سلسلة تثقيف المسلم
(1)
وَقَفَاتٌ بَهِيَّةُ
مِنْ حياةِ شَيْخ اِلإسلام ابنِ تيمية
تأليف
أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي
إمام وخطيب جامع الملك فهد بمحايل عسير
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ،ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ...
فهذا درس من سلسلة (الدرس العام المنوع ) الذي ألقيه كل يوم إثنين ،امتن الله به وأعان ، وشارك عدد من الإخوة في دعمه ، وتصويبه ، وتسديده ، فكان من نعمة الله ، أن تم القاء قرابة (35) درساً في مختلف فنون الثقافة الشرعية ، قصدنا من خلالها توجيه الأمة ، وتزكية النفوس ،وتثقيف الشباب ، والارتقاء بالفكر الإسلامي ، وإضفاء لمسة تجديدية على الدروس الدعوية ،ونرجو أن نكون أصبنا شيئا من ذلك .
والله المسئول أن يديم علينا نعمة الايمان، .وأن يجزي الإخوة الداعمين خيرا .
وسوف تاتي هذه الدروس والمجالس ،ضمن سلسلة (تثقيف المسلم )وأستهلها بهذا الحديث عن علم كبير وإمام فذ هو شيخ الإسلام ابن تيمية، ومع هذه (الوقفات البهية) من حياته .
الأحد 25محرم 1426هـ
6 مارس 2005م
…الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاًفيه ، كما يحب ربنا ويرضى و صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين " { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَولا سَدِيدًا يصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تعملون } .(1/1)
أيها الإخوة الكرام : عنوان درسنا لهذه الليلة :
( وقفات بهية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ) رحمه الله تعالى رحمة واسعة ـ هناك في بلدة حران في الجزيرة بين الشام والعراق برزت أسرة متينة العلم والدين تسمى آل تيمية، وإبان غزو التتار لتلك المنطقة انتقلت الأسرة بكتبها وتراثها العلمي، إلى دمشق وفي الطريق حاول التتار اللحاق بهم وبغيرهم من المسلمين، الفارين بدينهم فالتجأوا إلى الله وابتهلوا إليه بالدعاء والاستغاثة حتى نجاهم من كيد الظالمين، وهناك في دمشق ظهر من هذه الأسرة (غلام صغير) يافع برزت عليه علامات النجابة والعبقرية، ما نظر في شئ إلا حفظه، وما طالع كتاباً إلا انتقش في ذهنه وبدأ يشيع ذكره في الشام ويتحدث الخلق عن ذكائه وعبقريته ونباهته، وقد ذكر ( صاحب العقود الدرية من مناقب ابن تيمية ) أنه اتفق أن حضر بعض مشايخ حلب إلى دمشق فسأل عن غلام اسمه أحمد بن تيمية وأن الله وهبه ذاكرة قوية فسأل خياطاً في طريق كتابه قال : أتعرف أحمد بن تيمية ؟ قال : نعم هذا طريق كتابه ( يعني طريق ذهابه إلى الدرس ) فاجلس هنا، سيمر بعد قليل وبعد مدة حضر هذا الغلام، وبيده ألواحه فقال له الخياط : يا شيخ هذا هو أحمد بن تيمية فاستوقفه الشيخ الحلبي وقال يا بني أكتب هذه الأحاديث فأملاه بضعة عشر حديثاً فقال : انظر إليها، فنظر فيها ثم قال امحها ، فمحاها ثم قال أعدها عليّ فأعادها كأحسن ما أنت سامع . ثم أملاه بضعة عشر إسناداً فقال : أنظر فيها فنظر فيها مرة واحدة، ثم قال: أعدها عليّ فأعادها كأحسن ما أنت سامع ، يقول صاحب العقود فقال هذا الشيخ الحلبي : (إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن فإنه لم ير مثله) وقد صدقت فيه فراسة هذا الشيخ الحلبي فظهر لهذا الغلام شأن وأي شأن، حيث برّز في العلوم، وقرأ الكتب واستظهر الآثار وفاق الأقران ،ومهر المصنفات، بفضل الله تعالى وتوفيقه، فلقد منحه الله عز وجل ذاكرة هي صاعقة، ووهبه عبقرية(1/2)
نادرة، حتى عُد من( أذكياء العالم) واعتبر في زمنه( نادرة العصر) وأنه أعجوبة الزمان . يقول فيه بعض أقرانه وقد كان من خصومه المنصفين وهو الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله وكان من خصوم ابن تيمية، لكنه ممن أنصف في حقه كثيراً يقول فيه :
ماذا يقول الواصفون له…
…وصفاته جلت عن الحصرِ
هو حجة لله قاهرة
……هوبيننا أعجوبة الدهرِ
هو آية للخلق ظاهرةٌ…
…أنوارها أربت على الفجرِ
…وقد كان هذا الرجل (الإمام المقدم) نعمة من الله جسيمة على هذه الأمة ولا سيما في التصدي للمخالفين من أهل البدع كالروافض والباطنية والاتحادية والحلولية كما أشار إلى ذلك الحافظ بن حجر في ترجمته في ( الدرر الكامنة ) بل في تقريضه لكتاب ( الرد الوافر ) لابن ناصر الدين الدمشقي:( فقال إن من أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلوية والإتحادية وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر) أ هـ . وذكر شيخنا العلامة الفاضل محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في مقدمة شرح الواسطية أن هذا الرجل كان نعمة من الله عظيمة على هذه الأمة لما له من مقامات جليلة، في التصدي لأهل الباطل والذب عن الشريعة . وبالفعل فإنه نعمة من الله على هذه الأمة، فقد جددّ عقيدة السلف، وأصلح جوانب الاعتقاد، وحارب البدع، والمخالفات وحمل راية الجهاد، وأسس مدرسة الدليل، ورد الناس للكتاب والسنة، فكان زمان ابن تيمية (زماناً سعيدا)ً و بهيجاً في الحياة الإسلامية بما حصل من خيرات عظيمة وفضائل كثيرة على
هذه الأمة .
زمانك بستان وعصرك أخضر
……وذكراك عصفور من القلب ينقرُ
دخلت على تاريخنا ذات ليلة
……فرائحة التاريخ مسك وعنبرُ
لمست أمانينا فسالت جداولاً
……وأمطرتنا حباً وما زلت تمطرُ
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي
……أفسر ماذا والهوى لا يفسرُ
وسوف أعرض هذه الصفحات المطوية من حياة ابن تيمية من خلال الوقفات التالية :(1/3)
الوقفة الأولى : العبودية الحقة :
…إذا منّ الله على العبد بطاعته، وذاق حلاوة الإيمان، واستطعم الطاعة انقطع لها متلذذاً بأسرارها، ومدركاً لفوائدها ، ولقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بدوام الابتهال والانقطاع لله عز وجل . يقول الذهبي( لم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه) وهذه هي العبادة أن يكون العبد كثير القصد والتوجه إلى الله عز وجل بالمحافظة على الفرائض، واستغلال الأوقات في النوافل، والإكثار من ذكر الله ومن قراءة القرآن ولا سيما أثناء العشر المباركات من ذي الحجة وهي من المواسم الفاضلة التي ينبغي للمسلم ألا يغفل عن خيرها وأن يكثر من قراءة القرآن ومن التكبير والتحميد والتهليل. وقد ذكروا عنه أموراً عجيبة في العبادة والانقطاع للباري عز وجل فذكر عنه أنه إذا اشكلت عليه مسألة أو تعسر عليه فهم آية التجأ إلى مسجد من المساجد المهجورة ومرغ جبهته على التراب وردد ( اللهم يا معلم آدم وإبراهيم علمني ويا مفهم سليمان فهمني ) وقال في الكواكب الدرية وهو كتاب غير العقود للشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي(1/4)
( أنه كان في ليلة منفرداً عن الناس كلهم خالياً بربه عز وجل ضارعاً إليه مواظباً على تلاوة القرآن العظيم مكرراً لأنواع العبادات والتعبدات الليلية والنهارية وكان إذا دخل الصلاة ترتعد فرائصه حتى يميل يمنه ويسره )، فتأمل إلى الخشوع والإقبال على الله عز وجل وكان إذا صلى الفجر مكث في مصلاة يذكر الله عز وجل كثيراً وذكروا أنه كان يردد سورة الفاتحة إلى أن يتعالى النهار ، وحدث ابن القيم في بعض كتبه أنه جاء إليه وقد ارتفع النهار فاستغرب جلوسه فقال له: ( هذه غدوتي لو لم أتغدها سقطت قواي )، فأصبح الذكر وأصبحت العبادة هي غذاءه وشرابه لا يستغني عنها، ولا يستطيع التنازل عنها كما أن الإنسان لا يستغني عن الطعام والشراب إذا جاع فهذا أصبح قوته، وأصبحت لذته في الابتهال والانقطاع لله عز وجل ذاكراً ومتأملاً ومتخشعاً ويقول هو( إنه ليقف خاطري في المسألة أو الشئ أو الحالة التي تشكل عليّ فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينجلي إشكال ما أشكل ) وهذا خلق عظيم ينبغي أن يتصف به كل مسلم، إذا أشكل عليك أمر أو تعسرت عليك حاجة فإنك تبتهل إلى الله عز وجل بكثرة الدعاء ، والطلاب أثناء الامتحانات قد يضيقون من بعض المواد وبعض الأشياء الصعبة أو بعض المناهج الطويلة، والمشروع للمسلم أن ينقطع إلى الله عز وجل بالدعاء وكثرة الذكر وكثرة الاستغفار حتى ييسر الله عز وجل طريقك . ثم ذكروا عنه أنه كثير الذكر لله فكان يذكر الله على كل حال في كل مكان يقول هو ( وأكون إذاك في السوق أو في المسجد أو الدروب أو المدرسة لا يمنعني من الذكر والاستغفار .إلى أن أنال مطلبي) وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم أنها قالت( ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه ) وقال الله عز وجل في صفات أولي الألباب { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ(1/5)
السَّمَاوَاتِ والارض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
(آل عمران:6 ) ثم المتأمل لسيرة هذا الإمام العظيم يجد أنه كان يتنعم، ويتلذذ بنعمة الفقر، فإنه ما كان غنياً، ولا شغل مناصب ولارئاسات ولم تكن عنده أرصده يحتفظ بها ، بل كان فقيراً وكان يستشعر عبودية الفقر والتذلل والاستكانة لله عز وجل ، يقول ابن القيم عنه في مدارج السالكين( أنني لم أشاهد هذه الحالة يعني حالة الضعف والفقر تجاة الله عند أي شخص بمثل ما شاهدته في شيخ الإسلام ابن تيمية فقد كان يقول ما عندي شئ ولا مني شئ وكان ينشد:
أنا المكدي وابن المكدي …وهكذا كان أبي وجدي)(1/6)
يعني أنا الفقير ابن الفقير، وهكذا، وهذا منهج ومنوال سار عليه آبائي وأجدادي، وكان يكثر الذكر لله تعالى في الملمات، وفي الشدائد والأمور، التي تعكر السعادة على الناس، فإنك أنت مثلاً إذا حصل لك ظرف أو حصل لك أمر أوأتتك ضائقة في حياتك تعسر عليك يومك، وربما الورد الذي كنت تقرأه من قراءة القرآن أو من شئ ،أو العلم الذي كنت تواظب عليه، أو قراءتك تعطلها وتؤخرها، أما هذا الرجل فإنه كان كثير الذكر لله حتى في الأمور التي تعكر أحوال الناس كالكروب والغموم والأحزان . فمثلاً لما أدخل السجن وسُجن في بعض المواقف الصارمة وبعض فتاويه التي رفض الرجوع عنها وقال : ما ينبغي كتمان العمل قال :( ما يفعل أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري ، أين رحت فهي معي ، إن سجني خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة) ، فهو إذا سُجن يقول أنا أختلي بذكر الله، و أقرأ القرآن، ولذلك سوف يأتي معنا أنه في آخر سجنة له، وقد أحصيت أنها سبع سجنات مكث سنة وأحد عشر شهراً َوسببها الإفتاء في مسألة شد الرحل إلى زيارة قبور الصالحين بالمنع ، ختم القرآن في ذلك السجن أكثر من( ثمانين مرة) وكان يكتب العلم ويقرأ ويراجع ويحفظ وتأتيه المسائل وهو في السجن . فانظر ماذا يقول يقول ما يصنع أعدائي بي إنا جنتي وبستاني في صدري القرآن معه، يتلذذ بذكر الله عز وجل يخلو بربه متأملاً خاشعاً مقترباً من الله عز وجل ويقول ابن القيم كما في الوابل الصيب :( وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه مع ماكان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون أتيناه في سجن القلعة فما هو إلا أن نراه، فتنشرح صدورنا، وتحصل السعادة فسبحان من أطلع بعض خلقه على جنته وأراهم من نسيم الجنة وهم لا يزالون في دار العمل والعبادة) ونقل عنه كلمته المشهورة ( إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة )، فقد كان ـ رحمه الله ـ كثير العبادة وكثير(1/7)
الابتهال وكثير الذكر لله عز وجل مع ما يمر عليه من أنكاد وشدائد .
الوقفة الثانية : الشغف بالعلم :
…ونقصد بها محبة العلم، والتلذذ به، فقد حبب الله عز وجل إليه العلم من الصغر، فأقبل عليه بكليته، ما أعطاه ساعة أو ساعتين،بل انقطع للعلم كثيراً، والسبب يعود بَعد توفيق الله إلى أنه نشأ في بيت علم، وذلك أن أباه وجده عالمان كبيران ولهذا يقول الذهبي في بعض التراجم له : ( كان أبوه عالماً كالنجم وكان جده عالماً كالقمر وكان ابن تيمية عالماً كالشمس)
{ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } . فامتزج حب العلم بدمه وعصبه، لذلك قالوا في ترجمته( أنه ما خالط الناس لا في بيع ولا شراء ولا معاملة ولا تجارة ولا مشاركة ولا مزارعة ولا عمارة ولا كان ناظراً لوقف أو مباشراً لمال ولا كان مدخراً ديناراً ولا درهماً ولا متاعاً ولا طعاماً وإنما كانت بضاعته مدة حياته وميراثه بعد وفاته العلم إقتداء بسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم) الذيَ قال " العلماء ورثة الأنبياء لأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " وذكر عنه الذهي (يقول ما رأيته إلا وفي يده كتاب) يعني يقرأ يقلب العلم يراجع يحرر المسائل كما ذكروا عن بعض أصحاب الهمم العالية والجادين ذكروا عن الجاحظ أنه ما رؤي إلا وفي يده كتاب يبحث ويقرأ، وذكروا عن جده مجد الدين ابن تيمية صاحب ( منتقى الأخبار) أنه كان إذا ذهب لقضاء الحاجة يأمر قارئاً ،يقرأ عليه شيئاً من العلم حتى لا يضيع الوقت .
تلك العصا من هذه العصيةْ
… ما تلد الحية إلا الحيْة
فبيته بيت علم ودين، فلا غَرو أن يكون مقبلاً على العلم بكليته، بل منذ صغره ولذلك أفتى دون العشرين وعقد مجالسه دون العشرين، ولهذا كان يطالع كثيراً . فالرجل أدرك( حلاوة العلم) كما قال أبو إسحاق الإلبيري واعظاً ابنه أبا بكر .
أبا بكر دعوتك لو أجبت…(1/8)
……إلى ما فيه حظك لو عقلت
إلى علم تكون به إماماً …
…مطاعاًً إن نهيت وإن أمرتَ
ويجلو ما بعينك من غِشاها…
……ويهديك الطريق إذا ضللتَ
هو العضب المهند ليس ينبو
………تصيب به َمقاتل من أردتَ
وكنز لا تخاف عليه لصاً
………خفيف الحمل يوجد حيث كنت
ثم يقول له :
فلو قد ذقت من حلواه طعماً ……
…لآثرت التعلم واجتهدتَ
ولم يشغلك عنه هوى مطاعٌ…
……ولا دنيا بزخرفها فتنت
ولا ألهاك عنه أنيق روض…
……ولا خدر بزينتها كلفت
فقوت الروح أرواح المعاني……
…وليس بأن طعمت ولا شربتَ(1/9)
لكن نحن اليوم في زمننا ،أصبح قوت الروح شيئاً آخر، أما هو فإن قوت روحه هو الإقبال على العلم والقراءة، وهنا خبر عجيب ذكره ابن القيم تلميذه الذي تأثر به كثيراً، ولازمه كثيراً، ونقل كثيراً من فتاويه وبحوثه، كما قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في ( الدرر الكامنة ) فإن ابن القيم له (الأثر الكبير) في نقل بحوث وفتاوى ابن تيمية، نقل ابن القيم عجباً في( روضة المحبين) وهو من الكتب السهلة الطريفة لابن القيم روضة المحبين مطبوع في مجلد لطيف ، يقول عن شيخه( أنه مرض مرة فجاءه الطبيب فقال له إن قراءتك للعلم وتدريسك تزيد المرض فننصحك بترك القراءة مدة حتى تبرأ فقال له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ أحاكمك إلى مهنتك أليس الطبيعة طبيعة النفس إن فرحت وسرت انجلى ما بها من الغم والنكد قال نعم قال إن نفسي تسر بالعلم وينشرح صدري قال الطبيب متعجباً: هذا شئ خارج عن علاجنا) وبالفعل أنت إذا وجدت لذتك في شئ معين فإنك تأتيه ولو كنت سقيماً متعباً هزيلاً وذكروا عنه ـ رحمه الله ـ أنه كان سريع القراءة سريع الكتابة وأيضاً نقل ابن القيم في( الوابل الصيب) أنه كان يكتب في يوم، ما يكتبه شخص في جمعة يعني أسبوعاً كاملاً ، وهذه (العقيدة الحموية) التي أتعبت الناس وعكف الناس على شرحها ولا يقرؤها إلا طلبة العلم الجادون، قالوا كتبها في( قَعدة بين الظهر والعصر) كتبها في مجلس واحد بين الظهر والعصر وهذه العقيدة الوسطية كتبها بعد العصر في وقت وجيز . وهذا يدل على علو همته ـ رحمه الله ـ وصبره وتوفيق الله عز وجل له فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . ومن شغفه بالعلم أنه كان يطالع في كل وقت، ولم يكتف بشئ ولهذا قرأ (العلوم النقلية والعقلية)، وقرأ في الحديث، وفي التفسير، وفي الفقه، وفي الأصول، وفي المنطق، وفي الفلسفة، ورد على أهل البدع ولهذا قرأ كتب الرافضة، ولما تطالع (منهاج السنة النبوية) يتكلم عن الرافضة ويكشف(1/10)
مذاهبهم وأباطيلهم ويثبت ما هم عليه من ضلال مبين كالخبير والبصير بهذه الكتب ،و قرأ كتب النصارى ويدل على هذا كتابه الفذ ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) تكلم كلام الخبير الفاحص المدقق في هذه المذاهب وفي هذه النحل ، تكلم مع الفلاسفة وناظر بعضهم وأثبت حيرتهم وأبطل ما هم عليه من تقرير للإعتقاد بوسائل عقلية وألف كتاباً صخماً فذاً ليس له نظير في العالم وهو ( درء تعارض العقل والنقل ) ولهذا قال ابن القيم في الكافية الشافية :
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي
………ما في الوجود له شبيه ثاني
الوقفة الثالثة : الجامعية الفريدة :
إن شغفه بالعلم جَّره ،لأن يقرأ كل شئ، كماِ أشرنا، قرأ في كل فن! يجلس معه الفقهاء من أهل المذاهب الأخرى فيستفيدون من علمه ومن فقهه بل يخطؤهم ، يناظر فقهاء المالكية وَهو حنبلي طبعاً تربيته حنبليةِ لكن بعد ذلك شق كل الآفاق، واتبع الدليل كما سيأتي معنا فهو وصف( بالجامعية الفريدة) وعرف بالاستبحار في سائر العلوم الشرعية ، حتى العلوم الدنيوية التي ليس لها فائدة تعلمها وقرأها من حبه للمعرفة ، ولهذا يقول ِقرْنه الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني ـ رحمه الله ـ( كان إذا سُئل عن فنٍّ من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في
مذاهبهم ) ، ولما ذهب إلى مصر في بعض المرات، ورآه ابن دقيق العيد المحدث الفقيه المشهور الذي عده السيوطي مجدد القرن السابع في منظومته
( تحفة المهتدين بأخبار المجددين) قال فيها :
والسابع الراقي إلى المراقي …
…ابن دقيق العيد باتفاقِ
لما رأى شيخ الإسلام ابن تيمية انذهل وتعجب وقال : ( رأيت رجلاً العلوم كلها بين يديه يأخذ ما يريد ويدع ما يريد ) ثم تكلم ورآه يناظر ويلقي دروساً في التفسير فازداد عجباً وذهولاً منه وقال :(1/11)
( ما ظننت أن الله بقي يخلق مثلك) فقالوا لابن دقيق العيد ألا تتكلم معه أي تتحاور فقال : ( هو رجل حفظه يحب الكلام وأنا رجل أحب السكوت) ولم يتكلم معه وقال ابن سيد الناس اليعمري رحمه الله (ألفيته ممن أدرك من العلم حظاً وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً ، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، إن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته ، أو ذاكر الحديث فهو صاحب علمه وروايته أو حاضرفي الملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته وبرز في كل فن على أبناء جنسه ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه) ، وقال الذهبي ـ رحمه الله ـ ( كان يتوقد ذكاء ) وقال :(1/12)
( لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت إني ما رأيت بعيني مثله ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم)، ولقد برع في سائر العلوم النقلية والعقلية كما أسلفت ففي الحديث قالوا : كل حديث لا يحفظه ابن تيمية فهو حديث ضعيف ، وفي الفقه قرأ كتب المالكية والشافعية والحنفية أما الحنابلة فقد تربى على كتبهم وأحصاها ،وله شرح على عمدة الفقه طبع أجزاء منه ولهذا كان إذا ناظرهم يتكلم ويفيدهم في مذاهبهم ويقول فلان ذكر كذا وفلان ذكر كذا فيتعجبون من حفظه ومن سيلان ذهنه -رحمه الله -، أما في التوحيد والعقيدة فهو( منظر عقيدة السلف) المدرك لها الذاب عنها وقد درس الفلسفة والمنطق ليرد على أصحابها وقد أفحمهم وناظرهم وأعجزهم وألف كتابه ( درء تعارض العقل والنقل ) في أحد عشر مجلداً ويسأل بعض الأحيان عن أمور غريبة، قد تكون من فضول العلم، أو مسائل لا يلتفت إليها، فيفصلها تفصيلاً ويسأل في تاريخ ـ كما يقول النصارى ـ قبل الميلاد وأمور في الأحداث السابقة فهو محيط بها ومدرك لها ، إذا فتحت مجموع الفتاوى تجده يسوق لك في بعض القضايا البعيدة صفحات طويلة، ويستطرد كثيراً فتتعجب كيف أحصى هذه العلوم ولكنه فضل الله عز وجل وبعض الأحيان يُسأل بالشعر فيجيب شعراً ولهذا سأله بعض علماء أهل الذمة عن مسألة في القدر بثمانية أبيات نظم فأجاب بمائة وأربعة وثمانين بيتاً ويقول في مطلعها السائل :
أيا علماء الدين ذمي دينكم
…………تحير دلوه بأوضح حجة
يسأل في مسألة في القدر، فأطرق قليلاً ثم أخذ القرطاس والقلم، وكتب فظنوا أنه يكتب نثراً فكتب مائة وأربعة وثمانين بيتاً :
يقول :
سؤالك يا هذا سؤال معاندِ
………تخاصم رب العرش باري البريةِ(1/13)
وفي مجموع الفتاوى في( قسم الفقه) في كتاب الحج والعمرة، سأله رجل مسألة في الحج : من حج الفريضة وأراد أن يحج مرة أخرى هل يحج أو يتصدق بهذا المال ؟ فكان رأيه أنه يحج ولا يتصدق خلاف (الفتوى المشهورة) لكن الشاهد أن السائل سأله شعراً، فأجاب شعراً، وهذا موجود في مجموع الفتاوى ومطلعها يقول السائل :
ماذا يقول أهل العلم في رجل …
أتاه ذو العرش مالاً حج واعتمرا
فهزه الشوق نحو المصطفى طرباً …
أترون الحج أفضل أم إيثاره الفقرا
أم حجه عن والديه فيه برهما…
ماذا الذي يا سادتي ظهرا؟
فافتوا محباً لكم فديتكموا…
وذكركم دأبه إن غاب أو حضرا
فأجاب رحمه الله :
نقول فيه بأن الحج أفضل من …
فعل التصدق والإيثار للفقرا
وحجه عن والديه فيه برهما
…والأم أسبق بالبر الذي حضرا
لكن إذا الفرد خص الأب كان إذا
………هو المقدم فيما يمنع الضررا
كما إذا كان محتاجاً إلى صلة…
…وأمه قد كفاها من برى البشَرا
هذا جوابك يا هذا موازنة…
…وليس مفتيك معدوداً من الشعرا
فلله دره وسبحان من علمه وأعطاه !! وفي العربية تعلم علوم العربية كلها وينقد بعض القصائد حتى إنه نقد( نظم السلوك) لابن الفارض مما يدل على تمكنه في اللغة بكل علومها ، وقد أخذ العربية على ابن عبد القوي وطالع كتاب سيبويه طالعه وتأمله ونقحه، واستدرك عليه مواضع كثيرة ، والتقى بأبي حيان النحوي فانذهل أبو حيان من فقهه وعلمه وتمكنه حتى في علوم اللغة العربية فمدحه
بقصيدة مشهورة يقول فيها :
لما رأينا تقي الدين لاح لنا………
داع إلى الله فرد ماله وزَرُ
على محياه من سيما الألي صحبوا…
…خير البرية نور دونه القمرُ
حبر تسربل منه دهره حبرا…
……بحر تقاذف من أمواجه الدررُ
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا…
…مقام سيد تيم إذ عصت مضُر
كنا نحدث عند حبر يجئ بها
…… …أنت الإمام الذى قد كان يُنتظرُ(1/14)
وحقاً كان هو الإمام الذي ينتظر، ليعيد الأمة إلى منهج الكتاب والسنة، وقد فعل رحمه الله، ثم جرى بينهما حوار في بعض (مسائل النحو) فاختلفوا فقال أبو حيان : سيبويه يقول كذا وكذا وقال ابن تيمية: يفشر سيبويه ليس نبياً للنحو، فغضب عليه أبو حيان وسبّه، ووقع في عرضه، وسحب القصيدة من الديوان، وتبرأ منها وقال فيه كل آفة، وكل نقيصة في تفسيره البحر المحيط .
الوقفة الرابعة : قيامه بالدين خير قيام :
{ من الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه } .
(الأحزاب : آيه 23)
أيها الإخوة الكرام: أوجب الله عز وجل على أهل الإسلام الدعوة والعمل في الإصلاح كلُّ بحسبه وكل على قدر طاقته وعلى أهل العلم أعظم المسئولية وأكبر الأمانة .وابن تيمية ـ رحمه الله ـ أدرك ذلك، وعلم أن الدين ليس انعزالاً في زاوية على عبادة، وتيقن أن العلم ليس في تصنيف كتاب، أو إلقاء درس فحسب، لا سيما وأنه ظهر في عصر يموج بالبدع والخلافات وكان المذهب الأشعري هو الغالب في ذلك الزمن، و(المذهب السلفي) يكاد يكون مغموراً في ذلك الزمان، فانبرى للدعوة، وحملان الأمانة، ورأى أن الله عز وجل بلغه وآتاه الحكمة، وآتاه من العلم والفقه ما آتاه، وأنه لا بد من تطهير المجتمعات من البدع والخرافات ولا بد من رد الأمة إلى الكتاب والسنة وقيامه في الدين يتمثل في أمور :(1/15)
1ـ أنه أرجع الناس إلى طريقة الكتاب والسنة ،لا سيما في أمور الاعتقاد فإن المذهب الأشعري تعلمون أنه مذهب مخلط في باب الأسماء والصفات وعندهم أخطاء كثيرة، وألف كتباً للرد عليهم وعلى غيرهم كالعقيدة الواسطية والحموية والتدمرية، والواسطية سببها أن أحد قضاة واسط كتب إليه يطلبه أن يكتب له عقيدة له ولأهل بيته، وشكا إليه الفساد وانتشار البدع في تلك الأماكن فقال له ابن تيمية إن الناس قد كتبوا عقائد، كثيرة وأراد أن يعفيه فأبى وأصر فكتب لنا عقيدة هي العقيدة الواسطية، ولما نوظر في الاعتقاد جيئ به إلى السلطان ، أحضره وأحضر العلماء والفقهاء فقالوا له: جئنا بك لتكتب لنا معتقدك فقال : أنا عندي عقيدة كتبتها من سبع سنين، يقصد الواسطية ثم قال:(الاعتقاد لا يؤخذ مني ولا من الإمام أحمد إنما يؤخذ عن الله ورسوله ) كما فى العقود الدرية.(1/16)
2ـ الأمر الثاني : تصحيح نواحي العبادة والأحوال السلوكية من نحو ما يجري من الصوفيه من طرق وخرافات، أنكرها وأبطلها، وألف فيها الكتب، سواء كان مدة إقامته في الشام، أو لما انتقل في مصر، فإنه رأى للصوفية أنتشاراً كبيراً فكان يذهب إلى أضرحة وأعمدة في مصر، وفي دمشق فيكسرها كان الشاميون ينذرون لها ويتقربون إليها، ويعبدون الله! اعتقاداً فيها فأبطل ذلك كله، وساعده بعض طلابه وبعض أصحابه، وساعده أخوه شرف الدين وذكروا عن الشيخ محي الدين النووي - رحمه الله - أنه قال في بعض البدع الموجودة في دمشق قال : (اللهم قيض للعمود المخلَّق من يهده وينقضه) وكانت أعمدة وصخور يطوفون بها ويأتون إليها ويصلون وينذرون، لها فقيَّض الله شيخ الإسلام ابن تيمية في زمنه، فأتى إلى هذا العمود وكسره وحصلت له أذيات كثيرة في ذات الله لكنه كان رجلاً بطلاً شجاعاً لا تأخذه في الله لومة لائم، ولهذا كان يذهب إلى السوق، ويكسر أواني الخمر، ويقيم الحدود. وله مناظرة مع فرقة الأحمدية الصوفية الذين كانوا يدخلون النار كانو يطلون أجسادهم بشئ من الزيوت والدهون ويوهمون الناس أنهم يدخلون النار ولا يحترقون يعني أنهم أولياء الله عز وجل صالحون فقال شيخ الإسلام ابن تيمية، هذا كذب وهذا باطل تدليس وتلبيس على الناس، وأمر بإحضارهم عند السلطان وقال نغتسل أنا وهم الآن وندخل النار وسوف ينجيني الله عز وجل ويحترقون وأقسم على الله كما ذكر القصة في
( المجلد العاشر ) من الفتاوى فهم خافوا وارتدعوا فقالوا هذه الحيل لن تمشي إلا على التتر وأشباههم والجهلة أما هؤلاء فلا فأدينوا بهذه الكلمة وكتب عليهم كتاباً عند الأمير أن يرجعوا إلى طريقة الكتاب والسنة ويتركوا التكسب بهذه الحيل وهذه الضلالات.(1/17)
3- من جوانب إصلاحه وقيامه بهذا الدين:إنكاره للمنكرات، ما يسمع بمنكر ولا يحدث عن شئ إلا ويذهب ، لما سمع أن رجلاً يسب النبي صلي الله عليه وسلم قام عليه وجمع الناس وضربوه ، ثم انطلق النصرانى إلى عالم آخر ، ورفعاه إلى السلطان وأوذي ، ثم أفرج عنه بعد ذلك ، ونقل أن الرجل النصراني تاب بعد ذلك ، ورجع شيخ الإسلام وعاد إلى بيته رحمه الله وألف كتابه ( الصارم المسلول في على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ) وقد طبع محققا غير الطبعة المشهورة.
4ـ وأيضاً من مواقفه في الدين الإنكار على الظلمة فإنه خرج إلى (قازان التتار) طبعاً شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ظهر في زمنهم ولادته 661 من الهجرة وسقوط بغداد سنة 656 من الهجرة، وكانت من أثر الهجوم التتري المغولي على بلاد الإسلام وكانت فيهم همجية ووحشية، فهو ولد في تلك الفترة التي كان فيها التتار يتسلطون على بلاد العالم الإسلامي، فينهبون ويقتلون بهمجية ووحشية ويحرقون المزارع، ويدمرون الخيرات، وينهبون ويزعمون أنهم مسلمون ـ فخرج إلى قازان التتار، وأنكر عليه غزو الشام عندما أراد أن يغزو الشام وقال له وهدده وخطب أمامه خطبة شديدة حتى ارتعد قلبه وسأل عنه فقيل له هذا أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ، وقال له قال للمترجم قل له (أبوك وجدك كانا كافرين وما فعلا ما فعلت عاهدا ووفيا وأنت عاهدت وغدرت وقتلت وظلمت) في كلام مشهور، من مقاماته العظيمة التي تنسب له ولا ينساها الناس .(1/18)
5- تثبيته للناس أيام المحن والشدائد، وذلك أن التتار لما عزموا مرة أخرى على غزو الشام في سنة 700 من الهجرة بلغت الأخبار أهالي دمشق والمناطق المجاورة لها أن التتار عازمون على غزو الشام، ونهب خيراتها وكانت الشام تابعة (للحكم المملوكي) في مصر فطارت ألباب الناس، وارتعدت قلوبهم وفر الخلق إلى الجبال ،وبعضهم فر إلى مصر، فقام هو بدور (عظيم جدا)ً من حسناته الكبيرة في الإسلام، فأولاً حض الناس على الجهاد من خلال دروسه العلمية ومجالسه الدعوية ،وثبت الناس، وذكرهم بموعود الله عز وجل، وأخبرهم أن التتار مع وحشيتهم وهمجيتهم وجيوشهم الضخمة بالإمكان هزيمتهم وإذلالهم ثم خرج إلى السلطان في مصر يذكره بالوقوف مع أهل الشام، وأن يجهز العساكر المصرية للدفاع عن الشام فاسمع ماذا يقول له :
(إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن) يقول أيام الأمن والخيرات تأخذون الشام ولما وقعت الشدائد الآن، تريدون أن تتخلوا عنا!! لأن الأمة كانت تخاف من التتار،لا أحد يفكر كيف يقاتل هذه الأمة الهمجية الباطشة، المعتدية السافكة للدماء ،ولا تبالي، وهو تكلم عن هذه الأمة وهذه الفتنة التي حصلت للناس ووصفها وصفاً دقيقاً كما في مجموع الفتاوى ونقل ذلك ابن عبد الهادي تلميذه في ( العقود الدرية ) وصفها وصفاً طويلاً ووصف أحوال الناس وذكر المنافقين وكيف الناس تغيروا وشبهها (بغزوة الأحزاب) عندما حوصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا } ً(1/19)
(الأحزاب:10-11) فاسمع ماذا يقول : (ونزلت فتنة تركت الحليم حيراناً وأنزلت الرجل الصاحي، منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان) وقارنها بحال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب وكيف أنهم حوصروا من كل جانب وتكلم المنافقون، وضعفت القلوب، واهتزت النفوس ، يقول: (وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن ألا يقف قدامهم أحد) يعني ما أحد يستطيع أن يواجه هذه الأمة الهمجية الباطشة وقالوا:
(إنهم سوف يستأصلون جند الشام وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة واحدة، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولن تكون مملكة إسلامية) يعني أن الناس ظنوا بالله الظنون الفاسدة يقول وهذا يظن وذلك يظن أن ما أخبربه أهل الآثار النبوية وأهل التحديث من مبشرات أمان كاذبة وخرافات لاغية ، يعني حتى أهل العلم يسوقون الأحاديث والبشائر للأمة المسلمة وأخبار التمكين، وأن العاقبة للمتقين، وأن العاقبة للصابرين يقول أصبحت عند بعض الناس أمان كاذبة وخرافات لاغية ، من شدة الفتن ووقع الهلع والفزع، الذي حل في قلوب أهل الشام ومصر، وهذه الموقعة العظيمة تسمى (موقعة شقحب) على وزن جعفر، باسم قرية قرب دمشق ، وقد وقعت في السنة الثانية بعد السبعمائة للهجرة ، وفيها انتصر المسلمون بقيادة شيخ الإسلام ابن تيمية وكانت في رمضان فأخذ الماء وشربه أمام الناس وأوصى الناس بالفطر حتى يكون أقوى لهم .(1/20)
…وكان يقسم بالله أنكم منتصرون فيقول له أمراء الأجناد قل إن شاء الله فيقول (إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً) يعني هذا الحكم وهذا النصر وهذا الفتح هو حقيقي، وهو حاصل مؤكد من الله عز وجل كما قال تعالى { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } وكان يتناول آيات من القرآن وهي قوله تعالى : ( ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله) (الحج:60) فانظر إلى هذا الموقف العظيم الذي أبلاه في سبيل الدفاع عن الأمة وعدم التخلي عنها أيام الفتن وأيام الشدائد كالعلماء الذين يتركون الأمة تغرق وهم عنها مشغلون أو غافلون!!.
الوقفة الخامسة : سلامة الصدر :
…وهي (خصلة عظيمة) وتعني طهارة قلب المسلم على إخوانه المسلمين، وخلوه من الضغائن والأحقاد وقد كان شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في ذلك عجيباً فريداً فقد كان له خصوم من القضاة والعلماء، دبروا له المكائد، وحرفوا كتبه وحرقوا فتاويه، وتربصوا به عند الأمراء، وقالوا فيه كل إفك وباطل، ومع ذلك عفا عنهم وتجاوز وقال (سامحت وعفوت عن كل من آذاني إلا من آذى الله ورسوله) وكان القاضي ابن مخلوف المالكي قاضي قضاة المالكية من خصومه الأشداء، فكان قد أفتى فيه، وأفتى حتىإنه (حلال الدم) وسجنه أكثر من مرة فلما ظفر بهم شيخ الإسلام، وتهيأت له الفرصة، أن ينتقم منهم عن طريق بعض الأمراء عفا عنهم وسامح ، وكان أحد الأمراء يريد البطش بهؤلاء لأنهم كانوا قد وقفوا مع أمير آخر ضده، فلما رد الله له ملكه وسلطانه قال لابن تيمية: أعطني فتوى فيهم وأنا أريحك منهم فقال (هؤلاء علماء الأمة ولن تجد أحسن منهم وأفضل وهم الناصرون لك أيام الملمات وأيام الشدائد) فيقول ابن مخلوف يعبر عن هذه النفسية الكريمة : (عجباً لابن تيمية قدرنا عليه فأدخلناه السجن وقدر علينا(1/21)
فحاجج عنا) هذا كان من أشد خصومة ، ومرة جاءه ابن القيم وقد ذكر هذه القصة ابن القيم في بعض كتبه، يبشره بهلاك خصم من خصومه الألداء الذي كان يتربص به، وكان يحقد عليه كثيراً، يبشره بأنه مات وهلك فغضب في وجه ابن القيم وانتهره وقال : (إنا لله وإنا إليه راجعون) وانطلق من ساعته إلى أهل بيت الميت وقد كان من خصومه فقال لهم : (عزاهم وأحسن عزائهم وقال اعتبروني خليفة لميتكم ونائباً عنه وأساعدكم في كل أمر تحتاجونه) حتى تعجب أهل الميت من هذه الأخلاق الجبارة وهم يعلمون شدة ذاك عليه رحمه الله ، وهكذا المسلم ينبغي أن يكون طاهر القلب على إخوانه المسلمين فإن الحسد والضغينة تأكل الحسنات كما تأكل النار الهشيم .
الوقفة السادسة : الداعية الحكيم :
قال تعالي: { مَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة: آيه 269]
فإن الداعية مع ما يؤتيه الله عز وجل من علم ومحفوظات وكتب يقرأها يحتاج إلى نوع من العلم وهو ما يسمى (بالحكمة والبصيره) مَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وهي عبارة عن النظر في البواطن، وعدم الاستعجال وتأمل العواقب والنظر بمنظار المصالح والمفاسد ومن الأمثلة التي تدل على حكمته وفقاهته ـ رحمه الله ـ أنه مرة كان ماشياً مع بعض أصحابه فرأوا التتار يشربون الخمر، فهموا أن ينكروا عليهم فقال لهم : (لا، دعوهم يشربون الخمر فإن هؤلاء إذا صحوا قتلوا في الناس وسفكوا الدماء وفعلوا فعائل عظيمة) فقال اتركوهم يشربون الخمر حتى تطير عقولهم ولا يحسنون التصرف ولا يلحق الأمة منهم أذيات وشدائد فانظر إلى حكمته رحمه الله
الوقفة السابعة : العالم الأبي :
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة………
إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما(1/22)
(العالم الأبي) هو العالم الذي لا يتأكل بالعلم، ولا يعيش بما يؤتيه الله عز وجل من بصيرة وفقه ولا يجعل هذا العلم سلماً إلى نيل المناصب والرئاسات ، قال في الكواكب الدرية (كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث فيهب ذلك بأجمعه ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه ولا يأخذ منه شيئاً ولا يحفظه إلا ليذهبه) وقال ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة وهي من (أحسن التراجم) عن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (عُرض عليه قضاء القضاة ومشيخة الشيوخ فلم يقبل شيئاً من ذلك ، وسنه تقريباً فوق الثلاثين عرضوا عليه هذه المناصب فأباها وترك الدنيا وقلاها) وتفرغ للعلم وتدريسه وبذله ونشره وتعلمون أن هذه الولايات وهذه المناصب تفسد العلم وتؤثر على العالم ، وتنسيه حتى الدروس والحلقات التي يفتحها ويبدأ يؤجل ويؤجل، ولذلك بعض الناس كان له خير وكان له دروس، فلما تورط في هذه الأمور وفي هذه الوظائف قصر، ونسي، وترك أشياء كثيرة وقد أنشدناكم في حديثنا عن (ابن المبارك) قصته مع إسماعيل بن إبراهيم بن علية الذي ولي مصلحة الصدقات، وهو المحدث الشهير من رجال الكتب الستة وكتب إليه ابن المبارك، وكان يكره دخول العلماء في هذه المجالات قال له :
ياجاعل العلم له بازياً ……
…يصطاد أموال السلاطين
احتلت للدينا ولذاتها………
بحيلة تذهب بالدين
أين رواياتك في سردها…
………في ترك أبواب السلاطين
يذكره بمجالس الحديث :
أين رواياتك فيما مضى……
…عن ابن عون وابن سيرين
وإن قلت أكرهت فما هكذا…
……زل حمار الشيخ في الطين
فوصلت الأبيات إلى إسماعيل بن علية فبكى واستعفى من هذه الوظيفة .(1/23)
وشيخ الإسلام ابن تيمية كان يقول : (أنا رجل ملة لست رجل دولة) ، وكانوا يتهمونه أنه يطمع في الولايات كما زعم بعض خصومه ولهذا دخل على الملك الناصر فقال له مع أنه كان يحبه ويجله لكنه سمع أنه قد يكون له مجد وله مكانه ومنزله كبيرة في قلوب الناس وقال : (ياابن تيمية بلغنا أنك إذا مكنت تطمع فيماً عندنا من السلطة والرئاسة فتبسم ابن تيمية وقال والله ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي فلسين عندي) . فهذا هو ابن تيمية رحمه الله الذي تفرغ للعلم، وانقطع للدعوة والإصلاح، وما خالط أمور الدنيا ولا قبل الأعطيات ولا الجوائز، وإذا أتته بذلها للفقراء والمساكين، لأنه يعرف أن من أكل اللقمة فإنه يتغير ويتأثر، وربما تزحزح عن بعض فتاويه، كما قال بعض الطغاة ( فتوى بفرخة ) ولهذا ينبغي أن يتربى طالب العلم على هذه السيرة وعلى هذه الأخبار الجليلة، ويعرف مسالك السلف الصالح في هذه الأمور، وكان العلماء قبلنا يحفظون تلاميذهم وأبناءهم قصيدة القاضي الجرجاني وفيها يقول :
يقولون لي فيك انقباض وإنما……
رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم……
ومن أكرمته عزة النفس أُكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما
…… …بدا طمع صيرته لي سلما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة……
إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم…
…لو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا
………محياه بالأطماع حتى تجهما
ثم يقول :
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي…
لأخدم من لا قيت لكن لأخدما
لله در هذا الشعر، كما قال تاج الدين السبكي في ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى قال ( هذا الشعر ما أبلغة وأصنعه، وما أعلا علي هام الجوزاء موضعه، وما أنفعه لو سمعه من سمعه، وهكذا فليكن، وإلا فلاأدب كل فقيه، ولمثل هذا الناظم يحسن النظم الذي لا نظير له، ولا شبيه، وعند هذا ينطق المنصف بعظيم الثناء علي ذهنه الخالص، لا بالتمويه) (طبقات الشافعية 3/461)(1/24)
الوقفة الثامنة : ابن تيمية السني :
لا يصح إ يمان العبد حتى يكون متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما يحب رسول الله من يعظمه ويقتفي آثاره في السنن والأقوال . أنت تقول مسلم إذن تتبع النبي صلى الله عليه وسلم ولا تتساهل في السنن والوظائف أو الفصائل بل ينبغي إذا كنت طالب علم أو داعية أو إمام مسجد أن تكون أسبق الناس للخيرات، وأحرصهم على اتباع السنن وهذا هو المنهج الأحكم الذي سار عليه السلف الصالح
{ َومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر : آيه 7 ] وقال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب:21] ولهذا كانت مؤلفاته وفتاويه مشرقة بالنصوص والآثار النبوية ولا يوصف إلا يحسن الاتباع، وحسن التدين، وحوَّل تلك الآثار والسنن التي حفظها إلى منهاج يسير عليه في الحياة كما قالت عائشة رضي الله عنها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم (كان خلقه القرآن) وحول تلك الآثار وجعلها مطية يركبها ولا يتجاوزها أبدا، بل يحفظها ويطبقها في حياته وسائر شؤونه يقول تلميذه البزار في كتابه (الأعلام العلية) من مناقب ابن تيمية ( والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لرسول الله ولا أحرص على اتباعه، ونصر ما جاء به منه) ويقول العلامة عماد الدين الواسطي (ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الإتباع حقيقة) عرفت فالتزم ، بلغتك السنن فلا ترد شيئاً ، قيل لك هذا كلام الله هذا كلام رسوله عليه الصلاة والسلام فلا تتذبذب أو تتردد ولا تفكر ولا تبحث عن تأويل ولا عن فسحة، ولا عن مخرج! بعض الناس تقول له : يقول النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا في الربا أو في الحلال والحرام أو بعض المعاصي والمنكرات فيبدأ يبحث عن تأويل، عن فتوى، لا سيما مع كثرة من يفتي في هذا الزمان .. فتوى في المشرق، وفي(1/25)
المغرب، وفي الإنترنت مواقع دعاة وهنا وهناك وأصبحت الفتوى (صنعة من لا صنعة له) فهذا الرجل كان شديد الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم معظماً للآثار النبوية إذا بلغته وإذا طالعت كتبه ونظرت في الفتاوى تدرك حقيقة اتباع هذا الرجل وكيف أن الله عز وجل وفقه وبلغه هذه المنزلة بحسن اتباعه واقتفائه للسنن والآثار . ومن المستظرفات عنه وكان شائعاً بين الناس أنه يقول أنا أردكم إلى طريقة الكتاب والسنة وهم أصحاب عقليات وآراء وبدع وخرافات فقال له رجل مرة، وهذه ذكرها الصفدي في (الوافي بالوفياَت) وعدها من المستطرفات عن ابن تيمية ـ قال له أنت (تزعم أنك متتبع للسنة ونراك إذا أدبت بعض الناس عركت أذنه فمن أين لك هذه في السنة فقال له حديث ابن عباس في الصحيحين عندما بات عند خالته ميمونه رضي الله عنها وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس فكنت إذا أغفيت إغفاءة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذني وعركه) فانظر إلى شدة استحضاره رحمه الله كما سيأتي ذلك في صفاته.
الوقفة التاسعة : العمل والدعوة أثناء
المحن والشدائد :(1/26)
لم تكن المحن والبليات عائقة لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن مواصلة عمله الدعوي، ولا طريقه الإصلاحي، فيقينه متين، وهمته عالية، وهو راضٍ بقدر الله عز وجل، ولهذا هو مؤمن بضرورة العلم والإصلاح حتى في الظروف الصعبة الشديدة ولهذا ابتلي من بعض العلماء، وبعض القضاة، ودخل السجن مرات عديدة وفرضت عليه (الإقامة الجبرية) وقد أحصى الشيخ بكر أبو زيد السجنات التي تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية وأنها (سبع سجنات) كما ذكر ذلك في مقدمة الكتاب الأخير (الجامع لسيرة ابن تيمية) الذي صدر مؤخراً وهو يستوفي ترجمته من خلال سبعة قرون في كتب التاريخ وكتب التراجم من تلاميذه وأصحابه وحتى من خصومه الذين تكلموا عليه وافتروا عليه (كابن بطوطة) وغيره ممن كانوا يسلكون المسلك الأشعري في أمور الاعتقاد ، أما هذا الرجل فإنه واصل الدعوة ولم يبال بأحد، لأنه صاحب (رسالة عظيمة) يريد إيصال هذا الدين إلى الناس، يريد تنقيح العقيدة الصحيحة، يريد تطهير الأمة من البدع والخرافات وردها إلى صحيح الآثار، ولهذا حتى لو عرضه ذلك للأذايا في ذات الله فإنه صبر واحتسب، ولهذا دخل السجن مرات عديدة وحصلت فتوحات وبركات في العلم والإيمان فمثلاً في السجن ألف كتباً كثيرة جداً كالرد على الإخنائي القاضي المالكي رد عليه في مسألة شد الرحال إلى قبور الصالحين ألف فيه كتاباً عظيماً حشاه بالفوائد ، تأتيه المسائل من الشرق والغرب فيكتب فيها وهو في السجن فغاظ أعداءه وخصومه، أن الرجل يكتب ويؤلف حتى في السجن ولا يبالي بأحد ويقول(1/27)
(ما يسعني كتمان العلم) فسحبوا الأوراق والمحابر من السجن قالوا هذا لا يؤلف ولا تعطوه شيئا،ً وكان يتكلم من حفظه في السجن ما عنده مكتبة فسحبوا الأقلام والأوراق فأصبح (يكتب بالفحم) رحمه الله ، كتب بالفحم في السجن وكان يتكلم من محفوظاته رجل كالبحر يهدر كالتيار يفيض كما يفيض البحر ويفتح الله عليه من الأسرار والكلمات والتعليقات والغوامض واللغويات أشياء عجيبة حتى انذهل منه خصومه ومن أشد خصومه أيضاً (تقي الدين السكبي) والد صاحب طبقات الشافعية الكبرى وحصل بينهما خلافات ومشاكل في الاعتقاد، وفي مسألة الحلف بالطلاق هل تطلق زوجته أو ما تطلق وابن تيمية قال ما تطلق لأنه أراد التأكيد والتعيين وزجر نفسه فيرى عليه كفاره يمين ، والطلاق ثلاث مرات بلفظ واحد قال تقع طلقة واحدة وكتب في ذلك بحوثاً طويلة موجودة في الفتاوى ونقلها تلاميذه ،ورد عليه السكبي أيضاً بكتب، لكن حقيقة كان (كساقية لاطمت بحراً) وهم يختارون أجلهم حتى يناظره حتى يقول فيه الشيخ صفي الدين الهندي وهذا من أقوى الناس الذين ناظروه ومع ذلك لما تقرأ المناظرة ترى ضخامة ذاك وضعف هذا يقول : (عجباً له كلما ناظرناه رأيناه مثل العصفور ، إن جئناك من هنا رحت بنا من هنا ) من قوة استحضاره ولهذا سوف يأتي معنا من صفاته العجيبة سرعة البديهة ، يستحضر ما شاء من العلوم والفوائد، هم حفاظ علماء مثله ومشايخ ودرسوا في مدارس الحديث في زمنهم لكن كان الرجل (حافظه صاعقة) ليس له نظير حقيقة حتى قال الشيخ ابن الزملكاني : (لم يُر مثله من خمسمائة سنة) لم يظهر مثل هذا الرجل في حفظه وإتقانه وسعة ذهنه والمقامات العظيمة التي وضحها الله له في هذه الأمة من خمسمائة سنة، فنفس أقرانه كانوا يعترفون بفضله وجامعيته وتفننه في العلوم الشرعية، حتى إن تقي الدين السبكي قال لما كتب إليه الذهبي يسأله عن ابن تيمية وكان شديد الوقيعة فيه قال : (والمملوك يعني - نفسه - يقدر زخارة علمه(1/28)
وسعة معارفه وليس مثلي من ينبه عليه فإنه ما ظهر مثله من أزمان) فانظر إلى هذا الرجل العجيب وكيف أنه أيام المحن والشدائد لا يبالي حتى في السجن يكتب ويدعو إلى الله عز وجل ما انقطع عن الدعوة جرياً على عادة الأنبياء والصالحين كما فعل يوسف عليه السلام لما دخل السجن انذهل أهل السجن من أخلاقه وأدبه وسمته وعلمه بالتعبير فقالوا : { إنا نراك من المحسنين } فلما قص عليه الرؤيا ما عبرها حتى دعاهم إلى التوحيد وإلى عبادة الله وحده { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } ، فابن تيمية لما دخل السجن وجد أهل السجن مشغولين ببعض الألعاب كالشطرنج والنرد وهكذا ، فذكرهم وأنكر عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة وتلا عليهم القرآن: وقال هذه الأمور لا تصلح لكم وقد بليتم بالسجن فتأثروا بكلامه وكان رجلاً مؤثراً صادقاً عظيم الإيمان ،عظيم التوكل على الله عز وجل، فأثرت فيهم الكلمات فحول السجن، إلى مدرسة قرآن وعلم وأصبح يدرسهم في السجن فلما أتت ساعة الإفراج عنه وأطلق الله سراحه تأسفوا عليه لما أراد أن يفارقهم، وحزنوا لأجله فبعضهم خرج ولما أصلح الله شؤونهم خرجوا بعد ذلك وأصبحوا تلاميذه يأخذون العلم عليه. والشاهد أنه ما انقطع عن العلم والدعوة أثناء المحن والشدائد وبعض الناس لما تنزل به محنة أو مصيبة تتغير حياته ويتكدر مزاجه إلى أيام طويلة، ويبدأ يتقاعس في الخيرات! فينبغي للإنسان أن يصبر ويتحمل ويقول الأذكار الشرعية في دفع المصائب ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطأه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رفعت الأقلام وجفت الصحف لكن هذا يدل على أن الرجل كان متصلاً، عظيم الاتصال بالله عز وجل كثير الابتهال حتى يقول الذهبي (له أذكار يديمها ويحافظ عليها) ما يتزحزح عنها وكان أيام الشغل وأيام الإصلاح وغشيانه لميادين الناس يقرأ ثلاثة أجزاء من القرآن على أقل تقدير، وهو رجل مشهور(1/29)
بخلطته للناس للإصلاح والإفادة وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم) ، والناس يختلفون في ذلك ، قد تجد من يخالط الناس بعلمه وأثره ودعوته فيؤثر ويفيد ويغير ، وبعض الناس قد يتغير هو يتأثر هو والخلطة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص .
الوقفة العاشرة : شئ من صفاته رحمه الله :
أظن أ نه بعد هذا السرد لهذه المقامات، وهذه الفصائل تجلت لكم بعض الصفات التي تقدمت وسأفرد بعضها وإن كان بان لنا في مضامين الكلام لكن سأنص على بعضها من باب (أخذ العظة) والعبرة ولعل الله عز وجل يوفق بعض الناس لبعض الخلال العظيمة وفيها درس وموعظة لنا، فمن
صفاته :
1- الصبر : فقد كان صبوراً على ما لقي من بليات وأذيات، من أجل تبليغ هذا الدين ونشر العلم وله مواقف محمودة، لم ينسها الناس وقد ذكرنا شيئاً من ذلك ولهذا يقول فيه الشيخ سعد الدين بن بخيخ الحراني :
سناك تقي الدين أبهى وأنور …
…وأشرف من شمس النهار وأشهُر
ومجدك أسمى أن يقاس بمثله…
…وأعظم مما في النفوس وأكثُر
إلى أن يقول يشير إلى منزلة الصبر:
وصبرك في ذات الإله على الأذى …
أنالك ما ترجو وما تتخيرُ
وأمرك بالمعروف طهر وقتنا
………فلم يبد في أيامك الغر منكُر
فياليت علمي والمناقب جمة……
لأي سجاياك الجليلة نشكُر
يقول : ايش نعدد لك من الخير والخصال ونشكرها ونحمدها فالصبر سمة بارزة في حياة ابن تيمية رحمه الله ، الرجل صاحب تضحيات ، صاحب بطولات، إذا لم يكن لديك درع حصينه من الصبر والاحتساب والاحتمال فلا تخالط الناس ولن تبلغ هذ الدين، حتى الطاعة حتى العبادة ، حتى قيام الليل حتى المجاهدة على الأوراد وعلى الأذكار ،تحتاج إلى صبر منك حتى تتلذذ بهذه الطاعة وبهذه العبادة .(1/30)
2- الهيبة : هي صفة جليلة يضعها الله عز وجل لبعض أهل العلم الصادقين الراسخين، في التقوى وفي الإيمان فيصبح عليهم جلالة مع أنهم ليس كديهم حشم ولا حراسه ولا شئ لكن عليهم مهابة وجلالة ،كالتي رويت عن الإمام أحمد ومالك النووي والحافظ وابن حجر والصحابة قبلهم ، وكذلك ذكروا عن شيخ الإسلا م ابن تيمية رحمه الله أنه كان (رجلاً مهيباً) عليه أنوار المهابة والجلالة، يخضع الناس له، ويذعنون لكلامه إذا تكلم كما وضع الله الهيبة للشيخ ابن باز والشيخ ابن عيئمين لمن التقاهما ورآهما، والشيخ محدث الشام محمد ناصر الدين الألباني فإنهم من بقايا السلف، الذين جددوا هذا الدين، ولهم المقامات والفضائل المشهورة ومن خالطهم وعرفهم، أدرك هيبتهم وجلالتهم وما عنده شئ، رجل ضعيف لكن نور العلم ، إشراقه اليقين، أداؤهم للأمانة بصدق أكسبهم هذه الصفة .(1/31)
3- الكرم : فقد وصف أنه من أكرم الناس، والمؤمن كريم ليس لئيماً والنبي صلى الله عليه وسلم من أجل صفاته الكرم والسماحة والبذل والجود، فكذلك أهل العلم وهم (ورثة الأنبياء) وهم الجارون على ساقتهم وعلى طريقتهم وعلى منهاجهم، فلا بد أن يكونوا من أكرم الناس ولا يعرفوا البخل واللؤم. ولهذا فالكرم صفة عظيمة في العالم ولهذا ذكروا مع كرمه أنه كان صاحب إيثار لغيره وكان يتفضل من قوته الرغيف والرغيفان، فيؤثر ذلك على نفسه يبقى عند شئ من القوت ، طبعاً ما عنده شئ لا أموال ولا أرصده إذا جاءه شئ أرسله إلى الفقراء والمساكين فكلما يفضل عنده من قوته الرغيف والرغيفان من الخبز فيؤثر بذلك على نفسه، ولا يسأل عن طعام ولا عن عشاء ولا عن غداء، إن حضر أكل وإن لم يحضر، فغذاؤه العلم والدعوة والإصلاح، والتلذذ بعبادة الله وذكره قال بعضهم : (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها . قالوا له وما أطيب ما فيها قال ذكر الله والشوق إليه والأنس بذكره ومحبته) أو كما قال ولهذا إذا تلذذ الإنسان بذكر الله وبعبادته، نسي الطعام والشراب كما يذكرون عن أخبار المحبين والعاشقين .
4- التواضع : والتواضع (تاج العلماء) وأحسن حلية يتقلدها أهل العلم وأهل الدعوة ، فلم يكن متكبراً ولا متعالياً على الناس بعلمه مع ما أتاه الله من علم وزخارة في المعرفة، اعترف بها أعداؤه من العلماء والقضاه لكنه ما ترفع عليهم ولا تعالى ولا احتقرهم ولا ازدراهم، وقد قدمنا أنه عفا عنهم وصفح، ولهذا كان رجلاً متواضعاً متذللاً لله عز وجل فلا يفكر في مدح الناس ولا ثنائهم، وعمل هذه الأمور ابتغاء ما عند الله عز وجل ، ذكروا في ترجمته: أنه كان إ ذا مدح في وجهه يقول (والله إني إلى الآن أجدد إسلامي، ما أسلمت بعد إسلاماً جيداً) يتهم نفسه وهذا يدل على تواضعه وانكساره لله عز وجل ويقول(1/32)
(أنا رجل ملة لا رجل دولة) ونقل عنه ابن القيم في مدارج السائلكين قوله : (العارف لا يرى له على
أحد حقاً) طبعاً كلمة العارف مصطلح صوفي والسالك كذلك، وكانت الشائعة في زمنهم وأكثر منها أبو حامد في (الإحياء) يعني العارف الذي بلغ المرتبة القصوى من القرب من الله ديانة وخشية وذكراً وعبادة. هؤلاء العارفون، نحن عندنا مصطلح المؤمنون المتقون الأخيار لكن ابن تيمية استخدمها لشيوعها في تلك الفترة ، العارف لا يرى له على أحد حقاً ولا يشهد على غيره فضلاً ولذلك لا يعاتب ولا يغالب يعني ما يبالي أن أحداً يعتني به أو يسأل عنه رجل مقبل متجه إلى الله عز وجل مكثر من العبادة والإنابة لأنه في ذكر الله عز وجل، ويعلم أن هذا الذكر هو منجاته وأن الموفق والمعين هو الله عز وجل. أما مديح الناس وكلامهم فلن ينفعك في هذه الحياة إن نفعك في الدنيا لم ينفعك في الآخرة إذا طلبته وسعيت له ولهذ هو يقول لما تواعد أن يناظر بعض علماء الصوفية الذين قدمت ذكرهم أصحاب (الأحوال الشيطانية) الذين يدعون أنهم يدخلون في النار ولا يحترقون يقول : (فأعددت في تلك الليلة ما ينبغي أن يعده السالك إلى الله) . طبعاً انتظاراً لموعد المناظرة يعني من الذكر والتهجد والعبادة والقيام فهذه التي تنفع وقت المحن والشدائد وفي الحديث (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة) .(1/33)
5- بذل العلم والتدريس في كل الأحوال : أظن أنكم لما سمعتم السيرة أدركتم كيف أن الرجل ألف المؤلفات في زمن الفتن، وفي السجن، وأيام الشدائد والخصوم يتربصون به من كل جهة، ولذلك خلف لنا مكتبة ضخمة(35 مجلد) فتاوى ،ابن تيمية متى كتبها؟ وأين الوقت الذي حصله؟! مع هذه المواقف الجهادية وهذه المقامات العظيمة في الإسلام فكان رجلاً باذلاً للعلم إن لم يكتب كتب تلاميذه، ويكتب الناس عنه الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ كان ينهى الناس عن الكتابة فيكتب تلاميذه فنقل الله لنا من آثاره الشئ العجيب، فالرجل كان باذلاً للعلم ناشراً ولا يبالي ، درس في مصر وفي الشام ، وفي كل مكان ينقلونه أو يسجونه في الجهة والناس يكتبون ويقيدون معه وقد وضع الله له قبولاً ومكانة متينة في قلوب الناس فأين المعلمون وأين المثقفون عن ذلك؟! وأين خريجو الشرعيات؟! الذين إذا عُرض على أحدهم مسجد، أو كلمة أو خطبة أو موعظة تكاسل وقال والله أنا مشغول، وآخر يقال له: امسك مسجد قال، والله أنا كثير السفر ثم بحثنا عنه فوجدناه، ما يسافر في السنة إلا ثلاث أو أربع مرات ويقول أنا كثير السفر وهو جالس هناك، فأين حق العلم الذي درسته في الجامعات، وتعلمته، لا سيما إذا كنت تحمل(1/34)
(علماً شرعياً) فالناس بحاجة إلى دعوة وبحاجة إلى خير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (بلغوا عني ولو آية) ، تستطيع أن تتكلم، وأن تخرج إلى القرى والنواحي البعيدة لنشر العلم وبذل الخير، وأنا ما رأيت عالماً في العصر الحديث ،باذلا للعلم، سالكاً مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية كالشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله رجل له المجالس الكثيرة في اليوم، رفض المناصب والولايات ورفض الاشتغال بالقضاء، وتفرغ للعلم فانظر إلى الآثار التي خلفها خلف ذكراً عظيماً وخلف (لسان صدق) في الآخرين، كتب كثيرة ، أشرطة تصل إلى الآلاف، دروسه معروفة محفوظة رجل ابتعد عن الدنيا ابتعد عن أشياء كثيرة فانظر إلى الثمرة فلا بد أن يكون طالب العلم ياإخوان باذلاً للعلم.
يزيد بكثرة الانفاق منه…………
وينقص إن به كفاً شددتَ
إذا شددت عليه وحبسته عندك، سيذهب وسيبيد، فلا بد أن تنشر العلم تقول أنا والله في منطقة مثقفة أو متحضرة ما أستطيع ، نقول : إذهب إلى القرى إلى الأماكن النائية التي تحتاج إلى العلم وتحتاج إلى أبسط معاني الإسلام في التوحيد في الطهارة وفي الصلاة ولا تحرم نفسك من هذا الخير.(1/35)
6ـ العفو والصفح :وهذه تقدمت، فجميع من أساءوا عليه، عفا عنهم، وتجاوز، وحتى لما أنكر على بعض المشاهد الصوفية ـ كانوا يطوفون بالقبور وينذرون لها ويتقربون إليها في مصر ، وفي الشام ، فمرة في بعض سفراته في مصر، أنكر على بعض الصوفية، فرفعوا به إلى السلطان، فسجن هو وأخوه شرف الدين فجعل يدعو، عليهم، فقال: (لا تدع عليهم ولا تسبهم بل قل: اللهم هب لهم نوراً يهتدون به) يقول: لو عرفوا الحق لتأثروا وانتفعوا: لكن هؤلاء مساكين ليسوا على جادة السبيل، وليسوا على قصد السبيل، وليسوا بفقهاء في دين الله عز وجل، ولذلك أنكر على بعضهم كانوا يقسمون ويحلفون الأيمان المغلظة فإن حصل خلاف بين رجلين قالوا: اليمين تكون عند مشهد الحسين في مصر، وما في مصر لا قبر الحسين ولا رأس الحسين وإنما هذا من بقايا الدولة الفاطمية الباطنية فإذا أغلظ أحدهم اليمين، وابن تيمية ينفي وجود رأس ولا عضو للحسين في مصر بل يقول: دفن موضع ما مات رضي الله عنه ومع ذلك مع وجود الأضرحة والقبور ما تأثروا ولا انتفعوا بها، ولا هددتهم إلى أماكن الشجاعة والبطولة في حياة الأمة حتى سخر منهم الشاعر بعد كامب ديفيد :
من ذا يصدق أن مصر تهودت…
……فمقام سيدنا الحسينَ يبابُ
يعني أصبح سراب ما أثر فيهم المقام هذا:
ما هذه مصر فإن صلاتها
………عبرية وإمامها كذاب
ماتت خيول بني أمية كلها
………خجلاً وضل الصرف والإعراب
7ـ حضور البديهة : وهي التي قهر بها العلماء وقهر بها الخصوم من القضاة، فإنهم كانوا علماء حفاظاً مثله لكن تفوق بسرعة البديهة، حيث كان رجلاً حاضر البديهة، يريد مسألة فقهية فتحضر مباشرة ، يريد أن يسمي عالماً يحضر، يخرج حديثاً، قضية في التاريخ ، قضية فلسفية في المنطق، يستحضر استحضاراً عجيباً متقطع النظير، ولهذا يقول الذهبي (كان كنزاً لا نظير له) وكان من أذكياء العالم المعدودين .(1/36)
سرعة البديهة منحة يؤتيها الله عز وجل لبعض الناس قد يكون الإنسان عالماً حقاً لكن لا ينال شيئاً من ذلك .
8ـ الاستقلال الفكري : ويسميه الشيخ أبو زهرة في كتابه عن ابن تيمية أنه (عبد الدليل) يجري وراء الأدلة ووراء الآثار كتب مسائل فقهية نصرها بأقوال الصحابة بالأدلة من الكتاب والسنة، ما بالى بأحد حتى المسائل التي ألفها الناس نصرها بالدليل ولهذا بعض المسائل اختارها، أنكرهاعليه الناس كالحلف بالطلاق في اليمين والفتوى جارية في بلادنا عليها، والطلاق بالثلاث بكلمة واحدة الفتوى جارية عليها، وغيرها من المسائل كثير، نصرها وخالف فيها المذاهب الأربعة في مسائل كثيرة لكن بالدليل وليس بالهوى والشهوة .
9- فصاحته وبيانه : فقد أوتي بياناً عجيباً، لذلك إذا قرأت في الفتاوى أو قرأت في كتبه، ترى
(بياناً عجيباً) لا يتكلف وما عنده تعقيدات، ما عنده انقطاع يكتب كلاماً سيالاً كالبحر لكنك ما تفهم اُسلوبه إلا إذا قرأت له مرات، يستطرد يدخلك هنا وهناك، ويدخلك في أصول الفقه ثم في التاريخ ثم في الحديث وفي التفسير وفي اللغة، ويستشهد بمسألة لغوية ونكت عليها فلان كذا وكذا فلا بد أن تحتمل هذا الأسلوب لكن إذا مارسته وألفته يسهل عليك، وتصبح من أكثر الناس له قراءة رحمه الله .(1/37)
10- التأمل الطويل :فكان رجلاً متعمقاً في المسائل متعمقاً في الشريعة ما يستعجل وربما بات ليلة كاملة يتأمل في المسألة، ويفكر، ويدقق ويراجع ،ولهذا في آخر سجنة له يقول (أنه قرأ القرآن أكثر من ثمانين مرة) وقبضه الله في آخر سورة القمر { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } ومات بعد هذه الآية. فكان يتندم على التأليفات والمصنفات ،ويقول ليتني: تفرغت لقراءة القرآن فهو مليء بالعجائب والأسرار والفوائد، ويقول: هذه الآية نقل فيها كثير من المفسرين آرأء كثيرة وأقول فيها كذا، وكذا فكان كثير التأمل، كثير التعمق، في الآيات، وفعلاً القرآن لا تعيش حلاوته ولا تعيش سعادته، إلا إذا تدبرته وتأملته، وتعمقت في أسراره كثيراً وكررته، ولذلك التكرار للآيات والنظر فيها مرة وعشر وعشرات، مما يورث الفهم والبصيرة للإنسان وللقارئ ،وبالتالي التجرد في طلب الحق وهذا يتجلى في أنه كان مخلصا للفكرة التي يقصدها، فمثلاً مواجهة أهل العلم بفتاوى غريبة كما يرونها، لكنه ينصرها بالأدلة وما يبالي بهم، فهو مخلص لفكرته التي يقصدها ،ولما حمل راية الجهاد كان بعض الناس يشك في التتار، ويقول: هم مسلمون عندهم مآذن وكذا، فيقول هؤلاء من جنس الخوارج بغوا وسفكوا الدماء وفعلوا بالإسلام ما فعلوا فحتى يزيل الشبه عند الناس يقول (إذا رأيتموني وأنا حامل المصحف في صف التتار فاقتلوني) حتى يبين للناس أن هؤلاء أناس بغاة مسلكهم مسلك الخوارج ومن إخلاصه بعده عن المناصب والرئاسات والوجاهات كما قدمنا عن ابن رجب فى ذيل الطبقات.(1/38)
11ـ الشجاعة : قال أحد الأمراء بالشام قال له الشيخ يوم اللقاء في معركة شقحب مع التتر التي اهتزت لها بلاد الشام والتهبت منها مصر قال له الشيخ: (أوقفني موقف الموت) قال فسُقته إلى مقابلة العدو وهم ينحدرون كالسيل، تلوح أسلحتهم من تحت الغبار ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وضعه في مقدمة الصفوف، يعني أخطر موقف فوضعه هناك يجلس في أول الناس وليس في آخرهم كما قال الشاعر :
دعاني أخي والخيل بيني وبينه
………فلما دعاني لم يجدني بقعددِ
يقول فقلت له هذا العدو من تحت الغبرة فدونك وما تريد يقول الأمير: فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره وحرك شفتيه طويلاً ثم انبعث وأقدم على القتال ثم حال القتال بيننا وبينه فما ندري ما صنع ،وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر المسلمين وانهزم التتار، فالشجاعة ملكها، وشجاعته في إبراز آرائه واجتهاداته العلمية والفقهية ولا يبالي بأحد ويقول لا يسعني كتمان العلم فالشجاعة صفة بارزة وظاهرة في حياته رحمه الله .
مراجع للاستفادة
1- العقود الدرية …لابن عبد الهادي .
2- الكواكب الدرية لمرعي بن يوسف الحنبلي
3- البداية والنهاية لابن كثير .
4- الأعلام العلية للبزار .
5- الجامع في سيرة بن تيمية .
6- رجال الفكر والدعوة للندوي .
7- الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب.
8- ابن تيمية لمحمد أبو زهرة.
الخاتمة(1/39)
شخصية الإمام ابن تيمية رحمة الله، أحببته كثيراً، وشغفت بالقراءة له ، وتربينا على فكره ومنهجه، وقد حرصنا هنا على إبراز محاسن سيرته، وأكثر شمائله ومناقبه، حتى تكون موعظة، ونبراسا لطلبة العلم كما قال تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) وقد اقتبسنا هذه السيرة من أكثر من عشرين مرجعا، لكن أحب أن أقول هنا : أن ثمة أشياء في حياة ابن تيمية تحتاج إلي عرض ونقد وتمحيص ، يعمد بعض محبيه إلي إخفائها ، وهذا من سنعتني به في لمحة قادمة عن الوجه الآخر لابن تيمية، والتي تحتوي علي منهج المناظرات عنده، وثقافته الفكرية، وإنكاره المستعلن ودراسته للمنطق والفلسفة واختياراته التى عرف بها ، وهي جوانب ثرية بالحديث والتحليل والإفادة ، وعلي كل فسيرته والقراءة في كتبه ترقي المسلك النقدي عند القارئ ، وتجرئه علي تجاوز السطحية والنمطية التقليدية في التفكير، وإنه لمن الظلم لهذا الإمام الفذ ، أن يختزل فكره كله في مجرد (فقية أصولي) تعرض اختياراته ، ويتمدح بترجيحاته مع الإغضاء عن باقي جهوده ، وجوانب حياته، فالرجل كان موسوعة لا نظير لها، وكنزا لا شبيه له ، أقام ثورة تجديدية وفكرية في الحياة الاسلامية حقها النشر والإفادة والتحليل التمحيص .
والله الموفق
فهرس الفوائد
- مقدمة ... 1
- نجاة أسرة آل تيمية من هجمة التتر ... 4
- قصة الغلام الصغير مع الشيخ الحلبي ... 5
- مدح ابن الزملكاني الشافعي للشيخ ... 6
- ثناء ابن حجر عليه فى الدرر الكامن ... 6
- الوقفة الأولى : العبودية الحقة ... 8
- حاله فى ليله ... 9
- علاج حل المشاكل والصعاب عنده ... 1
- الفقر في حياته ... 12
- كلمته الشهيرة ( مايفعل أعدائى .... ) ... 13
- استئناس طلابه به ... 14
- الوقفة الثانية : الشغف بالعلم ... 15
- هل ولي المناصب ... 15
- قصته مع الطبيب ... 18
- الوقفة الثالثة : الجامعية الفريدة ... 21
- ثناء ابن دقيق العيد عليه ... 22(1/40)
- ثناء ابن سيد الناس ... 23
- جوابه شعراً على سؤال فى الحج ... 26
- قصته مع أبى حيان ... 28
- الوقفة الرابعة : قيامه بالدين ... 29
- إرجاعه الناس إلى الوحيين ... 30
- تصحيح نواحى العبادة ... 31
- إنكاره للمنكرات ... 33
- قصته مع قازان ... 34
- موقفه من حاكم مصر ... 35
- وصفه لوقعة ( شقحب ) ... 37
- الوقفة الخامسة : سلامة الصدر ... 40
- موقفه مع خصم له ... 41
- الوقفة السادسة : الداعية الحكيم ... 42
- الوقفة السابعة : العالم الأبي ... 43
- رفضه للقضاء والمشيخة ... 44
- قصة ابن المبارك مع ابن علية ... 44
- أبيات الجرجاني فى العزة ... 47
- ثناء التاج السبكى على الأبيات ... 48
- الوقفة الثامنة : ابن تيمية السني ... 48
- من مستظرفاته ... 51
- الوقفة التاسعة : العمل أثناء المحن ... 52
- بعض ردوده ومناظراته ... 53
- اعتراف السبكى بجلالته ... 56
- الوقفة العاشرة : شيء من صفاته ... 58
- الصبر ... 59
- الهيبة ... 61
- الكرم ... 62
- التواضع ... 63
- بذل العلم ... 65
- العفو والصفح ... 68
- حضور البديهة ... 70
- الاستقلال الفكري ... 71
- فصاحته ... 71
- التأمل الطويل ... 72
- الشجاعة ... 74
- الخاتمة ... 76
- مراجع للاستفادة ... 77
- فهرس الفوائد ... 79(1/41)