فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته" (1) .
هذه خلاصة الأقوال في كلام الله (2) ،وبعضها - كما يلاحظ - قد يتشعب إلى أقوال أخرى، كما هي سنة الله في الاختلاف والافتراق أنه لا يقف عند حد معين.
والذي يهم من هذا الأقوال:
- قول الأشاعرة ومن تبهم.
- قول أهل السنة والجماعة، وموقفهم من مذهب الأشاعرة كما شرحه وأوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
رد شيخ الإسلام على الأشاعرة في كلام الله:
يلاحظ أن مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى يقوم على عدة أمور - بعد إثباتهم لصفة الكلام بإجمال ضمن الصفات السبع - فهم يقولون:
1- إنه معنى قائم بالنفس، دون الحروف والألفاظ. وهذا ما يسمونه بالكلام النفسي، ومن ثم منعوا أن يكون كلام الله بحرف وصوت.
2- وإنه قديم أزلي قائم بذات الله تعالى كحياته وعلمه، ولذا فهو لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته، ولا يتكلم إذا شاء متى شاء.
_________
(1) مجموع الفتاوى (12/243-244) .
(2) انظر فيما سبق من الأقوال: الجواب الصحيح (2/162-163، 3/94-103) ، مسألة الأحرف - مجموع الفتاوى - (12/42-52) ، والمسألة المصرية - مجموع الفتاوى (12/163-173) ، ومنهاج السنة (2/278-286) ط دار العروبة المحققة (3/104-107) ط بولاق، درء التعارض (2/255) ، شرح الأصفهانية (ص:341) ت العودة، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/165-166) ، والنبوات (ص:202) ط دار الكتب العلمية، ومجموع الفتاوى (9/283-285) . وانظر: مختصر الصواعق (2/286-293) ، وشرح الطحاوية (ص:179-180) ط المكتب الإسلامية الرابعة، وقد اعتمد شارح الطحاوية في نقل الأقوال على ما في منهاج السنة (2/278-286) . ط در العروبة، ت رشاد سالم.(3/1259)
3- وإنه معنى واحد لا يتجزأ، هو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي عنه، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً.
4- إن القرآن العربي عبارة عن كلام الله، إن القرآن العربي عبارة عن كلام الله، وهو مخلوق، أتى به جبريل أو محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو أوجده الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ. ودعموا مذهبهم هذا بمذهب اللفظية الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ولما كان الإمام أحمد وهو إمام أهل السنة قد أ، كر على الطائفتين وبدعهم: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال لفظي به غير مخلوق، لما في ذلك من اللبس وخلط الحق بالباطل - قالت الأشعرية: إن الإمام قصد باللفظ: النبذ والطرح، ولم يقصد التلاوة، وإنه قصد إنكار هذا المعنى على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق (1) .
5- إن تكليم الله لملائكته وتكليمه لموسى، وتكليمه لعباده يوم القيامة، ومناداته لمن ناداه، إنما هو خلق إدراك في المستمع أدرك به ما لم يزل موجوداً (2) .
وقد جاءت مناقشة شيخ الإسلام وردوده على الأشاعرة في هذه المسائل متنوعة وكثيرة، إما في رسائل مستقلة أو ضمن كتبه المطولة، وأهمها ما جاء في كتبه التالية:
1- قاعدة في القرآن وكلام الله.
2- مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم.
3- المسألة المصرية في القرآن.
4- الكيلانية.
وهذه - مع رسائل وفتاوى غيرها - موجودة ضمن الجزء الثاني عشر الخاص بالقرآن، من مجموع الفتاوى.
_________
(1) انظر في مسألة "اللفظ" ومذهب الأشعرية فياه وفي المقصود بكلام الإمام أحمد: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/359-364) .
(2) انظر: درء التعارض (2/305-306) .(3/1260)
5- التسعينية. وقد اشتملت على مناقشة للأشاعرة من ثمانية وسبعين وجها (1) ، كلها للرد عليهم حول كلام الله. وهي مناقشات فريدة في هذا الباب.
ويمكن ذكر منهجه في ذلك كما يلي:
أولاً: نشأة قول الأشاعرة في كلام الله، وأسبابه:
قلما يعرض شيخ الإسلام لمسألة كلام الله وأقوال الكلابية والأشاعرة فيه إلا ويعرض لنشأة مذهبهم في ذلك، تلك النشأة التي أصبحت تمثل مذهبا خاصا بهم، تميزوا به عن غيرهم.
وقد بين شيخ الإسلام أن قول الأشاعرة في كلام الله جزء من مذهبهم في الصفات الاختيارية القائمة بالله، والتي نفوها لأجل دليل حدوث الأجسام والأعراض الذي استدلوا به على حدوث العالم - وقد سبق شرحه عند الكلام على توحيد الربوبية، وعلى ما نفوه من الصفات - وأول من ابتدع مقالة نفي الصفات الفعلية القائمة بالله ومقالة القول بقدم كلام الله وأنه معنى واحد ليس بحرف ولا صوت ابن كلاب، وتبعه على ذلك الأشاعرة.
فإن الناس قبل ابن كلاب كانوا في الصفات على قولين:
- قول أهل السنة الذين يثبتون جميع الصفات، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام والوجه واليدين والعين والمجيء والنزول والاستواء والغضب والمحبة وغيرها، دون أن يفرقوا بين صفات الذات، وصفات الفعل المتعلقة بمشيئته وقدرته.
- وقول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون جميع هذه الصفات دون تفريق.
_________
(1) عرض شيخ الإسلام في بداية التسعينية لبعض المتعلقة بمحنته في مصر، وموقفه منها، وأهمها مسألة العلو والجهة ومسألة كلام الله، وبدأ في (_ص:30) مناقشة مسألة كلام الله والحرف والصوت، وفي (ص:138-143) نقل كلام الرازي في نهاية العقول، ثم رد عليه من ثمانية وسبعين وجها (ص:143-241) .(3/1261)
- ولم يكن هناك قول ثالث غيرهما حتى جاء ابن كلاب فأثبت لله الصفات المعنوية والذاتية كالعلم والإرادة والكلام والوجه واليدين، ونفي ما يتعلق بمشيئته وإرادته مما يقوم بذاته، من الصفات الاختيارية. وتبعه على ذلك الأشعري وجمهور الأشاعرة.
وكذلك كانوا في كلام الله على قولين:
- قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره. ولذلك قالوا بخلق القرآن.
- قول أهل السنة الذين يثبتون صفة الكلام وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه كلم موسى، ويكلم عباده يوم القيامة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا شامل لحروفه ومعانيه، وأن نوع الكلام قديم وجنسه حادث بناء على أن الله يتكلم بمشيئته وإرادته.
- ولم يكن هناك قول ثالث حتى جاء ابن كلاب فابتدع القول بأن كلام الله قديم، وأنه معنى واحد، وأنه لا يتعلق بمشيئة الله وإرادته.
يقول شيخ الإسلام في جواب سؤال عن أن القول بأن كلام الله قديم، لا بصوت ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله، هو قول الأشعرية - فقال: "هذا صحيح ولكن هذا القول أول من قاله في الإسلام عبد الله بن كلاب، فإن السلف والأئمة، كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات، والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته. والجهمية تنكر هذا وهذا، فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة، وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته ... " (1) ، ثم ذكر أن الأشعري وافق ابن كلاب على قوله.
وابن كلاب والأشعري إنما ابتدعا هذا القول - في كلام الله وفي الصفات الاختيارية - لتقصيرهما في علم السنة، وتسليمهما للمعتزلة أصولا فاسدة، فصارا يوافقان المعتزلة في بعض أصولهم وإن لم يكونا موافقين لهم بإطلاق (2) .
_________
(1) المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى - (12/178) .
(2) انظر: الاستقامة (1/212) .(3/1262)
وقد نقل شيخ الإسلام نصا لأبي نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد - والتي تسمى باسم: الرد على من أنكر الحرف والصوت - بين فيه نشأة قول ابن كلاب ومن اتبعه في كلام الله فقال: "اعلموا - أرشدنا الله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم - الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة، وهم معهم، بل أخس منهم في الباطن - من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا، ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف متسقة، وأصوات مقطعة، وقالت [العرب] (1) - يعني علماء العربية (2) -: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا.
فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة، ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك، زعما منهم أنها أخبرا آحاد وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة أن الإتفاق (3) حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف ... قالوا: فعلم بهذه الجمة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: خلق الله، وعبد الله، وفعل الله.
فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فإلتزموا ما قالته المتزلة، وركبوا مكابرة العيان، وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر،
_________
(1) ليست في درء التعارض، وهي في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص:89) - ط على الآلة الكاتبة.
(2) شرح من شيخ الإسلام.
(3) هكذا في الرد على من أ، كر الحرف والصوت (ص:90) ، والذي في درء التعارض (2/84) [وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل ... ] .(3/1263)
وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمى ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما عمل دخوله على هذا الحد، فزاد فيه: "تنافي (1) السكوت والخرس والآفات المانعة فيه (2) من الكلام، ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة تشبيه، وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل:
إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا (3)
فغيروه وقالوا:
إن الكلام من الفؤاد (4) " (5) .
ثم نقل شيخ الإسلام نصوصا أخرى للسجزي وللكرجي، ولأبي حامد الإسفراييني الذي اشتهر عنه مخالفة ابن كلاب والأشاعرة في مسألة كلام الله، التي تطرق إليها في أصول الفقه عند الكلام على صيغ الألفاظ، وأن الأمر هل هو أمر لصيغته أو لقريبنة تقترن به (6) .
_________
(1) في الرد على من أنكر الحرف [ما ينافي] .
(2) [فيه] ليست في الرد على من أنكر الحرف.
(3) لم أجده في ديوانه - صنعة السكري - وكثيرا ما يورده الأشاعرة في كتبهم. انظر التمهيد للباقلاني (ص:251) ت مكارني، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص:75) ، وغاية المرام (ص:97) ، وذكر المحقق في الحاشية أن بعض طابعي ديوان الأخطل أضافوا هذا البيت إلى ما نسب غليه. وانظر الرد على من أ، كر الحرف والصوت (ص:92-93) - حاشية المحقق. وقال شيخ الإسلام في الإيمان (ص:132) ط المكتب الإسلامي: "من الناس من أنكر أن يكون هذا من شعره، وقالوا: إنهم فتشوا دواوينه فلم يجدوه. وهذا يروى عن أبي محمد الخشاب. وقال بعضهم: لفظه: إن البيان لفي الفؤاد ... "، وانظر: مجموع الفتاوى (6/296-297) .
(4) في الرد على من أ، كر الحرف والصوت (ص:92) :
أن الكلام من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الكلام دليلا
(5) درء التعارض (2/83-86) ، وقارن بالرد على من أنكر الحرف والصوت (ص:87-92) . ط على الآلة الكاتبة.
(6) انظر: درء التعارض (2/95-108) .(3/1264)
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على هذه النصوص التي نقلها، مبينا الأصل والسبب الذي حدا بابن كلاب والأشعري إلى أن يقولا في كلام الله ما قالا، - قال -: "وإنما اضطر ابن كلاب والأشعري ونحوهما إلى هذا الأصل، أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، لا فعل ولا تكلم ولا غير ذلك، وقد تبين لهم فساد قول من يقولك القرآن مخلوق، ولا يجعل لله تعالى كلاما قائماً بنفسه، بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره، وعرفوا أن الكلام لا يكون معفولا منفصلا عن المتكلم، ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه، بل إذا خلق الله شيئاً من الصفات والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل، لا لله، ... وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف، مثل أهل الحديث والسنة، ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم، ولازم هذا أن من قال: القرآن العربي مخلوق، أن لا يكون القرآن العربي كلام الله، بل يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه ...
والمقصود هنا: أن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه، كما قال الأئمة: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقالوا: "منه بدأ" ردا على الجهمية الذين يقولون: بدأ من غيره. ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الزمر:1) وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (السجدة: من الآية13) وأمثال ذلك.
ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل، وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدوراً له متعلقا بمشيئته، بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة، فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا مالا يكون مقدوراً مرادا، قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحد، مل يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفا من إثبات مالا نهاية له، فاحتاجوا أن يقولوا معنى واحدا، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم.(3/1265)
وأنكر الناس عليهم أمورا:
- إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر.
- وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنزل ليس هو كلام اله.
- وإن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها، فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن.
- وإن الله لا يقدر أن يتكلم، ولا يتكلم بمشيئته وإختياره.
- وتكليمه لمن كلمه من خلقه - كموسى وآدم - ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم، فالتكليم هو خلق الإدراك فقط.
ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود، فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع، كما يقوله أبو الحسن.
ومنهم من يقول: بل كلام الله لا يسمع بحال، لا منه ولا منه غيره؛ إذ هو معنى، والمعنى يفهم ولا يسمع، كما يقوله أبو بكر ونحوه.
ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القارئ مع صوته المسموع منه، كما يقول ذلك طائفة أخرى.
وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة، وإنما الجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير، وإذا انتفى اللازم انتفي الملزوم ... " (1) .
فهذه الأصول الفاسدة - مع عدم المعرفة التامة بأصول السنة - هي التي أوقعت الكلابية والأشعرية في هذه البدعة الكبرى في كلام الله، كما شرحه قبل قليل السجزي المتوفي سنة 44هـ، ثم بينه وزاده تحقيقا شيخ الإسلام ابن تيمية.
_________
(1) درء التعارض (2/111-115) .(3/1266)
ومما سبق يتبين أن هذا القول بقدم القرآن وأنه معنى واحد أول من ابتدعه ابن كلاب (1) ، وأن الذين اتبعوه في أقواله في كلام الله - بناء على نفي الصفات الاختيارية القائمة بالله - طائفتان:
الطائفة الأولى: الأشارعة من اتبعهم، وهؤلاء قالوا بقول ابن كلاب تماماً، ولم يخالفوه إلا في ثلاث مسائل:
أإحداها: مسألة أزلية الأمر والنهي، أي هل كان في الأزل آمرا وناهيا؟ أو صار آمرا ناهيا بعد أ، لم يكن، أي عند وجود المأمور والمنهي.
الأول: وهو القول بأزلية الأمر والنهي هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (2) .
ب والثانية: أن الكلام مع القول بقدمه وأزليته وأنه معنى واحد: هل هو صفة واحدة، أو خمس صفات، الأول هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (3) .
ت والثالثة: أن القرآن حكاية عن كلام الله عند ابن كلاب، وعبارة عنه عند الأشعري.
والطائفة الثانية: السالمية ومن اتبعهم، جعلوا الأزلية للحروف والأصوات، ليجمعوا بين: موافقة ابن كلاب على نفي أن تقوم بالله الصفات الاختيارية،
_________
(1) انظر في ذلك: شرح الأصفهانية (ص:324-325) ت السعوي، ومجموع الفتاوى (12/301-302) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/533،552-553) .
(2) انظر ما سبق (ص:450) في ترجمة ابن كلاب، وانظر الكيلانية - مجموع الفتاوى (12/376) .
(3) انظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/376) ، وانظر أيضاً: في مذهب الكلابية والأشعرية في كلام الله: درء التعارض (2/172-173، 304-307) ، شرح الأصفهانية (ص:27) ت مخلوف، التسعينية (ص:85-87) ، مجموع الفتاوى (6/251، 7/662، 12/245-526) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/53، 86-87) ، الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/392) .(3/1267)
وموافقة الجمهور على أن الكلام ألفاظ ومعاني (1) .
وابن كلاب ومن اتبعه من هاتين الطائفتين مخالفون لأقوال جمهور السلف وأئمة الحديث والسنة، بل وجمهور العقلاء.
ومما سبق من بيان نشأة قول الأشاعرة في كلام الله وأسبابه والأصول التي قادتهم إلى أقوالهم يتبين ما يلي:
1- أن قولهم هذا مبتدع في الإسلام، خالفوا فيه إجماع الناس.
2- أن ادعاء الأشاعرة أن قولهم موافق لقول السلف غير صحيح؛ لأن مذهب السلف كان معروفا قبل ابن كلاب، ولما ابتدع مقالته تلك اشتد نكير جماهير اسلف عليه وعلى أتباعه.
3- أن أتباع ابن كلاب انقسموا إلى طائفتين: الأشعرية، والسالمية، وكل طائفة تطعن في قول الطائفة الأخرى. وهذا يدل على بطلانهما جميعاً.
4- بطلان دعوى الإجماع التي ادعوها على صحة قولهم (2) .
ثانياً: الرد عليهم في قولهم بالكلام النفسي:
أثبت الأشاعرة - بإجمال - صفة الكلام لله، وقالوا - خلافا للمعتزلة والجهمية وغيرهم من النفاة - إن هذه الصفة ثابتة، قائمة بالله تعالى، ولكنهم فسروها بأنها معنى يقوم بذات الله، لازم له أزلا وأبدا، وسموا هذا المعنى بالكلام النفسي، وقالوا إن هذا المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سر وعلانية، ولا يكون منه شيء في نفس الرب وشيء منه عند الملائكة، بل اسماع الملائكة أو غيرهم لكلامه إنما هو خلق إدراك لهم فقط (3) .
_________
(1) انظر في قول هذه الطائفة ومناقشتها: منهاج السنة (2/101-102) ط مكتبة الرياض الحديثة، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/370-371) ، التسعينية (ص:96-101) ، منهاج السنة (3/105) ط بولاق، شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/556-557) ، ومجموع الفتاوى (9/284) .
(2) أطال شيخ الإسلام في مناقشة هذه الدعوى، فناقشها في التسعينية، الأوجه: (8-11، 26-29) ، انظر الصفحات (147-151، 169-172) . وهي مناقشات مهمة جدا ناقش فيها أيضاً منهج الأشاعرة وأهل الكلام في دعواهم الإجماع على أقوالهم.
(3) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/52) .(3/1268)
فحصروا الكلام بما يقوم بالنفس، وأنه لازم للذات لا ينفك عنها، وأن الألفاظ والحروف ليست كلاما. وقد احتجوا لأقوالهم بعدة حجج منها:
1- قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِم} (المجادلة: من الآية8) .
2- وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} (لأعراف: من الآية205) .
3- قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الملك:13) . فسمى الإسرار قولا.
4- وقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} (آل عمران: من الآية41) .
وقو عمر - رضي الله عنه -: "زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها" (1) .
6- وقول الأخطل السابق:
إن الكلام لفي الفؤاد ... ..
هذه أهم حججهم على الكلام النفسي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجج، وبين أنه لا دليل لهم فيها:
1- أما قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (المجادلة: من الآية8) فعنه جوابان:
أحدهما: أن المراد أنهم قالوه بألسنتهم سرا، وحينئذ فلا حجة لهم فيه. وهذا هو الذي ذكره المفسرون، حيث كانوا يقولون: سام عليك، فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أي يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيا عذبنا بقولنا له ما نقول (2) .
_________
(1) رواه البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلي من الزنا إذا أحصنت، حيث ساق حديث السقيفة بطوله، ورقمه (6830) (الفتح 12/144-145) ، ورواه أ؛ مد (1/55-56) ، ورقمه عند أحمد شاكر (391) .
(2) انظر: الإيمان (ص:129) ط المكتب الإسلامي، ومجموع الفتاوى (15/35) .(3/1269)
والثاني: إنه قيده بالنفس، وهذا على أن المقصود أنهم قالوه بقلوبهم، وإذا قيد القول بالنفس كان دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق، والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل" (1) ، وهذا رد عليهم مطلقاً لأنه قال "ما لم تتكلم" فدل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق.
2- وأما قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَة} (لأعراف: من الآية205) فالمقصود الذكر باللسان لأنه قال (تضرعا وخيفة ودون الجهر منالقول) ، ومن استقراء النصوص يتبين أن الذي يقيد بالنفس لفظ "الحديث"، مثل الحديث السابق: "وما حدثت به أنفسها"، أما لفظ "الكلام" فلم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط (2) .
3- أما قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ} (الملك: من الآية13) واحتجاجهم على أن القول المسر في القلب دون اللسان لقوله تعالى في آ×ر الآية {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، ف-"هذه حجة ضعيفة جداً، لأن قوله {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ} يبين أن القول يسر به تارة، ويجهر به أخرى، وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة، وقوله بعد ذلك: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه إذا كان عليما بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى" (3) .
4- أما قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} (آل عمران: من الآية41) فقد ذكر في مريم {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} (مريم: من الآية10) والمعنى: آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزاً" (4) .
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا خنث ناسيا في الأيمان ورقمه (6664) (الفتح 11/548-549) ، ومسلم، كتاب الأيمان باب تجاوز الله عن حديث النفس ورقمه (127) .
(2) انظر: ألإيمان (ص:130) .
(3) مجموع الفتاوى (15/36) ، وانظر: الإيمان (ص:130) .
(4) الإيمان (ص:131) .(3/1270)
5- أما قول عمر في قصة السقيفة "زورت في نفسي مقالة" فهي حجة عليهم، لأن التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته، "فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أ، يقوله ولم يقله، فعلم أنه لا يكون قولا إلا إذا قيل باللسان، وقبل ذلك لم يكن قولا، لكن كان مقدرا في النفس، يراد أن يقال، كما يقدر الإنسان في نفسه أنه يحج وأنه يصلي، وأنه يسافر، إلى غير ذلك، فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس، ولكن لا يسمى قولا وعملا إلا إذا وجدت في الخارج ... (1) " وهذا يدل عليه الحديث السابق: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل.
6- أما البيت المنسوب للأخطل، ففيه ما فيه من ناحية صحة نسبته إليه، حتى ألفاظ البيت حرفت لتوافق مقصود من استشهد هب من أهل الكلام، وقد تعجب شيخ الإسلام من هؤلاء الذين يحتجون بهذا البيت الذي قاله نصراني، ولم يثبت عنه - فقال: "ولو احتج محتج في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول، وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح لا واحد وأكثر من واحد، ولا تلقاه أهل العربية بالقبول (2) ، فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة، فضلا عن مسمى الكلام" (3) ، وقد أطال شيخ الإسلام في المناقشة ما يشفي ويكفي (4) .
هذه أدلة الأشاعرة النقلية واللغوية على قولهم بالكلام النفسي، مع بيان بطلان استدلالهم فيها، وبيان أنها في الرد عليهم أقرب من أن تكون دليل لهم.
وشيخ الإسلام لم يقتصر مثل هذه الردود، وإنما ناقش حقيقة مذهبهم في الكلام النفسي، وأن قولهم فيه باطل، وقد جاءت هذه المناقشة المهمة في التسعينية
_________
(1) الإيمان (ص:131-132) ط المكتب الإسلامي.
(2) بحثت عن هذا البيت في لسان العرب - من خلال فهارسه المطولة التي بلغت سبعة مجلدات- فلم أجده، وكذا في كتب اللغة الأخرى.
(3) الإيمان (ص:132) .
(4) انظر: المصدر السابق (ص:132-134) .(3/1271)
من خلال عدد من الأوجه (1) ، ويمكن تلخيص مناقشاته هذه بما يلي:
اعترض على دعوى الأشاعرة بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس فقيل لهم: أنتم قتلم إن الكلام هو الخبر والأمر والنهي، وأن ذلك كله معنى يقوم بالنفس، فيقال لكم إذا كان الكلام عندكم لا صيغة له فما الفرق بين الخبر والعلم، وبين الأمر والنهي والإرادة؟ لأن الخبر - بدون صيغة وألفاظ - ليس غير العلم الذي يقوم بالنفس، وكذا الأمر والنهي - بغير صيغة ولفظ الأمر والنهي - ليس غير الإرادة التي تقوم بالنفس. وإذا صح هذا كان إثباتكم للكلام النفسي على أنه الخبر والأمر والنهي إنما يرجع إلى صفتي: العلم والإرادة، والنتيجة أن قولكم يؤدي إلى إنكار صفة الكلام، لأن ما أثبتموه من الكلام النفسي لم يكن غير العلم والإرادة.
أجاب الأشاعرة عن ذلك - كما يعبر عنهم الرازي - بما يلي:
أبالنسبة للخبر أن قالوا بأن الإنسان قد يحكم بما لا يعتقده ولا يظنه، أي أنه قد يخبر بخبر هو فيه كاذب، مع علمه بخلاف الخبر، فيكون أ×بر بخلاف علمه. وهذا يدل على مغايرة الخبر للعم.
ب وبالنسبة للأمر والنهي قالوا: إن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد، فالله أمر الكافر بالإيمان ولم يرده منه كونا، ونهاه عن الكفر، وأراده منه كونا، قاولا فهذا يدل على أن الأمر والنهي قد يكون مغايرا للإرادة (2) .
وقد نوقش الأشاعرة في جوابهم بما يلي:
أأجاب بعضهم بأن الخبر يؤول إلى العلم، بناء على أن بعض الناس قال في الكلام إن الأمر والنهي يؤول إلى الخبر، وإذا كان كذلك فلم لا يؤول الخبر أيضاً إلى العلم. ولكن شيخ الإسلام ضعف هذا الجواب بناء على أن الإنسان يجد في نفسه فرقا بين الطلب والخبر (3) .
_________
(1) انظر: التسعينية الوجه الثاني عشر إلى الوجه الخامس والعشرين (ص:151-169) .
(2) انظر: التسعينية (ص:140-154) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص:152-154) الوجه الخامس عشر.(3/1272)
ثم إنه أجاب عن ذلك بأن الرازي والأشاعرة إذا كانوا قد أجابوا عن مسألة الأمر والنهي بأن الله قد يأمر بما لا يريد - ومعهم في هذا حق بالنسبة للإرادة الكونية - إلا أنهم لم يمكنهم أن يقولوا: إن الله أخبر بما لا يعلمه، أو بما يعلم ضده، بل علمه من لوازم خبره ولهذا أخبر الله تعالى عن رسوله بأن القرآن لما جاءه، جاء العلم فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (آل عمران: من الآية61) وقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (البقرة: من الآية120) ، وهذا مما احتج به الأئمة على تكفير من قال بخلق القرآن، لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم، وقول المتعزلة يستلزم أن يكون علم الله مخلوقا (1) .
أما دعوى أن الإنسان قد يحكم أو يخبر بخلاف علمه - وهي حجة الرازي التي سبقت - فإن شيخ الإسلام رد عليها من وجوه:
أحدها: أن الأشاعرة أنفسهم قد أقروا بفسادها؛ وذلك "أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله، وامتناع الجهل، وهذا الدليل قد ذكره جميع أئمتهم حتى الرازي ذكره - لكن قال: إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه - وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، بل يعلم خلافه، امتنع حينئذ أن يقال: الحكم النفساني مستلزم للعلم، أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبا. وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء، ليس تاقضا من جهة اللزوم ... " (2) ، ووجه التناقض واضح فإنهم لما أرادوا أن يقولوا أن الخبر قد يغاير العلم استدلوا بأن الإنسان قد يحكم ويخبر بخلاف علمه مما هو كذب، فيكون خبره مخالفا لعلمه، ثم قالوا في الاستدلال على أن الله صادق أن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب اعلم لله وامتناع الجهل، وعليه فيمتنع أن يكون في خبر الله ما يخالف علمه، وهذا يناقض القول السابق
_________
(1) انظر: التسعينية (ص:154) .
(2) التسعينية (ص:155) ، وانظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/129) .(3/1273)
بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه، وإذا علم أن أصل المسألة إنما يتعلق بخبر الله وعلمه لا خبر الإنسان وعلمه بأن تناقضهم، ولم يدهم شيئاً كون ذلك قد يقع للإنسان، لأنهم إنما احتجوا بذلك ليتوصلوا به إلى صحة مغايرة الخبر للعلم بالنسبة لله، وهم يقولون إن خبر الله لا يخالف علمه.
الثاني - تناقضهم أيضاً في مسألة الإيمان، فإنهم يقولون - كما يقول الجويني - "إن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس، ولا يثبت كلام النفس إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد" (1) ، قال شيخ الإسلام مبينا تناقضهم: "وهذا تصريح بأنه لا يكون [أي الإيمان والتصديق] مع عدم العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعم" (2) ، ويلاحظ هنا أن الجويني صرح بأن التصديق - على التحقيق - كلام النفس، ثم صرح بأنه لا يكون النفس إلا مع العلم. وهذا مناقض تماما لما ذكروه في الكلام النفسي.
ولبعض الأشاعرة تناقض آخر في مسألة الإيمان، حيث صرح أبو إسحاق بأن الإيمان هو التصديق، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار، وإذا كان من المعلوم أن الإقرار إنما يكون باللسان، كن هذا مناقضا لما ادعوه من أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس (3) .
الثالث: أن دعواهم - في مغايرة الخبر للعلم - بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه مما هو كذب "يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات كلام له يجوز أن يكون صدقا أو كذبا، بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلا وهو كذب؛ فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني
_________
(1) الإرشاد للجويني (ص:397) ، وهو في التسعينية (ص:157) .
(2) التسعينية (ص:157) ، وانظر بقية المناقشة إلى ص:162.
(3) انظر: التسعينية (ص:160-161) .(3/1274)
إلا ما كان كذبا، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفرا باطلا خلاف مقصودهم، وخلاف إجماع الخلائق، إذ أحد لا يثبت لله كلاما لازما لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نلم وجود معنى نفسانيا صدقا غير العلم ونحوه لا شاهدا ولا غائبا" (1) .
الرابع: أنه الله تعالى قال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: من الآية33) "فنفي عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أالتكذيب باللسان لم يكن منتفيا عنهم، فعلم أنه نفي عنهم تكذيب القلب، ولو كان المكذب الجاحد علمه يقوم خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفي عنهم تكذيب القلوب علم أن الجحود الذي هو ضرب من الكذب، والتكذيب بالحق المعلوم - ليس هو كذبا في النفس ولا تكذيبا فيها، وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه" (2) ، وقد اعترض على هذا باعتراض أجاب عنه شيخ الإسلام (3) .
ولشيخ الإسلام مناقشات وأوجه أخرى في الرد (4) . وبهذه الأوجه يتبين أن ما ادعاه الأشاعرة من أن الخبر يغاير العلم غير صحيح بالنسبة لله، وإذا ثبت هذا تبين أن إثباتهم للكلام النفسي ليس شيئاً غير صفة العلم، فأين صفة الكلام التي أثبتوها مغايرة لصفة العلم؟.
ب أما بالنسبة لقولهم في مغايرة الأمر والنهي للإرادة بأن الله قد يأمر بما لا يريد، فقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأجوبة منها:
الأول: أنه احتج بإرادة الكائنات، وهذا في الإرادة الشاملة لكل موجود المنتفية عن كل معدوم وهي الإرادة الكونية القدرية، وهذه ليست الإرادة التي هي مدلول الأمر والنهي، لأن هذه مستلزمة للمحبة الرضا. وقد جاءت
_________
(1) التسعينية (ص:162) ، وانظر (صك163) .
(2) المصدر السابق (ص:165) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص:165-166) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص:166-169) .(3/1275)
النصوص بالتفريق بن الإرادتين، فالكونية مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: من الآية125) والثانية مثل قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: من الآية6) ، وغيره كثير (1) .
الثاني: أن احتجاج الرازي بإرادة الكائنات - وهي الإرادة الكونية - وأن الله قد يأمر بما لا يريد - معارض بأن النهي مستلزم لكراهة المنهي عنه، كما أن الأمر مستلزم لمحبة المأمور به، والمكروه لا يكون مرادا - شرعا -. والمنهي عنه إذا وقع - يعتوره أمران:
- أنه مراد إرادة كونية شاملة.
- وأنه غير مراد الإرادة الدينية، بل هو مكروه.
فالإرادة المنفية عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له، وكل منهي عنه وإن كان مرادا فهو مكروه والكراهة مستلزمة له، فإجابة الرازي بأن إرادة الكائنات فهيا ما هو منهي مردودة بأن ما كان منها منهيا عنه فهو مكروه، فزلمت الكراهية النهي وإن كان مرادا كونا وهذا يضعف احتجاجه بأن الله قد ينهي عما يريد. وقد أجاب الرازي بقوله: لا نسلم أنها مكروهة، بل هي منهي عنها. ولكن هذا الجواب مخالف لإجماع المسلمين بل لما علم بالضرورة من الدين، والله تعالى يقول: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (الاسراء:38) (2) .
الثالث: أن الرازي لما طولب بالفرق بين الطلب والإرادة ذكر وجهين ضعيفين، ذكرهما شيخ الإسلام وناقشهما (3) .
_________
(1) انظر: التسعينية (ص:151) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص:152) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص:151-152) .(3/1276)
ومع ذلك فإن شيخ الإسلام قد ذكر أن تفريق الأشاعرة بني الخبر والعلم ليس عندهم فيه أي دليل صحيح، بخلاف تفريقهم بين الأمر والنهي وبين الإرادة، بأن الله قد يأمر بما لا يريد، مع ما في هذا الدليل مما سبق بيانه (1) .
وبما سبق من مناقشة أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي، وما تلاه من اعترض عليهم بأنه لا فرق بين الخبر والعل، ولا بين الأمر والنهي والإرادة، ما داموا حصر الكلام بأنه ما قام بالنفس فقط، فصفتا العلم والإرادة تقومان مقامه.
ثالثاً: الرد عليهم في قولهم بقدم الكلام وأن الله لا يتكلم بمشيئته:
وهذا مبني - كما سبق - على نفيهم لقيام الصفات الاختيارية بالله، فقالوا بقدم الكلام ومنعوا أن يكون الله يتكلم إذا شاء متى شاء، ومذهب أهل السنة والجماعة إن الله لم يزل مت كلما إذا شاء، وأن كلام اله لآدم أو لموسى أو للملائكة، كل في وقت تكليمه ومناداته، أي أنه تعالى لم يناد موسى قبل خلقه ومجيئه عند الشجرة، وإن كانت صفة الكلام أزلية، وقد بنى أهل السنة مذهبهم على مقدمتين:
- على أن الأمور الاختيارية تقوم بالله.
- وعلى أن كلام الله لا نهاية له كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:109) وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} (لقمان: من الآية27) (2) .
وقد ذكر السلف - توضيحا لمذهبهم، وتميزاً له عن مذهب الكلابية والأشعرية ومن اتبعهم - أن الله يوصف بالسكوت، وأنه إذ اشاء تكلم وإذا شاء سكت، وكان من أشهر ما وقع في ذلك قصة ابن خزيمة مع الكلابية
_________
(1) انظر: التسعينية (ص:154-155) .
(2) انظر: منهج السنة (2/98) ط مكتبة الرياض الحديثة.(3/1277)
- وكان ممن اعتنق مذهبه بعض تلامذته - فجرت ذكرها الحاكم في تاريخ نيسابور، ونقلها وعلق عليها شيخ الإسلام (1) ، وأشار أبو إسماعيل الأنصاري إلى هذه القصة في مناقب أحمد بن حنبل، ومما قاله فيها: "وجاءت طائفة فقالت: لا يتكلم بعد ما تكلم، فيكون كلامه حادثا" (2) ، ثم قال بعد ذكره لموقف أبي بكر بن خزيمة من هؤلاء: "فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر، فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر، وتمكن في السرائر ولقن في الكتاتيب، ونقض في المحاريب: إن الله متكلم، إن شاء الله تكلم وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوفير نبيه خيرا" (3) .
ويلاحظ التنصيص على ألفاظ واضحة البيان في مخالفة مذهب الكلابية والأشعرية، ومن ذلك قول ابن خزيمة - كما قصته مع الكلابية -: "الذي أقول به إن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن شيئاً منه، ومن (4) وحيه وتنزيله مخلوق، أو يقول: إن الله لا يتكلم بعدما كان يتكلم به في الأزل ... فهو عندي جهمي يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه" (5) .
وذكر عن ابن خزيمة أيضاً أنه قال: "زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام فهم لا يفهمون كتاب الله ... " (6) .
ولهذا لما كان مذهب الأشاعرة نفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية بناء على ني حلول الحوادث، ومن ثم منعوا أن يقال: إن الله يتكلم إذا شاء متى شاء كلاما قائما به، وإنه يتكلم شيئاً بعد شيء - أجابهم شيخ الإسلام بقوله:
_________
(1) في درء التعارض (2/9-10، 78-83) ، ومجموع الفتاوى (6/169-177) .
(2) درء التعارض (2/76-77) .
(3) عن درء التعارض (2/77-78) ، وشرح الأصفهانية (ص:202-203) ت السعوي.
(4) كذا في درء التعارض وفي مجموع الفتاوى [وعن] .
(5) درء التعارض (2/79) ، ومجموع الفتاوى (6/170) .
(6) نفس المصدر السابقين: درءا لتعارض (2/79) ، ومجموع الفتاوى (6/171) .(3/1278)
"قلنا من أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطائف (1) ... " (2) .
والنصوص الدالة على إثبات صفة الكلام لله - على وفق مذهب السلف - كثيرة جدا، بل إن فيها أن الله يد يوصف بالسكوت، ومن هذه الأدلة:
1- قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل:8) وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} (القصص:30) وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} (النازعات: من الآية 15-16) وقال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} (طه:11) ، قال شيخ الإسلام معلقا على هذه النصوص: "وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي، ولم يناد قبل ذلك، ولما فيها من معنى الظرف" (3) .
2- ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (القصص:65) ، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (القصص:74) فإنه وقت النداء بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه" (4) .
3- "ومثل هذا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: من الآية30) وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (البقرة: من الآية34) وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين، فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته" (5) . وهذه النصوص
_________
(1) كما صرح بذلك الرازي نفسه، حيث ذكر أن القول بحلل الحوادث لازم لجميع الطوائف ومنهم الأشاعرة، انظر تصريحه بذلك واعترافه به في المطالب العالية (2/106-111) ت السقا ط 1407هـ.
(2) منهاج السنة (2/298) ط دار العروبة المحققة.
(3) مجموع الفتاوى (12/131) .
(4) المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة.
(5) المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة.(3/1279)
واضحة الدلالة في الرد عليهم، لأنه إذا كانت دالة على أن الله تكلم بالكلام المذكور، في ذلك الوقت، فكيف يقال إنه كان أزليا أبديا، وهل يمكن أن يقال أن لم يزل ولا يزال قائلاً {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} ، {اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} (هود: من الآية48) ؟ (1) .
4- أما الأحاديث في ذلك فكثيرة، منها: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بهم صلاة الصبح بالحديبية "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟، قالوا الله ورسوله أعلم، قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر (2) .."، وحديث "إذا قضى الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كالسلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للي قال الحق وهو العلي الكبير ... " (3) ، وفي لفظ آخر أكثر صراحة: "إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء كجر السلسلة على الصفا.." (4) ،
فكيف يفسرون مثل
_________
(1) انظر: منهاج السنة (3/104-105) ط بولاق.
(2) متفق عليه: البارين كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم ورقمه (846) الفتح (2/333) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنؤ، ورقمه (71) .
(3) رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة الحج، باب (إلا من استرق السمع) ، ورقمه (4701) الفتح (8/380) وسورة سبأ، باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم) ورقمه (4800) الفتح (8/8/537) .
(4) روى عن عبد الله بن مسعود - مرفوعا وموقوفا - والموقوف في حكم المرفوع، رواه أبو داود - كتاب السنة، باب في القرآن، ورقمه (4738) - ت الدعاس، والبخاري تعليق، موقوفا - كتاب التوحيد، باب (ولا تنفع الشفاعة عنده غلا لمن أذن له) الفتح (13/452-453) [ووصله ابن حجر في التعليق (5/352-353) ] ، وف يخلق أفعال العباد رقم (465) ت البدر، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (207-209) - مرفوعا وموقوفا - ت الشهوان وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة رقم (536-540) ، والبيهقي في لاأسماء والصفات (ص:200-203) ، والطبري في تفسيره - موقوفا - سورة سبأ، آية 23، (22/90) ط الحلبي، وابن حبان في صحيحه - الإحسان - رقم (37) ، ت الأرناؤوط - أسد، والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق - موقوفا - رقم (5-6) ، والخطيب في تاريخ بغداد - مرفوعا وموقوفا - (11/392-393) ..والحديث صحيح، وقد صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1293) وقال: "والموقوف وإن كان أصح من المرفوع، ولذلك علقه البخاري في صحيحه ... فإنه لا يعل المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي كما هو ظاهر، لا سيما وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا نحوه أخرجه البخاري والترمذي ... " سلسلة الصحيحة (3/283) .(3/1280)
هذه النصوص من الكتاب والسنة بأن المقصود من كلام الله لهم خلق إدراك لم يسمعون به الكلام القديم (1) ؟، ولا شك إن ذلك تأويل وتحريف للنصوص مثل تأويل بقية الصفات التي أولها النفاة ومن يوافقهم من هؤلاء.
5- أما الأحاديث التي فيها ذكر السكوت، فمنها حديث: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو ... " (2) وحديث: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" (3) .
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/180) .
(2) رواه أبي الدرداء الحاكم (2/375) وقا لصحيح الإسناد ووافقه الذهبي، والبزار، كشف الأستار - رقم (123، 2231، 2855) ، وقال إسناده صالح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/55) "رواه البزار ورجال ثقات"، وقال أيضا (1/171) : رواه البزار والطبراني في الكبير وإسناده حسن، ورجال موثقون. وحسنه الألباني في غاية المرام رقم (22) ، أما من حديث سلمان، فرواه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في ليس الفراء، ورقمه (1726) - ت عطوة - وابن ماجه في الأطعمة - رقم (3367) ، والبيهقي (10/12) ، والحاكم (4/115) ، والعقيلي في الضعفاء الكبير - في ترجمة سيف ابن هارون البرجمي - (2/174) ، رقم الترجمة (693) ، والكامل لابن عدى - في نفس الترجمة - (3/1267) . وقد رجح الألباني - تبعا للبخاري كما نقل عنه الترمذي - وقفه على سلمان، وضعفه، وهو في المعنى كالذي قبله فذال يغني عنه - انظر: غاية المرام (ص:17) .
(3) رواه الدارقطني - آخر باب الرضاع، (4/183-184) مع التعليق المغني، والبيهقي (10/12-13) ، والحاكم (4/115) - بلفظ وترك أشياء - وغيرهم من حديث أبي ثعلبه الخشني..وله شاهدان من حديث أبي الدرداء: أحدهما روه الطبراني في الصغير رقم (111) ت محمد شكور وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/171) "رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه أصرم بن حوشب وهو متروك، ونسب إلى الوضع". والثاني رواه الدارقطني كتاب الصيد والذبائح - آخر حديث فيه - (4/297-298) مع التعليق المغنى وفي إسناده نهشل وهو كذاب.
وحديث أبي ثعلبة حسنه النووي في أربعينه رقم (30) ، وفي رياض الصالحين - كتاب المنثورات والملح - رقم (1841) - ت الألباني، كما حسنه أبو بكر السمعاني في أماليه كما في جامع العلوم والحكم (ص:261) - ط الحلبي - الرابعة، وحسنه أ] ضاً أبو الفتوح الطائي في الأربعين - كما في غاية المرام للألباني (ص:18) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/171) - بعد أن ذكر رواية الطبراني في الكبير بلفظ "وغفل عن أشياء ... ": "رواه الطبراني في الكبير وهو هكذا في هذه الرواية، وكان بعض الرواة ظن أن هذه معنى: وسكت، فرواها كذلك، والله أعلم، ورجاله رجال الصحيح) .
وقد تعقب النووي ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وذكر له علتين، ما تعقب النووي وغيره الشيخ ناصر الدين الألباني في مقدمة تحقيق رياض الصالحين (ص:11) ، وفي غاية المرام رقم (4) حيث قال - بعد ذكر من رواه -: "قلت وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم، لكن له علتان كما قال الحافظ ابن رجب ... " ثم ذكر الألباني أن العلة الثانية ليست قادحة، أما الأولى وهي الانقطاع - حيث لم يسمع مكحول من أبي ثعلبة - فهي قادحة ولذلك حكم بضعفه، ثم ذكر - الشاهدين - للطبراني في الصغير، والدارقطني في كتاب الصيد - وقال إنهما واهيان جدا فلا يصلحان للشهادة. ولا شك أن الأحاديث الضعيفة - التي فيها كذاب أو من هو متهم بالوضع - لا تصلح لتقوية الأحاديث الضعيفة، ولكن يلاحظ أن من حسنه من المتأخرين كالأرناؤوط في تحقيقه لجامع الأصول (5/59) ، ذكر أن من شواهده أيضا حديث أبي الدرداء السابق "ما أحل الله فهو حلال ... " الذي حسنه الألباني وغيره. ولكن الشأن في صلاحية متنه أن يكون شاهدا. والله أعلم.(3/1281)
قال شيخ الإسلام معلقا على هذه الأحاديث: "فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت. لكن السكوت يكون تارة عن التكلم، وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه، كما قال في الصحيحين عن أبي هريرة: "يا رسول الله: أرأيتك سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب ... " (1) إلى آخر الحديث، فقد أخبره أنه ساكت، وسأله ماذا تقول؟ فأخبره أنه يقول في حال سكوته، أي سكوته عن الجهر والإعلان.
لكن هذان المعنيان المعروفان في السكوت، لا تصح على قول من يقول: إنه متكلم كما إنه عالم، لا يتكلم عند خطاب عباده بشيء، وإنما يخلق لهم إدراكا ليسمعوا كلامه القديم، سواء قيل: هو معنى مجرد، أو معنى وحروف، كما هو قول ابن كلاب والأشعري، ومن قال بذلك من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من الحنبلية وغيرهم، فهؤلاء إما أن يمنعوا السكوت - وهو المشهور من قولهم - أو يطلقوا لفظه ويفسروه بعدم خلق إدراك للخلق يسمعون به الكلام القديم، والنصوص تبهرهم، مثل قوله: إذا تكلم الله بالوحي ... " (2) والله تعالى فرق بين إيحائه وتكليمه كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، ورقمه (744) الفتح (2/227) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، ورقمه (598) .
(2) مجموع الفتاوى (6/179-180) ، وانظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى - (13/131) .(3/1282)
اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (الشورى: من الآية51) ، وغيرها، وكذا تكليم عباده يوم القيامة، وغير ذلك من النصوص، وكلها تدل على تجدد تكليم من جهته تعالى (1) .
وقد حاول بعض الحنابلة - كالقاضي أبي يعلي وابن الزاغوني - أن يفسروا قول الإمام أحمد: "لم يزل الله متكلما إذا شاء" بما يوافق مذهبهم الكلابي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه المسألة وبين خطأ هؤلاء في تفسيرهم لكلام الإمام أحمد، مبينا أن تفسير هؤلاء - وغيرهم - للسكوت بأنه عدم خلق إدراك لغيره - غير معقول (2) .
وجمهور الأشاعرة يمنعون من أن يوصف الله بالسكوت ويجعلون ذلك من حججهم على قولهم بأن كلام الله قديم، فإن لهم في ذلك حجتين:
الحجة الأولى: أنه لو لم يكن الكلام قديما للزم أ، يتصف في الأزل بضد من أضداده، إما السكوت وإما الخرس، ولو كان أحدهما قديما لامتنع زواله وامتنع أن يكون متكلما فيما لا يزال، ولما ثبت أنه متكلم فيما لم يزل ثبت أنه لم يزل متكلما، وأيضاً فالخرس آفة ينزه الله عنها.
والحجة الثانية: أنه لو كان مخلوقا لكان قد خلق إما في نفسه، أو في غيره، أو قائما بنفسه، والأول ممتنع، لأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث، والثاني باطل، لأنه يلزم أ، يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه، والثالث باطل لأن الكلام صفة والصفة لا تقوم بنفسها، فلما بطلت الأقسام الثلاثة تعين أنه قديم" (3) .
والحجة الثانية هي الحجة المشهورة التي بنوا عليها مذهبهم في كلام الله وفي الصفات الاختيارية وهي مسألة حلول الحوادث التي منعوها (4) .
_________
(1) انظر: درء التعارض (4/128-129) .
(2) انظر: تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى (6/157-163) ، وشرح الأصفهانية (ص:204-205) - ت السعوي - ط على الآلة الكاتبة.
(3) مجموع الفتاوى (6/291) .
(4) انظر: التسعينية (ص:101-102) ، ومجموع الفتاوى (6/519) .(3/1283)
وهاتان الحجتان هما من حجج الأشاعرة القديمة جاءت على يد الأشعري (1) . ولقفها أتباعه من بعده.
وقد ناقش شيخ الإسلام هاتين الحجتين بتفصيل ووضوح، وبين ما فيهما من حق وهو الدلالة على إثبات صفة الكلام لله وقدم نوعه، وما فيهما من باطل وهو الزعم بأنها تدل أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته (2) .ونقاش شيخ الإسلام لذلك طويل ومهم، ويمكن تلخيصه بما يلي:
أأما الحجة الأولى: للأشاعرة - وهي أن ضد الكلام الخرس والسكوت - وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ... فيقال فيها ما يلي:
1- أن أصحابهم المتأخرين - كالرازي والآمدي - خالفوهم في هذا (3) .
2- أن القاعدة الكلية التي ذكروها، وهي "أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده - باطلة، لأن هذه لا يجوز أن تدعى إلا في حق الله خاصة، أما المخلوق فإنه إذا كان قابلا للشيء كان وجود القبول فيه غيره وهو الله تعالى، وإحداث الله لذلك القبول لا يجوز أن يكون مقارنا للقابل، بل يجوز أ، يتوقف على شروط يحدثها الله، وعلى موانع يزيلها، فوجود القبول هنا ليس منه [أي من المخلوق] فلم تكن ذاته كافية فيه، وأما الرب تعالى فلا يفتقر شيء من صفاته وأفعاله على (4) غيره، بل هو الأحد الصمد المستغنى عما سواه ... " (5) ، وقد شرح هذا بالنسبة لله فقال: "تقرير الحجة بأن يقال: لأن الرب تعالى إذا كان قابلا للاتصاف بشيء لم يخل منه أو من ضده، أو يقال: بأنه إذا كان قابلا للاتصاف بصفة كمال لزم وجودها له؛ لأن ما كان الرب قابلا له لم يتوقف وجوده له على غيره، فإن غيره لا يجعله متصفا ولا فاعلا، بل ذاته وحدها هي الموجبة لما كان قابلا له" (6) .
_________
(1) انظر: الإبانة (ص:66-67،72) - ت فوقية، واللمع (ص:17) - ت مكارثي.
(2) انظر: هذه المناقشة في مجموع الفتاوى (6/292-329) .
(3) انظر: المصدر السابق (6/293) .
(4) كذا ولعل صوابها: إلى.
(5) مجموع الفتاوى (6/294) .
(6) المصدر السابق (6/293) .(3/1284)
وإذا تقررت هذه الحجة فإنها تكون دالة على قدم صفة الكلام، وأنه تعالى لم يزل متكلما، بل تكون دالة على قدم جميع صفاته، وأن ذاته مستلزمة لجميع صفات الكمال - مما لا نقص فيه بوجه من الوجوه - ومن ذلك صفة الكلام لأن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم (1) .
ويقرر شيخ الإسلام - هذه الحجة على وفق مذهب السلف فيقول: "يقال: إما أن يكون قادرا على الكلام أو غير قادر، فإن لم يكن قادرا فهو الأخرس، وإن كان قادرا ولم يتكلم فهو الساكت" ثم بين أن الكلابية لا يمكنهم أن يحتجوا بهذه الحجة لأن الكلام عندهم ليس بمقدور - ثم أكمل الحجة فقال: "لكن [هل] (2) مدلولها قدم كلام معين بغير قدرته ومشيئته؟ أم مدلولها أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته؟ والأول قول الكلابية، والثاني قول السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة، فيقال: مدلولها الثاني لا الأول، لأن إثبات كلام يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته غير معقول ولا معلوم، والحكم على الشيء فرع عن تصوره. فيقال للمحتج بها: لا أنت ولا أحد من العقلاء يتصور كلاما يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته، فكيف تثبت بالدليل المعقول شيئاً لا يعقل؟ " (3) .
وبهذا تكون هذه الحجة دليل على إثبات صفة الكلام لله وقدم نوعه وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء خلافا للأشعرية.
3- أن دعوى أنه "لو لم يتصف بالكلام لا تصف بالخرس والسكوت إنما يعقل في الكلام بالحروف والأصوات، فإن الحي إذا فقدها لم يكن متكلما فإما أن يكون قادرا على الكلام ولم يتكلم، وهو الساكت، وإما أن لا يكون قادرا عليه، وهو الأخرس. وإما ما يدعونه من "الكلام النفساني" فذاك لا يعقل أن من خلا عنه كان ساكتا أو أخرسن فلا يدل بتقدير ثبوته [على] أن الخالي عنه يجب أن يكون ساكتا أو أخرس" (4) ، وإذا كان الكلام النفساني
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/294) .
(2) زيادة مني ليستقيم الكلام.
(3) مجموع الفتاوى (6/294-295) .
(4) المصدر السابق (6/295) .(3/1285)
الذي ادعوه غير متصور، فالسكوت والخرس إنما يتصور إذا تصور الكلام، وهؤلاء - في الكلام - يشبهون النصارى في الكلمة (1) .
4- أن المعتزلة اعترضوا عليهم هنا ولم يستطيعوا أن يجيبوهم بجواب صحيح، وذلك أنهم قالوا للكلابية والأشعرية: القول في الكلام كالقول في الفعل، فإننا إذا كنا - نحن وأنتم - قد اتفقنا على أن الله تعالى لم يكن فاعلا في الأزل، ثم صار فاعلا، ولم نقل - لا نحن ولا أنتم - إنه كان في الأزل عاجزا أو ساكتا، فإذا كان لا يلزم من عدم فعله في الأزل أن يوصف بضده من العجز والسكوت، فكذلك يقال في صفة الكلام، إذا قيل: لم يكن متكلما - على مذهب المعتزلة - لا يوصف بضد الكلام وهو السكوت أو الخرس.
ومناقشة الأشاعرة للمعتزلة هنا مناقشة ضعيفة ولهذا عدل بعض متأخري الأشعرية كالجويني إلى الحجة الثانية (2) .
أما السلف فلا يلزمهم اعتراض المعتزلة لأنهم يقولون الكلام كالفعل، وإن الله لم يزل خالقا فاعلا كما أنه لم يزل متكلما (3) ، كما سبق بيانه في مسألة حوادث لا أول لها.
ب وأما الحجة الثانية: للأشاعرة وهي إنه لو كان مخلوقا
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/296) .
(2) انظر: المصدر السابق (6/297) .
(3) انظر: المصدر نفسه (6/298-299) .(3/1286)
لكان إما خلقه في نفسه أو في غيره أو لا في محل، والأول يلزم منه أن يكون محلا للحوادث وهو باطل، والثاني يلزم منه أن يكون صفة لذلك المحل وهو باطل، والثالث ممتنع لأن الصفة لا تقوم بنفسها - فشيخ الإسلام بين أن هذه الحجة - أيضاً - صحيحة، ولكنها تدل على صحة مذهب السلف وفساد مذهب الكلابية والأشعرية، والمعتزلة.
أما مذهب المعتزلة فواضح فساده من جهة أنه لو خلقه في محل لكان صفة لذلك المحل، وإن كان الأشاعرة متناقضين هنا، لأنهم لم يطردوها وذلك تسلط(3/1287)
عليهم المعتزلة بأنهم يصفونه بأنه خالق ورازق ومحيي ومميت، وعادل محسن، من غير أن يقوم به شيء من هذه المعاني، بل يقوم بغيره، لأن الاشاعرة - كما سبق في مسألة حلول الحوادث - يقولون الخلق هو المخلوق، فكيف يقولون إن الله يوصف بأنه خالق ورازق من غير أن تقوم بالله صفة، وإنما المقصود ما يخلقه الله من الخلق والرزق - لا يقولون إن الله متكلم، من غير أن تقوم به صفة الكلام والمقصود الكلام الذي خلقه في غيره؟ ولماذا لم يجعلوا هذا مثل هذا. وليس للأشاعرة جواب صحيح على هذا الاعتراض، وهو من التناقضات العديدة التي يزخر بها مذهب الأشاعرة.
أما أهل السنة والسلف فإن الفعل عندهم غير المفعول، ويقولون إن الفعل يقوم به كالكلام. ومن ثم جعلوا هذه القاعدة حجة على الفريقين: المعتزلة والأشاعرة (1) .
أما الاحتمال الأول - وهو أنه لو خلقه في نفسه لكان محلا للحوادث - فأهل السنة والجمهور يمنعون أن يسمى كل حادث مخلوقا، بل كلام الله المحدث كما قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (الانبياء: من الآية2) ، لا يقال عنه إنه مخلوق، لأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء بكلام بعد كلام، وكذا ما يقوم بذاته بقدرته ومشيئته، فهناك فرق بين هذه الصفات، وبين ما يكون بائنا عنه من المخلوقات، لأنها لا بد لها من خلق، أما صفة الخلق أو الكلام أو غيرهما، القائم بذاته فإنه لا يفتقر إلى خلق، بل هو حصل بمجرد قدرته ومشيئته (2) .
ولذلك يرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة لا داعي فيها لهذا الاحتمال - وهو أ، هـ خلقه في نفسه - بل يقال: "لو خلقه لكان إما أن يخلقه في محل فيكون صفة له، أو يخلقه قائما بنفسه وكلاهما ممتنع، ولا يذكر فيها: إما خلقه في نفسه؛ لأن كونه مخلوقا يقتضي أن له خلقا، والخلق القائم به لو كان مخلوقا لكان له خلق، فيلزم أن يكون كل مخلق مخلوقا، فيكون الخلق مخلوقا بلا خلق وهو ممتنع" (3) .
وهذا على أصل السلف والجمهور الذين لا يسمون كل محدث مخلوقا، وأما من يجعل كل حادث مخلوقا، فيمكن أ، يرد هذا الاحتمال - الأول - فيقال: إذا أحدثه فإما أن يحدثه في نفسه أو خارجا عن نفسه، أو لا في محل. والثاني والثالث ممتنعان بإطلاق. ويبقى الأول - وهو احتمال أن يحدثه في نفسه، والأشاعرة يمنعونه لبطلان حلول الحوادث عندهم، وأهل السنة يقولون به لأنهم يجوزون أن تقوم بالله الصفات الاختيارية، وإن سماها هؤلاء أو غيرهم حوادث - ومن ثم يرجع إلى الكلام إلى ما سبق تفصيله في مسألة "حلول الحوادث" (4) .
ولو قالوا - كما سبق مثاله في حججهم على نفي حلول الحوادث، مع مناقشته - لو قالوا هنا: الفرد من أفراد الكلام هل هو نقص أو كمال؟ فإن كان نقصا فهو ممتنع، وإن كان كمالا فهو ناقص قبله - فيقال لهم: "هو كمال وقت وجوده، ونقص قبل وجوده، مثل مناداته لموسى كانت كمالا لما جاء موسى، ولو ناداه قبل ذلك لكان نقصا، والله منزه عنه ... " (5) .
وقد اعترف الرازي - أحد أئمة الاشاعرة - بأن حلول الحوادث لازم لجميع الطوائف فقال (6) : "هل يعقل أن يكون محلا للحوادث؟ قالوا: إن هذا قول لم يقل به أحد إلا الكرامية. وأنا أقول: إن هذا قول قال به أكثر أرباب أهل المذاهب، أما الاشعرية: فإنهم يدعون الفرار من هذا القول إلا أنه لازم عليهم من وجوه ... " (7) ولما جاء إلى صفة الكلام، بين أنه ليس هناك فرق معقول بين الطب والإرادة - وهذا رد على مسألة الكلام النفسي - كما سبق -
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/317-318) ، ونظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (436) ، والتسعينية (ص:102-105) ، ومنهاج السنة (2/292) - ط دار العروبة المحققة.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (6/320) .
(3) مجموع الفتاوى (6/321) .
(4) انظر: المصدر السابق (6/326) وما بعدها.
(5) المصدر نفسه (6/326) .
(6) سبقت الإشارة إلى هذا عند الكلام على مسألة حلول الحوادث - وإنما نقلت نص كلام الرازي هنا لأنه قد وصل إلى - حال كابة هذه المباحث - كتابه الكبير "المطالب العالمية" مطبوعا في تسعة أجزواء جاءت في خمسة مجلدات.
(7) المطالب العالية للرازي (2/106) .(3/1288)
ثم بين أن الذين زعموا أن هذا الكلام - النفسي - قديم - هو قول بعيد، وذكر أدلة كون هذا القول بعيدا - وهي أدلة إلزامية قوية - ثم ذكر أدلة من قال بقدمه ورد عليها (1) .
هذا هو الرازي الذي يعتبرونه أعظم أئمتهم ومحققيهم يقول بما يدل على بطلان مذهب الأشاعرة، وصحة مذهب أهل السنة، في مسألة من أهم المسائل وأعظمها، وبها تميز المذهب الاشعري عن غيره.
وإذا كان الرازي قد يتناقض في هذا الباب - فتارة يوافق الأشاعرة وتارة يرد عليهم - فإن غير الرازي كأبي حامد الاسفرابيني، وأبي محمد الجويني - والد إمام الحرمين - وغيرهما كانوا يخالفون الأشاعرة ويقولون إن مذهب الشافعي والإمام أحمد وسائر علماء الأمصار مخالف لما عليه هؤلاء الأشاعرة في كلام الله (2) .
رابعاً: الرد على الأشاعرة في قولهم: إن كلام الله معنى واحد:
وقولهم: هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وقولهم إن الأمر والنهي صفات للكلام، لا أنواع له، ولذلك فلا فرق بين القرآن والتوراة، ولا بين آية وآلة أخرى دلت على معنى مختلف.
وهذا من أعجب ما في مذهب الأشاعرة وأشده غرابة، حيث إنه مخالف لبدائه العقول، ولواقع الأمر أيضاً، ولا شك أن أعلام الأشاعرة - وفيهم الأئمة والقضاة والفقهاء - لم يكونوا ليقبلوا الإقرار بمثل هذا لولا أن هناك أصولا عقلية سلموها تسلطت على رؤوسهم ورقابهم لم يستطيعوا منها فكاكا ولا لها دفعا. فأصبحوا يسلمون بمثل هذه الأقوال المخالفة للعقل والنقل والفطر، ويبحثون لها عن تعليلات وتبريرات وتخريجات لا تغني شيئاً.
_________
(1) انظر: المطالب العالية للرازي (3/204-207) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى (12/557-558) .(3/1289)
ولذلك اعترف بعض أعلامهم بما في المذهب الأشعري من إشكالات، حتى قال العز بن عبد السلام لما سئل في مسألة القرآن: "كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار؟ فقال أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري" (1) . وسترد أمثلة أخرى إن شاء الله تعالى.
ومناقشة قول الأشاعرة - في زعمهم أن كلام الله معنى واحد - واضحة جدا، ويمن إجمال ردود شيخ الإسلام عليهم في ذلك بما يلي:
1- أن هذا القول انفردوا به عن سائر الفرق، كما ذكره الرازي (2) ، سواء قالوا - كما هو قول جمهورهم - إنه معنى واحد، أو قالوا إنه خمسة معان، كما هو قول بعضهم.
فالذين قالوا هو معنى واحد قالوا: ذلك المعنى هو معنى كل أمر أمر الله به، سواء كان أمر تكوين، أو أمر تشريع، وسواء أمرا ورد في القرآن أو ورد في التوراة، وكذلك هو معنى كل نهي نهى الله عنه، وهو معنى كل خبر أخبر الله به.
والذين قالوا إنه خمسة معان يقولون الأمر الواحد هو الأمر بالصالة والزكاة، والحج، والسبت - الذي لليهود - وهو الأمر بالناسخ والمنسوخ، وبالأقوال وبالأفعال، وبالعربي والعبراني، كل ذلك أمر واحد، ومثله النهي ومثله الخبر، حيث يقولون: إن ما أخبر الله به في آية الكرسي وسورة الإخلاص، وقصص الأنبياء والكفار، وصفة الجنة والنار، كل ذلك خبر واحد (3) .
يقول شيخ الإسلام معلقا على هذا: "ومن المعلوم أن مجرد تصور تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده، كما اتفق على ذلك سائر العقلاء، فإن أظهر المعارف أن الأمر ليس هو الخبر، وأن الأمر بالسب ليس هو الأمر بالحج،
_________
(1) انظر: التسعينية (ص:261) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص:175) .
(3) انظر: المصدر نفسه - نفس الصفحة.(3/1290)
وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم" (1) ، ولا شك أيضاً أن معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، كما أن معاني {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الاخلاص:1) ليس هي معاني {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1) (2) .
وكذلك أيضاً فإن "المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق، ونحو ذلك لم ينزلها الله على لسان موسى بن عمران، كما لم ينزل على محمد تحريم السبت، ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كلام الله معنى واحدا" (3) .ومن المعلوم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، كما أن آية الكرسي ليست معنى آية الدين (4) .وهذا واضح جدا، ويلاحظ أن الأشاعرة يلتزمون هذه اللوازم الفاسدة فيقولون: إن كلام الله معنى واحد، فلا يفرقون بين آية الدين وآية الكرسي، ولا بين القرآن والتوراة، بل كل ذلك معنى واحد لا يتبعض ولا يتجزأ، ولا يتكلم الله بشيء منه دون شيء إلا على معنى خلق إدراك للخلق فقط - كما سبق -.
بل إن شيخ الإسلام يرى أنه يلزم على قولهم أن تكون الحقائق الموجودة كالملائكة والجن، والجنة والنار - شيئاً واحدا، لأن معاني الكلام تتبع الحقائق الخارجة، وهذا لازم لا محيد لهم عنه (5) .
2- يقال للاشاعرة: موسى لما كلمه الله، أفهم كلامه كله أو بعضه؟ إن قلتم: كله، فقد صار موسى يعلم علم الله، وهذا من أعظم الباطل، وإن قلتم بعضه: فقد تبعض كلام الله وأنتم تقولون: إنه لا يتبعض. وفي هذا إبطال لقولكم (6) . وأيضاً فإن الله فضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم،
_________
(1) التسعينية (ص:175،177) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى (12/122،267) ، ومنهاج السنة (3/104) - ط بولاق، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/71) .
(3) منهاج السنة (3/104) ط بولاق.
(4) انظر: مجموع الفتاوى (12/558) ، والدرء (1/267، 112-113) .
(5) انظر: مجموع الفتاوى (12/558) ، والدرء (1/267،112-113) .
(6) انظر: التسعينية (ص:177) .(3/1291)
كما فرق تعالى بين التكليم والوحي، وهذا يدل على أن الكلام ليس معنى واحدا، لأنه - حينئذ - لا يكون هناك فرق بين التكليم الذي خص به موسى، والوحي العام الذي يكون لغيره. وهذا بين (1) .
وكذلك قولهم إن القرآن، عبارة عن كلام الله، فإن كان عبارة عن كلام الله كله فهو باطل، وإن كان عبارة عن بعضه فهو مبطل لقولكم (2) .
3- إلزامهم أن يقولوا في الصفات ما قالوه في الكلام، وبالعكس، وذلك أنه إذا جاز أ، يجعلوا الحقائق المتنوعة - كآية الدين، وآية الكرسي، وقصة موسى، وقصة نوح، والأمر بالصلاة، والأمر بالسبت، والنهي عن الزنا وعن الربا، والقرآن، والتوراة، والإنجيل - شيئاً واحدا، فيلزمهم أن يجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر والحياة والإرادة، صفة واحدة، أو أن يقولوا في الكلام ما يقولونه في الصفات من أن العلم غير القدرة والإرادة غير الحياة، وإن كانت صفات قائمة بالله تعالى.
وقد أسهب شيخ الإسلام في شرح هذا الإلزام وبين أنه لا محيد للاشاعرة عنه، وأن أئمتهم اعترفوا به (3) .
وممن اعترف بذلك الآمدي، حيث قال بعد أ، ذكر هذا الاعتراض - وهو الإلزام بالصفات - وذكر جواب أصحابه الأشاعرة عنه - قال معلقا على جواب شيوخه: "وفيه نظر" (4) ، ثم قال: "والحق أن ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل، وعسى أن يكون عند غيري حله، ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة، وهي الأمر والنهي والخبر
_________
(1) انظر: منهاج السنة (3/105) - ط بولاق، ومجموع الفتاوى (9/283،12/130) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/153-154) .
(2) انظر: منهاج السنة (3/105) ط بولاق.
(3) انظر: مجموع الفتاوى (12/122-123) .
(4) انظر: درء التعارض (4/118) .(3/1292)
والاستخبار والنداء" (1) .
وقد علق شيخ الإسلام على كلام الآمدي بأن القول بأن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة لتعدد الكلام (2) .
ولشيخ الإسلام مناقشات متنوعة لهذا الإلزام وبيان تناقضهم من وجوه عديدة (3) .وقياسهم لوحدة الكلام بوحدة المتكلم مردود أيضا من وجوه عديدة (4) .
4- وهناك إلزام آخر لهم، وهو أنه يقال لهم ما يقولون هم لمن قال إن القرآن حروف وأصوات قديمة أزلية، وإن الباء ليست قبل السين، وهكذا، وقد نقل شيخ الإسلام نصا مهما للباقلاني من كتابه - النقض - رد فيه على هؤلاء (5) ، ثم قال: "هذا بعينه وارد عليك فيما أثبته من المعاني، وهو المعنى القائم بالذات، فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني، فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظا ومعنى، قبل الثاني، فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف ... " (6) .
ولشيخ الإسلام في درء التعارض مناقشة أخرى مماثلة، فإن من قال باجتماع المعاني يلزمه ما يلزم من قال باجتماع الحروف وعدم تعاقبها (7) .
_________
(1) لدرء التعارض (4/119) ، وهو في أبكار الأفكار (1/95-ب-96-أ) . (وقد سبق نقله (ص:713-714) .
(2) انظر: درء التعارض (4/119) وما بعدها.
(3) انظر: التسعينية (ص:176-177) (الوجه 33) ، (ص:179) (الوجه 38) ، و (ص:180-181) (الوجه 43) ، و (ص:186) (الوجه 52) ، من أوجه مناقشة الرازي وانظر مجموع الفتاوى (9/283) ، والتسعينية أيضا (ص:191) .
(4) انظر: ألمصدر السابق (ص:181-187) (الأوجه 44-53) من أوجه الرد على الرازي.
(5) انظر: التسعينية (ص:188) .
(6) المصدر السابق، نفس الصفحة.
(7) انظر: درء التعارض (4/111-115) .(3/1293)
5- أن النصوص قد وردت بما يدل على تعدد الكلام وبطلان قول من زعم أنه
معنى واحد، ومنها:
أالآيات الواردة بأن لله كلمات، ومنه قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: من الآية115) وقوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} لا (لقمان: من الآية27) وقوله: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه} (الشورى: من الآية24) وغيرها كثير جداً.
ب كما وردت أحاديث كثيرة، فيها الإستعاذة بكلمات الله التامات (1) .
ت ومنها ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءا من القرآن" (2) .
فكيف يقال - مع هذه النصوص - إن كلام الله لا يكون إلا معنى واحدا؟ (3) .
6- أن الأدلة دلت على أن القرآن بعضه أفضل من بعض وهذا أصح القولين لأهل السنة. وهذا يدل على أن كلام الله ليس معنى واحدا. ولشيخ الإسلام مناقشات مطولة في هذا الموضوع (4) .
7- ما في كلام هؤلاء من شبه بأقوال النصارى. وهذا يدل على بطلانه (5) .
_________
(1) انظر: مثلا البخاري، كتاب الأنبياء باب رقم 10، ورقم الحديث 3371، الفتح (6/408) ، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من سوء القضاء ورقمه (2708) .
(2) روه مسلم، كتاب المسافرين باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ورقمه (811) مكرر.
(3) انظر: التسعينية (ص:210-217) ، حيث أورد بعض الأشاعرة على الاستدلال بأن الكتاب والسنة نطقا بأن لله كلمات، كما أورد (ص:218) اعتراضا من الأشاعرة على حديث إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء وأجاب عنه.
(4) انظر: درء التعارض (7/271-273) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (ص:10-74،147-172) .
(5) انظر: التسعينية (ص:225، 331) .(3/1294)
8- أن أئمة الأشاعرة اعترفوا بفساد قول ابن كلاب والأشعري في كلام الله، ومن هؤلاء: أو حامد الإسفراييني، وأبو محمد الجويني، وأبو الحسن الكرجي، والعز بن عبد السلام وغيرهم (1) ، والإسفراييني كانت له مواقف مشهورة في الإنكار على البلاقلاني وأقواله في كلام الله (2) .
وقد حاول الرازي أن يستدل لمذهب الاشاعرة في كلام الله وأنه بمعنى واحد بصفة العلم وأن علم الله لا نهاية له وهو واحد، ولكن شيخ الإسلام رد عليه من كلامه، وبين بطلان كلامه وتناقضه (3) .
وبما سبق من أوجه الرد والمناقشة والإلزام يتبين فساد مذهب الاشاعرة فيما أدعوه من أن كلام الله معنى واحد.
خامساً: هل كلام الله بحرف وصوت؟
سبق في فقرة - الرد على الاشاعرة في الكلام النفسي - ما يوضح مذهب الأشاعرة في هذا وأنهم لما قالوا إنه معنى قائم بالذات، قالوا إنه ليس بحرف ولا صوت، كما سبق - من خلال المناقشة - بيان أن الكلام هو ما كان مسموعا مفهوماً.
وقد سئل شيخ الإسلام عن القرآن: هل هو حرف وصوت؟ فأجاب بأن إطلاق هذا الجواب- نفيا وإثباتا - من البدع المولدة، الحادثة بعد المئة الثالثة، ثم قال: "والصواب الي عليه سلف الأمة، كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد، وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم - اتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة وهو أن القرآن جميعه كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلاما لغيره ... وأن الله يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح ... " (4) .
_________
(1) انظر: التسعينية (ص:236-238) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص:238) ، ودرء التعارض (2/95-99) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص:219-223) .
(4) مجموع الفتاوى (12/243-244) .(3/1295)
وهذا من دقة السلف رحمهم الله في مسائل العقيدة، وخاصة ما يتعلق منها بالله وصفاته. حيث إنهم لا يبتدعون كلاما جديدا، بل يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولما لم يرد إطلاق أن القرآن بحرف وصوت لم يطلقوه عليه كما يفعله البعض، وإنما يقولون: القرآن كله حروفه ومعانيه كلام الله، كما يقولون إن الله نادى موسى، والنداء لا يكون إلا بصوت، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن الله ينادي بصوت (1) . ومن المعلوم أن الكلام إذا أطلق فإنه يشمل الحروف والمعاني وهذا هو الذي فهمه السلف من صفة الكلام لله تعالى - على ما يليق بجلاله وعظمته -.
ولكن لما وجد - في أهل البدع - من ينكر الحرف والصوت لينكروا كلام الله، بين السلف أن كلام الله شامل للحروف والمعاني، وأنه تعالى يتكلم بصوت، كما يصفونه بما ورد من التكليم والمناداة والمناجاة (2) .
وقد وردت نصوص فيها ذكر الحرف في كلام الله، وهو القرآن، ومن ذلك حديث: "إن الله يأمرك أن تقرأ على أحرف" (3) ، وحديث "أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته" (4) ، وحديث "اقرأني جبريل على حرف ... " (5) وحديث: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف (6) وحديث: "من قرأ حرفا من كتاب الله ... " (7) وغيرها.
_________
(1) سبق تخريجه (ص:585) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى (6/518) .
(3) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ورقمه (821) .
(4) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة، ورقمه (806) .
(5) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن على سبعة أحرف، ورقمه (4991) الفتح (9/23) .
(6) رواه البخاري - بعد الحديث السابق مباشرة، ورقمه (4992) .
(7) رواه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن، ورقمه (2910) - ت إبراهيم عطوة. وهو حديث صحيح.(3/1296)
وقد احتج شيخ الإسلام بحديث: إن الله ينادي بصوت، على إثبات أن الله يتكلم بصوت، ورد على من قال من الأشاعرة إنه حديث آحاد - من وجوه عديدة (1) . كما احتج بالآيات على ذلك مثل آيات النداء لموسى وغيره (2) .
سادساً: القرآن العربي كلام الله وغير مخلوق؟
مذهب السلف في كلام الله تعالى، وفي القرآن، وأنه كلام الله غير مخلوق، واضح تمام الوضوح، وردودهم على المعتزلة في ذلك مشهورة، أكثر من أن تحصر (3) . كما أنه قد اشتهر عنهم قولهم إن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، ومعناه أن الله هو المتكلم به، فمنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، وإليه يعود في آخر الزمان حين يرفع من المصاحف والصدور (4) .
فلما جاءت الكلابية والأشعرية وابتدعوا في كلام الله ما ابتدعوا، كان مذهبهم الذي تمسكوا به: أن كلام الله إنما هو معنى قائم بذاته وأن حروف القرآن ليست من كلام الله.
ولكن الأئمة من هؤلاء كابن كلاب والأشعري كما يقولون - مع ذلك ومع قولهم إن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله -: إن القرآن محفوظ بالقلوب
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/513، 530-544) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى (12/130) .
(3) انظر: في مذهب السلف في كلام الله وفي القرآن: مجموع الفتاوى (6/153، 166-169، 177-178، 518) ، التسعينية (ص:94-95، 131-138) ، شرح الأصفهانية (ص:66) - ت مخلوف، مسألة الأحرف - مجموع الفتاوى (12/37-38) ، المسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوى (12/235-236) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/74-75) ، درء التعارض (7/257-273) .
(4) انظر: أقولا السلف في ذلك في محنة الإمام أحمد بن حنبل (ص:49) ، والرد على الجهمية رقم (344) - البدر، وشرح السنة اللالكائي رقم (582-584) (2/348) ، والنقض على المريسي للدارمي (ص:474) ضمن عقائد السلف، وانظر: العقيدة السلفية في كلام رب البرية تأليف عبد الله بن يوسف الجديع (ص:71-180) .
وأما كلام شيخ الإسلام وشرحه لذلك فانظر: شرح الأصفهانية (ص:5-6) ت مخلوف، ومجموع الفتاوى (6/529، 12/40، 274) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/83) .(3/1297)
حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة (1) ، ومن ثم كانوا يعترفون بأن هذا القرآن كلام الله، ويحترمونه.
فجاء بعد ذلك أقوام - من أتباعهم - فقالوا - في القرآن إنه "معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء، أو صنفها جبريل، أو محمد، فضموا إلى ذلك، أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه - لما رأوا أن مجرد كونه دليلا لا يوجب الإحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام؛ فإن الموجودات كلها أدلة عليه، ولا يجب احترامها، فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم، ومنه من يكتب أسماء الله بالعذرة، اسقاطا لحرمة ما كتب في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته.
وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف، مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله، إهانة له، أنه كافر مباح الدم.
فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ" (2) .
ولا شك أن هذا الغلو والكفر الذي وقع فيه هؤلاء لا يرتضيه جمهور الأشاعرة، ولكن التعصب في بعض الأوقات قد يجر بعض الناس إلى مواقف وأقوال لا تليق، إظهارا لمذهبهم، وإبرازا لقناعتهم به.
والأشعري يطلق على القرآن أنه كلام الله، ولكنه يقول إنه القرآن العربي مخلوق، خلقه الله في الهواء أو الجسم. وأما إطلاق أن هذا القرآن العربي كلام جبري - عليه السلام - أو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء من المنتسبين إليه ولم يكن قولا للأشعري (3) .
_________
(1) ومن زعم أن مقصودهم بذلك أن المعنى أن القرآن محفوظ بالقلوب كما أن الله معلوم بالقلوب، ومتلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن، ومكتوب بالمصاحف كما أن الله مكتوب بالمصاحف، فقد غلط عليهم، لأن القرآن عندهم عبارة عنه. انظر: مجموع الفتاوى (8/424) .
(2) مجموع الفتاوى (8/425) .
(3) انظر: المصدر السابق (12/557) .(3/1298)
ثم إن ابن كلاب كان يقول بأن القرآن حكاية عن كلام الله، فلما جاء الأشعري زاد فيه قليلا وقال: لا يجوز أن يقال إنه حكاية، لأن الحكاية قد تكون مطابقة للمحكي، كما يقال: حكى فلان الكلام بلفظه وهذا يناسب قول المعتزلة. والقرآن العربي ليس مطابقا لكلام الله القائم بنفسه، ومن ثم فالأولى عنده - أي عند الأشعري - أن يقال: هو عبارة عن كلام الله، لأن الكلام ليس من جنس العبارة (1) .
ويلاحظ مما سبق تطور أقوال الكلابية والأشعرية في القرآن:
- فالأولون كانوا يحترمونه، ثم خف احترامهم له إلى حد الامتهان، عند بعضهم.
- والأولون كانوا يطلقون أن القرآن كلام الله، وأنه مخلوق خلقه الله في الهواء أو في الجسم، فجاء المتأخرون ليقولوا - صراحة - هو كلام جبريل أو محمد.
- كما أن التطور من التعبير بالحكاية إلى العبارة، فيه ما فيه، وإن كان كل منهما باطلا.
والذي استقر عليه المذهب الأشعري، وقال به جمهورهم أن القرآن العربي مخلوق، وليس هو كلام الله - مع اختلاف فيما بينهم في بعض التفاصيل (2) - وهم قالوا هذا بناء على مذهبهم في الكلام النفسي الذي يقوم بالله ولا ينفصل عنه، بل هو - على زعمهم - لازم له أزلا وأبدا.
والأشاعرة - مع قولهم بالكلام النفسي - وإن كانوا يوافقون أهل السنة في الرد على المعتزلة، إلا أنهم يخالفون مذهب السلف - في مسألة القرآن - في أمرين مهمين:
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/272) ، والتسعينية (ص:87، 237-238، 266) ، ودرء التعارض (2/107) .
(2) انظر: جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/69-70) .(3/1299)
أحدهما: قولهم إن نصف القرآن من كلام الله، والنصف الآخر ليس كلام الله عندهم، أي أن المعنى كلام الله أما القرآن العربي فليس كلام الله، وإنما خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ، أو أحدثه جبريل، أو محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعنى ذلك أنهم في هذا النصف العربي موافقون لمذهب المعتزلة، لكن المعتزلة يقولون هو كلام الله، وهو مخلوق، وهؤلاء يقولون: هو مخلوق وليس كلام الله. وكل منهم وقع في البدعة.
والثاني: قولهم إن القرآن المنزل إلى الأرض ليس هو كلام الله، فما نزل به جبريل من المعنى واللفظ، وما بلغه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأمته من المعنى واللفظ ليس هو كلام الله، لا حروفه ولا معانيه، بل هو مخلوق عندهم، وإنما يقولون: هو عبارة عن كلام الله القائم بالنفس، لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه (1) .
هذه خلاصة مذهب الأشاعرة في القرآن، كما عرضها شيخ الإسلام، ولعل تصورها، مع ما سبق من مناقشات لأقوالهم في الكلام النفسي، وفي قولهم إنه معنى واحد - كاف في بيان بطلانها، ومع ذلك فقد رد عليهم شيخ الإسلام، ويمكن بيان مناقشته لهم من خلال ما يلي:
1- لا شك أن قول الأشاعرة في القرآن قد بنوه على أن الكلام عندهم معنى قائم بالنفس، قديم أزلي، لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، لذلك قالوا في هذا القرآن الذي يتلى إنه مخلوق، خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ، أو إنه أحدثه جبريل أو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو كلام الله. ولا شك أن الأساس الذي بنوا عليهم مذهبهم هذا باطل - كما سبق بيانه -:
- فالكلام هو اللفظ والمعنى، ولا يسمى كلاما ما دام قائما بالنفس.
- كما أن النصوص دلت على أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلامه مثل فعله، وهذا ثابت لله وإن سماه هؤلاء حلولا.
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/272-273، 376-379) .(3/1300)
وإذا تبين بطلان هذه الأسس التي بنوا عليها مذهبهم، علم أن قولهم في القرآن مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة.
2- أما احتجاجهم على أن القرآن من جبريل أو محمد بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة:40) والرسول في آية الحاقة هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي آية التكوير هو جبريل عليه السلام - فهو احتجاج غريب، خاصة وأن النصوص الأخرى واضحة الدلالة في أنه منزل من عند الله وأنه كلام الله. وقد رد عليهم شيخ الإسلام في استدلالهم بما يلي:
أ - أنه: "أضافة إلى الرسول من البشر تارة، وإلى الرسول من الملائكة تارة، باسم "الرسول"، ولم يقل: إنه لقول ملك، ولا نبي؛ لأن لفظ الرسول يبين أنه مبلغ عن غيره، لا منشى له من عنده {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور: من الآية54) ، فكان قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة:40) بمنزلة قوله: لتبليغ رسول، أو مبلغ من رسول كريم، أو جاء به رسول كريم، وليس معناه أنه أنشأه أو أحدثه أو أنشأ شيئاً منه وأحدثه رسول كريم، إذ لو كان منشئا لم يكن رسولا فيما أنشأه وابتدأه، وإنما يكون رسولا فيما بلغه وأداه، ومعلوم أن الضمير عائد إلى القرآن مطلقا" (1) .
ب- "وأيضاً فلو كان أحد الرسولين أنشأ حروفه ونظمه امتنع أن يكون الرسول الآخر هو المنشى المؤلف لها، فبطل أن تكون إضافته إلى الرسول لأجل إحداث لفظه ونظمه" (2) .
ولو صح قول هؤلاء لجاز أن يقال إنه قول البشر، وهذا قول الوحيد الذي فضحه الله وأصلاه سقر، ولو قالوا: الوحيد جعل الجميع قول البشر، ونحن جعلنا الكلام العربي قول البشير، وأما معناه فهو كلام الله، فيقال لهم:
_________
(1) مجموع الفتاوى (12/265-266) ، وانظر أيضاً: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/377-378) .
(2) المصدر السابق (12/266) ، وانظر: المصدر نفسه (2/50، 12/308) ، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/377) .(3/1301)
هذا نصف قول الوحيد، والقرآن الذي يتلى هو الذي كان يفهم منه المشركون أنه كلام الله دون أن يفرقوا بين ألفاظه ومعانيه (1) .
ج- ودلالة الآيتين واضحة، لأنه لما كان المبلغ للقرآن ملكا وليس شيطانا، أخبر تعالى أنه تبليغ ملك كريم، وكذلك الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبلغ لهذا القرآن للناس، وأن هذا الرسول ليس شاعرا ولا كاهنا وإنما هو رسول كريم (2) .
وكثيرا ما يركز شيخ الإسلام على بيان أن الكلام كلام لمن اتصف به مبتدئا منشئا لا لمن تكلم به مبلغا مؤديا. وهذا واضح، فإن من قرأ حديثا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو قصدة لشاعر، فإنه لا يقول عاقل إن الحديث أو القصيدة هي من إنشاء راويها (3) .
3- أن هناك أدلة تدل على نزول القرآن من ربه، والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه.
ومن هذه الأدلة قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل: من الآية 98-103) .
فقوله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (النحل: من الآية102) يدل على نزول القرآن من ربه، والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه، كما أن قوله {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/266-267، 307) ، ودرء التعارض (1/258) .
(2) انظر: المصدر السابق (12/270) .
(3) انظر: الكيلانية مجموع الفتاوى (12/378) ، ودرء التعارض (1/256-257) .(3/1302)
يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ، وهم كانوا يقولون إنما يعلمه بشر، ولم يكونوا يقصدون أنه يعلمه معانيه فقط، لقوله بعد ذلك: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} والله تعالى أبطل قول الكفار، لأن لسان الذي يضيفون إليه القرآن أعجمي، والقرآن بلسان عربي مبين (1) .
ومن الأدلة - أيضاً - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام: من الآية112) إلى قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (الأنعام:114) والكتاب اسم للقرآن العربي بالضرورة والاتفاق، وهذا يرد على الكلابية والأشعرية، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} يتناول نزول القرآن العربي على كل قول من الأقوال التي تفرق بين كتاب الله وكلام الله، أو بين القرآن (المعنى) ، والقرآن (اللفظ) . لأن الله سمى مجموع اللفظ والمعنى كتابا وقرآنا وكلاما (2) .
والقرآن الكريم يجب أن يعلم فيه أصلان عظيمان:
أحدهما: "أن القرآن له بهذا اللفظ والنظم العربي اختصاص لا يمكن أن يماثله في ذلك شيء أصلا، أعني خاصة في اللفظ، وخاصة فيما دل عليه من المعنى، ولهذا لو فسر القرآن ولو ترجم، فالتفسير والترجمة قد يأتي أصل المعنى أن يقربه، وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا، ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يقرأ بغير العربية، لا مع القدرة عليها، ولا مع العجز عنها ... ".
الأصل الثاني: أن القرآن إذا ترجم أو قرئ بالترجمة فله معنى يختص به لا يماثله فيه كلام أصلا، ومعناه أشد مباينة لفظه ونظمه لسائر اللفظ والنظم، والإعجاز في معناه أعظم بكثير كثير من الإعجاز في لفظه ... " (3) . ومعلوم
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/123-124) .
(2) انظر: المصدر السابق (12/124-126) .
(3) التسعينية (ص:215) .(3/1303)
أن الإعجاز شامل للفظ والمعنى.
4- أن قول الأشاعرة في القرآن يقرب كثيرا من قول المعتزلة، وقد اعترف بذلك بعض علمائهم وذكروا أن بالنسبة للقرآن العربي لا فرق فيه بين القولين.
فالأشاعرة يوافقون المعتزلة في إثبات خلق القرآن العربي، ولكنهم يفارقونهم من وجهين:
أحدهما: أن المعتزلة يقولون: المخلوق كلام الله، والأشاعرة يقولون: إنه ليس كلام الله، لكن يسمى كلام الله مجازا، وهذا قول جمهورهم، ومن قال من متأخريهم إنه يطلق على المعنى وعلى القرآن العربي بالاشتراك اللفظي فإنه ينتقض عليهم أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به.
وعند المفاضلة بين قولي المعتزلة والأشاعرة هنا يلحظ أن الأشاعرة لا يقولون عن القرآن العربي هو كلام الله حقيقة، أما المعتزلة فيقولون هو كلام الله حقيقة - مع اتفاقهم على أنه مخلوق، فقول الأشاعرة شر من قول المعتزلة، لأنهم زادوا عليهم بالقول أن القرآن ليس كلام الله.
والثاني: أن الأشاعرة يثبتون لله كلاما هو معنى قائم بذاته، والمعتزلة يقولون: لا يقوم به كلام. ومن هذا الوجه فالأشاعرة خير من المعتزلة. وإن كان جمهور الناس يقولون: إن إثبات الأشاعرة للكلام النفسي، وقولهم إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة - يؤدي في النهاية إلى أن لا يشبتوا لله كلاما حقيقة غير المخلوق (1) .
وبهذا يصبح قول الأشاعرة في القرآن أشد بطلانا وفسادا من أقوال المعتزلة الذين أجمع السلف على تبديعهم والإنكار عليهم، وهذا ما يفسر هجوم أئمة السلف - في كل عصر - على الكلابية والأشعرية فإنهم كانوا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، وما يؤدي إليه من انحراف.
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/121-123، 132، 15/222) ، والتسعينية (ص:235-236) .(3/1304)
5- بين اللفظ والأشاعرة:
والمقصود باللفظية الذين يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وهذه الفئة نشأت قبل الأشاعرة. وقد كان موقف الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف منهم أنهم جعلوهم جهمية، وجعلوا الجهمية ثلاث طوائف:
- من قال إن القرآن مخلوق.
- واللفظية الذين يقولون تلاوة القرآن، واللفظ بالقرآن مخلوق.
- والواقفة الذين لا يقولون القرآن مخلوق ولا غير مخلوق.
فلما انتشر هذا بين أهل السنة نشأ في مقابل "اللفظية" طائفة مقابلة لهم قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وتلاوتنا له غير مخلوقة، ولكن الإمام أحمد بدع هؤلاء وأمر بهجرهم.
واستقر مذهب السلف على تبديع الطائفتين، وصار من أصول مذهبهم في القرآن أنه كلام الله غير مخلوق، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق، أو قال غير مخلوق فهو مبتدع، وكذلك من وقف فيه فهو مبتدع.
وموقف السلف مبني على ما في مسألة "اللفظ" و"التلاوة" من الإجمال؛ إذ قد يراد به المقروء والمتلو، وقد يراد به صوت القارئ وفعله. فمنعوا من إطلاق الأمرين لذلك.
فلما جاء الأشعري ومن معه - بما معهم من المذهب في الكلام النفسي وأن القرآن العربي مخلوق - وأرادوا موافقة السلف في الإنكار على الطائفتين من طوائف "اللفظية"، ذكروا قول السلف هذا (1) ، ولكنهم فسروا مقصودهم باللفظ تفسيرا آخر، وهو أنهم قالوا إن قصد السلف باللفظ: النبذ والطرح، ولم يكن قصدهم التلاوة، وهذا تفسير الأشاعري وابن الباقلاني، والقاضي أبي يعلى
_________
(1) انظر: المقالات للأشعري (ص:292) - ت ريتر، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/362) ، ومجموع الفتاوى (6/527) .(3/1305)
وابن الزاغوني وغيرهم (1) .
والاشاعرة فسروا كلام السلف بهذا التفسير ليسلم لهم مذهبهم في القرآن العربي وأنه مخلوق، لأنهم بهذا موافقون لمن يقول لفظي بالقرآن مخلوق، ويقصد به التلاوة.
ولا شك أن هؤلاء مخطئون فيما ظنوه، والإمام أحمد وغيره لم ينكروا إطلاق اللفظ لأن المقصود به الطرح، وإنما لأن اللفظ يقصد به التلاوة والقراءة، والمسلمون يقولون تلوت القرآن وقرأته.
ثم إن اللفظ وارد في الكلام، فيقال: لفظت الكلام وتلفظت به كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18) ، وأهل السنة ربطوا بين اللفظ والتلاوة فقالوا: من قال لفظي بالقرآن وتلاوتي أن قراءتي مخلوقة فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو مبتدع (2) .
ومسألة اللفظ شرحها شيخ الإسلام وبين ما فيها من اللبس، مع بيان ما جرى بين علماء السنة فيها، وفصل وجه الحق فيها، وبين وجه إنكار السلف على الطائفتين، وما في هذه الألفاظ من الإجمال (3) .
كما عرض شيخ الإسلام لمسألة أخرى متعلقة بذلك وهي مسألة الحروف عموما في كلام الله وكلام غيره - هل يقال إن الحروف مخلوقة لأنها من كلام الآدميين، أو يقال: إنها ليست مخلوقة لأنها من كلام الله، كل قول من هذين قال به طوائف.
_________
(1) انظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/362) ، ودرء التعارض (1/268) .
(2) انظر: المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى - (12/209-210) .
(3) انظر: في مسألة "اللفظ" درء التعارض (1/256-271) ، والتسعينية (ص:234-235) ، ومجموع الفتاوى (12/306-307، 573-574) ، والمسألة المصرية - مجموع الفتاوى (12/206-210) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى (12/74-75) ، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/359-364، 374، 408-433) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/34-36) .(3/1306)
والصواب في ذلك أن يقال ما قاله الأئمة كأحمد وغيره: "إن كلام الإنسان كله مخلوق حروفه ومعانيه، والقرآن غير مخلوق حروفه ومعانيه" (1) .
والخلاصة أن مذهب الأشاعرة في القرآن العربي موافق لأقوال اللفظية الذين يقولون ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وهؤلاء عدهم أئمة السنة من الجهمية.
هذه أهم مباحث "كلام الله" عند الأشاعرة، ومن ذلك يتبين أن الأشاعرة وإن أثبتوا صفة الكلام بإجمال، إلا أنهم ضلوا فيه وخالفوا الكتاب والسنة وأقوال السلف - في أمور أهمها:
1- قولهم بالكلام النفسي، وأنه لازم لذات الله تعالى.
2- قولهم بأن كلام الله قديم وأن الله لا يتكلم إذا شاء متى شاء، وأن موسى لم يسمع كلام الله - وقت تكليمه - وإنما سمع الكلام الأزلي، أو أن الله خلق له الإدراك.
3- قولهم بأن كلام الله معنى واحد، لا يتجزأ ولا يتبعض، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وأن الخبر والأمر والنهي شيء واحد.
4- قولهم بأن القرآن العربي مخلوق، وما في هذا من موافقة للمعتزلة، واللفظية وغيرهم من الجهمية.
ولا شك أن هذه المسائل المتعلقة بكلام الله عظيمة جدا، ومذهب الأشاعرة فيها كان ضلالاً وانحرافا واضحاً عن مذهب السلف والأئمة.
_________
(1) الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/450) ، وانظر - مناظرة حول الواسطية - مجموع الفاوى (3/173) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى - (12/37-116) ، والكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/413-414، 441-453) ، ومجموع الفتاوى (12/571-573) .(3/1307)
المبحث الثالث: في القضاء والقدر
مقدمة:
موضوع "القضاء والقدر" من الموضوعات الكبرى التي خاض فيها جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، على مر العصور والأزمان، وقد تكلم فيها الجميع، وشغلت أذهان الفلاسفة والمتكلمين وأتباع الطوائف من أهل الملل ومن غيرهم. والسبب في ذلك واضح وهو ارتباط القدر بحياة الناس وأحوالهم اليومية وما فيها من أحداث وتقلبات ليس لهم في كثير منها أي إرادة أو تأثير، ولو لم يكن هناك إلا مسألة الحياة والموت - واختلاف الناس في الأعمار - ومسألة الغنى والفقر، والصحة والمرض وتفاوت الناس فيها - لكان كافيا في أن يفكر الإنسان في هذه الأحداث هل هي مقدرة أم لا؟ خاصة وأن الإيمان بالله وأن هذا لكون لا بد له من خالق، أم فطري، لا يكاد ينكره أحد. والأقوال في القدر - بإجمال - لم تتغير قبل الإسلام أو بعده، فهي ترجع دائما إلى ثلاثة أقوال:
1- قول أهل الجبر، الذين يقولون إن الإنسان مجبورا على أفعاله وليس له إرادة ولا قدرة، ويمثل هذا في الفرق الإسلامية مذهب الجهمية ومن وافقهم، وهو ما يسمى في العصور المتأخرة بالمذهب الحتمي.
2- ويقابلهم قول أهل حرية الإرادة، واستقلال الإنسان في أفعاله عن خالقه، وأن الإنسان له إرادة مستقلة عن إرادة الله، كما أنه هو الذي يخلق أفعاله، ويمثل هذا المذهب المعتزلة (القدرية) ، ومن وافقهم.
3- وهناك قول وسط بين وهؤلاء، يثبتون القدر، وأن الله خالق كل شيء، ويقولون أيضاً إن للإنسان إرادة ومشيئة ولكنها خاضعة لمشيئة، كما أن له قدرة يفعل بها فعله، لكنه هو وأفعاله مخلوق لله تعالى. وهذا مذهب السلف وأتباع الأنبياء.(3/1308)
وبين هذه الطوائف - الثلاث - قد تنشأ فرق أخرى، تميل في بعض المسائل إلى طائفة، وفي المسائل الأخرى إلى طائفة ثانية، ويكون الحكم عليها حسب ما يغلب على مذهبها، فقد يقال إنها مائلة إلى مذهب الجبر، أو إلى مذهب القدرية، أو إلى مذهب السلف. ومن أشهر هذه الطوائف طائفة الأشعرية، حيث يغلب عليهم مخالفة المعتزلة والميل إلى مذهب الجبرية، وإن لم يصلوا إلى حد موافقة الجهم في أقواله وفي غلوه.
وشيخ الإسلام ابن تيمية اهتم كثير بمسألة القدر، ورد على المنحرفين فيه من الجبرية والقدرية وغيرهم، وشرح مذهب السلف في ذلك وذكر أدلته وأصوله.
ومما يجب ملاحظته أن مذهب الأشاعرة في القدر لا يتمثل في مسألة "الكسب" فقط، كما هو مشهور عنهم، وإنما ارتبط بهذه المسأ - التي اشتهروا بها وصارت شه علم عليهم، لا يذكر الكسب إلا ويذكر مذهب الأشاعرة - مسائل أخرى مرتبطة بها لا تنفك عنها، ولها أثر كبير على مذهبهم في الكسب وأفعال العباد.
ويولي شيخ الإسلام - بمنهجه الدقيق، الشامل، وبطريقته الفريدة في تلك المسائل أهمية خاصة نظرا لأثرها الكبير على خلاف الطوائف - من الأشاعرة وغيرهم - في القر.
ولذلك سيكون - بعون الله - عرض مباحث القدر على أساس الفرعين التاليين:
الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر:
وأهم هذه المسائل:
1- تعليل أفعال الله.
2- هل الإاردة تقتضي المحبة أم لا؟.
3- التحسين والتقبيح.
4- معنى الظلم.
5- تكليف ما لا يطاق.(3/1309)
الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب":
ومن خلال ذلك سيتم عرض الخلاف باختصار، وبيان مذهب الأشاعرة وخطئهم ومنهج شيخ الإسلام في الرد عليهم من خلال بيانه لمذهب السلف.
أما تعريف القدر اصطلاحا: فهو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها، وخلقه لها.
والإيمان بالقدر يشمل الإيمان بأربع مراتب:
الأولى: العلم، أي أن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه الأزلي.
الثانية: الكتابة: وأن الله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.
الثالثة: المشيئة: وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ليس في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته - سبحانه -، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد.
الرابعة: الخلق: أي أن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد. هذا هو مذهب السلف الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة (1) .
وبعد بيان مذهب السلف بإجمال ننتقل إلى الكلام على الفرعين السابقين:
الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر:
وهذه المسائل: منها ما للخلاف فيه تأثير على مسألة القدر، حسب مذهب كل طائفة، ومنها ما له علاقة قوية بالقدر أو هي اثر من آثار الخلاف فيه. وأهم هذه المسائل:
أولاً: تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيها:
كل ما خلقه الله تعالى فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه تعالى، يحيها ويرضاها.
_________
(1) انظر: الواسطية - مجموع الفتاوى - (3/148-150) ، وشفاء العليل لابن القيم (ص:66) ط دار التراث.(3/1310)
والثاني: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذا يكو في المأرات وفي المخلوقات (1) .
فهو "سبحانه حكيم، لا يفعل شيئاً عبثا ولا بغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى" (2) ، وقد ذكر ابن القيم بعضها (3) .
وقد وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال:
1- قول من نفى الحكمة وأنكر التلعيل، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات، وأمر المأمورات، لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة، وهذا مذهب الجهمية والأشاعرة وهو قول ابن حزم وأمثاله (4) .
2- إن الله فعل المفعولات وخلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، ولكن هذه الحكمة مخلوقة، منفصلة عنه، لا ترجع إليه، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (5) .
3- قول من يثبت حكمة وغاية قائمة بذاته تعالى، ولكن يجعلها قديمة غير مقارنة للمفعول.
4- إن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، وهذه الحكمة تعود إلى الرب تعالى، لكن بحسب علمه، والله تعالى خلق الخلق ليحمدوه
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/35-36) .
(2) شفاء العليل لابن القيم (ص:400) - ط التراث.
(3) انظر: المصدر لاسابق (ص:400-434) .
(4) انظر: الإرشاد للجويني (ص:268) وما بعدها، ونهاية الأقدام (ص:297) ، ومحصل أفكار المتقدمين للرازي (ص:205) ، الفصل (3/174) - ط دار المعرفة. الأحكام لابن حزم (8/1110) وما بعدها.
(5) انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل. لعبد الجبار الهمذاني (6/48، 11/92-93) .(3/1311)
ويثنوا عليه ويمجدوه، فهذه حكمة مقصودة واقعة، بخلاف قول المعتزلة فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد. وهذا قول الكرامية الذين يقولون: من وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخوقه له (1) .
5- قول أهل السنة وجمهور السلف وهو أن الله حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة - كما سبق بيانه في بداية هذه المسألة.
هذه خلاصة الأقوال في هذه المسألة، ويلاحظ أنها تنتهي إلى قولين أحدهما: نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم.
والثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة. وهؤلاء على أقوال: أشهرها قول المعتزلة الذين يثبتون حكمة تعود إلى العباد ولا تعود إلى الرب، وقول جمهور السلف الذين يثبتون حكمة تعود إلى الرب تعالى (2) .
ويلاحظ أن من نفي الحكمة والتعليل - كالأشاعرة - دفعه إلى ذلك إلى الميل إلى الجبر وإثبات الكسب القدرة غير المؤثرة للعبد. ومن أثبت حكمة تعود إلى العباد، جعلوا هذه الحكمة لا تتم إلا بأن يكون العباد هم الخالقين لأفعالهم وهذا قول المعتزلة.
أما أهل السنة فلم يلزمهم لازم من هذه اللوازم الباطلة، ولذلك جاء مذهبهم وسطا في باب القدر - كما سيأتي أن شاء الله -.
والأشاعرة الذين نفوا الحكمة والتعليل، احتجوا على مذهبهم بعدة حجج أهمها:
?- أن ذلك يستلزم التسلسل، فإنه إذا فعل لعلة، فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلىعلة، وهكذا إلى غير نهاية وهو باطل.
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/39) .
(2) انظر: أقوم ما قيل في القضاء والقدر - مجموع الفتاوى (8/83-93، 97-98) ، منهاج السنة (1/97-98) ط دار العروبة المحققة، والاستغاثة (ص:2/27) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/198-203) ، درء التعارض (8/54) ، مجموع الفتاوى (8/377-381) ، ومنهاج السنة (1/94-95) ط دار العروبة المحققة.(3/1312)
وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة من وجوه:
1- يقال لهم في الكمة ما يقولونه هم في "الفعل"، وذلك بأن يقال لهم: "لا يخلو إما أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع، أو لا يمكن ذلك. فإن جاز أن يكون قديم العين أو قديم النوع، جاز في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون قيدمة العين أو قديمة النوع" (1) .ويلاحظ هنا أن القول بأن الفعل قديم "العين" هو قول الفلاسفة، ومعلوم أن الفلاسفة نفاة للحكمة - فهم موافقون للأشاعرة في هذا - فهذا الإلزام صالح لهم. ومن قال هذا ممتنع - أي قدم العين أو النوع في العقل - قيل وكذلك الحكمة يمتنع تسلسلها.
"وإن لم يمكن أن يكون الفعل لا قديم العين ولا قديم النوع، فيقال إذا كان فعله حادث العين والنوع، كانت حكمته كذلك" (2) .
فتبين أن معنى كونه تعالى يفعل لحكمة "أنه يفعل مرادا لمراد آخر يحبه، فإذا كان الثاني محبوبا لنفسه، لم يجب أن يكون الأول كذلك، ولا يجب في هذا تسلسل" (3) .
2- يقال لهم في الحكمة ما يقال في الأسباب، فإذا كان تعالى خلق شيئاً بسبب، وخلق السبب بسبب آخر حتى ينتهي إلى أسباب لا أسباب فوقها فكذلك خلق لحكمة والحكمة لحكمة حتى ينتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها (4) .
3- أن هذا التسلسل الذي يدعونه إنما هو تسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل - والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم، والجنة أكلها دائم (5) .
_________
(1) شرح الأصفهانية (ص:363-364) ت السعوي.
(2) المصدر السابق (ص:364) .
(3) المصدر نفسه، ونفس الصفحة.
(4) انظر: المصدر نفسه (ص:365) .
(5) انظر: المصدر نفسه.(3/1313)
- والحجة الثانية للأشعرة على نفي الحكمة والتعليل هي حجة الكمال والنقصان، ومعناها - عندهم - أن الله "لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصا بدونهها مستكملا بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدما بالنسبة إليه سوءا، أو يكون وجودها أولى به، فإن كا الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودهاأولى به، فيكون مستكملا بها، فيكون قبلها ناقصا" (1) . وهذه الحجة أصلها مبني على نفي حلول الحوادث.
وقد سبق مناقشة هذه الحجة في مسألة الصفات، عند مناقشة الصفات الاختيارية القائمة بالله التي يسميها الأشاعرة وغيرهم حلول الحوادث.
وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجة هنا - في مبحث التعليل - من وجوه:
1- "أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جوابا في المفعولات، كان جوابا عن هذا، ونحن لانعقل في الشاهد فاعلا إلا مستكملا بفعله" (2) .
2- أن قولهم "مستكمل بغيره" باطل، لأن هذا إنما حصل بقدرته ومشيئته، لا شريك له في ذلك، فلم يكن في ذلك محتاجا إلى غيره وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره، كان كما لو قيل كمل بصفاته، وبذاته" (3) .
3- "أن العقل الصرحي يعلم أن من فعل فعلا لا لحكمة، فهول أولىبالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة، ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب كونها، فكيف يجوز أن يقال: فعله لحكمة يستلزم النقص، وفعله لا لحكمة لا نقص فيه" (4) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (8/183) ، وانظر الأربعين للرازي (ص:149-150) .
(2) مجموع الفتاوى (8/146) ، وانظر: شرح الأصفهانية (ص:360) ت السعوي.
(3) مجموع الفتاوى (8/146) .
(4) شرح الأصفهانية (ص:362) ت السعوي.(3/1314)
4- "إنه ما من محذور يلزم بتجويز أن يفع للحكمة، إلا والمحاذير التي تلزم بكونه يفعل لا لحكمة أعظم وأعظم ... " (1) .
وهناك أوجه أخرى في مناقشة هذه الحجة (2) ، كما أن لشيخ الإسلام مناقشات عديدة للاشاعرة حول نفيهم للحكمة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة (3) .
كما أشار - أحياناً - إلى تناقضهم في هذا الباب (4) .
والأدلة على إثبات الحكمة والتعليل على وفق مذهب أهل السنة كثير جداً، ذكر طرقا منها شيخ الإسلام (5) ، وذكر جملة منها ابن القيم - كما سبق -.
ثانياً: هل الإاردة تقتضي المحبة أم لا؟
هذه المسألة مرتبطة بشكل قوي بالمسألة السابقة - مسألة تعليل أفعال الله - لأن حدا بالأشاعرة إلى أن ينكروا التعليل ما توهموه من وجود تعارض بين الأمر والقدر، وكيف يريد الله أمرا إرادة كونية كالكفر والمعاصي، ثم هو لا يحبها ولا يريدها دينا؟ فرأوا أن الخروج من هذا المأزق يكون بإنكار الحكمة والتعليل في أفعال الله وأوامره.
وموضوع الإاردة وهل هي مستلزمة للرضى والمحبة مما خاض فيه أهل الأهواء، وضلوا فيه عن الحق وأدى بهم ضلالهم إلى انحراف خطير جدا في مسألة القضاء والقدر وفي مسألة الأمر والنهي، وعلاقة هذه بتلك. وقد وصل الأمر
_________
(1) انظر: شرخ الأصفهانية (ص:363) ت السعوي.
(2) انظر: المصدر السابق (ص:357-363) ، ومجموع الفتاوى (8/146-147) ، ودرء التعارض (4/203) ، ومنهاج السنة (1/297-298) ط دار العروبة المحققة.
(3) انظر: شرح الأصفهانية (ص:354-379) - حيث استقصى حججهم كما ذكرها الرازي وناقشها، وانظر أيضاً: منهاج السنة (1/97-98، 398-301) - ط دار العروبة المحققة، ونقض التأسيس - مطبوع - (1/199-217) ، والنبوات (ص:131-134، 357-361) - ط دا رالكتب التعليمية، ومجموع الفتاوى (16/130-132) ، والجواب الصحيح (4/257-259) .
(4) انظر: أمثلة على ذلك في الاستغاثة (2/228) ، ومجموع الفتاوى (14/183-184) .
(5) انظر: شرح الأصفهانية (ص:157-159) - ت السعوي.(3/1315)
بغلاة الصوفية إلى أن اعتقدوا "أنه ليس في مشهدهم لله محبوب مرضى مراد إلا ما يقع، فما وقع فالله يحبه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهم من غلب كانوا معه، لأن من غلب كان القدر معه، والمقدور عندهم هو محبوب الحق، فإذا غلب الكفار كانوا معهم، وإذا غلب المسلمون كانوا معهم" (1) ، وعلى هذا فإبليس وجميع الكفار والملاحدة والعصاة مطيعون لله، لموافقتهم للقدر، ولعل هذا سر ما يؤثر عن غلاة الصوفية من انحرافات أخلاقية سافة، ومن أقوال كفرية لم تؤثر حتى عن الكافرين والملاحدة.
والخلاف في هل الإاردة تستلزم الرضى والمحبة وقع على قولن:
القول الأول: أن الإاردة تستلزم الرضى، وهذا قول المعتزلة والجهمية وأغلب الأشاعرة (2) .
وبعض الأشاعرة لهمع بارات تخفف من هذه المقالة، مثل قول بعضهم يحمل المحبة والرضا على الإرادة، ولكنه يقول: إذا تعلقت الإاردة بنعيم ينال عبدا فإنها تسمى محبة ورضى، وإذا تعلقت بنقمة تنال عبدا فإنها تسمى سخطا" (3) ، فمن جوز إطلاق المحبة على الإاردة قالوا: إن الله يحب الكفر ويرضاه كفرا معاقبا عليه (4) .
ولكن هؤلاء الذين اتفقوا على أن الإرادة بمعنى الحبة والرضى - اختلفوا فيما بينهم على قولين جعلت أقوالهم تتباين كثيرا في مسألة القدر:
?- فالمعتزلة القدرية قالوا: قد علم بالدليل أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، ولما كان هذا ثابتا لزم أن تكون المعاصي ليست مقدرة له ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه، قالوا: ولما كنا مأمورين بالرضى بالقضاء، ومأمورين بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها، فإذن يجب أن لا تكون واقعة بقضاء الله وقدره فأنكروا لذلك مرتبة المشيئة والخلق (5) .
?- وأما الأشاعرة - ومن معهم - فقالوا قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولما ثبت عندهم أن المشيئة والإرادة والمحبة والرضى كلها بمعنى واحد
_________
(1) رسالة الاحتجاج بالقدر (ص:80-81) - المكتب الإسلامي.
(2) انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل (ج-6 - قسم 2- ص: 51-6) ، والحر - المطبوعة باسم باسم الانصاف - للباقلاني (ص:44-45) ، ولباب العقول للمكلاتي (ص:288) .
(3) الإرشاد للجويني (ص:239) وشرح المواقف (ص:288) - جزء مستقل محقق.
(4) انظر: لباب العقول (ص:288) .
(5) انظر: الاحتجاج بالقدر (ص:66-67) - ط المكتب الإسلامي.(3/1316)
- قالوا: فالمعاصي والكفر كلها محبوبة لله لأن الله شاءها وخلقها (1) .
وهكذا انتهى الأمر بهاتين الطائفتين إلى قولين باطلين: إما إخراج بعض المقدورات أن تكون مقدرة ومرادة لله كما فعل المتزلة، وإما بالقول بأن الله يحب الكفر والمعاصي كما فعلت الأشعرية الذين خالفوا نصوص الكتاب والسنة (2) .
القول الثاني: أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة، بل بينهما فرق، وهذا قول عامة أهل السنة المثبتين للقدر، وهؤلاء يقولون إن قول المعتزلة والأشاعرة مخالف للكتاب والسنة والإجماع، فإنهم متفقون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعلى أن الله لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأن الكفار يبيتون مالا يرضى من القول. كما هو صريح النصوص.
ولكن هل بين النصوص تعارض كما توهمه أولئك؟ أهل السنة يرون أن النصوص الواردة في المشيئة والإرادة، وفي المحبة ليس بينهما تعارض مطلقا إذا أعطيت حقها من الفهم والتفسير الصحيح.
وذلك أن أهل السنة يقولون إن الخطأ الذي وقع فيه المخالفون لهم من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، هو ظنهم أن الإاردة في النصوص كلها بمعنى واحد.
_________
(1) انظر: الاحتجاج بالقدر (ص:67) ، ومدارج السالكين لابن القيم (1/228، 251، 2/189) .
(2) انظر: الرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى - (6/115-116) ، ومنهاج السنة (1/358-359) - ط مكتبة الرياض الحديثة.(3/1317)
والحق أن الإرادة نوعان:
أحدهما: نوع بمعنى المشيئة العامة، وهذه هي الإاردة الكونية القدرية، فهذه الإاردة كالمشيئة شاملة لكل ما يقع في هذا الكون، وأدلة هذا النوع كثيرة، منها قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} (الأنعام: من الآية125) .
فهذه الإرادة لا تستلزم المحبة، وليست بمعناها.
والثاني: نوع بمعنى المحبة والرضى، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية185) وهذه هي الإرادة الدينية الشرعية.
وهذه الإرادة هي المستلزمة للمحبة والرضى، وهي المستلزمة للأمر (1) . وعلى هذا فبالنسبة لوقوع المراد، وفي أي النوعين يتعلق - تكون الأقسام أربعة:
أحدها: ما تعلقت بن الإرادتان الكونية والدينية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فهذه مرادة دينا لأنها أعمال صالحة مأمور بها، ومرادة كونا لأنها وقعت.
الثاني: ما تعلقت به الإاردة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الطاعات والأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار ولم يأتوا به، فهذا مراد شرعا لأنها من الأعمال الصالحة، وغير مرادا كونا لأنه لم يقع م الكفار والعصاة.
الثالث: ما تعلقت به الإاردة الكونية فقط، كالمباحات والمعاني التي لم يأمر بها الله إذا فعلها العصاة. فهي غير مرادة دينا، ولكنها مرادة كونا لأنها وقعت.
_________
(1) انظر: في ذلك مراتب الإاردة - مجموع الفتاوى - (8/88-190، 197) ، ومجموع الفتاوى (8/22-23، 44، 474-476) ، والرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى - (6/115-116) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/101) ، ومنهاج السنة (1/360) ، مكتبة الرياض الحديثة - (3/90، 102) ط بولاق ومجموع الفتاوى (18/132) ، وما بعدها، والتسعينية (ص:270) .(3/1318)
الرابع: ما لم تتعلق به الإرادتان، وذلك مما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي (1) .
وبهذا التفصيل (2) - الذي دلت عليه النصوص - يتبين رجحان مهب أهل السنة والجماعة.
أما محاولة بعض الأشاعرة أن يجيبوا عن النصوص التي دلت على أن الله لا يحب الكفر ولا الفساد - بأن هذا خاص بمن لم يقع منه الكفر والفساد، والمعنى أن الله لا يحب الفساد لعباده المؤمنين ولا يرضاه لهم - فهذا جواب فاسد لأن لازم هذا أن الله لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار، لأنه لم يقع منهم، لأن المحبة عندهم كالإرادة إنما تتعلق بما وقع دون ما لم يقع. وهذا من أعظم الباطل (3) .
ولا شك أن تخبط الأشاعرة ومعهم المعتزلة في هذه المسائل أدى بهم إلى الانحراف في مسألة القدر وأفعال العباد.
ثالثا: التحسين والتقبيح:
أول من اشتهر عنه بحث هذا الموضوع الجهم بن صفوان الذي وضع قاعدته المشهورة: "إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع" (4) ، وبنى على ذلك أن العقل يوبج ما في الأشياء من صلاح وفساد، وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها، وقد أخذ المعتزلة بهذا القول ووافقهم عليه الكرامية (5) .
_________
(1) انظر: مراتب الإرادة - مجموع الفتاوى - (8/189) .
(2) ومثل الإرادة ما ورد في القرآن من الأمر والحكم، والقضاء، والأذن، والكتاب، والكلمات، والبعث، والإرسال، والتحريم، والجعل، فإنها كلها تنقسم إلى كونية ودينية، انظر: مجموع الفتاوى (8/61) ، التحفة العراقية في الأعمال القلبية - مجموع الفتاوى - (10/24-26) ، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان - مجموع الفتاوى - (11/265-270) ، والحسينة والسيئة - مجموع الفتاوى (14/383-384) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (2/293-298) .
(3) انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر (ص:68) - ط المكتب الإسلامي.
(4) الملل والنحل (1/88) ت كيلاني.
(5) انظر: نشأة الفكر الفلسفي للنشار (1/346) ، والتجسيم عند المسلمين - مذهب الكرامية - سهير مختار - (ص:363) .(3/1319)
ومن ثم وقع الخلاف حوله على ثلاث أقوال:
1- أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، ولافعل حسن أو قيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبن لتلك الصفات فقط. وهذا هو مذهب المعتزلة والكرامية ومن قال بقولهم من الرافضة والزيدية وغيرهم (1) .
2- أنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع، فالعقل لا يدل على حسن شيء، ولا على قبحه قبل ورود الشرع، وفي حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. قالوا: ولو عكس الشرع فحسن ما قبحه، وقبحا ما حسنه لم يكن ممتنعا. وها قول الأشاعرة ومن وافقهم (2) .
3- التفصيل، لأن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها، غير صحيح، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل الحق في هذا توضيحاً كاملاً، فيقسم الأفعال إلى ثلاثة أنواع:
"أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن أو قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه ثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا ما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث الله إليهم رسولا، وهذا خلاف النص، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا
_________
(1) انظر المغني لعبد الجبار ج6 - القسم الأول - (ص:26-34، 59-60) ، والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري (1/363) ، والبحر الزخار لابن المرتضى (1/59) ، والعقل عند المعتزلة (ص:98-100) ، والمعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية (ص:137) .
(2) انظر الإرشد (ص:258) وما بعدها، والمحصل للرازي (ص:202) ، وشرح المواقف (8/181-182) .(3/1320)
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء: من الآية15) .
النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين} (الصافات:103) حصل المقصود، ففداه بالذبح وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضى عنك وسخط على صاحبيك" (1) . فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس الأمور به.
وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب" (2) .
وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقاً فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان:
أحدهما: كون الفعلا ملائما للفاعل نافعا له أو كونه ضارا له منافرا فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يعلم بالعقل (3) .
الثاني: كونه سببا للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف:
- فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل، ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول.
_________
(1) متفق عليه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع ورقمه (3464) الفتح (6/500) ، ومسلم كتاب الزهد ورقمه (2964) .
(2) مجموع الفتاوى (8/434-436) .
(3) انظر: المصدر السابق (8/90، 309-301) ، ومنهاج السنة (1/364) - مكتبة الرياض الحديثة.(3/1321)
- والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسول، وإنما الحسن ما قييل فيه الفعل، والقبيح ما قيل فيه لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل.
- جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول (1) .
وما فصله شيخ الإسلام هو الموافق لمذهب السلف، وهو الذي دلت عليه النصوص، أما الكلام في هذه المسألة كاصطلاح فإنما نشأ في المائة الثالثة من الهجرة (2) .
والأشاعرة لأنهم يميلون إلى "الجبر" في القدر، قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعي فقد. ولذلك احتج الرازي صراحة عليه بالجبر، فإنه أثبت أن العبد مجبور على فعله القبيح، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحا.
ويرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة هي في الأصل حجة المشركين المكذبين بالرسول الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية148) ، فإنهم نفوا قبح الشرك وتحريم ما لا يحرمه الله من الطيبات بإثبات القدر، لكن شيخ الإسلام يستدرك - انصافا لخصومه - فيقول: "لكن هؤلاء الذين يحتجون بالجبر على نفي الأحكام إذا أقروا بالشرع لم يكونوا مثل المشركين من كل وجه، ولهذا لم يكن المتكلمون المقرون بالشريعة كالمشركين وإن كان فيهم جزء من باطل المشركين.
لكن يوجد في المتكلمين من المتصوفة طوائف يغلب عليهم الجبر حتى يكفروا حينئذ بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب، إما قولا وإما حالاً وعملا ... " (3) .
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/677-686، 11/676-677) .
(2) انظر: التسعينية (ص:347) .
(3) انظر: مجموع الفتاوى (8/677-686، 11/676-677) .(3/1322)
ولا شك أن الأشاعرة - وكذلك المعتزلة - ليسهم له حجة على قولهم في التحسين والتقبيح، سوى أخذهم ببعض النصوص دون بعض، وشيخ الإسلام كثيرا ما يفصل الخلاف في ذلك مبينا المذهب الحق (1) .
رابعاً: معنى "الظلم":
القول في معنى "الظلم" مبنى على مسألة التحسين والتقبيح، وقد وقع الخلاف في معنى الظلم على ثلاثة أقوال:
1-قول الجهمية والأشاعرة، وهؤلاء قالوا في تعريف الظلم: إما أنه التصرف في ملك الغير، أو أنه مخالفة الآم الذي تجب طاعته، وهؤلاء يقولون: الظلم بالنسبة لله غير ممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قدر وجوده فإنه عدل، والظلم منه ممتنع غير مقدور، وهو محال لذاته كالجمع بين الضدين، وكون الشيء موجوداً معدوماً.
وهؤلاء يقولون لو عذب الله المطيعين ونعم العاصين لم يكن ظالما، لأن الظلم عندهم إنما هو التصرف في ملك الغير، والله تعالى مالك الملك، فأي فعل فعله ولو كان تعذيب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، وتكريم أعدائه من الكفار والشياطين لم يكن ظالما، لأنه لم يتصرف إلا في ملكه، وكذلك فليس هناك آمر فوقه حتى يخالفه.
وهذا قول جمهور الأشاعرة، وهو قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلي، وأتباعه، وأبي المعالي الجويني وأتباعه، وأبي الوليد الباجي وأتباعه وغيرهم (2) .
_________
(1) انظر: أقوم ما قيل ي القضاء والقدر - مجموع الفتاوى - (8/90) ، قاعدة في المعجزات والكرامات - مجموع الفتاوى - (11/347-355) ، منهاج السنة (1/316-317) ، ط دار العروبة المحققة، الدرء (8/22، 492، 9/49-62) ، شرح الأصفهانية (ص:161) ت مخلوف، الرد على المنطقيين (ص:420-437) ، النبوات (ص:139) وما بعدها، ط دار الكتب العلمية، الجواب الصحيح (1/314-315) ، مجموع الفتاوى (16/498) .
(2) انظر: منهاج السنة (1/90، 2/232) ط دار العروبة المحققة. وجامع الرسائل - رسالة في معنى كون الرب عادلا، وي تنزهه عن الظلم - (1/121-122) ، ورسالة في شرح حديث أبي ذر - مجموعة الرسائل المنيرية (3/207) .(3/1323)
3- قول المعتزلة، وهؤلاء يقولون: إن الظلم مقدور لله تعالى، ولكنه منزه عنه، وهذا حق، ولكنهم يجعلن الظلم الذي حرمه الله وتنزه عنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده، فضربوا له من أنفسهم الأمثار، ولذلك فهم يسمون مشبهة الأفعال.
وبناء على هذا قالوا: "إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالما له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالا كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالما إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلما، وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومن لم يقم" (1) .
فالله عند المعتزلة عدل لا يظلم لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب، لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، بل العباد يفعلون ذلك بغير مشيئته، والله لم يخلق شيئاً من أفعال العباد لا خيراً ولا شراً، لأنه لو كان خالقا لها ثم عاقب العاصين لكان ظالما لهم (2) .
4- قول أهل السنة، قالوا: الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا معناه في اللغة، يقال: من أشبه أباه فما ظلم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم (3) ، وعلى هذا المعنى بنى أهل السنة تعريفهم للظلم الذي نزه الله نفسه عنه فقالوا: إن الله تعالى حكم عدل يضع الأشياء مواضعها، فلا يضع شيئاً إلا في موضعه الذي يناسبه، ولا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين (4) .
وعلى هذا فالظلم الذي حرمه الله على نفسه، وتنزه عنه فعلا وإرادة هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل المرء سيئات غيره، ولا يعذب بما لم تكسب يداه،
_________
(1) شرح حديث أبي ذر - مجمو الرسائل المنيرية (3/206) .
(2) انظر: جامع الرسائل (1/123) .
(3) انظر: الصحاح، ولسان العرب مادة - ظلم - وانظر: تأويل مشكل القرن (ص: 467) .
(4) انظر: جامع الرسائل (1/124) .(3/1324)
وأنه لا ينقص من حسناته فلا يجازي بها أو ببعضها، وهذا هو الظلم الذي نفي الله خوفه عن العبد بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} (طه:112) ، قال المفسرون لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل (1) .
والله تعالى قادر على الظلم، ولكنه تعالى نزه نفسه عنه، وحرمه على نفسه، كما ورد في ذلك الأدلة الكثيرة، وأشهرها حديث أبي ذر: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مكرما فلا ظالموا" (2) . وغيره.
ويلاحظ أن الأشاعرة جاء تفسيرهم للظلم مواكبا لمذهبهم في القدر، فهم لميلهم إلى مذهب الجبرية، إذا قيل لهم إن قولكم إن للعبد قدة غير مؤثرة، نتيجته الجبر، فكيف يعذب الله العباد على ما جبرهم عليه، هذا ظلم، قالوا ليس هذا ظلماً لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وهذا منتفق بالنسبة لله.
ولا شك أن هذا التفسير للظلم مخالف للمعروف من لغة العرب، ولما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة التي ورد فيها هذا اللفظ، كما أن قولهم بأن الظلم ممتنع عليه ليسه فيه مدح ولا كمال، وإنما المدح والكمال أن يقال: إن الله سبحانه منزه عنه، لا يفعله لعدله، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع (3) .
خامساً: تكليف ما لا يطاق:
الطاقة هي الإستطاعة، والخلاف بين الطوائف قائم حول تحديد المقصود با لا يطاق، هل هو الممتنع عادة، أو المستحيل كالجمع بين الضدين، أو هو كتكليف الكافر وهو لا يؤمن.
_________
(1) انظر: زاد المسير - سورة ط آية: 112- شرحح الطحاوية (ص:50) ط المكتب الإسلامي، ومنهاج السنة (1/90-92) . ط دار العروبة المحققة.
(2) سبق تخريجه (ص:728) .
(3) انظر: في مسألة الظلم والأقوال فيه: جامع الرسائل (1/27-129) ، والجواب الصحيح، (1/219) ، النبوات (ص:143) - ط دار الكتب العلمية، منهاج السنة (1/318) ط دار العروبة المحققة، (1/361) - مكتبة الرياض الحديثة، (3/23-26) - ط بولاق، مجموع الفتاوى (8/505-510، 11/675-676) ، درء التعارض (10/28) .(3/1325)
وشيخ الإسلام يبين أن هذا الخلاف ناتج عن عدم التفريق بين أمرين متعلقين بالنزاع في هذه المسألة:
1- ما يرجع إلى الفعل المأمور به، وهذا فيما يتعلق بالقضاء والقدر.
2- وما يرجع إلى جواز الأمر بالشيء، وهذا فيما يتعلق بمسائل الأمر والنهي.
والذين خلطوا بين هذين القسمين وقعوا في المحذور، مثل قياس بعضهم أمر الله الكافر بالإيمان مع علمه تعالى أنه لا يفعل، بمسألة العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه، وجعلهم القسمين قسما واحداً وأنه تكليف بما لا يطاق.
فهذا جمع مخالف لما يعلم بالإضطرار من الفرق بينهما، وهو من مثارات الأهواء بين القدرية والجبرية (1) .
ولذى يرى شيرخ الإسلام أن إطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام (2) .
وقد وقع الخلاف في تكليف ما لا يطاق على أقوال:
1- جواز تكليف ما لا يطاق، ومنه تكليف الأعمى البصر، والزمن أن يسير إلى مكة. وهذا قول جهم بين صفوان (3) .
2- عدم جواز تكليف ما لا يطاق، وقد معونه لقبحه عقلا، وهذا مبني على مذهبهم في أن القدرة تكون قبل الفعل فقط، حتى يتحقق التكليف، ومن ثم يترتب عليه الثواب والعقاب، ولذلك منعوا أن تكون القدرة مقارنة لمقدورها، لأن معنى ذلك أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق؛ إذ لو أطاقه لوقع منه، فلما يقع منه دلي على أنه غير قادر عليه، وتكليف ما لا يطاق قبيح، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (4) .
_________
(1) انظر: درء التعارض (1/64-65) .
(2) انظر: المصدر السابق (1/65) .
(3) انظر: مجموع الفتاوى (8/297) .
(4) انظر: شر ح الأصول الخمسة (ص:396) ، والمختصر في أصول الدين لعبد الجبار الهمذاني (ص:218) ، ونظرية التكليف، عبد الكريم عثمان (ص:301) ، وشرح المواقف (ص:331) - الجزء المحقق.(3/1326)
3- أن تكليف ما لا يطاق جائز، وهذا مذهب الأشاعرة، وبنوا ذلك على ما في مذهبهم من أنه لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء. لكن الأشاعرة يقولون، إن ما لا يطاق أقسام:
?- أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه، كتكليف الكافر الإيمان في حالة كفره، وهذا جائز عند جميع الأشاعرة، وهذا النوع هو مالا يستطيعه المكلف لاشتغاله بضده فقط وهو الذي منعه المعتزلة (1) .
?- أن يمتنع الفعل لنفسه، بكون محالا كالجمع بين الضدين. وهذا اختلف فيه الأشاعرة، منهم من أجازه كالرازي ومنهم من منعه (2) .
?- ألا تتعلق به القدرة الحادثة عادة، كحمل الجبل، والطيران، فهذا يجوزه بعض الأشاعرة وإن لم يقع من خلال الإستقراء، وبعض المجوزين يحتج لذلك بتكليف أبي لهب الإيمان مع ورود الخبر أنه لا يؤمن (3) .
4- مذهب السلف، التفصيل، وذلك أن يقال: تكليف مالا يطاق على وجهين:
أحدهما: مالا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان:
أما وقع ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام.
ب وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديما، والقديم محثدا، ونحو ذلك.
فهذا النوعان قد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع، وأنه لا يجوز تكليفه (4) .
_________
(1) انظر: شرح المواقف (ص:331-332) الجزء المحقق.
(2) انظر: الإرشاد (ص:226) ما بعدها، معالم أصول الدين للرازي (ص:85-86) ، ط مكتبة الكليات الأزهرية، وشرح المواقف (ص:332) الجزء المحقق.
(3) انظر: مجموع الفتاوى (8/295) ، وشرح المواقف (ص:333) الجزء المحقق.
(4) انظر: مجموع الفتاوى (8/301) .(3/1327)
والثاني: ما لا يقدر عليه لإستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافا للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة. ولكن إطلاق تكليف ما لا يطاق على هذا مما منعه جمهور أهل العلم، وإن كان بعض المنتسبين إلى السنة قد أطلقه في ردهم على القدرية (1) .
بقي الكلام في احتج به بعض الأشاعرة من جواز تكليف الممتنع عادة، بقصة أبي لهب (2) ، فشيخ الإسلام يرى أن هذا خطأ، لأن من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلي النار، بعد دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له إلى الإيمان، فهذا حق حققت عليه كلمة العذاب، فهو كالذي يعاين الملائكة وقت الموت، فلم يبق هذا مخاطباً من جهة الرسول بالأمرين المتناقضين. وهو أيضاً كقوم نوح حين أخبر الله نوحاً - عليه السلام - أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فلم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب (3) .
"بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار المستلزم لموته على الكفر وأنه سمع هذا الخطاب ففي هذا الحال انقطع تكليفه، ولم ينفعه إيمانه حينئذ، كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (غافر: من الآية85) (4) .
فأبو لهب قد حقت عليه كلمة العذاب، فلا ينفعه الإيمان (5) .
وهكذا فالقول الراجح هو التفصيل فيها. ومن ذلك يتبين خطأ المعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة علما بأن من الأشاعرة من ذلك القول الحق بتفصيله
_________
(1) انظر: المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى (ص:46-147) ، ومجموع الفتاوى (8/298-302) ، ودرء التعارض (1/60) .
(2) كالرازي في معالم أصول الدين (ص:85) ، ط مكتبة الكليات الأزهرية، وانظر: مجموع الفتاوى (8/303) .
(3) انظر: مجموع الفتاوى (8/302) ، ودرء التعارض (1/63) .
(4) انظر: درء التعارض (1/63-64) .
(5) انظر: مجموع الفتاوى (8/438، 473-474) .(3/1328)
في هذه المسألة (1) .
هذه أهم المسائل المتعلقة بالقدر، وهي وإن كانت مسائل فرعية إلا أنها ذات صلة قوية بموضوع القدر، أو هي جزء منه، ولا شك أن الأشاعرة لم يسلكوا فيها المسلك الصحيح الذي هو مسلك السلف - رحمهم الله - ولذلك جاء مذهبهم في القدر وفي أفعال العباد، منحرفا عن المذهب الحق.
_________
(1) انظر: المعتمد في أصول الدين (ص:146) ، والاقتصاد للغزالي (ص:112-114) ط دار الكتب العلمية، ومجموع الفتاوى (8/296، 469-470) .(3/1329)
الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب":
هذه المسألة هي لب الخلاف في القدر، ولأجلها صار الناس فيه فرقا وأحزابا، ولكي تتضح الصورة، وتحديد موضع الخلاف، ينبغي أن يلاحظ ما يلي:
1- القدر له أربع مراتب هي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، فأما مرتبتا العلم والكتابة فلم ينكرهما إلا غلاة القدرية الذين يقولون إن الأمر أنف، أي لم يسبق الله فيه علم، وقد تبرأ منهم الصحابة - رضي الله عنه -.
أما بقية الطوائف فهم مقرون بهاتين المرتبتين.
2- أما مرتبنا: المشيئة والإرادة، والخلق، فقد وقع فيهما الخلاف على قولين:
أحدهما: إنكار هاتين المرتبتين، وهذا مذهب المعتزلة - ومن وافقهم - الذين يقولون إن الله لا يريد الكفر والمعاصي، ويقولون إن الله لا يخلق أفعال العباد، وإنما هم الخالقون لأفعالهم.
والثاني: الإقرار بهاتين المرتبتين. بإثبات الإرادة والمشيئة الشاملة، والقول بأن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد. وهذا قول الجمهور من أهل السنة، والجهمية، والأشاعرة والماتريدية ومن وافق هؤلاء.
ولكن أفعال العباد لها متعلقان:
أحدهما: بالخالق تعالى، فهذا قد اتفق فيه أهل السنة والأشاعرة على أن الله خالق أفعال العباد.
والثاني: بالعبد، وله له قدرة أو لا، وهل قدرته مؤثرة أو غير مؤثرة. وهذه وقع فيها الخلاف بين الطوائف إلى حد كبير.
وهذه القدرة التي بها يتمكن العبد من الفعل، هي التي تسمى بالاستطاعة.
ولتوضيح هذه المسألة - مسألة علاقة أفعال العباد بهم - لا بد من عرض الخلاف من خلال أمرين:(3/1330)
أحدهما: الاستطاعة أو القدرة، وهل تكون قبل الفعل أو بعده.
والثاني: هل هذه القدرة موجودة أو معدومة، وهل هي مستقلة أو غير مستقلة، وهل إذا كانت غير مستقلة تكون مؤثرة أو غير مؤثرة.
أولاً: الاستطاعة:
الاستطاعة، والقدرة، والقوة، والوسع، والطاقة، كلها متقاربة المعنى. وقد عرف الجرجاني الاستطاعة بأنها: "هي عرض يخلقه الله في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية" (1) ، وهي في عرف المتكلمين: عبارة عن صفة بها يتمكن الحيوان من الفعل والترك (2) .
وقد وقع الخلاف فيها على أقوال:
1- قول الجهمية، وهو أنه ليس للعبد أي استطاعة، لا قبل الفعل ولا معه، بل له قدرة شكلية غير مؤثرة في الفعل أصلا، وتسمى فعلا له تجوزا (3) .
2- قول المعتزلة ومن وافقهم: وهو أن الله تعالى قد مكن الإنسان من الاستطاعة، وهذه الاستطاعة قبل الفعل، وهي قدرة عليه وعلى ضده، وهي غير موجبة للفعل (4) .
3- قول الأشاعرة ومن وافقهم: وهو أن الاستطاعة مع الفعل لا يجوز أن تتقدمه ولا أن تتأخر عنه، بل هي مقارنة له، وهي من الله تعالى، وما يفعله الإنسان بها فهو كسب له (5) .
_________
(1) انظر: التعريفات (ص:12) .
(2) انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة.
(3) انظر: الملل والنحل (1/85) ، والبحر الزخار (1/123) ، والفرق بين الفرق (ص:211) ، والإرشاد (ص:215) .
(4) انظر: مقالات الإسلاميين (1/300) - ت عبد الحميد، والفرق بين الفرق (ص:116) ، ونظرية التكليف (ص:317) ونما بعدها. وانظر: شرح الأصول الخمسة (ص:398) ، وفي الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه (2/106-107) .
(5) انظر: الإرشاد (ص:219-220) ، والحرة - المطبوعة باسم الإنصاف (ص:46) ، ومعالم أصول الدين للرازي (ص:83) ، ط مكتبة الأزهرية، والمعتمد لأبي يعلى (ص:142) .(3/1331)
4- قول أهل السنة - وهو الذي عليه محققو المتكلمين وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم - وهو التفصيل:
أفهناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصححة للفعل، فهذه لا يجب أن تقارن الفعل، بل تكون قبله متقدمة عليه، وهذه الاستطاعة المتقدمة صالحة للضدين ومثالها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: من الآية97) ، فهذه الاستطاعة قبل الفعل ولو لم تكن إلا مع الفعل لما وجب الحج إلا على من حج، ولما عصى أحد بترك الحج.
وهذه الاستطاعة هي مناط الأمر والنهي، ويه التي يتكلم فيها الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس.
ب وهناك الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة للفعل، الموجبة له، ومن أمثلتها قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} (هود: من الآية20) وقوله: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} (الكهف:101) "فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم وصعوبته على نفسوهم، فنفوسهم لا تستطيع إرادته وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه. وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك، وهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة له" (1) ، وهي الاستطاعة الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل (2) .
وبهذا التفصيل - الوسط - الذي شرحه شيخ الإسلام يحل الاشكال، ويتضح الأمر. والذين حاولوا أن يوجدوا حلا للخلاف القائم بين المعتزلة والأشاعرة لم يجدوه إلا بالرجوع إلى هذا التفصيل الموافق لمذهب أهل
_________
(1) درء التعارض (1/61) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى (8/129-130، 290-292، 371-376، 441) ، ومنهاج السنة (1/7-8، 369-373) مكتبة الرياض الحديثة، والتحفة العراقية - مجموع الفتاوى - (10/32) ، وشرح حديث أني حرمت الظلم - مجموع الفتاوى - (18/172-173) ، ودرء التعارض (9/241) .(3/1332)
السنة (1) .
أما من خالفهم فقد وقع في الانحراف، فالمعتزلة حصروا القدرة والاستطاعة عند الإنسان بأنها تكون قبل الفعل، وأنكروا الاستطاعة الكونية المقارنة. والأشاعرة جعلوا الاستطاعة كلها مقارنة للفعل فلم يجدوا حلا صحيحاً للاستطاعة والقدرة التي هي شرط للعمل والتي هي بمعنى الصحة وسلامة الآلات. أما أهل السنة فجعلوا الاستطاعة نوعين، نوعا قبل الفعل وهو سلامة الجوارح، ونوعا معه وهو ما يجب به وجود الفعل.
ثانياً: مدى قدرة العباد على أفعالهم:
وكثيرا ما يعرض الخلاف حولها باسم الأقوال في أفعال العباد، وهي أهم قضية وقع فيها الخلاف، ويمكن عرض الأقوال فيها - مع شرح واضح لمذهب الأشاعرة - كما يلي:
القول الأول: إن العباد مجبورون على أعمالهم، لا قدرة لهم ولا إرادة ولا اختيار، والله وحده هو خالق أفعال العباد، وأعمالهم إنما تنسب إليهم مجازاًن وحركتهم واختيارهم كورق الشجر تحركه الرياح، وكحركة الشمس والقمر والأفلاك. وهذا هو مذهب الجبرية وأشهر فرقهم الجهمية (2) .
القول الثاني: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها، ولهم إرادة وقدرة مستقلة عن إرادة الله وقدرته، فأفعالهم لا فاعل لها ولا محدث سواهم، ومن قال: إن الله خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه - كما يقول عبد الجبار الهمذاني (3) .
_________
(1) انظر: محاولة الرازي في معالم أصول الدين (ص:83) ، ط الأزهرية، وانظر: حاشية محقق رسالة الحرة - المطبوعة باسم الأنصاف (ص:46) .
(2) انظر: الفرق بين الفرق (ص:211) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/87) ، ومقالات الإسلاميين (1/238) ، ت عبد الحميد، واعتقادات فرق المسلمين للرازي (ص:103) ، وانظر "جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي" تأليف خالد العسلي، (ص:114-177) .
(3) انظر: المغنى لعبد الجبار (8/8، 16، 43، 9/95) وما بعدها، وشرح الأصول الخمسة (ص:336) وما بعدها، وإنقاذ البشر من الجبر والقدر (ص:49) .(3/1333)
والمعتزلة قالوا إن العبد يخلق، فعله، ليصح ثوابه وعقابه على أعماله (1) .
القول الثالث: قول الماتريدية، وهم يقولون: إن الله تعالى خالق أفعال العباد كلها، ولا خالق إلا هو، كما يقول الأشاعرة وجميع أهل السنة (2) ، يقول الماتريدي: - عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة: من الآية15) رادا على المعتزلة: "وفي هذا أنه إذا كان هو الذي يمدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان، فدل أن الله خالق فعل العباد، إذ من قولهم: إن القدرة التامة هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده" (3) ، ويقول عند تفسير قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (البقرة: من الآية109) بعد رده على المعتزلة "ولكن نقول: خلق فعل الحسد من الخلق، وكذلك يقال في الأنجاس والأقذار والحيات والعقارب ونحوها: إنه لا يجوز أن تضاف إلى الله تعالى، فيقال يا خالق الأنجاس والحيات والعقارب، وإن كان ذلك كله خلقه، وهو خالق كل شيء" (4) .
ويقول النسفي:
"والله سبحانه وتعالى خالق لأفعال العباد من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان لا كما زعمت المعتزلة أن العبد خالق لأفعاله" (5) .
_________
(1) انظر: كتاب العدل والتوحيد للرسي - ضمن رسائل العدل والتوحيد (1/118) .
(2) انظر: شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة: أعداد عبد الكريم تتان (ص:28-29) . نشر مكتبة الغزالي ومكتبة ابن الفارض - حماة، وانظر: شرح الفقه الأكبر ملا علي قاري (ص:44) ، والوصية لأبي حنيفة (ص:74) ، بقلم فؤاد علي رضا، مكتبة الجماهير - بيروت، مكتبة مدبولي - القاهرة، ط الأولى 1970م.
(3) تفسير الماتريدي: المسمى: تأويلات أهل السنة ج1 (ص:51-52) طبعة 1391هـ.
(4) تفسير الماتريدية (1/249) .
(5) شرح العقائد النسفية: سعد الدين التفتاراني (ص:77-78) ، تحقيق: كلود سلامة ط دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد القومي 1974م. وانظر: كتاب بحر الكلام في علم التوحيد" تأليف: أبي المعين النسفي (ص:41) .(3/1334)
فالماتريدية - وجمهور الحنفية منهم - موافقون لأهل السنة في أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، ولكن تعلق العباد بأفعالهم لهم فيه رأي خاص اشتهروا به وهو: أنهم يثبتون للعباد إرادة جزئية، ويه غير مخلوقة، وأمرها بأيديهم، فهم "جعلوا كسب العباد عبارة عن إرادتهم الجزئية ... وربما عبروا عنها بالقصد وصرف الإرادة الكلية نحو الفعل، قالوا: إن هذه الإرادة الجزئية صادرة من العباد، وهي لا موجودة ولا معدومة، وإما من قبيل الحال المتوسط بينهما أو من الأمور الاعتبارية، فلا يتضمن صدورها منهم معنى الخلق، إذ الخلق يتعلق بالموجود" (1) ، فالعبد عند الماتريدية له قدرة يخلقها الله تعالى فيه عنده قصده الفاعل قصداً مصمما، طاعة كان أو معصية، وإن لم تؤثر قدرته في وجود الفعل لمانع هو تعلق قدرة الله التي لا يقاومها شيء في إيجاد ذلك (2) .
ويلاحظ أن مذهب الماتريدية هذا قربهم قليلاً من مذهب المعتزلة، كما أن مذهب جمهور الأشاعرة قريب من قول الجهمية، فكلا قولي الأشاعرة والماتريدية متفق على أن الله هو الخالق والعبد كاسب، بمعنى أنه متسبب بعزمه في أن يخلق الله الفعل ويجريه على يديه، لكن اختلفوا في هذا العزم، أمن عمل العبد هو أم من عمل الرب؟ بمعنى: هل العبد هو الذي يوه إرادة نفسه مختارا في هذا التوجيه؟ أم الله هو الذي يوجه إرادة العبد إلى الشيء أو ضده ولا يملك العبد لذلك نقضا ولا تحويلا؟ قال بالأول الماتريدية، وبالثاني الأشاعرة (3) .
القول الرابع: قول الأشاعرة وأتباعهم:
وهؤلاء يقولون: إن الله - سبحانه وتعالى - خالق أفعال العباد، وبهذا الأصل خالفوا المعتزلة القائلين بأن الله لا يخلق أفعال العباد بل هم الخالقون لها،
_________
(1) موقف البشر تحت سلطان القدر: مصطفى صبري (ص:69) ، وانظر الإنسان هل مسير أم مخير؟ الدكتور فؤاد العقلي (ص:50) - طبعة أولى 1980م.
(2) انظر: شرح الفقه الأكبر: علي قاري (ص:46 - وانظر: شرح العقائد النسفية (ص:86-87-88) ، تحقيق كلود سلامة.
(3) انظر: المختار من كنوز السنة النبوية: الدكتور: محمد عبد الله دراز (ص:247) ، وانظر أيضاً: "شيخ الإسلام الهروي" للدكتور محمد سعيد الأفغاني (ص:154-155) .
وانظر في مذهب الماتريدية: في الفلسفة الإسلامية (2/123-124) .(3/1335)
وبتميز هذا الجانب عند الأشاعرة والماتريدية صار مذهبهم مشهوراً بأنه مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا حق.
ولكن عند عرض مذهبهم في الجاني الثاني من قضية خلق أفعال العباد وهو جانب تعلق أفعال العباد بهم، وهل هم الفاعلون لها؟ أم هي كسب لهم، وما مدى تعلق قدرة العباد بأفعالهم ... الخ.
أقول: عند عرض مذهبهم في هذا يتضح مدى اختلافهم وبعدهم عن مذهب أهل السنة والجماعة الحقيقي.
وهناك آمر آخر، وهو أن بعض كبار الأشاعرة قد رجعوا عن آرائهم التي كانوا يقولون بها في القدر إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا يستلزم الدقة في عرض الآراء، وخاصة في نسبة الأقوال إلى أصحابها من الناحية التاريخية.
وقد عرض آراء الأشاعرة - من خلال كتبهم - نورد ما أورده الشهرستاني حول مذهب الأشاعرة في القدر، وتطور آرائهم على يد كبار علمائهم، الواحد تلو الآخر، يقول: "قال (أي أبو الحسن الأشعري) : والعبد قادر على أفعاله إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة، وبين حركات الاختيار والإرادة، والتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة، متوقفة على اختيار القادر، فمن هذا قال: المكتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة، والحاصل تحت القدرة الحادثة.
ثم على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث، لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض، فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث حتى تصلح لإحداث الألوان والطعوم والروائح وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام، فيؤدي إلى تجويز وقوع السماع على الأرض بالقدرة الحادثة، غير أن الله تعالى أجرى سننه بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها، أو معها: الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، ويسمى هذا الفعل كسباً، فيكون خلقا من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسبا من العبد: حصولا تحت قدرته.(3/1336)
والقاضي أبو بكر الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلا، فقال: الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط، بل ها هنا وجوه أخرهن وراء الحدوث من كون الجوهر جوهرا متحيزاً، قابلاً للعرض، ومن كون العرض عرضا، ولونا، وسوادا، وغير ذلك ... قال: فجهة كون الفاعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة، ويسمى ذلك كسبا، وذلك هو أثر القدرة الحادثة ... فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة وأثرها ... .
ثم إن إمام الحرمين أبو المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلا، قال: أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباها العقل والحس، وأما إثبات قدرة لا أثر لها يوجه فهي كنفي القدرة أصلاً، وأما إثبات في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير، خصوصا والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم، فلا بد إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال ... " (1) .
فهذا النص - عن الشهرستاني - يوضح كيف أن قول الأشاعرة في أفعال العباد لم يثبت على قدم الإستقرار، ولم يكن مقنعا لكبار علمائهم الذين بحثوا هذه المسألة، ويلاحظ في عرض هذا التطور لمذهب الأشاعرة أنهم يسرون نحو القول الحق الذي يقول به أهل السنة والجماعة - كما سيأتي - مع العلم بأن الذي استقر عليه مذهب الأشاعرة موافق لما قالوه أولا، والذي ذكر الشهرستاني أنه قول أبي الحسن الأشعري، وأنه لا تأثير للقدرة الحادثة.
ونعرض لأهم أقوال الأشاعرة:
1- قول جمهور الأشاعرة ومتأخريهم، وهؤلاء يقولون إن الله خالق أفعال العباد فيثبتون مرتبتي المشيئة والخلق، ولكن يقولون: "إن أفعال العباد
_________
(1) الملل والنحل للشهرستاني (1/96-99) ، وانظر: نهاية الأقدام له (ص:72-78) ، وانظر: مذهب الإسلاميين: عبد الرحمن بدوي (1/557-561) .(3/1337)
الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيهان بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما، فيكون الفعل مخلوقاً لله إبداعاص وإحداثاً، ومكسوباً، للعبد، والمراد بكسبه إياه: مقارنته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له" (1) .
فأفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، وهي كسب للعباد، وعلى ذلك يترتب الثواب والعقاب، ولا تأثير لقدرة العبد في الفعل، وهذا قول جمهور الأشاعرة وهو القول الذي شنع بسببه المعتزلة على الأشاعرة لأنهم لما لم يثبتوا للعبد قدرة مؤثرة لم يكونوا بعيدين عن قول الجبرية (الجهمية) .
وللكسب عند هؤلاء تعريفات، أهمها:
1- ما يقع به المقدور من غير صحة انفراد القادر به (2) .
2- ما يقع به المقدور في محل قدرته (3) .
3- وبعض الأشاعرة يعرف الكسب بأنه: "ما وجد بالقادر وله عليه قدرة محدثة" (4) . ويضرب بعضهم للكسب مثلا "في الحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل، ويقدر آخر على حمله منفردا به، إذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملا، كذلك العبد لا يقدر على الانفراد بفعله ولو أراد الله الانفراد بإحداث ما هو كسب للعبد
_________
(1) شرح المواقف: للجرجاني (237) ، تحقيق الدكتور أحمد المهدي، وانظر: عيون المناظرات لأبي علي عمر السكوني (ص:164، 176، 224) .
(2) الإنسان هل هو مسير أم مخير؟ الدكتور فؤاد العقلي (ص:11) ، الطبعة الأولى 1980م، مكتبة الخانجي القاهرة. وانظر: شرح جوهرة التوحيد للباجوري (ص:219) ، ط 1392هـ.
(3) شرح جوهرة التوحيد (ص:219) .
(4) المعتمد في أصول الدين: (ص:128) ، وانظر: التعليقات على شرح الدواني للعقائد العضدية: لجمال الدين الأفنغاني (ص:309) من الجزء الأول، ضمن الأعمال الكاملة لمؤلفات جمال الدين الأفغاني، تحقيق محمد عمارة، ط الأولى 1979م.(3/1338)
قدر عليه ووجد مقدوره، فوجوده على الحقيقة بقدرة الله تعالى ولا يخرج مع ذلك المكتسب من كونه فاعلا وإن وجد الفعل بقدرة الله تعالى" (1) .
وكسب الأشعري هذا هو الذي قيل فيه: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها ومنها كسب الأشعري (2) ، وقد دار حوله نقاش طوي لوعريض، ولم ينته الأشاعرة فيه إلو قول مستقيم (3) .
2- قول أبي بكر الباقلاني: وهو كقول جمهور الأشاعرة إلا أنه خالفهم بأن الأفعال واقعة بمجموع القدرتين "على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته، أعين بكونه طاعة ومعصية، إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا توصف بها أفعال تعالى، كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء، فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله وتأثيره، وكونه طاعة على الأول، ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره" (4) ، يقول الباقلاني في رسالة الحرة: "ويجب أن يعلم أن العبد له كسب وليس مجبوراً، بل مكتسب لأفعاله من طاعة ومعصية لأنه تعالى قال: {لَهَا مَا كَسَبَت} (البقرة: من الآية134) يعني من ثواب طاعة {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} (البقرة: من الآية286) يعني من عقاب معصية ... ويدل على صحة هذا أيضاً: أن العاقل منا يفرق بين تحرك يده جبرا وسائر بدنه عند وقوع الحمى به، أو الارتعاش، وبين أن يحرك هو عضوا من أعضائه قاصدا إلى ذلك باختياره، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى، فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب، كذلك لا يقال للعبد إنها خالق" (5) .
_________
(1) أصول الدين للبغدادي (ص:133-134) ، وانظر: نشأة الأشعرية وتطورها، دكتور: جلال محمد موسى (ص:238) .
(2) وطفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، انظر: مجموع الفتاى (8/128*.
(3) انظر: مثلا: النشر الطيب على شرح الطيب، ادريس بن أحمد الوزاني الفاسي، (1/461) ، ط الأولى 1348هـ، وانظر: كتاب المسامرة، للكمال بن أبي شريف، بشرح المسايرة لابن الهمام (ص:107) ، ط الأولى، بولاق، 1317هـ، وانظر: حاشية الكلنبوي على شرح الدواني، مع حاشية المرجاني والخلخاني (1/251) ، ط 1317هـ.
(4) شرح المواقف (ص:239) - الجزء المحقق.
(5) رسالة الحرة - المطبوعة باسم الإنصاف (ص:43-44) .(3/1339)
إذن فمذهب الباقلاني أن الفعل واقع بقدرة العبد بوصفه طاعة أو معصية يترتب عليه الثواب والعقاب.
3- قول أبي المعالي الجويني: كان في الو أمره يقول بقول عامة الأشاعرة وقد صرح بمذهبه هذا في الإرشاد: قال "اتفق سلف الأمة قبل ظهور البدع والأهواء واضطراب الآراء على أن الخالق المبدع رب العالمين، ولا خالق سواه، ولا مخترع إلا هو، فهذا هو مذهب أهل الحق، فالحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى، ولا فرق بين ما تعلقت قدرة العباد به، وبين ما تفرد الرب بالاقتدار عليه ويخرج من مضمون هذا الأصل أن كل مقدور لقادر فالله تعالى قادر عليه وهو مخترعه ومنشئه" (1) . ثم قال: "فالوجه القطع بأن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها أصلا، وليس من شرط تعلق الصفة أن تؤثر في متعلقها، إذ العلم معقول تعلقه بالمعلوم مع أنه لا يؤثر فيه، وكذلك الإرادة المتعلقة بفعل العبد لا تؤثر في متعلقها" (2) . وواضح من هذا الكلام تمسك الجويني بمذهب الأشاعرة، وكلننا نجد في "العقيدة النظامية" وهي آخر ما كتب في العقيدة يرد قوله هذا وقول عموم الأشاعرة (3) وقد أطال الكلام في هذه المسألة ووضح مذهبه الذي انتهى إليه، وهو موافق لمذهب أهل السنة والجماعة.
_________
(1) الإرشاد (ص:187) .
(2) المصدر السابق (ص:210) .
(3) انظر: العقيدة النظامية (ص:43-56) ، تحقيق أحمد حجازي السقا، ط الأولى 1398هـ، وانظر في مذهب الجويني: النشر الطيب (1/464) ، والملم والنحل للشهرستاني (1/98) ، ونهاية الأقدام (ص:78) وما بعدها. وفي الفلسفة الإسلامية (2/118) وما بعدها، ومذاهب الإسلاميين (1/739) وما بعدها.(3/1340)
4- قول أبي حامد الغزالي، وهو أن أفعال العباد واقعة بمجموع القدرتين على فعل واحد، وجوز اجتماع المؤثرين على فعل واحد، يقول "وإنما الحق إثبات القدرتين على فعل واحد، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين فلا يبقى إلا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد، وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما، فتوارد التعلقين على شيء واحد غير محال" (1) ، فالمؤثر عنده مجموع القدرتين، قدرة الله وقدرة العباد (2) .
القول الخامس: قول أهل السنة والجماعة، وهؤلاء يقرون بالمراتب الأربع الثابتة والتي دلت عليها النصوص، وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة والخلق، أما أفعال العباد فهي داخلة في المرتبة الرابعة، ولذلك فهم يقولون فهيا: إن الله خالق أفعال العباد كلها، والعباد فاعلون حقيقة، ولهم قدرة حقيقة على أعمالهم ولهم إرادة، ولكنها خاضعة لمشيئة الله الكونية فلا تخرج عنها.
منهج شيخ الإسلام في الرد على الأشاعرة في القدر:
أولاً: يوافق الأشاعرة أهل السنة في إثبات القدر، وأن الله خالق أفعال العباد.
ثانياً: أما قولهم بإثبات قدرة للعبد غير مؤثرة، وتسمية فعله كسبا، فشيخ الإسلام يرجع أصل قولهم هنا إلى قضية سبق شرحها في باب الصفات وهي قولهم: إن الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق، وعدم تفريقهم بين ما يقوم بالله من الأفعال، وما هو منفصل عنه، وجعلهم كل أفعال الله مفعولة له منفصلة عنه.
فلما جاءوا إلى مسألة القدر وأفعال العباد واعتقدوا أنها مفعولة لله، قالوا: هي فعله، لأن الفعل عندهم هو المفعول، فيقيل لهم في ذلك: أهي فعل العبد؟ فاضطربوا في الإجابة، وانقسموا حيالها إلى أقوال ثلاثة:
_________
(1) الاقتصاد (ص:58-59) ، ط دار الكتب العلمية.
(2) انظر: الأربعين للرازي (ص:13) ، ط دار الآفاق.(3/1341)
- جمهورهم قالوا: هي كسب العبد لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق.
- ومنهم من قال: بل هي فعل بين فاعلين. وهو قول الغزالي الذي سبق.
- ومنهم من قال: بل الرب فعل ذات الفعل والعبد صفته وهذا قول الباقلاني - كما سبق - (1) .
"والتحقيق الذي عليه أئمة السنة وجمهور الأمة من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق. فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، ما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعول لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به، ليست قائمة بالله ولا يتصف بها، فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد، وهي مفعول للرب" (2) .
وبهذا التفصيل الجيد يتبين غلط الأشاعرة حين جعلوا الفعل هو المفعول، فأوقعهم هذا في مأزق الكسب الذي اشتهروا به ولم يستطيعوا التخلص منه.
ومع هذا الرد المجمل فإن لشيخ الإسلام كثيراً من الردود التفصيلية، وأهمها:
1- أن كسب الأشعري لا حقيقة له، لأنهم فسروه بأنه عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، وقالوا: الخلق هو المقدور بالقدرة القديمة. وما دام العبد ليس بفاعل، ولا له قدرة مؤثرة في الفعل فالزعم بأنه كاسب، وتسمية فعله كسبا لا حقيقة له، لأنه القائل بذلك لا يستطيع أن يوجد فرقا بين الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب الذي أثبته له. وكثيرا ما يشير شيخ الإسلام إلى أن قول
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (2/119) .
(2) المصدر السابق (2/119-129) ، وانظر: منهاج السنة (1/322-326) - ط دار العروبة المحققة.(3/1342)
الأشاعرة هذا قريب من قول الجهم الذي يصرح بالجبر (1) .
2- أما زعمهم بأنهم يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه وبين الخلق بأن الكسب: عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة، وقولهم أيضاً: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه، وزعمهم أن هذا يبعد قولهم عن قول الجهم الذي يقول بالجبر المحض (2) أما مزاعمهم هذه فمردودة بما يلي:
أأن قولهم هذا "لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب، وبين كونه فعل، وأوجد، وأحدث، وصنع، وعمل، ونحو ذلك، فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة" (3) .
ب "وأيضاً فإنه لا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك، والثاني أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في كل وجودها، ولا يكون شيء من مقدورها خارجا عن محلها. وفي ذلك نزاع طويل" (4) .
فالأشاعرة بنوا أقوالهم في الكسب وقدرة العبد على أصول غير مسلمة.
_________
(1) انظر في مناقشة شيخ الإسلام لمسألة الكسب وإنه لا حقيقة له، وإنه كطفرة النظام وأحوال أبي هاشم، والرد عليهم في مسألة القدرة الحادثة: الصفدية (1/149-153) ، والنبوات (ص:199) - ط دار الكتب العلمية -، ومجموع الفتاوى (8/387، 403-407، 467-468) ، وشرح الأصفهانية (ص:149-150، 350) ت السعوي، والاستغاثة (2/173) ، ومنهاج السنة (1/323) ط دار العروبة المحققة (1/358، 2/51) ، مكتبة الرياض الحديثة، أقوم ما قيل في القضاء والقدر - مجموع الفتاوى - (8/128، 136-137) ، درء التعارض (1/82-84، 4/65، 6/49، 7/247-248، 9/167، 10/114-115) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى (8/118-119) .
(3) المصدر السابق (8/119) .
(4) المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة.(3/1343)
جـ - وتفسيرهم التأثير بمجرد الاقتران يقتضي أن لا يكون هناك فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل (1) .
ح أن "من المستقر في فطر الناس، أن من فعل العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم" (2) ، وهذا من أعظم الباطل. ويقال للأشاعرة أيضاً: يقال لكم هنا ما تقولونه أنتم للمعتزلة في مسألة الكلام وأن من قام به الكلام فهو المتكلم، وأن الكلام إذا كان مخلوقاً كان كلاماً للمحلى الذي خلقه فيه. فكذلك إرادة العبد وقدرته (3) .
خ أن القرآن مملوء بذكر إضافة أفعال العباد إليهم، ومن ذلك قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: من الآية17) وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} (فصلت: من الآية40) وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: من الآية105) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (البقرة: من الآية277) وغيرها كثير جداً (4) .
د "أن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله، ويكون حسنة له أو سيئة، فلو لم يكن إلا فعل غيره لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها" (5) .
ثالثاً: أن التفصيل الذي ذكره السلف، هو الحق وبه يزول الإشكال الذي توهمه هؤلاء في مسألة العباد، وكونها مخلوقة لله تعالى، وفي فعل للعباد حقيقة. وقد بنى السلف ذلك على أن الفعل غير المفعول والخلق غير المخلوق.
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/119) .
(2) المصدر السابق (8/119-120) .
(3) انظر: المصدر نفسه (8/120) .
(4) انظر: المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة.
(5) المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة.(3/1344)
ومع وضوح مذهب السلف فإن شيخ الإسلام شرح بعض القضايا الغامضة حول مذهبهم، ومنها:
1- ما يقال من أنه إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله، وهي فعل لهم حقيقة، فكيف نجمع بين هذين الأمرين؟
يجيب عن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "قول القائل: هذا فعل هذا، وفعل هذا: لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، وتارة يراد به مسمى المصدر، فيقولك فعلت هذا أفعله فعلا، وعملت هذا أعمله عملا، فإذا أريد بالعمل نفس العمل الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب وبناء الدار ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَات} (سبأ: من الآية13) فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات:96) أي والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها ... والمقصود أن لفظ "الفعل" و"العمل" و"المصنع" أنواع وذلك كلفظ البناء والخياطة والتجارة تقع على نفس مسمى المصدر، وعلى المفعول وكذلك لفظ "التلاوة" و"القراءة" و"الكلام" و"القول" يقع على نفس مسمى المصدر، وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقرؤ المتلو، كما يراد بها مسمى المصدر.
والمقصود أن القائل إذا قال: هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين، وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق"، ثم وضح المسألة فقال: "وأما من قال (وهم جمهور أهل السنة) : خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته، قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات، ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل: إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال: إنها نفس فعل العبد، وعلى هذا تزول الشبهة، فإنه يقال:(3/1345)
الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلا له، كما يفعلها العبد، وتقوم به، ولا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإن كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعما مرا أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح، لم يكن هو متصفا بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة، ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها، وسببا لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به لا على الخالق الذي خلقها فعلا لغيره" (1) .
2- ومن الأمور التي تحتاج إلى بيان: مسألة قدرة العبد وهل لها تأثير أولا؟ يوضح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية: فيقولك "إن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر، وانتفاء موانع - وكل ذلك بخلق الله تعالى - فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثرا، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولاند له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ... فإذا عرف ما في لفظ "التأثير من الإجمال والاشتراك ارتفعت الشبهة، وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين" (2) ، ويقول في موضع آخر: "الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أله السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر، المخالفون للمعتزلة: إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعها، والسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سحبانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة
_________
(1) مجموع الفتاوى (8/121-123) .
(2) المصدر السابق (8/134-135) .(3/1346)
الجازمة مع القدرة، وإذا أريد بالقدرة القوة بالإنسان فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره" (1) .
وقد وضع شيخ الإسلام هذه القضية توضيحاص تاما فقال: "التأثير اسم مشترك، قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد (2) بالاختراع فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشاً الله، لم يقله سني، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال. وإن أريد التأثير في ذات الفعل، إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل، وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق.
وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان يتوسط القدرة المحدثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا، وإلا فيكون إثبات جميعا لأسباب شركاً" (3) .
وكلام ابن تيمية في هذين الموضوعين واضح تمام الوضوح، وفيه حل لاشكالات كثيرة، وما وجدت أحداً قبل شيخ الإسلام -رحمه الله- بين هذا البيان في هذه القضايا المهمة التي كثر فيها الكلام، واختلط فيها الحق بالباطل. فلقد كان شرحه وافياً، شافياًن دقيقاً. وما وجدت من كتب في القدر ككتابة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى.
3- ومن الأمور التي ينبغي الإشارة إليها: معنى الكسب عند أهل السنة، فكثيراً ما يذكر علماء السنة أن أفعال العباد كسب لهم، وقد يقع إيهام في ذلك
_________
(1) مجموع الفتاوى (8/487-488) .
(2) هكذا في النص ولعلها: التوحيد.
(3) انظر: مجموع الفتاوى (8/389-390) .(3/1347)
خاصة وإن الأشاعرة يعبرون عن مذهبهم في هذا الموضوع بالكسب، فيقع الإيهام أحياناً، ونوضح هنا أن أهل السنة عندما يقولون: أن أفعال العباد كسب لهم، معناه: أنها أفعالهم التي تعود على فاعليها بنفع أو ضر، ما قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: من الآية286) "فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها، ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها، إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين، صح إثبات السبب، إذ كمالهم وصلاحهم من أفعالهم". فمقصود أهل السنة أنها كسب لهم واقعة بقدرتهم وإرادتهم وكل أفعالهم مخلوقة لله سبحانه وتعالى.(3/1348)
المبحث الرابع: الإيمان
مقدمة
اشتهر عن الأشاعرة ميلهم إلى مذاهب المرجئة في الإيمان، وقولهم فيه يشبه كثيرا قولهم في مسألة الكلام، حين حصروه بالكلام النفسي دون الألفاظ، وفي الإيمان جعلوا معناه المعرفة أو التصديق، ولم يدخلوا فيه القول ولا الأعمال.
وشيخ الإسلام رد عليهم وعلى غيرهم من أصناف المرجئة، ما رد على من قابلهم في الانحراف كالمعتزلة والخوارج. وحتى لا يتشعب الكلام ويطول يمكن عرض هذه المسألة كما يلي:
أولاً: الأقوال في الإيمان.
ثانياً: مقدمات في عرض أصل الخلاف في الإيمان.
ثالثاً: ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة في الإيمان.
أولاً: الأقوال في الإيمان:
وقع الخلاف بين الطوائف في حقيقة الإيمان، وهل الأعمال داخلة فيه وحكم مرتكب الكبيرة - على أقوال:
1- قول أهل السنة والجماعة وجماهير السلف، إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قالوا ومرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وفي الآخرة تحت المشيئة.
2- قول المعتزلة والخوارج، وهؤلاء يقولون: الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأما مرتكب الكبيرة:
أ - فحكمه في الدنيا عند المعتزلة أنه ليس بمؤمن ولا كافر، بل هو في منزلة بين المنزلين، ومن ثم فليس مباح الدم. وأما عند الخوارج فهو كافر مباح الدم والمال.(3/1349)
ب - وأما حكمه في الآخرة فقد اتفق الخوارج والمعتزلة على أنه مخلد في النار كالكفار.
3- قول مرجئة الفقهاء - من أتباع أبي حنيفة - أن الإيمان قول واعتقاد، وأما الأعمال فغير داخلة فيه. وأما حكم مرتكب الكبيرة عندهم فهو موافق لمذهب أهل السنة.
4- قول الجهمية: أن الإيمان هو المعرفة فقط، وما عداها من تصديق القلب وإقراره، ومن القول والعمل، فغير داخل في الإيمان، وهذا قول الجهم. ولازم قوله أن إبليس وفرعون ومن شابههم ممن عرف الله وعاند فسب الله ورسوله، وعاداهم، وقتل الأنبياء، وهدم المساجد، وأهان المصاحف - أنه مؤمن كامل الإيمان.
5- قول الماتريدية: أن الإيمان هو التصديق، وأما قول اللسان فهو دليل عليه وليس داخلا فيه، وأما العمل فغير داخل فيه.
6- قول الكرامية: أن الإيمان قول باللسان فقط. وهذا لإثبات إيمانه في الدنيا، أما في الآخرة فمن لم يوافق قوله ما في قلبه من الاعتقاد الصحيح - كالمنافق - فهو مخلد في النار.
7- قول الكلابية والأشعرية: ولهم في الإيمان قولان:
أحدهما: قول أنه قول واعتقاد وعمل، وهذا قول أبي علي الثقفي، والقلانسي، وإليه مال ابن مجاهد، وهو أحد قولي أبي الحسن الأشعري، ذكره في المقالات (1) - ضمن مقالة أصحاب الحديث وأهل السنة، وقال إنه بكل ما قالوه يقول (2) . قال شيخ الإسلام بعد نقله: "فهذا قوله في هذا الكتاب وافق فيه أهل السنة وأصحاب الحديث، بخلاف القول الذي نصره في الموجز" (3) . وذكر إنه اختيار طائفة من أصحابه (4) .
_________
(1) انظر: المقالات (ص:293-294) ت ريتر.
(2) انظر: المصدر السابق (ص:297) .
(3) الإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى (7/550) ، وانظر: الإيمان (ص:115) ط المكتب الإسلامي.
(4) انظر: المصدر السابق (7/509) .(3/1350)
والثاني: القول الثاني لأبي الحسن الأشعري - الذي ذكره في الموجز - ووافقه عليه جمهور الأشاعرة، كالباقلاني، والجويني وغيرهما. وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته. ويختلف تعبير الأشاعرة هنا فتارة يقولون هو المعرفة كقول جهم، وتارة يقولون هو التصديق (1) .
أما مذهبهم في مرتكب الكبيرة فهو موافق لقول أهل السنة.
ويلاحظ أن القول الثاني هو الذي اشتهر عند الأشاعرة، وهو الذي نصره أئمتهم ممن جاء بعد الأشعري، وهو الذي استقر عليه المذهب.
هذه خلاصة الأقوال في الإيمان، ومنها يتبين أن للأشاعرة فيه قولين، أحدهما موافقا لمذهب السلف، والثاني موافقا للجهم.
ثانياً: مقدمات في عرض أصل الخلاف في الإيمان:
لشيخ الإسلام تأصيلات وقواعد في باب الإيمان ذكر بعضها في كتاب الإيمان الكبير، وبناها على استقراء جيد لما ورد من النصوص في ألفاظ الإيمان وما شابهه، كما أن له تحقيقات دقيقة ذكر فيه أصول الخلاف وتفاوت الطوائف في مدى التزامها بلوازم أقوالها.
وليس القصد استيفاء هذه الأصول والقواعد، وإنما يمكن الإشارة إلى لمحات سريعة تتعلق بالخلاف في الإيمان فقط. ومن ذلك:
1- ما ذكره من أن الأصل الذي نشأ بسببه النزاع في الإيمان التزام بعضهم بمسألتين:
أحدهما: أن الإيمان كل لا يتجزأ إذا زال جزء منه زال باقيه.
والثانية: قولهم إنه لا يجتمع عند الإنسان طاعة ومعصية، وإيمان وكفر، وإسلام ونفاق، بل إذا وجد أحدهما انتفى الآخر.
_________
(1) انظر: الإيمان (ص:189-239) ، ط المكتب الإسلامي، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى (7/509، 543-550) ، والتسعينية (ص:160) ، ومجموع الفتاوى (2/94) .(3/1351)
فلما استقرت هذه القواعد عندهم، وخالفهم فيها أهل السنة - صارت الأقوال في الإيمان ثلاثة:
القول الأول: قول الخوارج والمعتزلة، وهؤلاء قالوا ثبت بالأدلة أن الأعمال من الإيمان، ومن ثم فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، والقاعدة أن الإيمان إذا زال بعضه زال باقيهن ولا يكون في العبد إيمان ونفاق. ومن ثم لم يقولوا بجواز تبعيض الإيمان، لا في الاسم ولا في الحكم. فرفعوا عن صاحب الكبيرة الإيمان بالكلية - وهذا في الاسم - وأوجبوا له الخلود في النار - وهذا في الحكم.
والقول الثاني: قول الجهمية والمرجئة، وهؤلاء قالوا: قد علما يقينا أن أهل الذنوب من أهل القبلة، لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها كما توارت بذلك الأحاديث، كما أن الإجماع حاصل على أنهم ليسوا كفارا مرتدين.
قالا فلو أدخلنا الأعمال في مسمى الإيمان - والقاعدة أن الإيمان كل لا يتجزأ، إذا ذهب بعضه ذهب باقيه - لو وجب إذا فعل المؤمن ذنبا وزال بعض إيمان أن يزول كله فيخلد في النار، وهذا خلاف ما تواتر في النصوص. لذلك أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان لئلا يؤدي ترك بعضها إلى زوال الإيمان كلية والخلود في النار، وهذا مخالف للنصوص.
فهؤلاء المرجئة نازعوا في الاسم لا في الحكم. فقالوا في الحكم يجوز أن يكون صاحب الكبيرة مثابا معاقبا، محمودا مذموما - وبعضهم يقف في نفوذ الوعيد، فلا يجوز نفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره - هذا في حكمه في الآخرة. أما في اسمه في الدنيا فمنعوا التبعض في الإيمان، وقالوا لا يجوز أن يكون معه بعض الإيمان دون بعض.
القول الثالث: قول أهل السنة، فقالوا بجواز التبعيض في الاسم والحكم، "فيكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم(3/1352)
بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحساب ما عليه" (1) ، وقالوا إنه يجتمع عند الإنسان طاعة ومعصية وإيمان وكفر أصغر، وإسلام ونفاق عملي، كما تجتمع له الولاية والعدواة بحسب ما معه من الطاعات والمعاصي. فهو في الدنيا - إذا فعل كبيرة - مؤمن ناقص الإيمان، وفي الآخر تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. مع أنه لا بد من الوعيد المجمل لأهل الكبائر، فيدخل بعضهم النار لكن لا يخلدون فيها (2) .
وهذا تحليل دقيق جداً لمنشأ الخلاف كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ولا شك أن النصوص متواترة في إثبات أنه قد يجتمع عند الإنسان إيمان ونفاق، وآثار الصحابة والتابعين دلت على ذلك، بل أجمع السلف على ذلك. ومن العجيب أن الأشعري حكى في بعض كتبه الإجماع على أنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، وتابع على ذلك أصحابه، يقول شيخ الإسلام: "والأصل الذي أوقعهم في هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين، كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم في هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة" (3) . والنصوص الدالة على مذهب السلف وأنه يجتمع عند الإنسان طاعة ومعصية وإيمان ونفاق صريحة جداً (4) .
2- أن من قال قولا في الإيمان، ثم لم يلتزم لوازمه الباطلة بقي بين أمرين، إما مناقضة قوله، أو التزام القول الباطل المجمع عليه.
_________
(1) شرح الأصفهانية (ص:144) ت مخلوف.
(2) انظر: في تفصيل ما سبق المصدر السابق (ص:137-138، 143-144) ت مخلوف، الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى - (13/48-50) ، وشرح حديث: إنما الأعمال بالنيات - مجموع الفتاوى 18/270-271، 276) ، والإيمان (ص:209-210، 376) ط المكتب الإسلامي، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/510-520) ، وفيه مناقشة مفصلة لهذه المسألة.
(3) الإيمان (ص:387) ط المكتب الإسلامي.
(4) انظر: المصدر السابق (ص:337-387) ط المكتب الإسلامي، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/215-522) ، والاستقامة (1/430) ، ومجموع الفتاوى (11/173-175، 19/295-296) .(3/1353)
ومن أوضح الأمثلة على ذلك مذهب الجهم في الإيمان، وأقوال من وافقه من الأشاعرة، فالإمام أحمد - في رده على الجهم - ألزمه بهذا الإلزام الذي قال فيه: "يلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه، وصلى للصليب، وأتى الكنائس والبيع، وعمل الكبائر كلها، إلا أنه في ذلك مقر بالله، فيلزمه أن يكون عنده مؤمناً، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم" (1) ، قال شيخ الإسلام معلقاً: قلت: هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم. جمع في ذلك جملا، يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه، ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جهم - ومن وافقه - أنه لازم التزموه، وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافراً في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافراً في الآخرة قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد. فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع" (2) .
ثم يقول شيخ الإسلام عن الأشاعرة الذي وافقوا الجهم: "ومن كان موافقاً لقول جهم في الإيمان بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان، يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة، وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم" (3) .
ثم ضرب مثالاً بمسألة سب الله الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "حتى في مسألة سب الله ورسوله: رأيت طائفة من الحنبليين والشافعيين والمالكيين إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا: إن هذا كفر باطنا وظاهراً، وإذا تكلموا بكلام أولئك قالوا: هذا كفر في الظاهر، وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا تام الإيمان، فإن الإيمان عندهم لا يتبعض. ولهذا لما عرف القاضي عياض هذا من قول بعض أصحابه أنكره، ونصر قول مالك وأهل السنة، وأحسن في ذلك ...
_________
(1) الإيمان (ص384) ط المكتب الإسلامي.
(2) الإيمان (ص:384-384) .
(3) المصدر السابق.(3/1354)
وكذلك تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف، ويبحثون بحثا يناسب قول الجهمية؛ لأن البحث أخذوه من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان" (1) .
ثم ذكر شيخ الإسلام مثالاً على هذا وهو أن الفخر الرازي لما صنف مناقب الشافعي، وحكى مذهبه في الإيمان الذي هو موافق لمذهب السلف، استشكل معارضة ذلك لما يعرفه من مذهب أصحابه المرجئة وهو ممن يوافقهم على بدعتهم (2) .
وفي الصارم المسلول لما عرض لهذه المسألة وذكر قولي القاضي أبي يعلي - أحدهما الموافق لجمهور السلف (3) ، والثاني الموافق لقول جهم في الإيمان حيث قال أبو يعلى: "إن من قتله بلا استتابة، فهو لم يره ردة، وإنما يوجب القتل فيه حدا، وإنما نقول ذلك مع إنكاره ما شهد عليه، أو إظهاره الإقلاع عنه والتوبة، ونقتله حداً كالزنديق إذا تاب، قال: ونحن وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد، وإنكاره ما شهد به عليه ... وأما من علم أنه سبه معتقداً لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك، وكذلك إن كان سبه في نفسه كفراً كتكذيبه أو تكفيره ونحوه، فهذا مالا إشكال فيه، وكذلك من لم يظهر التوبة واعترف بما شهد به وصمم عليه فهو كافر بقوله واستحلاله هتك حرمة الله أو حرمة نبيه" قال شيخ الإسلام: "وهذا أيضاً تثبيت منه بأن السب يكفر به لأجل استحلاله، إذا لم يكن في نفسه تكذيباً صريحاً. وهذا موضع لا بد من تحريره، ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة، ويرحم الله القاضي أبا يعلى، قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا، وإنما وقع من وقع في هذه المهواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين - وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق
_________
(1) الإيمان (ص:386) ط المكتب الإسلامي.
(2) وانظر: المصدر نفسه، نفس الصفحة، وانظر: مناقب الشافعي للفخر الرازي (131-132، 146-147) .
(3) انظر: الصارم المسلول (ص:513) .(3/1355)
الذي في القلب وإن لم يقترن به قول اللسان، ولم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح" (1) .
وقد أوضح شيح الإسلام بعد ذلك مأخذ هؤلاء المرجئة حيث إنهم رأوا أن الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به، ورأوا أن اعتقاد صدقه لا ينافي السب والشتم بالذات، كما أن اعتقاد وجوب طاعته لا ينافي معصيته، فلما رأوا أن الأمة كفرت الساب قالوا إنما كفر لأن سبه دليل على عدم اعتقاده لحرمة السب، فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة. وهذا قول عجيب مخالف لإجماع السلف، وقد أطال شيخ الإسلام في الرد على أصناف المرجئة في هذا (2) .
ثالثاً: ردود شي الإسلام على جمهور الأشاعرة في الإيمان:
سبق - عند عرض الخلاف - في الإيمان أن الرأي الثاني للأشاعرة والذي عليه جمهورهم أن الإيمان هو التصديق أو المعرفة، وأن الأعمال غير داخلة في الإيمان. وقد جاءت ردود شيخ الإسلام عليهم حسب المسائل التالية:
المسألة الأولى: هل الإيمان التصدق فقط؟
يقول شيخ الإسلام عن أبي الحسن الأشعري: "وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان، مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من إنه يستثنى في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لأنه نصر مذهب أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، ولا يخلدون في النار وتقبل فيهم الشفاعة، ونحو ذلك، وهو دائماً ينصر في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم قول أهل الحديث، لكنه لم يكن خبيرباً بمآخذهم، فنصره على ما يراه هو من الأصول التي تلقاها عن غيرهم فيقع في ذلك من التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء، كما فعل في مسالة الإيمان، ونصر فهيا قول جهم مع نصره للإستثناء. ولهذا خالفه كثير من أصحابه في الإستثناء ... وأتبعه أكثر أصحابه على نصر قول جهم في ذلك.
_________
(1) الصارم المسلول (ص: 514-515) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص:517-525) .(3/1356)
ومن لم يقف إلا على كتب الكلام، ولم يعرف ما قاله السلف وأئمة السنة في هذا الباب، فيظن أن ما ذكروه هو قول أهل السنة، وهو قول لم يقله أحد من أئمة السنة، بل قد كفر كأحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره أبو الحسن، وهو عندهم شر من قول المرجئة" (1) أي مرجئة المتكلمون.
ويلاحظ من هذا النص لشيخ الإسلام أن مذهب الأشاعرة في الإيمان قد تطور في بعض مسائله، فمثلاً كان للأشعري قولان، أحدهما موافق للسلف - كما سبق - وقول آخر وافق فيه جهما، ومع ذلك فهو في الاستثناء في الإيمان موافق لمذهب السلف. فلما جاء أصحابه من بعده نصورا قوله الموافق لجهم دون أقواله الأخرى الموافقة لمذهب السلف.
أما أدلة الأشاعرة على قولهم في الإيمان فقد ذكر شيخ الإسلام عمدتهم في ذلك - كما ذكره الباقلاني في التمهيد، فقالك "قال القاضي أبو بكر في التمهيد: "فإن قالوا: فخبرونا ما الإيمان عندكم؟ قيل: الإيمان هو التصديق بالله وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب. فإن قال: فما الدليل على ما قلتم؟ قيل: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن وبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو التصديق، لا يعرفون في اللغة إيمانا غير ذلك، ويدل على ذلك قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (يوسف: من الآية17) أي: بمصدق لنا، ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب العبر، أي لا يصدق بذلك، فوجب أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان في اللغة ... " (2) إلى آخر قول الباقلاني الذي نقله شيخ الإسلام ثم قال: "هذا عمدة من نصر قول الجهمية في مسألة الإيمان" (3) .
_________
(1) الإيمان (ص:115) ط المكتب الإسلامي.
(2) المصدر السابق (ص:115-116) ط المكتب الإسلامي، وقارن بالتمهيد للباقلاني (ص: 346) ت مكارثي.
(3) الإيمان (ص:116) ط المكتب الإسلامي.(3/1357)
أما منهج شيخ الإسلام في مناقشة هذا القول فقد كان بطريقين: إجمالي، وتفصيلي.
أما الإجمالي: فإن شيخ الإسلام ذكر من خلاله ردود جمهور أهل السنة عليهم، حسب منطلق كل قول. فمن ذلك:
أ - "قول من ينازعه في أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق، ويقول هو بمعنى الإقرار وغيره".
ب - "قول من يقول: وإن كان في اللغة هو التصديق، فالتصديق يكون بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" (1) .
ت - "أن يقال: ليس هو مطلق التصديق، بل هو تصدق خاص مقيد بقيود اتصل اللفظ بها، وليس هذا نقلاً للفظ، ولا تغييرا له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، وصفة وبينة".
ث - "أن يقال: وإن كان هو التصديق، فالتصديق التام القائم مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح ...
ج - "قول م يقول: إن اللفظ باق على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً".
ح - "قول من يقول: إن الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي".
_________
(1) متفق عليه: البخاري: كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج، ورقمه (6343) الفتح (11/26) ، وفي القدر، باب (وحرام على قرية أهلكناها) ورقخ (6212) ، الفتح (11/502-503) ، ومسلم، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى ورقمه (2657) بروايتين. ويلاحظ أن لفظ (أو يكذبه) لم ترد في جميع طبعات البخاري (التي مع الفتح، واستانبول، والحلبية، والمنيرية) لكنها وردت في إحدى نسخ البخاري كما في حاشية طبعة الحلبي (8/67، 156) ، والمنيرية (8/98/98، 225) ، وهي المذكورة في نفس شرح فتح الباري (11/504) ، كما أنها وردت في إحدى روايتي مسلم. أما اللفظ الآخر الوارد في طبعات البخاري وفي الرواية الأخرى لمسلم فهو (ويكذبه) بدون الألف.(3/1358)
خ - قول من يقول: إنه منقول (1) .
فكل واحد من هذه الأقوال مشتمل على الرد على قول هؤلاء أن الإيمان هو التصديق فقط، وهي - سوى الأول (2) - لا تنازع في أن من معاني الإيمان التصديق، أو أن معناه في اللغة هو التصديق، ثم إن الشارع جعله تصديقاً بأمور معينة، وزاد عليه أمورا أخرى، كصلاة فإن معناها في اللغة الدعاء، وفي الشرع هذه الصلاة المعروفة المحددة بالأقوال والأفعال والأوقات. فهلا قال هؤلاء المرجئة في الصلاة مثل قولهم في الإيمان، فجعلوا مطلق الدعاء كاف في الإتيان بها، كما قالوا في الإيمان هو التصديق وهو كاف في حصول الإيمان؟.
أما الرد التفصيلي: على أقوال الأشاعرة وحججهم كما عرضها الباقلاني فقد رد عليها شيخ الإسلام من أوجه عديدة، جاءت كما يلي:
1- نقض دعواهم الإجماع على أن الإيمان في اللغة قبل نزول القرآن هو التصديق، وذلك بمطالبتهم بأن يذكروا من نقل هذا الإجماع، وفي أي كتاب ذكر، ثم من المقصود بأهل اللغة؟ هل المقصود نقلتها كأبي عمرو والأصمعي، والخليل ونحوهم، أو المتكلمون بها؟ أما علماء اللغة فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، أو ما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب بالإسناد، ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان، فضلا عن أن يكونوا أجمعوا عليه.
أما إن كان المقصود بأهل اللغة أنفسهم فهؤلاء لم ينقل عنهم ذلك.
ثم لو فرض أنه نقل عن واحد أو اثنين أن الإيمان التصديق فكيف بعد هذا إجماعاً؟ ثم إن العرب لا يقولون: معنى الإيمان كذا، ولو فرض أنه نقل في الكلام المسموع عن العرب ما يدل على أنهم قصدوا بالإيمان التصديق فليس ذلك بأبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
_________
(1) الإيمان (ص:116-117) ط المكتب الإسلامي.
(2) يرى أصحاب هذا القول أن الإيمان مأخوذ من الأمن. انظر: الإيمان (ص:121) .
(3) انظر: الإيمان (ص:117-119) ط المكتب الإسلامي.(3/1359)
2- أن دعواهم أن الإيمان في اللغة هو التصديق لم يؤيده بشاهد من كلام العرب، وإنما دعمه بما ينقض دعواه، وذلك أنه قال: ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب القبر، وهذا - قطعاً - ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن. ثم بعد ذلك فمن قال هذا ليس مراده مجرد التصديق - كما يدعي هؤلاء - وإنما مراده التصديق بالقلب واللسان، لأن إيمانه لا يمكن أن يعلم حتى يخبر عنه.
وأيضاً فإن التصديق بالشفاعة وعذاب القبر وغيرهما مما يرجى ويخاف، لا يتم تصدقه إلا مع الخوف من عذاب القبر، والرجاء للشفاعة، ولو صدق بهما من غير خوف ولا رجاء لم يكن مؤمناً. كما أن إبليس لا يسمى مؤمناً وإن كان مصدقاً بوجود الله وربوبيته، كما أن فرعون لا يسمى مؤمناً وإن كان عالماً بأن الله أرسل موسى، ولا يسمون اليهود مؤمنين بالقرآن والرسول، وإن كانوا يعرفون أنهما حق ... وهكذا (1) .
3- أنه لو فرض أن الإيمان في اللغة هو التصديق، فمن المعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بلك شيء، بل بشيء مخصوص وهو ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحينئذ فالإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة. والخاص تضم إليه قيود لا توجد في جميع العام، كقول اللسان وعمل القلب، فيكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص (2) .
4- وإذا كان الإيمان له في الشرع معان خاصة، فلا بد من الرجوع إلى المقصود به في الكتاب والسنة، مثلا الصلاة، والزكاة، والحج. وفي القرآن لم يرد ذكر إيمان مطلق غير مفسر، وإنما ورد لفظ الإيمان فيه إما مقيداً، وإما مطلقا مفسراً:
فالمقيد قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: من الآية3) ، وقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} (يونس: من الآية83) .
_________
(1) انظر: الإيمان (ص:119-120) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص:121) .(3/1360)
والمطلق المفسر كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (لأنفال: من الآية2) وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15) ، وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) وأمثال هذه الآيات "وكل إيمان مطلق في القرآن فقد بين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمنا إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين في القرآن أن الإيمان لا بد فيه من عمل مع التصديق، كما ذكر ذلك في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج" (1) .
وقد أورد شيخ الإسلام هنا اعتراضا - ذكره القاضي أبو يعلي وغيره - يزعم فيه أن هناك فرقاً بين هذه العبادات - التي هي الصلاة والزكاة والصيام والحج - وبين الإيمان، بأن هذه الأسماء باقية، ولكن ضم إلى المسمى أعمال في الحكم لا في الاسم أي أن اسم الصلاة - مثلا - باق أن المقصود به الدعاء، ولكن ضم إليه أعمال في حكم الصلاة لا في اسمها، وبهذا تكون قد فارقت الإيمان. ولن شيخ الإسلام يجيب بأن هذا إن كان صحيحاً في الصلاة وغيرها فيقال مثله في الإيمان، حيث وردت النصوص بضم العمل إليه. أما من زعم أن القرآن لم يذكر فيه العمل - ليفرق بين الإيمان والصلاة - فليس كما زعم، "بل القرآن والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق، وهذا في القرآن أكثر بكثير من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة وإجماع السلف" (2) .
والخلاصة أن الإيمان كالصلاة، قد يكون له أصل في اللغة، ولكن الشارع أضاف إليه أموراً من أعمال القلوب واللسان والجوارح، وإذا كان في أعمال الصلاة ما تبطل الصلاة يتركه، وفيها ما تنقص الصلاة بتركه فكذلك الإيمان في شعبه. وهذا واضح.
_________
(1) الإيمان (_ص:122) .
(2) المصدر السابق، الصفحة نفسها.(3/1361)
5- أن من المعلوم علما ضروريا - أن من قيل: "إنه صدق، ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى ولا صام، ولا أحب الله ولا رسوله، ولا خاف الله، بل كان مبغضا للرسول، معاديا له، يقاتله - أن هذا ليس بمؤمن، كما قد علمنا أن الكفارة من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يعلمونه أنه رسول الله، وفعلوا ذلك مع، كانوا عنده كفارا لا مؤمنين، فهذا معلوم عندنا بالاضطرار أكثر من علمنا بأن القرآن كله ليس فيه لفظ غير عربي.
فإن قالوا: من علم أن الرسول كفره، علم انتفاء التصديق من قبله.
قيل لهم: هذه مكابرة إن أرادوا أنهم كانوا شاكين مرتابين، وأما إن عنى التصديق الذي لم يحصل معه عمل، فهو ناقص كالمعدوم، فهذا صحيح" (1) ، وهو مبطل لدعواهم. فهؤلاء غلطوا في أصلين:
"أحدهما: ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية في القلب، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقاً ... ".
والثاني: ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مخلد في النار فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق، وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة، وجماهير النظار ... " (2) ، وأدلة هذا من واقع الإنسان نفسه، ومن حياة الأمم مع رسلها كثيرة جداً (3) .
وفي الإيمان الأوسط أضاف شيخ الإسلام إلى خطئهم في هذين الأصلين خطأ ثالثا ورابعاً.
_________
(1) الإيمان (ص:125) ط المكتب الإسلامي.
(2) المصدر السابق (ص:180) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص:180-183) .(3/1362)
أما الثالث: فهو "أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر، من سب الله ورسوله والتثليث، وغير ذلك، قد يكون مجامعا لحقيقة الإيمان الذي في القلب، ويكون صاحبه ذلك مؤمنا عند الله حقيقة، سعيدا في الدنيا والآخرة، وهذا يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام".
وأما الرابع فهو: "أنهم جعلوا من لم يتكلم قط بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة، مع وجوب ذلك عليه وقدرته - يكون مؤمنا بالله، تام الإيمان، سعيداً في الدنيا والآخرة" (1) .
قال شيخ الإسلام بعد هذا: "وهذه الفضائح تختص بها الجهمية، دون المرجئة من الفقهاء وغيرهم" (2) ، أي الذين يوجبون القول مع التصديق، أما الجهمية ومن وافقهم من الأشعرية فيحصرون الإيمان بالتصديق القلبي فقط الذي يفسرونه بالعلم أو المعرفة.
ثم ذكر أخطاءا أخرى تلزم الجهمية ومن افقهم، كما تلزم مرجئة الفقهاء ومنها:
الخامس: "أن العبد قد يكون مؤمنا تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين، ولو لم يعمل خيراً، لا صلاة، ولا صلة، ولا صدق حديث، ولم يدع كبيرة إلا ركبها ... وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء" (3) وهذا بين البطلان.
وقد اعترف الأشاعرة بما في أقوالهم من التناقض، فالتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله. وقد أنكر عليهم هذا جماهير العقلاء، وقالوا هذه مكابرة وسفسطة (4) .
_________
(1) الإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/582-583) .
(2) المصدر السابق (7/583) .
(3) المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة.
(4) انظر: الإيمان (ص:140-143) ط المكتب الإسلامي.(3/1363)
6- أن التصديق نوع من أنواع الكلام، واستعماله في اللغة دالا على اللفظ والمعنى، أكثر من استعماله في المعنى المجرد عن اللفظ الذي هو تصديق القلب.
وهذا المبحث هو نفسه مبحث الكلام النفسي - الذي سبق - حيث زعموا أن الكلام معنى قائم بالنفس فقط، دون الحروف والألفاظ، وقد سبق عرض أدلتهم ومناقشتها في مبحث كلام الله، والعجيب أن شيخ الإسلام استوفى مباحث هذه المسألة - مسألة الكلام النفسي والرد على الأشاعرة فيه - في كتاب الإيمان أكثر من غيره من كتبه ورسائله. وهذا يبين أن مأخذ الأشاعرة في المسألتين واحد (1) .
7- أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (يوسف: من الآية17) أي بمصدق لنا، وقولهم إن الإيمان مرادف للتصديق. فقد رد عليهم شيخ الإسلام من عدة وجوه، منها:
أ - أن لفظ الإيمان تكرر في القرآن والحديث أكثر من غيره من الألفاظ، والإيمان أصل الدين، وكل مسلم يحتاج إلى معرفته، فلا بد أن يؤخذ معنى الإيمان من جميع موارده، لا من آية واحدة (2) .
ب - أن الإيمان ليس مرادفا للتصديق من وجوه: منها:
أحدها: أنه يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به، بل يقال آمن له، كما قال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} (العنكبوت: من الآية26) ، وقال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} (يونس: من الآية83) ، وقال فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (الشعراء: من الآية49) ، فلفظ الإيمان يتعدى إلى الضمير باللام دائما، لا يقال آمنته، وإنما يقال آمنت له، كما يقال أقررت له.
الثاني: وليس مرادفا له في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت. أما لفظ الإيمان فلا يستعمل
_________
(1) انظر: الإيمان (ص:126-134) ط المكتب الإسلامي.
(2) انظر: المصدر السابق (ص:274) .(3/1364)
إلا في الخبر عن غائب. فلو قال: طلعت الشمس أو غربت فلا يقال: آمناه كما يقال: صدقناه، لأن الإيمان مشتق من الأمن فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب، ولهذا لم يوجد في القرآن وغيره قط، آمن له، إلا في هذا النوع.
وفي الآية المذكورة قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (يوسف: من الآية17) ، ومعناها: أنك لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه، ولو كنا صادقين، لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك. فلو صدقوا لم يأمن لهم.
الثالث: أن لفظ الإيمان لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، وإنما مقابل الإيمان: الكفر، لأن الكفر ليس هو التكذيب فقط، فكذلك ما يقابله وهو الإيمان ليس هو التصديق فقط (1) .
ج- أنه لو فرض أن الإيمان مرادف للتصديق، فقولهم: إن التصديق لا يكون بالقلب أو اللسان عنه جوابان:
أحدهما: المنع، لأن الأعمال تسمى تصديقا كحديث: "العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" (2) ، وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف (3) .
والثاني: أنه إذا كان أصله التصديق، فهو تصديق مخصوص كما أن الصلاة دعاء مخصوص، فالتصديق له لوازم صارت داخلة في مسماه (4) .
المسألة الثانية: أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان والرد على المرجئة:
العمل الذي أنكر جمهور الأشاعرة دخوله في الإيمان نوعان:
1- عمل القلب.
2- وعمل الجوارح.
_________
(1) انظر: الإيمان (ص: 275-277) ، وانظر: مجموع الفتاوى (10/269-274) .
(2) متفق عليه، وتقدم قريباً.
(3) انظر: الإيمان (ص:278-281) .
(4) انظر: المصدر السابق (ص:281) .(3/1365)
أما عمل القلب من الحب والخوف والخشية والرغبة والرهبة وغيرها فقد سبق بيان أن مجرد تصديق القلب مع عدم عمله لا يمكن أن يكون إيمانا، وإلا لصار إبليس وفرعون من المؤمنين لوجود المعرفة في قلوبهم. وقد زاد شيخ الإسلام مسألة دخول أعمال القلوب في الإيمان إيضاحاً فقال: "وفي الجملة، فلا بد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ولرسوله، ومعاداة الله ورسوله، ليس إيمانا بإتفاق المسلمين، وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب، إلا إذا كان القلب سليما من المعارض، كالحسد والكبر، لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الذي يلائمها، ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله خليلاً ...
ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والعمل الظاهر ضرورة ... فمن جعل مجرد العلم والتصديق موجبا لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان، وكل ما سمي إيماناً فقد غلط، بل لا بد من العلم والحب، والعلم شرط في محبة المحبوب، كما أن الحياة شرط في العلم، ولكن لا يلزم من العلم بالشيء والتصديق بثبوته محبته إن لم يكن بين العالم والمعلوم معنى في المحب أحب لأجله، ولهذا كان الإنسان يصدق بثبوت أشياء كثيرة ويعلمها، وهو يبغضها كما يصدق بوجود الشياطين والكفار ويبغضهم ...
وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلومه، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه" (1) .
_________
(1) الإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى (7/537-541) .(3/1366)
وقد بين شيخ الإسلام أن جماهير المرجئة يقرون بأن عمل القلب داخل في الإيمان، كما نقله أهل المقالات عنهم (1) .
وأما عمل الجوارح: ودخوله في الإيمان فقد بينه شيخ الإسلام ورد فيه على الأشاعرة وغيرهم من المرجئة كما يلي:
أسياق أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان، من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وأئمة السلف،
1- أما نصوص القرآن والسنة فقد أورد بعضها (2) ، ونقل عن المروزي، والإمام أحمد ما استشهدا به منها (3) .
2- كما نقل كلام العلماء وأئمة السلف، الذين حكوا الإجماع، الذي ذكره الشافعي، وابن عبد البر (4) .
وليس بعجيب أن يخالف المرجئة هذه النصوص وتلك الأقوال التي سطرها أئمة السنة، فلهم في مسائل الصفات والقدر أمثلة كثيرة مشابهة. والله المستعان.
ب أما من قال من المرجئة إن الإيمان يتناول الأعمال مجازا فقد رد شيخ الإسلام هذا القول من وجهين:
أحدهما: كلامه في الحقيقة والمجاز - ولشيخ الإسلام في ذلك رأي في ذلك وهو منع المجاز في اللغة والقرآن، وقد سبق بيان ذلك في مبحث الصفات. على رأي شيخ الإسلام يكون القول بأن الأعمال داخلة في الإيمان مجازا، باطل (5) .
_________
(1) انظر: المصدر السابق حيث نقل أقوال المرجئة (7/543-555) .
(2) انظر: الإيمان (ص:152-153) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص:300-302، 383-384) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص:292-315) ، وانظر التمهيد لابن عبد البر: (9/238) وما بعدها، (243) وما بعدها، (251) وما بعدها.
(5) انظر: الإيمان (ص:83-112) .(3/1367)
والثاني: أنه على فرض صحة التقسيم إلى حقيقة ومجاز فهو لا ينفعكم، "بل هو عليكم لا لكم، لأن الحقيقة هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة، والمجاز إنما يدل بقرينة، وقد تبين أن لفظ الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال" (1) .
وأيضاً فلفظ الإيمان ليس بأقل من لفظ الصلاة والصيام والحج في دلالتها على الصلاة الشرعية، والصيام الشرعي، والحج الشرعي (2) .
ج- أما دليل المرجئة المشهور على عدم دخول الأعمال في الإيمان وهو قولهم: إن الله عطف الأعمال على الإيمان في مواضع كثيرة من القرآن منها: قوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} (البقرة: من الآية25) قالوا: والعطف يقتضي المغايرة.
فقد أجاب شيخ الإسلام أولا بعض أنواع المغايرة بين المعطوفين، وأنها في القرآن وسائر الكلام على أربع مراتب:
1- أعلاها: أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزؤه ولا يعرف لزومه له كقوله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (الأنعام: من الآية1) ونحو ذلك.
2- ويليه أن يكون بينهما لزوم كقوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقّ} (البقرة: من الآية42) .
3- والثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} (البقرة: من الآية238) .
4- والرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين: كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} (الأعلى: من الآية 1-4) (3) .
_________
(1) الإيمان (ص:112) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص:112-113) ، وانظر: الإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/576-580) .
(3) انظر: الإيمان (ص:163-168) .(3/1368)
ولكن من أيها عطف العمل على الإيمان؟ يقول شيخ الإسلام بعد كلام طويل بين فيه أن لفظ "الإيمان" إذا أطلق في القرآن يراد به ما يراد بلفظ "البر" و"التقوى"، و"الدين"، وشعب الإيمان هي شعب البر والتقوى والدين (1) - يقول:
"أما قولهم: إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع، فهذا صحيح، وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل الله ورسوله في الأعمال المأمور بها، وقد يقرن به الأعمال ... وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود القلب الواجب، مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم، وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لا بد معه من الأعمال الصالحة" (2) .
وهذا تنبيه لطيف جدا إلى منزلة الأعمال الصالحة مع إيمان القلب، وأن في ذكرها معه إشارة إلى أنه لا يكتفي بإيمان القلب. ولعل ذلك راجع إلى أن الأعمال من دلائل الإيمان الظاهرة، وأنها لازمة له، فكلما وجد الإيمان فلا بد أن يوجد العمل معه.
ثم بين أن للناس في هذا العطف قولين:
أحدهما: أنه من باب عطف الخاص على العام، وأن إفراده بالذكر لأهميته وتخصيصا له لئلا يظن أنه لا يدخل في الأول. وأمثلة هذا النوع كثيرة. فذكر الإيمان أولا لبيانه أنه الأصل الذي لا بد منه، ثم ذكر العمل لبيان أنه من تمام الدين، ولئلا يظن الظان أن الإيمان يكفي بدون العمل الصالح (3) .
_________
(1) انظر: الإيمان (ص:170) وما بعدها.
(2) المصدر السابق (ص:186-187) .
(3) انظر: المصدر نفسه (187-190) .(3/1369)
والثاني: قول من يقول: إن الأعمال في الأصل ليست من الإيمان، فإن أصل الإيمان هو ما في القلب، ولكن الأعمال لازمة له، فمن لم يعمل انتفى إيمانه، لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم. ثم إنها صارت في عرف الشارع جزاءا من الإيمان (1) .
وبما سبق يتبين أن الأعمال داخلة في الإيمان خلافا للمرجئة.
المسألة الثانية: الاستثناء في الإيمان:
وهو قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله (2) . والأقوال فيه ثلاثة:
1- قول من يحرمه، وهم الجهمية والمرجئة وغيرهم الذين يجعلون الإيمان شيئاً واحدا يعلمه الإنسان من نفسه. ومن استثنى فقد شك، وسموا المستثنين الشكاكة.
2- قول من يوجبه، ولهم فيه مأخذان:
أحدهما: مأخذ الكلابية والأشعرية، الذين يقولون بالموافاة، وهو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وكذلك الكفر هو ما مات عليه الإنسان، أما قبل ذلك فلا عبرة به.
فعند هؤلاء بالنسبة لما مضى من إيمان الإنسان لا يجوز له أن يستثنى فيه، ثم لما رأوا المشهور عن أهل الحديث الاستثناء في الإيمان، جعلوا الاستثناء في المستقبل لأنه هو الذي يشك فيه الإنسان فأوجبوه لهذا.
ودعم هذا من مذهبهم منع حلول الحوادث بذات الله، ومن ثم قالوا إن الحب والرضا، والسخط والغضب ونحو ذلك صفات أزلية قديمة. قالوا: والله يحب في أزله من كان كافرا إذا علم أنه يموت مؤمنا، ويبغض في أزله من كان مؤمنا إذا علم أنه يموت كافراً.
_________
(1) انظر: الإيمان (ص:190) .
(2) أما الاستثناء في الإسلام وقول الإنسان: أنا مسلم إن شاء الله، فالمشهور عن أهل الحديث أنه لا يستثنى فيه، وهو المشهور عن الإمام أحمد. وروى عنه الاستثناء فيه. انظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى - (13/43) ، والإيمان (ص:239، 243) ط الكتب الإسلامي.(3/1370)
ومن ثم ربطوا مسألة الاستثناء في هذا القول، وأوجبوه، بناء على أن الإنسان لا يعلم على أي شيء يموت (1) .
وهم متناقضون في هذا لأنهم يقولون إن الإيمان هو التصديق، ثم يقولون إن الإيمان في الشرع هو ما يوافي به العبد ربه، وأوجبوا الاستثناء لذلك، فهذا عدول منهم عن الإيمان في اللغة إلى معنى آخر، فهلا فعلوا ذلك في الأعمال؟ (2) .
والأشاعرة يحتجون لقولهم في الموافاة بما روى عن ابن مسعود لما قيل له: إن قوما يقولون: إنا مؤمنون؟ فقال: أفلا سألتموهم أفي الجنة هم؟ فلما سألوا أحدهم قال: الله أعلم، قال ابن مسعود: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية؟ (3) .
السلف - رحمهم الله - كأحمد وغيره، لم يكن مقصودهم الموافاة، وإنما كان مقصدوهم ن الإيمان المطلق يتضمن فعل جميع المأمورات، وهذا لا يضمنه الإنسان.
أما قول ابن مسعود فواضح لأنه "لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمنا، وأن الإنسان لا يعلم ماذا يموت، فإن ابن مسعود أجل قدرا من هذا، وإنما أراد: سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلون أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله ورسوله أعلم. قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية. يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات، فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك" (4) .
_________
(1) انظر: الإيمان (ص:410-411) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص:137-138) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص:399) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص:400) .(3/1371)
وقد تدرج الأمر بهؤلاء الذين يوجبون الاستثناء باعتبار الموافاة، أن صار بعض أتباعهم المتأخرين يستثنون في كل شيء فيقول الواحد منهم: هذا ثوب إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله، وإذا ما اعترض عليهم بأن هذا لا شك فيه، قالوا: إن الله قادر على أن يغبره (1) .
هذا هو المأخذ الأول لمن يوجب الاستثناء، وهو مأخذ الكلابية (2) ، وهو مخالف لما عليه السلف.
المأخذ الثاني: لمن أوجب الاستثناء، وهو مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر، فهؤلاء يقولون: إن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه ... " (3) .
3- القول الثالث: من يجوز الأمرين باعتبارين؛ فإن أراد المستثنى الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه. وإن أراد به اعتبارات أخرى:
- مثل أنه لم يقم بجميع ما وجب عليه ولم يترك جميع ما نهى عنه.
- ومثل: عدم علمه بالعاقبة، لأنه لا يدري على ما يموت عليه.
- ومثل أن يستثنى خوفا من تزكية النفس.
فهذا جائز (4) ، وهو الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف (5) .
_________
(1) انظر: الإيمان (ص:413) .
(2) انظر أيضاً: مجموع الفتاوى (3/289) ، والاستقامة (1/150) ، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/509-510) .
(3) انظر: الإيمان (ص:426) .
(4) مجموع الفتاوى (8/427) .
(5) انظر: الإيمان (ص:430) ، وما بعدها.(3/1372)
هذه خلاصة الأقوال في الاستثناء (1) . ومنه يتبين رجحان ما عليه أئمة السنة، وضعف مأخذ الكلابية، وتناقضهم فيه، وغاية ما يدل عليه مأخذهم جواز الاستثناء، ولذلك سماه شيخ الإسلام وجها حسنا (2) .
أما مسألة زيادة الإيمان ونقصانه فقد منع منه المرجئة، وفسروا ما ورد من زيادة الإيمان بتجدد أمثاله، وهو قول باطل ترده النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف (3) .
وكذلك مسألة الإسلام والإيمان، أخطأ الأشاعرة حين جعلوا الإيمان خصلة من خصال الإسلام. ورد عليهم شيخ الإسلام وبين تناقضهم (4) . والأقوال في ذلك ثلاثة:
1- أن الإسلام هو الإيمان (5) .
2- الإسلام الكلمة والإيمان والعمل (6) .
3- التحقيق والتفصيل، وأن الإيمان والإسلام كالشهادتين، إذا اجتمعا افترقا، فصار الإيمان الأعمال الباطنة، والإسلام الأعمال الظاهرة، وإذا افترقا اجتمعا، فيدخل الإيمان في الإسلام إذا ذكر مفردا، كما يدخل الإسلام في الإيمان إذا ذكر مفردا، والأصل في الفرق بينهما وبيان درجاتهما مع الإحسان حديث جبريل المشهور (7) .
_________
(1) انظر: الإيمان (ص:410) ، ومجموع الفتاوى (7/681) ، والفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى - (13/40-47) .
(2) انظر: الاستقامة (1/150) .
(3) انظر: الإيمان (ص:139، 211-224، 383، 390-391) ، والإيمان الأوسط - مجموع الفتاوى - (7/562-574) ، ومجموع الفتاوى (6/479-480) ، والفرقان بين الحق والباطل - ومجموع الفتاوى (13/51-55) .
(4) انظر: قول الباقلاني ومناقشته في الإيمان (ص:147-151) .
(5) انظر: الإيمان (ص:227-229) .
(6) انظر: المصدر السابق (ص:245) .
(7) انظر: المصدر نفسه (ص:246-271) ، وانظر أيضاً (ص:301-347، 359) .(3/1373)
أما حكم مرتكب الجريمة فإن جمهور الأشاعرة موافقون لأهل السنة في أن صاحبها تحت مشيئة الله إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له (1) ، وإن كان قد مال منهم من مال - كالباقلاني - إلى التوقف في حال أهل الكبائر حيث جوزوا أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد، وهذا مخالف لما عليه السلف من القول بالوعيد المجمل، وأنه قد تواترت النصوص الدالة على أنه لا بد أن ينفذ الوعيد في بعض العصاة، لكن أهل التوحيد منهم لا يخلدون في النار (2) .
_________
(1) انظر: الإيمان (ص: 338) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى (16/196-197) ، وانظر: التسعينية (ص:269-270) .(3/1374)
المبحث الخامس: مسائل متفرقة
سبق في المباحث السابقة عرض ردود شيخ الإسلام على الاشاعرة في مسائل العقيدة الكبار التي خالفوا فيها مذهب أهل السنة، وهي:
1- توحيد الربوبية والإلوهية.
2- توحيد الأسماء والصفات.
3- القضاء والقدر.
4- الإيمان.
وكما هو واضح مما سبق فإن مسألة الأسماء والصفات هي أهم المسائل وأكثرها تفريعا، وطول مناقشة.
وفي هذا المبحث - المختصر جداً - سيتم عرض بعض المسائل المتفرقة، والكلام عنها بإيجاز.(3/1375)
أولاً: الرؤية:
مذهب السلف إثبات الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة كما دل على ذلك الكتاب والسنة والعقل والإجماع، ووافقهم على ذلك الاشاعرة، خلافا للمعتزلة ومن وافقهم.
ولكن الاشاعرة لما كانوا يؤولون الصفات الاختيارية القائمة بالله ومنها المحبة، والرضا، وأن الله يحب ويحب، وكذلك لما كان متأخروهم ينفون صفة العلو والاستواء لله تعالى - لما كان الأشاعرة على هذا وهم يثبتون الرؤية، وقعوا في التناقض، وخالفوا مذهب السلف في أمرين:
أحدهما: قولهم إن الله يرى لا في جهة، لا أمام الرائي، ولا خلفه ولا عن يمينه، ولا عن يساره، ولا فوقه، ولا تحته. وقالوا. ليس من شرط الرؤية المقابلة والجهة، واحتجوا بما ذكره الأشعري من أن كل موجود يصح أن يرى (1) ، وقد يحتجون بالمرآة فإن الإنسان يرى نفسه فيها لا في جهة (2) .
الثاني: أن بعض الأشاعرة - مع إقرارهم بالرؤية - أنكروا أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤية ربه، لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم (3) ، وهذا مخالف لمذهب جمهور السلف.
أما الأمر الثاني: فهو مبني على إنكار هؤلاء أن الله يحب ويحب، ولا شك أن نصوص الرؤية المتواترة دلت على أن المؤمنين يتلذذون بالنظر إلى ربهم تبارك وتعالى في الجنة، وأن ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، والنصوص التي دلت على الرؤية، دلت في بعض رواياتها على ذلك (4) .
_________
(1) انظر: الإرشاد للجويني (ص:180-181) .
(2) انظر: الاقتصاد للغزالي (ص:42) ط دار الكتب العلمية.
(3) انظر: النظامية للجويني (ص:39-40) ، ومنهاج السنة (3/97) ط بولاق، والاستقامة (2/96-97) وهو أيضاً في مجموع الفتاوى (10/695) .
(4) من ذلك رواية مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم ورقمه (181) ، ورواية النسائي، كتاب السهر، باب الدعاء بعد الذكر، ورقمه (1305) سنن النسائي (3/54-55) . ومسند الإمام أحمد (5/191) ، وانظر الاستقامة (2/98-106) .(3/1376)
وأما الأمر الأول: وهو قولهم بالرؤية بلا جهة، فقد ناقشه شيخ الإسلام طويلا، وفي مناسبات متعددة، ويمكن تلخيص ردوده عليهم كما يلي:
1- أن النصوص الواردة في الرؤية - وهي كثيرة، وقد أفردها بعض علماء السنة بمؤلفات - دالة على أن رؤية المؤمنين لربهم إنما تكون في جهة، وإذا كانت نصوص الرؤية متواترة، فكذلك دلالتها على أنها في جهة، وتشبيه الرؤية برؤية الشمس ليس دونها سحاب، أو رؤية القمر ليلة البدر صحوا، أو أن الله يكشف الحجاب من فوقهم. وقد أورد شيخ الإسلام أربعة وجوه قاطعة تدل - من خلال حديث واحد فقط من أحاديث الرؤية - على أن الرؤية إنما تكون في جهة (1) .
2- أن كون الله يرى بجهة من الرائي ثبت بإجماع السلف والأئمة، ونصوصهم في ذلك متواترة (2) .
3- أن أئمة هؤلاء المتأخرين كالأشعري وغيره، هم ممن يثبت الرؤية والاحتجاب والعلو وأن الله فوق العرش - وقد سبق بيان ذلك - (3) .
4- أن الأشاعرة - مع كونهم أقرب إلى الحق من المعتزلة، لأنهم أقروا بالرؤية، وإن كانوا قد نفوا العلو - بخلاف المعتزلة الذين نفوا الأمرين - إلا أنهم متناقضون، لأن إثباتهم للرؤية يقتضي إثباتهم للعلو، كما أن نفيهم للعلو يقتضي نفيهم للرؤية أيضاً. فيلزمهم أحد أمرين: إما نفي الرؤية أو اللحاق بأهل السنة في إثباتهما. وأحد الأمرين لازم لهم.
5- أن بعض محققي الأشاعرة كالرازي - والغزالي في بعض أقواله - رأوا أن الإلزام السابق لازم لهم، ومن ثم حرصوا بأن المقصود بالرؤية - التي أثبتوها - زيادة انكشاف بخلق مزيد من الإدراك لهم، أي أنهم فسروها بنوع
_________
(1) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/409-411) ، وانظر أدلة أخرى (ص: 411 إلى ص:415) .
(2) انظر: المصدر السابق (2/415-421) ، ومجموع الفتاوى (16/82-89) .
(3) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (2/420-423) ، ومنهاج السنة (2/250-252) ط دار العروبة المحققة، درء التعارض (1/250) .(3/1377)
من العلم، ومن ثم أقروا بأن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي أو قريب من اللفظي (1) .
ولا شك أن هذا اعترف منهم بفشلهم في الجمع بين نفي العلو والزعم بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وبين إثبات الرؤية.
6- أما احتجاجهم بأن كل موجود يصح أن يرى، فهو دليل ضعف لأنه يلزم منه أن ترى الأصوات والروائح وهي موجودة. أما دليل المرآة فهو باطل لأن الذي في المرآة الخيال والصورة وليس الذات.
وقد أورد شيخ الإسلام ردودا أخرى عديدة (2) ، ولا شك أن قول الاشاعرة بالرؤية مع نفي العلو في غاية التناقض، وجميع أجاباتهم ومحاولاتهم لإزالة هذا التناقض لم تفلح إلا بأن تفسر الرؤية بما يقربها إلى مذهب المعتزلة، وهذا ما فعله بعض المتأخرين منهم. وهو ما استقر عليه مذهبهم كما في شرح المواقف (3) .
ثانياً: النبوات والمعجزات:
يوافق الأشاعرة أهل السنة في مسألة النبوات والمعجزات الدالة عليها. ولكنهم - لمذاهبهم المنحرفة في الصفات والقدر - خالفوا أهل السنة في بعض تفاصيل مسألة النبوات والمعجزات والكرامات.
وأول من فصل القول في ذلك من الأشاعرة الباقلاني، حيث أفرد لذلك كتابا مستقلا، وهو رأس الذين اتبعوه كالقاضي أبي يعلى والجويني والرازي والآمدي وغيرهم (4) . وقد سبق عرض مذهبه في ذلك مفصلا (5) .
_________
(1) انظر:،قض التأسيس - مطبوع - (1/360، 2/396، 404، 418، ومجموع الفتاوى (6/32، 41، 16/85) ، ودرء التعارض (1/250) ، والمسألة المصرية - مجموع الفتاوى - (12/175) .
(2) انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (1/357-368، 2/101-106، 421-431) ، والتسعينية (ص:259، 262) ، ودرء التعارض (1/247-248، 7/239-240) .
(3) (8/115-116) .
(4) انظر: النبوات (ص:3959) .
(5) انظر: (ص:543-545) في ترجمة الباقلاني.(3/1378)
وكتاب النبوات أفرده شيخ الإسلام للرد على الباقلاني وغيره من الأشاعرة، ومجمل ملاحظات وردود شيخ الإسلام عليهم يمكن عرضها - باختصار - كما يلي:
1- حصرهم دلائل النبوة بالمعجزات التي هي خوارق، وهذا موافق لرأي المعتزلة، وإن اختلوفا معهم في كيفية دلالتها على صدق النبي. أم رأي جمهور أهل السنة، فهو أن دلائل ثبوت نبوة الأنبياء كثيرة، ومنها المعجزات (1) .
2- قول بعض الاشاعرة: إن المعجزة تدل على صدق النبي لئلا يفضي إلى تعجيز الرب، لأنه لا دليل على الصدق إلا خلق المعجز، فلو لم يكن دليلا لزم أن يكون الرب غير قادر على تصديق الرسول الصادق. وهذه طريقة الأشعري - في أحمد قوليه - والقاضي أحيانا، والاسفراييني وابن فورك، وأبو يعلى وغيرهم.
وبعض الأشاعرة قالوا العلم بصدق المعجز يحصل ضرورة، وهذه طريقة الجويني والرازي، لأنهم عرفوا ضعف مسلك أولئك، بسبب أنهم يقولون بتجويز أن يفعل الله كل شيء ولو كان قبيحا، ومن ذلك إظهار المعجزة على يد كذاب. فلما علم أن هذا قد يؤدي إلى عدم التفريق بين الصادق والكاذب، جعلوا المعجزة تدل على صدق النبي، وأن الله لا يظهرها على يد كاذب لئلا يفضي إلى ذلك إلى تعجيز الرب عن إثبات صدق أنبيائه. وهذا تناقض منهم. والحق أن الله لا يظهرها على يد كاذب لأنه يفعل لحكمة ولأنه منزه عن ذلك. أما من جز على الله كل قبيح فقوله باطل ومتناقض كما فعلوا هنا (2) .
3- وعلى مذهبهم في تعريف المعجزة، وأنها أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي يظهر على يد نبي، سالم من المعارضة - يجعل الفرق بين المعجزة وبين السحر والشعوذة هو فقط عدم المعارضة، وكونها جاءت على يد مدعي النبوة - وهذا فرق ضعيف جدا، لأن مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي وغيرهما لم يعارضوا، فلو أنهم أتوا بسحر وكهانة وادعوا النبوة، فما الفرق بينهم وبين
_________
(1) انظر: درء التعارض (9/40) .
(2) انظر: النبوات (ص:51-57، 148-149) ط دار الكتب العلمية، والجواب الصحيح (4/259-261) ، ودرء التعارض (1/89-90، 96، 9/52-53) ، وشرح الأصفهانية (ص:156-165) ت مخلوف.(3/1379)
معجزة الأنبياء؟ (1) .
ومعلوم أن آيات الأنبياء الدالة على نبوتهم "هي التي تعلم أنها مختصة بالأنبياء، وأنها مستلزمة لصدقهم، ولا تكون إلا مع صدقهم، وهي لا بد أن تكون خارقة للعادة، خارجة عن قدرة الإنس والجن، ولا يمكن أحد أن يعارضها. لكن كونها خارقة للعادة، ولا تمكن معارضتها هو من لوازمها، ليس هو حدا مطابقا لها، والعلم بأنها مستلزمة لصدقهم قد يكون ضروريا كانشقاق القرم، وجعل العصا حية وخروج الناقة، فمجر العلم بهذه الآيات يوجب علما ضروريا بأن الله جعلها آية لصدق هذا الذي استدل بها ... وقد تكون الآيات على جنس الصدق، وهو صدق صاحبها، فيلزم صدقه إذا قال: أن نبي، ولكن يمتنع أن يكون لكاذب" (2) .
4- أنهم لم يفرقوا بين المعجزات والسحر، بل جعلوا الفرق فقط هو تحدي الرسول بالإتيان بمثله، قالوا ولو احتج الساحر بسحره وادعي به النبوة أبطله الله بوجهين: أحدهما: أن ينسبه عمل السحر، والثاني: أن تمكن معارضته. ولما طولب الباقلاني بالفرق بين السحر والمعجزات التي للأنبياء عول على أن المعجز لا يكون معجزا حتى يكون واقعا من فعل الله، على وجه خارق للعادة، مع تحدي الرسول بالإتيان بمثله (3) .
وقد ناقش شيخ الإسلام هذا الكلام ورد عليه من وجوه عديدة منها:
أ - أن كون آيات الأنبياء مساوية في الحد والحقيقة لسحر السحرة معلوم الفساد بالإضطرار من دين الرسل.
ب - أن في هذا قدحا في الأنبياء حيث جعلت آياتهم من جنس السحر والكهانة.
ت - أنه على تقديم قولهم: يمكن للساحر أن يدعي النبوة، وما ذكر
_________
(1) انظر: النبوات (ص:282-283) ط دار الكتب العلمية.
(2) النبوت (ص:283) ، وانظر أيضاً (ص:297-298، 315-316، 320) وما بعدها.
(3) انظر: النبوات (ص:47-49) .(3/1380)
من إبطال بدعواه بأمرين، منقوض بمذهبه الذي جوزوا فيه على الله فعل كل شيء ولو كان قبيحا كإظهار المعجزة على يد الكاذب.
ث - أنه، أي الباقلاني، جوز أن تظهر المعجزات على يد كاذب إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه فعمدته سلامته من المعارضة بالمثل.
ج - أن من الناس من اعدى النبوة، وكان كاذبا وظهرت على يده بعض هذه الخوارق، فلم يمنع منها، ولم يعارضه أحد، كما حدث للأسود العنسي ومسيلمة، وبابك وغيرهم. وإنما عرف كذبهم بطرق متعددة. فدعواهم أن الكذاب لا يأتي بمثل هذه الخوارق ليس كما يدعونه (1) .
5- وأخيرا فإن أقوال الأشاعرة في هذه المسائل أدى بهم إلى بعض الأقوال - أو تجويز بعض الأمور - الباطلة، ومنها:
أ - تجويز بعضهم أن يقع الفسخ في شرائع الأنبياء في الأصول الجامعة، كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبر الوالدين، والصدق، والعدل، وتحريم الفواحش. وهذا لأنهم جوزوا أن يأمر الله بكل شيء وينهى عن كل شيء، وأن مرد ذلك إلى محض المشيئة.
وهم وإن قالوا إن شيئا من ذلك لم يقع، إلا أن تجويزهم له خالفوا به قول جمهور السلف الذين لا يجوزون دخول النسخ في هذه الأمور (2) .
ب - تجويز بعضهم - كالباقلاني - أن يكون النبي فاعلا للكبائر، بناء على نفيهم للتحسين والتقبيح العقلي (3) .
ت - قولهم إن كرامات الأولياء ليست من آيات الأنبياء نظرا لمذهبهم
_________
(1) انظر: النبوات (ص:49-51) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص:321-323) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص:146) ، ومنهاج السنة (2/324-327) ط دار العروبة المحققة.(3/1381)
في شروط المعجزة حيث جعلوا منها: أن تقارن دعوى النبوة. وهذا مخالف لمذهب الجمهور الذين جعلوا من آيات الأنبياء، لأنها مستلزمة لنبوتهم وتصديقهم فيهان ولولا تصديقهم للأنبياء واتباعهم لهم، لم تكن لهم كرامات (1) .
ث - تناقضهم في قولهم إن كل ممكن فهو جائز على الله، مع قولهم، إنه لا يظهر المعجزة على يد الكاذب (2) .
ج - تناقضهم أيضاً، حيث جعلوا من شرط المعجزة أن تكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه، مع قولهم: كل ما في الوجود فهو مقدور لله، حتى قدرة العبد عندهم غير مؤثرة في مقدورها. فإذا صح هذا فما معنى الشرط السابق؟ (3) .
ح - قول الباقلاني: إن الخوارق تدل على الولاية بالإجماع، مع تجويزه ظهورها على يدي الكفار والسحرة. وهذا تناقض (4) .
هذه لمحات في مسألة المعجزات وما يتعلق بها، وهي تدل على تداخل أمور العقيدة، وتأثير الانحراف في بعضها على الانحراف في جوانبها الأخرى.
وفي ختام هذا المبحث الذي هو آخر مباحث هذا الفصل الذي اشتمل على ردود شيخ الإسلام التفصيلية على الأشاعرة، لا بد من الإشارة إلى أن هناك
_________
(1) انظر: النبوات (ص:306-307) .
(2) انظر: النبوات (ص:372) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص:206) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص:181) .(3/1382)
بعض المسائل الفرعية التي قد تشتمل عليها كتب الأشاعرة، وهي مخالفة لمذهب السلف، ولكن هذه المسائل إما أن تكون متعلقة بمسألة من المسائل المشهورة كالصفات أو القدر أو الإيمان أو غيرها، أو تكون وردت في بعض كتب الأشاعرة رأيا لصاحب الكتاب، واجتهاد منه، فمناقشتها تكون ضمن بحوث مستقلة تفرد لتتبع هذا الكتاب أو آراء صاحبه.
والأشاعرة موافقون لأهل السنة فيما يتعلق بالسمعيات كالمعاد والحشر والحوض والصراط والجنة والنار، وعذاب القبر، ونحو ذلك. وكذلك في الإمامة والتفضيل وما يتعلق بهما. وكذلك في أنه لا يخلد أحد من أهل القبلة في النار. فهم - كما قال شيخ الإسلام - مخالفون للخوارج والشيعة، ومن ثم كانوا أقرب الطوائف إلى السلف وأهل السنة والحديث (1) .
_________
(1) انظر: النبوات (ص:198) ط دار الكتب العلمية.(3/1383)
الخاتمة
والآن بعد هذه المباحث المتواصلة التي شملت عدة فصول في "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" نخلص إلى خاتمة هذه الدراسة باستخلاص النتائج التالية:
1- أن مذهب السلف يقوم على أسس وقواعد قوية ثابتة، عمادها الكتاب والسنة والإجماع، وكل دعوى في أتباع مذهب السلف لا تقبل ما لم تكن مبنية على منهجهم الواضح المستقيم. ولا تزال - والحمد لله - في كل زمن طائفة قائمة بالحق، تدعو إليه، وتجاهد في سبيله، وتجدد ما اندرس من معالمه، لا يضرها من خذلها ولا من خالف أمرها.
ومن خلال ما كتبه أئمة السنة - وخاصة أصحاب القرون المفضلة - سواء كان شرحا للعقيدة، أو ردا على خصومها، تكونت معالم بارزة، ومنطلقات واضحة، تحدد المنهج الحق لمن أراد أن يسلكه والطريق الصحيح لمن رام خدمة دينه وعقيدته وابتغاء رضوان ربه.
2- ومن خلال عرض حياة شيخ الإسلام وعصره، تبين كيف كان ذلك العصر مليئا بالأحداث الجسام، وكيف كان شيخ الإسلام ابن تيمية علما بارزا، وإماما عظيماً، كان له أثر واضح في تلك الأحداث. السياسية منه والعلمية.
3- ظهور شيخ الإسلام في ذلك العصر الذي طغت فيه الطوائف المنحرفة من باطنية ورافضة، وصوفية، ومعتزلة وأشاعرة وغيهرا - على أنه المدافع والمنافح عن مذهب وعقيدة السلف أمام هؤلاء جميعا. وقد ترك على إثر ذلك تراثا ضخما، تمثل في عشرات المجلدات في شتى الفنون. يجمعها الدفاع عن مذهب السلف والرد على خصومه.
4- وشيخ الإسلام كان له منهج واضح في عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة أو في الرد على مخالفيها، وأبرز ما في هذا المنهج - إضافة إلى اعتماده على الكتاب والسنة وأقوال السلف، وتأدبه بأدبهم - ثباته على منهم محدد، فلم يتناقض ولم تتغير قناعته، ولم تختلف به المناهج والسبل كما حدث لغيره،(3/1384)
وإنما بقى صامدا مع كثرة المحن والأحداث التي مرت به. وهذا واضح جداً في كتبه التي وصلت إلينا، فهي على كثرتها، وتكرار بعض موضوعاتها لم يلاحظ عليه تناقض أو تراجع أو تردد، وهذا راجع إلى سلامة المنطلق والأساس الذي كان يعتمد عليه في كتبه.
5- أما مذهب الأشاعرة فقد تبين من خلال الفصول المتعلقة به، كيف كانت نشأة المذهب وكيف انتشر وكيف تطور على يد أعلام لا إلى القرب من مذهب السلف وإنما إلى البعد عنهم، وخاصة قربه من مذهب المعتزلة، والصوفية والفلاسفة.
أما مؤسس المذهب أبو الحسن الأشعري فقد كان أقرب إلى مذهب السلف ممن جاء بعده من أتباعه، وهو وإن كان في الإبانة قرب جدا من السلف إلا أنه بقيت عليه بقايا من مذهب المعتزلة.
6- أما موقف ابن تيمية من الأشاعرة فقد تبين مما سبق:
أ- أن شيخ الإسلام وهو يواجه أعداء الإسلام من النصارى والتتار والرافضة، إلا أنه لم يقل - كما يدعي البعض - ينبغي أن نتفرغ للعدو الأكبر وندع الخلافات التي بيننا، وإنما رد على هؤلاء وجاهدهم بيده ولسانه وقلمه، كما رد على أشاعرة عصره وفضح ما كانوا فيه من تجهم وتصوف. وبين أن أولئك الأعداء ما تسلطوا على المسلمين إلا لأجل تفريطهم وبعدهم عن مذهب أهل السنة، ووقوعهم في المعاصي والكبائر، والظلم وعدم العدل.
وحين تبدأ ساعة الجد والجهاد يركز على العدو الأصلي ويعمل على جمع الصفوف، ولم الشعث، وحث الناس على البذل والتضحية في سبيل الله.
ب- ومن خلال ردوده ومناقشاته للاشاعرة برز في منهجه أمران:
أحدهما: إنصاف خصومه الأشاعرة، واعترافه بما معهم من حق.
وثانيهما: الرد عليهما فيما خالفوا فيه مذهب أهل السنة بتقعيد الردود وتأصيلها، إضافة إلى المناقشات المفصلة لكل مسألة من مسائل العقيدة التي جانبوا فيها الحق والصواب.(3/1385)
ومن ثم جاءت ردوده شاملة لمسائل توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، والقدر والإيمان وغيرها.
جـ - وردود شيخ الإسلام أظهرت ما في مذهب الأشاعرة من انحرافات شملت أغلب جوانب العقيدة. ومن ثم فكتبهم الكلامية - وإن كثرت وانتشرت - إلا أنها لا يجوز أن تكون مصدرا لتدريس عقيدة أهل السنة والجماعة، كما لا يجوز أن تعتبر ممثلة لمذهب السلف، ولو ادعى ذلك المدعون.
وفي الختام فهذا جهد المقل أقدمه، فما كان فيه من صواب فمن الله وهو المحمود على توفيقه، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(3/1386)