المجمع الثقافي – أبو ظبي
الإمارات العربية المتحدة
منهج المستشرق برنارد لويس
في
دراسة الفكر السياسي الإسلامي
إعداد
د. مازن بن صلاح مطبقاني
29ذي الحجة 1418هـ (26أبريل 1998م)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أتقدم بجزيل الشكر للمجمع الثقافي بأبو ظبي وعلى رأسه الأستاذ خلفان مصبح على كريم دعوتهم لي لتقديم هذه المحاضرة. وأشكر الدكتور وليد العكو على جهوده في الاتصال بي وتسهيل أموري الخاصة بالسفر. إنني سعيد أن أكون بين إخواني الكرام هنا في الإمارات العربية المتحدة التي طالما تطلعت لزيارتها لما أعرفه فيها من نشاطات علمية مباركة حتى إن منظمة اليونسكو قد اختارت الشارقة لتكون العاصمة الثقافية للعالم العربي. وإن أبو ظبي شقيقة الشارقة لا تقل عنها أبداً في نشاطاتها الثقافية.(1/1)
…أما موضوع المحاضرة فيتعلق بأحد أعلام المستشرقين في العصر الحاضر ومنهجه في دراسة الفكر السياسي الإسلامي. وأود في البداية أن أعرّف بقسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة. فقد أنشأت عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وَحدة الاستشراق والتنصير عام 1400هـ(1980م)، وعمل فيها كل من الأساتذة الأفاضل الدكتور محمد فتحي عثمان والدكتور جعفر شيخ إدريس والدكتور قاسم السامرائي والدكتور السيد محمد الشاهد والدكتور إبراهيم عكاشة، وقد تم نشر عدة أعمال من إنتاج أساتذة هذه الوحدة منها: كتاب الدكتور إبراهيم عكاشة حول التنصير في البلاد العربية، وترجمة كتاب الدكتور عبد اللطيف الطيباوي حول المستشرقين الناطقين باللغة الإنجليزية. وكانت هذه الوحدة مقدمة التفكير في إنشاء قسم أكاديمي في كلية الدعوة يهتم بدراسة أعمال المستشرقين ومراكز الاستشراق ودراسة التنصير. وهذا القسم يقبل الطلاب في مرحلة الدراسات العليا فقط بعد أن يتمكنوا من الدراسات الإسلامية في المرحلة الجامعية، وأحياناً يعطي الطلاب سنة تأهيلية تأصيلاً لهم في هذه العلوم.
وقد حصل على الدكتوراه ثلاثة من منسوبي الكلية كانت الرسالة الأولى حول كتابات برنارد لويس ومنهجه في دراسات الجوانب الفكرية في التاريخ الإسلامي، والثانية حول الجوانب العقدية في دائرة المعارف الإسلامية التي أنتجها المستشرقون، والثالثة حول مناهج المنصرّين البروتستانت في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد أنجزت عشرات البحوث التكميلية في شتى فروع المعرفة في العلوم الإسلامية التي خاض فيها المستشرقون. وقد أصدر القسم الكتاب الدوري الأول ولدى القسم وحدة المعلومات التي تضم آلاف المقالات حول الدراسات الاستشراقية.(1/2)
هذا القسم له نشاط علمي بارز في الصحافة المحلية، كما تم تمثيل هذا القسم في المؤتمر العالمي الخامس والثلاثين للدراسات الأسيوية والشمال أفريقية الذي عقد في بودابست بالمجر، وكذلك في المؤتمر الدولي للدراسات الاستشراقية الذي عقد في تطوان بالمغرب، وفي المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين الذي عقد في ليدن بهولندا. وأسمح لنفسي بالرغم من أنني أحد أعضاء هذا القسم لأقول بأن جامعة الإمام كان لها الريادة في العالم الإسلامي بإنشاء هذا القسم الهام، وقد فكر الأزهر مؤخراً في إنشاء مركز للدراسات الاستشراقية ، وأرجو أن يفيد من تجربة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ولا بد قبل الحديث عن منهج لويس أن نعرّف بهذا المستشرق فهو برنارد لويس، مستشرق بريطاني ولد في لندن في 16 مايو 1916م، وقد بلغ الثمانين منذ سنتين واحتفل به مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بندوة دامت يومين.
تلقى تعليمه في لندن حتى حصل على البكالوريوس في الآداب من قسم التاريخ بجامعة لندن، ثم التحق بجامعة باريس معهد الدراسات السامية وحصل منها على دبلوم الدراسات السامية، ثم عاد إلى جامعة لندن لينال درجة الدكتوراه عن رسالته في أصول الإسماعيلية واشرف عليه المستشرق هاملتون جب.(1/3)
…التحق بالجيش البريطاني في أثناء الحرب العالمية الثانية وأعيرت خدماته إلى وزارة الخارجية، ثم عاد إلى الجامعة ليدرّس حتى وصل إلى منصب رئيس قسم التاريخ بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن من 1957م حتى عام 1974م، حيث انتقل بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل على الجنسية الأمريكية عام 1982م، عمل أستاذاً زائراً في العديد من الجامعات الأمريكية، وحضر الكثير من الندوات والمؤتمرات حول الدراسات العربية والإسلامية، كما قدم المشورة للكونجرس الأمريكي عام 1974م، وكان ذلك قبل حصوله على الجنسية الأمريكية، وقد قامت وزارة الخارجية الإسرائيلية بنشر شهادته أو محاضرته في الكونجرس بعد إلقائها بأسبوعين.
…له العديد من المؤلفات من أشهرها :
1- العرب في التاريخ
2-الإسلام في التاريخ
3-اللغة السياسية في الإسلام
4-أصول الإسماعيلية
5- اللون والعرق في الإسلام أو اللون والعرق في الشرق الأوسط.
6- الحشاشون أول فرقة ثورية في الإسلام
7-الساميون واللاساميون
8-الغرب والشرق الأوسط.بالإضافة إلى عدد كبير من البحوث التي نشرت في الدوريات المتخصصة ومنها على سبيل المثال في مجال هذا البحث :
"الشيوعية والإسلام" ، نشرت في مجلة شؤون دولية.
"الديموقراطية في الشرق الأوسط"، نشرت في مجلة شؤون الشرق الأوسط.
"عودة الإسلام"، نشرت في مجلة Commentary، ونشرت مترجمة في مجلة الدعوة المصرية (النمسا).
"المفاهيم الإسلامية للثورة"، نشرت في كتاب الثورة في الشرق الأوسط.
"الدولة والفرد في المجتمع الإسلامي"، بحث ألقي في ندوة في فرنسا ونشر مترجماً في مجلة الثقافة الجزائرية.
"الحضارة الغربية: نظرة من الشرق"، محاضرة توماس جيفرسون التاسعة عشرة .
"الشرق الأوسط: نظرة جديدة"، في مجلة شؤون خارجية.
وكتب كثيراً في الصحف والمجلات الغربية وبخاصة مجلة ذا نيو ريبابليك وأتلانتك الشهري وكومنتري اليهودية وغيرها.(1/4)
أوصى لويس بأن تعطى مكتبته -وهي مكتبة كبيرة- لمركز موشيه ديان بعد وفاته. ويقضي لويس شهرين سنوياً في تل أبيب(1).
…إن لويس متخصص في التاريخ الإسلامي وبخاصة الدولة العباسية، ولكنه اهتم بالإسلام عموماً، وإن كان قد تحول إلى دراسة القضايا المعاصرة في العالم الإسلامي عندما ظهر في الغرب اهتمامُ بالقضايا المعاصرة. ومن أبرز ما يهم الغرب في العالم الإسلامي الفكر السياسي. ولا يمكن أن يتم فهم الفكر السياسي المعاصر وبخاصة للجماعات الإسلامية التي يطلق عليها الغرب خطأً "الأصولية الإسلامية" إلاّ بدراسة الفكر السياسي كما جاء في الكتاب والسنة وكما جاء في اجتهادات علماء الإسلام وفقهاؤه.
…اتصلت بالبروفيسور لويس في أثناء إعداد بحث الدكتوراه وطلبت منه موعداً للقائه فأبى إعطائي موعداً حتى يقرأ جزءاً من رسالتي (أي فصل منها)، ولمّا أخبرته أنني ما زلت في طور جمع المادة العلمية أصر على أن وقته ثمين ولا يستطيع إعطائي الموعد حتى يتأكد أنني باحث موضوعي ولست من الذين يكتبون الكتابة المتعصبة. وأرسلت له خطة البحث باللغة الإنجليزية ولكنها لم تكن كافية في نظره. ولما علمت أنه لن يقتنع سافرت إلى برنستون وهناك أقنعت زملاءه بضرورة مقابلتي، وتمت المقابلة بالفعل، وقد سجلت اللقاء بآلة التسجيل وقام بمراجعة المادة وإقرارها.
ولما كانت السياسة والفكر السياسي من أبرز الموضوعات التي تناولها لويس في كتابته في التاريخ الإسلامي فلا بد من مقدمة موجزة عن مدى اهتمام الإسلام بشأن السياسة قبل الشروع في البحث في كتابات لويس في هذا الموضوع.
__________
(1) - حصلت على هذه المعلومات من مارتن كريمر تلميذ لويس في مرحلة الدكتوراه ، ومارتن كريمر هو مدير معهد دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بجامعة تل أبيب حين لقيته في ليدن بهولندا.(1/5)
لقد اهتم الإسلام بالسياسة منذ بداية تكون الجماعة الإسلامية الأولى في دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كانت تعمل تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أذن لمجموعة من المسلمين الذين عانوا الاضطهاد بالهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة وبعدها. ولا يمكن أن تقوم جماعة بمثل هذا العمل لو لم يكن لديها تنظيم معين. ثم اتضحت بعض أبعاد الجماعة الإسلامية في بيعة العقبة الأولى ثم الثانية. وكانت الثانية قد أوضحت بعض الأفكار السياسية المهمة ومما ورد في بيعة العقبة الثانية: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وأن لا ننازع الأمر أهله وعلى أثرة منّا، وأن نقول الحق لا نخشى في الله لومة لائم".
…وبعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم أخذت الجماعة الإسلامية وضع الفكر السياسي الإسلامي موضع التطبيق؛ وذلك في الصحيفة التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والكفار من أهل المدينة ثم بين المسلمين واليهود في المدينة. وفي هذه الأثناء كانت آيات القرآن الكريم تتوالى في النزول توضح معالم المنهج الإسلامي في السياسة وفي الاقتصاد وفي شؤون الحياة كلها.
…ويكفي تدليلاً على أهمية السياسة والفكر السياسي في الإسلام أن قصة موسى عليه السلام مع فرعون وردت أكثر من سبعين مرة في القرآن الكريم وكانت في غالبها في سياقات سياسية. فمن قال إن الإسلام لا يهتم بالسياسة فما عليه إلاّ أن يطلع على هذه القصص وتفسيرها ليعرف كم هو مهم أن يعيش الناس تحت ظل حكومة تعاملهم بالعدل وترعى شؤونهم وتساوي بينهم ولا تأكل أموالهم. ألم يذكر القرآن الكريم عن فرعون قوله { ونادى فرعون في قومه أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي } (1)، وذكر طغيان فرعون في قوله تعالى: { ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد } (2).
__________
(1) -سورة الزخرف آية 51.
(2) -سورة غافر آية 29.(1/6)
…ولويس في اهتمامه بالفكر السياسي الإسلامي لا ينطلق من كونه باحث متخصص في الفقه أو الفكر السياسي أو القانون، ولكنه كتب بطريقة المؤرخ لذي يرى بعض أحداث التاريخ الإسلامي فيبحث في كتب الأحكام السلطانية والفقه ما ينطبق عليها، أو يجد فكرة في أحد كتب الفقه فيروح يبحث لها عن شواهد واستدلالات في أحداث التاريخ، وأحياناً يكون لديه فكرة جاهزة عن المنهج الإسلامي في الحكم فيبحث في كتب التاريخ والفقه ولا يتوانى عن الرجوع إلى كتب الأدب ليبرر وجهة نظره.
…أما هذا البحث فينقسم إلى ثلاثة محاور :
…المحور الأول: المشروعية في الفكر السياسي الإسلامي عند لويس
…المحور الثاني: العلاقات بين الفرد والدولة ف الفكر السياسي الإسلامي
…المحور الثالث: لويس والحركات الإسلامية المعاصرة.
المحور الأول: المشروعية في الفكر السياسي الإسلامي.
تناول لويس مسألة المشروعية في الفكر السياسي الإسلامي من خلال حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقيامه برئاسة الأمة وحدود السلطات التي كانت له في هذا العمل. وفيما يأتي أبرز العبارات التي وردت في وصفه للرسول صلى الله عليه وسلم وسلطاته. فقد قارن لويس بين الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه "لم يمت على الصليب، وكان إلى جانب النبوة جندياً ورجل دولة بل رئيس دولة ومؤسس إمبراطورية"(1)، وقد وصف لويس الرسول صلى الله عليه وسلم في موضع آخر بأنه " شيخ الأمة لأولئك الذين آمنوا به بحق، ليست سلطته مشروطة أو مقبولة بدون اعتراضات من قبل القبيلة التي يمكن أن تسحبها في أي وقت، ولكنه حق ديني مطلق. إن مصدر السلطة انتقل من الرأي العام إلى الله الذي أناطها برسوله المختار"(2).
__________
(1) - Bernard Lewis. “ Return of Islam.” In Commentary , Vol. 62 , January 1976.pp 89-101.
(2) - Lewis, The Arabs in History. London: 1950 and 5th edition 1970. P 43(1/7)
…وقد بحث لويس مسألة هل الحكومة الإسلامية حكومة دينية انطلاقاً من القول المنسوب لعيسى عليه السلام (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، فهذا يؤكد في نظره على وجود سلطتين إحداهما دينية والأخرى دنيوية هما الكنيسة والدولة بينما امتزجت هاتان السلطتان في الإسلام يدل على ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد مارس القيادة السياسية والزعامة الدينية (1).
…ويواصل لويس محاولته تفسير معنى الحكومة الإسلامية حيث يتحدث عن تقليدين سياسيين في الإسلام يطلق على أحدهما التقليد "الساكن" والآخر " النشط"، وأن كلاً من التقليدين مستمدان من الكتاب والسنة. فالتقليد الساكن يتمثل في كون الرسول صلى الله عليه وسلم حاكماً ورجلاً سياسياً، ولكنه قبل أن يكون كذلك كان " متمرداً" و"معارضاً" للنظام الحاكم في مكة، وقاد معارضته ضد الطبقة الحاكمة الوثنية في مكة، وفي وقت من الأوقات خرج إلى المنفى وكوّن ما يمكن أن يطلق عليه في المصطلح المعاصر "حكومة المنفى"، وكان هذا العمل من قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمرد مثالاً احتذته كل الحركات الثورية في التاريخ الإسلامي ، وكان من ذلك على سبيل المثال قيام الدولة العباسية، وقيام الدولة الفاطمية ثم ثورة الخميني في العصر الحاضر(2).
__________
(1) - Lewis. “ Islamic Revolution.” In New York Review of Books, 27 January 1988. P47.
(2) - Lewis “ Islamic Revolution, Op., Cit.(1/8)
…ويرى لويس أن حجة من ينفي عن الحكومة الإسلامية أن تكون حكومة دينية وذلك لعدم وجود كنيسة أو بابا أو مجالس كنسية في الإسلام، أما الذين يرون أن حكومة الإسلام دينية فيبررون ذلك بوجود نوع من عمل القسس بالمعنى الاجتماعي حيث يوجد " طبقة من العلماء المحترفين الذين اكتسبوا مكانتهم من العلم وليس من التكريس الكنسي، والذين عملوا كرجال دين من عدة نواح. ويمثل هؤلاء الله عز وجل وشريعته من النواحي العملية وبالتالي يمارسون السلطة بالمعنى الحقيقي وإن لم تكن السلطة السياسية الكاملة"(1). ويضيف لويس قائلاً: "الإسلام من ناحية المبدأ ،وإن لم يكن في التطبيق، ثيوقراطي بمعنى آخر وأكثر عمقاً، والثيوقراطية تعنى حرفياً حكم الله، وبهذا المعنى كانت حكومة الإسلام دينية من الناحية النظرية، ففي روما " كان قيصر هو الله"، وفي النصرانية "تعايش القيصر مع الله "، وفي الإسلام "الله هو القيصر حيث إنه وحده الرئيس الأعلى للدولة ومصدر السيادة، وهكذا صاحب التشريع، فالدولة هي دولة الله، والقانون هو قانون الله، والجيش جيش الله، وبالطبع فالأعداء هم أعداء الله"(2).
…المناقشة
… إن مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند المسلمين لا تقارن بعيسى عليه السلام فإن الأنبياء جميعاً إنما أرسلهم الله عز وجل لتطبيق شرع الله في الأرض { وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله } (3)، ولكن تختلف ظروف رسالتهم فعيسى عليه السلام عمل تحت حكم روماني قاهر فلم يستطع أن يقف في وجه تلك الدولة، وإنما كان همه أن يعيد اليهود إلى شريعتهم مع تعديلات في هذا التشريع وفقاً لما أمره الله سبحانه وتعالى. أما رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فقد تمكن من إنشاء دولة ووضع لها الأسس والقواعد لأن رسالته هي الرسالة الخاتمة.
__________
(1) - - المرجع نفسه.
(2) - المرجع نفسه.
(3) -سورة النساء آية 64.(1/9)
…أما زعم لويس بتأسيس الرسول - صلى الله عليه وسلم - إمبراطورية فتلك مقارنة فاسدة فالإمبراطور هو الذي يحكم دولة استعمارية توسعية لصالح شعب أو عرق كما هو الحال في الإمبراطوريات السابقة أو اللاحقة.
…وثمة خطأ منهجي آخر وهو سوء الفهم أو الجهل وهو وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه "شيخ الأمة"، فلو كانت المسألة كذلك لما واجه تلك العقبات والعراقيل. وقد عرض كفار قريش عليه أن يكون ملكاً عليهم وأن يتخلى عن الرسالة فأبى ذلك أشد الإباء(1). وإن السبب في محاولة قريش أن تعرض على الرسول ما عرضت أنها فهمت أن دعوة التوحيد تقضي "نزع السلطان الذي كان يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ورده كله إلى الله السلطان على الضمائر والسلطان على الشعائر، والسلطان على الحياة ..السلطان في المال ، والسلطان في القضاء والسلطان في الأرواح والأبدان"(2).
__________
(1) - ابن هشام الحميري . سيرة ابن هشام ، تحقيق مصطفى السقا وآخرون( القاهرة 1955) القسم الأول ص 295.
(2) - سيد قطب . في ظلال القرآن. (بيروت 1973)ص 1005.(1/10)
…أما بخصوص رأي لويس بانتقال السلطة من الرأي العام إلى الله ثم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأمر يخالف حقيقة الواقع فلويس مؤرخ متمرس في التاريخ الإسلامي، ولا شك أنه عرف عن بيعة العقبة الأولى والثانية وبيعة الرضوان. وأن البيعة تراض بين طرفين . وقد أورد القرآن الكريم بيعة النساء في قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } الآية(1)، لاشك أن سلطة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت حقاً دينياً فهو المتلقي للوحي عن ربه، ولا بد للأمة أن تطيع رسولها ومع ذلك فقد كانت تلك السلطة والطاعة مع دروس في توزيع السلطة، وفي الشورى وفي تشجيع المواهب الفردية. لقد ربّى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم نخبة تولت قيادة البشرية بعد أن استطاعت إسقاط إمبراطوريتي الفرس والروم. إن مشيخة القبيلة أو الأمة لا يمكن أن تكون نتائجها مثل النتائج التي تحققت على يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
__________
(1) - سورة الممتحنة آية 12.(1/11)
…ولنلتفت الآن إلى مسألة كون الحكومة الإسلامية دينية أو لا؛ فإن لويس وقع في أخطاء منهجية عديدة، منها أولاً إسقاط النظرة الغربية عند تناول الفكر السياسي الإسلامي، ففكرة الحكومة الدينية فكرة غربية إذ لم يعرف الإسلام صراعاً بين سلطة دينية وأخرى دنيوية، فقد فهم المسلمون أن الإسلام ينظم شؤون حياتهم جميعها من أدق تفاصيلها حتى مسألة الحكم والخلافة: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } (1). ولم يكن هذا الصراع ليقع في النصرانية لولا أن المسيح عليه السلام واجه الدولة الرومانية القوية وطائفة من اليهود الحاقدين وإلاّ فإن المسيح جاء بشريعة تجمع بين الدنيا والدين، فهو لم يلغ الشرائع التي كانت موجودة بل جاء بشريعة ليتمها.ويكملها. وأما العبارة المنسوبة للمسيح عليه السلام (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) التي يحلو للويس أن يكررها للاستدلال على الفصل بين السلطتين، فهو خطأ منهجي آخر لأنه يمارس بتر النصوص من سياقها، فإن القصة التي وردت فيها هذه العبارة تؤكد على ضرورة طاعة السلطة مهما كانت ظالمة وقد جاء في رسالة بطرس ( لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلاّ من الله والسلاطين الكائنين :مرتبة من الله حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله)(2)، واستمر الصراع بين السلطتين حتى قويت الكنيسة واكتسبت سلطة ضخمة وثراء، ووصل بها الأمر إلى أن أصبحت دولة داخل دولة، وأصبح للبابا رأس الكنيسة اليد الطولى في مواجهة الحكام.
__________
(1) -سورة الأنعام آية 162.
(2) - رسالة بولس الرسول الراهب ووحيه ، الإصحاح الثالث عشر :1.(1/12)
…ومن أخطاء لويس المنهجية مقارنته بين الله والقيصر وهي مقارنة فاسدة، فقد تصح مثل هذه المقارنات في عقلية مشبعة بالنزعة المادية ، وكما يقول سليمان ناينق وسميرعبده أنه: " ما كان لباحث يهودي مثل لويس يفترض فيه أنه مؤمن بالله أن يجعل قيصر في درجة مع الله عز وجل. وما تعايش السلطتين عند النصارى إلاّ لأن رجال الدين النصارى اضطروا للخنوع وإلاّ فإنهم عندما قويت شوكتهم استبدوا بقيصر وحكموا عليه بالخنوع كما فعل جريجوري السابع بالملك هنري الرابع. وكانوا يجمعون الضرائب ويسيِّرون الجيوش وغير ذلك من السلطات الدنيوية"(1).
…وبالنسبة لمكانة العلماء فقد نظر لويس إلى المسألة من زاوية واحدة وبوجهة نظر معينة وأخذ يحشد لها الأدلة من هنا وهناك؛ فهذا الدين قام على العلماء، ولم يكن ثمة فرق بين العلماء والحكام ، فالخلفاء الراشدون كانوا أعلم الناس بالإسلام، وجاء بعدهم خلفاء بني أمية وكان كثير منهم على درجة عالية من الفقه والدين مثل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعبد الملك ابن مروان، وعمر بن عبد العزيز، وظل الخلفاء في الغالب على درجة طيبة من العلم بالإسلام، ولذلك كان هؤلاء يعرفون للعلماء قيمتهم ومكانتهم السامية حين كانوا ينصحون الحكام . وبلغ من مكانة العلماء ما ورد عن أبي جعفر المنصور حينما لقي سفيان الثوري فقال له " يا سفيان لم لا تأتنا فنستشيرك فما أمرتنا بشيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء تركناه"، وهنا سأله الثوري كم بلغت نفقتك في الحج – مستعظماً تلك النفقة_ ثم ذكّره بأن نفقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة لم تزد على ثمانية عشر ديناراً.
__________
(1) - حورية توفيق مجاهد. الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده. ( القاهرة:1986) ص 132.(1/13)
…ولمّا ولي المسلمين حكام قلت درجة معرفتهم بهذا الدين كان لا بد من وجود العلماء إلى جوارهم لتقديم النصح والتوجيه والمشورة. ولم يؤلف العلماء في التاريخ الإسلامي طبقة ترتزق بالعلم إنما عملوا في شتى مجالات الحياة حتى يخلصوا للعلم ولطلبه، وكانوا علماء وجنوداً مجاهدين وقادة. وكان منهم من وقف في وجه الحكام الظلمة حتى ابتلي عدد منهم بالسجن والتعذيب. ونحج عدد منهم في إيقاف الحكام عند حدهم(1).
__________
(1) - عبد العزيز البدري. الإسلام بين العلماء والحكام . (بدون ناشر) ص 80 وما بعدها(1/14)
…وقول لويس إن الله هو المشرع وبالتالي فهو الرئيس الأعلى للدولة ومصدر السيادة، وكذلك مصدر التشريع فالدولة دولة الله، والجيش جيش الله وبالطبع فالأعداء هم أعداء الله، فإن لويس هنا لم يأت بجديد بل كرر افتراضات مستشرقين سبقوه ومن هؤلاء سانتيلانا الذي قال في بحث له في الفكر السياسي: "إن الإسلام هو حكومة الله المباشرة يحكمها الله الذي يرعى شعبه دائماً، فالدولة في الإسلام يمثلها الله، حتى الموظفون العموميون هم موظفون عند الله"(1)، فالخطأ المنهجي الأول هنا أن لويس نقل عن غيره دون ذكر المصدر، أما الخطأ الثاني فإنه لم يقدم الدليل على افتراضاته. والواقع كان عكس ذلك تماماً فلم يدَّع حاكم مسلم أنه خليفة الله أو يحكم باسم الله، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في أول خطبة له بعد توليه السلطة: " لقد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني.."(2) " فالخليفة منفذ للشريعة، خاضع لأحكامها، وهو معين من قبل الأمة تنتخبه ولها الحق أن تعزله."(3) بينما يقصد من الثيوقراطية أنها "حكومة الإله أو الآلهة الذين يكونون ممثلين برجال (كهنوت) أو زعماء روحيين مقدسين. ومن أمثلتها حكومة البابوات في العصور الوسطى فيكون لهؤلاء الرؤساء سلطات روحية ولهم حق الغفران والحرمان، وتجب طاعتهم المطلقة وأقوالهم قانون لأنهم يمثلون الإرادة الإلهية"(4).
__________
(1) - ضياء الدين الريس. النظريات السياسية الإسلامية. (القاهرة: 1979 )ص 366 نقلاً عن De Santillana: The Legacy of Islam. P 256.
(2) - ابن هشام ، السيرة النبوية ، القسم الثاني ، ص 661.
(3) - الريس، مرجع سابق ص 377
(4) - المرجع نفسه والصفحة نفسها.(1/15)
…ويرى الباحثان سليمان ناينج وسمير عبد ربه بأن ما كتبه لويس حول هذه المسألة يعد تمثيلاً سيئاً لطبيعة الإسلام فلا يمكن مقارنة الله بالقيصر أو بأي شكل أو هيئة بشرية أخرى وأن الله لا يعين وكيلاً عنه في الأرض فكل إنسان هو خليفة الله في الأرض والمجتمع الإسلامي يختار قادته وفقاً لتعاليم الشريعة (1)، والسيادة في الإسلام تنبع من مصدرين هما الشريعة والأمة (2)، فالله عز وجل أرسل رسله بالشريعة فإذا ما صح اتباعها فلا شك أنهم أقرب إلى هذه الحقيقة التي يوردها لويس بأسلوبه الساخر، فالأنظمة الأخرى والقائمة على شرائع من صنع البشر لن تنال شرف هذا اللقب الذي حازته الأمة الإسلامية زمناً طويلاً وآن لها أن تعود إليه قريباً بإذن الله.
المحور الثاني: العلاقات بين الفرد والدولة في الفكر السياسي الإسلامي:
…يتهم لويس العقلية الإسلامية بأنها عقلية ذرية أي لا تستطيع أن تنظر إلى الأمور نظرة شاملة وأنها عقلية تجريدية، ولكن لويس في دراسته للفكر السياسي الإسلامي وقع فيما اتهم به المسلمون ظلماً ، وأكثر ما تتجلى العقلية الذرية هذه في نظرته إلى العلاقة بين الفرد والدولة التي تناولها في أكثر من بحث. ففي هذه البحوث أخذ بعض المصطلحات من الفكر السياسي الغربي وحاول أن يبحث عن مصطلحات مماثلة لها في الفكر الإسلامي، أو قام بابتداع بعض المصطلحات وراح يحشد لها الأدلة من أي مصدر كان سواء من الحديث الضعيف أو من مصدر مجهول أو من كتب الأدب وغير ذلك .
__________
(1) -Sulyman Naying and Samir Abed Rabbo. “ Bernard Lewis and Islamic Studies: An Assessment.” In Orientalism, Islam and Islamists( Vermont(USA):1984). P.271
(2) - الريس ، مرجع سابق، ص 385.(1/16)
…لقد وجد لويس أن موقف أهل السنة والجماعة بعدم الخروج على الحاكم إذا انحرف عن الطريق الصحيح ما لم يرو كفراً بواحاً وسيلة ليوجه سهام نقده بأن الإسلام يطلب من أتباعه أن يكونوا خانعين أذلاء. ويستشهد لويس بحديث (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ولكن هذا الأمر يصطدم في نظره بأمرين أولهما "أن المشرعين نادراً ما ناقشوا كيف يتم فحص التزام الحكومة بالشريعة ، ومتى تكون مخطئة وبالتالي لم يضعوا أجوبة لذلك، والثاني أنهم لم يضعوا أجهزة أو إجراءات لقياس مدى التزام الحكومة بالشريعة"(1).
…ويقول لويس في موضع آخر: " كان واجب الطاعة في الأيام العظيمة للتاريخ الإسلامي القديم قاصراً على الخلفاء الشرعيين الذين هم وكلاء الله في الأرض ورؤساء المجتمع الديني وفي حالة تمسكهم بالشرع فقط، ولكن مع تراجع الخلافة ونمو الدكتاتورية جعل الفقهاء والمشرعون المسلمون تعاليمهم موافقة للحالة المتغيرة، وجعلوا واجب الطاعة يمتد لأية سلطة فعلية مهما كانت عاصية أو متوحشة. وقد سيطر على الفكر السياسي الإسلامي في الألف سنة الأخيرة مبدأ " الطغيان أفضل من الفوضى ومن اشتدت وطأته وجبت طاعته"(2).
__________
(1) - Bernard Lewis. “ Islamic Concept of Revolution.” In Revolution in the Middle East. Edited by P.J. Vatikiotis ( Totowa N. J. 1972) p.p. 30-40.
(2) - Lewis. “ Communism and Islam.” In International Affairs. No. 30 (1954) p.p. 1 -12.(1/17)
…ولتأكيد نظرته هذه ينقل لويس نصاً عن ابن جماعة حول البيعة القهرية جاء فيه " في زمن الاضطرابات يصبح من الضروري الاعتراف بالحاكم لمنع مزيد من الاضطرابات، فإذا خلا الوقت من إمام فتصدى لها من هو من أهلها ولا يقدم في ذلك كونه جاهلاً أو فاسقاً في الأصح [ أو حتى كونه عبداً أو امرأة لا اعتبار له] وأضاف لويس بأن ما هو أسوأ من حكم العبد أو المرأة كما قال ابن جماعة هو حكم الكافر . وقد حدثت هذه الحالة حينما استولى النورمنديون على جزيرة صقلية مما دعا فقيه من مدينة مازارا لوضع قاعدة تقضي بقبول حكم النصراني وطاعته ما دام يبدي تسامحاً تجاه المسلمين.(1)
…ويصر لويس على البحث عن نصوص حول ضرورة الإذعان للسلطة مهما كان الأمر ويستشهد لذلك بنصوص أوردها ابن بطة ومنها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( وإن ظلمك فاصبر وإن حرمك فاصبر) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (اصبر وإن كان عبداً حبشياً) ويعلق لويس قائلاً: " من المؤكد أن هذين القولين الذين ينسب أحدهما إلى الخليفة عمر وينسب الثاني إلى الرسول[ صلى الله عليه وسلم] هما قولان منحولان والغرض منهما هو تبرير الآراء التي أخذت تشيع في تلك الفترة."(2)
__________
(1) - يلاحظ أن لويس لم يستخدم التوثيق العلمي في هذا المقال وعندما أشار إلى نص ابن جماعة لم يذكر المصدر ن وقد وجدت النص محققاً والعبارات بين معقوفتين ليست في النص كما حققه فؤاد عبد المنعم أحمد. تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام للإمام بدر الدين بن جماعة (ت 773) (قطر :1407هـ/1987م) ص2. وعبارات لويس السابقة من مقالته عن الإسلام والشيوعية المرجع السابق ص 8.
(2) -لويس . " الفرد والدولة في المجتمع الإسلامي " في مجلة الثقافة .(الجزائر)ع 90، السنة 15 صفر-ربيع الأول 1406، نوفمبر /ديسمبر 1985م ص 79.(1/18)
…وفي مجال تأثر الفكر السياسي الإسلامي بالفكر السياسي الغربي يتناول لويس مسألة حقوق الفرد أو حقوق المواطن فيقول: "يمكن أن يكون للمواطن حاجات وآمال ولكن ليس له حقوق، إن هذه الفكرة بالذات مصدرها الغرب، وظهرت لأول مرة في القرن التاسع عشر عندما بدأ الكتّاب في تركيا وفي مصر في استخدام مثل هذه التعبيرات "حقوق الحرية" و"حقوق المواطن"، .ويضيف إنه ثمة مقولة عربية قديمة مفادها أن الخليفة إذا كان عادلاً فسوف يكافأ، وعليك أن تكون شاكراً، وإذا لم يكن عادلاً فإنه سيعاقب وعليك أن تكون صبورا" (1).
…ويقول لويس عن الحرية السياسية: " بالرغم من وجود آثار حرية بدوية باقية في النظرية القانونية الإسلامية التقليدية، فإن تجربة الإسلام السياسية في معظمها استبدادية ، فعلى المواطن واجب ديني هو الطاعة المطلقة وبدون سؤال لصاحب السيادة، وليس له حقوق سوى أن يعيش حياة إسلامية طيبة، وعلى الحاكم المسلم أن يراعي الشريعة "القانون المقدس" لإمكانية إقامة الحياة الإسلامية الطيبة. أما ما سوى ذلك فللحاكم أن يفعل ما يشاء..ويضيف لويس أن النظرية الإسلامية لم تعترف مطلقاً بأي مصدر للسلطة سوى الله أو القوة والبديل الوحيد لمصدر السلطة هو القوة"(2).
المناقشة:
__________
(1) - Lewis, Islam in History. ( London:1973) P.297.
(2) - Bernard Lewis. “ Democracy in the Middle East, Its State and Prospects.” In Middle Eastern Affairs. Vol. vi, No. 4, April 1955. P. p. 101-108.(1/19)
…من أبرز المميزات التي حرص الإسلام على تربية المسلمين عليها عزة النفس والكرامة وأن لا يخضع مسلم إلاّ لله عز وجل، وأن يتساوى المسلمون فيما بينهم، فقد دخل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على رستم " فجلس معه على سريره ووسادته فوثبوا عليه …فقال : كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب سواءُ، لا يستعبد بعضنا بعضاً إلاّ أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأنّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه… علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأنّ ملكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول"(1).
…إن الطاعة للسلطان مشروطة بطاعة الله عز وجل أما تشكك لويس بالقدرة على فحص التزام الحكومة بالشريعة الإسلامية إنما يدل على جهل لويس أو تجاهله، فالعلماء المسلمون ما آتاهم الله من علم وفهم وإدراك لا يحتاجون إلى إجراءات أو أجهزة لذلك. ولما كان نظام الحكم أو شكله لم يتحدد بنصوص شرعية فلا بد للمسلمين أن يتخذوا من أشكال الحكومة ما يناسبهم . ومع ذلك فقد استطاع العلماء المسلمون على مدى التاريخ الإسلامي إبلاغ صوتهم ورأيهم إلى الحكام عبر منابر المساجد أو في حلقات دروسهم أو بمواجهة الحكام مباشرة. وإن نفي لويس وجود إجراءات لمعرفة خروج الحاكم عن الشريعة ومحاسبته تكفلها حقوق الفرد المسلم التي يمكن تلخيصها فيما يأتي :
__________
(1) - أبو جعفر ابن جرير الطبري. تاريخ الأمم والملوك.،تحقيق أبو الفضل إبراهيم ( القاهرة :بدون تاريخ) مجلد3 ص 522.(1/20)
حق اختيار الحاكم : فمن حق الفرد المسلم أن يشارك في اختيار رئيس الدولة - البيعة العامة- وفي هذا يقول ابن تيمية "الإمامة تثبت بمبايعة الناس لا بعهد السابق له"(1)، وهذه البيعة تجعل الحاكم في مركز النائب والوكيل عن الأمة.(2)
2- حق المشاورة : نص القرآن الكريم على وجوب الشورى { وشاروهم في الأمر } (3)، وثمة سوابق تاريخية أهمها سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تؤكد هذا الحق للأمة.
3- حق مراقبة رئيس الدولة، وما دامت الأمة قد اختارت الحاكم فمن حقها مراقبته وتقويمه إذا انحرف ، وأول مراحل التقويم النصيحة وفقاً لما جاء في الحديث الشريف (الدين النصيحة.. قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)(4).
…والإسلام أسبق في محاسبة الحاكم ففي أول خطبة خطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه أرسى هذا الحق "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"(5)، وذكر الطبري في تاريخه أن عمر بن الخطاب كان يخطب محذراً عماله من تجاوز مهمتهم في التعليم ومما قاله :" فمن فُعل به شي سوى ذلك فليدفعه إليّ فو الذي نفس عمر بيده لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه"(6).
__________
(1) - أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، منهاج السنّة النبوية، تحقيق محمد سالم رشاد.(الرياض 1406) ج1 ص 142.
(2) - عبد الله بن فهد النفيسي ، عندما يحكم الإسلام .(لندن: بدون تاريخ) ص 156.
(3) -سورة آل عمران آية 159.
(4) - رواه مسلم في كتاب الإيمان.
(5) - البخاري …
(6) - الطبري، مجلد 4، ص 204.(1/21)
…وقد تفوق الإسلام على التشريعات الأخرى؛ فقد قسمت الحقوق في الإسلام إلى ثلاثة حقوق أحدها حق خالص لله عز وجل، وهو حق التشريع ثم حق غالب مثل حق القذف فهو أساساً حق لله، ولكن للفرد فيه نصيب وذلك بصون عرضه، ثم حق للعبد ولله فيه نصيب مثل القصاص. وفي حالة الاعتداء على أي من الحقوق فإنه يتولد واجب الدفاع الشرعي، وكما يقول المستشار الدكتور علي جريشة: "إن الدفاع الشرعي لم تعرفه النظم الوضعية إلاّ حديثاً وعرفته قاصراً على مجال الحقوق الخاصة. وفي هذا المجال يشوبه الكثير من القصور"(1). وقد عالج المسلمون مسألة " الدفاع الشرعي العام" تحت عنوان "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أو "الحسبة"، وأوضحوا بأن واجب إنكار المنكر واجب كفائي إي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به ذلك البعض الكفائي فقد أثمت الأمة كلها بترك الواجب، ويضيف جريشة بأن "شُرّاح القانون العام لم يستطيعوا أن يرتفعوا ب (مقاومة الظلم) وهي إحدى صور الدفاع الشرعي العام في الإسلام لم يستطيعوا أن يرتفعوا به أكثر من مرتبة الحق، فقد أعلنت الثورة الفرنسية في إعلان حقوق الإنسان الصادر سنة 1799م أن حقوق الإنسان هي :الحرية والملكية والمساواة ومقاومة الظلم. وبقي الإسلام منفرداً بجعل مقاومة الظلم وغيره من صور المنكر في المجتمع واجباً وليس مجرد حق، فيرتفع بالمجتمع إلى مستوى من الإيجابية لا يصل إليه نظام آخر ويحقق بذلك كفالة القضاء على كل انحراف يظهر من جانب السلطة"(2)
الحرية والتأثر بالفكر السياسي الغربي:
__________
(1) - علي محمد جريشه. المشروعية الإسلامية العليا. ط2( القاهرة 1406، 1986* ص 242.
(2) -المرجع نفسه ن ص 246.(1/22)
…يمكننا أن نبدأ الرد على لويس بالتأكيد على إصراره على الحكم على الشعوب الأخرى وتاريخها انطلاقاً من المعايير الغربية، وأن ما يناسب أمة من الأمم ليس من الضروري أن يناسب أمة أخرى. وإن أبزر النقاط التي ورد فيها هذا الخطأ المنهجي الذي يمكن أن نطلق عليه إسقاط المصطلحات الحديثة على أمور تاريخية أو مصطلحات أمة أو مفاهيمها على أمة أخرى في موضوع الحقوق والحريات.
فقد زعم لويس أن مفهوم "الحقوق " عند الغربيين لم يعرفه المسلمون، كما لم يعرف المسلمون من هذه الحقوق "حق الحرية"، وهنا يتعمد لويس تجاهل معنى الإسلام ومبادئه الأساسية. فإن معنى "لا إله إلاّ الله " نفي كل أنواع العبوديات عن الإنسان وإعطاؤه الحرية في أعز مجال ألا وهو مجال العقيدة، فمن مبادئ الإسلام عدم إكراه أحد على اعتناقه (لا إكراه في الدين)(1)، وتأتي الحريات الأخرى تبعاً لذلك. فالحرية التي أعطاها الإسلام للمسلم وللذمي لم توجد في أي نظام آخر سوى حرية الانحراف والضلال التي قدمتها الحضارة الغربية حتى أضحت تشكو منها(2)؛ فالإسلام يكفل العمل بالأجر المناسب، كما يكفل للمسلم حرية الرأي التي جهدت الدساتير الغربية في إثباتها وكانت شيئاً طبيعياً في الإسلام.
__________
(1) - سورة البقرة ، آية 256.
(2) -عبد الحليم عويس . " موقف الفكر الإسلامي من الحضارة الحديثة " في المنهل، ع 495، شوال وذو القعدة 1412، أبريل ومايو 1992، ص 15-28.(1/23)
ومن الأمثلة على حرية الرأي ما ورد من نقاش بعد فتح العراق حول تقسيم أرض السواد أو إبقائها بين أيدي أصحابها ويؤدون عنها الخراج. وكان رأي عمر بن الخطاب رضي الله أن تبقى الأرض في أيدي مالكيها، ولكن فريقاً من المسلمين وعلى رأسهم بلال بن رباح رضي الله عنه كانوا متحمسين لتوزيع الأرض بين الجند الفاتحين. ولم يكره أو يعاقب الخليفة على أنه خالفه في الرأي، بل كان يدعو أن يشرح الله صدر بلال للرأي الآخر(1).
… كما أورد لويس مقولة عربية قديمة عن الحاكم العادل والحاكم الظالم، وليس من المنهج العلمي أن يحاكم الفكر السياسي إلى مقولات مجهولة الهوية ولا تعني شيئاً. فالمقولة تزعم أن الحاكم العادل سيجد المكافأة ولكن لم يحدد لويس ممن، وكذلك العقوبة للحاكم الظالم ممن؟، فإذا كان المقصود أن الجزاء والعقاب من الله وما على المسلم إلاّ أن يكون شاكراً في حالة الحاكم العادل وصابراً في الحالة الثانية. فهذه مخالفة واضحة لأسس العقيدة الإسلامية التي تدعو إلى رفض الظلم وإلى إنكار المنكر وإلى مقاومة الفساد. إن التسليم برأي لويس يجعل المسلم شخصاً سلبياً وما تحركت في عروقه الدماء إلاّ في بداية القرن التاسع عشر عندما بدأ بالاحتكاك بالغرب.
المحور الثالث: لويس والحركات الإسلامية المعاصرة.
…تعد الحركات الإسلامية المعاصرة أو ما يطلق عليه الإسلام السياسي من أبرز القضايا في الفكر السياسي المعاصر. وقد اهتم لويس بهذه القضية عندما وجد أن الاتجاه في الغرب عموماً يميل إلى الاهتمام بالحركات الإسلامية وأن هذا يقدمه إلى المسؤولين في العالم الغربي وجهات صناعة القرار السياسي والاقتصادي على أنه خبير في قضايا العالم الإسلامي المعاصرة.
__________
(1) - يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف. الخراج ،(بيروت 1399/1979) ص 35.(1/24)
…ولعل ظهور ما يمسى الحركات الإسلامية المعاصرة قد جاء في أثناء مقاومة البلاد الإسلامية للاحتلال الأجنبي، ولكن هذه الحركات اندمجت في الحكومات التي قامت بعد انتهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال. غير أن ظروف البلاد العربية الإسلامية بعد الاستقلال استدعت من المسلمين أن ينظموا أنفسهم في حركات تدعو إلى العودة للإسلام بعد أن جاء الاستقلال بالكثير من الانحرافات في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم وغيرها من المجالات.
…يصر الباحثون الغربيون ومن بينهم لويس على تسمية هذه الحركات ب "الأصولية الإسلامية" بالرغم من أن بعض الباحثين الغربيين قد أدركوا الخطأ في ذلك حيث يقول جيل كيبل عن المصطلح الإنجليزية "الأصولية"Fundamentalism والفرنسي Integrisme " إنهما تبسيطيتان يختزلان الظاهرة ويحرفانها، وهما يعيقان معرفتنا بتلك الظاهرات في مجملها، ثم إن عجزنا الإجمالي عن تفسير أو تأويل الحركات الإسلامية اليوم إنما يعيد إلى حد بعيد إلى استخدامنا هذه النظارات القديمة التي نضعها على أعيننا لأننا لا نجد في عجالة أمرنا خيراً منها يمكن كل ما تقوم به هو زيادة التشويش في إدراكنا"(1).
…ويلاحظ أن لويس وغيره من الكتاب الغربيين خلطوا بين الأصولية الغربية بكل ما فيها من رفض للمجتمعات الغربية وانحلالها وانحرافها نحو المادية الطاغية وبين الحركات الإسلامية التي تنادي بالعودة إلى تطبيق الإسلام في حياة المسلمين في النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأولاً وقبل كل شيء في النواحي العقدية. ولذلك فهم يخلطون حقاً بين الإسلام وبين ما يتخيلون أنه "أصولية " بالمعنى الغربي، كما يصمون كل دعوة إلى الإسلام على أنها تطرف وتشدد.
__________
(1) - جيل كيبل. الحركات الأصولية المعاصرة في الأديان الثلاث. ترجمة نصير مروة (قبرص: 1992م) ص 11.(1/25)
…وتأتي أهمية تناول كتابات لويس حول تيار الحركة الإسلامية للمكانة العلمية البارزة التي حققها لويس بصفته مؤرخاً مختصاً في التاريخ الإسلامي، وبصفته خبيراً في شؤون العالم الإسلامي (الشرق الأوسط)، ولأن كتاباته تصل إلى أعلى المستويات في مصادر صنع القرار السياسي في الغرب، ولأن لويس يتميز بغزارة الإنتاج والنشاط المتواصل في نشر فكره.
…يبدي لويس تردده في نعت الحركات الإسلامية بالأصولية لأن هذا المصطلح نشأ في الغرب لوصف الحركات البروتستانتية، ولكنه يعود ليجد أن معظم المسلمين ينطبق عليهم هذا المصطلح وهذا ما يقوله: " كل المسلمين –مبدئياً- أصوليون في موقفهم من نص القرآن، ويختلف الأصوليون المسلمون عن غيرهم من المسلمين، وبالطبع من الأصوليين النصارى في التمسك الشديد بالتعاليم والأساليب التقليدية بالإسلام، وتقيدهم الحرفي المفرط بالإسلام، إنهم يعتمدون ليس فقط على القرآن ولكن أيضاً على السنة النبوية. وعلى التراث الإسلامي من الكتابات العقدية والشرعية. إن هدفهم ليس أقل من القضاء التام على كل التشريعات المستوردة المتطورة، والنظام الاجتماعي وإحلال الشريعة كاملة مكانها ذلك. وتتضمن الشريعة بقوانينها وعقوباتها وتشريعاتها وصيغة الحكومة التي تقرها(1).
… أما أسباب نجاح أو انتشار الحركات الإسلامية (الأصولية) فيرجع إلى وجود الحكومات الفردية التي تمنع وجود الأحزاب السياسية وبالتالي تستطيع الحركات الإسلامية أن تتجمع في المساجد وفي المناسبات الدينية، وهذا أمر لم تستطع الحكومات عمل شيء لإيقافه(2).
__________
(1) - Bernard Lewis. The Political Language of Islam. ( Chicago: 1988) P.117-118
(2) -المرجع نفسه ، ص 115-116.(1/26)
…ونتوقف عند أخطاء لويس المنهجية هنا فالحركات الإسلامية التي تسعى إلى استعادة مكانة الإسلام في المجتمعات الإسلامية ليست " أصولية"؛ ذلك أن "الأصولية الغربية تسع ىكما يقول جيل كيبل إلى "مكافحة العلمانية وإحداث تغيرات في المجتمعات الغربية التي طغت عليها المادية وانهارت فيها القيم والأخلاق"، أما العالم الإسلامي فلم يصبح فيه علمانياً إلاّ النخب المتغربة وبصورة جزئية أيضاً، بينما تولدت حركات معاودة التنصير في مجتمعات عاشت في غالبيتها العظمى ومنذ أكثر من قرن علمنة دنيوية عميقة، وقد تجلت هذه العلمية في المجالات القانونية والتنظيمية(1).ويذكر كيبل أن الأصولية اليهودية أيضاً قد وصلت إلى قناعة بأن الثقافة الغربية تتصف بخواء وعبثية كاملين، وأن هدفها الوحيد هو إشباع رغبات الفرد داخل سياق من المادية لا حدود لها(2).
__________
(1) -كيبل، مرجع سابق ص 116.
(2) - المرجع نفسه ص 215.(1/27)
…ويرى لويس أن الحركات الإسلامية أو "الأصولية" إنما هي حركات ضد الغرب وضد الحضارة الغربية وقد انتقد هذا التفكير الباحث الأمريكي جون اسبوزيتو حيث كتب يصف مثل هذه الكتابات بأنها تقوم على " الطرح الانتقائي والتحليلات المتعلقة بالإسلام وتطورات الأحداث في العالم الإسلامي ..بأنها تفشل في توضيح القصة بكاملها وفي أن تعطي الصورة المتكاملة للتوجهات الإسلامية… ونتيجة لذلك فإن الإسلام وحركة التجديد يتم تبسيطهما بسهولة في تلك القوالب البسيطة والفجة التي تصور الإسلام بأنه ضد الغرب وبأنه صراع الإسلام ضد التقدم أو الغضبة الإسلامية والتطرف والتشدد والإرهاب(1).
موقف الحركات الإسلامية من الغرب والحضارة الغربية
__________
(1) -جون اسبوزيتو ." التهديد الإسلامي " ترجمة وإعداد المؤسسة المتحدة للنشر والبحوث في واشنطن، الحلقة الثانية. في مجلة المجتمع. (الكويت) ع 1034، 26 رجب 1413، 19يناير 1993.ص 38-41، ويشير اسبوزيتو بعبارة الغضب الإسلامي إلى مقالة للويس نشرت في مجلة أتلانتك الشهرية The Atlantic Monthly بعنوان " جذور الغضب الإسلامي"The Roots of Muslim Rage. .(1/28)
يزعم لويس أن "عداء الأصولية يتركز ضد عدوين هما العلمانية والتحديث، وأن الحرب ضد العلمانية حرب صريحة وواعية، أما الحرب ضد التحديث ففي معظمها ليست واعية ولا صريحة وموجهة ضد عملية التغيير بكاملها التي حدثت في العالم الإسلامي في القرن الأخير، وحولت البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلاد الإسلامية"، ويؤكد لويس أن الغرب هو مصدر هذا التغيير ولما كانت أمريكا هي زعيمة الغرب فإن الكراهية والغضب يوجهان إليها. ويرى لويس أن نوبة الغضب والحركة التي يواجهها الغرب تجاوزت بكثير مستوى القضايا والسياسيات والحكومات التي تمارسها ولا بد أن هذا الأمر لا يقل عن صدام حضاري. وينصح لويس الغرب أن يقوم بدراسة الإسلام تاريخاً وتراثاً وحاضراً وعلى المسلمين أن يفعلوا الشيء نفسه بالنسبة للحضارة الغربية ومن ثم يختارون(1).
ويزيد لويس توضيح هذا العداء أو الاستعداء للغرب ضد الحركات الإسلامية حين يقول: "وحدث بعد ذلك تغير كبير عندما بحث قادة الصحوة الإسلامية المتنامية عن عدوهم وحددوه بأنه أعداء الله وحددوا موقعهم واسمهم في العالم الغربي، وفجأة أو هكذا بدا الأمر أن أمريكا هي العدو الأول أو الشيطان، أو تجسيد لإبليس والمعارض الشيطاني لكل ما هو خير وبخاصة للمسلمين"(2).
__________
(1) - Bernard Lewis. “ Western Civilization: A View from the East.” The 19th Thomas Jefferson Lecture in the Humanities. Sponsored by the National Endowment for the Humanities, May 2, 1990. P.23.
(2) -المرجع نفسه ص 24-25.(1/29)
ويعيد لويس الصراع بين الحركات الإسلامية والغرب إلى جذوره التاريخية في الصراع مع الحضارة اليونانية والرومانية ومن وجهة نظره "أن القرون الطويلة التي مر بها الإسلام جعلته يتحول إلى نموذج جامد من السلوك والاعتقاد، ولكن إذا كان المعدن أكثر صلابة، فكذلك المطرقة حيث أن التحدي اليوم أكثر تطرفاً بالمقارنة وأكثر عنفاً ونفاذاً، ولا يأتي ذلك من عالم مغلوب بل من عالم غالب"(1).
المناقشة :
لقد وقع لويس في عدة أخطاء منهجية في حديثه عن أصل الصراع بين الإسلام والغرب أولها المغالطات التاريخية، فالمواجهة الأولى بين الإسلام والنصرانية أو الغرب المتمثل في الدولة الرومانية كانت نقطة انطلاقة دعوة الإسلام، وكانت المواجهة قوية في الناحيتين المادية والعسكرية. أما المواجهة على صعيد العقيدة والفكر والحضارة فقد استطاع الإسلام احتواء هذه الحضارات بقوته الذاتية أولاً، وبالنموذج الإنساني الرفيع في التطبيق. أما المواجهة الحالية فتختلف جذرياً ذلك أن الغرب يفرض أو يحاول أن يفرض فكره وثقافته وحضارته وعقيدته ومسلماته بالقوة وبشتى الوسائل التي أتاحتها له التقنية الغربية. وأما زعمه أن استخدام الإسلام لقرون عديدة حوّله إلى نموذج جامد من السلوك والاعتقاد فأمر لم يقدم لويس دليلاً عليه كما لم يوضح معنى الجمود ولا يصف الإسلام بالجمود إلاّ جاهل به أو من يقصد تشويهه.
__________
(1) - Bernard Lewis. The Arabs in History. P. 177.(1/30)
ومن أخطائه المنهجية أيضاً نظرة الاستعلاء عند ما يصف لويس الإسلام بالمعدن الصلب ويصف الهجمة الغربية بالمطرقة، ويتأكد ذلك حين يصف المسلمين بالعالم المغلوب وهو هنا يخلط بين الإسلام وأوضاع المسلمين؛ إذ لا يمكن إنكار أن المسلمين في وضع المغلوب في العصر الحاضر، ولكن هذا لا ينطبق على الإسلام الذي هو رسالة الله الأخيرة لعباده وهو قوة الغد العالمية مهما كانت قوة المطرقة " الحضارة الغربية" وهو ما يؤمن به المسلمون للنصوص التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها (لا تقوم الساعة حتى لا يبقى بيت حضر أو مذر إلاّ وفيه شيء من لا إله إلاّ الله بعز عزيز أو ذل ذليل)، وكذلك حديث نزول عيسى وكسر الصليب وارتفاع راية لا إله إلاّ الله من جديد.. وغيرها من المبشرات.
وثمة أخطاء منهجية أخرى في حديث لويس عن عداء الحركات الإسلامية "الأصولية" للتحديث والعلمانية. وهذه من مزاعم لويس التي لم يقدم عليها الدليل بل إنه ناقض نفسه حينما ذكر أن الثورة الإيرانية مثلاً أخذت ببعض الوسائل الغربية في الحكم كالبرلمانات والتصويت. فالعداء للعلمانية قضية مسلم بها ذلك أن الإسلام لا يفصل بين الدين والحياة، وهو يعلم أن الإسلام منهج متكامل للحياة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي كل مجالات الحياة. أما العلمانية التي ترى أن ينحصر دور الإسلام في العبادات والطقوس فأمر لا شك أن الحركات الإسلامية تعاديه بل يعادي ذلك كل مسلم متمسك بدينه لأنه يتلو قول الحق سبحانه وتعالى { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين }(1/31)
وقد خلط لويس بين التحديث والتغريب فالمسلمون لم يكونوا قط ضد المدنيّة وإلاّ لما تعلم المسلمون في القرن الأول صناعة الأسلحة من الفرس والروم ثم تفوقوا عليهما. ولما أخذ المسلمون بكثير من أساليب الإدارة والحكم بعد أن هذبوها وفقاً للشريعة الإسلامية. وقد شهدت الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة الصناعات. والمسلمون يستندون إلى كتاب الله العزيز في الأخذ بأسباب المدنية وعمارة الأرض. ومن ذلك ما كتبه عبد الحميد بن باديس في تفسير قوله تعالى { أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } حيث فسرها بقوله: " والذي أفهمه ولا أعدل عنه هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع كالمعامل من العمل، وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران. وهل كثير على أمة توصف بما وصفت به في الآية أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؟ بل وإن المصانع لأول لازم من لوازم العمران وأول نتيجة من نتائجه"(1).
ونقف عند زعمه معاداة الحركات الإسلامية "الأصولية" للغرب، وبخاصة أمريكا التي تتزعم الغرب الآن فقد قدم جون اسبوزيتو- وهو حريص على مصلحة الغرب- شهادته أمام الكونجرس موضحاً أسباب هذا العداء وهي:
أولاً:أن أمريكا أخضعت كل سياساتها في المنطقة لصالح إسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي.
ثانياً: التدخل الأمريكي في صراعات محلية داخلية.
ثالثاً: فشل الولايات المتحدة في التمييز بين الحركات الإسلامية المعتدلة والمتشددة ووصم الجميع بالتطرف والعنف.
رابعاً: أن الأمريكيين يفترضون أن المزج بين الدين والسياسة سيؤدي إلى ظهور حركات استبدادية (2).
__________
(1) - عبد الحميد بن باديس .ابن باديس حياته وآثاره. جمع وإعداد عمار الطالبي ( الجزائر :1388هـ، 1968م)ج 4 س 68.
(2) - Islamic Fundamentalism in The Muslim World. Hearings of the 99th Congress in 1985.Testomony of John Esposito.(1/32)
نموذج لمنهج لويس في دراسة الحركات الإسلامية (الإخوان المسلمون)
يعرّف لويس حركة (الإخوان المسلمون) بأنها "جمعية نصف علنية واسعة الانتشار تقوم على أساس الخلايا السرية والفتوة ذات الطابع العسكري، وشبكات ضخمة واسعة من المؤسسات الثقافية الراديكالية"(1). وأنها كانت أقرب ويقول في بحث آخر إن بداياتها كانت غامضة، ولكن يبدو أنها نشأت في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات وأنها كانت مهتمة في البداية بالنشاطات الدينية والاجتماعية حيث بعث مؤسسها الدعاة إلى المساجد والأماكن العامة الأخرى في جميع أنحاء مص، وقد قام الإخوان بنشاط واسع في الميادين التعليمية والاجتماعية والخيرية والدينية في المدن والأرياف ، ومارسوا بعض الأعمال الاقتصادية. أما عن نشاطهم السياسي فيرى لويس أنه بدأ عام 1936م بعد توقيع المعاهدة المصرية وتبني قضية الفلسطينيين العرب ضد الصهاينة، وضد الحكم البريطاني واستطاعوا أن يمدوا نشاطاتهم إلى الدول العربية الأخرى (2)، وقال في موضع آخر إنها بدأت نشاطها السياسي بعد عام 1940م.
__________
(1) -لويس ، الغرب والشرق الأوسط ، ترجمة نبيل صبحي.(بدون ناشر) ص 173.
(2) - Lewis , “ The return of Islam.” Op. Cit.(1/33)
ويتناول لويس صلة الجماعة بالملك فاروق فيزعم أن الجماعة حظيت بدعم الملك الذي كان لا يحب الوفد ولكن بعد عودة متطوعي الجماعة من فلسطين بعد حرب 1948م وما قيل عن تدبيرهم لخطة للإطاحة بالملك فاروق قام الأخير بتوجيه ضربة إليهم بواسطة رئيس وزرائه النقراشي(1)، ويعلق لويس قائلاً يبدو أن الجماعة قد أصبح لديها قوة مسلحة قادرة على القيام بدور ما في الأحداث. ولهذا قام النقراشي بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها وإلقاء القبض على كثيرين من أعضائها. وقد اغتيل النقراشي عام 1948م، وبعد ذلك بقليل اغتيل المشرف العام في ظروف لم يتم الكشف عنها حتى الآن.(2)
كما تحدث لويس عن علاقة الجماعة بالثورة المصرية مشيراً إلى أن عدداً من الضباط المشاركين في الثورة كانوا قد انتموا إلى الإخوان ومنهم جمال عبد الناصر. وقد حلّت الثورة الجماعية في يناير 1954م، وجاءت المعاهدة ليعود الإخوان إلى إبداء تذمرهم من المعاهدة. وينسب لويس محاولة اغتيال جمال عبد الناصر إلى أحد الإخوان مما أدى إلى زيادة التوتر بين الإخوان والثورة ومحاكمة أعداد كبيرة منهم وتنفيذ الإعدام في ستة منهم ، وأصبح التنظيم غير شرعي ومع ذلك فقد استمر في نشاطه(3).
ويجمل لويس صورة (الإخوان المسلمون) بقوله: "والصورة التي تعكس الإخوان المسلمون هي صورة العنف والتعصب الأعمى، وليست كلها من صنع أيديهم، فلقد ضخمها وبالغ فيها أعداؤهم"(4).
المناقشة:
__________
(1) - لويس ، الغرب والشرق الأوسط. ص 174.
(2) - Lewis. “ The Return of Islam.” Op., Cit. P. 14.
(3) - برنارد لويس . " عودة الإسلام" في مجلة الدعوة (النمسا) ع 87، ذو الحجة 1403هـ سبتمبر 1983، ص 35.
(4) - Bernard Lewis. “ The Middle East and North Africa.” In Chamber’s Encyclopaedia World Survey, 1955. P.p. 306-312.(1/34)
كان لابد لبرنارد لويس أن يتحدث عن الإخوان المسلمون فهم من أكبر الحركات الإسلامية في العصر الحاضر إن لم يكونوا أكبر حركة إسلامية في العصر الحاضر، وقد أصبح لها امتدادها في جميع أنحاء العالم الإسلامي كما أن الإنتاج الفكري للمنتسبين لهذه الحركة يغطى مساحة واسعة من الإنتاج الفكري في العالم الإسلامي. ولم يكن لويس باحثاً أصيلاً مدققاً في ما كتبه عن هذه الحركة بالرغم من أنه سبقه عدد كبير من الباحثين الغربيين الذين كتبوا عن هذه الحركة. ولم تخرج بعض آراء لويس عن آراء من سبقه من المستشرقين.
وأول أخطائه المنهجية أنه ادعى أن بدايات الحركة كانت غامضة وأنه يمكن أن تكون قد تأسست في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، مع أن التاريخ الدقيق لهذه الحركة معروف تماماً منذ البدايات، وقد صدر لهذه الحركة العديد من الإصدارات من كتب ومجلات مما يجعل الباحث قادراً على تجلية هذه الأمور التي يدعي لويس غموضها. وهذا الخطأ المنهجي الذي يقع فيه لويس وغيره من المستشرقين إنما يقصد منه التقليل من شأن الموضوع مدار البحث فهو حين يضفي الغموض على قضية من القضايا يجعل ذلك مبرراً لوضع فرضاياته التي لا تستند إلى أي دليل، فليس من المعقول أن يجهل تاريخ حركة الإخوان وقد بدأت الدراسات الاستشراقية حول هذه الحركة في وقت مبكر.(1/35)
أما ربط قبول الشعب المصري لحركة الإخوان بكره الطبقات الكادحة المظلومة لمستغليها من السادة المتغربين مثلما تكره الغربيين أنفسهم، فثمة عدة أخطاء منهجية في ذلك أولها: التمسك بالتفسير المادي لأحداث التاريخ أو الأحداث المعاصرة، وهي شبهة قديمة أطلقها لويس وغيره على أوائل الذين اتبعوا الدين الإسلامي. وقد سبق لويس إلى هذه الفكرة اليهودي ناداف سافران الذي يقول عن الإخوان" وعندما سبب التدهور الاقتصادي بؤساً وفقراً في المجتمع المصري، قدمت الحركة للجماهير برنامجها الاجتماعي الذي تقوم عمده على مفهوم وحدة الأمة ومسؤولياتها الجماعية عن أحوال الأمة"(1). وممن قال بهذا الرأي جورج لينتشاوسكي حيث كتب يقول: "ولقد اتجه حسن البنا في بادئ الأمر إلى الطبقات المظلومة والفقيرة، ثم بعد ذلك انتشرت دعوته في الأوساط المثقفة. وهو منذ البداية يحاول أن يكسب تعاون ذوي النفوذ"(2).
__________
(1) - عبد الله الفهد .الإخوان المسلمون في الفكر الغربي. (عمّان : 1399هـ/1979م) ص 28 نقلاً عن
Nadaf Safran. Egypt in Search of Political Community: An Analysis of the Intellectual and Political Evolution of Egypt: 1804-1952: (Oxford: 1961)p. 199.
(2) - المرجع نفسه نقلاً عن: George Lenozowski. The Middle East in World Affairs.(Cornell:1962)3ed. Edition. p. 489 ……(1/36)
كانت دعوة الإخوان كما هو الحال في أي دعوة إلى العودة إلى الإسلام تتوجه إلى جميع طبقات الشعب ولا يعيبها أبداً إن توجهت للطبقات "الكادحة" و "المطحونة" أو الفقيرة لأن هذه الطبقات لم يفسدها التغريب، ولذلك فهي أقرب إلى قبول الحق والدعوة إلى الله. وقد كانت قيادة الأحزاب المتغربة تتظاهر بأنها تحارب الاستعمار فيما هي في الحقيقة تقلده، وتتبع خطواته، وقد صرح مانفرد هالبرن Manfred Halpern بأن الإخوان قد وعدوا بتوجيه معركتهم أساساً ضد الحكام والرأسماليين الأجانب(1)، ومع ذلك فقد توجه حسن البنا إلى جميع طبقات المجتمع وفي ذلك يقول البنا إنه عندما بدأ دعوته في الإسماعيلية كان قد قرر دراسة الناس والأوضاع دراسة دقيقة ومعرفة عوامل التأثير في هذا المجتمع الجديد، وقد عرفت أن هذه العوامل أربعة : العلماء أولاً، وشيوخ الطرق ثانياً ، والأعيان ثالثاُ، والأندية رابعاً(2).
ومن أخطاء لويس المنهجية تجاهل الحقائق فوصفه لجماعة الإخوان بأنها "نصف علنية" غير صحيح فالجمعية علنية ولم يقدم لويس الدليل على الافتراضات الأخرى التي ذكرها من الحديث عن الخلايا السرية والفتوة والطابع العسكري. ولكن جهل لويس للإسلام أو تجاهله له جعله ينظر إلى هذه الأمور هذه النظرة القاصرة. فالتدريب العسكري إن وجد عند الإخوان فإنه جزء من التربية الإسلامية فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أن استقر في المدينة المنورة حتى بدأ في إرسال السرايا من المهاجرين، ثم بدأت التدريبات العسكرية قريباً من جبل سليع بالمدينة المنورة في المنطقة التي كانت تعرب بباب الشامي.
__________
(1) - Manfred Halpern. The Politics of Social Change in The Middle East and North Africa. (Princeton:1963) P. 48.
(2) -حسن البنا. مذكرات الدعوة والداعية. (بيروت:1394-1974)ط3، ص 66.(1/37)
وقد حدد لويس بداية دخول جماعة الإخوان في المعترك السياسي بعام 1936م، أو بعد عام 1940م، فهذا التحديد التاريخي خطأ من أكثر من جهة وهو أن الإسلام لا يفصل بين السياسة والحياة. ألم يدرك لويس وغيره كيف أن القرآن الكريم تناول قضايا الحكم والسياسة في حديثه عن داود وسليمان عليهما السلام؟ ألم يدرك أن القرآن تحدث عن طالوت الذي جعله الله ملكاً على اليهود وكيف أنهم اعترضوا على ذلك بأنه لم يؤت سعة في المال؟ { ولم يؤت سعة من المال } (1). ألا يعلم لويس كم مرة ذُكر فيها فرعون في القرآن الكريم وأن كثيراً من السياقات التي وردت سياسية بحتة؟ ألا يعرف قصة يوسف عليه السلام وتوليه المسؤوليات المالية في مصر؟
وثانياً أن حركة الإخوان انطلقت من الإسماعيلية وكان هدفها الأول التأكيد على هوية الفرد المسلم وإشعاره بكيانه وذاتيته. وقد روى الشيخ حسن البنا نفسه العديد من القصص حول تحول العمال من تابعين أذلاء إلى موظفين يحرصون على كرامتهم(2). وقد بلغ ذلك عن طريق التعليم والخطب والمحاضرات والمواعظ وإنشاء المدارس والمساجد. وقد استطاع البنا أن يصل بدعوته في فترة التأسيس إلى خارج الإسماعيلية بإنشاء شُعَبٍ في عدة مناطق. كما واجهت الدعوة موجة من العداء شارك فيها بعض النصارى. وقد قوّم زكريا سليمان بيومي هذه الفترة الأولى وبين أن السياسة لم تنفصل مطلقاً عن فكرة الدعوة بقوله: " فقد أثبت الشعب المصري بتأييده السريع للإخوان استمرار تمسكه لا بالدين الإسلامي من حيث هو عقيدة وتراث وحضارة وتقاليد فحسب، وإنما لكونه فكرة سياسية كذلك"(3).
__________
(1) -سورة البقرة آية 247.
(2) - المرجع نفسه ص 85 وما بعدها.
(3) -زكريا سليمان بيومي .الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية 1928-1948.( القاهرة: 1399هـ/1979م) ص 84.(1/38)
وكان انتقال البنا بدعوته إلى القاهرة حدثاً سياسياً في حد ذاته، كما عقدت الجماعة مؤتمرين في عام واحد، تناول الأول منهما موضوع التنصير، وكان من توصياته إرسال خطاب إلى الملك فؤاد يطلب منه اتخاذ موقف ضد هذه الجماعات ويرى سليمان بيومي في هذا الأمر احتكاك البنا بالقوى السياسية في القصر باعتبارها مسؤولة عن الشؤون الدينية(1)، وقد فات بيومي أن الجماعات التنصيرية كان لها ارتباطاتها الخارجية وأنها كانت تقوم بدور سياسي. أما المؤتمر الثاني فقد اتخذ قراراً بإنشاء شركة طباعة، وبحث قضايا النشر والدعاية التعليمية(2).
وبعد سبعين سنة على بداية جماعة الإخوان المسلمون تتكرر الاتهامات لهذه الجماعات بالسعي للإطاحة بالأنظمة الحاكمة لتبرير ضرب هذه الحركات. فقد كان موقف الإخوان من الحكومة المصرية في العهد الملكي هو السعي إلى تطبيق الإسلام وتأييد الدعوة إليه وفي ذلك يقول البنا :"فموقفنا إذا من وزارة علي باشا ماهر هو موقفنا من أية وزارة، موقف قديم لا يتغير من الوزارات ولا بتبدل الوزراء، فمن أيد الفكرة الإسلامية وعمل لها واستقام في نفسه وفي بيته وتمسك بتعاليم القرآن في حياته الخاصة والعامة كنّا له مؤيدين ومشجعين….ولن نحدد موقفنا ولن نصدر حكماً إلاّ على أعمال لا أقوال"(3).
__________
(1) -المرجع نفسه ص 87.
(2) ريتشارد ميتشل. الإخوان المسلمون. ترجمة محمود أبو السعود وتعليق صالح أبو رقيق. ط2( القاهرة: 1979م) ص.84.
(3) -البنا، مذكرات الدعوة والداعية، مرجع سابق، ص 251-258 عن مجلة النذير عدد 27 في 6رجب 1358هـ.(1/39)
ويورد لويس بعض الحقيقة حين يعترف بأن صورة العنف والتعصب الأعمى التي يوصف بها الإخوان ليست كلها من صنع أيديهم حيث ضخمها وبالغ فيها أعداؤهم. فهذا يتضمن أن الإخوان يتحملون جزءاً من المسؤولية ، ولم يبد لويس رأيه فما إذا كان الإخوان فعلاً يتصفون بالعنف والتعصب وكن حديثه عنهم في أماكن متعددة من أنها حركة نصف علنية تعمل من خلال الخلايا السرية وغير ذلك يؤكد أن لويس لا ينفي التعصب والعنف عن الجماعة. ولكن هذه الافتراضات لا صحة لها لو درس لويس حياة الإخوان وفكرهم ومبادئهم. وكان على لويس المؤرخ الذي يدعي الموضوعية أن لا يكتفي بهذه العبارة الموجزة عن عنف الإخوان المزعوم فيوضح أن العنف كان سمة من سمة الحكومات في تعاملها مع الإخوان. ومن السهل على لويس وغيره من المستشرقين أن يصف الحركات الإسلامية بالعنف والاستبداد فهذا أمر طبيعي في رؤية الاستشراق للحركات الإسلامية عامة.
الخاتمة
الاهتمام بالفكر السياسي الإسلامي من أبرز الموضوعات التي تناولها المستشرقون بالبحث ذلك أن من أبرز ما يميز أمة عن أخرى هو فكرها السياسي وأوضاعها السياسية. ويرى الدكتور عبد الله النفيسي أن السياسة تؤثر في شؤون الحياة جميعها من تعليم واقتصاد وثقافة وتعليم وبرامج ثقافية وغير ذلك. وقد تحدث ابن باديس ذات مرة في تونس مشيراً إلى أن العلم لا ينهض بحق إلا ّ إذا نهضت السياسة . ولا تنفصل السياسة في الإسلام عن التصور العقدي لمكانة الإنسان في هذا الكون وعلاقته بعناصر الكون المختلفة .
وقد اهتم لويس بجانب الفكر السياسي انطلاقاً من تخصصه في التاريخ الإسلامي ولكنه وقع في العديد من الأخطاء المنهجية من أبرزها ما يأتي :
أولاً : إسقاط النظرة الغربية على الفكر السياسي الإسلامي.
ثانياً: إسقاط المصطلحات المعاصرة على قضايا فكرية
ثالثاً: تشويه الحقائق أو تجاهلها أو الجهل بها.(1/40)
رابعاً: اعتماد بعض المصادر التي لا يصح الاستناد إليها في بحث مثل هذه القضايا.
خامساً : الانطلاق من وجهات نظر مسبقة والبحث عن أدلة لها دون التحقق من صحة هذه الأدلة أو البراهين.
سادساً: تكرار أفكار وآراء غيره من المستشرقين دون الإشارة إليها كما فعل مثلاً مع افتراضاته حول حركة (الإخوان المسلمون)
سابعاً: عدم الاعتماد على المصادر الإسلامية الأصيلة بالنسبة للفكر السياسي الإسلامي ، كما أغفل لويس مصادر الحركات الإسلامية المعاصرة مثلما فعل في دراسته حول الإخوان المسلمين أو الحركات الإسلامية الأخرى( الأصولية )
…وقد ناقش البحث منهج لويس في دراسة الفكر السياسي الإسلامي وأوضح الأخطاء المنهجية التي وقع فيها. وأثبت الباحث أن للمسلمين فكر سياسي ينطلق من العقيدة الإسلامية ومن السوابق التاريخية منذ بداية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثم إنشائه الدولة في المدينة المنورة إلى قيام الخلافة الراشدة.
…ولا بد من الإشارة إلى أن البحث لم يتضمن بعض القضايا التي ناقشها لويس في الفكر السياسي الإسلامي مثل قيام الخلافة الإسلامية الراشدة وذلك لأن لويس لم يكن أصيلاً في هذا البحث حيث كرر شبهات وأخطاء غيره من المستشرقين من أمثال كايتياني وتوماس آرنولد ولامانس وغيرهم.
…إننا بحاجة إلى معرفة الفكر السياسي الإسلامي من مصادره في الوقت الذي تسعى الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية تصدير نموذجها وديموقراطيتها القائمة على الانتخابات التي تحددها المصالح المادية للقائمين على الحملات الانتخابية والشركات التي تمول هذه الحملات.
بينما يقوم الفكر السياسي الإسلامي على تولية الأصلح وفقاً للمعايير الإسلامية .(1/41)