاد عند سكوت الشرع واضطراب النقل،بمراعاة الأصل والمتغير في الأحكام،وكذا وجوب التمسك بالأصل عند حدوث الاحتمال ،مثل اعتبار الأصل في الصلاة الإتمام وعدم مغادرة هذا الأصل إلا بدليل،يقول:( والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا ويجعل ذلك حدا من جهة أن الأصل هو الإتمام فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل أو يقول إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع)1136(1/257)
وأما عن الظن الذي يتحدث عنه في الاجتهاد،فكونه حدد الطلب من المجتهد وبالآلات التي تشترط فيه،دل ذلك على نوع الظن الحاصل،وبأنه ليس أي ظن. يقول في "البداية" في مسألة استقبال القبلة بالغائط والبول واستدبارها:( فإن الظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع أعني التي توجب رفعها أو إيجابها وليست هي أي ظن اتفق)1137
وقد استعمل ابن رشد كلمة الاجتهاد في معان أخرى غير ما سلف،فقصد به مرة :المعنى الذي يبنى عليه الحكم مثل قوله عند مسألة هل يزوج الولي غير الأب الصغير:( فمن رأى أن الاجتهاد الموجود فيه الذي جاز للأب به أن يزوج الصغير من ولده لا يوجد في غير الأب لم يجز ذلك ومن رأى أنه يوجد فيه أجاز ذلك)1138
وجاء في مواضع عديدة بمعنى اجتهاد التنزيل والتطبيق أي تحقيق المناط مثل حديثه عن: الاجتهاد في القبلة1139،وفي مقدار ما يعطى للمسكين1140،وحد الغنى1141، واجتهاد الإمام في إعطاء سلب المقتول للقاتل1142،واجتهاده في التخير بين العقوبات المقررة في حق المحاربين1143.
والاجتهاد عنده أعم من القياس،يقول في الجراحات :( فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة إلى تجويف عضو من الأعضاء أي عضو كان ثلث دية ذلك العضو وحكى ابن شهاب أنه كان لا يرى ذلك وهو الذي اختاره مالك لأن القياس عنده في هذا لا يسوغ وإنما سنده في ذلك الاجتهاد من غير توقيف)1144 فذكره القياس بجانب الاجتهاد يفيد أن الأخير أعم .
فالاجتهاد عند ابن رشد كما عند العلماء ليس مجرد رأي في الدين وإنما له ضوابطه وقواعده.
-جاء في "المدونة":(قلنا لمالك أيحكم بالنظير في الجزاء من النعم بما قد مضى وجاءت به الآثار , أم يستأنف الحكم فيه ؟ قال : بل يستأنف الحكم فيه , قلت لابن القاسم : فإنما فيه الاجتهاد عند مالك إذا حكم عليه في الجزاء , قال : نعم , قال مالك : ولا أرى أن يخرج مما جاء فيه الاجتهاد عن آثار من مضى)1145(1/258)
فالاجتهاد في هذه المسألة حسب الإمام مالك -وإن كان يقصد به هنا اجتهاد التنزيل لا اجتهاد النظر والاستنباط- ينبغي أن يكون وفيا لآثار من سلف من الصحابة والتابعين،وفي موضع آخر يستفاد ضابط من ضوابط الاجتهاد بحيث يكون بعيدا عن الهوى والأغراض،جاء في المدونة:(فإن كان الورثة كلهم صغارا ؟ قال : فالوصي ولي النظر لهم على الاجتهاد بلا محاباة في الرد والإجازة)1146 ويطلب فيه أيضا الحرص على العدل:( قلت : أرأيت إن كان رجل من أهل الذمة أسلم , أو رجل لا تعرف عصبته قتل عمدا , فمات مكانه وترك بنات فأردن أن يقتلن ؟ قال : ذلك لهن عند مالك . قلت : فإن قال بعض البنات : نحن نقتل . وقال بعضهم : نحن نعفو ؟ قال : فأرى للسلطان أن ينظر في ذلك , يرى في ذلك رأيه . إن رأى أن يقتل قتل إذا كان عدلا ; لأن السلطان هو الناظر للمسلمين وهذا ولاته المسلمون . فإنه كان الوالي عدلا , كان نظره مع أي الفريقين كان إذا كان ذلك على وجه الاجتهاد .)1147
-ويقول الإمام الشافعي في الرسالة:( كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه- إذا كان فيه بعينه حكم-: اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهاد: القياس)1148فالاجتهاد عنده:طلب حكم النازلة مما فيه دلالة على ذلك.فإذا عدم النص والحكم المباشر،ما على المجتهد إلا أن يبذل وسعه في استخراج ما يدل على الحكم مما هو موجود في الشرع.يقول في الأم:( ومعنى الاجتهاد من الحاكم إنما يكون بعد أن لا يكون فيما يريد القضاء فيه كتاب ولا سنة ولا أمر مجتمع عليه فأما وشيء من ذلك موجود فلا)1149(1/259)
ويقول في جماع العلم:( فإذا اجتهد من له أن يجتهد وسعه أن يقول بما وجد الدلالة عليه بأن يكون في معنى كتاب أو سنة أو إجماع)1150 فالأصول من الكتاب والسنة هي العين التي ينبغي للمجتهد إصابتها أو يسدد ويقارب جهتها، ويعجب الشافعي كثيرا مثال القبلة الذي كرره كثيرا في كتبه لتوضيح حقيقة الاجتهاد،يقول في "الرسالة":( والخبر من الكتاب والسنة عين يتأخى معناها المجتهد ليصيبه كما البيت يتأخاه من غاب عنه ليصيبه أو قصده بالقياس وأن ليس لأحد أن يقول إلا من جهة الاجتهاد )1151
وهو المعنى الذي يكرره في "الأم" أيضا حيث شبه الاجتهاد ب:(القبلة التي من شهد مكة في موضع يمكنه رؤية البيت بالمعاينة لم يجز إلا معاينتها ومن غاب عنها توجه إليها باجتهاده) وفي نفس الصفحة:(مثل الكعبة من رآها صلى إليها ومن غاب عنها توجه إليها بالدلائل عليها)1152 ومثله أيضا بالنعم التي يقاس عليها الصيد المقتول من طرف المحرم ،يقول:( ومثل قول الله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم والمثل للمقتول وقد يكون غائبا فإنما يجتهد على أصل الصيد المقتول فينظر إلى أقرب الأشياء به شبها فيهديه وفي هذا دليل على أن الله عز وجل لم يبح الاجتهاد إلا على الأصول )1153.
ولعظم شأن القياس في الاجتهاد عرفه به،وقد جاء في نفس الصفحة من "الرسالة"موضع تعريف الاجتهاد عند الشافعي الذي بدأنا به:( قال:فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما متفرقان؟ قلت: هما اسمان لمعنى واحد) والذي يظهر أن هذا عنده:من باب إطلاق الجزء المهم في الشيء على ذلك الشيء كقول النبي صلى الله عليه وسلم :(الحج: عرفة).وإلا فالمتتبع لاجتهادات الشافعي يجد فيها أصولا غير القياس.(1/260)
-وقال ابن حزم في الاجتهاد:(والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله عز وجل الذي أوجبه على عباده)1154 ويفهم منه طلب إصابة عين الحكم لا مجرد الظن.وقال في "الإحكام":( فالاجتهاد في الشريعة هو استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم ما لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالديانة فيه)1155،وكأنه رجع إلى ضبط تعريفه بما يناسب قول الجمهور.
-وقال الغزالي بأن لفظ الاجتهاد صار:( في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة . والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب)1156
-وأما ابن العربي فذكر حقيقة الاجتهاد في المحصول بقوله:(بذل الجهد للوصول إلى ظن بحكم شرعي)
فمن خلال الضوابط التي وضعها الأصوليون للاجتهاد يمكن استبعاد ما يحصل من الاجتهادات مع التقصير، وما يبذل من الوسع في تحصيل أحكام لغوية أو عقلية أو حسية أو اعتقادية أو ما ينال من النصوص ظاهرا.أو حفظ المسائل أو أخذها من المفتين أو الكشف عنها في كتب العلم .
وأما القائم به فلا بد أن يكون متهيئا للفقه ممارسا له متقنا لمبادئه قادرا على استخراج الأحكام لا مجرد حفظ الفروع.فليس كل مشتغل بالدراسات الإسلامية في علم الكلام أو التصوف أو السيرة أو التاريخ ...أو يمارس الوعظ و الخطابة يستطيع أن يقحم نفسه في ميدان الاجتهاد والإفتاء ( كما أن مجرد حفظ فروع الفقه ومسائله في مذهب أو أكثر لا يجعل من صاحبه فقيها قادرا على الاجتهاد والاستنباط)1157.(1/261)
إذ لا بد للاجتهاد من أصول،حتى لا ينقلب التجديد إلى تبديد ،والاجتهاد بالمقياس الصحيح، قادر على مسايرة التطور ولكن بمرونة غير سيالة بل إنها (سماحة ومرونة مقيدة بالجريان على أصول الشريعة منضبطة بمقاصدها التي تتجه جملة بتكاليف الشريعة إلى تحقيقها)1158 فهو اجتهاد يتأتى به القدرة على الاستجابة، للتحديات التي يفرضها الواقع والتاريخ في زمان ومكان معينين، في المجتمع الإسلامي. استجابة تحفظ مصالح الإسلام والمسلمين في إطار من الشرع ..وليس كما يحلو للبعض أن يتصور الاجتهاد على أنه إسباغ بردة الدين على أنماط السلوكيات الغربية المستوردة، أو وسيلة للتحلل من الالتزامات الشرعية. أو يقصد به مجرد التخفيف من الأحكام الشرعية فسحا لدائرة الرخص وتضييعا لدائرة العزائم1159 .
خاصة وأن هناك دعاوى في الساحة تدعو إلى تمييع حقيقة الاجتهاد عندما تصر على تجاوز الأصول. إذ لا ترى للاجتهاد معنى كبيرا إذا ظل منضبطا بالكتاب والسنة1160،وهي نغمة يروج لها أصحاب :"مجلة الاجتهاد " فقد جاء فيها تعليق على الالتزام بالكتاب والسنة : (لقد انتهى العقل الكلامي الأشعري إلى الحكم على نفسه بوجوب الانعزال،متى دل عل صدق النبي ،فهو يأخذ كل ما يأتي به سمعا وموافقة ) وبعد رحلته مع الطرق العقلية يرجع (إلى النقل مصدرا والسمع طريقا)ويصفه بأنه "مغناطيس" .
واستغرب كيف أقفل كتاب "المستصفى" بباب (القول فيما ترجح به الأخبار)1161 ويصف أحدهم منهج القدماء في الاجتهاد بأنه عقيم يفرغ "الاجتهاد"من مغزاه العميق،وأن الالتزام بالقواعد الأصولية،والعمل بها يقود إلى إنتاج نفس تلك الشروط .ويصف المنظومة الفكرية الأصولية بأن مصطلحاتها تقادمت ولم تعد قادرة على استيعاب مستجدات العصور اللاحقة .ويطرح التساؤل في الأخير:هل المطلوب هو التجديد بمقتضى شروط الاجتهاد .أم المطلوب تجديد شروط الاجتهاد نفسه؟1162(1/262)
وهي نفس الخلاصة التي يؤكدها مسؤول في المجلة، ولأهميتها عندهم تم وضعها على غلافها حيث جاء فيها :( هناك نوعان من الاستسلام ،أولهما الاستسلام تجاه الآخر القابع في الخارج ،وثانيهما الاستسلام أمام المعطى التاريخي الساكن فينا ،والثاني أدهى من الأول.بل يقود إلى الأول ويسببه. ومن أهم أشكال الاستسلام للمعطى التاريخي هو التقيد بأصول الفكر والاجتهاد المتبعة خلال حقبات الماضي، لأننا إذا تمسكنا بأصول وبقواعد الفكر المتبعة في الموروث من الكتب فإننا سوف نصل إلى نفس الاستنتاجات والأحكام )1163 هكذا بإطلاق بغير تمييز بين الأصول المجمع عليها والمختلف فيها . ولا أدري أي تجديد يكون،بغير التزام أصول ضابطة، وحد أدنى يجمع المجتهدين حتى يوحد موضوعهم الذي هو الاجتهاد الإسلامي ،و إلا فهو اجتهاد في غير رحاب الإسلام ،لا بد من محور جاذبية النصوص حتى لا يقع الانفلات بعيدا في فضاء الأهواء والظنون.وليس في العودة أبدا إلى الأصول المقررة المعتبرة،نكوصا أو تحجيرا وإنما (العودة إلى الأصول تعني في الواقع إعادة الحياة إلى القيم والمعاني السليمة، أو الأولى التي تعيد الإسلام إلى ما كان عليه وقت نزوله ،أي إلى حقيقته)1164 .
والاجتهاد خارج الأصول وبدونها،اجتهاد مردود وغير معتبر لا يقيم له عموم المسلمين وزنا -متى علموا بذلك-فضلا عن علمائهم. يقول الإمام الشاطبي:( الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان:أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعا وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد (...)والثاني:غير معتبر وهو الصادر عمن ليس بعارف ،بما يفتقر الاجتهاد إليه ،لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض)1165 ولكل هذه الاعتبارات استخلص العلماء ضوابط للاجتهاد، وشروطا لازمة في حق من يتصدى له، وحددوا مجالات الاجتهاد المقبول، ومراتبه وأنواعه وحكم الشرع فيه.
2- أنواع الاجتهاد وحكمه:
2_1_أنواعه:(1/263)
يمكن تقسيم الاجتهاد إلى أنواع كثيرة انطلاقا من اعتبارات مختلفة:
2_1_1_ إذا استحضرنا ما ذكره الشاطبي في النص السابق يمكن تقسيمه إلى:اجتهاد مقبول وآخر مردود ،فالمقبول ما كان منضبطا بضوابط الاجتهاد وشروطه وما كان تاما يحس معه الفقيه بالعجز عن المزيد،والمردود ما كان اجتهادا ناقصا معه تقصير في البحث والتحري أو من قبيل الرأي المذموم1166 مثل تعمد مخالفة النصوص والكلام في الدين بالخرص والظن أو عموما( الغير المستند إلى شيء من الحجج الشرعية )1167.
والذي تحركه الأغراض والأهواء ( روي عن إسماعيل القاضي قال:دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم،فقلت مصنف هذا: زنديق فقال:لم تصح هذه الأحاديث؟قلت: الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة .ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة.ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه.فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب)1168.
2_1_2_ تقسيم الاجتهاد باعتبار محله إلى:
_ اجتهاد عام :وهو ما يتناول جميع الأدلة في كل أبواب الفقه.
_ اجتهاد خاص: وهو ما كان خاصا بباب معين مثل الميراث أو دليل معين مثل القياس .
2_1_3_ تقسيم الاجتهاد باعتبار القائم به إلى :
_ اجتهاد مطلق:وهو ما كان فيه المجتهد غير ملتزم بأصول إمام أو فروعه.
_ اجتهاد مقيد:وهو ما كان فيه المجتهد ملتزما بإمام معين أو بفروعه.
_ اجتهاد فردي:ما انفرد به المجتهد كما هو الحال الغالب خصوصا بعد عصر الصحابة.
_ اجتهاد جماعي :هو الذي يتولاه أولو العلم والرأي والاستنباط كما كان يقع زمن الصحابة رضوان الله عليهم.وكما هو ممكن في زماننا إذا تم تنظيمه وتوفير شروطه مثل:
- اختيار مجتهدين من أهل الذكر والعلم والصلاح.
- أن يكون بجانبهم مستشارون وخبراء في كل علوم الحياة وفنونها للرجوع إليهم في اختصاصاتهم.(1/264)
- يؤخذ عند اختلاف آراء المجتهدين برأي الأكثرية فإنه أقرب إلى الصواب.
- أن يأمر أولياء الأمور بتنفيذ هذا الرأي، في المسائل الاجتماعية العامة باعتبار: حكم الحاكم يرفع الخلاف.1169
2_1_4_ يمكن تقسيم الاجتهاد أيضا إلى:
_ اجتهاد استنباط واجتهاد تطبيق ويستخلص ذلك من قول الإمام الشاطبي : (الاجتهاد على ضربين أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة،والثاني:يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا .فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط (...) وأما الضرب الثاني:وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع ،فثلاثة أنواع :أحدها المسمى بتنقيح المناط (...) والثاني المسمى بتخريج المناط ...والثالث هو نوع من تحقيق المناط )1170.
ثم فصل القول فيه مبينا أن النوع الأول يقصد به تحقيق الجزئيات بالمعنى العام، الذي يستوي فيها المكلفون،وينظر إليهم بنظر واحد وهذا لا يجوز انقطاعه وهو مجرد تطبيق الكلي على جزئياته.حيث يكون الحكم الشرعي ثابتا ويبقى النظر في تعيين محله مثل: ثبوت معنى العدالة الشرعية في عملية الإشهاد حيث لا يبقى على الحاكم إلا الاجتهاد في تعيين من حصلت فيه هذه الصفة.
ويبين الشاطبي أن هذا النوع من الاجتهاد الذي هو تحقيق المناط، واجب كل ناظر وحاكم ومفت بل واجب كل مكلف في نفسه فالعامي مثلا:( إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها ،إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا.فوقعت له في صلاته زيادة ،فلا بد من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر فإذا تعين له قسمها، تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه وكذلك سائر تكليفاته...)1171.(1/265)
وفي"بداية"ابن رشد وغيرها من كتب الفقه،الكثير من هذا النوع،حيث ترد كلمة الاجتهاد بهذا المعنى: من ذلك قول ابن رشد في الخلاف الواقع في التوجه نحو القبلة أنه على ضربين:( أحدهما هل الفرض هو العين أو الجهة؟ والثاني هل فرضه الإصابة أو الاجتهاد أعني إصابة الجهة أو العين عند من أوجب العين)1172 وفي حد الغنى الذي يمنع من الصدقة قوله:(وقال مالك ليس في ذلك حد إنما هو راجع إلى الاجتهاد)1173 .
وفي مقدار ما يعطى المسكين الواحد من الصدقة قال:( فلم يحد مالك في ذلك حدا وصرفه إلى الاجتهاد)1174 وفي الجهاد هل يستحق القاتل سلب المقتول؟ ذكر قول مالك أيضا بأنه:( لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أن ينفله له الإمام على جهة الاجتهاد)1175 ومما يدخل أيضا في اجتهاد الحكام والقضاة طبيعة الحكم على البغاة المحاربين يقول ابن رشد:( وأما إذا أخاف السبيل فقط فالإمام عنده مخير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه ومعنى التخيير عنده أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام )1176
ورغم أن هذا النوع من الاجتهاد لا يرقى إلى المعنى الاصطلاحي ،إلا أنه لا يقل عنه أهمية إذ يعتبره البعض قسيم اجتهاد الاستنباط.يقول فتحي الدريني:( فقسيم الاجتهاد بالرأي في الاستنباط والتأصيل والتفريع هو الاجتهاد بالرأي في التطبيق ،وذلك لتعلق اجتناء ثمرات التشريع واقعا وعملا به.إذ ما جدوى التكلم بحق لا نفاذ له )1177 ويؤكد ضرورة اقتران هذا الاجتهاد-وخصوصا على المستوى الاجتماعي-بالتبصر الواعي بمآلات التطبيق،ونتائجه المتوقعة وتقديم تلك النتائج بميزان المصالح المعتبرة شرعا .(1/266)
وأما النوع الثاني فيدخل في دائرة الاستنباط الذي يقصد به إخراج الحكم من دليل شرعي على وجه يكون فيه دقة وخفاء ،وهو قد يكون بطريق القياس وقد يكون بغيره1178 . وهو ما سماه بتخريج المناط، أو يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورا مع غيره في النص، فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغي1179وذكر مع هذا القسم نوعا من الاجتهاد التطبيقي الذي يمكن أن يرفع في أسوء الأزمان مثل :ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص:كتعيين نوع المثل في جزاء الصيد،وما يرجع أيضا إلى الحكمة في تنزيل الأحكام وهي:النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه،بحسب وقت دون وقت ،وحال دون حال ،وشخص دون شخص1180وهو اجتهاد يدخل في تربية الناس وحسن سياستهم.
2_ 2_ حكم الاجتهاد ومشروعيته:
قال الإمام الشافعي :( فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه ما تعبدهم به ،لما مضى من حكمه جل ثناؤه من وجوه:فمنها ما أبانه لخلقه نصا: مثل مجمل فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وحجا وصوما.وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن(...) ومن:ما سن رسول الله عليه الصلاة والسلام مما ليس لله فيه نص حكم(...) ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد .كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم)1181 .
نفهم من ذلك فرضية الاجتهاد في الإسلام، وابتلاء الله تعالى عباده به، كل بحسب وسعه كما ابتلاهم بسائر فرائضه، وأن تكليف العقل بالفكر والاجتهاد للقادر عليه والمؤهل له يساوي تكليف الجسم بالعبادة.
وإذا كان الإمام الشافعي يتحدث عن وجوب الاجتهاد،فإن كثيرا من العلماء بعده كان همهم تأكيد جوازه ومشروعيته ودفع شبه المقلدة.وقد اغتنم مفسرو آيات الأحكام مناسبة كل إشارة في القرآن الكريم لتأكيد هذا المعنى حتى اجتمع من ذلك ما يشبه التواتر المعنوي -حسب اصطلاح الشاطبي - على جواز الاجتهاد.(1/267)
ومما قاله الجصاص في أحكامه عند آية القبلة:( وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد في أحكام الحوادث , وأن كل واحد من المجتهدين فإنما كلف ما يؤديه إليه اجتهاده ويستولي على ظنه . ويدل أيضا على أن للمشتبه من الحوادث حقيقة مطلوبة كما أن القبلة حقيقة مطلوبة بالاجتهاد والتحري , ولذلك صح تكليف الاجتهاد في طلبها كما صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد ; لأن لها حقيقة , ولو لم يكن هناك قبلة رأسا لما صح تكليفنا طلبها.)1182
وكذا دلالة قوله : { لا فارض ولا بكرعوان بين ذلك } على جوازالاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام ; إذ لا يعلم أنها بين البكر والفارض إلا من طريق الاجتهاد.)1183 وفي قوله تعالى:( { قل إصلاح لهم خير } وفيه الدلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث ; لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من طريق الاجتهاد وغالب الظن )1184و في قوله تعالى :( { إن ظنا أن يقيما حدود الله } يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث ; لأنه علق الإباحة بالظن)1185 وقوله تعالى : { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور } يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح أمر الصغير , وذلك موقوف على غالب ظنهما لا من جهة اليقين والحقيقة .)1186
وفي قوله تعالى : { ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف } قال:(وإثبات المقدار على اعتبار حاله في الإعسار واليسار طريقه الاجتهاد وغالب الظن (...) فإذا كان كذلك وكان المعروف منهما موقوفا على عادات الناس فيها والعادات قد تختلف وتتغير , وجب بذلك مراعاة العادات في الأزمان وذلك أصل في جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث ; إذ كان ذلك حكما مؤديا إلى اجتهاد رأينا .)1187(1/268)
وفي آية الإشهاد:( وقد أمرالله فيها بقبول شهادة الشهود الذين لا نعلم مغيب أمورهم وإنما نحكم بشهاداتهم بغالب الظن وظاهر أحوالهم مع تجويز الكذب والخطإ والزلل والسهو عليهم ; فثبت بذلك تجويز الاجتهاد واستعمال غلبة الرأي فيما لا نص فيه من أحكام الحوادث ولا اتفاق)1188 وقوله في قوله تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم }: فإن الاستنباط هو الاستخراج , ومنه استنباط المياه والعيون ; فهو اسم لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب ; والاستنباط في الشرع نظير الاستدلال والاستعلام .
وفي هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث(...) وألزمهم رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ليستنبطوا حكمه بالاستدلال عليه بنظائره من المنصوص)1189 وقوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } (فيه أمر بالاعتبار والقياس في أحكام الحوادث ضرب من الاعتبار , فوجب استعماله بظاهر الآية .)1190
ويسير ابن العربي في أحكام القرآن على نفس منوال الجصاص -وإن بشكل أقل- كلما وجد تلميحا أو إشارة فهو يقول في:( قوله تعالى : { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما }: هذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الشريعة ; لأن الله تعالى جعل للوالدين التشاور والتراضي في الفطام فيعملان على موجب اجتهادهما فيه , وتترتب الأحكام عليه)1191(1/269)
وفي قوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء }: ( قال علماؤنا : هذا دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات على ما خفي من المعاني والأحكام .)1192 وفي قوله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة..} قال:( وكان عمر يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم النص القاطع للعذر , وهو عليه السلام يحمله على البيان الواقع مع الإطلاق الذي وكل فيه إلى الاجتهاد بالأخذ من اللغة ومقاطع القول ومرابط البيان ومفاصله . وهذا نص في جواز الاجتهاد ونص في التكلم بالرأي المستفاد عند النظر الصائب)1193 وفي قوله تعالى: { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }:( قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا , ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه , وعذر داود باجتهاده .)1194
وفي قوله تعالى: { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا }: (استثنى من الليل كله " قليلا " وهذا استثناء على وجه كلامه فيه , وهو إحالة التكليف على مجهول يدرك علمه بالاجتهاد ; إذ لو قال : إلا ثلثه , أو ربعه , أو سدسه , لكان بيانا نصا , فلما قال : { إلا قليلا } وكان مجملا لا يدرك إلا بالاجتهاد دل ذلك على أن القياس أصل من أصول الشريعة , وركن من أركان أدلة التكليف)1195
وأرى من جهتي أن كل آية تأمر بالعلم والتعلم وترفع شأنه، وتأمر بالفكر والتفكر، والتدبر والتفقه ،وما في هذا المعنى يصلح كله في الاستدلال على مشروعية الاجتهاد وجوازه، بل وأحيانا على وجوبه إن لم يكن على الأعيان فهو على الكفاية ، يقول تعالى:?وَمَا كَانَ الْمُومِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ? (التوبة:122)(1/270)
قال الإمام النسفي في تفسيرها( فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى سائرهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذى هو الجهاد الأكبر إذ الجهاد بالحجاج أعظم أثرا من الجهاد بالنضال)1196ولا شك أن التفرغ لتحصيل ملكة الاجتهاد داخل في ذلك،إذ المجتهدون مرجع لا يستغني عنه المتفقهون.وليس أشرف في التعلم والتفكر والتدبر والتفقه من كتاب الله وسنة رسوله( والنظر في أحوال الناس حتى لا يند شيء عن حكم الشرع.
-وبخصوص الأحاديث التي يستشهد بها العلماء على مشروعية الاجتهاد ما رواه الإمام الشافعي قال:( أخبرنا عبد العزيز عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله يقول إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)1197 واستنتج الشافعي من منح الأجر للمخطئ1198 تكليف المجتهد بالاجتهاد وليس مجرد الإباحة والجواز، يقول:(وفي هذا دليل على ما قلنا أنه إنما كلف في الحكم الاجتهاد على الظاهر دون المغيب والله أعلم)1199 وقال النووي في هذا الحديث:( وهذا دليل على أنه وكل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء جعل لهم الأجر على الإجتهاد)1200
ويستشهد العلماء أيضا بما رواه الترمذي في سننه عن:( وكيع عن شعبة عن أبي عون الثقفي عن الحارث بن عمرو عن رجال من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال كيف تقضي فقال أقضي بما في كتاب الله قال فإن لم يكن في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أجتهد رأيي قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم )1201(1/271)
ويستدل بالحديث الوارد في صحيح البخاري:(عن بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا : لما رجع من الأحزاب لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم)1202 ففهم العلماء منه جواز ومشروعية الاجتهاد.
قال صاحب فتح الباري:( قال السهيلي وغيره في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه وفيه أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب)1203.وكأن فيهم رضي الله عنهم سلف لأهل الظاهر وسلف لأهل المعاني والمقاصد والقياس.
ومثله ما رواه أبو داود في سننه:( عن أبى سعيد الخدرى ، قال : خرج رجلان في سفر ، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء ، فتيمما صعيدا طيبا ، فصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ، ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال للذى لم يعد : " أصبت السنة وأجزأتك صلاتك " وقال للذى توضأ وأعاد : " لك الأجر مرتين ")1204 فتصويبهما من النبي ( دليل مشروعية الاجتهاد.
وقال ابن عبد البر في حديث "وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض":( وفيه جواز الاجتهاد للحاكم فيما لم يكن فيه نص)1205
وقال النووي في حديث جماعة أبي عبيدة ( الذين فتح الله عليهم بالعثور على حوت العنبر الميت فأكلوا منه حتى سمنوا وأكل منه رسول الله (:( وفيه جواز الاجتهاد فى الأحكام فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم كما يجوز بعده)1206(1/272)
وقال ابن حجر في حديث ذي اليدين المتعلق بسجدتي السهو في الصلاة:( وفيه العلم بالاستصحاب لأن ذا اليدين استصحب حكم الإتمام فسأل مع كون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع، والأصل عدم السهو والوقت قابل للنسخ، وبقية الصحابة ترددوا بين الاستصحاب وتجويز النسخ فسكتوا، والسرعان هم الذين بنوا على النسخ، فجزموا بأن الصلاة قصرت، فيؤخذ منه جواز الاجتهاد في الأحكام)1207
وما قلناه في الآيات الداعية إلى العلم والتفكر والتدبر والتفقه يصدق بخصوص الأحاديث النبوية في جواز ومشروعية ووجوب الاجتهاد،وهي بحمد الله كثيرة يصعب حصرها ويطول ذكرها.
-وقد فصل بعض العلماء حكم الاجتهاد التكليفي إلى:
_ وجوب عيني:وذلك عندما يسأل مجتهد لا يوجد غيره ،أو نزلت به نازلة لا يدري حكم الله فيها، ويكون هذا الوجوب على الفور، إذا خيف الفوات أو التراخي إذا كان غير ذلك.
_ وجوب كفائي :وذلك عند تعدد المجتهدين وليس هناك خوف على فوت الحادثة، فإذا أفتى واحد منهم، برئت ذمتهم و إلا أثموا جميعا.
_ الاجتهاد المندوب:ويكون في حوادث لم تحصل بعد أو أن احتمال وقوعها قريب.
_ الاجتهاد المكروه :وهو ما كان في المسائل الافتراضية التي لم تجر العادة بوقوعها وما كان من قبيل الألغاز والأحاجي.وقد سبق أن رأينا نفور ابن رشد من هذا النوع من الاجتهاد1208.
_ الاجتهاد المحرم :وهو ما كان في مقابلة الأدلة القطعية في الثبوت والدلالة .أو الخروج بحكم لا تحتمله هذه الأدلة أو مخالفة الإجماع .فلا اجتهاد مع نص قطعي الثبوت والدلالة، أو إجماع1209.
3_ الاجتهاد بين الاستمرارية والانقطاع:(1/273)
3_1_ لا دليل على سد باب الاجتهاد وليس في مقدور أحد أن يغلق بابا فتحه الله تعالى لعباده،ودعوى سده إنما هي (دعوى فارغة وحجة واهنة أوهن من بيت العنكبوت لأنها غير مستندة إلى دليل شرعي أو عقلي سوى التوارث)1210 وإذا حسن الظن بهذا الادعاء يمكن اعتباره نوعا من الاجتهاد، يعالج شأنا خاصا وظرفا مؤقتا،رأى فيه أصحابه غياب شروط الاجتهاد،وفساد الزمان، ودخول غير الأكفاء حلبة الميدان.وهو _ على كل حال _ عمل بالاستثناء لا يمكن أن يعود على أصل فتح باب الاجتهاد بالإلغاء .
أو يمكن أن نقول بأن (مسألة انقطاع الاجتهاد مبني على الاستقراء والتتبع،وليس بمسألة شرعية ثابتة من الكتاب والسنة لا نفيا ولا إثباتا)1211 أي أن أصحاب هذا الرأي يقررون واقعا توقف فيه الناس عن الإنتاج والإبداع بسبب الانحطاط العام وليسوا بصدد إصدار الحكم الشرعي في الاجتهاد.
3_2_ إغلاق باب الاجتهاد إعلان لوفاة العقل ومحاصرة لخلود الشريعة وامتدادها ،وخروج من الواقع وانسحاب من مشكلاته وغياب عن الحاضر والمستقبل، ،ومصيبة تجعل العلماء يسيرون خلف المجتمع،يدفنون موتاه بدل أن يسيروا أمامه ويقودوه إلى الخير ويقوموا سلوك أحيائه، إنه التحول من الدوران في فلك نصوص الوحي، إلى تقديس الأشخاص والتوقف عند اجتهاداتهم وآرائهم والدوران في فلكها شرحا واختصارا ،أو شرح الشرح واختصار الاختصار.
فتوقيف الاجتهاد باسم فساد العصر يؤدي إلى فساد كبير واتهام ضمني للشريعة، ومنزلها بالقصور وعدم تقدير الأمور،ويحول الأمة من التفكير والإبداع إلى التلقين والتقليد ويعود بها إلى أدنى وظائف العقل، إلى مراحل العقل الطفولي ،القادر على الحفظ وشحن الذاكرة منه على التفكير والتحليل والنظر والاجتهاد1212(1/274)
كما أن إغلاق باب الاجتهاد يؤدي بالناس إلى الشعور بتقادم معاني الشريعة وأفكارها وقيمها بالمقارنة مع قيم العصر، ويحسون بأنها لا تفيدهم كثيرا في فهم شؤون عصرهم وسبل السيطرة عليه، ولا في مساعدتهم على التماهي معه والاندماج فيه1213،gm HHألة أأللأااا مما يجعلهم مستعدين لقبول الوافد ومرحبين بالغزو الفكري والثقافي والحضاري بشكل عام.
3_3_ إذا كانت دعوى إغلاق الاجتهاد غير حقيقية ،ولا يستطيع أصحابها تحديد السلطة التي أغلقت الباب ولا الزمان ولا المكان اللذين تم فيهما ذلك،فمما لا شك فيه أن توقفه أو بالأحرى انحساره قد وقع في الأمة في العصور المتأخرة،وأن أصوات الاجتهاد بقيت محدودة في عددها وتأثيرها، غريبة في وسطها شاذة عن القاعدة العامة التي أصبح عليها الناس ،ولعله من المفيد الوقوف على بعض أسباب هذا الانحسار لتكون عونا لتلمس العلاج.
فالذي يبدو من خلال تتبع بعض الأسباب أن الأزمة أعمق من أن تكون مسألة باب الاجتهاد تغلقه أو تفتحه جهة ما .إنما وقع التراجع بسبب تراجع الحياة أيضا، إذ الاجتهاد يحيى بحياة المجتمع ويموت بموته ،فالفقه آل إلى الجمود بأثر انحطاط واقع الحياة .
فهي إذن أزمة حضارية شاملة، يصعب معها تحميل المسؤولية لأحد العوامل بعينها ذلك أن (الاجتهاد جهد معرفي يمارسه المجتمع بمقدار ما يكون قادرا على بذل الجهد في المجالات الأخرى من النشاط الإنساني من السياسة إلى الاقتصاد إلى الجهاد العسكري (...) وعندما يفقد المجتمع حيويته في هذه المجالات فإنه يكون من الطبيعي أن يفقد حيويته في المجال الفكري)1214
ولهذا ارتبط الاجتهاد في أغلب مراحله بمرحلة الاقتحام والإقدام حيث كان للأمة مشروع كوني، تريد تبليغه للعالمين. فتحركت الفتوحات العسكرية والعلمية ،وقوي العمل والإنتاج، في شتى نواحي الحياة.فالاجتهاد لا يعمل في فراغ إنما يستجيب لهموم ومشكلات وأوضاع.(1/275)
توقف الاجتهاد أو كاد لجنوح (الحياة الدينية عامة نحو الانحطاط وفتور الدوافع التي تولد الفقه والعمل في واقع المسلمين )1215 وشيوع جوانب نفسية واجتماعية وسياسية وثقافية علمية..غير مشجعة، إذ سادت حالة نفسية في المجتمع يغلب عليها الخوف ،الخوف من الأخطار الخارجية والخوف من الفتنة والخوف من بأس السلطان والخوف من الحرية والرأي.
وصار الهم هو الحفاظ على النفس والحفاظ على ما هو قائم .وتمكن الحذر من اغتيال حرية الاجتهاد ،وأصبح الناس وكأن في آذانهم هاتف يقول:( احفظوا ما بقي من دينكم وتورعوا من الشرور المخوفة ،حاذروا من كل جديد فإنه لن يأتي إلا ببدعة، فالسلامة وراءكم والخطر أمامكم )1216 وعليكم بالأسلم والأحوط . وصعب التجديد والإقدام والاقتحام حتى من القادرين عليه، لأن (من حاول تجاوز الحوض المعرفي حرم من دفء المجموع ورمي بالابتداع فيحس بالاغتراب لكونه جسما غريبا في هذا النسيج العام )1217.
وساهم الجانب السياسي إلى جانب خفوت الزخم الحضاري الحي، في تكريس ضعف الاجتهاد ،وخصوصا في القضايا العامة والسياسة الشرعية والواجبات الكفائية في الحكم والاقتصاد والعلاقات الخارجية وغيرها، بسبب من انفصال السياسة عن توجيه العلماء، وانتشار استبداد، وقمع الآراء التي فيها مساس بشؤون الحكم. مما أدى إلى ضعف صلة العلماء بالواقع وما نشأ عن ذلك من زهد فيه من حيث الانخراط ومن حيث دراسته وتحليله.(1/276)
فتضخم الفقه الذي يهم الأفراد إلى حد من التخمة، قبل أن يعرف بدوره التوقف إلا ما كان من استمرار الفتوى التي يغلب عليها تنزيل الأحكام على أعيان الأفراد . يضاف إلى ذلك الجو الثقافي العام الذي انتقل من التنوع والاختلاف، إلى الحرص على التوحد والضبط والدمج وجمع الناس على رأي واحد، ولو في مجال لا يضر فيه التنوع والتعدد ،مما أدى إلى نوع من السكون فالنزعة التجديدية الاجتهادية غالبا ما تظهر في البيئة التي تعرف تنوعا ثقافيا ،كما أن المقلدة بالغوا في تعقيد شروط الاجتهاد ومواصفات المجتهد وتبرير الإحجام ونزعة التقليد .
فقد عمل كثير منهم على :( ابتكار شروط وقيود للاجتهاد مستحيلة الوجود والتحقق، والحجر على فضل الله وقدرته في أن يمنح الأمة في كل زمان ومكان القادرين على النظر لمشكلاتها في ضوء الكتاب والسنة...)1218 بل إن بعضهم يرى أن وجود الاجتهاد بسبب الاختلاف وكأنه يشعر بأن السلامة من ذلك في التقليد ،يقول الشيخ حبيب الكيرانوي:(إنما نشأ الاختلاف من كثرة الاجتهادات واختلاف الآراء فمهما كثر الاجتهاد كثر الاختلاف )1219 فهو يرى أن فتح باب الاجتهاد موجب لكثرة الاختلاف دون قلته والموجب لقلته هو التقليد فقط)1220.
كما أنه لا يرى للمقلد فكاكا مما هو فيه، وإن ظهر قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على خلاف ما ذهب إليه إمامه يقول : ( إنما نقلد من نقلد لأننا نعلم أنه يعلمنا أحكام الله ورسوله ويهدينا سبيل الرشاد لا لأنه متبوع بنفسه .فإن قلت:إن كان الأمر كما قلتم فكيف لا تتركون قوله بعد ظهور قول الله والرسول على خلافه ؟ قلنا: ظهور قول الله ورسوله.على خلاف قول الإمام موقوف على أمرين :أحدهما أن يعلم أن ذلك قول الله والرسول .(1/277)
والثاني :أن يعلم أنه مخالف لقول الإمام .ولا علم عند المقلد بأحد من هذين الأمرين )1221 وليته قيل هذا الكلام في العوام الأميين، ولكنه ينسحب على جميع المقلدة لأئمة المذاهب وفيهم علماء كبار.ولا أدري كيف يكون حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ظاهر المخالفة لقول الإمام، ومع ذلك يصر على التقليد،ولا يخطر بباله أن يكون الإمام غفل عن النص لبعض الأسباب، إلا أن يفترض فيه الكمال والعصمة ويصبح المذهب هو الحاكم على الوحي كما نقل عن الإمام الكرخي (ت340) قوله: (كل حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ)1222.
وتبلغ أدبياتهم حد تيئيس الناس من ولوج باب الاجتهاد أو مجرد التفكير في طرقه فصاحب "قواعد في علوم الفقه"يقول:( الفهم قد يكون في الرجل كاملا، يقدر به على الاجتهاد، ولكن لا يتيسر له الاجتهاد،لعدم وجود الآلات عنده كما ينبغي فهو مجتهد بالقوة لا بالفعل،وقد يتيسر له الاجتهاد لوجود الآلات فهو مجتهد بالفعل.وقد يكون هذا الفهم ناقصا لا يقدر به على الاجتهاد ،فقد يتيسر له آلات الاجتهاد فيغتر بنفسه حتى يظنه مجتهدا أويغتر فيه الناس فيظنونه مجتهدا مع أنه ليس كذلك...وقد لا يتيسر له الآلات أيضا ومع ذلك يظن نفسه مجتهدا...وهؤلاء يجب عليهم تقليد المجتهد ،فإن اجتهدوا ضلوا وأضلوا .هؤلاء هم أهل الرأي الذين ذمهم الصحابة والتابعون )1223 فأي نفس يشيعه مثل هذا النص ؟وأي ظلال يلقي بها بين يدي من يفكر في اقتحام عقبة الاجتهاد ؟
فرغم المبالغة في ضبط آليات الاجتهاد، وتقديمها في صورة مثالية ،يطرح هذا الفقيه أمر الفهم وهو يند عن الانضباط وتحكمه النسبية .وإذا تجاوز ذلك وجد أمامه عنصر الشك في نفسه وشك الناس فيه، لأنهم حذرون معه من الاغترار،وإن تجرأ رغم ذلك فسيف الذم والتضليل له بالمرصاد حتى يفر إلى أمان الإتباع والتقليد.ويركن إلى الخمول والترديد.(1/278)
وفي مثل هذا الجو يعيش طلاب العلم ويكون مبلغ مقصودهم الحفظ والاجترار والجمع والتلخيص والشرح دون التفكير في الإضافة والإبداع وركوب محاولة الخطأ والصواب .
يقول ابن قتيبة الدينوري:( وكان طالب العلم فيما مضى،يسمع ليعلم ويعلم ليعمل ،ويتفقه في دين الله لينتفع وينفع ،فقد صار طالب العلم الآن يسمع ليجمع ويجمع ليذكر ويحفظ ليغالب ويفخر،وكان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع،والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس،فينفع الله به القائل والسامع ،فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي وفيما لا ينفع(...)وصار الغرض فيه إخراج لطيفة وغوصا على غريبة وردا على متقدم )1224.
3_ 4 _ ضرورة الاجتهاد والاستمرار في إعماله وتشجيع القادرين عليه: فبالاجتهاد تكون حياة التشريع لأنه يمنح لها الحيوية والمرونة والفعالية والحركة .ويكون خير برهان على الصلاحية الدائمة لشريعة الله عز وجل للإنسان والزمان والمكان،جاء في المعيار: (عن الشيخ أبي مدين:إن للقرآن نزولا وتنزيلا .أما النزول فقد تم بموته عليه السلام، وأما التنزيل على الوقائع واستنباط الأحكام فلم يزل إلى آخر الدهر )1225.
فالوحي الإلهي يحمل من كنوز المعاني ما لا يستنفذه فهم جيل واحد من المسلمين (بل يمكن أن يكتشف فيه كل جيل ما لم يكتشفه الذي قبله وذلك وجه من وجوه إعجازه)1226 ومن فوائد الاجتهاد بسط رداء التدين على الحلول المشروعة الواقعية لتنقلب من عادة إلى عبادة ،لأن دائرته تتجاوز النصوص الظنية في الثبوت والدلالة إلا ما لا نص فيه .
ومن المشجعات على اقتحامه _ بعد إتيان شروطه _ أنه لا يطلب فيه غير بذل الوسع والطاقة، للحصول على غلبة الظن إن تعذر القطع. وأسقط عن المجتهد الإثم بل وعد في الشرع بالأجر ولو مع الخطأ .(1/279)
ولا شك أن القيام بأعباء الاجتهاد في زمن الركود يحتاج إلى (جرأة في الرأي، وقوة في الصبر على ضغوط المحافظين لا سيما أن التجديد لن يكون محدودا بل واسعا(...)والخطاب المناسب لمجتمع نائم خامد قرونا طويلة أن نبادره بالمنبهات ودواعي الحركة الحرة وأن نصيح فيه: أن تيقظ!جاهد! اجتهد (...) فالمطلوب أن نتلقى اليوم من حصة الكلام كل منبهة منعشة منشطة وأن نشيع من الدين ما يناسب المقام وما يقتضي الحال كالتدبير والاجتهاد (...) والتذكير بالرجاء والندب إلى الصالحات والمبادرات وسن السنن الحميدة)1227
وعن الخوف من حرية الاجتهاد وما يمكن أن تجره من جرأة على الدين وخروج عن الضوابط ،يقول حسن الترابي:( وإني لا أتخوف على المسلمين كثيرا من الانفلات بهذه الحرية والنهضة فالحس الإسلامي في تاريخه القديم استقام في وجه كل الابتلاءات والفتن الفكرية التي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بها، فحاصرها وتجاوزها بل تجده من تلقاء النفس يراعي التحفظات اللازمة)1228
وأما عن إنكار المحافظين فيعتبر ظاهرة طبيعية تتحرك في وجه كل اجتهاد جديد، وتنشط بقدر اتساع دائرة التجديد. بل في ذلك خير كثير للمجتمع الإسلامي. يقول صاحب تجديد أصول الفقه أيضا:( ومهما يكن فإنكار الجديد هو سنة اجتماعية معروفة وعن طريقه يعمل المجتمع عملية التوازن بين عناصر الثبات وعناصر الحركة لئلا يجمد المجتمع فيموت ولا يعربد فينحرف)1229.
المبحث الثاني
مجال الاجتهاد
من المعلوم من الدين _بالضرورة_ ومن المسلمات التي لا يختلف حولها أهل الحق، أن جميع وجوه نشاط المسلم الفكرية والقلبية والسلوكية يجب أن تكون محكومة بأحكام الإسلام،وأن تغطي جميع أوضاعه الفردية والجماعية، وجميع علاقاته مع نفسه وربه ومع الكون والناس ومع دنياه وآخرته.ومعلوم أيضا أن الوحي جاء شاملا للحياة كلها ?ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين? (النحل:89).(1/280)
ففيه كل ما يحتاجه الإنسان قال تعالى: ?ما فرطنا في الكتاب من شيء ? (الأنعام:39) قال القرطبي:( أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن ،إما دلالة مبينة مشروحة ،وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام،أو من الإجماع،أو من القياس (...) فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره ،إما تفصيلا وإما تأصيلا)1230 وبواسطة الاجتهاد يتم بسط رداء التدين على مجالات الحياة وفق هذا التأصيل لتندرج الحوادث غير المتناهية تحت النصوص المتناهية.
1_مالا يجوز فيه الاجتهاد:
قال ابن رشد في مسألة المجتهد فيه "الضروري في أصول الفقه":(وأما المجتهد فيه فهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي)1231 ثم تصدى للحديث عن مسألة يغلب فيها جانب النظر، جانب الحاجة العملية في الاجتهاد،وهي المتعلقة بالحكم المطلوب وهل هو متعين في نفسه وبالتالي يكلف المجتهد إصابته،أم أن مناط التكليف في طلبه غلبة الظن، فيكون كل مجتهد مصيبا وإن اختلفت آراء المجتهدين في الأمر الواحد.ورد في ذلك على الغزالي، وضمنا من وراءه مثل الشافعي ممن يرون كل مجتهد مصيب.
والذي يهم من الناحية العملية ،وهو محل اتفاق بين الجميع: أن المجتهد مأجور على خطأه1232 إذا كان مستكملا لشروط الاجتهاد.كما أنه من الناحية الواقعية والتاريخية ثبت قبول الرسول( للاجتهادات المختلفة في الشيء الواحد،وكذلك الصحابة وعموم الأمة سواء من الخلفاء الراشدين وغيرهم.
وابن رشد نفسه لما خرج من النظر في "الضروري"إلى الجانب العملي والتنزيلي في"البداية"تراجع عن تصلبه وتشدده إلى حد الاستعاذة والاتهام بارتكاب الكبيرة1233 ،إلى القبول بل وإلى تصويب هذا المذهب وترجيح القول بالتخيير في بعض المسائل1234.(1/281)
ونعود لابن رشد في تحديده للمجتهد فيه فقد ردد تماما عبارة أبي حامد الغزالي وخصوصا في شقها الأول ،حيث يقول: (المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي (...) وإنما نعني بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطىء فيه آثما)1235
يفهم منه عدم جواز الاجتهاد في الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة والبداهة والتي ثبتت بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، مثل وجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج والشهادتين وتحريم جرائم الزنا والسرقة وشرب الخمر والقتل وعقوباتها المقدرة لها ،مما هو معروف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القولية أو العملية، ومثلها الكفارات المقدرة وكل ما وجد فيه دليل قاطع من الأحكام ( فإنه إذا ظفر فيه بالدليل حرم الرجوع إلى الظن)1236 ومن هنا يأثم المخالف لما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع لأنها ليست محل اجتهاد،شأنها شأن ما يجب فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين، يقول الشاطبي:
( والقطعي ليس محلا للاجتهاد لأنه قسم الواضحات)1237.
وقد ألمح ابن رشد في "البداية" إلى أن أمور الآخرة ليست مجالا للاجتهاد بمعناه الأصولي وليس بمعنى العمل،يقول في مسألة من تجب عليه الطهارة:( واختلف الفقهاء هل من شرط وجوبها الإسلام أم لا وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي)1238 ويلحق بذلك عنده ما كان على سبيل التعبد، أي غير معقول المعنى: حيث لا يصلح فيه الاجتهاد لغياب ظهور المعنى الذي يعتبر في الاجتهاد.فالاجتهاد يصلح ويكون أنسب ما كان جاريا من الفقه على المعاني.(1/282)
يقول في مسألة اختلافهم في إزالة النجاسة بما عدا الماء فيما عدا المخرجين:( ولو راموا الانفصال عنهم بأنا نرى أن للماء قوة إحالة للأنجاس والأدناس وقلعها من الثياب والأبدان ليست لغيره ولذلك اعتمده الناس في تنظيف الأبدان والثياب لكان قولا جيدا وغيره بعيد، بل لعله واجب أن يعتقد أن الشرع إنما اعتمد في كل موضع غسل النجاسة بالماء لهذه الخاصية التي في الماء ولو كانوا قالوا هذا لكانوا قد قالوا في ذلك قولا هو أدخل في مذهب الفقه الجاري على المعاني وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول عبادة إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم)1239
2_ ما يجوز فيه الاجتهاد:
2_1 الاجتهاد في "نطاق النص"
فالاجتهاد في نصوص الكتاب والسنة يكون بحسب طبيعتها:
أ_ إذا كان النص [ظني الثبوت] فلا خلاف في ضرورة الاجتهاد في "ثبوت" هذا النص، بالبحث في سنده وطريق وصوله إلينا ،ودرجة رواته من العدالة والضبط.إذ(ليس كل خبر يجب العمل به)1240 كما قال ابن رشد.
ب _ إذا كان النص [ ظني الدلالة] فلا خلاف في ضرورة الاجتهاد في "دلالة"هذا النص، بالبحث في معرفة المعنى المراد من النص ،وقوة دلالته على المعنى ،فربما يكون النص عاما وقد يكون مطلقا ،وربما يرد بصيغة الأمر أو النهي..فالاجتهاد فيه يكون باستهلاك طاقاته في كافة دلالته عل معانيه،ولا سيما في دلالته العقلية ،التي هي من لوازم عباراته مثل : (دلالة الإشارة ودلالة النص ودلالة الاقتضاء ودلالة مفهوم المخالفة...) يقول ابن رشد:(واللفظ ينقسم إلى ما يدل على الحكم بصيغته،وإلى ما يدل بمفهومه ومعقوله)1241 ومن المعلوم أصوليا كذلك (أن الدال على الملزوم دال على اللازم ،وهو حجة فيه )1242، ويلجأ للقواعد اللغوية ومقاصد الشريعة لترجيح وجهة عما عداها.
ج _ إذا كان النص "ظني الدلالة والثبوت" فلا خلاف في ضرورة الاجتهاد في "دلالته وثبوته" كليهما.(1/283)
د _ إذا كان النص "قطعي الدلالة والثبوت"فهذا يوجب الاعتقاد والعمل.وهو الذي يقال فيه لا مساغ للاجتهاد في مورد النص1243، وهذا من حيث المبدأ ،والمعنى العام للاجتهاد. أما إذا قصد بالاجتهاد المعنى الأدنى الذي ينصرف: إلى الفهم والاستنباط منه وتفريعه والنظر في تنزيله، أي "الاجتهاد التطبيقي"فهذا وارد وقائم ،وخصوصا إذا ارتبط حكم ذلك النص بعلة تغيرت، أو بعادة تبدلت ،أو بعرف تطور، أو بشروط لازمة لإعماله لم تتوفر ،فيكون الاجتهاد هنا هو الاجتهاد في مدى توافر الشروط اللازمة ،لإعمال الحكم المستنبط من هذا النص (فالنص قائم أبدا ،والحكم متراوح بين "التنفيذ"و"وقف التنفيذ"دون تجاوز دائم أو إلغاء)1244
كما كان الشأن في نصيب "المؤلفة قلوبهم"من الصدقات ،حيث أوقفه عمر عندما انعدمت العلة الغائية ،فلم يعد ضعف المسلمين ،الذي يدعوهم إلى تألف قلوب المشركين والمنافقين قائما ،ولو وجد حاكم مسلم بعده أن مصلحة الأمة تقتضي تألف قلوب الأعداء بسهم من الصدقات، فسيكون اجتهادا يعيد حكم هذا النص إلى الإعمال .وكذلك الشأن في موقفه من تعليق العمل بحد السرقة في عام الرمادة، عندما تخلفت الشروط الاجتماعية العامة بسبب المجاعة1245 ثم عاد تطبيقه بعد زوال المحنة.
وهذا باب عظيم لا ينبغي أن يسلكه إلا العظماء من أمثال عمر من ذوي التقوى والورع،الذين يعتقدون ويقولون مطمئنين :حيثما وجد شرع الله فثم المصلحة الحقيقية ولا (يوقفون التنفيذ) إلا كما يلجأ المؤمن التقي إلى لحم الخنزير في انتظار عودة الطيب الحلال . ولا يجوز أبدا أن يلجه الضعفاء من أهل الأهواء ممن يلبسون على الناس بشعار "حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله"لينتهوا إلى إلغاء الشريعة وإبطال دين الله.(1/284)
فالاجتهاد في "نطاق النص" يكون لإثباته، أو لمعرفة المراد منه ، أو رفع التعارض بين النصوص التي يوهم ظاهرها بذلك: بالجمع بينها أو الترجيح،أو استنباط الجزئيات والفروع منه،أو القيام بالمقارنة والموازنة بين النص ونظائره الواردة في موضوعه الموافقة أو المخالفة ،ومعرفة مسألة النسخ وأسباب النزول أو الورود ...وغير ذلك من ألوان الاجتهاد التي تتسع وتكون أرحب أفقا مع النصوص التي تتضمن قبول المتغيرات، حيث يتجه الاجتهاد إلى استنباط الحكم الملائم للواقعة، وإلى الاجتهاد في التطبيق .ويضيق المجال في النصوص التي تتضمن الثوابت فيكون الاجتهاد في "التطبيق"على الوقائع بظروفها وملابساتها والتي يكون لها أثر بالغ يرعاه المجتهد..
والنصوص الشرعية تتمتع بخصائص مساعدة على الاجتهاد، من ذلك: سعة المفاهيم التي جاءت بها ،وهي معللة في معظم أحكامها ،معجزة في صياغتها، بحيث تحفظ ديمومة الحكم،كما أنها عالمية في أحكامها :خوطب بها الإنسان من حيث هو إنسان،وإنسانية في قيمها تمتاز بالسمو والشمول والمرونة والثبات.1246
2_ 2.الإجتهاد "فيما لا نص فيه":
جاء في "جماع العلم" عن الشافعي في مشروعية الاجتهاد"فيما لا نص فيه":( فما الوجه الذي دلك على أن ما ليس فيه نص حكم وسع فيه الاختلاف؟ فقلت له: فرض الله على الناس التوجه في القبلة إلى المسجد الحرام فقال ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام (...) أفرأيت إذا سافرنا واختلفنا في القبلة فكان الأغلب علي أنها في جهة والأغلب على غيري في جهة ما؟ فإن قلت الكعبة فهي وإن كانت ظاهرة في موضعها فهي مغيبة عن من نأى عنها فعليهم أن يطلبوا التوجه لها غاية جهدهم على ما أمكنهم وغلب بالدلالات في قلوبهم فإذا فعلوا وسعهم الاختلاف وكان كل مؤديا للفرض عليه بالاجتهاد في طلب الحق المغيب عنه)1247 ومعنى وسع فيه الاختلاف من خلال السياق وسع فيه الاجتهاد.(1/285)
ويرى ابن رشد من أسباب الاختلاف الاجتهاد الحاصل فيما لا نص فيه،من ذلك اختلاف الفقهاء هل للمعتكف أن يدخل بيتا غير بيت مسجده حيث قال:( وسبب اختلافهم أنه ليس في ذلك حد منصوص عليه إلا الاجتهاد)1248 وقوله فيما يسلب عن المقيم اسم المسافر: (ولهم في ذلك ثلاثة أقوال أحدها: مذهب مالك والشافعي أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم. والثاني: مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم. والثالث: مذهب أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم وسبب الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع)1249.فبسبب سكوت الشرع اجتهد العلماء في التقدير بناء على ما يراه كل واحد من قرائن.
قال الإمام السيوطي :( قال (ابن برهان) :الباري سبحانه وتعالى قادر على التنصيص على حكم الحوادث والوقائع ولم يفعل ،ولكن نص على أصول ،ورد معرفة الحكم في الفروع إلى النظر والاجتهاد )1250 فجعل تعالى النصوص كنوزا للمعاني، تعطي لكل زمان ما يناسبه بشكل مباشر في الثوابت ،وبشكل غير مباشر في المتغيرات ،يتولى الاجتهاد استخراج الحلول الشرعية من أصول الوحي ليعالج صور الحياة الواقعية، فيجعل الحياة بشكل دائم تتحقق على سمت ديني مع تغاير أنماطها وملابساتها.فبالنظر الاجتهادي يحصل المجتهد الحقائق المودعة في النص، تدفعه إليها حاجة الظروف المستجدة، وتهديه إليها معارفه المكتسبة، فينبلج الحق له ولغيره من المجتهدين شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم1251.
فبالاجتهاد يتم سبر أغوار النص، والغوص في أعماقه للظفر بجوهره والمراد الحقيقي للشارع منه،وتعميم الحكم معنويا وعقليا فيما لا نص فيه ،ويحول ذلك دون أن يبقى الحكم مقصورا على محله الذي ورد النص فيه، ويتم الإرتقاء بحكم النص من أرضية لغويته إلى الأفق الرحب الذي يغطي فيه جزئيات عديدة.(1/286)
والاجتهاد "فيما لا نص فيه"يتخذ صورا مختلفة، وأشكالا عديدة، منها:
أ_ اعتماد ما يعتبر متضمنا للدليل من إجماع وأقوال الصحابة بالاجتهاد فيها وترجيح بعضها على بعض .
ب _ إلحاق مسكوت بمنصوص عليه لعلة جامعة بينهما.وهو الاجتهاد القياسي.
ج _ تطبيق القواعد الكلية على الجزئيات التي تندرج تحتها مع مراعاة مقاصد الشريعة ومصالح الخلق التي عهد من الشارع المحافظة عليها.
د _ استقراء الجزئيات التي اختلفت موضوعاتها لاستنباط "مفاهيم كبرى" تندرج تحتها فروع عديدة ،بحيث تأخذ حكما واحدا، لوحدة الهدف والغاية المتصلة بمفهوم العدل ، وهذا هو شأن "النظريات العامة"وهي من أرقى ما وصل إليه العقل البشري في الاجتهاد التشريعي )1252.
هـ _ الاجتهاد القائم على تقدير "المصالح"وما يعتمد في "السياسة الشرعية"والتي تستلزمها الظروف المستجدة العامة ولاسيما الاستثنائية منها ، إذ التشريع العام الكامل يملك تدبير شؤون الأمة في الظروف العادية والاستثنائية وذلك بالاستناد إلى أصول مثل تحقيق العدل ،ومقاصد الشريعة ،والأمن العام.
ومرد التقدير في ذلك للعقل العلمي المتخصص، المستنير المنضبط بالشورى والجاري على أصول الشريعة المترسم لمقاصدها ،إذ العقل ليس له استقلال تام في إدراك تلك المصالح، لوجود منازع تفسد عليه النظر المتوازن الصحيح، مثل:التأثر بمنافع عاجلة موقوتة أو بالهوى والعصبية والعنصرية والحب والبغض والغرور والهيمنة والطغيان.. ولذا فتلك المصالح مشروطة بأن تكون على نحو يقيم الدنيا بما لا يتناقض مع جعلها سبيلا إلى الآخرة.1253
ز _ النظر في أعراف البلاد الصحيحة التي لم تخالف نصا شرعيا ولا قاعدة أساسية قال ابن عابدين في أرجوزته :
والعرف في الشرع له اعتبار**** لذا عليه الحكم قد يدار1254.(1/287)
ح _ اعتماد الاستصحاب:استصحاب أمر عقلي أو حسي أوحكم شرعي1255مثل:استصحاب البراءة الأصلية ،واستصحاب النص حتى يرد النسخ ،واستصحاب العموم حتى يرد التخصيص،واستصحاب حكم عند أمر قرنه الشرع به لتكرر ذلك الأمر،واستصحاب الإجماع...1256.
فمجال الاجتهاد "فيما لا نص فيه"عموما هو البحث عن حكمه بأدلة القياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة أو العرف أو الاستصحاب وغيرها من الأدلة المختلف فيها،إذ الاجتهاد في الأصول سابق على الفروع ،فموضوعه ابتداء هو الأدلة الشرعية الكبرى ،التي تضمنت الأدلة التفصيلية على الأحكام الشرعية الفرعية .
ولا ينجو من الجدل غير أصلي الكتاب والسنة و( يتضح أن للاجتهاد في أصول الفقه مجالا رحبا،هو مجال التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون من قضايا جمة(...)فالباب لا يزال مفتوحا لمن وهبه الله المؤهلات لولوجه،ولكل مجتهد نصيب ، وقد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل )1257.
3_ مجال الإجتهاد المعاصر:
يقول حسن الترابي:( إن القضايا التي تجابهنا في مجتمع المسلمين اليوم إنما هي قضايا سياسية شرعية عامة أكثر منها قضايا خاصة، ذلك أننا نريد أن نستدرك ما ضيعنا في جوانب الدين،والذي عطل من الدين أكثره يتصل بالقضايا العامة والواجبات الكفائية (...) أما قضايا الفقه التي تعني الفرد المسلم في شعائره وأسرته ونحو ذلك فهي مما كان فقهنا التقليدي قد عكف عليها وأوسعها بحثا وتنقيبا)1258، ولهذا لا يرى في هذه الأخيرة مجالا واسعا للتجديد لأنها بالإضافة إلى توسع السابقين فيها ، فإنها تمس في أغلبها الجوانب الثابتة من حياة الإنسان ولا ( تحتاج منا إلا إلى جهد محدود جدا في التجديد، استكمالا لما حدث من مشكلات وطرافة في وسائل الشرح والعرض )1259(1/288)
مثل صدور كتب فقهية جديدة تقدم الصلاة وتشرحها بوجه يناسب أوضاع الحياة ويخاطب العقل المسلم المعاصر،والحاجة إلى نظرة جديدة في أحكام الطلاق والزواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة (وننظر في الكتاب والسنة مزودين بكل حاجات عصرنا ووسائله وعلومه وبكل التجارب الفقهية الإسلامية والمقارنة لعلنا نجد هديا جديدا لما يقتضي شرع الله في سياق واقعنا المعين)1260.
أما قضايا الحكم والاقتصاد وقضايا العلاقات الخارجية وغيرها من جوانب الحياة العامة، فتحتاج إلى اجتهاد واسع جدا .ويذكر يوسف القرضاوي مجالين من بين مجالات عدة حدث فيهما تغير ضخم.قلب ما كان مألوفا ومقررا من قبل ظهرا على عقب بحيث أصبحت الحاجة ملحة للاجتهاد فيهما،وهما:المجال الاقتصادي والمالي،والمجال العلمي والطبي .حيث حفل المجال الاقتصادي بأشكال وأعمال ومؤسسات كالشركات الحديثة بصورها المتعددة مثل:شركات المساهمة والتوصية، وأنواع التأمين ،والبنوك بأنواعها: العقاري والصناعي والزراعي والتجاري والاستثماري .وأعمالها الكثيرة من حساب جار ،وودائع وقروض وتحويل وصرف وفتح اعتمادات وإصدار خطابات ضمان، وخصم "كمبيلات" وغير ذلك مما قد يحل أو يحرم.
وفي المجال الطبي حدثت مستجدات مثل: زرع الأعضاء، وبنوك الحليب ،والتحكم في جنس الجنين، واستئجار الرحم ومسألة تحقق الموت ،أبموت القلب وتوقفه عن النبض أم بموت جذع الدماغ ؟ وما يترتب عن ذلك من آثار..1261 ومسألة الاستنساخ وما الحدود المقبولة فيه والمرفوضة،وتغيير الجنس وغيرها .وقضايا أخرى كبيرة تتعلق بالسياسة الدستورية والقضائية والتنفيذية والاجتماعية والإدارية والأمن الاجتماعي والنظام العام والآداب ..(1/289)
ومسألة الديموقراطية والتعددية الحزبية ومسألة الوحدة والتنمية ،وقضايا الجهاد في ظل تطور الأسلحة الفتاكة والحروب النووية المدمرة التي ينبغي تجديد النظر في كيفية تنزيل ما يتعلق بآداب الجهاد واحترام البيئة وحماية غير المحاربين.. إلى غير ذلك من المشكلات العالمية والمستجدات مثل البحث في التوازن بين النمو السريع للسكان والنقص الحاصل في الموارد،ومشكلات الطاقة والبيئة، وأزمة البطالة وتوزيع الثروة والظلم العالمي الذي يمارس من خلال الهيئات الدولية...
المبحث الثالث
شروط المجتهد
1_ تعريف المجتهد:
قال ابن رشد:( وأما حد المجتهد فهو أن يكون عارفا بالأصول التي يستنبط عنها،وأن تكون عنده القوانين والأحوال التي بها يستنبط)1262 فاكتفى بالشق الأول مما ذكره الغزالي في المستصفى، أي كونه (محيطا بمدارك الشرع)1263وهي المعرفة بالأصول و (متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها، وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره )1264ولا يكون التمكن إلا بآلات الاجتهاد .وأعرض عن مسألة (كونه عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة )1265 ما دامت حسب تعبير الغزالي ليست شرطا في صحة الا جتهاد وإنما تشترط في قبول الفتوى منه .
وأما صاحب "البحر المحيط" فعرفه بقوله:( هو البالغ العاقل ذو ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها)1266 وقال السيوطي فيه (هو المستقل بأحكام الشرع نصا واستنباطا ،وأشرنا بالنص إلى الكتاب والسنة ،وبالاستنباط إلى الأقيسة والمعاني)1267.وقال في معرض حديثه عن المجتهد وكأنه يتدارك قيد الزركشي (لابد من العقل والبلوغ ،إذ الصبي لا يقبل قوله ولا روايته والرق لا يقدح وكذا الأنوثة)1268.
فالتعاريف مجمعة على التمكن من الأصول، والقدرة على الاستنباط باعتبارها أركانا للإجتهاد.وكأن السيوطي لا يعتر ف بغير المستقل مجتهدا على الحقيقة، إما في الأصول كشأن أئمة المذاهب، أو مستقلا بالنظر في الفروع بعد التسليم بأصول الامام.(1/290)
2_ مراتب المجتهدين:
أ_ المجتهد المطلق المستقل: وهو الذي تكونت عنده ملكة الاجتهاد بحيث يستطيع الاستنباط بغير التزام إمام معين،وله أصوله التي أصلها وقواعده التي قعدها. فهو ينظر إلى الأدلة التفصيلية ويضم بعضها الى بعض، ويقوم باستقرائها والحكم عليها بقاعدة كلية.ويقوم باستنباط الأحكام الشرعية العملية منها بمراعاة ما أصله وقعده .واجتهاده غير منحصر في باب من أبواب الفقه،فهو يتصرف في الأصول ويختار ويرجح ويتكلم في المسائل التي لم يسبق بالجواب فيها.
ويدخل في هذا القسم فقهاء الصحابة وفقهاء التابعين وأئمة المذاهب :أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والطبري وداود بن علي وغيرهم ..قال السيوطي : (وهذا شيء فقد من دهر،بل لو أراده الإنسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له،نص عليه غير واحد )1269وذكر قولا يبين أن هذا الموقف من العلماء اجتهاد، الأمر الذي يعني عدم إلزام الأمة به،ولا يجوز الحجر على فضل الله على عباده الذي حكم بوجود الخير في أول الأمة وآخرها.
ب _المجتهد المطلق المنتسب:
وهو الذي ينسب إلى إمام لأنه سلك طريقه في الاجتهاد ،لا يقلده في مذهب ولا في دليل،بل إنه اجتهد فوجد طريقه أسد الطرق ،وهو مستيقن بالأحكام من قبل أدلتها ،قادر على استنباط المسائل منها ،فهو ليس له في الاستنباط منهاج خاص به، إنما التزم بمنهاج مجتهد آخر على سبيل الاتفاق والمصادفة، أو أداه إليه اجتهاده .وللمجتهد المنتسب اجتهاداته واستنباطاته، في عامة الفقه.(1/291)
يوافق الامام ويخالفه مثل أصحاب أبي حنيفة :أبي يوسف ومحمد وزفر.. ومثل أصحاب مالك :ابن الماجشون وأشهب وابن القاسم ومثل أصحاب الشافعي:أبو يعقوب البويطي وأبو إبراهيم المزني ،وقد ادعى الامام السيوطي أنه من هذه الفئة : (والذي ادعيناه هو الاجتهاد المطلق لا الاستقلال ،بل نحن تابعون للامام الشافعي رضي الله عنه ،وسالكون طريقه في الاجتهاد )1270 ومثل أصحاب أحمد: الخلال وابن تيمية .. وفتوى هؤلاء (كفتوى المستقل في العمل بها والاعتداد بها في الاجماع والخلاف)1271ويسقط بوجوده فرض الكفاية عن المسلمين .
ج _ المجتهد في المذهب:
وهو المقلد لإمامه فيما ظهر فيه نصه،ولكنه يعرف قواعد إمامه وما بنى عليه ،فإذا وقعت حادثة لم يعرف لإمامه فيها نصا ،اجتهد على مذهبه وخرجها من أقواله وعلى منواله ،فهو لا يتجاوز أصول إمامه ويستقل بتقرير مذهبه بالدليل .فهو ينزل عن السابق لكونه يتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها ،كفعل المستقل بنصوص الشرع ،وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه ولا يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص .
وهم أصحاب الوجوه والطرق في المذاهب كالحسن بن زياد والكرخي والطحاوي من الحنفية ،والأبهري وابن زيد من المالكية ،وأبي اسحاق الشيرازي والمروزي من الشافعية..ونحوهم من أصحاب التخريج على منصوص الإمام ولا يتأدى بهم.( فرض الكفاية،قال ابن الصلاح ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى وإن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى)1272.(1/292)
وتجدر الإشارة إلى أن ابن رشد يرفض بشدة جعل ما ليس بأصل أصلا يقاس عليه، حيث يقول:( والفرق بين هؤلاء وبين العوام ،أنهم يحفظون الآر اء التي للمجتهدين فيخبرون عنها العوام ،من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد .فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين ،ولو وقفوا في هذا لكان الأمر أشبه لكن يتعدون فيقيسون أشياء لم ينقل فيها عن مقلديهم حكم على ما نقل عنه في ذلك حكم ،فيجعلون أصلا ما ليس بأصل ويصيرون أقاويل المجتهدين أصولا لاجتهادهم،وكفى بهذا ضلالا وبدعة)1273 وكأن ابن رشد لا يعترف بهذا التقسيم الذي يصنف إليه العلماء المجتهدين،وليس عنده سوى مجتهد مطلق أو ناقل عن المجتهد المطلق.أما من يجعل أصلا ما ليس بأصل، فلا يرى مشروعية في وجوده، كما المتكلم ليس له من عمل بين العامي والفيلسوف.ولموضع الضرورة وحاجة العوام إلى من يبلغهم الأحكام ويفقههم في الدين جاءت مشروعية عمل الناقلين عن المجتهدين.
د _ مجتهد الترجيح والفتيا:
وهو المتبحر في مذهب إمامه ،المتمكن من ترجيح قول على آخر،ووجه من وجوه الأصحاب على آخر.وهو وإن لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه فهو(فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه ،وعارف بأدلته قائم بتقريرها ،يصور ويحرر ويقرر ويمهد ويزيف ويرجح) بين ما قاله الإمام وما قاله تلا ميذه أو غيره من الأئمة .
فشأنه تفضيل بعض الروايات على بعض مثل القدوري والمرغيناني صاحب الهداية من الحنفية ومثل:أبي الحسن اللخمي (ت478هـ)وأبي الوليد ابن رشد الجد(520هـ)وأبي عبد الله المازري(ت 536)وغيرهم من المالكية.. وبواسطة هؤلاء المجتهدين( أمكن ضبط الأحكام الفقهية الكثيرة المنقولة عن أئمة المذاهب الأربعة، وتخريج علل هذه الأحكام حتى يتسنى القياس عليها فيما لم يرد فيه نص عنهم ،ومعرفة الأقوال التي يصح الاعتماد عليها .والتي لا تصح ،وبواسطتهم أيضا أمكن الوفاء بما يحتاج إليه الناس في العصور المختلفة من أحكام)1274.
3_شروط المجتهد:(1/293)
جاء في "الرسالة"للإمام الشافعي تفصيل لشروط الا جتهاد1275.فهو لا يكون إلا لمن جمع الآلة وهي: العلم بأحكام كتاب الله، فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه وإرشاده ،ويستعين على فهم مراد الله تعالى فيما احتمل التأويل :بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يجد فبإجماع المسلمين، وإن لم يجد فبالقياس .ثم يبين أن المقبل على القياس، لابد له من العلم بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم ،ولسان العرب، ويكون صحيح العقل حتى (يفرق بين المشتبه ،ولا يعجل بالقول به دون التثبيت ).
ويحسن الاستماع للمخالف،ويجتهد في بلوغ غاية جهده والانصاف من نفسه حتى (يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك ) ويحث على معرفة ما يقيس عليه إذ (لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبر ة له بسوقه).أي معرفة الواقعة موضع الاجتهاد،وطبيعة الواقع الذي تتنزل عليه أحكام النصوص ،ويطالب المجتهد بحقيقة المعرفة بما سبق لا مجرد الحفظ (لأنه قد يذهب عليه عقل المعاني). وخلاصة قول الإمام الشافعي في شروط الاجتهاد هو معرفة كتاب الله نصا واستنباطا ومن ادرك ذلك مع الاستقامة استحق الامامة في الدين1276.
ويمكن تصنيف شروط المجتهد الى صنفين كبيرين:قسم يتعلق بالشروط الشخصية وقسم يتعلق بالشروط العلمية وتقسيم هذه الأخيرة إلى شروط الانطلاق وشروط للفهم والاستنباط.
وشروط الانطلاق هو ما يسميه الغزالي1277 الإحاطة (بمدارك الشرع) المثمرة للأحكام ويسميها ابن رشد1278( الأصول التي يستنبط عنها) وشروط الفهم والاستنباط هي ما يطلق عليها الغزالي التمكن (من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره )أي (كيفية الاستثمار) ويطلق عليها ابن رشد (القوانين والأحوال التي بها يستنبط ) .(1/294)
وأما الشروط الشخصية وهي التي تدخل في باب ( أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة (...) فمن ليس عدلا فلا تقبل فتواه) يقول الزركشي (العدالة ركن في الاجتهاد , فإذا فاتت العدالة فاتت أهلية الاجتهاد)1279 غير أنه يمكن أن يجتهد لنفسه لا لغيره العارف بحاله،فالعدالة شرط القبول للفتوى لا شرط صحة الاجتهاد فيتحصل المطلوب من المجتهد في أصول هي بمثابة الأسس وهي :الكتاب والسنة والاجماع ووسائل وآلات للفهم والاستنباط من تلك الأصول وهي اللغة العربية ،وأصول الفقه ومقاصد الشريعة ومعرفة الناس والحياة، ثم شروط شخصية ليقبل منه الاجتهاد ويعتد به مثل العدالة والتقوى.
3_1:الشروط العلمية:
3_1_1:الأصول الكبرى:
أ _ العلم بالقرآن الكريم:
يقول ابن رشد:(أما ما يكفيه من معرفة الكتاب فمعرفة الآيات المتضمنة للأحكام،ومعرفة الناسخ والمنسوخ،وهي نحو خمس مئة آية،هذا على وجه التخفيف،والأفضل له معرفة الكتاب كله.وقد رخص له في حفظ الآيات المتضمنة للأحكام إذا كانت مواضعها معلومة عنده بحيث إذا وردت مسألة في أمر ما علم أين يطلبها)1280(1/295)
فمن الطبيعي أن يتصدر هذا الشرط جميع الشروط الأخرى،قال تعالى:?ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين?(النحل:89) ،فكتاب الله ( كلية الشريعة ،وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر)1281،فعلى المجتهد أن يكون له اطلاع عام على معاني القرآن كله مع توجيه عناية خاصة الى الآيات التي لها صلة وثيقة بالأحكام والتي تعرف بذكر الحكم فيها صراحة مثل قوله تعالى:?حرمت عليكم الميتة والدم?(البقرة:173 )،أو ورود الأمر والنهي أو يؤخذ منها الحكم بطريق الاستنباط سواء من آية مستقلة مثل استنباط الإمام الشافعي صحة أنكحة الكفارمن قوله تعالى:?وامرأة فرعون ?(التحريم:11)،أو بضم آية أخرى إليها مثل: استنباط ابن عباس أقل مدة الحمل ستة أشهر، من الآيتين ?وحمله وفصاله ثلاثون شهرا? (الأحقاف:15)، وقوله تعالى: ?وفصاله في عامين ?) لقمان :14).
_ والمطلوب الاطلاع على علوم القرآن الكريم عموما لمعرفة كتاب الله تعالى، والتركيز خصوصا على أسباب النزول: ذلك أن العلم بها يلقي ضوءا على المقصود بالنص القرآني، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.كما أن معرفة مقتضيات أحوال المخاطبين يساعد على معرفة إعجاز نظم القرآن الكريم،والجهل بهذه الأسباب يوقع في الشبه والاشكالات1282.
والتركيز أيضا على معرفة الناسخ والمنسوخ، حتى لا يستدل بآية على حكم وهي في الواقع منسوخة غير معمول بها، والعلماء في ذلك بين موسع لدائرة النسخ ومضيق له، حسب اختلافهم في مفهومه إذ أوصله الإمام الدهلوي الى خمس آيات فقط1283.(1/296)
_ والمطلوب أيضا معرفة معاني الآيات: لغة بمعرفة معاني المفردات والمركبات وخواصها في إفادة المعنى بواسطة علوم الصرف والنحو والمعاني والبيان وسائر فنون البلاغة ،ومعرفة العلل والمعاني المؤثرة في الأحكام ،وأوجه دلالة اللفظ على المعنى من عبارة واشارة ودلالة واقتضاء،أو من منطوق ومفهوم ومعرفة أقسام اللفظ من عام وخاص ومشترك ومجمل ومفسر وغيرها1284.
_ والأفضل حفظ الكتاب كله وإلا فحفظ آيات الأحكام،وإذا فترت الهمم فالتلاوة الدائمة، والاستعانة بالفهارس الموضوعة والبرامج المعلوماتية للقرآن الكريم التي تعين على استحضار ما يريد المجتهد في موضوعه بسهولة.
ب -العلم بالسنة:
يقول ابن رشد في هذا الشرط:(وأما ما يكفيه من معرفة السنة،فمعرفة الأحاديث التي تتضمن الأحكام.وقد يخفف عنه في أن لايحفظها،بل يكفيه أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتضمنة للأحكام يرجع إليه وقت الحاجة إلى الفتوى،والأفضل له أن يحفظها)1285
فالسنة لا تقل شأنا عن كتاب الله بل به تعرف كثير من أحكامه،قال تعالى :?وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ?(النحل:44)،فالواجب على المجتهد أن يكون واسع الإ طلاع على السنة كلها ،وأن يوجه مزيد اهتمام إلى أحاديث الأحكام:
فيعرفها لغة ومعنى ،ولا يلزم حفظها، وإنما يكون متمكنا من الرجوع إليها عند الاستنباط: بأن يعرف مواقعها بواسطة فهارسها أوالبرامج المعلوماتية في ذلك، وهي ميسرة اليوم وبتكلفة يسيرة لا تكاد تذكر، وإن كان حفظ ما في الاستطاعة أفضل وأكمل .(1/297)
ولا بد من العلم بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن كالأمهات الست (صحيح البخاري ومسلم، وموطأ مالك، وسنن أبي داود والتر مذي والنسائي وابن ماجة) وما يلحق بها كسنن البيهقي والدار قطني والدارمي) مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات والكتب التي التزم مصنفوها الصحة مثل صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان ،وصحيح الحاكم النيسابوري) حتى لا يلجأ المجتهد الى القول بالرأي أو القياس مع وجودالنص،وبخصوص السند وجب معر فة سند الحديث من تواتر أو شهرة أو آحاد.
ومعر فة حال الرواة من جرح وتعديل ليعرف صحيح السنة من ضعيفها،ويرى ابن رشد أن تعديل الرواة وتتبع سيرهم وأحوالهم وأوقاتهم يطول عليه ويتشعب جدا (ولا سيما ما تباعد الزمان، والتخفيف عنه في ذلك أن يكتفي بتعديل الإمام في ذلك إن علم مذهبه في التجريح والتعديل وكان ذلك موافقا لمذهبه)1286وأقول بأن هذا الجانب المتعلق بسند الحديث والحكم عليه بالصحة أو الضعف،ليس للمتأخرين من المجتهدين على العموم سوى تقليد من سبقهم من أهل الاختصاص في صناعة الحديث،وخصوصا إذا أجمعوا في حكمهم على حديث .
أما إذا اختلفوا فليس أمامه إلا خوض غمار الترجيح والنظر في أحكامهم على رجال السند،وهو أمر إن تهيبه من قبلنا وإلى عهد قريب،فهو ميسر بحمد لله بما فتح الله به على بني الإنسان في زماننا: بهذا التطور الهائل الذي لم يسبق له مثيل فيما نعلم،في مجال المعلوميات،سواء في الكم الهائل من المادة المعرفية التي يمكن جمعها،أو بسرعة البحث والتنقيب والإبحار في بطون الكتب والمصادر في مختلف المجالات، ومنها مجال الحديث بمتنه وسنده ورجاله.فلا أرى من عذر لمجتهد اليوم في التقاعس عن تحقيق نصوص استشهاده وأصول استدلاله، بما يصل به إلى حد الاطمئنان على ما يستخرجه بعد من أحكام،وخصوصا إذا كان الاجتهاد يتعلق بقضايا محدودة،مستجدة أو مسبوق فيها ويرى دواعي إعادة النظر فيها.(1/298)
ولهذا لا بد للمجتهد من العلم أيضا بأصول الحديث وعلومه والاطلاع على علم الرجال وشروط القبول وأسباب رد للحديث ومراتب الجرح والتعديل وغيرها مما يتضمنه علم المصطلح ثم تطبيق ذلك على ما يستدل به من الحديث ومعرفة الناسخ والمنسوخ من الحديث حتى لا يحكم بحديث قد ثبت نسخه وبطل العمل به،ومعرفة"مختلف الحديث"أي الأحاديث المتعارضة الظواهر وكيف يتعامل معها ويفقه معانيها . وذلك بجمع الأحاديث الواردة والثابتة في موضوع بعينه وتدبر العلاقة بينها ويبين عامها بخاصها ويحمل مطلقها على مقيدها ويوضح مجملها بمفصلها ومبهمها بمفسرها كما يربطها بالقرآن الكريم1287 .ومن المهم جدا معرفة أسباب ورود الحديث لأن السنة كثيرا ما تأتي لعلاج قضايا خاصة وأوضاع معينة يتغير الحكم بتغيرها...
ج- العلم بمواضع الإجماع:
بأن يعرف جميع المسائل المجمع عليها ،حتى لا يفتي بخلافها،وكل مسألة يفتي فيها ينبغي أن يعلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع1288 ويتحقق من ذلك (إما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء أيهم كان،أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض)1289 وقد جمعت مواضع الإجماع في بعض الكتب مثل"مراتب الاجماع"لابن حزم و"الاجماع"لابن المنذر،مع العلم أن كثيرا مما ادعي فيه الإجماع من مسائل الفقه قد ثبت فيه الخلاف..فمثلا عند المالكية أثبت الحطاب(ت954ه) في "مواهب الجليل شرح مختصر خليل"أن بعض المتأخرين من علماء المذهب (حذورا من إجماعات ابن عبد البر واتفاقات ابن ر شد وخلافيات الباجي)1290
كما أن هناك من يرى أن من الإجماع ما يقبل المراجعة بإجماع جديد، وخصوصا إذا بني على عرف تبدل أو مصلحة تغيرت ،وكذلك من أضاف العلم بمواضع الخلا ف لمالها من أهمية في تكوين ملكة الفقه والإ طلاع على مدار كه ومسالك الاستنباط فيه1291.
3_1_2_شروط الفهم وا لاستنباط.
أ- العلم بالعربية:(1/299)
يقول ابن رشد في "البداية" بأنه وضع كتابه لبلوغ مرتبة الاجتهاد، لمن حصل شروطا من ضمنها(ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة)1292 وأشار إلى ذلك أيضا في كتابه "الضروري في أصول الفقه" عند حديثه عن شروط الاجتهاد حيث قال:(فينبغي أن يكون عنده من علم اللغة واللسان ما يفهم به كتاب الله تعالى وسنة نبيه ( ولا يلحن)1293
فلا بد للمجتهد من علوم العربية: من بلاغة ونحو وصرف ومعان وبيان وأساليب، بالقدر الذي يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال. إلى حد يميز فيه: بين صر يح الكلا م وظاهر ه، ومجمله وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه ،ومطلقه ومقيده ،ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه ...ذلك أن القرآ ن الكريم قد نزل بلسان عر بي مبين والسنة قد نطق بها رسول عربي أوتي جوامع الكلم،ولا يمكن استنباط الأحكام منهما إلا بفهم كلام العرب إفرادا و تركيبا ومعرفة معاني اللغة العربية وخواص تراكيبها...ومعرفة دلالات الجمل ما كان منها على سبيل الحقيقة وما كان على سبيل المجاز والكناية ودلالات التقديم والتأخير والحذف والحصر ..
و(ولا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد ،وأن يعرف جميع اللغة وأن يتعمق في النحو،بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ،ودرك حقائق المقاصد منه )1294 بحيث تثبت له ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج اليه عند وروده عليه ويتمكن من تفسير ما ور د في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه ،ومعرفة كيفية الاستفادة من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك واستخراج ما يقصد إليه ، حتى ينظر في الأدلة نظرا صحيحا، ويستخرج منها الأحكام استخراجا قويا،ويرجع في أحكام الألفاظ ومعانيها إلى رواية الثقة وما يقوله الأئمة .(1/300)
وإذا وقع نزاع في معنى توقف عليه فهم نص شرعي، تعين عليه حينئذ بذل الوسع في معرفة الحق في ذلك الا ختلاف،ولا يسوغ له أن يعمل على أحد المذاهب النحوية أو البيانية في تقرير حكم إلا أن يستبين له رجحانه بدليل ..والمهم (أن يحس المجتهد من نفسه أنه أصبح قادرا على تذوق كلام العرب وفهمه والغوص في معانيه،بمثل ما كان عليه العربي الأول بسليقته وسلامة فطرته،قبل أن يستعجم الناس ويفسد اللسان والذوق)1295
فالشريعة عربية لا يفهمها حق الفهم الا من فهم العربية ،وإذا (فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدىء في فهم الشريعة،أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة(...)فان انتهى الى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة)1296ويخفف من هذه الصرامة ما سبق أن ذكرته في شرط العلم بالحديث ورجاله،في الاستفادة من وسائل العلم الحديثة في البحث.فلا يعذر المجتهد في ضبط ألفاظ ما عليه سيبني الأحكام.
ب العلم بأصول الفقه:
فقد ذكر ابن رشد ضمن شروط المجتهد في"البداية" تحصيله(صناعة أصول الفقه)1297غير أنه في "الضروري"لم يذكره صراحة ضمن الشروط المعتبرة في المجتهد.وإنما ألمح إليه بقوله:( أن يكون عارفا بالأصول التي يستنبط عنها،وأن تكون عنده القوانين والأحوال التي بها يستنبط)1298وقد فصل قليلا في الأصول بما سبق ذكره في العلم بالكتاب والسنة والإجماع،ولم يذكر من الآلات والقوانين والأحوال التي بها يستنبط سوى علم اللغة واللسان.وإن كان في كتابه ذكر أن الصحابة لم يكن لهم من حاجة إلى هذا العلم بشكله الاصطلاحي المدرسي كما عرفه من بعدهم وإنما يمارسونه بالقوة كحال الأعراب الفصحاء من غيرما حاجة(إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم)1299 .(1/301)
كما أنه من ناحية أخرى لا يكاد يعترف بمصطلح"أصول الفقه" علما على جميع محتوياته،فقد أقصى منه صراحة مباحث علم المنطق،ولم يجار الغزالي الذي(أداه إلى القول في ذلك نظر المتكلمين في هذه الصناعة)1300واعتبر إطلاق "أصول الفقه" على النظر في الأحكام،وفي أصول الأحكام،وفي الاجتهادوالتقليد. إنما هو تجوز في العبارة حيث( لقبوا هذه الصناعة باسم بعض ما جعلوه جزءا لها،فدعوها بأصول الفقه)1301 فأصول الفقه على الحقيقة عند ابن رشد هو ما تناوله في الجزء الثالث في كتابه:أي القول في النص والمجمل، والظاهر والمؤول،والألفاظ الخاصة،ودلالات الألفاظ بمفهومها، والأوامر والنواهي،والقول في القياس وفي الإقرار وفي الفعل.فهذه المباحث(وهذا الجزء هو الذي النظر فيه أخص بهذا العلم)1302.
وربما يكون قد استعاض عن ذلك كله بما ذكره في مقدمة الكتاب عن أهمية علم أصول الفقه حيث اعتبره سبارا وقانونا بمثابة البركار الذي يعصم المجتهد من الغلط وهو يتعامل مع العلوم الكلية كالأصول أو الفروع الفقهية.يقول في هذا الصدد بأن معرفة هذا العلم:( تعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن نحو الصواب في هاتين المعرفتين , كالعلم بالدلائل وأقسامها , وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا .وفي أي المواضع تستعمل النقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا.وهذه فلنسمها سبارا وقانونا, فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس في مالا يؤمن أن يغلط فيه)1303
وقد ذكر الامام الجويني قبله ما أجمع عليه العلماء من أوصاف تخص المجتهد .منها علمه بأصول الفقه.فقال: ( أن يكون عالما بطرق الأدلة ووجوهها التي منها تدل ،والفرق بين عقليها وسمعيها ويكون عالما بقضايا الخطاب ما يحتمل منه وما لا يحتمل، ووجوه الاحتمال والخصوص والعموم والمجمل والمفسر والصريح والفحوى.. والجملة الجامعة (...)أن يكون عالما بأصول الفقه)1304(1/302)
فبعلم الأصول يستبين مراتب الأدلة والحجج،فهو سراج ينير الطريق للفقيه،ومنهاج يدرك من خلاله مغزى الأحكام المستنبطة ،وأداة لإصدارها من جديد، فهو عماد الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركانه ،فعلم المجتهد بما عرض له الأصوليون من أسس وقواعد تهديه إلى النظر الصحيح والاستنباط السليم. وتجنبه الخطأ فيهما سواء أكان ذلك له سليقة كما كان الشأن في الصحابة الذين عرفوا هذه الأمور بنور البصيرة والفطرة أو كان بطريق الممارسة والمران، بما قد نما ونظم وقنن(فوجب أن نتعلمه حتى نصل الى ما كانوا عليه بطريق منظم ،وكما لا يستغنى اليوم عن علم النحو لا يستغنى عن علم الأصول)1305.
فالبحوث الموسعة عن الأدلة المتفق عليها من الكتاب والسنة والإجماع ، والمختلف فيها تجعله يقف على أمور مثل معرفة القياس: صحيحه وفاسده،ومسالك العلة وقوادحها،إذ (القياس قاعدة الاجتهاد والموصل الى الأحكام التي لا حصر لها)كما عبر عن ذلك الإ مام الأسنوي)1306،وقال عنه صاحب "البرهان"بأنه أحق الأصول بالاعتناء ومن أحاط به (فقد احتوى على مجامع الفقه)1307 كما أنه يعرف الإ ستحسان والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة والعرف وغيرها من الأدلة، التي اختلفت أنظار العلماء فيها،ويبحث وجهات النظر فيها ليصل بذلك الى حكم خاص به،فإما أن يعتبر حجية هذه الأدلة فيبني الأحكام عليها، وإما أن يلغيها فلا يعتبرها حجة ،فلا بد إذن من إدراك هذه الأصول بنفسه والنظر في كل مسألة نظرا مستقلا ،يصل فيها الى ما هو الحق فيها.(1/303)
ومن أتقن قواعد هذا العلم ومسائله وكان جامعا لوسائل الا جتهاد الأخرى فإنه يتمكن من استنباط الأحكام من أدلتها مباشرة،ومن أتقنه من غير توفر باقي الشروط، أمكنه مقارنة المذاهب في المسألة الواحدة ،وتعلم طرق استدلال أصحابها على مذاهبهم. فيحصل على ملكة الترجيح لأقوى الآراء دليلا وأوضحها نظرا، ويخرج من زمرة المقلدين الى اتباع الدليل،ومن تمر س بهذا العلم طويلا (مع الاتقان تتكون لديه القدرة على الحصول على أحكام بعض الوقائع بطريق التخريج على قواعد هذا العلم)1308.
ج- العلم بمقاصد الشريعة:
لم يذكر ابن رشد هذا الشرط بشكل صريح لا في "البداية" ولا في"الضروري"وإنما يمكن أن يفهم ويستنبط من بعض إشاراته وتلميحاته ومنها قوله في "البداية":( فلنفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن في الاشتغال بظواهر الشرائع تطرقا إلى الظلم)1309 فالكلام من خلال السياق موجه أساسا للحكام والقضاة ،وهو أمر لا يستغني عنه المجتهدون وخصوصا وأن هناك من اشترط رتبة الاجتهاد فيهم كما ذكر ابن رشد.ثم إذا طلب هذا الأمر فيمن يحكم في قضايا جزئية تهم أعيان الأفراد،كان طلبه فيمن يحكم في قضايا الأمة ومستجداتها أشد.
وهذا شر ط في -رأي من قال به -لصحة الاجتهاد واستقامته ، ويقصد بالمقاصد هنا: المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها ،أو هي الغاية من الشريعة ،والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها .(1/304)
ومعرفتها أمر ضروري للمجتهد عند استنباط الأحكام،وفهم النصوص. قال الإمام الشاطبي .(إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين ،أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها)1310وعلق الاستاذ عبدالله دراز على هذا الشرط في الهامش بأنه:(لم نر من الأصوليين من ذكر هذا الشرط الذي جعله الأول بل جعله السبب )أي كالخادم الأول لأن الأول هو المقصود والثاني وسيلة.
فإذا أراد المجتهد معرفة حكم واقعة من الوقائع احتاج إلى فهم النصوص لتطبيقها على الوقائع ،وإذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة، استعان بمقاصد التشريع،وإن دعته الحاجة إلى بيان حكم الله في مسألة مستجدة عن طريق القياس والاستصلاح أو الإستحسان ونحوها، تحرى بكل دقة أهداف الشريعة ،فالعلم (بمقاصد الشريعة في غاية الأهمية حتى لا يغلط فيها الغالطون ويجروا وراء الأحكام الجزئية مهملين المقاصد الكلية فيخلطون ويخبطون)1311.
وأقول:ليس هناك ما يمنع من إضافة بعض الشروط ظاهرا،إذا فهم غياب ذلك الشرط أو ضعفه في أهل ذلك الزمان،وكان موجودا ولو بالقوة فيمن سلف من مجتهدي الأمة ،قياسا على اشتراط العلم بالعربية واللسان فيمن ضعفت فيهم هذه الملكة مع مرور الزمن، وكذا اشتراط أصول الفقه كما سبق ذكره. فإضافة العلم بمقاصد الشرع و استحضارها أثناء عملية الاجتهاد،يناسب استقواء المذهب الظاهري بأمثال ابن حزم الذي ضخ دماء جديدة في هذا التيار، ويناسب إغراق المتأخرين في التفريع والجزئيات وخفوت الاشتغال بالكليات،وكذا استفحال آفة الحيل الفقهية والتلاعب بألفاظه.
د-معرفة الناس والحياة:
وهذا الشرط يشبه الذي قبله،فلم يذكره ابن رشد كغيره في الأغلب الأعم،وإنما يفهم من بعض تلميحاته وإشاراته ،مثل رفضه للآراء التي لا تستحضر المعطيات الواقعية وتبقى مفروضة في القول لا تقع بعد أو لاتكاد،مثل الحديث في حرمة لبن الرجل ولبن الميتة1312 وغيرها.(1/305)
وهذا الشرط مطلوب أيضا، ليكون الاجتهاد صحيحا واقعا في محله ،فلا يكفي في الاجتهاد الوصول الى معرفة الحكم الشرعي انطلاقا من التعامل مع النصوص وبالضوابط الأصولية السابقة. لأن (لعملية الفهم علاقة بكسب العقل البشري من العلوم والمعارف التي يكتسبها من خارج دائرة النص، وعلاقة بذات الواقع الزمني في أحداثه وتفاعلاته )1313 فالمجتهد لا يجتهد في فراغ، بل في وقائع تنزل بالأفراد والمجتمعات من حوله ،وهؤلاء تؤثر في أفكارهم وسلوكهم تيارات وعوامل مختلفة: نفسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية ،فمن لوازم الاجتهاد الاستيعاب المعرفي الشامل للواقع المجتهد فيه.
ولا يكون ذلك إلا بامتلاك آليات فهمه التي تتمثل من جهة في العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تساعد في فهم الواقع في جانبه الاجتماعي فيقف المجتهد على بنية الترابط الاجتماعي وطبيعة التنظيمات الاجتماعية ،ونوعية مشاكل البنية الأسرية .وفي الجانب الاقتصادي يطلع على نظام الإنتاج والتوزيع والاستهلاك ...وفي الجانب السياسي يعرف طبيعة الحكم (القائم ونظامه ومؤسساته ..وفي الجانب الثقافي يطلع على أنماط التعبير الفني وغيرها التي ينتهجها الناس في تصوير آمالهم وآلامهم وأفراحهم وأتراحهم ومعرفة الوضع الفكري والنفسي العام وطبيعة التيارات والأفكار التي لها نفوذ في المجتمع.
فيتحتم عليه معرفة قدر من علوم النفس والتربية والتاريخ والقوانين .. وقدرا من العلوم الكونية والمعارف "العلمية" التي تشكل أرضية ثقافية لازمة في زمانه إذ كيف يفتي في أمور يجهلها، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره .ولا يخفى أن الحد الأدنى في ذلك هو ضبط المجال الذي له صلة باجتهاده إن كانت في الطب سأل عنها أهل الاختصاص حتى يطمئن إلى إحكام جوانبها وكذلك الشأن في الاقتصاد وغيره.(1/306)
ثم لابد في جانب آخر من معايشة الناس والتعامل معهم والوقوف على مشاكلهم والمساهمة الواقعية في مناشطهم ،واستخدام أدوات الرصد والتحليل الممكنة والمتاحة في زمانه مثل الاستعانة بعلم الإحصاء، إذ من لا يعرفه لا يستطيع مثلا:( ترجيح رأي في الطلاق على رأي آخر باستقراء مدى النتائج التي تؤدي اليها فتواه وخطورتها وأثرها على سلامة الأمة واستقرارها وعلى سائر مصالح المجتمع)1314،كما أنه بغير علم الاقتصاد (لا يتمكن الناظر من تقرير رأيه في الحاجة للنفقات في قوانين الأحوال الشخصية أو في مداها فضلا عن الافتاء في الأوضاع والأحكام المالية في الدولةالاسلامية)1315
وبسبب من تبحر في الاختصاصات وتوسع في العلوم وتعقد في تركيب المجتمعات وتشابك في العلاقات لابد من التقدم باتجاه إقامة مؤسسات ومراكز للبحوث والدراسات تشمل أهل الاختصاص الأمناء من كل فن، إلى جانب المجتهدين ،لبناء العقل الجماعي المؤسسي الذي يمتلك نوافذ الرؤية من الجهات كلها وفي العلوم كلها، ووجود فقهاء المجتمعات وفقهاء التربية وفقهاء التخطيط وفقهاء استشراف أفاق المستقبل وفقهاء الحضارة عامة1316 ،من أجل تيسير سبل اجتهاد راشد فعال .
فوجود حفاظ للكتاب والسنة ومواضع الاجماع والعربية وأصول الفقه ومقاصد الشريعة، بغير علم بواقع الحياة ومعرفة بأحوال الناس مثل وجود صيادلة بغير أطباء .إذ قد لا يفيد (كثيرا كثرة الصيادلة ومعامل الدواء ،إذا انعدم وجود الأطباء، لأن ذلك قد يؤدي إلى وضع الدواء في غير محله فيهلك المريض من حيث يراد له الشفاء والنجاة)1317.(1/307)
ومن هنا يستغرب سكوت الأصوليين عن هذا الشرط إلا من إشارات عابرة في غير موضع الحديث عن شروط الاجتهاد، في حين أن الشافعي رحمه الله الذي يعتبر رائد هذا الميدان، لم يفته التأكيد على هذا الأمر ،غير أن إشاراته لم تلق نفس العناية التي حظيت بها باقي الشروط التي درست وأنضجت حتىكادت تحترق وأدخلت أحيانا في طور استحالة التحقق .
فهو يقول في "الرسالة"بالإضافة إلى ما صدرنا به حديثنا عن الشروط:(لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه)(3) فإذا كان هذا في قيمة درهم فكيف في مصير ثروات الأمة وأعراضها ومصالحها الكبرى ،بل إن الشافعي رحمه الله يشترط المتابعة الدائمة للتغيرات وتطورات الأمور إذ لا يقبل من الفقيه الذي غاب عن معرفة أحوال السوق سنة واحدة ،أن يفتي، فكيف بمن يغيب عن هموم الأمة دهرا ثم يطلع عليها بفتوى من بطون الكتب بغير أن يكون له أدنى إلمام بالواقعة التي يريد الحكم فيها .
يقول الامام الشافعي: (لا يجوز لعالم بسوق سلعة منذ زمان ثم خفيت عنه سنة،أن يقال له:قوم عبدا من صفته كذا وكذا لأن السوق تختلف،ولا لرجل أبصر بعض صنف من التجارات ،وجهل غير صنفه،والغير الذي جهل لا دلالة له عليه ببعض علم الذي علم :قوم كذا ،كما لا يقال لبناء :انظر قيمة الخياطة ! ولا لخياط انظر قيمة البناء )1318.فهو لم يورد هذا في معرض حديثه عن فروع فقهية، وإنما في معرض الحديث عن شروط الاجتهاد لكي تراعى في تنزيل الأحكام.(1/308)
وكذلك الشأن كان يوم ازدهار سوق الاجتهاد، حيث كانت اجتهادات الصحابة رضوان الله عليهم في خضم بنائهم لواقعهم الذي بلورته الفتوح، والاستفادة مما عند غيرهم من الأمم من فنون الادارة وغيرها من المستجدات. وكان أبو حتيفة يعيش حياة السوق في العراق، ويجادل الفرق في البصرة ،وجعل مالك من واقع الناس في المدينة أصلا تشريعيا ،وكان للشافعي مذهبان لم يكن دواعي اختلافهما في الأغلب الأعم سوى اختلاف الواقع بين العراق ومصر .وكان الامام أحمد مشاركا في الصراع الفكري الدائر حول "مسألة خلق القرآن"حيث سجل موقفا بطوليا في وقوفه في وجه تلك البدعة ..
وفي هذا السياق أفهم إدراج بعض الأصوليين لعلمي المنطق والكلام، ضمن شروط الإجتهاد باعتبارهما من بعض الوجوه من المكونات الفكرية والثقافية في الحضارة الاسلامية لمدة طويلة من الزمن ..وكانوا يرون في المنطق آلة قانونية تعصم الذهن من الخطأ في الفكر.ولا أحد يرى الآن ضرورة ذلك بل هناك من يدعو إلى تعويضه ب(مناهج البحث العلمي)1319.كما نفهم أيضا من بعض الوجوه اشتراط الإمام الشاطبي معرفة "علم المقاصد" استجابة لواقع اشتغل فيه الأصوليون بالمباحث اللفظية واشتغل الفقهاء بالأحكام الجزئية وغفلوا عن المقاصد وظهرت الحيل الفقهية ..فالذي يظهر أن بعض شروط الاجتهاد قد تكون متحركة تجب في زمان دون غيره وأخرى ثابتة منها مقاصد الشريعة التي بقيت على الدوام من لوازم الاجتهاد ولو بشكل ضمني بديهي.
هـ شروط مكملة في الفهم والاستنباط.(1/309)
يذكر العلماء بعض الشروط المفيدة في الفهم والاستنباط،ولعل مراعاة الشرطين الأخيرين: (المقاصد وأحوال الناس) ،يحقق شيئا من ذلك. فهم يشترطون أن يكون المجتهد، جيد الفهم، نير البصيرة، سليم التقدير ، ذا عقلية متهيئة لعلم استنباط الأحكام من الأدلة: أي على نصيب من الفطنة والذكاء وتوقد الذهن وجودة الملاحظة ورصانة الفكر وحضور البديهة ، وعموما ما يسميه البعض ب"فقه النفس" والذي (لا يتأتى كسبه، فإن جبل على ذلك فهو المراد، وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب)1320.ومن المكملات التي ذكرها بعض الأصوليين: معرفة الفروع الفقهية، باعتبار أن منصب الاجتهاد يحصل ـ كما يقول الغزالي ـ في زماننا بممارسته ،فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان ..)1321.
3-2-الشروط الشخصية :
أولا:البلوغ والعقل باعتبارهما مناطا للتكليف ومن لا يستقل بالنظر في مصالحه كيف ينظر في مصالح الخلق.
ثانيا: الاسلام فلا يعقل اجتهاد الكافر للمسلمين.
ثالثا: العدالة والتقوى:وهي شرط لقبول اجتهاد المجتهد وفتواه عند المسلمين، فإذا كانت العدالة مطلوبة فيمن يشهد على الناس في معاملات دنيوية جزئية ،فكيف بالذي يشهد على الله عز وجل أنه أحل أو حرم أو أوجب أورخص أو صحح أو أبطل .فالمطلوب من المجتهد تجنب جميع المعاصي القادحة في العدالة، وأن يتحرى الاخلاص وسلامة المسلك والعفة والورع وقول الحق والجرأة فيه.
نقل ابن القيم عن الامام أحمد أنه قال : (لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:أولها أن يكون له نية ،فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور والثانية:أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة والثالثة أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته والرابعة :الكفاية (أي من العيش)وإلا مضغه الناس ،والخامسة :معرفة الناس)1322 وأما أهل الفسق والعصيان فقلما يوفقون إلى صواب لأن الوحي (لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي إلا القلوب الطاهرة)1323.(1/310)
4-المجتهد بين المثالية والواقعية.
4-1:المجتهد ومسألة الخطأ والصواب:
وقع خلاف عريض في التصويب والتخطئة في الاجتهاد في المسائل الفرعية بين المصوبة الذين يقولون بأن كل مجتهد مصيب في اجتهاده، والمخطئة الذين يقولون إن المصيب في اجتهاده واحد من المجتهدين وغيره مخطىء.لأن الحق لا يتعدد .وأجمعوا على أن المصيب له أجران والمخطىء له أجر واحد لتحريه الصواب وطلبه إياه شرط توفره على الشروط وبذله الوسع.
وفصل البعض القول فذكر أن الوقائع الشرعية خمسة أقسام:
- ما فيه نص صريح فالمصيب فيه واحد.
- ما لا نص فيه ولكن يدل النص عليه ومهما تعين المطلوب كان مصيبه واحد.
- ما لم يتعرض له الشرع، وللخلق فيه مصلحة فالمصيب ما كان أصلح للعباد.
- ما ليس للشرع فيه حكم معين والآراء فيه متكافئة ومتساوية في الصلاح فكل مجتهد مصيب مثل اختلاف قسمة العطاء زمن أبي بكر وعمر.
- إذا كانت المسألة تدور بين نصين متعارضين فحكم الله فيه الأصلح إن كان معقول المعنى، أو الأخذ بالأشبه إذا لم يكن معقول المعنى،وإذا تساويا فكل واحد من القولين صواب.( فان المباحات كلها إنما سوى الشرع بين فعلها وتركها لتساويهما عنده في صلاح الخلق .وكذلك سائر أحكام السياسات وجميع مسائل تقابل الأصلين يكاد يكون من هذا الجنس إذ قلما يكون فيها ترجيح)1324.(1/311)
- وفائدة الخلاف بين المصوبة والمخطئة هو أن هذا الخلاف على المستوى النظري، يمكن أن يتحول على المستوى العملي والفعلي إلى تضافر الجهود لترشيد الاجتهاد في الفهم فيؤدي رأي المخطئة إلى المزيد من أسباب الحيطة وإفراغ الوسع في النظر لعدم السقوط في الاثم، ويؤدي رأي المصوبة الى رفع التهيب من الاجتهاد في الفهم والاستنباط ..وربما يكون هذا الموقف الأخير أجدى من الناحية العملية في تطوير مجال الاجتهاد، والملاحظ أن فكرة التصويب كانت أكثر رواجا عند الأقدم زمنا وفكرة التخطئة راجت عند المتأخرين ( لأنها أكثر تلاؤما في طبيعتها مع التقليد)1325.
4-2- المجتهد ومسألة تجزيء الاجتهاد:
قال ابن رشد بعد ذكرالشروط الواجبة في حق المجتهد (وهذه الشرائط بالجملة إنما هي في حق المجتهد بإطلاق الذي تمكنه الفتوى في كل نازلة ،وأما من لم تكن عنده كل هذه الشرائط ،وكان عنده بعضها ،وكانت المسألة المنظور فيها يكفي فيها ما عنده من تلك الشرائط ،جاز له الاجتهاد فيها .لأن نسبته الى هذه المسألة نسبة المجتهد بإطلاق لجميع المسائل)1326.يستفاد من النص أن ابن رشد من القائلين بأن الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام.
اذ يمكن أن يكون المجتهد مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره ،ويمكن أن يكون مجتهدا في باب من أبواب الفقه كالفرائض مثلا أو البيوع مقلدا في غيرها وهو مذهب جمهور الأصوليين بخلاف قلة منهم ذهبوا الى عدم جواز ذلك لأن
(المسألة في نوع من الفقه ربما كان أصلها في نوع آخر منه)1327.والراجح قول الجمهورمع الاحتياط للأمر بتوفرالقدرالضروري من شروط الاجتهاد أو بالأحرى ما يكفي في المسألة موضع البحث بحيث يتم استفراغ الوسع في دراسة المسألة دراسة مستوعبة بحيث يحيط بها من جميع جوانبها ومعرفة متعلقاتها في الأبواب الأخرى.(1/312)
وهو المناسب في مثل ظروفنا الحاضرة حيث فتور الهمم وتشعب العلوم،بل هو النافذة التي استطاع بها العلماء تخفيف غلواء ادعاء الكثيرين من المقلدة سد باب الاجتهاد ،نزولا تحت عامل الضرورة أو الحاجة التي تصادف العلماء في كل زمان للإفتاء في حكم الحوادث المستجدة.. كما أن تجزؤ الاجتهاد يشبه ما عرفه عصرنا من أنواع التخصص الدقيق الذي تتقدم به العلوم فنجد في القانون مختصين في الجانب المدني والجنائي والاداري أو الدولي...
فمما يناسب واقعية الاسلام أمام ندرة المجددين الكبار الجامعين لشروط الاجتهاد المطلق وقبول ثمرات الاجتهاد الجزئي القائم على أسس علمية ومنهجية سليمة.ولعل في بعض أطروحات الدراسات الجامعية العليا، لونا من هذا الاجتهاد الجزئي ،بحيث يقصد فيها دراسة موضوع أو قضية معينة ،واستيعابها من كل جوانبها وبيان الحكم فيها (وكثيرا ما تؤدي إلى نتائج علمية لها قيمتها عند أهل الذكر)1328 .
وفي إمكان المتخصصين من مختلف العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المتمكنين دراسة ما يتعلق بتخصصهم في الفقه الإسلامي والمصادر الإسلامية - دراسة مستوعبة - والخروج باجتهادات في تلك المجالات ..ولا يمكن النجاح بشكل أكبر إلا بإزالة هذه الثنائية بين كليات الشريعة والدراسات الاسلامية من جهة والكليات القانونية والاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى وذلك بأسلمة هذه العلوم وتفريع الفقه الاسلامي الى تخصصات تتعمق في الجانب الشرعي والانتاج البشري على السواء، حتى نخرج من أزمة أبرز معالمها وجود من يفهم الخطاب الإلهي ولكن لديه قصور في ادراك آليات فهم الواقع. ووجود من يدرك آليات فهم الواقع ولكن يجهل دينه وشريعة ربه ،ومنهم من لا يومن بالخطاب الإلهي أصلا أو لا يرى له دخلا فيما هو فيه جاهلا بشموليته لكافة نواحي الحياة..
4-3 المجتهد المعاصر ومسألة تيسير الاجتهاد.(1/313)
قال ابن عبد السلام (في كتابه شرح "مختصر ابن الحاجب":إن رتبة الاجتهاد مقدور على تحصيلها (...) ومواد الاجتهاد في زماننا أيسر منها في زمان المتقدمين لو أراد الله بنا الهداية)1329.وكذلك قال العلماء بعده فهذا محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي بعده بقرون يقول :(واعلم أن مواد الاجتهاد اليوم في القرن الرابع عشر أيسر مما كان في زمن الأبي وابن عرفة ومن قبلهما بسبب أهل الفضل الذين اعتنوا بالمطابع ،وطبعوا الكتب المعينة على الاجتهاد(...) فقد وجدت كتبا كانت أعز من بيض الأنوق ..)1330
وأقول :قد أصبحت طرق الاجتهاد أيسر بعد وفاة الحجوي رحمه الله سنة (1376هـ) ونحن في عام 1427ه حيث ظهر كثير مما كان خافيا من كتب السابقين ،وحقق كثير مما لم يكن محققا من كتب الحديث والتفسير والفقه المذهبي والفقه المقارن والأصول وغيرها ،وتطورت أكثر أدوات مساعدة مثل أجهزة النسخ والتصوير وأهم منها الخازن أو المنظم أو الحافظ العجيب "الحاسوب"الذي يسهل جمع العلوم الإسلامية من حديث وفقه وغيره وتصنيفها وتسهيل عملية استحضارها في كل حين،وظهور الأقراص المدمجة التي تحوي الآلاف من المصنفات1331.والتطور الهائل في الشبكة العنكبوتية المعلوماتية (الإنترنت) فلو أخذنا برنامج بحث واحد فيه مثل:كوكل (google ) فإنه يبحث في ثوان معدودة في أكثر من أربعة ملايير صفحة.والتطور آخذ في ازدياد مستمر في هذا المجال.
فالعلوم التي يحتاجها المجتهد متوفرة، والمعارف الضرورية يمكن الحصول عليها في أقل زمن وبأيسر جهد ،كما أن القواعد الأصولية نوقشت بما يبعث على الاطمئنان، ومعظم المسائل تحدث فيها السابقون وأفتى فيها العلماء ولم يبق في الغالب للمجتهد إلا اختيار ما يناسب الزمان.(1/314)
كما أن الضروري من العلوم الحديثة لفهم الواقع ميسر التناول، وترجيح القول بتجزؤ الاجتهاد وشيوع مبدأ التخصص يسهل الأمر أكثر. فمن عكف على فقه الأسرة أو الأحوال الشخصية وتفرغ له وأتقنه ونفذ الى أعماق مسائله وجمع ما يتعلق به رواية ودراية وفتاوى وأقوال، سهل عليه أمره من غير شك وكذلك الشأن في المعاملات المالية والجوانب الاقتصادية والجنائية وغيرها1332.كما يمكن بسهولة الاطلاع في أي تخصص على جزء مهم من الإنتاج البشري لغير المسلمين في المجال لأخذ ما هنالك من حكمة.
والقيام بمقارنات والوقوف على أوجه الباطل وما تفعله الأهواء بالناس حتى يتجنب ذلك ويظهر بإزائه روعة التشريع الرباني،فقد تيسر أمر الترجمة التقريبية في عدد من المواقع الاليكترونية حيث تعطيها نصا مهما بلغ حجمه في اللغة الإنجليزية مثلا فتعطيك في زمن لا يكاد يذكر ترجمته الأولية إلى اللغة العربية..(1/315)
وسيزداد الأمر سهولة إذا تصدى أولياء الأمور لتقنين (نهضة العلم والفكر بتنظيم وتيسير التأهيل والاجتهاد، وتأسيس معاهد للبحث، بدلا من أن يترك كل متعلم يحاول التحصيل، لا سيما أن مدى ما ينبغي الإحاطة به من علوم التراث والعصر أصبح معجزا للفذ من العلماء )1333وكذلك الشأن إذا نظم الاجتهاد الجماعي بضابط الشورى والسلطان1334المنبثق عن الأمة بالحق والاختيار.وللجامعات ما تستطيع فعله بأيسر جهد: وذلك بتوجيه الطلاب عموما وطلاب الإجازة على وجه الخصوص بإشراف الأساتذة،إلى إنجاز أعمال تفيد الباحثين وعموم الأمة:مثل المعالجة المعلوماتية للبحوث المتوفرة في مختلف الكليات،وكذا ما تيسر من مختلف أنواع الكتب القديمة والحديثة، وذلك لتيسير سبل البحث وحدوث تراكم معرفي وتجنب تكرار الجهود، فيسهل على الراغب في اختيار موضوع البحث الإطلاع على الموجود أولا وتسير الاستفادة منه بعد ذلك.كما أن الجامعات يمكنها من الآن، أن تطالب جميع الباحثين بتقديم أعمالهم في أقراص مدمجة إلى جانب ما يضعونه من نسخ مطبوعة.وذلك لإغناء بنك معلوماتها وخزانتها الإلكترونية وموقعها العلمي على شبكة(الإنترنت).
فليس أمام المعاصرين الا تمزيق الران الذي خيم على العقول والقلوب من رواسب الماضي وآفات الخمول والظن بعدم إمكان الوصول الى ما وصل اليه الأولون مع عدم نسيان فضلهم والتواضع أمامهم واخلاص الدعاء لهم .
ذلك أن عمل المتقدمين -وكما يقول محمد بن إبراهيم بن علي الوزير(ت840ه) في كتابه(القواعد في الا جتهاد)- هو:(بمنزلة من استخرج العيون العظيمة واحتفروها.وشقوا مساقيها وأمروها في مجاريها.والمتأخر بمنزلة من نظر في أيها أعذب مذاقا وألذ شرابا وأبرد في الصدور وأهنى وأخف في الطبع وأمرأ.فلا يعجب من تيسر الاجتهاد وسهولته عليه، ويظن أن ذلك لفرط ذكائه وعلو همته .وليعرف أنه بسبب سعي غيره، قرب منه البعيد وسهل عليه الشديد.فليكثروا لهم الدعاء)1335
الفصل الثاني(1/316)
مستويات وشروط
تربية ملكة الاجتهاد
المبحث الأول
مستويات تربية ملكة الاجتهاد
1 مستويات تربية ملكة الاجتهاد:
-التربية في أبسط معانيها تعني (إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام )1336.
-أما الملكة في اللغة :فأصلها من ملك الشيء يملك ملكا:حازه وانفرد بالتصرف فيه،يقال ملك العجين :يملكه ملكا وأملكه:عجنه فأنعم عجنه وأجاد1337،واِلملْك: احتواء الشيء والقدرة على التصرف فيه والاستبداد به، ويملك نفسه: أي يقدر على حبسها عما لا ينبغي، وكل من يملك فهو مالك،ومالك الدار:صاحبها وربها، ومالك الناس :ربهم والمتصرف بالأمر والنهي فيهم.ومالك يوم الدين: الله ( يملك إقامة يوم الحساب،وهو الملك يوم الدين.
فالجانب اللغوي يفيد التملك والإجادة والإحتواء على الشيء والقدرة على التصرف فيه.
-وأما في اصطلاح العلماء: فالمعنى غير بعيد عن الأصول اللغوية، يقول الجرجاني:(الملكة صفة راسخة في النفس)1338 فقوة التملك للعلم والصنعة ورسوخها في أعماق القلب والنفس والعقل، جعلها وكأنها صفة لازمة، وقريب من هذا التعريف ، يقول صاحب كشف الظنون: (والملكة كيفية راسخة في النفس لا تزول بسرعة)1339
-فالملكة شيء زائد على مجرد جمع العلوم والمعارف،وإن كان جمعها وتحصيلها من لوازمها وشروطها وأسبابها، فحصول الملكة كما يقول صاحب أبجد العلوم:( متوقف على جمع تلك العلوم ولا يلزم من جمعها حصولها لأنها كالآلة مثل آلة النجار فإنه قد يعرف كيفية النجارة ويتصورها ويجمع آلاتها ولا يمكنه أن يحكم الصناعة كلية)1340.
-والملكة أكثر من مجرد فهم العلم ،يقول مصطفى بن عبد الله القسطنطيني:(واعلم أن الحذاقة والتفنن في العلم والاستيلاء عليه إنما هو بحصوله الملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله وهذه الملكة هي غير الفهم)1341(1/317)
-فالملكة مستوى متقدم في مراتب العلم، والعلم يطلق على مجموع: المسائل والمبادئ التصورية والمبادئ التصديقية والموضوعات ،فهو يطلق (كما يقال: فلان يعلم النحو، وتارة على التصديقات بتلك المسائل ، وتارة على الملكة الحاصلة من تكرار تلك التصديقات، أي:ملكة استحضارها وقد يطلق الملكة على التهيؤ التام وهو أن يكون عنده ما يكفيه لاستعلام ما يراد)1342 فلا يحصل العالم على الملكة بمجرد استحضار ما تعلمه وتكرار ما قيل قبله ،كما الشاعر لا يسمى كذلك ولا الأديب، بمجرد حفظ الأشعار والنصوص مهما بلغت في الكثرة ما لم ينتقل إلى مرحلة الإنتاج والتصرف المبدع في مجاله،ومواجهة الحالات الطارئة والجديدة بما يناسبها. ولا يعتبر ذا شأن في مجاله حتى يحصل:( ملكة نفسانية يقتدر بها صاحبها على النظر في الأحوال العارضة لموضوع ما من جهة ما بحيث يؤدي الى الغرض)1343.
فكما هو مشاهد ومعلوم،فالعلماء ليسوا على مرتبة واحدة في نفس العلم، وإن عدوا من رجاله،فمنهم:( من له في العلم ملكة تامة ودربة كافية وتجارب وثيقة وحدس صائب وفهم ثاقب، فتصانيفهم عن قوة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رأي)1344ومنهم دون ذلك.
-والملكة عقل مزيد وثمرة للتعمق في العلم ، يقول صاحب كشف الظنون:( فثبت أن كل نوع من العلوم والنظر يفيدها عقلا مزيدا وكذا الملكات الصناعية تفيد عقلا والكتابة من بين الصنائع أكثر افادة لذلك (...) فهو ينتقل من دليل الى دليل وتتعود النفس ذلك دائما فتحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلول وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب به العلوم المجهولة فيحصل بذلك زيادة عقل ومزيد فطنة وهذا هو ثمرة التعلم في الدنيا)1345 وهي (تعين الشخص على سرعة البديهة في فهم الموضوع وإعطاء الحكم الخاص به، والتمييز بين المتشابهات بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر وغير ذلك.)1346.
-كيف السبيل إلى الملكة؟(1/318)
قال الجرجاني مباشرة عقب تعريفه السابق للملكة:(وتحقيقه: أنه تحصل للنفس هيئة ،بسبب فعل من الأفعال. ويقال: لتلك الهيئة: كيفية نفسانية وتسمى: حالة، ما دامت سريعة الزوال. فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها، وصارت بطيئة الزوال، فتصير ملكة. وبالقياس إلى ذلك الفعل عادة وخلقا)1347
وقد أفاد طريقة تكونها وتمكنها في النفس بحيث لا تحدث فجأة،وإنما تحصل بالتدرج والممارسة والتكرار حتى تصبح راسخة وكأنها جزء من النفس بحيث تكون لها عادة وخلقا لا تتكلفها كما الأمر عند البدايات.
فلا يصبح الأمر ملكة حتى يصدر عن صاحبه في يسر وسهولة،وأما مع الصعوبة والعسر ففيه مؤشر على التكون وعدم الاكتمال،فالخلق مثلا لا يعتبر طبيعة للنفس حتى يصير(ملكة يصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير فكر وروية)1348
- فالملكة قد يجتمع فيها ما هو طبيعي جبلي والآخر عادي يكتسب ،فالأول يكون بها الشخص في (أصل الفطرة مستعد لكيفية خاصة كامنة بحيث يتكيف بها بأدنى سبب(...) وأما العادية فهي أن يزاول في الابتداء فعلا باختياره، وبتكرره والتمرن عليه، تصير ملكة حتى يصدر عنه الفعل بسهولة من غير روية )1349(1/319)
- السعي لتحصيل الملكة موقوف على الأخذ والتعلم والتمرن والتدرب والممارسة والمخالطة الشديدة للعلم ،سئل ابن القيم رحمه الله، هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟ فقال:( هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعرف ذلك: من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بدمه ولحمه، وصار له فيها ملكة واختصاص شديد، بمعرفة السنن والآثار ،ومعرفة سيرة رسول الله ( ،وهديه :فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه ،ويشرعه للأمة. بحيث كأنه مخالط للرسول ( كواحد من أصحابه الكرام، فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول ( وهديه وكلامه وأقواله وأفعاله، وما يجوز أن يخبر عنه وما لا يجوز، ما لا يعرف غيره وهذا شأن كل متبع مع متبوعه فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح، ما ليس لمن لا يكون كذلك وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون من أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم وأساليبهم ومشاربهم ما لا يعرفه غيرهم)1350
ومن المخالطة الشديدة للعلم والتعمق فيه، اعتماد المصنفات الأصيلة التي تعتمد التوسع في الفن المطلوب وتقصد استيعابه وذلك (لكثرة ما فيها من التكرار والاطالة المفيدين لحصول الملكة التامة )1351
-الملكة تحصل بكثرة الشيوخ والمباشرة والتلقين والرحلة في طلب العلم،جاء في كشف الظنون:(إن الرحلة في الطلب مفيدة وسبب ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه من المذاهب: تارة علما وتعليما وإلقاء ، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات على المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكة ورسوخها)1352.(1/320)
-ومجرد الحفظ وتكرار العلم من غير عمق في الفهم لا يعطي ملكة فيه لا بد من المناقشة والمطارحة وتبادل الرأي فيما يتم تحصيله مع أهل الفن،لأن (مطارحة ساعة خير من تكرار شهر)1353.يقول صاحب كشف الظنون:( من كان عنايته بالحفظ أكثر من عنايته الى تحصيل الملكة لا يحصل على طائل من ملكة التصرف في العلم ولذلك ترى من حصل الحفظ لا يحسن شيئا من الفن وتجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر ومن ظن أنه المقصود من الملكة العلمية فقد أخطا وانما المقصود هو ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال من الدوال أو المدلولات ومن اللازم الى الملزوم وبالعكس فان انضم إليها ملكة الاستحضار فنعم المطلوب)1354.
- ويعتقد بعض العلماء أن الملكة بحسب ما يحصل أولا، أي أن فراغ النفس يساعد على تمكن ورسوخ ما سبق إليها من ملكات ويمثلون لذلك باللغة (فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة صار مقصرا في اللغة العربية لان الملكة إذا تقدمت في صناعة قل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى)1355.
-الملكة فضل من الله (:وما يهم الراغب في تحصيل الملكة،هو الجد وبذل الوسع والطاقة،وإتيان أسباب الملكة من غير تعلق بها،أو اغترار.وإنما هو تعلق بخالق الأسباب، حتى يجود بكرمه وتوفيقه وسداده.ويتأكد هذا في الملكات التي لها تعلق بالدين وسوق الآخرة( فالعالم قد يجمع جميع العلوم وتحصل له تلك الكيفية التي هي الملكة، ولا يمكنه العمل بتلك الملكة، أو يمكنه العمل في بعض ولا يمكنه العمل الكامل(...) فهي عطايا وحظوظ، وقد عثر المتأخر على أدلة قد عجز عنها الأوائل وصنع في التصانيف مالا يقدر عليه الأماثل وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)1356
-عوائق تحصيل الملكة:(1/321)
وهي نفسها عوائق تحصيل العلم،يضاف إليها أضداد ما سلف ذكره من الطرق الموصلة إلى الملكة.فكما يقول صاحب كشف الظنون:( واعلم أنه على كل خير مانع وعلى العلم موانع: منها الوثوق بالمستقبل، والوثوق بالذكاء،والانتقال من علم الى علم قبل ان يحصل منه قدر يعتد به، أو من كتاب الى كتاب قبل ختمه،ومنها طلب المال أو الجاه، أو الركون إلى اللذات البهيمية، ومنها ضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال، ومنها إقبال الدنيا، وتقليد الأعمال، ومنها كثرة التآليف في العلوم، وكثرة الاختصارات فإنها مخلة عائقة)1357
ويقصد بالوثوق في المستقبل طول الأمل، وعدم العناية بمرور الزمن وتأجيل الأعمال حتى تنقطع عليه بالمرض أو الهرم أو غيرها من العوارض والموانع.وأما الوثوق بالذكاء: فيعني الغرور المانع من الاستزادة والتواضع في الطلب حتى يحصل المقصود،كما أن الانقطاع عن العلم وعدم إتمام كتبه ومبادئه وأصوله،إذا كان يحرم صاحبه من مستويات دنيا منه ،فمن باب أولى أن لا يشم رائحة الملكة فيه.ولا يهم بعد ذلك بأي سبب كان الانقطاع من مال أو منصب أو غيره.ثم ذكر من العوائق كثرة التصانيف وتشعب العلوم مما يبعث هيبة في النفوس،وضعف الأمل في الإحاطة بجوانب العلم مما يغري بالانصراف عنه.وأما المختصرات فلكونها تحرم الطالب- إذا هو وقف عندها-من بسط المعرفة وتكرارها وكثرة الأمثلة والبيان الموصل إلى الملكة التامة.
-ملكة الاجتهاد:
وهي صفة راسخة في النفس وقوة ذهنية يقتدر بها على طلب حكم شرعي في النازلة حيث يوجد ذلك الحكم .
أي القدرة على تحصيل الدليل أو الحجة لحكم شرعي، والتي لا يمكن أن تحصل إلا من معرفة علوم معينة، وعبر مراحل ومستويات مختلفة، وبالتعمق فيها على نحو يكون لواجدها رأي غير صادر عن تقليد.يقول صاحب أبجد العلوم عن تحصيل الملكة الفقهية بأنها لا تتم إلا:( بمخالطة الفقه وتنظيرالمسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول)1358(1/322)
فملكة الاجتهاد منحة إلهية وفتح رباني، جعلها الله تعالى قدر من حصلت فيه شروط ذاتية وأخرى موضوعية ،وثمرة لأمور غير مكتسبة (كالعقل والبلوغ)وأخرى مكتسبة للجهد فيها حظ وافر.
-معنى ملكة الاجتهاد عند ابن رشد:
لم يستخدم ابن رشد مصطلح "ملكة" لا في"البداية"ولا في "الضروري"ووجدت عنده حديثا عن الملكة في شرحه لرسالة النفس لأرسطو حيث يقول:( والعقل الذي بالملكة هو المعقولات الحاصلة بالفعل فيه إذا صارت، بحيث يتصور بها الإنسان متى شاء، كالحال في المعلم إذ لم يعلم، وهو إنما يحصل بالفعل على تمامه الآخر، وبهذه الحال تحصل العلوم النظرية ) وهو معنى عام يرتبط بالجانب الاصطلاحي في عرف المستعملين له من العلماء وغير مرتبط بشكل مباشر بالاجتهاد.
والشيء القريب -حسب ما أرى-من مصطلح الملكة عند ابن رشد هو استخدامه لكلمة ذوق حيث يقول:( وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون وربما كان الذوقان على التساوي ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس كل مجتهد مصيب)1359
وقوله أيضا في موضع آخر:( واختلف قول مالك في إجازة السلف والشركة فمرة أجاز ذلك ومرة منعه وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافهم بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منها منعها ومن لم تقو عنده أجازها وذلك راجع إلى ذوق المجتهد لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء عند النظر فيها ولعل في أمثال هذه المواد يكون القول بتصويب كل مجتهد صوابا)1360(1/323)
فالذوق في المجال المعنوي لا يحصل عادة بغير وجود الملكة، وكأنها درجة عليا فيها،يقول صاحب أبجد العلوم:(اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان)1361 فإذا انتقلنا في مجالنا الذي نحن فيه مع ابن رشد،نقول عن الذوق بأنه حصول ملكة الاجتهاد للعالم بالكتاب والسنة وأحوال الناس.
تحصيل ملكة الاجتهاد:
إذا كان الاجتهاد بذلا للوسع والطاقة لنيل الحكم الشرعي ،فالوصول إليه ونيل مرتبته لا يكون إلا لمن بذل وسعه وطاقته. ويختلف الناس في مستوياته حسب ما يبذلون، ويقبل منهم عند الله وعند الناس حسب تحريهم للإخلاص والصواب.
فملكة الاجتهاد حصيلة صيرورة متنامية، تنشأ حالا فحالا إلى حد التمام والكمال المقدر لها ،ويمكن أن تبدأ إرهاصاتها وبوادرها من الصبا المبكر1362 ،كما يمكن وضع خطط على المدى البعيد للوصول إليها ،تتخللها خطط قصيرة تسلم كل مرحلة إلى التي تليها .. فهذا الإمام الشاطبي يرى أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه ثلاثة أحوال:
أولها:أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ ويبحث عن أسبابه، وذلك بشعوره بسر وحكمة ما حصل ويكون ذلك بصفة إجمالية ..
ويوجه المعلم إلى إعانة هذا الطالب بما يليق به في هذه الرتبة :بأن يرفع عنه الأوهام والإشكالات التي تعرض له في طريقه ،ويهديه إلى مواقع إزالتها في السير على حسب مستواه مثبتا قدمه ورافعا وحشته ومؤدبا له حتى يتسنى له النظر والبحث عن صراط مستقيم .فهذا الطالب حين بقائه هنا ينازع المواد الشرعية وتنازعه ويغالبها وتغالبه طمعا في إدراك أصولها والاتصال بحكمها ومقاصدها فهي لم تتخلص له بعد.
ولهذا يرى الشاطبي بأن من كان هذا حاله لا يصح منه الاجتهاد في ما هو ناظر فيه، لأنه لم يتخلص له مستند الاجتهاد ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه .(1/324)
ثانيها: أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه اليه البرهان الشرعي، بحيث يحصل له اليقين ولا يعارضه الشك بل إنه يتعجب من المتشكك في محصوله.
ويزيد عبد الله دراز في الهامش في تفصيل هذا المستوى من التحصيل المفضي إلى درجة الاجتهاد-إذا استمر صاحبه في الطلب حيث يترقى هذا الطالب في
إدراك مقاصد الشريعة وأصولها، حتى يصير تعلقه بتلك الكليات وكأن محفوظاته من النصوص الجزئية والقواعد الشرعية، غابت عن حافظته،وإن كانت في الواقع لا تزال عنده،إلا أن همته منصرفة إلى التعويل على كليات المقاصد وأصول الشريعة، حتى إنه لا يبالي في استنباطه الحكم :أنص على دليله الخاص أم لا ؟ بل لو نص على دليل خلافه لكان حكمه عنده مقتضى الكليات ولو خالفت النص لأنه لم يصل بعد إلى ملاحظة الخصوصيات مع الكليات.
وقد تردد الشاطبي فيمن هذا حاله، باعتبار أن الكليات الشرعية لم تنتظم له الا من التفقه في الجزئيات والخصوصيات، فثبت من جهة أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدا من الاستنباط والاجتهاد ،غير أن هناك من منع بحجة (أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس ) كما أن لكل باب ما يليق به فمثلا:النكاح لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات من كل وجه. كما أنه لا يسوغ أن يجرى مجرى الهبات والنحل من كل وجه ..وكذلك الشأن في استحضار خصوصيات المكلفين. ولهذا فالراجح أن من كان هذا حاله أن لا(يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله).(1/325)
ثالثها: أن يخوض فيما خاض فيه المجتهدون من أهل الرأي والحديث ، ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية.فهو يتبحر في الاستبصار بطرف دون أن يصده عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر،ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين (فلا يكونون عنده سواء بل كل وما يليق به ) مع استحضار المقصود الشرعي في كل الجزئيات .
وهذا الذي عنده إلمام بالنصوص والمقاصد وأحوال المكلفين لا خلاف في صحة الاجتهاد منه ويسمى ( صاحب هذه المرتبة الرباني والحكيم والراسخ في العلم والعالم والفقيه والعاقل لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره ويوفي كل أحد حقه حسب ما يليق به وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه ،وفهم عن الله مراده)1363 فهو يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص، إن كان له في المسألة حكم خاص. كما أنه ينظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات .
ولا شك أننا مع الشاطبي هنا نعيش مع ملكة الاجتهاد وكيف تكتمل وتتبلور من حفظ النصوص إلى محاولة فهمها إلى استحضار المقاصد الشرعية إلى معرفة أحوال المكلفين وفقه تنزيل الأحكام الشرعية وهي مراتب يخدم بعضها بعضا ويفيد بعضها بعضا .
وهذا ابن خلدون وهو يستعرض وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته يبين أن الملكة لا تحصل دفعة واحدة وانما تمر قبل اكتمالها بثلاث مراحل:
الأولى: ملكة جزئية وضعيفة غايتها فهم الفن وتحصيل مسائله: وهي تحصل
بإعطاء مسائل من كل باب من الفن حيث تكون بمثابة أصول ذلك الباب، يقوم المدرس بشرحها على سبيل الإجمال مراعيا المستوى العقلي واستعدادات المتعلم.
الثانية: ملكة متوسطة تجود وتتحسن:بالرجوع إلى الفن ثانية، وتناوله بمستوى أعمق من الأول باستيفاء الشرح والبيان والخروج عن الإجمال وذكر أوجه الخلاف إلى آخر أبواب الفن .(1/326)
الثالثة : ملكة تامة:وتحصل بالرجوع إلى الفن للمرة الثالثة:( فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته )1364.
فعلى رأي ابن خلدون إذا تدرجنا مع المتعلم في الفنون التي اشترطها العلماء في المجتهد، فإننا نصل به إلى امتلاك ملكة الاجتهاد .وهذا الرأي هو الذي حاول الإمام الشوكاني تطبيقه في خطته التربوية لتكوين المجتهدين ووضع برنامج للمتعلمين .فإذا استثنينا طبقة المختصين في ميدان الشعر والأدب والفلسفة والطب والهندسة وغيرها واستثنينا عموم العوام الذين ينتقل إليهم المعلمون الصالحون: يأمرونهم بالمواظبة على الصلاة في أوقاتها، ويعلمونهم سائر الفرائض
التي أوجبها الله عليهم،فإننا نجد الإمام الشوكاني يقسم طلبة العلوم الشرعية إلى ثلاث طبقات:
طبقة دنيا: تطلب العلم إلى مستوى معين مع الاستعانة بسؤال أهل العلم عند الحاجة.
الهدف: إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم، بحيث يتمكنون من فهم ما يحتاجون اليه من أمور الشرع. ويشبهها بما كان عليه جل الصحابة رضي الله عنهم، حيث كانوا يسألون أهل العلم منهم عن حكم ما يعرض لهم مما يحتاجون إليه من غير تقليد واحد بعينه .
طبقة متوسطة :تطلب العلم بأمور الشريعة على وجه يستقل أصحابها فيه بأنفسهم، ولا يحتاجون إلى السؤال عن أمور دينهم، ولكنهم لا يبلغون إفادة غيرهم.
الهدف:يصير أصحابها مستقلين ومستغنين عن غيرهم،حيث تكمل فيهم ملكة التعلم الذاتي ،ويقدرون على البحث فيما يعرض لهم من قضايا ومشكلات. غير أنهم يصعب عليهم النظر في المستجدات التي لم يسبق النظر فيها من غيرهم.
وهؤلاء يمنعون من العمل بغير دليل وعليهم البحث في كل حادثة يحتاجون إلى حكمها عن أقوال أهل العلم وكيفية استدلالهم في تلك الحادثة وما قالوه وما رد عليهم به فإنهم ينتفعون بذلك انتفاعا كاملا .(1/327)
طبقة عليا: تطلب العلم بهمة عالية، ورغبة قوية في تحصيله، ولا تقنع بالدون.وتقتحم مشكلات العلم وتفاصيله وأوجه الخلاف فيه وأدلته وأصوله ما يمكنها من النظر فيه كما نظر السابقون من أهل الرأي والاجتهاد.
هدفها: أن يكون أصحابها عند تحصيلهم للعلم مرجعا يستفيد منهم العباد والبلاد .وهذه أرفع الطبقات مكانة وهم علماء الغد ورجال المستقبل في مسائل الشريعة والطبقة المجتهدة والتي تعتبر في المنزلة الأولى عند الشوكاني1365 .
وهكذا يبني الشوكاني هرما اجتهاديا: قاعدته عوام يحسنون التطبيق والامتثال، ثم يبدأ الهرم بطبقة تحسن الفهم والسؤال، تليها طبقة مكتفية تستقل بالبحث لنفسها وتعرف أوجه الدليل وقاصرة عن الافتاء والحكم في أمور غيرها من الأفراد والمجتمع ،ثم يتربع على قمة الهرم أهل الاجتهاد والاستنباط والحكم في أفعال المكلفين بمنهج الله (وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه )1366 .
وإذا جاز لنا نظريا تفتيت ملكة الاجتهاد أو الحديث عن أطوارها ومكوناتها قبل الاكتمال ،فيمكن أن نتصور تربيتها في كل مرحلة بما يناسبها حسب الوسع والطاقة. ونطلق تجاوزا كلمة الاجتهاد على جزء منه من باب إطلاق العام على الخاص مفترضين الانطلاق منه لبلوغ غايته .
فنتحدث مثلا عن تربية ملكة اجتهاد التطبيق، وتربية ملكة اجتهاد الفهم والسؤال، وتربية ملكة الاجتهاد للاستقلال بالنفس، ثم تربية ملكة الاجتهاد بمعناه المطلق.تماما كما يتحدث أهل "دراسة الإبداع"1367 وتربيته،عن مستويات لتنميته وتربيته.فيطلقون إبداعا على ما ليس في الحقيقة كذلك.لأن الإبداع عند الطفل مثلا يختلف عنه لدى الناضجين فهو وإن كان ما ينتجه ليس جديدا في ذاته،ولكنه يسمى إبداعا بالنظر إلى سنه أو رفاقه أو طبيعة الامكانات المتوفرة وشروط الإنتاج وغير ذلك،بل وحتى إذا كان جديدا عليه وحققه بطريق مستقل.(1/328)
فنجدهم يتحدثون مثلا عن الإبداع التعبيري الذي ينطوي على شيء من التعبير المستقل،مثل الرسوم التلقائية وغيرها.ويعتبرون منح الطفل فرص الإنتاج العفوي ونزعة الاستقلال فيه،يمكن أن يجعل ذلك منه وغيره إنسانا مبدعا فيما بعد.ويعتبرون أي فعل من قبل التلاميذ والطلاب تم بطريقة استكشافية،أو أعيد بناؤه بناء جديدا،وحضور الجهد الشخصي شيئا ما في الإنتاج،يعد كل ذلك فعلا إبداعيا.
كما يعتبرون ظهور مؤشرات:الاستقلالية وحب الاطلاع والحيوية وسعة الخيال وخصوبة التصور والاتجاه نحو النشاط والبحث، والرغبة الملحة في النجاح والتميز كلها خصائص أولية لأي فعل إبداعي أصيل.
فالطالب مثلا: في الدرس الأصولي إذا استخرج علة أو عرف أصلا لفرع، أو قسم أوصاف العلة ،واستخرج المناسب منها بطريقة تختلف عما هو موجود في المادة الدراسية، أو عما يقدمه الأستاذ، فيمكن اعتبار هذا العمل اجتهادا وإبداعا وإن كان غير جديد على العلم والعلماء .
فظهور مثل هذا (الاجتهاد) يكون منبئا ومؤشرا لاجتهاد لاحق حقيقي، فالاهتمام بالدرس الأصولي وإعادة التمرس على ما هو موجود من الحلول والأحكام والاجتهادات يمكن اعتباره من بين أحسن الطرق في تربية ملكة الاجتهاد.(1/329)
ولهذا نتصور إمكانية الحديث عن تربية ملكة الاجتهاد في مدارسنا ومؤسساتنا من وقت مبكر، وقدرة المناهج الدراسية -إذا أحسن اختيارها على أساس هذا الهدف-على جذب وإثارة وفتح القنوات لتطوير النزعة الاجتهادية لدى التلاميذ والطلاب،بوضع أسس التفكير المستقل والمبدع لديهم ومساعدتهم على تطوير قدراتهم الاجتهادية، وتكوين روح البحث لديهم مثل: تقديم العلوم الشرعية المناسبة لذلك كمادة أصول الفقه عن طريق حل المشكلات وعبر إنجاز مشاريع وحقائب البحث..عوض الطرق التلقينية المباشرة التي تعتمد إعطاء المعلومات الجاهزة إلا ما كان ضروريا من ذلك.والاجتهاد في تجاوز حالة الشكوى1368 من مناهجنا التربوية والتعليمية البعيدة في أغلبها الأعم عن تنمية ملكة الاجتهاد.
فجعل الطالب يقوم برؤية المشكلة من وجهات نظر مختلفة ، فيفسرها ويبحث باستقلالية عن حل لها ،ويعد الافتراض الممكن ويختبره ،ويعمل كما لو أنه يكتشف بنفسه تلك المعارف التي كانت مكتشفة من قبل في كتب الفقه و الأصول ومباحث القياس وغيرها من باقي العلوم التي تعتبر شرطا في الاجتهاد.
وجعل الاهتمام ينصب في المراحل المتوسطة -مثل التعليم الثانوي والسنوات الجامعية الأولى - على تكوين الاتجاه نحو البحث واعتياده ،ثم الاعتماد بعد ذلك على تكوين الاستعدادات للقيام ببحوث فعلية، ذلك أنه و( لفترة طويلة كان يعتقد أن المرحلة الثانوية أو بالأحرى الجامعية أيضا يمكن أن يتم فيها نقل المعارف، بينما يتم تحقيق التحضير العلمي وبداية الإبداع الأصيل في التعليم ما بعد الجامعي(...) أما اليوم فيتحقق على أن الاستعداد للبحث يمكن أن يتشكل في سياق التعليم الجامعي بل إنه يمكن التوصل في هذه المرحلة إلى بحوث أصيلة ولكن ينبغي أن تتشكل مثل هذه الاستعدادات حتى في المرحلة الثانوية(...) وبقدر ما يقوم التعليم(1/330)
ما قبل التعليم الجامعي والجامعي على طابع استكشافي يحث على البحث والعمل ينتظر أن تظهر نتائج إبداعية في سن مبكرة وعلى مسارات طويلة)1369 .
ولهذا لا يمكن أن نتحدث عن تربية ملكة الاجتهاد الا بالمعنى الخاص، الذي سيكون بلا شك، لبنة لتكوين المجتهد ،وأيضا لا ينبغي حصر هذا المعنى في المجتهد المطلق الذي قلما يجود به الزمان والذي يرى البعض استحالة تكوينه الآن1370 أمام تشعب العلوم واعتبار "المجامع العلمية" بديلا له.
ذلك أن المجتهدين بالمعنى المطلق ابتداء من عصر الأئمة معدودون على رؤوس الأصابع في تاريخ الأمة كلها .فهذا أبو حنيفة - مثلا - في عصرالاجتهاد يوم كانت الهمم عالية،لازمه ستة وثلاثون طالبا قال فيهم: (هؤلاء ستة وثلاثون رجلا منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء ومنهم ستة يصلحون للفتوى ومنهم اثنان يصلحان يؤدبان القضاة وأصحاب الفتوى وأشار إلى أبي يوسف وزفر)1371 ، وتظافرت جهود تسعمائة شيخ ليخرجوا لنا مثل مالك رحمه الله1372 .
فالذي نميل اليه ونحن نتحدث عن تربية ملكة الاجتهاد، استحضار المعنى الواسع للإجتهاد الذي قال فيه الشاطبي بأنه لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف والذي (لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه)1373 .(1/331)
فتدخل جميع أنواع الاجتهاد :فهما وتطبيقا وصياغة وتلفيقا أوتحقيقا وترجيحا واستثناء واستحداثا في حركية متصاعدة مترابطة..فيكون هدف العملية التربوية في الجانب الشرعي تكوين قاعدة لما أطلقنا عليه ( الهرم الاجتهادي) الذي أساسه جمهور من المتعلمين يحسن الفهم والسؤال والتطبيق والامتثال وحسن الاختيار بحيث يكون له (علم خاص بقدر ما يمكنه من تمييز ما هو معروض في سوق العلم )1374 يساهم في إفراز قيادته الفكرية والاجتهادية في مستوياتها المختلفة ويكون بيئة يتنفس فيها الاجتهاد وينمو ويتطور..بل ويمكن أن يصل إلى درجة الحكم والتمييز بين المجتهدين أيهم أعلم وأقوم..حين تسود فيه معايير في درجات العلم الأتم، ودرجات السيرة الأقوم.
فيقوم هذا الجمهور قادته المجتهدين فيمنح ثقة مناسبة لمن وجد عنده علما مناسبا ( ومن رأوا عنده علما كثيرا وصدقا في الالتزام، أولوه ثقة كبيرة واتخذوه إماما مقدم الرأي. ومن لاحظوا زهادة علمه أو قلة أخلاقه سمعوا قوله واستخفوه أو أهملوه)1375.
ومن حسن تدبير الله تعالى لأمر هذه الأمة أن جعل أئمتها المعتبرين، من إفراز القاعدة المؤمنة، وليس من تعيين السلطة الزمنية وفرض الحكام المستبدين. وليس في ديننا طبقة كهنوتية تتوارث الأسرار المحرمة على الجمهور، ولا كنيسة أو سلطة رسمية ( تحتكر الفتوى أو تعتبر صاحبة الرأي الفصل، فالأمة التي لا تجتمع على ضلالة هي المستخلفة صاحبة السلطان تضفي الحجة الملزمة على ما تختاره من الآراء المتاحة. ولكل فرد فيها أن يشارك في تطوير رأي الجماعة بنصيبه من العلم)1376
وفوق كل ذي علم عليم، حيث تترقى درجات الناس بما يبذلون من وسع في تسلق هرم الاجتهاد. وتتوالى طبقات المفكرين والمجتهدين الذين ينبغي أن يعمر بهم المجتمع المسلم.ويفتح الله على من يكون حجة أهل زمانه.(1/332)
وأرقى ما يكون الطموح اليه في المستويات الدنيا من الاجتهاد، هو وصول جمهور المتعلمين للعلوم الشرعية إلى مستوى يقارب عموم الصحابة من الناحية العلمية،وذلك الجيل القرآني الفريد، الذين أحسنوا الفهم عن الله وأحسنوا العمل. فقد (كانوا يسألون أهل العلم منهم عن حكم ما يعرض لهم مما يحتاجون اليه في معاشهم ومعادهم، فيروون لهم ما جاء عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم. فيعملون بروايتهم لا برأيهم من دون تقليد ولا التزام رأي، كما يعرف ذلك من يعرفه)1377لهم صلاح لسان واستقامة في الأفهام وعلى بينة مما يحتاجون اليه...
ونخلص إلى أن المقصود بالمستويات تربية ملكة الاجتهاد، من جهة أولى: التدرج مع أنواع الاجتهاد الممكنة، من مستوياتها الدنيا إلى مستوياتها العليا مع الاجتهاد المطلق.ومن جهة ثانية: التدرج داخل النوع الواحد عبر ملكات جزئية مثل: ملكة الفهم والسؤال والتحليل والمقارنة وغيرها .
فما هي إذن شروط نجاح تربية ملكة الاجتهاد في مستوياتها المختلفة ؟ وما هي أهم العوامل الذاتية والموضوعية للنجاح في ذلك؟
المبحث الثاني
الشروط الضرورية لتربية ملكة الاجتهاد
1-بعض الشروط الضرورية لتربية ملكة الاجتهاد:
سبق أن رأينا في حديثنا عن "الاجتهاد بين الاستمرارية والانقطاع" أن الاجتهاد يحيى بحياة المجتمع، ويموت بموته وأن الفقه يجمد بجمود الحياة. وأن توقف الاجتهاد كان بسبب أزمة حضارية شاملة ،إذ أن ازدهاره كان في مرحلة الإقدام ،وإحجامه وقع عندما جنحت الحياة الدينية نحو الفتور حيث شاعت أجواء نفسية واجتماعية وسياسية وثقافية وعلمية غير مشجعة.وزاد الخوف وطلب السلامة والاحتماء بالأحوط وازدادت غربة الاجتهاد .وغابت شروط الإبداع الذاتية والموضوعية المتعلقة بطبيعة البيئة والتربية والإعداد والمران.(1/333)
وليس من حل سوى الإيمان من جديد بإمكان تربية الإبداع في الأمة، إذا تم تطوير الطرق والمناهج وإعداد المربين الأكفاء ،وما يقال في الإبداع عموما يمكن أن يقال في الاجتهاد باعتباره لونا من ألوان الابداع .
يقول الشيخ أبو زهرة بعد استعراضه لحياة الامام مالك رحمه الله (هذا الهدى وذلك العلم ينبعث من صفات الشخص ومن شيوخه بالتوجيه ومن عصره بالجو الفكري الذي يتغذى منه، ثم بجهوده .والصفات الذاتية أصل وغيرها فروع )1378 فشجرة الاجتهاد تترعرع وتزهر وتثمر أطيب الثمار، بوجود فسيلة قابلة للغرس والنمو والتطور، في تربة طيبة صالحة، وبرعاية فائقة من أيدي كفأة وأمينة ،تجلب الماء الطيب وغيره من المنافع ،وتدفع الأذى والضرر بالتهذيب والتشذيب ،وتهتم باستقامة العود وإزالة ما يعوق الارتفاع والعلو في الفضاء الحر.
فلابد إذن من بيئة صالحة ومربين أكفاء ومناهج وطرق رفيعة ومن طلبة علم من ذوي الهمم العالية..
2-1- البيئة الصالحة والمربون الأكفاء:
إن البيئة الاسلامية لن تكون بطبيعتها الإيمانية، إلا بيئة صالحة للاجتهاد، إذا كان أهلها مؤمنون حقا، واعون بمقتضيات الإيمان ،فمن توابع التوحيدوالتسليم لرب العالمين، احتواء كافة الأنشطة الإنسانية النظرية والتطبيقية لجعلها تتحقق في دائرة القناعات الايمانية ،وتتشكل وفق مطالبها وتصوراتها الشاملة، بحيث لا يند منها شيء عن الحكم الشرعي والدخول تحت دائرة الواجب أو المندوب أو الحرام أو المكروه أو المباح .(1/334)
وما دامت الحوادث والمستجدات غير متناهية حتى تقوم الساعة، فكذلك الاجتهاد يلاحقها باعتباره ضرورة عقدية. كما أن الدين الذي بدأ نزول كتابه الكريم بكلمة"اقرأ" لا يمكن أن يكون إلا دينا اجتهاديا، يفتح صدره للنشاط الاجتهادي والبحث الفكري.حيث يتربى الطفل منذ نعومة أظفاره: مع اقرأ، تفكر ،تفقه ،انظر، اعلم، تبصر، وكن من الذين يعقلون..ولا شك أنها كلمات توتي أكلها كل حين بإذن ربها: في صورة اجتهادات تمتد بالنص القرآني والحديث النبوي لتنزيلهما على مشكلات كل عصر بحسب ظروفه وإمكاناته تحقيقا لخلود الشرع .
بل إنها بيئة تفرض الاجتهاد، إذ لم يشرع الله تعالى لعباده من الأحكام ما ينظم ابتداء كل تفاصيل شؤونهم،بل جاءت في أغلبها قواعد عامة تصلح للتفصيل بما يناسب الزمان والمكان ومختلف الأحوال. فمن سبحانه وتعالى على عباده بفرض الاجتهاد، ليكون عبادة تؤديها عقولهم ، وزكاة لنعمة التفكير، كما فرض الجهاد ليتخذ من صالحي عباده شهداء .يقول تعالى:? وَمَا كَانَ الْمُومِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمُ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ? (التوبة:123)
فإذا فضل المجاهدون بما بذلوا من دماء، فإن فضل المجتهدين يكون بما يبذلونه من جهد في الاستنباط لتعلو كلمة الله ولتحكم تصرفات الناس كلها شريعته، فالاجتهاد فرض (وإن قصر منه أهل عصرعصوا بتركه وأشرفوا على خطر عظيم)1379.(1/335)
وهذا كتاب الله فيه آيات لقوم يتفكرون، يأمر الناس بالاعتبار ?فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْاَبْصَارِ?(الحشر: من الآية2) فإن كان لم يأمر بالتفقه كافتهم كما في الآية فإنه لم يسقط الاجتهاد عن جميعهم. وفرض وجود مراجع في الأمة، يرجع إليهم عند الحاجة ? وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْاَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم)(النساء: من الآية83)?
وهذه السنة النبوية الشريفة تزف بشرى الأجر لمن بذل وسعه وطاقته في الاجتهاد سواء أصاب في ذلك أم أخطأ. فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه:أنه سمع رسول الله يقول:(إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)1380
ورغم هذه الخلفية العقدية للبيئة الإسلامية، فسيبقى الاختلاف بينها عبر الزمان والمكان، بحسب تفاعل الناس مع هذه المعاني فهما وتنفيذا. فرغم أن العقيدة هي العقيدة، والنصوص هي النصوص ولكن الناس ليسوا هم الناس .ولم يكن من العبث فضل من سلف من أهل القرون المشهود لها بالخيرية على من بعدهم من الخلف حيث كانت فيهم ملكة الاجتهاد أقوى وأعمق .يقول ابن حجر الهيثمي وهو يميز بين مصطلح المتقدمين والمتأخرين،أن المتقدمين :( هم من قبل الأربع مائة ومن عداهم يسمون بالمتأخرين ولا يسمون بالمتقدمين (...) ويوجه هذا الاصطلاح بأن بقية أهل القرن الثالث من جملتهم السلف المشهود لهم على لسانه صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون فلما عدوا من السلف وقربوا من عصر المجتهدين وكانت ملكة الاجتهاد فيهم أقوى من غيرهم خصوا تمييزا لهم على من بعدهم باسم المتقدمين)1381(1/336)
فنجد (أكثرالصحابة الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا فقهاء مجتهدين(...) ولا يطمع في عد آحاد المجتهدين من الصحابة والتابعين لكثرتهم وعدم حصرهم)1382 وكان المجتهدون في المائة الثانية أكثر وأوفر، وكانوا أجل وأعظم بالنسبة لمن بعدهم. كما كانت (المائة الثالثة مزدانة بالأئمة الكبار على قلتهم بالنسبة للمائة قبلها بخلاف الرابعة التي فشا فيها التقليد، وصار العلماء للجدال في أي المذاهب أفضل وأيها يرجح(...)كل ذلك تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم :(خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ))1383
فبعد عجزنا عن عد المجتهدين صرنا إلى كثرة يمكن عدها ثم إلى قلة ثم بدأنا نبحث في كل قرن من الزمان عن الثلاثة والإثنين والواحد أو لا نكاد، إلا أن ندخل المجتهدين المنتسبين وأصحاب الوجوه والترجيح والفتوى والتلفيق..ثم صرنا لمناقشة خلو العصر من المجتهد..
وهكذا منذ أن تحول أمر الأمة من رابطة الشورى الحقيقية والخلافة الراشدة إلى قاعدة العصبية والملك والاستبداد وهي في نقصان. لأن الكل يعلم (أن الاستبداد ماح للاجتهاد موجب للتقليد)1384وعسى أن يكون في عودة الاعتبار إلى الشورى في الأمة شيئا فشيئا ، حتى تتوج بالخلافة على منهاج النبوة، عودة إلى أمر الاجتهاد كما بدأ .
وتجدر الإشارة إلى أن الأمة الإسلامية رسخ فيها منذ عهد الرسول ( ثم عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم، أخذ العلم عن أفواه الرجال، ولم تكن الكتابة إلا أمرا تابعا للاحتياط ضد عوامل النسيان، وزيادة في الضبط والتوثيق،فكانوا يجمعون إلى أخذ العلم أخذ العمل والسلوك مما يكون له أبلغ الأثر في التربية والتكوين والفهم السليم.ولهذا (كان يقال لا تحملوا العلم عن صحفي ولا تأخذوا القرآن عن مصحفي )1385 إنما هي الرحلة لملاقاة الشيوخ، ففي التلقي عنهم وقوف على احوال من يؤخذ عنه الدين وفيه تقوية للملكة كما سبق بيانه.(1/337)
وإذا نظرنا إلى البيئة التي نشأ فيها الأئمة المجتهدون الكبار نجدها مشجعة وملائمة لما صاروا إليه،فهذا الامام أبو حنيفة رحمه الله نشأ في الكوفة حيث توفرت له بيئة علمية عاش فيها واستنشق عبيرها وجالس علماءها، والتقى بكل أنواع الاتجاهات الفكرية في عصره، ومارس التجارة وخبر معاملات الناس ولزم شيوخا بصروه بالدقائق ونبهوه إلى ما خفي،حتى سار في أمره على نور،فقد لزم حماد بن أبي سليمان ثمانية عشر سنة، واطلع من خلال أساتذته على فقه عمر المبني على المصلحة، وفقه علي المبني على الاستنباط والغوص في طلب حقائق الشرع، وعلى علم عبد الله بن مسعود المبني على التخريج، وعلى علم ابن عباس ترجمان القرآن..يقول أبو حنيفة :( كنت في معدن العلم والفقه،فجالست أهله ولزمت فقيها من فقهائهم)1386.
والامام مالك رحمه الله نشأ في بيئة المدينة التي ورثت علم النبوة معايشة وليس فقط رواية وأثر الصديق ثم أثرعمر وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعائشة وغيرهم كثير وأثمرت حلقات الدراسة في المسجد النبوي مدرسة ظهر منها جماعة من الفقهاء مثل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد وعبيد بن عبد الله وغيرهم ..
ونشأ مالك في بيت متجه لاكتساب العلم واقتنائه وتعلمه وتعليمه، فوالدته الأزدية ترشده : (اذهب إلى ربيعة الرأي فتعلم من أدبه قبل علمه ) وأبوه في البيت يلقي عليهم المسائل (قال مالك:كان لي أخ في سن ابن شهاب فألقى أبي يوما علينا مسألة فأصاب أخي وأخطأت، فقال لي أبي ألهتك الحمام )1387.(1/338)
وكان ذلك حافزا له على مزيد من الطلب ،وهذه ابنته تحفظ الموطأ (قال الزبير:كان لمالك ابنة تحفظ علمه يعني الموطأ، وكانت تقف خلف الباب فإذا غلط القارىء نقرت الباب فيفطن مالك فيرد عليه)1388 كما أن مالكا انقطع إلى ابن هرمز سبع سنين لم يخلطه بغيره، و(ذكر النووي أن شيوخ مالك بلغوا التسعمائة، منهم ثلاثمائة من التابعين وستمائة من تابعيهم )1389
و(قال ابن حبان في الثقات :كان مالك أول من انتقى الرجال بالمدينة وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث ولم يكن يروي الا ما صح، ولا يحدث الا عن ثقة مع الفقه والدين والفضل والنسك)1390 وكان رحمه الله يتفاعل مع مشاكل عصره، حيث كان الناس يحملون إليه مشاكل أقاليم عريقة في الحضارة، كثيفة السكان معقدة الحياة مثل فارس ومصر ..مما خصب فكره ووسع آفاقه.
وهذا الامام الشافعي ينتقل بين بيئة مكة وبواديها يتعلم كلامها، ويأخذ طبعها ويتفصح في العربية، ثم يطلب الفقه والحديث من الفقهاء والمحدثين بمكة، ثم ينتقل إلى بيئة المدينة ويلازم شيوخها، ويصاحب مالكا حوالي تسع سنين. ثم ينتقل إلى البيئة العراقية ليلازم محمد بن الحسن الشيباني. فاجتمع له فقه الحجاز وفقه العراق، وتصرف في ذلك حتى أصل الأصول، وقعد القواعد ووازن بين المنهجين وعكف على ذلك ببصر نافذ، وتأمل مدرك، انتهى به إلى الخروج بمذهب خاص به. كما أنه خرج للناس ببيان قواعد الاستنباط في كتاب "الرسالة" العظيم .فكان عصره عصر التدوين و ازدهار العلوم وعصر جدل ومناظرات ( ولذلك كان نظارا مجادلا يعرف كيف يبطل الباطل ويحق الحق في جدله ومناقشة )1391 فلقب بناصر السنة.(1/339)
والإمام أحمد نشأ يتيما، وقامت على تربيته أمه ببغداد التي كانت تعج بمختلف أنواع المعارف والفنون، ويكثر فيها القراء والفقهاء والمحدثون والمتصوفة وعلماء اللغة والفلاسفة والحكماء، فكان مبرزا على أقرانه بحفظ السنة النبوية والذب عنها، تصدى لبدعة القول"بخلق القرآن " وكان علي بن المديني يقول:( إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل يوم المحنة)1392
بدأ بطلب الحديث واستفاد من فقه الرأي الذي كان يمثله فقه أبي يوسف، وتلقى عن الإمام الشافعي، وطلب فقه الصحابة ،وخصص لكل صحابي مسندا قائما بذاته. ومعلوم أن دراسة فقههم ( يرهف عقل الراوي المستيقظ ويعطيه ملكة فقهية عميقة وإذا أضيف إلى ذلك أنه التقى بضابط علم الاستنباط الامام الشافعي فإنه بلا ريب يكون فقيها عريقا في فقه السنة، لا يمكن في آرائه أن يخرج عن سمت الشريعة)1393.
وهذا ابن حزم الذي نشأ في قرطبة حاضرة الاسلام يومذاك1394، والتي كانت تضم في ثناياها: العلم والمعرفة والعمران والحضارة ،ونشأفي بيت له سلطان وكان ابن حزم يعتز بأنه طلب العلم لا يبغي به جاها ولا مالا .ومهدت له أسرته طريق العلم فتذوقه صغيرا وحلا مذاقه في نفسه كبيرا فانصرف إليه. وعرفت عنه حدة: فسرت في بعض جوانبها بعوامل أسرية حيث تغيرت حالها لظروف سياسية وحلت بها شدة بدلت نعيمها بؤسا، وأخرى نفسية تولدت نتيجة مرض وعلة، وكذا عامل الإثارة من الوسط والمحيط..(1/340)
يقول ابن حزم: (ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي واحتدم خاطري وحمى فكري وتهيج نشاطي ،فكان ذلك سببا إلى تواليف عظيمة النفع،ولولا استثارتهم ساكني ،واقتداحهم كامني، ما انبعثت لتلك التواليف)1395 ولعله يقصد فقهاء المالكية وجو المناظرات والجدل الذي خاض غماره، وكان صوتا نشازا في وسط قد استقر فيه المذهب، فاجتهد في نبذ التقليد وسلك مسلك الاستقلال بالرأي الباحث عن الدليل. فتميز بشخصية متحمسة مندفعة وكان مناظرا عنيدا لا يرحم خصمه ،ملك ناصية فن الجدل سواء في الكلام أو في الشريعة. ونشأ على التعلق بالسنة .وما يؤخذ عليه أنه رجل عصامي، لم يلازم الشيوخ، ويرى الكثيرون أن من أعظم البلية تشييخ الصحيفة1396،ولهذا فرح الناس بانتصار الباجي عليه وافحامه واصلاح ما أحدثه من بدع 1397.ومهما يكن اختلافنا مع بعض اجتهاداته فلا يمكن أن ينكر منصف جهاده لاستمرار خط الاجتهاد ونبذ التقليد..
هذا الجهاد الذي سيصعب بعده ويشتد على طالب الاجتهاد كلما رسخ التقليد وشنع المقلدة على كل من يريد الخروج على القاعدة والبيئة المألوفة ،فلا غرابة أن ينتاب الخوف الكثيرين فيحجمون عن إعلانهم الاجتهاد .يقول الشيخ عز الدين بن جماعة : (إحالة أهل زماننا وجود المجتهد يصدر عن جبن ما ،وإلا فكثيرا ما يكون القائلون لذلك من المجتهدين)1398 إنه -من غير شك -إرهاب البيئة عندما تكون في غير صالح الاجتهاد.
ورغم أهمية جميع عوامل: البيئة والأسرة والمؤسسات والمرافق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وقوة التفاعل بينها ،فإن البيئة العلمية يبقى لها التأثير المباشر في تكوين ملكة الاجتهاد بحسب ما يسودها من تنوع وتفتح وحرية وحوار، وبحسب القائمين عليها وما يتوفر فيهم من صفات علمية ومنهجية وأخلاقية،وما لديهم من استقلالية وتحمس للبوادر الاجتهادية وتشجيع وتسامح وعلاقات دافئة وقبول للخلاف والرأي الآخر.(1/341)
2 - القدوة الحسنة ودورها الإيجابي في العلاقة التربوية:
فالصحابة رضي الله عنهم توفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مربي البشرية جميعا، وصغار الصحابة تربوا في أحضان كبار الصحابة من أمثال الخلفاء الراشدين وغيرهم ،والتابعون تربوا بدورهم في أحضان أولئك العظام وقاموا بتربية أتباع التابعين والامام مالك تربى في أحضان فقهاء المدينة وكان أستاذا للشافعي مع جلة من شيوخ مكة والعراق، أبرزهم محمد بن الحسن الشيباني الذي تربى بدوره في أحضان أبي حنيفة والذي تربى على فقهاء الكوفة.
والامام أحمد الذي درس على يد جلة من الشيوخ أبرزهم محمد بن الحسن الشيباني والامام الشافعي ..ورغم ما قيل عن ابن حزم فإنه تتلمذ لابن عبد البر وصحب أبا الحسن بن علي الفاسي (وقال عنه ما رأيت مثله علما وعملا ودينا وورعا)1399 ,وكذلك الشأن في غيرهم من العلماء ممن لم نذكر مثل: الإمام ابن تيمية الذي نشأ في دمشق معدن العلم والتي كانت فيها مدارس الحديث والفقه الشافعي والفقه الحنبلي وغيرها وكان فيها أمثال العز بن عبد السلام ومحيي الدين النووي وابن دقيق العيد الذين كانوا يدرسون الفقه والحديث دراسة فاحصة فيقارنون في الفقه بين المذاهب الاسلامية1400 .
ورأينا طول ملازمة الشيوخ كيف تستمر لسنوات ،الأمر الذي يفيد نوعية العلاقة الرفيعة بين طلبة الاجتهاد وأساتذتهم، والدفء الذي كان يسودها ،فقد كانت علاقة أبي حنيفة رحمه الله مع تلامذته مثل علاقة الأب بأولاده يواسيهم بماله ويزوج غير القادر منهم، قال فيه بعض معاصريه : (كان يغني من يعلمه وينفق عليه وعلى عياله.فإذا تعلم قال له :( لقد وصلت إلى الغنى الأكبر بمعرفة الحلال والحرام)1401(1/342)
ونصح أبو حنيفة بعض تلامذته فقال: ( واعط كل من يختلف إليك نوعا من العلم ينظرون فيه ،ويأخذ كل واحد منهم بحفظ شيء منه ،وخذهم بجلي العلم دون دقيقة ،وآمنهم ومازحهم أحيانا وحادثهم فإن المودة تستديم مواظبة العلم وأطعمهم أحيانا ،واقض حوائجهم واعرف مقدارهم وتغافل عن زلاتهم ... وكن كواحد منهم)1402 فكان أبو حنيفة رحمه الله أمة وحده خرج بهذا المسلك ما تعجز عنه أعرق الجامعات بأطرها ومناهجها ومختلف وسائلها .
فبالإضافة إلى الجم الغفير الذي استفاد من علمه في زمانه وملايين الخلق بعد زمانه إلى الآن ،فقد لازمه ست وثلاثون طالبا كانوا من خاصته، اطمأن إلى مسلكه فيهم واجتهاده عليهم فقال: (هؤلاء ستة وثلاثون رجلا منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء ومنهم ستة يصلحون للفتوى ومنهم اثنان يصلحان يؤدبان القضاة وأصحاب الفتوى وأشار إلى أبي يوسف وزفر)1403وكذلك الشأن في الأئمة رحمهم الله تخرج على أيديهم علماء عظام .
3-صياغة مناهج تعليمية هادفة إلى تربية ملكة الاجتهاد:
يقول روثh-roth :( ينبغي على المدرسة أن تكون المكان الذي يتم فيه تطوير المواهب وتحريضها، وأن علاقة المواهب بالتعليم أكثر أهمية من ارتباطها بالنضج وبالوسط المحيط ،وهذا ما يجعل طرائق التعليم تضطلع بدور جديد يتصف بالدلالة والنموذجية)1404.(1/343)
وقد كان لسلفنا حظ وافر من اهتمامهم بجودة المناهج والطرق، والوصول إلى الإشراف التربوي والتعليم السليم من خلال تكوين طلبتهم، وبناء مرجعياتهم وحسن توجيههم ،وإثارة تفكيرهم وبناء ملكة الاجتهاد وتمرينهم عليه لتأهيلهم لحمل الأمانة بعدهم،وإذا استثنينا المضامين التي تجمع بين عناصر ثابتة وأخرى متغيرة فإن المناهج والطرق في أصلها متغيرة تخضع للتجربة والتطور، ويكون المهم دائما كيف نحقق الأهداف وكيف نوفر الشروط لذلك .الأمر الذي يفيد أن الباب مفتوح للاستفادة في هذا المجال من التجربة البشرية مهما كان مصدرها ،غير أن الواقع يؤكد أن التاريخ التعليمي للمسلمين لا يزال يشكل سبقا في بعض جوانبه إلى اليوم1405.
أ -جانب الكفايات1406 والأهداف والمحتويات :
وهنا من الضروري أن تحدد الكفايات والأهداف في كل مستوياتها، وبشكل أكثر اتساقا لتربية ملكة الاجتهاد. فإذا كانت الكفاية الأساس المطلوبة منا هي : تخريج علماء أكفاء تتوفر فيهم ملكة الاجتهاد.
فالأهداف الجزئية أو القدرات المطلوب تحققها لهذه الكفاية عبر مستويات مختلفة ومراحل متتابعة هي:
1-ضبط نصوص الوحي قرآنا وسنة صحيحة بالحفظ أو الإطلاع و معرفة مظانها عند الحاجة وإتقان البحث فيها.
2-فهم هذه النصوص أو ما يقف عليه منها، بالآليات المعتدمة في ذلك من لغة وأصول ومعرفة ظروف تنزيلها أو ورودها وغيرها،والتمييز فيها بين القطعي والظني.
3-ضبط القواعد الكلية للشريعة،وتشرب مقاصدها،والتفقه في الترجيح بين الأدلة عندما يكون ظاهرها التعارض.
4-ضبط مجال الاجتهاد ومعرفة المسكوت عنه، والتفقه في الواقعة أو النازلة موضع الاجتهاد والاستعانة بالخبراء في ذلك لتنزيل الدواء في موضع الداء وليس خارجا عنه.ومعرفة ما يتعلق بذلك من ملابسات ومصالح للناس في ذلك أو أضرار واقعة أو متوقعة.(1/344)
5-تطبيق القواعد الكلية على ما يندرج تحتها من جزئيات،وإلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه إذا وجد المعنى الجامع وانتفت الموانع.
أما المضامين والمحتويات والمعارف المطلوبة لتحقيق هذه القدرات والأهداف هي نفسها شروط الاجتهاد التي سبق تفصيل الحديث فيها.
فيظهر من هذا أن ملكة الاجتهاد تتكون من هذه القدرات أو الملكات الصغرى مجتمعة بشكل وظيفي وليس تراكمي كمي.فلا يعتبر من حاز واحدا منها أو الأربعة الأولى حائزا على ملكة الاجتهاد ما لم ينتقل إلى النقطة الخامسة أي التطبيق وإنجاز اجتهاده.
فإذا بقي تعليمنا الشرعي في أعلى مقاصده منحصرا في تكوين المفسر والمحدث والأصولي والفروعي وحتى المقاصدي،وأصر على الفصل بين هذه المجالات ووضع الخطوط الوهمية بين هذه التخصصات، فضلا عن استقلال الكليات الحديثة ذات المناهج العلمانية بالتفقه في الواقع،فسنبقى بعيدين عن تكوين الفقيه المجتهد. لأن العلوم عموما في أصلها كلها متعاونة مرتبطة بعضها ببعض، فكيف بالتي خرجت من مشكاة واحدة؟
ب-المهارات وطرق التدريس والعرض والبحث:
وهذه جميعا ينبغي الاهتمام بها في مسارنا لتكوين ملكة الاجتهاد، فمادة اشتغالنا ليس يوجد أرفع منها في الدنيا كلها ،فهي كلام الله عز وجل ،وكلام خاتم الأنبياء، وإجماع الأمة المعصومة ،ونظر وآراء أولياء الله الصالحين ونخبة عقلاء البشرية.ولكن قد نؤتى من جهة منهج التعامل وطرق التفاعل وأسلوب التلقي وغيرها مما يدخل في الوسائل والطرق والمناهج ،نلمس بعضا من ذلك في إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الوحي هو الوحي غير أن مستوى الانتفاع منه تختلف من جيل لآخر بل وحتى في الزمن الواحد من شخص لآخر ومن فئة لأخرى .(1/345)
فعن زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه قال :{ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه وهو يقول قد ذهب أوان العلم قلت بأبي وأمي وكيف يذهب أوان العلم ونحن نقرأ القرآن ونعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى أن تقوم الساعة فقال ثكلتك أمك يا بن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة أوليس اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون منهما بشيء هذا}1407
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به}1408
فأهم المهارات التي ينبغي الاهتمام بها والاجتهاد في تحسين أدائها من طرف المعلم والمتعلم، وإعادة النظر في أسلوب تعاملنا فيها هي: البيان والتبيين والإسماع والتفهيم والإفصاح و المطالعة والقراءة والتلاوة والاستماع والإنصات وإدارة الحوار والسؤال و الحفظ والفهم والموازنة والمقارنة والترجيح والاستدلال والاستقراء والاستنباط وغيرها من أساليب التواصل والتبليغ والمعرفة والبحث..وفي حديثنا عن بعضها تنبيه للمجهود الذي ينبغي أن يبذل في غيرها،إصلاحا للقنوات التي توصل ماء الوحي لتحيى به القلوب والعقول فتثمر خيرا في اجتهاد النظر والعمل.
فعن المطالعة والسماع وكثرة التحصيل (قال ابن أبي زنبر سمعت مالكا يقول كتبت بيدي مائة ألف حديث)1409وقال الإمام الشافعي (حملت عن محمد بن الحسن وقر بعير ليس عليه إلا سماعي منه )1410(1/346)
ولا شك أن هذا من الخطوات الأولى الضرورية على درب الاجتهاد والذي يعتبر بدوره خطوة سابقة عن الحفظ وغيره.
أ-الحفظ خاصية إسلامية لا يجوز التفريط فيها:
وقد كان ملازما للمجتهدين منذ الصحابة رضي الله عنهم، فعن أنس بن مالك رضي اله عنه قال: (كنا نقعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعسى أن يكون ستين رجلا يعني فيحدثنا بالحديث ثم يدخل لحاجته فنتراجعه بيننا هذا ثم هذا فنقوم وكأنما زرع في قلوبنا )1411.فكان من البديهيات عند المسلمين حفظ القرآن كاملا قبل الجلوس إلى العلم. وسيرة العلماء والمجتهدين تبين ذلك، بل الواقع التاريخي إلى عهد قريب يثبت هذه الحقيقة. وكان جملة من العلماء لا يقبلون الأطفال في حلقاتهم حتى يسألونهم عن كتاب الله عز وجل .فهذا حفص بن غياث يقول:( أتيت الأعمش فقلت حدثني قال أتحفظ القرآن قلت: لا، قال: إذهب فاحفظ القرآن ثم هلم أحدثك قال فذهبت فحفظت القرآن ثم جئته فاستقرأني فقرأته فحدثني)1412 ،فكان المجتهدون في عمومهم حفاظا،فقد أورد صاحب "ترتيب المدارك" أمورا كثيرة في شأن حفظ مالك رحمه الله ،من ذلك ما كان له مع الإمام الزهري حيث لقنه نيفا وأربعين حديثا في جلسة واحدة ثم أتاه من الغد يريد الاستزادة فسأل الزهري عن مآل ما ألقاه إليهم بالأمس قال مالك:( فحدثته بأربعين حديثا منها فقال الزهري: ما كنت أظن أنه بقي أحد يحفظ هذا غيري...)1413 وقال سفيان الثوري:مالك أحفظ أهل زمانه ،وقال الإمام أحمد : مالك حافظ متثبت من أثبت الناس في الحديث، وقال ابن معين : كان مالك حافظا..1414
و حفظ الإمام الشافعي القرآن وهو دون العاشرة، وحفظ الأشعار وحفظ الموطأ في وقت وجيز أي في ليال معدودة، وكان صاحب ذاكرة واعية حافظة. وكذلك الشأن في الإمام أحمد وغيره من الأئمة. وأملى أبو داود ثلاثون ألف حديث من حفظه..وأعاد ابن حزم كتابة جملة من كتبه التي أحرقت وفي ذلك قال:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي(1/347)
تضمنه القرطاس،بل هو في صدري.
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل إن أنزل ،ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق وكاغر
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري1415
فالحافظ عندنا في الدين حجة على من قصر،يقول ابن رشد في مسألة عدد مرات الإقرار الذي يلزم بها حد الزنا :(وعمدة الكوفيين ما ورد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه رد ماعزا حتى أقر أربع مرات ثم أمر برجمه وفي غيره من الأحاديث قالوا وما ورد في بعض الروايات أنه أقر مرة ومرتين وثلاثا تقصير، ومن قصر فليس بحجة على من حفظ)1416وسوء الحفظ مما يضعف الرواية ، يقول في موضع آخر:(وروى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر إلا أن ابن أبي ليلى سيىء الحفظ)1417
فالحافظة القوية أساس للنبوغ في أي علم، لأنها تمد العالم بغذاء لعقله يكون أساسا لفكره ،فالعلم كما قال من سلف ما ثبت في الخواطر لا ما أودع في الدفاتر،وما حوته الصدور لا ما سود في السطور. ( وإن علم النفس في حاضره وماضيه يقرر أن مقياس الذكاء يكون بالحافظة وحضور البديهة التي تثير المعلومات في الوقت المناسب )1418 .
وقد حورب هذا الأسلوب محاربة شديدة من قبل كثير من رجال التربية المحدثين، وأثاروا ضجة كبرى حوله، واعتبروه أسلوبا غير فعال لأنه يسلب الإنسان شخصيته وغفلوا عن الحقائق التالية:
-قد يصدق عن الحفظ بعض ما يقولون لو كان المسلمون يكتفون بعتبته دون الفهم. ولا أحد من علماء التربية المسلمين يقول بذلك.
-التجربة التاريخية والواقعية إلى عهد قريب تكذب هذا الإدعاء فجميع الفحول وأعلام اللغة والدين والأدب وغيره من العلوم في تاريخ المسلمين كان الفضل الأكبر لنبوغهم فيها هو أسلوب الحفظ الذي يبدأ بالقرآن في الكتاتيب ثم الفهم ،فهو سمة من سمات التعليم الاسلامي على مر العصور وقد أنتج علماء كبار في مختلف الفنون.(1/348)
-ليس مستبعدا أن يكون هذا الأسلوب هدفا لحملات أعداء الإسلام والمسلمين لإبعاد الناس عن حفظ القرآن الكريم، فتم بذلك توظيف الدراسات النفسية والتربوية في هذا المجال.
-الحفظ ليس أسلوبا متخلفا كما يدعي البعض،يقول أحد الباحثين:( إن دراسات حديثة أثبتت فعالية هذا السلوب وآثاره الإجابية في العملية التربوية)1419 ويقول بأن تلميذ الأمس كان يهتم بالحفظ أولا ثم الفهم في مرحلة تالية أما تلاميذ اليوم فهم يبدؤون تعليمهم بالفهم فأصبحت النتيجة عدم الفهم والحفظ وإذا فات المتعلم الحفظ في صغره فلا يقدر عليه وقت الكبر)1420.
ولهذا لا بد من حد أدنى من الحفاظ على هذه الملكة في الأمة،وإن كنا لا نرى قدرة أهل زماننا على مجاراة المتقدمين في هذا المجال،فإذا كان الإمام الحافظ الذهبي وهو من هو وأمثاله في زمانه يقول في ترجمة الحافظ أبي بكر احمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الجرجاني امام أهل جرجان الشافعي المتوفى سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة :( ابتهرت بحفظه وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة)1421 فما عسانا نحن نقول، غير أن الله عز وجل تغمدنا برحمته وستر هذه العورة فينا، بما تيسر لنا من الوسائل الحديثة .
ولا ينبغي في الحد الأدنى أن يقل طموح الصاديقين في الانتماء للأمة من وضع خطة في برامجنا التربوية يتمكن من خلالها أبناؤنا من ختم كتاب الله عز وجل مع حصولهم على شهادة "الباكلوريا" ويكون ذلك بمعدل خمسة أحزاب في السنة وهي ليس كثيرة إذا صدقت النيات في تكوين جيل عامر القلب بكتاب الله عز وجل .
ب- الفهم مطلب شرعي وخطوة ضرورية في طريق الاجتهاد والإبداع:(1/349)
حيث لا قيمة معتبرة للحفظ من غير فهم ولا فقه وتفقه. وباجتهاد العالم(يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان)1422 كما يؤكد ابن رشد. إذ الهدف المتوخى من الإطلاع على الخبر وحفظه هو فهم معانيه الجلية والدقيقة فالثقافة ( تكتسب أساسا من النصوص ،ومن الحوار الذي ينشأ بين القارىء- طالب المعرفة- وبين المؤلف حيث يتم سبر أغوار فكره ووجدانه، وحيث يتم خلق نوع من التعاطف الضروري لكل فهم ولكل تواصل )1423
وإذا كان هذا في النصوص البشرية فكيف بنصوص الوحي التي تحتفظ بخصوصياتها المتميزة؟
ففهم المراد الإلهي بأوامره ونواهيه مبني على فهم خصائص الأصول في الدلالة على الأوامر والنواهي واعتبار الغاية التطبيقية فيهما، أي استحضار مقتضيات ذاتية ترتبط بشخصية دارس النص وإمكاناته ومؤهلاته العلمية، وتجربته الخاصة، ومقتضيات موضوعية، تتوقف على تقنيات يمكن استفادتها من الشروط المعرفية للاجتهاد إذ هناك قواعد وضوابط لفهم نصوص الوحي. منها ما يرجع إلى قانون اللسان العربي في الدلالة، أو العلاقة بين النصوص قرآنا وحديثا أو العلاقة المنطقية بين الكل والجزء والعام والخاص والازم والملزوم1424.
ومهما يكن من أمر الضوابط فسيبقى للخلاف مجاله بين الناس مثل ما يكون من حالهم بين الحرفية والغائية. وذلك منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم.فقد روى الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال:قال النبي صلى اله عليه وسلم يوم الأحزاب : (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم)1425.(1/350)
وكذلك ما روي أن صحابيين خرجا في سفر فحضرت الصلاة ولم يكن معهما ماء فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر ،فصوبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للذي لم يعد صلاته أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ، وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين1426.وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل منهم ما وسع الشرع ذلك، ويرد الأفهام التي تناقض الأصول، وقد يعنف إذا كان الرأي صادرا بغير علم وفيه جرأة على الفتوى ونتج عنه فساد، مثل قوله:في أولئك الذين أفتوا رجلا جرح في رأسه بوجوب الاغتسال فمات:قتلوه قتلهم الله1427 .أو يتلطف إذا لم يبلغ الأمر ذلك، مثل قوله: لأحد الصحابة بأنه كان يعده أفقه رجل بالمدينة، غير أنه لم يفهم قوله صلى الله عليه وسلم في انحراف الأمة عن القرآن، فبين له أن التوراة موجودة بين اليهود، ومع ذلك انحرفوا..1428 وكذلك ما كان من شأن ( عدي بن حاتم، قال: قلت:يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود .أهما الخيطان؟قال : إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار ).1429
ج - أما مستوى استثمار النصوص:
فيتعلق باستثمارها داخليا،أو فيما بينها أو بينها وبين ما لا نص فيه، سواء بالموازنة والمقارنة والترجيح أو استخدام آليات الاستدلال والاستقراء ومنهج الاستنباط. ويكون ذلك بالتفاعل بين العقل المدرك ونصوص الوحي من جهة، وبينه وبين واقع الحياة الانسانية من جهة أخرى.الأمر الذي يفرض استحضار الضوابط النصية كما أسلفنا، مثل: الضابط اللغوي مع الاحتياط من المنهج الباطني الذي يهدر قانون اللسان العربي، أو المنهج الظاهري الذي يلغي المقاصد الشرعية.(1/351)
والمنهج المتكامل يكمن: في استحضار جميع النصوص الواردة في الموضوع المبحوث، مع مراعاة ضوابطها الظرفية المتعلقة بأسباب النزول أو الورود ،ومعرفة أحوال العرب وعاداتهم حال نزول النص أو وروده .واستحضار العوامل العقلية المؤثرة في الفهم، وفقه النص من معارف وعلوم تتعلق بالكون والحياة والانسان، والتي لها دور في تعيين المدلول النصي، وتقدير المقاصد. ثم استحضار دراسة محل الحكم ، والكيفية التي يتم بها بسط الحكم على الواقع بمعرفة طبيعة هذا الواقع ليفضي الأمر إلى الاستنباط الفقهي أو تأويل المفاهيم أو ابتكار أفهام لم ترد على أذهان السابقين1430.
- اعتماد منهج الاستنباط:
يقول ابن القيم:( ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض.فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله، ومشبهه ونظيره ويلغي ما لا يصلح،هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط..قال الجوهري:الاستنباط كالاستخراج ،ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ.فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم ،والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه وحمد من استنبط من أولى العلم حقيقته ومعناه)1431 فالاستنباط مرحلة متقدمة عن الفهم الأولي للنص ولا بد فيه من معارف تمكن من ذلك مثل معرفة العلل والمقاصد .ولهذا أشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن من عرف كتاب الله نصا واستنباطا استحق الإمامة في الدين،يقول: (فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصا واستدلالا ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه فاز بالفضيلة في دينه ودنياه وانتفت عنه الريب ونورت في قلبه الحكمة واستوجب في الدين موضع الإمامة )1432.
وذكر الإمام الشاطبي أن درجة الاجتهاد إنما تحصل لمن اتصف بوصفين :(1/352)
( أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني : التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها )1433 هذا الاستنباط لا يمكن أن يتم الا بواسطة معارف تساعده على الفهم والاستنباط،إذ ( لا تظهر ثمرة الفهم الا في الاستنباط)1434.
وأما عن ما جاء في "البداية" من نصوص مباشرة في ذكر كلمة الاستنباط:ففي المقدمة بعد ذكره للقول والفعل والإقرار،بين أن هذه هي المصادر التي تصلح للاستنباط قال:(فهذه أصناف الطرق التى تتلقى منها الاحكام أو تستنبط)1435 ومن أمثلة الاستنباط من القول ذكره لرأي من منع الرهن في الحضر استنادا لقوله تعالى: ) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)(البقرة: من الآية282) ثم قال: (والقول في استنباط منع الرهن في الحضر من الآية هو من باب دليل الخطاب)1436
ثم أعطى في موضع آخر مثالا للاستباط من آيتين حيث قال:( آية الأنفال توجب التخميس وآية الحشر توجب القسمة دون التخميس، فوجب أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى أو يكون الإمام مخيرا بين التخميس وترك التخميس. وذلك في جميع الأموال المغنومة ،وذكر بعض أهل العلم أنه مذهب لبعض الناس وأظنه حكاه عن المذهب، ويجب على مذهب من يريد أن يستنبط من الجمع بينهما ترك قسمة الأرض. وقسمة ما عدا الأرض: أن تكون كل واحدة من الآيتين مخصصة بعض ما في الأخرى أو ناسخة له حتى تكون آية الأنفال خصصت من عموم آية الحشر ما عدا الأرضين .(1/353)
فأوجبت فيها الخمس وآية الحشر خصصت من آية الأنفال الأرض، فلم توجب فيها خمسا، وهذه الدعوى لا تصح إلا بدليل، مع أن الظاهر من آية الحشر أنها تضمنت القول في نوع من الأموال مخالف الحكم للنوع الذي تضمنته آية الأنفال. وذلك أن قوله تعالى: فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، هو تنبيه على العلة التي من أجلها لم يوجب حقا للجيش خاصة دون الناس والقسمة بخلاف ذلك إذ كانت تؤخذ بالإيجاف)1437 ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم، ما استنبط من حديث الأصناف الربوية عن عبادة قال:( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى) وبعد ذكره لأوجه الخلاف فيما استنبطه العلماء، قال: (ولكل واحد من هؤلاء أعني من القائلين دليل في استنباط الشبه الذي اعتبره في إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من هذه الأربعة)1438
وقال في نفس المسألة:(وأما المالكية فإنها زادت على الطعم إما صفة واحدة وهو الادخار على ما في الموطأ، وإما صفتين وهو الادخار والاقتيات على ما اختاره البغداديون. وتمسكت في استنباط هذه العلة بأنه لو كان المقصود: الطعم وحده لاكتفي بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأربعة الأصناف المذكورة فلما ذكر منها عددا ،علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على ما في معناه)1439 ثم أعطى مثالا للاستنباط من الفعل عند حديثه عن قصر الصلاة في السفر حيث ذكر استنباط العلماء عدد الأيام التي يعتبر فيها المسافر مقيما.(1/354)
قال:(وقد احتجت المالكية لمذهبها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر مقام ثلاثة أيام بمكة مقاما بعد قضاء نسكه فدل هذا عندهم على أن إقامة ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام أعني متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر)1440 .
ثم أشار ابن رشد إلى أن العلماء في الاستنباط يتوزعون بين موسع ومضيق،يفهم ذلك من قوله:( إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين إما قوم نفوا القياس في الشرع أعني استنباط العلل من الألفاظ وهم الظاهرية وإما قوم نفوا قياس الشبه)1441
وكما وجه انتقاده في "البداية" للجامدين على ظاهر النص من الظاهرية، الرافضين للاستنباط أحيانا ولو كان في حكم النص أو أولى منه بالحكم،بين في مواضع أخرى تجاوز الموسعين في الاستنباط. ففي نصاب العروض أعطى نموذجا لاستنباط لا يستند إلى قول او فعل او إقرار وسماه بالشرع الزائد لا المستنبط، قال:(وأما مالك فشبه النوع ههنا بالعين لئلا تسقط الزكاة رأسا عن المدير وهذا هو بأن يكون شرعا زائدا أشبه منه بأن يكون شرعا مستنبطا من شرع ثابت ومثل هذا هو الذي يعرفونه بالقياس المرسل وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه)1442
وبين في موضع آخر أن هناك أمورا في الشرع لا يصلح فيها الاستنباط،إنما المعول فيها على ما ينص عليه الشارع، مثل قوله في اختلاف العلماء في ميراث ولد الملاعنة (وهذا القول مروي عن ابن عباس وعثمان وهو مشهور في الصدر الأول واشتهاره في الصحابة دليل على صحة هذه الأثار فإن هذا ليس يستنبط بالقياس)1443(1/355)
وفي موضع آخر أشار إلى الخلاف الواقع في الاستنباط من الإجماع، وذلك عند اختلافهم في شأن ولاية التزويج في البكر البالغ وفي الثيب الغير البالغ ما لم يكن ظهر منها الفساد حيث قال:( ولاختلافهم في هاتين المسألتين سبب آخر وهو استنباط القياس من موضع الإجماع)1444
وفي مجال الموازنة بين العلل المنصوص عليها والمستنبطة قال:(العلة المنصوص عليها أولى من المستنبطة)1445 وفي مسألة القبلة وهل المقصود العين أو الجهة، أشار إلى أن الاستنباط كما يكون في الشرع يكون في غيره على أساس التجربة والملاحظة وغيرها، يقول:(ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها)1446
-اعتماد منهج الاستدلال:
ويعني استخدام المبادىء العامة من أجل الوصول إلى معرفة تفصيلية،فتحصيل المجتهد للكليات يكون انطلاقا من التفقه في الجزئيات. يقول الشاطبي:(كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له ( أي للمجتهد) من التفقه في الجزئيات والخصوصيات ومعانيها ترقى إلى ما ترقى اليه)1447. وقد ورد الاستدلال في "البداية" بكثرة ولكن بمعنى إقامة الدليل ،ففي مواضع يذكر ما يستدل به من القرآن والسنة مثل قوله:( واستدل من ألحق الزيادة بالثمن بقوله عز وجل..)1448 وقوله:(واستدل على ذلك بما روي..)1449 وكذلك قوله: (استدلوا بجواز التيمم للجنب والحائض بعموم قوله عليه الصلاة والسلام..)1450(1/356)
وأورده في الاستدلال بالنسخ مثل قوله:(واستدل على ذلك بأنه زعم أن قوله تعالى: فلا جناح عليهما فيما افتدت به منسوخ)1451 وأورده أيضا في الاستدلال بدليل الخطاب بقوله:(وفي هذا ضرب من الحجة لأبي حنيفة في قوله بوجوب السجود لأنه علل ترك السجود في هذه السجدة بعلة انتفت في غيرها من السجدات فوجب أن يكون حكم التي انتفت عنها العلة بخلاف التي ثبتت لها العلة وهو نوع من الاستدلال وفيه اختلاف لأنه من باب تجويز دليل الخطاب)1452 وقوله أيضا:(وهذا استدلال بدليل الخطاب وقد أجمع عليه في هذا الموضع فقهاء الأمصار مع اختلافهم في صحة الاستدلال به)1453 وقد يكون الاستدلال من الواقع المحسوس مثل قوله:(وحكى ابن سريج عن الشافعي أنه قال من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي وقد غم فإن له أن يعقد الصوم ويجزيه)1454
وأورد لفظ الاستدلال في حديثه عن القياس،يقول:(وهذا الاستدلال بين كما ترى مع أن القياس الذي اعتمده القائلون بالتحديد ليس تسلم مقدماته)1455 وفي الاستدلال بعمل أهل المدينة قال:(وقد تكلمنا فيما سلف من كتابنا هذا في وجه الاستدلال بالعمل وفي هذا النوع من الاستدلال الذي يسميه الحنفية عموم البلوى)1456
وكذا الاستدلال بعمل الصحابي مثل قوله:(وعمدة استدلال من قال بالقافة ما رواه مالك عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم)1457 وأورده في الاستصحاب مثل قوله:(ومما اعتمد عليه أهل الظاهر في هذه المسألة النوع من الاستدلال الذي يعرف باستصحاب حال الإجماع)1458 وبالقواعد الفقهية مثل قوله:(واستدل أبو حنيفة من قبل أن الضمان لا يتعلق بمعدوم قطعا وليس كذلك المفلس)1459.(1/357)
ومن ذلك بيانه بعض أوجه الاستدلال الضعيفة في حديثه عن مسألة إيجاب الوضوء على الجنب إذا أراد أن ينام، وتعليقه على من استدل في ذلك بحديث ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فأتي بطعام فقالوا ألا نأتيك بطهر؟ فقال: أأصلي فأتوضأ؟ وفي بعض رواياته، فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال ما أردت الصلاة فأتوضأ) حيث قال: (والاستدلال به ضعيف فإنه من باب مفهوم الخطاب من أضعف أنواعه)1460
كما لا يصح الاستدلال بالاسم المشترك مثل قوله:(فإن اليد وإن كانت اسما مشتركا فهي في الكف حقيقة وفيما فوق الكف مجاز. وليس كل اسم مشترك هو مجمل وإنما المشترك المجمل الذي وضع من أول أمره مشتركا، وفي هذا قال الفقهاء إنه لا يصح الاستدلال به)1461 وأحيانا يرد الاستدلال بمعنى الاستنباط مثل قوله:(واستدل من الفرك على الطهارة..)1462
ويبين أحيانا وجه الاستدلال مثل قوله:(واختلفوا من هذا في بيع الفضولي هل ينعقد أم لا؟ وعمدة المالكية ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة البارقي دينارا، وقال: اشترلنا من هذا الجلب شاة. قال: فاشتريت شاتين بدينار وبعت إحدى الشاتين بدينار وجئت بالشاة والدينار. فقلت: يا رسول الله هذه شاتكم وديناركم. فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه. ووجه الاستدلال منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره في الشاة الثانية لا بالشراء ولا بالبيع فصار ذلك حجة على أبي حنيفة في صحة الشراء للغير وعلى الشافعي في الأمرين جميعا)1463
-اعتماد منهج الاستقراء:(1/358)
فيعني استخدام المعرفة التفصيلية من أجل الوصول إلى المبادىء العامة و تتبع المسائل المتماثلة للوقوف على قاعدة كلية تجمعها.ومما ورد في "البداية" حول استقراء الشرع ما ذكره في مسألة ضم القطاني بعضها إلى بعض وفي ضم الحنطة والشعير والسلت حيث قال:( فكل واحد منهما يروم أن يقرر قاعدته باستقراء الشرع، أعني: أن أحدهما يحتج لمذهبه بالأشياء التي اعتبر فيها الشرع الأسماء، والآخر بالأشياء التي اعتبر الشرع فيها المنافع)1464
وفي استقراء اللغة وكلام العرب ما ذكره في مسألة: ترتيب الأفعال المفروضة مع الأفعال المسنونة حيث قال:(وسبب اختلافهم شيئان، أحدهما:الاشتراك الذي في واو العطف، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المترتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب)1465 وكذا في صفة الفقير والمسكين حيث قال:( والأشبه عند استقراء اللغة أن يكونا اسمين دالين على معنى واحد يختلف بالأقل والأكثر في كل واحد منهما)1466
-اعتماد منهج المقارنات والموازنة:
ويكون في الغالب عند التعارض الظاهري، وتقابل الأدلة الظنية على سبيل التمانع1467،والذي يمكن دفعه: إما بالجمع حيث يدفع إيهام الاضطراب والاختلاف عن الأدلة الشرعية ويظهر الائتلاف والتوافق بينهما، سواء بالتنويع أو التخصيص أو التقييد أو التبعيض أو اختلاف الحال..
أو يدفع التعارض بإثبات النسخ لوجود ما يدل عليه مثل ذكر الراوي التاريخ أو بوجود الإجماع على ذلك، أو يدفع التعارض بالترجيح: بتقديمه أحد الأدلة الظنية المتعارضة لامتيازه على غيره، قصد العمل به بتوظيف بعض المرجحات الكثيرة1468 سواء من قبل الإسناد ككثرة الصحبة،أو من قبل المتن بالرجوع إلى الذي قصد به البيان عن الذي لم يقصد به ذلك،أو بأمر خارجي ككون أحدهما موافق لظاهر القرآن،أو يمكن أن يدفع التعارض بالقول بالتخيير بين الأدلة والأخذ بأيها شاء.(1/359)
ويمكن الوصول إلى هذه الملكات بالإضافة إلى ما سبق ذكره في شروط الاجتهاد، بالإطلاع والممارسة الميدانية للتفقه والاجتهاد لتحصيلها .وذلك بالإطلاع على أقوال العلماء ومعرفة سيرة المجتهدين وكيف تكونت الملكة الاجتهاد عند الصحابة رضي الله عنهم، والإطلاع على الفروع الفقهية،والعلم والبصر بمواضع الخلاف وحضور مجالس العلماء المجتهدين .
فعن الإطلاع على آراء العلماء وكتبهم بعين ناقدة متفحصة، يقول صاحب"البحر المحيط":( ليس يكفي في حصول الملكة على شيء تعرفه ،بل لا بد مع ذلك من الارتياض في مباشرته، فلذلك إنما تصير للفقيه ملكة الاحتجاج واستنباط المسائل أن يرتاض في أقوال العلماء وما أتوا به في كتبهم.وربما أغناه ذلك عن العناء في مسائل كثيرة وانما ينتفع بذلك إذا تمكن من معرفة الصحيح من تلك الأقوال من فاسها .ومما يعينه على ذلك أن تكون له قوة على تحليل ما في الكتب ورده إلى الحجج .فما وافق منها التأليف الصواب فهو صواب.وما خرج عن ذلك فهو فاسد وما أشكل أمره توقف فيه)1469
فمعرفة شروط الاجتهاد، لا تغني عن معرفة كيف يمارس ذلك عند العلماء، ويشبه ذلك التعليم بالمشاهدة والملاحظة قبل النزول إلى الميدان والذي تأخذ به المناهج الحديثة في المؤسسات والمعاهد التربوية.
ولهذا من المفيد معرفة سيرة المجتهدين وكيف يعملون .قال الامام السيوطي:
(عقد الشيخ أبو اسحاق طبقاته، وظاهر كلامه في خطبته أنه لم يذكر فيها سوى المجتهدين، فإنه قال:هذا كتاب مختصر في ذكر الفقهاء [وأنسابهم] لا يسع الفقيه جهله لحاجته إليه في معرفة من يعتبر قوله في انعقاد الإجماع ويعتد به في الخلاف ..)1470،وأضيف: ومعرفة كيف يجتهدون لتحصيل القدوة بالممارسة، فيتقوى جانب النظر، وهذا ما نجده في الدراسات الإبداعية الحديثة حيث يقومون باستقراء سير العظماء والمبدعين للخروج بقواعد مشتركة ومبادىء نافعة في الميدان .
4- التجربة الذاتية وتغليب أسلوب الحوار والمناقشة:(1/360)
كما أنه من المفيد حضور مجالس الاجتهاد. فالصحابة رضي الله عنهم (كانوا يحضرون: ابن عباس وغيره من أصاغر الصحابة، مجلس الاجتهاد (...) على طريق التهذيب وتنقيح الخواطر وتعليم طريقة الاجتهاد )1471 .
وقد سبق أن رأينا كيف تمرس الأئمة المجتهدون بفقه من سبقهم من التابعين والصحابة رضي الله عنهم سواء منهم الإمام أبو حنيفة أو الإمام مالك أوالإمام الشافعي أوالإمام أحمد والذي جمع في ذلك مسنده..حيث يعطي كل ذلك ملكة فقهية عميقة.يقول الإمام الغزالي في ذلك: ( إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته (أي تفاريع الفقه) فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك)1472ولهذا لم يجعله من الشروط الأساسية لأن التفاريع يولدها المجتهدون ،ولكنها تفيد الدربة عليه، وفائدة الإطلاع على الفروع الفقهية: لا تخفى أهميتها في تكوين الملكة عن طريق ممارسة الفقه ومطالعة ما ولده المجتهدون من قبل، ومعرفة مداركهم، ومآخذ أقوالهم ،وطرائق اجتهادهم، وتنوع مشاربهم ومنازعهم في الاستنباط والاستدلال .
كما أن هذا الإطلاع سيفيد في الوقوف على مواضع الاختلاف وأسبابه وأدلة كل واحد .فالذي يصير بصيرا بمواضع الاختلاف يصبح جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له ،ولأجل ذلك جاء في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال :( يا عبد الله أتدري أي عرى الإسلام أوثق قلت الله ورسوله أعلم قال الولاية في الله والحب في الله والبغض في الله، يا عبد الله أتدري أي الناس أعلم قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أعلم الناس أعلمهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصرا في العلم وإن كان يزحف على إسته زحفا)1473(1/361)
وفي الحديث تنبيه على المعرفة بمواقع الخلاف.و(عن قتادة :من لم يعرف الاختلاف لم يشم انفه الفقه (...) وكلام الناس هنا كثير ،وحاصله معرفة مواقع الخلاف،لا حفظ مجرد الخلاف ،ومعرفة ذلك إنما تحصل بما يقدم من النظر فلا بد منه لكل مجتهد)1474 فتنوع البيئة الفقهية، وتعدد الآراء الاجتهادية، مما كون ملكة الاجتهاد عند الأئمة المجتهدين.فاستفاد أبو حنيفة من اختلاف الصحابة فجمع فقه عمر وعلي وعبدالله بن مسعود وابن عباس وغيرهم وكذلك فعل مالك، والشافعي كتب:كتاب خلاف مالك أو الرد على مالك، وخلاف العراقيين أي كتابه:(اختلاف ابن أبي ليلى وأبي حنيفة) وحاول التوفيق بين فقه أهل الرأي وأهل الحديث.
وداوود ابن علي الأصفهاني(ت270هـ) وظف حجج المخالفين له في الرأي لبناء مذهبه الخاص ( قيل لداوود كيف تبطل القياس؟ وقد أخذ به الشافعي؟ فقال أخذت أدلة الشافعي في إبطال الاستحسان فوجدتها تبطل القياس )1475.
وهذا ابن حزم بدأ بدراسة الفقه على مذهب مالك، وقرأ الموطأ، ولا بد أنه قرأ للشافعي :اختلاف مالك، فانتقل إلى المذهب الشافعي وقرأ من غير شك كتاب إبطال الاستحسان، وترك المذهب الشافعي وانتقل إلى المذهب الظاهري1476 .
وعموما فمعرفة المذاهب ودراسة الأحكام مربوطة بأصولها مما يخطو بالعالم في سبيل الاجتهاد خطوات سريعة .(1/362)
ومما يقوي الملكات السابقة أيضا الممارسة الفعلية للإجتهاد والتدرب عليه، ولو في بعض جوانبه واستهداف بعض ملكاته.فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرب الصحابة على الاجتهاد ويشجعهم عليه: من ذلك تعيينه الولاة والقضاة الذين كانوا يعملون بالكتاب والسنة ، فإن لم يجدوا اجتهدوا رأيهم: مثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي اجتهد مرة وهو باليمن ( أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام فقال كل منهم :هو ابني ،فأقرع علي بينهم، فجعل الولد للقارع [أي من ظهر سهمه في عملية المقارعة] وجعل علي للرجلين ثلثي الدية.فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجده من قضاء علي رضي الله عنه)1477.
ومثل معاذ الذي قال:اجتهد برأيي، فاستصوبه النبي صلى الله عليه وسلم. واجتهد مرة في غير الولاية و القضاء في بعض أمور الصلاة حيث ترك ( قضاء الفائت أولا.ثم الدخول في الصلاة ورضي النبي صلى الله عليه وسلم وقال:قد سن لكم معاذ)1478.
وحكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ في بني قريظة فاجتهد سعد وحكم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك1479.
وأمر عبد الله بن عمرو بن العاص بالقضاء بين خصمين وألح عليه رغم استحيائه من التقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن (عبد الله بن عمرو بن العاص :جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام:اقض بينهما، فقلت: يا رسول الله كنت أولى به، قال:وإن كان، قلت:ما أقضي؟ قال:على أنك إن أصبت كان لك عشر حسنات وإن أخطأت كان لك حسنة واحدة )1480 .
وقد تضافرت المواقف التي يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالقضاء بحضرته، إشعارا لهم بارتباط العلم بالتطبيق، وانتقالا بهم من الكلام المجرد إلى المجال العملي وتدريبهم على ذلك.(1/363)
وأما عن باقي الطرق التربوية الأخرى ،فلا يمكن أن يقدح زناد ملكة الاجتهاد الا اختيار أحسنها وأفضلها واستنفاذ الوسائل الممكنة لتوصيل العلم وتحقيق المشاركة القوية والفعالة للطلبة في تحصيله ونيل أعلى الدرجات فيه.
لابد لهذه الطرق أن تكون -كما يقول الشوكاني- " جارية على نمط الاجتهاد "1481 فهذا أبو حنيفة رحمه الله يعرض المسألة من المسائل التي تعرض له على تلامذته ويبين الأسس التي قد تبنى عليها أحكامها ،فيتجادلون معه وكل يدلي برأيه.. وبعد أن يقلب النظر من كل نواحيه يدلي هو بالرأي الذي خلصت إليه المحاورات.
يقول معاصره مسعد بن كرام في وصف درسه : (كانوا يتفرقون في حوائجهم بعد صلاة الغداة ثم يجتمعون إليه فيجلس لهم ،فمن سائل ومن مناظر ويرفعون الأصوات لكثرة ما يحتج لهم(...) وإن رجلا يسكن الله به هذه الأصوات لعظيم الشأن في الاسلام )1482 وهي طريقة فيها تثقيف للمتعلم، وتمحيص لآراء المعلم، وفيها استثمار لمختلف التقنيات: من حوار مفتوح ومناقشة حرة واعتماد الدعم والتنشيط من طرف المدرس واعتماد التقويم الذاتي وإشعار طالب العلوم الشرعية بأنه معني بالقضية موضوع التعلم حتى كأنها جزء منه، أي ما يسمى في الدراسات الحديثة (بالتماثل الشخصي) واعتماد أسلوب المقارنات بين الآراء المعروضة وهو ما يسمى (بالتماثل المباشر) وتوليد الأفكار عن طريق ما بينها من ترابط.1483(1/364)
وذلك بإلقاء المسألة والاجتهاد في فهمها، ثم طرح الحلول الممكنة، واختيار ما يناسب منها.كما هو الحال في طبيعة العلاقة التي سبق الحديث عنها بين الشيوخ وطلبتهم، والتي تجعل المناقشات تمر في جو علمي عال، وتكون المباحثات مثمرة ،وذلك بالتحضير المسبق للمسألة واهتمام الطلبة بالإعداد القبلي لها، الأمر الذي يفيده رغبة الجميع في المشاركة بحيث قد يؤدي أحيانا إلى ارتفاع الأصوات بما لا يضر .ووجود عناصر التعاون والصدق والموضوعية وتقبل الآراء بصدر رحب والاستماع والانتباه لما يقوله الآخرون.
والعمل على فهمه واستيعابه والاحتفاظ بالمناخ الملائم والمناسب للمناقشة وتقدمها حيث لاحظنا كيف يسود الهدوء عند تجميع حصيلة هذا العمل الجماعي المثمر .وما يتطلبه من تسيير محكم من طرف الشيخ الذي يستلم زمام الأمور، ويتدخل في الوقت المناسب لضبط المواقف بأسلوب هادىء وحكيم دون فظاظة أوانفعال،وكما قال مسعد بن كدام (إن رجلا يسكن الله به هذه الأصوات لعظيم الشأن في الاسلام) فهو ملم بالمشكلة وله معرفة جيدة بها ويطرح في كل مرة مسألة، يسكت في البداية، ويجتهد في تنظيم المناقشة، ويبدي رأيه بعد الاستماع إلى الآراء بانتباه ودقة .
وأبو حنيفة رحمه الله يوجه تلامذته إلى أهمية ما هم فيه من مناقشة ومباحثة، ويعتبرها سبيل التفقه إذ الفقه عنده وكما هو عند الجميع مرتبة زائدة على طلب الحديث يقول رحمه الله: ( مثل من يطلب الحديث ولا يتفقه كمثل الصيدلاني يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هي، حتى يجيء الطبيب .. هكذا طالب الحديث لا يعرف وجه الحديث حتى يجيء الفقيه)1484 الذي يتجه إلى لب الحقائق ويعرف ما وراء النصوص من علل وأحكام ومرامي نصوص الكتاب والسنة ،مستعينا في ذلك بإشارات الألفاظ وملابسات الأحوال وما يترتب على الحكم من جلب المصالح أو دفع المضار ...(1/365)
ويعلمهم رحمه الله بعد أن يبذلوا وسعهم في ذلك عدم الغرور،واحتمال مراجعة الرأي إذا ظهر الحق في غيره يقول ( قولنا هذا رأي ،وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا)1485 .
وفي المشاركة والتعلم الذاتي واستثمار التعاون الجماعي واعتماد تقنية السؤال في المجال التربوي،كان الإمام مالك رحمه الله أحيانا يترك تلامذته يتساءلون فيما بينهم فإذا اختلفوا رفعوا الأمر إليه على لسان اثنين منهم فيسألانه : ما تقول أصلحك الله في كذا ؟ أليس كذا ؟ وأيهما أصاب أجابه مالك وفقك الله.1486
وعن أهمية السؤال، قيل لابن عباس ( :أنى أصبت هذا العلم قال: (لسان سؤول وقلب عقول)1487 وروي عن الزهري قوله:( العلم خزائن وتفتحها المسألة)1488 وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي القدوة للمعلمين والمدرسين في تقبل أسئلة السائلين والطلبة وإن كان فيها بعض الشدة .
فقد جاء في كتاب العلم من صحيح البخاري عن (أنس بن مالك يقول : بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال لهم أيكم محمد والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ فقال له الرجل: ابن عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قد أجبتك، فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك فقال سل عما بدا لك فقال أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم فقال اللهم نعم ...)1489إلى آخر الحديث .وكما يقول أهل العلم: ليس كثرة السؤال: فيم، أليس، إعناتا. ولا قبول ما صح في النفس تقليدا.
وأنشد المبرد:
فسل الفقيه تكن فقيها لا خير في علم بغير تدبر.
-5- التدريب على البحث والتصنيف والتطبيق الميداني:(1/366)
كما أن العلماء يرشدون إلى أهمية البحث والتصنيف في تكوين ملكة الاجتهاد، فهذا الامام السيوطي يقول: ( فإن قلت: فلم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها قلت لفائدتين: أحدهما استفادة طريق الاجتهاد من تصرفاتهم في الحوادث ،وكيفية بناء بعضهم على بعض والأخرى بيان المتفق عليه من المختلف فيه)1490 فالتصنيف والبحث ولو في مستوياته الدنيا مثل القيام بعروض وأبحاث صغيرة يوجد حيوية ونشاطا ويقظة لدى الطالب، ويثير انتباهه واهتمامه ويزيد ثقته بالنفس..
وبهذه الطرائق جميعا وغيرها يتحول طالب العلوم الشرعية الذي نقصد إلى تربية ملكة الاجتهاد لديه، إلى مشارك فعال ينطلق من دافعية داخلية ذاتية، وهذا لا يعني التقليل من المنهج الإلقائي الذي يبقى له دوره وخصوصا في العلوم الشرعية لتنظيم معلومات الطلبة، وتوجيهها الوجهة السليمة.
وإعطائهم ما يعجزون عن الوصول إليه بجهودهم الذاتية ،فإن الدروس الأكادمية والمحاضرات يمكن أن تساهم في تكوين استعدادات البحث في العلوم الشرعية، وتكوين أولى ملكات الاجتهاد إذا ما تم ترك القضايا والمسائل والمشكلات مفتوحة من أجل التفكير المستقل للطالب، وتركت الفرصة للطلبة لطرح بعض المشكلات المتعلقة بالدرس وإفساح المجال لإسهاماتهم في حل بعض المشكلات .
كما أنه من المفيد دفع الطلبة إلى تدريس ما تلقوه لمستويات أدنى منهم أو لطلبة مبتدئين في ذلك العلم ،وهو نظام كان يعمل به في الحضارة الاسلامية ،مما يؤدي إلى التكوين المبكر للطلبة ،والذي يبدو أن الشيوخ كانوا يتعمدون دفع النجباء من الطلبة إلى ذلك إمعانا في تكوينهم ميدانيا مع توفر حد أدنى من شروط ذلك.
فهذا الإمام مالك يتولى إدارة حلقة العلم، وهو دون العشرين من عمره ( قال مصعب سمعت مالكا يقول :ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك ،وفي رواية أخرى حتى قال لي ثلاثون معمما افت فأفتيت وأنا ابن أربع عشر سنة وكان في ذلك الوقت لا يتعمم إلا فقيه)1491.(1/367)
والإمام الشوكاني تصدى للتدريس والافتاء وهو ابن عشرين عاما، وكان من منهجه أثناء تلقيه للعلم عندما ينتهي من دراسة كتاب على شيخه، يدرسه بعد ذلك لأقرانه وزملائه، بل ربما اجتمعوا على الأخذ عنه قبل أن يفرغ من قراءة الكتاب على شيخه.ومما كان يساعده على الإتقان تتبع دراسة الكتاب الواحد على عدد من الأساتذة حتى يستفرغ ما عندهم من مادة حول الكتاب ،كما فعل "بشرح الأزهار"حيث قرأه على أربعة من العلماء أحدهم والده...وهذا المنهج مكنه من الاستفادة الكبيرة والإطلاع على مختلف الاتجاهات في طرق التدريس وطرق التفكير1492.
وكان أسلوب العرض أو القراءة على الشيخ أسلوبا فعالا في التكوين يشرك المتعلم ولو بمستويات دنيا في العملية التعليمية ،سواء كانت القراءة من كتاب أو من حفظ الطالب ( وقد فضل بعض العلماء العرض على السماع من لفظ الشيخ، منهم أبو حنيفة ومالك)1493 فقد جاء في"ترتيب المدارك" قال مالك لابني المهدي ( الخليفة العباسي) بعد أن طلبا منه القراءة عليهما :إن هذا البلد إنما يقرأ فيه على العالم كما يقرأ الغلام على المعلم فإذا أخطأ فتاه)1494 وجاء أيضا فيه (قال الشافعي قرأت الموطأ على مالك ولم يكن يقرأ عليه إلا من فهم العلم وجالس أهله...)1495.
العناية بالوسائل التعليمية وخصوصا منها كتب الدراسة:
-وأما عن الوسائل التعليمية فكانت للعلماء عناية خاصة بكتب الدراسة التي تؤهل طلبة العلوم الشرعية إلى مراتب الاجتهاد،ومنها كتاب "البداية" الذي نحن بصدده،يقول ابن رشد: (فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل)1496 فهو يقترح هنا "بداية المجتهد" وقدرا كافيا قريبا من جرم هذا الكتاب في النحو واللغة والأصول.(1/368)
وقال الإمام الذهبي عند ترجمته لابن حزم:( قال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام وكان أحد المجتهدين ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المحلى لابن حزم وكتاب المغني للشيخ موفق الدين، قلت لقد صدق الشيخ عز الدين، وثالثهما السنن الكبير للبيهقي، ورابعها التمهيد لابن عبدالبر فمن حصل هذه الدواوين وكان من أذكياء المفتين وأدمن المطالعة فيها فهو العالم حقا)1497 وقد وضع الشيخ عز الدين بن عبد السلام مصنفه (الإمام في بيان أدلة الأحكام) رهن إشارة من له الرغبة والعزيمة في اقتحام عقبة الاجتهاد، فهو يذكر أمثلة عديدة في دلالات الألفاظ والحقيقة والمجاز والأوامر والنواهي وكيفية استخراج الأحكام من أدلتها التفصيلية ويقول في الأخير:
(وإنما ذكرت هذه الأمثلة للتدريب في استخراج الأحكام من أدلتها وسواء كانت مجملة أو مبينة سواء كانت مفردة أو مكررة)1498.(1/369)
وهذا الإمام النووي يعطي نبذة عن المنهاج الذي تكون عليه، وجعل منه إماما مبرزا مبدعا رغم عمره القصير ،يقول صاحب طبقات الشافعية:(وذكر لي الشيخ أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسا على المشايخ، شرحا وتصحيحا: درسين في الوسيط ودرسا في أعطى ودرسا في الجمع بين الصحيحين ودرسا في صحيح مسلم ودرسا في اللمع لابن جنى ودرسا في اصطلاح المنطق لابن السكيت ودرسا في التصريف ودرسا في أصول الفقه تارة في اللمع لأبي إسحاق وتارة في المنتخب لفخر الدين ودرسا في أسماء الرجال ودرسا في أصول الدين وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة وضبط لغة (...) وقد سمع الحديث الكثير. وأخذ علم الحديث عن جماعة من الحفاظ فقرأ كتاب الكمال لعبد الغني على أبي البقاء خالد النابلسي وشرح مسلم ومعظم البخاري على أبي إسحاق المرادي وأخذ أصول الفقه عن القاضي أبي الفتح التفليسي وتفقه على الكمال إسحاق المغربي وشمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي وعز الدين عمر بن أسعد الإربلي وكمال الدين سلار الإربلي قرأ على ابن مالك كتابا من تصانيفه وعلق عنه أشياء (...) وقال ابن العطار ذكر لي شيخنا أنه كان لا يضيع له وقتا في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم حتى في ذهابه في الطريق يكرر أو يطالع وأنه بقي على هذا ست سنين ثم اشتغل بالتصنيف.)1499 فنجده رحمه الله في فترة وجيزة من التكوين الكثيف يشرع مباشرة في التصنيف والإبداع والعطاء.
وهناك من المتأخرين من فصل أكثر، فوضع برنامجا شاملا لتكوين المجتهد،ونأخذ منهما نموذجين أحدهما للشوكاني والثاني لمحمد الحجوي الثعالبي ،وبخصوص الأول: سبق أن رأينا أن الشوكاني يقسم طلبة العلم الشرعي إلى ثلاث طبقات أساسية حسب طموحها ورغبتها، وحدد لكل فئة ما يناسبها من الكتب.
فالكتب المناسبة للطبقة الأولى، والتي هي صاحبة الهمة العالية والرغبة القوية في تحصيل العلم والتي تكون مرجعا للعباد..(1/370)
يقترح في النحو من علوم العربية:" منظومة الحريري (ت 516هـ) :"ملحمة الأعراب"وشروحها - وكافية ابن الحاجب (646هـ ) وشروحها- ومغني اللبيب لابن محمد عبد الله بن يوسف (ت762) وشروحه - وشرح الرضى محمد الحسن (ت 686) على الكافية-وألفية بن مالك وشروحها - والتسهيل وشرحه - والمفصل للزمخشري (ت 538)-والكتاب لسبويه.
وفي علم الصرف :يقترح كتاب الشافية لابن الحاجب وشرحها -"والريحانة" و"لامية الأفعال: لابن مالك - وشرح الرضي على الشافية بعد اشتغاله بشرح "الجاربردى ت 746 "ولطف الله الغياث المسماة "المناهل الصافية على الشافية".
وفي علم المعاني والبيان : يقترح حفظ " مختصر التلخيص " ومختصر شرح"السعد"وقراءة ما عليه من حواشي وشروح - وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني (471هـ) و"دلائل الاعجاز" و"مفتاع العلوم" للسكاكي ت 626هـ- والاشتغال ببعض الفنون مثل :فن الوضع من خلال "رسالة الوضع للشريف الجرجاني 816هـ ،وفن المناظرة من خلال "آداب البحث العضدية ،لعضد الدين بن عبد الرحمان ت 756.
وفي مفردات اللغة العربية : يقترح دراسة اللغة المشتملة على بيان مفرداتها،مثل "الصحاح" للجوهري ( ت393هـ) و"القاموس" للفيروزأبادي (ت 817)-و"شمس العلوم"لأبي سعيد نشوان الحميري (ت573هـ) و"ضياء الحلوم"له أيضا- و"ديوان الأدب"لإسحاق ابراهيم الفاربي (ت 350هـ) والمؤلفات المختصة ب "غريب القرآن " و"غريب الحديث" لابن قتيبة.
وفي علم أصول الفقه:يقترح حفظ مختصر من المختصرات مثل :"المنتهى"لابن الحاجب- أو "جمع الجوامع "للسبكي(ت 771) أو "الغاية" المسماة غاية السؤال في علم الأصول للحسين بن القاسم (ت1050).
ثم الإشتغال بشروحها مثل :"العضد على المختصر"وشرح المحلى على الجوامع لجلال المحلى (ت864هـ) وشرح الحسين بن الإمام على الغاية.(1/371)
ويقترح بعد ذلك الإطلاع على مؤلفات أهل المذاهب الأخرى: مثل "تنقيح الأصول" لصدر الشريعة البخاري ( ت 747هـ) والتوضيح للأسدي القدسي "والتلويح شرح التنقيح" للتتازاني ومناهل الأنوار في أصول الفقه" لابن البركات عبد الله النسفي (ت710)-"وتحرير ابن الهمام" (ت861)
وفي علوم القرآن: يقترح الإطلاع على علوم الأداء وكل ما كان له مدخل في التلاوة وسائر العلوم المتعلقة بالكتاب العزيز ومن أمثلة الكتب المعينة على ذلك."الإتقان في علوم القرآن"للسيوطي و"الشاطبية" للقاسم بن فيره الأندلسي (ت 590) وتسمى حرز الأماني وشرحها النشر في القراءات العشر لمحمد الجزري(ت 833هـ)ثم كتب التفاسير:"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" للسيوطي ثم التبحر في المطولات مثل:مفاتيح الغيب للرازي (ت606) وتيسير البيان في أحكام القرآن للموزعي (ت825)وتفسير آيات الأحكام ليوسف أحمد عثمان ( ت 832هـ)
وفيعلوم السنة والحديث: مؤلفات ابن الصلاح (ت643هـ) و"الألفية" للعراقي (ت 806)وشروحها،و "جامع الأصول من أحاديث الرسول "لأبي السعادات مبارك محمد (ت 606هـ) المعروف بابن الأثير - ومشارق الأنوار من صحاح الأخبار المصطفوية للصفاني (ت650هـ)وكنز العمال في سنن الأحوال والأفعال للمتقي الهندي 957هـ ،ومنتقى الأخبار لعبد السلام عبدالله بن تيمية (ت652هـ )و"بلوغ المرام من أحاديث الأحكام لابن حجر العسقلاني (ت852)-وعمدة الأحكام عن سيد الأنام لعبد الواحد المقدسي (ت600).
ويقترح سماع الكتب الستة ( صحيح البخاري ومسلم وسنن الترمذي وابن ماجة والنسائي وأبو داود ومسند أحمد وصحيح ابن خزيمة (ت311هـ)،وابن حبان(354هـ)وابن الجارود (ت 299هـ) وسنن الدارقطني ت 385هـ، والبيهقي (ت 458هـ).
ثم دراسة شروحها والإكثار من النظر في مؤلفات "علم الجرح والتعديل "مثل:"أعلام النبلاء "للذهبي(ت 748) -وتاريخ الاسلام لابن حجر - وتذكرة الحفاظ للذهبي -وميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي.(1/372)
ثم يقترح كتب أخرى في باقي مواد الاجتهاد حسب رأيه سواء في علم المنطق أو علم الكلام وعلم التاريخ وعلم الفقه والشعر ويقترح الإطلاع أيضا على العلوم "الغير الشرعية"التي يرى أنها تساعد على صقل الأفكار وتصفية القرائح وتوسيع المدارك .ثم يقترح كتب دون ذلك للطبقة الثانية تشمل علوم العربية وعلم أصول الفقه وعلم التفسير وعلم الحديث،وكتب أخرى للطبقة الثالثة دون ذلك تهم علم الإعراب وعلم مصطلح الحديث وعلم الحديث وعلم التفسير.. فالمنهج المقترح يعطي صورة عن المنهج السائد في عصر الشوكاني ومرتبط بالبيئة اليمنية التي نشأ فيها وهو منهج طموح ومثالي بمقايسنا وتقصر الأعمار عن تحقيقه .ويهدف إلى استيعاب المجتهد لدقائق العلم ومحتوياته يقول الشوكاني: ( وأنت بعد العلم أي علم من العلوم حاكم عليه بما لديك من العلم غير محكوم عليك)1500
النموذج الثاني وهو محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي (1376هـ) الذي يبدو أكثر واقعية مع أهل زمان دب في أصحابه الفتور وضعفت فيه الهمم وهاله ما رأى من (الأحوال التي أصبح فيها الفقه) فهو ينظر إلى المجتهد على أنه ( البالغ الذكي النفس ،ذو الملكة التي بها يدرك المعلوم،العارف بالدليل العقلي الذي هو البراءة الأصلية ،وبالتكليف به في الحجية ،ذو الدرجة الوسطى لغة وعربية وأصولا وبلاغة ،ومتعلق الأحكام من كتاب وسنة)1501.
والمتوسط عنده من يميز العبارة الصحيحة من الفاسدة ،والراجحة من المرجوحة ليتأتى له الاستنباط المقصود من الاجتهاد وإن لم يحفظ متون آيات الأحكام وأحاديثها فهو على مذهب من يرى أنه لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد.(1/373)
فهو يورد قولة أحد شيوخ العز بن عبدالسلام ( أن قراءة مثل :الجزولية،والمعالم الفقهية ،والاطلاع على أحاديث الأحكام الكبرى لعبد الحق ونحو ذلك يكفي في تحصيل الاجتهاد ) وأضاف ابن عرفة مختصر العين و"الصحاح" للجوهري1502 ومفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول ) للشريف التلمساني.
وبعد ذلك يقترح كتبا على سبيل التخيير يغني أحيانا بعضها عن بعض:
ففي علوم القرآن: يرشح:كتاب ابن حزم في الناسخ والمنسوخ -وأحكام القرآن لابن عربي- وأحكام القرآن للجصاص- وتفسير ابن جرير الطبري - ونهاية ابن الأثير.
وفي علوم السنة والحديث: موطأ الامام مالك - صحيح البخاري مع شرح فتح الباري أو سنن أبي داوود فهي كافية على رأي الغزالي - أو مسند أحمد ومعه "كنز العمال" اللذين هما من أجمع الكتب لما يحتاج اليه المجتهد من السنة ) - أو ( تيسير الوصول إلى جامع الأصول لابن بديع وهو كاف وحده) - (وكفى بكتاب المشكاة للتبريزي المشتمل على أحاديث (5495) وهي معظم ما يحتاجه المجتهد وشرحها لعلي القاري)- (ولا يستهان ب"بلوغ المرام"وشرحه "نيل الأوطار " للشوكاني فهناك غاية وطر المجتهد )- ومن كتب هذا الشأن كتاب"التحقيق"في أحاديث التعليق لابن الجوزي وما علق عليه به الحافظ شمس الدين أحمد بن عبد الهادي في كتابه "تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق".
وأما ما يتعلق بالإجماع: يقترح كتاب الإجماع لأبي بكر الرازي - و"الإقناع في مسائل الإجماع" لأبي الحسن بن القطان -أو كتاب الإجماع لابن حزم أو لابن المنذر أو لابن عبد البر (مع التنبيه إلى تحذير العلماء من اجماعات ابن عبد البر).
وفي علوم العربية: يقترح:كتاب "القاموس المحيط "في اللغة وشرحه- وأساس البلاغة للزمخشري.(1/374)
وفي علم الأصول:" مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول ) للشريف أبي عبدالله محمد بن أحمد التلمساني (ت771هـ) وسماه "نيسير الوصول " و"الأصولية متن ابن التلمساني "1503-ويمكن أن نضيف إليه "كتاب إعلام الموقعين "لابن قيم الجوزية حيث مدحه بتحفظ بقوله: (من أحسن ما يدرب على الاجتهاد ،ويوضح طريق الرشاد لولا ما فيه من التحامل على الحنفية والأشعرية)1504.
وفي الفروع الفقهوية وعلم الخلاف: يقترح "مدونة السحنون "و"مصنف ابن أبي شيبة "1505 فإن الفقيه أحوج ما يكون اليه -وكتاب "الإشراف"لأبي المظفر الوزير يحيى بن هبيرة ( وهو أحسن ما ألف وألطف ما صنف في الباب )1506 فهو في خلافيات المذاهب الأربعة يأتي أولا بما هو متفق عليه من المسائل ثم بما هو مختلف فيه غير أنه مجرد عن الأدلة .وذكر من كتب الخلاف التي تعين على الاجتهاد جدا) كتاب"المنتقى للباجي" الذي يرشد إلى طريق الاجتهاد والتعليل والقوادح وكتاب"بداية المجتهد"لابن رشد الحفيد وهو الذي اخترناه نموذجا تطبيقيا لتربية ملكة الاجتهاد في مبحث خاص.
وهو لا ينسى ضرورة اطلاع المجتهد على علوم العصر خصوصا منها علم الاجتماع والعلوم القانونية، غير أنه لم يقترح كتبا في ذلك، يقول بأن الأمة (محتاجة لمجتهدين بإطلاق،عارفين بعلوم الاجتماع والحقوق يكون منهم أساطين لسن قوانين دنيوية طبق الشريعة المطهرة تناسب روح العصر..)1507
كما أنه لا ينسى أن تجديد الفقه لن يكون إلا بإصلاح التعليم وإشاعته بين الناس.
ولاشك أن الباب مفتوح لعلماء الأمة ولمعاهدها وكلياتها ومجامعها الاجتهادية، لاقتراح ما يناسب من الكتب والمقررات لتخريج المجتهدين شريطة عدم إغفال ما يناسب المستجدات في كل حين.واعتماد الطرق العلمية في الاختيار والمبنية على التجربة والملاحظة والتتبع والتقويم ..واعتماد مبدأ التخصص واقتصاد
الجهد واختصار الوقت..(1/375)
ولا شك أن الوسائل الحديثة توفر وسائل الجمع والتصنيف وتنظيم المعلومات وسرعة استحضارها وتيسير توظيفها وهو أمر سيسهل التعامل مع المصنفات الضخمة ويمهد عمل المجتهدين بشكل لم يسبق له مثيل.
معالم في تكوين مجتهد المذهب:
ونختم حديثنا عن الوسائل التي تسهل عملية الاجتهاد وتربية العلماء عليه بنموذج يخص الاجتهاد في المذهب بعد أن تحدثنا عن وسائل تكوين المجتهدين بإطلاق .وقد كان في نية ابن رشد رحمه الله وضع كتاب لهذا الغرض ،غير أنه يبدو أنه لم يتمكن من ذلك،يقول في "البداية"( وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون به القارىء مجتهدا في مذهب مالك لأن إحصاء جميع الروايات عندي شيء ينقطع العمر دونه )1508
ويبدو أن ابن رشد غير مقتنع بالمنهج المتبع في المصنفات قبله مما يمكن أن يكون برنامجا لتكوين مجتهد المذهب، وإن اعترف بشكل غير مباشر بجهود الباجي في "المنتقى"إلا أنه يحتاج إلى تتميم وإكمال وتدارك النقص،يقول عن مذهب مالك:
( والظاهر من مذهبه أن ليس في ذلك قانون من قوله حتى تنحصر فيه أقواله فيها وقد رام حصرها الباجي في المنتقى (...) وسبب العسر أن الإنسان إذا سئل عن أشياء متشابهة في أوقات مختلفة ولم يكن عنده قانون يعمل عليه في تمييزها إلا ما يعطيه بادىء النظر في الحال جاوب فيها بجوابات مختلفة فإذا جاء من بعده أحد فرام أن يجري تلك الأجوبة على قانون واحد وأصل واحد عسر ذلك عليه)1509 فالمفهوم من قوله عسر عليه أي ضبط المذهب في أطر وقوانين تسهل الفهم والاستنباط على ضوئها.فعزم على وضع مؤلف يكون في المذهب ك"البداية" في المذاهب.(1/376)
ومن بين الاقتراحات في هذا المجال:اقتراح د.محمد المختار ولد باه حيث دعا إلى جرد مجموعة الأحكام التي صدرت عن الإمام مالك ،وعن مجتهدي المذهب، وتصنيفها حسب المواضيع الفقهية باستعمال الآلات التقنية الحديثة.وربط هذه الأحكام بالأدلة التي اعتمد عليها من نص أوإجماع أو قياس .ثم تقنين استعمال هذه الأدلة حسب مراتبها وضبط موازين الترجيح بينها.وذلك لإبراز الأسس الصحيحة التي بني عليها هذا المذهب .
وإعطاء الفرصة للعلماء لاستثمارها بالاجتهاد حسب هذه الأصول ،وإصدار الأحكام التي تواكب التطور الحضاري وتستجيب لمتطلبات العصر مع مراعاة روح الشريعة،( ليستمر الاجتهاد ونسترد الأصالة ونتحرر من وطأة القوانين الغربية وما يتلوها من سيطرة التصورات الفكرية والعقائدية)1510.
الشروط التربوية لتربية ملكة الاجتهاد:
أما عن الشروط التربوية :فتربية ملكة الاجتهاد كما رأينا في مستويات تربيتها نحتاج إلى تدرج وحكمة وتربية الناس بصغار العلم قبل كباره كما قال الشاطبي1511 ،ومن ذلك ما اقترحه ابن خلدون بالرجوع إلى الموضوع ثلاث مراتب على سبيل الإجمال مرة وباستيفاء الشرح والبيان أخرى، وبالتعمق الذي لا يترك عويصا ولا مهما ولا مغلقا حتى يمسك بناصيته ويملك أمره1512.
يقول الشوكاني في "أدب الطالب" وهو يرسم منهج التكوين بتدرج ( أن يبتدىء المتعلم بالحفظ فيحفظ مختصرا من المختصرات الذي ينوي دراسته ثم يشتغل بعد ذلك بدرس شرح مختصر من شروحه على شيخ من الشيوخ ثم يترقى إلى ما هو أكثر منه فوائد وأكمل مسائل ،ثم يكب على مطالعة مؤلفات المحققين من أهل ذلك الفن فيضم ما وجده من المسائل خارجا عن ذلك المختصر)1513(1/377)
ومن التدرج عدم الاكثار في الحصة الواحدة حتى يكون أدعى للاستيعاب،فالإمام مالك رحمه الله كان يكره الزيادة على أكثر من سؤالين أو ثلاثة إلى ستة في المسائل الفقهية لما يحتاج أمرها إلى تدقيق وتقليب أوجه الرأي فيها ،بينما يتراوح ما يمليه من الأحاديث بين العشرة إلى اثني عشر حديثا في الأحوال العادية ولا يزيد على تقرير عشرين حديثا في الأحوال الاستثنائية1514.و(قال مصعب الزبيري حبيب قارىء الموطأ في حضرة مالك ،كان يقرأ لنا عشية من ورقتين إلى ورقتين ونصف ولا يبلغ ثلاثا والناس ناحية لا يدنون ولا ينظرون فإذا خرجنا جاءنا الناس فعارضوا كتبهم بكتبنا...)1515 بل إن الحلقات الدراسية كانت تراعي التدرج في المستويات (قال ابن المنذر كانت لمالك حلقة يجالسه فيها فقهاء المدينة)1516أي خاصة بهم دون غيرهم.
وكانت الدروس يحيطها جو من الوقار والاحترام من طرف الأساتذة والطلبة وعموم الناس وخاصتهم من الحكام وغيرهم فكان مالك رحمه الله يتطيب ويغتسل احتراما لمجلس العلم.
6- صدق العزيمة وحسن الخلق واقتران العلم بالعمل:
سبق أن رأينا بأن العملية الاجتهادية تحتاج إلى جو فكري تتغذى منه وإلى شيوخ أكفاء يحسنون التوجيه ويتقنون الطرق التربوية الرفيعة وإلى صفات ذاتية وجهود كبيرة ممن له طموح في الاجتهاد، واعتبرنا هذه الأخيرة أصلا وغيرها من الشروط فروعا ،ذلك أن ما سبق يمكن أن يكون قسمة بين عدد كبير من الناس سواء في صورته السلبية أو الإيجابية ،ولكنهم يختلفون في اغتنام الفرص المتاحة وفي القدرة على تجاوز المعوقات والقفز على الحواجز ،فالعوامل الذاتية عوامل أساسية ورئيسية تناسب التصور الاسلامي.(1/378)
قال تعالى: ?إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم? والمسلم الصادق ليس إمعة يسير مع التيار بغير روية، إنما يحسن إذا أحسن الناس ويتجنب إساءتهم إذا أساؤوا ،والبيئة الصالحة تساعد على الصلاح وليست شرطا فيه،وكذلك الشأن في الجهاد والاجتهاد.
يقول الحجوي الثعالبي بعد أن أفاض القول في يسر الاجتهاد في زماننا وإمكانية تحصيل شروطه: ( إنما المفقود أمران :الأول عزيمة الطالب على إدراكها ،فإذا عزم ،ومرن نفسه على استقلال فكره ،وشغله بتدبر كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وترك التمرن على كلام المتأخرين الجامدين ،وجعل بدله التمرن على فهم الكتاب والسنة ،وكلام أئمة الاجتهاد مثل مالك وأضرابه كما كان أهل القرون الأولى يفعلون.
إذ كانوا يتمرون على فهم البخاري وتراجمه وأحاديثه ،وأحاديث مسلم و"الموطأ" و"الأم" للشافعي ،وفقه أبي حنيفة ومسند أحمد ،وأمثالهم،فإذا رجعنا لما كان عليه المجتهدون في كيفية تربية ملكاتهم صرنا مجتهدين مثلهم .
الأمر الثاني: رياضة النفوس على الأخلاق الفاضلة وترك السفاسف لتوجد الخصلة العزيزة وهي النزاهة التي تحصل بها الثقة العامة كما كانت حاصلة بالمجتهدين ،فالذي فقد أو كاد هو الثقة، وعليه فإنما يعز وجود شرط في الاقتداء لا في الاجتهاد وهو الأمانة التي تنشأ عنها الثقة )1517.
هذا نص نفيس بين فيه صاحبه رحمه الله تعالى أهم ركن في الاجتهاد ،فالأسلحة مهما كانت فعاليتها لا تعمل إلا في أيدي أبطال. وقد لخص شروط الاسلام في تولي أي مسؤولية كانت والتي تتمثل في شروط الحفظ والأمانة وشروط العلم والقوة.قال تعالى: ?إن خير من استأجرت القوي الأمين? (القصص:26) وقال تعالى: ?قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم? (يوسف:55)
لا بد لمن يندب نفسه لهذا الأمر العظيم من الأمانة والأخلاق الفاضلة وعنصر الإخلاص والنزاهة والحرص على التقوى والعبادة والتواضع لله تعالى .(1/379)
فالعلم الذي يباركه الله تعالى وينفع به لا يحصل إلا بالتقوى، قال تعالى :?اتقوا الله ويعلمكم الله? والإخلاص سبيل الهداية والتوفيق ? والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين? ونستحضر هنا أبياتا تنسب إلى الإمام الشافعي جاء فيها:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي*** فأرشدني إلى ترك المعاصي.
وأخبرني أن علم الله نور***ونور الله لا يهدى العاصي.
فطالب الاجتهاد يحركه العمل في سبيل الله، ثم حب اكتشاف الحق والاستزادة من العلم والمعرفة،والعمل على نشر الحق بين الناس والدعوة إلى تطبيقه في واقع الحياة ،ويتحلى بالزهد، فلا تطغى عليه أطماع المادة أو الجاه أو المنصب ..فتقوى الله وإخلاص التوجه إليه يورث هيبة وذكاء في القلب وفراسة قوية ونفاذ بصيرة. وابتغاء ما عند الله أيضا: يورث الشجاعة في قول الحق والجرأة في إبداء الرأي، ويتعرض العبد بالإخلاص لفضل الله ورحمته، بعد إتيان ما يستطيع من أسباب، ليجعله من جنده وخدام دعوته، الذين ينصر بهم الحق ويقمع بهم الباطل.
ويرزقه ملكة الاجتهاد باعتبارها هبة ربانية يوتيها من يستحق من عباده .وبالتقوى يفتح الله له ويجود عليه بكنوزه التي لا تفتد ولا تمنح إلا للقلوب الطاهرة.
وإذا تتبعنا سيرة المجتهدين نجد فيهم هذه الصفات بارزة المعالم،يقول أبو زهرة في الامام مالك: (ولإخلاصه في طلب العلم كان يبتعد عن شواذ الفتيا ولا يفتي إلا بما هو واضح نير..وكان مالك يقول : (خير الأمور ما كان ضاحيا نيرا، وإن كنت في أمرين أنت منهما في شك فخذ بالذي هو أوثق )1518
فالإخلاص يضيء الفكر فيسير على خط مستقيم ،وقد وهبه الله فراسة قوية عبر عنها الإمام الشافعي، حيث قال: سرت إلى المدينة ولقيت مالكا وسمع كلامي، نظر إلي ساعة...وكانت له فراسة - ثم قال ما اسمك ؟ قلت محمد قال يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن )1519.(1/380)
وكانت تقوى الله تثمر في قلوبهم تسامحا مع الخلق، فهذا أبو حنيفة رحمه الله كان من دعائه عند وجود من يعارصه أو يبغضه (اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له)1520.وتثمر كذلك أخلاقا عالية ،وأهمها ما يحتاجه طلب العلم ورتبة الاجتهاد من صبر وجلد ومعاناة وحرص على التعلم واستمرار فيه مدى الحياة .
فهذا الإمام أحمد كانت له رحلات من بغداد إلى البصرة ثم إلى الحجاز والكوفة واليمن ليتلقى الحديث عمن يروي من الأحياء، يأخذ عنهم شفاها ليتثبت من الرواية، فكان يركب متن الصعاب في طلب الحديث وكان يقول: مع المحبرة إلى المقبرة1521.
وهذا الامام مالك يبذل وقته في الدرس والتحصيل ويجهد جسمه وقواه في السعي إلى العلم وينفق كل ما عنده في سبيل المعرفة .يقول ابن القاسم ( أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه)1522 ومما يدل على حرص على طلب العلم وصبره عليه، قوله وهو يحكي زياراته لابن هرمز الذي انقطع إليه: سبع سنين ( وكنت أجعل في كفي تمرا وأناوله صبيانه وأقول لهم إن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا مشغول...وكنت آتيه من بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل ).
ومن صبره رحمه الله ما نقل من قوله (ترد علي المسألة فلا أنام الليل كله بحثا عن حكمها)1523
وكان يتلطف للشيوخ ويصبر على حدة بعضهم ويقول : ( من طلب هذا الأمر صبر عليه)1524 وقال العلماء عن تحمل الذل في التعلم ( ليس من أخلاق المومن التملق إلا في طلب العلم ،وقال بعض الحكماء : (من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا )1525.وعموما فالصبر على طلب العلم كان خلقا لعامة العلماء.
فهذا الإمام أبو فرج عبدالرحمن بن الجوزي محدث العراق وواعظ الآفاق، يقول في مذكراته "صيد الخاطر":( كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة ،فأخرج في طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى في ضواحي بغداد ،فلا أقدر على أكلها الا عند الماء ،فكلما أكلت لقمة شربت عليها.(1/381)
وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم ،فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه، وأحوال الصحابة وتابعيهم ،وأثمر عندي من المعاملة ما لا يدرك بالعلم، حتى أنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، لم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من العلم من خوف الله عز وجل ،ولولا خطايا لا يخلو منها بشر، لقد أخاف على نفسي العجب،غير أنه عز وجل صانني وعلمني ،وأطلعني من أسرار العلم على معرفته وإيثار الخلوة به)1526
ويقول عن آثار مواعظه: (ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مئتي ألف ،وأسلم على يدي أكثر من مئتي نفس ،وكم سالت عين متجبر لم تكن تسيل)1527 هذا ما يثمره الصبر والتقوى من الخير والقبول.
7-التشجيع على التعلم الذاتي والنظرة النقدية:
وأما ما يطلب في جانب القوة والعلم، فمن العوامل الذاتية في الإبداع: القدرة على اكتشاف المشاكل وإيجاد الحلول المناسبة لها، والقدرة على استخدام أساليب التفكير المناسبة لتقابل متطلبات المواقف الجديدة، وما يفرضه ذلك من مرونة فكرية وطلاقة عقلية، وإحساس مرهف بالنقص والقصور والأخطاء ،ورؤية الكثير من المشكلات في الموقف الواحد ،والأصالة والقدرة على اكتشاف العلاقات وايجاد النظم والقدرة على تقييم النتائج...
وما يصاحب كل ذلك من حاجة نفسية وطاقة زائدة وطموح كبير، وانفعال بالأشياء وانجداب نحو الغامض لمعرفته، وسبر أغواره وحب السؤال والبحث والاستقلالية والثقة بالنفس،وامتلاك ملكة النقد والتمايز في الفكر والمبادأة والتلقائية والإحساس بالحرية ،وغيرها من عوامل القوة الدافعة إلى الاجتهاد والتي ينبغي أن تترجم إلى الاجتهاد في الحفظ والتفقه والحرص على جودة التلقي وفحص ما يتلقاه الطالب واكتساب ملكة التعلم الذاتي ..وسيرة المجتهدين غنية بهذه المعاني.(1/382)
وباعتبار الحافظة القوية أساسا للنبوغ في أي علم بما تمد به العالم من غذاء لعقله وما يكون أساسا لفكره،فقد سبق بيان أهمية هذه المهارة وضرورة تقويتها والعناية بها وذكر نماذج من تحقق العلماء بها وضرورتها في درب تكوين المجتهدين.وقوة الحافظة لا تعني في شيء إهمال المعاني والفهم ،فلم يكن أبدا تحصيل وحفظ أولئك الأعلام بغير روية، وإنما كان يصاحبه فقه وتفكر ونقد،فأبو حنيفة رحمه الله كان يتجه إلى لب الحقائق ومعرفة ما وراء النصوص من علل وأحكام، وإذا أراد استخراج حكم من نص قرآني اتجه إلى تعرف مراميه وغاياته وعلله1528 .
قال ابن معين في مالك رحمه الله ( ما رأيت أحدا أجود أخذا للعلم من مالك،وقال أحمد بن صالح ما أعلم أحدا أشد تنقيا للرجال والعلماء من مالك)1529 وقال مالك:( ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء)1530وقد حرص مالك رحمه الله على هذا التمحيص منذ فترة التلقي والطلب فقد( سئل ابن هرمز ذات يوم فقيل :حل في بدني ضعف ،ولا آمن أن يكون قد دخل على عقلي مثل ذلك ،وأنتم إذا سألتموني عن شيء فأجبتكم قبلتموه ،ومالك وعبد العزيز ينظران فيه فإن كان صوابا قبلاه وان كان غيره تركاه )1531.
وقد وضع الإمام مالك رحمه الله ضوابط للأخذ عن الشيوخ مما يدل على حسه النقدي ،فهو لا يأخذ الحديث عن سفيه أو صاحب هوى يدعو الناس إلى هوى، أو كذاب يكذب في أحاديث الناس، أو شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث.وقال فيه ابن حبان (كان مالك أول من انتقى الرجال بالمدينة وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث ولم يكن يروي إلا ما صح ولا يحدث إلا عن ثقة )1532.
والإمام الشافعي بحسه النقدي: وازن بين فقه أهل الحجاز وفقه أهل العراق، ولم يمنعه تقديره للإمام مالك بالخروج بمذهب جديد، ومن مرونته الفكرية والعقلية وتفاعله مع المستجدات تغييره لبعض الاجتهادات لما حل على أهل مصر قادما اليها من العراق فعرف فقهه بالمذهبين القديم والجديد.(1/383)
وهكذا كان منهج العلماء العاملين المجتهدين لم يكونوا يزدردون ما يلقى إليهم،بل يفحصونه ويمحصونه، يقبلون بعضه ويردون بعضه ،ويدرسون الروايات دراسة فاحصة ولا يقبلون إلا ما يوافق الكتاب والسنة والمقاصد الشرعية.
وهذا الإمام الشوكاني كان لايمل القراءة والمطالعة ويسلك سبيل( التعلم الذاتي ) بعد أن تلقى عن الشيوخ ،بل وفي أثناء التلقي كان يقوم بتدريس زملائه وأقرانه فهو يقول: ( يختلف الانتفاع بالعلوم باختلاق القرائح والفهوم ،فقد ينتفع من هو كامل الذكاء صادق الفهم قوي الإدراك بالقليل مالا يقتدر على الانتفاع بما هو أكثر منه كثير من جامدي الفهم راكدي الفطنة )1533
فهو يدعو إلى الاهتمام بالدافع لدى المتعلم من صلاح النية والرغبة الصادقة ووجود الهمة العالية والعزيمة القوية بحيث لا يرضى الطالب لنفسه بالدون، ولا يقنع بدون المقصد والغاية.
فلا بد من الجد والاجتهاد لبلوغ أعلى المراتب وحصول أسمى المطالب، ويدعو إلى المزج بين العلم والعمل وإعمال العقل والاجتهاد في تجاوز عوائق التعلم: مثل الاقتصار على تعلم فن دون غيره، واعتبار بقية العلوم الأخرى لا فائدة منها. والتحلي بأخلاق التجرد وعدم جعل العلم صهوة للتكسب وطلب الشهرة..
ويدعو في التربية العقلية إلى وعي الطالب بضرورة التحرر من القيود والأغلال ويقظة الحواس والوجدان، باعتبارها أبوابا للفكر وروافد للمعرفة.وتقوية العقول عن طريق التزود من العلوم المختلفة لتزكو ويرتفع مستواها، والاهتمام بمختلف الوظائف من تذكر وتفكير وتدبر ونظر .ولا يكون ذلك إلا بتوسع في العلوم وإدمان على القراءة والكتابة، والتحرر من هالة الأشخاص وآرائهم وممارسة المنهج العلمي في التفكير.(1/384)
فكان في منهجه رحمه الله يربي تلامذته على هذه المعاني فكان يقرر دليل كل مسألة ويوضح لهم الراجح فيها ويطلب منهم أن يسلكوا مسلكه في البحث بالرجوح إلى أمهات الكتب ويناقشها معهم مع التزامه بالانصاف. وفي ذلك تعويدهم على حب البحث والإطلاع وإعمال العقل للوصول إلى القول الراجح بعيدا عن التعصب والتقليد،يقول رحمه الله : ( لا تقلد في ذلك أحدا ،ولا تقتد بقول رجل ولا تقف عند رأي ولا تخضع لغير الدليل ولا تعول على غير النقد)1534.
فهو يؤكد على ضرورة الفهم والنقد والتحليل والتقييم، للخروج بنتائج أقرب ما تكون إلى الصواب ويدعو إلى التفكير الابتكاري والاجتهاد ومحاربة العوائق مثل:التعصب للمذاهب والبدع والخرافات وكذا غربلة التراث من الافتراءات والاسرائليات وغيرها من المعوقات التي تحول دون انطلاق التفكير الحر.
8-الاهتمام أكثر بالأصول لكونها تقدح زناد الاجتهاد:
فأمام تشعب العلوم وكثرة المؤلفات واتساع المطلوب وقصر الأعمار ،يحسن بطالب الاجتهاد اقتصاد الجهد والأخذ بسلم الأولويات في العلم .ولهذا نجد ابن رشد يركز كثيرا كما سبق ذكره على الاهتمام بالأصول وعدم تضييع الأعمار مع التفريعات قبل إحكام ما هنالك من قواعد وأمهات وأسس عليها يبنى صرح الاجتهاد والتفريع ،ويصلح هنا استحضار موقف الشافعي الذي اعتكف ثلاثا على التدبر في القرآن حتى استخرج دليل الإجماع.
جاء في أحكام القرآن للشافعي والذي جمعه البيهقي ما يلي:( قال المزني والربيع: كنا يوما عند الشافعي، إذ جاء شيخ فقال له: أسأل قال الشافعي: سل قال إيش الحجة في دين الله ؟ فقال الشافعي: كتاب الله ،قال: وماذا؟ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة .قال: ومن أين قلت اتفاق الأمة من كتاب الله ؟ فتدبر الشافعي رحمه الله ساعة، فقال الشيخ: أجلتك ثلاثة أيام فتغير لون الشافعي ،ثم إنه ذهب فلم يخرج أياما .(1/385)
قال: فخرج من البيت في اليوم الثالث، فلم يكن بأسرع أن جاء الرجل، فقال : حاجتي ؟ فقال الشافعي رحمه الله: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل:? ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا? لا يصليه جهنم على خلاف سبيل المؤمنين إلا وهو فرض. قال: فقال: صدقت، وقام وذهب. قال الشافعي: قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه )1535 .
فهذا النص الثمين، يبين مقدار الجهد الذي بذله أولئك الأعلام الكبار لاستخراج القواعد والأصول انطلاقا من التدبر في كتاب الله عز وجل ،وخصوصا في العصور الأولى حيث ازدهار الاجتهاد.غير أن تقدم الزمن بالمسلمين جعلهم يضعون الحواجز تلو الحواجز بينهم وبين أصول الإسلام وينابيعه الأولى أي الكتاب والسنة،فضعفت فيهم ملكة الاجتهاد بقدر ما كانت قوية في أسلافهم.
وفي عصور التقليد توجه كل الجهد إلى التفكر والتدبر في كتب الفروع فهذا الإمام محمد أبو بكر الأبهري ناشر مذهب مالك بالعراق يقول:( قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة والأسدية خمسا وسبعين مرة والموطأ كذلك والمبسوط ثلاثين مرة ومختصر ابن البرقي سبعين مرة)1536فباستثناء تكراره للموطأ لو توجهت عناية مثل هذا الفقيه العظيم إلى التدبر العميق في الكتاب والسنة لكان من كبار المجتهدين المستقلين .وسيزداد المتأخرون اعتكافا على الوسائط من الكتب والمصنفات متهيبين من إتمام غوصهم إلى الينابيع الصافية التي أغترف منها الأولون.وشغفوا بالفروع حتى جعلوا منها أصولا في محورها يتحركون وعليها يقيسون.
الفصل الثالث
تربية ملكة الاجتهاد
أحد أهم أغراض "البداية"
المبحث الأول
ذكر سبب تأليف "البداية"والغرض منها(1/386)
يقع ابن رشد مع "بدايته" في الطور الرابع للفقه والذي يوصف في تاريخ التشريع عادة بأنه طور "الشيخوخة والهرم المقرب من العدم" 1537 والذي مبدؤه من أول القرن الخامس حيث (لم يبق إلا مرق الفقه بعدما وصل إلى منتهى قوته في القرون الأربعة السابقة وتم نضجه فزاد بعد حتى احترق وذهبت عينه)على حد تعبير الحجوي1538 فاشتغل المسلمون بالمختصرات والتوسع في جمع الفروع من غير التفات للأدلة فكانت الرزية (كل الرزية ما حال بين المسلمين وبين نصوص نبيهم وكلام ربهم)1539 وبرقت بارقة على الفقه زمن الموحدين (تحرك بها حركة لكن كانت أشبه بحركة الموت)1540.
فقد كانت الآراء الأصولية التي وردت عند ابن تومرت (ت 524هـ) ( ثورة منهجية في الفكر الشرعي تقوم على أساس من الرجوع المباشر إلى القرآن والحديث واستنتاج الأحكام منهما وإقامة الحياة عليهما)1541 بدل تأصيل الأقوال على الأقوال وبناء الفروع على الفروع، ودعا ابن رشد إلى فتح باب الاجتهاد واعتبر العهد الثقافي الجديد الذي أحدثه ابن تومرت ودعمه خلفاؤه من بعده عهدا (رفع الله به كثيرا من الشرور والجهالات والمسالك المضلات (...) وطرق به إلي كثير من الخيرات)1542 .ويمكن أن نقول انه يصعب فصل المشروع العلمي لابن رشد في كتابه "البداية"عن المشروع التغييري للموحدين دون أن يقصد بذلك مجاراته بالضرورة في كل تفاصيله،ولكن هذا المشروع مارس تأثيره عليه بكل تأكيد.(1/387)
فهو لم يكن بعيدا عن أصحاب القرار، وقد كان طبيب البلاط لعدة سنوات، ودعي من طرف عبد المومن للمساهمة في إصلاح التعليم، وتنقل في مناصب القضاء، كما بلغ ولع ابن رشد بآراء المهدي ابن تومرت أنه كتب شرحا على عقيدته بقي ذكره ولكن فقد نصه1543 وذكر ولاة الأمر في مطلع بعض كتبه فقال في "مقالة في الترياق": (أما بعد حمدا لله تعالى والصلاة على محمد رسوله المصطفى فانه سألني من وجبت علي طاعته ،وتعين لدي شكره ،وتقدم إلي فضله وبره أن أثبت له على طريق البرهان الطبي ما قاله الأطباء في المواضع التي يستعمل فيها الترياق...)1544
وذكر في مقدمة شرح أرجوزة ابن سينا في الطب وهي أبلغ : (أما بعد حمدا لله المنعم بحياة النفوس وصحة الأجسام (...) والصلاة والسلام على محمد خاتم الرسل وسيد الأنام ،والرضى عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم1545 محيي الدين ومجدد رسوم الإسلام ،وعن صحبه وخليفته أمير المؤمنين ممشي أمره على غاية الكمال والتمام والدعاء لسيدنا أمير المؤمنين بالنصر المستصحب على الاتصال والدوام ...) 1546 .
كما تصدى ابن رشد للاستجابة لحل الإشكال الذي وقع للخليفة في الفلسفة إذ كان ما ترجم منها إلى ذلك العهد بين مشوه وناقص، فتقدم يوسف بن عبد المومن :
( إلى ابن رشد بإشارة ابن طفيل أن يشرح تأليف هذا الحكيم شرحا يجمع بين الإيجاز والصراحة، فأجابه وشرع في عقد الشروح التي وضعها على تصانيف أرسطو)1547(1/388)
وهذا يشبه إلى حد كبير الإشكال الذي وقع للخليفة في شأن الفروع الفقهية، فقد ذكر أبو بكر محمد بن عبد الله بن الجد (ت 586هـ ) مناظرة بينه وبين أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن ( لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي:يا أبا بكر، أنا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله ،رأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا ،فأي هذه الأقوال هو الحق ؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد ؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك. فقال لي وقطع كلامي: يا أبا بكر،ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف أو هذا وأشار إلى كتاب سنن أبي داود وكان عن يمينه أو السيف)1548
فلا يبعد عندي أن يكون من أهداف "البداية"وهي تبسط أسباب الخلاف بين الفقهاء لتخليص ذوي القرار وغيرهم من الحيرة المربكة، وطمأنة من أساء الظن بالخلاف الفقهي واعتبره بعدا عن الكتاب والسنة، ومثارا للفرقة والنزاع .وتصحيح النظر إلى المذاهب الفقهية المختلفة حتى ينظر إليها بعين الرضا، وأنها فروع باسقة لشجرة الإسلام الطيبة الثابتة ،وهو عمل ميسور على من اشرأبت نفسه لعقد الصحبة وأخوة الرضاع بين الحكمة والشريعة ذوات الأصول المختلفة ،فكيف بالأخوات الشقيقات بنات الإسلام، بل ومذاهب أهل السنة والجماعة ؟.(1/389)
وتتجلى روعة"البداية"وقيمتها العالية في كون صاحبها وقف وقفة القاضي البارع العادل،والحكم المنصف ،وتبنى وسطية تكبح جماح كل جنوح أو تطرف، وهدف إلى تحقيق التناغم بين ما يبدو في ظاهره التعارض،والوصول إلى أهداف تشمل المجتهد والمقتصد ،وتهذب حماس الدولة الجديدة ،وتستنهض همم المنصف الذي لا يقضي لمن يبادله عاطفة صداقة أو قرابة ولا على الذي بينه وبينه عاطفة بغض أو عداء ،وجعل الناس سواء واتخذ شعار :الدليل على من ادعى صواب رأيه، والبينة على من ترك الأخذ بحكم غيره من أهل التقليد القيمين على المذهب السائد .وبسط لذلك أهدافا إجرائية: كالمساهمة في إصلاح طرق التعليم والتكوين الفقهي، وإبراز شروط الاجتهاد ،وضبط القول الفقهي وتأصيله .وبعبارة أخرى فالذي ظهر لي خلال "البداية" وعنوانها أن الهدف الكبير لصاحبها هو: اقتحام عقبة الاجتهاد ،سواء داخل المذهب أو خارجه، والتحقق بمرتبة "بداية المجتهد"وإن فترت الهمم، ولم يترك الأول للآخر، ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان، فلا أقل من التحقق بمرتبة "كفاية المقتصد" المتسامح مع غيره، التارك لمحورية الغرور،والمعتقد أن كوكبه واحد من الكواكب التي تدور جميعها حول شمس الشريعة .وهذه أمور لا تتأتى إلا بفهم الخلاف وإعادة الاعتبار للدليل وربط الفروع بأصولها، والتنظيم الصناعي للمعلومات ووضع قوانين ودساتير للقول الفقهي.
خطاطة لمقاصد "البداية"
الهدف من الكتاب:
إصلاح التعليم الفقهي
الاهتمام بالدليل والأصول
التدرب على استنباط المسكوت عنه من المنطوق
تنظيم المعلومات لتسهيل الضبط والاستيعاب
وضع قوانين ودساتير للقول الفقهي
1- الهدف الأول:الدعوة إلى الاجتهاد(1/390)
لاشك أن ابن رشد كان شديد الانزعاج مما أصاب المسلمين من توقف وتهيب من الاجتهاد، وغياب الجرأة في محاكاة عمالقة العصور الأولى ، وكأني به يدفع بكل ما أوتي من قوة بابا ضخما يسنده أهل قرنين من الزمان تمالأ غالبيتهم على إغلاقه ،و فتح باب الجدل وكثرة اللجج في المنافحة عما رأوه قد بلغ ذروة الكمال والتمام ولا مزيد عليه ، ولأهل الطموح منهم اختصار ما سلف والعناية بحفظ الفروع، وجعلها أصولا تبنى عليها فروع في غالبيتها أوهام وتخيلات .
ولهذا طالما وصف أهل زمانه بالتقليد سواء في "البداية " أو غيرها من كتبه . فقد وعد في مقدمة " البداية " بذكر المسائل المتفق عليها، والتي اشتهر الخلاف فيها بين فقهاء أهل الإسلام (من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد )1549 فأهل التقليد عنده ليسوا حجة، لا فيما اتفقوا فيه ولا فيما اختلفوا فيه، ولهذا لا قيمة لذكر أقوالهم .ولأنهم ليسوا إلا عارضين لسلعة لا يقدرون على صنعها ،فهم عالة على الصناع الجديرين بأن يسموا "فقهاء".
ولأن الذي (عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه ، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة. وهو الذي يصنع للقدم خفا يوافقه ،فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت 1550 فهم عارضو ومروجو فقه وليسوا فقهاء .(1/391)
ولما كانت "البداية "وضعت كمشروع لتخريج المجتهدين . فإنه طمأن أهل التقليد في بلاده بأنه سيضع لهم كتابا شبيها" بالبداية " ولكنه خاص بالفقه المالكي، ذلك (لما جبل عليه الناس من الاتباع والتقليد في الأحكام والفتوى )1551 وكذلك كان الشأن زمن جده لما أفتى بخلاف الرواية المشهورة (فشنع أهل زمانه ذلك عليه لما كانوا عليه من شدة التقليد)1552 والحق أن الذين يجوز لهم التقليد هم العوام1553 دون غيرهم، ذلك أن حسن ثقتهم بالمجتهد (جعلت ههنا أمارة للزوم الأحكام لهم1554 كما جعلت غلبة الظن للمجتهد أمارة للزوم الحكم له)1555 ويرى ابن رشد أن الناس صنفان : عوام ومجتهدون، وليس من مبرر لوجود طائفة ثالثة لا هي من فئة العوام ولا هي من أهل الاجتهاد ،1556
والمؤسف أنهم (هم المسمون في زماننا هذا أكثر ذلك بالفقهاء )1557 ولهذا يرى إلحاقهم بمرتبة العوام لأن ظاهر أمرهم التقليد ولا يميزهم عن العوام غير حفظ آراء المجتهدين و إخبار العوام بها . ولكن المشكلة كما يراها ابن رشد في هذه الفئة، أنها لا تكتفي بمرتبة النقل بين المجتهدين و العوام ، وإنما تتجرأ على نوع اجتهاد بغير أن تحصل أدواته وتحوز شروطه ( فيقيسون أشياء لم ينقل فيها عن مقلديهم حكم على ما نقل عنهم في ذلك حكم ، فيجعلون أصلا ما ليس بأصل ،ويصيرون أقاويل المجتهدين أصولا لاجتهادهم وكفى بهذا ضلالا و بدعة )1558.
ولعل رغبته في الإصلاح ،ومحاربة "البدعة المستحدثة" أي قياس اجتهاد على اجتهاد، وجعل أصل ما ليس بأصل ، مما حركه لتأليف " البداية " قصد التركيز فيها على قواعد المسائل وأصولها ،التي تصلح أن يبنى عليها الاجتهاد . و يكون في ذلك تحفيز عليه، فلا ينبغي أن يخلو زمان من مجتهد، لأنه فرض على الكفاية. و لا تحصل الكفاية حتما بنيابة المجتهدين السابقين عنا لأن النوازل الواقعة غير متناهية، فيتعذر إحاطة قولهم بكل نازلة نازلة .(1/392)
ولهذا فجميع ( فروض الكفايات ينبغي أن يكون في زمان زمان من يقوم بها)1559 وإذا كان الاجتهاد في نظر ابن رشد هو: ( بذل المجتهد وسعه في الطلب بالآلات التي تشترط فيه )1560 فما هي هذه الشروط لبلوغ مرتبة الاجتهاد ؟
لا يشير ابن رشد في "البداية " لذلك على وجه التفصيل، إنما أشار إلى أن (هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد ،إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة و صناعة أصول الفقه، ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل )1561(1/393)
وفي موضع آخر من "البداية " و(في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك )1562 . وقد سبق أن بين ما يراه من شروط للمجتهد في "مختصرالمستصفى " بحيث ينبغي أن يكون عارفا بالأصول الثلاثة من كتاب وسنة وإجماع كما ينبغي أن (تكون عنده القوانين و الأحوال التي بها يستنبط ) 1563 ويبدو أنه لا يرى في ذلك شروطا تعجيزية فبعد أن يعلم من اللغة و اللسان ما يفهم به كتاب الله تعالى وسنة نبيه بغير لحن يكفيه أن يعرف آيات الأحكام ويعرف ناسخها من منسوخها ومن السنة وجود أصل مصحح لديه لجميع أحاديث الأحكام . وليس مطلوبا منه مع تباعد الزمن معرفة صحة الأسانيد بتعديل الرواة وتتبع سيرهم وأحوالهم فلا بأس أن يقلد في ذلك ويعول في صحتها على من يحسن ظنه به كالبخاري ومسلم . كما يجب عليه معرفة جميع المسائل المجمع عليها لئلا يخالف قوله في مسألة ما الإجماع .وليس من شرط الاجتهاد معرفة علم الكلام أو التفا ريع الفقهية (لأن المجتهد هو الذي يولدها) 1564 ومجال تحركه واسع جدا يشمل (كل حكم شرعي ليس فيه دليل )1565 وذلك بالتسلح (بالقوانين والأحوال ) التي بها يتسدد الذهن نحو الصواب في الاستنباط، كالعلم بدلالات الألفاظ وأقسامها وأحوالها والعلم بالمواضع التي تستعمل فيها النقلة من الأصول إلى الفروع أو حمل شيئين أحدهما على الآخر في إثبات حكم أو نفيه، والذي يسمى بالقياس 1566.(1/394)
أو إلحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء المسكوت عنه لشبهه بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم ،أو لعلة جامعة بينهما كما يسميه في "البداية " .1567 وما سكت عنه الشرع لا يطلب من الناس في فعله دليل 1568 استصحابا لبراءة الذمة .كما ينبغي مراعاة العرف واختلاف الأزمان والعوائد في الأحكام التي لها تأثر بذلك1569 .ولا يخفى أن النظر في المصالح قد ندب إليها الشرع ولكن بقدر ما وبعد ما أي ما شهد لنا الشرع بكونها أو كون جنسها مصلحة1570 وفي مثل هذه الأبواب و غيرها من أبواب الاجتهاد عموما يوجه ابن رشد المجتهدين إلى شروط أخرى ، غير شرط العلم بما تقدم في مواضع من " البداية "وغيرها من كتبه -كالشروط النفسية و الأخلاقية حتى لا يكون الفقه للمجتهد (سببا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا )1571
أو يخفى عليه الحق ( لهوى أو هوادة أو لشيء على خلافه أو غير ذلك من العوارض النفسية )1572 فلا بد من الفضيلة العملية وتقوى الله وتفويض الاجتهاد عموما وما يتناول المصالح منه خصوصا (إلى العلماء بحكمة الشرائع الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن في الاشتغال بظواهر الشرائع تطرق إلى الظلم ،ووجه عمل الفاضل العالم من ذلك أن ينظر إلى شواهد الحال )1573 .
2-الهدف الثاني: فهم الخلاف(1/395)
يبدو أن ابن رشد حاول أن يقف موقفا وسطا بين ما كان عليه الناس إلى زمانه وبين مشروع الدولة الموحدية الذي كان في الظاهر منخرطا فيه ،وسطا بين من كان شعارهم بحسب ما عليه الفتيا ،معرضين عن الأصول وعلم الخلاف، يصدق عليهم قول السبكي في طبقاته:(فليعلم أن هذا هو المضيع للفقه أعني الاقتصار على ما عليه الفتيا،فإن المرء إذا لم يعرف علم الخلاف والمأخذ لا يكون فقيها إلى أن يلج الجمل في سم الخياط،وإنما يكون ناقلا مخبطا حامل فقه إلى غيره ،لا قدرة له على تخريج حادث بموجود (...) و ما أسرع الخطأ إليه، و أكثر تزاحم الغلط عليه ، و أبعد الفقه لديه ) 1574 و بين أولئك الذين أخذهم حماس التجديد فحملوا الناس على ترك الفروع الفقهية و حرقوا كتبها و أوقعوا المحن بذويهم حتى ظهر و كأن القصد هو محو مذهب مالك من المغرب جملة واحدة .
و أطل السيف برأسه لمن لا يعتمد الأصول و السنن . و مهما يكن في الأمر من تهويل و مبالغة , فلا دخان بدون نار . و يبدو أن الخلاف بين نقلة الأخبار ينحصر في البديل المقترح، أهو حمل الناس على الظاهر من الكتاب و السنة و تقوية أهل هذا الشأن كما يذهب إلى ذلك صاحب "المعجب" , أم هو الاجتهاد المطلق و عدم تقليد أحد من الأئمة المجتهدين كما يرجح ذلك "ابن خلكان" ؟. أما غلظة طريق المعالجة و عنف المنهج فمحل اتفاق . فقد ذكر صاحب "المعجب" يعقوب المنصور فقال : ( إن في أيامه انقطع علم الفروع , و خافه الفقهاء و أمر بإحراق كتب الفروع ..)1575(1/396)
و كذلك ذكر ابن خلكان : ( أمر يعقوب المنصور الموحدي برفض فروع الفقه وأحرق كتب المذهب ..)1576 و أيا كان فقد وقف ابن رشد حكما عدلا و قاضيا منصفا. و بين ابتداء أن كتابه ليس موجها ضد أحد , و لا يتملق به طرفا من الأطراف، فقد بين ظاهرا أن الغرض من كتابه ( أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة )1577.تماما كما ذكر في كتابه "مختصر المستصفى" ( فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت لنفسي على جهة التذكرة ..)1578 .
و تطابق العبارة هنا دليل آخر على نسبة "البداية" لابن رشد.و على غير عادته في كتب أخرى1579 . ثم ذكر أنه سيذكر مسائل الأحكام المتفق عليها و المختلف فيها بأدلتها و التنبيه على نكت الخلاف. و الهدف المعلن من ذلك ذكر (ما يجري مجرى الأصول و القواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع )1580 و هذا و إن كان هدفا رئيسا، فلا يبعد أن يكون من ورائه أهداف تناسب "المقتصد" الغير القادر على الاجتهاد، سواء كان من أهل الحل والعقد في الدولة الموحدية أو من متفقهة زمانه , مثل: هدف فهم الخلاف، و نشر الوئام و الوفاق و خلق التسامح و نبذ التعصب , و الشعور بأن الجميع ينهل من مورد واحد و يستضيء بمشكاة واحدة , و إن اختلف مقدار الضوء المحصل بحسب قوة الإبصار و القرب أو البعد من المشكاة . و لا شك أن في قوة "البداية" ما يحقق هذا الغرض أو يقرب منه،وذلك بما يلي :
أ-نشر المذاهب الفقهية و بسط أدلتها :(1/397)
فليس الكتاب مختصا بالفقه المالكي المعمول به في ربوع الأندلس و إنما فيه ذكر لما وقع الاتفاق عليه و ما اشتهر فيه الخلاف بين ( الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد )1581 سواء كانت مذاهبهم مشهورة كالمالكية أو الشافعية أو الحنفية أو أقل من ذلك كالحنابلة أو أهل الظاهر أو أشخاصا مجتهدين بغض النظر عن حجم أتباعهم كالأوزاعي و الليث بن سعد و سفيان الثوري و أبو ثور و ابن أبي ليلى و الطبري و غيرهم كثير من فقهاء أهل السنة بل و في حالات نادرة ذكر لبعض آراء الخوارج و الشيعة1582 .
و يتعمد أحيانا كثيرة إلى عدم ذكر أهل الرأي و أصحاب المذاهب بقوله ( ذهب قوم إلى كذا ) و ( قال آخرون كذا ) و ( منهم من رأى كذا )1583 و هذا الفعل منه تركيز لعين الناظر و المطلع على الدليل بغض النظر عن قائله، و زيادة في الاهتمام بكيفية صدورالدليل لا مجرد الوقوف على من أصدره وقاله . و في ذلك تخفيف من غلواء الهوى والهالة التي تحيط بالأشخاص فتحجب النظر السديد للأمور . كما وفيه تنبيه لأهل زمانه على أن المذهب الذي يفضلونه ليس إلا واحدا من مذاهب شتى، كلها تهفو إلى الصواب، فتصيبه مرة و تخطئه أخرى .
ب- نبذ التعصب و الدوران مع الدليل حيث دار :
تبعا لما سبق فابن رشد لا يتخذ موقفا مسبقا من أي كان , و يترك الآراء تدافع عن نفسها و تكافح عن أولويتها بالقبول . فتارة يقول : ( و الأسعد في هذه المسألة هو مالك )1584 أو ( و مالك في هذه المسألة أفقه من الجميع )1585 و أخرى يرجح مثلا تقسيم الحنفية للنجاسة إلى مغلظة و مخففة و يقول عنه (حسن جدا)1586 و تارة ( قول الشافعي أظهر )1587 و يعقب على رأي لابن حزم من الظاهرية بقوله : ( و هي طريقة جيدة مبنية على أصول أهل الكلام الفقهي )1588 و يرى فيما ذهب إليه الطبري أنه ( قول حسن )1589 بل و قول أبي ثور ( على شذوذه هو أبين )1590(1/398)
و مذهب ( الجمهور في هذا لائح و الله أعلم ) 1591.
و كذلك الشأن في انتقاده فهم أمامه سواء : فهو يقول من غير حرج :فأما تحديد مالك للمساقاة ( فضعيف : و هو استحسان مبني على غير أصول )1592 كما أن ( تعليق الحكم في الحديث بالاسم فقط جمود كثير , و هو أشبه بمذهب أهل الظاهر و إن كان مرويا في المذهب )1593 أي المالكي , ووصف قولة للكوفيين و أهل العراق ممن يوصفون عادة بأهل الرأي بقوله ( و هذا كله تخليط و إبطال للمعقول و المنقول )1594 و تحدث عن أبي حنيفة في موضع بأنه ( ظاهري محض )1595 ووصف الظاهرية في كثير من المواضع بالشذوذ1596
و اعتبر اختلاف الفقهاء في "البسملة" بأنه ( كله تخبط و شيء غير مفهوم )1597 أو أن الخلاف أحيانا لا معنى له أو أن الأمر فيه سعة فيقال ( كل مجتهد مصيب )1598 أو ( أقل ذلك غير مأثوم )1599 كما أن المخالف وإن ظهر رأيه معارضا وبعيدا قد لا يكون كذلك في البعد من جهة الأصول، فرغم علم ابن رشد برأي الإمام مالك ،فهو يبين أن الرأي المخالف له ليس بعيدا عن أصوله يقول: (فأما من أحاط الدين بماله، فإن العلماء اختلفوا في جواز عتقه، فقال أكثر أهل المدينة: مالك وغيره، لا يجوز ذلك ،وبه قال الأوزاعي والليث.
وقال فقهاء العراق وذلك جائز حتى يحجر عليه الحاكم. وذلك عند من يرى التحجير منهم. وقد يتخرج عن مالك في ذلك الجواز قياسا على ما روي عنه في الرهن أنه يجوز وإن أحاط الدين بمال الراهن ما لم يحجر عليه الحاكم )1600 و لا يخفى ما يتركه هذا الأسلوب في التعامل مع المذاهب من تفهم واعتدال الرؤية في الأحكام , و بعد عن الغرور و التعصب المذموم و إنصاف للخصم من النفس و حسن التقدير و الاحترام وتلمس الأعذار للأئمة الأعلام .
ج- الرفق و الحكمة في نزوعه إلى التجديد و العودة إلى الاجتهاد :(1/399)
ما يؤخذ على الدولة الموحدية أنها سلكت مسلك العنف, كما سبق أن رأينا في إزاحة الناس عما ألفوه و اطمأنوا إليه , بينما حاول ابن رشد أن يكسب الجميع فانخرط في الدعوة التجديدية و دعا بقوة إلى الاجتهاد , لكن دون أن يساير الموحدين في مشايعة المذهب الظاهري على الرأي القائل بذلك.
فلم يميزه في "البداية" بشيء، ولا يعدو أن يكون عند ابن رشد واحدا من سائر المذاهب يؤخذ من كلامه و يرد . و هو إن كان يقر بتواجدهم في زمانه حيث أشار مرة ( وعلى أصول الظاهرية يجب الرمل و هو قولهم أو قول بعضهم الآن فيما أظن )1601 غير أنه أكد في موضع آخر أن المذهب المعمول به في جزيرة الأندلس هو المذهب المالكي1602 . و لهذا خصه ببعض الأمور الشكلية التي تؤلف القلوب و تمهد لها السبل للتغيير , دون المساس بجوهر الموضوعية , مثل البدء به غالبا عندما يذكر المذاهب , و الإكثار من ذكر أعلام المذهب المالكي مقارنة مع غيرهم، بل و الاقتصار أحيانا قليلة على الخلاف في المذهب و تخصيص مالك دون غيره من الأئمة ب "رضي الله عنه" أحيانا نادرة .
و كذلك الاعتذار له و الدفاع عن بعض آرائه كما يفعل مع غيره . و في هذا رد اعتبار لفقهاء المذهب المالكي من جهة، و الدفاع عن أئمة الدين و علماء الأمة من جهة ثانية أمام ما يمكن أن تتعرض له آراؤهم من استخفاف من طرف أصحاب الدعوة الجديدة بحجة الرجوع إلى الأصول و اعتماد الكتاب و السنة، و كأن هؤلاء لا يصدرون عنهما. و يظهر من حكمته أيضا أنه رغم ممارسته بحرية كاملة للنقد و التحليل و الترجيح و إبداء عدد من الآراء المستقلة فإنه يراعي الجو العام الذي يسوده التقليد.(1/400)
و يتلطف في طرح ما يراه صوابا سواء تعلق الأمر بأسلوب الطرح كالإكثار من قوله : ( فيما أحسب ) و ( لعله يمكن )و ( الله أعلم ) أو الاحتياط في إطلاق الأحكام فيستخدم ( لعمري ) , ( في نظري ) , ( لماذا ليت شعري ) و قد يصل به الأمر إلى نوع من المجاراة الظاهرية لما يعتقده الناس دون أن يمنعه ذلك من إبداء رأيه على التحفظ فيقول في مسألة خلافية ( والمسألة محتملة , ولولا أنه لا يجوز إحداث قول لم يتقدم إليه أحد في المشهور , و إن كانت مسألة فيها خلاف , لقيل [كذا ] ...)1603 ثم أبدى رأيه فيها .
الهدف الثالث : إصلاح التعليم الفقهي :
لا يشك أحد في أن للمناهج التعليمية دورا حاسما في تحديد الاتجاه في مجتمع ما نحو الرقي و الازدهار و الإبداع و إما نحو التخلف و التقليد و الاجترار . و مثل هذا لا يمكن أن يغيب على أمثال ابن رشد الذي تبوأ مكانا ممتازا في حياة مجتمعه العلمية , بل ومن المؤكد أنه كان يحمل هم الإصلاح و التغيير , و ربما في وقت مبكر من حياته و الذي جعله عند حسن ظن الأمير الموحدي ليستعين به في
الإصلاح التعليمي الذي يتوخاه كما سبق الإشارة إلى ذلك . و كما يظهر من مؤلفاته المبكرة مثل" مختصر المستصفى" (552ه) الذي كتبه قبل "البداية " بأكثر من عشر سنوات . و الذي ذكر فيه أنه عرض فيه جملا رأى من ( النافع تقديمها للمتعلم عند شروعه في الصناعة )1604 أي صناعة أصول الفقه .(1/401)
كما لا يبعد أن تهزه غضبة أبي بكر بن العربي و غيره لما آل إليه الوضع عند أهل زمانه من فساد الطرق التعليمية حيث ماتت العلوم ( إلا عند آحاد الناس , و استمرت القرون على موت العلم و ظهور الجهل [...] و جعل الخلف منهم يتبع السلف حتى آلت الحال إلى أن لا ينظر في قول مالك و كبراء أصحابه و يقال : قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة و أهل طلمنكة و أهل طليطلة , و صار الصبي إذا عقل و سلكوا به أمثل طريقة لهم , علموه كتاب الله , ثم نقلوه إلى الأدب ثم إلى "الموطأ" ثم إلى "المدونة" ثم إلى وثائق ابن العطار , ثم يختمون له بأحكام ابن سهل , ثم يقال له , قال فلان الطليطلي و فلان المجريطي و ابن المغيث لا أغاث الله ثراه , فيرجع القهقرى , و لا يزال يمشي إلى الوراء . )1605
فتحجب عنه الأصول التي تلقاها في وقت مبكر من حياته حفظا لمتونها بغير تفهم لمعانيها , و يشتغل بأقوال الرجال و أعمال المدن و البيئات فيتمرس على التقليد و يصعب لديه التجديد .
ويمكن إجمال النظرة الإصلاحية عند ابن رشد في المجال التعليمي من خلال "البداية" بسط النقط التالية:
أ-الاهتمام بالأصول ووضع قوانين لتنظيم القول الفقهي :(1/402)
ذكر ابن رشد غير ما مرة أن كتاب "البداية" ( ليس المقصود به التفريع , و إنما المقصود فيه تحصيل الأصول ..)1606 ولا يسأم من تكرار ( و ليس كتابنا هذا موضوعا على الفروع )1607 و ( قصدنا إنما هو الأصول الضابطة للشريعة لا إحصاء الفروع لأن ذلك غير منحصر )1608 ( فالفروع إذن ليست مقصودة سواء كانت من المسائل المسكوت عنها في الشرع و التي لم يشتهر فيها الخلاف , أو الفروع التي يوجبها القياس و في هذا المعنى يقول ( و ليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل , و ذلك إما من حيث هي مشهورة و أصل لغيرها , و إما من حيث هي كثيرة الوقوع )1609 فإذا كان القصد إذا ذكر المشهور و ما يجري مجرى الأصول فما الغرض:بهذا المصطلح عند ابن رشد؟
معنى الأصول :
تحتل مادة "أصل" حيزا مهما من المادة المصطلحية في كتاب "البداية" إذ ورد ذكرها بصيغ مختلفة حوالي 911 مرة . و قد وردت عند ابن رشد بصيغ لا تبتعد كثيرا عن المعنى اللغوي للكلمة التي تحيلنا على معان متقاربة . فأصل الشيء أسفله أو هو المصدر أو ما تفرع عنه الشيء و هو يقابل الفرع , و ما فعلته أصلا أي قطعا و استأصل الشيء : قلعه من أصله , و الأصيل : من يتصرف عن نفسه دون وكيل . و الأصول : القوانين و القواعد التي يبنى عليها العلم . و من خلال تتبع كلمة "أصل" في "البداية" فإننا نقف إجمالا على المعاني التالية :
-الأصل : بمعنى عدم الحكم أي البراءة الأصلية ،حيث يقول:( إذا تعارض حديثان أحدهما فيه شرع موضوع والآخر موافق للأصل الذي هو عدم الحكم ولم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب أن يصار إلى الحديث المثبت للشرع) 1610
-الأصل : بمعنى السبب مثل : ( وأصل هذا الاختلاف في الاشتراك الذي في الباء ) 1611(1/403)
-الأصل : بمعنى الدليل من الكتاب و السنة مثل : ( و الأصل في وجوب الطهارة بالمياه قوله تعالى : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به... ) 1612
-الأصل : بمعنى القاعدة الأصولية مثل : (الأصل هو أن يحمل الخاص على خصوصه حتى يدل الدليل علىغير ذلك)1613.
-الأصل : بمعنى الجذور اللغوية مثل : ( لأنه يسمى صعيدا في أصل التسمية )1614
-الأصل : بمعنى القاعدة الفقهية مثل قوله: (فإن سفك الدم بالنكول حكم ترده الأصول..إلى أن قال: وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو بالاعتراف)1615
-الأصول : بمعنى القضايا الكبرى , أو أهم المباحث في باب فقهي معين أو ما ينبغي معرفته فيه إجمالا . أو ما يمكن أن يصنف إليه ذلك الباب . و يعبر عنه بمثل ما قاله في كتاب التدبير: (وأما أحكامه فأصولها راجعة إلى أجناس خمسة)1616 أو قوله في مسح الخفين:( الكلام المحيط بأصوله يتعلق بالنظر في سبع مسائل)1617. أو قوله في باب اليمين (...وفي هذا الباب فروع كثيرة لكن هذه المسائل الأربع هي أصول هذا الباب)1618...
-الأصول : بمعنى : المعاني و القواعد العامة التي تشهد لها نصوص عديدة . مثل :( فأصول الشرع تشهد بالمبادرة إلى الخير )1619. و كذلك قوله في إشارة لأبي حنيفة : (وهذا على عادته في رد أخبار الآحاد لمكان معارضة الأصول لها )1620 و مثل ( لأن الناسي الأصل فيه في الشرع أنه معفو عنه )1621
- الأصل : بمعنى المذهب مثل ( و الذي يجيء على أصوله... )1622 وكذلك قوله:( فهذا كما ترى لازم لقول أبي حنيفة أعني جاريا على أصوله لا على أصول قول مالك )1623
-الأصل : بمعنى المطلوب ابتداء أو المعروف عادة أو هو الأمر الطبيعي مثل : (ينقضها ما ينقض الأصل الذي هو الوضوء )1624 يتحدث عن طهارة التيمم .(1/404)
- الأصول : بمعنى القوانين والقواعد التي تبنى عليها الفروع بحيث يكون عليها الاستناد و الارتكاز . مثل قوله : ( ما جري مجرى الأصول القواعد ...)1625
- الأصل : بمعنى أصل القياس أي الذي يقاس عليه مثل : ( صلاة وجبت في سفر فجاز أن تجمع أصله جمع الناس بعرفة والمزدلفة )1626
- الأصل : بمعنى ما داوم عليه صلى الله عليه و سلم مثل قوله : (أصول الأقوال التي نقلت من خطبه صلى الله عليه وسلم أعني الأقوال الراتبة...1627
- الأصول : و تعني أحيانا : ما اتفق حوله و ما اختلف فيه و أسباب الخلاف و ما يتفرع عنها من مشهور مسائلهم . سواء كانت منطوقا بها في الشرع أو قريبا من ذلك , أو مسائل مسكوت عنها التي اشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار 1628
أما مفهوم الأصول عنده إذا ارتبطت بالفقه فهي كما بينه في "مختصر المستصفى" : العلم بما تبنى عليه الفروع من الكتاب و السنة و الإجماع . و هو عنده من العلوم الكلية التي غايتها العمل و إن كانت بعيدة في كونها مفيدة لذلك . و يرى أن أصول الفقه على الحقيقة هي : الأدلة المستعملة في استنباط حكم حكم عن أصل أصل و كيف استعمالهاو يطلق تجوزا على المباحث الأخرى التي يدرجها أهل هذه الصناعة في علم أصول الفقه كالنظر في الأحكام و أصول الأحكام و النظر في شروط المجتهد و غيرها 1629 .
- و أما عن معرفة أهم الطرق التي تعرف بها الأصول : فإما أن تكون من الأمور المنطوق بها في الشرع 1630 أو تعرف بطريقة الاستقراء حيث يقول : ( بل كثير من المعاني الكلية الموضوعة في هذه الصناعة إنما صححت بالاستقراء من فتواهم في مسألة مسألة)1631 و يقصد فتاوى الصحابة رضي الله عنهم , لأنه و إن لم يكن لهم معرفة بأصول الفقه كما عرف فيما بعد لكن كانوا يستعملونه بالقوة كشأنهم في العربية و الأشعار بغير ما حاجة إلى تعلم القواعد و الأوزان .(1/405)
- و تكتسي مسألة "الأصول" أهمية قصوى عند ابن رشد فهي لا تعارض بالاحتمالات المخالفة لها1632 كما لا يجوز أن ينتقل المجتهد عن أصل ثابت بأمر محتمل , بل إذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل . و على قدر ما يكون الاتفاق و الإجماع على أصل معين على قدر ما يكون قويا , و هذا لا يمنع أن يكون في الأصول الاختلاف و لكل مذهب و مجتهد أصوله , و ليس يمنع من صحة الأصل ألا يوافقه عليه الخصم1633. و لما كانت نصوص الوحي من الكتاب و السنة أصل الأصول ينبه ابن رشد المتعلم و المجتهد كليهما مرة بعد أخرى بأن ( لا معنى للنظر مع الثابت من مذهب الأثر ) 1634و بأن ( ظاهر الكتاب أولى أن يتبع (...) من القياس و كذلك ظاهر الحديث و عليه أكثر الفقهاء ) 1635
و طالما علق على قول الفقهاء ( و ليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه )1636 (وردوا الخبر بالقياس و ذلك ضعيف ) 1637 كما أن قياس الشبه المأخوذ من الموضع المفارق للأصول يضعف1638 . و في موضع آخر ( لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا . فالواجب أن يغلب على القياس )1639 و ما دام العمل بنصوص الوحي أمرا مقصودا بذاته فالجمع بين الروايات المختلفة أولى من الترجيح ( ما أمكن الجمع عند أكثر الأصوليين )1640 .
و تتجلى أهمية التركيز على الأصول فيما يلي :
1- وضع دساتير و قوانين للقول الفقهي :(1/406)
يفيد تعلم الأصول والتركيز عليها في وضع دساتير و قوانين للقول الفقهي و نقله من مستوى الجزئيات و الوقائع اللامتناهية و التي ينقضي العمر دون إحصائها، و ضبط النوازل بقانون يعمل عليه المجتهد و لا يبقى أمره خاضعا لما يعطيه بادئ الرأي فتختلف أجوبته و تضطرب و تتناقض و لهذا فهو يذكر( من هذه المسائل ما اشتهر الخلاف عليه بين الفقهاء ليكون ما يحصل في ذلك في نفس الفقيه يعود كالقانون و الدستور الذي يعمل عليه فيما لم يجد فيه نصا عمن تقدمه.أو فيما لم يقف على نص فيه لغيره )1641 و يضرب مثالا لغياب هذا القانون عند بعض الفقهاء في بعض المواضع الاجتهادية , ففي باب الربويات في معرفة ما يعد صنفا واحدا و ما لا يعد كذلك يرى مالك ( في كثير منها أن الصنعة تنقله من الجنس (...) والظاهر من مذهبه أن ليس في ذلك قانون من قوله حتى تنحصر فيه أقواله
فيها )1642
و هذه بعض النماذج لهذه القوانين :
- في مسألة من يحرم الجمع بينهن من النساء اختار أصحاب مالك القانون
التالي : ( إنما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة محرمة , أعني لو كان أحدهما ذكرا و الآخر أنثى لم يجز لهما أن يتناكحا ...) 1643.
- في مسألة العيوب التي لها تأثير في العقد هناك قانون معمول به عند الجميع :
( ما ينقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصانا له تأثير في ثمن البيع ) 1644 وهو يختلف كما يقول ابن رشد بحسب اختلاف الأزمان و العوائد و الأشخاص ...(1/407)
- في مسألة بيوع الشروط لاحظ ابن رشد اضطراب الفقهاء في إعطاء فروق بينة بين الأصناف الأربعة بعد أن رام ذلك كثير منهم فعسر عليهم ، فحاول ابن رشد أن يضع قانونا في ذلك حيث قال : ( و إنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع و هما الربا و الغرر و إلى قلته و إلى التوسط بين ذلك أو ما يفيد نقصا في الملك . فما كان دخول هذه الأشياء أبطله و أبطل الشرط و ما كان قليلا أجازه و أجاز البيع )1645 .
- من شأن العقود أن يكون اللزوم فيها أو الخيار مستويا من الطرفين 1646 .
- لا يخرج ملك أحد من يده إلا برضاه1647 أو بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع 1648
- العبادة لا تصح من غير العاقل 1649.
- التوقيت في العبادة لا يكون إلا بدليل سمعي.1650
- لا يقضى في هذه الشريعة إلا بدليل1651.
- المرأة في معنى الرجل في كل عبادة إلا أن يقوم الدليل على تخصيصها 1652 .
2- أهمية ضبط القوانين و القواعد و الأصول:
إذا عرفت القوانين و القواعد و الأصول سهل ضبط أجوبة السابقين الكثيرة ضمن ضوابط محددة , و سهل تفصيل الجزيئيات التي يمكن أن تلحق بها . و بالتالي سهولة الاستنباط المطلق أو المقيد بمذهب معين , و إن لم يصرح أصحابه بشيء من ذلك , و إمكانية قياس المسكوت عنه على المنطوق به .
- فمثلا عند مالك ( المعسر بالنفقة إذا طلق عليه ثم ارتجع فإن رجعته تعتبر صحتها بيساره )1653 فيقاس عليها و يلحق بها ( كل رجعة من طلاق كان لرفع ضرر فإن صحة الرجعة معتبرة فيه بزوال ذلك الضرر )1654(1/408)
- و في مثال آخر حاول أصحاب مالك معرفة الحال في الاعتدال من الركوع إذ اختلفوا هل ظاهر مذهبه يقتضي أن يكون سنة أو واجبا إذ لم ينقل عنه نص في ذلك .فرجع بعضهم إلى أصله و هو : ألا تحتمل أفعاله عليه الصلاة و السلام في سائر أفعال الصلاة مما لم ينص عليها في الحديث الوارد عنه في ذلك على الوجوب حتى يدل الدليل على ذلك , فبنوا على الأصل وجوب الإطمئنان و اعتبروا بناء عليه 1655 أيضا أن رفع اليدين ليست فرضا ما عدا تكبيرة الإحرام كما أن القراءة أيضا ليست فرضا.
3- التمكن من فهم سبب الخلاف بين الفقهاء:
فالمقصود التمكن من فهم سبب الخلاف بين الفقهاء،والنفاذ إلى مناقشة تلك الأصول عوض صرف الجهود إلى مناقشة الجزيئات و الفروع بحيث إذا حسم الخلاف في تلك الأصول سهل حسمه فيما يتفرع عنها , فمثلا :
الاختلاف في أمور عديدة من مثل: حكم السجود على الجبهة دون الأنف , و في مقدار الجماعة ليوم الجمعة , و الاختلاف في المأموم يدرك الإمام قبل الرفع من الركوع , و في صلاة الجنازة على بعض جسد الميت , والاختلاف في أصناف الوطء الناقص و غيرها من أمثال هذه القضايا ترجع إلى أصل واحد هو : هل الواجب الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم أم بكل ذلك الشيء الذي ينطلق عليه الاسم ؟ فتطبيق القاعدة هنا على كل من: الوجه و الجماعة و الركعة و الميت و النكاح1656 . أي هل هذه الأسماء تتناول ما وقع منها أم لا ؟ .
و كذلك الاختلاف في أمور أخرى من مثل : حكم الذبيحة التي ذبحت بالسن و الظفر , و التي ذبحها الغاصب و السارق و حكم الصيد الذي يصطاده الحر لغيره , و في الخطبة على الخطبة إذا انتهى إلى الدخول بها . و الصداق بما لا يحل إذا تم الدخول . و حكم بيع النجش إذا وقع و كذلك الغبن الفاحش و البيع الواقع وقت نداء الجمعة . و في حكم قضاء القاضي في الأحوال المنهي عنها كالغضب(1/409)
و العطش ...1657 كل هذه القضايا و أمثالها ترجع إلى أصل واحد و هو : هل النهي يدل على فساد المنهي عنه أو لا يدل على ذلك إنما يأثم من فعله فقط ؟
4- معرفة الأصول تساعد على الترجيح:
معرفة الأصول تعتبر من أهم الأمورالمساعدة على الترجيح حالة تعارض الآثار و وجود صعوبة في الجمع بينها . و مثال ذلك ما فعله مالك في مسألة الشافع و لمن تكون له الشفعة فذهب إلى أن لا شفعة إلا للشريك ما لم يقاسم , مخالفا بذلك رأي الحنفية الذين وسعوا فيها حتى نالت الجار الملاصق واعتمد كل فريق أحاديث وردت في المسألة . و أمام تعارضها رأي المالكية أن الأصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده إلا برضاه حتى يدل الدليل على التخصيص ( وقد تعارضت الآثار في هذا الباب فوجب أن يرجح ما شهدت له الأصول )1658
و في مثال آخر رد الجمهور حديث المخزومية و خصوصا الرواية التي ذكر فيها فقط أنها ( تستعيد المتاع و تجحده ) و رجحوا رواية أخرى ذكر فيها أنها سرقت بالإضافة إلى الجحود . و ذلك لأن الأولى مخالفة للأصول و هي أن المعار مأمون و أنه لم يأخذ بغير إذن فضلا أن يأخذ من حرز1659.
5- معرفة الأصول تمكن من التخريج:
فمعرفة الأصول تمكن من التخريج على مذاهب الأئمة ومطلق الاجتهاد،فابن رشد يستنبط مسائل تتعلق بالصداق وفق أصول مالك1660 (والذي تقتضيه أصول مالك أن يفرق بين الصداق المحرم العين وبين المحرم لصفة فيه قياسا على البيع ولست أذكر الآن فيه نصا) فرغم أنه لم يقف على قول للإمام مالك ولم يذكر نصا في المسألة استطاع إعمال أصوله في معرفة هذا الفرع. و في موضع آخر يخرج وفق ما يناسب المذهب بناء على معرفة الأصول وفي ذلك يقول:( وأما المنفوذة المقاتل فلا خلاف في المذهب المنقول أن الذكاة لا تعمل فيها وإن كان يتخرج فيها الجواز على وجه ضعيف (1661(1/410)
وفي موضع آخر يقول:( ويتخرج في هذا قول إن النكاح مفسوخ لمكان الغرر ولست أذكر الآن نصا فيها في المذهب (1662وقال أيضا: وأما اختلافهم في الوقت فإنه يتصور في الكالىء والذي يجيء على أصل قول مالك فيه في المشهور عنه أن القول في الأجل قول الغارم قياسا على البيع (1663 ويقدر الحكم رغم أنه لم يطلع عليه في مثل قوله في: المسألة الثالثة وأما اشتراط النية فيها فقيل في المذهب بوجوب ذلك ولا أذكر فيها خارج المذهب في هذا الوقت خلافا في ذلك ويشبه أن يكون في ذلك قولان قول بالوجوب وقول بترك الوجوب فمن أوجب قال عبادة لاشتراط الصفة فيها والعدد فوجب أن يكون من شرطها النية ومن لم يوجبها قال فعل معقول يحصل عنه فوات النفس الذي هو المقصود منه فوجب أن لا تشترط فيها النية كما يحصل من غسل النجاسة إزالة عينها1664
وفي الربويات مما ليس بمطعوم يقول ابن رشد بعد عرض لعدد من الآراء: وقد يظهر من ابن القاسم عن مالك أنه يمنع النسيئة في هذه لأنه عنده من باب السلف الذي يجر منفعة)1665
ويتنبأ برأي الفقيه انطلاقا من معرفة أصوله حيث يقول: ومن هذا الباب بيع السمك في الغدير أو البركة اختلفوا فيه أيضا فقال أبو حنيفة يجوز ومنعه مالك والشافعي فيما أحسب وهو الذي تقتضي أصوله1666 وفي شأن البيع وقت نداء الجمعة يقول: وأما أهل الظاهر فتقتضي أصولهم أن يفسخ على كل بائع1667 ويقول أيضا : وأما على أصول الشافعي فلا يتصور على المرتهن يمين إلا أن يناكره الراهن في إتلافه1668 وفي موضع آخر: وقال إبراهيم النخعي لا حد عليه إذا كانت أم المقذوف أمة أو كتابية وهو قياس قول الشافعي وأبي حنيفة 1669
ب- التدرب على الاستنباط و حسن النظر و الاستدلال :(1/411)
الغرض كما يؤكد دائما ابن رشد هو الوصول إلى تكوين ملكة الاجتهاد عند المتفقه , مصداقا للحديث الذي صدر به كتابه ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ).فهو يعمد إلى ذكر أشهر المسائل لتكون ( كالقانون للمجتهد النظار )1670 الذي تمرس بالنظر حتى تكون لديه ( ذوق عقلي ) يعرف به قوة الألفاظ و القياسات , و مناط الاجتهاد و أوجه الاختلاف بين المتشابهات و إدراك الأمور ( كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون ) 1671. لأنه مهما وضعت القوانين للقول الفقهي , و ضبطت الأصول , تبقى الحاجة ماسة دائما إلى ( ذوق المجتهد ) الذي يرجع إليه عندما يتجاذب القول في الأمور بين الضدين على السواء أو عندما يكون في الأمر تخيير1672 أو غيرها من الأحوال . كما أن التمرس بالنظر إلى شواهد الحال و اعتبار المصالح يورث قوة في صناعة الفقه شبيهة بقوة المهنة التي يحصلها أهل الصناعات المختلفة كلما تقدم بهم الزمن فيها حيث ( يعرض فيها للصناع الشيء وضده مما اكتسبوا من قوة مهنتهم إذ لا يمكن أن يحد في ذلك حد مؤقت صناعي وهذا كثيرا ما يعرض في صناعة الطب وغيرها من الصنائع المختلفة )1673 .
فقوة الحاسة الفقهية عند المجتهد و الفقيه عموما تمكنه من التنبؤ بالحلول أو آراء و مواقف المجتهدين إذا عرفت أصولهم أو بإمكان الخلاف في مسألة ما، و إن لم يسبق له اطلاع عليها فمثلا في وقت الفدية يقول ابن رشد : ( وأما الوقت فالجمهور على أن هذه الكفارة لا تكون إلا بعد إماطة الأذى ولا يبعد أن يدخله الخلاف قياسا على كفارة الأيمان ) 1674 فيتوقع الخلاف و إن لم يقف عليه . و كذلك عند حديثه عن مفسدات الحج ( واختلفوا في صفة الجماع الذي يفسد الحج وفي مقدماته، فالجمهور على أن التقاء الختانين يفسد الحج ويحتمل من يشترطه في وجوب الطهر الإنزال مع التقاء الختانين أن يشترط في الحج )1675(1/412)
و تقدير هذه الاحتمالات تصقل النظر و تقوي ملكة الاجتهاد ما دامت الأصول محفوظة و يمكن الرجوع إليها للتثبت و التصحيح . وأكد ابن رشد أن التدرب في مثل هذه المسائل هو الطريق الصحيح لتسلق سلم الاجتهاد وذلك بقوله ( و يشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل ) 1676.
و في ثنايا الكتاب يعطي ابن رشد أمثلة كثيرة لهذا التدريب نذكر منها :
- ذكر ابن رشد رواية ابن القاسم عن مالك حيث أمر الحاقن بإعادة الصلاة في الوقت و بعد الوقت، و قال ابن رشد : (وهذا يدل على أن صلاة الحاقن فاسدة )1677
- و أورد رأي ابن حزم في الطلاق المقيد بالاستثناء بحيث ( لا يقع طلاق بصفة لم تقع بعد ولا بفعل لم يقع لأن الطلاق لا يقع في وقت وقوعه إلا بإيقاع من يطلق في ذلك الوقت ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على وقوع طلاق في وقت لم يوقعه فيه المطلق، وإنما ألزم نفسه إيقاعه فيه فإن قلنا باللزوم لزم أن يوقف عند ذلك الوقت حتى يوقع. هذا قياس قوله عندي وحجته وإن كنت لست أذكر في هذا الوقت احتجاجه في ذلك )
- و كذلك إذا قضى القاضي و هو مشغول النفس ككونه غضبان بالصواب
( فاتفق فيما أعلم على أنه ينفذ حكمه ويحتمل أن يقال لا ينفذ فيما وقع عليه النص وهو الغضبان لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه )1678 .
- و في حكم الذبائح أهل الكتاب يقول :( إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة فقال الجمهور تؤكل وهو مروي عن علي، ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا ويتطرق إليه الاحتمال بأن يقال إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام فإذا قيل على هذا إن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك ... )1679.(1/413)
- ومن النماذج الرائعة في تدريب وتكوين ملكة الاجتهاد،ما سلكه ابن رشد في عرض مسألة(الانتفاع بجلد الميتة)1680 حيث يمكن أن نختبر تقدم الملكة لدى طلاب الاجتهاد،بإعادة طرح المسألة بين أيديهم انطلاقا من النصوص الواردة في المسألة ثم يطلب استنباط ما يمكن من الأحكام منها مع تبرير ذلك والاستدلال عليه،وبيان أوجه الجمع أو الترجيح بين الآثار الواردة في الموضوع ،فتعرض المسألة كما يلي:
النصوص الواردة في الموضوع:
الحديث الأول:حديث ميمونة أنه ( مر بميتة فقال عليه الصلاة والسلام:( هلا انتفعتم بجلدها). الحكم:ظاهره إباحة الانتفاع بجلد الميتة مطلقا .
الحديث الثاني :حديث ابن عكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم( كتب ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) قال: وذلك قبل موته بعام)
الحكم:ظاهره: منع الانتفاع بها مطلقا.
الحديث الثالث:في بعض الأحاديث: الأمر بالانتفاع بها بعد الدباغ والمنع قبل الدباغ. .الحكم:ظاهره:التمييز في الانتفاع بين حالة الدباغ أو عدمه،حيث يباح في الأول ويمنع في الثاني.
الحديث الرابع:حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا دبغ الإهاب فقد طهر.
الحكم:ظاهره طهارة كل جلد مدبوغ.والطاهر يجوز الانتفاع به.
الاستدلال وتبرير الحكم وتصور المذاهب الممكنة إزاء اختلاف هذه الآثار:
المذهب الأول:مذهب الجمع على حديث ابن عباس لاعتبار صحته أي التفريق في الانتفاع بالجلود بين المدبوغ وغير المدبوغ .ويتفرع عنه اعتبار الطهارة في مطلق الحيوان على الظاهر ولو كان جلد خنزير، أو اعتبار ذلك فقط في ما تعمل فيه الذكاة من الحيوان.
المذهب الثاني: مذهب الترجيح لحديث ميمونة باعتبار تضمنه لزيادة على ما في حديث ابن عباس، وأن تحريم الانتفاع ليس يخرج من حديث ابن عباس قبل الدباغ لأن الانتفاع غير الطهارة، أي كل طاهر ينتفع به وليس يلزم عكس هذا المعنى أي أن كل ما ينتفع به هو طاهر.(1/414)
المذهب الثالث:مذهب النسخ أي الأخذ بحديث ابن عكيم لقوله فيه:( قبل موته بعام).
-النموذج الثاني:مسألة الحجامة للصائم1681:
النصوص الواردة في الموضوع:
الحديث الأول:ما روي من طريق ثوبان ومن طريق رافع بن خديج أنه عليه الصلاة والسلام قال:" أفطر الحاجم والمحجوم" وحديث ثوبان هذا كان يصححه أحمد.
الحكم: ظاهره أن الحجامة تفطر وينسحب أثرها على الفاعل والمفعول به.
الحديث الثاني: حديث عكرمة عن ابن عباس" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" وحديث ابن عباس هذا صحيح
الحكم:ظاهره أن الحجامة لا تأثير لها في صحة الصيام.
الاستدلال وتبرير الحكم وتصور المذاهب الممكنة إزاء اختلاف هذه الآثار:
المذهب الأول:مذهب الترجيح لحديث ثوبان، وذلك أن هذا موجب حكما وحديث ابن عباس رافعه والموجب مرجح عند كثير من العلماء على الرافع لأن الحكم إذا ثبت بطريق يوجب العمل لم يرتفع إلا بطريق يوجب العمل برفعه وحديث ثوبان قد وجب العمل به وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا وذلك شك، والشك لا يوجب عملا ولا يرفع العلم الموجب للعمل وهذا على طريقة من لا يرى الشك مؤثرا في العلم.
المذهب الثاني:مذهب الجمع بحمل حديث النهي على الكراهة، وحديث الاحتجام على رفع الحظر.
المذهب الثالث:مذهب الإسقاط عند التعارض والرجوع إلى البراءة الأصلية إذ لم يعلم الناسخ من المنسوخ فيكون الاحتجام للصائم مباحا.
ويمكن حث طالب الاجتهاد للنظر فيما يعرف في زماننا "بالتبرع بالدم" وحكم ذلك في حق الصائم، وهل يقاس على الحجامة أم لا؟ .
النموذج الثالث:مسألة حكم العقيقة1682:
النصوص الواردة في الموضوع:
الحديث الأول: حديث سمرة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام:( كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى) أخرجه أبو داود(1/415)
الحديث الثاني : قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن العقيقة فقال:( لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل) أخرجه أبو داود
الاستدلال وتبرير الحكم وتصور المذاهب الممكنة إزاء اختلاف هذه الآثار:
المذهب الأول:مذهب من أوجب العقيقة: رجح حديث سمرة الذي يفيد ظاهره الوجوب عن الصغير،ويحتمل الخلاف في الكبير لقوله ( :(يوم سابعه).
المذهب الثاني: مذهب من فهم من الحديث الثاني الندب حيث تعتبر العقيقة عنده سنة.وكأنه صرف صيغة الوجوب الواردة في الحديث الأول إلى الندب بسبب الحديث الثاني كلون من ألوان الجمع بينهما.
المذهب الثالث: مذهب من فهم من الحديث الثاني مجرد الإباحة حيث لم يعتبرها فرضا ولا سنة وإنما هي عنده تطوع.
ج- نصائح في الاستنباط :
يستنبط من بعض انتقادات ابن رشد لاجتهادات الفقهاء ضرورة مراعاة مجموعة أمور :
1- الواقعية :
فقد علق على قول شاذ في الرضاع بقوله : ( وشذ بعضهم فأوجب حرمة للبن الرجل وهذا غير موجود فضلا عن أن يكون له حكم شرعي وإن وجد فليس لبنا إلا باشتراك الاسم، واختلفوا من هذا الباب في لبن الميتة وسبب الخلاف هل يتناولها العموم أو لا يتناولها ولا لبن للميتة إن وجد لها إلا باشتراك الاسم ويكاد أن تكون مسألة غير واقعة فلا يكون لها وجود إلا في القول )1683 .
و علق على مسألة الخلاف في الولاء و عتق النصارى بعضهم لبعض و كذلك اليهود فقال: ( وهذه المسائل كلها هي مفروضة في القول لا تقع بعد فإنه ليس من دين النصارى أن يسترق بعضهم بعضا ولا من دين اليهود فيما يعتقدونه في هذا الوقت ويزعمون أنه من مللهم )1684 .
2- العقلانية :(1/416)
- ففي مسألة إثبات النسب بالقافة علق على رفض الكوفيين و أكثر أهل العراق الذين يرفضون الحكم بها (أنه إذا ادعى رجلان ولدا كان الولد بينهما وذلك إذا لم يكن لأحدهما فراش مثل أن يكون لقيطا أو كانت المرأة الواحدة لكل واحد منهما فراشا مثل الأمة أو الحرة يطؤها رجلان في طهر واحد وعند الجمهور من القائلين بهذا القول إنه يجوز أن يكون عندهم للابن الواحد أبوان فقط وقال محمد صاحب أبي حنيفة يجوز أن يكون ابنا لثلاثة إن ادعوه وهذا كله تخليط وإبطال للمعقول والمنقول.. )1685 .
- و علق على مسألة القسامة و احتجاج المالكية فيها بقوله ( و ما احتجت به المالكية من قصة بقرة بني إسرائيل فضعيف . لأن التصديق هناك أسند إلى الفعل الخارق للعادة . فانفرد مالك و الليث من بين فقهاء الأمصار القائلين بالقسامة فجعلا قول المقتول : فلان قتلني لوثا يوجب القسامة )1686.
- و ناقش مناقشة عقلية في ذبائح أهل الكتاب في مسألة أكل شحومهم و هل يؤكل ما حرموه على أنفسهم، قال ابن رشد : ( والحق أن ما حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع فيجب أن لا يراعي اعتقادهم في ذلك ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا واعتقاد شريعتنا لا يصح منهم وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به فذبائحهم والله أعلم جائزة لنا على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم )1687 .
3- التيسير و رفع الحرج :(1/417)
- في التوجه إلى القبلة ردا على من قال أن الفرض هو عين القبلة لا جهتها قال : (والذي أقوله إنه لو كان واجبا قصد العين لكان حرجا، وقد قال تعالى {وما جعل عليكم في الدين من حرج } فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها)1688.
و عن تفصيل المتأخرين من المالكية في شروط إقامة الجمعة قال : (لقد اختلف المتأخرون من أصحابه هل من شرط المسجد السقف أم لا وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا وهذا كله لعله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر )1689.
- كما دعا إلى الاحتياط في الذهاب بعيدا مع مبدأ سد الذرائع إلى الحد الذي يبطل معه الرفق و الأخذ بالرخص الشرعية ففي مسألة إيقاع الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا قال : ( و كأن الجمهور غلبوا حكم التغليط في الطلاق سدا للذريعة و لكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية , و الرفق المقصود في ذلك أعني في قوله تعالى : ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا )1690.
4- الدعوة إلى المرونة و رفض الجمود :
- ففي مسألة الاختلاف حول هيئات الجلوس في الصلاة رجح قول الطبري : ( و ذهب الطبري مذهب التخيير . و قال : هذه الهيئات كلها جائزة و حسن فعلها لثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ) ثم علق بقوله : ( وهو قول حسن فإن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التخيير منها على التعارض وإنما يتصور ذلك التعارض أكثر في الفعل مع القول أو في القول مع القول )1691.(1/418)
- و جاء في كتاب الأيمان ( ..لكن تعليق الحكم فيه بالاسم فقط جمود كثير . و هو أشبه بمذهب أهل الظاهر و إن كان مرويا في المذهب حكاه اللخمي عن محمد بن المواز ) و الإشارة هنا إلى الحديث النبوي الشريف (.. من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ...) حيث جمدوا على الاسم فقط ورفضوا الحلف بصفات الله أو أفعاله1692.
5- الأخذ بالعادة و التجربة :
- ذكر ابن رشد أن سبب اختلاف الفقهاء في اعتبار وقت الرؤية ترك التجربة فيما سبيله التجربة و الرجوع إلى الأخبار في ذلك . و ليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه و سلم يرجع إليه . فتشبتوا ببعض الآثار عن الصحابة فقال القاضي : (الذي يقتضي القياس والتجربة أن القمر لا يرى والشمس بعد لم تغب إلا وهو بعيد منها لأنه حينئذ يكون أكبر من قوس الرؤية وإن كان يختلف في الكبر والصغر فبعيد والله أعلم أن يبلغ من الكبر أن يرى والشمس بعد لم تغب ولكن المعتمد في ذلك التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل الزوال ولا بعده وإنما المعتبر في ذلك مغيب الشمس أو لا مغيبها ... ) 1693.
- و في أطول فترة للحمل يقول : ( واختلفوا في أطول زمان الحمل الذي يلحق به الوالد الولد فقال مالك خمس سنين وقال بعض أصحابه سبع وقال الشافعي أربع سنين وقال الكوفيون سنتان وقال محمد بن الحكم سنة وقال داود ستة أشهر وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة ،وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد لا بالنادر ولعله أن يكون مستحيلا )1694.
6- الترابط المنطقي :(1/419)
- اختلف الفقهاء في سكنى المبتوتة و نفقتها فذهب الكوفيون أن لها السكنى و النفقة و ذهب الحنابلة و الظاهرية إلى عدم وجوب شيء من ذلك، أما المالكية و الشافعية فقالوا: لها السكنى دون النفقة فعقب ابن رشد على هذا الرأي الأخير بقوله ( الأولى في هذه المسألة إما أن يقال إن لها الأمرين جميعا مصيرا إلى ظاهر الكتاب والمعروف من السنة وإما أن يخصص هذا العموم بحديث فاطمة المذكور وأما التفريق بين إيجاب النفقة والسكنى فعسير ووجه عسره ضعف دليله [...] وبالجملة فحيثما وجبت السكنى في الشرع وجبت النفقة )1695 .
- و يمكن استخراج نصائح أخرى غير هذه من مثل قوله ( كل حديث ليس بوارد في الغرض الذي يحتج فيه به فالاحتجاج به ضعيف )1696 و ضرورة اعتماد منهج الاستقراء 1697وغيرها.
7-التقوى وحسن الخلق:
وكأن ما سبق لا يكفي في الاجتهاد المفيد للأمة، فمهما ضبطت الأصول وشروط الاجتهاد ومعرفة المصالح وواقع الناس وتوفر ذوق المجتهد ،إذا غابت فضيلة الخلق والتقوى عن المجتهد والحاكم المجتهد في تنزيل الأحكام فإن الهوى قد يدخل في الخط ويحدث الظلم والانحراف وسوء التأويل وتحريف الكلم عن مواضعه واستخدام حجج الحق لخدمة الباطل. يقول ابن رشد:( فلنفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن في الاشتغال بظواهر الشرائع تطرقا إلى الظلم)1698
د- التدرب على حسن الدفاع :
فإذا لم يكن في الهمة قدرة على الاجتهاد . فلا أقل من أن يحسن الفقيه الاستدلال و المنافحة و الدفاع عن المذهب الذي يعتنقه . و يعرف الأصول التي عنها يصدر اجتهاد إمامه حتى يستطيع الفهم و الإقناع .
1- المالكية :(1/420)
اختلف مالك عن غيره بالقول بإعادة التيمم عند القيام إلى الصلاة الثانية و احتج أصحاب مالك له بظاهر آية الوضوء التي تفيد و جوب الوضوء أو التيمم عند القيام لكل صلاة . فخصصت السنة الوضوء و بقي التيمم على أصله و رفض ابن رشد هذا الاحتجاج و قال : ( لكن لا ينبغي أن يحتج بهذا مالك فإن مالكا يرى أن في الآية محذوفا على ما رواه عن زيد بن أسلم في موطئه ) و يرى أن الأصلح للاستدلال له هو ( تكرار الطلب عند دخول وقت كل صلاة و هذا هو ألزم لأصول مالك أعني أن يحتج له بهذا ..) 1699.
2- الشافعية :
في الاختلاف حول الشيء الذي تزال به النجاسة ذهب الحنفية إلى أن ما كان طاهرا يزيل النجاسة مائعا كان أو جامدا في أي موضع كانت . و قال الشافعي لا تزال النجاسة بما سوى الماء إلا في الاستجمار , بحجة أن للماء في ذلك مزيد خصوص ليس لغيره و لما طالبت الحنفية الشافعية بذلك الخصوص المزيد الذي للماء , لجأوا في ذلك إلى أنها عبادة . إذ لم يقدروا أن يعطوا في ذلك سببا معقولا (و طال الخطب و الجدل بينهم : هل إزالة النجاسة بالماء عبادة أو معنى معقول خلفا عن سلف ).
وحاول ابن رشد أن يتولى الدفاع عن رأي الشافعية بقوله ( ولو راموا الانفصال عنهم بأنا نرى أن للماء قوة إحالة للأنجاس والأدناس وقلعها من الثياب والأبدان ليست لغيره ولذلك اعتمده الناس في تنظيف الأبدان والثياب لكان قولا جيدا وغيره بعيد ) 1700. و يرى أن هذا المسلك هو الأنسب ليكون الفقه جاريا على المعاني ( ولو كانوا قالوا هذا لكانوا قد قالوا في ذلك قولا هو أدخل في مذهب الفقه الجاري على المعاني وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول عبادة إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم فتأمل ذلك فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع )1701.
3- الحنفية :(1/421)
اختلف الفقهاء في حكم سجود التلاوة فذهب مالك و الشافعي إلى كونه سنة و ليس بواجب و ذهب أبو حنيفة و أصحابه إلى أنه واجب ( و قال أبو المعالي : إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة في السجود لا معنى له ) و استمر يفند رأيه . فتقمص ابن رشد شخصية المدافع عن أبي حنيفة ( ولأبي حنيفة أن يقول قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر وذلك في أكثر المواضع وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة أعني عند التلاوة وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد ... ) و استمر يفند كلام أبي المعالي الجويني..1702
4- الظاهرية :
يرى الجمهور أن الرق مؤثر في نقصان عدد الطلاق , و رأى ابن حزم أن الحر و العبد في هذا سواء , أخذا بالأصل في التكاليف إلا ما أخرجه الدليل عن المساواة في الأحكام , بينما قاس الجمهور ذلك على الحدود فقال ابن رشد :
( ويشبه أن يكون قياس الطلاق على الحد غير سديد ،لأن المقصود بنقصان الحد رخصة للعبد لمكان نقصه وأن الفاحشة ليست تقبح منه قبحها من الحر، وأما نقصان الطلاق فهو من باب التغليظ لأن وقوع التحريم على الإنسان بتطليقتين أغلظ من وقوعه بثلاث لما عسى أن يقع في ذلك من الندم والشرع إنما سلك في ذلك سبيل الوسط وذلك أنه لو كانت الرجعة دائمة بيد الزوجة لعنتت المرأة وشقيت ولو كانت البينونة واقعة في الطلقة الواحدة لعنت الزوج من قبل الندم وكان ذلك عسرا عليه فجمع الله بهذه الشريعة بين المصلحتين، ولذلك ما نرى والله أعلم أن من ألزم الطلاق الثلاث في واحدة فقد رفع الحكمة الموجودة في هذه السنة المشروعة )1703.
الباب الثالث
آيات وأحاديث الأحكام ودورها
في تربية ملكة الاجتهاد
الفصل الأول
آيات وأحاديث الأحكام
ودورها المركزي في الاجتهاد
المبحث الأول
أهمية تعلم الأحكام وإعمالها
ودورها في تربية ملكة الاجتهاد
تعريف آيات الأحكام:
الآية لغة:(1/422)
مفرد الآيات: آية، وهي في اللغة العلامة والمثل والجماعة،ففي معنى العلامة ما جاء في تفسير الطبري:( وقوله إن آية ملكه: إن علامة ملك طالوت التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي إن الله بعثه عليكم ملكا)1704وما جاء في الغريب لابن سلام (قال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين ذكر الخوارج فقال: قوم يتفقهون في الدين يَحْقِر أحدكم صلاتَه عند صلاتِهم وصومَه عند صومِهم يَمْرُقون من الدين كما يَمْرُق السهم من الرِميَّة(...) وفي حديث آخر : قيل: يا رسول الله! ألَهُمْ آية أو علامة يعرفون بها؟ قال: نعم, التسبيد فيهم فاش . سبد قال أبو عبيد: سألت أبا عبيدة عن التسبيد فقال: هو ترك التدهن وغسل الرأس, وقال غيره: إنما هو الحلق واستئصال الشعر)1705
وقال ابن منظور(والآيةُ: العلاَمَةُ (...) والجمع آياتٌ و آيٌ، و آياءٌ جمعُ الجمع نادرٌ؛ (...) وأَصل آية أَوَيَةٌ، بفتح الواو، وموضع العين واو، والنسبة إِليه أَوَوِيّ، (...).و تَأَيَّا الشيءَ: تَعَمَّد آيَتَهُ أَي شَخْصَه. و آية الرجل: شَخْصُه.)1706
وفي معنى المثل ما جاء في لسان العرب أيضا:(ويكون المَثَلُ بمعنى الآيةِ؛ قال الله عز وجل في صفة عيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام: وجعلناه مَثَلاً لبني إسرائيل أَي آيةً تدلُّ على نُبُوّتِه)1707
وفي معنى الجماعة يقول ابن قتيبة في غريبه(بلَغَني عن أبي عمرو الشَّيْاني أنّه قال معنى آية من كتاب الله أي جماعة حروف قال ومنه يقال خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم)1708
وفصل مباركفوري فيما تستعمل كلمة آية بقوله:( والآية العلامة الظاهرة تستعمل في المحسوسات كعلامة الطريق والمعقولات كالحكم الواضح والمسألة الواضحة فيقال لكل ما تتفاوت فيه المعرفة بحسب التفكر فيه والتأمل وحسب منازل الناس في العلم آية والمعجزة آية)1709
الآية في الاصطلاح:(1/423)
وفي الاصطلاح ما أورده القرطبي وهو يربط بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي (وأما الآية فهي العلامة بمعنى أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها من الذي بعدها وانفصاله، أي هي بائنة من أختها ومنفردة (...) وقيل سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها(...) وقد تكون الكلمة وحدها آية تامة، نحو قوله تعالى: والفجر والضحى والعصر..)1710
وأما عند أهل الأحكام، فالآية عندهم ما استفيد منه حكم شرعي، قال صاحب البحر الزخار عن الآية بأنها( كل جملة تامة أو جمل بينها رابطة من ضمير أو عطف أو نحوهما صيرتهما كالجملة الواحدة أفادت بظاهر منطوقها حكما عمليا مجملا أو مفصلا ناسخا أو منسوخا مبتدأ أو مكررا خاصا به صلى الله عليه وآله أو متعديا(...) وربما لم تتم إفادة الحكم المقصود بجملة واحدة بل : بجملتين أو أكثر فعدت آية واحدة اعتبارا بالحكم إذ هو المقصود وربما تضمنت الجملة الواحدة حكمين أو أكثر)1711
وجمع مباركفوري المعنى المعروف عند إطلاق الآية من القرآن ومعناها عند الإحكاميين بقوله:( وكل جملة دالة على حكم من أحكام الله آية ،وكل كلام منفصل بفصل لفظي آية)1712
الأحكام لغة:
وأما الأحكام1713 فجمع حكم،وهو في اللغة:القضاء1714 ،ومعناه في الأصل :المنع والصرف ،وتطلق الحَكَمَةُ على الحديدة التي في اللجام. ويقال : حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك , ويقال حكم اللَّه أي قضاؤه بأمر والمنع من مخالفتِهِ .
ولتعريف الحكم اصطلاحا يقيد بالشرعي , تفريقا له عن العقلي والعادي وغيرهما1715.
ومن معاني الأحكام أيضا الإحكام والإتقان:يقول ابن حجر:( ومادة الحكم من الإحكام وهو الإتقان للشيء ومنعه من العيب)1716
معنى الأحكام عند المفسرين والمحدثين:(1/424)
اعتبر بعض المفسرين الأحكام بمعنى الحكمة1717،باعتبارها الثمرة العلمية للعلم بالقرآن والسنة، يقول السرخسي في "المبسوط":(قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنه الْحِكْمَةُ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ)1718
ويقول صاحب تفسير الجلالين في قوله تعالى:( وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ)(البقرة:231)( أنزل عليكم من الكتاب: القرآن والحكمة: ما فيه من الأحكام)1719
كما فسرت الكتب: بالأحكام، يقول القرطبي في قوله تعالى في سورة البينة :(كتب قيمة):( الكتب هنا بمعنى الأحكام. قال الله عز وجل:( كتب الله لأغلبن ) بمعنى حكم، وقال صلى الله عليه وسلم:" والله لأقضين بينكما بكتاب الله" ثم قضى بالرجم وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب، فالمعنى لأقضين بينكما بحكم الله تعالى (...) وقيل الكتب القيمة هي القرآن فجعله كتبا لأنه يشتمل على أنواع من البيان)1720
وقد استخدم البخاري "الأحكام" في صحيحه بمعنى القضاء والحكم، فأدرج 53 بابا في كتاب الأحكام، وقصد به ما يحتاج في القضاء والحكم بين الناس، ومسألة الخلافة والبيعة وقضايا الحكم. وبدأه بقوله : كتاب الأحكام - باب قول الله تعالى:
( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني)1721(1/425)
وأما الأحكام كما اصطلح عليها المتأخرون، فأورد بعض أبوابها في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وأورد فيه 28 بابا :مثل باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، وباب الحجة على من قال إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وباب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة.. و باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، وكيف معنى الدلالة وتفسيرها 1722 وغيرها.
والأحكام أيضا حدود الله عز وجل، قال صاحب تفسير الجلالين في قوله تعالى:
( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) وبعد بيان معنى الكفارة الواردة ومقدارها:( وتلك أي الأحكام المذكورة حدود الله وللكافرين بها عذاب أليم مؤلم)1723
والأحكام:الفريضة ، والفرائض التي أوجبها الله عز وجل فالمراد( بالفريضة كل حكم من الأحكام يحصل به العدل في القسمة بين الورثة)1724
ويطلق على الأحكام أيضا سنن، رغم أن فيها ما هو على سبيل الوجوب،قال ابن حجر في سياق كلامه عن حديث (وفيه تسمية الأحكام سننا وإن كان بعضها واجبا، وأن تسمية ما دون الواجب سنة اصطلاح حادث .)1725
وآيات محكمات (يعني مبينات مفصلات أحكمت عبارتها من احتمال التأويل والاشتباه سميت محكمة من الإحكام، كأنه تعالى أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها إلى أولي الألباب)1726
الأحكام في اصطلاح الأصوليين:
أما من الناحية الأصولية، فقد عرف ابن رشد الحكم في الاصطلاح1727 بقوله:( حد الحكم عند أهل السنة فهو عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين بطلب أو ترك)1728 وقال الزركشي في البحر:( وفي الاصطلاح : خطاب الشرعِ المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء1729 أو التخيير1730)1731
أقسام الأحكام وأركانها ومكونات أصنافها:
ينقسم الحكم حسب ابن رشد (إلى طلب وترك أو تخيير فيهما وهو المسمى مباحا. والطلب ينقسم إلى واجب وندب، والترك ينقسم إلى محظور ومكروه.)1732(1/426)
و أركان الحكم ,وهي ثلاثة :الحاكم ,والمحكوم عليه ,والمحكوم فيه1733 .
فالحاكم هو المخاطب بالإيجاب .و من شروطه ,مع كونه متكلما ,نفوذ الحكم على الإطلاق .و إنما يصح ذلك بين المالك والمملوك و الخالق والمخلوق ,وهو تعالى .وكل من لزمت طاعته فإنما لزمت بإيجاب الله تعالى كالسلطان والأب وما أشبههما.و هو القادر على العقاب والثواب، إذ لا يتصور الإيجاب أو النهي من غير قادر عليهما1734.
و المحكوم عليه هو المكلف وله شرطان هما: العقل والبلوغ ،أما الأول حتى يفهم الخطاب الوارد بأمر أو نهي، إذ من ليس يفهم الخطاب لا يصح منه اقتضاء وجوب الطلب.فلا يفهم خطاب الشرع إلا من يعرف الشارع ، ولا يعرف الشارع إلا من يعرف الله عز وجل، وهذا الشرط مدركه العقل . ومن هنا يتبين سقوط تكليف الناسي والغافل والمجنون1735 واختلفوا في بعض تصرفات السكران1736.وأما الشرط الثاني فهو البلوغ1737 ,و هذا الشرط مدركه الشرع1738
والركن الثالث هو المحكوم فيه و هو الفعل فإنه المكتسب1739 للعبد باختياره أو ما جاز أن يكون كذلك، مع اعتقاد اكتسابه بخصوص المأمورات طاعة و امتثالاً.
وقسم الأحكام أيضا من جهة الأسباب المظهرة1740 لها والصفات التي تتصف بها إلى صنفين: الصحة والفساد1741 وما في حكمهما.
والصحة حسب المتكلمين تطلق على ما وقع على وفق الشرع ، وجب القضاء أو لم يجب ؛ وأما عند الفقهاء فتطلق على ما أجزأ وأسقط القضاء ، حتى أن صلاة من ظن أنه متطهر صحيحة في اصطلاح المتكلمين1742.
وأما الفساد في العقود فيطلق على كل حكم لم يتضمن أحد ما به يتم الحكم ، سواء كان ذلك شرطا أو سببا ، والصحة تكون مقابل هذا أي ما تحقق فيه الشرط والسبب . إلا ما كان من الحنفية، فإنهم يخصون باسم الفاسد ما كان مشروعا في أصله ممنوعا في وصفه. وبالجملة فالأحكام إنما تتصف بالصحة إذا فعلت بالأمور والأحوال التي اشترط الشرع في فعلها ، والفساد بخلاف ذلك1743.(1/427)
ومن خلال تتبع ما في "البداية" نقف على جملة من تصنيفات الأحكام،ففي المقدمة أشار إلى :أحكام منطوق بها ،وأحكام مسكوت عنها،وهذه جميعا بدورها تنقسم إلى: أحكام متفق عليها ،وأحكام مختلف فيها.
كما تنقسم إلى أحكام معقولة المعنى وأخرى غير معقولة المعنى،فيقول عن الأولى(الأحكام المعقولة المعاني في الشرع أكثرها هي من باب محاسن الأخلاق أو من باب المصالح وهذه في الأكثر هي مندوب)1744 ويتحدث عن الثانية في مثل قوله:( وأما الطهارة من الحدث فغير معقولة المعنى مع ما اقترن من صلاتهم في النعال مع أنها لا تنفعك من أن يوطأ بها النجاسات غالبا وما أجمعوا عليه من العفو عن اليسير في بعض النجاسات)1745 ومثل القول في التيمم(فالجمهور على أن النية فيها شرط لكونها عبادة غير معقولة المعنى)1746
كما نجد أحكاما يقضي بها الحكام وأخرى ليست كذلك يقول:( الأحكام الشرعية تنقسم قسمين قسم يقضي به الحكام وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم وقسم لا يقضي به الحكام وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه)1747
كما أنه من الناحية العملية في"البداية" يميز بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية، ففي كتاب "الرهون" يميز بين الأركان والشروط والأحكام، فالأركان هي النظر في الراهن والمرهون والمرتهن والشيء الذي فيه الرهن وصفة عقد الرهن، والشروط المنطوق بها في الشرع ضربان شروط صحة وشروط فساد، والقول في الأحكام يهم: معرفة ما للراهن من الحقوق في الرهن، وما عليه ،وإلى معرفة ما للمرتهن وما عليه، وإلى معرفة اختلافهما في ذلك ،وذلك إما من نفس العقد وإما لأمور طارئة على الرهن1748.(1/428)
وفي كتاب "الوصايا" :الأركان أربعة الموصي والموصى له والموصى به والوصية ، والأحكام منها: لفظية ومنها حسابية ومنها حكمية ، فمن مسائلها المشهورة الحكمية اختلافهم في حكم من أوصى بثلث ماله لرجل وعين ما أوصى له به في ماله مما هو الثلث فقال الورثة ذلك الذي عين أكثر من الثلث1749.
وفي كتاب "الرق" من باب المكاتب فالأركان: المكاتب والمكاتب والكتابة والأحكام: متى يعتق المكاتب، ومتى يعجز فيرق ،وكيف حاله إن مات قبل أن يعتق أو يرق، ومن يدخل معه في حال الكتابة ممن لا يدخل، وتمييز ما بقي عليه من حجر الرق مما لم يبق عليه ...
وأما شروط الكتابة فمنها شرعية وهي من شروط صحة العقد، ومنها شروط بحسب التراضي، وهذه الشروط منها ما يفسد العقد ومنها ما إذا تمسك به أفسدت العقد. وإذا تركت صح العقد. ومنها شروط جائزة غير لازمة ومنها شروط لازمة1750.
كما أنه كثيرا ما يذكر الأسباب متميزة عن الأحكام مثل قوله في كفارة الأيمان(وسبب اختلافهم هل يحمل المطلق على المقيد في الأشياء التي تتفق في الأحكام وتختلف في الأسباب كحكم حال هذه الكفارات مع كفارة الظهار)1751
ما يدخل في الأحكام وما لا يدخل فيها:
مما يدخل في الأحكام بالإضافة إلى أوامر ونواهي القرآن والسنة وما في حكمهما،وما أجمعت عليه الأمة، ما يبينه الشرع من الأسماء أي من جهة ما يعطيه لها من مضامين، فبيان النبي ( للأسماء من جملة الأحكام،يقول ابن حجر:(بيان الأسماء من جملة الأحكام لمن لا يعلمها، ولا سيما ليقطع تعلق القصد بها)1752 ومثل لذلك بقوله:(لو لم يكن الفضيخ خمرا ونادى المنادي حرمت الخمر لم يبادروا إلى إراقتها ولم يفهموا أنها داخلة في مسمى الخمر وهم الفصح اللسن فإن قيل: هذا إثبات اسم بقياس، قلنا إنما هو إثبات اللغة عن أهل،فإن الصحابة عرب فصحاء فهموا من الشرع ما فهموه من اللغة ومن اللغة ما فهموه من الشرع)1753(1/429)
ومما لا يعتبر في الأحكام حسب بعض العلماء ما أحدثه بعض الخلفاء من بعد الراشدين:ففي مقدار الإطعام في كفارة الإظهار أخذ أهل المدينة بمد هشام تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا، قال ابن العربي في أحكامه:( وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول بها ووقع عندهم الظهار وقيل لهم فيه (فإطعام ستين مسكينا) فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع وقدره معروف عندهم متقرر لديهم.
وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرا واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مد النبي ( لا يشبعه ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال. فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي ( حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم مثل ما بارك لإبراهيم بمكة فكانت البركة تجري بدعوة النبي ( في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره.
وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسوله بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم. ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي ( في كفارة الظهار أحب إلينا) إلى أن قال : (وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أديت بالسنة فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان وأبرك في يد الآخد وأطيب في شدقه وأقل آفة في بطنه وأكثر إقامة لصلبه)1754
أهمية الأحكام والغرض منها:
الأحكام الشرعية مناط السعادة الدنيوية والأخروية:(1/430)
يقول الآمدي:(وأما غاية علم الأصول فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية)1755
إعمال الأحكام سبب للإعمار:
يقول ابن عابدين:(استنباط الأحكام الشرعية وتدوينها وتعليمها للناس سبب للعمل بها . ولا شك أن الانقياد للأحكام الشرعية وعمل الحكام بها والرعية زين للبلاد والعباد ينتظم به أمر المعاش والمعاد , وبضده الجهل والفساد , فإنه شين ودمار للديار والأعمار .)1756
من مقاصد البعثة تطبيق الأحكام:
فالمقصود من البعثة المحمدية وإظهار المعجزة اتباع النبي عليه السلام في الأحكام،يقول الآمدي:(المقصود من البعثة وإظهار المعجزة اتباع النبي عليه السلام في الأحكام الشرعية إقامة لمصالح الخلق،فلو جاز عليه الخطأ في حكمه لأوجب ذلك التردد في قوله والشك في حكمه وذلك مما يخل بمقصود البعثة)1757
العلاقة الوثيقة بين الأحكام والإيمان ومسائل الاعتقاد:
إعمال الأحكام مكمل للإيمان:
قيل لابن عيينة (إن قوما يقولون: الإيمان كلام، فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام ،فأمر الناس أن يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم. فلما علم الله صدقهم أمرهم بالصلاة، ففعلوا ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار، فذكر الأركان إلى أن قال: فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم، قال: اليوم أكملت لكم دينكم الآية. فمن ترك شيئا من ذلك كسلا أو مجونا أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان ومن تركها جاحدا كان كافرا )1758
من أقر بالإيمان أجريت عليه الأحكام :(1/431)
فالسلف قالوا عن الإيمان (هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزياده والنقص (...) والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط، والكرامية قالوا: هو نطق فقط والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف إنهم جعلوا الأعمال شرطا في صحته والسلف جعلوها شرطا في كماله وهذا كله (...) بالنظر إلى ما عند الله تعالى أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم)1759
من الأحكام ما يوجب العمل ولا يقطع العذر وما كان كذلك لا يجوز به التكفير:
يقول ابن عبد البر:(كل فرض ثبت بدليل لم يكفر صاحبه، ولكنه يجهل ويخطأ. فإن تمادى بعد البيان له هجر، وإن لم يبن له عذر بالتأويل. ألا ترى أنه قد قام الدليل الواضح على تحريم المسكر ولسنا نكفر من قال بتحليله، وقد قام الدليل على تحريم نكاح المتعة ونكاح السر والصلاة بغير قراءة وبيع الدرهم بالدرهمين يدا بيد إلى أشياء يطول ذكرها من فرائض الصلاة والزكاة والحج وسائر الأحكام ولسنا نكفر من قال بتحليل شيء من ذلك لأن الدليل في ذلك يوجب العمل ولا يقطع العذر والأمر في هذا واضح لمن فهم)1760
الفقه على الوجه الأمثل ما كان في الأحكام:(1/432)
فأهل الأصول يخصون الفقه بإدراك الأحكام الشرعية ، يقول النووي عن الفقه بأنه:( عبارة عن الفهم في الدين، واصطلح بعد ذلك الفقهاء وأصحاب الأصول على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها)1761 ويقول ابن حجر:(والفقه هو الفهم، قال الله تعالى: لا يكادون يفقهون حديثا أي لا يفهمون، والمراد الفهم في الأحكام الشرعية)1762 .والمذاهب الفقهية نفسها لم تتميز فيما بينها إلا بسبب ما وقع من خلاف بين أئمتها في الأحكام،فالمذهب ما يصار إليه من الأحكام، يقول صاحب التعاريف:(المذهب لغة محل الذهاب وزمانه والمصدر والاعتقاد والطريقة المتسعة ثم استعمل فيما يصار إليه من الأحكام)1763
دوران أصول الفقه على الأحكام:
يقول الغزالي في المستصفى:( اعلم أنك إذا فهمت أن نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية لم يخف عليك أن المقصود معرفة كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة , فوجب النظر في الأحكام , ثم في الأدلة وأقسامها , ثم في كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة , ثم في صفات المقتبس الذي له أن يقتبس الأحكام , فإن الأحكام ثمرات وكل ثمرة فلها صفة وحقيقة في نفسها ولها مثمر ومستثمر وطريق في الاستثمار . والثمرة هي الأحكام , أعني الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة والحسن والقبح والقضاء والأداء والصحة والفساد وغيرها والمثمر هي الأدلة , وهي ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع فقط . وطرق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة , إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها , أو بفحواها ومفهومها وباقتضائها وضرورتها أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها .(1/433)
والمستثمر هو المجتهد , ولا بد من معرفة صفاته وشروطه وأحكامه . فإذا جملة الأصول تدور على أربعة أقطاب : القطب الأول : في الأحكام , والبداءة بها أولى لأنها الثمرة المطلوبة . القطب الثاني : في الأدلة , وهي الكتاب والسنة والإجماع وبها التثنية إذ بعد الفراغ من معرفة الثمرة لا أهم من معرفة المثمر . القطب الثالث : في طريق الاستثمار , وهو وجوه دلالة الأدلة , وهي أربعة : دلالة بالمنظوم , ودلالة بالمفهوم , ودلالة بالضرورة والاقتضاء , ودلالة بالمعنى المعقول . القطب الرابع : في المستثمر وهو المجتهد الذي يحكم بظنه , ويقابله المقلد الذي يلزمه اتباعه , فيجب ذكر شروط المقلد والمجتهد وصفاتهما .)1764
المناظرة في الأحكام من طرق تكوين ملكة الاجتهاد:
يقول الآمدي:(فائدة المناظرة غير منحصرة فيما ذكروه بل لها فوائد أخر تجب المناظرة لها أو تستحب فالأولى كالمناظرة لتعرف انتفاء الدليل القاطع الذي لا يجوز معه الاجتهاد أو لطلب تعرف الترجيح عند تساوي الدليلين في نظر المجتهد حتى يجزم بالنفي أو الإثبات أو يحل له الوقف أو التخيير لكونه مشروطا بعدم الترجيح والثانية كالمناظرة التي يطلب بها تذليل طرق الاجتهاد والقوة على استثمار الأحكام من الأدلة واستنباطها منها وشحذ الخاطر وتنبيه المستمعين على مدارك الأحكام ومآخذها لتحريك دواعيهم إلى طلب رتبة الاجتهاد لنيل الثواب الجزيل وحفظ قواعد الشريعة)1765
المراد من آيات الأحكام الامتثال والانقياد:(1/434)
فإذا كان مقصود آيات القصص والوعظ: الاعتبار وتعميق آثار الإيمان، فمقصود آيات الأحكام العمل والامتثال والانقياد،يقول ابن العربي في أحكامه:(فَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الِازْدِجَارِ وَذِكْرِ الِاعْتِبَارِ فَفَائِدَتُهُ الْوَعْظُ , وَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ الِامْتِثَالُ لَهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِم)1766
لا لعب في أحكام الشرع:
يقول صاحب المبسوط:(والمراد بالآيات في قوله تعالى { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } الأحكام , والهزء اللعب ففيه بيان أنه لا لعب في أحكام الشرع)1767
الأحكام تنبئ على فعل العباد تحقيقا لمعنى الابتلاء:
يقول الزيلعي:(ولو باع الفضة , أو الذهب بجنسه مجازفة , ثم علما تساويهما قبل الافتراق صح وبعده لا يصح . وقال زفر يصح ; لأن التساوي حق الشرع وقد وجد حالة العقد، قلنا التسوية شرط واجب علينا فيجب تحصيله بفعلنا أما وجوده في علم الله تعالى لا يصلح شرطا للجواز ; لأن الأحكام تنبئ على فعل العباد تحقيقا لمعنى الابتلاء .)1768
الأصل في الأحكام أن تعم النبي ( وغيره إلا ما خصه الدليل:
يقول الجصاص في أحكامه:( فإنه صلى الله عليه وسلم مساو للأمة في سائر الأحكام إلا ما خصه الله تعالى به وأفرده من الجملة بتوقيف للأمة عليه بقوله تعالى : { واتبعوه } وقوله : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } .)1769 ويقول ابن حجر:( الخصوصيه لا تثبت الا بدليل والأصل عدمه(...) والحق أن حكمه حكم جميع المكلفين في الأحكام التكليفيه الا فيما خص بدليل)1770(1/435)
وفي موضع آخر في استعراض فوائد أحاديث أحد الأبواب(استواء المكلفين في الأحكام ،وأن كل حكم ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته إلا ما استثني بدليل(...) الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته ويبادرون إلى الائتساء به إلا فيما نهاهم عنه)1771 فالأصل تعدي الأحكام1772 من الرسول ( إلى غيره من المكلفين.
أهمية تعلم الأحكام وتبليغها:
علم الأحكام بين فرض العين وفرض الكفاية :
ذكر الشافعي في الرسالة في باب العلم قوله:(العلم علمان:علم عامة لا يسع مغلوب على عقله جهله(...) مثل الصلوات الخمس وأن لله على الناس صوم شهر رمضان وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم وأن يكفوا عنه ما حرم عليه منه)1773
ومثل للقسم الثاني منه بقوله:( ينوب العباد من فروع الفرائض وما يخص به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب ولا في الأكثر نص سنة، وإن كانت في شيء سنة فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة ،وما كان منه يحتمل التأويل ويستدرك قياسا)1774
ثم بين حكم هذه الدرجة من العلم بالأحكام ،والتي تنتقل من فرض عين الواجبة في الأولى إلى فرض كفاية،يقول:( هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة ولم يكلفها كل الخاصة، ومن احتمل بلوغها من الخاصة فلا يسعهم كلهم كافة أن يعطلوها وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يحرج غيره ممن تركها إن شاء الله والفضل فيها لمن قام بها على من عطلها)1775 واحتج بقول الله عز وجل:( وما كان المؤمنون لينفروا كافة..) الآية وجعل الشافعي رحمه الله تعالى ذلك مثل الجهاد في سبيل الله عز وجل والصلاة على الجنازة ودفن الموتى ورد السلام.(1/436)
فما تبادر إلى الأفهام معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام لا يعذر أحد بجهله،يقول الزرقاني في مناهل العرفان:(وأما ما لا يعذر أحد بجهله فهو ما تبادر إلى الأفهام معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا يعلم أنه مراد الله تعالى، فهذا القسم لا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى :"فأعلم أنه لا إله إلا الله" أنه لا شريك له في الألوهية، وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي و إلا موضوعة للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر، ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحوه طلب إيجاب المأمور به وإن لم يعلم أن صيغة افعل للوجوب)1776
ويقول ابن حزم فيما لا يسع عموم الناس جهله من الأحكام:
(كل مسلم عاقل بالغ من ذكر أو أنثى حر أو عبد يلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضا بلا خلاف من أحد من المسلمين. وتلزم الطهارة والصلاة المرضى والأصحاء ففرض على كل من ذكرنا أن يعرف فرائض صلاته وصيامه وطهارته وكيف يؤدي كل ذلك، وكذلك يلزم كل من ذكرنا أن يعرف ما يحل له ويحرم من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأقوال والأعمال فهذا كله لا يسع جهله أحدا من الناس ذكورهم وإناثهم أحرارهم وعبيدهم وإمائهم وفرض عليهم أن يأخذوا في تعلم ذلك من حين يبلغون الحلم وهم مسلمون أو من حين يسلمون بعد بلوغهم الحلم )1777
ويبلغ الأمر عنده حد إجبارية هذا النوع من التعليم يقول:(ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ما ذكرنا إما بأنفسهم وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك وأن يراتب أقواما لتعليم الجهال)1778(1/437)
وبعد هذا القاسم المشترك يلزم كل من دخل في شأن من شؤون الحياة تعلم حكمه قبل العمل( ثم فرض على كل ذي مال تعلم حكم ما يلزمه من الزكاة وسواء الرجال والنساء والعبيد والأحرار فمن لم يكن له مال أصلا فليس تعلم أحكام الزكاة عليه فرضا ثم من لزمه فرض الحج ففرض عليه تعلم أعمال الحج والعمرة ولا يلزم ذلك من لا صحة لجسمه ولا مال له، ثم فرض على قواد العساكر معرفة السير وأحكام الجهاد وقسم الغنائم والفيء ثم فرض على الأمراء والقضاة تعلم الأحكام والأقضية والحدود وليس تعلم ذلك فرضا على غيرهم ثم فرض على التجار وكل من يبيع غلته تعلم أحكام البيوع وما يحل منها وما يحرم وليس ذلك فرضا على من لا يبيع ولا يشتري)1779
وبعد بيان ما يجب على الأفراد بصفتهم، انتقل إلى الواجب الكفائي الذي يهم الجماعات،يقول:( ثم فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة وهي المجشرة عندنا أو حلة أعراب أو حصن أن ينتدب منهم لطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها ولتعلم القرآن كله ولكتاب كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام أولها عن آخرها وضبطها بنصوص ألفاظها وضبط كل ما أجمع المسلمون عليه وما اختلفوا فيه.ومن يقوم بتعليمهم وتفقيههم من القرآن والحديث والإجماع يكتفي بذلك على قدر قلتهم أو كثرتهم بالآية التي تلونا في أول هذا الكتاب بحسب ما يقدر أن يعمهم بالتعليم)1780
وفي موضع آخر يقول:(قال تعالى:( وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) فهذا إيجاب لتعلم أحكام القرآن وأحكام أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذين أصل الدين)1781
السؤال في الأحكام التي يحتاجها المكلفون يستثنى من النهي عن كثرة السؤال:(1/438)
أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: لما نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء.. الآية. كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وآله وسلم.. الحديث ،علق الشوكاني على هذا الحديث بالقول:(والراجح في تفسير الآية أنها نزلت في النهي عن كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن (...) ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه كبيان ما أجمل أو نحو ذلك مما وقعت عنه المسائل)1782
ثم ساق من الأدلة ما يقوي رأيه (عن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول:هل كان هذا ؟ فإن قيل:لا ،قال: دعوه حتى يكون. قال في الفتح: والتحقيق في ذلك، أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين: أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب .. بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين.
ثانيهما أن يدقق النظر في وجوه الفرق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع أو بالعكس بأن يجمع بين مفترقين لوصف طردي مثلا فهذا الذي ذمه السلف ، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه :(هلك المتنطعون) أخرجه مسلم فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته.
ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جدا فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ولا سيما إن لزم من ذلك المقال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.
وأشد من ذلك في كثرة السؤال والبحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها.
ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل، والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به من غير بحث.
وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة كما صح من حديث أبي هريرة رفعه عند البخاري وغيره:( لا يزال الناس يتساءلون هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله)(1/439)
قال الحافظ: فمن سد باب المسائل حتى فاته كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة فإنه يذم فعله وهو عين الذي كرهه السلف.
ومن أمعن البحث عن معاني كتاب الله تعالى محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة الذين شاهدوا التنزيل ،وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك مقتصرا على ما يصلح للحجة فيها، فإنه الذي يحمد وينفع وينتفع به. وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم، حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الأولى فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وهم من أهل دين واحد. والوسط هو المعتدل من كل شيء. وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المذكور في الباب: فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد .)1783
فرض من لايشتغل باستنباط الأحكام أن يسأل أهل الذكر في ذلك :
قال القرطبي:(فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه، أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه. لقوله تعالى:" فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون")1784
طلب العلم بواجبات الأحكام لا يحتاج إذن الوالدين:
قال الخطيب البغدادي:( والطلب المفروض على كل مسلم، إنما هو طلب العلم الذي لا يسع جهله ،فتجوز الرحلة بغير إذن الأبوين، إذا لم يكن ببلد الطالب من يعرفه واجبات الأحكام وشرائع الإسلام. فأما إذا كان قد عرف علم المفترض عليه فتكره له الرحلة إلا بإذن أبويه)1785
لا حياء في تعلم تفاصيل الأحكام:(1/440)
قال ابن حجر تعليقا على حديث عائشة في فرك المني(وفي هذه الرواية جواز سؤال النساء عما يستحى منه لمصلحة تعلم الأحكام)1786
والشرع كما أمر بتعلم الأحكام أمر العالمين بها تعليمها لغيرهم،وهذا ما يظهر جليا من حرص النبي ( على التعليم والتبليغ، حتى أدخل البعض التعليم من مقاصده صلى الله عليه وسلم في تعدد زوجاته ،يقول ابن حجر (والحكمة في كثرة أزواجه أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليها فينقلنها، وقد جاء عن عائشة من ذلك الكثير الطيب ،ومن ثم فضلها بعضهم على الباقيات)1787 وفي موضع آخر يقول:( ترك التزويج مرجوح إذ لو كان راجحا ما آثر النبي صلى الله عليه وسلم غيره ،وكان مع كونه أخشى الناس لله وأعلمهم به ،يكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطلع عليها الرجال)1788
ويرى ابن حجر أن الخطيب بدوره لا ينبغي أن يغيب تعليم الأحكام عن مقاصده، روى الترمذي وابن خزيمة وصححاه عن عياض بن أبي سرح أن أبا سعيد الخدري دخل ومروان يخطب، فصلى الركعتين فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاهما، ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهما،وقال ابن حجر تعليقا عليه:( وأن للخطيب أن يأمر في خطبته وينهى ويبين الأحكام المحتاج إليها)1789
أحاديث الأحكام من أفضل ما يمليه المحدث :
يقول الخطيب البغدادي:(ومن أنفع ما يملى الأحاديث الفقهية التي تفيد معرفة الأحكام السمعية: كسنن الطهارة والصلاة وأحاديث الصيام والزكاة وغير ذلك من العبادات وما تعلق بحقوق المعاملات(...) ويستحب أيضا إملاء أحاديث الترغيب في فضائل الأعمال وما يحث على القراءة وغيرها من الأذكار)1790
هل كان بعض المحدثين يكتمون بعض أحاديث الأحكام وغيرها لاعتبارات اجتهادية؟ :(1/441)
ذكر الخطيب البغدادي ما يستحب في الإملاء روايته لكافة الناس وما يكره من ذلك، خوف دخول الشبهة فيه والإلباس، فقال:( ينبغي أن يملى من الأحاديث ما تعلق بأصول المعارف والديانات، وتضمن الدلائل على صحة المذاهب والاعتقادات (...) ويتجنب المحدث في اماليه رواية ما لا تحتمله عقول العوام لما لا يؤمن عليهم فيه من دخول الخطأ والأوهام، وأن يشبهوا الله تعالى بخلقه ويلحقوا به ما يستحيل في وصفه.
وذلك نحو أحاديث الصفات التي ظاهرها يقتضي التشبيه والتجسيم وإثبات الجوارح والأعضاء للأزلي القديم وإن1791 كانت الأحاديث صحاحا ولها في التأويل طرق ووجوه، إلا أن من حقها أن لا تروى إلا لأهلها، خوفا من أن يضل بها من جهل معانيها، فيحملها على ظاهرها أو يستنكرها فيردها ويكذب رواتها ونقلتها(...) عن أبي الطفيل قال سمعت عليا يقول: أيها الناس تحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون(...)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع(...)عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال ابن مسعود: إن الرجل ليحدث بالحديث فيسمعه من لا يبلغ عقله فهم ذلك الحديث فيكون عليه فتنة1792(...) نا حماد بن زيد قال: قال أيوب: لا تحدثوا الناس بما لا يعلمون فتضروهم(...)قيل لمالك ابن انس إن عند ابن عيينة عن الزهري أشياء ليست عندك.
فقال مالك وأنا كل ما سمعته من الحديث أحدث به الناس ؟ أنا إذا أريد أن اضلهم (...) عن وهب بن منبه قال: ينبغي للعالم أن يكون بمنزلة الطباخ الحاذق يعمل لكل قوم ما يشتهون من الطعام، وكذلك ينبغي للعالم أن يحدث كل قوم بما تحتمله قلوبهم وعقولهم من العلم. ومما رأى العلماء أن الصدوف عن روايته للعوام أولى: أحاديث الرخص، وإن تعلقت بالفروع المختلف فيها دون الأصول)1793(1/442)
ولا شك أن هذه المواقف الاجتهادية تنافي الأصل الذي هو التبليغ وعدم كتمان العلم،فلا يتوسع فيه ويبقى في حدود العوام غير المتفرغين لطلب علوم الشريعة،أما طلبة العلم الشرعي فلا يحجب عنهم شيء مع بيان ما هنالك من إشكالات ومبهمات.
قناعات فقهية وراء كتمان أحاديث الأحكام عند البعض :
يقول الخطيب البغدادي:(أنا محمد بن الحسين القطان أنا دعلج بن أحمد أنا أحمد بن علي الأبار نا محمد بن الصباح قال: سمعت الوليد بن مسلم يقول: شهدت مجلسا فيه ابو اسحق الفزاري وعبد الله بن المبارك وعيسى بن يونس ومخلد بن الحسين وهؤلاء أفاضل من بقي من علماء المشرق فأجمع رأيهم على كتمان الحديث في الرخصة في النبيذ وإظهار الحديث في التشديد فيه والكراهية)1794
موقع الأحكام من مجمل الشرع:
ذكر ابن حزم أن محتويات القرآن الكريم تتجلى في:التوحيد ومتعلقات النبوة، و الشرائع المفترضة والمحرمة والمندوب إليها والمكروهة والمباحة، وأخبار سالفة جاءت على معنى الوعظ لنا ، ووعد أمرنا وحضضنا على العمل لاستحقاقه، ووعيد حذرنا منه .
ثم قال:(فلما علمنا أن كل ما ذكرنا ليس متشابها،وعلمنا يقينا أنه ليس في القرآن إلا محكم ومتشابه وأيقنا أن الكل محكم، فلما أيقنا ذلك ضرورة علمنا يقينا أن ما عدا ما ذكرنا هو المتشابه، فنظرنا لنعلم أي شيء هو فنجتنبه ولا نتتبعه وإنما طلبناه لنعلم ماهيته لا كيفيته ولا معناه فلم نجد في القرآن شيئا غير ما ذكرنا حاشا الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور، وحاشا الأقسام التي في أوائل بعض السور أيضا، فعلمنا يقينا أن هذين النوعين هما المتشابه الذي نهينا عن اتباعه وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من المتبعين له)1795(1/443)
وأما ابن عبد السلام في قواعده فلم يجد في القرآن غير ثلاثة أقسام- وإن فصل أكثر مما فعل ابن حزم في قسم التوابع : (أحدها الثناء على الإله , والثاني : الأحكام , والثالث : توابع الأحكام ومؤكداتها) ثم قسم هذه التوابع إلى الأنواع التالية:
- مدح الأفعال وذمها ترغيبا في ممدوحها , وتزهيدا في مذمومها وهذا ضرب من التأكيد .
- مدح الفاعلين ترغيبا للعباد في الدخول في مدحة رب العالمين التي هي زين للطائعين .
- ذم الغافلين تنفيرا من الدخول في مذمة الله التي هي شين للعاصين .
- الوعد بأنواع الثواب الآجل ترغيبا في تحصيل مصالح الطاعات .
- الوعيد بأنواع العقاب الآجل تنفيرا من المعاصي والمخالفات .
- الوعد بأنواع الثواب العاجل , فإن النفوس قد جبلت على حب العاجلة ، وكذلك بيان ما في الفعل من المصلحة العاجلة .
- الوعيد بأنواع العقاب العاجل , فإن النفوس قد جبلت على الخوف من المكروه الآجل وكذلك بيان ما في الفعل من المفسدة العاجلة ، فإن في بيان مفسدة الفعل زجرا عنه وتزهيدا فيه .
- الأمثال وهي ضربان : أحدهما ما ذكر ترغيبا في الخيور،وما ذكر تنفيرا من الشرور.
- قصص المرسلين وما فيها من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين , ذكره ترغيبا في اتباع المرسلين , وتنفيرا من عصيان النبيين , وكذلك اللوم والتقريع والتوبيخ على بعض الأفعال .
- تمننه علينا بما خلقه لأجلنا لنشكره على إحسانه إلينا وإنعامه علينا. وكل شيء ذكره تمننا علينا كان ذلك مقتضيا لأمرين , أحدهما : شكره على ذلك. والثاني : إباحته لنا , إذ لا يصح التمنن علينا بما نهينا عنه , وقد تمنن علينا في كتابه بالمآكل والمشارب , والملابس والمناكح , والمراكب والفواكه , والتجمل والتزين والتحلي بالجواهر , فذكر تمننه بالضروريات والحاجيات , والتتمات والتكملات , وهو كثير في القرآن , فمنه ما هو جالب للمصالح, ومنه ما هو دارئ للمفاسد .(1/444)
- ومن مدح الإله نفسه ما لا يخرج مخرج المدح بل يخرج مخرج تأكيد الأحكام كقوله : { والله بصير بما تعملون } , ذكر ذلك ترغيبا في الطاعات , وتنفيرا من المعاصي والمخالفات ..وكذلك قوله : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } , لم يذكر ذلك تمدحا بسمعه , وإنما ذكره تهديدا لقائليه بخلاف قوله : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } , إنما يتحقق الترغيب والترهيب بصفة السمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة دون الحياة والكلام , فإنهما لا يذكران إلا تمدحا .
إلى أن قال:(فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض , وقد أوحى بذلك عليه السلام في حجة الوداع وصية مؤكدة بقوله : { دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا } )1796
فالشرع بحسب بيان هذين الإمامين خبر يستوجب التصديق، وطلب يستوجب الامتثال سواء في صورة فعل أو ترك ،ولم يبق غير أمور متشابهة بحسب ابن حزم كالحروف والأقسام التي تبدأ بها بعض السور.والأحكام موضعها الطلب وكأنها نصف يقابل نصف الاعتقاد،وإن كان من جهة الكم لا يصل الطلب عشر ما يستوجب التصديق.
مصادر الأحكام والطرق التي تثبت بها:
الأحكام لا تثبت إلا بشرع :
يقول القرطبي :(الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر)1797 والشرع :كتاب الله وسنة رسوله ( وما في معناهما وما كان بإذنهما.يقول ابن دقيق العيد:( فإن الشريعة كلها في كتاب الله : إما بغير واسطة , كالمنصوصات في القرآن من الأحكام , وإما بواسطة قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } و { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول })1798 و يقول ابن حجر في السنة:( المرجع في الأحكام إنما هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم)1799
الأحاديث المسندة أصل الشريعة ومنها تستفاد الأحكام :(1/445)
يقول الخطيب البغدادي:(فأما الأحاديث المسندات إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهي أصل الشريعة ومنها تستفاد الأحكام وما اتصل منها سنده وثبتت عدالة رجاله فلا خلاف بين العلماء أن قبوله واجب والعمل به لازم والراد له آثم)1800
فالأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، يقول الامام أبو المعالى امام الحرمين رحمه الله تعالى:( ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه وما منع الشرع من إطلاقه منعناه وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم فان الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكما بغير الشرع)1801
ويقول الغزالي:(أدلة الأحكام:الكتاب والسنة والإجماع , فالعلم بطرق ثبوت هذه الأصول الثلاثة وشروط صحتها ووجوه دلالتها على الأحكام هو العلم الذي يعبر عنه بأصول الفقه )1802 ثم زاد ابن عبد السلام في التدقيق بقوله:( فأما أدلة شرعية الأحكام:فالكتاب , والسنة , والإجماع , والقياس الصحيح , والاستدلال المعتبر .)1803
ثم وسع القرافي بقوله:( فأدلة مشروعية الأحكام محصورة شرعا تتوقف على الشارع وهي نحو العشرين (...) الكتاب والسنة والقياس والإجماع والبراءة الأصلية وإجماع المدينة وإجماع أهل الكوفة على رأي والاستحسان والاستصحاب والعصمة والأخذ بالأخف وفعل الصحابي وفعل أبي بكر وعمر وفعل الخلفاء الأربعة وإجماعهم والإجماع السكوتي وإجماع لا قائل بالفرق فيه وقياس لا فارق ونحو ذلك مما قرر في أصول الفقه وهي نحو العشرين يتوقف كل واحد منها على مدرك شرعي يدل على أن ذلك الدليل نصبه صاحب الشرع لاستنباط الأحكام)1804(1/446)
وبخصوص ما كان في معناهما وبإذنهما،يقول الجصاص أيضا في أحكامه :(الله تعالى يذكر إيجاب الأحكام تارة بالنصوص , وتارة بالدلالة على المعنى المراد من غير نص عليه , وتارة بلفظ يحتمل للمعاني وهو في بعضها أظهر وبه أولى , وتارة بلفظ مشترك يتناول معاني مختلفة يحتاج في الوصول إلى المراد بالاستدلال عليه من غيره ; وقد وجد ذلك كله في القرآن)1805
وفي هذا المعنى يقول الغزالي أيضا في سياق حديثه عن العلة:( فإن قيل : فالحكم لا يثبت إلا توقيفا ونصا، فلتكن العلة كذلك . قلنا : لا يثبت الحكم إلا توقيفا , لكن ليس طريق معرفة التوقيف في الأحكام مجرد النص بل النص , والعموم والفحوى ومفهوم القول وقرائن الأحوال وشواهد الأصول وأنواع الأدلة , فكذلك إثبات العلة تتسع طرقه ولا يقتصر فيه على النص .)1806
ويؤكد الآمدي أنه ما من حكم من الأحكام إلا ولله تعالى عليه دلائل وأمارات تدل عليه،يقول:(وأما احتمال عدم تأدية الاجتهاد إلى شيء من الأحكام فبعيد أيضا لأن الظاهر أنه ما من حكم إلا ولله تعالى عليه دلائل وأمارات تدل عليه والظاهر ممن له أهلية الاجتهاد إنما هو الاطلاع عليها والظفر بها)1807
وفي السياق نفسه يقول القرطبي تعليقا على فعل البخاري في صحيحه عندما عقد بابا في الأحكام التي تعرف بالدلائل:( قال البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.. لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم، فإن لم يوجد فالقياس وقد ترجم على هذا باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمها ليفهم السائل ،وترجم بعد هذا باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها)1808
يجوز الاستدلال بالقراءة الشاذة في الأحكام:
ذكر ابن عبد البر (إجماع العلماء على أن القراءة الشاذة إذا صح النقل بها عن الصحابة , فإنه يجوز الاستدلال بها في الأحكام)1809
أكثر الأحكام مستندها إنما هو الأقوال دون الأفعال:(1/447)
ميز الآمدي في السنة بين الأقوال والأفعال وبين أن الأحكام تستند في أغلبها إلى الأقوال،يقول:( أكثر الأحكام مستندها إنما هو الأقوال دون الأفعال)1810
أفعال النبي ( ليست فرضا إلا ما كان بيانا لأمر:
يقول ابن حزم:( وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليست فرضا إلا ما كان منها بيانا لأمر، فهو حينئذ أمر لكن الائتساء به عليه الصلاة والسلام فيها حسن، برهان ذلك هذا الخبر الذي ذكرنا آنفا من أنه لا يلزمنا شيء إلا ما أمرنا به أو نهانا عنه وأن ما سكت عنه فعفو ساقط عنا وقال عز وجل:( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)1811
كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون في تشريع الأحكام بغير الوحي:
يقول الآمدي:(كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون في تشريع الأحكام بغير الوحي فكان في البيان كما لو كان ذلك بكلام الله تعالى)1812
الأحكام تتلقى أيضا من السيرة :
قال ابن حجر في"تلخيص الحبير" في كتاب السير (قال رحمه الله ترجم الكتاب بالسير لأن الأحكام المودعة فيه متلقاة من سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، قلت فمقتضى هذا أن يتتبع ما ذكر فيه ويعزى إلى من خرجه إن وجد)1813
الأخذ بغلبة الظن والرأي المحمود في الأحكام:
يقول الكاساني في "بدائع الصنائع" في الرأي المستند إلى الشرع:(غالب الرأي دليل واجب العمل، به بل هو في حق وجوب العمل في الأحكام بمنزلة اليقين .)1814
وعقد ابن عبد السلام فصلا في قواعد الأحكام في بيان جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على الظنون فقال:(الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون.وللدارين مصالح إذا فاتت فسد أمرهما , ومفاسد إذا تحققت هلك أهلهما .(1/448)
وتحصيل معظم هذه المصالح بتعاطي أسبابها مظنون غير مقطوع به ; فإن عمال الآخرة لا يقطعون بحسن الخاتمة وإنما يعملون بناء على حسن الظنون , وهم مع ذلك يخافون ألا يقبل منهم ما يعملون , وقد جاء التنزيل بذلك في قوله : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } , فكذلك أهل الدنيا إنما يتصرفون بناء على حسن الظنون , وإنما اعتمد عليها، لأن الغالب صدقها عند قيام أسبابها ; فإن التجار يسافرون على ظن أنهم يستعملون بما به يرتفقون , والأكارون يحرثون ويزرعون بناء على أنهم مستغلون , والجمالون والبغالون يتصدرون للكراء لعلهم يستأجرون , والملوك يجندون الأجناد ويحصنون البلاد بناء على أنهم بذلك ينتصرون . وكذلك يأخذ الأجناد الحذر والأسلحة على ظن أنهم يغلبون ويسلمون , والشفعاء يشفعون على ظن أنهم يشفعون .
والعلماء يشتغلون بالعلوم على ظن أنهم ينجحون ويتميزون . وكذلك الناظرون في الأدلة والمجتهدون في تعرف الأحكام , يعتمدون في الأكثر على ظن أنهم يظفرون بما يطلبون , والمرضى يتداوون لعلهم يشفون ويبرءون . ومعظم هذه الظنون صادق موافق غير مخالف ولا كاذب , فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع، خوفا من ندور وكذب الظنون , ولا يفعل ذلك إلا الجاهلون .)1815
إذا لم يكن من نص أو ظن غالب فالإمساك أولى:
يقول ابن حجر:(وعلى أن المفتي والحاكم إذا لم يعرف الحكم يمسك حتى يتبين له)1816 وينبه إلى عدم التسرع لاحتمال خفاء بعض الأحكام عن غير الراسخين،يقول:(وعلى أن بعض الأحكام ثبت بالوحي وإن لم يكن مما يتلى)1817
تساهل بعض العلماء في التوابع والشواهد وما فيه مزيد بيان:(1/449)
يبين القرطبي في مقدمة أحكامه مبررا ضعف بعض مروياته،بأنه من القصص والأخبار ما يعين على فهم الأحكام،يقول :(وأضرب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لابد منه ولا غنى عنه للتبيين واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها وترشد للطالب إلى مقتضاها)1818
لا تشرع الأحكام بالظنون المرجوحة والرأي المذموم :
يقول ابن عبد البر عن بعض أوجه الذرائع (وكانوا ينفون القول بالذرائع ويقولون لا يحكم على مسلم أو غيره بظن، ولا تشرع الأحكام بالظنون ولا ينبغي أن يظن بالمسلم إلا الخير)1819
وقال ابن القيم عن الرأي المذموم:(فالرأي الباطل أنواع : أحدها : الرأي المخالف للنص , وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه , ولا تحل الفتيا به ولا القضاء , وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد . النوع الثاني : هو الكلام في الدين بالخرص والظن , مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها , فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم , بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر , أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم , من غير نظر إلى النصوص والآثار ; فقد وقع في الرأي المذموم الباطل)1820
ذم اتباع الأهواء في الأحكام من الحكام وغيرهم:
يقول البيهيقي في شعب الإيمان:( الحاكم لا ينبغي له أن يتبع هواه، ولا يتعدى الحق إلى ما سواه. كما قال الله عز وجل لداود عليه السلام:" يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" فإن الحاكم ليس رجلا خص من بين الناس فقيل له احكم بما شئت فإن هذا لم يكن لملك مقرب ولا نبي مرسل وإنما ائتمن على حكم الله تعالى جده ليفصل بين عباده ويحمل المختلفين عليه)1821
الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازات الشعرية :(1/450)
يقول القرطبي:(وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية فإن الشعراء يتجاوزون في الإستغراق حد الصدق إلى الكذب ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون)1822
لا مجال للفراسة والكشف والرؤيا والخوارق والنسب في ثبوت الأحكام :
يقول القرطبي في أحكامه:(فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها)1823 ويقول ابن رجب الحنبلي بخصوص الكشف بأنه ليس بطريق إلى الأحكام فقد:(ذكر طوائف من الفقهاء من الشافعية والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام هل هو حجة أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافا بينهم وذكر طائفة من أصحابنا أن الكشف ليس بطريق إلى الأحكام. وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذم المتكلمين في الوساوس والخطرات، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك. وقد ذكرنا نصا عن أحمد ههنا بالرجوع إلى حواز القلوب، وإنما ذم أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي بل إلى مجرد رأي و ذوق.
كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي، فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب فقد دلت عليه النصوص النبوية وفتاوي الصحابة فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك، لا سيما وقد نص على الرجوع إليه موافقة لهم. وقد سبق الحديث إن الصدق طمأنينة والكذب ريبة فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه ومعرفته وبنفوره عن الكذب وإنكاره، كما قال الربيع بن خثيم إن للحديث نورا كنور النهار فيعرف به وللكذب ظلمة كظلمة الليل ينكره)1824(1/451)
كما أن أخذ الأحكام من الرؤى مسألة تخص الأنبياء دون غيرهم، يقول ابن حجر:(وأن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقا وترتب الأحكام على رؤيا الأنبياء)1825 وقريب من ذلك ما يتعلق بالخوارق فهي عند الفقهاء لا تتغير بها الأحكام،ففي قصة فقد النبي ( وصحبه الماء وأخذهم إياه من امرأة بما يشبه العوض مع أن الله عز وجل بارك فيه إكراما لرسوله حتى بقي كما كان بعد أخذهم حاجتهم منه،علق ابن حجر بالقول:(إن الخوارق لا تغير الأحكام الشرعية)1826
و المعول في الاجتهاد أيضا على النظر والاستدلال لا على ما يتوهمه البعض من علاقة ما بذلك بالنسب والشرف وخصوصا في أئمة أهل البيت،يقول الآمدي:( أما اختصاصهم بالشرف والنسب فلا أثر له في الاجتهاد واستنباط الأحكام من مداركها بل المعول في ذلك إنما هو على الأهلية للنظر والاستدلال ومعرفة المدارك الشرعية وكيفية استثمار الأحكام منها، وذلك مما لا يؤثر فيه الشرف ولا قرب القرابة)1827
مبرر تقديم رأي الفقهاء على النص الصحيح عند المقلدة:
يقول بعض متأخري الحنفية:( أقول بإجمال يقنع به عن التفصيل، وهو بعد تسليم صحة الحديث حملوه على المسلم الكامل والأمة الكاملة وهو الذي يقتضيه قاعدة انصراف المطلق إلى الكمال. ولا شك أن الأمة الكاملة وهم المجتهدون على منع وخلاف في كل ذلك، ولذا كان دليل المقلد هو قول المجتهد لا النصوص إذ استخرج الأحكام منها ليس إلا منصب المجتهد وقد قالوا إذا تعارض النص وقول الفقهاء يؤخذ بقول الفقهاء إذ يحتمل كون النص اجتهاديا وله معارض قوي وتأويل وتخصيص وناسخ وغيرها مما يختص بمعرفته المجتهد.)1828(1/452)
ولا شك أن المبالغة في هذه الاعتبارات دون النظر فيما يدرك بديهة من الشرع ويستوي فيه عموم المسلمين انتهى بأصحابه إلى منطق غريب يجيزون به كل ضلالة حيث يقول صاحب "البريقة": ({ وكل ضلالة في النار } ) قيل عن الغير بأنه عام خصه حديث { فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن } وحديث { لا تجتمع أمتي على الضلالة } فالذي اجتمع على حسنه المسلمون ورأوه حسنا ليس بضلالة بل مثوبة كصلاة القدر بالجماعة والتصلية والترضية حال الخطبة والقرآن بالألحان ودوران الصوفية . والذكر عند الجنازة والعرائس والسؤال في المساجد والذبح عند القبر واتخاذ الطعام لروح الميت في الأيام المعتادة عند الناس إذ كل ذلك مباح في أصله ومثاب بنية خالصة )1829
الأحكام والاجتهاد:
الاجتهاد في الأحكام من مميزات أمة الإسلام عن بعض الأمم السابقة:
فمثلا فصلت جزئيات الأحكام لليهود ولم يكن لهم الاجتهاد شأن أمة الإسلام ،يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى:(موعظة وتفصيلا لكل شيء):( أي لكل شيء أمروا به من الأحكام فإنه لم يكن عندهم اجتهاد، وإنما خص بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم فخذوا بقوة في الكلام حذف أي فقلنا له خذها بقوة أي بجد ونشاط)1830
قلة النصوص وكثرة الوقائع توجب الاجتهاد في الأحكام:
يقول ابن رشد في "البداية" في بعض تبريرات الاجتهاد:( الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية ، والنصوص ، والأفعال ، والإقرارات متناهية ، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى)1831(1/453)
ويقول الآمدي: (النصوص الدالة على كون النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة أنها إنما تلزم أن لو توقف مفهوم الرسالة والبعثة إلى كل الناس على المخاطبة للكل بالأحكام الشرعية شفاها، وليس كذلك بل ذلك يتحقق بتعريف البعض بالمشافهة وتعريف البعض بنصب الدلائل والأمارات وقياس بعض الوقائع على بعض ويدل على ذلك أن أكثر الأحكام الشرعية لم يثبت بالخطاب شفاها لقلة النصوص وندرتها وكثرة الوقائع.
وما لزم من ذلك أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم رسولا ولا مبلغا بالنسبة إلى الأحكام التي لم تثبت بالخطاب شفاها.فإن قيل والدلائل التي يمكن الاحتجاج بها في الأحكام الشرعية على من وجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير الخطاب فيما ذكرتموه، إنما يعلم كونها حجة بالدلائل الخطابية فإذا كان الخطاب الموجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناول من بعده فقد تعذر الاحتجاج به عليه.قلنا:أمكن معرفة كونها حجة بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم بكونها حجة على من بعده أو بالإجماع المنقول عن الصحابة على ذلك)1832
عندما يبعد الناس عن هدي الإسلام تكثر الحوادث التي يصعب ردها إلى الأحكام المجملة :(1/454)
يشير ابن رجب إشارة لطيفة إلى صعوبة الاجتهاد في مجتمع يبتعد فيه الناس عن هدي الإسلام فيعملون قبل أن يستشيروا الشرع فيما هم مقدمون عليه، وقد يسألون عن ذلك بعد إحداث معاملات غريبة عن أصول الأحكام ،يقول:(واعلم أن كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة وإنما هو من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله. فلو أن من أراد أن يعمل عملا سأل عما شرع الله في ذلك العمل فامتثله وعما نهى عنه فيه فاجتنبه وقعت الحوادث مقيدة بالكتاب والسنة، وإنما يعمل العامل بمقتضى رأيه وهواه، فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما شرعه الله، وربما عسر ردها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة لبعدها عنها)1833
معرفة نصوص الأحكام شرط أساس في الاجتهاد:
يقول البيهقي في شعبه بخصوص ما يجب في حق المجتهدين من علم بأحكام الله وأقضيته، وما يتوصل به إليها وكيفية التدرج فيها :( معرفة ما يطلب علم الأحكام فيه وهو:الكتاب والسنة نصوصها ومعانيها وتمييز مراتب النصوص والناسخ والمنسوخ، والاجتهاد في إدراك المعاني وتمييز وجوه القياس وشروطه ،ومعرفة أقاويل السلف من الصحابة والتابعين ومن دونهم وتمييز الاجتماع والاختلاف.
ومنها معرفة ما به يمكن طلب الأحكام في الكتاب والسنة وهو العلم بلسان العرب وعاداتها في مخاطباتها وتمييز مراتب الأخبار لينزل كل خبر منزلته ويوفي بحسبها حقه.ثم ساق الكلام في البيان وقال: وينبغي لمن أراد طلب العلم ولم يكن من أهل لسان العرب أن يتعلم اللسان أولا ويتدرب فيه .(1/455)
ثم يطلب علم القرآن الكريم فلن تتضح له معاني القرآن إلا بالآثار والسنن ولا معاني السنن والآثار إلا بأخبار الصحابة ولا أخبار الصحابة إلا بما جاء عن التابعين فإن علم الدين هكذا أدي إلينا فمن أراده فليتدرج إليه بدرجة فيكون قد أتى الأمر من بابه، وقصده من وجهه. فإذا بلغه الله درجة المجتهدين فلينظر في أقاويل المختلفين وليختر منها ما يراه أرجح وأقوم، وليقس ما يحدث وينوب على أشبه الأصول وأولاها به)1834
من شروط المنفذين للأحكام والمفتين فيها حسب ابن حزم سماع جميع النصوص:
يقول ابن حزم:(فصح بما ذكرنا أن المأمورين بتنفيذ الأحكام والفتيا في الدين: الفقهاء الذين قد سمعوا النصوص كلها ،وعرفوها، وعرفوا الإجماع والاختلاف ،وأن كل من كان بخلاف هذه الصفة فلم يأمر قط بقطع من سرق جبالا من ذهب ولا بأن يفتي في تحريم من أرضعت ألف رضعة ولا بجلد زان حرا أو عبدا. وكل متفقه فقبل أن يكمل تعلم النصوص والإجماع فهو غير مأمور ولا مخاطب بالحكم في شيء ولا بالفتيا في شيء، لكنه مأمور بالطلب والتعليم فإذا فقه فحينئذ لزمه تنفيذ ما سمع على عمومه وظاهره ما لم يأت نص بنسخ أو تخصيص أو تأويل)1835
ويقول ابن رشد في "الضروري" بخصوص علم المجتهد بنصوص الأحكام(أما ما يكفيه من معرفة الكتاب فمعرفة الآيات المتضمنة للأحكام ، ومعرفة الناسخ منها من المنسوخ ، وهي نحو : خمس مئة آية ، هذا على وجه التخفيف ، والأفضل له معرفة الكتاب كله . وقد رخص له في حفظ الآيات المتضمنة للأحكام إذا كانت مواضعها معلومة عنده بحيث إذا وردت المسألة في أمر ما عالم أين يطلبها .)1836(1/456)
ويقول بخصوص السنة(وأما ما يكفيه من معرفة السنة ، فمعرفة الأحاديث التي تتضمن الأحكام . وقد يخفف عنه في أن لا يحفظها ، بل يكفيه أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتضمنة للأحكام يرجع إليه وقت الحاجة إلى الفتوى ، والأفضل له أن يحفظها . وأما معرفة صحة أسانيدها، فإن هو عول في صحتها على من يحسن ظنه به كالبخاري ومسلم كان مقلدا ، وان هو أيضا احتاج أن يعدل الرواة ويتبع سيرهم وأحوالهم وأوقاتهم طال عليه وتشعب جدا ، ولاسيما ما تباعد الزمان . والتخفيف عنه في ذلك أن يكتفي بتعديل الإمام في ذلك إن علم مذهبه في التجريح والتعديل ، وكان ذلك موافقا لمذهبه .)1837
من يرى من العلماء أن استحضار آيات الأحكام جميعا أثناء الاجتهاد ليس بلازم:
يقول صاحب البحر الزخار:(لا خلاف بين أهل التحقيق من علماء الأمة وأكابر الأئمة , أن القدر الذي يقتعد من أحرزه تحت الاجتهاد , ويعد صاحبه من جهابذة الانتقاد , هي علوم خمسة : الأول : الكتاب , والمعتبر منه معرفة مواقع آيات الأحكام وهي خمسمائة آية لا غير . الثاني : السنة , والمعتبر منها الآثار الواردة في الأحكام الشرعية الوجوب , والندب , والإباحة , والكراهة , والحظر دون القصص وفضائل الأعمال .
وقد نص كثير من علماء الأصول على أن مثل ( سنن أبي داود ) كاف واف في القدر المعتبر من ذلك وأن أحد طرق الرواية كاف في حفظها . الثالث : المسائل التي تواتر الإجماع عليها من السلف والخلف . الرابع : علم أصول الفقه وتحقيق مسائل أبوابه فهذه مجمع على اعتبارها ولا مخالف في انخرام الاجتهاد الأكبر بانخرامها . الخامس : علم أصول الدين فهو من أهم المعتبرات عندنا لتوقف صحة الاستدلال بالسمعيات على تحقيقه . فهذه جملة العلوم المعتبرة بعد علوم العربية , وإن كتابنا هذا قد انتظم هذه الخمسة انتظاما شافيا)1838(1/457)
ويقول محمد بن محمد بن أمير حاج الحنفي ( 879ه) في التقرير والتحبير في شرح التحرير :(فلا جرم أن قال الشيخ أبو بكر الرازي : ولا يشترط استحضاره جميع ما ورد في ذلك الباب إذ لا يمكن الإحاطة , ولو تصور لما حضر ذهنه عند الاجتهاد , وقد اجتهد عمر وغيره من الصحابة في مسائل كثيرة لم يستحضروا فيها النصوص حتى رويت لهم فرجعوا إليها .)1839
واجب المنتصبين للفقه والفتوى والاجتهاد في الأحكام:
يقول ابن حزم:(وأما المنتصبون لطلب الفقه وهم النافرون للتفقه الحاملون لفرض النفار عن جماعتهم المتأهبون لنذارة قومهم ولتعليم المتعلم وفتيا المستفتي وربما للحكم بين الناس، ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم، ومن أحكام القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ورتب النقل وصفات النقلة ومعرفة السند الصحيح مما عداه من مرسل ضعيف، هذا فرضه اللازم له. فإن زاد إلى ذلك معرفة الإجماع والاختلاف، ومن أين قال كل قائل وكيف يرد أقاويل المختلفين المتنازعين إلى الكتاب والسنة فحسن.
وفرض عليه تعلم كيفية البراهين التي يتميز بها الحق من الباطل وكيف يعمل فيما ظاهره التعارض من النصوص وكل هذا منصوص في القرآن 1840
لكن معرفة الاختلاف علم زائد قال سعيد بن جبير: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف وصدق سعيد لأنه علم زائد ،وكذلك معرفة من أين قال كل قائل.
فأما معرفة كيفية إقامة البرهان فبقوله تعالى:( وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) فلم نقل شيئا إلا ما قاله ربنا عز وجل وأوجبه علينا والحمد لله رب العالمين(...).
وقال تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير) ففرض علينا معرفة الناسخ من المنسوخ وفرض على من قصد التفقه في الدين كما ذكرنا أن يستعين على ذلك من سائر العلوم بما تقتضيه حاجته إليه في فهم كلام ربه تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم.(1/458)
قال تعالى:( ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم ففرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب ليفهم عن الله عز وجل وعن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويكون عالما بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ. فمن جهل اللغة وهي الألفاظ الواقعة على المسميات وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يحل له الفتيا فيه لأنه يفتي بما لا يدري، وقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى1841:"ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" (...) وفرض على الفقيه أن يكون عالما بسير النبي صلى الله عليه وسلم، ليعلم آخر أوامره وأولها وحربه صلى الله عليه وسلم لمن حارب وسلمه لمن سالم وليعرف على ماذا حارب ولماذا وضع الحرب. وحرم الدم بعد تحليله ،وأحكامه صلى الله عليه وسلم التي حكم بها.
فمن كانت هذه صفته وكان ورعا في فتياه مشفقا على دينه صليبا في الحق حلت له الفتيا و إلا فحرام عليه أن يفتي بين اثنين أو أن يحكم بين اثنين وحرام على الإمام أن يقلده حكما أو يتيح له فتيا وحرام على الناس أن يستفتوه لأنه إن لم يكن عالما بما ذكرنا فلم يتفقه في الدين وإن لم يكن مشفقا على دينه فهو فاسق وإن لم يكن صليبا لم يأمر بمعروف ولا نهى عن منكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان على الناس قال تعالى:" ولتكن منكم أمة يدعون إلى لخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن لمنكر وأولئك هم لمفلحون")1842
الأحكام تؤخذ من جميع الأحاديث والسنن الواردة في الموضوع لا من بعضها:(1/459)
يقول ابن حزم في المحلى:(وليس كل الأحكام توجد في خبر واحد ولا تؤخذ من خبر واحد ولكن تضم السنن بعضها إلى بعض ويؤخذ بها كلها.)1843
معرفة قواعد أصول الفقه من أعظم الطرق التي تعين على استنباط الأحكام:
يقول الزركشي فيما ينبغي لمفسر عموم القرآن وآيات الأحكام :( ولا بد من معرفة قواعد أصول الفقه فإنه من أعظم الطرق في استثمار الأحكام من الآيات:
- فيستفاد عموم النكرة في سياق النفي من قوله تعالى:(ولا يظلم ربك أحدا) وقوله:( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )
- وفي الإستفهام من قوله:(هل تعلم له سميا).
- وفي الشرط من قوله:(فإما ترين من البشر أحدا) (وإن أحد من المشركين استجارك)
- وفي النهي من قوله:(ولا يلتفت منكم أحد).
- وفي سياق الإثبات بعموم القلة المقتضى من قوله:(علمت نفس ما أحضرت)1844 وقوله (ونفس وما سواها)
- وإذا أضيف إليها كل نحو( وجاءت كل نفس).
- ويستفاد عموم المفرد المحلى باللام من قوله:(إن الإنسان لفي خسر)(وسيعلم الكفار) (ويقول الكافر).
- وعموم المفرد المضاف من قوله:(وصدقت بكلمات ربها وكتبه)(وقوله:(هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) والمراد جميع الكتب التي اقتضت فيها أعمالهم.
- وعموم الجمع المحلى باللام في قوله:(وإذا الرسل أقتت) وقوله:(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) وقوله:(إن المسلمين والمسلمات...) إلى آخرها
- والشرط من قوله:(ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) وقوله:(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) وقوله:(وما تفعلوا من خير يعلمه الله) (أينما تكونوا يدرككم الموت) وقوله:(وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) وقوله:(وإذا رأيت الذين1845 يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) وقوله:( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) هذا إذا كان الجواب طلبا مثل هاتين الآيتين.(1/460)
فإن كان ماضيا لم يلزم العموم وكقوله:(وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) (وإذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله).
وإن كان مستقبلا فأكثر موارده للعموم كقوله:(وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) وقوله:(وإذا مروا بهم يتغامزون) وقوله:(إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون).
وقد لا يعم كقوله:(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم).
- ويستفاد كون الأمر المطلق للوجوب من ذمه لمن خالفه، وتسميته إياه عاصيا وترتيبه العقاب العاجل أو الآجل على فعله.
- ويستفاد كون النهي من ذمه لمن ارتكبه وتسميته عاصيا وترتيبه العقاب على فعله.
- ويستفاد الوجوب بالأمر بالتصريح بالإيجاب والفرض والكتب ولفظة على ولفظة حق على العباد و على المؤمنين وترتيب الذم والعقاب على الترك وإحباط العمل بالترك وغير ذلك.
- ويستفاد التحريم من النهي والتصريح بالتحريم والحظر والوعيد على الفعل وذم الفاعل وإيجاب الكفارة، وقوله لا ينبغي فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع شرعا أو عقلا، ولفظة ما كان لهم كذا وكذا و لم يكن لهم وترتيب الحد على1846 الفعل ولفظة لا يحل و لا يصلح ووصف الفعل بأنه فساد أو من تزيين الشيطان وعمله وأن الله لا يحبه وأنه لا يرضاه لعباده ولا يزكي فاعله ولا يكلمه ولا ينظر إليه ونحو ذلك.
- ويستفاد الإباحة من الإذن والتخيير والأمر بعد الحظر ونفي الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة والإخبار بأنه يعفو عنه وبالإقرار على فعله في زمن الوحي وبالإنكار على من حرم الشيء والإخبار بأنه خلق لنا وجعله لنا وامتنانه علينا به وإخباره عن فعل من قبلنا له غير ذام لهم عليه، فإن اقترن بإخباره مدح دل على رجحانه استحبابا أو وجوبا.(1/461)
- ويستفاد التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب كقوله تعالى:(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وقوله(الزانية والزاني فاجلدوا) فكما يفهم منه وجوب الجلد والقطع يفهم منه كون السرقة والزنا علة. وأن الوجوب كان لأجلهما مع أن اللفظ من حيث النطق لم يتعرض لذلك بل يتبادر إلى الفهم من فحوى الكلام.
وكذلك قوله تعالى:(إن الأبرار لفي نعيم) أي لبرهم ( وإن الفجار لفي جحيم) أي لفجورهم ، وكذا كل كلام خرج مخرج الذم والمدح في حق العاصي والمطيع وقد يسمى هذا في علم الأصول لحن الخطاب).1847
دور العلم بمنهجية تفسير النصوص في سلامة فهم آيات وأحاديث الأحكام:
يقترح عبد العظيم الزرقاني على الناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:
الأول: النقل عن رسول ا لله ( مع التحرز عن الضعيف والموضوع.
الثانية: الأخذ بقول الصحابي فقد قيل إنه في حكم المرفوع مطلقا وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.
الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلا ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.
الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع، وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي لابن عباس في قوله: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.1848
ثم قال بعد ذلك:(فمن فسر القرآن برأيه أي باجتهاده ملتزما الوقوف عند هذه المآخذ معتمدا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله، كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود. ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم)1849
التمييز بين ما يقصد به الوعظ وبين ما يكون في تعليم الأحكام:(1/462)
يقول الشوكاني:(أن الخطبة شأنها البسط والإيضاح واجتناب الإشارات والرموز قال ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه، قال وإنما ثني الضمير في قوله: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لأنه ليس خطبة وعظ وإنما هو تعليم حكم.
فكل ما قل لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف خطبة الوعظ، فإنه ليس المراد حفظها وإنما يراد الاتعاظ بها.)1850
التنازع في الأحكام لا يخرج من حقيقة الإيمان:
يقول ابن القيم:(أهل الإيمان لا يخرجهم تنازعهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما شرطه الله عليهم بقوله : { فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ولا ريب أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه .)1851
طرق استنباط الأحكام :
فبحسب الشافعي رحمه الله:( إذا رفعت إلى المجتهد واقعة فليعرضها على نصوص الكتاب فإن أعوزه فعلى الأخبار المتواترة ثم على الآحاد فإن أعوزه لم يخض في القياس بل يلتفت إلى ظواهر القرآن فإن وجد ظاهرا نظر في المخصصات من قياس أو خبر فإن لم يجد تخصيصا حكم به وإن لم يعثر على لفظ من كتاب ولا سنة نظر إلى المذاهب فإن وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع . فإن لم يجد إجماعا خاض في القياس.
ويلاحظ القواعد الكلية أولا ويقدمها على الجزئيات كما في القتل بالمثقل يقدم قاعدة الردع والزجر على مراعاة الآلة، فإن عدم قاعدة كلية نظر في النصوص ومواقع الإجماع فإن وجدها في معنى واحد ألحق به و إلا انحدر إلى قياس مخيل فإن أعوزه تمسك بالشبه ولا يعود على طرد إن كان يؤمن بالله ويعرف مأخذ الشرع )1852
ما من حكم من الأحكام إلا ولله تعالى عليه دلائل وأمارات تدل عليه:(1/463)
يقول الآمدي ردا على المشككين في جدوى الاجتهاد في الأحكام(وأما احتمال عدم تأدية الاجتهاد إلى شيء من الأحكام فبعيد أيضا لأن الظاهر أنه ما من حكم إلا ولله تعالى عليه دلائل وأمارات تدل عليه والظاهر ممن له أهلية الاجتهاد إنما هو الاطلاع عليها والظفر بها)1853
الأحكام مصرح بها ومستنبطة:
يقول صاحب البرهان في علوم القرآن عن الأحكام،هي:( قسمان أحدهما ما صرح به في الأحكام، وهو كثير وسورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام مشتملة على كثير من ذلك. والثاني ما يؤخذ بطريق الاستنباط وهو على قسمين: أحدهما ما يستنبط من غير ضميمة إلى آية أخرى(...) والثاني ما يستنبط مع ضميمة آية أخرى)1854
ثم مثل لما يستنبط من غير ضم الآية محل الاجتهاد إلى آية أخرى:
- باستنباط الشافعي تحريم الاستمناء باليد من قوله تعالى:(إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم إلى قوله: (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)
-واستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى:(امرأة فرعون) و(امرأته حمالة الحطب ) ونحوه.
-واستنباطه حجية الإجماع من قوله:(ويتبع غير سبيل المؤمنين).
-واستنباطه صحة صوم الجنب من قوله تعالى:(فالآن باشروهن) إلى قوله:( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فدل على جواز الوقاع في جميع الليل ويلزم منه تأخير الغسل إلى النهار وإلا لوجب أن يحرم الوطء إلى آخر جزء من الليل بمقدار ما يقع الغسل فيه.
ومثل لما يستنبط مع ضميمة آية أخرى:
-باستنباط علي وابن عباس رضي الله عنهما أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى:( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) مع قوله:( وفصاله في عامين).واحتج بها أبو حنيفة على أن أكثر الرضاع سنتان ونصف: ثلاثون شهرا .
-ومثله استنباط الأصوليين أن تارك الأمر يستحق العقاب من قوله تعالى:(أفعصيت أمري ) مع قوله:(ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم)1855.(1/464)
وتجدر الإشارة إلى أنه يباح في آيات الأحكام من الاجتهاد والتأويل ما لا يباح في آيات الصفات،يقول ابن القيم رحمه الله:( تأويل آيات الصفات وأخبارها بما يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا والدين وزوال الممالك وتسليط أعداء الإسلام عليه إنما كان بسب التأويل ويعرف هذا من له اطلاع وخبرة بما جرى في العالم ولهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم لصحته لأنه سبب لفساد العالم وتعطيل الشرائع ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة علم قطعا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها فإنها وردت على وجه لا يحتمل معه التأويل بوجه)1856
آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة:
أشار ابن تيمية إلى أن السلف (لم يتنازعوا في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا وأن العناية ببيانها أهم لأنها من تمام تحقيق الشهادتين وإثباتها من لوازم التوحيد فبينها الله ورسوله بيانا شافيا لا يقع فيه لبس ولا إشكال يوقع الراسخين في العلم في منازعة ولا اشتباه ومن شرح الله لها صدره ونور لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهر من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها ولهذا آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس)1857
بين آيات الأحكام وآيات الأسماء والصفات:(1/465)
بين ابن تيمية بالأمثلة التوضيحية أن آيات الأسماء والصفات يشترك في فهمها الخاص والعام أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية وأن الأمر في آيات الأحكام لا تكون دائما كذلك (ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود حتى بين لهم بقوله من الفجر (البقرة187) ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان (البقرة186 ) وأمثالها من آيات الصفات وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة ولم يشكل عليه أول الحديد وآخر الحشر وأول سورة طه ونحوها من آيات الصفات)1858
وبين أن آيات الأحكام يدخلها الإجمال بخلاف آيات الأسماء والصفات حيث يقول:( وأيضا فإن بعض آيات الأحكام مجملة عرف بيانها بالسنة كقوله تعالى ففدية من صيام أو صدقة أو نسك (البقرة196) فهذا مجمل في قدر الصيام والإطعام فبينته السنة بأنه صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة وكذلك قوله وليطوفوا بالبيت العتيق مجمل في مقدار الطواف فبينته السنة بأنه سبع ونظائره كثيرة كآية السرقة وآية الزكاة وآية الحج وليس في آيات الصفات وأحاديثها مجمل يحتاج إلى بيان من خارج بل بيانها فيها وإن جاءت السنة بزيادة في البيان والتفصيل فلم تكن آيات الصفات مجملة محتملة لا يفهم المراد منها إلا بالسنة بخلاف آيات الأحكام)1859(1/466)
ثم تعرض لإشكال بعض التصنيفات التي تصف آيات الأحكام بالمحكمة وآيات الصفات بالمتشابهة بقوله:( فإن قيل هذا يرده ما قد عرف أن آيات الأمر والنهي والحلال والحرام محكمة وآيات الصفات متشابهة، فكيف يكون المتشابه أوضح من المحكم ؟ قيل: التشابه والإحكام نوعان: تشابه وإحكام يعم الكتاب كله وتشابه وإحكام يخص بعضه دون بعض، فالأول كقوله تعالى:( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) (الزمر23 ) وقوله:( كتاب أحكمت آياته) (هود1) وقوله:( يس والقرآن الحكيم) (يس2 1) والثاني كقوله :(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات )(آل عمران7) فإن أردتم بتشابه آيات الصفات النوع الأول فنعم هي متشابهة غير متناقضة يشبه بعضها بعضا وكذلك آيات الأحكام وإن أردتم أنه يشتبه المراد بها بغير المراد، فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس فهو أمر نسبي إضافي فيكون متشابها بالنسبة إليه دون غيره.
ولا فرق في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصفات، فإن المراد قد يشتبه فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض وقد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعا كثيرا ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم وهم لا يتنازعون في شيء منها وآيات الأحكام هي المحكمة وقد وقع بينهم)1860
ما يكره من التعمق في قضايا الأحكام :
يقول ابن رجب :( البحث عما لم يوجد فيه نص خاص أو عام على قسمين أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالات النصوص الصحيحة من الفتوى والمفهوم والقياس الظاهر الصحيح، فهذا حق وهو مما يتعين فعله على المجتهدين في معرفة الأحكام الشرعية.(1/467)
والثاني أن يدقق الناظر نظره وفكره في وجوه الفروق المستبعدة، فيفرق بين متماثلين بمجرد فرق لا يظهر له أثر في الشرع، مع وجود الأوصاف المقتضية للجمع، أو يجمع بين متفرقين بمجرد الأوصاف الطارئة التي هي غير مناسبة ولا يدل دليل على تأثيرها في الشرع. فهذا النظر والبحث غير مرضي ولا محمود مع أنه قد وقع في طوائف من الفقهاء.
وإنما المحمود النظر الموافق لنظر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من القرون المفضلة كابن عباس ونحوه ولعل هذا مراد ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إياكم والتنطع، إياكم والتعمق وعليكم بالعتيق، يعني ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم. ومن كلام بعض أعيان الشافعية لا يليق بنا أن نكتفي بالخيالات في الفروق كدأب أصحاب الرأي، والسر في تلك أن متعلق الأحكام في الحال الظنون وغلباتها، فإذا كان اجتماع مسألتين أظهر في الظن من افتراقهما وجب القضاء باجتماعهما وإن انقدح فرق على بعد، فافهموا ذلك فإنه من قواعد الدين انتهى .ومما يدخل في النهي عن التعمق والبحث عنه أمور الغيب الخبرية)1861
الاختلاف في الأحكام ليس بمنكر :
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري:(ونحن نقول إنه ليس بمنكر أن يخالف ابن الحنفية ابن عباس ويخالف علي عمر وزيد بن ثابت بن مسعود في التفسير وفي الأحكام وإنما المنكر أن يحكوا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرين مختلفين من غير تأويل فأما اختلافهم فيما بينهم فكثير فمنهم من يعمل على شيء سمعه ومنهم من يستعمل ظنه ومنهم من يجتهد رأيه.(1/468)
ولذلك اختلفوا في تأويل القرآن وفي أكثر الأحكام غير أن ابن عباس قال في الحجر بقول سمعه ولا يجوز غير ذلك لأنه يستحيل أن يقول كان أبيض وهو من الجنة برأي نفسه وإنما الظان ابن الحنفية لأنه رآه بمنزلة غيره من قواعد البيت فقضى عليه بأنه أخذ من حيث أخذت والأخبار المقوية لقول ابن عباس في الحجر وأنه من الجنة كثيرة منها أنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان يشهد لمن استلمه بحق)1862
فالأحكام مما يسوغ فيه الرأي والتأويل والاجتهاد،يقول الزرقاني:( وأما ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهو ما يجري مجرى الغيوب كالآيات التي تذكر فيها الساعة والروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف بنص من القرآن أو الحديث أو إجماع الأمة على تأويله وأما مما يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم فهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وذلك باستنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه اعتمادا على الدلائل والشواهد دون مجرد الرأي)1863
وفي موضع آخر يقول:(التفسير بالرأي الجائز منه وغير الجائز المراد بالرأي هنا الاجتهاد فإن كان الاجتهاد موفقا أي مستندا إلى ما يجب الاستناد إليه بعيدا عن الجهالة والضلالة فالتفسير به محمود و إلا فمذموم)1864
نماذج من اجتهاد السلف واختلافهم في الأحكام:(1/469)
ورد عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار { أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل فقال له معاوية ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه. لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن } .
قال الباجي في المنتقى شارحا:( ما ذهب إليه معاوية من بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها يحتمل أن يرى في ذلك ما رآه ابن عباس من تجويز التفاضل في الذهب نقدا ويحتمل أن يكون لا يرى ذلك، ولكنه جوز التفاضل بين المصوغ منه وغيره لمعنى الصياغة وقول أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، أنكر عليه فعله من تجويزه التفاضل في الذهب واحتاج إلى الاحتجاج بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك ; لأن معاوية من أهل الفقه والاجتهاد.
فليس لأبي الدرداء صرفه عن رأيه الذي روي إلا بدليل وحجة بينة . وقد روى ابن أبي مليكة قيل لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية ما أوتر إلا بواحدة قال أصاب إنه فقيه .) ثم قال:(وقول معاوية ما أرى بمثل هذا بأسا يحتمل أن يرى القياس مقدما على أخبار الآحاد على ما روي عن مالك، وذلك لما يجوز على الراوي من السهو والغلط والصواب تقديم خبر الواحد العدل ; لأن السهو والغلط يجوز فيه على الناظر المجتهد أكثر مما يجوز على الناقل الحافظ الفقيه (...)(1/470)
وقال أيضا:( ويحتمل أن يرى تقديم أخبار الآحاد إلا أنه حمل النهي على المضروب بالمضروب دون المصوغ بالمضروب ورأى أن الصياغة معنى زائد ويجوز أن يكون عوضا للفضل على حسب ما يقول أبو حنيفة فيمن باع مائة دينار في قرطاس بمائتي دينار أن ذلك جائز ويجعل القرطاس عوضا للمائة الأخرى .)
وقال في شأن أبي الدرداء:( وقول أبي الدرداء من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، إنكار منه على معاوية التعلق برأي يخالف النص ولم يحمل ذلك من معاوية على التأويل وإنما حمله منه على رد الحديث بالرأي إما لأنه لم يرد بقوله عن مثل هذا إلا المصوغ بالمضروب وفيه نقل النهي فيمتنع التأويل والتخصيص.
وإما ; لأنه حمل قول معاوية ما أرى بمثل هذا بأسا على تجويز التفاضل بين الذهبين في الجملة دون تفصيل . وأما التأويل فلا خلاف في جوازه وفيما قاله أبو الدرداء تصريح بأن أخبار الآحاد مقدمة على القياس والرأي وقوله لا أساكنك بأرض أنت فيها مبالغة في الإنكار على معاوية وإظهار لهجره والبعد عنه حين لم يأخذ بما نقل إليه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر الرجوع عما خالفه.)
وبخصوص موقف عمر قال:(وقوله: ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له على معنى رفع ما ينكر إلى الإمام إذا لم يستطع على تغيير المنكر عنده، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا وزنا بوزن على حسب ما يجب على الإمام من أمر حكامه بالحكم بالحق والتبصير لهم بصواب الأحكام.(1/471)
وقوله: إلا وزنا بوزن يقتضي المنع من الجزاف في ذلك ، لأن ما حرم فيه التفاضل يحرم فيه الجزاف ، لأنه لا يعلم معه التساوي والجهل. فالتساوي كالعلم بالتفاضل في التحريم، والمنع من صحة العقد. ولا يجوز التحري في هذا لما جرت العادة من قلة التسامح بيسيره ولم ينكر عمر رضي الله عنه على معاوية ما راجع به أبو الدرداء لما احتمل من التأويل على ما قدمناه والله أعلم وأحكم .)1865
جواز التقليد في الأحكام دون العقائد:
يقول الآمدي:(التوحيد لا يجوز فيه تقليد العامي للعالم وإنما يرجع إلى أدلة يشترك فيها الكل وهي أدلة العقل بخلاف الأحكام الشرعية، فإنه يجب على العامي الأخذ بقول العالم فيها)1866
علاقة الأحكام بالسلطان:
علاقة الأحكام بالقضاء من حيث المعنى والمفهوم :
يشير النووي في شرحه لصحيح مسلم في كتاب الأقضية باب اليمين على المدعى عليه، للعلاقة الموجودة بين الأحكام والقضاء ابتداء من الأصول اللغوية، بقوله: (قال الزهري رحمه الله تعالى: القضاء في الأصل إحكام الشئ والفراغ منه ،ويكون القضاء إمضاء الحكم. ومنه قوله تعالى:( وقضينا إلى بني اسرائيل..) وسمي الحاكم قاضيا لأنه يمضي الأحكام ويحكمها .ويكون قضى بمعنى أوجب، فيجوز أن يكون سمي قاضيا لإيجابه الحكم على من يجب عليه ،وسمي حاكما لمنعه الظالم من الظلم، يقال حكمت الرجل وأحكمته إذا منعته. وسميت حكمة الدابة لمنعها الدابة من ركوبها رأسها وسميت الحكمة حكمة لمنعها النفس من هواها)1867
الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها:(1/472)
ففي معرض حديث ابن العربي عن جواز تولي المرأة أمور القضاء استعرض ما وقع من تناظر بين القاضي أبي بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي فرج بن طرار شيخ الشافعية، فذكر أبو الفرج من أدلة جواز حكم المرأة(أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها، وسماع البينة عليها ،والفصل بين الخصوم فيها، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل. فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى فإن الغرض منه حفظ الثغور وتدبير الأمور وحماية البيضة وقبض الخراج ورده على مستحقه، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل)
و تدخل ابن العربي للفصل بين الرجلين بالقول :(وليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس ولا تخالط الرجال ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها وإن كانت برزة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم وتكون مناظرة لهم ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده)1868
والشاهد من هذا النص القول بأن المقصد من الأحكام تنفيذ القاضي لها،أي ما يحتاج منها ذلك،وينسحب الأمر في التنفيذ على كل من تعينت عليه فردا أو إماما أو جماعة.
على من كان أميرا إقامة الأحكام الشرعية :
ففي تعليق ابن حجر على قوله صلى الله عليه وسلم:( كلكم راع...) قال:( على من كان أميرا إقامة الأحكام الشرعية والجمعة منها (...) قال الزين بن المنير:..الجمعة تنعقد بغير إذن من السلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم..)1869
وحسما للتنازع بين الحكام وغيرهم من الناس يرى الباجي وغيره من الفقهاء أن (الأحكام العامة التي هي مصروفة إلى الأئمة لا يمضى فيها إلا ما يراه الإمام ويؤديه إليه اجتهاده دون رأي المحكوم عليه)1870(1/473)
وتبلغ مسؤولية الحكام درجة قتال الجاحدين للأحكام ،يقول ابن حجر:(قوله: أن أقاتل..، أي بأن أقاتل (...) قوله: حتى يشهدوا ،جعلت غاية المقاتلة، وجود ما ذكر فمقتضاه أن من شهد، وأقام، وأتى، عصم دمه، ولو جحد باقي الأحكام. والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله إلا بحق الإسلام يدخل فيه جميع ذلك، فإن قيل فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة فالجواب أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما لأنهما أما العبادات البدنيه والمالية)1871
العدل في الأحكام من فرائض الدين :
يقول البيهقي في شعب الإيمان:(العدل بين الناس في الأحكام وعامة المعاملات من فرائض الدين، فأما ما اتصل بغير الحكم، فالناس كلهم مأمورون بأن ينصف بعضهم بعضا من نفسه، فلا الطالب يطلب ما ليس له ولا المطلوب يمنع ما عليه بعد أن كان قادرا على أن يعفو به.
وأما ما اتصل منه بالحكم فجملته أن الحاكم لا ينبغي له أن يتبع هواه ولا يتعدى الحق إلى ما سواه، كما قال الله عز وجل لداود عليه السلام:( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) فإن الحاكم ليس رجلا خص من بين الناس، فقيل له: احكم بما شئت. فإن هذا لم يكن لملك مقرب ولا نبي مرسل، وإنما ائتمن على حكم الله تعالى.. ليفصل بين عباده ويحمل المختلفين عليه)1872
وتبعا لذلك فإن الجور في الأحكام واتباع الهوى فيه من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر . (قال الله تعالى { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } وقال صلى الله عليه وسلم : { إن أعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله رجل ولاه الله من أمر أمة محمد شيئا ثم لم يعدل بينهم }(1/474)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم { القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة قاض عمل بالحق في قضائه فهو في الجنة وقاض علم الحق فخان متعمدا فذلك في النار وقاض قضى بغير علم واستحيا أن يقول إني لا أعلم فهو في النار } فصح أن ذلك في الجائر العالم , والجاهل الذي لم يؤذن له في الدخول في القضاء , وأما من اجتهد في الحق على علم فأخطأ فقد قال عليه الصلاة والسلام { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر })1873
ودفعا للجور يرى العلماء نقض الممكن من الأحكام الباطلة،وقد عقد مسلم في صحيحه بابا سماه :باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور،و أورد فيه حديث( عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)1874
ويذهب بعض العلماء إلى حد مجاهدة الحكام مغيري الأحكام متى توفرت القدرة على ذلك،أورد الطحاوي في مشكل الآثار قوله:( وقد روي عن مالك في ذلك ما يدل على أن مذهبه كان فيه على مثل ما في حديث ابن عباس الذي رويناه من المخالفة بين الاثني عشر ألفا وبين ما دونها من الأعداد.
كما سمعت محمد بن عيسى بن فليح بن سليمان الخزاعي أبا عبد الله يذكر أن العمري العابد , وهو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب جاء إلى مالك فقال له يا أبا عبد الله قد نرى هذه الأحكام التي قد بدلت أفيسعنا مع ذلك التخلف عن مجاهدة من بدلها؟
فقال له مالك: إن كان معك إثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف عن ذلك , وإن لم يكن معك هذا العدد من أمثالك فأنت في سعة من التخلف عن ذلك، وكان هذا الجواب من مالك أحسن جواب. وإنما أخذه عندنا والله أعلم من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الذي رويناه"ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة")1875
الشورى من عزائم الأحكام :(1/475)
وحرصا من الشرع على بلوغ أقصى درجات العدل الممكنة وتجنب غوائل الجور والظلم في الأحكام،أمر بالشورى وجعلها من عزائم الأحكام، يقول ابن عطية :(والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا مالا خلاف فيه وقد مدح الله المؤمنين بقوله:( وأمرهم شورى بينهم))1876
هل كان النبي ( يشاور في الأحكام ؟:
يجيب صاحب الفتح عن هذا السؤال بالقول:(المشاورة إنما تشرع عند عدم العزم، وهو واضح.وقد اختلف في متعلق المشاورة، فقيل في كل شيء ليس فيه نص، وقيل في الأمر الدنيوي فقط ،وقال الداودي: إنما كان يشاورهم في أمر الحرب مما ليس فيه حكم،لأن معرفة الحكم إنما تلتمس منه. قال: ومن زعم أنه كان يشاورهم في الأحكام فقد غفل غفلة عظيمة.
وأما في غير الأحكام فربما رأى غيره أو سمع ما لم يسمعه أو يره كما كان يستصحب الدليل في الطريق، وقال غيره: اللفظ وإن كان عاما لكن المراد به الخصوص للاتفاق على أنه لم يكن يشاورهم في فرائض الأحكام ،قلت: وفي هذا الإطلاق نظر، فقد أخرج الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان من حديث علي قال: لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول..) الآية، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى دينار؟ قلت:لا يطيقونه، قال: فنصف دينار، قلت: لا يطيقونه قال: فكم ؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد. فنزلت (أأشفقتم..) الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة، ففي هذا الحديث المشاورة في بعض الأحكام ،ونقل السهيلي عن ابن عباس أن المشاورة مختصة بأبي بكر وعمر )1877
أما الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون فلا خلاف في اعتمادهم الشورى في الأحكام ،فقد جاء : { عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة - عبد , أو أمة - فقال : لتأتيني بمن يشهد معك , فشهد معه محمد بن مسلمة } .(1/476)
قال ابن دقيق العيد تعليقا على الحديث(واستشارة عمر في ذلك : أصل في الاستشارة في الأحكام، إذا لم تكن معلومة للإمام , وفي ذلك دليل أيضا على أن العلم الخاص قد يخفى على الأكابر , ويعلمه من هو دونهم . وذلك يصد في وجه من يغلو من المقلدين إذا استدل عليه بحديث، فقال : لو كان صحيحا لعلمه فلان مثلا، فإن ذلك إذا خفي على أكابر الصحابة , وجاز عليهم فهو على غيرهم أجوز.)1878
وأما من يستشار ويستعان به في شورى الأحكام فلا بد فيه من شروط يحصل بها المقصود، وعلى رأسها:العلم بالدين وأحكامه ،يقول القرطبي في أحكامه:(قال العلماء وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرىء ما لم يكمل عقله)1879
المبحث الثاني
قواعد تهم الأحكام
خصائص النبي ( في الأحكام :
عقد النووي فصلا كاملا في كتابه "تهذيب الأسماء" في خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام وغيرها وبين أن خصائصه ( أربعة أضرب:
1- ما اختص به ( من الواجبات،من ذلك: صلاة الضحى ومنه الأضحية والوتر والتهجد والسواك والمشاورة ،وقال في التهجد:(والصحيح أن التهجد نسخ وجوبه في حقه صلى الله عليه وسلم كما نسخ في حق الأمة )
ومنه وجوب مصابرته العدو وإن كثروا وزادوا على الضعف، ومنه قضاء دين من مات وعليه دين لم يخلف وفاء ،وقيل يجب عليه ( إذا رأى شيئا يعجبه أن يقول: لبيك إن العيش عيش الآخرة ،و في النكاح أنه أوجب عليه تخيير نسائه بين مفارقته واختياره ،فلما خيرهن اخترنه والدار الآخرة فحرم عليه التزوج عليهن والتبدل بهن، مكافأة لهن على حسن صنيعهن. قال النووي:( فالأصح انه لم يحرم وإنما حرم التبدل وهو غير مجرد الطلاق)1880(1/477)
2- ما اختص به من المحرمات: كالشعر والخط ومنه الزكاة و صدقة التطوع ، وكان يحرم عليه إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يلقى العدو ويقاتل، وكان يحرم عليه مد العين إلى ما متع به الناس من زهرة الدنيا، وحرم عليه خائنة الأعين وهي الإيماء برأس أو يد أو غيرهما إلى مباح من قتل أو ضرب أو نحوها على خلاف ما يظهر ويشعر به الحال وكان لا يصلي أولا على من مات وعليه دين لا وفاء له، ويأذن لأصحابه في الصلاة عليه.وتحريم إمساك من كرهت نكاحه وتحريم نكاح الكتابية ونكاح الأمة المسلمة.وأما الأكل متكئا وأكل الثوم والبصل والكراث فكانت مكروهة له غير محرمة في الأصح .
3- التخفيفات والمباحات: وما أبيح له ( دون غيره كالوصال في الصوم واصطفاء ما يختاره من الغنيمة قبل القسمة من جارية وغيرها ،ومنه خمس الخمس في الفيء والغنيمة، وأربعة أخماس الفيء، ودخول مكة بلا إحرام، وإباحة القتال فيها ساعة دخلها يوم الفتح ،وله أن يقضي بعلمه وفي غيره خلاف، ويحكم لنفسه وولده ويشهد لنفسه وولده ويقبل شهادة من يشهد له، ويحيى الموات لنفسه، ولا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعا، وفي إباحة مكثه في المسجد مع الجنابة وجهان.1881
وأبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكيهما المحتاج إليهما إذا احتاج هو ( اليهما ويجب على صاحبهما البذل له ( وصيانة مهجته ( قال الله تعالى:( النبي أولى بالمومنين من أنفسهم) (33 الأحزاب) قال النووي :(واعلم أن معظم هذه المباحاة لم يفعلها صلى الله عليه وسلم وإن كانت مباحة له والله اعلم).(1/478)
وفي هذا المجال أيضا في باب النكاح: إباحة الزواج بأكثر من أربع .ومنه انعقاد نكاحه بلفظ الهبة على الأصح ، وإذا عقد نكاحه بلفظ الهبة لا يجب مهر بالعقد ولا بالدخول بخلاف غيره ،ومنه انعقاد نكاحه بلا ولي ولا شهود وفي حال الإحرام على الصحيح في الجميع، وإذا رغب في نكاح امرأة خلية لزمها الإجابة على الصحيح، ويحرم على غيره خطبتها. وفي وجوب القسم بين أزواجه وإمائه وجهان. وأعتق صفية بلا عوض وتزوجها بلا مهر.
4- ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والإكرام فمنه أن أزواجه اللاتي توفي عنهن محرمات على غيره أبدا . ومنه أن أزواجه أمهات المؤمنين سواء من توفيت تحته ومن توفي عنها وذلك في تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن.1882 ومنه تفضيل نسائه ( على سائر النساء وجعل ثوابهن وعقابهن ضعفين وتحريم سؤالهن إلا من وراء حجاب ويجوز في غيرهن مشافهة.
وفي غير النكاح أنه ( خاتم النبيين وخير الخلائق أجمعين، وأمته أفضل الأمم وأصحابه خير القرون وأمته معصومة من الاجتماع على ضلالة وشريعته مؤبدة وناسخة لجميع الشرائع، وكتابه معجزة محفوظ عن التحريف والتبديل، وهو حجة على الناس بعد وفاته. ومعجزات سائر الأنبياء انقرضت، ونصر بالرعب مسيرة شهر وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا وأحلت له الغنائم وأعطي الشفاعة والمقام المحمود وأرسل إلى الناس كافة.
وهو سيد ولد آدم وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع وأول من يقرع باب الجنة وهو أكثر الأنبياء تبعا، وأعطي جوامع الكلم وصفوف أمته في الصلاة كصفوف الملائكة ،وكان لا ينام قلبه ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه ولا يحل لأحد أن يرفع صوته فوق صوته ولا أن يناديه من وراء الحجرات ولا أن يناديه باسمه فيقول: يا محمد، بل يقول: يا نبي الله، يا رسول الله ويخاطبه المصلي بقوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولو خاطب آدميا غيره بطلت صلاته ويلزم المصلي إذا دعاه.1883(1/479)
ومنهاأن يجيبه وهو في الصلاة ولا تبطل صلاته ، وكانت الهدية حلالا له بخلاف غيره من ولاة الأمور فلا تحل له هدية رعاياهم ، ولا يجوز الجنون على الأنبياء ويجوز عليهم الإغماء لأنه مرض بخلاف الجنون واختلفوا في جواز الاحتلام والأشهر امتناعه وفاته ( ركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر وواظب عليهما بعد العصر ، وقال صلى الله عليه وسلم:(كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)
وقيل معناه أن أمته ينسبون إليه يوم القيامة وأمم سائر الأنبياء لا تنسب إليهم وقيل ينتفع يومئذ بالانتساب إليه ولا ينتفع بسائر الأنساب. ومن الخصائص انه صلى الله عليه وسلم يؤخذ عن الدنيا عند تلقي الوحي، ولا يسقط عنه الصلاة ولا غيرها ومنه أن من رآه في المنام فقد رآه حقا فإن الشيطان لا يتمثل بصورته ولكن لا يعمل بما يسمعه الرائي منه في المنام فيما يتعلق بالأحكام إن خالف ما استقر في الشرع لعدم ضبط الرائي لا للشك في الرؤية لأن الخبر لا يقبل الا من ضابط مكلف والنائم بخلافه.
ومنها أن الأرض لا تأكل لحوم الأنبياء للحديث المشهور ومنها قوله صلى الله عليه وسلم إن كذبا علي ليس ككذب على أحد قال أصحابنا وغيرهم فتعمد الكذب عليه من الكبائر فإن استحله المتعمد كفر حتى قال النووي:(واعلم ان هذا الضرب لا ينحصر ولكن نبهنا بما ذكرناه على ما سواه)1884
ثم بين سبب تفصيله في خصائص النبي ( بقوله:(ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتا في الصحيح فعمل به أخذا بأصل التأسي فوجب بيانها لتعرف ولا مشاركة فيها وأي فائدة أعظم من هذه)1885
النسخ في الأحكام:
معرفة الناسخ والمنسوخ ضروري في الأحكام:(1/480)
قال القرطبي في بيان سبب نزول قوله تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها..):( أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك وقالوا إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله:( وإذا بدلنا آية مكان آية) وأنزل (ما ننسخ من آية))1886
ثم بين فوائد وأهمية معرفة الناسخ والمنسوخ بقوله:(معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة لا يستغنى عن معرفته العلماء ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام.
روى أبوالبختري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد، فإذا رجل يخوف الناس. فقال: ما هذا؟ قالوا رجل يذكر الناس. فقال: ليس برجل يذكر الناس، ولكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه، فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ فقال: لا. قال: فأخرج من مسجدنا، ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى أعلمت الناسخ والمنسوخ قال لا قال: هلكت وأهلكت)1887
يقول ابن بدران وهو يعدد شروط الاجتهاد(وأن يعرف الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، لأن المنسوخ بطل حكمه وصار العمل على الناسخ، فإن لم يعرف الناسخ من المنسوخ أفضى إلى إثبات المنفي ونفي المثبت ويكفيه أن يعرف أن دليل هذا الحكم ليس بمنسوخ. فلا يشترط عليه أن يعرف جميع الأحاديث المنسوخة من الناسخة ومع هذا فالإحاطة بمعرفة ذلك أيسر من غيره لقلة المنسوخ بالنسبة إلى المحكم من الكتاب والسنة وقد صنف في ناسخ القرآن ومنسوخه جماعة منهم أبو جعفر النحاس والقاضي أبو بكر وابن العربي ومكي صاحب الإعراب ومن المتقدمين هبة الله بن سلامة ومن المتأخرين ابن الزاغواني وابن الجوزي وغيرهم وألف في ناسخ الحديث ومنسوخه جماعة منهم الشافعي وابن قتيبة وابن شاهين وابن الجوزي وغيرهم)1888
لا ناسخ إلا ما نفى حكما ثابتا:(1/481)
بعد أن نفى الطبري أن يكون قوله عز وجل:( فأينما تولوا فثم وجه الله) منسوخا قال: (وقد دللنا في كتابنا"كتاب البيان عن أصول الأحكام" على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما نفى حكما ثابتا، وألزم العباد فرضه غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك، فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم أو المجمل أو المفسر فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع، ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه ولم يصح واحد من هذين المعنيين، لقوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله" بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه هو ناسخ أو منسوخ)1889
نسخ الأحكام يؤثر على المستقبل ولا ينقض الماضي :
قال القرطبي في قوله تعالى:(يوصيكم الله في أولادكم):(ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة، وهو أن ما كانت عليه الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الإسلام شرعا مسكوتا مقرا عليه. لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثر في المستقبل فلا ينقض به)1890
لا نسخ بعد رسول الله (:(1/482)
يقول ابن قدامة:(ولمن أجاز بيعهن أن يحتج بما روى جابر قال: بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر رضي الله عنه نهانا فانتهينا. رواه أبو داود .وما كان جائزا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لم يجز نسخه بقول عمر ولا غيره ولأن نسخ الأحكام إنما يجوز في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن النص إنما ينسخ بنص مثله. وأما قول الصحابي فلا ينسخ ولا ينسخ به، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتركون أقوالهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتركونها بأقوالهم وإنما تحمل مخالفة عمر لهذا النص على أنه لم يبلغه، ولو بلغه لم يعده إلى غيره)1891
الأحكام الدنيوية هي التي تنسخ:
قال السبكي في سياق الحديث عن ما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم { يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين }:(وقال القرطبي: وذكره الدين، تنبيه على ما في معناه من الغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحته وغير ذلك من التبعات، لكن هذا إذا امتنع من أداء الحقوق مع تمكنه. أما إذا لم يجد المخرج من ذلك سبيلا، فالمرجو من كرم الله تعالى إذا صدق في قصده وصحت نيته أن يرضي الله تعالى خصومه عنه ولا يلتفت إلى من أشار إلى أنه منسوخ ; لأن الأحكام الدنيوية هي التي تنسخ والحديث إنما تعرض لمغفرة الذنوب.)1892
قواعد أخرى متفرقة تهم الأحكام:
الأصل تساوي الناس في الأحكام:(1/483)
فقد جاء الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الأحكام، يقول ابن حجر:(وقد جاء الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الأحكام وأن التفاضل الحقيقي بينهم إنما هو بالتقوى فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى وينتفع الوضيع النسب بالتقوى، كما قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم)1893 فالأصل تساوي الأمة في الأحكام المشروعة فلا يقبل التخصيص بقوم دون قوم إلا بدليل،يقول الشوكاني (يوسف قد قال مرة لا تصلي صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزعم أن الناس إنما صلوها معه صلى الله عليه وآله وسلم لفضل الصلاة معه.
قال: وهذا القول عندنا ليس بشيء انتهى وأيضا الأصل تساوي الأمة في الأحكام المشروعة فلا يقبل التخصيص بقوم دون قوم إلا بدليل، واحتج عليهم الجمهور بإجماع الصحابة على فعل هذه الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم)1894 و مشاركة الأمة النبي ( في الأحكام أظهر وأغلب.
يقول الآمدي في الإحكام:( وإن كان عليه السلام قد اختص عنهم بخصائص لا يشاركونه فيها غير أنها نادرة بل أندر من النادر بالنسبة إلى الأحكام المشترك فيها وعند ذلك فما من واحد من آحاد الأفعال إلا واحتمال مشاركة الأمة للنبي عليه السلام فيه أغلب من احتمال عدم المشاركة إدراجا للنادر تحت الأعم الأغلب فكانت المشاركة أظهر)1895 ويقول ابن حجر متحدثا عن النبي (:( وأنه قد يخص بعض أمته بحكم ويمنع غيره منه، ولو كان بغير عذر وأن خطابه للواحد يعم جميع المكلفين حتى يظهر دليل الخصوصية)1896(1/484)
فالأصل في الأحكام أن تشمل الرجال والنساء،الصالح من الناس والطالح،إذ لا خلاف أن الأحكام تشمل الجميع إلا ما خصه الدليل:يقول ابن تيمية:( لا خلاف بين الفريقين أن آيات الأحكام والوعد والوعيد التي في القرآن تشمل الفريقين وإن كانت بصيغة المذكر(...) كما ندخل نحن فيما خوطب به الرسول وكما تدخل سائر الأمة فيما خوطب به الواحد منها)1897 ويقول الآمدي:(النساء وإن شاركن الرجال في كثير من أحكام التذكير فيفارقن الرجال في كثير من الأحكام الثابتة بخطاب التذكير كأحكام الجهاد في قوله تعالى (وجاهدوا في الله حق جهاده ) وأحكام الجمعة في قوله تعالى:( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) إلى غير ذلك من الأحكام ولو كان جمع التذكير مقتضيا لدخول الإناث فيه لكان خروجهن عن هذه الأوامر على خلاف الدليل وهو ممتنع فحيث وقع الاشتراك تارة والافتراق تارة علم أن ذلك إنما هو مستند إلى دليل خارج لا إلى نفس اقتضاء اللفظ لذلك)1898
وهذا عثمان ( يقضي على عبد الله بن عمر رضي الله عنه باليمين أنه ما كتم عيبا علمه تجويزا منه لبيع الإنسان عبده بالبراءة وإعمالا منه بالبراءة فيما لم يعلم البائع من العيوب دون ما علم، وأبقى للمبتاع حكم الرد بالعيب فيما علم به البائع وكتمه ،يقول الباجي الذي أورد ذلك في المنتقى( وإن كان عثمان بن عفان رضي الله عنه لا يشك في فضل عبد الله بن عمر وأنه لا يرضى بكتمان عيبه والتدليس به إلا أن الأحكام في الحقوق والمعاملات جارية على حد واحد في الصالح والطالح , وإنما يختلف حالهما في الأحكام التي تتعلق بالتهمة وظاهرها سالم ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمر اعتقد أن البراءة المطلقة تبرئه فيما علم من العيوب وما لم يعلم فلم يسوغه ذلك عثمان رضي الله عنه)1899(1/485)
وحتى في حالة الاقتتال بين المسلمين فالأصل تساويهم في الأحكام،يقول السرخسي في المبسوط :(والتسوية بين الفئتين المتقاتلتين بتأويل الدين في الأحكام أصل)1900
والقاعدة العامة لا تنفي بعض الخصوصيات(فإن الشارع يخصص بعض الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن ببعض الأحكام , وإن لم يظهر لنا موجب التخصيص)1901
مالا يعقل من الأحكام يقتصر فيه على المنصوص:
يقول الكاساني في بدائع الصنائع:(وقد ثبت بالأحاديث أن الوضوء سبب لإزالة الآثام عن المتوضئ للصلاة , فينتقل ذلك إلى الماء , فيتمكن فيه نوع خبث كالمال الذي تصدق به ; ولهذا سميت الصدقة غسالة الناس وأما على قول زفر ; فلأنه قام به معنى مانع من جواز الصلاة وهو الحدث ; لأن الماء عنده إنما يصير مستعملا بإزالة الحدث . وقد انتقل الحدث من البدن إلى الماء , ثم الخبث والحدث وإن كانا من صفات المحل , والصفات لا تحتمل الانتقال لكن ألحق ذلك بالعين النجسة القائمة بالمحل حكما والأعيان الحقيقية قابلة للانتقال فكذا ما هو ملحق بها شرعا , وإذا قام بهذا الماء أحد هذين المعنيين لا يكون في معنى الماء المطلق , فيقتصر الحكم عليه على الأصل المعهود أن ما لا يعقل من الأحكام يقتصر على المنصوص عليه ولا يتعدى إلى غيره إلا إذا كان في معناه من كل وجه)1902
تنبني الأحكام على ما يكون لنا طريق إلى معرفته:
يقول السرخسي في المبسوط: (ولو قال أنت طالق الساعة إن كان في علم الله تعالى أن فلانا يقدم إلى شهر فقدم فلان لتمام الشهر طلقت بعد القدوم , وهو دليل لهما على أبي حنيفة رحمه الله تعالى ; لأن علم الله تعالى محيط بالأشياء كلها كما أن الموت كائن لا محالة , ولكنا نقول : معنى هذا الكلام إن قدم فلان إلى شهر ; لأن علم الله تعالى لا طريق للحالف إلى معرفته , وإنما تنبني الأحكام على ما يكون لنا طريق إلى معرفته فكأنه قال : إن قدم فلان إلى شهر فلهذا تأخر الوقوع إلى القدوم)1903(1/486)
جعل الله الأحكام على الظاهر بين العباد :
قال الشافعي:( الأحكام على الظاهر والله ولي المغيب)1904 وقال الطبري:( جعل الله تعالى الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ووكل سرائرهم إلى الله وقد كذب الله ظاهرهم في قوله:( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)1905
وقال القرطبي في قول النبي ( (لأسامة أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا أخرجه مسلم أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه وفي هذا من الفقه باب عظيم وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر)1906(1/487)
وقال صاحب الفتح:(ومثل هذا قضاؤه لعبد بن زمعة بابن الوليدة فلما رأى الشبه بينا بعتبة قال احتجبي منه يا سودة انتهى. ولعل السر في قوله: انما أنا بشر امتثال قول الله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم أي في إجراء الأحكام على الظاهر الذي يستوي فيه جميع المكلفين فأمر أن يحكم بمثل ما أمروا أن يحكموا به ليتم الإقتداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد إلى الأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن)1907 وقال في موضع آخر(أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب والله أعلم)1908 وفي موضع غيره أكد أنه لا يلام من حمل الأحكام على الظاهر :(وفيه جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة وهو لفظ أطولكن إذا لم يكن من محذور قال الزين بن المنير لما كان السؤال عن آجال مقدرة لا تعلم إلا بالوحي أجابهن بلفظ غير صريح وأحالهن على ما لا يتبين إلا بآخر وساغ ذلك لكونه ليس في الأحكام التكليفية وفيه أن من حمل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يلم وإن كان مراد المتكلم مجازه لأن نسوة النبي صلى الله عليه وسلم حملن طول اليد على الحقيقة فلم ينكر عليهن )1909
ويقول السرخسي في المبسوط:(الأحكام تنبني على العادة الظاهرة وبقاء الولد في بطن أمه أكثر من سنتين في غاية الندرة فلا يجوز بناء الحكم عليها)1910
الأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة:
قال ابن القيم في حديث ورد فيه اتهام امرأة لرجل أدركه الناس وهو يشتد هربا بأنه أجبرها على الزنا،ولما رفع إلى النبي ( أمر برجمه غير أنه أفلت من الحد بسبب اعتراف الجاني الحقيقي:( والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والأقارير وشواهد الأحوال , وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة ولا تنضبط أمر لا يقدح في كونها طرقا وأسبابا للأحكام)1911
مجرد النية لا عبرة بها في الأحكام:(1/488)
يقول الكاساني:(مجرد النية لا عبرة به في الأحكام لقول النبي صلى الله عليه وسلم { : إن الله عفا عن أمتى ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا به أو يفعلوا } )1912
المسلمون كلهم مؤمنون عندنا في الأحكام ولا ندري من هم عند الله:
قال ابن قدامة في المغني:(قال الثوري:المسلمون كلهم مؤمنون عندنا في الأحكام ولا ندري ما هم عند الله، ولهذا تعلق حكم القتل بكل مسلم، بقوله تعالى: ومن قتل مؤمنا خطأ (النساء 92) والصبي محكوم بإسلامه يرثه المسلمون ويرثهم ويدفن في مقابر المسلمين ويغسل ويصلي عليه وإن سبي منفردا عن أبويه أجزأه عتقه لأنه محكوم بإسلامه وكذلك إن سبي مع أحد أبويه ولو كان أحد أبوي الطفل مسلما والآخر كافرا أجزأ إعتاقه لأنه محكوم بإسلامه)1913
الأحكام تناط بالغالب لا بالصورة النادرة :
قال ابن حجر:(وقال اليعمري:الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا ،قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلل بالمشقة وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق عملا بالغالب)1914
وفي تأكيد تعليق الشارع الأحكام بالأمور الغالبة،يقول الشوكاني:(شرعية الشفعة إنما هي لدفع الضرر وهو إنما يحصل في الأغلب مع المخالطة في الشيء المملوك أو في طريقه ولا ضرر على جار لم يشارك في أصل ولا طريق إلا نادرا واعتبار هذا النادر يستلزم ثبوت الشفعة للجار مع عدم الملاصقة لأن حصول الضرر له قد يقع في نادر الحالات كحجب الشمس والإطلاع على العورات ونحوهما من الروائح الكريهة التي يتأذى بها ورفع الأصوات وسماع بعض المنكرات ولا قائل بثبوت الشفعة لمن كان كذلك والضرر النادر غير معتبر لأن الشارع علق الأحكام بالأمور الغالبة)1915
الأحكام تترتب على الأسباب :(1/489)
يقول الزيلعي في تبيين الحقائق:( الأحكام تثبت بأسبابها فصارت كالعلل الشرعية , فإنها أمارات في حق الشارع وفي حقنا لها حكم الإثبات . ولهذا وجب الضمان على الشهود عند الرجوع ; لأن الحكم يحال إلى شهادتهم إيجابا )1916
ويقول الزرقاني في شرحه على الموطأ:(فمن زوج ابنته هازلا انعقد النكاح وإن لم يقصده، والطلاق فيقع طلاق اللاعب إجماعا، والعتق فمن أعتق رقيقه لاعبا عتق وإن لم يقصده، لأن اللاعب بالقول وإن لم يلتزم حكمه فترتب الأحكام على الأسباب للشارع لا له فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى ولا يعتبر قصده لأن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره فإنه قصد غير المعنى المقول وموجبه فلذا أبطله الشارع)1917
وقد سئل سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار (عن طلاق السكران فقالا: إذا طلق السكران جاز طلاقه وإذا قتل قتل به، قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا. وبه قال جماعة من التابعين وجمع من الصحابة والأئمة الأربعة فيصح عنه مع أنه غير مكلف تغليظا عليه ولأن صحته من قبيل ربط الأحكام بالأسباب)1918
اختلاف الأسباب يقتضي اختلاف الأحكام:
وفي السياق السابق يقول الزرقاني أيضا:(وخالف أبو حنيفة لأن اختلاف الأسباب يقتضي اختلاف الأحكام لأجل إصلاح الحكمة والقتل مباين للظهار وهذا ظاهر ببادىء الرأي لكن يرد ما في الصحيح في حديث السوداء أن سيدها قال للنبي صلى الله عليه وسلم علي رقبة ولم يذكر عن ماذا أفأعتقها فلم يأذن له حتى قال أين الله تعالى فقالت في السماء قال ومن أنا قالت رسول الله فقال أعتقها فإنها مؤمنة)1919(1/490)
وفي تبدل الأحكام بتبدل الأسباب يقول ابن حجر عن حكم سليمان بعد حكم داود عليهما السلام:(ولا يكون ذلك من نقض الحكم الأول ولكن من باب تبدل الأحكام بتبدل الأسباب وقال بن الجوزي استنبط سليمان لما رأى الأمر محتملا فأجاد وكلاهما حكم بالاجتهاد لأنه لو كان داود حكم بالنص لما ساغ لسليمان أن يحكم بخلافة)1920
الأصل أن الأحكام تضاف إلى أسبابها لا إلى شروطها:
يقول الكاساني:(واختلف أيضا في سبب وجوب هذه الكفارة قال بعضهم : إنها تجب بالظهار والعود جميعا ; لأن الله تعالى علقها بهما بقوله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } وقال بعضهم : سبب الوجوب هو الظهار والعود شرط ; لأن الظهار ذنب . ألا ترى أن الله تعالى جعله منكرا من القول وزورا ؟ والحاجة إلى رفع الذنب والزجر عنه في المستقبل ثابتة فتجب الكفارة ; لأنها رافعة للذنب وزاجرة عنه والدليل عليه أنه تضاف الكفارة إلى الظهار لا إلى العود يقال : كفارة الظهار والأصل أن الأحكام تضاف إلى أسبابها لا إلى شروطها)1921
الأحكام المترتبة على القرائن تدور معها كيفما دارت:
يقول ابن القيم:(لو اتفق في وقت آخر أنه اشتهر حلفهم ونذرهم بالاعتكاف والرباط وإطعام الجائع وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه , دون ما هو مذكور قبلها ; لأن الأحكام المترتبة على القرائن تدور معها كيفما دارت , وتبطل معها إذا بطلت , كالعقود في المعاملات والعيوب في الأعواض في المبايعات ونحو ذلك , فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن من المبيع عند الإطلاق على السكة والنقد المتجدد دون ما قبله )1922
تعليق الأحكام على الشهور العربية دون غيرها من شهور العجم :(1/491)
يقول القرطبي:(الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرا لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص والذي ينقص ليس يتعين له شهر وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج)1923
الحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام لا المجهول :
يقول القرطبي:( قال ابن العربي: الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة، ومالك يرى في الأحكام والأيمان أعم الأسماء والأزمنة، والشافعي يرى الأقل وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر ولا معنى لقوله لأن المقدرات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة.
وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة فمن نذر أن يصلي حينا فيحمل على ركعة عند الشافعي لأنه أقل النافلة قياسا على ركعة الوتر وقال مالك وأصحابه أقل النافلة ركعتان فيتقدر الزمان بقدر الفعل وذكر ابن خويز منداد في أحكامه أن من حلف ألا يكلم فلانا حينا أو لا يفعل كذا حينا أن الحين سنة قال وأتفقوا في الأحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حينا أو لا يكلم حينا أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه)1924
يرجع في ألفاظ الأحكام إلى المعهود عند العرب (مثل الطيبات ) أيام نزول الوحي:(1/492)
يقول النووي:(وإنما المراد بالطيبات ما يستطيبه العرب , وبالخبائث ما تستخبثه . قال أصحابنا : ولا يرجع في ذلك إلى طبقات الناس , وينزل كل قوم على ما يستطيبونه أو يستخبثونه , لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام واضطرابها , وذلك يخالف قواعد الشرع , قالوا : فيجب اعتبار العرب , فهم أولى الأمم بأن يؤخذ باستطيابهم واستخباثهم لأنهم المخاطبون أولا , وهم جيل معتدل لا يغلب فيهم الانهماك على المستقذرات ولا العفافة المتولدة من التنعم فيضيقوا المطاعم على الناس .
قالوا : وإنما يرجع إلى العرب الذين هم سكان القرى والريف دون أجلاف البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج من غير تمييز وتغيير عادة أهل اليسار والثروة دون المحتاجين , وتغيير حالة الخصب والرفاهية دون الجدب والشدة قال الرافعي : وذكر جماعة أن الاعتبار بعادة العرب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب لهم)1925
الأحكام على مقتضى الأسماء التي علقت عليها زمن التشريع:
يقول ابن القيم في معرض استعراضه حجج الرافضين للقياس:(وإنما بعث الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعربية التي يفهمها العرب من لسانها , فإذا نص سبحانه في كتابه أو نص رسوله على اسم من الأسماء وعلق عليه حكما من الأحكام وجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم , ولا يتعدى به الوضع الذي وضعه الله ورسوله فيه , ولا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم ; فالزيادة على ذلك زيادة في الدين , والنقص منه نقص في الدين..)1926
الاكتفاء في إثبات الأحكام الشرعية المستندة إلى الألفاظ اللغوية بنقل الآحاد:
يقول الآمدي:(ولهذا كان العلماء في كل عصر وإلى زمننا هذا يكتفون في إثبات الأحكام الشرعية المستندة إلى الألفاظ اللغوية بنقل الآحاد المعروفين بالثقة والمعرفة كالأصمعي والخليل وأبي عبيدة وأمثالهم)1927
إذا حدد الاصطلاح الشرعي ارتبطت به الأحكام :(1/493)
قال القرطبي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار:( فهذا الحديث يقضي أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وهو مقتضى الفقه في الأيمان وبه ترتبط الأحكام فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس حنث وعلى الأول لا يحنث وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الفيصل في ذلك والحكم)1928
الأحكام تدور مع عللها :
قال المازري :(أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال وعلى أنه إذا أشتد وغلى وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المتخذات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض ودل على أن علة التحريم الإسكار فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره)1929
وعقد ابن عبد السلام فصلا (في مناسبة العلل لأحكامها وزوال الأحكام بزوال أسبابها فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبا لمصالحها , والجنايات مناسبة لإيجاب العقوبات درءا لمفاسدها , والنجاسات مناسبة لوجوب اجتنابها , ولا مناسبة بين طهارة الأحداث وأسبابها , إذ كيف يناسب خروج المني من الفرج أو إيلاج أحد الفرجين في الآخر أو خروج الحيض والنفاس لغسل جميع أعضاء البدن)1930
تأكيد العلل أقوى في الأحكام :
يقول القرطبي في سياق حديثه عن قوله تعالى:( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) الآية:( هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها وتأكيد العلل أقوى في الأحكام)1931
ومتى دار الحكم بين كونه تعبدا , أو معقول المعنى , كان حمله على كونه معقول المعنى أولى: قال ابن دقيق:(متى دار الحكم بين كونه تعبدا , أو معقول المعنى , كان حمله على كونه معقول المعنى أولى . لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى.)1932
الضرورات والأعذار ترفع الأحكام :(1/494)
قال القرطبي:(وذلك أن الضرورات والأعذار ترفع الأحكام فيصير هذا من حيث الضرورة كمن لم يحلف قاله ابن خويز منداد)1933 و قال السرخسي: (مواضع الضرورة مستثنى في الأحكام)1934
اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام :
قال ابن حجر في تعليقه على حديث:(وفي الحديث اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها وهو أصل مطرد غالبا)1935
لا تخيير في إثبات الأحكام :
قال النووي:(لا تخيير في إثبات الأحكام , بل إما أن يظهر موجبها فيجب , أو لا فيحرم)1936
رفع الإثم لا يعني بالضرورة رفع الأحكام :
قال ابن رجب:(والأظهر والله أعلم أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما لأن الأمر مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما. وأما رفع الأحكام عنهما فليس مرادا من هذه النصوص فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر.)1937
من الأحكام ما يؤخذ تأصيلا لا تفصيلا :
قال ابن حجر:(وقال القرطبي قوله ليس في كتاب الله أي ليس مشروعا في كتاب الله تأصيلا ولا تفصيلا ومعنى هذا أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصلاة ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع وكذلك القياس الصحيح فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلا)1938
التحريم المخفف مقدم على التحريم المثقل عند الضرورة في الأحكام :
(إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولحم ابن آدم أكل الميتة لأنها حلال في حال والخنزير وابن آدم لا يحل بحال والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال وهذا هو الضابط لهذه الأحكام ولا يأكل ابن آدم ولو مات قاله علماؤنا)1939
الأصل تعدي الأحكام :
(والصحيح ما ذهب إليه مالك في المشهور تمسكا بالحديث وحملا له على الأصل الكلي من تعدي الأحكام)1940(1/495)
قواعد في التعارض والترجيح بين نصوص الأحكام:
قال ابن حزم بأنه لا:( يخلو ما يظن به التعارض منهما وليس تعارضا من أحد أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يكون أحدهما أقل معاني من1941 الآخر أو يكون أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو يكون أحدهما موجبا والثاني نافيا.
فواجب ههنا أن يستثنى الأقل معاني من الأكثر معاني وذلك مثل أمره عليه السلام ألا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وأذن للحائض أن تنفر قبل أن تودع فوجب استثناء الحائض من جملة النافرين1942(...)
والوجه الثاني أن يكون أحد النصين موجبا بعض ما أوجبه النص الآخر أو حاظرا بعض ما حظره النص الآخر فهذا يظنه قوم تعارضا (...) وليس في شيء من ذلك تعارض (...) فغلط قوم في هذا الباب فظنوا قوله: عليه السلام في سائمة الغنم كذا معارضا لقوله في مكان آخر في كل أربعين شاة شاة وليس كما ظنوا بل الحديث الذي فيه ذكر السائمة هو بعض الحديث الآخر وداخل في عمومه والزكاة واجبة في السائمة بالحديث الذي فيه ذكر السائمة وبالحديث الآخر معا والزكاة واجبة في غير السائمة بالحديث الآخر خاصة1943(...)
والوجه الثالث أن يكون أحد النصين فيه أمر بعمل ما معلق بكيفية ما أو بزمان ما أو على شخص ما أو في مكان ما ويكون في النص الآخر نهي عن عمل ما بكيفية ما أو في زمان ما أو مكان ما أو عدد ما أو عذر ما ويكون في كل واحد من العملين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهى عن الآخر شيء ما يمكن أن يستثنى من الآخر وذلك بأن يكون على ما وصفنا في كل نص من النصين المذكورين حكمان فصاعدا فيكون بعض ما ذكر في أحد النصين عاما لبعض ما ذكر في النص الآخر ولا شيء آخر معه.(1/496)
ويكون الحكم الثاني الذي في النص الثاني عاما أيضا لبعض ما ذكر في هذا النص الآخر ولا شيئا آخر معه1944 (...) قال علي وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص وأغمضه وأصعبه (...) فمن ذلك قول الله تعالى:.. (ولله على لناس حج البيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين) وقال عليه السلام:( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم منها) ففي الآية عموم الناس وإيجاب عمل خاص عليهم وهو السفر إلى مكان واحد نفسه بعينه من سائر الأماكن وهو مكة أعزها الله فاضبط هذا .
وفي الحديث المذكور تخصيص بعض الناس وهم النساء ونهيهن عن عمل عام وهو السفر جملة لم يخص بذلك مكان دون مكان فاختلف الناس في كيفية استعمال هذين النصين1945(...) قال علي وأما نحن فإنما ملنا إلى استثناء الأسفار الواجبة والمندوب إليها من سائر الأسفار المباحة وأوجبنا على المرأة السفر إلى الحج والعمرة الواجبتين والتغريب وأبحنا لها التطوع بالعمرة والحج ومطالعة ما لها دون زوج ودون ذي محرم1946 (...)
والوجه الرابع أن يكون أحد النصين حاظرا لما أبيح في النص الآخر بأسره أي يكون أحدهما موجبا والآخر مسقطا لما وجب في هذا النص بأسره قال علي فالواجب في هذا النوع أن ننظر إلى النص الموافق لما كنا عليه لو لم يرد1947 واحد منهما فنتركه ونأخذ بالآخر لا يجوز غير هذا أصلا1948 (...)(1/497)
من ذلك أمره عليه السلام ألا يشرب أحد قائما وجاء حديث بأنه عليه السلام شرب قائما فقلنا نحن على يقين من أنه كان الأصل أن يشرب كل أحد كما شاء من قيام أو قعود أو اضطجاع ثم جاء النهي عن الشرب قائما بلا شك فكان مانعا مما كنا عليه من الإباحة السالفة ثم لا ندري أنسخ ذلك بالحديث الذي فيه إباحة الشرب قائما أم لا فلم يحل لأحد ترك ما قد تيقن أنه أمر به خوفا أن يكون منسوخا قال علي فإن صح النسخ بيقين صرنا إليه ولم نبال زائدا كان على معهود الأصل أم موافقا له..)1949
لا تعارض بين الأحاديث:
يقول السيوطي في معرفة مختلف الحديث وحكمه (هذا فن من أهم الأنواع ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف وهو: أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرا فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما.وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه ،والأصوليون الغواصون على المعاني)1950
ثم ذكر من صنف في هذا الفن من مثل: الإمام الشافعي وابن قتيبة وابن جرير والطحاوي ثم قال:( وكان ابن خزيمة من أحسن الناس كلاما فيه حتى قال لا أعرف حديثين متضادين فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما)1951
العمل عند التعارض :
يقول السيوطي:( والمختلف قسمان:أحدهما يمكن الجمع بينهما بوجه صحيح فيتعين ويجب العمل بهما(...) ولا يصار إلى التعارض ومن أمثلة ذلك في أحاديث الأحكام:حديث( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وحديث(خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه) فإن الأول ظاهره طهارة القلتين تغير أم لا والثاني ظاهره طهارة غير المتغير سواء كان قلتين أم أقل فخص عموم كل منهما بالآخر)1952
ثم أشار إلى القسم الثاني بالقول:( لا يمكن الجمع بينهما بوجه:
- فإن علمنا أحدهما ناسخا (...) و إلا عملنا بالراجح منهما كالترجيح:
بحال الراوي وذلك بوجوه أحدها كثرة الرواة (...) لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل.(1/498)
ثانيها: قلة الوسائط: أي علو الإسناد حيث الرجال ثقات لأن احتمال الكذب والوهم فيه أقل.
ثالثها: فقه الراوي سواء كان الحديث مرويا بالمعنى أو اللفظ لأن الفقيه إذا سمع ما يمتنع حمله على ظاهره بحث عنه حتى يطلع على1953 ما يزول به الإشكال بخلاف العامي.
رابعها:علمه بالنحو لأن العالم به يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل ما لا يتمكن منه غيره.
خامسها:علمه باللغة، سادسها:حفظه بخلاف من يعتمد على كتابه، سابعها:أفضليته في أحد الثلاثة بأن يكونا فقيهين أو نحويين أو حافظين وأحدهما في ذلك أفضل من الآخر.
ثامنها: زيادة ضبطه أي اعتناؤه بالحديث واهتمامه به. تاسعها: شهرته لأن الشهرة تمنع الشخص من الكذب كما تمنعه من ذلك التقوى.
عاشرها إلى العشرين: كونه ورعا أو حسن الاعتقاد أي غير مبتدع أو جليسا لأهل الحديث أو غيرهم من العلماء أو أكثر مجالسة لهم أو ذكرا أو حرا أو مشهور النسب أولا لبس في اسمه بحيث يشاركه فيه ضعيف وصعب التمييز بينهما أو له اسم واحد ولذلك أكثر ولم يختلط أو له كتاب يرجع إليه.
حادي عشريها: أن تثبت عدالته بالإخبار بخلاف من تثبت بالتزكية أو العمل بروايته أو الرواية عنه إن قلنا بهما.
ثاني عشريها إلى سابع عشريها: أن يعمل بخبره من زكاه ومعارضه لم يعمل به من زكاه أو يتفق على عدالته أو يذكر سبب تعديله أو يكثر مزكوه أو يكونوا علماء أو كثيري الفحص عن أحوال الناس.
ثامن عشريها: أن يكون صاحب القصة كتقديم خبر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم لمن أصبح جنبا على خبر الفضل بن العباس في منعه لأنها أعلم منه.
تاسع عشريها: أن يباشر ما رواه. الثلاثون: تأخر إسلامه وقيل عكسه لقوة اصالة المتقدم ومعرفته وقيل إن تأخر موته إلى إسلام المتأخر لم يرجح بالتأخير لاحتمال تأخر روايته عنه وإن تقدم أو علم أن أكثر رواياته متقدمة على رواية المتأخر رجح.(1/499)
الحادي والثلاثون إلى الأربعين: كونه أحسن سياقا واستقصاء لحديثه أو أقرب1954 مكانا أو أكثر ملازمة لشيخه،أو سمع من مشايخ بلده أو مشافها مشاهدا لشيخه حال الأخذ أو لا يجيز الرواية بالمعنى أو الصحابي من أكابرهم أو علي رضي الله تعالى عنه وهو في الأقضية أو معاذ وهو في الحلال والحرام أو زيد وهو في الفرائض أو الإسناد حجازي أو رواته من بلد لا يرضون التدليس1955
القسم الثاني الترجيح بالتحمل: وذلك بوجوه:
أحدها: الوقت فيرجح منهم من لم يتحمل بحديث إلا بعد البلوغ على من كان بعض تحمله قبله أو بعضه بعده لاحتمال أن يكون هذا مما قبله والمتحمل بعده أقوى لتأهله للضبط.
ثانيها وثالثها:أن يتحمل بحدثنا والآخر عرضا والآخر كتابة أو مناولة أو وجادة..
القسم الثالث الترجيح بكيفية الرواية وذلك بوجوه:
أحدها: تقديم المحكي بلفظه على المحكي بمعناه والمشكوك فيه على ما عرف أنه مروي بالمعنى.
ثانيها: ما ذكر فيه سبب وروده على ما لم يذكر فيه لدلالته على اهتمام الراوي به حيث عرف سببه.
ثالثها: أن لا ينكره راويه ولا يتردد فيه.
رابعها إلى عاشرها:أن تكون ألفاظه دالة على الاتصال كحدثنا وسمعت أو اتفق على رفعه أو وصله أو لم يختلف في إسناده أو لم يضطرب لفظه أو روي بالإسناد وعزى ذلك لكتاب معروف أو عزيز والآخر مشهور.
القسم الرابع الترجيح بوقت الورود وذلك بوجوه:
مثل تقديم المدني على المكي، والدال على علو شأن المصطفى عليه الصلاة والسلام على الدال على الضعف كبدء الإسلام غريبا ثم شهرته فيكون الدال على العلو متأخرا1956
ثالثها: ترجيح المتضمن للخفيف لدلالته على التأخر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يغلظ في أول أمره زجرا عن عادات الجاهلية ثم مال للتخفيف.(...)(1/500)
رابعها: ترجيح ما تحمل بعد الإسلام على ما تحمل قبله أو شك لأنه أظهر تأخرا خامسها وسادسها: ترجيح غير المؤرخ على المؤرخ بتاريخ متقدم وترجيح المؤرخ بمقارب بوفاته صلى الله عليه وسلم على غير المؤرخ قال الرازي والترجيح بهذه الستة أي إفادتها للرجحان غير قوية.
القسم الخامس الترجيح بلفظ الخبر وذلك بوجوه:
أحدها إلى الخامس والثلاثين: ترجيح الخاص على العام،والعام الذي لم يخصص على المخصص لضعف دلالته بعد التخصيص على باقي أفراده، والمطلق على ما ورد على سبب، والحقيقة على المجاز، والمجاز المشبه للحقيقة على غيره، والشرعية على غيرها، والعرفية على اللغوية،والمستغنى على الإضمار،وما يقل فيه اللبس، وما اتفق على وضعه لمسماه والمومئ للعلة ،والمنطوق ومفهوم الموافقة على المخالفة.
والمنصوص على حكمه مع تشبيهه بمحل آخر، والمستفاد عمومه من الشرط، والجزاء على النكرة المنفية أو من الجمع المعرف على من وما أو من الكل، وذلك من الجنس المعرف. وما خطابه تكليفي على الوضعي، وما حكمه معقول المعنى، وما قدم فيه ذكر العلة أو دل الاشتقاق على حكمه، والمقارن للتهديد، وما تهديده أشد، والمؤكد بالتكرار،والفصيح وما بلغه قريشي، وما دل على المعنى المراد بوجهين فأكثر ،وبغير1957واسطة وما ذكر معه معارضة: ككنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، والنص والقول وقول قارنه العمل أو تفسير الراوي وما قرن حكمه بصفة على ما قرن باسم وما فيه زيادة
القسم السادس: الترجيح بالحكم وذلك بوجوه:
أحدها: تقديم الناقل على البراءة الأصلية على المقرر لها وقيل عكسه.
ثانيها: تقديم الدال على التحريم على الدال على الإباحة والوجوب.
ثالثها: تقديم الأحوط، رابعها: تقديم الدال على نفي الحد.
القسم السابع: الترجيح بأمر خارجي:(2/1)
كتقديم ما وافقه ظاهر القرآن، أو سنة أخرى، أو ما قبل الشرع، أو القياس أو عمل الأمة أو الخلفاء الراشدين أو معه مرسل آخر أو منقطع أو لم يشعر بنوع قدح في الصحابة أو له نظير متفق على حكمه. أو اتفق على إخراجه الشيخان.
قال السيوطي بعد استعراض مختلف الأقسام السابقة :(فهذه أكثر من مائة مرجح وثم مرجحات أخر لا تنحصر،ومثارها غلبة الظن، فوائد:
الأولى: منع بعضهم الترجيح في الأدلة قياسا على البينات وقال إذا تعارضا لزم التخيير أو الوقف وأجيب بأن مالكا يرى ترجيح البينة على البينة ومن لم يرد ذلك يقول البينة مستندة إلى توقيفات تعبدية ولهذا لا تقبل إلا بلفظ الشهادة.
الثانية:إن لم يوجد مرجح لأحد الحديثين توقف على العمل به حتى يظهر.
الثالثة: التعارض بين الخبرين إنما هو لخلل في الإسناد بالنسبة إلى ظن المجتهد وأما في نفس الأمر فلا تعارض.
الرابعة: ما سلم من المعارضة فهو محكم1958
كثرة القائلين للحديث والسلامة من النسخ من مرجحات الأحكام:
أخرج مسلم في صحيحه عن إبراهيم عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فقال أصلى من خلفكم قالا نعم فقام بينهما فجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه فلما صلى قال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الجماعة إلا ابن ماجة عن مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه ثم قال قوموا فلأصل لكم قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبث فنضحته بماء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين ثم انصرف.(2/2)
فظاهر الحديثين المرفوعين التعارض بخصوص موضع اصطفاف المأمومين،علل الزيلعي في "نصب الراية" ترجيح الجمهور لرواية أنس على رواية ابن مسعود (بكثرة العدد والقائلين به وبسلامته من الأحكام المنسوخة)1959
المبحث الثالث
الأحكاميون وكتب الأحكام
عناية العلماء بآيات الأحكام:
يقول صاحب البرهان في علوم القرآن فيما ينبغي للمفسر تعلمه (النوع الثاني والثلاثون معرفة أحكامه وقد اعتنى بذلك الأئمة وأفردوه وأولهم الشافعي ثم تلاه من أصحابنا ألكيا الهراسي،ومن الحنفية أبو بكر الرازي ، ومن المالكية القاضي إسماعيل ، وبكر بن العلاء القشيري ، وابن بكير ومكي وابن العربي ، وابن الفرس ، ومن الحنابلة القاضي أبو يعلى الكبير..)1960 فالأحكام كانت محط عناية مختلف المذاهب.
نماذج من علماء وشيوخ الأحكام :
يقول الخطيب البغدادي في معرفة الشيوخ الذين تروى عليهم الأحاديث الحكمية والمسائل الفقهية فيما رواه بسنده عن مسروق قال:( كان العلماء بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ستة نفر الذين يفتون فيؤخذ بفتواهم ويفرضون فيؤخذ بفرائضهم ويسنون فيؤخذ بسنتهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري فانفرد عمر وانفرد معه عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت (...)
وانفرد علي ابن أبي طالب وانفرد معه أبي بن كعب وأبو موسى الأشعري (...) قال علي بن عبد الله المديني لم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم احد له أصحاب يقومون بقوله في الفقه إلا ثلاثة عبد الله ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس كان لكل واحد منهم أصحاب يقومون بقوله ويفتون الناس1961(...)(2/3)
وأخذ عن عبد الله بن مسعود ستة علقمة بن قيس والأسود بن يزيد وعبيدة السلماني والحارث بن قيس ومسروق وعمرو بن شرحبيل قال علي وانتهى علم هؤلاء إلى إبراهيم النخعي وعامر الشعبي وانتهى علم هؤلاء إلى أبي اسحق والأعمش ثم انتهى علم هؤلاء إلى سفيان بن سعيد قال علي وكان يحيى بن سعيد يميل إلى هذا الإسناد ويعجبه قال علي وأخذ عن زيد بن ثابت احد عشر رجلا ممن كان يتبع رأيه ويقتدي به قبيصة بن ذؤيب وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسعيد بن المسيب وأبان بن عثمان وسليمان بن يسار.
قال علي: ثم صار علم هؤلاء كلهم إلى ثلاثة، إلى ابن شهاب وبكير بن عبد الله بن الأشج وأبي الزناد ثم صار علم هؤلاء كلهم إلى مالك بن انس وكان عبد الرحمن بن مهدي يميل إلى هذا الإسناد ويعجبه. فأما ابن عباس فصار علمه إلى ستة نفر إلى سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد وجابر بن زيد وطاوس وصار علم هؤلاء كلهم إلى عمرو ابن دينار. قال علي: وكان سفيان بن عيينة يعجبه هذا الإسناد ويميل إليه)1962
أبو هريرة من المكثرين من أحاديث الأحكام:(2/4)
قال عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري الحنفي(730ه) في "كشف الأسرار:"(لا نسلم أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن فقيها بل كان فقيها ولم يعدم شيئا من أسباب الاجتهاد، وقد كان يفتي في زمان الصحابة وما كان يفتي في ذلك الزمان إلا فقيه مجتهد. وكان من علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم .وقد دعا النبي عليه السلام له بالحفظ، فاستجاب الله تعالى له فيه حتى انتشر في العالم ذكره وحديثه.وقال إسحاق الحنظلي ثبت عندنا في الأحكام ثلاثة آلاف من الأحاديث روى أبو هريرة منها ألفا وخمسمائة وقال البخاري روى عنه سبعمائة نفر من أولاد المهاجرين والأنصار وقد روى جماعة من الصحابة عنه فلا وجه إلى رد حديثه بالقياس .)1963
من كان بمنزلة أبي هريرة ( لا ينكر عليه تفرده بشيء من الأحكام الشرعية:
يقول الشوكاني:(الطعن في الحديث بكون راويه أبا هريرة، قالوا ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة. فلا يؤخذ بما يرويه إذا كان مخالفا للقياس الجلي، وبطلان هذا العذر أوضح من أن يشتغل ببيان وجهه. فإن أبا هريرة رضي الله عنه من أحفظ الصحابة وأكثرهم حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يكن أحفظهم على الإطلاق وأوسعهم رواية لاختصاصه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بالحفظ كما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة بسطه لردائه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن كان بهذه المنزلة لا ينكر عليه تفرده بشيء من الأحكام الشرعية.(2/5)
وقد اعتذر رضي الله عنه عن تفرده بكثير مما لا يشاركه فيه غيره بما ثبت عنه في الصحيح من قوله: إن أصحابي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا. وأيضا لو سلم ما ادعوه من أنه ليس كغيره في الفقه لم يكن ذلك قادحا في الذي يتفرد به لأن كثيرا من الشريعة بل أكثرها وارد من غير طريق المشهورين بالفقه من الصحابة فطرح حديث أبي هريرة يستلزم طرح شطر الدين)1964
مالك وابن عيينة من أعلم الناس بأحاديث الأحكام :
جاء عن الشافعي قوله:( لولا مالك وسفيان بن عيينه لذهب علم الحجاز، وعنه قال: وجدت أحاديث الأحكام كلها عند ابن عيينه سوى ستة أحاديث ووجدتها كلها عند مالك سوى ثلاثين حديثا، فهذا يوضح لك سعة دائرة سفيان في العلم وذلك لأنه ضم أحاديث العراقيين إلى أحاديث الحجازين، وارتحل ولقي خلقا كثيرا ما لقيهم مالك, وهما نظيران في الإتقان، ولكن مالكا أجل وأعلى فعنده نافع وسعيد المقبري،قال عبد الرحمن بن مهدي: كان ابن عيية من أعلم الناس بحديث الحجاز)1965
نماذج من كتب الأحكام:
- مصنف مقاتل بن سليمان البلخي في الأحكام:يعتبر كبير المفسرين أبو الحسن مقاتل بن سليمان البلخي، الذي مات سنة (نيف وخمسين ومائة) للهجرة،من أوائل من أفرد آيات الأحكام بالتصنيف.قال ابن المبارك:( ما أحسن تفسيره لو كان ثقة(...) قال البخاري: مقاتل لا شيء البتة، قلت: أجمعوا على تركه)1966 قال الزركشي في"البحر":(مقاتل بن سليمان أول من أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية)1967
- آداب الأحكام لأبي عبيد القاسم بن سلام :ذكر أبو سعد بن منصور السمعاني ( ت 562ه) من كتب أبي عبيد القاسم بن سلام (ت154ه) صاحب الغريب( كتاب غريب الحديث، كتاب الشواهد، كتاب مقتل الحسين، كتاب القضاء، وآداب الأحكام)1968(2/6)
- مصنفات في الأحكام لعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون:فقد كتب عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المتوفى ببغداد سنة 164 ه مصنفة في الأحكام، قال أحمد بن كامل:( لعبد العزيز كتب مصنفة في الأحكام يروي عنه ذلك ابن وهب وعبد الله بن صالح وغيرهم)1969
- كتاب الموطأ للإمام مالك(ت179ه) وكتاب ابن عيينة في الأحكام (198ه) ،يقول البويطي صاحب الشافعي:( سمعت الشافعي يقول أصول الأحكام نيف وخمس مئة حديث كلها عند مالك إلا ثلاثين حديثا وكلها عند ابن عيينه إلا ستة أحاديث)1970
- وكتاب "أحكام القرآن" الإمام الشافعي(ت204ه) وكدا مسند الشافعي في الأحكام جمعه أحد النيسابوريين ولم يستوعب ولم يرتب ومن أراد أحاديث الشافعي فعليه بسنن البيهقي1971
- الأحكام لابن بكير:وهو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي المصري من أصحاب مالك(ت231ه)(قال أبو عمر أكثر أصحاب مالك على أن الإسلام والإيمان شيء واحد ذكر ذلك ابن بكير في الأحكام)1972 وقد تكون مجرد رواية من روايات الموطأ.
- كتب أبي ثور الكلبي الفقيه ( ت 240 ) في الأحكام :قال الحافظ أبو بكر الخطيب (عن إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي الفقيه كان أحد الثقات المأمونين ومن الأئمة الأعلام في الدين وله كتب مصنفة في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه)1973
-مسند الأمام أحمد(ت241ه) وإن كان في الأحكام وغيره ،يقول ابن بدران وهو يذكر كتب أحاديث الأحكام(واعلم أيها الطالب للحق أن البحر الزاخر في هذا الموضوع والمورد العذب والوابل الصيب إنما هو مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل)1974 ثم تعقبه بذكر سبب صعوبة الاستفادة منه.(2/7)
- وجمع البخاري (256ه) صحيحه1975 ومعظمه في الأحكام، ويتجلى فقهه في تراجمه حيث يستنبط الأحكام ويضع ذلك قبل إيراد الروايات ،يقول ابن حجر عنه:(والمعروف الشائع عنه أنه هو الذي يستنبط الأحكام في الأحاديث ويترجم لها ويتفنن في ذلك بما لا يدركه فيه غيره)1976 كما أنه رحمه الله وضع بصحيحه أصول الأحكام،يقول:(أبو يعلى الخليلي الحافظ في الإرشاد ما ملخصه رحم الله محمد بن إسماعيل فإنه ألف الأصول يعني أصول الأحكام من الأحاديث وبين للناس وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه)1977
- صحيح مسلم (ت261ه) وقد اعتمد المغاربة خصوصا في تصنيفهم في الأحكام على صحيح مسلم،قال ابن حجر:( كان أبو محمد بن حزم يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث (...) وقد رأيت كثيرا من المغاربة ممن صنف في الأحكام بحذف الأسانيد كعبد الحق في أحكامه، وجميعهم يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون وسياقها دون البخاري لوجودها عند مسلم تامة وتقطيع البخاري لها)1978
وقال السيوطي:(اختص مسلم بجمع طرق الحديث في مكان واحد بأسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة فسهل تناوله بخلاف البخاري فإنه قطعها في الأبواب بسبب استنباطه الأحكام منها)1979 ثم أورد قولة ابن حجر السابقة في شأن المغاربة.
- سنن أبي داود (275ه) 1980 يقول أبو داود في رسالته التي كتبها إلى أهل مكة :".. أما بعد عافانا الله وإياكم وهذه الأربعة الألاف والثمان مائة حديث كلها في الأحكام فأما أحاديث كثيرة من الزهد والفضائل وغيرها من غير هذا فلم أخرجها والسلام عليكم ورحمة الله وصلى الله على محمد النبي وآله)1981
يقول الغزالي في باب تخفيف شروط المجتهد(أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام , كسنن أبي داود ومعرفة السنن لأحمد(241ه) والبيهقي(458ه) , أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام)1982(2/8)
- كتاب في الأحكام للترمذي (ت279ه) ،قال صاحب "الأحاديث المختارة"
في حديث( لو أهدي إلي كراع لقبلت) (أخرجه الترمذي في الأحكام)1983
- كتب في أحكام القرآن من القرن الثالث الهجري:قال صاحب "طبقات المفسرين" في استعراض لكتب في أحكام القرآن(وللشيخ أبو الحسن علي المعروف بابن حجر السعدي(ت244ه) وللشيخ أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق الأزدي البصري (ت282ه)والشيخ الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي (ت305ه)وللشيخ أبو الحسن علي بن موسى ابن داود العمري الحنفي (ت305ه))1984
- كتاب في الأحكام لعلي بن الحسين الحمصي بن معروف القصاع(ت288ه) ذكره ابن حجر في الفتح1985
- أحكام القرآن لإسماعيل القاضي المالكي(ت305ه)1986 قال ابن حجر:( وقال القابسي وقد ثبت ذلك في الأحكام لإسماعيل القاضي يعني بإسناده إلى سفيان)1987
-"المنتقى من السنن المسندة"1988 لأبي محمد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري(ت 307ه) قال فيه الذهبي :(كتاب المنتقى في السنن مجلد واحد في الأحكام لا ينزل فيه عن رتبة الحسن أبدا إلا في النادر في أحاديث يختلف فيها اجتهاد النقاد)1989
- كتاب (البيان عن أصول الأحكام ) للطبري(ت310ه) وقد ذكره في مواضع عديدة من تفسيره ويسميه تارة (القول اللطيف في البيان عن أصول الأحكام ) 1990
-كتاب الأحكام للحسن بن علي بن نصر الطوسي(ت310ه) جاء في "الميزان": (كان صاحب أصول ومن تصانيفه كتابه الذي سماه الأحكام، قال لي شيخنا أبو الفضل العراقي أحاديثه أحاديث جامع الترمذي، وأبوابه أبوابه وكلامه على الأحاديث كلامه، وربما شاركه في شيوخه وكأنه مستخرج عليه)1991
- أحكام القرآن لأبي يحيى زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي الشافعي(ت307ه)1992 ذكر الذهبي في طبقات المحدثين أنه من الطبقة الذين بقوا إلى ما بعد الثلاثمائة وإلى حدود العشرين وثلاثمائة1993 ووجدت عند ابن حجر في "لسان الميزان"1994 تاريخ الوفاة الذي أثبته.(2/9)
- كتاب الأحكام لعلي بن حمشاذ الحافظ الكبير أبو الحسن النيسابوري(ت338ه) صاحب التصانيف ، له المسند في أربع مائة جزء والأحكام في مائتين وستين جزءا والتفسير في عشر مجلدات روى عنه أبو أحمد الحاكم ،وقال ما رأيت في مشايخنا أثبت في الرواية والتصنيف منه
-كتاب الأحكام للإمام العلامة المفتي المحدث شيخ الإسلام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد النيسابوري الشافعي المعروف بالصبغي (ت342 ) وقد حمل هذا الكتاب (إلى بغداد فكثر الثناء عليه يعني هذا التأليف )1995
-كتاب الأحكام لأبي الفضل بكر بن محمد بن العلاء القشيري البصري المالكي( ت344) (صنف التصانيف في المذهب وسكن مصر ومؤلفه في الأحكام نفيس )1996
- كتاب الأحكام لأبي الوليد حسان بن محمد بن أحمد بن هارون النيسابوري الشافعي العابد الفقيه الإمام الأوحد الحافظ المفتي شيخ خراسان (ت 349)(صنف الأحكام على مذهب الشافعي)1997
- الأحكام الكبرى للفربري: واسمه الفضل بن أحمد بن يعقوب أبو المعلى صاحب البخاري وراوي صحيحه ذكره الذهبي في الطبقة الذين كانوا في حدود العشرين وثلاثمائة وإلى قريب الخمسين1998 قال ابن حجر في الفتح:( وقد نقل البياشي أحد الحفاظ من المغاربة في الأحكام الكبرى التي جمعها عن الفربري ما نصه: كل ما في البخاري محمد عن عبد الله فهو ابن المبارك، وكل ما فيه عبد الله غير منسوب أو غير مسمى الأب فهو ابن محمد الأسدي، وما فيه عن إسحاق كذلك فهو ابن راهويه، وما كان فيه محمد عن أهل العراق مثل أبي معاوية وعبدة بن سليمان ومروان الفزاري فهو بن سلام البيكندي وما فيه عن يحيى فهو بن موسى البلخي)1999
- أحكام القرآن للشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن علي المعروف بالجصاص الرازي الحنفي (ت370ه)2000(2/10)
- منتخب الأحكام لابن أبي زمنين الإمام القدوة الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى بن محمد المري الأندلسي الإلبيري شيخ قرطبة(ت399ه)(اختصر المدونة وله منتخب الأحكام مشهور)2001
- كتاب "الأحكام السلطانية" للشيخ القاضي أبو الحسن علي الماوردي (ت 456ه)
- كتاب تهذيب الأحكام لأبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي (ت460ه) شيخ الشيعة وصاحب التصانيف ( له تصانيف كثيرة منها كتاب تهذيب الأحكام كبير جدا)2002
- كتاب الأحكام لأبي الأصبغ:العلامة أبو الأصبغ عيسى بن سهل بن عبدالله الأسدي الجياني المالكي(ت486ه) (صنف في الأحكام كتابا حسنا وتوفي مصروفا عن قضاء غرناطة )2003
- كتاب الأحكام لابن الطلاع:هو محمد بن فرج مولى ابن الطلاع (ت 498ه)2004 له كتاب في الأحكام ،قال ابن حجر:( وذكر ابن الطلاع في أحكامه أن سبيعة الأسلمية هاجرت فأقبل زوجها في طلبها)2005
- كتاب الأحكام لأبي الحسن علي بن محمد المعروف بالكاهري الشافعي البغدادي (ت 504ه)
- الأربعين في الأحكام للشيخ الإمام المقرئ المجود المحدث المعمر مسند العصر أبي علي الحسن بن أحمد بن الحسن بن محمد بن علي بن مهرة الأصبهاني الحداد(ت515)( شيخ أصبهان في القراءات والحديث جميعا له الأربعين في الأحكام )2006
- كتاب الأحكام لأبي القاسم علي بن جعفر بن القطاع (ت515ه): قال الزرقاني:(قال الحافظ لم أقف على اسمها وقول ابن القطاع في الأحكام أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك أو ميمونة نقله من اسم الواهبة في قوله تعالى وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي )2007
- أحكام القرآن للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي الحافظ المالكي (ت543ه)2008(2/11)
- كتاب الأحكام الكبرى والأحكام الصغرى لعبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي(ت582ه) يقول ابن حجر في سياق حديثه عن صحيح مسلم(قول مسلم بن قاسم القرطبي وهو من أقران الدارقطني لما ذكر في تاريخه صحيح مسلم قال لم يضع أحد مثله فهذا محمول على حسن الوضع وجودة الترتيب وقد رأيت كثيرا من المغاربة ممن صنف في الأحكام بحذف الأسانيد كعبد الحق في أحكامه وجميعهم يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون وسياقها دون البخاري لوجودها عند مسلم تامة وتقطيع البخاري لها)2009
قال ابن عرفة في شأن أحكام عبد الحق(عن بعض الأشياخ أن قراءة مثل هذه الجزولية والمعالم الفقهية والاطلاع على أحاديث الأحكام الكبرى لعبد الحق ونحو ذلك يكفي في تحصيل أدلة الاجتهاد..)2010 وقال صاحب تذكرة الحفاظ (صنف في الأحكام نسختين كبرى وصغرى )2011 وممن اهتم بشرح أحكامه عبد العزيز بن بزيزة المغربي التميمي في كتابه المسمى "بمصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام"2012 وشرحه أيضا ابن القطان الحافظ العلامة قاضي الجماعة أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى بن إبراهيم الحميري الكتامي الفاسي(ت628ه) وسماه "الوهم والإبهام على الأحكام الكبرى لعبد الحق2013.
- أحاديث الأحكام لمحمد بن حازم الحازمي ت 584 فهو أحد المبرزين في أحاديث الأحكام :(صنف في الحديث عدة مصنفات وأملى عدة مجالس وكان كثير المحفوظ حلو المذاكرة يغلب عليه معرفة أحاديث الأحكام أملى طرق الأحاديث التي في المهذب للشيخ أبي إسحاق وأسندها ولم يتمه وقال أبو عبد الله بن النجار في تاريخه كان الحازمي من الأئمة الحفاظ العالمين بفقه الحديث ومعانيه ورجاله)2014(2/12)
- الأحكام الكبرى والصغرى والجامع الصغير في الأحكام لتقي الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي المنشأ الصالحي الحنبلي( ت 600) (صاحب الأحكام الكبرى والصغرى وله الجامع الصغير في الأحكام)2015 وله تأليف في أحاديث الأحكام المتفق عليها بين البخاري ومسلم شرحه ابن بدران.2016 وسماه موارد الأفهام على سلسبيل عمدة الأحكام.
- كتاب في الأحكام للرازي(ت606ه) ،قال ابن حجر:( قال أبو بكر الرازي في الأحكام له كان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم)2017
- كتاب الأحكام لعماد الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي نزيل سفح قاسيون وأخو الحافظ عبد الغني( ت 614 ه) صنف كتابا في الأحكام لم يتمه.
-"الإحكام في أصول الأحكام" لسيف الدين الآمديّ علي بن أبي علي(ت 631 ه)
- دلائل الأحكام لأبي المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد بن عتاب الأسدي الحلبي الأصل والدار الموصلي المولد والمنشأ الفقيه الشافعي المقرئ المشهور بابن شداد ( ت632 ) ( له كتاب دلائل الأحكام في أربع مجلدات)2018
- دلائل الأحكام ليوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد بن عتاب بن شداد الحلبي الشافعي(ت632ه) (من تواليفه كتاب دلائل الأحكام)2019
- كتاب الأحكام لضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي ( ت643ه) (صاحب التصانيف والرحلة الواسعة له كتاب الأحكام ولم يتم في ثلاث مجلدات)2020 ولهذا الحافظ (كتاب الأحاديث المختارة وهي الأحاديث التي تصلح أن يحتج بها سوى ما في الصحيحين خرجها من مسموعاته قال بعضهم هي خير من صحيح الحاكم)2021 والكتاب مطبوع2022.(2/13)
- الأحكام الكبرى لعبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني الفقيه المقرىء المفنن شيخ الإسلام(ت652ه)( له مصنفات منها أحاديث التفسير و الأحكام الكبرى والمنتقى والمحرر في الفقه ومنتهى الغاية في شرح الهداية وعثمان بعضها والمسودة في الأصول)2023
يقول ابن بدران في "منتقى" ابن تيمية(وأما كتب الأحكام فأجلها وأوسعها وأنفعها كتاب منتقى الأحكام للإمام مجد الدين عبد السلام ابن تيمية فإنه جمع فيه الأحاديث التي يعتمد عليها علماء الإسلام في الأحكام انتقاها من الكتب السبعة صحيحي البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد بن حنبل وجامع الترمذي وسنن النسائي وسنن أبي داود وسنن ابن ماجه وتارة يذكر أحاديث من سنن الدارقطني وغيره ورتب أحاديثه على ترتيب أبواب كتب الفقه ورتب له أبوابا ببعض ما دلت عليه أحاديثه من الفوائد وبالجملة فهو كتاب كاف للمجتهد وقد اعتنى المحدثون بهذا الكتاب اعتناء تاما واشتهر عندهم اشتهارا)2024
-التحقيق للإمام النووي (ت676ه) ( وصل فيه إلى صلاة المسافر ذكر فيه غالبا ما في شرح المهذب من الأحكام والخلاف على سبيل الاختصار،ومهمات الأحكام. قال الأسنوي وهو قريب من التحقيق في كثرة الأحكام إلا أنه لم يذكر فيه خلافا)2025
- الأحكام الكبرى للمحب: الإمام المحدث المفتي فقيه الحرم محب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري ثم المكي الشافعي(ت674ه)(مصنف الأحكام الكبرى)2026.(2/14)
- الأحكام للقرافي (ت684ه): كتاب في الأحكام ذكره في مقدمة(أنوار البروق في أنواع الفروق) حيث يقول:(وتقدم قبل هذا كتاب لي سميته كتاب الأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام وتصرف القاضي والإمام، ذكرت في هذا الفرق أربعين مسألة جامعة لأسرار هذه الفروق وهو كتاب مستقل يستغنى به عن الإعادة هنا فمن شاء طالع ذلك الكتاب فهو حسن في بابه وعوائد الفضلاء وضع كتب الفروق بين الفروع)2027 وله الفائق في الأحكام2028
- الأحكام لعبيد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة(ت684ه) قال صاحب الوفيات:(صنف في الأحكام )2029
- كتابين في الأحكام لابن دقيق العيد(ت707ه) ذكرهما صاحب الديباج المذهب حيث أشار إلى:(شرح العمدة في الأحكام أملاء على ابن الأثير أبان فيه عن علم واسع وذهن ثاقب ورسوخ في العلم، وألف كتاب الإلمام في أحاديث الأحكام وشرحه شرحا عظيما لم يكمل، ومن تآليفه الاقتراح في بيان الاصطلاح وما أضيف إلى ذلك من الأحاديث الصحاح وله ديوان خطب وله أربعون حديثا تساعية وله غير ذلك)2030 وقيل في كتاب الإمام في الأحكام لو كمل تصنيفه وتبييضه لجاء في خمسة عشر مجلدا.
- كتاب الأحكام لأبي الحسن علي بن محمد بن غالب ابن النصير الأنصاري الدمشقي الشروطي (ت 725هـ) (الإمام الفقيه المحدث العدل الكبير كاتب الأحكام)2031
- مطالع عبد الرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي الحنبلي (ت740ه) يقول ابن بدران:(ومما اطلعنا عليه من كتب الأحكام لأصحابنا كتاب المطالع ويقال له مطالع ابن عبيدان جمع وتأليف الشيخ عبد الرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي الحنبلي)2032
- كتب في أحاديث الأحكام لمحمد بن علي بن سعيد بن سالم (ت 752 ه) في 4 مجلدات2033.(2/15)
- أحاديث الأحكام لبهاء الدين ابن إمام المشهد (ت 753ه) يقول صاحب الوفيات (ثم تولى الحسبة بدمشق وجمع مجلدات على التمييز في الفقه للبارزي وكتابا في أحاديث الأحكام في أربع مجلدات وناولني إياه)2034
- كتاب نهاية الأحكام في دراية الأحكام لأبي سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الدمشقي الشافعي(ت761ه): له (كتاب نهاية الأحكام في دراية الأحكام خمسة عشر جزءا)2035
- الأحكام لأبي سعيد بن خليل بن كيكلدي أبو سعيد العلائي (ت 761ه) قال في كتابه " جامع التحصيل في أحكام المراسيل" :(وهي مستوفاة فيما عملته من مقدمة نهاية الأحكام)2036
- كتاب الأحكام لمغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري الحنفي علاء الدين أبي عبد الله الإمام العلامة الحافظ المحدث المشهور(ت762ه) له كتاب في الأحكام مما اتفق عليه الأئمة الستة)2037
- أحاديث الأحكام ليوسف بن محمد بن التقي عبد الله بن محمد بن محمود جمال الدين المرداوي(ت769ه): (قال البرهان ابن مفلح في المقصد وكتابه هذا سماه الانتصار وبوبه على أبواب المقنع في الفقه )2038
- مختصر أحكام القرآن للشيخ عبد المنعم بن محمد بن فرس الغرناطي( ت770ه) واختصر فيه أحكام القرآن للشيخ أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي وتلخيص أحكام القرآن للشيخ جمال الدين محمود بن أحمد الشهير بابن السراج القونوي الحنفي (ت770ه) وبعد ذلك شرحه الشيخ أحمد بن الحسين البيهقي الحنبلي شرحا عظيما )2039
- كتاب لابن كثير(ت774ه) سماه ( كتاب الأحكام الكبير )2040 قال السيوطي في "طبقات الحفاظ":( وشرع في كتاب كبير في الأحكام لم يتمه)2041
- شرح عمدة الأحكام الكبرى لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني المالكي (ت781ه): شرح فيه عمدة الأحكام الكبرى للمقدسي الحنبلي في خمس مجلدات شرحا جمع فيه بين كلام ابن دقيق العيد وابن العطار والفاكهاني وغيرهم2042(2/16)
- (شرح عمدة الأحكام )2043 لابن الملقن عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله عرف بابن النحوي (ت804ه)
- "تحفة المحتاج" لعمر بن علي بن أحمد الوادياشي الأندلسي (ت 804ه): قال عنه: (و بعد فهذا مختصر في أحاديث الأحكام ذو إتقان وإحكام عديم المثال لم ينسج مثله على منوال)2044
- شرح عمدة الأحكام لعبد الرحمن بن علي بن خلف الشيخ زين الدين أبي المعالي الفارسكوري الشافعي(ت808ه) شرح فيه عمدة الأحكام للمقدسي شرحا دل على كثرة فضله2045.
- كتاب الأحكام ليوسف بن الحسن بن محمد مسعود الحموي(ت809ه) (شرح الإمام في أحاديث الأحكام) في 6 مجلدات كبار2046.
- عدة الحكام في شرح عمدة الأحكام لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي صاحب القاموس(ت817ه) وهو في مجلدين2047 .
- كتاب الأحكام لأحمد بن يحيى المرتضى الزيدي المعروف بالمهدي صاحب "البحر الزخار"(ت840ه) قال الصنعاني:( قال المهدي في كتاب تكملة الأحكام هو اعتقاد أنه يستحق من التعظيم فوق ما يستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة)2048
- كتاب في الأحكام لجمال الدين أبي المحاسن يوسف بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمود المرداوي الصالحي الحنبلي (ت859 ه):فقد (جمع كتابا في الأحكام)2049
- الأحكام لعز الدين أبي يعلى حمزة بن موسى بن أحمد بن الحسين الدمشقي الحنبلي(ت 873ه) (جمع على المنتقى في الأحكام عدة مجلدات)2050
-الأحكام لتاج الدين عبد الوهاب بن محمد بن حسن ابن أبي الوفاء العلوي(ت875ه) شرح عمدة الأحكام للمقدسي وسماه عدة الحكام.
- ادارة الأحكام لإسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي(ت885ه)2051(2/17)
ويحسن ختم ذكر هذا التراث الضخم في اهتمام الأمة بالتأليف في الأحكام بذكر ما أورده الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع من أمهات كتب الأثر والأصول الجامعة للسنن ومن ضمنها الأحكام أخذا بسلم الأولويات والبدء بالأهم ثم الذي يليه في الأهمية،فأورد قول أبي عبيد القاسم بن سلام، قال (عجبت لمن ترك الأصول وطلب الفصول) ثم قال:(وأحقها بالتقديم كتاب الجامع والمسند الصحيحان لمحمد بن اسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري(...)
ومما يتلو الصحيحين سنن أبي داود السجستاني وأبي عبد الرحمن النسائي وأبي عيسى الترمذي وكتاب محمد بن اسحق بن خزيمة النيسابوري الذي شرط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم كتب المسانيد الكبار مثل مسند أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل وأبي يعقوب إسحق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه وأبي بكر عبد الله وأبي الحسن عثمان ابني محمد بن أبي شيبة العبسي وأبي خيثمة زهير بن حرب النسائي وعبد بن حميد الكشي وأحمد بن سنان الواسطي)2052
ثم ذكر الطبقة التي بعد هؤلاء ( من مسند يعقوب بن شيبة السدوسي وإسماعيل بن اسحق القاضي ومحمد بن أيوب الرازي ومسند الحسن بن سفيان النسوي وأبي يعلى أحمد بن علي الموصلي )2053
ثم الكتب المصنفة في الأحكام الجامعة للمسانيد وغير المسانيد مثل( كتب ابن جريج وسعيد بن أبي عروبة وعبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وهشيم بن بشير وعبد الله بن وهب والوليد بن مسلم و وكيع بن الجراح وعبد الوهاب بن عطاء وعبد الرزاق بن همام وسعيد بن منصور وغيرهم)2054
وقال عن الموطأ( وأما موطأ مالك بن أنس فهو المقدم في هذا النوع ويجب أن يبتدأ بذكره على كل كتاب لغيره)2055(2/18)
ثم ذكر الكتب المتعلقة بعلل الحديث مثل:( كتاب أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وأبي علي الحافظ النيسابوري وأبي الحسن علي بن عمر الدار قطني وكتاب التمييز لمسلم بن الحجاج القشيري)2056
ثم ذكر في تواريخ المحدثين وكلامهم في أحوال الرواة مثل ( كتاب يحيى بن معين الذي يرويه عنه عباس بن محمد الدوري وكتابه الذي يرويه عنه المفضل بن غسان الغلابي وكتابه الذي يرويه عنه الحسين بن حبان البغدادي وتاريخ خليفة بن خياط العصفري وكتب أبي حسان الزيادي ويعقوب بن سفيان الفسوي وأحمد بن أبي خيثمة النسائي وأبي زرعة الدمشقي ...)2057
مطبوعات حديثة في الأحكام:
1. قواعد الأحكام في مصالح الأنام : أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي. -القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى 1900. وطبعة أخرى من تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد. -القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية 1968.
2. الدرر الحكام في شرح غرر الأحكام , وبهامشه غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام لحسن بن عماد بن علي نبلالي الحنفي : محمد بن فراموز منلا حنفي. -الاستانة: الشركة الصحافية العثمانية.
3. الإلمام في أحاديث الأحكام : مجد الدين أبو الفتح محمد بن علي بن مطيع القشيري. -الرياض ق: دار الثقافة الإسلامية ق 1904.
4. أحكام القرآن : أبو بكر احمد بن علي الرازي الجصاص. -القاهرة: المطبعة البهية المصرية 1928.
5. نيل المرام في تفسير آيات الأحكام : لمحمد صديق حسن خان. -القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى 1929.
6. بلوغ المرام من أدلة الأحكام : ابن حجر العسقلاني , شهاب الدين أبو الفضل احمد بن علي. -القاهرة: مصطفى البابي الحلبي 1932.
7. بلوغ المرام من أدلة الأحكام : الحافظ بن حجر العسقلاني, محمد حامد الفقي. -القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى 1933.
8. تفسير آيات الأحكام : محمد علي السايس. -القاهرة: محمد علي صبيح 1953.(2/19)
9. العمدة في الأحكام: في معالم الحلال والحرام عن خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام : تقي الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي, احمد محمد شاكر, -القاهرة: دار المعارف 1953. وظهرت طبعة اخرى:بالقاهرة: المطبعة السلفية 1959.وأخرى: بالطائف: مكتبة المعارف 1960.
10. الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي دار الكتب المصرية - 1373ـ1954
11. أحكام القرآن : لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي, علي محمد البجاوي. -القاهرة: دار إحياء الكتب العربية 1957 وأخرى سنة: 1972.وطبعة من تحقيق: مصطفى إبراهيم المشني. -بيروت: دار الجيل 1991.
12. سبل السلام: شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام لابن حجر العسقلاني : عز الدين أبو إبراهيم محمد بن اسماعيل الصنعاني الأمير, -القاهرة: مصطفى البابي الحلبي 1960.
13. الإلمام بأحاديث الأحكام : ابن دقيق العيد, محمد سعيد المولوي. -الرياض: دار الثقافة الإسلامية 1963.
14. أحكام من القرآن والسنة : عبد العظيم معاني, احمد الغندور. -الإسكندرية: دار المعارف 1965.
15. زبدة البيان في أحكام القرآن : أحمد بن محمد الأردبيلي, محمد الباقر البهبودي. -طهران: المكتبة المرتضوية 1966.
16. المنتقى من أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام : العلامة ابن دقيق العيد. -بغداد: كلية الدراسات الإسلامية 1968.
17. إبانة الأحكام : شرح بلوغ المرام : حسن سليمان النوري, علوي عباس المالكي. -القاهرة: مطابع شركة الشمرلي 1969.
18. أحكام من القرآن : عبد الجبار الراوي. -دمشق: مطبعة دار الكفاح 1970.
19. طريق استنباط الأحكام : نور الدين علي بن الحسين, عبد الهادي الفضلي. -النجف: مكتبة الصادق 1971.
20. أحكام من القرآن : عبد الجبار الراوي. -دمشق: مطبعة دار الكفاح 1971.(2/20)
21. روائع البيان: تفسير آيات الأحكام من القرآن : محمد علي الصابوني. -الكويت: دار القرآن الكريم 1971.
22. دلالة الكتاب والسنة على الأحكام من حيث البيان والإجمال أو الظهور والخفاء : عبد الله يوسف مصطفى عزام. -: 1972.
23. الأحكام المفيدة من الأقوال السديدة : عبد الله عبد الرحمن آل سند. -الكويت: مطبعة حكومة الكويت 1973.
24. صفوة الأحكام من نيل الأوطار وسبل السلام : قحطان عبد الرحمن الدوري. -بغداد: مطبعة دار السلام 1974.
25. تفسير آيات الأحكام: المعاملات : مناع القطان. -القاهرة: مطبعة المدني 1975.
26. الموجز في أحاديث الأحكام: دراسات علمية لمختارات من الأحاديث : محمد عجاج الخطيب. -دمشق: جامعة دمشق 1976.
27. أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية : محمد سليمان الأشقر. -الكويت: مكتبة المنار الإسلامية 1978.
28. لسان الحكام في معرفة الأحكام : أبي الوليد إبراهيم بن أبي اليمن محمد بن أبي الفضل محمد بن محمد بن الشحنة الحنفي..., برهان الدين إبراهيم الخالفي العدوي. -الإسكندرية: مطبعة جريدة البرهان 1881.
29. أحكام القرآن : لعماد الدين بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراسي. -بيروت: دار الكتب العلمية 1983.
30. الإجمال والبيان و وضعهما في نصوص الأحكام : جلال الدين عبد الرحمن. -القاهرة: مطبعة السعادة 1984.
31. كتاب الإيضاح في الأحكام : أبو زكريا يحيى بن سعيد, محمد محمود اسماعيل. -مسقط ق: وزارة التراث القومي والثقافة 1984.
32. تفسير النصوص في الفقه الإسلامي: دراسة مقارنة لمناهج العلماء في استنباط الأحكام من نصوص الكتاب والسنة : محمد أديب صالح. -بيروت: المكتب الإسلامي 1984.
33. مباحث الأحكام : دياب عبد الجواد عطا. -القاهرة: دار المنار 1985.(2/21)
34. العمدة في الأحكام في معالم الحلال والحرام : عبد الغني بن عبد الواحد الجماعيلي, مصطفى عبد القادر عطا. -بيروت: دار الكتب العلمية 1986.
35. أربعون حديثا في قواعد الأحكام الشرعية وفضائل الأعمال والزهد : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر محمد السيوطي, احمد البرزة, علي رضا عبد الله. -دمشق: دار المأمون 1986.
36. منتهى المرام في شرح آيات الأحكام : محمد بن الحسين بن الإمام القاسم بن محمد 000 - 1067. -صنعاء: الدار اليمنية للنشر والتوزيع 1986.
37. الساطع شرح كتاب الجامع من كتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام : محمد بن ياسين بن عبد الله. -الموصل: مكتبة بسام 1987.
38. الإمام في بيان أدلة الأحكام : الحافظ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي, رضوان مختار بن غربية. -بيروت: دار البشائر الإسلامية 1987.
39. تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام : بدر الدين بن جماعة, فؤاد عبد المنعم احمد. -الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية 1988.
40. البدر الطالع في سماء المختصر النافع : خلاصة الإسلام و موجز الأحكام في أربعين حديثا _هاشم الدباغ. -طهران ق: إسلام الكاظمي 1990.
41. موسوعة الأحكام الشرعية الميسرة في الكتاب والسنة : سميح عاطف الزين. -القاهرة: دار الكتاب المصرية 1990.
42. تفسير آيات الأحكام : أحمد محمد الحصري. -بيروت: دار الجيل 1991.
43. مجموعة الأحكام الشرعية : الحسن بن الحاج محمد العمارني, عبد العلي بن محمد العبودي. -بيروت: المركز الثقافي العربي 1991.
44. دلائل الأحكام : بهاء الدين بن شداد, محمد بن يحيى بن حسن النجيمي. -بيروت: دار الكتب العلمية 1991.
45. ابن تيمية المجتهد بين أحكام الفقهاء وحاجات المجتمع : عمر فروخ. -بيروت: دار لبنان 1991.
46. تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام : بدر الدين ابن جماعة, فؤاد عبد المنعم احمد. -الدوحة: المحاكم الشرعية والشؤون الدينية 1991.(2/22)
47. الجصاص ومنهجه في التفسير في كتاب أحكام القرآن : رشدي "محمد رشيد" مصطفى احمد, عبد الجليل عبد الرحيم. -: 1992.
48. دلائل الأحكام من أحاديث الرسول عليه السلام : بهاء الدين أبي المحاسن يوسف بن رافع بن شداد, محمد شيخاني, زياد الدين الأيوبي. -دمشق: دار قتيبة 1992.
49. تفسير آيات الأحكام: من سورتي الأنعام والأعراف : فريد مصطفى سلمان. -الرياض: دار النفائس 1992.
50. في إعجاز القرآن الكريم: دراسة الإعجاز البياني في بعض آيات الأحكام : عمار ساسي, جعفر دك الباب. -: 1992.
51. الهراسي ومنهجه في التفسير من خلال كتابه (أحكام القرآن) : زهدي محمد مطر أبو نعمة, احمد فريد صالح. -: 1993.
52. العموم والخصوص و أثرهما في عملية استنباط الأحكام من النصوص التشريعية : محمد عبد اللطيف جمال الدين. -الإسكندرية: مؤسسة الثقافة الجامعية 1993.
53. من أحكام الإسلام : ياسين رشدي. -القاهرة: نهضة مصر 1993.
54. مختصر الأحكام: مستخرج الطوسي على جامع الترمذي أنيس بن احمد بن طاهر الاندونوسي, -المدينة المنورة: مكتبة الغرباء الأثرية 1994.
55. مآلات الأفعال وأثرها في تغيير الأحكام : حسين بن سالم بن عبد الله الذهب, فتحي الدريني. -: 1994.
56. تيسير العلام: شرح عمدة الأحكام للجماعيلي, تقي الدين ابو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي, 541-600هـ .: ت عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام, محمد صبحي حسن حلاق, -صنعاء: مكتبة الإرشاد 1994.
57. كتاب الأحكام الوسطى: من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : أبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن ابن عبد الله الازدي الاشبيلي, حمدي السلفي, صبحي السامرائي. -الرياض: مكتبة الرشد 1995.
58. القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية : أبي الحسن علاء الدين علي بن عباس البعلي الحنبلي ابن اللحام, محمد شاهين. -بيروت: دار الكتب العلمية 1995.(2/23)
59. الوسيط في أحكام القرآن الكريم : عبد الحميد صالح الجياش. -طرابلس ليبيا ق: المؤلف ق 1996.
60. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام : أبو الفتح تقي الدين محمد بن علي بن وهب القشيري, عبد العزيز بن محمد السعيد. -الرياض: دار أطلس 1997.
61. بناء الجملة في آيات الأحكام: نصوص مختارة : اسماعيل مغمولي, عبد الله بوخلخال. -: 1997.
62. تقريرات الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام: دراسة مقارنة : إياد محمد راشد صالح, قحطان عبد الرحمن الدوري. -: 1997.
63. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام للجماعيلي , تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي , 541 - 600هـ.: أبو حفص عمر بن علي بن احمد الأنصاري الشافعي, عبد العزيز بن احمد بن محمد المشيفع, -الرياض: دار العاصمة 1997.
64. نيل المرام من تفسير آيات الأحكام : أبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي, رائد بن صبري بن أبي علفة. -الدمام: رمادي 1997.
65. كتاب خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام : يحيى بن شرف بن مري النوري, حسين اسماعيل الجمل. -بيروت: مؤسسة الرسالة 1997.
66. منتخب الأحكام : ابن أبي زمنين , تحقيق عبد, عبد الله بن عطية الرداد الغامدي. -بيروت: المكتبة المكية 1998.
67. تنقيح الكلام في الأحاديث الضعيفة في مسائل الأحكام وبيان عللها وكلام المحدثين عليها : زكريا بن غلام قادر الباكستاني. -بيروت: دار ابن حزم 1999.
68. الإرشاد إلى معرفة الأحكام : عبد الرحمن بن ناصر السعدي. -الرياض: مكتبة المعارف 1999.
الفصل الثاني
خصوصيات آيات وأحاديث
الأحكام ودورها في
تربية ملكة الاجتهاد
المبحث الأول
خصوصيات آيات الأحكام ودورها في تربية ملكة الاجتهاد
عدد آيات الأحكام:
من حصر آيات الأحكام في خمسمائة آية:(2/24)
سبق أن رأينا كيف حصرها مقاتل بن سليمان(ت:نيف وخمسين ومائة) في وقت مبكر في خمسمائة آية،وتبعه في ذلك جماعة،قال الزركشي في "البحر المحيط"وهو يستعرض الشرط الأول من شروط المجتهد والذي يتمثل في:( إشرافه على نصوص الكتاب والسنة : فإن قصر في أحدهما لم يجز له أن يجتهد ولا يشترط معرفة جميع الكتاب , بل ما يتعلق فيه بالأحكام قال : قال الغزالي وابن العربي : وهو مقدار خمسمائة آية , وحكاه الماوردي عن بعضهم وكأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أول من أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية)2058
وتبعهم على هذا كثير من الأصوليين،وقال ابن رشد في "الضروري":( وهي نحو : خمس مئة آية ، هذا على وجه التخفيف ، والأفضل له معرفة الكتاب كله .)2059 وجزم بعض المتأخرين بأنها لا تتعدى ذلك،قال ابن القيم في "مدارج السالكين":( وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية)2060
وقال صاحب "البحر الزخار" في معرض حديثه عن الشرط الأول من شروط المجتهد:( الأول : الكتاب , والمعتبر منه معرفة مواقع آيات الأحكام وهي خمسمائة آية لا غير)2061 ثم شرع في عدها آية آية من البسملة فالبقرة إلى سورة الكوثر،وقد أعدت إحصاء ما أورد من الآيات،فوجدتها كذلك،غير أنه اعتمد المعنى والمضمون بشكل غالب وليس الآيات المعروفة في المصاحف.
وكأن قصده بلوغ العدد الذي حدده الأصوليون، فنجده أحيانا يجمع الآيتين والثلاث بل وصل مثلا في سورة الفرقان إلى أن جمع عشر آيات،ويفرق أحيانا أخرى الآية الواحدة إلى مقطعين أو ثلاثة أو أكثر، فأوصلها مثلا في سورة البقرة في الآية 281 إلى ست مقاطع. وإن كان في المحصلة لم يبتعد كثيرا عن العدد الحقيقي كما هو في المصحف،وقد أعدت تعداد الآيات التي أوردها وفق المعهود في المصاحف فوجدتها556 آية.
وفيما يلي جدول عدد آيات الأحكام حسب كثرتها في السور:
السور وآياتها كما عدها صاحب "البحرالزخار"
عدد الآيات(2/25)
سور وآيات "البحر" كما هي في مصحف المدينة برواية ورش
عدد الآيات
البقرة(مدنية):28-39-41-42-59-82-83-101-103-(108-109)-113-114-123-124-124-143-149-157-(158-159)-167-(171-172)-173-176-177-(179-180)-181-(182-183-184)-186-186-187-188-189-190-(190-191)-193-194-195-196-(197-198-199)201-213-214-215-217-217-218-219-220-221-222-223-224-226-226-227-227-228-229-230-231-231-231-231-231-232-233-233-234-335-(236-237)-238-239-242-243-252-262-263-266-270-274-(277-278)-279-281-281-281-281-281-281-282-282
92
البقرة(مدنية):28-39-41-42-59-82-83-101-103-108-109-113-114-123-124-143-149-157-158-159-167-171-172-173-176-177-179-180-181-182-183-184-186-187-188-189-190--191-193-194-195-196-197-198-199-201-213-214-215-217-218-219-220-221-222-223-224-226-227-227-228-229-230-231-232-233-234-335-236-237-238-239-242-243-252-262-263-266-270-274-277-278-279-281-282-282
85
النساء(مدنية):2-3-4-5-6-7-8-9-10-11-11-12-12-12-15-16-19-19-20-22-23-24-25-25-25-29-29-31-32-33-33-34-34-35-36-43-57-58-58-70-73-74-75-82-83-84-85-(88-89)-90-91-93-94-96-99-100-101-101-102-102-103-104-106-111-113-114-126-127-128-134-139-140-143-147-175
74
النساء(مدنية):2-3-4-5-6-7-8-9-10-11-12-15-16-19-20-22-23-24-25-29-31-32-33-34-35-36-43-57-58-70-73-74-75-82-83-84-85-88-89-90-91-93-94-96-99-100-101-101-102-102-103-104-106-111-113-114-126-127-128-134-139-140-143-147-175
63
المائدة(مدنية):(1-2)-3-3-3-4-4-5-6-7-9-33-(35-36)-40-44-46-47-49-50-51-53-59-65-69-81-89-91-91-92-97-98-99-101-103-105-107-(108-109-110)
36
المائدة(مدنية): 1-2-3-4-5-6-7-9-33-35-36-40-44-46-47-49-50-51-53-59-65-69-81-89-91-92-97-98-99-101-103-105-107-108-109-110
36(2/26)
التوبة(مدنية):(1-2)-(3-4)-5-6-7-11-(12-13)-(14-15)-16-17-18-(23-24)-28-29-34-36-36-37-38-41-(44-45)-58-59)-60-74-84-85-(92-93-94)-104-109-112-114-121-123-124
34
التوبة(مدنية): 1-2-3-4-5-6-7-11-12-13-14-15-16-17-18-23-24-28-29-34-36-37-38-41-44-45-58-59-60-74-84-85-92-93-94-104-109-112-114-121-123-124
42
النور(مدنية):2-3-(4-5)-(6-7-8-9)-17-19-22-23-27-28-29-30-31-31-31-32-33-33-33-49-54-(56-57)-58-59-59-60-61-61
28
النور(مدنية):2-3-(4-5)-(6-7-8-9)-17-19-22-23-27-28-29-30-31-31-31-32-33-33-33-49-54-(56-57)-58-59-59-60-61-61
27
الأحزاب(مدنية):4-5-5-6-6-21-(28-29)-(30-31)-(32-33)-35-36-37-(41-42)-49-50-51-52-53-53-53-55-56-59-61
24
الأحزاب(مدنية):4-5-6-21-28-29-30-31-32-33-35-36-37-41-42-49-50-51-52-53-55-56-59-61
24
الأنفال(مدنية):1-(15-16)-24-27-38-39-41-46-47-57-59-61-62-66-67-68-70-73-73-74-76-76
21
الأنفال(مدنية):1-15-16-24-27-38-39-41-46-47-57-59-61-62-66-67-68-70-73-73-74-76
21
الإسراء(مكية):(23-24)-(26-27-28)-29-31-32-33-34-34-35-36-37-78-79-109-109-110
16
الإسراء(مكية): 23-24-26-27-28-29-31-32-33-34-34-35-36-37-78-79-109-110
17
آل عمران(مدنية):28-76-84-91-97-104-118-130-133-159-161-187-188-191-200-
15
آل عمران(مدنية):28-76-84-91-97-104-118-130-133-159-161-187-188-191-200-
15
النحل(مكية):(5-6-7-8)-(66-67)-69-80-90-91-94-95-98-106-110-(114-115)-116-125-126
15
النحل(مكية): 5-6-7-8-66-67-69-80-90-91-94-95-98-106-110-114-115-116-125-126
20
الحج(مكية وقيل مدنية):23-23-24-(25-26-27-28)-28-(28-29)-(30-31)-32-33-34-37-39-75-76
14
الحج(مكية وقيل مدنية): 23-24-25-26-27-28-29-30-31-32-33-34-37-39-75-76
16
الأنعام(مكية):53-68-107-109-(119-120)-121=122-142-142-146-147-(152-153)
12(2/27)
الأنعام(مكية):53-68-107-109-119-120-121-122-142-146-147-152-153
13
الأعراف(مكية):28-29-29-30-31-84-204-205-الحجرات(مدنية):1-2-6-9-10-11-11-12
8
الأعراف(مكية):28-29-29-30-31-84-204-205-الحجرات(مدنية):1-2-6-9-10-11-11-12
7
المجادلة(مدنية):2-(3-4)-9-11-12-13-21
7
المجادلة(مدنية):2-3-4-9-11-12-13-21
8
الممتحنة(مدنية):(1-2-3-4)-(8-9)-10-10-11-12-13
7
الممتحنة(مدنية):1-2-3-4-8-9-10-10-11-12-13
10
الطلاق(مدنية):1-1-2-4-6-7
6
الطلاق(مدنية):1-2-4-6-7
5
المدثر(مكية):(1-2-3)-4-5-6-7
5
المدثر(مكية): 1-2-3-4-5-6-7
7
المومنون(مكية):(2-3-4-5-6-7-8-9)-21-97-(98-99)
4
المومنون(مكية):(2-3-4-5-6-7-8-9)-21-97-(98-99)
12
الشورى(مكية):(34-35-36)-37-(38-39)-40
4
الشورى(مكية): 34-35-36-37-38-39-40
7
الصف(مدنية):(2-3)-4-(10-11)-14
المزمل(مكية):(1-2-3)-7-9-18
4
الصف(مدنية): 2-3-4-10-11-14
المزمل(مكية): 1-2-3-7-9-18
6
الإنسان(مدنية):7-(8-9)-25-26
4
الإنسان(مدنية):7-(8-9)-25-26
5
هود(مكية):84-113-114-طه(مكية وقيل مدنية):128-129-131-
3
هود(مكية):84-113-114-طه(مكية وقيل مدنية):128-129-131-
3
محمد(مدنية):4-(21-22)-36
3
محمد(مدنية):4-21-22-36
4
الحديد(مدنية):7-10-11-التحريم(مدنية)1-2-9-الضحى(مكية):9-10-11
3
الحديد(مدنية):7-10-11-التحريم(مدنية)1-2-9-الضحى(مكية):9-10-11
3
الفرقان(مكية عند الجمهور):48-(63-64-65-66-67-68-69-70-71-72)
2
الفرقان(مكية عند الجمهور):48-(63-64-65-66-67-68-69-70-71-72)
11
الشعراء(مكية عند الجمهور):181-(182-183)
2
الشعراء(مكية عند الجمهور):181-(182-183)
3
العنكبوت(مكية):45-46
2
العنكبوت(مكية):45-46
2
لقمان(مكية):(13-14)-(16-17-18)
2
لقمان(مكية):(13-14)-(16-17-18)
5
ص(مكية):25-43-الفتح(مدنية):10-17
2
ص(مكية):25-43-الفتح(مدنية):10-17
2
الذاريات(مكية):(17-18-19)-(54-55)
2(2/28)
الذاريات(مكية):(17-18-19)-(54-55)
5
الحشر(مدنية):7-7
2
الحشر(مدنية):7
1
المنافقون(مدنية): 9-10-التغابن(مكية): 14-16
2
المنافقون(مدنية): 9-10-التغابن(مكية): 14-16
2
الماعون(مكية): (1-2-3)-(4-5-6)
2
الماعون(مكية): 1-2-3-4-5-6
6
الرعد(مدنية | مكية): 22-23-24-
1
الرعد(مدنية | مكية): 22-23-24-
3
الكهف(مكية): 28-القصص(مكية): 27-الروم(مكية): 37-فصلت(مكية): 33
1
الكهف(مكية): 28-القصص(مكية): 27-الروم(مكية): 37-فصلت(مكية): 33
1
ق(مكية): 39-40-الطور(مكية): 46-47-
1
ق(مكية): 39-40-الطور(مكية): 46-47-
2
النجم(مكية): 31-الرحمن(مكية): 7 -الواقعة(مكية): 82-الجمعة(مدنية): 10
1
النجم(مكية): 31-الرحمن(مكية): 7 -الواقعة(مكية): 82-الجمعة(مدنية): 10
1
المعارج(مكية): (23-24-25-26-27-28-29-30-31)
1
المعارج(مكية): 23-24-25-26-27-28-29-30-31
9
المطففين(1-2-3)
1
المطففين1-2-3
3
الانشقاق(مكية): 21
1
الانشقاق(مكية): 21
1
البلد(مكية): (12-13-14-15-16-17)
1
البلد(مكية): 12-13-14-15-16-17
6
البينة(مدنية): 5-الكوثر(مكية): 2
1
البينة(مدنية): 5-الكوثر(مكية): 2
1
المجموع:
500
556
وبهذا تحتل البقرة نسبة 18.6% من الأحكام.تليها سورة النساء بنسبة 14.8% بعدها سورة المائدة بنسبة 7.2% تليها سورة التوبة بنسبة 6.8% ثم سورة النور بنسبة 5.6% ثم سورة الأحزاب بنسبة 4.8% ثم سورة الأنفال بنسبة 4.2% ثم سورة الإسراء بنسبة 3.2% ثم سورتا آل عمران والنحل بنسبة 3% ثم سورة الحج بنسبة 2.8% ثم سورة الأنعام بنسبة 2.4%....
أما نسبة مجمل آيات الأحكام إلى عموم آي القرآن والبالغة حسب رواية أبي سعيد عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش(ت197ه)عن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني(ت169ه)2062:أربعة عشر ومائتين وستة آلاف آية،فهي 8.04%.(2/29)
وقد تتبعت في الآيات الواردة وخصوصا بالعد المصحفي نسبة المكي منها والمدني،فوجدت عدد السور يتفوق فيها المكي على المدني أي 34 سورة مكية مقابل 24 سورة مدنية بفارق 10 سور.أما الآيات فوجدت 179 آية في السور المكية و377 آية في السور المدنية.بحيث تحتل آيات الأحكام المكية 32.19% أي قريبا جدا من ثلث الأحكام.وتصل الآيات المدنية إلى 67.80%.وهذه النسب وإن كانت تقرر ما هو شائع بخصوص السور المدنية.فإنها تبرز بشكل لافت الحجم المهم لآيات الأحكام المكية بخلاف الشائع بأن السور المكية لا يكاد يذكر فيها التشريع إنما هو بسط العقيدة والقصص واحوال الجنة والنار.
الرافضون لحصر آيات الأحكام:
برر بعض العلماء حصر آيات الأحكام بالقول :(وإنما أراد الظاهرة لا الحصر , فإن دلالة الدليل تختلف باختلاف القرائح , فيختص بعضهم بدرك ضرورة فيها ولهذا عد من خصائص الشافعي التفطن لدلالة قوله تعالى : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا } على أن من ملك ولده عتق عليه وقوله تعالى : { امرأة فرعون } على صحة أنكحة أهل الكتاب , وغير ذلك من الآيات التي لم تسق للأحكام)2063
وقال ابن دقيق العيد: (هو غير منحصر في هذا العدد , بل هو مختلف باختلاف القرائح والأذهان وما يفتحه الله على عباده من وجوه الاستنباط ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والالتزام)2064(2/30)
وقال محمد بن محمد بن أمير حاج الحنفي ( 879ه) في"التقرير والتحبير في شرح التحرير" مؤكدا على ضرورة معرفة المجتهد لجميع القرآن:(تمييز آيات الأحكام من غيرها يتوقف على معرفة الجميع بالضرورة , وتقليد الغير في ذلك ممتنع ; لأن المجتهدين متفاوتون في استنباط الأحكام من الآيات على أن ما يتعلق منه بالأحكام غير منحصر في العدد المذكور بل هو مختلف باختلاف القرائح والأذهان وما يفتحه الله تعالى على عباده من وجوه الاستنباط , ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام بالمطابقة لا بالتضمن والالتزام كما ذكره ابن دقيق العيد وغيره إذ غالب القرآن لا يخلو من أن يستنبط منه حكم شرعي)2065
وبلغ الأمر بابن الجوزي إلى اعتبار حصر المطلوب من تعلم القرآن في آيات الأحكام في حق المجتهد من تلبيس إبليس2066،يقول:(كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث فما زال الأمر يتناقص حتى قال المتأخرون يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن وأن نعتمد على الكتب المشهورة في الحديث كسنن أبي داود ونحوها ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا وصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا، وربما اعتمد على قياس يعارضه حديث صحيح ولا يعلم لقلة التفاته إلى معرفة النقل وإنما الفقه استخراج من الكتاب والسنة فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه)2067(2/31)
وكذلك ذهب ابن بدران إلى أن حصر آيات الأحكام في خمسمائة غير سديد،يقول عن هذا الرأي:( وليس هذا القول بسديد وليس هذا التقدير بمعتبر وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصرة فإن أحكام الشرع كما تستنبط من الأوامر والنواهي كذلك تستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها فقل أن يوجد في القرآن الكريم آية إلا ويستنبط منها شيء وقد سلك هذا المسلك الشيخ عز الدين بن عبد السلام فألف كتابه أدلة الأحكام لبيان ذلك وكان هؤلاء الذين حصروها في خمسمائة آية إنما نظروا إلى ما قصد منه بيان الأحكام دون ما استفيدت منه ولم يلتفتوا إلى ما قصد به بيانها)2068
والذي يظهر لي أن الخلاف بين من يقول بحصر آيات الأحكام وبين من لا يرى ذلك،ويعتبر القرآن الكريم كله كتابا ربانيا مفتوحا للتأمل والتدبر والاستنباط،ليس خلافا جوهريا.لأن من يقول بالحصر ينطلق من استقراء ما كان من الآيات مسرحا للتوظيف من طرف الأئمة والفقهاء ومما قد وقع بالفعل،ولا يتصور منعهم للاستنباط من غيرها لمن قدر عليه،كما أن الحصر جاء في سياق التخفيف من شروط ولوج باب الاجتهاد لحث الهمم وكسر حاجز الخوف من اقتحام العقبة.
بينما غيرهم ينظر لما ينبغي أن يكون من الناحية المبدئية حيث يكون القرآن كله موضع تدبر واستثمار.
وإذا كان الرأي الأول قد يكتفى به في مجتمع سكوني يطبعه نوع من الثبات في بنيته وعلاقاته ومؤسساته بحيث لا يعرف تغيرا يذكر عن ما كان عليه حال الناس في السابق يوم صيغت الاجتهادات واستقرت المذاهب،فإن ما يناسب زماننا هو القول الثاني بسبب التغيرات الهائلة التي تعرفها مجتمعاتنا.بحيث نكون أمام معين لا ينضب من الحلول الممكنة لمختلف المشاكل والنوازل.
خصوصيات بعض آيات الأحكام:
آيات عظيمة من أمهات الأحكام:(2/32)
فمن سورة البقرة:ما قاله القرطبي في قوله تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها )(البقرة:106) (...) وهذه آية عظمى في الأحكام) وفي قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا..)(البقرة:177):(قال علماؤنا هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة)2069
وفي النساء: قال القرطبي في قوله تعالى:( يوصيكم الله في أولادكم)(النساء:11) وهذه الآية ركن من أركان الدين وعمدة من عمد الأحكام وأم من أمهات الآيات فإن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم)2070
وفي قوله تعالى:( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات)(النساء:58) هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع)2071 فالآية شاملة بنظمها (لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا وأمهاتها في الأحكام الوديعة واللقطة والرهن والعارية وروى أبي بن كعب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك أخرجه الدارقطني)2072
وقوله تعالى:( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ)(النساء:92) هذه آية من أمهات الأحكام)2073
دخول قوله تعالى ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) في كثير من الأحكام :
قال القرطبي في قوله تعالى:( وما جعل عليكم في الدين من حرج)(الحج:78) (فيه ثلاث مسائل: الأولى قوله تعالى:( من حرج) أي من ضيق وقد تقدم في الأنعام وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام وهي مما خص الله بها هذه الأمة، روى معمر عن قتادة قال أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي كان يقال للنبي اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة وما جعل عليكم في الدين من حرج، والنبي شهيد على أمته وقيل لهذه الأمة لتكونوا شهداء على الناس ويقال للنبي سل تعطه وقيل لهذه الأمة ادعوني استجب لكم)2074
أعضل ما في سورة المائدة من الأحكام :(2/33)
قال القرطبي:قوله تعالى:( فإن عثر على أنهما استحقا إثما) (المائدة:107)قال عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، وقال الزجاج: أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله:( من الذين استحق عليهم الأوليان))2075
آيات الأحكام محكمات غير متشابهات:
جاء في تفسير الجلالين في قوله تعالى:(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات):( واضحات الدلالة هن أم الكتاب: أصله المعتمد عليه في الأحكام ،(وأخر متشابهات) لا تفهم معانيها: كأوائل السور. وجعله كله محكما في قوله:(أحكمت آياته) بمعنى أنه ليس فيه عيب، ومتشابها في قوله:( كتابا متشابها) بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق.( فأما الذين في قلوبهم زيغ) ميل عن الحق فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء طلب الفتنة لجهلهم بوقوعهم في الشبهات واللبس (وابتغاء تأويله) تفسيره (وما يعلم تأويله) تفسيره إلا الله وحده والراسخون الثابتون المتمكنون في العلم)2076
وقال ابن حزم بخصوص آيات الأحكام في سياق حديثه عن المحكم والمتشابه:( ومنها الشرائع المفترضة والمحرمة والمندوب إليها والمكروهة والمباحة، وذلك كله مفترض علينا تتبعه وطلبه. فأيقنا أن ذلك مما أمرنا بالتفكير فيه، بقوله تعالى:( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) وبقوله تعالى:( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) مثنيا عليهم فأيقنا أنه ليس من المتشابه)2077
المبحث الثالث
خصوصيات أحاديث الأحكام
ودرها في تربية ملكة الاجتهاد
أهمية العلم بأحاديث الأحكام وعلم الحديث عموما:(2/34)
يقول الإمام النووي:( ومن أهم أنواع العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات2078 (...) ودليل ما ذكرته أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات وبيانها في السنن المحكمات وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالما بالأحاديث الحكميات فيتأتى بما ذكرناه أن الانشغال بالحديث من أجل العلوم الراجحات وأفضل أنواع الخير وآكد القربات)2079
فعلم الحديث -حسب النووي- مشتمل على بيان حال النبي ( وهو أفضل المخلوقات ،وجاء في فضل إحياء السنن والاهتمام بها أحاديث كثيرة معروفة ومشهورة،والاعتناء بعلم الحديث والتحريض عليه من النصيحة لله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم وللائمة المسلمين وعامتهم إلى أن قال:(ولقد أحسن القائل: من جمع أدوات الحديث استنار قلبه واستخرج كنوزه الخفيات وذلك لكثرة فوائده البارزات والكامنات وهو جدير بذلك فإنه كلام أفصح الخلق ومن أعطي جوامع الكلمات صلى الله عليه وسلم صلوات متضاعفات)2080
فكما قيض الله من يحفظ كتابه برسمه ومعناه ،هيأ من يتولى حفظ السنن،فكان اشتغال أهل الحديث بفنهم لا يساويه اشتغال سائر أهل الفنون بفنونهم،يقول صاحب "أبجد العلوم":(ومن عرف الفنون وأهلها معرفة صحيحة لم يبق عنده شك أن اشتغال أهل الحديث بفنهم لا يساويه اشتغال سائر أهل الفنون بفنونهم ولا يقاربه بل لا يعد بالنسبة إليه كثير شيء)2081
العلم بأحاديث الأحكام ضروري لفهم آيات الأحكام :(2/35)
قال أبو الحسن السندي(ت 1138ه) في حاشيته على سنن النسائي بمناسبة حديثه عن قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ..) :( الآية سيقت لبيان الوضوء والغسل والتيمم الذي يكون نائبا عنهما عند فقد الماء وعدم القدرة على استعماله فما ذكر من أحاديث هذه الأبواب كلها بمنزلة البيان للآية(...)هكذا غالب أحاديث الأحكام بيان وشرح لآيات من القرآن ويظهر امتثاله صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم)2082
أحاديث الأحكام والحديث عموما هو الحكمة:
يقول ابن تيمية:(أحاديث الأحكام تجيء موافقة لكتاب الله مع تفسيرها لمجمله ومع ما فيها من الزيادات التي لا تعارض القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الكتاب والحكمة وأمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة وامتن على المؤمنين بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وقال النبي صلى اله عليه وسلم:(ألا واني أوتيت الكتاب ومثله معه) وفي رواية:( ألا إنه مثل القرآن أو أكثر) فالحكمة التي أنزلها الله عليه مع القرآن وعلمها لأمته تتناول: ما تكلم به في الدين من غير القرآن، من أنواع الخبر والأمر فخبره موافق2083 لخبر الله وأمره موافق لأمر الله )2084
أنواع السنن وموقع أحاديث الأحكام منها:
يمكن التمييز في تقسيم أنواع السنن بين تقسيم يراعي جهة الحكم على نصوصها بالصحة أو غيرها،وتقسيم يراعي جهة الخطاب فيها،ولعل هذا الأخير هو الذي يهم بشكل مباشر عمل الفقيه والمشتغل باستخراج الأحكام،أما الأول فيهم بالأساس عمل المحدث.(2/36)
فبخصوص القسم الأول يتشعب فيه علم السنن إلى تفريعات عديدة، وقد ذكر الإمام النووي طرفا منها في مقدمة شرحه لمسلم بقوله:( ومن أهم أنواع العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات أعني معرفة متونها صحيحها وحسنها وضعيفها متصلها ومرسلها ومنقطعها ومعضلعا ومقلوبها ومشهورها وغريبها وعزيزها متواترها وآحادها وأفرادها معروفها وشاذها ومنكرها ومعللها وموضوعها ومدرجها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ومجملها ومبينها ومختلفها وغير ذلك من أنواعها المعروفات.
ومعرفة علم الأسانيد أعني معرفة حال رجالها وصفاتهم المعتبرة وضبط أسمائهم وأنسابهم ومواليدهم و وفياتهم وغير ذلك من الصفات ومعرفة التدليس والمدلسين وطرق الاعتبار والمتابعات ومعرفة حكم اختلاف الرواة في الأسانيد والمتون والوصل والإرسال والوقف والرفع والقطع والانقطاع وزيادات الثقات ومعرفة الصحابة والتابعين وأتباعهم2085 وأتباع أتباعهم ومن بعدهم رضى الله عنهم وعن سائر المؤمنين والمؤمنات)2086
أما بخصوص القسم الثاني الذي يهم عمل الأحكاميين بشكل مباشر،فيرى ابن حبان في مقدمة صحيحه أن السنن تنقسم خمسة أقسام ( فأولها الأوامر التي أمر الله عباده بها، والثاني النواهي التي نهى الله عباده عنها، والثالث إخباره عما احتيج إلى معرفتها ،والرابع الإباحات التي أبيح ارتكابها، والخامس أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي انفرد بفعلها)2087
والظاهر من هذا التقسيم أنها جميعا باستثناء جزء من الأخبار، تدخل في مجال الأحكام سواء من جهة الوجوب أو الندب أو التحريم أو الكراهة أو الإباحة إلا ما كان خاصا بالنبي ( من الأفعال.(2/37)
- ثم ذكر في القسم الأول عشرة و مائة نوع ،منها:لفظ الأمر بمختلف أنواعه الذي يستوي فيه المكلفون،الأمر الخاص بمعين، ألفاظ الوعد التي مرادها الأوامر، ألفاظ إعلام مرادها الأوامر التي هي المفسرة لمجمل الخطاب في الكتاب، الأمر بالشيء الذي بيان كيفيته في أفعاله صلى الله عليه وسلم، أمر إيجاب على ظاهره يشتمل على الزجر عن ضده، الأمر الذي ورد بلفظ البدل حتى لا يجوز استعماله إلا عند عدم السبيل إلى الفرض الأول، الأمر بالشيء الذي خير المأمور به في أدائه بين صفات ذوات عدد، ثم ندب إلى الأخذ منها بأيسرها عليه.
الأمر الذي هو مقرون بشرط فمتى كان ذلك الشرط موجودا كان الأمر واجبا ومتى عدم ذلك الشرط بطل ذلك الأمر،أوامر مقرونة بسبب،أوامر مقرونة بعلل، لفظ العموم والمراد منه الخاص، فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين،أمر مراده التغليظ والتشديد دون الحكم، الأمر بالشيء الذي مراده التحذير مما يتوقع، الأوامر التي وردت مرادها الإباحة والإطلاق دون الحكم والإيجاب، الأمر بالشيء الذي مراده التعليم لا أنه أمر على سبيل الحتم والإيجاب.
ألفاظ الأوامر التي أطلقت بالكنايات دون التصريح، الأوامر التي أمر بها النساء في بعض الأحوال دون الرجال، الأوامر التي وردت بألفاظ التعريض مرادها الأوامر، لفظة أمر بشيء و مراده استعماله على سبيل العتاب لمرتكب ضده، ألفاظ المدح للأشياء التي مرادها الأوامر بها، ألفاظ أوامر منسوخة نسخت بألفاظ أخرى من ورود إباحة على حظر أو حظر على إباحة، الأمر بالأشياء التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها، الأوامر التي أمر قصدا لمخالفة المشركين وأهل الكتاب2088...
-وذكر في قسم النواهي مائة نوع وعشرة أنواع أيضا كما فعل في الأوامر،(2/38)
ومنها : ألفاظ إعلام لأشياء وكيفيتها مرادها الزجر عن ارتكابها، الزجر عن أشياء وردت بألفاظ مجملة، تفسير تلك الجمل في أخبار أخر، الزجر عن الشيء الذي ورد بلفظ العموم وبيان تخصيصه في فعله، الزجر عن الشيء بلفظ العموم من أجل علة لم تذكر في نفس الخطاب وقد ذكرت في خبر ثان، الزجر عن الشيء بلفظ العموم الذي استثنى بعض ذلك العموم فأبيح بشرائط معلومة في أخبار أخر، الزجر عن الشيء المخصوص في الذكر الذي قد يشارك مثله فيه والمراد منه التأكيد.الزجر عن الأشياء التي قصد بها الاحتياط حتى يكون المرء لا يقع عند ارتكابها فيما حظر عليه، الزجر عن الشيء الذي هو منسوخ بفعله وترك الإنكار على مرتكبه عند المشاهدة، الزجر عن الشيء الذي هو البيان لمجمل الخطاب في الكتاب ولبعض عموم، الزجر عن أشياء معلومة بألفاظ الكنايات دون التصريح، الزجر عن أشياء قصد بها الندب والإرشاد لا الحتم والإيجاب، الزجر عن أشياء بإطلاق ألفاظ بواطنها بخلاف الظواهر.
الأمر بالشيء الذي سئل عنه بوصف مراده الزجر عن استعمال ضده، ألفاظ التمثيل لأشياء بلفظ العموم الذي بيان تخصيصها في أخبار أخر قصد بها الزجر عن بعض ذلك العموم، الإخبار عن نفي جواز أشياء معلومة مرادها الزجر عن إتيان تلك الأشياء بتلك الأوصاف، الزجر عن الشيء الذي هو البيان لمجمل الخطاب في الكتاب، ألفاظ الوعيد على أشياء مرادها الزجر عن ارتكاب تلك الأشياء بأعيانها، الأشياء التي كان يكرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب مجانبتها وإن لم يكن في ظاهر الخطاب النهي عنها مطلقا2089...(2/39)
- وأوصل قسم الأخبار إلى ثمانين نوعا،أكتفي بذكر ما له علاقة بالأحكام،مثل: إخباره صلى الله عليه وسلم عن الأشياء التي أمره الله جل وعلا بها، إخباره صلى الله عليه وسلم عن الأشياء التي أراد بها تعليم أمته، إخباره صلى الله عليه وسلم عن أشياء بنفي دخول الجنة عن مرتكبها، إخباره صلى الله عليه وسلم عن الشيء بلفظ التشبيه مراده الزجر عن ذلك الشيء لعلة معلومة، إخباره صلى الله عليه وسلم عن الأشياء التي قصد بها مخالفة المشركين وأهل الكتاب، إخباره صلى الله عليه وسلم عن أشياء بإطلاق التغليظ على مرتكبها مرادها التأديب دون الحكم، إخباره صلى الله عليه وسلم عن الشيء بإطلاق اسم العصيان على الفاعل فعلا بلفظ العموم2090..
- وقسم قسم المباح إلى خمسين نوعا،منها: الأشياء التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى إباحة استعمال مثلها، الأشياء التي سئل عنها صلى الله عليه وسلم فأباحها بشرط مقرون، ألفاظ تعريض مرادها إباحة استعمال الأشياء التي عرض من أجلها، ألفاظ الأوامر التي مرادها الإباحة والإطلاق، إباحة بعض الشيء المزجور عنه لعلة معلومة، الأشياء التي فعلها صلى الله عليه وسلم مباح للأئمة استعمال مثلها، لفظة زجر عن فعل مرادها إباحة استعمال ضد الفعل المزجور عنه، الإخبار عن الأشياء التي مرادها الإباحة والإطلاق، الأشياء الناسخة لأشياء حظرت قبل ذلك.(2/40)
الشيء الذي هو مباح لهذه الأمة وهو محرم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ألفاظ إعلام مرادها الإباحة لأشياء سئل عنها، الشيء الذي كان مباحا في أول الإسلام ثم نسخ بعد ذلك بحكم ثان، ألفاظ استخبار عن أشياء مرادها إباحة استعمالها، الأمر بالشيء الذي هو مقرون بشرط مراده الإباحة، استصوابه صلى الله عليه وسلم الأشياء التي سئل عنها واستحسانه إياها يؤدي ذلك إلى إباحة استعمالها، إباحة الشيء بلفظ العموم وتخصيصه في أخبار أخر، الأشياء التي أبيحت من أشياء محظورة رخص إتيانها أو شيء منها على شرائط معلومة للسعة والترخيص، الأشياء التي شاهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعلت في حياته فلم ينكر على فاعليها 2091..
وقسم أفعال النبي ( إلى خمسين نوعا أيضا،منها: الفعل الذي فرض عليه صلى الله عليه وسلم مدة ثم جعل له ذلك نفلا ،الأفعال التي فرضت عليه وعلى أمته صلى الله عليه وسلم، الأفعال التي فعلها صلى الله عليه وسلم يستحب للأئمة الإقتداء به فيها، أفعال فعلها صلى الله عليه وسلم يستحب لأمته الإقتداء به فيها ،أفعال فعلها صلى الله عليه وسلم فعاتبه جل وعلا عليها، فعل فعله صلى الله عليه وسلم لم تقم الدلالة على أنه خاص به ( .(2/41)
فعل فعله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة للتعليم ثم لم يعد إليه إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم، الأفعال التي اختلفت الصحابة في كيفيتها وتباينوا عنه في تفصيلها، أفعال فعلها صلى الله عليه وسلم قصد بها مخالفة المشركين وأهل الكتاب، نفي الصحابة بعض أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي أثبتها بعضهم، فعل فعله صلى الله عليه وسلم لحدوث سبب فلما زال السبب ترك ذلك الفعل، أفعال فعلها صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل فلما انقطع الوحي بطل جواز استعمال مثلها، أفعاله صلى الله عليه وسلم تفسر عن أوامره المجملة، فعل فعله صلى الله عليه وسلم مدة ثم حرم بالنسخ عليه وعلى أمته ذلك الفعل، فعله صلى الله عليه وسلم الشيء الذي ينسخ الأمر الذي أمر به مع إباحته ترك الشيء المأمور به.
فعله صلى الله عليه وسلم الشيء الذي نهى عنه مع إباحته ذلك الفعل المنهي عنه في خبر آخر، فعله صلى الله عليه وسلم الشيء نهى عنه مع تركه الإنكار على مرتكبه، الأفعال التي خص بها صلى الله عليه وسلم دون أمته، الأفعال التي تخالف الأوامر التي أمر بها في الظاهر، الأفعال التي تخالف النواهي في الظاهر، الأفعال التي فعلها صلى الله عليه وسلم أراد بها الاستنان به، تركه صلى الله عليه وسلم الأفعال التي أراد بها تأديب أمته، تركه صلى الله عليه وسلم الأفعال مخافة أن تفرض على أمته .(2/42)
الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم لعلة معلومة فارتفعت العلة المعلومة وبقي ذلك الفعل فرضا على أمته إلى يوم القيامة، قضاياه صلى الله عليه وسلم التي قضى بها في أشياء رفعت إليه من أمور المسلمين، كتابته صلى الله عليه وسلم الكتب إلى المواضع بما فيها من الأحكام والأوامر وهي ضرب من الأفعال، فعل فعله صلى الله عليه وسلم بأمته يجب على الأئمة الإقتداء به فيه، الأشياء التي سئل عنها صلى الله عليه وسلم فأجاب عنها بالأفعال، الأفعال التي رويت عنه مجملة، تفسير تلك الجمل في أخبار أخر، الأفعال التي رويت عنه مختصرة ذكر تقصيها في أخبار أخر، أفعاله صلى الله عليه وسلم في إظهاره الإسلام وتبليغ الرسالة2092...
قال ابن حبان بعد استعراض مختلف هذه الأنواع:( فجميع أنواع السنن أربع مائة نوع على حسب ما ذكرناها ولو أردنا نزيد على هذه الأنواع التي نوعناها للسنن أنواعا كثيرة لفعلنا)2093 ومهما يكن من مبالغة ابن حبان في هذا التفريع،والذي لم أجد من تابعه فيه، وكذا ما ينتاب تفريعه من تكرار،فإنه يبقى تقسيما مفيدا للمشتغل بالنظر في الأحكام،ويشكل جسرا عمليا بين أهل الفقه وأهل الحديث،ويقرب فهم سبب الخلاف الواقع بين أئمة مذاهب الأمصار.
فقد صرح ابن حبان بالدافع إلى كثرة ما فرع إليه السنن فقال:( قصدنا في تنويع السنن الكشف عن شيئين أحدهما خبر تنازع الأئمة فيه وفي تأويله، والآخر عموم خطاب صعب على أكثر الناس الوقوف على معناه)2094
عدد أحاديث الأحكام المحتاج إليها في الاجتهاد:
تفاوت العلماء في العدد المطلوب للمجتهد منها بين مضيق وموسع،جاء عن البويطي صاحب الشافعي قوله:( سمعت الشافعي يقول: أصول الأحكام نيف وخمس مئة حديث كلها عند مالك إلا ثلاثين حديثا وكلها عند ابن عيينه الا ستة أحاديث)2095(2/43)
وقال ابن القيم:( وسنة رسوله وهي بحمد الله تعالى مضبوطة محفوظة , وأصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث , وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث)2096
وقال الزركشي في البحر في معرفة ما يحتاج إليه من السنن المتعلقة بالأحكام:(: قال الماوردي : وقيل إنها خمسمائة حديث، وقال ابن العربي في المحصول " : هي ثلاثة آلاف سنة ،وشدد أحمد , وقال أبو الضرير : قلت له : كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي ؟ يكفيه مائة ألف ؟ قال : لا , قلت : مائتا ألف ؟ قال : لا , قلت ثلاثمائة ألف ؟ قال : لا , قلت : أربعمائة ألف ؟ قال : لا , قلت : خمسمائة ألف ؟ قال : أرجو، وفي رواية : قلت : فثلاثمائة ألف : قال : لعله وكأن مراده بهذا العدد آثار الصحابة والتابعين وطرق المتون .
ولهذا قال : من لم يجمع طرق الحديث لا يحل له الحكم على الحديث ولا الفتيا به وقال بعض أصحابه : ظاهر هذا أنه لا يكون من أهل الاجتهاد حتى يحفظ هذا القدر وهو محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا، أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء فأما ما لا بد منه فقد قال أحمد : الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون ألفا ومائتين، والمختار أنه لا يشترط الإحاطة بجميع السنن , و إلا لانسد باب الاجتهاد وقد اجتهد عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة في مسائل كثيرة ولم يستحضروا فيها النصوص حتى رويت لهم , فرجعوا إليها .)2097(2/44)
وكما لا تشترط الإحاطة بجميع السنن كما قال الزركشي، لا بد من معرفة ما يكفي من السنن لاستنباط الأحكام من غير أن يتعين ذلك ببعضها دون بعض،يقول ابن بدران:(ويشترط أن يعرف من السنة ما يكفيه لاستنباط الأحكام ولا يتعين ذلك ببعض السنة دون بعض خلافا لمن حصرها في خمسمائة حديث لأنه قل حديث يخلو عن الدلالة على حكم شرعي ومن نظر في كلام العلماء على دواوين الحديث كالقاضي عياض والنووي على صحيح مسلم والخطابي والحافظ ابن حجر على صحيح البخاري وفي شرح سنن أبي داود وغيرها عرف ذلك)
ثم بين أن أحاديث السنة وإن كثرت (محصورة في الدواوين والمعول عليه منها مشهور كالصحيحين وبقية السنن الستة وما أشبهها وقد قرب الناس ذلك بتصنيف كتب الأحكام ككتابي الحفاظ عبد الغني بن سرور المقدسي وكتب الحافظ عبد الحق المغربي وكتاب الأحكام لمجد الدين عبد السلام ابن تيمية جد شيخ الإسلام ونحوها وأجمع هذه الكتب كتاب الأحكام لمحب الدين الطبري وبذلك صار الوقوف على ما احتيج إليه سهل المرام قريب المأخذ)
ثم علق على العدد الكبير المروي عن أحمد وما في معناه بقوله:(ولا يخفاك أن لفظ الحديث عند السلف أعم مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن آثار الصحابة والتابعين وطرق المتون و إلا فالأحاديث المروية لاتصل إلى عشر هذا العدد وغاية ما جمعه الإمام أحمد في مسنده الذي أحاط بالأحاديث ثلاثين ألفا وغاية ما ضمه إليه ابنه عبد الله عشرة آلاف حديث فكان مجموعه أربعين ألفا فتنبه لذلك)2098(2/45)
وإذا جمعنا بين قول ابن القيم الذي يجعل أصول أحاديث الأحكام خمسمائة وتفاصيلها أربعة آلاف ،وقول ابن بدران الذي ينظر إلى مسند أحمد باعتباره من أعظم موسوعات الحديث المعتبر في مجمله،يمكن أن نخرج بنسب تقريبية لأحاديث الأحكام إلى معظم الحديث.فنجد أصولها لا تتعدى 1% وإذا جمعت إلى تفاصيلها تصل على 10% وهي نسبة كما ترى قريبة من نسبة آيات الأحكام إلى مجمل الآيات كما سبق تحديدها.
من يرى حفظ أحاديث الأحكام:
قال عبد الرحيم بن الحسين العراقي في مقدمة "طرح التثريب" ( وبعد : فقد أردت أن أجمع لابني أبي زرعة مختصرا في أحاديث الأحكام , يكون متصل الأسانيد بالأئمة الأعلام فإنه يقبح بطالب الحديث بل بطالب العلم أن لا يحفظ بإسناده عدة من الأخبار , ويستغني بها عن حمل الأسفار في الأسفار , وعن مراجعة الأصول عند المذاكرة والاستحضار , ويتخلص به من الحرج بنقل ما ليست له به رواية , فإنه غير سائغ بإجماع أهل الدراية)2099
قواعد تخص أحاديث الأحكام:
الأصل في التحدث بالأحكام الاتصال :
يقول ابن حجر في مسألة الإسرائيليات:(وقيل المعنى حدثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصحيح وقيل المراد جواز التحدث عنهم بأي صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ لتعذر الاتصال في التحدث عنهم بخلاف الأحكام الإسلامية فإن الأصل في التحدث بها الاتصال ولا يتعذر ذلك لقرب العهد وقال الشافعي من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم وهو نظير قوله إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه)2100
قبول خبر الآحاد في الأحكام :(2/46)
يقول ابن عبد البر في شأن خبر الواحد:(وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر إنه يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا، منهم الحسين الكرابيسي وغيره وذكر ابن خوازبنداذ أن هذا القول يخرج على مذهب مالك،قال أبو عمر الذي نقول به: أنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة سواء. وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر، وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات ويعادى ويوالى عليها ويجعلها شرعا ودينا في معتقده على ذلك جماعة أهل السنة .)2101
ويقول ابن حزم:(فإن قالوا فمن أين أجزتم فيهما خبر الواحد قلنا لأنه من الدين وقد صح في الدين قبول خبر الواحد فهو مقبول في كل مكان، إلا حيث أمر الله تعالى بأن لا يقبل إلا عدد سماه لنا، وأيضا فقد ذكرنا قبل هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذان بلال كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فأمر عليه السلام بالتزام الصيام بأذان ابن أم مكتوم بالصبح وهو خبر واحد بأن الفجر قد تبين (...) عن ابن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه وهذا خبر صحيح)2102
وفي فتح الباري في بعض استنباطات ابن حجر:(وفيه قبول أخبار الآحاد والاعتماد عليه في الأحكام ولو كان شخصا واحدا رجلا أو امرأة لاكتفاء أم سلمة بأخبار الجارية)2103وفي موضع آخر:(وفيه قبول خبر الواحد في الأحكام ولو كانت امرأة سواء كان ذلك فيما تعم به البلوى أم لأنه صلى الله عليه وسلم قبل خبر الأعرابية)2104
وقال:محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود:(ثبات السنية أو لاستحاب فعل من الأفعال يكفي فيه ورود حديث واحد بالسند الصحيح سواء كان قوليا أو فعليا أو سكوتيا ولا يلزم ثبات السنية كون الحديث مرويا من جماعة من الصحابة في الواقعات المختلفة و إلا لا يثبت كثير من الأحكام الشرعية التي معمول بها عند جماعة من الأئمة)2105(2/47)
وميز الجصاص في أحكامه بين الشهادة وخبر الواحد فقال:(خبر الواحد مقبول في الأحكام ولا تجوز شهادة الواحد فيها ؟ وأنه يقبل فيه فلان عن فلان ولا يقبل في الشهادة إلا على جهة الشهادة على الشهادة ؟ وأنه يجوز قبول خبره إذا قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ولا تجوز شهادة الشاهد إلا أن يأتي بلفظ الشهادة والسماع والمعاينة لما يشهد به ؟ فإن الرجل والمرأة متساويان في الأخبار مختلفان في الشهادة لأن شهادة امرأتين بشهادة رجل وخبر الرجل و المرأة سواء , فلا يجوز الاستدلال بقبول خبر العبد على قبول شهادته . قال أبو بكر : قال محمد بن الحسن : ( لو أن حاكما حكم بشهادة عبد ثم رفع إلي أبطلت حكمه ; لأن ذلك مما أجمع الفقهاء على بطلانه )2106 .
وأورد كمال الدين بن الهمام في "فتح القدير" كلاما نفيسا في التمييز بين أحكام الشهادة والرواية،وأكد أن النساء في هذه الأخيرة قد يكن أضبط من الرجال، ويعتبر تضعيف العدد في الشهادة وعدم قبول شهادة المرأة أحيانا إنما هو لاعتبارات شرعية مثل تجنيبهن كثرة الخروج،يقول:(بَقِيَ أهلية التحمل وهو بالمشاهدة والضبط والنساء في ذلك كالرجال، ولهذا قبلت روايتهن لأحاديث الأحكام الملزمة للأمة .(2/48)
فعن هذا قد يقال والله تعالى أعلم : إن جعل الشارع الثنتين في مقام رجل ليس لنقصان الضبط ونحو ذلك بل لإظهار درجتهن عن الرجال ليس غير , ولقد نرى كثيرا من النساء يضبطن أكثر من ضبط الرجال لاجتماع خاطرهن أكثر من الرجال لكثرة الواردات على خاطر الرجال وشغل بالهم بالمعاش والمعاد وقلة الأمرين في جنس النساء . سلمنا أنه لنقصان الضبط وزيادة النسيان في جنسهن وإن كان بعض أفرادهن أضبط من بعض أفراد الرجال لقوله تعالى { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } لكن ذلك انجبر بضم الأخرى إليها فلم يبق حينئذ إلا الشبهة فلم تقبل فيما يندرئ بالشبهات , وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات , وأما عدم قبول الأربع فعلى خلاف القياس كأنه كي لا يكثر خروجهن)2107
العلماء يتشددون أكثر في أحاديث الأحكام دون غيرها:
فبخصوص مالك مثلا ينقل ابن عبد البر في التمهيد ما يفيد تشدده في الأحكام ،يقول:(حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير قال سمعت يحيى بن معين يقول: محمد بن عمرو بن علقمة ثقة،قال أبو عمر لم يخرج مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة في موطئه حكما واستغنى عنه في الأحكام بالزهري ومثله، ولم يكن عنده إلا في عداد الشيوخ الثقات وإنما ذكر عنه في موطئه من المسند حديثا واحدا)2108
وفي موضع آخر قال أبو عمر أيضا:( هذا حديث غريب من حديث مالك وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه وأبو عبد الغني لا أعرفه وأهل العلم مازالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام)2109(2/49)
وتبعا لذلك أيضا فقد أسقط يحيى بن يحيى باختيار مالك عددا من أحاديث الجامع في الموطأ دون أحاديث الأحكام:(قال أبو عمر لم يفت يحيى بن يحيى في الموطأ حديث من أحاديث الأحكام مما رواه غيره في الموطأ إلا حديث طلحة بن عبد الملك هذا وسائر ما رواه غيره من الأحاديث في الموطأ إنما هي أحاديث من أحاديث الجامع ونحوه، ليست في أحكام وأكثرها أو كلها معلولة مختلف فيها عن مالك وقد توبع يحيى، تابعه جماعة من رواة الموطأ على سقوط كل ما أسقط من تلك الأحاديث من الموطأ إلا حديث طلحة هذا وحده وما عداه فقد تابعه على سقوطه من الموطأ قوم وخالفه آخرون وقد ذكرنا ذلك في آخر هذا الباب ويحيى آخرهم عرضا وما سقط من روايته فعن اختيار مالك وتمحيصه والله أعلم)2110
كما أن البخاري يخرج في الرقائق لمن لا يخرج له في الأحكام،يقول ابن حجر:
(قوله فليح بصيغة التصغير هو ابن سليمان أبو يحيى المدني من طبقة مالك وهو صدوق تكلم بعض الأئمة في حفظه ولم يخرج البخاري من حديثه في الأحكام إلا ما توبع عليه وأخرج له في المواعظ والآداب وما شاكلها طائفة من أفراده وهذا منها وإنما أورده عاليا عن فليح بواسطة محمد بن سنان فقط ثم أورده نازلا بواسطة محمد بن فليح وإبراهيم بن المنذر عن محمد لأنه أورده في كتاب الرقاق عن محمد بن سنان فقط فأراد أن يعيد هنا طريقا أخرى ولأجل نزولها قرنها بالرواية الأخرى)2111
كما أنه لا يقبل في الأحكام من المراسيل إلا ما كان من صحابي عن صحابي،يقول ابن حجر:( ويستفاد من الحكم بصحة ما كان ذلك سبيله صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة لأن الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ربه فيما لم يكلمه به مثل ليلة الإسراء جبريل وهو مقبول قطعا والواسطة بين الصحابي وبين النبي صلى الله عليه وسلم مقبول اتفاقا وهو صحابي آخر وهذا في أحاديث الأحكام دون غيرها فإن بعض الصحابة ربما حملها عن بعض التابعين مثل كعب الأحبار)2112(2/50)
وهكذا بشكل عام كان دأب العلماء التشديد في أحاديث الأحكام ،وقد عقد الخطيب البغدادي في"الكفاية في علم الرواية" بابا في الموضوع سماه( باب التشدد في أحاديث الأحكام و التجوز في فضائل الأعمال: قد ورد عن غير واحد من السلف انه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلا عمن كان بريئا من التهمة بعيدا من الظنة وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ)2113
ثم أورد أقوال العلماء في ذلك كقول سفيان الثوري :( لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان فلا بأس بما سوى ذلك من المشايخ)2114 وقول أحمد بن حنبل :( إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد)2115
وقول أبي زكريا العنبري :( الخبر إذا ورد لم يحرم حلال ولم يحل حراما ولم يوجب حكما وكان في ترغيب أو ترهيب أو تشديد أو ترخيص وجب الإغماض عنه والتساهل في رواته )2116.
ويقول يحيى بن المغيرة الرازي عن ابن عيينة :(لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره،قلت لهذا أكثر الأئمة على التشديد في أحاديث الأحكام والترخيص قليلا لا كل الترخيص في الفضائل والرقائق فيقبلون في ذلك ما ضعف إسناده لا ما أتهم رواته، فإن الأحاديث الموضوعة والأحاديث الشديدة الوهن لا يلتفتون إليها بل يروونها للتحذير منها والهتك لحالها فمن دلسها أو غطى تبيانها فهو جان على السنة خائن لله ورسوله فإن كان يجهل ذلك فقد يعذر بالجهل ولكن سلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)2117(2/51)
وكما يلاحظ في قول ابن عيينة وغيره فقد ميز العلماء بهذا الميزان حتى داخل روايات الراوي الواحد، يقبلون عنه مرة ويرفضون عنه أخرى،وممن اشتهر فعلهم معه في ذلك أحاديث ابن اسحاق والتي تنحط عندهم عن رتبة الصحة في مجال الأحكام بينما هي حجة في المغازي،يقول ابن القيم في حديث:( وأما الحديث فإنه انفرد به محمد بن إسحاق وليس هو ممن يحتج به في الأحكام)2118
وقال ابن حجر أيضا في رواية:( وقد أخرجها أبو داود وفي إسنادها ابن إسحاق وهو حجة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف)2119 وبين صاحب "سير أعلام النبلاء" بعض أسباب هذا الإعراض بقوله:( وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأشياء منها تشيعه، ونسب إلى القدر، ويدلس في حديثه فأما الصدق فليس بمدفوع عنه وقال البخاري: رأيت علي بن عبد الله يحتج بحديث ابن إسحاق، وذكر عن سفيان أنه ما رأى أحدا يتهمه، قال: وقال إبراهيم بن المنذر: حدثنا عمر بن عثمان أن الزهري كان تلقف المغازي من ابن إسحاق فيما يحدثه عن عاصم بن عمر والذي يذكر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يتبين)2120
وقد ثار ابن حزم على هذا التمييز بين روايات الشخص الواحد والتفريق فيها بين الرقائق والأحكام ،وكذا التمييز بين عدل وآخر، يقول:(قال علي ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام قال أبو محمد وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه بل البرهان يبطله وذلك أنه لا يخلو كل أحد في الأرض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق فإن كان غير فاسق كان عدلا ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة.(2/52)
فالعدل ينقسم إلى قسمين فقيه وغير فقيه، فالفقيه العدل مقبول في كل شيء والفاسق لا يحتمل في شيء والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه ومن كان عدلا في بعض نقله فهو عدل في سائره ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك و إلا فهو تحكم بلا برهان وقول بلا علم وذلك لا يحل)2121
وقال في المسألة الثانية:(قال علي وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة قال علي وهذا خطأ شديد ) ثم استدل ببطلان هذا المذهب بعدم تفريق الله عز وجل بين خبر عدل وخبر عدل آخر أعدل من ذلك ،وإنما أمر تعالى بقبول نذارة النافر الفقيه العدل فقط وبقبول شهادة العدول فقط من غير زيادة على ذلك ،واستدل أيضا بأن الأقل عدالة قد يعلم ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة ومثل لذلك بعدم اطلاع أبي بكر وعمر على ميراث الجدة ،وعلمه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وبينهما وبين أبي بكر وعمر بون بعيد إلا أنهم كلهم عدول وقد رجع أبو بكر إلى خبر المغيرة2122.
ولا يزال العلماء يستنكرون التساهل في أحاديث الأحكام ،يقول:عبد الرؤوف المناوي في "فيض القدير" عن سكوت المصنف عن حديث ضعيف:(فسكوت المصنف عليه غير مرضي لأنه من أحاديث الأحكام وهو شديد الضعف فعدم بيان حاله لا يليق بكماله)2123 وفي موضع آخر:(كيف آثر هذه الرواية المطعون فيها على الحديث المتصل الثابت وهو خبر الحاكم والبيهقي لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر، قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل واللائق في أحاديث الأحكام أن يتحرى منها ما تقوم به الحجة)2124
وقال أيضا:(هذا من أحاديث الأحكام وضعفه شديد فسكوت المصنف عليه غير سديد)2125
الحسن محتج به في الأحكام عند جمهور الأمة :(2/53)
يقول ابن القيم في بعض تعليقاته:(وهاتان العلتان بعد صحتهما لا يخرجان الحديثين عن درجة الحسن المحتج به في الأحكام عند جمهور الأمة وقد ذهب إلى القول بهذين الحديثين الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه )2126
قد يحتج في الأحكام بما دون الصحيح :
ورغم وجود ما يشبه الإجماع حول ما سبق ذكره بالتزام الصحيح والحسن في الأحكام،وتجويز الكثيرين بالأخذ بالضعيف في غير ذلك حتى قال النووي:( أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْعَمَلِ بِالضَّعِيفِ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ)2127 يبقى الاستثناء واردا،يقول ابن حجر في حديث:(قال البيهقي لم يصح وجاء من أوجه أخر غير قوية، قلت والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها وقد بينت ذلك في كتابي المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة)2128.
التعامل مع الضعيف في الأحكام وغيره :
قال السيوطي :(.. أما الصحيح فأذكره بصيغة الجزم ويقبح فيه صيغة التمريض كما يقبح في الضعيف صيغة الجزم، ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد الضعيفة ورواية ما سوى الموضوع من الضعيف والعمل به من غير بيان ضعفه في غير صفات الله تعالى وما يجوز ويستحيل عليه وتفسير كلامه والأحكام كالحلال والحرام و غيرهما وذلك كالقصص وفضائل الأعمال والمواعظ وغيرها مما لا تعلق له بالعقائد والأحكام (...)(2/54)
وذكر شيخ الإسلام له ثلاثة شروط أحدها أن يكون الضعف غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه2129 (...)الثاني أن يندرج تحت أصل معمول به، الثالث أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته بل يعتقد الاحتياط (...) وقيل لا يجوز العمل به مطلقا، قاله أبو بكر بن العربي وقيل يعمل به مطلقا وتقدم عزو ذلك إلى أبي داود وأحمد وأنهما يريان ذلك أقوى من رأي الرجال وعبارة الزركشي: الضعيف مردود ما لم يقتض ترغيبا أو ترهيبا أو تتعدد طرقه ولم يكن المتابع منحطا عنه ..)2130
وقال الخطيب البغدادي في لون من ألوان الضعيف:( خبر المجهول لا تتعلق به الأحكام وإثبات ذكره وإسقاطه سواء إذ ليس بمعروف)2131
ولعل ما تميل إليه النفس ويطمئن إليه الضمير وينسجم مع مقاصد الشرع هو الاكتفاء بالصحيح في الأحكام وغيرها، ففيه غنية وكفاية،والظن بالشرع المحفوظ أن لا يضيع منه شيء صحيح.والضعيف وما لا تقوم به الحجة ليس بشيء كأنه لم يكن. وأما ما سكت عنه الشرع فمقصده توسيع دائرة العفو أو الاجتهاد ،وأي توسع في الضعيف هو اعتداء عليهما،وكما لا يجوز القفز على ما صح تشريعه لا يجوز تثبيت ما لم يصح تشريعه ،والسلامة مطلوبة في النظر والعمل معا.والله أعلم وأحكم.
تحريم رواية الموضوع في الأحكام وغيره :
قال السيوطي في"تدريب الراوي" :(الموضوع هو الكذب المختلق المصنوع و هو شر الضعيف وأقبحه وتحرم روايته مع العلم به أي بوضعه في أي معنى كان سواء الأحكام والقصص والترغيب وغيرها إلا مبينا أي مقرونا ببيان وضعه لحديث مسلم من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)2132
احتياط مستنبط الأحكام من قول المحدث أخرجه فلان وهو يقصد أصله لا تلك الألفاظ بعينها فلا تكون حجة :(2/55)
قال الزيلعي في"نصب الراية" بمناسبة قوله عليه السلام: (ابدءوا بما بدأ الله به):( قلت اعلم أن هذا الحديث ورد بصيغة الخبر وهي أبدأ كما رواه مسلم في حديث جابر الطويل أو نبدأ كما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ومالك في الموطأ والثاني بصيغة الأمر فهي ابدءوا وهذا هو حديث الكتاب وهو عند النسائي والدارقطني و البيهقي في سننهما وإنما ذكرت ذلك لأن بعض الفقهاء عزا لفظ الأمر لمسلم وهو وهم منه.
وقد يحتمل هذا من المحدث لأن المحدث إنما ينظر في الإسناد وما يتعلق به ولا يحتمل ذلك من الفقيه لأن وظيفته استنباط الأحكام من الألفاظ فالمحدث إذا قال أخرجه فلان فإنه يريد أصل الحديث لا بتلك الألفاظ بعينها ولذلك اقتصر أصحاب الأطراف على ذكر طرف الحديث فعلى الفقيه إذا أراد أن يحتج بحديث على حكم أن تكون تلك اللفظة موجودة فيه حتى إن بعض الفقهاء احتج بهذه اللفظة أعني قوله ابدءوا بما بدأ الله به على وجوب الترتيب في الوضوء ...)2133
أمهات أحاديث الأحكام:
أورد الخطيب البغدادي عن:( عبد الله بن أبي داود السجستاني يقول سمعت أبي سليمان بن الأشعث يقول: الفقه يدور على خمسة أحاديث الحلال بين والحرام بين وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار وان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وأن رسول الله قال إنما الدين النصيحة وان رسول الله قال ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )2134
حديث إنما الأعمال بالنيات ثلث العلم:(2/56)
يقول ابن حجر:(وجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها ومن ثم ورد نية المؤمن خير من عمله فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده وهي هذا و من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد والحلال بين والحرام بين الحديث)2135
وقال النووي في حديث:( فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه استطعتم) (هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام)2136
وقال الشوكاني في حديث"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد":( وهذا الحديث من قواعد الدين لأنه يندرج تحته من الأحكام ما لا يأتي عليه الحصر وما أصرحه وأدله على إبطال ما فعله الفقهاء من تقسيم البدع إلى أقسام وتخصيص الرد ببعضها بلا مخصص من عقل ولا نقل(...) قال في الفتح وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناه من اخترع من الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه.
قال النووي هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك وقال الطوخي هذا الحديث يصح أن يسمى نصف أدلة الشرع لأن الدليل يتركب من مقدمتين والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لأن منطوقه مقدمة كلية مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس هذا ليس من أمر الشرع وكل ما كان كذلك فهو مردود فهذا العمل مردود)2137
وقال الشوكاني أيضا في حديث"إن الحلال بين والحرام بين"( واعلم أن العلماء قد عظموا أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبي داود وغيره وقد جمعها من قال:
عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير البرية(2/57)
اترك الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه
(...) وأشار ابن العربي أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام ، قال القرطبي لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب فمن هناك يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه)2138
وقال ابن عبد البر في حديث ( الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صمتها ) هذا حديث رفيع، أصل من أصول الأحكام رواه عن مالك جماعة من الجلة منهم شعبة وسفيان الثوري وابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان.2139
حديث في الحج جمع جميع أحكام الدين أولها عن آخرها بحسب ابن حزم:
قال ابن حزم في حديث ( أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى أعادها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ذروني ما تركتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم عن أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه.
قال علي فجمع هذا الحديث جميع أحكام الدين أولها عن آخرها ففيه أن ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح وليس حراما ولا فرضا وأن ما أمر به فهو فرض وما نهى عنه فهو حرام وأن ما أمرنا به فإنما يلزمنا منه ما نستطيع فقط وأن نفعل مرة واحدة تؤدي ما ألزمنا ولا يلزمنا تكراره فأي حاجة بأحد إلى قياس أو رأي مع هذا البيان الواضح ونحمد الله على عظم نعمه)2140
من استخرج ألف فائدة من حديث واحد من أحاديث الأحكام:(2/58)
ففي سبل السلام:(عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت يا رسول الله قال وما أهلكك قال وقعت على امرأتي في رمضان فقال هل تجد ما تعتق رقبة قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا قال فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا قال لا قال ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال تصدق بهذا فقال أعلى أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال اذهب فأطعمه أهلك رواه السبعة واللفظ لمسلم)2141
قال الصنعاني:(واعلم أن هذا حديث جليل كثير الفوائد ،قال المصنف في فتح الباري: إنه قد اعتنى بعض المتأخرين ممن أدرك شيوخنا بهذا الحديث فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة )2142
حديث إذا لم تستح يتضمن الأحكام الخمسة :
قال ابن حجر:(باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت :قال النووي في الأربعين الأمر فيه للإباحة أي إذا أردت فعل شيء فإن كان مما لا تستحي إذا فعلته من الله ولا من الناس فافعله و إلا فلا، وعلى هذا مدار الإسلام وتوجيه ذلك أن المأمور به الواجب والمندوب يستحي من تركه والمنهي عنه الحرام والمكروه يستحي من فعله وأما المباح فالحياء من فعله جائز وكذا من تركه فتضمن الحديث الأحكام الخمسة وقيل هو أمر تهديد كما تقدم توجيهه ومعناه إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت فإن الله مجازيك عليه وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء وقيل هو أمر بمعنى الخبر أي من لا يستحي يصنع ما أراد)2143
حديث القسامة من قواعد الأحكام :(2/59)
أخرج البيهقي عن (خارجة بن زيد بن ثابت قال قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ، فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه)2144 قال القاضي عياض في هذا الحديث:( هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد وبه أخذ كافة الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة و فقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وان اختلفوا في صورة الأخذ به وروي التوقف عن الأخذ به عن طائفة فلم يروا القسامة ولا أثبتوا بها في الشرع حكما)2145
قواعد تهم أحاديث الأحكام:
يؤخذ بالإقرار في الأحكام شرط اطلاع النبي ( على ذلك :
قال صاحب تحفة الأحوذي:(قوله كنا نعزل والقرآن ينزل فيه جواز الاستدلال بالتقرير من الله ورسوله على حكم من الأحكام لأنه لو كان ذلك الشيء حراما لم يقررا عليه ولكن بشرط أن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأكثر من أهل الأصول على ما حكاه في الفتح إلى أن الصحابي إذا أضاف الحكم إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع قال لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام قال وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك وأخرج مسلم من حديث جابر قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم)2146
رد أحاديث الأحكام بحجة عموم البلوى والحاجة إلى التواتر وكذا بحجة معارضتها لأصول الأقيسة أو مخالفة الراوي لما روى لايستقيم:(2/60)
ففي حديث إثبات خيار المجلس في البيع الذي نفاه المالكية والحنفية . بحجة أنه حديث خالفه راويه، أو أنه خبر الواحد فيما تعم به البلوى. أو أنه حديث مخالف للقياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها، قال ابن دقيق العيد:(إذا ثبت الحديث بعدالة الله وجب العمل به ظاهرا . فلا يترك بمجرد الوهم والاحتمال .(...) فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية مالك , لم يتعذر من جهة أخرى . وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ - أعني أن مخالفة الراوي لروايته تقدح في العمل بها)2147
ثم قال في الاعتذار الثاني ( بمنع المقدمتين معا . أما الأولى - وهو أن البيع بما تعم به البلوى - فالبيع كذلك . ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ . وليس الفسخ مما تعم به البلوى في البياعات . فإن الظاهر من الإقدام على البيع : الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه . فالحاجة إلى معرفة حكم الفسخ لا تكون عامة . وأما الثانية : فلأن المعتمد في الرواية على عدالة الراوي وجزمه بالرواية . وقد وجد ذلك . وعدم نقل غيره لا يصلح معارضا , لجواز عدم سماعه للحكم .
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة , ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين . وعلى تقدير السماع : فجائز أن يعرض مانع من النقل , أعني نقل غير هذا الراوي . فإنما يكون ما ذكر إذا اقتضت العادة أن لا يخفي الشيء عن أهل التواتر , وليست الأحكام الجزئية من هذا القبيل ).2148(2/61)
وأجاب عن الوجه الثالث أي مخالفة الحديث للقياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها . (فلا نسلم عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما لا يعتبر من المصالح وذلك ; لأن البيع يقع بغتة من غير ترو . وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه . فيناسب إثبات الخيار لكل واحد من المتعاقدين , دفعا لضرر الندم , فيما لعله يتكرر وقوعه . ولم يمكن إثباته مطلقا فيما بعد التفرق وقبله . فإنه رفع لحكمة العقد والوثوق بالتصرف , فجعل مجلس العقد حريا لاعتبار هذه المصلحة .
وهذا معنى معتبر . لا يستوي فيه ما قبل التفرق مع ما بعده . وأما الثانية : فلا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يرد . فإن الأصل يثبت بالنصوص . والنصوص ثابتة في الفروع المعينة . وغاية ما في الباب : أن يكون الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها , أو تعبدا فيجب اتباعه .)2149
من يرى أن الأحكام تؤخذ أيضا من الأحاديث التي جاءت في سياق ضرب الأمثال :
قال ابن حجر في الحديث الذي شبه أمة الإسلام بأجير عمل من وقت العصر إلى المغرب فحصل على أجر اليوم كله:(وقال بن المنير يستنبط من هذا الحديث أن وقت العمل ممتد إلى غروب الشمس، وأقرب الأعمال المشهورة بهذا الوقت صلاة العصر، قال: فهو من قبيل الإشارة لا من صريح العبارة فإن الحديث مثال وليس المراد العمل الخاص بهذا الوقت بل هو شامل لسائر الأعمال من الطاعات في بقية الأمهال إلى قيام الساعة، وقد قال إمام الحرمين إن الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي تأتي لضرب الأمثال)2150
ورد ابن العربي قول إمام الحرمين بقوله:(وهذا وإن كان موضع تجوز وتوسع كما قال , فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقا تمثل أو توسع .)2151 وقال الزركشي :( والتعليل بالتوسع باطل ; لأنه معصوم , ولو قال : لأن اللفظ لم يظهر منه قصد التشريع , فيكون قرينة صارفة عن الحكم لم يبعد)2152(2/62)
ثم أعطى أمثلة لما استنبطه الفقهاء من أحاديث الأمثال (كاحتجاج بعض الأصحاب على أن المحرم لا يشترط في الحج بحديث { لترين الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله } قال عدي : فرأيت ذلك . رواه البخاري ومسلم . وقدح بعضهم بأن هذا خبر منه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لم يقع بعد , ولم يقل : إن ذلك يجوز(...) ويشهد لذلك أيضا ما في الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هل لكم من أنماط ؟ قلت : لا . قال : أما إنها ستكون لكم الأنماط } . قال : فأنا أقول لها - يعني امرأته - : أخري عني أنماطك . فتقول له : ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ستكون لكم الأنماط ؟ فأدعها . والأنماط ضرب من البسط له خمل رقيق . ففهم الصحابي مما أخبر به عن الأشراط الجواز أيضا .)2153
قد يرد الحديث وليس هو السنة:
قال ابن رشد:(واحتج من لم ير الرمل سنة بحديث أبي الطفيل عن ابن عباس قال قلت لابن عباس زعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طاف بالبيت رمل وأن ذلك سنة فقال صدقوا وكذبوا .قال: قلت: ما صدقوا وما كذبوا ؟ قال صدقوا رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طاف بالبيت، وكذبوا ليس بسنة إن قريشا زمن الحديبية قالوا إن به وبأصحابه هزلا وقعدوا على قعيقعان ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه أرملوا أروهم أن بكم قوة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل من الحجر الأسود إلى اليماني فإذا توارى عنهم مشى)2154
الفصل الثالث
نماذج تطبيقية في الاجتهاد الخاص بآيات وأحاديث أحكام " البداية"
المبحث الأول
آيات وأحاديث " البداية "(2/63)
مما يمكن ملاحظته بخصوص ما يورده ابن رشد من الآيات أنه يطلق أحيانا (الآية) ويريد الآيات مثل آيات الفيء في سورة الحشر. وأيضا مثل قوله(وللمالكية في الآية أربعة أدلة) يقصد قوله:تعالى:(للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر (البقرة226) و قوله :تعالى :(وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (البقرة 227).
ويقول: قال تعالى، فيجمع بين الآيتين كما فعل في آيتي التحريم.وفي آيات التوبة 57-76-77 ،وكذا في آيات اللعان 6-7-8-9،ويقول أحيانا الآيات بغير أن يذكرها كما فعل في الميراث حيث قال: واسم القرابة ينطلق على ذوي الأرحام ويرى المخالف أن هذه مخصوصة بآيات المواريث:(النساء11-12-176).
وأحيانا قد يشير إلى آيتين مختلفتين بعبارة واحدة مثل قوله: آية الرضاع، فقصد بها مرة قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ ...)(البقرة:233)2155 وقصد مرة قوله تعالى:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ..) (النساء:23)2156
أو يجمع بين آيتين أو أكثر بقوله: من كذا إلى كذا مثل: فيقوله في الطلاق بلفظ الثلاث:( حكمه حكم الواحدة ظاهر قوله :تعالى الطلاق مرتان إلى قوله في الثالثة فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره)2157
وأحيانا توهم عبارته أننا بصدد آيتين، والحال أننا مع آية واحدة مثل قوله:(وعمدة الحنفية في إثبات الولاء بالموالاة قوله تعالى : (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون وقوله تعالى :والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وهي آية واحدة(النساء33)2158
وقد يجمع بين آيتين متتابعتين مثل قوله في كتاب العتق،في مسألة هل يعتق على الإنسان أحد من قرابته؟(من قال بأن البنوة صفة هي ضد العبودية وأنه ليس تجتمع معها لقوله تعالى :(وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا )2159(2/64)
أحيانا يذكر الشطر من الآية ،ويكون مشتركا بين عدد من الآيات مثل قوله في التوجه نحو بيت الله الحرام وهل المقصود جهة الكعبة أو عينها؟ (قوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام فهي مشتركة بين آيات البقرة144-149-150 ،وكذا قوله: (الرجل يريد الصلاة فيسمع الإقامة هل يسرع المشي إلى المسجد أم لا مخافة أن يفوته جزء من الصلاة) وكذا قوله تعالى:( فاستبقوا الخيرات) فهي جزء من الآية 148 من سورة البقرة و48 من سورة المائدة.
وتشتمل"البداية" على 805 آية بين ما أورده صريحا أو ألمح إليه أو كرره،فالصريح من غير تكرار215 آية وبالتكرار وصل إلى 591 آية ومجموع التلميحات214آية.وعدد الآيات التي تم استثمارها في الكتاب سواء بشكل صريح أو ما ألمح إليه إذا أزلنا مجمل التكرار هو:235 آية.
وقد احتلت سورة البقرة في الصريح منها النصيب الأوفر ب 148آية أي 25.04% ، تلتها سورة المائدة ب 111 آية أي 18.78%، تلتها سورة النساء ب 89 آية أي 15.05%،ثم سورة النور ب30 آية أي 5.07%،ثم التوبة ب 18 آية أي 3.04%، ثم الأنفال ب 17 آية ثم سورة الطلاق ب 16 آية ثم الأنعام ب 13 آية ثم الحج ب 12 آية ثم المجادلة ب 9آيات ثم كل من آل عمران والأحزاب ب 7آيات ثم كل من الأعراف و النحل ب 6آيات ثم كل من سور الفاتحة و مريم والواقعة ب 5 آيات ثم باقي السور بأقل من ذلك والتي يصل عددها مع ما سبق 54 سورة.ويظهر من خلال هذه النسب أن السور الأربعة الأولى تحتوي على ما يقارب ثلثي آيات الأحكام.
* مقارنة تقريبية بين "البداية"و"البحر الزخار" بخصوص عدد آيات الأحكام الواردة فيها:
سور وآيات "البحر" كما هي في مصحف المدينة برواية ورش
عدد الآيات
سور وآيات "البداية" كما هي في مصحف المدينة برواية ورش
عدد الآيات(2/65)
البقرة(مدنية):28-39-41-42-59-82-83-101-103-108-109-113-114-123-124-143-149-157-158-159-167-171-172-173-176-177-179-180-181-182-183-184-186-187-188-189-190--191-193-194-195-196-197-198-199-201-213-214-215-217-218-219-220-221-222-223-224-226-227-227-228-229-230-231-232-233-234-335-236-237-238-239-242-243-252-262-263-266-270-274-277-278-279-281-282-282
85
البقرة(مدنية): 66-114-147-148-157-177- 178 179-182-183-184-189- 195-196-197-201-214-217-219-220-221-224-225-226-227-228-230-231-232-234-335-236- 238-274- 279-281-282
ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:
149-150-233
41
النساء(مدنية):2-3-4-5-6-7-8-9-10-11-12-15-16-19-20-22-23-24-25-29-31-32-33-34-35-36-43-57-58-70-73-74-75-82-83-84-85-88-89-90-91-93-94-96-99-100-101-101-102-102-103-104-106-111-113-114-126-127-128-134-139-140-143-147-175
63
النساء(مدنية): -3-4-5-6-7-8-11-12-19-20-21-22-23-24-25-29-33-35-43-65-86-91-94-100-101-127-129-134-140-143-175
ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:
57-176
33
المائدة(مدنية): 1-2-3-4-5-6-7-9-33-35-36-40-44-46-47-49-50-51-53-59-65-69-81-89-91-92-97-98-99-101-103-105-107-108-109-110
36
المائدة(مدنية): 1-2-3-4-5-6-7-33-35-36-40-44-47-51- 89-91-93-96-97-98-108
ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:5
22
التوبة(مدنية): 1-2-3-4-5-6-7-11-12-13-14-15-16-17-18-23-24-28-29-34-36-37-38-41-44-45-58-59-60-74-84-85-92-93-94-104-109-112-114-121-123-124
42
التوبة(مدنية): 5-28-29-60-76-77-78-85-92-104-123
ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:57
12
النور(مدنية):2-3-(4-5)-(6-7-8-9)-17-19-22-23-27-28-29-30-31-31-31-32-33-33-33-49-54-(56-57)-58-59-59-60-61-61
27
النور(مدنية):2-4-5-6-31-32-33-36(2/66)
ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق: 3-7-8-9
12
الأنفال(مدنية):1-15-16-24-27-38-39-41-46-47-57-59-61-62-66-67-68-70-73-73-74-76
21
الأنفال(مدنية):1-11-39-41-62-67-68-76
8
النحل(مكية): 5-6-7-8-66-67-69-80-90-91-94-95-98-106-110-114-115-116-125-126
20
النحل(مكية): 8-44-50-64-67-106
ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:90
7
الحج(مكية وقيل مدنية): 23-24-25-26-27-28-29-30-31-32-33-34-37-39-75-76
16
الحج(مكية وقيل مدنية):18- 26-27-31-34-76 ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:75
7
الأنعام(مكية):53-68-107-109-119-120-121-122-142-146-147-152-153
13
الأنعام(مكية):80-120-122-142-146-147
6
الأحزاب(مدنية):4-5-6-21-28-29-30-31-32-33-35-36-37-41-42-49-50-51-52-53-55-56-59-61
24
الأحزاب(مدنية): 5-21-49-56-59
5
آل عمران(مدنية):28-76-84-91-97-104-118-130-133-159-161-187-188-191-200-
15
آل عمران(مدنية):44-97-128-133
4
الأعراف(مكية):28-29-29-30-31-84-204-205
7
الأعراف(مكية): 29-157-204- ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:206
4
الطلاق(مدنية):1-2-4-6-7
5
الطلاق(مدنية):1-2-4-6
4
مريم(مكية):58-64-93-94
4
فصلت(مكية): 33
1
فصلت(مكية): 1-25-36-37
4
الواقعة(مكية): 82-
1
الواقعة(مكية):12-13-77-82
4
الإسراء(مكية): 23-24-26-27-28-29-31-32-33-34-34-35-36-37-78-79-109-110
17
الإسراء(مكية):15- 23-108
3
الصافات(مكية)107-108-141
3
محمد(مدنية):4-21-22-36
4
محمد(مدنية):4-5-34
3
المجادلة(مدنية):2-3-4-9-11-12-13-21
8
المجادلة(مدنية):1-3 ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:2
3
الحشر(مدنية):7
1
الحشر(مدنية):6-10 ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:7
3
يوسف(مدنية):72-79
2
النمل(مكية):26-30
2
السجدة(مكية):1-15
2
الفتح(مدنية):10-17
2
الفتح(مدنية): 17-25
2
النجم(مكية): 31-
1
النجم(مكية): 1-61
2(2/67)
-الحجرات(مدنية):1-2-6-9-10-11-11-12
8
الحجرات(مدنية): 6-13
2
الجمعة(مدنية): 10
1
الجمعة(مدنية):9-10
2
المنافقون(مدنية): 9-10-
2
المنافقون(مدنية): 1-2
2
التحريم(مدنية)1-2-9-
3
التحريم(مدنية)1-2
2
العلق(مكية):1 ومما ألمح إليه من الآيات من غير ما سبق:20
2
هود(مكية):84-113-114
3
هود(مكية):64
1
الرعد(مدنية | مكية): 22-23-24-
3
الرعد(مدنية | مكية): 16
1
الأنبياء(مكية):77
1
المومنون(مكية):(2-3-4-5-6-7-8-9)-21-97-(98-99)
12
المومنون(مكية):20
1
الفرقان(مكية عند الجمهور):48-(63-64-65-66-67-68-69-70-71-72)
11
الفرقان(مكية عند الجمهور):60
1
القصص(مكية): 27
1
القصص(مكية): 27
1
العنكبوت(مكية):45-46
2
العنكبوت(مكية):67
1
ص(مكية):25-43-
2
ص(مكية):23
1
غافر(مكية):78
1
الممتحنة(مدنية):1-2-3-4-8-9-10-10-11-12-13
10
الممتحنة(مدنية): 10
1
الحاقة(مكية):6
1
المزمل(مكية): 1-2-3-7-9-18
6
المزمل(مكية): 18
1
المدثر(مكية): 1-2-3-4-5-6-7
7
المدثر(مكية): 4
1
الإنسان(مدنية):7-(8-9)-25-26
5
الإنسان(مدنية):7
1
المرسلات(مكية عند الجمهور):25
1
الانشقاق(مكية): 21
1
الانشقاق(مكية): 21
1
الطارق(مكية):1
1
الأعلى(مكية عند الجمهور):1
1
الغاشية(مكية):1
1
البينة(مدنية): 5
1
البينة(مدنية): 5
1
الماعون(مكية): 1-2-3-4-5-6
6
الماعون(مكية): 7
1
الكافرون(مكية):1
1
الإخلاص(مكية عند الجمهور):1
1
الكهف(مكية): 28
1
طه(مكية وقيل مدنية):128-129-131-
3
الشعراء(مكية عند الجمهور):181-(182-183)
3
الروم(مكية): 37
1
لقمان(مكية):(13-14)-(16-17-18)
5
الشورى(مكية): 34-35-36-37-38-39-40
7
ق(مكية): 39-40-
2
الذاريات(مكية):(17-18-19)-(54-55)
5
الطور(مكية): 46-47-
2
الرحمن(مكية): 7 -
1
الحديد(مدنية):7-10-11-
3
الصف(مدنية): 2-3-4-10-11-14
6
التغابن(مكية): 14-16
2
المعارج(مكية): 23-24-25-26-27-28-29-30-31
9
المطففين1-2-3
3(2/68)
البلد(مكية): 12-13-14-15-16-17
6
الضحى(مكية):9-10-11
3
-الكوثر(مكية): 2
1
556
235
فالجدول يبين أن "البداية" تشتمل من ناحية العدد الظاهر على ما يقارب 42% من آيات الآحكام الواردة في "البحر الزخار".ويلاحظ في "البداية" توظيف سور وآيات غير واردة في "البحر"فنجد سور:مريم،الصافات،يوسف،النمل،السجدة،الأنبياء،غافر،الحاقة،المرسلات،الطارق،الأعلى،الغاشية،العلق،الكافرون،الإخلاص أي 15 سورة.ونجد 81 آية زائدة على ما في"البحر"،وبغض النظر عن مضمون الآيات في كلا المرجعين فإن الإحصاء
الظاهر يفيد أن آيات الأحكام قد تصل إلى 637 إذا أضفنا هذه الزيادة إلى مجموع
ما في "الزخار"عوض الحديث عن 500 آية.وهذا أمر يقوي الاتجاه الذي يرى أن تحديدها من طرف بعض العلماء لا يفيد الحصر،وأن الاجتهاد في تدبر آيات الكتاب العزيز كله والتفاعل مع مستجدات الناس يوسع من دائرة ما يعتبر آيات للأحكام.كما يفيد أن طالب الاجتهاد إنما يجعل آيات الأحكام المتعارف عليها مرتكزا ومنطلقا للنظر في القرآن كله.
نماذج من توظيف آيات الأحكام:
الآيات
المسائل التي تم توظيف الآيات فيها
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءوسِكُمْ وَأَرْجُلَََََكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِنْهُ. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:7)(2/69)
أ- (الدليل على وجوب الوضوء) ب (وجوبه عند دخول وقت الصلاة ) ج- (معرفة فعل الوضوء) د-(عند غسل الوجه) ه-(عند غسل المرافق) و-(عند غسل الرجلين) ز-(دخول الكعبين في الغسل) ح - و اشتراك اسم اليد ومن اشتراك حرف إلى) قوله تعالى إلى المرافق و ط-(باب المياه، الأصل في وجوب الطهارة بالمياه) ي-(الرد على من يرى جواز الوضوء بالنبيذ) ك-( في نواقض الوضوء) ول- (الوضوء من النوم) م- (الوضوء من لمس النساء) ن -(الأفعال التي تشترط الوضوء ) ص- (الأصل في طهارة الغسل) ع-(المضمضة والاستنشاق في الغسل،حديث يفصل مجمل الآية) ف- (نواقض الغسل) ظ-( في معرفة الطهارة التي يعد التيمم بدل منها) ق-(التيمم للجنب) ر- (المريض الذي يخاف من استعمال الماء) ش- (الحاضر الذي يعدم الماء) س-( حد الأيدي التي أمر الله بمسحها في التيمم) ت-( توصيل التراب إلى أعضاء التيمم- الاشتراك الذي في حرف من) ت-(تجديد التيمم عند إرادة الصلاة الثانية )
وألمح إلى الآية في:-(القدر المجزئ في المسح-الاشتراك الذي في الباء)و -( ترتيب أفعال الوضوء و الاشتراك الذي في واو العطف) وكذا في (الموالاة في أفعال الوضوء) و(في المسح على الخفين،) ، (تيمم الجنب)وكذا(عدد الضربات على الصعيد للتيمم) وكذا (تجديد التيمم لكل صلاة)(2/70)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ.فَإِن أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ. فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ.تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة:195)
-( حكم العمرة) و( القول في حج التمتع) و(من رأى متى أحرم انعقد إحرامه) و( المكي هل يقع منه التمتع أم لا ) و( هل يجوز فسخ الحج في عمرة ) و( القول في الإحصار )-( فدية الأذى) -(القول في كفارة المتمتع)-( الهدي والواجب فيه)-( الصام سبعة أيام في الطريق بعد الحج) -(العمل في الحج الفاسد :يمضي فيه المفسد له ولا يقطعه)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُتَعَمِّداً فَجَزَاء مِثْل مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ. عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ.وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (المائدة:97)(2/71)
-( محظور الاصطياد على المحرم)-( القول في أحكام جزاء الصيد)-( اشتراط العمد في وجوب الجزاء)-( بعض الواجبات من الأمثال في بعض المصيدات )- (ما يجب في فدية الأذى- من قال الصيام عشرة أيام)-(القول فيما استيسر من الهدي هو الشاة)-( محل الهدي هو البيت العتيق) -( الكعبة لا يجوز لأحد فيها ذبح وكذلك المسجد الحرام ) -( كتاب الغصب- -الضمان- من يرى أن الواجب في ذلك المثل ولا تلزم القيمة إلا عند عدم المثل) -( محظور الاصطياد على المحرم) وكذلك (المحرم إذا قتل الصيد أن عليه الجزاء للنص في ذلك )
حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْاخِ وَبَنَاتُ الْاخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ التِي فِي حُجُورِكُم مِنْ نِسَائِكُم التِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْاخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:23)
-(النكاح- مانع النسب )-(تحريم زوجات الأبناء)-(تحريم أمهات النساء)-(تحريم بنات الزوجات)-( هل من شرط تحريم بنت الزوجة أن تكون في حجر الزوج أم ليس ذلك من شرطه )-( هل تحرم البنت بمباشرة الأم فقط أو بالوطء )-( الأم هل تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل)-( مانع الرضاع- مقدار المحرم من اللبن)-( هل يصير الرجل الذي له اللبن أعني زوج المرأة أبا للمرضع)-( مانع الجمع- لا يجمع بين الأختين بعقد نكاح)-( الجمع بينهما بملك اليمين) (مانع الجمع- الجمع بين الأختين بملك اليمين)(2/72)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْانْثَيَيْنِ.فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ.وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَة فَلَهَا النِّصْفُ.وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ.فَإِنْ لَمْ يَكُن لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ.فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ.مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُم أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً.فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ.إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:11)
-(هل تنتقض القسمة بالدين-من يرى ذلك) -( كتاب الفرائض-ميراث البنتين)-(ميراث الأولاد من والدهم ووالدتهم إن كانوا ذكورا وإناثا ... )-( إذا كان مع بنات الابن ذكر ابن ابن في مرتبتهن أو أبعد منهن-) -(ميراث الأبوين)-( الأم يحجبها الإخوة من الثلث إلى السدس)-( أقل ما يحجب الأم من الثلث إلى السدس من الإخوة )-( ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا)
-( كتاب الفرائض -ميراث ذوي الأرحام )-( الذكر والأنثى يدخلان تحت اسم الإخوة في الآية في نقل الأم إلى السدس ورفض بعضهم نقلها بالأخوات) -( فيمن أسلم على يديه رجل هل يكون ولاؤه له(2/73)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْازْلامِ.ذَلِكُمْ فِسْقٌ.الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْاسْلامَ دِيناً. فَمَن اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:4)
(المقدمة)-(ميتة الحيوان الذي لا دم له وفي ميتة الحيوان البحري وعلاقته بالنجاسة) - (حكم كثير الدم وقليله وعلاقته بالنجاسة) -( الحكم المنفوذة المقاتل ) -( ميتة الجراد ) -( اتفق على منع تذكيته فالمشركون عبدة الأصنام)
-( إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم )
- (حكم ميتة البحر)-( حكم دم الحوت)
-(تأثير الذكاة في الأصناف التي نص عليها في آية التحريم)- (تأثير الذكاة في الأصناف الخمسة التي نص عليها في الآية إذا أدركت حية)-(حكم المنفوذة المقاتل)-( الصيد بالمثقل)
وَالَّذِينَ يظَهرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:3)
-( كتاب الظهار)-( شروط وجوب الكفارة- لا تجب كفارة الظهار دون العود ) (معنى العود- ليس يمكن أن يكون العود نفسه هو وطء) -( الظهار من الأمة)-( فيما يحرم على المظاهر- من يحرم الجماع وجميع أنواع الاستمتاع)-( لا يجزىء في المذهب ما فيه شركة أو طرف حرية كالكتابة والتدبير)(2/74)
-(معنى العود)- (هل من شرط الرقبة في كفارة الظهار أن تكون مؤمنة أم لا)-( هل من شرط الرقبة أن تكون سالمة من العيوب أم لا- من يرى بأنه ليس لها تأثير)-( إذا ظاهر من امرأته ثم مسها قبل أن يكفر هل عليه كفارة واحدة أم لا)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ.هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. مِلَّةَ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ.هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ .فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ.فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:76)
-(هل المقصود جهة الكعبة أو عينها-رفع الحرج في قصد عينها)- (هل من شرط الظهار كون المظاهر منها في العصمة أم لا) -( التعميم في الظهار من باب الحرج
أحاديث أحكام "البداية":
أوصل المحققون 2160 لكتاب "الهداية في تخريج أحاديث البداية" للشيخ الحافظ أبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري ترقيم المادة الحديثية لكتاب "البداية"إلى 1799 بين ما أورده ابن رشد بشكل صريح أو ألمح إليه أو كرره أو أورده كاملا أو أورد جزءا منه، ولاحظت أن صاحب "الهداية" يورد بعض الأحاديث الموقوفة رغم التزامه في المقدمة بالاكتفاء بالحديث المرفوع حيث قال في مقدمة الكتاب:( واقتصرت فيه على الأحاديث المرفوعة،ولم أتعرض لتخريج الآثار الموقوفة).(2/75)
ومن ذلك إيراده-ضمن ما خرجه- لقول ابن رشد:( ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه وهو قوله: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا)2161.ومثال التلميح الذي أدرج في الترقيم والإحصاء:( واتفقوا في هذا الباب على انتقاض الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي لصحة الآثار في ذلك)2162 وكذلك قوله:( اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية والأكثر على أنها غير صحيحة)2163 وقوله أيضا :( للآثار التي وردت في المسح)2164 .
وقد أحصيت أحاديث "البداية" من غير تكرار فوجدتها تصل إلى:1460 ولم أعتبر من التكرار اختلاف الرواية مثل قوله :( وفي بعض رواياته (فليغسلها ثلاثا)2165 فأعتبر الأصل وهذه الرواية حديثين أو قوله في موضع آخر:( وفي بعض طرقه :أولهن بالتراب)2166 وقوله:(وفي بعضها وعفروا الثامنة في التراب) 2167فأعتبر الأصل وهذين الطريقين ثلاثة أحاديث وكذا اختلاف الرواة مثل قوله: (وحديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المرأة تحوز ثلاثة أموال عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه وحديث مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك خرج جميع ذلك أبو داود وغيره)2168
فأعتبرهما حديثين مختلفين حديث واثلة وحديث مكحول ،وكذلك في قوله في حديث ( إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ):( وهو أشهر الأحاديث الواردة في إيجاب الوضوء من مس الذكر خرجه مالك في الموطأ وصححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وضعفه أهل الكوفة، وقد روي أيضا معناه من طريق أم حبيبة وكان أحمد بن حنبل يصححه وقد روي أيضا معناه من طريق أبي هريرة وكان ابن السكن أيضا يصححه ولم يخرجه البخاري ولا مسلم)2169 اعتبرتها ثلاثة أحاديث:حديث بسرة وحديث أم حبيبة وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم ، ولم أعتبر ما كرره كاملا أو أورد جزءا منه إذا جرده من السند.وتبلغ مع التكرار حوالي 1700.(2/76)
وقد وصل المحققان لكتاب "البداية" طبعة دار الكتب العلمية لسنة 1996 علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود في ترقيم أحاديث"البداية"إلى 1224 من غير تكرار.ورغم أنهما خصصا الأحاديث بترقيم متسلسل خاص يتميز عن باقي الهوامش إلا أن الإحصاء لا يبدو مقصودا لهما فقد وجدت أحيانا يعطيان رقما واحدا لعدد من الأحاديث مثل فعليهما عند قول ابن رشد:( وذلك أنه ورد في ذلك ثلاثة أحاديث)2170 ولم يعملا على إيرادها في فهرس أطراف الحديث.كما أنهما لم يحصيا بعض طرق الحديث مثل قولهما في المثال الذي سبق ذكره أي (وفي بعض رواياته:فليغسلها ثلاثا) .
ويحدث أحيانا اختلاف في الاعتبارات فمثلا:اعتبرت في إحصائي قول ابن رشد:(صح أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا) إحالة على الأقل على ثلاث أحاديث،بينما اعتبراه في الإحصاء واحدا.وقريبا مما وجدته انتهى إليه ترقيم عبد اللطيف بن إبراهيم آل عبد اللطيف صاحب (طريق الرشد إلى تخريج أحاديث بداية ابن رشد) حيث وصل إلى 1513 غير أني وجدت فيه بعض التكرار مثل قوله عند رقم 96:(حديث عائشة وحديث أم سلمة رضي الله عنهما تقدما قريبا رقم 90و91 وكلاهما في حديث فاطمة بنت أبي حبيش)2171 .(2/77)
وكذلك قوله عند رقم 112:(حديث حمنة بنت جحش تقدم سياقه بطوله وذكر مخرجيه رقم 98)2172 كما يورد أحيانا أحاديث موقوفة على الصحابة مثل ما (روى عن عائشة أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء)2173 ولاحظت أن صاحب "الهداية" أورده بدوره رغم رده على الشوكاني في رفعه إلى النبي صلى الله عيه وسلم بقوله:(وهو وهم إنما هو قول عائشة) وكأنه بدوره يراه في حكم المرفوع.ومثاله أيضا ما أورده عند رقم319 حيث قال:( أثر ابن عمر رضي الله عنه رواه مالك في الموطأ(أنه كان إذا رعف رجع فتوضأ ولم يتكلم ثم يرجع ويبني)2174 وكذا عند رقم488 حيث قال:(أثر عمر رضي الله عنه : إن الله لم يكتب علينا السجود إلا أن نشاء)2175
وسبق أن أشرت في مبحث مصادر "البداية" إلى القيمة العلمية للأحاديث الواردة في الكتاب، وعولت على عمل الشيخ المحدث أحمد بن الصديق الغماري في كتابه:(الهداية في تخريج أحاديث البداية) والذي تتبع حالة ما يقارب ألفا وثمانمائة حديث واردة في "البداية"،فلم يخطئ ابن رشد إلا في تسعين منها،وهي نسبة على فرض التسليم وصحة كل ما قاله في ذلك، تبقى ضعيفة لا تتعدى 5%.(2/78)
وقد خطأه في حوالي عشرين موضعا في ضبط رواة الأحاديث،وفي ثلاثة عشر موضعا بالقول بأنه لم يقف على الرواية التي أوردها ابن رشد.وفي اثنتي عشر موضعا بخطئه في صيغة الحديث ، وبمثل هذا العدد بالقول بأن الحديث لم يخرجه البخاري أو مسلم في الوقت الذي حكم فيه ابن رشد بأنه أخرجه أحدهما، وفي تسعة مواضع بأن الحديث لا أصل له،وفي خمسة أخرى قال ابن رشد بعدم صحة الحديث وهو صحيح،وفي مثلها حكم ابن رشد برفع الحديث وهو موقوف،وفي ثلاثة مواضع قال بأن الحديث متفق عليه وليس كذلك،وفي موضعين صحح الحديث وهو ضعيف،وفي موضع آخر ذكر بأن الحديث ليس في الصحيحين وهو موجود، وفي موضع حكم بتواتر الحديث وهو ليس كذلك.
وأود التنبيه هنا إلى أن ابن رشد قد يتابع فيما أورد عليه ابن الصديق من ملاحظات، من قبله من علماء هذا الشأن، فهو لم يدع لنفسه أنه من أهل صناعة الحديث ،ولم يدعها له أحد. ومن ذلك ما أورده صاحب الهداية نفسه حيث ادعى ابن رشد أن المضمضة نقلت من فعله صلى الله عليه وسلم ولم تنقل من أمره فرد عليه الغماري بقوله:(بل نقلت من أمره أيضا كما نقلت من فعله) وذكر أنه ورد في ذلك حديث:(إذا توضأت فمضمض) وسنده صحيح (إلا أن هذه اللفظة لما لم يتفق عليها سائر الرواة،وذكرها أبو داود مفردة عن الحديث ،لم ينتبه لها أكثر الفقهاء فأنكروا وجود الأمر بها كما فعل ابن حزم وابن عبد البر وتبعه ابن رشد مع أن الأمر قد ورد من وجوه أخرى)2176.(2/79)
وقد سبقت الإشارة إلى سلامة المادة الحديثية في الكتاب بحيث لم يخطئ صاحب "الهداية" في تخريجه لأحاديث "البداية" إلا في نسبة لا تتعدى 5%،وقد أحصيت ما قال فيه "ثابت" و"ثبت" فوجدت 268 مرة، باعتبار قول ابن رشد:( ومتى قلت ثابت فإنما أعني به ما أخرجه البخاري أو مسلم أو ما اجتمعا عليه )2177،وقال في الحديث: صحيح أو صح 83 مرة،وقال حسن في ثلاث أحاديث وحسن صحيح في حديث واحد،وورد تضعيف الحديث 62 مرة ولم ألتفت إلى ما اختلف فيه.وأحال على البخاري: 123مرة،وعلى مسلم: 130مرة، وورد أبو داود 106مرة، وذكر مالك بصفته محدثا 95 مرة ،وأحال على الترمذي 38 مرة،وذكر النسائي عشر مرات،وأحال على أبي بكر بن أبي شيبة خمس مرات،وذكر الدارقطني مرة واحدة...
فنكون بشكل تقريبي أمام 863 حديث صحيح يحتج به في الأحكام أي بنسبة تقارب 60% من مجموع الأحاديث الواردة في "البداية"،وبين أيدينا أيضا 62 منها لا تصلح للاحتجاج أي بنسبة تقارب 4% والباقي سكت عنه،غير أنه من السياق يفهم الاحتجاج به إذ لو لم يكن كذلك لورد رده وتضعيفه من طرف غير القائلين به.
وبخصوص الطريقة التي يعتمدها في ذكر الأحاديث فهو إما يذكر الحديث رأسا إلى النبي ( مثل قوله في دليل وجوب الطهارة: (قوله عليه الصلاة والسلام لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)2178 وفيمن لا يجب عليهم الوضوء:(قوله عليه الصلاة والسلام رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق)2179 وفي حكم المياه:(قوله عليه الصلاة والسلام في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته)2180
أو يذكر جزءا منه فقط مثل:(ولقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات الحديث المشهور)2181 أو يحيل عليه بما هو مشهور به مثل قوله:( وأما أبو حنيفة فحمل أحاديث النهي على عمومها ورأى أنها ناسخة لحديث ذي اليدين وأنه متقدم عليها)2182(2/80)
أو يختصره ويذكر فقهه ومعناه مثل :(حديث صفوان بن يعلى ثبت في الصحيحين وفيه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجبة مضمخة بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب فأنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أفاق قال أين السائل عن العمرة آنفا فالتمس الرجل فأتي به فقال عليه الصلاة والسلام أما الطيب الذي بك فاغسله عنك ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع ما شئت في عمرتك كما تصنع في حجتك) قال ابن رشد بعده مباشرة( اختصرت الحديث وفقهه هو الذي ذكرت)2183
وأحيانا يذكر من خرجه،مثل قوله:( وخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى كذلك ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ثم غسل اليسرى كذلك ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ)2184
المبحث الثاني
مبررات المجتهدين في عدم إعمال النص
من القضايا المشتركة بين آيات وأحاديث الأحكام،اختلاف الفقهاء في فهم نصوصها،أو عدم إعمالها والأخذ بها،ولاتساع القول في الجانب الأول نرجئ الحديث فيه إلى المبحث الخاص بتعلم دلالات الألفاظ،أما المسألة الثانية،فيمكن الحديث فيها من خلال النقط التالية:
أ-عدم وجود نص في المسألة:
نجد في "البداية "نماذج عديدة ،لآراء الفقهاء ومذاهبهم والتي أرجعها ابن رشد إلى عدم وجود نص من القرآن أو الحديث في المسألة:
ففي الطهارة في تفريق بعض العلماء بين الخرق الكثير واليسير في الخف،قال:
( هذه المسألة هي مسكوت عنها فلو كان فيها حكم مع عموم الابتلاء به لبينه صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم)2185(2/81)
وفي مسائل الحيض قال:(فهذه هي مشهورات المسائل التي في هذا الباب وهي بالجملة واقعة في أربعة مواضع أحدها معرفة انتقال الطهر إلى الحيض والثاني معرفة انتقال الحيض إلى الطهر والثالث معرفة انتقال الحيض إلى الاستحاضة والرابع معرفة انتقال الاستحاضة إلى الحيض وهو الذي وردت فيه الأحاديث وأما الثلاثة فمسكوت عنها أعني عن تحديدها وكذلك الأمر في انتقال النفاس إلى الاستحاضة)2186
وفي الإمام الفاسق قال:( ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه بتأويل أو يكون بغير تأويل مثل الذي يشرب النبيذ ويتأول أقوال أهل العراق فأجازوا الصلاة وراء المتأول ولم يجيزوها وراء غير المتأول وسبب اختلافهم في هذا أنه شيء مسكوت عنه في الشرع)2187
واختلفوا متى يستحب أن يقام إلى الصلاة هل في أول الإقامة أوعند قوله: قد قامت الصلاة ،فقال ابن رشد في هذا الخلاف :(وليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة أنه قال عليه الصلاة والسلام إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني فإن صح هذا وجب العمل به و إلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه أعني أنه ليس فيها شرع وأنه متى قام كل فحسن)2188
وفي فريضة الجمعة اختلفوا هل من شرط المسجد الذي تقام فيه السقف أم لا ؟ وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا ؟ قال ابن رشد:( وهذا كله لعله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر ولقائل أن يقول إن هذه لو كانت شروطا في صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنها عليه الصلاة والسلام)2189
ووقع اختلاف كثير في مسألة المدة التي تستوجب من المسافر الإتمام متى يتم المسافر حيث حكى أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، قال ابن رشد:(وسبب الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع)2190
فأما من له أن يصلي جالسا فإن قوما قالوا هذا الذي لا يستطيع القيام أصلا وقوم قالوا هو الذي يشق عليه القيام من المرض،قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم هو هل يسقط فرض القيام مع المشقة أو مع عدم القدرة وليس في ذلك نص)2191(2/82)
واختلفوا في وقت التكبير في عيد الفطر بعد أن أجمع على استحبابه الجمهور،قال ابن رشد:(وبالجملة فالخلاف في ذلك كثير حكى ابن المنذر فيها عشرة أقوال وسبب اختلافهم في ذلك هو أنه نقلت بالعمل ولم ينقل في ذلك قول محدود)2192
وفي غسل الميت اختلفوا في تقليم أظفار الميت والأخذ من شعره( فقال قوم تقلم أظفاره ويؤخذ منه وقال قوم لا تقلم أظفاره ولا يؤخذ من شعره وليس فيه أثر)2193
واختلفوا في ترتيب جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعوا عند الصلاة،قال ابن رشد:
( وسبب الخلاف ما يغلب على الظن باعتبار أحوال الشرع من أنه يجب أن يكون في ذلك شرع محدود مع أنه لم يرد في ذلك شرع يجب الوقوف عنده ولذلك رأى كثير من الناس أنه ليس في أمثال هذه المواضع شرع أصلا وأنه لو كان فيها شرع لبين للناس)2194
وفي الزكاة قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم في نصاب الذهب أنه لم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في نصاب الفضة )2195
وفي ضم الذهب إلى الفضة في الزكاة في شأن الاختلاف الكبير الواقع بين الفقهاء قال ابن رشد:( وسبب هذا الارتباك ما راموه من أن يجعلوا من شيئين نصابهما مختلف في الوزن نصابا واحدا، وهذا كله لا معنى له. ولعل من رام ضم أحدهما إلى الآخر فقد أحدث حكما في الشرع حيث لا حكم لأنه قد قال بنصاب ليس هو بنصاب ذهب ولا فضة، ويستحيل في عادة التكليف والأمر بالبيان أن يكون في أمثال هذه الأشياء المحتملة حكم مخصوص فيسكت عنه الشارع حتى يكون سكوته سببا لأن يعرض فيه من الاختلاف ما مقداره هذا المقدار والشارع إنما بعث صلى الله عليه وسلم لرفع الاختلاف)2196(2/83)
و في وقت الزكاة بعد اتفاق جمهور الفقهاء على اشتراط الحول اختلفوا في وقت أدائها قال ابن رشد ( وسبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت)2197 وبخصوص الصيام في اعتبار وقت الرؤية فإنهم اتفقوا على أنه إذا رئي من العشي أن الشهر من اليوم الثاني واختلفوا إذا رئي في سائر أوقات النهار قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم ترك اعتبار التجربة فيما سبيله التجربة والرجوع إلى الأخبار في ذلك وليس في ذلك أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام يرجع إليه)2198
وأرجع ابن رشد سبب اختلاف الفقهاء في مسائل من الصيام مثل الحقنة وغيرها على أنها مسكوت عنها،فقال:(أما المسكوت عنها إحداها فيما يرد الجوف مما ليس بمغذ وفيما يرد الجوف من غير منفذ الطعام والشراب مثل الحقنة وفيما يرد باطن سائر الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة)2199
وفي مسألة الإطعام على من وجب في الصيام إذا أيسر وكان معسرا في وقت الوجوب فإن الأوزاعي قال لا شيء عليه إن كان معسرا وأما الشافعي فتردد في ذلك (والسبب في اختلافهم في ذلك أنه حكم المسكوت عنه فيحتمل أن يشبه بالديون فيعود الوجوب عليه في وقت الإثراء ويحتمل أن يقال لو كان ذلك واجبا عليه لبينه له عليه الصلاة والسلام)2200
وفي الاعتكاف بخصوص العمل الذي يخصه ففيه اختلاف ،قيل إنه الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب. وقيل جميع أعمال القرب والبر المختصة بالآخرة. وعلى هذا المذهب يشهد الجنائز ويعود المرضى ويدرس العلم وعلى المذهب الأول لا يأتي شيئا من ذلك،يقول ابن رشد:(وسبب اختلافهم أن ذلك شيء مسكوت عنه أعني أنه ليس فيه حد مشروع بالقول )2201(2/84)
واختلفوا في نذر الاعتكاف المتتابع في الأشياء التي إذا قطعت الاعتكاف أوجبت الاستئناف أو البناء مثل المرض والجنون والإغماء، قال ابن رشد:( والسبب في اختلافهم في هذا الباب أنه ليس في هذه الأشياء شيء محدود من قبل السمع فيقع التنازع من قبل تشبيههم ما اتفقوا عليه بما اختلفوا فيه)2202
واختلفوا في بعض مسائل الحج مثلما إذا كان الإمام مكيا هل يقصر بمنى الصلاة يوم التروية وبعرفة يوم عرفة وبالمزدلفة ليلة النحر إن كان من أحد هذه المواضع (فقال مالك والأوزاعي وجماعة سنة هذه المواضع التقصير سواء أكان من أهلها أو لم يكن وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وداود لا يجوز أن يقصر من كان من أهل تلك المواضع وحجة مالك أنه لم يرو أن أحدا أتم الصلاة معه صلى الله عليه وسلم أعني بعد سلامه منها وحجة الفريق الثاني البقاء على الأصل المعروف أن القصر لا يجوز إلا للمسافر حتى يدل الدليل على التخصيص)2203
وفي مسائل الجزية اختلفوا في وجوبها في المجنون وفي المقعد وفي الشيخ وأهل الصوامع وهل يتبع بها الفقير دينا متى أيسر أم لا،قال ابن رشد:( وكل هذه مسائل اجتهادية ليس فيها توقيت شرعي)2204
و في الأضاحي اختلفوا ( في فرع مسكوت عنه وهو متى يذبح من ليس له إمام من أهل القرى فقال مالك يتحرون ذبح أقرب الأئمة إليهم وقال الشافعي يتحرون قدر الصلاة والخطبة ويذبحون وقال أبو حنيفة من ذبح من هؤلاء بعد الفجر أجزأه وقال قوم بعد طلوع الشمس)2205
و في نفس سياق سكوت الشرع في هذا المجال اختلف أصحاب مالك إذا لم يذبح الإمام في المصلى فقال قوم يتحرى ذبحه بعد انصرافه وقال قوم ليس يجب ذلك2206
وفي الذكاة بخصوص الاختلاف فيما يجزئ في قطع الحلقوم والودجان والمريء يقول ابن رشد:( وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك شرط منقول وإنما جاء في ذلك أثران أحدهما يقتضي إنهار الدم فقط والآخر يقتضي قطع الأوداج مع إنهار الدم )2207(2/85)
وقال ابن رشد في شأن اختلاف العلماء في الولاية هل هي شرط من شروط صحة النكاح أم ليست بشرط: ( وسبب اختلافهم أنه لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح فضلا عن أن يكون في ذلك نص بل الآيات والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة، وكذلك الآيات والسنن التي يحتج بها من يشترط إسقاطها هي أيضا محتملة في ذلك والأحاديث مع كونها محتملة في ألفاظها مختلف في صحتها إلا حديث ابن عباس وإن كان المسقط لها ليس عليه دليل لأن الأصل براءة الذمة)2208
وفي الميراث اتفق العلماء أن البنات إذا انفردن في الميراث فكانت واحدة أن لها النصف وإن كن ثلاثا فما فوق فلهن الثلثان واختلفوا في الاثنتين:( فذهب الجمهور إلى أن لهما الثلثين وروي عن ابن عباس أنه قال للبنتين النصف والسبب في اختلافهم تردد المفهوم في قوله تعالى:( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) هل حكم الاثنتين المسكوت عنه يلحق بحكم الثلاثة أو بحكم الواحدة والأظهر من باب دليل الخطاب أنهما لاحقان بحكم الثلاثة أو بحكم الواحدة وقد قيل إن المشهور عن ابن عباس مثل قول الجمهور)2209
وفي الديات اختلف العلماء في أسنان الإبل في دية الخطأ، فقال مالك والشافعي هي أخماس، وقال أبو حنيفة وأصحابه بالتخميس إلا أنهم جعلوا مكان ابن لبون ذكر ابن مخاض ذكرا (وروي عن ابن مسعود الوجهان جميعا وروي عن سيدنا علي أنه جعلها أرباعا أسقط منها الخمس والعشرين بني لبون وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ولا حديث في ذلك مسند فدل على الإباحة والله أعلم كما قال أبو عمر بن عبد البر )2210
عدم صحة النص كعدمه:
ويلحق بفقدان النص عدم قيام الحجة بقبوله لضعفه عند المجتهد،وفي ذلك نماذج كثيرة جدا،نورد بعض الأمثلة منها:(2/86)
تخليل اللحية في مذهب مالك ليست واجبة( وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الوضوء وأوجبه ابن عبد الحكم من أصحاب مالك وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية والأكثر على أنها غير صحيحة مع أن الآثار الصحاح التي ورد فيها صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام ليس في شيء منها التخليل)2211
وفي الوضوء من الضحك قال ابن رشد( شذ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة لمرسل أبي العالية وهو أن قوما ضحكوا في الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء والصلاة، ورد الجمهور هذا الحديث لكونه مرسلا ولمخالفته للأصول وهو أن يكون شيء ما ينقض الطهارة في الصلاة ولا ينقضها في غير الصلاة وهو مرسل )2212
وفي الوضوء من حمل الميت قوله:( وقد شذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميت وفيه أثر ضعيف من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ)2213
وفي مرور الجنب بالمسجد من (رأى أن في الآية محذوفا أجاز المرور للجنب في المسجد ومن لم ير ذلك لم يكن عنده في الآية دليل على منع الجنب الإقامة في المسجد وأما من منع العبور في المسجد، فلا أعلم له دليلا إلا ظاهر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ولا أحل المسجد لجنب ولا حائض وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث)2214(2/87)
وفي حكم من يأتي زوجته الحائض، اختلف الفقهاء بين الاستغفار والتصدق بدينار أو نصف دينار، قال ابن رشد:( وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في ذلك أو وهيها وذلك أنه روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض أنه يتصدق بدينار وروي عنه بنصف دينار وكذلك روي أيضا في حديث ابن عباس هذا أنه إن وطىء في الدم فعليه دينار وإن وطىء في انقطاع الدم فنصف دينار وروي في هذا الحديث يتصدق بخمسي دينار وبه قال الأوزاعي فمن صح عنده شيء من هذه الأحاديث صار إلى العمل بها ومن لم يصح عنده شيء منها وهم الجمهور عمل على الأصل الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل)2215
وبخصوص السترة بين المصلي والقبلة اتفق العلماء على استحبابها إذا صلى منفردا كان أو إماما واختلفوا في الخط إذا لم يجد سترة( فقال الجمهور ليس عليه أن يخط وقال أحمد بن حنبل يخط خطا بين يديه وسبب اختلافهم، اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في الخط والأثر رواه أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يكن فلينصب عصا فإن لم تكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره من مر بين يديه خرجه أبو داود وكان أحمد بن حنبل يصححه والشافعي لا يصححه وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى لغير سترة والحديث الثابت أنه كان يخرج له العنزة)2216
بعض القواعد في غياب النص:
ما لم يثبت فيه أثر وجب أن يتمسك فيه بالإجماع:
اختلف العلماء في الزكاة في السائمة من الإبل والبقر والغنم من غير السائمة منها (وذهب أبو محمد بن حزم إلى أن المطلق يقضي على المقيد وأن في الغنم سائمة وغير سائمة الزكاة وكذلك في الإبل، لقوله عليه الصلاة والسلام: ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة وأن البقر لما لم يثبت فيها أثر وجب أن يتمسك فيها بالإجماع وهو أن الزكاة في السائمة منها فقط )2217
من يلجأ إلى فعل الصحابي في غياب النص:(2/88)
اختلف العلماء هل يجب العشر على الكفار في الأموال التي يتجرون بها إلى بلاد المسلمين بنفس التجارة أو الإذن إن كانوا حربيين أم لا تجب إلا بالشرط ،قال ابن رشد:( وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة يرجع إليها وإنما ثبت أن عمر بن الخطاب فعل ذلك بهم فمن رأى أن فعل عمر هذا إنما فعله بأمر كان عنده في ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب أن يكون ذلك سنتهم ومن رأى أن فعله هذا كان على وجه الشرط إذ لو كان على غير ذلك لذكره قال ليس ذلك بسنة لازمة لهم إلا بالشرط)2218
ما لم يرد فيه نص يطلب حكمه من طريق القياس:
قال ابن رشد في اختلاف الفقهاء في وقص البقر:(وسبب اختلاف فقهاء الأمصار في الوقص في البقر أنه جاء في حديث معاذ هذا أنه توقف في الأوقاص وقال حتى أسأل فيها النبي عليه الصلاة والسلام فلما قدم عليه وجده قد توفي صلى الله عليه وسلم فلما لم يرد في ذلك نص طلب حكمه من طريق القياس)2219
الصحابة لا يقيسون إلا إذا عدموا النص:
ذكر ابن رشد من سبب اختلاف فقهاء الأمصار في الوقص في البقر أنه جاء في حديث معاذ أنه توقف في الأوقاص وقال حتى أسأل فيها النبي عليه الصلاة والسلام فلما قدم عليه وجده قد توفي صلى الله عليه وسلم فلما لم يرد في ذلك نص طلب حكمه من طريق القياس فمن قاسها على الإبل والغنم لم ير في الأوقاص شيئا ومن قال إن الأصل في الأوقاص الزكاة إلا ما استثناه الدليل من ذلك وجب أن لا يكون عنده في البقر وقص إذ لا دليل هنالك من إجماع ولا غيره2220 .
إذا فقد النص تم الرجوع إلى البراءة من التكليف:(2/89)
ففي استقبال القبلة بالذبيحة فإن قوما استحبوا ذلك وقوما أوجبوه وقوما كرهوا أن لا يستقبل بها القبلة والكراهية (والمنع موجودان في المذهب وهي مسألة مسكوت عنها والأصل فيها الإباحة إلا أن يدل الدليل على اشتراط ذلك وليس في الشرع شيء يصلح أن يكون أصلا تقاس عليه هذه المسألة إلا أن يستعمل فيها قياس مرسل )2221 وفي قول ابن رشد إشارة إلى العودة إلى أصل عدم التكليف بالتوجه بالذبيحة إلى جهة بعينها فتباح جميع الجهات،ولا يتم التعيين إلا بنص وقد عدم في هذه المسألة.
من لا يرى تحريم ما لم يرد فيه نص:
ففي الأطعمة بخصوص ما تستخبثه النفوس كالحشرات والضفادع والسرطانات والسلحفاة وما في معناها حرمها الشافعي وأباحها الغير ومن الفقهاء من كرهها فقط ،قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ينطلق عليه اسم الخبائث في قوله تعالى:( ويحرم عليهم الخبائث) فمن رأى أنها المحرمات بنص الشرع لم يحرم من ذلك ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص ومن رأى أن الخبائث هي ما تستخبثه النفوس قال هي محرمة وأما ما حكاه أبو حامد عن الشافعي في تحريمه الحيوان المنهي عن قتله كالخطاف والنحل زعم فإني لست أدري أين وقعت الآثار الواردة في ذلك ولعلها في غير الكتب المشهورة)2222
ما هو مسكوت عنه في الشرع كثير يحتاج إلى قانون يضبط اجتهاد النظار:
يقول ابن رشد في بعض أبواب الفقه:(وأما المسائل المسكوت عنها في هذا الباب المختلف فيها بين فقهاء الأمصار فكثيرة لكن نذكر منها أشهرها لتكون كالقانون للمجتهد النظار)2223
ولاشك أن الاختلاف في مثل هذه المسائل يحسم بإثبات وجود نص شرعي معتبر في المسألة،فيكون سبب الخلاف عندئذ هو عدم الإطلاع على النص وليس عدم وجوده.
ب-عدم الاطلاع على الحديث:
ومن أمثلة ذلك:(2/90)
اختلاف العلماء في المسح على الجوربين فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم، قال ابن رشد في سبب اختلافهم:(فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه ومن صح عنده الأثر أو جوز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين وهذا الأثر لم يخرجه الشيخان أعني البخاري ومسلم وصححه الترمذي)2224
وقال فيمن لم يجز لواحد من الزوجين أن يتطهر بفضل صاحبه ولا يشرعان معا ( فلعله لم يبلغه من الأحاديث إلا حديث الحكم الغفاري وقاس الرجل على المرأة وأما من نهى عن سؤر المرأة الجنب والحائض فقط فلست أعلم له حجة إلا أنه مروي عن بعض السلف أحسبه عن ابن عمر)2225
واختلف الصدر الأول في الرجل يريد الصلاة فيسمع الإقامة هل يسرع المشي إلى المسجد أم لا مخافة أن يفوته جزء من الصلاة فروي عن عمر وابن عمر وابن مسعود أنهم كانوا يسرعون المشي إذا سمعوا الإقامة وروي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا لا يرون السعي بل أن تؤتى الصلاة بوقار وسكينة وبهذا القول قال فقهاء الأمصار لحديث أبي هريرة الثابت إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة،قال ابن رشد:(ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك أنه لم يبلغهم هذا الحديث أو رأوا أن الكتاب يعارضه لقوله تعالى فاستبقوا الخيرات...)2226(2/91)
و اختلفوا في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب بين الوجوب على كل حال وتجويز بعض القضايا الاستثنائية كالتشميت ورد السلام قال ابن رشد:(وإنما صار الجمهور لوجوب الإنصات لحديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت وأما من لم يوجبه فلا أعلم لهم شبهة إلا أن يكونوا يرون أن هذا الأمر قد عارضه دليل الخطاب في قوله تعالى:" وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون أي أن ما عدا القرآن فليس يجب له الإنصات وهذا فيه ضعف والله أعلم والأشبه أن يكون هذا الحديث لم يصلهم)2227
وقال عمن أجاز من الفقهاء ركعتي الفجر في المسجد والصلاة تقام:( فالسبب في ذلك أحد أمرين إما أنه لم يصح عنده هذا الأثر أو لم يبلغه، قال أبو بكر بن المنذر هو أثر ثابت أعني قوله عليه الصلاة والسلام إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وكذلك صححه أبو عمر بن عبد البر)2228
وفي مسألة السن الواجب من الإبل الواجبة في الزكاة وعند المزكي السن الذي فوق هذا السن أو تحته ( فإن مالكا قال يكلف شراء ذلك السن وقال قوم بل يعطي السن الذي عنده وزيادة عشرين درهما إن كان السن الذي عنده أحط أو شاتين وإن كان أعلى دفع إليه المصدق عشرين درهما أو شاتين وهذا ثابت في كتاب الصدقة فلا معنى للمنازعة فيه ولعل مالكا لم يبلغه هذا الحديث وبهذا الحديث قال الشافعي وأبو ثور)2229
اتفق العلماء على وجوب كفارة انتهاك حرمة رمضان بالجماع للحديث الوارد في ذلك،وقال ابن رشد:(وشذ قوم فلم يوجبوا على المفطر عمدا بالجماع إلا القضاء فقط إما لأنه لم يبلغهم هذا الحديث وإما لأنه لم يكن الأمر عزمة في هذا الحديث لأنه لو كان عزمة لوجب إذا لم يستطع الإعتاق أو الإطعام أن يصوم ولا بد إذا كان صحيحا على ظاهر الحديث وأيضا لو كان عزمة لأعلمه عليه الصلاة والسلام أنه إذا صح أنه يجب عليه الصيام أن لو كان مريضا)2230(2/92)
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر) قال ابن رشد:( إلا أن مالكا كره ذلك إما مخافة أن يلحق الناس برمضان ما ليس في رمضان وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده وهو الأظهر وكذلك كره مالك تحري صيام الغرر مع ما جاء فيها من الأثر مخافة أن يظن الجهال بها أنها واجبة وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام...)2231
واختلف العلماء في ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا،فتشبث بعضهم بعموم قوله تعالى:( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) فقالوا هذه أم وكل أم لها الثلث فهذه لها الثلث، واعتمد آخرون: ما روي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألحق ولد الملاعنة بأمه وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثته وحديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المرأة تحوز ثلاثة أموال عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه وحديث مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك خرج جميع ذلك أبو داود وغيره.
قال ابن رشد:( هذه الآثار المصير إليها واجب لأنها قد خصصت عموم الكتاب والجمهور على أن السنة يخصص بها الكتاب ولعل الفريق الأول لم تبلغهم هذه الأحاديث أو لم تصح عندهم وهذا القول مروي عن ابن عباس وعثمان وهو مشهور في الصدر الأول واشتهاره في الصحابة دليل على صحة هذه الآثار فإن هذا ليس يستنبط بالقياس والله أعلم)2232
ج-القول بأن النص منسوخ:
ومن أمثلة ذلك:(2/93)
اختلاف العلماء في حكم مس الذكر من جهة نقضه الوضوء أو عدم نقضه، فذهب العلماء في تأويل الأحاديث الواردة في الباب ( إما مذهب الترجيح أو النسخ وإما مذهب الجمع، فمن رجح حديث بسرة أو رآه ناسخا لحديث طلق بن علي، قال: بإيجاب الوضوء من مس الذكر ومن رجح حديث طلق بن علي أسقط وجوب الوضوء من مسه ومن رام أن يجمع بين الحديثين أوجب الوضوء منه في حال ولم يوجبه في حال)2233
وفي قراءة القرآن لغير المتوضئ ذهب الجمهور إلى الجواز وقال قوم لا يجوز ذلك له إلا أن يتوضأ،قال ابن رشد:(وسبب الخلاف حديثان متعارضان ثابتان أحدهما حديث أبي جهم قال أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم إنه رد عليه الصلاة والسلام السلام والحديث الثاني حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة، فصار الجمهور إلى أن الحديث الثاني ناسخ للأول وصار من أوجب الوضوء لذكر الله إلى ترجيح الحديث الأول)2234
وفي الغسل من التقاء الختانين من غير إخراج المني ذهب العلماء في الحديثين الواردين( مذهبين أحدهما مذهب النسخ والثاني مذهب الرجوع إلى ما عليه الاتفاق عند التعارض الذي لا يمكن الجمع فيه ولا الترجيح، فالجمهور رأوا أن حديث أبي هريرة ناسخ لحديث عثمان ومن الحجة لهم على ذلك ما روى عن أبي بن كعب أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل خرجه أبو داود.وأما من رأى أن التعارض بين هذين الحديثين هو مما لا يمكن الجمع فيه بينهما ولا الترجيح فوجب الرجوع عنده إلى ما عليه الاتفاق وهو وجوب الماء من الماء وقد رجح الجمهور حديث أبي هريرة من جهة القياس قالوا وذلك أنه لما وقع الإجماع على أن مجاورة الختانين توجب الحد وجب أن يكون هو الموجب للغسل )2235(2/94)
ذهب الفقهاء في تأويل أحاديث العمل في الاستحاضة( أربعة مذاهب: مذهب النسخ ومذهب الترجيح ومذهب الجمع ومذهب البناء (...) وأما من ذهب مذهب النسخ فقال: إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة واستدل على ذلك بما روي عن عائشة أن سهلة بنت سهيل استحيضت وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد وتغتسل ثالثا للصبح)2236
وعن سبب الاختلاف في وقت صلاة المغرب بين المضيق والموسع أورد ابن رشد مستند كل واحد من الأحاديث ثم قال عن بعضهم :( قالوا وحديث بريدة أولى لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات وحديث جبريل كان في أول الفرض بمكة)2237
وفي الصلاة بعد صلاة العصر من(رجح حديث أبي هريرة قال بالمنع ومن رجح حديث عائشة أو رآه ناسخا لأنه العمل الذي مات عليه صلى الله عليه وسلم قال بالجواز، وحديث أم سلمة يعارض حديث عائشة وفيه أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر فسألته عن ذلك فقال إنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما هاتان)2238
وفي الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الآخر رأى الجمهور جواز ذلك فمن( ذهب مذهب النسخ قال حديث عبد الله بن زيد متقدم وحديث الصدائي متأخر ومن ذهب مذهب الترجيح قال حديث عبد الله بن زيد أثبت لأن حديث الصدائي انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم)2239
احتج من لم ير إعادة على من أخطأ جهة القبلة بالأثر الوارد عن عامر بن ربيعة قال:( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء في سفر فخفيت علينا القبلة فصلى كل واحد منا إلى وجه وعلمنا فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مضت صلاتكم ونزلت ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)(2/95)
قال ابن رشد:( وعلى هذا فتكون هذه الآية محكمة وتكون فيمن صلى فانكشف له أنه صلى لغير القبلة والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى:( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) فمن لم يصح عنده هذا الأثر قاس ميقات الجهة على ميقات الزمان ومن ذهب مذهب الأثر لم تبطل صلاته)2240
ومن العلماء من أجاز الصلاة في كل موضع لا تكون فيه نجاسة، ومنهم من استثنى من ذلك سبعة مواضع: المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله ومنهم من استثنى من ذلك المقبرة فقط ومنهم من استثنى المقبرة والحمام ومنهم من كره الصلاة في هذه المواضع المنهي عنها ولم يبطلها وهو أحد ما روي عن مالك ،ولورود أحاديث في ذلك ظاهرها التعارض.
قال ابن رشد:( فذهب الناس في هذه الأحاديث ثلاثة مذاهب أحدها مذهب الترجيح والنسخ والثاني مذهب البناء أعني بناء الخاص على العام والثالث مذهب الجمع فأما من ذهب مذهب الترجيح والنسخ فأخذ بالحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال هذا ناسخ لغيره لأن هذه هي فضائل له عليه الصلاة والسلام وذلك مما لا يجوز نسخه )2241
وفي شأن حكم الكلام الذي يصلح الصلاة والذي يرى الجمهور جوازه قال ابن رشد:(وأما أبو حنيفة فحمل أحاديث النهي على عمومها ورأى أنها ناسخة لحديث ذي اليدين وأنه متقدم عليها)2242(2/96)
اختلف العلماء إذا كان المأموم صحيحا فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا،وقد أورد ابن رشد حديثين في الموضوع وقال:( فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين: مذهب النسخ ومذهب الترجيح، فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا إن ظاهر حديث عائشة وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤم الناس وأن أبا بكر كان مسمعا لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة وإن الناس كانوا قياما وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالسا فوجب أن يكون هذا من فعله عليه الصلاة والسلام إذ كان آخر فعله ناسخا لقوله وفعله المتقدم،وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد اضطربت الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر وأما مالك فليس له مستند من السماع لأن كلا الحديثين اتفقا على جواز إمامة القاعد)2243
اختلف العلماء في جواز صلاة الخوف بعد النبي عليه الصلاة والسلام وفي صفتها فأكثر العلماء على أن صلاة الخوف جائزة (وقد ذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إلى وقت الأمن كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق والجمهور على أن ذلك الفعل يوم الخندق كان قبل نزول صلاة الخوف وأنه منسوخ بها)2244
وفي قضاء الصلاة،قال ابن رشد:(وإنما صار الجميع إلى استحسان الترتيب في المنسيات إذا لم يخف فوات الحاضرة لصلاته عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس يوم الخندق مرتبة وقد احتج بهذا من أوجب القضاء على العامد ولا معنى لهذا فإن هذا منسوخ وأيضا فإنه كان تركا لعذر)2245(2/97)
وفي الجنائز قال ابن رشد:(وأكثر العلماء على أن القيام إلى الجنازة منسوخ بما روى مالك من حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز ثم جلس (...) واختلف الذين رأوا أن القيام منسوخ في القيام على القبر في وقت الدفن فبعضهم رأى أنه لم يدخل تحت النهي وبعضهم رأى أنه داخل تحت النهي على ظاهر اللفظ ومن أخرجه من ذلك احتج بفعل علي في ذلك وذلك أنه روى النسخ وقام على قبر ابن المكفف فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين فقال قليل لأخينا قيامنا على قبره )2246
وفي عدد تكبيرات صلاة الجنازة ذهب الجمهور على أنها أربع،روى مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال كان زيد بن أرقم يكبر على الجنائز أربعا وأنه كبر على جنازة خمسا فسألناه فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي فصف الناس وراءه وكبر أربعا ثم ثبت صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله ،قال ابن رشد(وهذا فيه حجة لائحة للجمهور)2247
وفي زكاة الفطر فإن الجمهور (على أنها فرض وذهب بعض المتأخرين من أصحاب مالك إلى أنها سنة وبه قال أهل العراق وقال قوم هي منسوخة بالزكاة )2248
وفي صوم المريض والمسافر هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا فذهب الجمهور إلى إجزائه،قال ابن رشد :(أما الجمهور فيحتجون لمذهبهم بما ثبت من حديث أنس قال سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم وبما ثبت عنه أيضا أنه قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم.(2/98)
وأهل الظاهر يحتجون لمذهبهم بما ثبت عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر فأفطر الناس وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا وهذا يدل على نسخ الصوم قال أبو عمر والحجة على أهل الظاهر إجماعهم على أن المريض إذا صام أجزأه صومه)2249
وعن الاختلاف في صيام يوم السبت تطوعا قال ابن رشد:(فالسبب في اختلافهم فيه اختلافهم في تصحيح ما روي عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم خرجه أبو داود قالوا والحديث منسوخ نسخه حديث جويرية بنت الحارث أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال صمت أمس فقالت لا فقال تريدين أن تصومي غدا قالت لا قال فأفطري)2250
وفي حكم الأسرى ذكر ابن رشد أن من رأى في قوله تعالى:( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) الآية نسخ ( لفعله قال لا يقتل الأسير ومن رأى أن الآية ليس فيها ذكر لقتل الأسير ولا المقصود منها حصر ما يفعل بالأسارى بل فعله عليه الصلاة والسلام وهو حكم زائد على ما في الآية ويحط العتب الذي وقع في ترك قتل أسارى بدر قال بجواز قتل الأسير والقتل إنما يجوز إذا لم يكن يوجد بعد تأمين وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين)2251(2/99)
وفي الاختلاف في قتل ما عدا النساء والصبيان في الحرب،قال ابن رشد(السبب الأملك في الاختلاف في هذه المسألة معارضة قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) لقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم )الآية. فمن رأى أن هذه ناسخة لقوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم لأن القتال أولا إنما أبيح لمن يقاتل قال الآية على عمومها ومن رأى أن قوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وهي محكمة وأنها تتناول هؤلاء الأصناف الذين لا يقاتلون استثناها من عموم تلك)2252 ثم أورد أدلة كل فريق من السنة.
و في شرط الحرب هل يجب تكرار الدعوة عند تكرار الحرب قال ابن رشد :(والسبب في اختلافهم معارضة القول للفعل وذلك أنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا بعث سرية قال لأميرها إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.
وثبت من فعله عليه الصلاة والسلام أنه كان يبيت العدو ويغير عليهم مع الغدوات فمن الناس وهم الجمهور من ذهب إلى أن فعله ناسخ لقوله وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام قبل أن تنتشر الدعوة بدليل دعوتهم فيه إلى الهجرة ومن الناس من رجح القول على الفعل وذلك بأن حمل الفعل على الخصوص ومن استحسن الدعاء فهو وجه من الجمع)2253(2/100)
وفي جواز المهادنة والصلح قال ابن رشد عن سبب اختلافهم (معارضة ظاهر قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر لقوله تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح قال لا يجوز الصلح إلا من ضرورة ومن رأى
أن آية الصلح مخصصة لتلك قال الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام..)2254
وفي حكم النفل قال ابن رشد:(فمن رأى أن قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ناسخا لقوله تعالى يسألونك عن الأنفال قال لا نفل إلا من الخمس أو من خمس الخمس)2255 (وقال قوم إن نفل الإمام السرية جميع ما غنمت جاز مصيرا إلى أن آية الأنفال غير منسوخة بل محكمة وأنها على عمومها غير مخصصة)2256
وفي حكم ما افتتحه المسلمون من الأرض عنوة قال ابن رشد:(وينبغي أن تعلم أن قول من قال إن آية الفيء وآية الغنيمة محمولتان على الخيار وأن آية الفيء ناسخة لآية الغنيمة أو مخصصة لها أنه قول ضعيف جدا إلا أن يكون اسم الفيء والغنيمة يدلان على معنى واحد فإن كان ذلك فالآيتان متعارضتان لأن آية الأنفال توجب التخميس وآية الحشر توجب القسمة دون التخميس فوجب أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى أو يكون الإمام مخيرا بين التخميس وترك التخميس وذلك في جميع الأموال المغنومة(...) ويجب على مذهب من يريد أن يستنبط من الجمع بينهما ترك قسمة الأرض وقسمة ما عدا الأرض أن تكون كل واحدة من الآيتين مخصصة بعض ما في الأخرى أو ناسخة له حتى تكون آية الأنفال خصصت من عموم آية الحشر ما عدا الأرضين...)2257(2/101)
وفي الذكاة في حكم التسمية على الذبيحة قال مالك هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان فذهب مالك إلى أن قوله تعالى:( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ناسخ هشام عن أبيه أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله إن ناسا من البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله عليها أم لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سموا الله عليها ثم كلوها( وتأول أن هذا الحديث كان في أول الإسلام)2258
وفي أكل الشحوم من ذبائح أهل الكتاب ( قال القاضي: والحق أن ما حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع فيجب أن لا يراعي اعتقادهم في ذلك ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا واعتقاد شريعتنا لا يصح منهم وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به فذبائحهم والله أعلم جائزة لنا على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم)2259
وفي متعلقات النبيذ قال أبو حنيفة وأصحابه لا بأس بالانتباذ في جميع الظروف والأواني،وروى مالك عن ابن عمر في الموطأ أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الانتباذ في الدباء والمزفت وجاء في حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق شريك عن سماك أنه قال كنت نهيتكم أن تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فانتبذوا ولا أحل مسكرا، قال ابن رشد:(فمن رأى أن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ في هذه الأواني إذ لم يعلم ههنا نهي ذلك قال يجوز الانتباذ في كل شيء ومن قال إن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ مطلقا قال بقي النهي عن الانتباذ في هذه الأواني)2260(2/102)
وفي الرضاع في شأن مقدار المحرم من اللبن فإن قوما قالوا فيه بعدم التحديد وقالت طائفة بتحديد القدر المحرم ،قال ابن رشد:(والسبب في اختلافهم في هذه المسألة معارضة عموم الكتاب للأحاديث الواردة في التحديد ومعارضة الأحاديث في ذلك بعضها بعضا فأما عموم الكتاب فقوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم الآية وهذا يقتضي ما ينطلق عليه اسم الإرضاع والأحاديث المتعارضة في ذلك راجعة إلى حديثين في المعنى أحدهما حديث عائشة وما في معناه أنه قال عليه الصلاة والسلام لا تحرم المصة ولا المصتان أو الرضعة والرضعتان خرجه مسلم من طريق عائشة ومن طريق أم الفضل ومن طريق ثالث وفيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان.
والحديث الثاني حديث سهلة في سالم أنه قال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه خمس رضعات وحديث عائشة في هذا المعنى أيضا قالت كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن فمن رجح ظاهر القرآن على هذه الأحاديث قال تحرم المصة والمصتان ومن جعل الأحاديث مفسرة للآية وجمع بينها وبين الآية ورجح مفهوم دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام لا تحرم المصة ولا المصتان على مفهوم دليل الخطاب في حديث سالم قال الثلاثة فما فوقها هي التي تحرم..)2261
وفي المساقاة ورد حديث ابن عمر الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها خرجه البخاري ومسلم وفي بعض رواياته أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة ،فقال الجمهور بهذا الحديث.(2/103)
وأما أبو حنيفة ومن قال بقوله فرأى المساقاة مخالفة للأصول ( ومما يدل على نسخ هذا الحديث أو أنه خاص باليهود ما ورد من حديث رافع وغيره من النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها لأن المساقاة تقتضي جواز ذلك، وهو خاص أيضا في بعض روايات أحاديث المساقاة ولهذا المعنى لم يقل بهذه الزيادة مالك ولا الشافعي أعني بما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة وهي زيادة صحيحة وقال بها أهل الظاهر)2262
وفي الشهادة اتفقوا على أن الإسلام شرط في قبول الشهادة وأنه لا تجوز شهادة الكافر إلا ما اختلفوا فيه من جواز ذلك في الوصية في السفر، لقوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم) الآية فقال أبو حنيفة يجوز ذلك على الشروط التي ذكرها الله تعالى وقال مالك والشافعي لا يجوز ذلك ورأوا أن الآية منسوخة)2263
وفي الحكم على الذمي ففيه ثلاثة أقوال:( أحدها أنه يقضي بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم المسلمين وهو مذهب أبي حنيفة والثاني أنه مخير وبه قال مالك وعن الشافعي القولان والثالث أنه واجب على الإمام أن يحكم بينهم وأن لم يتحاكموا إليه فعمدة من اشترط مجيئهم للحاكم قوله تعالى:( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) وبهذا تمسك من رأى الخيار ومن أوجبه اعتمد قوله تعالى:( وأن احكم بينهم) ورأى أن هذا ناسخ لآية التخيير وأما من رأى وجوب الحكم عليهم وإن لم يترافعوا فإنه احتج بإجماعهم على أن الذمي إذا سرق قطعت يده)2264
قواعد في الناسخ والمنسوخ:
لا يجوز القول بالنسخ لمجرد الظن:(2/104)
يقول ابن رشد:(إذا تعارض حديثان أحدهما فيه شرع موضوع والآخر موافق للأصل الذي هو عدم الحكم ولم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب أن يصار إلى الحديث المثبت للشرع لأنه وقد وجب العمل بنقله من طريق العدول وتركه الذي ورد أيضا من طريق العدول يمكن أن يكون ذلك قبل شرع ذلك الحكم ويمكن أن يكون بعده فلم يجز أن نترك شرعا وجب العمل به بظن من لم نؤمر أن نوجب النسخ به إلا لو نقل أنه كان بعده فإن الظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع أعني التي توجب رفعها أو إيجابها وليست هي أي ظن اتفق ولذلك يقولون إن العمل ما لم يجب بالظن وإنما وجب بالأصل المقطوع به يريدون بذلك الشرع المقطوع به الذي أوجب العمل بذلك النوع من الظن)2265
ثبوت النسخ يرفع الاحتمالات:
قال ابن رشد في الخلاف الواقع في القراءة الواجبة في الصلاة بعد استعراض مختلف الآراء وأدلة كل فريق:( فالمسألة كما ترى محتملة وإنما كان يرتفع الاحتمال لو ثبت النسخ)2266
ضبط تاريخ النزول أو الورود عامل حاسم لمعرفة الناسخ من المنسوخ:
مثاله :ما رآه بعض الصحابة من أن آية الوضوء ناسخة لأحاديث المسح على الخفين وهو مذهب ابن عباس،واحتج القائلون بجوازه( بما رواه مسلم أنه كان يعجبهم حديث جرير وذلك أنه روى أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفين فقيل له إنما كان ذلك قبل نزول المائدة فقال ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة)2267
ووردت أحاديث ظاهرها التعارض بخصوص الانتفاع بجلد الميتة،قال ابن رشد:(لمكان اختلاف هذه الآثار اختلف الناس في تأويلها فذهب قوم مذهب الجمع على حديث ابن عباس أعني أنهم فرقوا في الانتفاع بها بين المدبوغ وغير المدبوغ وذهب قوم مذهب النسخ فأخذوا بحديث ابن عكيم لقوله فيه قبل موته بعام)2268
الخبر ليس يدخله النسخ:(2/105)
قال ابن رشد:( ثبت من قوله تعالى في حديث الإسراء( إنه لا يبدل القول لدي) وظاهره أنه لا يزاد فيها ولا ينقص منها وإن كان هو في النقصان أظهر والخبر ليس يدخله النسخ)2269
من يرى نسخ القرآن بالسنة المتواترة:
اختلف العلماء في جنس السباع المحرمة (وسبب اختلافهم في تحريم لحوم السباع من ذوات الأربع معارضة الكتاب للآثار وذلك أن ظاهر قوله: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية أن ما عدا المذكور في هذه الآية حلال وظاهر حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع أن السباع محرمة هكذا رواه البخاري ومسلم وأما مالك فما رواه في هذا المعنى من طريق أبي هريرة هو أبين في المعارضة وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
أكل كل ذي ناب من السباع حرام وذلك أن الحديث الأول قد يمكن الجمع بينه وبين الآية بأن يحمل النهي المذكور فيه على الكراهية وأما حديث أبي هريرة فليس يمكن الجمع بينه وبين الآية إلا أن يعتقد أنه ناسخ للآية عند من رأى أن الزيادة نسخ وأن القرآن ينسخ بالسنة المتواترة فمن جمع بين حديث أبي ثعلبة والآية حمل حديث لحوم السباع على الكراهية ومن رأى أن حديث أبي هريرة يتضمن زيادة على ما في الآية حرم لحوم السباع)2270
وقال في الحمر الأهلية:(والسبب في اختلافهم في الحمر الإنسية معارضة الآية المذكورة للأحاديث الثابتة في ذلك من حديث جابر وغيره قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل فمن جمع بين الآية وهذا الحديث حملها على الكراهية ومن رأى النسخ قال بتحريم الحمر أو قال بالزيادة دون أن يوجب عنده نسخا)2271
لا ينسخ القرآن بالسنة غير المتواترة:(2/106)
ففي القضاء باليمين مع الشاهد فإنهم اختلفوا فيه ،فأما (مالك فإنما اعتمد مرسله في ذلك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد لأن العمل عنده بالمراسيل واجب وأما السماع المخالف لها فقوله تعالى:( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) قالوا وهذا يقتضي الحصر فالزيادة عليه نسخ ولا ينسخ القرآن بالسنة الغير متواترة وعند المخالف أنه ليس بنسخ بل زيادة لا تغير حكم المزيد )2272
هل الزيادة على النص تقتضي النسخ:
ففي جواز الوضوء بالنبيذ احتج الأحناف بحديث ابن عباس أن ابن مسعود خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل معك من ماء فقال معي نبيذ في إداوتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اصبب فتوضأ به وقال شراب وطهور وحديث أبي رافع مولى ابن عمر عن عبد الله ابن مسعود بمثله وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمرة طيبة وماء طهور وزعموا أنه منسوب إلى الصحابة علي وابن عباس وأنه لا مخالف لهم من الصحابة فكان كالإجماع عندهم.
ورد أهل الحديث هذا الخبر ولم يقبلوه لضعف رواته ولأنه قد روي من طرق أوثق من هذه الطرق أن ابن مسعود لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن واحتج الجمهور لرد هذا الحديث بقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا قال فلم يجعل ها هنا وسطا بين الماء والصعيد وبقوله عليه الصلاة والسلام الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء إلى عشر حجج فإذا وجد الماء فليمسه بشرته) قال ابن رشد وللأحناف (أن يقولوا إن هذا قد أطلق عليه في الحديث اسم الماء والزيادة لا تقتضي نسخا فيعارضها الكتاب لكن هذا مخالف لقولهم إن الزيادة نسخ)2273(2/107)
وفي حد الزنا قال أبو حنيفة وأصحابه لا تغريب أصلا وعمدته (ظاهر الكتاب وهو مبني على رأيهم أن الزيادة على النص النسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الآحاد ورووا عن عمر وغيره أنه حد ولم يغرب وروى الكوفيون عن أبي بكر وعمر أنهم غربوا)2274
الزيادة المغيرة للحكم ناسخة:
ففي مسألة هل يصير الرجل الذي له اللبن أعني زوج المرأة أبا للمرضع قال ابن رشد(وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الكتاب لحديث عائشة المشهور أعني آية الرضاع وحديث عائشة هو: قالت جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن علي بعد أن أنزل الحجاب فأبيت أن آذن له وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه عمك فأذني له فقلت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال إنه عمك فليلج عليك خرجه البخاري ومسلم ومالك.
فمن رأى أن ما في الحديث شرع زائد على ما في الكتاب وهو قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وعلى قوله صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة قال لبن الفحل محرم ومن رأى أن آية الرضاع وقوله يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة إنما ورد على جهة التأصيل لحكم الرضاع إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة قال ذلك الحديث إن عمل بمقتضاه أوجب أن يكون ناسخا لهذه الأصول لأن الزيادة المغيرة للحكم ناسخة مع أن عائشة لم يكن مذهبها التحريم بلبن الفحل وهي الراوية للحديث )2275
إذا وقع تعارض الأحاديث بشكل يصعب الجمع بينها وتعذر القول بالنسخ تم إسقاطها جميعا والعودة إلى استصحاب حال الإجماع:(2/108)
قال ابن رشد في الخلاف الواقع في نهاية وقت صلاة العشاء:( وأما أهل الظاهر فاعتمدوا حديث أبي قتادة وقالوا هو عام وهو متأخر عن حديث إمامة جبريل فهو ناسخ ولو لم يكن ناسخا لكان تعارض الآثار يسقط حكمها فيجب أن يصار إلى استصحاب حال الإجماع وقد اتفقوا على أن الوقت يخرج لما بعد طلوع الفجر واختلفوا فيما قبل فإنا روينا عن ابن عباس أن الوقت عنده إلى طلوع الفجر فوجب أن يستصحب حكم الوقت إلا حيث وقع الاتفاق على خروجه وأحسب أن به قال أبو حنيفة)2276
ومثله أيضا اختلاف العلماء في الحجامة في الصيام هل تفسد الصوم أم لا وقد ورد في ذلك حديثان:روي الأول من طريق ثوبان أنه عليه الصلاة والسلام قال أفطر الحاجم والمحجوم وحديث ثوبان هذا كان يصححه أحمد، والحديث الثاني حديث عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم وحديث ابن عباس هذا صحيح ،(فذهب العلماء في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب أحدهما مذهب الترجيح والثاني مذهب الجمع والثالث مذهب الإسقاط عند التعارض والرجوع إلى البراءة الأصلية إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ (...) وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا وذلك شك والشك لا يوجب عملا ولا يرفع العلم الموجب للعمل وهذا على طريقة من لا يرى الشك مؤثرا في العلم )2277
مالك يرى مخالفة عمل أهل المدينة للحديث يعتبر نوعا من النسخ:
استثنى مالك وقت الزوال في جواز الصلاة من النهي الوارد في الحديث،قال ابن رشد:(أما مالك فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث أعني الزوال أباح الصلاة فيه واعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل)2278
ما وجب العمل به جاز نسخه والنسخ قد يكون للبعض وقد يكون للكل:(2/109)
ففي نصاب الحبوب والثمار اختلف العلماء في وجوبه في هذا الجنس من مال الزكاة فصار الجمهور إلى خمسة أوسق وقال أبو حنيفة ليس في الحبوب والثمار نصاب قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص أما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر أما الخصوص فقوله عليه الصلاة والسلام ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة.
والحديثان ثابتان فمن رأى أن الخصوص يبنى على العموم قال لا بد من النصاب وهو المشهور ومن رأى أن العموم والخصوص متعارضان إذا جهل المتقدم فيهما والمتأخر إذ كان قد ينسخ الخصوص بالعموم عنده وينسخ العموم بالخصوص إذ كل ما وجب العمل به جاز نسخه والنسخ قد يكون للبعض وقد يكون للكل)2279
من رأى فعل الخلفاء الراشدين المخالف فعل النبي ( نسخا:
فبخصوص النكاية التي تجوز في أموال العدو أثناء الحرب قال ابن رشد(والسبب في اختلافهم مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه الصلاة والسلام وذلك أنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام حرق نخل بني النضير وثبت عن أبي بكر أنه قال لا تقطعن شجرا ولا تخربن عامرا.
فمن ظن أن فعل أبي بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز على أبي بكر أن يخالفه مع علمه بفعله أو رأى أن ذلك كان خاصا ببني النضير لغزوهم قال بقول أبي بكر ومن اعتمد فعله عليه الصلاة والسلام ولم ير قول أحد ولا فعله حجة عليه قال بتحريق الشجر وإنما فرق مالك بين الحيوان والشجر لأن قتل الحيوان مثلة وقد نهى عن المثلة ولم يأت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قتل حيوانا)2280
من جعل العام ناسخا للخاص:(2/110)
قال ابن رشد:( صار الجمهور لجواز نكاح الكتابيات الأحرار بالعقد لأن الأصل بناء الخصوص على العموم أعني أن قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب هو خصوص وقوله ولا تنكحوا المشركات حتى يومن هو عموم فاستثنى الجمهور الخصوص من العموم ومن ذهب إلى تحريم ذلك جعل العام ناسخا للخاص وهو مذهب بعض الفقهاء)2281
من رأى أن العموم إذا تأخر عن الخصوص فهو ناسخ له:
واختلف العلماء فيما سوى أهل الكتاب من المشركين هل تقبل منهم الجزية أم لا ،قال ابن رشد:(والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص أما العموم فقوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وقوله عليه الصلاة والسلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله .
وأما الخصوص فقوله لأمراء السرايا الذين كان يبعثهم إلى مشركي العرب ومعلوم أنهم كانوا غير أهل كتاب فإذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال فذكر الجزية فيها وقد تقدم الحديث فمن رأى أن العموم إذا تأخر عن الخصوص فهو ناسخ له قال لا تقبل الجزية من مشرك ما عدا أهل الكتاب لأن الآية الآمرة بقتالهم على العموم هي متأخرة عن ذلك الحديث وذلك أن الأمر بقتال المشركين عامة وهو في سورة براءة ذلك عام الفتح وذلك الحديث إنما هو قبل الفتح بدليل دعائهم فيه للهجرة ومن رأى أن العموم يبنى على الخصوص تقدم أو تأخر أو جهل التقدم والتأخر بينهما قال تقبل الجزية من جميع المشركين)2282
د-القول بوجود ما يعارضه:
كتقديم الكتاب عن السنة مثل قول (عمر رضي الله عنه في حديث فاطمة بنت قيس لا نترك كتاب الله لحديث امرأة)2283 وتقديم الحديث الصحيح عمن هو دونه،أو وجود ما يعارض ظاهره من جهة المعنى والقياس والمصالح وغيرها.
معارضة الكتاب للكتاب:(2/111)
بخصوص ذبائح أهل الكتاب،إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه وهو قول مالك ومنهم من أباحه وهو قول أشهب ومنهم من حرمه وهو الشافعي .
يقول ابن رشد (وسبب اختلافهم تعارض عمومي الكتاب في هذا الباب وذلك أن قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم يحتمل أن يكون مخصصا لقوله تعالى وما أهل لغير الله به ويحتمل أن يكون قوله تعالى وما أهل لغير الله به مخصصا لقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم إذ كان كل واحد منهما يصح أن يستثنى من الآخر فمن جعل قوله تعالى وما أهل لغير الله به مخصصا لقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال لا يجوز ما أهل به للكنائس والأعياد ومن عكس الأمر قال يجوز)2284.
معارضة الكتاب للحديث:
ففي الوضوء تمسك من رأى المسح على العمامة بحديث المغيرة وغيره( أنه عليه الصلاة والسلام مسح بناصيته وعلى العمامة) وقال ابن رشد عن هذا الحديث:( إنما رده من رده إما لأنه لم يصح عنده وإما لأن ظاهر الكتاب عارضه عنده أعني الأمر فيه بمسح الرأس)2285
وفي الحج اختلفوا هل من شرط وجوبه على المرأة أن يكون معها زوج أو ذو محرم منها يطاوعها على الخروج معها إلى السفر للحج ،قال ابن رشد:(وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج والسفر إليه للنهي عن سفر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم فمن غلب عموم الأمر قال تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم ومن خصص العموم بهذا الحديث أو رأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم)2286(2/112)
وفي النكاية بالعدو التي تكون في النفوس (قال مالك لا يقتل الأعمى ولا المعتوه ولا أصحاب الصوامع ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال الثوري والأوزاعي لا تقتل الشيوخ فقط وقال الأوزاعي لا تقتل الحراث وقال الشافعي في الأصح عنه تقتل جميع هذه الأصناف والسبب في اختلافهم معارضة بعض الآثار بخصوصها لعموم الكتاب ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام الثابت أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الحديث)2287
وفي اليمين الغموس قال الجمهور ليس فيها كفارة وإنما الكفارة في الأيمان التي تكون في المستقبل إذا خالف اليمين الحالف وقال الشافعي وجماعة يجب فيها الكفارة أي تسقط الكفارة الإثم فيها كما تسقطه في غير الغموس (وسبب اختلافهم معارضة عموم الكتاب للأثر وذلك أن قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين الآية توجب أن يكون في اليمين الغموس كفارة لكونها من الأيمان المنعقدة، وقوله عليه الصلاة والسلام من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار يوجب أن اليمين الغموس ليس فيها كفارة)2288
واتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق سواء كان فيها نساء وذرية أو لم يكن( لما جاء أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب المنجنيق على أهل الطائف وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين فقالت طائفة يكف عن رميهم بالمنجنيق وبه قال الأوزاعي وقال الليث ذلك جائز ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما الآية وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة)2289
معارضة الحديث بالحديث:
وهو باب واسع يتناول حجية الحديث ودرجته ورتبته واختلاف العلماء في مقاييس الأخذ به والترجيح بين رواياته،وحسبنا بعض الإشارات في ذلك،ومن أمثلتها:(2/113)
ما ورد في السلام من الصلاة،فقد(اختار مالك للمأموم تسليمتين وللإمام واحدة وقد قيل عنه إن المأموم يسلم ثلاثا الواحدة للتحليل والثانية للإمام والثالثة لمن هو عن يساره وأما أبو حنيفة فذهب إلى ما رواه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة حدثاه عن عبد الله بن عمروا بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته قال أبو عمر بن عبد البر وحديث علي المتقدم أثبت عند أهل النقل لأن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص انفرد به الإفريقي وهو عند أهل النقل ضعيف )2290
وفي الحد الذي ترفع إليه اليدان ذهب بعض الفقهاء إلى أنه المنكبين ،وذهب بعضهم إلى رفعها إلى الأذنين وذهب آخرون إلى رفعها إلى الصدر،قال ابن رشد:( وكل ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أثبت ما في ذلك أنه كان يرفعهما حذو منكبيه وعليه الجمهور والرفع إلى الأذنين أثبت من الرفع إلى الصدر وأشهر)2291
واختلف العلماء في السجود هل توضع اليدان قبل الركبتين أو الركبتان قبل اليدين ومذهب مالك وضع الركبتين قبل اليدين (وسبب اختلافهم أن في حديث ابن حجر قال :رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه، وعن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه وكان عبد الله بن عمر يضع يديه قبل ركبتيه وقال بعض أهل الحديث حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة)2292(2/114)
اختلف العلماء إذا صلى إنسان خلف الصف وحده فالجمهور على أن صلاته تجزيء وقال أحمد وأبو ثور وجماعة صلاته فاسدة وسبب اختلافهم( اختلافهم في تصحيح حديث وابصة، ومخالفة العمل له وحديث وابصة هو أنه قال عليه الصلاة و السلام:لا صلاة لقائم خلف الصف وكان الشافعي يرى أن هذا يعارضه قيام العجوز وحدها خلف الصف في حديث أنس.
وكان أحمد يقول ليس في ذلك حجة لأن سنة النساء هي القيام خلف الرجال وكان أحمد يصحح حديث وابصة وقال غيره هو من مضطرب الإسناد لا تقوم به حجة واحتج الجمهور بحديث أبي بكرة أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة وقال له زادك الله حرصا ولا تعد ولو حمل هذا على الندب لم يكن تعارض أعني بين حديث وابصة وحديث أبي بكرة)2293
وفي شأن صفة صلاة الخوف فإن العلماء اختلفوا فيها اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار في هذا الباب أعني المنقولة من فعله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف قال ابن رشد بعد استعراض دليل كل فريق:(فالشافعي آثر المسند على الموقوف ومالك آثر الموقوف لأنه أشبه بالأصول أعني أن لا يجلس الإمام حتى تفرغ الطائفة الثانية من صلاتها لأن الإمام متبوع لا متبع وغير مختلف عليه)2294
واحتج بعض من لم ير السجود في المفصل بحديث عكرمة عن ابن عباس خرجه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ هاجر إلى المدينة (قال أبو عمر وهو منكر لأن أبا هريرة الذي روى سجوده في المفصل لم يصحبه عليه الصلاة والسلام إلا بالمدينة وقد روى الثقات عنه أنه سجد عليه الصلاة والسلام في والنجم)2295(2/115)
وفي الجنازة في حكم الغاسل اختلف الفقهاء هل يجب في حقه الغسل أم لا بسبب معارضة حديث أبي هريرة لحديث أسماء (وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ خرجه أبو داود وأما حديث أسماء فإنها لما غسلت أبا بكر رضي الله عنه خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار وقالت إني صائمة وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل قالوا لا وحديث أسماء في هذا صحيح وأما حديث أبي هريرة فهو عند أكثر أهل العلم فيما حكى أبو عمر غير صحيح)2296
لا ينبغي معارضة الحديث الثابت الصحيح بمن دونه من الضعيف:
قال ابن رشد في التوقيت الخاص بالمسح على الخفين:( أما حديث علي فصحيح خرجه مسلم وأما حديث أبي بن عمارة فقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم ولذلك ليس ينبغي أن يعارض به حديث علي)2297
وفي خيار المجلس في البيوع ورد حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار وفي بعض روايات هذا الحديث إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر قال ابن رشد :(وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها حتى لقد زعم أبو محمد أن مثل هذا الإسناد يوقع العلم وإن كان من طريق الآحاد وأما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث فالذي اعتمد عليه مالك رحمه الله في رد العمل به أنه لم يلف عمل أهل المدينة عليه مع وجود حديث منقطع عارضه عنده ما رواه من منقطع حديث ابن مسعود أنه قال أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادان.(2/116)
فكأنه حمل هذا على عمومه وذلك يقتضي أن يكون في المجلس وبعد المجلس ولو كان المجلس شرطا في انعقاد البيع لم يكن يحتاج فيه إلى تبيين حكم الاختلاف في المجلس لأن البيع بعد لم ينعقد ولا لزم بل بالافتراق من المجلس وهذا الحديث منقطع ولا يعارض به الأول وبخاصة أنه لا يعارضه إلا مع توهم العموم فيه والأولى أن ينبني هذا على ذلك وهذا الحديث لم يخرجه أحد مسندا فيما أحسب فهذا هو الذي اعتمده مالك رحمه الله في ترك العمل بهذا الحديث) 2298
معارضة الأثار للأصول:
اختلف العلماء إذا وقع الحج من الصبي هل يجزيه عن حجة الإسلام أم لا (وسبب الخلاف معارضة الأثر في ذلك للأصول وذلك أن من أجاز ذلك أخذ فيه بحديث ابن عباس المشهور وخرجه البخاري ومسلم وفيه أن امرأة رفعت إليه عليه الصلاة والسلام صبيا فقالت ألهذا حج يا رسول الله قال نعم ولك أجر ومن منع ذلك تمسك بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل)2299
اختلف العلماء فيما استوحش من الحيوان المستأنس فلم يقدر على أخذه ولا ذبحه أو نحره هل يقتل مثل الصيد أم لا ؟ قال ابن رشد:( وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للخبر وذلك أن الأصل في هذا الباب هو أن الحيوان الإنسي لا يؤكل إلا بالذبح أو النحر وأن الوحشي يؤكل بالعقر وأما الخبر المعارض لهذه الأصول فحديث رافع بن خديج وفيه قال فند منها بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله تعالى به فقال النبي عليه الصلاة والسلام إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا)2300(2/117)
وفي الإشهاد على الرضاع فإن قوما قالوا لا تقبل فيه إلا شهادة امرأتين وقوما قالوا لا تقبل فيه إلا شهادة أربع قال ابن رشد:(وأما اختلافهم في قبول شهادة المرأة الواحدة فمخالفة الأثر الوارد في ذلك للأصل المجمع عليه أعني أنه لا يقبل من الرجال أقل من اثنين وأن حال النساء في ذلك إما أن يكون أضعف من حال الرجال وإما أن تكون أحوالهم في ذلك مساوية للرجال.
والإجماع منعقد على أنه لا يقضى بشهادة واحدة والأمر الوارد في ذلك هو حديث عقبة بن الحارث قال يا رسول الله إني تزوجت امرأة فأتت امرأة فقالت قد أرضعتكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وقد قيل دعها عنك وحمل بعضهم هذا الحديث على الندب جمعا بينه وبين الأصول وهو أشبه وهي رواية عن مالك)2301
واختلفوا في بيع الحيوان بالميت،قال ابن رشد:(وسبب الخلاف معارضة الأصول في هذا الباب لمرسل سعيد بن المسيب وذلك أن مالكا روى عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم فمن لم تنقدح عنده معارضة هذا الحديث لأصل من أصول البيوع التي توجب التحريم قال به ومن رأى أن الأصول معارضة له وجب عليه أحد أمرين إما أن يغلب الحديث فيجعله أصلا زائدا بنفسه أو يرده لمكان معارضة الأصول له فالشافعي غلب الحديث وأبو حنيفة غلب الأصول و مالك رده إلى أصوله في البيوع فجعل البيع فيه من باب الربا أعني بيع الشيء الربوي بأصله مثل بيع الزيت بالزيتون)2302
وتعتبر التصرية2303 عند مالك والشافعي عيب (وحجتهم حديث المصراة المشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم لا تصروا الإبل والبقر فمن فعل ذلك فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر قالوا فأثبت له الخيار بالرد مع التصرية وذلك دال على كونه عيبا مؤثرا قالوا وأيضا فإنه مدلس فأشبه التدليس بسائر العيوب.(2/118)
وقال أبو حنيفة وأصحابه ليست التصرية عيبا للاتفاق على أن الإنسان إذا اشترى شاة فخرج لبنها قليلا أن ذلك ليس بعيب قالوا وحديث المصراة يجب أن لا يوجب عملا لمفارقته الأصول وذلك أنه مفارق للأصول من وجوه فمنها أنه معارض لقوله عليه الصلاة والسلام الخراج بالضمان وهو أصل متفق عليه ومنها أن فيه معارضة منع بيع طعام بطعام نسيئة وذلك لا يجوز باتفاق ومنها أن الأصل في المتلفات إما القيم وإما المثل وإعطاء صاع من تمر في لبن ليس قيمة ولا مثلا ومنها بيع الطعام المجهول أي الجزاف بالمكيل المعلوم لأن اللبن الذي دلس به معلوم القدر وأيضا فإنه يقل ويكثر والعوض ههنا محدود ولكن الواجب أن يستثنى هذا من هذه الأصول كلها لموضع صحة الحديث وهذا كأنه ليس من هذا الباب وإنما هو حكم خاص)2304
معارضة الآثار للقياس:
معارضة اللفظ للفظ واللفظ للقياس:
يقول ابن رشد في زكاة الخيل:والسبب في اختلافهم معارضة القياس للفظ وما يظن من معارضة اللفظ للفظ فيها أما اللفظ الذي يقتضي أن لا زكاة فيها فقوله عليه الصلاة والسلام ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة وأما القياس الذي عارض هذا العموم فهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل فأشبه الإبل والبقر 2305
معارضة ظاهر الكتاب للقياس:
مثل قوله في أسآر الحيوانات:(وسبب اختلافهم في ذلك هو ثلاثة أشياء أحدها معارضة القياس لظاهر الكتاب(...)وأما ظاهر الكتاب فإنه عارض هذا القياس في الخنزير والمشرك وذلك أن الله تعالى يقول في الخنزير:( فإنه رجس) وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه ولذلك استثنى قوم من الحيوان الحي الخنزير فقط ومن لم يستثنه حمل قوله رجس على جهة الذم له وأما المشرك ففي قوله تعالى إنما المشركون نجس فمن حمل هذا أيضا على ظاهره استثنى من مقتضى ذلك في القياس المشركين ومن أخرجه مخرج الذم لهم طرد قياسه) 2306
معارضة دليل الخطاب للقياس:(2/119)
مثل قوله في مسألة توقيت مسح الخف:( لكن حديث أبي لم يثبت بعد فعلى هذا يجب العمل بحديثي علي وصفوان وهو الأظهر إلا أن دليل الخطاب فيهما يعارضه القياس وهو كون التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة لأن النواقض هي الأحداث 2307
معارضة عموم الأثر للقياس:
ومثله قول ابن رشد:(والسبب في اختلافهم معارضة القياس لعموم الأثر وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين يوجب أن يركع الداخل في المسجد يوم الجمعة وإن كان الإمام يخطب والأمر بالإنصات إلى الخطيب يوجب دليله أن لا يشتغل بشيء مما يشغل عن الإنصات وإن كان عبادة)2308
معارضة العموم للقياس المخصص له:
يقول بخصوص الاعتكاف:( وأما سبب اختلافهم في تخصيص بعض المساجد أو تعميمها فمعارضة العموم للقياس المخصص له فمن رجح العموم قال في كل مسجد على ظاهر الآية ومن انقدح له تخصيص بعض المساجد من ذلك العموم بقياس اشترط أن يكون مسجدا فيه جمعة لئلا ينقطع عمل المعتكف بالخروج إلى الجمعة أو مسجدا تشد إليه المطي مثل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع فيه اعتكافه ولم يقس سائر المساجد عليه إذ كانت غير مساوية له في الحرمة) 2309
معارضة القياس لظاهر الأثر:(2/120)
مثل قوله في مسألة من جامع ناسيا لصومه: فإن الشافعي وأبا حنيفة يقولان لا قضاء عليه ولا كفارة وقال مالك عليه القضاء دون الكفارة وقال أحمد وأهل الظاهر عليه القضاء والكفارة وسبب اختلافهم في قضاء الناسي معارضة ظاهر الأثر في ذلك القياس وأما القياس فهو تشبيه ناسي الصوم بناسي الصلاة فمن شبهه بناسي الصلاة أوجب عليه القضاء كوجوبه بالنص على ناسي الصلاة وأما الأثر المعارض بظاهره لهذا القياس فهو ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه وهذا الأثر يشهد به عموم قوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. 2310
ومثل قوله في المرأة إذا طاوعت زوجها على الجماع: فإن أبا حنيفة وأصحابه ومالكا وأصحابه أوجبوا عليها الكفارة وقال الشافعي وداود لا كفارة عليها وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الأثر للقياس وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة في الحديث بكفارة والقياس أنها مثل الرجل إذ كان كلاهما مكلفا2311
معارضة دليل فعل النبي ( للقياس:
مثل قوله في اختلافهم في الأفضل في الضحايا: فذهب مالك إلى أن الأفضل في الضحايا الكباش ثم البقر ثم الإبل بعكس الأمر عنده في الهدايا وقد قيل عنه الإبل ثم البقر ثم الكباش وذهب الشافعي إلى عكس ما ذهب إليه مالك في الضحايا الإبل ثم البقر ثم الكباش وبه قال أشهب وابن شعبان وسبب اختلافهم معارضة القياس لدليل الفعل وذلك أنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه ضحى إلا بكبش فكان ذلك دليلا على أن الكباش في الضحايا أفضل وذلك فيما ذكر بعض الناس وفي البخاري عن ابن عمر ما يدل على خلاف ذلك وهو أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى وأما القياس فلأن الضحايا قربة بحيوان فوجب أن يكون الأفضل فيها الأفضل في الهدايا 2312(2/121)
ومثل معارضة حال فعله صلى الله عليه وسلم للقياس أيضا،قوله في شأن ما يقرأ في صلاة العيدين:(والسبب في اختلافهم معارضة حال الفعل للقياس وذلك أن القياس يوجب أن لا يكون لها سورة راتبة كالحال في سائر الصلوات ودليل الفعل يقتضي أن يكون لها سورة راتبة وقال القاضي خرج مسلم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية قال فإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين وهذا يدل على أنه ليس هناك سورة راتبة وأن الجمعة ليس كان يقرأ بها دائما) 2313
عمل الراوي بخلاف ما روى:
مما يرد به البعض نص الحديث، ما ينقل من عمل الراوي له بخلاف ما جاء في الرواية.ويعتبر ذلك مما يوهن الحديث عنده بسبب أن الترك لا يكون إلا لعلم عنده من نسخ أو غيره ومثاله:
لم ير أبو حنيفة عدد السبع الوارد في حديث ولوغ الكلب في الإناء شرطا في طهارته ( لأنه عارض ذلك عنده القياس في غسل النجاسات أعني أن المعتبر فيها إنما هو إزالة العين فقط وهذا على عادته في رد أخبار الآحاد لمكان معارضة الأصول لها قال القاضي فاستعمل من هذا الحديث بعضا ولم يستعمل بعضا أعني أنه استعمل منه ما لم تعارضه عنده الأصول ولم يستعمل ما عارضته منه الأصول وعضد ذلك بأنه مذهب أبي هريرة الذي روى الحديث)2314
وأكثر العلماء على أن القيام إلى الجنازة منسوخ بما (روى مالك من حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز ثم جلس وذهب قوم إلى وجوب القيام وتمسكوا في ذلك بما روي من أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام لها كحديث عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الجنائز فقوموا إليها حتى تخلفكم أو توضع.(2/122)
واختلف الذين رأوا أن القيام منسوخ في القيام على القبر في وقت الدفن فبعضهم رأى أنه لم يدخل تحت النهي وبعضهم رأى أنه داخل تحت النهي على ظاهر اللفظ ومن أخرجه من ذلك احتج بفعل علي في ذلك وذلك أنه روى النسخ وقام على قبر ابن المكفف فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين فقال قليل لأخينا قيامنا على قبره)2315
وفي زكاة الفطر اختلف الفقهاء في زكاة السيد عن عبده الكافر فقال( مالك والشافعي وأحمد ليس على السيد في العبد الكافر زكاة وقال الكوفيون عليه الزكاة فيه والسبب في اختلافهم اختلافهم في الزيادة الواردة في ذلك في حديث ابن عمر وهو قوله من المسلمين فإنه قد خولف فيها نافع بكون ابن عمر أيضا الذي هو راوي الحديث من مذهبه إخراج الزكاة عن العبيد الكفار)2316
ومثاله أيضا في باب النكاح قول ابن رشد في رد الحنفية حديث عائشة في اشتراط الولي في النكاح:( وقد ضعفت الحنفية حديث عائشة وذلك أنه حديث رواه جماعة عن ابن جريج عن الزهري وحكى ابن علية عن ابن جريج أنه سأل الزهري عنه قالوا والدليل على ذلك أن الزهري لم يكن يشترط الولاية ولا الولاية من مذهب عائشة)2317(2/123)
ومثله أيضا اختلاف العلماء في كراء الأرض ،وقد اعتمد من لم يجز كراءها بحال (ما رواه مالك بسنده عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع قالوا وهذا عام وهؤلاء لم يلتفتوا إلى ما روى مالك من تخصيص الراوي له حين روى عنه قال حنظلة فسألت رافع بن خديج عن كرائها بالذهب والورق فقال لا بأس به وروى هذا عن رافع ابن عمر وأخذ بعمومه وكان ابن عمر قبل يكري أرضه فترك ذلك وهذا بناء على رأي من يرى أنه لا يخص العموم بقول الراوي،وروي عن رافع بن خديج عن أبيه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجارة الأرضين (...) وعمدة من أجاز كراءها بجميع العروض والطعام وغير ذلك مما يخرج منها أنه كراء منفعة معلومة بشيء معلوم فجاز قياسا على إجارة سائر المنافع وكأن هؤلاء ضعفوا أحاديث رافع،روي عن سالم بن عبد الله وغيره في حديث رافع أنهم قالوا اكترى رافع)2318
معارضة خبر الواحد بعمل المدينة أو ما تعم به البلوى:
يقول ابن رشد في قول جامع في"البداية" يظهر فيه موقفه من رد الأحاديث بسبب مخالفة عمل أهل المدينة لها:( النظر في هذا الأصل الذي هو العمل كيف يكون دليلا شرعيا فيه نظر فإن متقدمي شيوخ المالكية كانوا يقولون إنه من باب الإجماع وذلك لا وجه له فإن إجماع البعض لا يحتج به وكان متأخروهم يقولون إنه من باب نقل التواتر ويحتجون في ذلك بالصاع وغيره مما نقله أهل المدينة خلفا عن سلف والعمل إنما هو فعل والفعل لا يفيد التواتر إلا أن يقترن بالقول فإن التواتر طريقه الخبر لا العمل وبأن جعل الأفعال تفيد التواتر عسير بل لعله ممنوع والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوى الذي يذهب إليه أبو حنيفة وذلك أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع تكررها وتكرر وقوعها، أسبابها غير منسوخة ويذهب العمل بها على أهل المدينة الذين تلقوا العمل بالسنن خلفا عن سلف.(2/124)
وهو أقوى من عموم البلوى الذي يذهب إليه أبو حنيفة لأن أهل المدينة أحرى أن لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل وبالجملة العمل لا يشك أنه قرينة إذا اقترنت بالشيء المنقول إن وافقته أفادت به غلبة الظن وإن خالفته أفادت به ضعف الظن.
فأما هل تبلغ هذه القرينة مبلغا ترد به أخبار الآحاد الثابتة ففيه نظر وعسى أنها تبلغ في بعض ولا تبلغ في بعض لتفاضل الأشياء في شدة عموم البلوى بها وذلك أنه كلما كانت السنة الحاجة إليها أمس وهي كثيرة التكرار على المكلفين كان نقلها من طريق الآحاد من غير أن ينتشر قولا أو عملا فيه ضعف وذلك أنه يوجب ذلك أحد أمرين إما أنها منسوخة وإما أن النقل فيه اختلال وقد بين ذلك المتكلمون كأبي المعالي وغيره)2319
ومن أمثلة ذلك ما جاء في المسح في الوضوء على الناصية و العمامة ورد حديث المغيرة وغيره أنه عليه الصلاة والسلام مسح بناصيته وعلى العمامة، قال ابن رشد:(وهذا الحديث إنما رده من رده إما لأنه لم يصح عنده وإما لأن ظاهر الكتاب عارضه عنده أعني الأمر فيه بمسح الرأس وإما لأنه لم يشتهر العمل به عند من يشترط اشتهار العمل فيما نقل من طريق الآحاد وبخاصة في المدينة على المعلوم من مذهب مالك أنه يرى اشتهار العمل وهو حديث خرجه مسلم...)2320
و في الأوقات منهي عن الصلاة فيها ذهب (مالك وأصحابه إلى أن الأوقات المنهي عنها هي أربعة الطلوع والغروب وبعد الصبح وبعد العصر وأجاز الصلاة عند الزوال أن هذه الأوقات الخمسة كلها منهي عنها إلا وقت الزوال يوم الجمعة فإنه أجاز فيه الصلاة واستثنى قوم من ذلك الصلاة بعد العصر وسبب الخلاف في ذلك أحد شيئين إما معارضة أثر لأثر وإما معارضة الأثر للعمل عند من راعى العمل أعني عمل أهل المدينة وهو مالك بن أنس فحيث ورد النهي ولم يكن هناك معارض لا من قول ولا من عمل اتفقوا عليه وحيث ورد المعارض اختلفوا)2321(2/125)
وقال أيضا:( أما مالك فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث أعني الزوال أباح الصلاة فيه واعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل وأما من لم ير للعمل تأثيرا فبقي على أصله في المنع)2322
وفي الاختلاف في صيغ الآذان ،قال ابن رشد:(السبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الأربع فرق اختلاف الآثار في ذلك واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذاك وكذلك الكوفيون والبصريون ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله)2323 ولا شك أن كل واحد يرد بقية الآثار بما معه من العمل.
واختلفوا في التوجيه2324 في الصلاة فقال:( مالك ليس التوجيه بواجب في الصلاة ولا بسنة وسبب الاختلاف معارضة الآثار الواردة بالتوجيه للعمل عند مالك أو الاختلاف في صحة الآثار الواردة بذلك)2325
وفي شأن الاختلاف في رفع اليدين فيما عدا تكبيرة الإحرام،قال ابن رشد:( والسبب في هذا الاختلاف كله اختلاف الآثار الواردة في ذلك ومخالفة العمل (...) فمنهم من اقتصر به على الإحرام فقط ترجيحا لحديث عبد الله بن مسعود وحديث البراء بن عازب وهو مذهب مالك لموافقة العمل به)2326 ورد مالك غيرها من الأحاديث لأنها لا توافق العمل.
وفي صلاة القائم خلف القاعد (روى ابن القاسم أنه لا تجوز إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو قعودا بطلت صلاتهم وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع والأول هو المشهور عنه وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة العمل للآثار أعني عمل أهل المدينة عند مالك)2327(2/126)
واختلفوا فيمن جاء يوم الجمعة والإمام على المنبر هل يركع أم لا فذهب بعض إلى أنه لا يركع وهو مذهب مالك وذهب بعضهم إلى أنه يركع،قال ابن رشد:(والسبب في اختلافهم معارضة القياس لعموم الأثر وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين يوجب أن يركع الداخل في المسجد يوم الجمعة وإن كان الإمام يخطب والأمر بالإنصات إلى الخطيب يوجب دليله أن لا يشتغل بشيء مما يشغل عن الإنصات.
وإن كان عبادة ويؤيد عموم هذا الأثر ما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين خرجه مسلم وفي بعض رواياته وأكثر رواياته أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الرجل الداخل أن يركع )إلى أن قال:(فإن صحت الزيادة وجب العمل بها فإنها نص في موضوع الخلاف والنص لا يجب أن يعارض بالقياس لكن يشبه أن يكون الذي راعاه مالك في هذا هو العمل)2328
وفي الجمع في الحضر لعذر المطر،أجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا ومنعه مالك في النهار وأجازه في الليل وأجازه أيضا في الطين دون المطر في الليل،وقد رد مالك بعض حديث ابن عباس الذي فيه :(جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر) وتأول بعضه بالقول: أرى ذلك كان في مطر.قال ابن رشد:( وذلك شيء لا يجوز بإجماع وذلك أنه لم يأخذ بقوله فيه جمع بين الظهر والعصر وأخذ بقوله والمغرب والعشاء وتأوله وأحسب أن مالكا رحمه الله إنما رد بعض هذا الحديث لأنه عارضه العمل فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل وهو الجمع في الحضر بين المغرب والعشاء على ما روي أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء جمع معهم)2329(2/127)
واختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس في رمضان فاختار مالك في أحد قوليه و أبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود القيام بعشرين ركعة سوى الوتر وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يستحسن ستا وثلاثين ركعة والوتر ثلاثا قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم اختلاف النقل في ذلك وذلك أن مالكا روى عن يزيد بن رومان قال كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب بثلاث وعشرين ركعة وخرج ابن أبي شيبة عن داود ابن قيس قال أدركت الناس بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث وذكر ابن القاسم عن مالك أنه الأمر القديم يعني القيام بست وثلاثين ركعة)2330
واختلفوا في تكبيرات العيد قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم اختلاف الآثار المنقولة في ذلك عن الصحابة فذهب مالك رحمه الله إلى ما رواه عن ابن عمر أنه قال شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة وفي الآخرة خمسا قبل القراءة لأن العمل عنده بالمدينة كان على هذا وبهذا الأثر بعينه أخذ الشافعي إلا أنه تأول في السبع أنه ليس فيها تكبيرة الإحرام كما ليس في الخمس تكبيرة القيام ويشبه أن يكون مالك إنما أصاره إلى أن يعد تكبيرة الإحرام في السبع ويعد تكبيرة القيام زائدا على الخمس المروية أن العمل ألفاه على ذلك فكأنه عنده وجه من الجمع بين الأثر والعمل)2331 ويكون بذلك قد رد الآثار التي ليس عليها العمل.(2/128)
وأما عدد عزائم سجود القرآن فإن مالكا قال في الموطأ :الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء ،وقال أبو حنيفة هي اثنتا عشرة سجدة قال الطحاوي وهي كل سجدة جاءت بلفظ الخبر.قال ابن رشد:( والسبب في اختلافهم اختلافهم في المذاهب التي اعتمدوها في تصحيح عددها وذلك أن منهم من اعتمد عمل أهل المدينة ومنهم من اعتمد القياس ومنهم من اعتمد السماع أما الذين اعتمدوا العمل فمالك وأصحابه وأما الذين اعتمدوا القياس فأبو حنيفة وأصحابه(...) وأما الذين اعتمدوا السماع فإنهم صاروا إلى ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من سجوده في الانشقاق وفي اقرأ باسم ربك وفي والنجم و خرج ذلك مسلم.)2332 فمالك لم يلتفت إلى هذه الرواية رغم صحتها بترجيحه للعمل،وأورد المالكية ما يدعم رأيه بآثار أخرى غير هذا الحديث.
وفي صفة المشي مع الجنازة ذهب أهل المدينة إلى أن من سننها المشي أمامها وقال الكوفيون وأبو حنيفة وسائرهم إن المشي خلفها أفضل،قال ابن رشد:( وسبب اختلافهم اختلاف الآثار التي روى كل واحد من الفريقين عن سلفه وعمل به)2333
واختلف الناس في القراءة في صلاة الجنازة فقال مالك وأبو حنيفة ليس فيها قراءة إنما هو الدعاء(وقال مالك قراءة فاتحة الكتاب فيها ليس بمعمول به في بلدنا بحال قال وإنما يحمد الله ويثنى عليه بعد التكبيرة الأولى ثم يكبر الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر الثالثة فيشفع للميت ثم يكبر الرابعة ويسلم وقال الشافعي يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب ثم يفعل في سائر التكبيرات مثل ذلك وبه قال أحمد وداود وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر وهل يتناول أيضا اسم الصلاة صلاة الجنازة أم لا أما العمل فهو الذي حكاه مالك عن بلده وأما الأثر فما رواه البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال لتعلموا أنها السنة)2334(2/129)
واختلفوا في الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة ،قال ابن رشد:
(وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر أما مخالفة العمل فإن ابن القاسم قال قلت لمالك فالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر امرأة قال قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل والصلاة على القبر ثابتة باتفاق من أصحاب الحديث قال أحمد بن حنبل رويت الصلاة على القبر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طرق ستة كلها حسان وزاد بعض المحدثين ثلاثة طرق فذلك تسع وأما البخاري ومسلم فرويا ذلك من طريق أبي هريرة وأما مالك فخرجه مرسلا عن أبي أمامة بن سهل وقد روى ابن وهب عن مالك مثل قول الشافعي)2335
وفي أمر الزكاة اختلف العلماء في نصاب الذهب بين عشرين دينارا وزنا و أربعين دينارا ومن يرى أن ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفها مائتي درهم أو قيمتها ،قال ابن رشد:( وسبب اختلافهم في نصاب الذهب أنه لم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في نصاب الفضة وما روي عن الحسن بن عمارة من حديث علي أنه عليه الصلاة والسلام قال هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارا نصف دينار.
فليس عند الأكثر مما يجب العمل به لانفراد الحسن بن عمارة به فمن لم يصح عنده هذا الحديث اعتمد في ذلك على الإجماع وهو اتفاقهم على وجوبها في الأربعين وأما مالك فاعتمد في ذلك على العمل ولذلك قال في الموطأ السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم)2336 فإذا كان مالك أحيانا يرد الصحيح بالعمل فمن باب أولى أن يرد الضعيف به.(2/130)
وعن وقت قطع المحرم التلبية في الحج فإنهم اختلفوا في ذلك (فروى مالك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقطع التلبية إذا زاغت الشمس من يوم عرفة وقال مالك وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا(...)وقال جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث (...) لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة)
فمالك خالف الجمهور وظاهر الحديث لعمل علي وما كان عليه العمل بالمدينة.
وفي القول بخيار المجلس في البيوع خالف مالك ما رواه بنفسه في الموطأ لأنه لم يجد أهل المدينة عليه،قال ابن رشد:( وعمدة المشترطين لخيار المجلس حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار وفي بعض روايات هذا الحديث إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها حتى لقد زعم أبو محمد أن مثل هذا الإسناد يوقع العلم وإن كان من طريق الآحاد وأما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث فالذي اعتمد عليه مالك رحمه الله في رد العمل به أنه لم يلف عمل أهل المدينة عليه)2337
رد الأخبار التي تهم ما تعم به البلوى إذا لم تنتشر:(2/131)
فبخصوص رد الأخبار التي تهم ما تعم به البلوى إذا لم تنتشر نجد المثال التالي:قال أبو حنيفة في شأن الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة لا يصلي على القبر إلا الولي فقط إذا فاتته الصلاة على الجنازة وكان الذي صلى عليها غير وليها. فقال ابن رشد تعليقا على أبي حنيفة الذي رد أخبار الآحاد التي تعم بها البلوى إذا لم تنتشر:(وأما أبو حنيفة فإنه جرى في ذلك على عادته فيما أحسب أعني من رد أخبار الآحاد التي تعم بها البلوى إذا لم تنتشر ولا انتشر العمل بها وذلك أن عدم الانتشار إذا كان خبرا شأنه الانتشار قرينة توهن الخبر وتخرجه عن غلبة الظن بصدقه إلى الشك فيه أو إلى غلبة الظن بكذبه أو نسخه)2338
القول باختصاص النص بموضعه فلا يتعداه:
النص خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم:
اختلف العلماء في جواز صلاة الخوف بعد النبي عليه الصلاة والسلام وفي صفتها فأكثر العلماء على أن صلاة الخوف جائزة لعموم قوله تعالى:( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) الآية ولما ثبت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام وعمل الأئمة والخلفاء بعده بذلك.(2/132)
قال ابن رشد:(وشذ أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة فقال لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإمام واحد وإنما تصلى بعده بإمامين يصلي واحد منهما بطائفة ركعتين ثم يصلي الآخر بطائفة أخرى وهي الحارسة ركعتين أيضا وتحرس التي قد صلت والسبب في اختلافهم هل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف هي عبادة أو هي لمكان فضل النبي صلى الله عليه وسلم فمن رأى أنها عبادة لم ير أنها خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام ومن رآها لمكان فضل النبي عليه الصلاة والسلام رآها خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام و إلا فقد كان يمكن أن ينقسم الناس على إمامين وإنما كان ضرورة اجتماعهم على إمام واحد خاصة من خواص النبي عليه الصلاة والسلام وتأيد عنده هذا التأويل بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية ومفهوم الخطاب أنه إذا لم يكن فيهم فالحكم غير هذا الحكم)2339
وفي صفة غسل الجنازة اختلف العلماء هل ينزع عن الميت قميصه إذا غسل أم يغسل في قميصه فقال مالك تنزع ثيابه وتستر عورته، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يغسل في قميصه،قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم تردد غسله عليه الصلاة والسلام في قميصه بين أن يكون خاصا به وأنه لا يحرم من النظر إلى الميت إلا ما يحرم منه وهو حي قال يغسل عريانا إلا عورته فقط التي يحرم النظر إليها في حال الحياة ومن رأى أن ذلك سنة يستند إلى باب الإجماع أو إلى الأمر الإلهي لأنه روي في الحديث أنهم سمعوا صوتا يقول لهم لا تنزعوا القميص وقد ألقي عليهم النوم قال الأفضل أن يغسل الميت في قميصه)2340
وفي أمر الزكاة هل سهم المؤلفة قلوبهم2341 باق إلى اليوم أم لا ؟ فقال مالك لا مؤلفة اليوم وقال الشافعي وأبو حنيفة بل حق المؤلفة باق إلى اليوم إذا رأى الإمام ذلك. قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم هل ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أو عام له ولسائر الأمة والأظهر أنه عام)2342(2/133)
من شروط الحرب بلوغ الدعوة إلى الكفار فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا بعث سرية قال لأميرها إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.
وثبت ما يعارض هذا في الظاهر من فعله عليه الصلاة والسلام أنه كان يبيت العدو ويغير عليهم مع الغدوات .
قال ابن رشد:(فمن الناس وهم الجمهور من ذهب إلى أن فعله ناسخ لقوله وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام قبل أن تنتشر الدعوة بدليل دعوتهم فيه إلى الهجرة ومن الناس من رجح القول على الفعل وذلك بأن حمل الفعل على الخصوص ومن استحسن الدعاء فهو وجه من الجمع)2343 فقوله على الخصوص أي خاص بالنبي (.
وفي مسائل النكاح بخصوص ما يتعلق بأحكام الولاية،هل يجوز للولي أن ينكح وليته من نفسه أم لا يجوز ذلك فمنع ذلك الشافعي قياسا على الحاكم والشاهد أعني أنه لا يحكم لنفسه ولا يشهد لنفسه وأجاز ذلك مالك،قال ابن رشد:( ولا أعلم له حجة في ذلك إلا ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام تزوج أم سلمة بغير ولي لأن ابنها كان صغيرا وما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أعتق صفية فجعل صداقها عتقها والأصل عند الشافعي في أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم أنها على الخصوص حتى يدل الدليل على العموم لكثرة خصوصيته في هذا المعنى صلى الله عليه وسلم ولكن تردد قوله في الإمام الأعظم)2344(2/134)
واختلف العلماء في الأمي هل يجوز أن يكون قاضيا ،قال ابن رشد (والأبين جوازه لكونه عليه الصلاة والسلام أميا وقال قوم لا يجوز وعن الشافعي القولان جميعا لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا به لموضع العجز)2345
الأصل أن أفعاله لازمة لنا إلا ما قام الدليل على خصوصيته:
منع فقهاء الأمصار أن يكون العتق صداقا ما عدا داود وأحمد (وسبب اختلافهم معارضة الأثر الوارد في ذلك للأصول أعني ما ثبت من أنه عليه الصلاة والسلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها مع احتمال أن يكون هذا خاصا به عليه الصلاة والسلام لكثرة اختصاصه في هذا الباب ووجه مفارقته للأصول أن العتق إزالة ملك والإزالة لا تتضمن استباحة الشيء بوجه آخر لأنها إذا أعتقت ملكت نفسها فكيف يلزمها النكاح ولذلك قال الشافعي إنها إن كرهت زواجه غرمت له قيمتها لأنه رأى أنها قد أتلفت عليه قيمتها إذا كان إنما أتلفها بشرط الاستمتاع بها وهذا كله لا يعارض به فعله عليه الصلاة والسلام ولو كان غير جائز لغيره لبينه عليه الصلاة والسلام والأصل أن أفعاله لازمة لنا إلا ما قام الدليل على خصوصيته)2346
خاص بغير النبي صلى الله عليه وسلم:(2/135)
من ذلك من قال بخصوصية الحكم لمعاذ بن جبل ( : فقد اختلف العلماء في عدم توافق نية المأموم نية الإمام فمنع ذلك مالك وأبو حنيفة وأجازه الشافعي قال ابن رشد:( والسبب في اختلافهم معارضة مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام إنما جعل الإمام ليؤتم به لما جاء في حديث معاذ من أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يصلي بقومه فمن رأى ذلك خاصا لمعاذ وأن عموم قوله عليه الصلاة والسلام إنما جعل الإمام ليؤتم به يتناول النية اشترط موافقة نية الإمام للمأموم ومن رأى أن الإباحة لمعاذ في ذلك هي إباحة لغيره من سائر المكلفين وهو الأصل قال لا يخلو الأمر في ذلك الحديث الثاني من أحد أمرين إما أن يكون ذلك العموم الذي فيه لا يتناول النية لأن ظاهره إنما هو في الأفعال فلا يكون بهذا الوجه معارضا لحديث معاذ وإما أن يكون يتناولها فيكون حديث معاذ قد خصص في ذلك العموم )2347
ومنه القول بخصوصية النجاشي بصلاة الغائب:فأكثر العلماء على أنه لا يصلى إلا على الحاضر (وقال بعضهم يصلى على الغائب لحديث النجاشي والجمهور على أن ذلك خاص بالنجاشي وحده )2348
ومنه القول بخصوصية الأعرابي المحرم الذي وقصته ناقته :فقد اتفقوا على أن الميت يغطى رأسه ويطيب إلا المحرم إذا مات في إحرامه فإنهم اختلفوا فيه فقال مالك وأبو حنيفة المحرم بمنزلة غير المحرم وقال الشافعي لا يغطى رأس المحرم إذا مات ولا يمس طيبا.(2/136)
قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص فأما الخصوص فهو حديث ابن عباس قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقصته راحلته فمات وهو محرم فقال كفنوه في ثوبين واغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة يلبي وأما العموم فهو ما ورد من الأمر بالغسل مطلقا فمن خص من الأموات المحرم بهذا الحديث كتخصيص الشهداء بقتلى أحد جعل الحكم منه عليه الصلاة والسلام على الواحد حكما على الجميع وقال لا يغطى رأس المحرم ولا يمس طيبا ومن ذهب مذهب الجمع لا مذهب الاستثناء والتخصيص قال حديث الأعرابي خاص به لا يعدى إلى غيره)2349
ومن الفقهاء من قال بخصوصية الصحابة في متعة الحج وفسخ الحج في عمرة ،فقد اختلف العلماء في نوعين من التمتع أحدهما فسخ الحج في عمرة وهو تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة فجمهور العلماء يكرهون ذلك في الصدر الأول وفقهاء الأمصار وذهب ابن عباس إلى جواز ذلك وبه قال أحمد وداود (وكلهم متفقون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حج بفسخ الحج في العمرة وهو قوله عليه الصلاة والسلام لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة.
وأمره لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ إهلاله في العمرة وبهذا تمسك أهل الظاهر والجمهور رأوا ذلك من باب الخصوص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتجوا بما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المدني عن أبيه قال قلت يا رسول الله أفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا قال لنا خاصة وهذا لم يصح عند أهل الظاهر صحة يعارض بها العمل المتقدم وروي عن عمر أنه قال متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج وروي عن عثمان أنه قال متعة الحج كانت لنا وليست لكم وقال أبو ذر ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه في عمرة..)2350(2/137)
ومنهم من رأى خصوصية بني النضير في تخريب ديارهم في الحرب ،فقد اختلف الفقهاء في النكاية التي تجوز في أموال العدو أثناء الحرب وذلك في المباني والحيوان والنبات فأجاز مالك قطع الشجر والثمار وتخريب العامر ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل وكره الأوزاعي قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك وقال الشافعي تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل.
قال ابن رشد:(والسبب في اختلافهم مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه الصلاة والسلام وذلك أنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام حرق نخل بني النضير وثبت عن أبي بكر أنه قال لا تقطعن شجرا ولا تخربن عامرا فمن ظن أن فعل أبي بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز على أبي بكر أن يخالفه مع علمه بفعله أو رأى أن ذلك كان خاصا ببني النضير لغزوهم قال بقول أبي بكر..)2351
ومن الفقهاء من يرى خصوصية لمد المدينة دون غيره لدعوة النبي ( في بالبركة،ففي مقدار الإطعام الواجب في الكفارة قال مالك والشافعي وأهل المدينة يعطى لكل مسكين مد من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن مالكا قال المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم وأما سائر المدن فيعطون الوسط من نفقتهم وقال ابن القاسم يجري المد في كل مدينة مثل قول الشافعي وقال أبو حنيفة يعطيهم نصف صاع من حنطة أو صاعا من شعير أو تمر قال فإن غداهم وعشاهم أجزأه.وقال ابن رشد بعد استعراض سبب الاختلاف: (وقيل بل هم أهل البلد الذي هو فيهم وعلى هذا فالمعتبر في اللازم له هو الوسط من عيش أهل البلد لا من عيشه أعني الغالب وعلى هذين القولين يحمل قدر الوسط من الإطعام أعني الوسط من قدر ما يطعم أهله أو الوسط من قدر ما يطعم أهل البلد أهليهم إلا في المدينة خاصة)2352(2/138)
لم ير الشافعي وأبو يوسف لزوم شيء في حق من نذر ذبح ولده،أي عدم لزوم ما رآه بعض الفقهاء بدلا من النذر مثل شاة أو مائة من الإبل أو هدي أو غير ذلك قدوة بإبراهيم عليه السلام،واعتبر الشافعي وأبو يوسف أن الظاهر من قصة إبراهيم أنها خاصة به ولم تكن شرعا لزمانه .
يقول ابن رشد عن سبب الاختلاف في هذه المسألة:(والخلاف في هل يلزمنا شرع من قبلنا مشهور لكن يتطرق إلى هذا خلاف آخر وهو أن الظاهر من هذا الفعل أنه كان خاصا بإبراهيم ولم يكن شرعا لأهل زمانه وعلى هذا فليس ينبغي أن يختلف هل هو شرع لنا أم ليس بشرع والذين قالوا إنه شرع إنما اختلفوا في الواجب في ذلك من قبل اختلافهم أيضا في هل يحمل الواجب في ذلك على الواجب على إبراهيم أم يحمل على غير ذلك من القرب الإسلامية وذلك إما صدقة بديته وإما حج به وإما هدي بدنة وأما الذين قالوا مائة من الإبل فذهبوا إلى حديث عبد المطلب)2353
وفي مقدار الصداق من الفقهاء من رفض القياس على الرجل الذي زوجه النبي ( بما معه من القرآن باعتبار ذلك خاصا بذلك الرجل. قال ابن رشد:( وإنما صار المرجحون لهذا القياس على مفهوم الأثر لاحتمال أن يكون ذلك الأثر خاصا بذلك الرجل لقوله فيه قد أنكحتكها بما معك من القرآن وهذا خلاف للأصول وإن كان قد جاء في بعض رواياته أنه قال قم فعلمها لما ذكر أنه معه من القرآن فقام فعلمها فجاء نكاحا بإجارة)2354(2/139)
ومن الفقهاء من رأى في خيار المجلس حكما خاصا بالرجل الذي كان يخدع زمن النبي ( قال ابن رشد:(أما جواز الخيار فعليه الجمهور إلا الثوري وابن أبي شبرمة وطائفة من أهل الظاهر وعمدة الجمهور حديث حبان بن منقذ وفيه ولك الخيار ثلاثا وما روي في حديث ابن عمر البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار وعمدة من منعه أنه غرر وأن الأصل هو اللزوم في البيع إلا أن يقوم دليل على جواز البيع على الخيار2355 من كتاب الله أو سنة ثابتة أو إجماع قالوا وحديث ابن حبان إما أنه ليس بصحيح وإما أنه خاص لما شكى إليه صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع)2356
وفي المساقاة رأى أبو حنيفة عدم جوازها واعتبر ما فعله النبي ( مع يهود خيبر من دفع نخل خيبر وأرضها لهم ليعملوا فيها وللنبي ( شطر ثمارها،هو خاص بيهود خيبر،قال ابن رشد:( وأما أبو حنيفة ومن قال بقوله فعمدتهم مخالفة هذا الأثر للأصول مع أنه حكم مع اليهود واليهود يحتمل أن يكون أقرهم على أنهم عبيد ويحتمل أن يكون أقرهم على أنهم ذمة إلا أنا إذا أنزلنا أنهم ذمة كان مخالفا للأصول لأنه بيع ما لم يخلق وأيضا فإنه من المزابنة وهو بيع التمر بالتمر متفاضلا لأن القسمة بالخرص بيع الخرص.(2/140)
واستدلوا على مخالفته للأصول بما روي في حديث عبد الله بن رواحة أنه كان يقول لهم عند الخرص إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم وهذا حرام باجماع وربما قالوا إن النهي الوارد عن المخابرة هو ما كان من هذا الفعل بخيبر والجمهور يرون أن المخابرة هي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها قالوا ومما يدل على نسخ هذا الحديث أو أنه خاص باليهود ما ورد من حديث رافع وغيره من النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها لأن المساقاة تقتضي جواز ذلك وهو خاص أيضا في بعض روايات أحاديث المساقاة ولهذا المعنى لم يقل بهذه الزيادة مالك ولا الشافعي أعني بما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة وهي زيادة صحيحة وقال بها أهل الظاهر)2357
قواعد في تعارض النص وغيره:
ظاهر الكتاب أولى أن يتبع:
يقول ابن رشد في معرض حديثه عن آسار الحيوان(والمسألة اجتهادية محضة يعسر أن يوجد فيها ترجيح ولعل الأرجح أن يستثنى من طهارة آسار الحيوان الكلب والخنزير والمشرك لصحة الآثار الواردة في الكلب ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع في القول بنجاسة عين الخنزير والمشرك من القياس وكذلك ظاهر الحديث وعليه أكثر الفقهاء أعني على القول بنجاسة سؤر الكلب فإن الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب مخيل ومناسب في الشرع لنجاسة الماء الذي ولغ فيه أعني أن المفهوم بالعادة في الشرع من الأمر بإراقة الشيء وغسل الإناء منه هو لنجاسة الشيء)2358
الجمع بين القياس والأثر:(2/141)
مثل قوله: (وأما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة فمعارضة القياس أيضا للأثر وذلك أنه ثبت أن حفصة وعائشة وزينب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن حين ضربن أخبيتهن فيه فكان هذا الأثر دليلا على جواز اعتكاف المرأة في المسجد وأما القياس المعارض لهذا فهو قياس الاعتكاف على الصلاة وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء في الخبر وجب أن يكون الاعتكاف في بيتها أفضل قالوا وإنما يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من اعتكاف أزواجه عليه الصلاة والسلام معه كما تسافر معه ولا تسافر مفردة وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر) 2359
من ضوابط إعمال القياس مع وجود النص:
يرى ابن رشد جواز القياس مع وجود النص إذا كان اللفظ محتملا للتأويل فيغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس أو يرجح القياس الموافق لاحتمالات النص، يقول: وقال المتأخرون من أهل النظر حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا وهي مسألة مختلف فيها.
لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا فالواجب أن يغلب على القياس وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون وربما كان الذوقان على التساوي ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس كل مجتهد مصيب 2360
المبحث الثالث
نماذج من أوجه الاجتهاد الخاصة
بآيات الأحكام في " البداية "
أ- القراءات القرآنية:(2/142)
أرجع ابن رشد سبب اختلاف الفقهاء في نوع طهارة القدمين إلى اختلاف القراءتين في آية الوضوء (فقال قوم طهارتهما الغسل وهم الجمهور وقال قوم فرضهما المسح وقال قوم بل طهارتهما تجوز بالنوعين الغسل والمسح وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء أعني قراءة من قرأ وأرجلكم بالنصب عطفا على المغسول وقراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض عطفا على الممسوح)2361
ثم بين أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين وغير ذلك .
وممن قال بهذا الرأي الطبري وداود.ثم شرع في ذكر تأويلات الجمهور في قراءة الخفض واعتبر أجودها قولهم بأن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى مستدلين بكلام العرب وأشعارهم،كما أيدوا مذهبهم بالثابت من الآثار. ثم من طريق المعنى اعتبروا الغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل وينقى دنس الرأس بالمسح2362.(2/143)
وفي المسح على الخفين،قال ابن رشد: (واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم أنه كان يعجبهم حديث جرير وذلك أنه روى أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفين فقيل له إنما كان ذلك قبل نزول المائدة فقال ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة وقال المتأخرون القائلون بجوازه ليس بين الآية والآثار تعارض لأن الأمر بالغسل إنما هو متوجه إلى من لا خف له والرخصة إنما هي للابس الخف وقيل إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض هو المسح على الخفين وأما من فرق بين السفر والحضر فلأن أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه عليه الصلاة والسلام إنما كانت في السفر مع أن السفر مشعر بالرخصة والتخفيف والمسح على الخفين هو من باب التخفيف فإن نزعه مما يشق على المسافر)2363 وما يهمنا من النص هنا هو قوله في تأويل البعض قراءة الأرجل بالخفض هو المسح على الخفين.
وفي قضاء الصوم فإن بعض الفقهاء أوجب أن يكون القضاء متتابعا على صفة الأداء وبعضهم لم يوجب ذلك وهؤلاء منهم من خير ومنهم من استحب التتابع والجماعة على ترك إيجاب التتابع،قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم تعارض ظواهر اللفظ والقياس وذلك أن القياس يقتضي أن يكون الأداء على صفة القضاء أصل ذلك الصلاة والحج أما ظاهر قوله تعالى: فعدة من أيام أخر فإنما يقتضي إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع، وروي عن عائشة أنها قالت نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات فسقطت متتابعات)2364 أي كانت مما نسخ.وقد تكون عند البعض من المنسوخ تلاوة المستمر حكما.(2/144)
واختلف العلماء فيمن مات وعليه صوم بين من قالوا لا يصوم أحد عن أحد ومن قالوا يصوم عنه وليه ومن قالوا لا صيام ولا إطعام إلا أن يوصي به وآخرون لم يوجبوا الصوم قالوا يطعم عنه وليه ،قال ابن رشد في هذا الرأي الأخير:( وأما من أوجب الإطعام فمصيرا إلى قراءة من قرأ وعلى الذين يطيقونه فدية الآية )2365 قال ابن العربي في أحكامه:( قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين } : وفي هذه الآيات قراءات وتأويلات واختلافات وهي بيضة العقر . قرئ يطيقونه بكسر الطاء وإسكان الياء , وقرئ بفتح الطاء والياء وتشديدهما , وقرئ كذلك بتشديد الياء الثانية , لكن الأولى مضمومة , وقرئ يطوقونه , والقراءة هي القراءة الأولى , وما وراءها وإن روي وأسند فهي شواذ , والقراءة الشاذة لا ينبني عليها حكم)2366
وفي الاختلاف في الحامل والمرضع إذا أفطرتا ماذا عليهما ،قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم تردد شبههما بين الذي يجهده الصوم وبين المريض فمن شبههما بالمريض قال عليهما القضاء فقط ومن شبههما بالذي يجهده الصوم قال عليهما الإطعام فقط بدليل قراءة من قرأ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين الآية)2367 إلى أن قال :(ومن فرق بين الحامل والمرضع ألحق الحامل بالمريض وأبقى حكم المرضع مجموعا من حكم المريض وحكم الذي يجهده الصوم أو شبهها بالصحيح ومن أفرد لهما أحد الحكمين أولى والله أعلم ممن جمع كما أن من أفردهما بالقضاء أولى ممن أفردهما بالإطعام فقط لكون القراءة غير متواترة فتأمل هذا فإنه بين)2368(2/145)
وفي الشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يقدران على الصيام فإن الفقهاء أجمعوا على أن لهما أن يفطرا واختلفوا فيما عليهما بين الإطعام وعدمه قال ابن رشد:( وسبب اختلافهم اختلافهم في القراءة التي ذكرنا أعني قراءة من قرأ وعلى الذين يطوقونه فمن أوجب العمل بالقراءة التي لم تثبت في المصحف إذا وردت من طريق الآحاد العدول قال الشيخ منهم ومن لم يوجب بها عملا جعل حكمه حكم المريض الذي يتمادى به المرض حتى يموت )2369
واختلف العلماء في كفارة المنتهك حرمة الصيام بالجماع هل هي مرتبة2370 ككفارة الظهار أو هي على التخيير2371 ،قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم في وجوب الترتيب تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة (...) وأما استحباب الابتداء بالإطعام فمخالف لظواهر الآثار وإنما ذهب إلى هذا من طريق القياس لأنه رأى الصيام قد وقع بدله الإطعام في مواضع شتى من الشرع وأنه مناسب له أكثر من غيره بدليل قراءة من قرأ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين ولذلك استحب هو وجماعة من العلماء لمن مات وعليه صوم أن يكفر بالإطعام عنه وهذا كأنه من باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول)2372
وفي حكم السعي بين الصفا والمروة اختلف الفقهاء بين الوجوب والسنية ومجرد التطوع قال ابن رشد في دليل من لم يوجبه :( وعمدة من لم يوجبه قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما قالوا إن معناه أن لا يطوف وهي قراءة ابن مسعود وكما قال سبحانه يبين الله لكم أن تضلوا معناه أي لئلا تضلوا وضعفوا حديث ابن المؤمل،وقالت عائشة الآية على ظاهرها وإنما نزلت في الأنصار تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة على ما كانوا يسعون عليه في الجاهلية لأنه كان موضع ذبائح المشركين وقد قيل إنهم كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تعظيما لبعض الأصنام فسألوا عن ذلك فنزلت هذه الآية مبيحة لهم)2373(2/146)
وفي الاختلاف الواقع في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في صيام الكفارة ،قال ابن رشد:( وسبب اختلافهم في ذلك شيئان أحدهما هل يجوز العمل بالقراءة التي ليست في المصحف وذلك أن في قراءة عبد الله بن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات والسبب الثاني اختلافهم هل يحمل الأمر بمطلق الصوم على التتابع أم ليس يحمل إذا كان الأصل في الصيام الواجب بالشرع إنما هو التتابع)2374
وفي الاختلاف في المقدار المحرم من اللبن بخصوص الرضاع،قال ابن رشد:(والسبب في اختلافهم في هذه المسألة معارضة عموم الكتاب للأحاديث الواردة في التحديد ومعارضة الأحاديث في ذلك بعضها بعضا) ثم ذكر من أدلة المحددين حديث عائشة رضي الله عنها :(قالت كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن فمن رجح ظاهر القرآن على هذه الأحاديث قال تحرم المصة والمصتان ومن جعل الأحاديث مفسرة للآية وجمع بينها وبين الآية ورجح مفهوم دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام لا تحرم المصة ولا المصتان على مفهوم دليل الخطاب في حديث سالم قال الثلاثة فما فوقها هي التي تحرم)2375
ب- الخلاف في البسملة:
اختلف الفقهاء في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح القراءة في الصلاة فمنع ذلك مالك في الصلاة المكتوبة مطلقا وأجازها في النافلة، وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد بقراءتها سرا مع أم القرآن في كل ركعة. وأوجب الشافعي ذلك في كل الأحوال ،وهي عنده آية من فاتحة الكتاب وبه قال أحمد وأبو ثور وأبو عبيد واختلف قول الشافعي هل هي آية من كل سورة أم إنما هي من سورة النمل فقط ومن فاتحة الكتاب فروي عنه القولان جميعا.(2/147)
قال ابن رشد :(وسبب الخلاف في هذا آيل إلى شيئين أحدهما اختلاف الآثار في هذا الباب والثاني اختلافهم هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب أم لا)2376 ثم استعرض الأحاديث التي استدل بها من أسقط قراءة البسملة ومن اعتبر تلاوتها في الصلاة من السلف حدثا وبدعة .ثم أورد قول ابن عبد البر:(قال أبو عمر إلا أن أهل الحديث قالوا في حديث أنس هذا إن النقل فيه مضطرب اضطرابا لا تقوم به حجة..)2377
ثم ذكر أحاديث الموجبين قراءتها ثم قال:( فاختلاف هذه الآثار أحد ما أوجب اختلافهم في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة)2378
ثم تحدث عن السبب الثاني وهو هل "بسم الله الرحمن الرحيم" آية من أم الكتاب وحدها أو من كل سورة أم ليست آية لا من أم الكتاب ولا من كل سورة إلا ما كان من سورة النمل؟
فمن رأى أنها آية من أم الكتاب أوجب قراءتها بوجوب قراءة أم الكتاب عنده في الصلاة ومن رأى أنها آية من أول كل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة . ثم قال ابن رشد:(وهذه المسألة قد كثر الاختلاف فيها والمسألة محتملة ولكن من أعجب ما وقع في هذه المسألة أنهم يقولون ربما اختلف فيه هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن في غير سورة النمل أم إنما هي آية من القرآن في سورة النمل فقط ويحكون على جهة الرد على الشافعي أنها لو كانت من القرآن في غير سورة النمل لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن نقل تواترا وهذا الذي قاله القاضي في الرد على الشافعي وظن أنه قاطع.)2379 وأورد انتصار أبي حامد لهذا الرأي،ثم قال:
( وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم فإنه كيف يجوز في الآية الواحدة بعينها أن يقال فيها إنها من القرآن في موضع وإنها ليست من القرآن في موضع آخر.)2380(2/148)
ثم انتهى إلى القول:(بل يقال إن بسم الله الرحمن الرحيم قد ثبت أنها من القرآن حيثما ذكرت وأنها آية من سورة النمل وهل هي آية من سورة أم القرآن ومن كل سورة يستفتح بها مختلف فيه والمسألة محتملة وذلك أنها في سائر السور فاتحة وهي جزء من سورة النمل فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم)2381
المبحث الرابع
دور معرفة
أسباب النزول وأسباب الورود
في الفهم والاستنباط
أـ دور معرفة أسباب النزول في الفهم والاستنباط:
لا تخلو "البداية" من إشارات إلى أسباب النزول في بعض الآيات وفيما يلي بعض الأمثلة من ذلك:
اختلف العلماء في حد العورة من الرجل والمرأة والظاهر من مذهب مالك أنها من سنن الصلاة بينما هي عند الأحناف والشافعية من فروضها ،قال ابن رشد:(وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار واختلافهم في مفهوم قوله تعالى:( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) هل الأمر بذلك على الوجوب أو على الندب فمن حمله على الوجوب قال المراد به ستر العورة واحتج لذلك بأن سبب نزول هذه الآية كان أن المرأة كانت تطوف بالبيت عريانة وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن حمله على الندب قال المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغير ذلك من الملابس)2382(2/149)
وفي حكم السعي بين الصفا والمروة في قوله تعالى:( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) قالت عائشة رضي الله عنها:(الآية على ظاهرها وإنما نزلت في الأنصار تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة على ما كانوا يسعون عليه في الجاهلية لأنه كان موضع ذبائح المشركين وقد قيل إنهم كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تعظيما لبعض الأصنام فسألوا عن ذلك فنزلت هذه الآية مبيحة لهم وإنما صار الجمهور إلى أنها من أفعال الحج لأنها صفة فعله صلى الله عليه وسلم تواترت بذلك الآثار أعني وصل السعي بالطواف)2383
اختلف الفقهاء فيمن حرم على نفسه شيئا من المباحات فمنهم قائل: لا يلزم ما عدا الزوجة ومنهم من قال: ليس في ذلك شيء وبعضهم رأى في ذلك كفارة يمين، قال ابن رشد:(وسبب اختلافهم معارضة مفهوم النظر لظاهر قوله تعالى: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك، وذلك أن النذر ليس هو اعتقاد خلاف الحكم الشرعي أعني من تحريم محلل أو تحليل محرم وذلك أن التصرف في هذا إنما هو للشارع فوجب أن يكون لمكان هذا المفهوم أن من حرم على نفسه شيئا أباحه الله له بالشرع أنه لا يلزمه كما لا يلزم إن نذر تحليل شيء حرمه الشرع.
وظاهر قوله تعالى: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، أثر العتب على التحريم يوجب أن تكون الكفارة تحل هذا العقد. وإذا كان ذلك كذلك فهو غير لازم، والفرقة الأولى تأولت التحريم المذكور في الآية أنه كان العقد بيمين، وقد اختلف في الشيء الذي نزلت فيه هذه الآية وفي كتاب مسلم أن ذلك كان في شربة عسل وفيه عن ابن عباس أنه قال إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)2384(2/150)
واختلف الفقهاء في حد الحرابة من ذلك في أربعة مواضع أحدها هل تقبل توبته والثاني إن قبلت فما صفة المحارب الذي تقبل توبته فإن لأهل العلم في ذلك قولين قول إنه تقبل توبته وهو أشهر لقوله تعالى:( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) وقول: إنه لا تقبل توبته،قال ابن رشد:( قال ذلك من قال إن الآية لم تنزل في المحاربين )2385
ب ـ معرفة أسباب ورود الحديث ودوره في الفهم والاستنباط:
تعتبر منزلة هذا الفن من الحديث كمنزلة أسباب النزول من القرآن الكريم .وهو طريق قوي لفهم الحديث، ،ومن أمثلة ما ورد في "البداية":
اختلاف الفقهاء في عدد ما يجزئ من الضحايا عن المضحين ،فأجاز مالك ذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحيا عن نفسه وعن أهل بيته الذين تلزمه نفقتهم بالشرع، وأجاز الشافعي وأبو حنيفة وجماعة أن ينحر الرجل البدنة والبقرة عن سبع قال ابن رشد:( وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للقياس المبني على الأثر الوارد في الهدايا وذلك أن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد (...) لأن الأمر بالتضحية لا يتبعض إذ كان من كان له شرك في ضحية ليس ينطلق عليه اسم مضح إلا إن قام الدليل الشرعي على ذلك)
ثم قال:(وأما الأثر الذي انبنى عليه القياس المعارض لهذا الأصل فما روي عن جابر أنه قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبع وفي بعض روايات الحديث سن رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.
فقاس الشافعي وأبو حنيفة الضحايا في ذلك على الهدايا وأما مالك فرجح الأصل على القياس المبني على هذا الأثر لأنه اعتل لحديث جابر بأن ذلك كان حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وهدي المحصر بعدو ليس هو عنده واجبا وإنما هو تطوع وهدي التطوع يجوز عنده فيه الاشتراك ولا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب )2386(2/151)
و في المضاربة في حال اختلاف العامل ورب المال في تسمية الجزء الذي تقارضا عليه، قال مالك القول قول العامل لأنه عنده مؤتمن وكذلك الأمر عنده في جميع دعاويه إذا أتى بما يشبه.
وقال الليث يحمل على قراض مثله وبه قال مالك إذا أتى بما لا يشبه، وقال أبو حنيفة وأصحابه القول قول رب المال وبه قال الثوري وقال الشافعي يتحالفان ويتفاسخان ويكون له أجرة مثله.قال ابن رشد:(وسبب اختلاف مالك وأبي حنيفة اختلافهم في سبب ورود النص بوجوب اليمين على المدعى عليه هل ذلك لأنه مدعى عليه أو لأنه في الأغلب أقوى شبهة فمن قال لأنه مدعى عليه قال القول قول رب المال ومن قال لأنه أقواهما شبهة في الأغلب قال القول قول العامل لأنه عنده مؤتمن وأما الشافعي فقاس اختلافهما على اختلاف المتبايعين في ثمن السلعة)2387
وأود أن أختم هنا بمثال خارج "البداية" يتعلق بالخلاف الواقع بين الفقهاء في مسألة الحجامة،وعلاقتها بإفساد الصوم،حيث يذهب الكثيرون ليس فقط إلى إفساد صوم المحجوم وإنما الحاجم أيضا على ظاهر الحديث الوارد في ذلك،والذي يبتر عادة عن سياقه وسبب وروده فلا يبقى غير التسليم به على سيبل العبادة كما هو الحال في مثل هذه المواقف.وربما نقل بعض المعاصرين هذا الخلاف إلى زماننا بقياس التبرع بالدم على الحجامة.فيصيب الحديث الأطباء والممرضين والمختصين في مراكز تحاقن الدم وغيرها،وربما قد يطرح جدوى اشتغالهم في رمضان أصلا إلا ما يكون من حالات الضرورة المستثناة.(2/152)
والحال أن معرفة سبب ورود الحديث وظروف قول النبي ( له تنهي هذا الجدال وتجعل الكلام السابق غير ذي موضوع ،فنحن أمام روايتين رغم ضعف الأولى منهما إلا أنه يستأنس بها في مثل هذه المواطن ،وتخص الأولى مرور النبي ( بحاجم ومحجوم يغتابان الناس فقال ( :أفطر الحاجم والمحجوم ،فتخرج بذلك الحجامة من الموضوع وتنتقل إلى الغيبة التي يمكن أن توجد في كل أصناف الناس وتجمعاتهم.والرواية الثانية ربطت الحكم بعلة الضرر الحاصل من الفعل فتتعدى إلى مثلها وما يشبهها أو يفوقها.
جاء في كتاب السيوطي "أسباب ورود الحديث"ما يلي:(أخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق غياث بن كلوب الكوفي عن مطرف بن سمرة بن جندب عن أبيه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل بين يدي حجام وذلك في رمضان وهما يغتابان رجل فقال أفطر الحاجم والمحجوم قال البيهقي غياث هذا مجهول وأخرج أحمد عن ابن عباس قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائما محرما فغشي عليه، قال فلذلك كره الحجامة للصائم)2388
الفصل الرابع
دور تعلم دلالات الألفاظ
في تربية ملكة الاجتهاد
المبحث الأول
تعلم ما يتعلق بالنص والمجمل
يقول ابن رشد بخصوص مبحث دلالات الألفاظ ومنزلته من علم أصول الفقه )هذا الجزء هو النظر فيه أخص بهذا العلم )2389 ويعني بهذا القسم ما يقع به الفهم عن الشرع من لفظ أو قرينة.ثم قسم اللفظ إلى ما يدل على الحكم بصيغته , وإلى ما يدل على الحكم بمفهومه ومعقوله.وقسم القرينة بدورها قسمين : قسم يهم أفعاله ( , وقسم يهم تقريراته.وقد بقي وفيا لهذا التقسيم في "البداية" أيضا،بحيث قسم ما هو منطوق به في الشرع إلى هذه الأقسام الثلاثة فقال في مقدمة الكتاب:
( إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي عليه الصلاة والسلام بالجنس ثلاثة : إما لفظ ، وإما فعل ، وإما إقرار)2390(2/153)
ثم جرى في الألفاظ على عادة الأصوليين الذين قسموها إلى أربعة أصناف :المجمل و النص والظاهر والمؤول،ثم قسم كل واحد منها إلى ما هو كذلك من جهة الصيغة،وإلى ما هو من جهة المفهوم2391. فنكون مع ابن رشد أمام ثمانية أصناف بحسب تصريحه أو سبعة بحسب واقع الأمر.
ويشرح ذلك بقوله:( ومن هذه الألفاظ والأقاويل ما تدل بمفهوماتها لا بصيغها وذلك لتغييرها بالنقص والحذف أو الزيادة, وكذلك أيضا بالتبديل والاستعارة. وهذا الصنف من الألفاظ يسمى مجازا2392.وهذه يوجد فيها أيضا ما يشبه النص والمجمل والظاهر والمؤول, وإنما يوجد ذلك فيها من جهة القرائن لا من صيغها. فيكون إذا النص المستعمل في هذه الصناعة يعنى به صنفان : أحدهما ما كان نصا من جهة الصيغ, والثاني ما كان نصا من جهة المفهوم. وبمثل هذه القسمة ينقسم الظاهر والمجمل والمؤول.)2393 ثم دافع عن تقسيمه هذا الذي يبدو مخترعا بهذا الشكل بقوله:( ويشبه أن تكون قسمة الألفاظ إلى هذه الأصناف هي النافعة في هذه الصناعة)2394
تعلم ما يتعلق بالنص والمجمل:
أ-النص من جهة الصيغة:
النص من جهة الصيغة: ما يفهم عنه بصيغته في كل موضع معنى واحدا أبدا،سواء كان اسما أو فعلا أو حرفا، جاء بصيغة مفردة أو مركبة.2395 ومثال المفرد: الإنسان الفرس الحيوان, والمركب ما تركب عن المفردات النصوص ولم تكن،الضمائر فيه محتملة أن تعود على معنى أكثر من واحد.مثل قوله تعالى: ( قل هو الله أحد (2396,
ويقول عن النص في "البداية"مع بيان حكمه:( والأعيان التي يتعلق بها الحكم إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد فقط ، وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص ، ولا خلاف في وجوب العمل به )2397
ب-النص من جهة المفهوم:(2/154)
لما كان اللفظ إنما يصير دالا بمفهومه عندما تحذف بعض أجزائه ، أو يزاد فيه أو يستعار ويبدل ،فإن دلالته لا تكون إلا من جهة القرائن ( فإن كانت القرينة غير متبدلة وقاطعة على مفهومه سمي أيضا ههنا نصا)2398 و مثال ما كان من ذلك بمنزلة النص قوله تعالى : (واسأل القرية التى كنا فيها). فإنه يعلم قطعا أنه أراد أهل القرية ، وكذلك قوله تعالى : (حرمت عليكم أمهاتكم ) . فإن المفهوم ههنا قطعا إنما هو النكاح.2399
نماذج مما جاء على سبيل النص:
ففي الصلاة في أن الواجب هو خمس صلوات فقط قوله:( أما الأحاديث التي مفهومها وجوب الخمس فقط بل هي نص في ذلك فمشهورة وثابتة ومن أبينها في ذلك ما ورد في حديث الإسراء المشهور أنه لما بلغ الفرض إلى خمس قال له موسى ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك...)2400
وقوله في الإبراد وقت الحر الشديد (فرجح قوم حديث الإبراد إذ هو نص وتأولوا هذه الأحاديث إذ ليست بنص) ويقصدون بذلك (قوله عليه الصلاة والسلام إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم)2401
وقوله في تأمين الإمام(فأما الحديث الأول فهو نص في تأمين الإمام) ويقصد حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمن الإمام فأمنوا)2402
وجاء في السر في قراءة صلاة الكسوف:(روي هذا المعنى نصا عنه(أي ابن عباس ( أنه قال قمت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعت منه حرفا )2403
وفي الصيد قوله:( أما من اشترط في وجوب الجزاء أن يكون القتل عمدا فحجته أن اشتراط ذلك نص في الآية 2404 أي قوله تعالى:( وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)(المائدة 93)(2/155)
وفي الجهاد بخصوص الخمس (واختلفوا في الخمس على أربعة مذاهب مشهورة أحدها أن الخمس يقسم على خمسة أقسام على نص الآية وبه قال الشافعي)2405 أي قوله تعالى:( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ..) (الأنفال 41)
وفي من نذر أن يجعل ماله كله في سبيل الله (ما جاء في حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه وأراد أن يتصدق يجميع ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزيك من ذلك الثلث هو نص في مذهب مالك وأما الأصل فيوجب أن اللازم له إنما هو جميع ماله حملا على سائر النذر أعني أنه يجب الوفاء به على الوجه الذي قصده لكن الواجب هو استثناء هذه المسألة من هذه القاعدة إذ قد استثناها النص)2406
وفي القليل من النبيذ الذي لا يسكر،قال:( وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما أسكر كثيره فقليله حرام وهو نص في موضع الخلاف)2407
وفي استئذان البكر البالغ(خرج مسلم في حديث ابن عباس زيادة وهو أنه قال عليه الصلاة والسلام والبكر يستأذنها أبوها وهو نص في موضع الخلاف)2408
وفي البيوع الربوية قوله:( وحديث عبادة هو: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو استزاد فقد أربى فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان)2409(2/156)
وفي تلقي الركبان في البيوع أيضا:( وأما الشافعي فقال إن المقصود بالنهي إنما هو لأجل البائع لئلا يغبنه المتلقي لأن البائع يجهل سعر البلد وكان يقول إذا وقع فرب السلعة بالخيار إن شاء أنفذ البيع أو رده ومذهب الشافعي هو نص في حديث أبي هريرة الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عليه الصلاة والسلام لا تتلقوا الجلب فمن تلقى منه شيئا فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق أخرجه مسلم وغيره)2410
وفي الوصية قوله: (وكون الثلث فرقا بين القليل والكثير هو نص في الوصية في قوله عليه الصلاة والسلام الثلث والثلث كثير)2411
وفي الشفعة:( وأما الحنفية فالشفعة عندهم في المبيع فقط وعمدة الحنفية ظاهر الأحاديث وذلك أن مفهومها يقتضي أنها في المبيعات بل ذلك نص فيها لا في بعضها فلا بيع حتى يستأذن شريكه )2412
وقوله في الرهن:(وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو أن يرهن الرجل رهنا على أنه إن جاء بحقه عند أجله و إلا فالرهن له فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ وأنه معنى قوله عليه الصلاة والسلام لا يغلق الرهن)2413
وفي الهبة عمدة من اشترط القبض (أن ذلك مروي عن أبي بكر رضي الله عنه في حديث هبته لعائشة المتقدم وهو نص في اشتراط القبض في صحة الهبة )2414 ويقصد حديث( أبي بكر المشهور أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك ولا أعز علي فقرا بعدي منك وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك وإنما هو اليوم مال وارث)2415(2/157)
وفي القصاص (حديث أنس بن مالك في قصة سن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كتاب الله القصاص فعلم بدليل الخطاب أنه ليس له إلا القصاص وعمدة الفريق الثاني حديث أبي هريرة الثابت من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يأخذ الدية وبين أن يعفو هما حديثان متفق على صحتهما لكن الأول ضعيف الدلالة في أنه ليس له إلا القصاص والثاني نص في أن له الخيار)2416
وفي القضاء(وعمدة من رأى التبدئة بالمدعى عليهم ما خرجه البخاري عن سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن حثمة وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتون بالبينة على من قتله قالوا ما لنا بينة قال فيحلفون لكم قالوا ما نرضى بأيمان يهود وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة بعير من إبل الصدقة قال القاضي وهذا نص في أنه لا يستوجب بالأيمان الخمسين إلا دفع الدعوى فقط)2417
قواعد تهم ما جاء على سبيل النص:
لا يجب أن يترك النص بدليل الخطاب:
يقول ابن رشد فيما يقال في الرفع من الركوع في صلاة الجماعة:(والحق في ذلك أن حديث أنس يقتضي بدليل الخطاب أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد وأن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده وحديث ابن عمر يقتضي نصا أن الإمام يقول ربنا ولك الحمد فلا يجب أن يترك النص بدليل الخطاب فإن النص أقوى من دليل الخطاب)2418 وقال أيضا:(إباحة لحم الخيل نص في حديث جابر فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل خطاب) ويقصد حديث جابر وغيره قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل2419
النص لا يجب أن يعارض بالقياس:(2/158)
جاء في تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة(قوله عليه الصلاة والسلام إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين خرجه مسلم وفي بعض رواياته وأكثر رواياته أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الرجل الداخل أن يركع ولم يقل إذا جاء أحدكم الحديث ) ثم قال ابن رشد:(فإن صحت الزيادة وجب العمل بها فإنها نص في موضوع الخلاف والنص لا يجب أن يعارض بالقياس لكن يشبه أن يكون الذي راعاه مالك في هذا هو العمل)2420
قد يكون الحديث نصا في موضع الخلاف ويرفض في الاحتجاج لضعفه:
جاء بخصوص الاغتسال يوم الجمعة(وقد روي من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل وهو نص في سقوط فرضيته إلا أنه حديث ضعيف)2421
للنص قوة الاستثناء من الأصل والقاعدة:
ففي حكم من نذر أن يجعل ماله كله في سبيل الله ورد حديث إجزاء التصدق بثلث المال،قال ابن رشد:( هو نص في مذهب مالك) ورغم أن الأصل يوجب التصدق بجميع ماله حملا على سائر النذر (لكن الواجب هو استثناء هذه المسألة من هذه القاعدة إذ قد استثناها النص)2422
في الجمع بين الأحاديث يؤول المحتمل بما يناسب ما هو نص في الموضوع:
يقول :(وأما حديث ابن عباس فإنه ليس بنص في ذلك لأنه روي فيه لفظان أحدهما أنه قال إنما الربا في النسيئة وهذا ليس يفهم منه إجازة التفاضل إلا من باب دليل الخطاب وهو ضعيف ولاسيما إذا عارضه النص وأما اللفظ الآخر وهو لا ربا إلا في النسيئة فهو أقوى من هذا اللفظ لأن ظاهره يقتضي أن ما عدا النسيئة فليس بربا لكن يحتمل أن يريد بقوله لا ربا إلا في النسيئة من جهة أن الواقع في الأكثر وإذا كان هذا محتملا والأول نص وجب تأويله على الجهة التي يصح الجمع بينهما )2423
ج- المجمل من جهة الصيغة:(2/159)
وهو ما يفهم عنه أكثر من معنى واحد،وجاءت دلالته على جميع المعاني بالسواء, حتى لا يفهم أحدها إلا بدليل أو قرينة.2424 أما في الألفاظ المفردة، فمثل اسم العين الذي يقال باشتراك على عين الماء , وعلى عين الميزان, والعين التي يبصر بها, وغير ذلك. وربما قيل على الشيء وضده كالقرء الذي يعنى به مرة الطهر ومرة الحيض2425. وأما المجمل من جهة التركيب فما تركب عن مثل هذه الألفاظ , أو كانت الضمائر التي يرتبط بها القول محتملة, كقوله تبارك وتعالى : ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح (. فإن الضمير محتمل هنا أن يعود على الولي أو الناكح.2426
ويقول عن المجمل في "البداية" بعد بيان معنى النص الذي لا يحتمل غير معنى واحدا(وإما أن يدل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد ، وهذا قسمان : إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء ، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل ، ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما)2427
كما ذكر ابن رشد في"البداية" المشترك كأحد أهم أسباب الخلاف بين الفقهاء،يقول:( فيعرض الخلاف للفقهاء في أقاويل الشارع ، لكن ذلك من قبل ثلاث معان : من قبل الاشتراك في لفظ العين الذى علق به الحكم ، ومن قبل الاشتراك في الألف واللام المقرونة بجنس تلك العين ، هل أريد بها الكل أو البعض ؟ ومن قبل الاشتراك الذى في ألفاظ الأوامر والنواهي ، )2428
ثم بين في موضع آخر من "البداية"أنه(ليس كل اسم مشترك هو مجمل وإنما المشترك المجمل الذي وضع من أول أمره مشتركا وفي هذا قال الفقهاء إنه لا يصح الاستدلال به )2429
ثم أكد أيضا أن(العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحدا من المعاني التي يدل عليها الاسم لا جميع المعاني التي يدل عليها وهذا بين بنفسه في كلامهم)2430
د-المجمل من جهة المفهوم:(2/160)
لما كان اللفظ إنما يصير دالا بمفهومه عندما تحذف بعض أجزائه ، أو يزاد فيه أو يستعار ويبدل ،فإن دلالته لا تكون إلا من جهة القرائن فإن كانت هذه القرائن ظنية غير مترجحة سمي مجملا. ومثاله قوله عليه السلام : "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" فإنه متردد يين إدراك فضيلة الصلاة أو حكمها أو وقتها.2431
حكم المجمل:
قال عنه ابن رشد:( فأما المجمل فليس ببيان2432 بإجماع , ولا يثبت به حكم أصلا) وفي "البداية"كما مر ( ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما)2433 أي لا يعمل به إلا بعد البيان، ثم أورد الخلاف في مسألة جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.وأرجع الأمر إلى عادة العرب في الكلام وبين أنهم لا يخاطبون بالاسم المشترك إلا حيث يدل الدليل على المعنى المقصود من سائر ما يقال عليه ذلك الاسم , إما لقرينة حاضرة مبتذلة , أو موجودة في نفس اللفظ. ثم قال:( وبالجملة فالمخاطبة بالألفاظ المجملة و المخاطب يعلم قطعا أنها مجملة مما لم يقع بعد)2434 وكذا عنده الأمر في( الشرع فإنه لم يتصرف في ذلك بوضع عرفي)2435 ويقول في "البداية" مؤكدا هذا المعنى:( فإن الشارع لم يحكم قط إلا على مفصل وإنما الإجمال في حقنا)2436
نماذج تتعلق بالمجمل:
ففي الطهارة في باب التيمم من الفقهاء ( من قال ضربتان لكل واحد منهما أعني لليد ضربتان وللوجه ضربتان والسبب في اختلافهم أن الآية مجملة في ذلك والأحاديث متعارضة)2437 ويقصد الإجمال في قوله تعالى:( فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) من جهة عدد مرات المسح.(2/161)
وفي الصلاة بخصوص وجوب السجود على الجبهة والأنف يقول الشافعي ( إن هذا الاحتمال الذي من قبل اللفظ قد أزاله فعله عليه الصلاة والسلام وبينه فإنه كان يسجد على الأنف والجبهة لما جاء من أنه انصرف من صلاة من الصلوات وعلى جبهته وأنفه أثر الطين والماء فوجب أن يكون فعله مفسرا للحديث المجمل )2438 ويقصد بالمجمل حديث النبي عليه الصلاة والسلام الثابت عن ابن عباس قال: أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء فذكر منها الوجه
وفي صلاة الجمعة في حكم من أدرك أقل من ركعة (من كان المحذوف عنده في قوله عليه الصلاة والسلام فقد أدرك الصلاة أي فقد أدرك حكم الصلاة وقال دليل الخطاب يقتضي أن من أدرك أقل من ركعة فلم يدرك حكم الصلاة والمحذوف في هذا القول محتمل فإنه يمكن أن يراد به فضل الصلاة ويمكن أن يراد به وقت الصلاة ويمكن أن يراد به حكم الصلاة ولعله ليس هذا المجاز في أحدهما أظهر منه في الثاني فإن كان الأمر كذلك كان من باب المجمل الذي لا يقتضي حكما)2439
وفي صلاة الكسوف يحمل الشافعي(فعله ( في كسوف الشمس بيانا لمجمل ما أمر به من الصلاة فيهما فوجب الوقوف عند ذلك)2440
وفي زكاة الخيل،قوله:( أما اللفظ الذي يقتضي أن لا زكاة فيها فقوله عليه الصلاة والسلام ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة وأما القياس الذي عارض هذا العموم فهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل فأشبه الإبل والبقر وأما اللفظ الذي يظن أنه معارض لذلك العموم فهو قوله عليه الصلاة والسلام وقد ذكر الخيل ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فذهب أبو حنيفة إلى أن حق الله هو الزكاة وذلك في السائمة منها قال القاضي وأن يكون هذا اللفظ مجملا أحرى منه أن يكون عاما فيحتج به في الزكاة)2441(2/162)
وفي الصيام في الاختلاف الحكم إذا غم الشهر ولم تمكن الرؤية (وسبب اختلافهم الإجمال الذي في قوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له فذهب الجمهور إلى أن تأويله أكملوا العدة ثلاثين ومنهم من رأى أن معنى التقدير له هو عده بالحساب ومنهم من رأى أن معنى ذلك أن يصبح المرء صائما وهو مذهب ابن عمر)2442
وفي ولاية الزواج اعتبر ابن رشد الخطاب الموجه للأولياء مجملا لا تقوم به الحجة،يقول:( ولو قلنا إنه خطاب للأولياء2443 يوجب اشتراط إذنهم في صحة النكاح لكان مجملا لا يصح به عمل لأنه ليس فيه ذكر أصناف الأولياء ولا صفاتهم ولا مراتبهم والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة ولو كان في هذا كله شرع معروف لنقل تواترا أو قريبا من التواتر)2444
وفي قضايا الغصب،يقول ابن رشد:( وقول الشافعي في الصبغ مثل قول ابن القاسم إلا أنه يجيز الشركة بينهما ويقول إنه يؤمر الغاصب بقلب الصبغ إن أمكنه وإن نقص الثوب ويضمن للمغصوب مقدار النقصان وأصول الشرع تقتضي أن لا يستحل مال الغاصب من أجل غصبه وسواء أكان منفعة أو عينا إلا أن يحتج محتج بقوله عليه الصلاة والسلام ليس لعرق السهو حق لكن هذا مجمل ومفهومه الأول أنه ليس له منفعة متولدة بين ماله وبين الشيء الذي غصبه أعني ماله المتعلق بالمغصوب)2445
قواعد تتعلق بالمجمل:
المبين تابع للمجمل في حكمه:
ففي الوضوء من أوجب مسح الأذنين جعلها مبينة لمجمل الكتاب ومن لم يوجبهما جعلها زائدة كالمضمضة2446 ويقصد بالكتاب قوله تعالى:( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ)(المائدة 6) وكذلك قوله فيمن رأى وجوب المضمضة والاستنشاق:(فمن جعل حديث عائشة وميمونة مفسرا لمجمل حديث أم سلمة ولقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا أوجب المضمضة والاستنشاق)2447
أفعال النبي ( المبينة للأوامر الواجبة تحمل على الوجوب:(2/163)
يقول بخصوص الاختلاف في حكم الإقامة في الصلاة:(وسبب هذا الاختلاف اختلافهم هل هي من الأفعال التي وردت بيانا لمجمل الأمر بالصلاة فيحمل على الوجوب لقوله عليه الصلاة والسلام صلوا كما رأيتموني أصلي أم هي من الأفعال التي تحمل على الندب وظاهر حديث مالك بن الحويرث يوجب كونها فرضا إما في الجماعة وإما على المنفرد)2448
المجمل يحمل على المفصل والمفسر:
يقول ابن رشد:(وابن القاسم والشافعي حملا المجمل2449 على المفصل2450 المفسر وأما تخيير مالك الساعي فكأنه جمع بين الأثرين )2451
ومثله أيضا ما ورد من أحاديث بخصوص الرؤية قال ابن رشد:( وإنما صار الجمهور إلى هذا التأويل لحديث ابن عباس الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين وذلك مجمل وهذا مفسر فوجب أن يحمل المجمل على المفسر وهي طريقة لا خلاف فيها بين الأصوليين فإنهم ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلا فمذهب الجمهور في هذا لائح )2452
وقوله في موضع آخر في مسألة فساد الصوم بالقيء:( ومن جمع بين الحديثين وقال حديث ثوبان مجمل وحديث أبي هريرة مفسر والواجب حمل المجمل على المفسر فرق بين القيء والاستقاء وهو الذي عليه الجمهور)2453
وفي موضع آخر:(وإنما اعتقد الشافعي هذا الرأي لأن من مذهبه إذا ورد الكتاب مجملا فوردت السنة بتفسير ذلك المجمل أنه ليس ينبغي العدول عن ذلك التفسير ) 2454
المجمل ليس له عموم يؤخذ به:
ففي كفارة المنتهك حرمة رمضان بالأكل ،قوله:( وأما ما روى مالك في الموطأ أن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة المذكورة فليس بحجة لأن قول الراوي فأفطر هو مجمل والمجمل ليس له عموم فيؤخذ به لكن هذا قول على أن الراوي كان يرى أن الكفارة كانت لموضع الإفطار ولولا ذلك لما عبر بهذا اللفظ ولذكر النوع من الفطر الذي أفطر به)2455
نماذج من المشترك:(2/164)
ففي الوضوء نجد قوله في اختلاف الفقهاء في إدخال المرافق في غسل اليدين:( والسبب في اختلافهم في ذلك الاشتراك الذي في حرف إلى وفي اسم اليد في كلام العرب وذلك أن حرف إلى مرة يدل في كلام العرب على الغاية ومرة يكون بمعنى مع واليد أيضا في كلام العرب تطلق على ثلاثة معان على الكف فقط وعلى الكف والذراع وعلى الكف والذراع والعضد)2456
وفي مسح الرأس قوله:(وأما الشافعي فلم يحد في الماسح ولا في الممسوح حدا وأصل هذا الاختلاف الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب وذلك أنها مرة تكون زائدة مثل قوله تعالى تنبت بالدهن على قراءة من قرأ تنبت بضم التاء وكسر الباء من أنبت ومرة تدل على التبعيض مثل قول القائل أخذت بثوبه وبعضده ولا معنى لإنكار هذا في كلام العرب أعني كون الباء مبعضة وهو قول الكوفيين من النحويين فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله ومعنى الزائدة ها هنا كونها مؤكدة ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعضه)2457
و(كذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف إلى أعني في قوله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين)2458 و اختلفوا أيضا:(في الكعب ما هو وذلك لاشتراك اسم الكعب)2459
وفي مسألة الموالاة في الوضوء:( وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الموالاة ليست من واجبات الوضوء والسبب في ذلك الاشتراك الذي في الواو أيضا وذلك قد يعطف بها الأشياء المتتابعة المتلاحقة بعضها على بعض وقد يعطف بها الأشياء المتراخية بعضها عن بعض)2460
وفي اللمس هل ينقض الوضوء،يقول:( وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد ومرة تكني به عن الجماع فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة في آية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى أو لامستم النساء وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد)2461(2/165)
وفي الغسل(اختلف العلماء هل من شرط هذه الطهارة إمرار اليد على جميع الجسد كالحال في طهارة أعضاء الوضوء أم يكفي فيها إفاضة الماء على جميع الجسد وإن لم يمر يديه على بدنه) والسبب في اختلافهم اشتراك اسم الغسل2462
وفي الطهر من الحيض(هل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء ثم إن كان الطهر بالماء فهل المراد به طهر جميع الجسد أم طهر الفرج فإن الطهر في كلام العرب وعرف الشرع اسم مشترك يقال على هذه الثلاثة المعاني)2463
وفي التيمم(وسبب اختلافهم، الاشتراك الذي في حرف من في قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وذلك أن من ترد للتبعيض وقد ترد لتمييز الجنس فمن ذهب إلى أنها هنا للتبعيض أوجب نقل التراب إلى أعضاء التيمم ومن رأى أنها لتمييز الجنس قال ليس النقل واجبا)2464
وكذا اختلفوا في جواز فعل التيمم بما عدا التراب من أجزاء الأرض المتولدة عنها كالحجارة (والسبب في اختلافهم شيئان أحدهما اشتراك اسم الصعيد في لسان العرب فإنه مرة يطلق على التراب الخالص ومرة يطلق على جميع أجزاء الأرض الظاهرة)2465 وأيضا (والاشتراك الذي في اسم الطيب أيضا من أحد دواعي الخلاف)2466
وفي باب الصلاة اختلفوا من وقت العشاء الآخرة(وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم الشفق في لسان العرب فإنه كما أن الفجر في لسانهم فجران كذلك الشفق شفقان أحمر وأبيض ومغيب الشفق الأبيض يلزم أن يكون بعده من أول الليل إما بعد الفجر المستدق من آخر الليل أعني الفجر الكاذب وإما بعد الفجر الأبيض المستطير وتكون الحمرة نظير الحمرة فالطوالع إذن أربعة الفجر الكاذب والفجر الصادق والأحمر والشمس وكذلك يجب أن تكون الغوارب)2467(2/166)
وفيما يحرم على المظاهر ممن ظاهر اختلفوا فيما دون الوطء من ملامسة ووطء في غير الفرج ونظر اللذة فحرم الجمهور جميع ذلك وقال الشافعي إنما يحرم الظهار الوطء في الفرج فقط،وبعد أن عرض ابن رشد أدلة الفريقين قال:( قلت الذين يرون أن اللفظ المشترك له عموم لا يبعد أن يكون اللفظ الواحد عندهم يتضمن المعنيين جميعا أعني الحقيقة والمجاز وإن كان لم تجر به عادة للعرب ولذلك القول به في غاية من الضعف ولو علم أن للشرع فيه تصرفا لجاز وأيضا فإن الظهار مشبه عندهم بالإيلاء فوجب أن يختص عندهم بالفرج)2468
واختلفوا فيما يعتبر إدراكا للركعة فذكر ابن رشد من الأسباب (والاشتراك الذي عرض لهذا الاسم إنما هو من قبل تردده بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي وذلك أن اسم الركعة ينطلق لغة على الانحناء وينطلق شرعا على القيام والركوع والسجود)2469
وفي الزكاة اختلفوا في زكاة الخلطة(وسبب اختلافهم اشتراك اسم الخلطة ولذلك لم ير قوم تأثير الخلطة في الزكاة)2470
وفي الصيام اختلفوا في بداية الإمساك والسبب(اشتراك اسم الفجر أعني أنه يقال على الأبيض والأحمر)2471
وفي الأيمان اختلفوا فيما هي اللغو(والسبب في اختلافهم في ذلك هو الاشتراك الذي في اسم اللغو وذلك أن اللغو قد يكون الكلام الباطل مثل قوله تعالى والغوا فيه لعلكم تغلبون وقد يكون الكلام الذي لا تنعقد عليه نية المتكلم به)2472
وفي أحوال الأسرة اختلف الفقهاء في الزنا هل يوجب من التحريم ما يوجب الوطء في نكاح صحيح(وسبب الخلاف الاشتراك في اسم النكاح أعني في دلالته على المعنى الشرعي واللغوي)2473
وفي الاختلاف المشهور في العدة بالحيض أو الطهر،يقول:( وسبب الخلاف اشتراك اسم القرء فإنه يقال في كلام العرب على حد سواء على الدم وعلى الأطهار)2474
وفي اللعان:( وقد نص على المرأة أن اليمين يدرأ عنها العذاب فالكلام فيما هو العذاب الذي يندرىء عنها باليمين وللاشتراك الذي في اسم العذاب )2475(2/167)
وفي الفرائض يقول عن سبب( الاختلاف في أكثر مسائل الفرائض هو تعارض المقاييس واشتراك الألفاظ فيما فيه نص)2476 مثل الإبن حيث يطلق أيضا على الحفيد إذ هو ابن ما،والأب يطلق أيضا على الجد إذ هو أب ما.
وفي الحدود اختلف الفقهاء قديما في حد الأمة إذا لم تتزوج(والسبب في اختلافهم الاشتراك الذي في اسم الإحصان في قوله تعالى فإذا أحصن فمن فهم من الإحصان التزوج وقال بدليل الخطاب قال لا تجلد الغير متزوجة ومن فهم من الإحصان الإسلام جعله عاما في المتزوجة وغيرها )2477
قواعد في المشترك:
لا تعارض الأصول الثابتة بالاسم المشترك:
قال أبو حنيفة إذا نكلت الملاعنة وجب عليها الحبس حتى تلاعن خلافا لمن قال ترجم،وبعد استعراض الأدلة قال ابن رشد:( وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو بالاعتراف ومن الواجب ألا تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله)2478
وفي ذبيحة العيد اختلفوا في الليالي التي تتخلل أيام النحر هل يذبح فيها(وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في اسم اليوم وذلك أن مرة يطلقه العرب على النهار والليلة)2479
وفي الصيد اختلفوا فيه من أنواع الجوارح فيما عدا الكلب ومن جوارح الطيور وحيواناتها الساعية و(سبب الاختلاف الاشتراك الذي في لفظة مكلبين)2480
لا يلتفت إلى مجرد الإشتراك في الإسم دون حقيقته:
يقول ابن رشد( وشذ بعضهم فأوجب حرمة للبن الرجل وهذا غير موجود فضلا عن أن يكون له حكم شرعي وإن وجد فليس لبنا إلا باشتراك الاسم)وقال أيضا:( ولا لبن للميتة إن وجد لها إلا باشتراك الاسم ويكاد أن تكون مسألة غير واقعة فلا يكون لها وجود إلا في القول)2481
المبحث الثاني
تعلم ما يتعلق بالظاهر والمؤول
أ-الظاهر من جهة الصيغة:(2/168)
الظاهر2482:ما يقال من أول الأمر على شيء ويكون أشهر في الدلالة عليه, ثم يستعار حينا ما لشيء آخر لشبهه بالمعنى الأول,مثل: تسميتهم الفراش عشا، أو يبدل بعضها مكان بعض اتكالا في ذلك على قرينة تفهم المعنى المستعار أو المبدل،مثل: تسميتهم النبت ندى، لأنه عن الندى يكون. ومن هذا الصنف الكناية، كتعبيرهم عن الرجيع بالغائط وعن النكاح بالمسيس.
وفي هذا الصنف تدخل الأسماء العرفية, وهي أسماء استعملت في الوضع على أشياء ثم نقلت في الشرع إلى أشياء أخرى لشبهها بالمعاني الأول أو لتعلقها بها بوجه من أوجه التعلق. وهذه إذا وردت في الشرع كانت ظاهرة في المعاني الشرعية, ولم تحمل على المعاني اللغوية إلا بالتأويل.2483
ويقول عن الظاهر في "البداية" بعد بيان معنى النص الذي لا يحتمل غير معنى واحدا،والمجمل الذي تستوي فيه المعاني (وإما أن تكون دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض ، وهذا يسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر ظاهرا)2484
كما ذكر في "البداية"ما يمكن اعتباره مقابلا للظاهر وهو "المحتمل" يقول فيه بعد بيان الظاهر(وإذا ورد (اللفظ) مطلقا حمل على تلك المعاني التى هو اظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل)2485
ومن أمثلة المحتمل أيضا قوله في مسألة:( وسبب اختلافهم أنه لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح فضلا عن أن يكون في ذلك نص بل الآيات والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها ثم من يشترطها هي كلها محتملة)2486
ب-الظاهر من جهة المفهوم:(2/169)
لما كان اللفظ إنما يصير دالا بمفهومه عندما تحذف بعض أجزائه2487 ، أو يزاد فيه أو يستعار ويبدل ،فإن دلالته لا تكون إلا من جهة القرائن، فإن كانت تلك القرائن ظنية أكثرية سمي أيضا ظاهرا. ومثال ما هو من هذا الجنس كالظاهر قوله عليه السلام : "لا صيام لمن لم يبيت الصيام ". فإنه محتمل أن يريد لا صيام كامل ويحتمل أن يريد انتفاء قبول الصيام أصلا وهو الأظهر .2488
الألفاظ الظاهرة من جهة المفهوم عند ابن رشد هي الألفاظ (المبدلة، ونعني هنا بالمبدلة إبدال الكلي مكان الجزئي، والجزئي مكان الكلي. و على التحقيق فالتبديل يلحق جميع الألفاظ المستعارة ، ثم تنقسم هذه الأقسام التي أحصيناها، لكن رأينا أن نخص هذا الصنف باسم التبديل، أعني الكلي والجزئي ،وإن كان في الحقيقة كل مبدل مستعار وكل مستعار مبدل )2489.
ومنه العام،يقول ابن رشد:( وأما الظاهر من جهة الإبدال وذلك منه- فيما يأتي- من الألفاظ العامة التي المراد بها ما تحتها)2490
حكم الظاهر:
فالظاهر عند ابن رشد إجمالا،دليل معتبر في الشرع،وله في ذلك بعض التفصيل:
-ظاهر يتوقف فيه على القرينة وسياق الاستعمال:
ويهم الألفاظ التي لها معان في الأصل تنصرف إليها أبدا ،ثم يطرأ عليها التغير بالاستعمال حيث تفهم من السياق،يقول ابن رشد:(وأما الظاهر أيضا من جهة الصيغة فحكمه عندي حكم الاسم المشترك، وذلك منه فيما قيل من أول الأمر علي شيء ما، وكان ظاهرا فيه ثم استعير وقتا ما لشيء ما آخر لشبهه بالمعنى الأول أو لتعلقه به بوجه من أوجه التعلق. فإن العربي إذا أطلق لفظ السماء لم يفهم عنه أبدا إلا السماء المكوكبة، فإذا أراد بذلك المطر دل على ذلك بقرينة كقولهم : (ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم )(2/170)
وكقولهم (إذا سقط السماء بأرض قوم ) و إلا متى خوطب بمثل هذه الأسماء وأطلقت إطلاقا، والمراد بها غير ما هي راتبة عليه ،لم يقع ذلك إلا غلطا، و إن قصد ذلك كان تغليطا، هذا إذا كان وقت الحاجة. وأما إن لم يكن وقت الحاجة فأي فائدة لمخاطبة يعتقد الإنسان منها خلاف ما يأتي به البيان. ويشبه أن يكون كذلك الظاهر من جهة المفهوم )2491
وسبق أيضا قوله في "البداية" عن الظاهر((وإذا ورد (اللفظ) مطلقا حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل)2492
-ظاهر يحمل على المشهور باستقراء اللغة والمشهور بوضع الشرع:
وقال في شأن الظاهر من جهة الصيغة أي ما يقال من أول الأمر على شيء ويكون أشهر في الدلالة عليه, ثم يستعار حينا ما لشيء آخر لشبهه بالمعنى الأول وكذا في الألفاظ المبدلة أي الداخلة في الظاهر من جهة المفهوم :(هذان الصنفان إذا وردا بإطلاق في الشرع حملا على ظاهرهما حتى يدل الدليل على غير ذلك , وهو حملهما على المعنى المستعار, وهو المسمى تأويلا. وكون هذه الألفاظ ظاهرة في هذه الدلالات يعرف ذلك ضرورة من استقراء اللغة. وكونها دليلا شرعيا يعرف بإجماع الصحابة على الأخذ بالظواهر)2493وقال أيضا عن الظاهر المبدل والمستعار(وهذه إذا وردت خلوا من القرائن حملت على وضعها الأول,)2494
-تجوز المخاطبة بالأسماء العرفية قبل بيان تفاصيلها:
في الظاهر من الألفاظ الموضوعة بالشرع تجوز المخاطبة بالأسماء العرفية كالصلاة والزكاة والحج ثم يأتي البيان بعد ذلك،حيث يكون الغرض:استئناس المخاطبين بها و(العزم على الأمر)2495 حيث يجوز في هذه الحالة تأخر البيان إلى وقت الحاجة.
وبخصوص ما تحمل عليه ألفاظ الشرع،قال في فصل المقال:( أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل.)2496
للألفاظ الظاهرة مراتب في الظهور:(2/171)
فالألفاظ الظاهرة من جهة الصيغة عند ابن رشد ليست على مرتبة واحدة إنما (لها مراتب في الظهور. وكلما كان اللفظ أظهر احتيج في تأويله إلى دليل أقوى, وبالعكس متى كان اللفظ قليل الظهور انصرف إلى التأويل بأيسر دليل.)2497 ثم مثل لكل مرتبة:
فالمرتبة الأولى من الأسماء المستعارة مثل فهم اللباس بأنه: المطر، في قوله عز وجل: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم(. فإن اللباس ظاهر جدا فيما يواري الإنسان و مثل هذا التأويل يحتاج إلى دليل.
ومثال المرتبة الثانية في الظهور : فهم الميزان على أنه: العدل، في قوله تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان(.
ومثال المرتبة الثالثة في الظهور: فهم الملامسة على أنها:الجماع، في قوله تعالى: ( أو لامستم النساء. ( (فإن بعض الفقهاء حمله على اللمس الذي باليد, وحمله بعضهم على الجماع. وهذا وإن كان الظاهر فيه اللمس باليد فقد يحتمل أن يراد به الجماع احتمالا قريبا, إذ ذلك من عادة العرب, وقد كنّى الله تعالى عن الجماع بالمسيس, وهو في معنى اللمس.)2498
ثم خلص إلى النتيجة من ذلك فيما يشبه القاعدة:( وبالجملة فمراتب الظهور في الألفاظ إنما هو بحسب كثرة الاستعمال وقلته, فإن بلغت كثرة الاستعمال في المعنى الذي استعير له أن يعادل استعماله في المعنى الأول بقي اللفظ بين الأول والثاني مشتركا ومجملا, ومهما نقصت كثرة الاستعمال في الثاني كان أظهر في الأول,)2499
أما مراتب الظهور من جهة المفهوم فقد أحال على الأصناف الموجودة في اللفظ الكلي(وهو العام)،واللفظ الجزئي.(فلينظر في تعلم ما يتعلق بالعام والخاص)
نماذج تتعلق بالظاهر:(2/172)
ففي باب الطهارة نجد قوله في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء للمستيقظ من النوم:( والظاهر من الحديث حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده وفي بعض رواياته فليغسلها ثلاثا ) أنه لم يقصد به حكم البدء في الوضوء وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به إذا كان الماء مشترطا فيه الطهارة)2500
وفي حكم طهارة الرجلين في قوله تعالى:(وأرجلكم إلى الكعبين):( قراءة النصب ظاهرة في الغسل وقراءة الخفض ظاهرة في المسح)2501
وفي النجاسات بخصوص الكلب فظاهر الكتاب وهو قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم)أن الكلب ليس بنجس العين لأنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته2502 وظاهر حديث أبي هريرة المتفق على صحته وهو قوله عليه الصلاة والسلام إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات يوجب نجاسة سؤره2503
وفي نواقض الوضوء بخصوص النوم،هناك (أحاديث يوجب ظاهرها أنه ليس في النوم وضوء أصلا كحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ميمونة فنام عندها حتى سمعنا غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ،وأيضا ما روي أيضا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون في المسجد حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضأون وكلها آثار ثابتة2504 بينما نجد في مقابل هذا حديث أبي هريرة المتقدم وهو قوله عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن ظاهره أن النوم يوجب الوضوء قليله وكثيره2505
وبخصوص الحيض(ذهب قوم إلى ظاهر حديث أم عطية ولم يروا الصفرة والكدرة شيئا لا في أيام حيض ولا في غيرها ولا بأثر الدم ولا بعد انقطاعه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم دم الحيض دم أسود يعرف ولأن الصفرة والكدرة ليست بدم وإنما هي من سائر الرطوبات التي ترخيها الرحم وهو مذهب أبي محمد بن حزم)2506(2/173)
وفي جواز إتيان المرأة بانقطاع حيضها وقبل الاغتسال(رجح أبو حنيفة مذهبه بأن لفظ يفعلن في قوله تعالى حتى يطهرن هو أظهر في الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض منه في التطهر بالماء )2507
وفي كتاب الصلاة نجد في جواز بدء الإمام في الصلاة قبل الانتهاء من الإقامة عند أبي حنيفة أخذا بظاهر:(حديث بلال فإنه روى أنه كان يقيم للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول له يا رسول الله لا تسبقني بآمين خرجه الطحاوي قالوا فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر والإقامة لم تتم.)2508
وفي ارتباط صحة انعقاد صلاة المأموم بصحة صلاة الإمام نجد من (فرق بين السهو والعمد قصد إلى ظاهر الأثر المتقدم وهو أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى جسمه أثر الماء فإن ظاهر هذا أنهم بنوا على صلاتهم)2509
وفي قصر الصلاة في السفر(من اعتبر المشقة أو ظاهر لفظ السفر لم يفرق بين سفر وسفر وأما من اعتبر دليل الفعل قال إنه لا يجوز إلا في السفر المتقرب به لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصر قط إلا في سفر متقرب به)2510
وفي الوتر:( والحق في هذا أن ظاهر هذه الأحاديث يقتضي التخيير في صفة الوتر من الواحدة إلى التسع على ما روي ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم )2511
وفي ركعتي الفجر(روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يخفف ركعتي الفجر على ما روته عائشة قالت حتى أني أقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا ،فظاهر هذا أنه كان يقرأ فيهما بأم القرآن فقط )2512
وفي النوافل(روى الأسود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات فلما أسن صلى سبع ركعات فمن أخد أيضا بظاهر هذه الأحاديث جوز التنفل بالأربع والثلاث دون أن يفصل بينها بسلام)2513(2/174)
وفي الاستسقاء من غير صلاة:(حديث عبد الله بن زيد المازني وفيه أنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة ولم يذكر فيه صلاة وزعم القائلون بظاهر هذا الأثر أن ذلك مروي عن عمر بن الخطاب أعني أنه خرج إلى المصلى فاستسقى ولم يصل)2514
وفي غسل الجنازة(ظاهر حديث أم عطية الثابت أن الوضوء شرط في غسل الميت لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غسل ابنته ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها )2515
وفي وقت الصلاة عليها(ورد النهي عن الصلاة فيها وهي وقت الغروب والطلوع وزوال الشمس على ظاهر حديث عقبة بن عامر ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا)2516
وفي الزكاة من (رأى أن ما بين المائة وعشرين إلى أن يستقيم الحساب وقص قال ليس فيما زاد على ظاهر الحديث الثابت شيء ظاهر حتى يبلغ مائة وثلاثين وهو ظاهر الحديث)2517
وفيمن تقسم عليهم الزكاة (اللفظ يقتضي القسمة بين جميعهم والمعنى يقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة إذ كان المقصود به سد الخلة فكأن تعديدهم في الآية عند هؤلاء إنما ورد لتمييز الجنس أعني أهل الصدقات لا تشريكهم في الصدقة فالأول أظهر من جهة اللفظ وهذا أظهر من جهة المعنى)2518
وفي الصيام بخصوص رؤية الهلال ذهب الشافعي مذهب الجمع ( جمع بين حديث ابن عباس2519 وحديث ربعي بن خراش2520 على ظاهرهما فأوجب الصوم بشهادة واحد والفطر باثنين)2521
وفي موضع آخر(فظاهر هذا الأثر2522 يقتضي أن لكل بلد رؤيته قرب أو بعد)2523
وفي الإمساك(واختلفوا في أوله فقال الجمهور هو طلوع الفجر الثاني المستطير الأبيض لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني حده بالمستطير ولظاهر قوله تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الآية)2524(2/175)
وفي رخصة المسافر(ظاهر اللفظ أن كل من ينطلق عليه اسم مسافر فله أن يفطر لقوله تعالى ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)2525 قال فقهاء الأمصار لا يفطر يومه ذلك وهو رأي مخالف لظاهر الأثر،يقول ابن رشد(أما الأثر فإنه ثبت من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه وظاهر هذا أنه أفطر بعد أن بيت الصوم وأما الناس فلا شك أنهم أفطروا بعد تبييتهم الصوم)2526
وفي قضاء الصوم (ظاهر قوله تعالى:( فعدة من أيام أخر ) فإنما يقتضي إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع)2527
(وشذ قوم فلم يوجبوا على المفطر عمدا بالجماع إلا القضاء فقط إما لأنه لم يبلغهم هذا الحديث وإما لأنه لم يكن الأمر عزمة في هذا الحديث لأنه لو كان عزمة لوجب إذا لم يستطع الإعتاق أو الإطعام أن يصوم ولا بد إذا كان صحيحا على ظاهر الحديث2528 وأيضا لو كان عزمة لأعلمه عليه الصلاة والسلام أنه إذا صح أنه يجب عليه الصيام أن لو كان مريضا)2529
ويشبهه في الشذوذ من أسقط الكفارة عن المرأة المطاوعة لزوجها في انتهاك حرمة رمضان(وقال الشافعي وداود لا كفارة عليها وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الأثر للقياس وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة في الحديث بكفارة والقياس أنها مثل الرجل إذ كان كلاهما مكلفا)2530
وفي صيام التطوع من ( أخذ بظاهر حديث ابن مسعود2531 أجاز صيام يوم الجمعة مطلقا ومن أخذ بظاهر حديث جابر2532 كرهه مطلقا)2533(2/176)
وفي الحج بخصوص القول في السعي بين الصفا والمروة (وعمدة من لم يوجبه قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما قالوا إن معناه أن لا يطوف وهي قراءة ابن مسعود وكما قال سبحانه يبين الله لكم أن تضلوا معناه أي لئلا تضلوا وضعفوا حديث ابن المؤمل وقالت عائشة الآية على ظاهرها وإنما نزلت في الأنصار تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة على ما كانوا يسعون عليه في الجاهلية لأنه كان موضع ذبائح المشركين )2534
وفي المحصر( ذكر حكم المريض بعد الحصر الظاهر منه أن المحصر غير المريض)2535 وقوله أيضا:( والجمهور على أن المحصر بمرض عليه الهدي وقال أبو ثور وداود لا هدي عليه اعتمادا على ظاهر هذا المحصر وعلى أن الآية الواردة في المحصر هو حصر العدو)2536
وفي إباحة الصيد بعد التحلل الأكبر قال:( الظاهر من قوله وإذا حللتم فاصطادوا أنه التحلل الأكبر)2537
وفي الجهاد جاء قوله:( ظاهر قوله تعالى فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب الآية أنه ليس للإمام بعد الأسر إلا المن أو الفداء)2538
وبخصوص الغنائم(فالجمهور على أن أربعة أخماس الغنيمة للذين غنموها خرجوا بإذن الإمام أو بغير ذلك لعموم قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء الآية وقال قوم إذا خرجت السرية أو الرجل الواحد بغير إذن الإمام فكل ما ساق نفل يأخذه الإمام وقال قوم بل يأخذه كله الغانم فالجمهور تمسكوا بظاهر الآية)2539
وفي الفيء(وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي وإنما حمله على هذا القول أنه رأى الفيء قد قسم في الآية على عدد الأصناف الذين قسم عليهم الخمس فاعتقد لذلك أن فيه الخمس لأنه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس وليس ذلك بظاهر بل الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفيء لا جزءا منه وهو الذي ذهب إليه فيما أحسب قوم )2540(2/177)
وفي الأيمان(وقال تعالى لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فظاهر هذا أنه قد سمى بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق فظاهر الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين)2541
وفي النذر(حديث عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه فظاهر هذا أنه لا يلزم النذر بالعصيان )2542
وفي الذكاة(ظاهر الحديث الأول2543 يقتضي قطع بعض الأوداج فقط لأن إنهار الدم يكون بذلك وفي الثاني2544 قطع جميع الأوداج فالحديثان والله أعلم متفقان على قطع الودجين إما أحدهما أو البعض من كليهما أو من واحد منهما )2545
وفي الصيد:( وقالت المالكية المتأخرة إنه ليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لسيده ولا الإمساك لسيده بشرط في الذكاة لأن نية الكلب غير معلومة وقد يمسك لسيده ثم يبدو له فيمسك لنفسه وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث وخلاف ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به وهو العادة)2546
وفي النجاسة تخالط الحلال قال أهل الظاهر:(هذا الحديث2547 يمر على ظاهره وسائر الأشياء يعتبر فيها تغيرها بالنجاسة أو لا تغيرها بها)2548
وفي النبيذ غير المسكر قليله(وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وبآثار رووها في هذا الباب وبالقياس المعنوي أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا السكر هو المسكر ولو كان محرم العين لما سماه الله رزقا حسنا)2549(2/178)
وفيما يتعلق بهذا الموضوع أيضا:( قال القاضي والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام كل مسكر حرام وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير)2550
وبخصوص الولاية في الزواج وعن سبب الخلاف فيها قال:( وسبب اختلافهم أنه لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح)2551 وقوله أيضا:( فأما قوله تعالى فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن فليس فيه أكثر من نهي قرابة المرأة وعصبتها من أن يمنعوها النكاح وليس نهيهم عن العضل مما يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازا أعني بوجه من وجوه أدلة الخطاب الظاهرة أو النص بل قد يمكن أن يفهم منه ضد هذا وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم)2552
ويقول أيضا:( فإن سلمنا صحة الحديث2553 فليس فيه إلا اشتراط إذن الولي لمن لها ولي أعني المولى عليها وإن سلمنا أنه عام في كل امرأة فليس فيه أن المرأة لا تعقد على نفسها أعني أن لا تكون هي التي تلي العقد بل الأظهر منه أنه إذا أذن الولي لها جاز أن تعقد على نفسها دون أن تشترط في صحة النكاح إشهاد الولي معها)2554 وقال في شأن قوله تعالى (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف):( فظاهر هذه الآية والله أعلم أن لها أن تعقد النكاح وللأولياء الفسخ إذا لم يكن بالمعروف وهو الظاهر من الشرع إلا أن هذا لم يقل به أحد وأن يحتج ببعض ظاهر الآية على رأيهم ولا يحتج ببعضها فيه ضعف)
ثم ختم بقوله:( والاحتجاج بقوله تعالى فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف هو أظهر في أن المرأة تلي العقد من الاحتجاج بقوله ولا تنكحوا المشركين حتى يومنوا على أن الولي هو الذي يلي العقد)2555(2/179)
وقال في مسألة استحقاق الصداق وعلاقته بالدخول والمسيس (فوجب بهذا إيجابا ظاهرا أن الصداق لا يجب إلا بالمسيس، والمسيس ههنا الظاهر من أمره أنه الجماع وقد يحتمل أن يحمل على أصله في اللغة وهو المس)2556
وفي تنصيف الصداق قبل الدخول إذا كان سبب التراجع من الزوجة،قال:( ومن قال إنها سنة غير معقولة واتبع ظاهر اللفظ2557 قال يلزم التشطير في كل طلاق كان من سببه أو سببها)2558
وفي الرضاع (وسبب اختلافهم هل المعتبر وصول اللبن كيفما وصل إلى الجوف أو وصوله على الجهة المعتادة فمن راعى وصوله على الجهة المعتادة وهو الذي ينطلق عليه اسم الرضاع قال لا يحرم الوجور ولا اللدود ومن راعى وصول اللبن إلى الجوف كيفما وصل قال يحرم )2559
وفي الإحداد(من أوجبه على المتوفى عنها زوجها دون المطلقة تعلق بالظاهر2560 المنطوق به)2561
وفي البيوع أخذ الكوفيون بحديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان،فقالوا:( إنه لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة اختلف الجنس أو اتفق على ظاهر حديث سمرة)2562
والشافعي فلا يعتبر التهم في البيوع (وإنما يراعي فيما يحل ويحرم من البيوع ما اشترطا وذكراه بألسنتهما وظهر من فعلهما لإجماع العلماء على أنه إذا قال أبيعك هذه الدراهم بدراهم مثلها وأنظرك بها حولا أو شهرا أنه لا يجوز ولو قال له أسلفني دراهم وأمهلني بها حولا أو شهرا جاز)2563
وفي العارية:(ومن الحجة له (مالك) في أن الرخصة إنما هي للمعري حديث سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالرطب إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا قالوا فقوله يأكلها رطبا دليل على أن ذلك خاص بمعريها لأنهم في ظاهر هذا القول أهلها)2564(2/180)
وفي الرهن(وقال أهل الظاهر و مجاهد لا يجوز في الحضر لظاهر قوله تعالى (وإن كنتم على سفر الآية ) وتمسك الجمهور بما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم رهن في الحضر)2565
وفي الحوالة لم يعتبر داود رضا المحال واعتبر رضا المحال عليه (وأما داود فحجته ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع والأمر على الوجوب وبقي المحال عليه على الأصل وهو اشتراط اعتبار رضاه)2566
وفي اللقطة(سبب الخلاف معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع وهو أنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه فمن غلب هذا الأصل على ظاهر الحديث وهو قوله بعد التعريف فشأنك بها قال لا يجوز فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن إن لم يجز صاحب اللقطة الصدقة ومن غلب ظاهر الحديث على هذا الأصل ورأى أنه مستثنى عنه قال تحل له بعد العام وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها ومن توسط قال يتصرف بعد العام فيها وإن كانت عينا على جهة الضمان)2567
وفي الوصية (قال الحسن وطاوس ترد الوصية على القرابة وبه قال إسحاق وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى الوصية للوالدين والأقربين والألف واللام تقتضي الحصر )2568
وفي القصاص حمل الجمهور حديث2569 من حذف ابنه بالسيف:( على ظاهره من أنه عمد لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله فهو عمد)2570
وفي القتل العمد(اختلفوا في القاتل عمدا يعفى عنه هل يبقى للسلطان فيه حق أم لا فقال مالك والليث إنه يجلد مائة ويسجن سنة وبه قال أهل المدينة وروي ذلك عن عمر وقالت طائفة الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور لا يجب عليه ذلك وقال أبو ثور إلا أن يكون يعرف بالشر فيؤدبه الإمام على قدر ما يرى ولا عمدة للطائفة الأولى إلا أثر ضعيف وعمدة الطائفة الثانية ظاهر الشرع وأن التحديد في ذلك لا يكون إلا بتوقيف ولا توقيف ثابت في ذلك)2571(2/181)
وأيضا(اختلفوا في القاتل بالسم والجمهور على وجوب القصاص وقال بعض أهل الظاهر لا يقتص منه من أجل أنه عليه الصلاة والسلام سم هو وأصحابه فلم يتعرض لمن سمه )2572
وبخصوص ما أخطأ فيه من القتل( الطبيب عند الجمهور على العاقلة ومن أهل العلم من جعله في مال الطبيب ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنها في ماله على ظاهر حديث عمرو بن شعيب)2573
وبخصوص تغليظ الدية( في الشهر الحرام وفي البلد الحرام فقال مالك وأبو حنيفة وابن أبي ليلى لا تغلظ الدية فيهما وقال الشافعي تغلظ فيهما في النفس وفي الجراح وروي عن القاسم بن محمد وابن شهاب وغيرهم أنه يزاد فيها مثل ثلثها وروي ذلك عن عمر وكذلك عند الشافعي من قتل ذا رحم محرم وعمدة مالك وأبي حنيفة عموم الظاهر في توقيت الديات فمن ادعى في ذلك تخصيصا فعليه الدليل)2574
وفي شهادة النساء(فالذي عليه الجمهور أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود لا مع رجل ولا مفردات وقال أهل الظاهر تقبل إذا كان معهن رجل وكان النساء أكثر من واحدة في كل شيء على ظاهر الآية2575 )2576
قواعد تتعلق بالظاهر:
الإفراط في التمسك بالظاهر يؤدي إلى المبالغة في القول بالتعبد ولا معقول المعنى:
يقول ابن رشد في الاختلاف الحاصل في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه:(واختلفوا في طريق الجمع فاختلفت لذلك مذاهبهم فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الأعرابي2577 وحديث أبي سعيد2578 قال إن حديثي أبي هريرة2579 غير معقولي المعنى وامتثال ما تضمناه عبادة لا لأن ذلك الماء بنجس حتى أن الظاهرية أفرطت في ذلك فقالت لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح لما كره الغسل به والوضوء)2580
يعدل عن الظاهر لعدم المناسبة الشرعية:(2/182)
يقول ابن رشد فيما يفيده ظاهر حديث عمر أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ واغسل ذكرك ثم نم (وذهب الجمهور إلى حمل الأمر بذلك على الندب والعدول به عن ظاهره لمكان عدم مناسبته وجوب الطهارة لإرادة النوم أعني المناسبة الشرعية)2581
الأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه:
قال الجمهور:(قوله تعالى (فإذا تطهرن) أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه)2582
الظاهر يقوي العموم على دليل الخطاب:
يقول ابن رشد:(والعموم أقوى من دليل الخطاب عند الجميع ولا سيما الدليل المبني على المحتمل أو الظاهر)2583
لا بنبغي الخروج عن الظاهر لقياس ضعيف:
ويظهر ذلك في (اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام وإنما التصفيق للنساء فمن ذهب إلى أن معنى ذلك أن التصفيق هو حكم النساء يصفقن ولا يسبحن ومن فهم من ذلك الذم للتصفيق قال الرجال والنساء في التسبيح سواء وفيه ضعف لأنه خروج عن الظاهر بغير دليل إلا أن تقاس المرأة في ذلك على الرجل والمرأة كثيرا ما يخالف حكمها في الصلاة حكم الرجل ولذلك يضعف القياس)2584
الصحابة لا يأخذون دائما بالظاهر:
ففي سجود التلاوة اختلف العلماء:( في مفهوم الأوامر بالسجود والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود مثل قوله تعالى إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب ومالك والشافعي اتبعا في مفهومهما الصحابة إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية)2585(2/183)
ورد ابن رشد اختلاف الفقهاء في استحقاق المرأة الصداق بالدخول الذي لا يكون معه مسيس إلى (معارضة حكم الصحابة في ذلك لظاهر الكتاب وذلك أنه نص تبارك وتعالى في المدخول بها المنكوحة أنه ليس يجوز أن يؤخذ من صداقها شيء في قوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض)2586
يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس بحسب قوة اللفظ:
وجاء ذلك في مثل قوله:(وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون)2587
الترجيح بين ظاهرين يحتملهما النص لا يكون إلا بدليل:
مثل قوله في قوله تعالى: (إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) حيث اختلفوا في الضمير على من يعود:( ومن جعله الولي إما الأب وإما غيره فقد زاد شرعا فلذلك يجب عليه أن يأتي بدليل يبين به أن الآية أظهر في الولي منها في الزوج وذلك شيء يعسر)2588
تأويل الظاهر بالقياس متفق عليه عند الأصوليين:
قال المالكية يلزم البيع في المجلس بالقول وإن لم يفترقا ( فلما قيل لهم إن الظواهر التي تحتجون بها يخصصها الحديث المذكور فلم يبق لكم في مقابلة الحديث إلا القياس فيلزمكم على هذا أن تكونوا ممن يرى تغليب القياس على الأثر وذلك مذهب مهجور عند المالكية وإن كان قد روي عن مالك تغليب القياس على السماع مثل قول أبي حنيفة فأجابوا عن ذلك بأن هذا ليس من باب رد الحديث بالقياس ولا تغليب وإنما هو من باب تأويله وصرفه عن ظاهره قالوا وتأويل الظاهر بالقياس متفق عليه عند الأصوليين )2589 ثم قال ابن رشد في قاعدة التأويل هذه:( ووجه الترجيح أن يقاس بين ظاهر هذا اللفظ والقياس فيغلب الأقوى)2590
ج-المؤول من جهة الصيغة:(2/184)
المؤول كما في الضروري :ما دلت القرائن على استعارته أو تبديله فهو بعض ما يسمى في هذه الصناعة مؤولا2591.وقال في فصل المقال:( ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه " أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي.)2592
د- المؤول من جهة المفهوم:
لم يخصه ابن رشد بالذكر ولا بالتعريف وإن كان متضمنا في قوله لما قسم النص صنفين : أحدهما ما كان نصا من جهة الصيغ, والثاني ما كان نصا من جهة المفهوم:( وبمثل هذه القسمة ينقسم الظاهر والمجمل والمؤول.) والظاهر حدوث سهو من ابن رشد في إدماج المؤول مع بقية الأصناف في صلاحية التقسيم .لأن التأويل في حد ذاته خروج من الصيغة إلى المفهوم لقرينة مرجحة،فلا يكون إلا قسما واحدا.
وحتى إذا أردنا إخراج تعريف له قياسا على المؤول من جهة الصيغة والذي اعتبرناه :ما دلت القرائن على استعارته أو تبديله من جهة الألفاظ،واخترنا أن يكون المؤول من جهة المفهوم هو: ما دلت القرائن على استعارته أو تبديله من جهة المفهوم.فإن النتيجة واحدة: تكون الألفاظ منطلقا لنصل بها إلى المفهوم ،وذلك عن طريق آلية التأويل .والله أعلم.
مراتب التأويل:
تبعا لمراتب الظهور،بين ابن رشد أن التأويل بدوره مراتب ودرجات،يقول:( وربما كان التأويل في الظاهر بينا بنفسه, وربما احتيج إلى تبيين, وربما كان ذلك ظنا أكثريا, وربما كان قطعا.) ثم مثل لذلك بقوله: (مثال ما كان من ذلك بينا بنفسه وكان قطعا قولهم: (وما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم)2593حيث يقطع بأن المقصود المطر.
نماذج تتعلق بالتأويل:(2/185)
ففي الطهارة بخصوص الرجلين من ( ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده)2594 وفي هذا الإطار أيضا(وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى)2595
وفي الصلاة بخصوص حكم تاركها من( فهم من الكفر هاهنا الكفر الحقيقي جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام كفر بعد إيمان ومن فهم هاهنا التغليظ والتوبيخ أي أن أفعاله أفعال كافر وأنه في صورة كافر كما قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن لم ير قتله كفرا)2596
وفي وقت صلاة الصبح من (ذهب إلى أن آخر وقتها الإسفار فإنه تأول الحديث في ذلك أنه لأهل الضرورات أعني قوله عليه الصلاة والسلام من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)2597
وفي وجوب صلاة الجماعة على الأعيان كما ذهب إلى ذلك أهل الظاهر2598 أو كونها مندوبة على ما رجحه الجمهور2599،يقول:( فسلك كل واحد من هذين الفريقين مسلك الجمع بتأويل حديث مخالفه وصرفه إلى ظاهر الحديث الذي تمسك به )2600
وبخصوص الجمع في الحضر لغير عذر (فإن مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر وأشهب من أصحاب مالك وسبب اختلافهم، اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس2601 فمنهم من تأوله على أنه كان في مطر كما قال مالك ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا)2602(2/186)
وبخصوص صلاة الوتر جعل ابن رشد صلاة بعض الصحابة للوتر بعد آذان الفجر وقبل صلاة الصبح من باب القضاء لا من باب الأداء ثم قال :(وإنما يتطرق الخلاف لهذه المسألة من باب اختلافهم في هل القضاء في العبادة المؤقتة يحتاج إلى أمر جديد أم لا أعني غير أمر الأداء وهذا التأويل بهم أليق فإن أكثر ما نقل عنهم هذا المذهب من أنهم أبصروا يقضون الوتر قبل الصلاة وبعد الفجر)2603
وفي الكفارة بخصوص مقدار الإطعام،يقول ابن رشد:( والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تأويل قوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم هل المراد بذلك أكلة واحدة أو قوت اليوم وهو غداء وعشاء فمن قال أكلة واحدة قال المد وسط في الشبع ومن قال غداء وعشاء قال نصف صاع)2604
وفي كتاب النذور اختلفوا فيمن حرم على نفسه شيئا من المباحات فقال مالك لا يلزم ما عدا الزوجة و تأول (التحريم المذكور في الآية أنه كان العقد بيمين)2605 أي في قوله تعالى:( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك )
وفي الصيد،قال ابن رشد:( النص2606 إنما ورد في الكلاب أعني قوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين إلا أن يتأول أن لفظة مكلبين مشتقة من كلب الجارح لا من لفظ الكلب )2607
وفي انتباذ الخليطين كخلط نبيذ التمر بنبيذ الزبيب، وبعد عرض الآثار الواردة في ذلك قال:(فيخرج في ذلك بحسب التأويل الأقاويل الثلاثة قول بتحريمه وقول بتحليله مع الإثم في الانتباذ وقول بكراهية ذلك )2608
وفي البيوع الربوية:(فكأن الشافعي ذهب مذهب الترجيح لحديث عمرو بن العاص والحنفية لحديث سمرة مع التأويل له لأن ظاهره يقتضي أن لا يجوز الحيوان بالحيوان نسيئة اتفق الجنس أو اختلف )2609
وفي الرهن قال:(وأما أبو حنيفة وأصحابه فتأولوا قوله عليه الصلاة والسلام له غنمه وعليه2610 غرمه أن غنمه ما فضل منه على الدين وغرمه ما نقص )2611(2/187)
وفي اللقطة(تأول الذين رأوا الالتقاط أول الحديث2612 وقالوا أراد بذلك الانتفاع بها لا أخذها للتعريف وقال قوم بل لقطها واجب وقد قيل إن هذا الاختلاف إذا كانت اللقطة بين قوم مأمونين والإمام عادل قالوا وإن كانت اللقطة بين غير مأمونين والإمام عادل فواجب التقاطها وإن كانت بين قوم مأمونين والإمام جائر فالأفضل أن لا يلتقطها وإن كانت بين قوم غير مأمونين والإمام غير عادل فهو مخير بحسب ما يغلب على ظنه من سلامتها أكثر من أحد الطرفين)2613
قواعد تتعلق بالتأويل:
التأويل عند ظاهر التعارض يكون بالجمع أوالترجيح أو القول بالنسخ إن وجد:
اختلف العلماء في أسآر الطهر( فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث مذهبين مذهب الترجيح ومذهب الجمع في بعض والترجيح في بعض )2614
وفي مس الذكر(ذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث أحد مذهبين إما مذهب الترجيح أو النسخ وإما مذهب الجمع )2615
وجود سنة في مسألة مما يرجح التأويل:
ففي مسائل الحيض اختلف الفقهاء في مباشرة الحائض وما يستباح منها(ومن الناس من رام الجمع بين هذه الآثار وبين مفهوم الآية على هذا المعنى الذي نبه عليه الخطاب الوارد فيها وهو كونه أذى فحمل أحاديث المنع لما تحت الإزار على الكراهية وأحاديث الإباحة ومفهوم الآية على الجواز ورجحوا تأويلهم هذا بأنه قد دلت السنة)2616
يرجع في التأويل المتعلق باللغة إلى عادة العرب في الاستعمال:
اختلف العلماء في القراءة الواجبة في الصلاة ،وبعد استعراض ابن رشد لأدلتهم قال:(الألف واللام في الذي في الظاهر تدل على العهد فينبغي أن يتأمل هذا في كلام العرب فإن وجدت العرب تفعل هذا أعني تتجوز في موطن ما فتدل بها على شيء معين فليسغ هذا التأويل و إلا فلا وجه له)2617
لا ينبغي رد بعض الحديث وتأويل بعضه:(2/188)
ففي جمع الصلاة في الحضر لعذر المطر أجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا ومنعه مالك في النهار وأجازه في الليل وأجازه أيضا في الطين دون المطر في الليل قال ابن رشد معقبا على مالك :(وقد عدل الشافعي مالكا في تفريقه من صلاة النهار في ذلك وصلاة الليل لأنه روى الحديث وتأوله أعني خصص عمومه من جهة القياس وذلك أنه قال في قول ابن عباس جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر أرى ذلك كان في مطر.
قال فلم يأخذ بعموم الحديث ولا بتأويله أعني تخصيصه بل رد بعضه وتأول بعضه وذلك شيء لا يجوز بإجماع وذلك أنه لم يأخذ بقوله فيه جمع بين الظهر والعصر وأخذ بقوله والمغرب والعشاء وتأوله وأحسب أن مالكا رحمه الله إنما رد بعض هذا الحديث لأنه عارضه العمل فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل وهو الجمع في الحضر بين المغرب والعشاء على ما روي أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء جمع معهم)2618
التأويل باعتماد دليل الخطاب:
ففي صلاة الخوف شذ أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة، فقال: لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإمام واحد، وإنما تصلى بعده بإمامين يصلي واحد منهما بطائفة ركعتين. ثم يصلي الآخر بطائفة أخرى وهي الحارسة ركعتين أيضا وتحرس التي قد صلت .قال ابن رشد:(وتأيد عنده هذا التأويل بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة.. الآية. ومفهوم الخطاب أنه: إذا لم يكن فيهم فالحكم غير هذا الحكم )2619
قد يكون التأويل بزيادة محتملة على مجرد اللفظ:
مثل ما جاء في القعود على القبر، فقد(كره قوم القعود عليها، وقوم أجازوا ذلك وتأولوا النهي عن ذلك أنه القعود عليها لحاجة الإنسان)2620
من التأويل حمل المجمل على المفسر:(2/189)
ففي رؤية الهلال ،قول ابن رشد:(ومنهم من رأى أن معنى التقدير له هو عده بالحساب، ومنهم من رأى أن معنى ذلك أن يصبح المرء صائما. وهو مذهب ابن عمر كما ذكرنا وفيه بعد في اللفظ. وإنما صار الجمهور إلى هذا التأويل لحديث ابن عباس الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام: فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. وذلك مجمل وهذا مفسر فوجب أن يحمل المجمل على المفسر)2621
الأصل قبل التأويل :هو أن يحمل الشيء على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز:
ففي صوم المسافر والمريض شذ أهل الظاهر فرأوا فرضهما رغم صومهما هو أيام أخر خلافا للجمهور ،قال ابن رشد:(والسبب في اختلافهم تردد قوله تعالى :(ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) بين أن يحمل على الحقيقة، فلا يكون هنالك محذوف أصلا، أو يحمل على المجاز، فيكون التقدير: فأفطر، فعدة من أيام أخر. وهذا الحذف في الكلام هو الذي يعرفه أهل صناعة الكلام: بلحن الخطاب. فمن حمل الآية على الحقيقة ولم يحملها على المجاز، قال: إن فرض المسافر،عدة من أيام أخر. لقوله تعالى:( فعدة من أيام أخر) ومن قدر فأفطر، قال إنما فرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر وكلا الفريقين يرجح تأويله بالآثار الشاهدة لكلا المفهومين وإن كان الأصل هو أن يحمل الشيء على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز)2622
ضرورة تجنب البعد في التأويل:
فبخصوص الهدي في الحج:(وأما مالك رحمه الله فكان يتأول لمكان هذا أن المحصر إنما عليه هدي واحد وكان يقول إن الهدي الذي في قوله سبحانه فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي. هو بعينه الهدي الذي في قوله فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي. وفيه بعد في التأويل )2623
فعل النبي ( يعضد التأويل :(2/190)
اختلف العلماء في جواز الصلح من غير ضرورة، وذلك بسبب(معارضة ظاهر قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. وقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. لقوله تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح قال لا يجوز الصلح إلا من ضرورة ومن رأى أن آية الصلح مخصصة لتلك قال الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام وعضد تأويله بفعله ذلك صلى الله عليه وسلم وذلك أن صلحه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لم يكن لموضع الضرورة)2624
من التأويل حمل الأمر على أصله في اللغة:
قال تعالى:( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم)قال ابن رشد:( وهذا نص كما ترى في حكم كل واحدة من هاتين الحالتين أعني قبل المسيس وبعد المسيس ولا وسط بينهما فوجب بهذا إيجابا ظاهرا أن الصداق لا يجب إلا بالمسيس،والمسيس ههنا الظاهر من أمره أنه الجماع وقد يحتمل أن يحمل على أصله في اللغة وهو المس ولعل هذا هو الذي تأولت الصحابة)2625
تأويل النهي بتخصيصه لمعارضته الأصول:
قال ابن رشد بخصوص بيع الماء:(اختلف العلماء في تأويل هذا النهي فحمله جماعة من العلماء على عمومه فقالوا لا يحل بيع الماء بحال كان من بئر أو غدير أو عين في أرض مملكة.وأنه إن كان متملكا كان أحق بمقدار حاجته منه وبه قال يحيى بن يحيى قال أربع لا أرى أن يمنعن: الماء والنار والحطب والكلأ وبعضهم خصص هذه الأحاديث بمعارضة الأصول لها وهو أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه)2626
من التأويل حمل المطلق على المقيد:(2/191)
وفي الماء أيضا قال:(وقال بعضهم إنما تأويل ذلك في الذي يزرع على مائه فتنهار بئره ولجاره فضل ماء أنه ليس لجاره أن يمنعه فضل مائه إلى أن يصلح بئره والتأويلان قريبان، ووجه التأويلين أنهم حملوا المطلق في هذين الحديثين على المقيد. وذلك أنه نهى عن بيع الماء مطلقا ثم نهى عن منع فضل الماء فحملوا المطلق في هذا الحديث على المقيد وقالوا الفضل هو الممنوع في الحديثين)2627
إذا ورد حديثان في موضوع واحد وكان أحدهما محتملا والآخر نصا وجب تأويل المحتمل على الجهة التي يصح الجمع بينهما:
يقول ابن رشد في النصوص الواردة في الربا:( وإذا كان هذا محتملا2628 والأول نص2629 وجب تأويله على الجهة التي يصح الجمع بينهما)2630
التأويل يدفع بما ورد صريحا في النص:
قالوا وللجمع بين الحديثين2631 وجه وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أبي هريرة في بعض الروايات من ذكر البيع )2632
التأويل يضعف أمام التعليل المنصوص عليه:
يقول ابن رشد (وافترق هؤلاء في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام هو لك2633 فقال طائفة إنما أراد هو عبدك إذ كان ابن أمة أبيك وهذا غير ظاهر لتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه في ذلك بقوله الولد للفراش وللعاهر الحجر وقال الطحاوي إنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام هو لك يا عبد بن زمعة أي يدك عليه بمنزلة ما هو يد اللاقط على اللقطة وهذه التأويلات تضعف لتعليله عليه الصلاة والسلام حكمه بأن قال الولد للفراش وللعاهر الحجر)2634
إذا كانت النصوص محتملة يرجح التأويل المناسب للأصول:(2/192)
قال الذين لا يرون العمل بالقسامة :(الأصول أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. ومن حجتهم أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام. ولذلك قال لهم أتحلفون خمسين يمينا أعني لولاة الدم وهم الأنصار قالوا كيف نحلف ولم نشاهد قال فيحلف لكم اليهود قالوا كيف نقبل أيمان قوم كفار قالوا فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السنة قال وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى)2635
المبحث الثالث
تعلم ما يتعلق بالعموم والخصوص
مفهوم العام عند ابن رشد:
مما يدخل في اللفظ الظاهر مما هو مبدل أي الظاهر بمفهومه: اللفظ الكلي وهو عند ابن رشد العام2636 ،ويظهر أن اللفظ الجزئي يقصد به الخاص.والعام عنده أصناف كثيرة،منها:
-أسماء الجموع, دخلتها الألف واللام أو لم تدخلها.
-أسماء الأجناس والأنواع والأصناف إذا كان فيها الألف واللام ولم تكن في آخرها هاء التأنيث مثل الثمرة والنخلة و المرأة.
- من وما,وأين ومتى . ومنها حروف النفي.
-الألفاظ المؤكدة كقولهم: كلهم و أجمعون.
وهذه الأصناف إذا أطلقت إطلاقا، حملت على الأكثر على عمومها إلى أن يدل الدليل على تخصيصها.
مراتب العام في الظهور:
وتفيد هذه المراتب في التأويل، إذا احتيج إليه. بحيث يشترط في الدليل المؤوّل، أن يكون أقوى دلالة من صيغة اللفظ.
فمثال القوي في ظهور عمومه وفي شموله لما يمكن أن يندرج تحته قول النبي ( :( فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر) فقد حمله قوم على كل شيء حتى أخذوا الزكاة من الخضر، وقال آخرون هو مقصور على سائر الحبوب التي تؤخذ منها الزكاة .(2/193)
يليه مثل قوله عليه السلام :( لا صيام لمن لم يبيت الصيام )2637حيث حمله قوم على القضاء والنذر وهذا التأويل أضعف من الأول.لأن أول ما ينصرف إليه الذهن هو الصيام المعتاد حيث يشمله وغيره،أما تخصيصهما فبعيد.
أما الأضعف منهما فمثله ما ذهب إليه البعض في قوله ( :( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ) أن المقصود به الأمة فلما عارضهم ما في بعض رواياتة من زيادة قوله( :( فلها المهر) ولما كان المهر إنما يكون لسيدها، حملوا الحديث على المكاتبة،قال ابن رشد: (وهذا يبعد من جهة التأويل ).
اللفظ العام يحمل على عمومه ولا يصرف عنه إلا بقرينة:
فالأصل في العام أن يحمل على العموم، حتى يرد ما يصرفه عن ذلك ،وهو أول ما ذكر ابن رشد من أنواع العموم في"البداية"ومثل له بقوله:( فمثال الأول قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) فإن المسلمين اتفقوا على أن لفظ الخنزير متناول لجميع أصناف الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك ، مثل خنزير الماء)2638
وقد ذكر ابن رشد في "البداية" ما يقابل حمل العموم على عمومه،وهو حمل الخاص على خصوصه وحكى فيه الاتفاق.2639
اللفظ العام يراد به الخاص:
وقد يرد اللفظ العام والمراد به الخاص، يقول ابن رشد:( ويكون ذلك فيه بينا من أول الأمر، كقول القائل عندما يضرب ولده ليس في الأولاد خير. وربما كان ذلك ظنا أكثريا، وربما كان قطعيا، وذلك بحسب قرينة قرينة .وربما تبين ذلك بدليل. والدليل أيضا إما قطعي وإما أكثري، وربما علمنا أنه عام أريد به الخاص ،ولم نعلم أي خاص هو، وربما كانت قوته قوة المجمل.)2640(2/194)
وذكره في أنواع العموم التي أوردها في مقدمة "البداية" ومثل له بقوله:( ومثال العام يراد به الخاص ، قوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ). فإن المسلمين اتفقوا على أن ليست الزكاة واجبة في جميع أنواع المال)2641 ومثله أيضا اتفاقهم في قوله تعالى :(حرمت عليكم الميتة ) أنه من باب العام أريد به الخاص ،وإن اختلفوا أي خاص أريد به.2642
اللفظ الخاص يراد به العموم:
وقد أورده في مقدمته الأصولية في "البداية" حيث قال في نوع العموم المختلف فيه: لفظ خاص يراد به العموم ، وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى ، وبالأدنى على الأعلى ، وبالمساوي على المساوي ومثل للوجه القوي فيه أي التنبيه بالأدنى على الأعلى بقوله:( ومثال الخاص يراد به العام قوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ) فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم وما فوق ذلك)2643 ومثاله أيضا قول مالك(الكلب العقور الوارد في الحديث2644 إشارة إلى كل سبع عاد، وأن ما ليس بعاد من السباع فليس للمحرم قتله ولم ير قتل صغارها التي لا تعدو ولا ما كان منها أيضا لا يعدو)2645
ما يعتبر من العموم وما ليس كذلك:
فالعموم في الألفاظ ما كان من لفظ الشارع على سبيل الابتداء, ويلحق به ما أخرج مخرج العام في الرد على السؤال الوارد لسبب خاص. مثل قول النبي (, وقد سئل عن بئر بضاعة فقال: ( خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء) فإن هذا القول ليس يحمل على بئر بضاعة وحده, بل على جميع المياه.
ليس للاسم المشترك عموم لجميع ما يقال عليه. وهذا يتبين خلافه باستقراء كلام العرب, فإنهم ليس يطلقون في مخاطبتهم اسم العين مثلا ويريدون به أن يفهم السامع عنهم جميع المعاني التي يقال عليها اسم العين. وأبين ما يظهر ذلك في الأسماء المقولة على المتضادات, اللهم إلا أن يدّعي مدّع أن ذلك مفهوم بالعرف الشرعي, لكن إن ادّعى ذلك فعليه إثباته.(2/195)
وأشار ابن رشد إلى أن لفظ الناس والإنسان يدخل تحته: العبد والكافر والذكر والأنثى. بينما لفظ (المؤمنون) فيدخل تحته العبد ولا يدخل تحته النساء, إذ هي صيغة خاصة بالمذكر.
كما أن صرف العموم إلى غير الاستغراق جائز. وأما رده إلى ما دون أقل الجمع عند من يرى أن أقل ما يدل بلفظ الجميع عليه اثنان, قال ابن رشد:(فزعم أبو حامد أن ذلك ممتنع, وفيه نظر.)2646
وأشار إلى أن لفظ الجميع إذا ورد مطلقا فأقل ما يتناول الثلاثة فما فوقها, وهو فيها أظهر منه في الاثنين, وإنما يحمل على الاثنين بقرينة.وقال:( والعجب ممن يحمل ألفاظ الجموع إذا وردت مطلقة على الاثنين, مع أن للاثنين صيغة خاصة. فأما أن لفظ الجمع قد يتجوز فيه ويراد به الاثنان, فذلك غير مدفوع. لكن على جهة الإبدال والتجوّز على نحو ما يفعل في سائر الألفاظ الراتبة على شيء ما.)2647
ما يرد من العام ويراد به الخاص:
قد يكون بينا من أول الأمر أن المقصود بعام ما خصوصا بعينه,وقد لا يكون بينا ذلك إلا بوجود دليل من لفظ أو فعل أو إقرار أو غير ذلك من الأدلة. وينصح ابن رشد( إذا أريد المصير إلى تخصيص العام بواحد واحد منها أن ننظر إلى أيها أقوى رتبة في غلبة الظن إليه.)2648 وفي موضع آخر يقول:( وبالجملة كما قلنا فينبغي لمن يجوز التخصيص بمثل هذه الأدلة أن يصير إلى أقواها رتبة في غلبة الظن. وهذا النوع من غلبة الظن قد يقع من جهة الألفاظ, ومن جهة النقل, كمن يجيز تخصيص العام بالنص ويمنعه في القرآن لكون القرآن مما ثبت تواترا, هذا إذا كان الخاص واردا بطرق الآحاد.)2649
العام إذا ورد في شيء ثم ورد تخصيصه:(2/196)
اختلف العلماء في تخصيص العام إذا ورد في شيء، ثم ورد تخصيصه وذلك إما بصيغة لفظ أو مفهوم أو بفعل أو إقرار, فاعتبر البعض ذلك من قبيل التعارض, لأنه جائز مثلا أن يرد العام متأخرا عن المخصص, فيكون ورود العام نسخا له, إلا أن يعلم أن التخصيص ورد بعد التعميم على جهة تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وإلى هذا ذهب داوود وأصحابه.
وقد احتج من أجاز تخصيص العام بمثل هذه الأدلة دون أن يعلم المتقدم منها والمتأخر بمصير الصحابة إلى ذلك, وحكمهم بالخاص على العام, فيكون على رأي هؤلاء حالة العام مع الخاص إحدى حالتين: إما أن يرد اللفظ العام وقد تقدمه الخاص, فيكون ذلك قرينة يخصص بها العام لاحتمال اللفظ لذلك. وإما أن يرد الخاص بعد العام فيكون محمولا عليه.
من الألفاظ الخاصة أسماء الأشخاص والأجناس والأنواع:
يقول ابن رشد عن الخاص (إنما يقال بالإضافة إلى العام الذي فوقه ، والعام بالإضافة إلى الخاص الذي تحته .)2650 والألفاظ الخاصة منها ما هي أسماء أشخاص ، ومنها ما هي أسماء أجناس وأنواع:
أسماء الأشخاص: تحمل على ما تقتضيه صيغها من المعنى الخاص دون أن تحمل على ما يعم ذلك المعنى الخاص ، وهي في ذلك ظاهرة.
أسماء أجناس وأنواع : ظاهرة في تعميم ما تحتها ، و ظاهرة في تخصيص معانيها التي دلت عليها أو لا ،بصيغها عما هو أعم منها إلى أن يدل دليل التعميم .
الخاص بدوره له مراتب في الظهور:
فكما أن من العادة إبدال الكلي العام مكان الجزئي الخاص ، كذلك من العادة إبدال الجزئي الخاص مكان العام تعويلا في ذلك على القرائن . وهذا أيضا -كما يقول ابن رشد-( ربما كان بينا بنفسه وقطعا ، وربما كان ظنيا أكثريا ، وربما لم يكن بينا بنفسه، وربما كان بينا بنفسه أنه مبدل، ولم يكن بينا أي كلى أبدل الجزئى مكانه .)2651(2/197)
مثال المرتبة الأولى: ما كان من ذلك بينا بنفسه وقطعا قوله تعالى :( ولا تقل لهما أف ) . وقوله عليه السلام : "أدو الخائط والمخيط "2652 .
ومثال ما يليه في الرتبة :ما كان من ذلك بينا بنفسه ولم يكن قطعا، النهى عن دخول المسجد بريح الثوم أو النهي عن الشرب بآنية الفضة .
ومثال المرتبة الأقل: ما لم يكن من ذلك بينا بنفسه: فنهيه عليه السلام عن بيع البر بالبر وكذا الأربعة المذكورة . فإن قوما حملوه على المقتات وآخرون على المطعوم ، وآخرون على المكيل ، وقوم قصروا الحكم على النص .
حكم العام:
-تجوز المخاطبة بالعام الذي يعقبه التخصيص:
وبخصوص العام الذي يعتبر عنده ظاهرا من جهة المفهوم فالمخاطبة به دون أن يقيد أو تقترن به( قرينة تدل على فهم ذلك المعنى المخصص قصدا بتأخير البيان فيها إلى وقت الحاجة، واقع لغة وشرعا)2653مثل قوله تعالى:( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) فإنهم لم يزالوا يسألون والجواب يرد بالتخصيص إلى أن تعينت لهم البقرة المخصوصة. فمن عرف الشيء بأمر كلي فقد عرفه بوجه ما، مع أنه ينتظر معرفته بوجه أخص.فأما إذا لم يعلم المخاطبون من قرائن الأحوال أن ههنا موضعا للسؤال فهو على حد تعبير ابن رشد(فذلك غير واقع)2654 .
الاستثناء وعلاقته بالعام:
يعتبر الاستثناء تخصيصا ما للعام2655, والفرق بينه وبين التخصيص أنه لا يرد منفردا عن المستثنى. فهو يخصص المعاني العامة بإخراج بعض ما يتناوله اللفظ العام منها لا بإيجاد صفة له مخصصة (فلا معنى لقول من أجاز تأخير الاستثناء)2656 وأصناف الاستثناء هي:
الاستثناء المتصل: وهو ما كان فيه المستثنى من جنس المستثنى فيه،وهو مما لا خلاف في الأخذ به وإعماله.
الاستثناء المقطوع/المتقطع:(2/198)
وهو ما كان المستثنى فيه من غير جنس المستثنى منه. وهذا قد منعه قوم وقالوا لا معنى لاستثناء ما لم يتضمنه القول المتقدم، وتسمية مثل هذا استثناء هذر. وأما الذين أجازوه فقد تمسكوا بوقوع ذلك في لغة العرب كقولهم :ما في الدار رجل إلا امرأة،كما وقع ذلك في كتاب الله من مثل قوله تعالى ( فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) وقوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة حاضرة ).
وابن رشد قال:(وبالجملة فهو في كلامهم (العرب) مشهور وموجود كثيرا(...)و من عادة العرب ،إبدال الكلي مكان إلجزئي ، والجزئي مكان الكلي اتكالا على القرائن وتجوزا . فالأعرابي مثلا إذا قال : ما في الدار رجل أمكن أن يفهم عنه فما سواه ، فلذلك استثنى فقال : إلا امرأة ، (...) وعلى هذا الوجه الذي قلناه ليس يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه . لكن الفرق بينه وبين الأول أن ذلك استثناء من عموم ما اقتضاه اللفظ بصيغته ، وهذا من عموم ما اقتضاه اللفظ بمفهومه لا بصيغته .
وإذا تصفحت المواضع الواقع فيها مثل هذا الاستثناء وجدتها على ما قلناه ، وإلا كان خلفا في القول وهذرا لا تصح بمثله محاورة)2657 وقال الزركشي في البحر المحيط عن هذا الحل الذي اقترحه ابن رشد وانفرد به من بين الأصوليين :( وقد حل هذا الشك القاضى أبو الوليد بن رشد" و "وقد انفرد بحل هذا الشك )2658
الاستثناء الوارد بعد جملة واحدة مفيدة أو أكثر من واحدة منسوقة بالواو:(2/199)