ـ[موقف ابن تيمية من الأشاعرة]ـ
تأليف: عبد الرحمن بن صالح بن صالح المحمود
الطبعة: الأولى
سنة النشر: 1415 هـ / 1995 م
الناشر: مكتبة الرشد - الرياض
_________
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ومذيل بالحواشي]
-أعده للشاملة: أسامة بن الزهراء؛ فريق عمل الشاملة -(1/2)
أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة تقدم بها المؤلف إلى كلية أصول الدين بجامعة الإمام بن سعود الإسلامية - قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - وتكونت لجنة المناقشة من:
* الدكتور سالم بن عبد الله الدخيل:مشرفاً
* معالي الشيخ ناصر بن حمد الراشد: عضواً
* فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان: عضواً
وذلك بتاريخ 19/5/1409 هـ. وقد نالت الدرجة العالمية الدكتوراة مع مرتبة الشرف الأولى.(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وبعد:
فلا شك أن العالم الإسلامي مع بداية هذا القرن- الخامس عشر الهجري - وقبله بقليل، يمر بمرحلة مهمة من تاريخ المسلمين المعاصر، وقد تمثلت هذه المرحلة بشكل واضح في العودة إلى الإسلام والثقة به عقيدة وشريعة، وذلك في خضم العقائد والفلسفات والأنظمة والقوانين السائدة في العالم. ولا شك أن هذه العودة- والصحوة- تبهج وتسر قلب كل مؤمن، وتملؤه فخرا واعتزازا بهذا الدين، الذي حاربه أعداؤه بكل الوسائل والأساليب، ولكن {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف:8) .
ولما كان شعار كل مسلم وكل داعية العودة إلى الكتاب والسنة،- وهو ما يتفق على إعلانه الجميع- إلا أن الأمر حين ينتقل إلى التطبيق العملي والتربية المنهجية وتحديد المصادر المفسرة والشارحة لهذين المصدرين- المسلمين- يأخذ أشكالا وسمات متعددة، وكثيرا ما تكون متعارضة، وفي النهاية يتخذ كل واحد منها شكل طائفة أو فرقة أو مذهب فكري محدد. والعجيب أن كلا منهم يدعي أن أصول مذهبه قائمة على الكتاب والسنة، ومن ثم فمن لم يلتزم بأصوله فهو ضال مبتدع.
وهذه المشكلة لا تختص بعصرنا هذا، بل هي مشكلة قديمة نشأت منذ ظهور الفرق والطوائف في أواخر عهد الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين- وإلى عهود التابعين ومن جاء بعدهم.(1/5)
وفي العصر الحاضر نشأت إضافة إلى الفرق والطوائف القديمة- تيارات فكرية متعددة، ومذاهب وفلسفات متباينة، ومن ثم أصبح تحديد المنطلق والمنهج والأصول أكثر إلحاحا وأشد حاجة من ذي قبل، خاصة مع كثرة التدليس والتلبيس، ومحاولة إخضاع الأصول والنصوص الإسلامية لتوافق كثيرا من النظريات والمذاهب السائدة أو التى يريد لها أعداء الاسلام أن تسود.
وأخطر ما يواجه مسيرة المسلمين اليوم- إذا صرف النظر عن التيارات الإلحادية الصريحة، والمذاهب الباطنية، وما شابهها مما هو صريح في إلحاده وبعده عن حقيقة الإسلام- تياران كبيران:
أحدها: تيار القوميين والعلمانيين، الذين لا يرفضون الإسلام صراحة، ولكنهم يجعلونه ضمن دائرة خاصة لا يتعداها، وذلك بجعله جزءا من التراث- كما يسمونهـ بحيث يشمل كل الفلسفات والأفكار والتقاليد والمناهج والنظم- سواء وجدت قبل الإسلام أو بعده، وسواء كانت موافقة لأصول الإسلام أو مخالفة، ما دام يدخل ضمن دائرة تراث هذه الأمة التي ينتسبون إليها. وهؤلاء ينظرون إلى الاسلام نظرة إكبار وإعزاز لا لأنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه النجاة من عذابه يوم القيامة، وإنما لأنه أحد معطيات تراث الأمة القومي. ومن هؤلاء من يريد حصر الإسلام في جانب ضيق من حياة الإنسان، بحيث يبقى ضمن نطاق محدود من إقامة الشعائر التعبدية، والأحوال الشخصية، والالتزام الفردي بأخلاقياته ومحاسن آدبه، أما نواحي الحياة المختلفة فالأمر فيها متروك للأمة أن تستفيد من النظم والقوانين المختلفة، ومناهج التربية المتعددة، من الشرق أو الغرب ولو كانت مخالفة للاسلام وهذا ما يتبناه العلمانيون وأضرابهم.
وهذا التيار غالبا ما يحمل أفراده أفكارا وفلسفات غريبة وفاسدة لها تصورها الخاص ومنطلقاته العقدية التي تغلب جانب العقل وتعلي من شأنه، وغالبا ما تكون لها جذور فلسفية أو كلامية سابقة تنطلق منها، أو تستفيد من آثارها وكتبها.
والذي يميز هؤلاء عداؤهم للسلف أهل السنة والجماعة، ومن يدعو إلى العودة إلى عقيدتهم ومنهجهم، ووصمهم لهم بعبارات الاحتقار والازدراء وقلة(1/6)
الفهم والعقل، والتخلف والتعقيد.
والتيار الثاني: تيار أهل البدع من أهل الاعتزال والكلام والتصوف، وهم امتداد واضح وقوي لمن سبقهم من هذه الطوائف! وغيرها، ويقومون بجهود عظيمة في الدعوة إلى مذاهبهم، ونشر كتبهم، وإقناع الناس ممن حولهم، أو يسمع كلامهم بأن ما عندهم هو الحق وأن هذا اعتقاد كبار الشيوخ سلفا وخلفا. ويغضون من شأن الدعاة إلى مذهب السلف ويرمونهم بشتى التهم التى تنفر الناس منهم.
وأخطر ما يمثل هذا التيار: الأشعرية والصوفية، حيث إن لهما امتدادا عريضا في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، وساعد على ذلك أمور من أهمها:
1- تبني كثير من الجامعات والمراجع العلمية للمذهب الأشعري- أو الماتريدي - على أنه المذهب الحق الذي يجب أن يكون ضمن مناهج التعليم.
2- استمرار تبني هذا المذهب من خلال دروس المشايخ- في بعض البلاد منذ قرون مضت، وربطه في الغالب بالمذاهب الفقهية المشهورة، بحيث أصبح أمرا معهودا، وطريقة مسلمة (1) .
3- وفرة الكتب والمراجع المخطوطة والمطبوعة التى تخدم هذا المذهب، والتي نشرت وطبعت بتحقيق وبدون تحقيق.
4- الترابط- أو الامتزاج- الذي وقع بين المذهب الصوفي والأشعري، مما جعل الطرق الصوفية المختلفة تجعل العقيدة الأشعرية عقيدتها المفضلة. والتصوف وطرقه منتشر في غالب بلاد العالم الاسلامي، ولهم أنشطة واضحة ومتعددة.
ولكن هذه التيارات بإمكاناتها الكبيرة وجهودها المتواصلة يقابلها تيار قوي، منتشر في أنحاء العالم الإسلامي يتبنى عقيدة السلف ومنهجهم في الاستدلال،
_________
(1) يذكر الهراس أنهـ في العصور المتأخرة استقرت أحوال الأمة- في كثير من بلاد الإسلام- على تحريم أخذ الأصول بغير المذهب الأشعري. انظر ابن تيمية السلفي للهراس (ص: 19) .(1/7)
ويدعو إلى العودة إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولديه ثقة مطلقة بأنه لا عزة للمسلمين ولا رفعة ولا مكانة ولا نجاة من عذاب الله إلا بالرجوع إلى هذا الدين عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، ويقومون بما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرد على أهل الانحراف والإلحاد سواء من أصحاب الأفكار الغربية المستوردة، أو من أهل البدع والكلام والأهواء، كما يقومون بجهود مشكورة في الدعوة إلى مذهب السلف بالوسائل المختلفة، ونشر الكتب التي تخدم هذا المذهب وتوضحه، وتحقيق ما كان مخطوطا منها، والقيام بالدراسات المختلفة التي تختص بدراسة مسائل أو جوانب محددة تبين فيها وجه الحق وترد على أهل الباطل.
وقد كان للأقسام الشرعية في جامعات هذه البلاد جهود مشكورة في هذا المجال، خاصة في البحوث التي يقوم بها الدارسون للحصول على الدرجات العلمية والتي تشمل تحقيق الخطوطات، ودراسة الموضوعات. ونسأل الله تعالى أن ييارك في هذه الجهود وأن يرزقنا جميعا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
ولما كنت قد حصلت على درجة الماجستير من قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين بالرياض، رغبت في تسجيل بحث آخر للدكتوراه، فهداني الله إلى اختيار موضوع "موقف ابن تيمية من الأشاعرة"، وترجع أهمية هذا الموضوع إلى عدة أمور منها:
1- أن هناك خلطا في تحديد مذهب السلف، أهل السنة والجماعة، ومجمل اعتقادهم الذي يميزهم عن غيرهم من أهل البدع والأهواء. ومن المعلوم أن مذهب الأشاعرة قد اشتهر بين كثير من الناس على أنه هو مذهب أهل السنة والجماعة، وأن اعتقادهم يمثل اعتقاد السلف، ومن المؤسف أن هذا المفهوم سائد إلى الآن في كثير من البلاد الإسلامية (1) .
ومن أبرز العلماء الذين عملوا- بشكل قوي ومركز وشامل- على بيان
_________
(1) انظر: ابن تيمية السلفي، للهراس (ص: 6،23-24) .(1/8)
الحق في ذلك وتمييز مذهب السلف عما يدعيه هؤلاء: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تعالى (1) -.
2- أن مذهب الأشاعرة قد انتشر في العالم الإسلامي، قبل ابن تيمية (2) ، وقد حدثت له عدة تطورات قربته كثيرا من المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة، ولم يأت عهد ابن تيمية إلا وقد بلغ أوجه في التطور والانتشار بعد الجهود الكبيرة التي قام بها علماء كبار من هذا المذهب كالغزالي والرازي وغيرهما، فلما جاء شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذلك ممثلا لمذهب السلف ومدافعا عنه ورادا على هؤلاء، تميز عهده بأمرين:-
أحدهما: بروزه على أنه أول من تصدى بقوة للمذهب الأشعري- خاصة بعد تطوره الأخير- ولذلك يقول المقريزي- بعد عرضه لنشأة المذهب الأشعري وانتشاره على يد بعض العلماء والسلاطين: " فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الاسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب وجهل، حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه إلا أن يكون مذهب الحنابلة- أتباع الامام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل- رضي الله عنهـ، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات- إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، فتصدى للانتصار لمذهب السلف، وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية (3) . ولا شك أنه كانت لعلماء السلف في كل زمن جهود مشكورة في الدفاع عن عقيدة السلف والرد على خصومها،
_________
(1) يقول عبد الحليم محمود- وهو صوفي-:ولايزال هذا الجدل حول تحديد مذهب السلف مستمرا إلى الآن بين مدرسة الأشعري ومدرسة ابن تيمية، كل منهما يزعم انتسابه للسلف ومتابعته لمالك وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما!، التفكير الفلسفي في الإسلام (ص: 135) .
(2) سيأتي إن شاء الله بيان ذلك في الفصل الرابع من الباب الأول.
(3) الخطط (2/358-359) ، مصورة بولاق، وانظر في علم الكلام- الأشاعرة- لأحمد صبحي (ص:14) .(1/9)
ولكن ما قام به شيخ الإسلام كان من القوة والتأثير بحيث أصبح يمثل مرحلة بارزة من مراحل كل من مذهب الأشاعرة ومذهب السلف أيضا.
والثاني: أن مجيئه في وقت متأخر- حيث ولد سنة 661 هـ وتوفي سنة 728 هـ- وفر له وسائل الاطلاع على ما انتهى إليه هؤلاء الأشاعرة في شرح مذهبهم، والاستدلال له والرد على خصومه، ومن ثم تميزت ردود شيخ الإسلام ومناقشاته لهم بالقوة والعمق والشمول، وكشف خبايا هذا المذهب وتناقضاته، وتسجيل اعترافات شيوخه وردود بعضهم على بعض. ولا شك ان هذه الأمور لها أثر كبير في بيان فساد أقوال الخصوم وتهافت أدلتهم.
ومذهب الأشاعرة لا يزال موجودا ومنتشرا- معتمدا على الأصول التي انتهى إليها المذهب الأشعري قبيل عهد ابن تيمية- ولم يحدث له تطور آخر، وإنما بقى معتمدا على من سبقه، ومن ثم فالرد عليه وبيان ما فيه من مخالفة لمذهب السلف لابد أن يكون معتمدا على ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا واقع الحال، فقلما يتصدى أحد للرد على المعتزلة أو الأشاعرة أو المتصوفة أو الرافضة أو غيرهم إلا ويكون جل اعتماده في ذلك- بعد الكتاب والسنة وأقوال السلف- على ردود ومناقشات هذا الإمام العظيم.
3- أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان صاحب منهج واضح ومحدد، سار فيه على وتيرة واحدة في جميع كتبه، لم تتغير طريقته، ولم تتناقض أقواله، مع كثرة كتبه، وطولها، وتشعب مسائلها، كا أن قناعته بمذهب السلف، وأن الحق كل الحق فيه، وأن ما عداه من الآراء والأقوال المبتدعة إما ضلال أو انحراف، أو في مذهب السلف ما يغني عنه تمام الغنى- لم تتغير أو تضعف. ولذلك كانت هناك أهمية خاصة لما كتبه في بيان عقيدة السلف والمنهج الصحيح في تقريرها، وكذلك ما كتبه في الرد على مخالفي عقيدة أهل السنة والجماعة والمنهج الصحيح لذلك.
4- وأخيرا فمما يلاحظ أن ردود شيخ الإسلام على كثير من الطوائف التي كانت أشد انحرافا من الأشاعرة، كالفلاسفة، وغلاة الصوفية، والمعتزلة،(1/10)
والجهمية، وغيرهم- لم تكن مقصودة لذاتها، لأن أصحابها كانوا قلة وكان المجتمع الاسلامى رافضا لها ولأفكارها، فلما تغلغلت آراء وأقوال هذه الطوائف عن طريق إدخالها في المذهب الأشعري، وتبني بعض أعلام الأشاعرة لها، صار خطرها يتهدد عامة المسلمين الذين كانوا يثقون في كثير من هؤلاء الشيوخ لأنهم علماء الأمة وفقهاؤها وقضاتها. فلما رأى شيخ الإسلام ذلك شمر للرد عليهم جميعا وعرض لفساد الأصول التى ترجع إليها هذه الأقوال وزيفها، وأطال في نقضها. وما كان شيخ الإسلام ليشغل نفسه بالرد على الفلاسفة مثلا لولا أن كثيرا من أصولهم صارت جزءا من كتب أهل الكلام، يعتمدون عليها، ويشرحونها في كتببهم، ويبنون عليها كثيرا من أدلتهم، حتى أصبحت هذه الأصول هي الأصل، وما جاء به الكتاب والسنة وأقوال السلف فرعأ لا حجة فيه ولاقيمة له إلا في حدود ضيقة.
فهذه الأمور وغيرها تبين أهمية بحث موقف! ابن تيمية من الأشاعرة، ولا شك أن البحوث حول كل من ابن تيمية وجهوده العلمية المختلفة (1) ، وحول الأشاعرة وأعلامهم وعقائدهم (2) - كثيرة جدا، كما أن لعلمائنا الأفاضل
_________
(1) المؤلفات حول شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرة جدا، ويصعب حصرها، ويمكن الاشارة إلى البحوث والأطروحات العلمية منها، فإضافة الى العدد الكبير من كتبه التي قدمت للتحقيق، كالجواب الصحيح، والتدمرية، وشرح الأصفهانية، والتسعينية، وبغية المرتاد، واقتضاء الصراط المستقيم، وشرح حديث النزول، والقواعد الفقهية، ومناسك الحج والعمرة من كاب شرح العمدة، والمسودة. وغيرها - هناك عدد من الموضوعات المقدمة رسائل علمية ومنها على سبيل المثال: منهج ابن تيمية في تفسير القرآن صبرى المتولي ومنطق ابن تيمية: محمد حسني الزين، وأصول الفقه وابن تيمية: صالح المنصور، وموقف ابن تيمية من التصوف والمتصوفة " أحمد بن محمد بناني، وهذه كلها مطبوعة. ومنها دور ابن تيمية في الجهاد ضد المغول: مريم محمد بن لادن، وابن تيمية ونقده للنصارى: فايزة بكري، وغيرها كئير جدا.
(2) منها: أبو الحسن الأشعري بين السلف والمتكلمين: هادي طالبي، ونشأة الأشعرية تطورها: جلال موسى، والأشاعرة، لأحمد صبحي، وما كتبه عبد الرحمن بدوي في الجزء الأول من مذاهب الاسلاميين، وفخر الدين الرازى للرزكان، وآراء الغزالي في الالهيات: سليمان شيبي، والبيهقى وموقفه من الالهيات: أحمد عطية الغامدي، وغيرها كثير.(1/11)
ردود متنوعة على الأشاعرة وبيان ما خالفوا فيه مذهب السلف (1) .
وهذا البحث الذي أقدمه اليوم- على ضعف مني وقلة حصيلة وقصر باع إنما هو محاولة لبيان الحق في هذه المسألة العظيمة من خلال ما كتبه شيخ الاسلام ابن تيمية-رحمه الله- تعالى-.
وقد اشتملت خطة البحث- بعد المقدمة العامة- على تمهيد وبابين وخاتمة.
أما التمهيد: فقد كان بعنوان: السلف ومنهجهم في العقيدة، وقد اشتمل على التعريف بالسلف وأهل السنة والجماعة، ثم بيان نشأة التسمية بهذا الاسم، ثم شرح منهجهم في العقيدة والاستدلال لها. وقد جاء هذا التمهيد مفصلا بعض الشيء لأن كلا من الأشاعرة وابن تيمية ينسب مذهبه إلى مذهب السلف، فكان لابد من ذكر مذهب السلف من مصادره ليتبين عند المقارنة من الذى كان سائرا على مذهب السلف ومن الذي انحرف عنه.
وأما الباب الأول: فكان موضوعه: ابن تيمية والأشاعرة، وقد اشتمل على عدة فصول:
الفصل الأول: عن حياة ابن تيمية، وقد اشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: عصر ابن تيمية وقد عُرضت فيه لبعض القضايا والأحداث التي حفل بها هذا العصر المليء بالاضطرابات، مثل الغزو الصليبي للعالم الإسلامي، وظهور التتار وسقوط الخلافة العباسية في بغداد، وقيام دولة المماليك،
_________
(1) من ذلك ما كتبه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في مجلة المجتمع الكويتية العدد (958) بتاريخ 12/5/1404 هـ- وأعيد نشر المقال في العدد الذى يليه من المجلة المذكورة- ردا على أقوال محمد على الصابوني حول الأشاعرة- نشرت آراء الصابوني في مجلة المجتمع ني الأعداد (613،629،646) كرد على الصابوني فضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان، وقد نشر رده في مجلة المجتمع العدد (646،647) كما نشر في مجلة الدعوة السعودية العدد (904) . كما رد على الصابوني بشكل مركز وشامل الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالى، وقد نشر رده في مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ثم أعيدت طباعته في كتاب مستقل، نشر الدار السلفية في الكويت.(1/12)
ودور الباطنيين والرافضة، إضافة إلى الجوانب العلمية والعقدية. وقد فصل القول في المبحث بعض الشيء لأمرين أحدهما: أنه عصر مليء بالأحداث الجسام فهو كثير الشبه بعصرنا، ومن ثم فلا يكفي الاختصار والعرض السريع. والثاني: أن تفصيل بعض المسائل أغنى عن ذكرها عند الحديث عن مواقف ابن تيمية تجاه أحداث عصره.
المبحث الثاني: في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك بتوضيح الجوانب المعهودة في التراجم مثل اسمه ونشأته، وشيوخه، وجهاده وربطه العلم بالعمل، ودوره في مقاومة التتار والرافضة، ثم بيان منزلته ومكانته، وما جرى له من محن على يد أعدائه في الشام ومصر، وقد فصل القول في ذلك مع التركيز على بيان الدور الإيجابي في هذه المحن كلها. ثم ذكر تلاميذه والمتأثرين به، ورسائله وكتبه مع التركيز على بيان ما ألفه منها في الرد على الأشاعرة، ثم ذكر وفاته رحمه الله.
الفصل الثاني: في منهج ابن تيميه في تقرير عقيدة السلف والرد على خصومها، وقد شمل ذلك البحث منهجه في المعرفة والاستدلال، وبيان العقيدة والاستدلال لها، والرد على الخصوم، وما تميز به شيخ الاسلام من الأمانة العلمية.
الفصل الثالث: عن حياة أبي الحسن الأشعري وعقيدته، واشتمل هذا الفصل إضافة إلى ترجمة الأشعري وحياته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته بحث مسألة الأطوار التي مر بها في حياته العقدية وهل كانت طورين أو ثلاثة، وهل كان رجوعه في الإبانة إلى مذهب السلف رجوعاً كاملا أو بقيت عليه بقايا من أقوال أهل الكلام، ثم عرض لعقيدته وآرائه.
الفصل الرابع: وموضوعه: نشأة الأشعرية وعقيدتهم، وقد اشتمل هذا الفصل على عدة مباحث، منها شيوخ الأشاعرة وأسلافهم الكلابية، مع الترجمة لأبرز أعلامهم. ومبحث الماتريدية وعلاقتهم بالأشاعرة، ثم مبحث نشأة المذهب الأشعري وأسباب اتنشاره. وأخيرا وبشكل مختصر عقيدة الأشاعرة.
الفصل الخامس: وموضوعه: تطور مذهب الأشاعرة وأشهر رجالهم(1/13)
إلى عهد ابن تيمية، وفي هذا الفصل عرض لما حدث لمذهب الأشاعرة من تطور على يد أبرز رجاله، سواء بالميل إلى التأويل وأقوال المعتزلة، أو الامتزاج بالتصوف، أو الخوض في علوم الفلاسفة وإدخال آرائهم وأصولهم لتصبح جزءا من كتب الأشاعرة الكلامية. وقد ترجم في هذا الفصل لأبرز أعلام الأشاعرة- مع عرض مركز لأثر كل علم في تطور المذهب الأشعري، وهؤلاء الأعلام هم: أبو الحسن على بن مهدي الطبري، والباقلاني، وابن فورك، والبغدادي، والبيهقي، والقشيرى، والجويني، والغزالي، وابن تومرت، وأبو بكر بن العربي، والشهرستاني، وابن عساكر، والفخر الرازي، والآمدي، والعز بن عبد السلام، والبيضاوي، وأبو عمر السكوني، وصفي الدين الهندي، وعضد الدين الإيجي، وبدر الدين بن جماعة، وهؤلاء الخمسة كانوا معاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهم الله جميعا- ولم يكن الحديث عن هؤلاء من حيث التركيز والإطالة على وتيرة واحدة، بل منهم من أطيل الكلام حوله كالباقلاني، وابن فورك، والبيهقي، والجويني، والغزالي، والرازي، والباقون بين التوسط والاختصار، وذلك حسب أهمية العلم وكثرة مؤلفاته العقدية، ودوره في تطوير مذهب الأشا عرة.
أما الباب الثاني: فموضوعه: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، وقد اشتمل على ثلاثة فصول:-
الفصل الأول: في عرض ابن تيمية لجوانب الأشاعرة الإيجابية، واعترافه بما عندهم من حق، وهذا جزء من منهجه العام في الرد على الخصوم- والذي وضح في الفصل الثاني من الباب السابق-، وشيخ الاسلام وهو يرد على الأشاعرة وأعلامهم ردودا طويلة لم يمنعه ذلك من الاعتراف بجوانبهم الإيجابية في الرد على الفلاسفة، والباطنية، والمعتزلة والنصارى وغيرهم، وهو يدل على صفة العدل والانصاف مع خصومه، حتى وهم يمتحنونه، ويكونون سببا في سجنه وإيذائه.
الفصل الثاني: في منهج ابن تيمية العام في الرد على الأشاعرة، وهذا الفصل من أهم فصول الرسالة، وفيه عرض للقضايا العامة التي ناقش فيها شيخ(1/14)
الإسلام الأشاعرة، والتي لا تختص بباب معين من أبواب العقيدة، مثل مسألة أن الكتاب والسنة فيهما ما يغني عما ابتدعه هؤلاء، وحجية خبر الآحاد في العقيدة، وعلم الكلام المذموم، وكون مذهب السلف أعلم وأحكم وأسلم، وجهل الأشاعرة بمذهب السلف، وإرجاع أقوالهم إلى أصولها الاعتزالية والكلامية، وأنه لا تعارض بين العقل والنقل، والرد على متأخري الأشاعرة بأقوال شيوخهم، وتناقض الأشاعرة وما وقع فيه أعلامهم من الحيرة والشك، ثم رجوع بعضهم إلى الحق. ثم بيان تسلط الملاحدة من الفلاسفة والقرامطة عليهم لضعف ردودهم عليهم وأخذهم بأصول أهل الكلام الباطل. وكل مسألة من هذه المسائل يذكر لها شيخ الإسلام أمثلة متعددة.
الفصل الثالث: وموضوعه: ردود شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم تفصيلا، ويشمل عدة مباحث:
المبحث الأول: ردوده عليهم في مسألة توحيد الألوهية والربوبية، ويدخل في هذا المبحث بعض المسائل مثل مسألة أول واجب على المكلف، ومفهوم التوحيد عند الأشاعرة، وبيان خطئهم وتقصيرهم في مسألة توحيد الربوبية، وإغفالهم لتوحيد الالوهية.
المبحث الثاني: في الأسماء والصفات، وقد احتوى هذا المبحث على مسائل كثيرة جدا تتعلق بأسماء الله، والصفات التي أثبتها الأشاعرة، والصفات التى نفوها، وكيف رد عليهم شيخ الإسلام طويلا، وخاصة في المسائل الكبرى كمسألة العلو والاستواء، والصفات الفعلية، كالنزول والمجيء والغضب والرضا، والصفات الخبرية، وغيرها.
المبحث الثالث: في القضاء والقدر، وبعض المسائل المتعلقة به، وردوده عليهم في ذلك.
المبحث الرابع: في الإيمان، وميلهم إلى الإرجاء وردوده على أقوالهم.
المبحث الخامس: وفيه عرض لبعض المسائل المتفرقة التي خالف فيها الأشاعرة مذهب أهل السنة.(1/15)
أما الخاتمة ففيها عرض مختصر لأهم نتائج البحث.
وقد ذيلت الرسالة بالفهارس المهمة: كفهرس الآيات، والأحاديث، والأعلام المترجم لهم، والفرق والطوائف، والمصادر، والموضوعات.
وفي الختام أسأل الله أن يجزل المثوبة لكل من أعانني على استكمال هذا البحث، وأخص بذلك الدكتور سالم بن عبد الله الدخيل المشرف على هذه الرسالة، الذي قرأ جميع فصولها ومباحثها، والذي كان لتوجيهاته وملاحظاته الدقيقة أكبر الأثر.
كما أسأل اللة أن يجزل المثوبة لكل الإخوة الذين زودوني ببعض المصادر- أو مخطوطة ومطبوعة- وأخص منهم الدكتور/ ناصر العمر- وكيل الكلية للدراسات العليا سابقا- والأخ/ أحمد الحربي، والأخ/ محمد الخميس.
وفي الختام أسأل الله أن يغفر لنا خطايانا وتقصيرنا، وأن يلهمنا الصواب، ويعيذنا من فتنة القول وفتنة العمل. إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله أعلم وصلى اللة على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكتبه/ عبد الرحمن بن صالح المحمود
الرياض- كلية أصول الدين
ص- ب 17999
الرمز 11494(1/16)
تمهيد: السلف ومنهجهم لب العقيدة
أولا: التعريف بالسلف، أهل السنة والجماعة.
ثانيا: نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة.
ثالثا: منهج السلف في العقيدة.(1/17)
تمهيد
لما كان موضوع الرسالة يتعلق بشيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- وموقفه من الأشاعرة، وشيخ الإسلام يمثل في موقفه هذا مذهب السلف - رحمهم اللهـ كان من المهم التمهيد ببيان التعريف بالسلف وهل لهم أسماء أخرى عرفوا بها، وكيف تميزوا عن الطوائف والفرق الأخرى؟ ، ثم لابد من بيان منهجهم في العقيدة وضرورة هذا المنهج لكل مسلم يبحث عن الحق، ويرجو الفوز برضوان الله والنجاة من عذابه يوم القيامة.
ومسألة الالتزام بمذهب السلف ليست مسألة اختيارية، من شاء سلكها ومن شاء سلك غيرها، بل هى مسألة تتعلق بالإيمان بالله وبما جاء به كتابه وسنة رسولهـ صلى الله عليه وسلم - واتباعهما قولا وعملا، وهذا مما لا يختلف فيه أحد ممن ينتسب إلى الإسلام ولذا تجد الفرق المنحرفة- على اختلاف فيما بينها- كل واحدة تزعم أنها تسير على ما سار عليه الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتحتج على أقوالها بالنصوص، وحينما تعدد رجالاتها السابقين تذكر في الطبقة الأولى منهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهي مع ذلك منحرفة انحرافا بينا، فهى تصادم النصوص، وأحيانا ترفض الاحتجاج ببعضها ... وغالبا ترفض فهنم الصحابة للنصوص وتفسيرهم لها.
ولذا فلابد للباحث المسلم أن ينطلق في بحثه من منطلقين:
أحدهما: الثقة المطلقة بمذهب السلف، أهل السنة والجماعة، وأن يكون عنده يقين في ذلك لا يتزعزع أبدا.
والآخر: تحديد المقصود بالسلف، من هم؟، وما منهجهم، حتى يسلك طريقتهم على بصيرة، ولا يتخبط في سيره بين المناهج الأخرى.
ولما كان المنطلق الأول مما لا يختلف! حوله أحد ولو بشكل مجمل، فإننا في هذا التمهيد نعرض للمنطلق الثافي من خلال المباحث التالية:(1/19)
المبحث الأول: التعريف بالسلف، وأهل السنة والجماعة، وأهل الحديث.
المبحث الثاني: من المقصودون بالسلف، ونشأة التسمية بأهل السنة والجماعة؟.
المبحث الثالث: منهج السنف، أهل السنة والجماعة في العقيدة.(1/20)
المبحث الأول: التعريف بالسلف، وأهل السنة والجماعة وأهل الحديث
أولا: السلف:
قال ابن فارس: " سلف ": السين واللام والفاء أصل يدل على تقدم وسبق، من ذلك السلف الذين مضوا، والقوم السلاف: المتقدمون (1) .
هذا هو أصل هذه الكلمة لغويا، ولذا قال في العباب الزاخر: " وسلف يسلف سلفا- بالتحريك- مثال طلب يطلب طلبا أي: مضى قال الله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] ، والقوم السلاف: المتقدمون، وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون، والجمع أسلاف وسلاف " (2) ، ثم نقل عن أبي عبيد الهروي معاني السلف ومنها: القرض، والسلم، ثم قال: " وللسلف معنيان آخران: أحدهما كل عمل صالح قدمه العبد أو فرط فرط له، والسلف من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك " (3) ، وهذان المعنيان ذكرهما أهل غريب الحديث، ففي مشارق الأنوار: "والسلف: كل عمل صاع تقدم للعبد، ومنه قوله في الدعاء للطفل:"اجعله لنا فرطا وسلفا " (4) أي خيرا متقدما نجده في الآخرة، والسلف أيضا: من تقدمك من آبائك وقرابتك (5) ، ومثله في النهاية، ومجمع بحار الأنوار (6) ،
ويشهد للمعنى الأخير: من تقدمك من آبائك وقرابتك،
_________
(1) معجم مقاييس اللغة، مادة: سلف، (95/3) .
(2) العباب الزاخر: للحسن بن محمد الصفاني. حرف الفاء، مادة: " سلف "
(3) المصدر السابق.
(4) هذا الأثر مروى عن الحسن، وقد علقه البخارى في صحيحه: باب الجنائز- باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة (فتح الباري: 3/3 0 2) ، وذكره البخارى قبل حديث رقم (1325) - وقد وصله ابن حجر كا في تغليق التعليق (2/483-484) - وقد روى مسلم لفظة (فرطا وسلفا) من حديث آخر مرفوع ونصه: " إن اللة تعالى (ذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبها قبلها فجحله لها فرطا وسلفا بين يديها000) (مسلم، كتاب الفضائل: باب إذا أراد اللة رحمة أمة قبض نبها قبلها، ورقمه: 2288) .
(5) مشارق الأنوار (2/219) .
(6) انظر النهاية لابن الأثير، مادة: "سلفا " (2/ 390) ..وانظر أيضا: مجمع بحار الأنوار: محمدطاهر الصديقي، مادة: (سلف) (3/ 100) . وانظر: لسان العرب، مادة: (سلف) .(1/21)
حديث فاطمة- رضي الله عنها- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال لها " ... ولا أراني إلا قد حضر أجلي وأنك أول أهلي لحوقا بى، ونعم السلف أنا لك" (1) ،أي المتقدم.وكذا لما ماتت ابنته قال:"الحقي بسلفنا الصالح الخير، عثمان بن مظعون" (2) ومنه الدعاء لأهل القبور: " أنتم سلفنا ونحن بالأثر " (3) . أي: المتقدمون.
ونستخلص من هذا أن من معاني السلف: التقدم والسبق سواء كان بالعمل الصاع، أو من تقدم من الآباء وذوي القرابة وغيرهم، ومن هذا المعنى سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح (4) .
ولما حدث الافتراق ونشأت البدع بدأ يتحدد مصطلح السلف في عرف المتأخرين بأنهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وسيأتي مزيد إيضاح ومناقشة لهذا بعد التعريف بالمصطلحات المرادفة لمصطلح: " السلف "، مثل: أهل السنة، والجماعة، وأهل الحديث، والأثر، لأن هذه المصطلحات اشتهرت وكثر استعمالها، وخاصة في مجال أصول العقائد.
ثانيا: أهل السنة:
السنة لغة: السيرة والطريقة، قال ابن فارس: " سن ": السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشىء واطراده في سهولة، والأصل قولهم: سننت الماء على وجهي أسنه سنا، إذا أرسلت إرسالا....، ومما اشتق منه السنة، وهى السيرة، وسنة رسول الله عليه السلام سيرته (5) ، فالسنة هي الطريقة،
_________
(1) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة- باب فضائل فاطمة، ورقمه (2450) مكرر، ورواه أحمد (6/282) .
(2) رواه أحمد (1/237) ، ورقمه عند أحمد شاكر (27 1 2) وفيه: أنها زينب، ورواه أحمد أيضا (1/335) ورقمه عند أحمد شاكر (3103) وفيه: أنها رقية.
(3) رواه الترمذي، كتاب الجنائز- باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر، ورقمه (1053) تحقيق: فؤاد عبد الباقي.
(4) النهاية مادة " سلف " (2/ 390) ، وتاج العروس مادة: " سلف ".
(5) معجم مقاييس اللغة، مادة: " عن " (3/60-61) ، وانظر: مجمل اللغة له (3/54- 55) . ط معهد المخطوطات- الكويت.(1/22)
محمودة كانت أو مذمومة، وهي مأخوذة من السنن وهو الطريق (1) ، ومنه الحديث: " من سن في الاسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شىء " (2) ، يقول ابن الأثير: " وقد تكرر في الحديث ذكر " السنة " وما تصرف منها، والأصل فيها الطريقة والسيرة (3) ، وفي الحديث: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " (4) ، أي طريقهم، وقولهم: " هي السنة " (5) أى الطريقة التي سنها النبي عليه الصلاة والسلام وأمر بها (6) ، ولذلك صار لفظ السنة يطلق على ما كان محمودا فيقال: فلان من أهل السنة، معناه، من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة (7) .
أما السنة في الاصطلاح فلها عدة إطلاقات:
أ) ففى اصطلاح المحدثين: عرفها ابن حجر بأنها: " ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره وما هم بفعله " (8) ، وعرفها البعض بأنها: " كل ما أثر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة، سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها " (9) ،
_________
(1) انظر: لسان العرب، مادة: "سنن ".
(2) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة، ورقمه (1017) .
(3) النها ية، ما د ة: " سنن " (2/223) .
(4) رواه البخارى، كناب أحاديث الأنبياء- باب ما ذكر عن بني اسرائيل ورقمه (3456) ، فتح البارى (6/495) - السلفية، ورواه مسلم كاب العلم- باب اتباع سنن اليهود والنصارى، ورقمه (2669) .
(5) ترد كثيرا على لسان الصحابة والتابعين، انظر مثلا: صحيح مسلم، كتاب المساجد- باب جواز الاقعاء على العقبير، ورقمه (536) .
(6) مشارق الأنوار (2/223)
(7) انظر: لسان العرب، مادة:" سنن".
(8) فتح الباري (13/245) . السلفية، وانظر: توجيه النظر (ص: 3) .
(9) السنة ومكانتها في التشريع الاسلامى للسباعي (ص: 47) ، وانظر السنة قبل التدوين (ص: 16) ، دراسات في الحديث النبوي للأعظمى (1/1) .(1/23)
فهي بهذا مرادفة للحديث.
ب) وفي اصطلاح علماء أصول الفقه يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص، مما لم ينص عليه في الكتاب العزيز، بل إن ما نص عليه من جهته عليه الصلاة والسلام، كان بيانا لما في الكتاب أولا " (1) ، فهي مختصة بما صدر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - من غير القرآن مما يصلح أن يكون دليلا شرعيا (2) .
ج-) وفي اصطلاح الفقهاء فهي: ما ثبت عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولم يكن من باب الفرض ولا الواجب (3) . فهى مرادفة للمندوب.
د) وقد تطلق السنة على كل ما دل عليه دليل شرعي، سواء كان ذلك في الكتاب العزيز أو مأثورا عن النبى- صلى الله عليه وسلم -، أو اجتهد فيه الصحابة كجمع المصحف، وتدوين الدواوين ... (4) ، ودخول ما اجتهد فيه الصحابة يدل عليه حديث: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين " (5) ، وقول على في الخمر: " جلد النبي-صلى الله عليه وسلم- أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة " (6) .
هـ) كما تطلق السنة في مقابل البدعة، " فيقال: فلان على سنة، إذا عمل على وفق ما عمل عليه السلام، كان ذلك مما نص عليه الكتاب أو لا " (7) .
_________
(1) الموافقات للشاطبي (4/3) ، وانظر: النهاية لابن الأثير (2/409) .
(2) انظر: السنة قبل التدوين (ص: 16) .
(3) انظر: إرشاد الفحول (ص: 31) .
(4) السنة للسباعي (ص: 48) ، وانظر: المرافقات (4/4-6) .
(5) رواه الترمذى، كتاب العلم- باب ما جاء في الأخذ بالسنة اجتناب البدع، ورقمه (2676) ، تحقيق عطوه. ورواه أبو داود، كتاب السنة- باب لزوم لزوم السنة، ورقمه (4607) . ط الدعاس.
(6) رواه مسلم، كتاب الحدود- باب حد الخمر، ورقمه (1707) . وأحمد (82/1) ، ورقمه عند أحمد شاكر (621) .
(7) الموافقات (4/ 4) .(1/24)
هذه أهم إطلاقات السنة عند العلماء (1) ، والذي يهمنا هنا اصطلاح " السنة " حينما يقال: " أهل السنة " في مجال العقائد، خاصة لما حدث الافتراق في الأمة الإسلامية. يقول ابن رجب: " وعن سفيان الثوري قال: " استوصوا بأهل السنة خيرا فإنهم غرباء " (2) ، ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول: " أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال " (3) ، وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التى كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضى الله عنهم. ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم: السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر، وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة، وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة، وأما السنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات " (4) .
وهذا الذي ذكره ابن رجب-رحمه الله- استقر عليه مصطلح أهل السنة، ولذلك لما وصل السمعافي في الأنساب إلى ذكر من نسب إلى السنة فقيل: " السني " قال: " السني: بضم السين المهملة، وتشديد النون المكسورة، هذه النسبة إلى السنة التي هي ضد البدعة، ولما كثر أهل البدع
_________
(1) يطلق لفظ: " أهل السنة " في مقابل الرافضة، كما أن الرافضة يعنون به من عداهم، يقول ابن تيمية في منهاج السنة (2/163) ، المحققة: " فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فبدخل في ذلك جميع الطواثف إلا الرافضة وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه الا من يثبت الصفات لله تعالى.... وهذا الرافضي- يعني المصنف- جعل أهل السنة بالاصطلاح الأول وهو اصطلاح العامة: كل من ليس يرافضي قالوا: هو من أهل السنة".
(2) رواه اللالكائي في شرح السنة رتم (49) .
(3) رواه بلفظ مقارب اللالكائي في شرح السنة رقم (51) ، وأبو نعيم في الحلية (8/104) .
(4) كشف الكربة (ص: 19-. 2) .(1/25)
خصوا بها جماعة بهذا الانتساب" (1) ، ولما سأل عمر بن عبد العزيز رجل عن القدر أجابه بجواب طويل أوله: " أما بعد، أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره (2) ، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإنها لك- بإذن اللهـ عصمة ... " (3) . فأمرهـ وهو يجيبه عن موضوع القدر وما أحدث فيه أهل البدع- بلزوم السنة وأن فيها وحدها العصمة من الانحراف.
ثا لثا: الجما عة:
يقال: " أهل السنة والجماعة "، وقد ورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث، منها ما رواه ابن عمر- رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهـ خطب بالجابية (4) ، فقال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامي فيكم فقال: " استوصوا بأصحابي خيرا، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى إن الرجل ليبتدىء بالشهادة قبل أن يسألها، فمن أراد منكم بحبحة (5) الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد000" (6) ، وفي بعض روايات حديث الافتراق أن الفرقة الناجية: الجماعة (7) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الصلاة المكتوبة إلى الصلاة المكتوبة التي بعدها كفارة
_________
(1) الأنساب (7/175) ط لبنان.
(2) أي التوسط بين الإفراط والتفريط. حاشية سنن أبي داود (5/19) ، ط الدعاس.
(3) رواه أبو داود، كتاب السنة- باب لزوم السنة، ورقمه (4612) ، ط الدعاس.
(4) الجابية: قرية بدمشق. تحفة الأحوذى (3/207) هندية.
(5) في بعض الألفاظ- منها لفظ الترمذى- بحبوحة الجنة- والمعنى: وسطها وخيارها. تحفة الأحوذ ى (3/207) هندية.
(6) رواه أحمد (1/18، 26) ، وهو في المسند تحقيق شاكر برقم (114،177) . ورواه الترمذى في الفتن- باب ما جاء في لزوم الجماعة، ورقمه (2165) تحقيق: (براهيم عطوة، وقال فيه الترمذى: " هذا حديث حسن صحيح غريب". ورواه الحاكم في المستدرك (1/114-115) ، من طرق وصححه ووافقه الذهبي. ورواه ابن أبي عاصم في السنة (1/42) من عدة طرق وصححه الألباني.
(7) منها: رواية معاوية- رضى الله عنهـ رواه الإمام أحمد (4/102) ، وأبو داود، =(1/26)
لما بينهما، قال: والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر- يعني رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما- قال: ثم قال بعد ذلك: إلا من ثلاث- قال: فعرفت أن ذلك الأمر حدث- إلا من الاشراك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة، قال: أما نكث الصفقة أن تبايع رجلا ثم تخالف إليه تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة " (1) ،
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من رأى من أميره شيئا فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية" (2) ، وغيرها من الأحاديث التي وردت بالأمر بلزوم الجماعة، والنهي عن الخروج عليها.
وقد اختلف العلماء في المقصود بالجماعة على أقوال أهمها:
أ- أن الجماعة هم الصحابة دون من بعدهم، " فإنهم الذين أقاموا عماد الدين، وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أبدا " (3) ، وهذا القول مروى عن عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- فمما روى عنه
_________
(1) = كتاب السنة رقم (4597) - ط الدعاس، والحاكم في المستدرك (1/128) ، والدارمي (2/ 158) برقم (2521) - ط اليماني، والآجري في الشريعة (ص: 18) ، وابن أبي عاصم (1/34-35) ، واللالكائي في شرح السنة (1/ 01 ا-102) ، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر أحاديث الكشاف (ص: 63) ، " ملحق في آخر الكشاف للزمخشري ". وجود اسناده العراقي- إحياء علوم الدين (3/255) ، وقال عنه ابن تيمية: " هذا حديث محفوظ " اقتضاء الصراط المستقيم (1/118) ، المحققة. وصححه الألباني: سلسلة الصحيحة، رقم (204) . ومنها: رواية عوف بن مالك- رضى الله عنهـ رواها ابن ماجه، كتاب الفتن، رقم (3992) ، وابن أبي عاصم (1/32) ، واللالكائي (1/ 101) ، وإسناده حسن، وذكره الألباني في الصحيحة رقم (1492) . ومنها: رواية أنس بن مالك- رضي الله عنهـ رواها الامام أحمد (3/ 120، 145) ، وابن ماجه في الفتن، ورقمه (3993) ، واللالكائي (1/ 0 0 1) ، والآجرى في الشريعة (ص: 16-17) ، والطبرافي في الصغير (1/256) ، والعقيلى في الضعفاء الكبير (2/262) ، ويصح بمحموع طرقه.
(1) رواه أحمد (2/229) ، وهو في مسند شاكر، برقم (7129) وصححه، ورواه الحاكم (1/119 - 120) وقال: " صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة لا ووافقه الذهبي.
(2) رواه البخارى في الفتن، ورقمه (7054) ، وفي الأحكام ورقمه (43 71) ، ورواه مسلم في الإمارة، ورقمه (1849) .
(3) الاعتصام (2/262) ، وانظر: فتح الباري (13/37) .(1/27)
أنه قال: (سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتدى، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى وصلاه جهنم وساءت مصيرا" (1) ، قال مالك: (فأعجبني عزم عمر على ذلك" (2) ، فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطاب للرواية الأخرى لحديث الافتراق حيث قال: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعبن ملة كلهم في النار الا ملة واحدة قالوا: ومن هي يارسول الله؟، قال: ما أنا عليه وأصحابي" (3) ،
والصحابة لهم خصوصيات كثيرة، فهم الذين شاهدوا التنزيل،- وسمعوا من الرسول، فلهم من العلم والفضل، والاقتداء ما ليس لغيرهم ممن جاء بعدهم.
2- وقيل: إن الجماعة هم أهل الحديث، أو أهل العلم (4) المجتهدون " لأن الله جعلهم حجة على الخلق، والناس تبع لهم في أمر الدين" (5) ،
_________
(1) روا. ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/228) بسنده الى مالك عن عمر بن عبد العزيز، وأيضا رواه أبو نعيم في الحلية (6/364) ، والآجرى في الشريعة في عدة مواضع (ص: 48،65، 307) ، واللالكالي في شرح السنة رقم (134) . ولكن هذا الكلام مروى عن مالك، رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص: 7) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (8/88) .
(2) الاعتصام (2/263) .
(3) رواه الترمذى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، كتاب الإيمان، ورقمه (2641) ، ورواه الحاكم (1/128-129) ، والآجرى في الشريعة من طريقين (ص: 5 ا-16) ، واللالكائي شرح السنة، رقم (45 1-147) ، والعقيلى في الضعفاء الكبير (2/262) ، وابن وضاح في البدع والنهى عنها (ص:85) .
وقال فيه الترمذى: " هذا حدث حسن، غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال في تحفة الأحوذى (3/368) ، هندية: (في سنده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وهو ضعيف، فتحسين الترمذى له لاعتضاده بأحاديث الباب". قول النرمذى " مفسر" اسم مفعول من التفسير، أى: مبين، بين فيه ما لم يبين في حديث أبي هريرة المتقدم (تحفة الأحوذى: 3/368- هندية) ، وذكره ابن تيمية محتجا به، حيث نقل تحسين الترمذي له. اقتضاء الصراط المستقيم (1/116) المحققة.
(4) يلاحظ أن بعض العلماء عبر عن الحديث بالعلم، فالخطيب البغدادى سمى كتابه: تقييد العلم، واين عبد البر سمى كتابه:: جامع بيان العلم وفضله، وقصدهم الحديث.
(5) فتح الباري (13/37) .(1/28)
وهذا رأى الإمام البخاري قال: " باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ، وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم " (1) ، وهو رأى الإمام أحمد-رحمه الله-، فإنه قال عن الجماعة: " إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم (2) ؟ "، وهو رأي الترمذي الذي قال: " وتفسر الجماعة عند أهل العلم: هم أهل الفقه والعلم والحديث " (3) ، وهو رأي ابن المبارك وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان الذي قال: " هم أهل العلم وأصحاب الآثار" (4) .
فعلى هذا القول فالجماعة هم أهل السنة العالمون المجتهدون، فيخرج منهم المبتدعة، كا يخرج العامة المقلدة لأن الغالب فيهم أنهم تبع للعلماء.
3- وقيل: إن الجماعة هم السواد الأعظم، وعليه رواية الافتراق التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أن الفرقة الناجية هم السواد الأعظم (5) ، قال في النهاية: " عليكم بالسواد الأعظم (6) : أى جملة الناس ومعظمهم، الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك النهج القويم " (7) ، يقول عبد اللة مسعود - رضي الله عنهـ في إحدى خطبه: "يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما السبيل في الأصل الى جبل الله الذى أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة " (8) ، ويقول أبو غالب -رحمه الله-:
_________
(1) صحيح البخاري: فتح الباري (13/316) .
(2) شرف أصحاب الحديث (صلى الله عليه وسلم:25) .
(3) سنن الترمذي (4/465) .
(4) شرف أصحاب الحديث (صلى الله عليه وسلم:26 - 27) .
(5) رواه الطبراني في الكبير من طرق (8/321-328) ، وأرقامه (8035، 51 80،53 80، 8054) ، ورواه اللالكائي في شرح السنة من طريقين، رقمها (151-152) ، ورواه ابن أبي زمنين في أصول السنة (ص: 36) ، من المخطوطة، والحارث ابن أبي أسامة كا في المطالب العالية (3/86) ، كا رواه مختصرا بدون ذكر الافتراق: أحمد والترمذي وابن ماجه في قصة الخوارج. قال فى مجمع الزوائد (6/234) :" ورواه الطبراني ورجاله ثقات ".
(6) رواه ابن ماجهـ مرفوعا- في الفتن، رقمه (3950) ، وإسناده ضعيف، رروى موقوفا عن أبي أمامة. مسند أحمد (4/ 278) ، وعن عبد الله بن أبي أوفى- المسند أيضا (4/383) .
(7) النهاية (6/419) .
(8) رواه اللالكائي، رقم (158-159) ، والآجري في الشريعة (ص: 13) .(1/29)
" إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية سواء خالفهم في شىء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم فهو مخالف! للحق " (1) ، ويقول أبو مسعود الأنصاري - رضي الله عنهـ حين خرج ونزل في طريق القادسية وقال له أصحابه: اعهد إلينا، فإن الناس قد وقعوا في الفتنة فلا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا. فقال: " اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمته على الضلالة " (2) ، يقول الشاطبي معقبا: فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها، وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان، ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع؟ لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة، لم يدخلوا في سوادهم بحال " (3) . ويقول الآجري: " فمن أراد الله تعالى به خيرا فتح له باب الدعاء، والتجأ إلى مولاه الكريم وخاف على دينه، وحفظ لسانه، وعرف زمانه، ولزم الحجة الواضحة السواد الأعظم ... " (4) .
4- وقيل: إن الجماعة هم جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر من أمور الشرع سواء في أمور الأحكام أو المعتقدات، يقول الكرماني: " يلزم على المكلف متابعة حكم الجماعة والاعتصام به، وهو اتفاق المجتهدين من الأمة في عصر على أمر ديني (5) فهذا القول يفسر الجماعة بأهل الإجماع، ولذا فهو قريب من القول الثاني.
5- إن الجماعة: هم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، وهذا رأي الطبري الذي ذكر الأقوال السابقة، ثم قال: " والصواب أن المراد من الخبر
_________
(1) الاعتصام (2/260) .
(2) رواه اللالكائي، ورقمه (162 - 163) .
(3) الاعتصام (2/ 261) .
(4) الشريعة (ص: 44) .
(5) شرح الكرماني على البخاري (25/75) .(1/30)
لزوم الجماعة الذين لط طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة" (1) ، ولذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومه، ونهى عن الخروج عليه، وفراق الأمة فيما أجمعوا عليه من تأميره وتقديمه عليهم (2) .
هذه أهم الأقوال في الجماعة وحاصلها أن الجماعة ترجع إلى أمرين:
أحدهما: أن الجماعة هم الذين اجتمعوا على أمير على مقتضى الشرع، فيجب لزوم هذه الجماعة، ويحرم الخرو! عليها وعلى أميرها.
الثاني: أن الجماعة ما عليه أهل السنة من الاتباع وترك الابتداع، وهو المذهب الحق الواجب اتباعه والسير على منهاجه، وهذا معنى تفسير الجماعة بالصحابة، أو أهل العلم والحديث، أو الاجماع، أو السواد الأعظم، فهي كلها ترجع إلى معنى واحد هو: ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فيجب الاتباع حينئذ ولو كان المتمسك بهذا قليلا، ولهذا قال عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنهـ إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك " (3) ، وروى عنه أنه قال: " إنما الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك " (4) ، يقول أبو شامة: " حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وأتباعه، وإن كان المتمسك بالحق قليلا والمخالف كثيرا، لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهـ رضي الله عنهم- ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم " (5) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا، واتباع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ،
_________
(1) فتح الباري (13/37) .
(2) انظر الاعتصام (2/264-265) .
(3) رواه اللالكائي في شرح السنة، ورقمه (160) .
(4) الحوادث والبدع لأبي شامة (ص: 22) .
(5) المصدر السابق (ص: 22) .(1/31)
وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " (1) ، ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ويوثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - على هدى كل أحد، وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وان كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين، و" الإجماع " هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة وظاهرة مما له تعلق بالدين " (2) . ولهذا نجد أحيانا بعض العلماء يفسرون الجماعة بأشخاص تمثل فيهم المنهج الحق والاتباع، فعبد الله ابن المبارك لما سئل عن الجماعة قال: " أبو بكر وعمر، فقيل له: قد مات أبو بكر وعمر، قال: ففلان وفلان، قيل له: قد مات فلان وفلان، قال ابن المبارك: أبو حمزة السكري جماعة " (3) . فأراد ابن المبارك أن يفسر الجماعة بمن اجتمعت فيه صفات الاتباع الكامل للكتاب والسنة.
رابعا: أهل الحديث
تقدم في القول الثاني من الأقوال في المقصود بالجماعة: أنهم أهل الحديث، وأن هذا قال به جماعة من أهل العلم كالبخاري والإمام أحمد، والترمذي، وابن المبارك، وابن المديني، وأحمد بن سنان، وغيرهم. ولذلك صار عند كثير من العلماء أن الفرقة الناجية والتي يجب السير على منهاجها هم أهل الحديث. ولذلك فسنعرف بهم هنا:
الحديث في اللغة ضد القديم (4) ، وفي الاصطلاح: عرفه بعضهم بأنه:
_________
(1) سبق تخريجه عند الكلام عن معنى " أهل السنة ".
(2) مجموع الفتاوى - ط الرياض (2/ 157) .
(3) سنن الترمذي (4/467) بعد حديث رقم (2167) ، تحقيق: عطوة، وشرح السنة للبغوي (1/205) ت: السيد صقر.
(4) الصحاح للجوهري، مادة: حدث.(1/32)
" ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي " (1) ، وعلى هذا فلا يشمل الموقوف والمقطوع (2) ، ولكن جمهور العلماء ذهبوا إلى أنهما من الحديث (3) .
علم الحديث:
علم الحديث قسمان:
أ) علم الحديث رواية: وهو: " علم يشتمل على أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته، وصفاته، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها " (4) .
ب) علم الحديث دراية: وهو: " علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن " (5) ، وهو ما يعرف بمصطلح الحديث.
واذا قيل: " أهل الحديث " فالمقصود بهم الذين يعنون بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية ودراية، ولكن لابد لهؤلاء- حتى يكونوا من أهل الحديث حقا- أن يكونوا عالمين وعاملين، وأن يكونوا مطبقين لما يتعلمونه، متبعين للسنة مجانبين للبدعة، وبهذه الأمور يتميزون عن أهل الأهواء، أما إذا كانوا لا يعملون بعلمهم- كا يحدث من بعض من ينتسب إلى الحديث- فقد اشتد نكير العلماء على مثل هؤلاء (6) . وقد روى عن هارون الرشيد أنه قال: " طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة،
_________
(1) منهج النقد في علوم الحديث (ص: 26) .
(2) الموقوف: ما أضيف إلى الصحابي، والمقطوع: ما أضيف الى التابعي.
(3) منهج النقد (ص: 27) ، وانظر: نزهة النظر (ص: 18) .
(4) تد ريب الراوي (1/ 40) .
(5) المصدر السابق (1/ 41) .
(6) انظر مثلا: جامع بيان العلم وفضله (22941) وما بعدها، وشرف أصحاب الحديث (ص: 120) وما بعدها.(1/33)
وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث" (1) ويروى الخطيب عن أحمد بن سنان قال: " كان الوليد الكرابيسى خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا، قال: فتتهموني؟، قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟، قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم ... " (2) .
فأهل الحديث مرادف لأهل السنة، يقول اللالكائي: " فلم نجد في كتاب الله وسنة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الاتباع، وذم التكلف والاختراع، فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين، وكان أولاهم بهذا الاسم، وأحقهم بهذا الوسم، وأخلصهم بهذا الرسم " أصحاب الحديث " لاختصاصهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعهم لقوله، وطول ملازمتهم له، وتحملهم علمه ... " (3) ، ثم يعلل وجه تسميتهم بأهل الحديث بأن اسمهم مأخوذ من الكتاب والسنة لاتباعهم ما فيهما، فهم حملة القرآن وأهله وقراؤه وحفظته، وهم نقلة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحملته (4) .
* * *
هذه تعريفات للمصطلحات التي تطلق على السلف، أصحاب المذهب الحق، والمنهج الحق، وهى كلها تدل على معنى واحد، ولذلك يمكن أن يفسر بعضها بما تدل عليه معاني البعض الآخر، فهم الجماعة، وهم أهل السنة، وهم أيضا أهل الحديث، وهم الطائفة المنصورة التى قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
_________
(1) شرف أصحاب الحديث (ص: 55) .
(2) المصدر السابق (ص: 56) .
(3) شرح السنة للالكائي (1/22) .
(4) انظر: المصدر السابق (1/24) .(1/34)
" لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " (1) وفي لفظ " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " (2) .
_________
(1) راه مسلم، كتاب الامارة، ورقمه بعد حديث رقم (1923) .
(2) رواه مسلم، ورقمه (1920) ، عن ثوبان، ورواه البخارى عن المغيرة بن شعبة، ورقمه (2640) ، وهذا الحديث مروى في جميع كتب السنة- تقرييا- عن عدد كبير من الصحابة، فهو متواتر.(1/35)
المبحث الثاني: من المقصود بالسلف؟ ونشأة التسمية بأهل السنة والجماعة
من المقصود بالسلف؟
لقد تنوعت الآراء والمذاهب حول المقصود بمذهب السلف، وعلى من ينطبق وصف " السلف " الذين يجب اتباع مذهبهم والسير على منهاجهم، والسبب أن كل فئة تنطلق من وضعها الخاص بها وتدعى أن ما معها هو المذهب الحق؟ لذلك نجد هذه الفئة تحدد المقصود بالسلف بما يتم مع ما عندها من أصول عقائدية، أو منهج ارتضته للوصول إلى ما يجب اعتقاده.
أ) فأحيانا يتجه البعض (1) - من المحدثين- إلى حصر مذهب السلف بفترة معينة لا يتعداها، ثم يزعم أن الفكر الإسلامي قد تطور بعد ذلك على يد رجاله، وهذا التطور لا ينحصر عنده في نطاق فئة معينة، وإنما كل ما ظهر من الآراء والفرق منتسبا بعمومه إلى الإسلام فهو جزء منه، ولو خالف ما كان عليه السلف في المنهج والفهم والاعتقاد، وعلى هذا فالمعتزلة والرافضة بل والجهمية والباطنية هم نتاج مذهب السلف بعد تطويره وبعثه، وتجريده من ثوبه التقليدي البسيط إلى لباس العقل الفلسفى والتأويل الكلامي والباطني.
ولذلك فكثيرا ما يزعم بعض هؤلاء أن عقيدتهم هي التعبير الصحيح عن مذهب السلف، وأن مذهب السلف- بشكله المعروف- إنما ناسب الزمن الذي نشأ فيه، وأن رجاله الأوائل لو عاشوا إلى الزمن الذي بعدهم لطوروه إلى المستوى الذي وجد عليه فيما بعد.
ب) وبعضهم يفهم أن السلف نصيون، يعتمدون على النصوص فقط، أما العقل فلا يعتمد عليه في شيء أبدا، فهم يسلمون فقط لظاهر النصوص دون فهم لها، ويكلون علمها- معانيها وكيفيتها- إلى الله تعالى،
_________
(1) أمثال مصطفى غالب وعارف تامر، وغيرهم، ممن يعنون ويميلون الى الأفكار الباطنية والفلسفية.(1/36)
ولذلك فقد شغلوا أنفسمهم بما يرون أنه أنفع، من العبادة والجهاد في سبيل الله، وإقراء القرآن، ونقل الحديث وروايته.
والعجيب أن مفهوم هؤلاء عن السلف ومنهجهم منتشر بين جمهرة كبيرة من العلماء الذين نحوا منحى كلاميا- في عقائدهم أو في كتبهم حول العقيد ة- وأيضا من الذين كتبوا حول الفلسفة وعلم الكلام، أو أية قضية من قضاياه، ولذلك انتشرت بين هؤلاء-جميعا عبارة: أن مذهب السلف هو التفويض، أو عبارة بعض السلف: " أمروها كا جاءت "، أو أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم (1) .
أما العقل عند السلف- على رأي هؤلاء- فلا يعتمد عليه مطلقا، ولا أدري ما يصنع هؤلاء بالدلائل العقلية التى جاء بها القرآن والسنة، والتى استخدمها علماء السلف في العصر الأول؟.
ويعلل هؤلاء نشوء ما يسمى بمذهب " الخلف " أو " علم الكلام " بأنه لما كثرت الشبهات التي تثار ضد العقيدة الإسلامية، رأى علماء الإسلام أنه لا يكفى للرد عليها وإبطالها وحماية الناس- وخاصة العامة منهم- من شرورها وآثارها لا يكفي في ذلك الاعتماد على مذهب السلف النصي، فنشأ علم الكلام بمباحثه العقلية والكلامية ليرد الشبهات ويثبت العقيدة ويظهر الحجاج لها في أجواء سادت فيها مذاهب الفلاسفة والجهممية والمعتزلة والقرامطة.
فهل فهم هؤلاء لمذهب السلف كان صحيحا؟ حين قصروه على الإيمان بالنصوص والتسليم دون فهم أو اقتناع؟
ج-) وتأتي فئة أخرى تزعم أن ما نشأ من الدراسات العقلية في علم الكلام لم ينشأ من المؤثرات الخارجية والشبهات التى أثارها أعداء العقيدة- وإن كان قد تطور بسببها- وإنما نشأ من مذهب السلف نفسه وأن بواكير الفلسفة الاسلامية وعلم الكلام إنما جاءت من القرآن الكريم، ففيه المجادلة للمخالفين من أهل الديانات الأخرى وغيرهم، وفيه ذكر الحكمة التي كانت
_________
(1) كما هو منتشر في كتب كثير من الأشعرية وغيرهم.(1/37)
معروفة عند العرب وكان يفتخر بأصحابها، وأن ما نشأ من البحث حول الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وذلك بما يسمى بأصول الفقه إنما هو بداية ظهور الاتجاه العقلي عند المسلمين (1) .
فالذي يفهم من هذا أن السلف- رحمهم الله تعالى- كانوا يحترمون النصوص، ولكن من خلال منظار عقلي استخدموه ونشأ على أثره علم الكلام، فكيف يصح هذا على إطلاقه مع ما هو متواتر عن السلف من الإيمان والتسليم والثقة المطلقة بما جاءت به النصوص، وأن هذه الثقة توجد على أتمها حين ترد على النفس أو يورد بعض الناس- شبهات أو وساوس حولها؟.
د) وإذا كانت الآراء السابقة تنحو منحى خاصا في فهم المقصود بمذهب السلف، فإن هناك اتجاها آخر يزعم أصحابه أن مذهب السلف يشتمل على عدة اتجاهات وتيارات، وأن هذه التيارات وإن تباينت في المنهج- إلأ أنها تلتقى في أنها قامت ونشأت على يد علماء الإسلام ممن هم من أهل الدين والفضل والعلم بالأحكام، يقول ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: " اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل وإن اختلفوا في الطرق والمبادى الموصلة لذلك، وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف:
الأولى: أهل الحديث، ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية: الكتاب والسنة والإجماع.
الثانية: أهل النظر العقلي، وهم الأشعرية والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسمن الأشعري، وشيخ الحنفية: أبو منصور الماتريدي، وهم متفقون في المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط، والعقلية والسمعية في غيرها، واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية إلا في مسائل.
_________
(1) انظر: تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية، مصطفى عبد الرازق، (ص: 15 ا-123) ، وانظر: المدرسة السلفية، حسين نصار، (ص: 624- هـ 62) .(1/38)
الثالثة: أهل الوجدان والكشف، وهم الصوفية، ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية والكشف والإلهام في النهاية " (1) ، وهكذا يخلط بين اتجاه أهل الحديث، والاتجاه التأويلي للأشعرية والماتريدية، واتجاه الكشف عند المتصوفة ليصبح كل اتجاه منها هو مذهب أهل السنة والجماعة.
* * *
وهذه الاتجاهات والآراء حول تحديد المقصود بالسلف نشأ الخطأ في كل واحد منها من جهة أنه لم ينطلق أصحابها من منطلق شرعي واضح، مبني على الكتاب والسنة اللذين أمرا بالاتباع ونهيا عن الابتداع، وحددا معا لم المنهج والطريق الذي يجب السير فيه، ومن ثم يجب اتباع من سار على هذا الطريق المستقيم.
ومما ينبغي ملاحظته أنا إذا أردنا أن نبين القول الصحيح في تحديد من هم الذين يصدق علهم اسم السلف، تبرز بعض الملاحظات والاعتراضات:
أ) فمثلا: حين نقول: إن السلف هم الصحابة والتابعون والتابعون لهم للحديث الوارد: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم.. " (2) ،
يرد الاعتراض بأن التفرق والاختلاف نشأ في عهد هؤلاء، فالخوارج والشيعة والقدرية وجدوا في عهد الصحابة، وكذا بقية الفرق بعد هؤلاء بقليل، فهل وجود هؤلاء في هذه الفترة الزمنية التى هي خير القرون يعطيهم صفة السلفية المفضلة؟، وإذا كان الجواب قطعا بالنفي فلابد من التقييد لمثل هذا الاطلاق في تحديد من هم السلف بحيث لا يقتصر على التحديد الزمني فقط.
_________
(1) إشارات المرام للبياضي- الحاشية- (ص: 298) .
(2) رواه البخاري، في الشهادات، ورقمه (2651) ، وانظر أطرافه بعد ذكر الحديث. ورواه مسلم في فضائل الصحابة، وأرقامه (533 2-536 2) .(1/39)
ب) وكذلك حينما يقال: إن السلف هم الذين يعتمدون في أقوالهم على الكتاب والسنة، يبرز اعتراض خلاصته: من الذي يعتمد عليه في فهم الكتاب والسنة؟ خاصة وأن الفرق كلها تدعي الاعتماد على القرآن والسنة؟، فالإطلاق هكذا يحتاج إلى بيان وإيضاح.
ج-) وكذلك حين يحصر البعض مذهب السلف! بالأئمة الأربعة:
أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فمن كان قبل هؤلاء من الصحابة والتابعين أليسوا أوفى بوصف السلف!؟.
لذلك لابد من التحديد الدقيق للتعريف بالسلف بحيث يشمل:
أولا: التحديد الزمني: ليشمل الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، وهذا لبيان المنطلق والبداية لمذهب السلف، وفائدة هذا التحديد الرجوع إلى أقوال رجال هذا الزمن وإلى فهمهم عند الاختلاف الذي قد ينشأ فيمن بعدهم. وهذه مسألة مهمة جدا؟ إذ الخلاف الحاصل بعد القرون المفضلة بين من يتمسك بمذهب السلف ومن عداهم من أهل الأهواء والبدع لا يمكن حسمه إلا بالاتفاق على مثل هذا التحديد التاريخي ليحتكم إلى إجماعهم- إذا أجمعوا- أو أقوالهم، أو فهمهم للنصوص.
ولا يعني هذا حصر مذهب السلف في هؤلاء، لأن كل من قال بقولهم فهو على السلف وإن تأخر.
ثانيا: ثم يأتي بعد ذلك بيان أن الفهم والمنطلق يجب أن يكون بما يوافق الكتاب والسنة، فمن ابتدع في أمر من الأمور واتخذ لبدعته منهاجا خاصا، لا يكون قوله قولا للسلف، ولو كان هذا في القرون الأولى، لأن وجوده في هذا الزمن لا يكفي للحكم عليه بأنه سائر على مذهب السلف.
ثالثا: بعد ظهور الافتراق يصبح مدلول " السلف " منطبقا على من حافظ " على العقيدة والمنهج الإسلامي، طبقا لفهم الأوائل الذين تلقفوه جيلا(1/40)
بعد جيل " (1) ، فمن سار على طريقة الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، الذين اتبعوا ولم يبتدعوا فهو سائر على مذهب السلف، وهو أيضا بالنسبة لمن بعده من السلف.
والخلاصة أن مصطلح السلف صار له مدلولان:
* مدلول خاص: وهذا ينطق على مذهب الصحابة والتابعين، والتابعين لهم بإحسان، ممن لم يبتدعوا، وهذا فيه حصر تاريخي.
* ومدلول أعم: يشمل ما بعد هذه القرون المفضلة، وهذا شامل لكل من سار على طريقة ومنهج خير القرون، والتزم النصوص والفهم الذي فهموه (2) .
نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة:
إذا كان مذهب أهل السنة والجماعة هو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإطلاق القول بنشأة أهل السنة كا يقال نشأة المعتزلة، الجهمية أو نشأة الرافضة؟ لا معنى له؟ لأنه واضح تمام الوضوح، ولذلك آثرنا أن يكون العنوان: نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة كمصطلح عليهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم، معروف، قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم " (3) .
والمتتبع لنشأة التسمية بأهل السنة يلاحظ أنها ربطت بالإمام أحمد-رحمه الله- وليس ذلك لأن الإمام أحمد هو الذي أنشأه، وإنما لأنه هو الإمام الذي امتحن فيه فصبر فصار إماما من أئمة أهل السنة يقول شيخ الاسلام ابن تيمية
_________
(1) قواعد المنهج السلفي، مصطفى حلمي (ص: 23) ط ثانية.
(2) انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة.
(3) منهاج السنة (2/482) تحقيق محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى.(1/41)
بعد الكلام السابق: " وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشهر بإمامة السنة والصبر في المحنة، فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المئة الثالثة- عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق- ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى، وهو المذهب الذى ذهب إليه متأخرو الرافضة، وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور، فلم يوافقهم أهل السنة حتى تهددوا نجعضهم بالقتل، وقيدوا بعضهم، وعاقبوهم، وأخذوهم بالرغبة والرهبة، وثبت الإمام أحمد على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة، ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته، فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم ... [وذكر المحنة] ثم قال: " ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة، وصنف الناس في ذلك مصنفات، وأحمد وغيره من علماء السنة والحديث ما زالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام، ورفع الله قدر هذا الإمام، فصار إماماً من أئمة السنة، وعلما من أعلامها، لقيامه بإعلامها وإظهارها، واطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لخفي أسرارها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا، ولهذا قال بعض شيوخ المغرب: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد، يعني أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد، وهو كما قال " (1) .
فمن هذا النص يتبين أن مذهب أهل السمنة والجماعة امتداد لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإذا ما قام إمام من الأئمة في زمن البدع بالدعوة إلى العقت ة السليمة وإلى منهج أهل السنة، ومحاربة ما يخالفها فهذا الإمام لم يأت بجديد، وإنما جدد ما اندرس من مذهب أهل السنة وأحيا ما مات منه، وإلا فالعقيدة لم تتغير، فإذا ما نسب - في بعض الأزمان أو الأمكنة - مذهب
_________
(1) منهاج السنة (2/482 - 486) تحقيق: محمد رشاد سالم.(1/42)
أهل السنة إلى عا لم من العلماء، أو مجدد من المجددين فلأنه دعا اليه لا لأنه ابتدعه أو اخترعه.
ومما سبق يتبين أن طرح النشأة لمذهب أهل السنة ينبغي أن ينصب على التسمية، أما النشأة ذاتها فواضحة لأنها كانت مع مجيء الإسلام الذي وضح وكمل أتم كمال وأبينه في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمن جاء بعده إذا قيل عنه: إنه إمام أهل السنة- في زمنه أو بعد زمنهـ فلأنه دعا إلى الأصول الأولى لمذهب أهل السنة وجدد ما اندرس منها.
وبدء التسمية مرتبط بنشأة الفرق؟ لأن من الطبيعي أن يتميز أهل السنة عن بقية أهل الأهواء من أهل الفرق الذين انحرفوا عن المنهج السوي والذين ابتدعوا أقوالا وآراء مخالفة لما كان عليه أهل الصدر الأول.
والكلام حول بدء الفتنة ونشوء الفرق يطول، ولكن نشير إلى لمحات في هذا الأمر لنصل إلى حقيقة تميز أهل السنة عن غيرهم:
ا- من المعلوم أن الفتنة وقعت في آخر عهد عثمان بن عفان- رضي الله عنهـ وكان من آثارها استشهاده، ثم نشأت على أثر ذلك الفرق، وكان أول بدعة نشأت بدعة الخوارج والروافض، فالخوارج كفروا عليا- رضي الله عنهـ وخرجوا عليه، والروافض ادعوا إمامته وعصمته، أو نبوته أو إلهيته.
ثم بعد ذلك أخذت البدع تتوالى في الظهور ف-" لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان في أول عصر التابعين- في أواخر الخلافة الأموية- حدثت بدعة الجهمية والمشبهة والممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك " (1)
2- كانت بدعتا الروافض والخوارج- من أول البدع ظهورا- كما سبق- وكانتا من المعالم الرئيسة في تميز أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث:
_________
(1) المنتقى (ص: 387) .(1/43)
أ) ففي أجواء هذه الفتنة بدأ المسلمون يعنون بالبحث عن الإسناد، والكلام في الرجال، وذلك لأن السلف خافوا من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خاصة وأن دواعي ذلك موجودة في مثل هذه الظروف، فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين أنه قال: " لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم " (1) ، وابن سيرين كان يقول: " إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" (2) .
وهنا بدأ التميز لأهل السنة والجماعة، وذلك بتمييز من تقبل روايته ممن لا تقبل؟ فمن كان من أهل السنة والاتباع، ولم يقل بقول طائفة من الطوائف المنحرفة بل ثبت على الهدى الصحيح، هدي الصحابة والتابعين، فهذا له تميز عند علماء الحديث، وروايته مقبولة- مع الاعتراف بتفاوت الرجال الذين لهم هذه الصفة من ناحية الحفظ والضبط- وأما من كان من أهل البدعة فروايته مردودة إلا بشروط دقيقة (3) .
ومما يلاحظ أن الكذب قد اشتهر عند الرافضة، ولذلك قال عنهم الإمام الشافعي-رحمه الله-: " لم أر من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " (4) ، ولما وقعت فتنة المختار - ذى الميول الشيعية (5) - اشتهر في زمنه الكذب ووضع
_________
(1) صحيح مسلم، المقدمة (ص: 15) ، وانظر: الكفاية (ص: 162-163) هندية، وشرح علل الترمذى (1/51) .
(2) الكفاية (ص: 162) .
(3) حكم الرواية عن أهل البدع تكلم عنها العلماء: انظر: الكفاية (ص: 159) وما بعدها، وشرح علل الترمذى (1/53) وما بعدها، وتدريب الراوي (1/324) وما بعدها.
(4) الكفاية (ص: 167) ، وقال يزيد بن هارون [توفي سنة: 26 هـ] سير أعلام النبلاء: 9/358: " يكتب عن كل مبتدع- إذا لم يكن داعية- إلا الرافضة فإنهم يكذبون " (المنتقى ص: 22) .
(5) من العجيب أن هذا الكذاب كان أول أمره ناصبيا، فأبغضته الشيعة، ثم تشيع. انظر ترجمته في: البداية والنهاية (8/289-292) ، وانظر سير أعلام النبلاء (3/538) ، وميزان الاعتدال (4/ 80) ، وكان المختار يزعم أنه يوحي إليه. انظر: المسند للإمام أحمد (5/223-224) قتل المختار سنة: 67 هـ.(1/44)
الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا روى الإمام أحمد عن جابر بن نوح عن الأعمش عن إبراهيم [النخعي] قال: " إنما سئل عن الإسناد أيام المختار " (1) ، والمختار نفسه كان يأمر بأن توضع له الأحاديث المكذوبة، فقد أمر رجلا- من أصحاب الحديث- قائلا: " ضع لي حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أني كائن بعده خليفة "، فرفض الرجل (2) ، بل أمر محمد بن عمار بن ياسر أن يحدث عن أبيه بحديث كذب فأبى فقتله (3) . ولذلك فشا الكذب في عهده، كما روى شريك عن أبي إسحاق: سمعت خزيمة بن نصر العبسى- أيام المختار- وهم يقولون ما يقولون من الكذب- وكان من أصحاب علي- قال: " ما لهم قاتلهم الله، أي عصابة شانوا وأي حديث أفسدوا " (4) . وإذا كان الرافضة أهل كذب فقد ضموا إليه الطعن في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورميهم بالكفر والردة إلا أعدادا قليلة.
وليس الغرض استقصاء هذه الأمور- فالموضوع فيها طويل- ولكن نشير هنا إلى أن تميز أهل السنة واكب ظهور الرافضة من جهتين:
الأول: انتشار الكذب عندهم (5) ، مما أثار علماء السنة للبحث عن الرجال والأسانيد، فبدأ بتميز أهل الحديث عن غيرهم، وسبق أن ذكرنا أقوال العلماء بأن الفرقة الناجية هم أهل الحديث.
الثانية: طعنهم في الصحابة، ونشوء البدع وكئرتها لديهم، حتى أصبح شعار " أهل السنة " كثيرا ما يستعمل في مقابل الرافضة، وسفيان الثوري-رحمه الله-
_________
(1) شرح علل الترمذيا (1/52) ، ورواه الخطيب في الجامع عن خثيمة بن عبد الرحمن. (الجا مع: 1/ 130) تحقيق: الطحان.
(2) التاريخ الكبير للبخاري (8 / 434- 435) ، والصغير (1 / 47) ، والموضوعات لابن الجوزي (1/39) .
(3) الجامع للخطيب (1/131) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/43) .
(4) رواه البيهقى في المدخل، رقم (83) ، وانظر علل الترمذى (1/52) .
(5) بل الكذب أحد أصولهم وذلك بما يسمى " التقية "! عندهم.(1/45)
فسر موافقة السنة ب- " تقدمة الشيخين أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- " (1) .
ب) وفي مقابل فتنة الروافض جاءت فتنة الخوارج، والذي يلاحظ أن الخوارج اشتهر عنهم الصدق، ولعل مرد ذلك اعتقادهم أن مرتكب الكبيرة كافر، والكذب كبيرة من الكبائر، ولهذا روي عن أبي داود سليمان بن الأشعث أنه قال: " ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج " (2) . ولذلك روى البخاري وغيره عن دعاتهم، ولكن صدقهم وحماستهم لم يكن حائلا دون أن تكون فتنتهم وضلالهم شديدة الوطأة على المسلمين، لأنهم كفروا من عداهم، ولم يكتفوا بذلك، بل ميزوا صفوفهم عن صفوف غيرهم من المسلمين، وحاربوا وقاتلوا، فصارت بدعتهم وانحرافهم أشد من غيرها، ولذلك قاتلهم علي- رضي الله عنهـ وأجمع الصحابة على قتالهم.
فالخوارج خرجوا على الجماعة الذين لهم إمام شرعي، ومع ظهور فتنة هؤلاء برز أهل السنة بحرصهم على الجماعة وعدم الخروج على الإمام الشرعي - ولو كان جائرا- وصاروا يذكرون هذا الاعتقاد ويدعون إليه ويحذرون من مخالفته، وحرص المسلمون على الجماعة ونبذ الفرقة، ولما اجتمعوا على معاوية - رضى الله عنهـ عام إحدى وأربعين بعد تنازل الحسن- رضى الله عنهـ سموا هذا العام عام الجماعة.
_________
(1) شرح السنة للالكائي (1/152) ، ومما يلاحظ أن سفيان الثورى في اعتقاده هذا الذى سأله عنه شعيب بن حرب- لما ذكر بعض أمور الاعتقاد التى تميز أهل السنة ذكر مسألة المسح على الخفين وعدم الجهر بالبسملة- مع أن مسألة الجهر بالبسملة من المسائل الفرعية التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة. وقد علل ذلك ابن تيمية في منهاج السنة (2/184) ط مكتبة الرياض الحديثة، بقوله: " حتى أن سفيان الثورى وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة، لأنه كان عندهم من شعار الرافضة؟ يذكرون المسح على الخفين لأن تركه عندهم من شعار الرافضة.. ".
(2) الكفاية (ص:172 - 173) هندية - ولكن وردت روايات أن الخوارج ربما يضعون الأحاديث، فقد روى عن أحد شيوخهم أنه قال: " إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا". (رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص: 415-416) ، =(1/46)
فظهور بدعة الخوارج ميزت أهل السنة من جانبين:
الأول: خروج الخوارج عن المذهب الحق بالتكفير لمن عداهم من المسلمين، ولا شك أن هذه بدعة شنيعة، وقد حرص المسلمون على الرد على أصحابها، وتحذير الناس أشد التحذير فهم. وصار من معا لم مذهب أهل السنة عدم التكفير لمرتكب الكبيرة.
والثاني: خروجهم على الجماعة وعلى الإمام الشرعي وقتالهم للمسلمين بناء على أصل مذهبهم التكفير، وقد قابل أهل السنة هذا بمقاتلتهم حتى يقضي عليهم أو يكفوا شرهم وبالتحذير منهم وإعلان وجوب اتباع النصوص التي حذرت من الخروج على أئمة المسلمين وإن جاروا وظلموا، ولذا كان أحد المعاني المهمة للجماعة أنها الجماعة الذين اجتمعوا على أمير.
3- وبعد ظهور فتنة الروافض والخوارج أخذت بقية البدع تظهر بين المسلمين كبدعة القدر، والإرجاء، والتجهم، فقاومها أهل السنة وحذروا فها ومن أصحابها، حتى صار أهل البدع نشازا في المجتمع الإسلامي يأوي إليهم ويسمع أقوالهم إما أهل الزندقة والنفاق، ممن يكيدون لهذا الدين في الخفاء، وإما أصحاب الإيمان الضعيف ممن تؤثر فيهم وتستهويهم هذه البدع وما فيها من آراء وأفكار جديدة على المسلمين، أما السواد الأعظم من المسلمين فإنهم يتبعون علماء الآفاق من أهل السنة في كل مكان.
وحذر علماء أهل السنة من أصحاب الأهواء، حتى كان الحسن يقول: " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم " (1) ، ولما جاءه رجل فقال: " يا أبا سعيد أني أريد أن أخاصمك "، فقال الحسن: " إليك عني
_________
(1) = والخطيب في الكفاية (ص:63 1) هندية، وابن الجوزي في الموضوعات (1/38-39) ، وانظر مناقشة الموضوع بشكل موسع في كتاب: " الوضع في الحديث (1/229-238) ، حيث رجح الدكتور عمر فلاتة في رسالته هذه أن الخوارج ليس لهم دور في الوضع في الحديث.
(1) شرح السنة للالكائي، رقم (240) ، ورواه الدارمى في السنن، رقم (407) - ط اليماني - عن الحسن وابن سرين.(1/47)
فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه " (1) . واستمر تحذير العلماء من أهل الكلام والبدع، وصار مذهب أهل السنة متميزا بالاتباع والسير على منهاج الصحابة - رضي الله عنهم - مع البعد عن أهل البدع والإنكار عليهم - فصار لقب أهل السنة مقابل: أهل البدع والأهواء والكلام.
ولما وقعت محنة القول بخلق القرآن - وصار للمعتزلة دولة وصولة امتحن أهل السنة وثبت الله الإمام أحمد -رحمه الله- فصار وقوفه وثباته مثالاً شامخاً للثبات على مذهب أهل السنة في مقابل أهل البدعة، فصار الإمام أحمد إمام أهل السنة لذلك.
هذه خطوط عريضة لعلها تكون قد أوضحت كيف نشأت التسمية بأهل السنة والجماعة، أو اهل الحديث، وإن ذلك كان مع ظهور البدع ونشوء الفرق، وما صاحب ذلك من الاستهانة بحديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وبنقلته من الصحابة، فبدأ أهل السنة يعلنون تميزهم من خلال:
1 - العناية بالحديث رواية ودراية، والكلام في الرجال، والسبب في ذلك نشوء الكذب مع كثرة أهل الأهواء.
2 - المحافظة على السنة وعلى ما كان عليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه، من غير ابتداع في الدين أو اتباع لأهل الأهواء والكلام المذموم على اختلاف مذاهبهم وأقوالهم.
3 - المحافظة على الجماعة التي تعني الاتباع والسير على المنهج الحق، وتعني أيضاً المحافظة على وحدة الأمة وعدم الخروج على الجماعة التي لها إمام شرعي.
أما التحديد الدقيق لنشأة التسمية بأهل السنة والجماعة، وربط ذلك بزمن محدد أو بعلم من أعلام أهل السنة، أو نشوء فرقة من الفرق، فلا أظن أن ذلك ممكن إلا من خلال خطوط عريضة كما أسلفنا - والله أعلم -.
_________
(1) شرح السنة، رقم (215) ، والآجري في الشريعة (ص: 57) بلفظ مقارب.(1/48)
المبحث الثالث: منهج السلف في العقيدة
سنعرض في هذا المبحث- بشكل مختصر- لمنهج السلف في العقيدة، وتميزهم بهذا عن غيرهم من أهل البدع والأهواء، وهذا الموضوع قد كتب حوله الكثير، ولكن أغلب ما كتب جاء مقدمة لبعض النصوص المحققة في عقيدة أهل السنة، أو لبعض البحوث المتعلقة بجانب من جوانبها، وكان من الواجب أن يفرد برسالة جامعة تستقصي ما يتعلق بهذا الموضوع، وتبين الشبهات المثارة حول مذهب السلف، وترد عليها، كما ترد على دعاوى المنتسبين إليها ممن ليس من أهلها أو ممن انحرف عنها- وعلى حد علمي لم يكتب في ذلك رسالة- (1) .
والكتابة حول هذا الموضوع من خلال التمهيد لهذا البحث المتعلق بموقف ابن تيمية من الأشاعرة لا يمكن التوسع فيها إلا من خلال ما يتعلق بالموضوع، وقد ناقش ابن تيمية-رحمه الله- كثيرا من الأشاعرة في هذه المسألة، وبين غلطهم في بعض القضايا المتعلقة بحقيقة مذهب السلف أو بحقيقة منهجهم - رحمهم اللهـ وسنشير إلى ذلك في موضعه من هذه الرسالة- إن شاء اللهـ.
أما هنا فسنذكر لمحات في هذا الموضوع تكملة للمبحثين السابقين، والشىء الواضح في هذا أن السلف تميزوا عن أصحاب الأهواء والفرق بميزة الرجوع إلي الكتاب والسنة والاعتصام بهما، وبذلك سلموا من الانحراف، أما من عداهم فلابد أن تجد في انحرافهم أو بدعهم ما كان سببه وقوعهم في مخالفة أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو ارتكاب ما نهى عنه الله ونهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمثلة ذلك:
* نهى الله ونهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن اتباع المتشابه، فجاءت فرق عديدة تتبع ما تشابه من القرآن، وتضرب كتاب الله بعضه ببعض.
_________
(1) في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سجلت رسالة بعنوان: العقيدة السلفية فى مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات. للباحث محمد المغراوى.(1/49)
* نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن سب الصحابة وبين فضلهم، فجاءت فرق الرافضة وغيرهم لتسب الصحابة- رضي الله عنهم- وتنتقص من شأنهم.
* أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطاعة الأمير- وإن جار أو ظلم- فجاءت الخوارج ليخرجوا على أئمة المسلمين ويثيروا الفتنة بين المسلمين.
* نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الخوض في القدر، فجاءت القدرية وغيرهم ليخوضوا فيه بالباطل.
* أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بابتاع سنته، وأخبر أنه سيأتي أناس من أمته لا يحتجون بسنته، ونشأ بعد ذلك من لا يحتج بخبر الآحاد في العقيدة.
* وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فجاء أقوام يضربون بأقوالهم عرض الحائط ويقولون: نحن رجال وهم رجال.
* وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق- أن هذه الأمة ستفترق إلى فرق عديدة، وذكر أن هناك فرقة هي الفرقة الناجية، وهي الطائفة المنصورة، ثم وجد بعد ذلك من يتزعم الفرق الضالة، أو يتبعها ويترك الاعتصام بالسنة وما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
والسلف الذين لم يخوضوا في شيء مما خاض فيه أهل الأهواء استقام أمرهم لموافقتهم الكتاب والسنة، ولوعيهم- خاصة أثناء وقوع الفتن وانتشار البدع- وتذكرهم لمثل هذه النصوص التي حذر فيها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أمته من الوقوع فيما نهى عنه:
وسنعرض لمنهج السلف من خلال مايلي:
أولا: منهج السلف في العقيدة.
ثانيا: المميزات التى تميزوا بها عن غيرهم.(1/50)
أولا: منهج السلف في العقيدة
ا- أول قاعدة في منهج السلف هي اقتصارهم في مصدر التلقي على الوحي: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، وقد تمثلت هذه القاعدة في عدة ركائز:
أ) الاعتقاد الجازم أنه لا يتحقق رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجنته والنجاة من عذابه إلا بالإيمان بهما والعمل بما جاءا به، وما يترتب على هذا من وجوب أن يعيش المسلم حياته كلها اعتقادا وعملا وسلوكا، مستمسكا ومعتصما بهما، لا يزيغ عنهما ولا يتعدى حدودهما. ومن مستلزمات هذا أن يتحاكم إليهما عند التنازع والاختلاف، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ولقد تربى الصحابة على ذلك، فعاشوا لا يلتفتون إلى غير الكتاب والسنة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذرهم كل التحذير من أن يلتفتوا إلى كتب السابقين التي نزلت على الأنبياء ودخلها التحريف- فضلا عن غيرها من كتب الفلاسفة والملاحدة، فقد روى عبد الله بن ثابت قال: " جاء عمر بن الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله، إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوارة ألا أعرضها عليك، قال: فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا، قال: فسرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: والذي نفسى بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين " (1) ،
_________
(1) رواه الامام أحمد في مسنده (3/470- ا 47) ، وعبد الرزاق الصنعاني في المصنف (6/113) ورقمه (10164) .(1/51)
وفي رواية جابر أنه قال لما غضب على عمر: أمتهوكون (1) فيها يا ابن الخطاب، والذى نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى- عليه السلام- كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " (2) ، وقد طبق هذا عمر- رضي الله عنهـ عمليا، فقد ضرب رجلا من عبد القيس لأنه انتسخ أحد الكتب السابقة وأمره بمحوه (3) .
والاستغناء بالكتاب والسنة والاعتماد عليهما نابع من اليقين القاطع أن ما جاء به فهو حق وصدق، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: " وأما خبر الله ورسوله فهو صدق، موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلا ولا مخالفا لما عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئا من أخباره وناقضه فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية (4) ، وإن كان العالم بذلك لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره، وهذه حال المؤمنين للرسول الذين علموا أن رسول اللة الصادق فيما يخبر به، ويعلمون
_________
(1) أى: أمتحيرون، هكذا فسره الحسن وأبو قلابة،؟ في شعب الإيمان للبيهقي (1/ 481) والمر اسيل (ص: 224) .
(2) رواه الإمام أحمد (3/387) ، والدارمي في سننهـ باب ما يتقى من تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - (1/95) ورقمه (441) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/479) - ط الدار السلفية في الهند. وهذا الحديث رواه أبو داود في المراسيل عن أبي قلابة في كتاب العلم (ص: 223) ت السيروان كما رواه ابن أبي حاتم مختصرا كما في تفسر ابن كثير (سورة يوسف: 3) . وانظر التعليق القادم.
(3) ثم ذكر عمر قصته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو يعلى الموصلي، وأبو بكر الاسماعيلي، كما نقله عنهما ابن كثير في تفسيره (سورة يوسف: 3) . والحديث حسنه الألباني كا في تخريج المشكاة رقم (177،194)
(4) السوفسطائية: السفسطة: قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته، والسوفسطائيون: جماعة من فلاسفة اليونان، وزعيمهم بروتاجوراس الذى ولد سنة (480 ق. م) . ونظريتهم تقوم على أنه ليس هناك وجود خارجى مستقل عما في أذهاننا، فما يظهر للشخص أنه الحقيقة يكون هو الحقيقة له، فإذا رأى السراب ماء فهو عنده حقيقة ماء. انظر: التعريفات (ص:63) ، وكشاف اصطلاح الفنون (17313) ، وقصة الفلسفة اليونانية (ص: 62-72) ، وربيع الفكر اليوناني (ص: 65) ، والمعجم الفلسفى (1/658) .(1/52)
من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح لا عقلي ولا سمعي ... " (1) .
ويقول: " وما أحد شذ بقول فاسد عن الجمهور إلا وفي الكتاب والسنة ما يبين فساد قوله، وإن كان القائل كثيرا ... ، وأما القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة فلا يكون شاذا وإن [كان] (2) القائل به أقل من القائل بذاك القول، فلا عبرة بكثرة القائل باتفاق الناس " (3) .
ب) أن هذا الدين كامل، والله تبارك وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] ، ويقول أيضا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] ، وقال {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16] . يقول ابن تيمية بعد ذكره لهذه الآيات وغيرها: " ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل " (4) ، ومسألة كمال الدين من المسائل المهمة في بيان منهج السلف- رحمهم الله تعالى-، فقد انطلقوا بقوة من هذا المنطلق، وهذا لا يعني أنه لم يكن في عهد الصحابة ومن بعدهم ديانات ومذاهب، بل كانت موجودة، لكن من الذى يلتفت إليها وهو مقتنع تمام الاقتناع بكمال ما لديه من كتاب وسنة وأن فيهما ما يغني ويكفي، وأن ما فيهما حق وصدق لا يأتيه الباطل أبدا، ف-" متى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناها
_________
(1) درء تعارض العقل والنقل (5/ 255) .
(2) في طبعة النبوات لدار الكتب العلمية (ص: 4 0 2) ، ودار الفكر (ص: 38 1) بدون " كان"، والسياق يقتضيها.
(3) النبوات (ص: 204) ط دار الكب العلمية.
(4) درء تعارض العقل والنقل (10/304) .(1/53)
بيانا شافيا فإنها تنظم (1) جميع ما يقوله الناس من المعافي الصحيحة، وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة مما دخل في الكلام من الباطل كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، وقال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41،42] ، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، وقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2] ، وفيه من دلائل الربوبية والنبوة والمعاد ما لا يوجد في كلام أحد من العباد، ففيه أصول الدين المفيدة لليقين، وهو أصول دين الله لا أصول دين محدث ورأي مبتدع" (2) .
ج-) وجوب تقديم الشرع على العقل عند توهم التعارض، وإلا ففي الحقيقة والواقع لا يمكن أن يتعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح، ولقد كان تقديم ما في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما فى غيرهما من معقول أو غيره يعارضها من مسلمات منهج السلف رحمهم الله تعالى.
وليس هذا موضع تفصيل الأدلة لذلك، ولكن نشير إلى أن الأنبياء أعلم بالله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر من غيرهم فيجب رد الأمر إليهم، وهذا كما أن العامة يردون ما يختلفون فيه مما يتعلق بالطب وغيره من أمور الدنيا إلى من هو أعلم به منهم، "وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله وأسماائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت
_________
(1) في الأصل: "فإنها لا تنظم" ط دار الكتب العلمية، وكذا في مصورة دار الفكر، (ص: 221) ، ولعل الصواب حذف " لا".
(2) النبوات (ص: 334) ط دار الكتب العلمية.(1/54)
الذي بين العامة وأهل العلم بالطب" (1) .
د) الأدب مع نصوص الكتاب والسنة، وذلك بأن تُراعى ألفاظهما عند بيان العقيدة، وأن لا تستخدم الألفاظ والمصطلحات الموهمة غير الشرعية، ف- "أهل السنة والحديث فيهم رعاية النصوص لألفاظ النصوص وألفاظ السلف" (2) .
2- عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة، والاقتصار في بيان وفهم العقيدة على ما في الكتاب والسنة، وقد تجلي هذا في منهج السلف من خلال عدة أمور:
أ) الحرص على العلم النافع مع العمل. فالعلم علمان: علم نافع يولد عملا، وينفع صاحبه فى الدنيا والآخرة، وعلم غير نافع، لا ينفع صاحبه في الدنيا أو لا ينفع صاحبه في الآخرة " ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وغير نافع، والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع، وسؤال العلم النافع، ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" (3) " (4) . وقال معروف الكرخي (5) : "إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل" (6) . وللعلم النافع علامات ذكرها بعض العلماء (7) .
ب) النهي عن البدع، ومن ذلك علم الكلام، وقد كان موقف السلف
_________
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/141) ، وانظر: قواعد المنهج السلفي مصطفى حلمى (ص: 253-257) ط ثانية.
(2) نقض التأسيس المطبوع (2/110) .
(3) رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، ورقمه (2722) .
(4) بيان فضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب (ص: 17) ط دار الأرقم.
(5) هو معروف بن فيروز أو فيرزان، أبو محفوظ البغدادى الكرخي، أحد الزهاد، مدحه الإمام أحمد. انظر ترجمته في: مناقب معروف الكرخي وأخباره لابن الجوزى، وتاريخ بغداد (13/199) وطبقات الحنابلة (1/ 1 38) ، وسير أعلام النبلاء (9/ 5 33) .
(6) رواه أبو نعيم في الحلية (8/361) ، وابن الجوزى في مناقب معروف الكرخي (ص: 122-123) .
(7) انظر مثلا: بيان فضل علم السلف على الخلف (ص: 51-54) .(1/55)
واضحا ومشهورا من علم الكلام، فقصة عمر- رضي الله عنهـ مع صبيغ ابن عسل (1) لما علم أنه يتتبع متشابه الكلام ويسأل عنه، فضربه عمر ونفاه إلى البصرة- قصة مشهورة (2) -، لذلك لما حدث يزيد بن هارون بحديث الرؤية، فقال له رجل: يا أبا خالد، ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد (3) وقال: ما أشبهك بصبيغ وأحوجك إلى مثل ما فعل به (4) . وعمر- رضي الله عنهـ روي عنه أنه قال: " إنه سيأقي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله " (5) .
وقد استمر السلف على هذا المنهج من التحذير من البدع وعلم الكلام وما عليه أهل الأهواء، فالشافعي أثر عنه الكثير في التحذير من أهل الكلام حتى قال: " لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بشيء من الأهواء " (6) ، والإمام أحمد-رحمه الله- يقول في رسالتهـ الثابتة عنه - الى عبد الله بن يحيى بن خاقان - لما طلب منه المتوكل أن يكتب له حول مسألة "خلق القرآن ": وقد روى غير واحد ممن مضى من سلفنا - رحمهم اللهـ أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق،
_________
(1) هو صَبيغ بن شريك بن المنذر بن قشع بن عسل التميمي، ويقال صبيغ بن عسل، نسبة إلى جده. ترجمته في: الإكمال لابن ماكولا (5/ 221،6/206-208) ، والإصابة (3/458) ، ترجمة رقم (27 1 4) ، وتبصير المنتبه (3/4 95) ، والوافي في الوفيات (16/383) .
(2) رواها: الدارمى في سننه، رقم (46 1) ، والآجرى في الشريعة (ص: 73) ، واللالكائي في شرح السنة، رقم (136 - 140) ، والصابوني في عقيدة السلف، رقم (83-85) ، تحقيق: بدر البدر، ورواها غيرهم. انظر: الإصابة (3/458) ، رقم الترجمة (27 41) ت البجاوى، والدر المنثور للسيوطي. أول سورة الذاريات.
(3) " حرد " أي غضب واغتاظ وهم به. انظر: الصحاح، والمعجم الوسيط، مادة:"حرد".
(4) عقيدة السلف للصابوني، رقم (82) .
(5) رواه الدارمي رقم (121) ، واللالكائي رقم (202) ، والآجري في الشريعة (ص: 52) .
(6) رواه البيهقي في: مناقب الشافعي (1/452) ، وفي الاعتقاد (ص: 39) ، تحقيق: أحمد عصام الكاتب، وأبو نعيم في الحلية (9/111) ، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص: 337) ، واللالكائي في شرح السنة، رقم (300) ، وابن أبي حاتم: كما في توالي التأسيس لابن حجر (ص:110) .(1/56)
وهو الذي أذهب إليه، ولست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شىء من هنا، إلا ما كان في كتاب الله عر وجل أو في حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - أو عن أصحابه أو عن التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود ... " (1) .
واشتهر هذا الموقف من علم الكلام ومن المنطق عن أعلام السلف- رحمهم اللهـ وصارت دواوين السنة تذكر كثيرا من الآثار عنهم في موقفهم هذا. بل وصل الأمر في إحدى الحالات أن النساخ كانوا يقسمون أنهم لم ينسخوا كتابا في المنطق (2) .
وموقف السلف من علم الكلام كان لأسباب (3) ، وليس لأنهم عجزوا أو جهلوا أو شغلوا عنه كما يحلو للبعض أن يفسر ذلك، ولا شك أن منهج علم الكلام يقوم على أسس غريبة على المنهج الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وأية محاولة للعودة بالمسلمين إلى الإسلام فلابد أن تكون أولى مسلماته العودة إلى صفاء العقيدة وتخليصها مما ران عليها من شوائب علم الكلام والفلسفة، يقول سيد قطب-رحمه الله- في معرض كلامه عن المنهج الذي يراه في العقيدة: " ولما كانت هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية.... فقد بدت " الفلسفة الاسلامية- كما سميت - نشازا كاملا في لحن العقيدة المتناسق، ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير، شاب صفاء التصور الإسلامي، وصغر مساحته،
_________
(1) السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (1/139-140) ، وأبو نعيم في الحلية (9/216) ، وابن الجوزى في المناقب (ص: 462) باختصار، والذهبي في تاريخ الإسلام (ترجمة الامام أحمد مفردة - ط: دار الوعي بحلب) (ص: 70- 71) ، وقال الذهبي في آخرها: " قلت: رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات أشهد بالله أنه أملاها على ولده"، وذكرها فى سير أعلام النبلاء (11/286) ، وقال: " إسنادها كالشمس".
(2) انظر: الكامل لابن الأثير حوادث سنة: 279 (7/453) دار صادر.
(3) انظر: بيان فضل علم السلف لابن رجب (ص: 55-58) ، ومنهج علماء الحديث والسنة مصطفى حلمي (ص: 0 6- ا 6) ، ومنطق ابن تيمية (ص: 277) .(1/57)
وأصابه بالسطحية، ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط، مما جعل تلك الفلسفة الإسلامية ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام وطبيعته، وحقيقته، ومنهجه وأسلوبه ".
" وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة- على الأقل- سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى " الفلسفة الاسلامية " أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة.... ولكني أقرر وأنا على يقين جازم بأن " التصور الإسلامي " لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ إلا حين نلقي عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم الفلسفة الاسلامية، وبكل مباحث علم الكلام، وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضا، ثم نعود إلى القرآن الكريم ... " (1) .
ج-) الرد على المنحرفين وأصحاب الأهواء بمنهج متميز، فالسلف - رحمهم اللهـ لما حذروا من المنطق ومن علم الكلام لم يكتفوا بهذا، وإنما ردوا وناقشوا أصحاب البدع بالأدلة النقلية والعقلية المبنية على الكتاب والسنة.
والسلف كانوا أصحاب منهج واضح، مقنع، وليس كما يزعم بعض أهل الكلام من أن السلف أو أهل الحديث لا يعرفون الرد ومجادلة الخصوم ويذكرون في ذلك قصة لهارون الرشيد لما منع الجدال في الدين وحبس أهل الكلام، وخلاصتها: أن ملك السند بعث يطلب منه أن يرسل إليه من يناظره، فأرسل إليه قاضيا- أو رجلا من أهل الحديث- فعجز عن مناظرته، فغضب الرشيد وسأل من حوله: " أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟، فقيل له: بلى، هم الذين نهيتهم عن الجدال، وفيهم من هو في الحبس. فأحضروهم، وأرسل واحدا منهم إلى ملك السند، فدس له السم قبل وصوله إليه (2) . وهذه قصة باطلة لأن فتح السند وقتل ملكها كان سنة 93 هـ وهارون الرشيد تولى الخلافة سنة 170 هـ.
_________
(1) خصائص التصور الاسلامي: كلمة في المنهج (ص:10 - 11) .
(2) المصدر المعروف لهذه القصة- التي وردت بعدة روايات - هو كتاب المنية والأمل- لابن المرتضي المعتزلي (ص: 55 ا - 158) ت: محمد جواد مشكور، وهي في طبعة أرنلد التى أفرد فيها ذكر المعتزلة (ص: 31-33) ، وذكرها النشار في نشأة الفكر الإسلامي (1/504-505) ، وردها، وانظر قواعد المنهج السلفي (ص: 80-82) الطبعة الثانية.(1/58)
وهذه القصة كما يظهر من مصدرها ليس لها سند صحيح، وسياق القصة يدل على الهدف من وضعها، واذا كان مصدر السلف الأول هو كتاب الله وفيه الحجج والبراهين الدامغة فكيف يخطر على البال أنهم يعجزون عن المناقشة والرد على أهل البدع. أما إن كان القصد المناقشة ببدع وأصول أهل الكلام فلا ريب أن السلف كانوا بعيدين عنها ولا يعرفونها لأنهم في غنى عنها، لكن من عاش منهم مع أهل الكلام ثم رجع إلى منهج ومذهب أهل الحديث فهذا قد تكون له خبرة بهم، ولذلك قال نعيم بن حماد (1) - الذى امتحن في مسألة القرآن فأبى أن يجيب، فحبس ومات في السجن- يقول عن نفسه: " أنا كنت جهميا، ولذلك عرفت كلامهم، فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل " (2) .
والسلف- رحمهم اللهـ لم ينهوا عن جنس النظر والاستدلال، ولكن معارضتهم تركزت على الأساليب الكلامية المبنية على غير الكتاب والسنة (3) . ولذلك روى الآجرى عن محمد بن سيرين لما ماراه (4) رجل في شيء، فقال له محمد: " إني أعلم ما تريد، وأعلم بالمماراة منك ولكني لا أماريك" (5) ، فهو لا يريد الممارأة والجدل، ولو جادله لجادله بمنهج القرآن والسنة لا بمنهج المتكلمين.
_________
(1) هو نعيم بن حماد بن معاوية، أبو عبد الله الخزاعي - ت: 228 هـ، طبقات ابن سعد (7 / 519) ، وتاريخ بغداد (13 / 306) ، وتهذيب المزي- المخطوط (ص: 1419) ، وسير أعلام النبلاء (10/595) .
(2) تاريخ بغداد (13/307) ، وتهذيب المزى (ص: 1420) ، وسير أعلام النبلاء (10/597) .
(3) انظر: قواعد المنهج السلفى: مصطفى حلمي (ص: 85) ، ومنهج علماء الحديث والسنة له (ص:40) .
(4) من المماراة: تقول ماريت الرجل، أى: جادلته. انظر: الصحاح مادة:" مرا" من حرف الياء، وقد وردت اللفظة في الشريعة وفي طبعتى فضل علم السلف " ومارآه" وهر تحريف.
(5) الشريعة للآجري (ص: 61 - 62) ، وانظر: بيان فضل علم السلف لابن رجب (ص: 37) ط دار الأرقم.(1/59)
وهذا يدل على أن السلف لا يناظرون إلا عند الحاجة، ومناظرتهم لا تكون بمنهج المتكلمين، يقول الآجري: " فإن قال قائل: فإن اضطر في الأمر- وقتا من الأوقات- إلى مناظرتهم وإثبات الحجة عليهم، ألا يناظرهم؟، قيل: الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل-رحمه الله-: ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدا من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختيارا، فأثبت الله عز وجل الحق مع أحمد بن حنبل ومن كان على طريقته وأذل الله العظيم المعتزلة وفضحهم وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد ابن حنبل ومن تابعه إلى يوم القيامة " (1) .
3- حجية السنة في العقيدة ومن ذلك خبر الآحاد، وهذه من القواعد الكبرى في منهج السلف- رحمهم اللهـ تميزوا بها عن كثير من أهل الأهواء والبدع، وما عني أهل السنة بجمع السنة والكلام في متونها وأسانيدها، ونشأة هذا العلم الذى تميزت به الأمة الاسلامية عن غيرها من الأمم، وبذلوا في سبيل ذلك جهودا منقطعة النظير، كل ذلك إنما كان منهم حفاظا على المصدر الثاني الذى هو وحي يوحى من الله تعالى، ولم يميزوا بين الأحاديث المتعلقة بالأحكام والأحاديث المتعلقة بالعقائد.
وقد كان اعمادهم على السنة وتعظيمهم لها مبنيا على أمور منها:
أ) أن من مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله التى لا يتم الايمان إلا بها، ولذلك قرنت بشهادة أن لا إله إلا الله وجوب تصديقه فيما أخبر، سواء كان عن الله أو صفاته أو مخلوقاته أو ما يستقبل من أمور الآخرة وغيرها من المغيبات.
ب) أن أعرف العباد بما صلح لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أرغب الناس في نشرالخير وتعريف الخلق به، ولذلك فما من خير إلا ودل أمته عليه،
_________
(1) الشريعة (ص: 62) .(1/60)
وما من شر إلا وحذرها منه، ومن المعلوم أن أهم الأمور بالنسبة للعباد ما يتعلق بالعقيدة من الأمور الإلهية والمعارف الدينية، والعلم في هذه " مأخذه عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها، وأرغبهم في تعريف الخلق بها، وأقدرهم علي بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في: العلم، والقدرة، والإرادة، وهذه الثلاثة بها يتم المقصود. ومن سوى الرسول: إما أن يكون في علمه بها نقص أو فساد، وإما أن لا يكون له إرادة فيما علمه من ذلك فلم يبينه، إما لرغبة وإما لرهبة، وإما لغرض آخر. وإما أن يكون بيانه ناقصا، ليس بيانه البيان عما عرفه الجنان ".
" وبيان الرسول على وجهين: تارة: يبين الأدلة العقلية الدالة عليها.
والقرآن مملوء من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية على المعارف الالهية والمطالب الدينية. وتارة: يخبر بها خبرا مجردا، لما قد أقامه من الآيات البينات، والدلائل اليقينيات على أنه رسول الله المبلغ عن الله، وأنه لا يقول عليه إلا الحق، وأن الله شهد له بذلك، وأعلم عباده وأخبرهم أنه صادق مصدوق فيما بلغه عنه، والأدلة التي بها نعلم أنه رسول الله كثيرة متنوعة، وهي أدلة عقلية تعلم صحتها بالعقل، وهي أيضا شرعية سمعية " (1) .
ب) أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه، لم يكتم شيئا من ذلك، وأنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ ذلك أتم بلاغ وأبينه حتى ترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد تمثلت هذه الأمور- السابقة- في موقف السلف من السنة وتعطمهم لها، وإنزالها منزلتها اللائقة بها، وذلك بكونها وحيا من الله تعالى وبكونه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى. وبدا هذا واضحا من خلال:
أ) الخضوع لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا صح - وتعظيمه وعدم الاعتراض عليه بأي نوع من أنواع الاعتراض، ومن ذلك ما روي أن أبا معاوية
_________
(1) رسالة الفرقان دين الحق والباطل- مجموع الفتاوى (13/136) .(1/61)
الضرير (1) كان يحدث " هارون الرشيد " فحدثه بحديث أبي هريرة- رضي الله عنهـ: " احتج آدم وموسى " (2) ، فقال عيسى بن جعفر: " كيف هذا، وبين آدم وموسى ما بينهما؟، قال: فوثب به هارون وقال: يحدثك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعارضه بكيف!، قال: فما زال يقول حتى سكت عنه" (3) ، وفي رواية أنه حبسه، ولم يطلقه حتى حلف الأيمان المغلظة أنه ما سمعه من أحد وما جرى بينه وبينه كلام (4) ، أي لم يتلق هذه الشبهة عن أحد، يقول الصابوني معلقا على هذا: " هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد-رحمه الله- مع من اعترض على الخبر الصحيح الذى سمعه، - بكيف،- على طريق الإنكار والاستبعاد له، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (5) .
ولما سئل ابن المبارك- حين روى حديث النزول- كيف ينزل؟ أجاب: " ينزل كيف يشاء " (6) ، وفي رواية أنه قال: " إذا جاءك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخضع له " (7) .
_________
(1) هو: محمد بن خازم أبو معاوية الضرير- روى له الجماعة. تهذيب التهذيب (9/137) ، وتاريخ بغداد (5/242) .
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب القدر، ورقمه (6614) ، الفتح (11/505) ، مسلم في القدر، ورقمه (2652) .
(3) رواه الصابوني: عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص: 16 ا-117) ط: بدر البدر، وانظر الفقرة التالية.
(4) رواه الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 181-182) ، والخطيب في تاريخ بغداد (5/243) ، [ومختصرا فى (14/7-8] ، وانظر سير أعلام النبلاء (9/288) ] ، وقد أوردوا القصة بطولها وهي قصة عجيبة تدلءلى مدى حرص الرشيد على السنة وحرب أهل البدع.
(5) عقيدة السلف للصابوني (ص: 117) وهو آخر الرسالة.
(6) رواه الصابوني في عقيدة السلف (ص: 29) ، البيهقي في الأسماء والصفات (ص: 453) عن الصابوني.
(7) الصابوني في عقيدة السلف (ص: 172) تحقيق: الأخ ناصر الجديع- مطبوع على الآلة الكاتبة وهو في طبعة بدر البدر (ص: 29) ، لكن عبارته " فاصغ له".(1/62)
ب) اعتمادهم على الأحاديث الصحيحة، ونبذ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد تمثل هذا عندهم بالإنكار على من اعترض على الأحاديث الصحيحة الثابتة، وتمثل أيضا بذكرهم للأسانيد فيما يروونه، ومعلوم أنه إذا أسند الراوي فلابد من النظر في إسناده والحكم على الحديث صحة وضعفا بعد جمع طرقه ورواياته، ومن الملاحظ على كتب السنة- التي اختصت بالعقيدة- ورود بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيها، ولا شك أن الناظر فيها- في العصور المتأخرة- يحس أنه كان من المفروض تمييز صحيحها من غيره، أو يراد ما صح منها فقط، أما إدخال هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيها فله سلبيات لعل من أهمها التشهير بأهل السنة من جانب أهل التعطيل ووصفهم لهم بالحشو والتشبيه، والتندر بهم بذكر نماذج من هذه الأحاديث. ولكن لو رجعنا إلى هذا الزمن الذي دونت فيه لوجدنا ما يبرر فعلهم هذا، فالعناية بالحديث كانت شديدة، ومعرفة الضعفاء والوضاعين كانت مشهرة، ثم إن هذه الروايات التي أوردوها- ويعلمون أحيانا أنها ضعيفة- قد تكون وردت عند أحد أعلام المحدثين بطريق أو بطرق أخرى صحيحه، فليس هناك ما يضمن مع كثرة المحدثين والرواة في مختلف أمصار المسلمين أن هذه الأحاديث لم ترد إليهم بطرق أخرى.
ج-) حجية خبر الآحاد في العقيدة إذا صح، وهذا من المعالم الرئيسة لمنهج السلف، والقول بأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم ومن ثم فلا يحتج بها في العقيدة بدعة كبرى تلقفها أو أحدثها المعتزلة، ولكن من المؤسف أن كثيرا من العلماء ممن ينتسبون إلى السنة- وخاصة في كتبهم في أصول الفقهـ ظنوا أنها لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن، وانتشرت هذه المقالة بنسبة القول بها إلى الجمهور، ومما يلاحظ أن كثيرا ممن ألف في أصول الفقه هم، إما من المعتزلة أو الأشاعرة أو الماتريدية، فأدخل هؤلاء هذه المسألة وصاروا يذكرون فيها أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن فيحتج بها في الأمور العملية من الأحكام لا العلمية، ويقصدون بها أمور العقائد بينما لو تتبعنا نصوص السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم لوجدنا الإجماع منهم- تقريبا- على عدم التفريق في أخبار الآحاد بين الأحكام والعقائد،(1/63)
ولذا يحسن هنا أن نذكر قصة إسحاق بن راهويه (1) مع عبد الله بن طاهر (2) ،
فقد روى عن إسحاق بن راهويه قال: " دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال لي: يا أبا يعقوب، تقول: إن الله ينزل كل ليلة؟، فقلت: أيها الأمير، إن الله تعالى بعث إلينا نبيا نقل إلينا عنه أخبار، بها نحلل الدماء وبها نحرم، وبها نحلل الفروج وبها نحرم، وبها نبيح الأموال وبها نحرم، فإن صح ذا صح ذاك، وإن بطل ذا بطل ذاك، قال: فأمسك عبد الله " (3) .
هذا مذهب السلف ومنهجهم لم يؤثر عن أحد منهم ممن يعتد بقوله إذا ورد عليه حديث صح عنده ثبوته أن رد ما دل عليه من أمور العقيدة بأنه خبر آحاد- وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة المهمة، وإنما الغرض الإشارة المجملة.
4- أن الصحابة أعلم الناس- بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعقيدة، لذلك فأقوالهم وتفاسيرهم للنصوص حجة لأنهم- رضي الله عنهم- قد اكتمل فيهم الفهم والمعرفة لأصول الدين التي دل عليها كتاب الله المنزل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والعجب أن بعض من يدعي الانتساب إلى مذهب أهل السنة يشتد غضبه حينما يعرض لرأي الرافضة في الصحابة وتنقيصهم لهم، ولكن لا يرى بأسا في أن يقرأ أو يسمع لبعض شيوخه من المنتسبين للسنة في مقابل الرافضة والمعتزلة كلاما يؤول إلى تنقيص الصحابة والطعن في فهمهم وعقولهم، مثل عبارة: أن الصحابة لم يعلموا - علم الكلام - لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد،
_________
(1) هو: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلى، أبو محمد بن راهويه المروزى، قرين أحمد بن حنبل حياته (1 6 ا-237) أو (238 هـ) ،. تاريخ بغداد (5/6 34) ، وسير أعلام النبلاء (11/ 358) ، والتهذيب (1/6 1 2) ، وطبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 88 1) .
(2) عبد الله بن طاهر، أبو الحسين بن مصعب، الأمير العادل، أبو العباس، حاكم خراسان، توفى سنة: 230 هـ وله (48) سنة.
تاريخ بغداد (9/483) ، وولاة مصر للكندي (ص: 4 0 2-08 2) ، وسير أعلام النبلاء (10/ 684) ، والفرج بعد الشدة (1/339) .
(3) ذكره البيهقى في الأسماء والصفات (ص: 452) .(1/64)
ومثل قول بعضهم: إن الصحابة كانوا يقرؤون القرآن ولكنهم يمرون النصوص المتعلقة بالصفات وغيرها دون فهم لها ولمعناها ... ، أو أن الصحابة لو واجهوا الشبهات التي واجهها من بعدهم لتأولوا كما تأولنا ... الخ.
وهذا- بلا شك- منهج خطير، لا يقف الانحراف فيه عند حد الصحابة، بل قد يلزم منه اتهام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الرسول المبلغ عن الله - بمثل هذه التهم التي توجه إلى الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين-.
والصحابة- في نظر أهل السنة، الذين هم أهل الحديث- كلهم عدول، ومن ثبتت صحبته ثبتت له العدالة بمجرد الصحبة، ولا شك أن هذه الأفضلية- أعني أفضلية الصحبة التى اختصوا بها، ولا يمكن أن ينال فضلها أحد ممن جاء بعدهم- تجعل لهم منزلة في فهم العقيدة وإدراكها، لا يمكن أن ينالها من جاء بعدهم. ولذلك كان السلف يفتخرون في أن دينهم أخذوه عن التابعين عن الصحابة، فشريك بن عبد الله (1) لما قيل له: إن قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث أى أحاديث النزول، حدث بنحو عشرة أحاديث في هذا، وقال: " أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم عمن أخذوا؟ " (2) .
ولمكانة الصحابة عند السلف حرصوا على تدوين أقوالهم وآرائهم في مختلف المسائل، فقد روى صالح بن كيسان (3) قال: " اجتمعت أنا والزهري (4)
_________
(1) هو: شريك بن عبد الله النخعى الكوفي، القاضي، أبو عبد الله، صدوق، بخطئ كثيرا، كان عارفا عابدا، شديدا على أهل البدع، ولد سنة (90 هـ) وتوفى سنة 178 هـ. ميزان الاعتدال (2/270) ، سير أعلام النبلاء (8/172) ، تهذيب التهذيب (4/333) ، التقريب (1/ 351) .
(2) رواه الصاغاني- كما في: سر أعلام النبلاء (8/158) ، والبيهقي فى الأسماء والصفات عن الصاغاني (ص: 451) .
(3) هو: صالح بن كيسان المدني، أبو محمد أو أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة، ثبت، فقيه، مات بعد سنة: 140 هـ. تهذيب تاريخ دمشق (6/380) ، وتذ كرة الحفاظ (11/48) ، وسير أعلام النبلاء (5/454) ، والتقريب (1/362) ، وطبقات الحفاظ (ص: 63) .
(4) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله، أبو بكر القرشي الزهري المدني، أحد الأعلام، =(1/65)
- ونحن نطلب العلم- فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثم قال الزهري: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة. قال: فقلت أنا: لا، ليس بسنة، لا نكتبه. قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت " (1) .
والصحابة تميزوا في العقيدة وفهمها بعدة ميزات، أهمها:
أ) أنهم شاهدوا التنزيل، وعاشوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلقى هذا الوحى من ربه الذي ينزل عليه مفرقا حسب الوقائع والأحداث، فعاصروها جميعا، واحدة فواحدة، فكيف لا يكونون وهم كذلك- أعلم الناس بالتنزيل وأسباب نزولهـ إن كانت له أسباب- وأعلم الناس- من ثم- بمراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يقول عاقل: إن من حضر الواقعة أو الحادثة- أيا كانت- أقل علما بها ممن لم يحضرها ولم يشارك فيها.
ب) من المعلوم أن حواري الرسل وصحابتهم الذين اتبعوهم وآمنوا بهم هم اكثر الناس فهما لرسالتهم وما يتلعق بها من أحكام سواء في العقيدة أو الشريعة؛ فهم العارفون بدقائقها المدركون لحقائقها، وهم اكمل الناس علما وعملا، ولا يكون من بعدهم اكمل منهم في شيء من ذلك، ولذلك روى عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنهـ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما من نبى بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه
_________
(1) = توفي سنة: 124 هـ. طبقات ابن سعد- الجزء المتمم (ص: 157) ، وتاريخ دمشق- طبعت ترجمته مفردة- ووفيات الأعيان (4/177) ، وغاية النهاية في طبقات القراء (2/262) ، وسير أعلام النبلاء (5/326) ، والواي للصفدي (5/24) ، وتهذيب الهذيب (9/445) .
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف (11/ 258) ورقمه (487 0 2) ، والخطيب في تقييد العلم (ص: 6 0 ا- 107) ، وابن سعد في الطبقات (2/388) ، وفي الجزء المتمم (ص: 68 1) ، والفسوى في المعرفة (1/637، 641) ، وابن عساكر- ترجمة الزهري مفردة- (ص: 62) ، وأبو نعيم في الحلية (3/360) .(1/66)
فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " (1) ، فمن سار على نهج الصحابة سلم من هذه الصفة الذميمة. ومع كل ذلك فمن أتى بعد الصحابة فلن يكون مثلهم في الفهم والعلم.
ج-) لم يكن بين الصحابة خلات في العقيدة، فهم متفقون في أمور العقائد التى تلقوها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل وضوح وبيان، وهذا بخلاف مسائل الأحكام الفرعية القابلة للاجتهاد والاختلاف، يقول ابن القيم-رحمه الله-: " إن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الايمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيمانا. ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدوا لشىء منها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم: يجب صرفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا، وأجروها على سنن واحدة " (2) .
والأمور اليسيرة التى اختلفوا فيها- كرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه، وغيرها لا تؤثر في هذه القاعدة العامة، لأن الخلاف فيها كان لأسباب وقد يكون لبعض الصحابة من العلم ما ليس عند الآخر، لكنهم- رضى الله عنهم- إذا جاءهم الدليل خضعوا له بلا تردد.
د) كان الصحابة يسألون عما يشكل عليهم، وهذا أمر مشهور عنهم - رضى الله عنهم - فأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - رُوي عنها أنها
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الايمان- باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، ورقمه (80) .
(2) إعلام الموقعين (1/ 51-52) ت: الوكيل.(1/67)
" كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه " (1) ولذلك سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: " من نوقش الحساب عذب " عن الآية: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7،8] ، فأجابها: " إنما ذلك العرض ... " (2) ، كذلك سأل الصحابة عن رؤية الله فمثل لهم برؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب (3) ، وكذلك قدرة الله على البعث ضرب لها مثالا بالنبات (4) .
ومن هذه الميزات تتضح بجلاء مكانة الصحابة وعلمهم وفهمهم- رضي الله عنهم أجمعين- كما يتبين فضلهم- في هذه الأمور وغيرها- على من جاء بعدهم، وأن أي تجهيل لهم بأسلوب صريح أو غير صريح يعتبر ضلالا وانحرافا، لا يتوقف عند حد اتهام الصحابة أنفسهم بل يتعداه إلى ما بلغوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمور الدين كلها. وإن العجب ليأخذ الإنسان وهو يقرأ مثل هذا الكلام لأحد الكتاب وهو يعرض لمذهب السلف ومدرستهم، يقول: " ولعلنا نلمح- من خلال هذا العرض- الفرق الواضح بين الايمان والمعرفة، فالأول محله القلب، والثانية محلها العقل. ومن ثم نستطع أن نقرر أن المتديني ن في الصدر الأول قد فقهوا النص الديني- وخاصة ما يتعلق بأمور العقيدة- بقلوبهم، قبل إدراكه بمقاييس العقل، كالذي عرف فيما بعد لدى بعض فرق المتكلمين، وتخريجهم نصوص العقيدة على مقتضى ما وضعوه من مقامات عقلية "
_________
(1) رواه البخارى عن ابن أبي مليكة في العلم، رقم (103) ، واسمه: عبد الله بن عبيد الله ابن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد بن جدعان ثقة، فقيه، روى عن مجموعة من الصحابة- منهم عائشة - روى له الجماعة. انظر: التهذيب (5/306) ، والتقريب (1/431) .
(2) متفق عليه: رواه البخارى عن ابن أبي مليكة عن عائشة، كما رواه عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة، وأرقامه (3 0 1، 4939،6536،6537) ، ومسلم في الجنة، ورقمة (2876) .
(3) رواه أحمد - عن أبي رزين العقيلى ابن المنتفق - المسند (4/11) ، ورواه أبو داود في السنة، رقمه (4731) ، وابن ماجه في المقدمة، رقمه (180) ، وابن أبي عاصم في السنة، رقمه (459- 460) ، وحسنه الألباني.
(4) رواه أحمد عن أبي رزين العقيلى، واسمه لقيط بن عامر بن المنتفق، وهو الذي سأله. المسند (4/11) .(1/68)
ثم يعقب قائلا:" وليس في هذا القول نسبة لهم- أي المتدينين- إلى التجهيل كما فهم تقي الدين ابن تيمية " (1) .
هكذا يقول الكاتب عن الصدر الأول- وفيهم الصحابة- إنهم كانوا يؤمنون بأمور العقيدة بقلوبهم، ولكنهم لا يعرفونها بعقولهم، وإنما عرفها أهل الكلام من بعد لما جاءوا بالمقدمات العقلية، ومع ذلك فليس في هذا تجهيل للصحابة والصدر الأول (2) .
5- ومن منهج السلف: التسليم لما جاء به الوحي، مع إعطاء العقل دوره الحقيقي، وعدم الخوض في الأمور الغيبية مما لا مجال للعقل فيه، فالسلف - رحمهم الله - لم يلغوا العقل كا يزعم خصومهم من أهل الكلام، أو من لا خبرة له بمذهب السلف من غيرهم، كما أنهم لم يحكموه في جميع أمورهم كما فعل أهل الضلال، وإنما وزنوا الأمر بموازين الشرع: فما جاء به الوحي فهو حق وصدق ولا يمكن أن يخالف معقولا صريحا أبدا، إذ كيف يخالفها والوحي من الله والعقول مخلوقة لله، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك والمقصود هنا بيان أن من منهجهم التسليم لما ورد في النصوص وعدم معارضتها بشيء من الأهواء أو العقول، مع إعطاء العقل دروه المناسب له (3) .
6- لم يكونوا يتلقون النصوص ومعهم أصول عقلية يحاكمون النصوص إليها،؟ فعل المعتزلة وغيرهم الذين وضعوا أصولأ عقلية، ثم لما جاءوا إلى القرآن والسنة وما فيهما من دلالات في الاعتقاد، نظروا فما وجدوه موافقا لتلك الأصول العقلية أخذوا به، وما وجدوه مخالفا لشيء نها أولوه أو أنكروا الاحتجاج به، وقد كان سيد قطب-رحمه الله- من الدعاة إلى هذا المنهج في العودة إلى العقيدة والتصور الإسلامي، يقول في كلامه حول المنهج الصحيح لذلك: " ومنهجنا
_________
(1) المدرسة السلفية، تأليف: محمد عبد الستار نصار (ص: 478) .
(2) انظر: في موضوع منزلة الصحابة، قواعد المنهج السلفي (ص: 51-68) الطبعة الثانية.
(3) انظر: علاقة الاثبات والتفويض (ص: 23-26) ، ومنهج علماء الحديث والسنة (ص: 40) ، وانظر: نقض التأسيس المطبوع (1/246-247) .(1/69)
في استلهام القرآن الكريم، ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقا، لا مقررات عقلية، ولا مقررات شعورية- من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاتهـ نحام إليها نصوصه، أو نستلهم معافي هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة ".
" لقد جاء النص القرآني- ابتداء- لينشىء المقررات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليا تصورات البشر، وأن تقوم عليها حياتهم، وأقل ما يستحقه هذا التفضل من العلى الكبير، هذه الرعاية من الله ذي الجلال- وهو الغني عن العالمين- أن يتلقوها وقد فرغوا لها قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل، ليقوم تصورهم الجديد نطفا من كل رواسب الجاهليات- قديمها وحديثها على السواء- مستمدا من تعليم الله وحده، لا من ظنون البشر، التي لا تغنى من الحق شيئا ".
" ليست هناك إذن مقررات سابقة نحاكم إليها كتاب الله تعالى، إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب إبتداء، ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا، وهذا- وحدهـ هو المنهج الصحيح، في مواجهة القرآن الكريم، وفي استلهامه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته " (1) .
7- الرجوع إلى النصوص الواردة في مسألة معينة، وعدم الاقتصار على بعضها دون البعض الآخر، وهذا ناشيء من أنهم لا يفرقون بين النصوص وليس لديهم أصول عقلية متقررة سلفا عندهم ليأخذوا من النصوص ما وافقها ويدعوا ما خالفها، كما وقع فيه أهل الأهواء كلهم، إذ ما من طائفة من طوائفهم إلا وأخذت بجزء من النصوص مما يوافق مذهبها ثم تأتي طائفة تطعن في أدلة الطائفة الأخرى ... وهكذا في جميع مسائل العقيدة.
أما السلف- ومذهبهم هو الوسط- فلا يسلكون مثل هذا المنهج، بل يأخذون بجميع النصوص، فيكون معهم الحق الذي مع كل من الطائفتين المنحرفتين،
_________
(1) خصائص التصور الإسلامي (ص: 14-15) ، ومع هذا المنهج الواضح لسيد قطب فلا يخلو كتابه " في ظلال القرآن " من بعض الهفوات التي وقع بها، خاصة في بعض الصفات كالاستواء وغيره.(1/70)
ويسلمون من الباطل الذي معهما. والأمثلة على ذلك كثيرة وواضحة والحمد لله. فالسلف يجمعون النصوص في المسألة الواحدة من مسائل العقيدة وغيرها، ثم يأخذون بها جميعا فيخلصون إلى مذهب وسط هو المذهب الحق والعدل.
8- التزام العدل والإنصاف مع أعدائهم، فهم يعترفون بما عند الخصوم من حق، ولا يعميهم ما يجدونه عندهم من ضلال فيصدهم عن قول الحق فيهم، أو يدعوهم إلى رميهم بما ليس فيهم من الباطل. وهذا بخلاف منهج أهل الأهواء الذين يرمون كل من لم يقل بمقالتهم بشتى أنواع التهم، ويحملون أقوال من يخالفهم أسوأ الاحتمالات، ولا يعترفون له بحق أبدا. أما أهل السنة فيلتزمون الإنصاف مع أنفسهم ومع من يخالفهم، ولذلك فهم يقسمون من عداهم إلى قسمين:
أ) أهل كفر وعناد فهؤلاء يجاهدونهم ويكشفون باطلهم.
ب) أهل بدعة وعصيان. فهؤلاء يحمدون لهم ما عندهم من إيمان وجهاد وخير وخدمة للإسلام، ويردون ما هم عليه من بدعة، ويبينون ما فيها من ضلال ومخالفة لمذهب أهل السنة، ومن كان داعيا إلى بدعته فالموقف منه يشتد حسب خطورة المقالة الضالة التي أتى بها، وحسب المصلحة التى تنجم عن كشف البدعة وتفسيق صاجها.
9- لا يتعصبون لشخص إلا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعندهم أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، لأنه الذي لا ينطق عن الهوى. وهذا بخلاف أهل الأهواء الذين يتعصبون لطائفتهم أو إلى رجل من رجالهم، ويجعلون أقوال هؤلاء كالنصوص، لا تقبل الرد ولا التأويل، ومن ثم يردون نصوص الكتاب والسنة لأجلها. أما أهل السنة فإمامهم وقائدهم الذي يتبعون ما جاء به ويزنون جميع أقوال الناس بأقواله؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيا: تميز السلف " أهل السنة والجماعة " عن غيرهم:
والقصد من هذا بيان الميزات التى تميز بها أهل السنة عن غيرهم ومن أهمها:
ا- أن أهل السنة ليس لهم اسم يسمون به إلا اسم " أهل السنة والجماعة "، أو " أهل الحديث " فهو الاسم الذي عرفوا به، وهذا بخلاف(1/71)
أصحاب البدع الذين تسموا بأسماء وألقاب أو عرفوا بها فصارت علما عليهم، ومن المعلوم أن أهل السنة قد يسميهم غيرهم بأسماء وألقاب أخرى، إذ ما من فرقة إلا وسمت أهل السنة باسم يناسب ما خالفها فيه أهل السنة، ولكن بقي أهل السنة لم يلزمهم شىء من هذه الألقاب الباطلة. ولذلك ذكر ابن عبد البر أن رجلا جاء إلى الامام مالك فقال: " يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بينى وبين الله عز وجل، قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل. قال: من أهل السنة؟، قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمى، ولا قدري، ولا رافضي (1) ، ويقول الشيخ عبد القادر الجيلى (2)
في الغنية: " واعلم أن لأهل البدع علامات يعرفون بها فعلامة أهل البدعة الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر بالحشوية، ويريدون إبطال الآثار، وعلامة القدرية تسميتهم أهل الأثر مجبرة، وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، وعلامة الرافضة تسميتهم أهل الأثر ناصبة، وكل ذلك عصبية وغياض لأهل السنة، ولا اسم لهم إ، اسم واحد وهو: أصحاب الحديث، ولا يلتصق بهم ما لقبهم به أهل البدع، كمالم يلتصق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - تسمية كفار مكة ساحرا وشاعرا ومجنونا ومفتونا وكاهنا، ولم يكن اسمه عند الله وعند ملائكته وعند إنسه وجنه ولسائر خلقه إلا رسولا نبياً ... " (3) .
2- توسطهم بين الناس، وعدم الافراط أو التفريط، وهذا مبني على أن مذهبهم هو المذهب الوسط. وقد حرص السلف على أن يكونوا وسطا.
_________
(1) الانتقاء لابن عبد البر (ص: 35) .
(2) أو الجيلاني، وهو الشيخ عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي الحنبلي، وفي مقدمة الغنية في ترجمته (ص: 3) عبد القادر بن موسى وكذا في الأعلام (4/47) - الطبعة الأخيرة-، ولد الشيخ عبد القادر سنة 470 هـ، وتوفى سنة 561هـ. قال عنه الذهبى: " وفي الجملة: الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه"، وسماه في بداية الترجمة شيخ الاسلام وعلم الأولياء. سير أعلام النبلاء (20/439- 451) ، وانظر الأنساب (3/414) ، ط لبنان والمنتظم (10/219) ، وذيل طبقات الحنابلة (1/290-301) ..
(3) الغنية (1/80) .(1/72)
في الأمور كلها وأن لا ينساق أحد منهم مع أحد القولين المتطرفين، ولذلك كان الشعبي (1) يقول: " أحب أهل بيت نبيك ولا تكن رافضيا، واعمل بالقرآن ولا تكن حروريا، واعلم أن ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ولا تكن قدريا، وأطع الامام وإن كان عبدا حبشيا ولا تكن خارجيا، وقف عند الشهات ولا تكن مرجيا، وأحب صاع بنى هاشم ولا تكن خشبيا (2) ، وأحب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سنديا " (3) .
3- ثباتهم على منهجهم لقناعتهم أنه الحق، وعدم تقلبهم كما هي عادة أهل الأهواء، ولذلك روى عن عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- أنه قال: " من جعل دينه غرضا للخصومات اكثر التنقل " (4) ، كما روى عن الامام مالك أنه قال: " كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدله " (5) ، وروى معن بن عيسى قال: " انصرف مالك بن أنس - رضى الله عنه - يوما من المسجد وهو متكىء على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الحورية- كان يتهم بالإرجاء- فقال: يا عبد الله، اسمع منى شيئا أكلمك به وأحاجك، وأخبرك رأي، قال: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعني. قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال نتبعه. قال مالك-رحمه الله- تعالى -: يا عبد الله، بعث الله عز وجل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بدين واحد، وأراك تنتقل
_________
(1) هو: الامام المشهور: عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار، أبو عمرو الهمذاني الشعبى، روى له الجماعة. توفى سنة 05 1 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: أخبار القضاة (2/413-428) والحلية (4/ 0 31) ، وسير أعلام النبلاء (4/294) ، والوافي في الوفيات (16/587) .
(2) هم أتباع المختار بن أبي عبيد، من الشيعة، وهم من الكيسانية وغيرهم، وسموا بذلك لاستعمالهم العكاكيز في الحرب. انظر: مروج الذهب (3/ 310) ، منشورات الجامعة اللبنانية، وانظر فهارس هذا الكتاب (6/306) .
(3) تهذيب تاريخ دمشق (7/143) .
(4) رواه الد ارمي، رقم (310) - باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله، والآجري في الشريعة (ص: 56) ، والبغوى في شرح السنة (1 / 217) ، ط المكتب الإسلامي، ورواه اللالكائي في شرح السنة، رقم (216) .
(5) رواه اللالكائي في شرح السنة، رقم (293-294) .(1/73)
من دين إلى دين، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات اكثر التنقل " (1) .
ولذلك ما أكثر تنقل أهل الأهواء، بخلاف السلف الذين عرفوا الحق فثبتوا عليه، وأهل الكلام " لو اعتصموا بالكتاب والسنة لا تفقوا كما اتفق أهل السنة والحديث، فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شىء من أصول دينهم " (2) .
4- اتفاقهم على أمور العقيدة، وعدم اختلافهم مع اختلاف الزمان والمكان، وهذا ما يمكن أن يسمى به الوحدة الفكرية عندهم " فأهل السنة في أي قرن من القرون، وفي أي مكان لو اختبرت الواحد منهم لوجدته يحمل من العقيدة والمنهج- مع القناعة التامة بذلك- مثل ما يحمله الآخر يقول قوام السنة الأصبهاني (3) : " ومما يدل على أن أهل الحديث هم أهل الحق انك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار - وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى فيهم اختلافا ولاتفرقا في شيء ما وإن قل. بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ " (4) .وهذا وصف دقيق لوحدة أهل السنة وعدم تباين واختلاف أقوالهم مثل ما حدث ويحدث لمن عداهم من أهل الأهواء والابتداع.
_________
(1) الشريعة للآجري (ص: 56-57) .
(2) درء تعارض العقل والنقل (10/306) .
(3) هو: الإمام إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشى، التيمي الأصبهاني، (ويقال له: الجوزي، نسبة إلى الجوزة، وهي الفرخة في لغة العجم) ، وبها نسبه تلميذه صاحب الأنساب، وذكر أنه كان يكرهها، لكنه قال: ولولا اشتهاره بها ما نسبته إليها، ويلقب بقوام السنة، ولد سنة: 457 هـ وتوفى سنة: 535 هـ. الأنساب (3/368) ، وطبقات الشافعية للأسنوي (1/359) وشذرات الذهب (4/105) ، وسير أعلام النبلاء (20/ 80) ، والأعلام (1/323) .
(4) الحجة في بيان المحجة- مخطوط- ورقمة (164) ب.(1/74)
5- ردهم على أهل البدع- في كل زمان- حسب البدع التي نشأت فيه، وهذا لأنهم حريصون أتم الحرص على سلامة العقيدة من أن يشوبها شيء من كدر الهوى والابتداع، فكل ما حدثت بدعة ردوا عليها وبينوا فسادها، وهكذا في البدع التي تليها. ولا يفتعلون افتراضات وشبهات ثم يقومون بالرد عليها كما يفعل أهل البدع، وإنما يحرصون على تربية الناس على العقيدة الصحيحة من الكتاب والسنة، ويبينون للناس ذلك ويشرحونه، حتى تمتلىء قلوبهم بعظمة الله، وبعظمة الوحي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وما يترتب على هذه التربية من الاعتزاز بهذا الدين وبمذهب أهل السنة والجماعة، وأنه طريق النجاح والفلاح. أما مجادلة أهل البدع والرد عليهم فإنما يأتي عرضا حسب خطورة البدعة والخوف من انتشارها، فيردون عليها فقط ولا يتعدى ذلك إلى افتراض بدع أخرى ثم الرد عليها، حتى توجد هذه البدعة، ولذلك فمن الواضح من منهج السلف أنه " قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك، فمن ابتلي بمن يقول: ليس هذا كلام الله كالامام أحمد كان كلامه في ذم من يقول: هذا مخلوق، أكثر من ذمه لمن يقول: لفظي مخلوق. ومن ابتلى بمن يجعل بعض بعض صفات العباد غير مخلوق، كالبخاري صاحب الصحيح، كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غر مخلوق أكثر. مع نص أحمد والبخاري وغيرهما على خطأ الفريقين " (1) .
6- حبهم لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وموالاتهم لأهلها، وهذه ميزة بارزة لأهل السنة كما؟ أن ضدها من الإعراض عن السنة وعدم الاهتمام بها، والازراء أحيانا بمن يفنون أعمارهم في روايتها ونقلها وتعليمها للناس- إحدى علامات أهل البدع الكبرى. رُوي عن البخاري أنه قال: " كنا ثلالة أو أربعة على باب علي بن عبد الله فقال: إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم" (2) ،
_________
(1) الجواب الصحيح (3/103) .
(2) سبق تخريجه (ص: 35) .(1/75)
إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث أنتم، لأن التجار قد شغلوا أنفسهم بالتجارات، وأهل الصنعة قد شغلوا أنفسهم بالصناعات، والملوك قد شغلوا أنفسهم بالمملكة، وأنتم تحبون سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، ويقول قتيبة بن سعيد (2) : " إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويهـ وذكر قوما آخرين- فإنه على السنة، ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع " (3) ، ويقول الشيخ أبو اسماعيل الصابوني: " وإحدى علامات أهل السنة حبهم لأئمة السنة وعلمائها وأنصارها وأوليائها، وبغضهم لأئمة البدع الذين يدعون إلى النار، ويدلون أصحابهم على دار البوار، وقد زين الله سبحانه قلوب أهل السنة ونورها بحب علماء السنة فضلا منه جل جلاله " (4) .
7- قبولهم عند الناس والتمكين لهم، فهم العدول الذين تقبل أقوالهم ويحتج برواياتهم. ولو استعرضنا تاريخ الاسلام لوجدنا البارزين فيه كل عصر هم أهل السنة الذين قاموا بالحق ودعوا إليه، وجددوا ما اندرس من أمور الاسلام، وجاهدوا في الله حق جهاده بالنفس والمال والقلم واللسان. يقول إسحاق ابن موسى الخطمي (5) : ما مكن لأحد من هذه الأمة ما مكن لأصحاب الحديث لأن الله عز وجل قال في كتابه: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] فالذي ارتضاه الله قد مكن لأهله فيه، ولم يمكن لأصحاب
_________
(1) شرف أصحاب الحديث (ص: 52) .
(2) هو: قتيبة بن سعيد بن جميل بن طربف الثقفي، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت، ولد سنة 149 هـ، وتوفى سنة 240 هـ. روى له الجماعة. سير أعلام النبلاء (11/13) ، والأنساب (2/257) ، والتقريب (2/123) .
(3) شرف أصحاب الحديث (ص: 71-72) ، ورواهـ مع اختلاف يسير- الصابوني في عقيدة السلف (ص: 109) ، واللالكائي في شرح السنة، رقم (59) .
(4) عقيدة السلف للصابوني (ص: 08 ا-109) .
(5) هو: اسحاق بن موسى الخطمي، أبو موسى المدينى، ثقة متقن من رجال مسلم وبعض أصحاب السنن، توفي سنة 244 هـ، تهذيب الكمال للمزي (2/480) مطبوعة، وسير أعلام النبلاء (10/554) ، والتقريب (1/ 61) .(1/76)
الأهواء في أن يقبل منهم حديث واحد عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأصحاب الحديث يقبل منهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحديث أصحابه. ثم ان كان فيهم رجل أحدث بدعة سقط حديثه وإن كان من أصدق الناس " (1)) . وهذا على العموم، وإلا فقد روى بعض العلماء عن بعض أهل البدع بشروط دقيقة حددوها.
8- حرصهم على تنشئة الشباب على السنة، لأن الشاب إذا نشأ على قراءة القرآن ومحبة السنة ومدارستها، وما ينشأ عن ذلك من مجالسة أصحابها والتعلم منهم- أحرى أن يكون معهم وأن يكون صاحب سنة، مبغضا للبدعة وأصحابها. قال عمرو ابن قيس الملائي (2) : " إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه فإن الشاب على أول نشوئه " (3) ، وقال عبد الله بن شوذب (4) : " إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها " (5) ، وروى عن أيوب [السختياني] (6) أنه قال: " إن من سعادة الحدث والأعجمى أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة " (7) .
_________
(1) شرف أصحاب الحديث (ص: 32) .
(2) أبو عبد اللة الكوفي، ثقة متقن، عابد، مات سنة بعض وأربعين ومئة حددها بعضهم بسنة 146 هـ. تهذيب التهذيب (8/92) ، والتقريب (2/72) .
(3) الإبانة لابن بطة (الصغرى) (ص: 133) رقم (92) .
(4) هو: عبد الله بن شوذب الخراساني، أبو عبد الرحمن، صدوق عابد، ولد سنة 86 هـ، وتوفي سنة 144 هـ، وقيل: 156 هـ. الحلية (6/129) ، سير أعلام النبلاء (7/92) ، تهذيب الهذيب (5/ 255) ، التقريب (1/423) .
(5) شرح السنة للالكائي رقم (31) ، وانظر: الإبانة (الصغرى) (ص: 133) .
(6) هو: أيوب بن أبي تميمة، كيسان السختياني، أبو بكر البصرى، ثقة، ثبت، حجة، من كبار الفقهاء والعباد، توفي سنة 131 هـ. سير أعلام النبلاء (6/15) ، تهذيب المزي (3/457) ، رقم الترجمة: 07 6- مطبوعة-، وتهذيب التهذيب (1/397) (1/397) ، والتقريب (1/89) .
(7) رواه اللالكائي، رقم: 30، وابن الجوزى في تلبيس (ص: 9) ، الطبعة المنيرية.(1/77)
9- الحرص على جماعة المسلمين ووحدتهم، فهم دائما يحضون على الوحدة وينبذون الفرقة والتفرق. وهذا واضح في منهج السلف! القائم على أن أي اتفاق بين المسلمين لا يكون إ، على أساس الرجوع إلى الكتاب والسنة، وتحكيمها، فهم أهل السنة والجماعة المجتمعون على الحق، الحريصون على حمع الناس على كلمة الحق.(1/78)
الباب الأول: ابن تيمية والأشاعرة
ويشمل الفصول التالية:
الفصل الأول: حياة ابن تيمية- عصره، ونشأته وآثاره.
الفصل الثاني: منهجه في تقرير عقيدة السلف وفي رده على الخصوم.
الفصل الثالث: أبو الحسن الأشعري.
الفصل الرابع: نشأة الأشاعرة وعقيدتهم.
الفصل الحامس: تطور مذهب الأشاعرة، وأشهر رجالهم إلى عصر ابن تيمية.(1/79)
الفصل الأول: حياة ابن تيمية
ويشمل مبحثين:-
المبحث الأول: عصر ابن تيمية.
المبحث الثاني: ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية.(1/81)
الفصل الأول
تقدمة
يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- من العلماء البارزين الذين حظوا بتراجم عديدة، مفردة وغير مفردة. كما أن كتبه ورسائله وفتاواه وما تضمنته من اجتهادات في مسائل الفقه والأحكام، ودراسات أصولية- في الفقه والحديث والتفسير- وشروح لمذهب السلف وردود على المخالفين.... وغيرها- صارت مجالا خصبا للتأليف والدراسة والنشر والتحقيق، ولم تغفل هذه الكتب الترجمة لابن تيمية ودراسة جوانب من منهجه.
لذا فإن الباحث يقف في حيرة من هذا الأمر: كيف يترجم لهذا العلم مع هذا العدد الكبير من المصادر والمراجع التى تناولت حياته بالشرح والتفصيل؟ خاصة إذا كان من المهم إبراز جوانب تتعلق بحياة المترجم لها مساس بموضوع البحث الأساسي.
وقد جاء هذا الفصل المتعلق بحياة شيخ الإسلام يركز على مبحثين:
الأول: عصر ابن تيمية، وأوضاعه السياسية والإدارية والعلمية والعقدية، ونظرا لتأخر عصر ابن تيمية نوعا ما فقد حرصت على أن لا يكون العرض مختصرا، بل شاملا ومركزا يعرض للخلفيات، والمواقف، خاصة مواقف العلماء ومنهم ابن تيمية، ولعل تفصيل بعض النقاط هنا يغني عن تفصيلها عند الحديث عن ترجة شيخ الإسلام.
الثاني: ترجمة شيخ الإسلام، تركز على نسبه وشيوخه وجهوده العلمية والعملية، ومحنه التي مر بها، ثم تلاميذه، وآثاره مع التركيز على كتبه ورسائله التي رد فيها على الأشعرية.(1/83)
المبحث الأول: عصر ابن تيمية
عاش شيخ الإسلام ابن تيمية في النصف الثاني من القرن السابع والنصف الأول من القرن الثامن الهجري، وبالتحديد بين عامي 661- 728 هـ، وقد كان هذا العصر امتدادا لعصور سابقة اعتورتها أحداث كبار ومتغيرات كثيرة في العالم الإسلامي، سواء في وضعه السياسى أو وضعه العقدي أو وضعه الاجتماعي وا لتشريعي.
وتفصيل هذه الأمور يبعدنا عن موضوع هذه الرسالة، لذا سنقتصر على الإشارة إلى بعض القضايا التي تلقي الضوء على هذا العصر دون الدخول في متاهات الأوضاع السياسية وتقلباتها- التي فصلتها كتب التاريخ-
وأهم هذه القضايا:-
1- الغزو الصليبي للعالم الإسلامي.
2 - ظهور التتار واجتياحهم للعالم الإسلامي.
3 - المماليك يخلفون الأيوبيين في حكم مصر والشام.
4 - سقوط الخلافة العباسية في بغداد، وانتقال مركز القيادة والثقل في العالم
الإسلامي إلى مصر.
5 - الباطنيون والرافضة.
6 - بداية ظهور التقنين والتحاكم إلى غير الشريعة الإسلامية.
7 - الجوانب العلمية والعقائدية:
أ- أهل الذمة.
ب - التصوف والشركيات.
جـ - المذهب الأشعري.(1/85)
أولا: الصليبيون: [490 - 690 هـ] .
الحرب بين المسلمين والنصارى لم تهدأ في يوم من الأيام منذ انتشار الاسلام فالدولة البيزنطية في شمال الشام كانت موجودة وبينها وبين المسلمين حروب ومناوشات كثيرة، وكذلك النصارى في الأندلس كانت بينهم وبين المسلمين حروب مستمرة. ولكن ما اصطلح عليه اسم " الحروب الصليبية " كانت خاصة بتلك الهجمات والحملات من جانب نصارى أوربا على قلب العالم الإسلامى في بلاد الشام، وما حققوه في البداية من انتصارات ثم تلك المقاومة الرائعة من جانب قادة عظام من قواد المسلمين برزوا في ذلك الوقت ليقارعوا الصليبين حتى أجلوهم وطردوهم من بلاد الإسلام.
ولم يكن باستطاعة النصارى أن يفعلوا ما فعلوا لولا الواقع المؤسف الذي كان يعيشه العالم الإسلامي: فالدولة العباسية كانت مقسمة وسلطات الحلفاء كانت شكلية، والدويلات المتفرقة تتقاسم أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي: فالسلاجقة (1) في بغداد، والفاطميون في المغرب ومصر، والشام والجزيرة في كل مدينة إمارة. ولم يقتصر الأمر على هذا التفرق فقط وإنما كان الصراع محتدما بين هؤلاء، فالفتن والحروب فيما بينهم مشتعلة، والتفرق والتباين المذهبي كان يجعل مسألة الوحدة مسألة شبه مستحيلة. أما في الأندلس فيكفي أنها كانت تعيش عهد دول الطوائف (2) .
ومع هذا التفرق والانقسام فقد وقعت معركتان فاصلتان بين المسلمين والنصارى إحداهما في المشرق والأخرى في المغرب، انتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما:
_________
(1) كان السلاجقة سنة، وقد احتلوا بغداد سنة 447 هـ وقضوا على بني بويه الشيعة. انظر تاريخ دولة آل سلجوق للأصفهاني (ص: 12) .
(2) قدمت عدة دراسات حول هذه الحقبة من تاريخ العالم الإسلامي: ففي أحوال بلاد الشام وما حولها. انظر: بلاد الشام قبل الغزو الصليبي علي محمد الغامدى، والمجتمع الاسلامي في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية أحمد رمضان محمد، والصراع السياسي والعسكري بين القوى الاسلامية زمن الحروب الصليبية، حامد زيان- ومدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية، سهيل زكار. أما الأندلس =(1/86)
أولاهما: معركة ملازكرد (1) في عام 463 هـ انتصر فيها ألب أرسلان السلجوقي على إمبراطور الروم مما أدى إلى انهزام الروم في الأناضول واستيلاء السلاجقة على غالب تلك المنطقة، حتى أصبحت مدينة القسطنطينية مهددة من جانب السلاجقة (2) .
والأخرى: معركة الزلاقة (3) التي كانت بين يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين وبين النصارى. وكانت عام 479 هـ. وقد كان من نتائج هذه المعركة تأخر إجلاء المسلمين عن الأندلس عدة قرون (4) .
ولكن مع هذا فإن الضعف والتفرق المحيط بالمسلمين كان قد وصل إلى حالة مؤسفة، بحيث لم تكن مثل تلك المعارك الفاصلة التي انتصر فيها المسلمون بداية لتحركهم وزيادة فتوحاتهم واسترداد ما احتله أعداؤهم من بلادهم أو على الأقل إيقاف الخصوم عند حدودهم. لكن الذى حدث هو العكس تماما فبعد سنوات محدودة تجمعت أوربا الصليبية وسارت بحملات رهيبة إلى داخل العالم الإسلامي ليكونوا فيه دويلات لهم ويحتلوا القدس الشريف، وقد بدأت هذه الحملات عام 490 هـ. والذى يلفت الانتباهـ في مسألة نشوء هذه الحملات- ما يذكره ابن الأثير في الكامل من رواية تقول: " إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة
_________
(1) = والمغرب فانظر البيان المغرب (3/153) وما بعدها، والدراسة الشاملة لمحمد عبد اللة عنان في سلسلة دولة الاسلام في الأندلس جزء دول الطوائف.
(1) تسمى "منازجرد" وهي هكذا في معجم البلدان، وقد تبدل الجيم كافا، بلد مشهور بين خلاط وبلاد الروم، يعد في أرمينية، انظر معجم البلدان (5/202) ، ومختصره مراصد الاطلاع (3/1314) .
(2) انظر: تاريخ دولة آل سلجوق للأصفهاني (ص 40-44) ، والكامل (10/65-67) ، والبداية والنهاية (12/ 100- 101) .
(3) بطحاء الزلاقة من اقليم بطليوس من غرب الأندلس- الروض المعطار (ص: 287) .
(4) انظر: الروض المعطار (ص: 287-292) ، الذى علق في نهايتها قائلا: " خالفت بشرح هذه الوقيعة شرط الاختصار لحلاوة الظفر في وقت نزول الهمم ووقوعها في الزمن الخامل" وانظر الكامل (0 1/ 1 5 1) ونفح الطيب (1 / 439، 4 / 354 - 371) ، وروض القرطاس (ص: 45 ا - ا 5 1) ، والعجب (ص: 5 9 1) ، والحلل الموشيه (ص: 38- 66) ، ودول الطوائف لعنان (ص: 0 32- 332) .(1/87)
الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلائها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم، ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها، خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام! لكوه، ويكونوا بينهم وبين المسلمين، واللة أعلم" (1) . وقد ذكر قبل ذلك عزم النصارى على الخروج وكيف عدلوا عن عزمهم من السير إلى افريقية إلى الشام لكون الشام فيه بيت المقدس، وفتحها فخر للنصارى، ولوجود عهود مع أهل إفريقية (2) .
ولا يعني هذا أن العبيديين لم يقاتلوا الصليبيين، بل قاتلوهم ولكن ذلك إنما يكون حين يهاجمهم الصليبيون الذين كانت لهم أطماع في الشام- وفيها ما هو تحت سيطرة العبيديين، كما كانت لهم أطماع في مصر أيضا (3) .
وهكذا غزا الصليبيون بلاد الإسلام واحتلوا بيت المقدس، هدفهم الكبير وذبحوا المسلمين بشكل رهيب (4) وفجع العالم الإسلامي بذلك،
_________
(1) الكامل (10/ 273) ، وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 679) ، وهذه القضية بحاجة إلى إبراز، لأن تعاون الدولة العبيدية الباطنية وتعاون الحركات الباطنية بعد ذلك مع النصارى أمر مشهور. ومما يجدر ملاحظته أن معركة ملازكرد التي أشرنا إليها قبل قليل كان من أهم آثارها وقف تعاون قوي بدت معالمه بين العبيديين والبيزنطين ضد السلاجقة السنيين. أما تعاون الدولة العبيدية مع النصارى- زمن الحروب الصليبية- فأحداث تاريخ تلك الحقبة تحمل حقائق مذهلة، حتى أن صاحب النجوم الزاهرة (ج- 5 ص 147) - يأسى لتقاعس صاحب مصر عن مناصرة السلاجقة في مواجهتهم للصليبيين. ولما انشغل السلاجقة في حرب الصليبيين شمال الشام انقض الباطنيون من مصر على بيت المقدس واحتلوه وقد أرسل الأفضل الوزير الفاطمي إلى الصليبيين وهم يحاصرون انطاكية سفارة عرضت التعاون معهم للقضاء على السلاجقة واقتسام الشام بينهم. وما هذه إلا أمثلة، وانظر الحركة الصليبية- عاشور (1/191،227) ، وكتاب " الفاطميون والصليبيون (ص: 53) وما بعدها، والحروب الصليبية: سميل (ص: 81) .
(2) الكامل (0 1/ 272-273) .
(3) انظر الحركة الصليبية (1/231) ، ومما يلاحظ أن الصليبيين عقدوا في الرملة سنة 492 هـ قبل زحفهم إلى بيت المقدس- اجتماعا ومجلسا للحرب ناقشوا فيه عدة مسائل منها الرأي القائل بأنه لابد من البدء بمهاجمة مصر، لأن استقرارهم في بيت المقدس لن ينعموا به إلا إذا أخضعوا القاهرة لهم. المصدر السابق (1/233) .
(4) قتل الصليبيون كل مسلم وجدوه في أى مكان حتى أنهم قتلوا من احتمى بالمسجد الأقصى، فقتلوا فيه أكثر من سبعين ألفا، وهذا العدد لم يذكره مؤرخو الإسلام فقط وإنما ذكره مؤرخو النصارى ومنهم - ابن العبري- في كتابه مختصر الد ول (ص: 197) - حيث قال: " ولبث الافرنج في البلد أسبوعا يقتلون =(1/88)
حتى أن المستنفرين من بلاد الشام توجهوا في رمضان إلى بغداد عاصمة الخلافة "فأوردوا في الديوان كلاما أبكى العيون وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا، وبكوا، وأبكوا، وذكر ما دهم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا " (1) ،
وقد ندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على جهادهم، ولكن ذلك لم يفد شيئا (2) . وقد عبر أحد الشعراء عن أحوال المسلمين وتقاعسهم عن جهاد النصارى حين احتلوا بيت المقدس في ذلك الوقت فقال من قصيدة:
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكى أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم، والدين واهى الدعائم (3)
ولما احتل النصارى. بيت المقدس أغاروا على ما حوله من المدن الساحلية وغيرها وتكونت لديهم عدة إمارات. أما المسلمون فقد قابلوا هذه الحملات بحركة جهاد عظيمة قادها أبطال عظام، كان لهم في إحياء روح الجهاد بين المسلمين، وتوحيد كلمتهم وبعث الغيرة على دين الله ومحارمهـ ما صار فيما بعد- غرة في جبين تاريخ المسلمين، فقاوم السلاجقة أولا ثم بدأ الجهاد آل زنكى
_________
= فيه المسلمين، وقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا" وانظر مصادر أخرى افرنجية في الحركة الصليبية (1/237-238) والعجيب أن افتخار الدولة- حاكم بيت المقدس العبيدى عند احتلال النصارى لهـ خرج هو وجنده وحدهم سالمين- لم يصابوا بأذى- بعد أن أعطاهم الفرنج الأمان! الحركة الصليبية (1/236-237) .
(1) الكامل (10/284) .
(2) انظر: المصدر السابق، والبداية والنهاية (12/156) .
(3) الشاعر هو: أبو المظفر الأبيوردى، والقصيدة في ديوانه (2/156) وذكرها ابن الأثير وابن كثير.(1/89)
وعلى رأسهم عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي وأولاده (1) ليوجهوا إلى الافرنج ضربات موجعة ويسترجعوا بيت المقدس بعد أن بقى في يد النصارى قرابة تسعين عاما. والذي يعنينا هنا- ونحن نعرض لعصر ابن تيمية ما يلي:-
أ- واصل المماليك- الذين حكموا الشام ومصر بعد الأيوبيين- جهادهم ضد النصارى، فالظاهر بيبرس وجه إليهم حملات متتابعة، واستطاع أن يسترجع كثيرا من المدن التي احتلوها، ومنها أنطاكية - تلك المدينة المهمة بالنسبة للأفرنج وكان ذلك سنة 666 هـ (2) . ثم بعد ذلك جاء المنصور قلاوون - الذي عقد سنة 680 هـ مع النصارى صلحا ليقطع تحالفهم مع المغول الذين كانت قوتهم وخطرهم شديدا (3) -، ولكنه لم يمض على هذا الصلح أربع سنوات حتى نقض النصارى الصلح باعتدائهم على قافلة من تجار المسلمين، وهنا هاجم المنصور قلاوون الصليبيين فاستولى سنة 684 هـ على حصن المرقب الذي كان " في غاية العلو والحصانة، ولم يطمع أحد من الملوك الماضين في فتحه " (4) ثم استولى على مدينة طرابلس سنة 688 هـ (5) . وأخيرا جاء عهد ابنه الأشرف خليل الذي تولى تصفية الوجود الصليبى في بلاد الشام، والذى استهل عهده بفتح عكا سنة 690 هـ والتي شارك في فتحها كثير من العلماء
_________
(1) انظر في الجهود العظيمة التي قام بها هؤلاء في كتب التاريخ وبالأخص: التاريخ الباهر لابن الأثير، والكواكب الدرية في السيرة النورية، لابن قاضي شهبة، والروضتين لأبي شامة، والنوادر السلطانية (سيرة صلاح الدين) لابن شداد.
(2) الروض الزاهر (ص: 307) ، والمخصر لأبي الفداء (4/4) ، والسلوك للمقريزى (1/567) ، والبداية والنهاية (13/ 251) ، وانظر الظاهر بيبرس- عاشور- (ص: 59-74) .
(3) انظر: السلوك (1/685) ، وتاريخ ابن الفرات- حوادث سنة 680 هـ، عن مقدمة تحقيق كتاب تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور (ص: 82) ، وانظر دولة بني قلاوون في مصر (ص: 232) ، وانظر مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك عاشور (ص: 96 1) .
(4) المختصر لأبي الفداء (4/ 1 2) ، وانظر تشريف الأيام (ص: 77-86) ، والنجوم الزاهرة (7/314) .
(5) انظر: السلوك (1/747) ، والبداية والنهاية (13/313) ، والنجوم الزاهرة (7/ 320) .(1/90)
والفقهاء (1) ومنهم شيخ الاسلام ابن تيمية-رحمه الله- تعالى (2) - أما بقية معاقل الصليبيين فقد سقطت في أيدي المسلمين دون مقاومة. وبذلك أسدل الستار على قرنين من الزمان عاشتها بلاد الشام في ظل هذه الحروب والمعارك المتلاحقة فعادت بلاد الشام إلى حكم المسلمين.
2- بقيت قبرص في يد النصارى، وقد كان حكامها من أشد أعوان الصليبيين حيث كانوا يمدونهم بالمؤن والسلاح والرجال. وقد لجأ إليها من فر من النصارى من بلاد الشام- وقد بقيت في أيديهم إلى ما بعد عهد ابن تيمية، ولذلك رأينا شيخ الإسلام يرسل رسالة إلى ملكها يأمره بالرفق في أسارى المسلمين (3) .
3- لم تنته الحرب الصليبية بطردهم من بلاد الشام، وإنما انتقلت إلى تطور آخر أكثر خطورة، فقد " كان من الصعب أن يتخلى الغرب الأوربي عن الفكرة الصليبية تخليا تاما مفاجئا، فظلت تلك الفكرة تراود عقول بعض المتحمسين والمتدينين الذين دعوا لاستئناف الحرب ضد المسلمين، وعبروا عن حماستهم وآرائهم بمجموعة من المشاريع الصليبية ذات الأهمية البالغة منذ نهاية القرن الثالث عشر [السابع الهجري] وهنا نلاحظ في ذلك الدور الجديد من أدوار الحركة الصليبية أن الدعاة لم يكونوا خطباء من طراز بطرس الناسك، ولم يعتمدوا على البيان في تحريك عواطف الناس واستثارة شعورهم الدينى، وإنما صاروا كتابا يكتبون الرسائل والكتب ويرفعونها إلى البابوات والملوك والأمراء، شارحين فيها مشاريعهم الصليبية" (4) .
وقد قاموا بهجمات على شمال إفريقية كان هدفها التبشير بالديانة النصراينة. فهل كانت تلك مقدمات لما شهده العالم الإسلامي في العصر الحاضر من هجوم صليبي
_________
(1) انظر البداية والنهاية (13/ 0 32) ، وتذكرة النبيه (1/317) ، والسلوك (1/763، 03 0 1) ، والمختصر لأبي الفداء (4/24-25) ، وتاريخ بيروت (ص: 23) .
(2) الأعلام العلية (ص: 68) ، والكواكب الدرية (ص: 92) .
(3) انظر عن قبرص بعد جلاء الصليبيين من الشام: الحركة الصليبية (2/1162) وما بعدها.
وقد استطاع المماليك استعادة قبرص وأسر ملكها- بعد سنين طويلة- سنة 829 هـ في عهد الملك الأشرف برساي، انظر المنهل الصافي (3/263) ، وبدائع الزهور (2/106-07 1) .
(4) الحركة الصليبية (2/134) .(1/91)
إستعماري كان هدفه الأول الغزو الثقافي والفكري للمسلمين؟
ثم إن من يطلع على ما كتبه علماء الإسلام في الرد على النصارى، ربيان تحريفهم وكذبهم- وفي مقدمتهم شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم- يدرك أن تأثير النصارى على المسلمين سواء كان ذلك إبان الحملات الصليبية أو فيما بعد؛ كان محل خطر يشعر به ذوو الغيرة على هذا الدين (1) .
ثانيا: ظهور التتار (2) .
اذا كان العالم الاسلامي قد مني بتلك الحملات الصليبية- على بلاد الشام - في أواخر القرن الخامس الهجري [490 هـ] ، فإن هذه الحروب لم تكد تنتهي حتى فجع العالم الإسلامي بمصيبة أخرى أشد وأفظع وأعظم خطرا. فقد اكتسح التتار (المغول) العالم الإسلامى من الشرق، وساروا في بلاد الاسلام يقتلون ويأسرون ويحرقون ويدمرون بطريقة همجية لم يشهد لها التاريخ مثيلا. وقد عبر عن ذلك المؤرخون المسلمون، وكان أصدقهم تعبيرا ابن الأثير- صاحب التاريخ- الذي عاصر بداية هجومهم ولم يعاصر سقوط بغداد [فقد توفي سنة 630 هـ] فقد قال- عن خروج التتر- في حوادث سنة 617 هـ: " لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها،
_________
(1) من الكتب في ذلك قبل ابن تيمية: الفصل لابن حزم ت 456 هـ- الفصل المتعلق بالنصارى- وكتاب الرد الجميل للغزالى ت 505 هـ- وكتاب مقامع الصلبان لابن أبي عبيدة- أحمد بن عبد الصمد الخزرجي ت 582 هـ (ط في تونس، وطبع في مصر- مكتبة وهبة- بعنوان: بين الإسلام والمسيحية) أما المعاصرون لابن تيمية فمنها الأعلام للقرطبي (إن كان المفسر فقد توفي سنة 671 هـ) ، وكتاب الأجوبة الفاخرة للقرافي ت 674 هـ، ومنظومة الأبوصيري في الرد على النصارى مع شرحها- للأبوصيري- ت 696 هـ ومنها كتاب على التوراة للباجي ت 714 هـ- وضمنه الرد على النصارى. أما الكتب التي ألفت بعد ابن تيمية فكثيرة.
(2) ويسمونا "المغول" أو " المغل" وهم قبائل من الجنس الأصفر، كانوا يسكنون منغوليا جنوب شرق سيبيريا على حدود الصين، وقد اختلطوا بالقبائل التركية حتى أن البعض صار يجعلهم من قبائل الترك. ويقول مؤرخ المغول رشيد الدين فضل الله الهمذاني (وزير قازان) "ومع أن الأتراك والمغول وشعبهم يتشابهون، وأطلق عليهم في الأصل لقب واحد، فإن المغول صنف من الأتراك، وبينهم تفاوت واختلاف شاسع" جامع التواريخ المجلد الثاني. الجزء الأول (ص: 2 1 2) ، وانظر الكامل (2 1/ 361) ، ودائرة المعارف الإسلامية (4/576) ، ودائرة معارف وجدى (2/538) .(1/92)
فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا " (1) . أما السيوطي فقد نقل قائلا: " هو حديث يأكل الأحاديث وخبر يطوي الأخبار، وتاريخ ينسى التواريخ، ونازلة تصغر كل نازلة، وفادحة تطبق الأرض وتملؤها ما بين الطول والعرض " (2) .
وقد كان هؤلاء التتار قبائل متفرقة لا تستقر في مكان محدد، بل كانت ظروف البلاد التي يعيشون فيها [ما بين الأراضي الصينية الحارة والباردة في سيبيريا] ، تجعلهم يتنقلون كما يتنقل الرعاة. وفي أواخر القرن السادس الهجري برز فيهم أحد شبابهم الذي استطاع أن يجذب إليه ثقة كبار رجال المغول من عشيرته، ثم القبائل من حوله، فوحد بينها وتوج عليهم ملكا، وكان اسمه " تموجين" فتسمى بعد اختياره امبراطوراً ب- (جنكيزخان) وكان ذلك سنة 602 هـ. وبدأ يرسم لنفسه سياسة التوسع، فاتجه إلى الجنوب لإخضاع الصين، وإلى الغرب لاخضاع دولة الخطا (3) ، وكذا ما حول ذلك من البلاد حتى أصبحت دولة المغول متاخمة للدولة الخوارزمية في إيران (4) . وحتى- نتجنب التوسع الذي ربما تفرضه أحداث هذه الفترة- نوضح الكلام حول المغول بما يلي:-
أ- بلغت الدولة الخوارزمية (5) التي قامت وتوسعت بعد السلاجقة- أوج اتساعها في عهدعلاء الدين خوارزم شاه وابنه جلال الدين منكبرتي، وقدكان لهؤلاء
_________
(1) الكامل (12/358) .
(2) تاريخ الخلفاء (ص: 741) .
(3) الخطا بكسر الخاء وفتح الطاء مجموعة من القبائل المغولية وغيرها كونوا لهم دولة في تركستان سنة: 519 هـ قضى عليهم جنكيزخان سنة: 615 هـ وكانت دولة وثنية. انظر صبح الأعشى (4/483) ، وكتاب الدولة الخوارزمية والمغول (ص: 46) وما بعدها.
(4) انظر: تاريخ الخميس (2/367-368) ، الكامل (2 1/ 1 36) وما بعدها، سيرة السلطان جلال الدين للنسوى (ص: 38) وما بعدها، والدولة الخوارزمية والمغول (ص: 108-114) .
(5) تنسب الدولة الخوارزمية إلى نوشتكين أحد الأتراك في بلاط ملكشاه السلجوقي، ثم اشتهر ولده محمد الذي عين حاكم على خوارزم ولقب خوارزم شاة، وبدأت هذه الدولة في التوسع، وصار صراع بينها وبين السلاجقة الذين تفرقوا وانهارت دولتهم بمقتل طغرلبك بعد معركة قرب الري سنة 590 هـ =(1/93)
دور عظيم في مقاومة المغول، وإلحاق الهزائم بهم أحيانا، مما كان سببا في تأخير هجوم المغول على بغداد، ثم بلاد الشام. وهؤلاء وإن كان مؤرخو الإسلام ينتقدون ما كانوا يقومون به من القتل والسبى إلا أنهم يذكرون لهم ما قاموا به وبذلوه في حرب التتار (1) . حتى إنه لما قتل السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سنة 628 هـ دخل جماعة على الملك الأشرف موسى- صاحب دمشق (2) فهنأوه بموتهـ لما كان بينهما من العداوة- فقال الأشرف: تهنئوني بموته وتفرحون، سوف ترون غبه، واللة لتكونن هذه الكسرة سببا لدخول التتار إلى بلاد الإسلام. ما كان الخوارزمي إلا مثل السد الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج " (3) . وكان كما قال، فإنه لما قضى على الدولة الخوارزمية تهيأ التتار لاجتياح بغداد.
ب- قضى التتار- بقيادة هولاكو الذي عهد إليه أخوه قيادة الحملة إلى إيران- على الاسماعيلية المتمركزين في حصونهم في إيران وكان ذلك سنة 654 هـ، وقد كان هؤلاء الباطنيون يراسلون المغول ويحضونهم على القضاء على الخوارزميين ويدلونهم على عوراتهم. ولكن المغول يعرفون حقيقة هذه الطائفة وفسادها وأساليبها في حرب أعدائها، فلم يعبأوا بتلك العلاقات، بل سارعوا إلى القضاء عليهم حتى لا يكونوا شوكة في ظهورهم وهم سائرون إلى بغداد (4) . ومما تجدر ملاحظته أن نصير الدين الطوسى كان مقيما عند الاسماعيلية لما هاجمهم هولاكو، لكنه خرج سالما لممالأته له بل أدخله في خدمته واستوزره
_________
= فسيطروا على العراق العجمى، وتقلدوا الحكم رسميا من الخليفة العباسي. انظر الكامل (12/106) ، والعبر لابن خلدون (5/94) ، وزبدة التواريخ للحسيني (ص: 311-314) ، وانظر: الدولة الخوارزمية والمغول (ص: 17-33) .
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (22/328) ، والعبر (3/198، 202-203) .
(2) ترجمته في سير أعلام النبلاء (22/122) .
(3) النجوم الزاهرة (6/277) .
(4) دول الاسلام للذهبي (2/158) ، وسير أعلام النبلاء (23/ 180) ، وجامع التواريخ، المجلد الثاني، الجزء الأول (ص: 250-257) ، وانظر كتاب " مؤرخ المغول الكبير: رشيد الدين الهمذاني، تأليف: فؤاد الصياد (ص: 28- 31) ، وانظر الحركة الصليبية (12/062 1) .(1/94)
لما علم هولاكو اخلاصه ونصحه (1) .
ب- لما قضى التتار على الدولة الخوارزمية، وعلى الإسماعيلية اتجهوا إلى بغداد. وقد وقعت في سنة 655 هـ فتنة مهولة ببغداد بين أهل السنة والرافضة وقتل عدد من الفريقين، ونهب الكرخ- موطن الرافضة وذوي ابن العلقمى- فحنق ابن العلقمي (2) وزير المستعصم وكاتب التتار وأطمعهم في العراق، وعمل على تهيئة الأجواء فسرح جند الخلافة فلم يبق منهم إلا القليل، وحجب عن الخليفة الرسائل التي ترد إليه من صاحب الموصل وغيره، وبذلك تهيأت الأجواء لهؤلاء التتار، فجاءوا وأحاطوا ببغداد سنة 656 هـ فخرج إليهم ابن العلقمى واستوثق لنفسه من هولاكو، فرجع هو ونصير الدين الطوسى- وهما رؤوس الرافضة الخبثاء- إلى بغداد ليكملوا بقية دورهم في تخذيل الناس والخليفة بأساليب خادعة- حتى لا يبقى في وجه التتار مقاومة تذكر، يقول صاحب ذيل مرآة الزمان: " وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي عن دجلة وهو البر الذي فيه مدينة بغداد ودور الخلافة، وضرب سورا على عسكره، وأحاط ببغداد، فحينئذ أشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة بمصانعة ملك التتر ومصالحته، وسأله أن يخرج إليه في تقرير ذلك، فخرج وتوثق منه لنفسه ثم رجع إلى الخليفة وقال له: إنه قد رغب أن يزوج ابنته من ابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى سلطان الروم في سلطنة الروم، لا يؤثر إلا أن يكون الطاعة له، كما كان أجدادك [مع] السلاطين السلجوقية، وينصرف بعساكره عنك فتجيبه إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد، وحسن له الخروج إليه
_________
(1) جامع التواريخ (م 2 ج 1ص: 257) ، وانظر حول علاقته ووزارته لهولاكو الوافي (1/179) ، وفوات الوفيات (3/246) ، والبداية والنهاية (13/ 1 20) ، وذيل مرآة الزمان (1/85-86) ، وانظر مجمرع الفتاوى لابن تيمية (35/142) .
(2) هو: محمد بن محمد بن علي العلقمي، كان وزيرا للمستعصم، وكان رافضيا خبيثا، وكان من نيته لما اتصل بالتتار أن يقيم دولة رافضية في بغداد، فلم يتحقق له ما أراد، بل لقى أشد الاهانة من التتار فهلك غما وهما وكمدا في نفس هذا العام 656 هـ. انظر الوافي (1/184) ، وشذرات الذهب (5/272) ، والبداية والنهاية (13/ 212) .(1/95)
فخرج في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا عقد النكاح فيما أظهره، فخرجوا فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة " (1) وقتل المستعصم قيل: إنه رفس حتى مات، "وبقى السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوما، فأقل ماقيل: قتل فيها ثمانمائة ألف نفس، واكثر ما قيل بلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف، وجرت السيول من الدماء فإنا لله وإنا إليه راجعون" (2) ولم ينج من بطشهم في بغداد إلا الرافضة وأهل الذمة (3) ، كا لم ينج من بطش النصارى لما فتحوا بيت المقدس إلا أتباع الدولة الفاطمية وولاتها على بيت المقدس.
وهكذا فضي على الخلافة العباسية، وأصبح العالم الإسلامي بلا خلافة - وكان للأساليب الوحشية التي قام بها التتار في قتل المسلمين آثار نفسية شديدة على بقية المسلمين بحيث أصبح ذكر التتار يثير الرعب في النفوس، وغلب على الناس مقولة: إن التتار لا يغلبون. وسارع الأمراء في الشام كصاحب الموصل وصاحب حلب وكذا سلاطين سلاجقة الروم- إلى إعلان الولاء لهولاكو وتهنئته بفوزه على الخليفة في بغداد (4) .
د- اتجه المغول بعد ذلك إلى الشام لاحتلاله، وكان يقتسمه النصارى من الفرنج، والأرمن، والأمراء الأيوبيون. وكان أول عمل عمله التتار عقد التحالف مع النصارى في أرمينية وأنطاكيا ضد الأمراء الأيوبيين وضد المماليك فيما بعد (5) . ثم ساروا إلى الشام والجزيرة فاحتلوا ميافارقين ثم ماردين (6) ،
_________
(1) ذيل مرآة الزمان لليونيني (1/88-89) .
(2) سير أعلام النبلاء (23/181) .
(3) انظر: البداية والنهاية (13/2 0 1) ، والحركة الصليبية (2/067 1) .
(4) انظر: في سقوط بغداد- وأحداثها المروعة- غير ما سبق: العبر للذهبي (3/277) ، ودول الإسلام (2/159) وشذرات الذهب (5/ 270) ، والنجوم الزاهرة (7/47) وما بعدها، والسلوك (ج 1 ق 2 ص:409) .
(5) كان لهولاكو زوجة مسيحية، وكان لها دور في الصلات بين التتار والنصارى، وقد اشترك عدد كبير من الأرمن والنساطرة في جيش هولاكو لما هاجم بغداد ولم يكونوا أقل قسوة ووحشية من التتار أنفسهم. انظر الحركة الصليبية (2/1060،1067،1075) وما بعدها.
(6) انظر: الامارات الأرتقية في الجزيرة والشام- عماد الدين خليل (ص: 327-332) .(1/96)
كمااحتلوا نصيبين وحران والرها، وفي سنة 658هـ هاجموا حلب وقتلوا فيهاخلقا كثيراحتى امتلأت الطرقات بالقتلى وأسروا النساء ونهبوا الأموال. وأحرق النصارى الجامع الكبير فيها (1) ثم في نفس هذه السنة أخذ التتار دمشق، وصار لحلفائهم النصارى صولة وجولة، وتقدموا بالهدايا لهولاكو وعملوا أعمالا منكرة، من ذلك أنهم حملوا الصليب فوق الرؤوس وهم ينادون بشعارهم: ظهر الدين الصحيح دين المسيح ويذمون دين الإسلام وأهله، بل ألزموا المسلمين بالقيام في دكاكينهم للصليب وأهين القضاة والفقهاء لما جاءوا يشكون إلى متسلمها النصراني (2) .
ثم رجع هولاكو إلى الشرق لما علم بوفاة أخيه وكان ذلك سنة 658 هـ بعد أن أقام له نائبا معه جيش قوامه عشرة آلاف من التتار وكان ذلك بضغط من النصارى الذين كانوا يأملون في استرداد بيت المقدس من المسلمين (3) .
وقد واصل التتار زحفهم إلى بقية بلاد الشام فاحتلوا الخليل وغزة وبذلك أصبحوا على مشارف مصر.
هـ- في هذه الأجواء التى عاشها العالم الإسلامي انقرضت دولة الأيوبيين ونشأت دولة المماليك، وكان السلطان وقت سقوط بغداد: المنصور نور الدين على بن المعز أيبك، وكان صبيا صغيرا، فلما ظهر الخطر المغولي خاصة بعد احتلالهم الشام رأى المماليك أن السلطان صبى لا يستطيع تدبير المملكة، ومن ثم أعلن السلطان قطز (4) سلطانا سنة 657 هـ، وقد أرسل هولاكو - قبل رجوعهـ رسالة إلى الملك المظفر ملؤها التهديد والوعيد والغطرسة وفيها يطلب منه
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (13/218) ، والنجوم الزاهرة (7/74-76) ، والسلوك (ج 1 ق 2 ص: 422) ، وذيل مراة الزمان (1/349) .
(2) انظر: البداية والنهاية (9/13 21) ، والنجوم الزاهرة (7/76) ، والسلوك (ج 1ق 2ص: 423- 425) .
(3) السلوك (ج 1 ق 2 ص: 427) ، مؤرخ المغول (ص: 51) .
(4) هو: الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزى، يقال: أنه بن أخت خوارزم شاه، جلال الدين- آخر ملوك الدولة الخوارزمية الذين قاوموا التتار في المشرق- قتل الملك المظفر بعد وقعة عين جالوت في 16 ذو القعدة سنة: 658 هـ. ذيل الروضتين (ص: 210) ، وسير أعلام النبلاء (23/ 200) ، والدليل الشافي (2/544) .(1/97)
الخضوع لسلطة المغول الذين لا تقف أمام قوتهم وسيوفهم أية قوة- كما يزعم-. وقد عقد السلطان مجلسا استشار فيه الأمراء، وبعد مداولات قرروا أنه لا مفر من الجهاد في سبيل الله ومقاومة التتار، وكان للملك المظفر دور في الخروج بهذه النتيجة، وأعلن الجهاد في سبيل الله في القاهرة وبقية أقاليم مصر، وأخذ يجمع المال اللازم للجهاد (1) . ولما تكامل العسكر طلب من الأمراء الرحيل فتلكأوا. ولكن الملك المظفر قال لهم: " وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين " (2) . وسار السلطان وقال: أنا ألقى التتار بنفسي فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا معه وسار الجيش إلى غزة ثم تقدم عن طريق الساحل فمر على عكا- وقد أوقع الله الخلف بين المغول والنصارى (3) - فلم يتعرض النصارى للمسلمين بل استقبلوهم وفرحوا بمقدمهم- وتجمعت الجيوش في عين جالوت (4) ،
وجرت تلك المعركة المشهورة، التى انتصر فيها المسلمون على التتار انتصارا ساحقا، وهزم التتار شر هزيمة، وقتل قائدهم، وطاردهم المسلمون يقتلونهم في كل مكان إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وفر منهم من كان بدمشق فتبعهم المسلمون يطاردون فلولهم، ودقت بشائر النصر في قلعة دمشق وغيرها وفرح المسلمون فرحا شديدا وكبت الله اليهود والنصارى ومن مالأ التتار من المنافقين. ودخل الملك المظفر قطز دمشق في موكب عظيم ثم أخضع بقية الشام الذي كان بأيدي الأيوبيين، فصفا الشام لحكم المماليك.
_________
(1) كان للعز بن عبد السلام موقف عظيم، إذ أنه عارض أن يجبى شىء من المال من عامة الناس إلا بعد أن يحضر السلطان والأمراء ما عندهم وما عند حريمهم من المال والحلى، وإذا لم تكف جاز أن يقترض من أموال التجار وأن يفرض ضرائب على الرعية. النجوم الزاهرة (7/72) ، وطبقات السبكى (8/215) ، وكتاب العز بن عبد السلام: رضوان الندوى (ص: 49 ا- 151) .
(2) السلوك (ج1 ق 2 ص: 429) .
(3) انظر: أسباب ذلك وظروفه في كتاب الحركة الصليبية (2/1075) وما بعدها.
(4) بلدة من أعمال فلسطين تقع في الشمال الغربي من بيسان، فهى بينها وبين نابلس، معحم البلدان (4/177) ، الموسوعة الفلسطنية (3/368) ..(1/98)
كان لهذه المعركة أثر عظيم في نفوس المسلمين في كل مكان، وقد عبر عن مدى الفرح والتأثر بنتائجها مؤرخو الإسلام الذين ذكروا هذه المعركة حتى قال صاحب المختصر: " وتضاعف! شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الاسلام ولأنهم ما قصدوا إقليما إلا فتحوه ولا عسكرا إلا هزموه فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم " (1) . كما كانت هذه المعركة بداية تحول في التاريخ الإسلامي فبرزت سلطة المماليك كدولة كبرى، كما مهدت للقضاء على الصليبيين، ولعل من أهم آثارها ظهور تغير عند التتار أنفسهم وتحول بعضهم إلى الإسلام.
و مسألة تأثر التتار واعتناق بعضهم الإسلام تحتاج إلى تفصيل، لأن بعض التتار- من أبناء عم هولاكو- دخلوا في الإسلام قبل معركة عين جالوت ولذلك يمكن توضيح هذا الأمر كما يلي:
أ- قسم جنكزخان مملكته بين أولاده، فكان من نصيب أحدهم وهو جوشى أكبر أبنائه؛ البلاد الواقعة بين نهر أرتش والسواحل الجنوبية لبحر قزوين، وكانت تلك البلاد تسمى القبشان، ويطلق عليها اسم القبيلة الذهبية- نسبة إلى خيام معسكراتها ذات اللون الذهبي- فلما مات جوشى خلفه أحد أولاده الذي تلقب بخان القبائل الذهبية ثم تولى بعده ولده، ثم تولى بعده بركة خان سنة 654 هـ (2) ، وكان بركة هذا مسلما لذلك عمل على نشر الاسلام بين قبيلته وأتباعه، وأظهر شعائر الإسلام واتخذ المدارس وأكرم الفقهاء وكان يميل إلى المسلمين ميلا شديدا. وقد بدا هذا في ظاهرتين:
أولاهما: محاربته لابن عمه هولاكو، خاصة بعد استيلائه على بغداد وقتله
_________
(1) المختصر لأبي الفداء (3/205) ، وانظر في هذه المعركة: الروض الزاهر (64) ، وبدائع الزهور (ج 1 ق اص: 306) ، وذيل مراة الزمان (1/360) ، والبداية والنهاية (13/ 0 22) ، والعبر للذهبي (3/288) ، وحسن المحاضرة (2/39) ، والنجوم الزاهرة (7/78) ، وانظر قيام دولة المماليك: أحمد مختار العبادي (ص: 158) وما بعدها.
(2) انظر: السلوك (1/394-395) ،- حاشية- ودولة بني قلاوون في مصر (ص: 217) .(1/99)
للخليفة، وقد ظهرت بينهما خصومات ومعارك. وقد أقلق موقفه وإسلامه الطاغية هولاكو الذي اتجه إلى محالفة المسيحين ضد بركة وحلفائه.
ثانيهما: دخوله ومن جاء بعده في حلف سلاطين المماليك، الظاهر بيبرس، والناصر قلاوون وغيرهما، وقد توطدت العلاقة بين هاتين الدولتين، خاصة بعد المصاهرة التي تمت بينهم، وتبادل الرسل والهدايا، ومواجهتهم لعدو مشترك هم التتار الكفار (1) .
2- أما دولة المغول الكبرى في إيران وما جاورها والتي منها انطلقت جحافلهم لغزو العراق والشام فقد حدث في عام 680 هـ أن أسلم أحد أولاد هولاكو وهو السلطان تكودار بن هولاكو الذي تسمى بعد إسلامه باسم أحمد، فصار اسمه: أحمد بن هولاكو، وقد أعلن إسلامه في منشور أصدره لما جلس على العرش ووجهه إلى أهل بغداد، كما أرسل رسالة إلى السلطان المنصور قلاوون يعلن اهتداءه إلى الإسلام، ويدعو إلى المصالحة ونبذ الحرب، ولم يتخل- كما هو واضح من رسالته هذهـ عن افتخاره واستعلائه على سلطان المماليك، وقد رد عليه السلطان قلاوون، ثم تبودلت الرسائل بينهم، ولكن لم تكن العلاقات بينهم جيدة كما يظهر من صيغة الرسائل المتبادلة. ومما يجدر ذكره أن السلطان أحمد دخل لوحده في الإسلام، ولم يستطع أن يفرضه على أتباعه ولا على أمراء المغول من حوله، فصار دخوله في الإسلام فرديا، وهذا ما يفسر سرعة القضاء عليه وقتله من جانب منافسيه من أمراء المغول الذين تآمروا عليه فقتلوه سنة 683 هـ (2) .
_________
(1) انظر إضافة إلى المصدرين السابقين: المنهل الصافي (3/349) ، والبداية والنهاية (13/249) ، والنجوم الزاهرة (7/222) ، وذلك في ترجمة بركة خان وإسلامه، وقد وقع خلاف في تاريخ (سلام بركة، هل كان بعد توليه الملك سنة: 654 هـ، أو قبل ذلك بكثير. ولعل الثاني أرجح، وقد توفي سنة 665 هـ، وانظر الوافي (10/117) ، والعبر (3/312) .
(2) انظر تذكرة النبيه (1/90) ، تشريف الأيام والعصور (ص: 4- 71) وفيه نص المراسلات بين السلطان أحمد والسلطان قلاوون، وانظر جامع التواريخ (2/86-92) ، والوافي (8/227) ، والمنهل الصافي (2/254) ، ومؤرخ المغول (ص: 60) ، ومما ينبغي ملاحظته أن محيي الدين ابن عبد الظاهر ذكر أن الشيخ عبد الرحمن الذى أرسله السلطان أحمد رسولا من قبله كان هو المشير على السلطان أحمد بالإسلام وإن ذلك كان خديعة ومكرا حتى يطمئن إلى هذه الجهة ويكتفي أمر السلطان ويتفرغ =(1/100)
3 - في سنة 693 هـ تولى محمود قازان عرش المغول، ثم في سنة 694هـ دخل في الإسلام، يقول الذهبي عن هذه السنة: " وفيها دخل ملك التتار غازان ابن أرغون في الإسلام وتلفظ بالشهادتين بإشارة نائبه نوروز، ونشر الذهب واللؤلؤ على رأسه، وكان يوما مشهودا، ثم لقنه نوروز شيئا من القرآن، ودخل رمضان فصامه، وفشا الإسلام في التتار " (1) ، وقد أعلن غازان الإسلام دينا رسميا للدولة المغولية في إيران، كما غير المغول زيهم فلبسوا العمامة، كما أمر بتدمير الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، والأصنام البوذية، كما أمر أهل الذمة بأن يتميزوا بلباس خاص بهم. وهكذا اختلف إسلام قازان عن إسلام السلطان أحمد بأن إسلامه لم يكن فرديا وإنما حوله إلى دين رسمي للدولة.
لكن هذه الصورة التي قد تبدو جميلة سرعان ما تتغير حين يتابع المرء الأحداث التي تمت في عهد هذا السلطان، فقد هاجم وجيشه الشام مرات ودارت بينهم وبين أله الشام - ومعه سلاطين مصر- معارك كبيرة، وانتصر المغول في أولاها وهزموا فيما تلاها، وقد عاث الجيش التتري فسادا في الأرض وفعلوا - كما قال ابن تيمية لقازان نفسه لما التقى بهـ ما لم يفعله أسلافه من حكام التتار الوثنيين. وقد بقيت الأمور على هذه الحال إلى ما بعد وفاة غازان سنة703هـ (2) .
وقد كان التتار يقدسون دستورهم الذي وضعه لهم جنكيز خان، وكان يسمى إلياسا أو اليساق وكانوا يتحاكمون إليه - وسيأتي عرض هذا الموضوع إن شاء الله - وبعد إسلامهم لم يتركوا التحاكم إلى هذا الدستور، فأوقع إسلامهم ونطقهم بالشهادتين شبهة لدى كثير من الناس - وفيهم بعض العلماء - حول جواز قتالهم وهم على هذه الحال. وقد حسم ذلك ابن تيمية - كما سيأتي.
_________
(1) = لقتال قومه. انظر تشريف الأيام (ص: 48) ، والسلطان أحمد قتل ولم يجر بينه وبين المسلمين قتال. فالله أعلم بحقيقة الحال. انظر العبر (3/ 352) .
(1) دول الإسلام (2/ 196) .
(2) انظر فيما سبق وفي ترجمة قازان: شذرات الذهب (6/9) ، وذيول العبر (ص:9) ، والنجوم الزاهرة (8/212) ، والبداية والنهاية (14/29) ، وانظر مؤرخ المغول (ص: 70) وما بعدها. ووثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي (ص: 83) .(1/101)
4- بعد وفاة قازان تولى من بعده أخوه أولجاتيو، خدابنده، وصار اسمه محمد بن أرغون، وقد تولى عرش المغول سنة 703 هـ إلى سنة 716 هـ، وقد بدأ عهده بتحسين العلاقة مع سلطان المماليك، فأرسل إليه هدية وكتابا خاطب فيه السلطان بالأخوة " وسأله إخماد الفتن، وطلب الصلح، وقال في آخر كلامه: عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه، فأجيب، وجهزت له الهدية، وأكرم رسوله " (1) .
ولكن لم يكد يمضي سنة من توليه سلطة المغول حتى حدث تحول خطير عند محمد بن أرغون هذا، فقد اعتنق مذهب الشيعة، وعمل على نشره في الجهات الغربية من دولته حتى إنه غير الخطة وأسقط اسم الخلفاء سوى علي - رضي الله عنهـ، وأظهر عداءه للمماليك السنيين، وطلب من النصارى أن يساعدوه ضدهم، ثم هاجم الشام سنة 712 هـ (2) .
ومما ينبغي ملاحظته أن تشيع هذا السلطان كان بتأثير من أحد كبار الرافضة وهو ابن المطهر الحلي الذي صارت له منزلة كبيرة في عهده، وقد أقطعه عدة بلاد (3) ، ولعل نفوذ وشهرة هذا الرافضي- وهو صاحب كتاب منهاج الكرامة- دعا ابن تيمية-رحمه الله- إلى إفراد الرد على كتابه هذا بكتابه العظيم: " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ".
وقد استمر سلطان المغول على تشيعه حتى مات، ثم تولى ابنه أبو سعيد- وهو صغير- الذي لعب كثير ممن حوله به، ثم لما كبر مال إلى العدل وإقامة السنة وإعادة الخطبة بالترضي عن الشيخين ثم عثمان ثم علي- وفرح الناس بذلك (4) .
هذه خلاصة تاريخ المغول، وما يتعلق منه بأحوال العصر الذي عاش فيه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد كانت له جهود عظيمة في صد هذا الخطر الزاحف، كما كانت له مواقف عظيمة منهم.
_________
(1) السلوك (خ 2 ق اص: 6) .
(2) انظر: الوافي (2/85) ، وتاريخ ابن الوردي (2/377) ، والسلوك (2/159) ، والنجوم الزاهرة (9/238) ، والدرر الكامنة (3/468) ، ودولة بنى قلاوون في مصر (ص: 03 2-4 0 2) .
(3) البداية والنهاية (14 / 77) .
(4) البداية والنهاية (14 / 77) .(1/102)
ثالثا: المماليك:
أ- نشأتهم وأشهر سلاطينهم:
عاصر ابن تيمية دولة المماليك، التي امتدت من سنة 648 هـ إلى سنة 923 هـ لما سقطت مصر بأيدي العثمانيين.
أما أصل التسمية بالمماليك فالمعروف أن " المملوك عبد يباع ويشترى، غير أن التسمية اقتصرت في معظم الدول المتأخرة على فئة من الرقيق الأبيض يشتريهم الحكام من أسواق النخاسة البيضاء لتكوين فرق عسكرية خاصة في أيام السلم، وإضافتها إلى الجيش أيام الحرب، ثم صار المملوك الأداة الحربية الوحيدة في بعض الدول مثل دولة المماليك في مصر والشام " (1) .
ويعتبر المأمون العباسي [خلافته 198-218 هـ، أول من استخدمهم، خاصة وأن كثيرا منهم كان يؤتى بهم إليه هدايا من الأمراء التابعين له في المشرق ولكن استخدام المماليك كقوة عسكرية يعتمد عليها الخليفة برز في عهد المعتصم [خلافته 218-227 هـ] فقد أراد أن يحمي نفسه بجيش من جند الترك بعد أن فقد ثقته بجنده من العرب والفرس (2) .
بعد ذلك أصبح استخدام المماليك- كجند وجيش وحماة للسلطة- أمرا مألوفا في الدول التي جاءت بعد ذلك سواء ضمن دائرة الخلافة العباسية أو انفصلت عنها، فأحمد بن طولون [مما يلاحظ أن أباه طولون كان من مماليك المأمون أهداه إليه أمير بخارى سنة 200 هـ وكان من الترك] مؤسس الدولة الطولونية في مصر والشام [254-292 هـ] والذي أعلن استقلاله عن الدولة العباسية استخدم عشرات الآلاف من المماليك من الترك والديلم [سكان جنوب بحر قزوين] والمرتزقة (3) . وكذلك الأخشيديون لما أسسوا دولتهم في مصر والشام سنة [323-358 هـ] جعل محمد بن ظغج [323-335 هـ] جيشه
_________
(1) قيام دولة المماليك (ص: 11) .
(2) انظر: تشريف الأيام والعصور (ص: 35) من مقدمات المحقق.
(3) انظر: الخطط للمقريزيى (1/ 91) .(1/103)
من الأتراك الذين بلغوا مئات الألوف (1) . ومثلهم فعل الفاطميون [297-567 هـ] لما استولوا على مصر سنة 358 هـ أضافوا إلى جيوشهم - التى كانت مكونة من المغاربة- أتراكا وأكرادا وديلما وسودانا وغيرهم (2) . وكذلك الأيوبيون [569- 650 هـ] اكثروا من استخدام المماليك، لكن الملك الصالح نجم الدين أيوب [637-647 هـ] اشتهر بأنه استكثر من مماليك الترك، وبنى لهم الثكنات في القلعة التى أنشأها سنة 638 هـ، ولذلك ينقل الذهبي عن ابن واصل أنه " اقتنى من الترك ما لم يشتره ملك، حتى صاروا معظم عسكره، ورجحهم على الاكراد، وأمر منهم وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه، وسماهم البحرية" (3) ، وهؤلاء المماليك البحرية (4)
الذين حكموا على أثر إنقراض الدولة الأيوبية، ونجم الدين أيوب هو زوج شجرة الدر (5) التي تولت السلطنة بعد ولده توران شاه الذي تولى بعد أبيه ثم قتلته شجرة الدر، وتولت بعده وكان ذلك سنة 648 هـ ولكن توليها لم يكن مقبولا، فقد اعترض عليه بعض العلماء منهم العز بن عبد السلام، وكذلك الخليفة العباسي الذى أرسل
_________
(1) المصدر السابق- نفس الصفحة، وانظر النجوم الزاهرة (3/ 51) .
(2) انظر: الخطط (1/ 91) .
(3) سير أعلام النبلاء (23/191-92 1) ، وانظر شفاء القلوب (ص: 375، 380) ، والمختصر لأبي الفداء (4/179) .
(4) يرى الذهبي أنهم سموا بذلك " لكون التجار جلبوهم في البحر من بلاد القفجاق " السير (23/192) . وهذا ما يرجحه العبادي في كتابه: قيام دولة المماليك (ص: 99) ، وكذا يوسف غوانمه في كتابه: التاريخ السياسى لشرق الأردن في العصر المملوكي (ص: اه) . " وهو الذى نبه إلى نص الذهبي من مخطوطة السير قبل طباعتها. أما الرأي الآخر الذي يذكره أغلب الدارسين لهذا العصر فهو أنهم سموا بالبحرية نسبة إلى جزيرة الروضة- على نهر النيل- التي أسكنهم نجم الدين أيوب فيها لما استقدمهم، انظر مثلا: عاشور: مصر والشام في عصر الأووبيين والمماليك (ص: 153) ، وانظر ماجد: نظم دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر: النظم السياسية (ص: 10) وانظر مراد كامل: مقدمة تشريف الأيام والعصور (ص: 36) . وقد امتدت دولة المماليك البحرية إلى سنة: 792 هـ، ثم جاءت دولة المماليك الجراكسة أو البرجية لأن ثكناتهم كانت في قلعة القاهرة وامتد حكمهم إلى سنة: 923 هـ..
(5) كانت من مماليك نجم الدين أيوب، ولذلك يرى بعضهم أن حكمها كان بداية حكم المماليك، انظر: ترجمتها في بدائع الزهور (1/1/ 286) ، والسلوك (1/ 361) ، والسير (23/98 1-99 1) ضمن ترجمة المعز.(1/104)
إلى أهل مصر كتابا يعاتبهم في ذلك ويقول: إن كان ما بقي عندم رجل تولونه فقولوا لنا نرسل إليكم رجلا (1) وقد وصل خطاب الخليفة هذا إلى المماليك بعد أن مضى على تولي شجرة الدر ثمانون يوما اقتنع أمراء المماليك بخطئهم وقالوا: لا يمكن حفظ البلاد والملك لامرأة، فأشاروا على شجرة الدر أن تتزوج كبير المماليك وهو الأتابك أبيك التركماني وتتنازل له عن العرش، فقبلت ذلك وخلعت نفسها من السلطنة، فتولى عز الدين أيبك هذا سنة 648 هـ، وبذلك قامت دولة المماليك في مصر (2) .
وقد عاصر ابن تيمية سلطنة عدد من المماليك بلغوا عشرة خلال فترة حياته وقد برز منهم أربعة:
الأول: الظاهر ركن الدين بيبرس [658-676 هـ] الذي تولى بعد وقعة عين جالوت وقتله للملك المظفر قطز، وتعتبر ولايته البداية الحقيقية لسلطة المماليك كحكام قاموا وعملوا على صد المغول ومقاومة الصليبيين عن بلاد الشام ومصر. وقد تميز عهده بمايلي:
أ- مقاومة وصد العدوان المغولي على الشام.
2- مقاومة وحرب الصليبيين في بلاد الشام وتطهير بعض المدن من رجسهم-كما تقدم-.
3- إعادة وإحياء الخلافة العباسية في مصر سنة 659 هـ.
4- وفي ما يتعلق بالقضاء تميز عصره ببداية تولية أربعة قضاة للمذاهب الأربعة (3) بدل قاض واحد كما كان في السابق، وكان ذلك سنة 663 هـ
_________
(1) بدائع الزهور (11 / 287) ، والسلوك (1 / 368) ، وحسن المحاضرة (2 / 36) ، والعز ابن عبد السلام للوهيبي (ص: 24- هـ 2) .
(2) ليست هذه أول دولة للمماليك، بل سبق أن أسسوا دولة لهم في الهند في دلهي سنة 602 هـ وامتدت إلى سنة 962 هـ، وأول ملوكهم ايلتش الذى إعترف به الخليفة العباسي في بغداد سلطانا، ومن الطريف ونحن نشير إلى شجرة الدر- أنه بعد وفاة إيلتمش سنة 634 هـ تولت ابنته السلطة على عرش دهلى فحكمت إلى سنة: 638 هـ فاعترض على سلطتها وقتلت. انظر قيام دولة المماليلث (ص: 29-31) ، ومعجم الأسر الحاكمة (2/598) ، ورحلة ابن بطوطة (2/486-487) .
(3) سبق في سنة: 525 هـ زمن الدولة الفاطمية أن عين أربعة قضاة لكنهم: شافعي، ومالكي،=(1/105)
أما سبب ذلك:
أ- فقيل إنها بادرة من السلطان نفسه وإنه نظر " في كثرة الناس وإن القاهرة هى دار الملك، وقد جمعت أهل المذاهب من العلماء فأمر بنصب أربعة قضاة نوابا لقاضى القضاة تاج الدين " (1) .
ب- وقيل السبب " توقف القاضى تاج الدين ابن بنت الأعز (2) عن تنفيذ كثير من الأحكام ... ، فكثرت الشكاوي منه وتعطلت الأمور فوقع الكلام في ذي الحجة بين يدى الملك الظاهر " (3) فأشار عليه جمال الدين أيدغدي العزيزي بذلك فمال إليه، وعين أربعة قضاة، وأبقى للشافعي النظر في أموال اليتامى وأمور بيت المال، وفي العام التالي فعل مثل ذلك في الشام (4) .
5- ومن الأمور الجليلة التي عملها الظاهر بيبرس، القضاء على الاسماعيلية في بلاد الشام، واحتلال حصونهم حصنا بعد آخر من سنة 668 هـ إلى سنة 671 هـ (5) .
الثاني: المنصور سيف الدين قلاوون، وهو أول السلاطين من أسرة قلاوون التي حكمت فترة طويلة، وقد استمر حكم المنصور من سنة 678 هـ إلى سنة 689 هـ.
_________
(1) = وإسماعيلى، وإمامي. حسن المحاضرة (2/165) ، وانظر الدولة الفاطمية في مصر- سرور (ص:120) .
(1) الروض الزاهر (ص: 182) .
(2) هو: الشيخ عبد الوهاب بن خلف بن بدر العلامي، تاج الدين ابن بنت الأعز ولد سنة: 604 هـ، وتوفي: سنة 665 هـ. طبقات السبكي (8/318) ، وحسن المحاضرة (1/415) ، وذيل الروضتين (ص: 240) ، آخر الكتاب، والنجوم الزاهرة (7/ 222-223) ، وفيه أن ولادته سنة: 614 هـ وهو خطأ- وطبقات الأسنوى (1/147) ، والبداية والنهاية (13/249) .
(3) المنهل الصافي (3/466) ، ووضعت ترجمة القاضى تاج الدين في الحاشية خطأ فهي ليست له.
(4) انظر أيضا: طبقات السبكي (8/319) ، والعبر (3/307) ، ودول الاسلام (12/68) ، وصبح الأعشى (1/ 419) ، وطبقات الأسنوى (1/149) ، والظاهر بيبرس- عاشور- (ص: 48 1) .
(5) انظر: الروض الزاهر (ص: 365) ، والظاهر بيبرس (ص: 80) .(1/106)
وكان من أبرز ما جرى في عهده:
1- في سنة 678 هـ خرج عليه سنقر الأشقر في الشام، وهجم على القلعة في دمشق وتملكها، وبويع له ولقب بالسلطان الملك الكامل شمس الدين سنقر الصالحي، فأرسل إليه قلاوون جيشا قويا سنة 679 هـ أنزل الهزيمة به ففر سنقر واتصل بالمغول يزين لهم غزو الشام (1) . كذلك حاول بعض الأمراء الظاهرية- من مماليك الظاهر بيبرس- أن يتآمروا على المنصور قلاوون واتصلوا بالصليبيين سرا. ولكن قلاوون علم بهم وعاقبهم (2) .
2- اكثر قلاوون من شراء المماليك، وأنشأ فرقة منهم رباهم في أبراج القلعة وهؤلاء هم المماليك البرجية- والجراكسة- الذين حكموا فيما بعد (3) .
3- وفي عهده بنى المدرسة والبيمارستان- المستشفى- كما استحدثت كثير من الوظائف الديوانية (4) .
4- وفي عهده استمرت مقاومة التتار، ومن أشهر ما وقع في عهده هزيمة التتار في وقعة حمص، وكانت هزيمة ساحقة (5) .
5- أما النصارى فقد صالحهم، ثم نقضوا العهد فقاومهم واستولى على كثير من قلاعهم وحصونهم.
الثالث: السلطان الأشرف صلاح الدين خليل- ابن المنصور قلاوون - وكانت ولايته من سنة 689-693 هـ. ومن أبرز ما جرى في عهده:-
1- فتح عكا سنة 690 هـ، وتصفية الوجود الصليبي في الشام.
2- فتح قلعة الروم سنة 691 هـ وهي قلعة غربي الفرات، وكان أهلها يمالئون التتار ضد المسلمين فكانت بمنزلة الشجى في الحلق (6) .
_________
(1) انظر: السلوك (1/ 676) .
(2) مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك (ص: 195) .
(3) انظر: بدائع الزهور (1/1/362) .
(4) المصدر السابق (1/1/ 348-349، 353) .
(5) انظر: العبر (3/ 342) ، والبداية والنهاية (13/295) .
(6) انظر: البداية والنهاية (13 / 327) ، والسلوك (1 / 778) ، والنجوم الزاهرة (8 / 12) ، ودولة بنى قلاوون (ص: 172) .(1/107)
الرابع: السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وقد كانت سلطته غير مستقرة - خاصة في البداية- فقد تولى وهو صغير، ثم لما تولى السلطة في المرة الثالثة استقر الأمر له، بحيث أصبح من أكثر المماليك استقرارا وقوة وطول مدة. وسلطة الناصر محمد جاءت كما يلي:-
الأولى: من سنة 692 هـ- 694 هـ وكان عمره لما تولى تسع سنوات، ولم يكن له من الأمر شىء، وقد استبد بالأمر في عهده هذا علم الدين سنجر ثم الأمير كتبغا المنصوري الذي تسلطن- بحجة أن السلطان صغير- وتسمى بالعادل، وكانت سلطته سنة 694 هـ، وفي سنة 696 هـ خرج عليه حسام الدين لاجين الذي لقب بالملك المنصور (1) .
الثانية: في سنة 698 هـ- 708 هـ: وأبرز ما في هذا العهد ظهور التتار في الشام وقيام معارك انتهت بانتصار المسلمين، وكان لابن تيمية دور عظيم فيها. ومع ذلك فقد بقي الناصر مضيقا عليه من قبل أمراء المماليك حتى ضاق ذرعا وعزم على الذهاب إلى الكرك، فلما وصل إلى الكرك اضطرب أمر المماليك فأرسلوا إليه أن يرجع فأبى، فزوروا عليه كتابا أنه تنازل عن الملك (2) ، ثم تولى الملك الجاشنكير سنة 708 هـ وتسمى بالمظفر ركن الدين بيبرس الثاني، ولكن كئيرا من أمراء الشام لم يعترفوا به، واضطربت الأحوال في عهده، وأخذ الناصر يعد العدة لاسترداد ملكه وتم له ذلك.
الثالثة: من سنة 609 هـ إلى سنة 741 هـ: وهي فترة طويلة امتدت إلى اكثر من ثلاثين عاما، وفيها صفا له الأمر، واتسعت دائرة حكمه من المغرب غربا حتى الشام والحجاز شرقا، ومن النوبة- في الحبشهـ جنوبا حتى آسيا الصغرى شمالا، كا أنه عنى بالإصلاح الداخلي، وبناء المنشآت من المساجد
_________
(1) يلاحظ أن محنة ابن تيمية حول الحموية التي كانت سنة: 698 هـ إنما كانت في أواخر عهد لاجين هذا. انظر: البداية والنهاية (13/4) .
(2) يرى البعض أنه تنازل، وهذا غير صحيح وقد ناقش هذه القضية بشكل جيد الدكتور يوسف درويش غوانمة في كتابه: التاريخ السياسي لشرقي الأردن في العصر المملوكي (ص: 60 ا-164) .(1/108)
والقناطر والجسور وغيرها (1) .
ومما يلاحظ أن محن ابن تيمية جاءت في عهد الناصر، مع وجود فترات تقوى صلة الناصر بابن تيمية ويتبنى آراءه ويستجيب لمطالبه خاصة ما يتعلق منها بالجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الموقف من أهل الذمة.
وقد تميز عهد الناصر بما يلي:
1- مقاومة التتار الذين هجموا على بلاد الشام، وعاثوا فيه فسادا مع أنهم يعلنون الاسلام وينتسبون إليه.
2- مقاومة الرافضة في بلاد الشام أيضا.
3- العناية بالمنشآت-كما سبق-.
أ- نظام المماليك الإداري:
كتب الكثير عن نظام المماليك الإداري (2) ، ونعرض هنا لنظامهم باختصار شديد:
1- استجد في عهد المماليك كثير من النظم الادارية- التى لم تكن موجودة من قبل- خاصة وأنها كانت دولة يصح أن يطلق عليها بأنها دولة عسكرية، كا أنها قامت على يد المماليك، ويغلب عليهم اللغة التركية.
2- كان رأس المماليك الحاكم السلطان، ويأتي نتيجة لاختيار الأمراء له عندما يكون ذا نفوذ كبير، أو يقوم بقتل من سبقه، ولم تكن الوراثة مبدأ عاما لنظامهم، بل قد يتولى الابن بعد أبيه، وقد لا يتولى. وكان يلقب بالسلطان أو سلطان الاسلام والمسلمين، أو الملك، ومن ألقابه: نصير أمير المؤمنين أو ناصر الملة المحمدية، أو محيي الدولة العباسية- وهذا بعد إحيائها في القاهرة- حيث أصبح السلطان يتقلد الملك بعهد تولية من الخليفة العباسي ومبايعته حتى
_________
(1) انظر: أحداث هذه السنين في كتب التاريخ وخاصة: البد اية والنهاية، والسلوك، والنجوم الزاهرة.
(2) من الكتب القديمة: خطط المقريزي، وصبح الأعشى، ونهاية الأرب للنويري، ومن الحديثة: نظم دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر، في جزأين: عبد المنعم ماجد.(1/109)
تصبح توليته شرعية، ويشهد ذلك كبار القضاة وقد يخطب الخليفة بهذه المناسبة - ولكن يلاحظ أن الخليفة كانت سلطته شكلية- وإذا تولى خليفة جديد أقيمت له حفلة مبايعة كبرى يحضرها السلطان والنواب والقضاة وغيرهم من مختلف طبقات الشعب.
3- يأتي بعد مرتبة السلطان: النائب، وهناك نائب للسلطنة في مصر، ونائب في الشام، وكانت الشام مقسمة إلى عدة نيابات ولكن النائب الأساسى هو الذي يقيم في دمشق، وكان النائب يتولى تعيين الوظائف الديوانية والدينية. أما مرتبة الوزير ففي هذه الحالة- حالة وجود النائب- تصبح في المرتبة الثالثة ويختص عمل الوزير بالشئون المالية، وقد تلغي الوزارة نهائيا ويكتفى بكبار الكتاب.
4- كانت وظائف الدولة المملوكية تقسم إلى ثلاث وظائف: الأقلام ويتعلق بها الوظائف الديوانية، والعلماء: ويتعلق بهم الوظائف الدينية، والسيوف: ويقصد الوظائف الحربية، ويلاحظ تطور الفصل بين الوظائف الدينية وغيرها التى لم يكن في السابق يوجد حد فاصل بينها.
5- كان عماد الدواوين طبقة الكتاب، وكان السلطان يعين كبار الكتاب، وكانت هذه الوظائف يشغلها في الغالب مصريون لا أتراك، وكانوا كثيرا ما يكون من القبط النصارى الذين لهم عناية بمثل هذه الوظائف العزيزة. وكان أهم الأعمال الديوانية ديوان الانشاء وكان رئيسه يسمى كاتب السر، وكان تحته مجموعة من الكتاب الذين يحضرون مع السلطان وينفذون أوامره ونظره في المظا لم، وكان من تحتهم مجموعة من كتاب السجلات الذين يقومون بالمراجعة والتلخيص وكان عمل ديوان الانشاء يختص بأمور ثلاثة لها أهميتها الكبرى وهي: المكاتبات، من السلطان وإليه، والبريد، والنظر في المظا لم.
6- أما الأمور المالية فكان يتولاها الوزير، وكان يشاركه عدة موظفين على رأسهم ناظر الدولة الذي قد يسمى ناظر المال أو ناظر المملكة، وكانت أهم موارد الدولة: الخراج والضرائب من المكوس والعشور وكانت تفرض على الصادر والوارد- ومن الموارد الجوالي- من جالية وهم غير المسلمين-(1/110)
التى تفرض على رؤوس غير المسلمين، ومن الموارد: المعادن والزكاة، وما يتحصل من سك العملة. وغيرها.
7- أما القضاء فكان في يد الشافعية، حتى بعد تولية أربعة قضاة، وكان منصب قاضي القضاة، وما يتعلق به من أمور أخرى كالنظر في الأوقاف، والمحجور عليهم واليتامى والخطابة، والنظر في بيت المال والمدارس.... يتولاه قاض من الشافعية. ثم يأتي بعده. القضاة من المذاهب الأخرى الحنفية والمالكية والحنبلية، وكان لكل مذهب قاضى قضاة، وكان لهم نوابهم في مصر والشام. وكان قاضى القضاة يختار الشهود الذين يسمون الشهود العدول حيث يأتي إليهم أصحاب المعاملات للاشهاد. وكان لقاضى القضاة- الأعلى الشافعى- منزلة كبيرة في الدولة، حتى في تنصيب الخلفاء والسلاطين. وبالإضافة إلى القضاء كان هناك: النظر في المظالم، وكان يتولى النظر فيه السلطان في دار تسمى دار العدل، ثم أصبح ينظر فيه نائب السلطنة أو حاجب الحجاب. وكان أيضا نظام الحسبة، الذين يقومون بالنظر في الأسواق ومنع الغش فيها، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع المنكرات الظاهرة من الدعارة والخمور والتبرج وغيره، كما كان يتولى النظر في أحوال أهل الذمة حتى يتميزوا عن المسلمين بهيئاتهما ولباسهم.
8- كما كان للمماليك نظمهم المتعلقة بالسيف، مثل الشرطة- في الداخل- ومثل النظم الحربية لإدارة الجيوش والجنود، والأساطيل، ولها أنظمتها الدقيقة (1) .
9- وقد انتشر في عهد المماليك دفع الرشوة أو البرطلة، للوصول إلى المناصب، ولذلك أحيانا تصدر الأوامر بأن لا يولى أحد بمال ولا رشوة لأن ذاك يفضى إلى ولاية من لا يستحق (2) .
_________
(1) انظر: نظم دولة سلاطين المماليك للدكتور عبد المنعم ماجد.
(2) انظر: االبداية والنهاية (14/66) ، ويذكر ابن كثير أن سبب صدور هذا الأمر ابن تيمية -رحمه الله-. وانظر كتاب: البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك (ص!: 25) وما بعدها.(1/111)
رابعا: سقوط الخلافة العباسية في بغداد وإحياؤها في القاهرة:
سبق أن أشرنا إلى سقوط الخلافة العباسية في بغداد على يد التتار وذكرنا - فيما سبق- إشارة سريعة إلى إعادتها في القاهرة سنة 659 هـ على يد الظاهر بيبرس (1) . وقد يقول قائل: إذا كانت إعادة الخلافة الإسلامية تحولت إلى إعادة شكلية لأن الأمور كلها- ومنها تحديد الخليفة- بيد السلطان، فما فائدة الاهتمام بهذه المسألة؟. والجواب على ذلك أنه حتى في العهود العباسية المتأخرة أصبحت السلطة كلها بيد الوزراء- مثل بنى بويه، والسلاجقة- ولم يكن للخليفة إلا الاسم، ومع ذلك لما قضي على الخلافة حزن الناس على ذلك وصاروا يذكرون الأمور الهائلة التي جرت وعلى رأسها قتل الخليفة ثم بقاء المسلمين بلا خليفة، ولذلك فبقدر هذا الحزن كان استبشارهم بإحيائها في القاهرة، فالخلافة عند المسلمين رمز للوحدة واتباع شرع الله في تعيين إمام للمسلمين، ولذلك لما قامت الخلافة في القاهرة صار بعض الملوك في الأقاليم البعيدة يرسلون إلى الخليفة يطلبون منه أن يقرهم على ملكهم وأن يكونوا تابعين له حتى يحظوا بالشرعية أمام شعوبهم (2) . ولا شك أن هناك أسبابا دعت المماليك إلى إعادة الخلافة ولعلها تتضح فيما يلي:-
1- أن فكرة إعادة الخلافة- كانت في البداية- على أساس أن الخليفة إذا بويع له فإن مهمته تبدأ بالعودة إلى بغداد وتخليصها من التتار وإعادة الخلافة هناك، والدليل على ذلك شيئان: أولهما: أن بعض الروايات تذكر أن المظفر قطز بايع في الشام الحاكم بأمر الله، وأرسل معه جماعة من أمراء العرب، وأن الخليفة سار وافتتح بعض المدن- جهة العراق- وأنه قاتل التتار وانتصر عليهم، وأن نائب دمشق استدعاه، وأن الظاهر بيبرس- بعد توليهـ استدعاه ولكنه علم أن المستنصر العبايي سبقه إلى القاهرة فلم يذهب إليها ولكن رجع إلى حلب
_________
(1) يذكر السيوطي أن المظفر قطز هو أول من فكر في ذلك وأنه بايع فعلا أبا العباس الحاكم بأمر الله في دمشق- الذي تولى فيما بعد سنة 661 هـ. تاريخ الخلفاء (ص: 760) .
(2) من هؤلاء: محمد بن تغلق، انظر: رحلة بن بطوطة (2/523) ، وانظر: الاسلام والخلافة: علي الخربوطلي (ص: 248-252) .(1/112)
فبويع من هناك وكان ممن بايعه عبد الحليم بن تيمية (1) . أما الثاني: فهو ما قاله الخليفة العباسى المستنصر في خطته الأولى فإنه قال بعد مدحه للظاهر في إحيائه للخلافة العباسية، وبعد حثه على العدل والجهاد في سبيل الله، قال: " وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة إلى ما كان عليه في الأيام الأولى، فأيقظ لنصرة الاسلام جفنا ما كان غافيا ولا هاجعا، وكن في مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابع ... " (2) ومقر الخلافة بغداد، وبعد وقت قصير سار الخليفة والسلطان إلى الشام فلما وصلا إلى دمشق جهز السلطان الخليفة ومعه الأمراء والجند، وسار الخليفة جهة العراق، وكان الظاهر يريد أن يبعث معه عشرة آلاف فارس حتى يستقر ببغداد، ولكن بعض الأمراء أشار إليه أن لا يفعل وقالوا: إن الخليفة إذا استقر أمره ببغداد نازعك وأخرجك من مصر، فلم يخرج مع الخليفة إلا قوة صغيرة لا تتناسب ومستوى المهمة، ولذلك سرعان ما قضى عليه سنة 660 هـ وبعد ذلك عزم الظاهر على إعادة الخلافة مرة أخرى فأعادها سنة 661 هـ، وتولى الخلافة أحمد الحاكم بأمر الله، ولكن بقي الخليفة في القاهرة ولم يسمح له بمغادرتها.
2- ومن الأسباب التى دعت المماليك إلى إحياء الخلافة الاسلامية كونهم مماليك وأن أصلهم غير حر ولعل حادثة بيعهم أيام نجم الدين أيوب على يد العز ابن عبد السلام (3) لم تكن غائبة غن أذهانهم وأذهان الناس- لذلك وحتى يضفوا الشرعية على ملكهم وسلطانهم عمدوا إلى إحياء الخلافة، وأنهم ليسوا إلا تابعين للخليفة. ولما كان شرط القرشية سائدا لم يجرؤ المماليك إلى نسبها إلى أنفسهم وإنما عينوا خليفة عباسيا.
_________
(1) انظر: تاريخ الخلفاء (ص: 760) ، وانظر: النجوم الزاهرة (7/115-116) .
(2) الروض الزاهر (ص: 108) ، والسلوك (1/456) ، وهذه البيعة حضرها القضاة والأمراء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام- الذى يقال: إنه أول من بايع الخليفة- وتاج الدين بن بنت الأعز قاضي القضاة الذى أثبت بشهادة الشهود ثبوت نسب الخليفة إلى بني العباس، وانظر: حسن المحاضرة (2/53) ، والبداية والنهاية (13/231) ، ومما يلحظ أنه في سنة 690 هـ خطب الخليفة العباسي في مصر في إحدى المناسبات أمام السلطان وحض في خطبته على انتزاع العراق من التتار. الخطط (2/381) .
(3) انظر: طبقات الشافعية للسبكي (8/216-217) .(1/113)
3 - وهناك سبب آخر وهو أن بعض الدول المجاورة للمماليك لقبوا أميرهم بلقب الخليفة - بعد سقوط بغداد - ومن أبرز هذه الدول الدولة الحفصية في تونس (1) ، فحرص المماليك على قطع الطريق على أولئك لينالوا وحدهم المفخرة والشرعية فسارعوا إلى إعلان الخلافة عندهم في القاهرة.
وعلى الرغم من ان الخلافة كانت شكلية، إذ ليس للخليفة حول ولا قوة إلا ان هذه الخطوة لم تخل من آثار لعل أهمها:
أ - عودة الخلافة السنية كان بمثابة دعم قوي لما فعله نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي من إزالة الخلافة الفاطمية في مصر وإقامة دولة سنية، والقضاء على الفاطميين وإن كان قد مر عليه زمن طويل إلا أن هناك محاولات عديدة قام بها أفراد أو طوائف باطنية تدين بالولاء للدولة الفاطمية ومذهبها الباطني وذلك للعودة إلى الخلافة الشيعية، ومن هذه المحاولات ما فعله ابن العلقمي - في سقوط بغداد - الذي كان يطمع من خلال تعاونه وممالأته للتتار أن يقيم حاكما علويا بدل الخليفة العباسي السني، ولكنه فشل (2) .
ومنها ما قام به رجل شيعي يعرف بالكوراني - نسبة إلى كوران من قرى إسفرايين - حين أظهر الزهد والورع، وأخذ يجمع حوله بعض خدم السلطان ويحرضهم على الخروج ضد المماليك ليتولى بدلهم حاكم شيعي، ثم ثاروا وشقوا القاهرة وهم ينادون: ياآل علي وفتحوا دكاكين السيوفيين وأخذوا مافيها من سلاح
_________
(1) ينتسب بنو حفص إلى أبي حفص عمر رئيس قبيلة هتتانة البربرية، وكانوا في الأصل أتباعا للموحدين، وفي سنة 625هـ أعلن أبو زكريا الحفصي استقلاله، فبدأت الدولة الحفصية التي استمرت إلى أن سقطت تونس بأيدي العثمانيين سنة 982هـ، والذي بويع له بالخلافة من قبل شريف مكة [ويلاحظ أن الذي قام بإقناع الشريف كما قام بكتابة الولاية بن سبعين الصوفي صاحب القول بوحدة الوجود والذي فر من تونس إلى مكة لما أنكر عليه العلماء ورموه بالكفر والفسق] هو أبو عبد الله المستنصر الذي تولى سنة 647هـ، وفي سنة 657هـ وصلت بيعة شريف مكة له فسمي بأمير المؤمنين، ولكن الأمور اضطربت في عهده، ولذلك لم يعترف مؤرخو الإسلام - خاصة المشرق - بهذه الخلافة، وإنما اعترفوا بخلافة القاهرة. انظر العبر لابن خلدون (6/634) ، ط بيروت، والأدلة البينة النورانية لابن الشماع (ص:57) ، وكتاب السلطنة الحفصية (ص:188) وما بعدها.
(2) سبق قريبا عند الكلام عن المغول وسقوط بغداد.(1/114)
ولكن عسكر السلطان الظاهر بيبرس أحاطوا بهم وأوثقوهم فأصبحوا مصلوبين. وكان ذلك في أواخر سنة 658 هـ (1) .
ب- تحول أنظار العالم الإسلامى من بغداد إلى القاهرة وما يتبعها من بلاد الشام وبذلك أصبحت حاضرة المسلمين وموئل العلماء وطالبي العلم وصارت مدارسها ومساجدها وشيوخها ذات أثر بالغ، مما لم يبلغه مكان آخر، ولهذا يقول السيوطى معلقا على موضوع انتقال الخلافة إلى مصر: " واعلم أن مصر حين صارت دار الخلافة عظم أمرها، وكثرت شعائر الإسلام فيها وعلت فيها السنة، وعفت منها البدعة، وصارت محل سكن العلماء ومحط رحال الفضلاء ... " (2) . إلى غير ذلك من الآثار (3)
خامسا: الباطنية والرافضة:
تعتبر الحركات الباطنية من أخطر الحركات في تاريخ العالم الإسلامى، وكذلك الرافضة، والطائفتان متداخلتان في المنهج والاعتقاد والموقف من أهل السنة، ولا عجب، إذ كلها قائمة على مبدأ التشيع ومنطلقة منه، وإن كان التطور في بعضها قد يصل إلى الغلو أو الإباحة كما حدث للإسماعيلية والقرامطة، إلا أن القاسم المشترك بينها هو دعوى موالاة أهل البيت والقيام بالواجب نحوهم، واستخلاص حقوقهم المغتصبة- من الإمامة وغيرها- من أعدائهم.
وهذه الحركات لا تزال- حتى الآن- تقوم بدور خطير في عالمنا الاسلامى وتحظى- كما يحظى من يتبناها من دول وغيرها- بدعم كبير من اليهود والنصارى والملاحدة- من شيوعيين ولا دينيين-؛ إذ أدرك أعداء الإسلام أن حرب المسلمين- ويقصد أهل السنة- لا تتم إلا بإحياء الطائفية بينهم ودعم تلك الفرق والحركات المناهضة للإسلام الحق.
_________
(1) انظر: السلوك (1/ 450) ، وقيام دولة المماليك (ص: 178) .
(2) حسن المحاضرة (2/94) .
(3) يحسن أن نشير هنا إلى أنه في عام 815 هـ تولى الخليفة العباسى أبو الفضل الملقب بالمستعين بالله السلطنة في مصر، فصار هو الخليفة وهو السلطان. انظر: أنباء العمر لابن حجر (7/53) - هندية وحسن المحاضرة (2/85) .(1/115)
وقد كتبت دراسات عن الحركات الباطنية، ولكن هذه الدراسات - حسب علمي- قامت على إحدى وجهتين:
1- إما وجهة تاريخية، تنظر إلى تاريخ هذه الطوائف، ودورها في الأحداث وما لها وما عليها، ولا تعطى الجانب العقائدي الذي قامت به إلا دورا صغيرا لا يتعدى التعريف والنشأة.
2- وإما وجهة عقائدية بحتة، تنظر إلى عقائد هذه الطوائف وفكرها، وأهم مبادئها، وأما دورها في الأحداث وما قامت في المجال السياسى والاجتماعي فلا تتعرض له بشيء.
وفي رأيي- القاصر- أن مثل هذه الحركات الخطيرة لا تتم معرفة أبعادها والاستفادة من تاريخها السابق- وأبعاده العقائدية والسياسية- إلا بالجمع بين هاتين الوجهتين أثناء الدراسة والتحليل.
والحركات الباطنية- في العصر الحاضر-كما أن لها نشاطا سياسيا ملحوظا فلها أيضا نشاط فكري تنشر من خلاله مذاهبها وعقائدها وكتبها ووثائقها (1) .
والعصر- الذى نحن بصدد الحديث عنهـ كان للباطنية والرافضة فيه دور كبير، وهو وإن كان قد انحسر- بالنسبة للعصر الذي قبلهـ إلا أن بقاياهم قامت بأدوار تكميلية سواء بنشر مذاهبهم أو التعاون مع الصليبيين، ولذا رأينا كيف أن الظاهر بيبرس يهاجم حصونهم ويقضي عليها، والسلطان قلاوون وغيره يقومون بغزو الرافضة في جبل كسروان وما جاوره، ورأينا عالما مثل شيخ الاسلام ابن تيمية يتصدى لجهادهم وغزوهم، كما يتصدى لفضح المذهب الباطني ويبين حكم الشرع فيهم، ويرد على علمائهم في منهاج السنة وغيره.
_________
(1) تأسست في الهند سنة 1946 م " الجمعية الإسماعيلية" ونشرت في الهند ومصر كثيرا من مؤلفاتها ومخطوطاتها. انظر: كتاب الحاكم بأمر اللهـ عنان- (ص: 13-14) ، كا أن كثيرا من الباحثين تفرغوا لنشر التراث الاسماعيلي والباطني وكتابة الدراسات حولهـ حتى أن واحدا منهم نشر قرابة أربعين كتابا حول هذه الحركات، وبعض الباحثين من هؤلاء لا يكتفون بالتحقيق أو الكتابة العلمية فقط، وإنما يبثون الدعاية لها ويدعون إلى الاستفادة من تجاربها، كما يزعمون أنها حركات مظلومة ولذا ينبغى إعادة كتابة تاريخها من خلال حرية الفكر والأديان التى ينادون بها.(1/116)
ونوجز الكلام حول هذه الحركات بمايلي:
أولا: برز التشيع كظاهرة في وقت مبكر، في عهد علي بن أبي طالب - رضى الله عنهـ بل قبله بقليل حين ظهرت السبئية- أتباع عبد اللة بن سبأ - وكان التشيع في عمومه قد بدا معتدلا إلا أنه في هذه الظواهر بدا غاليا أشد ما يكون الغلو، وليسى تأليه علي بن أبى طالب الذي قال به أناس في عهده إلا نواة لتلك الحركات الباطنية التي أخذت أشكالا مختلفة في الظاهر، وهي متفقة في الحقيقة والباطن.
أما ما قد يتبادر إلى الذهن من تفاوت بينها اعتدالا وغلوا فليس هذا إلا أمر عارض ينشأ في بعض الأحوال حسب ما يقتضيه مبدأ التقية، أو التدرج في المدعوين أو حين التطيق العملى لمبادئهم، إضافة إلى مبدأ السرية والعلنية في عقائدهم التى يجعلون جزءا مهما منها يبقى تحت دائرة الكتمان إلا عن القلة القليلة من أكابرهم وعلمائهم، ولذلك صدقت فيهم مقولة أبي حامد الغزالي: " إنه مذهب ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم " (1) .
ثانيا: حدثت انقسامات داخل هذه المذاهب الرافضية الباطنية:
ومنها: الانقسام الذي وقع حول من يكون الإمام بعد جعفر الصادق -رحمه الله-.
فطائفة: قالت: الإمام بعده ابنه موسى واستمرت الإمامة بعده إلى الإمام الثاني عشر- المهدي المنتظر عندهم- وهؤلاء هم الرافضة الموسوية، الجعفرية، الاثنى عشرية، ومن يطلع على عقائدهم ومذاهبهم يرى أنه لا يمكن أن يكونوا طائفة معتدلة بحال من الأحوال، إلا حال التقية (2) .
_________
(1) فضائح الباطنية (ص: 37) .
(2) قدم الأخ العزيز- ناصر القفاري- رسالته للدكتوراه عن أصول الشيعة الاثنى عشرية وعقائدهم بعد دراستهـ الجادة والموفقة- إن شاء الله؛ حول مسألة التقريب بين السنة والشيعة في رسالته للماجستير.(1/117)
وطائفة: قالت: الإمام بعده أى- بعد جعفر الصادق- ابنه إسماعيل- الذي مات في عهد أبيهـ وهؤلاء هم طائفة الإسماعيلية التي انبثقت منها حركة القرامطة، والدولة الفاطمية في المغرب ومصر، والإسماعيلية في بلاد فارس وغيرها.
ومنها:- أى من الانقسامات التي حدثت- ما حدث سنة 487 هـ- لما مات الخليفة المستنصر باللهـ الفاطمى العبيدى- فقد افترقت الإسماعيلة إلى فرقتين:
إحداهما: قالت بأن الإمام بعده ولده نزار، وأن المستنصر نص على ذلك قبل وفاته، و" الإسماعيلية"، وملاحدة العجم وملاحدة الشام تعتقد إمامته، وتزعم أن المستنصر كان قد عهد اليه وكتب اسمه على الدينار والطرز، وأن المستنصر قال للحسن بن صباح: إنه الخليفة من بعده" (1) وهؤلاء ينكرون إمامة المستعلى الذكط تولى الخلافة- بعد أبيهـ ويرون أن خلافته ومن بعده باطلة.
والأخرى: المستعلية، يرون صحة إمامة المستعلي ومن قام بعده من الخلفاء بمصر، وبسبب ذلك حدثت فتن بين الطائفتين (2) .
ثالثا: لم تكن هذه الحركات الباطنية بعيدة عن الأحداث- خلال تاريخنا الإسلامي- وإنما أخذت تعمل سرا لنشر أفكارها، وتكوين أتباع لها- وذلك خوفا من الخلافة العباسية السنية- وكان بداية ذلك لما ظهرت حماعة من الملاحدة يتزعمهم رجل فارسي مجوسى اسمه: ميمون بن ديصان المعروف بالقداح، وكان قد تظاهر بالإسلام والتشيع، ثم قبض عليه مع جماعة من أصحابه وسجنوا في الكوفة أواخر عهد المنصور العباسى سنة 145 هـ. وفي السجن بدأوا وضع مذهبهم وأسس دعوتهم ثم ظهرت على أثر ذلك حركتان كان لهما دور في التاريخ الإسلامى، إحداهما: ظهور القرامطة، والأخرى: قيام الدولة الفاطمية.
_________
(1) اتعاظ الحنفاء (3/15) .
(2) انظر: تاريخ الفارقي (ص: 267) ، واتعاظ الحنفاء (3 / 27) ، والبداية والنهاية (12/148) ، وتاريخ عطا ملك الجوين- جزء منه ضمن دولة الاسماعيلية في إيران (ص: 79 1) ، وانظر الاسماعيلية - لاحسان الهى ظهير (ص: 58 ا - 59 1، 735) ، وانظر: مذاهب الاسلاميين - بدوي (2 / 352) وما بعدها.(1/118)
رابعا: ولما جاء عهد المماليك واصلوا حربهم للصليبيين والباطنيين وخاصة بعد القضاء على حصونهم في بلاد فارس الذي تم على يد هولاكو. فالظاهر بيبرس قضى عليهم- حصنا بعد الآخر- سنة 670 هـ، وكانوا قبل ذلك يدفعون له الجزية وكان مسيطرا عليهم يعزل وينصب من يريد من زعمائهم، يقول المقريزي في حوادث سنة 671 هـ " وفي ثاني عشر ذي الحجة استولى السلطان على بقية حصون الدعوة الاسماعيلية وهي المينقة والقدموس والكهف، وأقيمت هناك الجمعة وترضى عن الصحابة بها، وعفيت المنكرات منها، وأظهرت شرائع الإسلام وشعائره " (1) .
لكن هل انتهى دور الباطنين في بلاد الشام (2) بالقضاء على الاسماعيلية (3) ؟
لقد بقى من طوائفهم طائفتان كان لهم نفوذ في ذلك الوقت، واستمر نفوذهم في بلاد الشام إلى العصر الحاضر. وهما:
أ- النصيرية:
وهؤلاء سموا بذلك نسبة إلى محمد بن نصير النميرى (4) الذي عاش في القرن الثالث زمن الأئمة الثلاثة الأخيرين من أئمة الشيعة الاثنى عشرية، وزعم أنه الباب للإمام الحادي عشر " الحسن العسكري " وأنكر إمامة المهدي الثاني عشر، وبذلك انفصل عن الاثنى عشرية، وللنصيرية عقائد غالية مشهورة أهمها تأليه علي ابن أبي طالب- رضي الله عنهـ وفي عهد المما ليك كانوا يسكنون السواحل الشامية، وبعض الجبال في الكسروان وغيره، وكانوا موالين أتم الموالاة للنصارى وللتتار، وقد حرص الظاهر بيبرس على القضاء عليهم عن طريق إلزامهم ببناء المساجد
_________
(1) السلوك (1/608) ، وانظر الروض الزاهر (ص: 413) ، والمختصر لأبي الفداء (7/41) .
(2) أما في غير بلاد الشام فلا تزال الاسماعيلية باقية إلى اليوم كطائفة مستقلة.
(3) المطلع على رحلة ابن بطوطة (1/93) ، حين زار الشام سنة 727 هـ يرى أنه يشير إلى قلاع الإسماعيلية والفداوية ويقول أنهم سهام الناصر قلاوون يصيب بهم أعداءه وعلى هذا الأساس يكرن الظاهر إنما قضى عليهم سياسيا، بحيث لم يصبع لهم دور مستقل.
(4) وبعضهم ينسبهم إلى نصير غلام- رضى الله عنهـ.(1/119)
في كل قرية، ولكنهم " بنوا بكل قرية مسجدا بعيدا عن العمارة، ولا يدخلونه ولا يعمرونه، وربما أوت إليه مواشيهم ودوابهم وربما وصل الغريب إليهم فينزل بالمسجد، ويؤذن إلى الصلاة فيقولون: لا تنهق علفك يأتيك (1) " استهزاء وسخرية، وفي سنة 717 هـ خرجت النصيرية عن الطاعة، وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله كان تارة يدعى الألوهية لعلى وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله " وخرج يكفر المسلمين وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمة ألف وبلادا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها وخرجوا منها يقولون: لا إله إلا علي ولا حجاب إلا محمد ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد: وا إسلاماه وا سلطاناه وا أميراه، فلم يكن لهم يومئذ نصر ولا منجد.... فجردت لهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا وقتل المهدي " (2) .
وقد حفظ لنا صاحب صبح الأعشى وثيقة تشتمل على مرسوم أصدره الناصر محمد بن قلاوون سنة 717 هـ يلغى فيه بعض المكوس في المملكة الطرابلسية، ويأمر بإبطال بعض المنكرات، ويذكر منكرات النصيرية، ومما ورد فيه عنهم " ومنها: أن بالأطراف القاصية من هذه المملكة قرى سكانها يعرفون بالنصيرية لم يلج الإسلام لهم قلبا، ولا خالط لهم لبا، ولا أظهروا له بينهم شعارا ... [ثم يقول] : وأما النصيرية فليعمروا في بلادهم بكل قرية مسجدا ... وكذلك رسمنا أيضا بمنع النصيرية من الخطاب (3) وأن لا يمكنوا بعد ورود هذا من الخطاب
_________
(1) رحلة ابن بطوطة المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار (1/96) ، وانظر: خطط الشام محمد كرد علي (6/263) ، وذكر أن ذلك في القرن التاسع- وهو خطأ، وتبعه على خطئه صاحب الحركات الباطنية في العالم الاسلامى- محمد أحمد الخطيب (ص: 332) .
(2) البداية والنهاية (14/83-84) .
(3) المقصود بالخطاب عندهم أن يحلفوا من يدخل في دينهم- بعد تعليمه وإطلاعه على أسرارهم- أن يكتم دينه، وشيوخه. انظر: مجموع الفتاوى (35/15) - ضمن السؤال الوارد لابن تيمية، وانظر: صبح الأعشى (13/250) .(1/120)
جملة كافية، وتؤخذ الشهادة على أكابرهم ومشايخ قراهم لئلا يعود أحد منهم إلى التظاهر بالخطاب، ومن تظاهر به قوبل أشد مقابلة " (1) .
ولابن تيمية-رحمه الله- فتوى مشهورة في النصيرية وحقيقة مذهبهم وخطرهم وتعاونهم مع النصارى والتتار، والحكم عليهم وواجب ولاة المسلمين نحوهم (2) . وستأتي الإشارة إلى دور ابن تيمية في قتالهم وإخضاعهم- مع غيرهم من دروز وملاحدة ورافضة جبل كسروان- إن شاء الله تعالى.
ب- الدروز:
وهم طائفة يقولون بتأليه الحاكم بأمر الله الفاطمي والتناسخ والحلول. وكان أول من دعا إلى ذلك سنة 408 هـ حمزة بن علي بن أحمد الزوزني، وفي نفس الوقت ظهر عدة دعاة على شاكلته منهم: حسن بن حيدرة الفرغاني المعروف بالأخرم، ومحمد بن إسماعيل الروزي، وفي سنة 411 هـ قتل الحاكم بأمر الله - ويزعم الدروز أنه اختفى- فانتقلت هذه الطائفة إلى مناطق أخرى في بلاد الشام، أما في مصر فلم يبق لهم بعد هلاك الحاكم وجود حقيقى (3) . وقد استجاب لهذه الدعوة من القبائل العربية في الشام: بنو تنوخ وآل بحتر، وآل أرسلان، وبعد اعتناقهم لهذا المذهب الباطني تحركوا في سنة 423 هـ إلى جبل السماق، وجاهروا بمذهبهم وأخربوا المساجد، واعتدوا على المسلمين المجاورين، وكثر شرهم، ولكن أهل أنطاكية خافوا من تفاقم أمرهم، فجاءوهم وتلطفوا لهم حتى قبضوا على دعاتهم وأكابرهم وقتلوهم جميعا (4) .
_________
(1) صبح الأعشى (13/ 33-35) ، وانظر: الوثائق السياسية: العهد المملوكى (ص: 5 0 3) وما بعدها.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (35/145- 160) .
(3) انظر في عقائدهم ونشأتهم: أخبار ملوك بني عبيد (ص: 94) وما بعدها، واتعاظ الحنفاء (2/13 1) ، وانظر: الحاكم بأمر الله (ص: 97 1) وما بعدها، و (ص: 4 31) وما بعدها، وتاريخ الدولة الفاطمية (ص:354) وما بعدها.
(4) انظر: خطط الشام (1/224) ، والتنوخيون: نديم نايف حمزة (ص: 71) .(1/121)
وبعد مجيء الصليبيين ثم التتار كانوا يتعاونون معهم بما يخدم مصالحهم الخاصة (1) .
وكان الدروز متوزعين في أماكن متفرقة من لبنان، ولذلك فقد انضم جزء منهم- من التنوخيين- إلى موالاة المماليك، وصاروا ينخرطون في جنود الحلقة (2) - الذين كانوا فرسانا يأتمرون بأمر السلطان دون أن يكونوا ملكا لهـ وعلى الرغم من سجن ثلاثة من زعمائهم في القاهرة فقد ردت إليهم إقطاعاتهم وصاروا مسؤولين عن الحفاظ على منطقة غرب بيروت (3) .
والعجيب أنه حين هاجم جيش السلطان الناصر قلاوون سنة 705 هـ جبل الكسروان- وكان يسكنه النصيرية والرافضة والدروز- كان من ضمن الجيش الذي هاجمهم: التنوخيون الدروز مما أثار جدلا بين بعض الباحثين (4) .
ج-- إن الرافضة الاثنى عشرية كانت لهم بعض الأدوار الإفسادية ولذلك تحدث عنهم ابن تيمية حينما ذكر غزوه لجبل الكسروان وهذا الجبل كانت تسكنه طوائف مختلفة من النصيرية والدروز والشيعة وأصحاب العقائد الفاسدة- ففي سنة 704 هـ ذهب إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية ومعه نقيب الأشراف زين الدين ابن عدنان وألزموهم شرائع الإسلام، واستتابوا خلقا منهم، كما ذهب إليهم ومعه الأمير قراقوش المنصور وألزموهم بالطاعة وأن يصلحوا ما بينهم وبين التنوخين،
_________
(1) انظر: تاريخ بيروت (ص: 60، 63، 64) ، وانظر: التنوخيرن (ص: 03 1- 0 11) .
(2) انظر: نظم دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر- النظم السياسية- (ص: 149) .
(3) تاريخ بيروت (ص: 53-54، 70-85) ، وانظر: التنوخيون (ص: 125) ،وما بعدها.
(4) ذكر المقريزى في السلوك (1/902 - 903) ، وابن تيمية كما في رسالته إلى السلطان الناصر - العقود الدرية (ص: 193) أن الحملة على أهل كسروان كانت حملة على الدروز- حساهم ابن تيمية الحاكمية- فإذا علم أن الجيش الذي قاتلهم فيه مئات من التنوخية الدروز فكيف يتم هذا؟ كمال الصليبي- وهو ماروني- أنكر ذلك- كا أنه دافع عن الذين كانوا في الجبل. وقد رد عليه زكي النقاش في كتابه: أضواء توضيحية على تاريخ المارونية (ص: 46- 50) ، و (ص: 63) وما بعدها. كما رد عليه صاحب كتاب التنوخيون (ص: 130) - ومؤلفه درزي.(1/122)
ولكنهم رفضوا الطاعة (1) فأخذ ابن تيمية ونائب دمشق في الاستعداد لحربهم، يقول ابن كثير في حوادث سنة 705 هـ: " وفي ثانيه [أي المحرم] خرج نائب السلطة بمن بقى من الجيوش الشامية، وقد كان تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية في ثاني المحرم (2) ، فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة، فخرج نائب السلطنة بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقا كثيرا منهم، ومن فرقتهم الضالة ووطئوا أراضى كثيرة من صنع بلادهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشيخ ابن تيمية والجيش، وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علما وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوب أعدائه حسدا له وغما (3) .
ويقول ابن تيمية بعد هذا النصر المبين عليهم- في كتابه إلى السلطان الناصر قلاوون في مصر- وقد ذكر بعد المقدمات شيئا من عقائدهم: " فأعان الله ويسر بحسن نية السلطان وهمته في إقامة شرائع الاسلام، وعنايته بجهاد المارقين أن غزوا غزوة شرعية كما أمر الله ورسوله، بعد أن كشفت أحوالهم، وأزيحت عللهم، وأزيلت شبههم، وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبين لهم أن غزوهم اقتداء بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضى الله عنهـ في قتال الحرورية المارقين الذين تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بقتالهم ... " (4) . ثم ذكر السبب في أخذ أموالهم وأنه كونهم خارجين عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وسنته، ثم ذكر أنهم شر من التتار من وجوه متعددة، لكن التتر أظهر وأقوى
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 35) ، والسلوك (2/ 12) ، وتاريخ بيروت (ص: 27) .
(2) هكذا، ولعل الصواب في ذي الحجة كما أفاده كلام ابن عبد الهادي في العقود، فإن قال (ص: 81 ا-182) " وتوجه نائب السلطنه الأمير جمال الدين الأفرم بمن تأخر من عسكر دمشق إليهم لغزوهم واستئصالهم في ثاني شهر المحرم من سنة خمس وسبعمائة، وكان قد توجه قبله العسكر طائفة بعد طائفة في ذي الحجة ".
(3) البداية والنهاية (14/35) ، وانظر: مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك (ص: 4 31- 9 31) وا نظر: التنو خيون (ص: 28 1- 0 3 1) .
(4) العقود الدرية (ص: 87 ا-88 1) .(1/123)
فلذلك يظهر كثرة شرهم، ثم ذكر السبب في قطع أشجارهم وتخريب بلادهم، ثم قال: " وأيضا فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز واليمن والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان ويعز به أهل الإيمان " (1) ، ثم قال ابن تيمية: " فصل: تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة أهل الفساد وإقامة الشريعة في البلاد، فإن هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قرى كثيرة من يقتدون بهم وينتصرون لهم، وفي قلوبهم غل عظيم، وإبطان معاداة شديدة، لا يؤمنون معها على ما يمكنهم ولو أنه مباطنة العدو، فإذا أمسك رؤوسهم الذين يضلونهم- مثل بنى العود (2) - زال بذلك من الشر ما لا يعلمه إلا الله، ويتقدم إلى قراهم وهي قرى متعددة بأعمال دمشق، وصفد، وطرابلمس، وحماة، وحمص، وحلب، بأن تقام فيهم شرائع الاسلام، والجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، ويكون لهم خطباء ومؤذنون كسائر قرى المسلمين، وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية وتنشر فيهم المعا لم الإسلامية ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام، فإن هؤلاء الحماربين وأمثالهم قالوا: نحن قوم جبال، وهؤلاء كانوا يعلموننا ويقولون لنا: أننا إذا قاتلنا هؤلاء تكونون مجاهدين، ومن قتل منكم فهو شهيد، وفي هؤلاء خلق كثير لا يقرون بصلاة، ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة والدم، ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنة والنار، من جنس الاسماعيلية والنصيرية، والحاكمية، والباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين " (3) .
وسئل ابن تيمية عن حكم قتالهم فأفتى بجواز ذلك إذا كانوا ممتنعين، وشرح حالهم والحكم عليهم وهى فتوى عظيمة (4) .
_________
(1) المصدر السابق (ص: 191) .
(2) على رأسهم: أبو القاسم الحسين بن العود، نجيب الدين الأسدى الحلبى، شيخ الشيعة وإمامهم وعالمهم في أنفسهم، ولد سنة 581 هـ، وتوفي سنة 677 هـ. البداية والنهاية (13/287) ، وهؤلاء الموجودون الذين يشير إليهم ابن تيمية من أولاده وأتباعه.
(3) العقود الدرية (ص: 92 ا-193) .
(4) انظر: نصها في مجموع الفتاوى (28/468- ا 50) ، بل قال لما بين إنهم شر من اليهود=(1/124)
وفي عام 706 هـ صدر أمر برفع أيدي الرافضة عن كسروان وإقطاعها للأمراء التركمان (1) .
سادسا: بداية ظهور التحاكم إلى غير الشريعة:
هذه مسألة من المسائل المهمة التي تميز بها هذا العصر عن العصور التي سبقته، فقد عاش المسلمون منذ بدء الإسلام وانتشاره في البلاد التي فتحوها لا يعرفون نظاما وحكما إلا ما جاءت به شريعة الاسلام، ولا يعني هذا أن الظلم والجور لم يقع، ولا أن سفك الدماء وأخذ الأموال بالباطل لم يوجد، بل حدث من جور بعض السلاطين في العهد الأموي والعباسي وغيرهما- كما وجد من ظلم الولاة وغيرهم ممن قد تكون له سلطة- الشىء الكثير، بل وجد من الفتن والمحن التي أحاطت ببعض المسلمين أو ببعض أمصارهم ما هو مسطور في كتب التاريخ التى ألفها مؤرخون مسلمون، ولكن مع هذا كله كانت هذه المخالفات تقع وترتكب على أنها أمور مخالفة للإسلام أملاها الهوى أو الانتقام أو غير ذلك من الأسباب، ولذلك إذا تولى الحاكم أو السلطان العادل رد هذه المظا لم وانتصر لأصحابها بما يوافق شريعة الإسلام، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن جاروا أو ظلموا، وهذا فيه إقرار أن الظلم والجور قد يقع ولكنه لا يجوز أن يكون مبررا للخروج عليهم وخلع الطاعة ما لم يصل إلى الكفر البواح، أما أن يوجد نظام أو قانون- مخالف للشريعة- ويكون بوسع هذه الطائفة أو الدولة أن تتحاكم إليه مع انتسابها للإسلام فهذا لم يحدث إلا في هذا العصر الذي نتحدث عنه، وإذا وجد من الدول من حكم بعض بلاد المسلمين وفرض عقائد وسن شرائع مخالفة للاسلام وفرضها عليهم، فهؤلاء خارجون عن الإسلام، وذلك كالدولة الفاطمية التي قال عنها ابن تيمية:
_________
(1) = والنصارى وأن كل طائفة ممتنعة يجب قتالها ... قال: " وليس هذا مختصا بغالية الرافضة، بل من غلا في أحد من المشايخ وقال: إنه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة ... وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين ".
(1) انظر: تاريخ بيروت (ص: 29) ، والسلوك (2/16) .(1/125)
" فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنة على غير شريعة الإسلام، وكانوا يظهرون أنهم رافضة، وهم في الباطن إساعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية، كما قال فيهم الغزالي-رحمه الله- تعالى- في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم " ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض ". واتفق طوائف المسلمين: علماؤهم وملوكهم وعامتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام، وأن قتالهم كان جائزا، بل نصوا على أن نسبهم كان باطلا.... والذين يوجدون في بلاد الإسلام من الاسماعيلية والنصيرية والدرزية وأمثالهم من أتباعهم، وهم الذين أعانوا التتر على قتال المسلمين (1) ، وكان وزير هو! والنصير الطوسى من أئمتهم " (2) .
وهذا الذي استجد في هذا العصر جاء مع ظهور التتار وهجومهم على العالم الإسلامى. وهؤلاء التتار كان يحكمهم نظام وقانون وضعه لهم زعيمهم جنكيزخان يسمى بالياسا، أو الياسق، وهذا القانون كانوا يطبقونه بحذافيره، وصارت له عندهم قداسة، وفي هجومهم على المسلمين حملوه معهم وطبقوه.
وكلمة " ياسا" وقد يقال: ياسه، أو يساق أو يسق (3) ، كلمة مغولية [تركية] تعني قانون التتار الذى وضعه زعيمهم، يقول المقريزى- في أثناء ذكره لمهمات "الحجاب "- حجاب السلاطين- في عهده: وأن متوليها مهمته أن ينصف من الأمراء والجند، تارة بنفسه، وتارة بمشاورة السلطان، وتارة بمشاورة النائب،
_________
(1) من العجيب- وابن تيمية يشير إلى تعاون الرافضة مع التتر- أن من نصوص قانون التتار الياسق الذي ذكرهـ أو بعضهـ المقريزي في خططه نصا يأمر بتمييز ولد علي بن أبي طالب- رضي الله عنهـ وأن لا يكون عليهم كلفة ولا مؤنة: يقول: " وشرط أن لا يكون على أحد من ولد علي ابن أبي طالب- رضى الله عنهـ مؤنة ولا كلفة ". الخطط (2/220) .
(2) مجموع الفتاوى (28/635-636) .
(3) في تاج العروس (7/98) - مما استدركه في فصل الياء مع القاف- قال عن كلمة " يساق "، " كسحاب" وربما قيل يسق بحذف الألف، والأصل فيه يساغ، بالغين المعجمة، وربما خفف فحذف، وربما قلب قافا، وهي كلمة تركية يعبر بها عن وضع قانون المعاملة "، ولما كان معظم الجزاءات المنصرص عليها في نظام الياسا الاعدام صار من معاني هذه الكلمة القتل أو الموت. انظر: المغول في التاريخ (ج-1 ص: 338) .(1/126)
وأن حكم الحاجب كان " لا يتعدى النظر في مخاصمات الأجناد واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، ولم يكن أحد من الحجاب فيما سلف يتعرض للحكم في شيء من الأمور الشرعية كتداعي الزوجين وأرباب الديون، وإنما يرجع ذلك إلى قضاة الشرع، ولقد عهدنا دائما أن الواحد من الكتاب أو الضمان ونحوهم يفر من باب الحاجب ويصير إلى باب أحد القضاة ويستجير بحكم الشرع فلا يطمع أحد بعد ذلك في أخذه من باب القاضي.... " (1) ، ثم ذكر المقريزي التطور الذي حدث بعد ذلك لمهمات الحجاب فقال: " ثم تغير ما هنالك وصار الحاجب اليوم (2) اسما لعدة جماعة من الأمراء ينتصبون للحكم بين الناس ... وصار الحاجب اليوم يحكم في كل جليل وحقر بين الناس سواء كان الحكم شرعيا أو سياسيا بزعمهم، وإن تعرض قاض من قضاة الشرع لأخذ غريم من باب الحاجب لم يمكن من ذلك " (3) ، ثم قال: " وكانت أحكام الحجاب أولا يقال لها حكم السياسة وهي لفظة شيطانية لا يعرف اكثر أهل زمننا اليوم أصلها، ويتساهلون في التلفظ بها، ويقولون: هذا الأمر مما لا يمشي في الأحكام الشرعية وإنما هو من حكم السياسة ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " (4) ، ثم ذكر المقريزي معنى " الشرع " ومعنى " السياسة " في اللغة، وأن السياسة نوعان: سياسة عادلة وهي السياسة الشرعية وقد ضنف فيها كتب متعددة، وسياسة ظالمة، وأن الشريعة تحرمها.
ثم عرض لأصل هذه الكلمة وغلط الذين يظنون أن أصلها كلمة عربية فقال: " وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا، وإنما هي كلمة فعلية أصلها ياسة، فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سينا فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلا ما قلت لك واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت
_________
(1) 1 لخطط (2/219) .
(2) توفي المقريزي: تقى الدين أبو العباس أحمد بن على سنة845، وكان مولده سنة 766 هـ، انظر: اللامع (2/ 1 2) ، والبدر الطالع (1/79) ، والأعلام (1/77) .
(3) 1 لخطط (219-220) .
(4) المصدر السابق (ص: 220) .(1/127)
بمصر والشام وذلك أن جنكزخان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق لما غلب الملك أونك خان، وصارت له دولة قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه ياسة، ومن الناس من يسميه يسق، والأصل في اسمه ياسة، ولما تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده حتى قطع الله دابرهم، وكان جنكزخان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره، فصار الياسة حكما بتا بقى في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه" (1) . وقد نقل القلقشندى (2) عن علاء الدين الجويني (3) - الذى كان أحد خواص كتبة أرغون زعيم التتار وكان هجوم هولاكو على بغداد في عهدهـ أنه قال: " ومن عادة بني جنكزخان؛ أن كل من انتحل منهم مذهبا لم ينكره الآخر عليه " (4) ، ثم ذكر القلقشندي الياسة فقال: " ثم الذي كان عليه جنكزخان في التدين وجرى عليه أعقابه بعده الجرى على منهاج ياسة التي قررها، وهي قوانين ضمنها من عقله وقررها من ذهنه، رتب فيها أحكاما وحدد فيها حدودا ربما وافق القليل منها الشريعة المحمدية وأكثرها مخالف لذلك سماها الياسة الكبرى، وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزانته تتوارث عنه في أعقابه وأن يتعلمها صغار أهل بيته " (5) ،
ويقول ابن كثير " وأما كتابه الياسة فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم " (6) .
_________
(1) الخطط (2/320) .
(2) أحمد بن علي بن أحمد الفزاري ولد سنة 756 هـ، وتوفي سنة 1 82 هـ، الضوء اللامع (2/ 8) ، والأعلام (1/ 177) .
(3) هو: علاء الدين عطا ملك الجويني، اشتغل هو وأبوه في خدمة المغول، ولد سنة 623 هـ، وتوفي سنة 686 هـ. دولة الاسماعيلية في إيران (ص: 127-138) ، والجوينى أحد الذين أرخوا للمغول، وعليه وعلى المؤرخ الآخر رشيد الدين، إعتمد كثير من المؤرخين في تاريخهم للمغرل، ومنهم ابن كثير في ترجمته لجنكزخان البداية والنهاية (13/117) .
(4) صبح الأعشى (4/310) .
(5) المصدر السابق (4/310- 311) ..
(6) البداية والنهاية (13/118) .(1/128)
ومن نصوص هذا الياسة: " أن من زنى قتل- ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن- ومن لاط قتل، ومن تعمد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد، أو دخل بين اثنين وما يتخاصمان وأعان أحدهما على الآخر قتل، ومن بال في الماء أو على الرماد قتل، ومن أعطى بضاعة فخسر فيها فإنه يقتل بعد الثالثة، ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قتل.... وأن من ذبح حيوانا كذبيحة المسلمين ذبح.... وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى ... وألزمهم أن لا يدخل أحد منهم يده في الماء ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى، ومنع أن يقال لشيء: إنه نجس، وقال جميع الأشياء طاهرة ولم يفرق بين طاهر ونجس وألزمهم أن لا يتعصبوا لشيء من المذاهب، (1) ومما يلفت الانتباه أن من ضمن هذا القانون أن السلطان ألزم بإقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة (2) .
هذا هو نظام الياسة الذى وضعه زعيم التتار و" لما مات التزم من بعده من أولاده، وأتباعهم حكم الياسة كالتزام أول المسلمين حكم القرآن، وجعلوا ذلك دينا لم يعرف عن أحد منهم مخالفته بوجه " (3) .
هذه أحوال التتار وأنظمتهم لما هاجموا العالم الاسلامي، ولكن حدث لهم تطور- أشرنا إليه عند الحديث عنهم-، وذلك بدخولهم في الإسلام، وإعلان زعيمهم قازان الإسلام، ودخل كثير من التتار الإسلام. ولكن صاحب إسلام هؤلاء التتر عدة أمور- مخالفة لما يجب أن يكون عليه المسلم- ومنها:
أ- مهاحمتهم لبلاد المسلمين ف! الشام وغيره، ومقاتلتهم ونهب أموالهم وغير ذلك من الفساد.
_________
(1) الخطط (2/220-221) .
(2) المصدر السابق، والملاحظ أيضا أنه في آخر العهد العباسى ألغى نظام البريد فكان ذلك من العوامل التي ساعدت على ضعف مقاومة المسلمين للتتار.
(3) المصدر السابق (2/ 221) .(1/129)
ب- تعظيم نظامهم الياسق، وتنفيذ بعض بنوده ولو كانت مخالفة للشريعة االإسلامية.
ج-- تعطل بعض شرائع الإسلام، مثل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والكف عن دماء المسلمين، وضرب الجزية على اليهود والنصارى، وغير ذلك.
د- إقرار المنكرات، مثل أماكن الخمور والزنا، والسماح للنصارى بتعليق الصلبان، كما حدث في بيت المقدس والخليل زمن التتار.
ولكنهم مع هذا يعلنون إسلامهم وإقرارهم بالشهادتين، بل ويزعم قازان في رسائله إلى السلطان الناصر قلاوون أنهم كلهم أهل ملة واحدة، شرفهم الله بدين الإسلام وأنه دافع عن أهل ماردين الذين هاجمهم بعض جنود المماليك، وأنه إنما يقاتلهم لما أخذته الحمية الإسلامية، وفي مرسوم آخر أصدره لما احتل دمشق يتهم فيه حكام مصر والشام بأنهم خارجون عن طريق الدين، غير متمسكين بأحكام الإسلام (1) .
أمام هذه الأوضاع والدعاوي، ومع نشوب الحرب بين أهل الشام والتتار وقع الناس في حيرة من هذه المسألة، كيف يقاتلون التتر وهم يدعون الإسلام، ويعلنون الشهادتين؟، ولم تقتصر هذه الحيرة على عامة الناس، بل إن العلماء والفقهاء أيضا وقعوا في حيرة، واحتاج الأمر إلى وضوح الحكم في هذه المسألة الواقعية، وبيان الحق فيها، حتى يسير الناس وهم على الهدى، فكان ممن انتدب، وندب نفسه لبيانها شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- تعالى- وجاء ذلك على محورين:
محور علمي: يبين حكم هؤلاء التتار، وقد وردت عدة أسئلة وجهت إلى ابن تيمية حول هؤلاء الذين يعلنون الشهادتين، ويقتلون المسلمين، ويسبون بعض ذراري المسلمين ويهتكون حرمات الدين من إذلال المسلمين، وإهانة المساجد لاسيما بيت المقدس.... وادعوا مع ذلك تحريم قتال مقاتلهم
_________
(1) انظر: نصوص رسائل قازان إلى الناصر قلاوون وأجوبته عليها في وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي (ص: 383-3 5 4) .(1/130)
لما زعموا من اتباع أصل الإسلام فهل يجوز قتالهم؟ وفي سؤال آخر إضافة إلى ما سبق: وما حكم من يكون من عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف ونحو ذلك؟ ومايقال فيمن زعم أنهم مسلمون، والمقاتلون لهم مسلمون، وكلاهما ظا لم فلا يقاتل مع أحدهما.... أفتونا في ذلك بأجوبة مبسوطة شافية، فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين، بل على أكثرهم، تارة لعدم العلم بأحوالهم، وتارة لعدم العلم بحكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في مثلهم، وفي سؤال آخر: سئل عن أجناد يمتنعون عن قتال التتار، ويقولون: إن فيهم من يخرج مكرها معهم، وإذا هرب أحدهم هل يتبع أم لا؟ وفي سؤال سئل عن أموالهم هل أخذها حلال أو حرام؟.
وقد أجاب ابن تيمية عن هذه الأسئلة بأجوبة واضحة كل الوضوح، وبناها على قاعدة في الفتوى عزيزة، لازمة لكل من يتصدى للفتوى- خاصة في المسائل المستجدة- فقال في أحد الأجوبة: " نعم، يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين، وهذا مبني على أصلين:
أحدهما: المعرفة بحالهم.
والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم.
فأما الأول: فكل من باشر القوم يعلم حالهم، ومن لم يباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين، ونحن نذكر جل أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذي يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية فنقول: كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت في الشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة،(1/131)
وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا البدع الخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها: مثل أن يظهروا الالحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأحماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التى توجب الخروج عن شريعة الإسلام، وأمثال هذه الأمور.... " (1) ، ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة مع المرتدين والخوارج وغيرهم، ثم قال: " وأما الأصل الآخر وهو معرفة أحوالهم [أي التتار] فقد علم أن هؤلاء القوم جازوا على الشام في المرة الأولى عام تسعة وتسعين [بعد الستمائة] وأعطوا الناس الأمان وقرأوه على المنبر بدمشق، ومع هذا فقد سبوا من ذراري المسلمين ما يقال: إنه مئة ألف أو يزيد عليه وفعلوا ببيت المقدس وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله، حتى يقال: إنهم سبوا من المسلمين قريبا من مئة ألف، وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين في المساجد وغيرها، كالمسجد الأقصى والأموي وغيره، وجعلوا الجامع الذي العقبه دكا؛ وقد شاهدنا عسكر القوم، فرأينا جمهورهم لا يصلون ولم نر في معسكرهم مؤذنا ولا إماما، وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله.... وهم يقاتلون على ملك جنكزخان، فمن دخل في طاعتهم جعلوه ولما لهم، وإن كان كافرا، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وإن كان من خيار المسلمين، ولا يقاتلون على الاسلام ولا يضعون الجزية والصغار " (2) ،
ثم بين كيف أنهم يعظمون جنكزخان ويقرنونه بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويقدسون تعاليمه، ثم قال: " ومعلوم بالاضطرار من دين الاسلام باتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام،
_________
(1) مجموع الفتاوى (28/510- 511) .
(2) مجموع الفتاوى (28/519- 521) ..(1/132)
أو اتباع شريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر وهو ككفر من أمر ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب " (1) ، ثم تحدث عن وزرائهم، وإظهارهم الرفض، ثم أجاب عن بقية التساؤلات والشبهات (2) .
هذا هو المحور الأول، أما المحور الثاني فهو: المحور العملي، وذلك بالحض على جهاد هؤلاء التتار وإعلان جهادهم، حتى انه ذهب من الشام إلى مصر ليلتقى بالسلطان ومن حوله من الأمراء والوزراء ليحضهم على جهادهم، وجمع الجيوش لقتالهم، وكان لابن تيمية في هذا الجهاد والإعداد له، وقيادة بعض فصائله ما هو مشهور ومسطور وقد أشار إلى هذه المسألة- مسألة شبهة مقاتلة التتار مع ادعائهم الاسلام- ابن كثير-رحمه الله- وهو يعرض لبعض وقائعهم، فقال عن وقعة " شقحب ": " وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه "، فقال الشيخ تقي الدين [ابن تيمية] : " هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصى والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسى مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد " (3) ، وابن كثير يقول لما ذكر الياسة وبعض أحكامه، " وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحام إلى الياسة وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإحماع المسلمين " (4)
وقال في تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]
_________
(1) المصدر السابق (28/524) .
(2) انظر: مجمرع الفتاوى (ج- 28، ص: 1 50-553، وص: 589) .
(3) البداية والنهاية (14/23-24) .
(4) البداية والنهاية (13/119) ..(1/133)
"ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة من ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير " (1) .
وهكذا أوضح ابن تيمية وتلامذته من بعده حكم هذه المسألة، وكان الجواب حاسما في بيان الحكم، وقويا في جهاد هؤلاء التتار وإبعاد خطرهم عن المسلمين.
* * *
وهناك أمر آخر - له علاقة بهذا الموضوع - وجد في عهد المماليك، ألا وهو إعطاء الامتيازات للأجانب - من النصارى وغيرهم - داخل الدولة الإسلامية، وكان الباعث على ذلك حرص المماليك على تنشيط التجارة، وكانت التجارة أكثر ما تكون في ذلك الوقت مع الهند وما جاورها، ومع أوربا، وبالأخص الأندلس وإيطاليا، وقد حرص المماليك على أن رد التجار ببضائعهم المختلفة وتجاراتهم إلى دولة المماليك، فقد أصدر المنصور قلاوون بيانا يعلن فيه - بعد مدح ممالك مصر والشام- حسن معاملة من يرد من التجار غير المسلمين والوفاء بالعهود لهم، كا أوصى بإعادة النظر فى ثغر الإسكندرية وأن يحرص الناظر
_________
(1) تفسير ابن كثير (3/122-123) ، ط الشعب، وانظر: عمدة التفسير لأحمد شاكر (4/173) ، وتعليقه على هذا الموضوع.(1/134)
- في ضمن مهامهـ على معاملة التجار الواردين إليه بالعدل والرفق، وأن لايسلك بهم حالة تجلب لهم القلق والتظلم (1) .
وكانت تتم أحيانا معاهدات- مع النصارى- تتضمن ما يتعلق بالأمور التجارية، وكان حكام المماليك في موقف الأقوى- خاصة بعد نهاية الحروب الصليبية بالشام-، وفي عهد المنصور قلاوون- في سنة 686 هـ- عقد صلح مع ملك أرغون- حاكم برشلونه في الأندلس، ومع أخيه صاحب صقلية- وكان ضمن هذا الصلح- الذي ينص على حماية كل بلد لتجار ومراكب وسفن البلد الآخر- نص يقول: " وعلى أنه متى كانت بين تجار المسلمين وتجار بلاد الريدراغون [أي ملك أرغون في شرق الأندلس] معاملة في بضائعهم وهم في بلاد مولانا السلطان كان أمرهم محمولا على موجب الشرع الشريف " (2) .
ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وإنما تعداهـ تشجيعا للتجار- إلى إعطائهم كثيرا من الامتيازات، بحيث جعلت لهم فنادق يسكنون فيها، وصار لهم قنصل دائم يتحدث باسم الممالك التي ينتمون إليها، وتطور الأمر إلى ما هو أخطر وذلك بالسماح لهم بإحضار الخمور ليستعملوها هم، وكذلك يتحاكمون إلى قناصلهم حسب قوانينهم لا حسب الشريعة (3) .
سابعا: الجوانب العلمية والعقائدية:
إذا كان هذا العصر- عصر المماليك- قد تميز بأنه عصر جهاد ومقاومة لأعداء الإسلام من المغول والصليبيين، الذين أرادوا أن يحطموا الإسلام وما يحمله من حضارة وعلوم ومعارف كانت محط أنظار العالم أجمع، وإذا كان المماليك
_________
(1) انظر: صبح الأعشى (1 1/ 0 4- 42، 9 1 4-423) ، وأيضا (13/339- 342) .
(2) تشريف الأيام والعصرر (ص: 161) ، وانظر نص الهدنة (ص: 56ا-164) ، وانظر صلحا آخر مابها مع أهل جنوة (ص: 165-169) .
(3) انظر في هذه القضية: تشريف الأيام والعصور (ص: 51) من مقدمة المحقق، وانظر: بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى (ص: 31 ا- 140) ، ودراسات في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب (ص: 02 ا-19 1) ، ودولة بني قلاوون (ص: 339-346) .(1/135)
قد قاموا بدور عظيم في الجهاد والعناية بكل ما يدعمه وينمى جيوشه وأساطيله، فلا يعنى هذا أن هذه الأمور طغت عليه فلم يتميز بجوانب أخرى.
لقد برزت الناحية العلمية- التى قادها علماء كبار- في شتى التخصصات، في التفسير والحديث والفقه والتاريخ والتراجم واللغة وغيرها، كما عنى علماء هذا العصر بالتأليف الموسوعي، وهذه المؤلفات وإن كان يغلب عليها الجمع والنقل عن السابقين، إلا أنها لا تخلو من بحوث لموضوعات جديدة، كما أنها حفظت لنا كثيرا من كتب السابقين المفقودة.
لقد برز في هذا العصر أعلام أمثال: النووي والعز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وبدر الدين بن جماعة، كما برز الذهبى والصفدي وابن حجر العسقلافي، والبدر العينى، وابن تغري بردي والمقريزي والسيوطي والقلقشندي وغيرهم ممن أصبحت مؤلفاتهم- في العصر الحاضر- من أشهر المؤلفات وأكثرها فائدة للعلماء والباحثين.
ولم يكن العلماء قابعين في بيوتهم للتأليف والجمع فقط وإنما كانوا يقومون بدور كبير في التدريس والقضاء، والأمر بالمعروف والهي عن المنكر، وقد وجد في هذا العصر من كانت له مواقف مشهودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالإمام النووي [توفي سنة 676 هـ] الذي كتب إلى السلطان الظاهر بيبرس من ضمن ما كنب يقول- في جواب على جواب السلطان الذي يحمل التوبيخ والتهديد-: " وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعنى ذلك من نصيحة السلطان فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى.... " (1) ، أما مواقف العز ابن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية فهي مشهورة.
_________
(1) ترجمة النووى للسخاوى (ص: 42) ، وحسن المحاضره (2/ 100) ، وانظر: تفاصيل موقف النووي ورسائله في هذا الموضوع في المصدرين السابقين، في ترجمته للسخاوي (ص: 40- هـ ه) ، وحسن المحاضرة (2/97- 5 10) .(1/136)
أما الناحية العقدية - في هذا العصر- فلتوضيحها نعرض لأحوال أهل الذمة ثم إلى انتشار التصوف والشركيات، وأخيرا نعرض إلى انتشار المذهب الأشعري.
أولا: أهل الذمة:
لأهل الذمة أحكام ذكرها العلماء، وأشهر ما جع في ذلك ما ورد في الشروط العمرية- نسبة الى عمر بن الخطاب- رضي الله عنهـ (1) ، ثم لما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- كانت له مواقف من أهل الذمة (2) ، وقد اهتم العلماء في هذه المسألة وأبرز من اهتم بها وذكر فيها روايات عديدة عبد الرزاق الصنعاني [المتوفي سنة 211 هـ] وذلك ضمن موسوعته الحديثية " المصنف " وسماه " كتاب أهل الكتابين " (3) ، ولعل سر اهتمامه بذلك كونه عاش في اليمن حيث يوجد هناك بعض اليهود والنصارى.
وقد بقى أهل الذمة في العالم الإسلامي غالبا ما يلتزمون هذه الشروط العمرية- سواء منها ما يتعلق باللباس المميز لهم أو غيره -، حتى إذا جاء الفاطميون واحتلوا مصر وهم يحملون معهم المذهب الشيعي الغالي الخالف لمذهب جمهور المسلمين السنيين، ورأوا أنه لا يمكن الاعتماد- كليا- على أهل السنة الموالين للخلافة العباسية، قرب الخلفاء الفاطميون أهل الذمة من اليهود والنصارى وولوهم مناصب كبيرة في الدولة بلغت أحيانا مرتبة الوزارة، وقد عمل هؤلاء - حتى ولو كانوا من اليهود- على التساع مع النصارى وتوظيفهم، وبناء الكنائس، وبلغ من تعاطف! بعض الخلفاء الفاطميين مع النصارى أن صاروا يحتفلون معهم بأعيادهم الخاصة بهم وقد لقى المسلمون من جراء هذه الأمور
_________
(1) انظر: نص هذه الشروط والكلام حول رواياتها ثم شرحها في أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/657) وما بعدها. وانظر الأموال لأبي عبيد (ص: 23 1) وما بعدها، وانظر: معالم القرية (ص: 94) ، ونهاية الرتبة (ص: 106) .
(2) انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (ص: 81) ولابن عبد الحكم (ص: 140) .
(3) المصنف (0 1/1 1 3-378) .(1/137)
أذى ومصاعب كثيرة (1) .
وفي عهد المماليك - صارت الدولة تلزم رؤساء الطوائف بعد تعيينهم أن يلتزموا ويلزموا أتباعهم بالشروط المعروفة على أهل الذمة، وأن يلتزموا أيضا بالقيود المفروضة عليهم من تميزهم باللباس، وكانت هذه الأوامر تخف أحيانا بحيث لا يلتزمها أهل الذمة، ثم إذا طالت المدة - ووجد سبب معين - أعيد الأمر بالتزامها وشدد عليهم في ذلك.
وكان من أبرز المراسيم الصارمة الصادرة في حق أهل الذمة المرسوم الصادر سنة 700هـ - في عهد السلطان قلاوون - بالزامهم بأحكام أهل الذمة من لباس ومركوب، وعدم استخدامهم في الوظائف الديوانية، وكان لنائب السلطان: الجاشنكير دور كبير في ذلك (2) .
وفي سنة 709هـ لما عاد السلطان محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة، وأمر بإطلاق ابن تيمية - من السجن - وقدمه - فلما جلس ومعه العلماء والقضاة عرض الوزير (3) على السلطان أن أهل الذمة قد عرضوا أن يدفعوا للديوان سبعمائة ألف في كل سنة زيادة على الحالية، على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض - كالمسلمين - فاستشار السلطان العلماء " فقال لهم: ما تقولون؟ يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم احد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه، وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله ردا عنيفا، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكنه بترفق وتؤدة وتوقير، وبالغ الشيخ في الكلام وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع
_________
(1) انظر: الدولة الفاطمية - سرور - (ص86) وما بعدها، وانظر: أهل الذمة في مصر في العصور الوسطى (ص51) ، وانظر أيضا: الفاطميون في مصر - حسن ابراهيم حسن (ص199) وما بعدها.
(2) انظر صبح الأعشى (13/ 377) ، والبداية والنهاية (14/ 16) ، والنجوم الزاهرة (8/ 132) ، والسلوك (1/909) ، وعلل المقريزي ذلك بزيادة ترف أهل الذمة وركوبهم الخيل المسومة، ثم ذكر قصة قدوم وزير ملك المغرب ودوره في ذلك وقد أشار إلى دوره كال من القلقشندي وابن تغري بردي، كما فصل ذلك المقريزي في الخطط (2/498) .
(3) هو: ابن الخليل - انظر حسن المحاضرة (2/300) .(1/138)
على من يوافق فى ذلك، وقال للسلطان: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك وكبت عدوك ونصرك على أعدائك " (1) ، ولما كان للجاشنكير- الذي كان نائبا لقلاوون ثم اغتصب السلطة منه وتولى بدلهـ دور في صدور قرار إلزام أهل الذمة بشروط عمر- رضى الله عنهـ سنة 700 هـ قال السلطان قلاوون لابن تيمية لما كلمه بما سبق: إن الجاشنكير هو الذي جدد عليهم ذلك- والجاشنكير كما أنه آذى السلطان وعزله وتولى بدله فقد آذى ابن تيمية أذى شديدا وسجنهـ لكن ابن تيمية لم ينظر إلى الأمر من هذه الزاوية وإنما قال للسلطان: " والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك لأنه إنما كان نائبا لك، فأعجب السلطان ذلك واستمر بهم على ذلك " (2) . وقد وقعت الفتن بين المسلمين والنصارى الذين ضايقهم هدم بعض كنائسهم مما تسببوا في إشعال الحرائق في القاهرة سنة 702 هـ، وسنة 721 هـ (3) .
ويبدو أن مثل القضايا في مصر والشام كانت سببا في ظهور المناقشات العلمية حول أحكام أهل الذمة، وكيف يعاملون؟، وحكم كنائسهم التي كانت موجودة عند الفتح الإسلامي لمصر والشام، وحكم الكنائس التى أحدثت في أمصار المسلمين ومنها- القاهرة- التي بنيت بعد الفتح الإسلامى بقرون، وقد أجاب العلماء على مثل هذه الأسئلة: ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أجاب بعدة فتاوى حول أهل الذمة وإلزامهم الشروط العمرية، وحكم كنائسهم وهدمها، وقد بين ذلك بكل قوة ووضوح حتى قال، وهو يعرض لحكم سبهم للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -: " وهنا (4) الشروط على أهل الذمة حق لله، لا يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ويعاهدهم على المقام بدار الإسلام
_________
(1) البداية والنهاية (14/54) .
(2) المصدر السابق، وانظر العقود الدرية (ص: 281) ، والكواكب الدرية (ص: 137) .
(3) انظر: السلوك (1/ 941،2/ 222) ، وحسن المحاضرة (2/301) .
(4) لعل صوابه " وهذه ".(1/139)
إلا إذا التزموها وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن " (1) ، فبين أن هذا الأمر ليس السلاطين هم الذين يقررون أن يلزموهم أو لا يلزمونهم، وإنما هو حق لله تعالى، كما بين في فتاويه حكم الكنائس التي بنيت في الأمصار التي مصرها المسلمون، وأنه لا يجوز إبقاؤها بحال (2) ... ، كما أن ابن القيم-رحمه الله- لما سئل عن حكم أهل الذمة أجاب بجواب طويل جدا- بلغ مجلدين- وأوضح فيه المسألة وبينها بيانا شافيأ ذاكرا الأدلة والنصوص وأقوال العلماء (3) .
ثانيا- انتشار الشركيات والتصوف:
كثرت في هذا العصر مظاهر الشرك، كما انتشر التصوف، وبين الشرك والتصوف المنحرف علاقة وطيدة، إذ غالبا ما يكون أهم مظاهر التصوف الشرك وذلك بالغلو في المشايخ والأولياء- الأحياء منهم والأموات- وقد كان أبرز مظاهر الشرك بناء المشاهد على القبور، وبناء المساجد عليها؛ بحيث تصبح هذه القبور أماكن للعبادة والتقرب إلى الله بشتى أنواع القرب فيأتيها الناس مستشفعين بهؤلاء الأموات، طالبين فهم قضاء الحاجات وكشف الكربات وس جع نشأة بناء المشاهد والأضرحة إلى الرافضة، فمن المعلوم أنه لم يكن في أول الإسلام حتى أوائل العهد العباسي شىء من هذه المظاهر بارزا، فلما جاءت دولة العبيديين - الفاطميين- في المغرب ثم فى مصر، ثم جاءت دولة بنى بويه في العراق - وكلهم رافضة- نشأت هذو الظاهرة الشركية في العراق ومصر وغيرهما، ولما كان هؤلاء الرافضة ليس لهم هم إلا إفساد دين الإسلام وحرب أهلهـ أهل السنة-
_________
(1) الصارم المسلول (ص: 213) .
(2) انظر فتاوى ابن تيمية في: مجموع الفتاوى (28/632) وما بعدها، وأحكام أهل الذمة (2/677) حيث نقل فتوى له أخرى بنصها كما كان لابن تيمية مناقشات للنصارى، انظر الجواب الصحيح (2/172) ، ومجمرع الفتاوى (1/370) وترجمته بقلم خادمه (ص: 23) . ...
(3) وهو كتاب أحكام أهل الذمة وقد حققه الدكتور صبحي الصالح-رحمه الله- وكتب له مقدمة طوبلة- بروح انهزامية غربية- فهل كان متأثرا بالوضع الطائفي في لبنان وهو من أهله، أم كان متأثرا بحضارة العصر- حضارة هيئة الأمم المتحدة- ومع ذلك فمن المحزن المبكي أن الكتاب صدر بمقدمة صبحي الصالح سنة 1 38 1 هـ، ثم أعيدت طباعته سنة 1 0 4 1 هـ، وفي هذا العام 7 0 4 1 هـ اغتيل صبحي الصالح في لبنان في حمى الصراع الطائفي.(1/140)
عنوا بمثل هذه الأمور فبنوا الأضرحة وضخموها وعظموها ودعوا الناس لزيارتها ودعائها حتى صارت هذه المشاهد تعظم وتزار ويبذل لها أكثر من زيارة بيت الله الحرام وأداء فريضة الحج.
والنصارى- بوثنيتهم وتقديسهم للصور والتماثيل والقبور- لهم أثرهم على من يلقونه من جهال المسلمين ممن يخالطهم ويسمع كلامهم، ولذلك لما ظهرت دولة العبيديين في مصر قدم النصارى إلى الشام واستوطنوا ثغوره وأمصاره. وهكذا تلتقي هذه الطوائف الثلاث: النصارى، والرافضة والمتصوفة، في هذا الإنحراف الخطير المتمثل في أنواع من الشرك بالله - بمظاهره العديدة التي لا تزال أكثر أقطار العالم الإسلامي تعاني منه ومن آثاره (1) .
جاء عهد المماليك وكثير من هذه المشاهد والأضرحة موجودة، قبور بني عبيد، وقبر الشافعي، وقبر الحسن- الذي بناه بنو عبيد- وغيرها، فلم يحرك السلاطين ساكنا، بل الأمر على العكس أخذوا يبنون لأنفسهم ولأقاربهم الأضرحة والقبب وتفننوا فيها بحيث جعلوا عليها مساجد ومدارس، يأتيها العلماء وطلاب العلم وتلقى فيها الدروس المنتظمة، وأوقفوا عليها الأوقاف الكثيرة، فالظاهر بيبرس [توفي سنة 676 هـ] بنى على قبر أبى عبيدة- رضى الله عنه - مشهدا، وجدد قبة الخليل عليه السلام، كما وسع مشهد جعفر الطيار، وعمر تربة لزوجته (2) ، والمنصور قلاوون- ت 689 هـ- بنى في سنة 683 هـ تربة على قبر والدة السلطان الملك الصالح بن المنصور قلاوون (3) .
أما أشهر المدارس فهى المدرسة المنصورية، وقد وضع فيها قبة سميت القبة المنصورية وفيها قبر المنصور قلاوون وابنه الناصر محمد، وهي من أكبر القباب وأشهرها، وصارت معظمة عند المماليك إلى حد أن السلطان إذا أمر أحدا
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (27/167، 460- 461،466) .
(2) انظر: فوات الوفيات (1 / 243، 244) ، والبداية والنهاية (13 / 276) ، والظاهر بيبرس (ص: 60 ا- ا 16) ، ومملكة صفد (ص: 263) .
(3) انظر: تشريف الأيام والعصور (ص: 55) .(1/141)
من أمراء الشام أو مصر، فإن الأمير الجديد ينزل من قلعة الجبل إلى القبة المنصورية ثم يحلف عند القبر المذكور ويحضر تحليفه صاحب الحجاب (1) . وتليها المدرسة الناصرية التى بناها الناصر قلاوون وبنى فيها قبة دفن والدته وأحد أولاده (2) . ولما انتصر قلاوون سنة 702 هـ في وقعة شقحب وقدم إلى مصر كان أول عمل عمله أن زار قبر والدهـ في ضريحهـ والقراء يقرؤون القرآن عند القبر (3) .
أما على المستوى العام فقد انتشر عند الناس تعظيم القبور والسفر لزيارتها، كما شاع عندهم تعظيم بعض الأماكن التي تنسب- كذبا- إلى نبي أو ولي، ففي دمشق كانت هناك صخرة عند مسجد التاريخ يعظمها الناس ويقبلونها، ويزعمون أن فيها أثر قدم النبى - صلى الله عليه وسلم -، كما كان هناك عند الباب الصغير العمود الخلق يتبرك به الناس وقد هدمهما ابن تيمية-رحمه الله- تعالى- (4) .
أما موقف أكثر العلماء من هذه الشركيات فكان أحسن أحواله السكوت عنها - خاصة وأن كثيرا ممن تولى القضاء كانوا يميلون إلى التصوف- ويرون السفر لزيارة القبور، وهؤلاء هم الذين وقفوا ضد فتاوى ورسائل ابن تيمية حول هذه المسائل حتى سجن ومات فيه.
أما موقف ابن تيمية من هذه الشركيات فقد كان موقفا عظيما، وقد قام على ثلاثة محاور:
الأول: بيان حقيقة هذه المشاهد، وأن الكثير منها كذب، وليست قبورا لمن نسبت إليه (5) .
_________
(1) انظر: الخطط (2/ 0 38- 381) ، والسلوك، ملاحق (1/997- 1 0 0 1) ، وكان الأمراء قبل ذلك يحلفون عند القبة فى المدرسة الصالحية. انظر: الخطط (2/374،0 38) .
(2) انظر: الخطط (2/ 382) ، والسلوك- ملاحق- (1/1040- 0 5 0 1) .
(3) انظر: السلوك- ملاحق- (1/1038- 39 0 1) .
(4) انظر: ترجمة ابن تيمية بقلم خادمه (ص:10 - 11) ، والسلوك (2/8-9) ، وبدائع الزهور (1/417) ، والبداية والنهاية (14/ 34) .
(5) انظر: كتاب رأس الحسين، ومجموع الفتاوى (17/ 0 0 5، 27/ 173) ، وأيضا (27/ 61) حول قبر نوح.(1/142)
الثاني: البيان العلمى من خلال المناقشات المباشرة، ومن خلال المؤلفات والرسائل، وبيان ما فيها من بدع وشرك ومناقشة أقوال الخالفين.
الثالث: الناحية العملية وذلك بإزالة هذه الأماكن الشركية ومنع المتلبسين بشيء منها (1) .
أما التصوف فيعتبر هذا العصر- القرن السابع والثامن- العصر الذهبي له، ولعل الضعف والتفرق الذي أصاب العالم الاسلامي قبل ذلك، والحروب الصليبية التى صدمت المسلمين نفسيا قبل أن تصدمهم عسكريا، كانت من أسباب انتشاره في هذا العصر.
والتطور الذي حدث للتصوف في هذا العصر تطور خطير، إذ أنه تحول من تصوف فردى في الغالب يقوم على جهود الأفراد واتباعهم الى تصوف منظم، له مدارسه التي يينيها الحكام وغرهم وتهيأ لهذه المدارس والأماكن كل ما يحتاجه ساكنو هذه المدارس ومرتادوها، ولأ تنقطع بموت الشيخ أو الصوفي وإنما يتوارثها من بعده ممن اشتهروا وزعم الناس فيهم الولاية وشاعت لهم الكرامة.
وقد برز التصوف من خلال ممايلي:
أ- بناء الخوانق والربط والزوايا (2) ،
وقد انتشرت انتشارا عظيما في عصر الأيوبيين والمماليك، ومن المحزن حقا ما ذكره بعض الكتاب من أن أول خانقاه بنيت في الشام كانت برملة بيت المقدس بناها أمير النصارى حين استولى
_________
(1) انظر: نماذج من ذلك في ترجمته بقلم خادمه (ص: 6-24) .
(2) الخانقاه: كلمة فارسية وتنطق أحيانا خانكاه، ومعناها بيت، ثم جعلت علما على المكان الذي يتخلى فيه الصوفية لعبادة الله تعالى، انظر الخطط (2/414) ، ومنادمة الأطلال (ص: 272) .
والربط: جمع رباط وأصله المكان الذي يرابط فيه المجاهدون في سبيل الله في الثغور، ثم بعد ذلك استخدم علما على بيت الصوفية ومنزلهم. انظر: عوارف العوارف (1/ 261- 281) ، والخطط (2/427) .
والزوايا: جمع زاوية، وهي المكان الذي يخصصه شخص ما للعبادة ويختلى فيه ويأتيه فيه بعض مريديه. انظر منادمة الأطلال (ص: 299) .
والفرق بينهما: أن الخانقاه على شكل مدرسة يعين لها شيخ رفيها مدرسون فلا يدخلها إلا من قبل فيه، أما الربط: فهى لفقراء الصوفية، أما الزاوية: فهي برسم شخص معين. انظر المجتمع الاسلامي في بلاد الشام (ص: 155) .(1/143)
الفرنج على القدس، وأنه رأى طائفة من الصوفية فأعجبه ما بينهم من ألفة ومحبة - ولعله لمس أن فيها شبها من رهبنة النصارى - فسألهم عن حالهم فأخبروه، فقال لهم: أبني لكم مكانا لطيفا تتآلفون فيه وتتعبدون، فبنى لهم تلك الخانقاه ثم نتشرت بعد ذلك (1) وفي القرن السادس والسابع كثر بناء الخوانق والربط، فانتشرت في مصر والشام بحيث أصبحت أماكن معروفة ومشهورة يرتادها الصوفية من كل مكان ويتلقون فيها - إضافة إلى دروس العلماء وممارسة العبادات والأوراد الصوفية - وكافة ما يحتاجونه من مطعم ومشرب ومأوى وأموال تصرف لهم أحيانا، حتى أصبحت لها امتيازات ليست لغيرها - بسبب الأموال والأوقاف الكثيرة التي تجلب لها - (2) .
ب - عاش في هذا العصر طائفة من كبار الصوفية الذين كان لهم أتباع ومريدون ولا شك أن وجود هؤلاء في أماكن مختلفة يؤدي إلى أن يصبح التصوف ظاهرة اجتماعية حيثما حل الإنسان في بلد يجد هذه الفئات المتزهدة المظهرة للفقر والحاجة، ومن أهم رجال التصوف المشهورين في هذا العصر:
1 - ابن عربي محيي الدين محمد بن علي بن محمد، توفي سنة 638هـ.
2 - ابن الفارض، عمر بن علي بن مرشد الحموي، توفي سنة 632هـ.
3 - أبو الحسن الشاذلي، علي بن عبد الله بن عبد الجبار، توفي سنة656هـ.
4 - أبو القاسم بن منصور بن يحيى المالكي الأسكندري المعروف بالقباري، توفي سنة 662هـ.
5 - خضر بن أبي بكر المهراني، كان الظاهر بيبرس يعتقد فيه ويخضع له، توفي سنة 676هـ.
6- أحمد البدوي، أحمد بن علي بن إبراهيم القدسي الملثم، توفي سنة675هـ
7- التلمساني المرسي، محمد بن موسى بن النعمان، توفي سنة 686هـ.
_________
(1) انظر: خطط الشام (6/130) ، والمجتمع الإسلامي في بلاد الشام (ص151) .
(2) انظر: حصراً بأسماء هذه الخوانق والربط والزوايا في مصر والشام: خطط المقريزي (2/ 414- 436) ، ومنادمة الأطلال (ص272 - 316) ، وحسن المحاضرة (2/265 - 267، 273) ، والمجتمع الإسلامي في بلاد الشام (ص150 - 155) ، خطط الشام (6/130 - 155) .(1/144)
8- أبو العباس المرسى، أحمد بن عمر الأنصاري، توفي سنة 686 هـ
9- نصر بن سلمان المنبجى، أبو الفتح، توفي سنة 719 هـ.
10- أبو الحسن الشثتري، علي بن عبد الله، توفي سنة 668 هـ.
11 - ابن عطاء السكندري: أحمد بن محمد بن عبد الكريم، توفي سنة 709هـ (1) .
جـ - ادعاء الكرامة وظهور السحر والشعوذة والأحوال الشيطانية، ونسبتها إلى الأولياء والصلحاء أو من يدعون أنهم منهم، ومذهب أهل السنة في الكرامة معروف وهو إثباتها إذا جاءت على يد الصالح المتمسك بالكتاب والسنة وليست دليلا على الولاية، أما الكثير من الكرامات الذي وجد في هذا العصر فقد كان يأتي على يد الدجالين والمنحرفين، أو أنها تنسب الى الصلحاء ولكنها أحوال شيطانية تقع لمن يعتقد فيهم من عامة الناس اعتقادا قد يؤدى إلى الشرك بالله تعالى.
ولقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية مع كثير من هؤلاء وأتباعهم صولات وجولات فبين الحق في هذه الأمور وفضح أصحابها وبين المداخل الشيطانية لهؤلاء، ووضع أصولا للفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. وقد حكى في مناسبات كثيرة من كتبه قصصا شاهدها أو رواها له الثقات عن كثير ممن يدعي أو يدعى له الولاية والكرامة وبين كيف تجيء الشياطين وتصنع هذه الأمور الخارقة فيظن من شاهدها أو وقعت له أنها كرامة وليست كذلك.
فمما ذكره وقد سئل عن الحلاج- المقتول على الكفر والزندقة سنة 309 هـ- فبين حاله وأحواله الشيطانية ثم قال: " ومثل هذا يحدث كثيرا لغير الحلاج ممن له حال شيطاني، ونحن نعرف كثيرا من هؤلاء في زماننا وغير زماننا مثل شخص هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجىء من الهواء إلى طاقة البيت الذي فيه الناس فيدخل وهم يرونه،
_________
(1) انظر: حسن المحاضرة (1 / 518 - 524) ، وانظر: الطرق الصوفية في مصر، عامر النجار (ص: 136-140) .(1/145)
ويجئ بالليل إلى باب الصغير [أحد أبواب دمشق] فيعبر منه هو ورفيقه، وهو من أفجر الناس. وآخر كان بالشويك (1) من قرية يقال لها الشاهدة يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه، وكان شيطانه يحمله وكان يقطع الطريق، وأكثرهم شيوخ الشر ... وشيخ آخر أخبرني نفسه أنه كان يزني بالنساء ويتلوط بالصبيان الذين يقال لهم الحوارات، وكان يقول يأتيني كلب أسود بين عيينه نكتتان بيضاوان فيقول لي: فلان ابن فلان نذر لك نذرا وغدا نأتيك به ... فلما تاب هذا الشيخ وصار يصلي ويصوم ويجتنب المحارم ذهب الكلب الأسود ... وشيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون منه إبراءه، فيرسل إلى أتباعه فيفارقون ذلك المصروع، ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، وكان أحيانا تأتيه الجن بدراهم وطعام تسرقه من الناس.... وآخر كان مشتغلا بالعلم والقراءة فجاءته الشياطين أغوته وقالوا له: نحن نسقط عنك الصلاة ونحضر لك ما تريد، فكانوا يأتونه بالحلوى والفاكهة، حتى حضر عند بعض الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه، وأعطى أهل الحلاوة ثمن حلاوتهم التي أكلها ذلك المفتون بالشيطان ... " (2) .
بل إن ابن تيمية نفسه تعرص ر لمثل هذا فتمثلت بشخصه الشياطين وأغاثوا أقواما فجاءوا يخبرونه بما وقع لهم، يقول: " ذكر غير واحد أنه استغاث بي من بلاد بعيدة وأنه رآني قد جئته، ومنهم من قال: رأيتك راكبا بثيابك وصورتك، ومنهم من قال: رأيتك على جبل، ومنهم من قال غير ذلك، فأخبرتهم أني لم أغشهم، وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليضلهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله " (3) . و! قول: " وأعرف من ذ! ك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي، وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به
_________
(1) الشويك، قلعة حصينة في أطراف الشام بين عمان وإيله، قرب الكرك، معجم البلدان (3/375) .
(2) جامع الرسائل- ت رشاد سالم- (1/92 ا-194) .
(3) الجواب الصحيح (1/319-320) .(1/146)
قد جئنا في الهواء ورفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين، وهذا من أكبر الأسباب التى بها أشرك المشركون وعبدة الأوثان " (1) ، وقد ذكر واقعة غريبة له وهو في السجن بمصر، قال: " كما جرى مثل هذا لي، كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا إلى كثير (2) من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين (3) وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولا، وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاءوا إلى دمشق، كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ماتيسر، فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي ليظن ذلك أني أنا الذي فعلت ذلك.
قال لي طائفة من الناس: فلم لا يجوز أن يكون ملكا؟، قلت: لا، إن الملك لا يكذب وهذا قد قال: أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك (4) .
والتصوف لم يقتصر على هذه الأمور، وإنما كان تصوفا يؤول في الغالب إلى الغلو من الوحدة والاتحاد والحلول، والوقوع في الشركيات بأنواعها، وتعظيم الملاحدة وتصحيح أقوالهم وكفرياتهم. وقد واجه ابن تيمية من هؤلاء أعدادا
_________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 54 ا-155) ، ط المكتب الاسلامي.
(2) هكذا في طبعة الفرقان الموجودة في مجموع الفتاوى (13/92) ، وطبعة دار البيان المفردة، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط (ص: 61) ، وفي طبعة دار إحياء العلوم، تحقيق: حسين يوسف غزال (ص: 117) كتب الكلمة: "كبير " بدل كثير، وهو لم يعتمد على نسخة خطية، لكن لعله هو الصواب.
(3) ماردين، بكسر الراء والدال، قلعة مشهورة بعمل الموصل في الجزيرة قريية من دارا، وهي من أحسن القلاع وأعظمها. فتوح البلدان (5/39) ، والروض المعطار (518) ، وملك ماردين المشار إليه هو الملك المنصور نجم الدين غازى الأرتقى تولى ماردين (693 هـ - 712 هـ) ، انظر: تاريخ الدولة الإسلامية ومعجم الأسر الحاكمة (2/353) ، وانظر: الأمارات الأرتقية: عماد الدين خليل (ص: 352) .
(4) الفرقان بين الحق والباطل- مجموع الفتاوى (13/ 92-93) ، وان! جامع الرسائل (1/195) .(1/147)
كثيرة، وتوب بعض زعمائهم، وقتل بعضهم (1) .
وإذا كان وجود مثل هذه النوعيات خطيرا على الأمة وعقائدها، فأخطر منه أن يتبع هؤلاء المتصوفة المنحرفين بعض العلماء والقضاة الذين يقتدى بهم، وهذا يعطى صورة للمستوى الذي وصل إليه التصوف في هذا العصر، يقول ابن تيمية في بيان حكم طلب الحاجات في القبور والاستغاثة بها: " والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبيا أو وليا ليس مشروعا ولا هو من صالح الأعمال، إذ لو كان مشروعا أو حسنا من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق، ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك، فكلام هؤلاء يقتضي جواز سؤال الميت والغائب، وقد وقع دعاء الأموات والغائبين لكثير من جهال الفقهاء والمفتين حتى لأقوام فيهم زهد وعبادة ودين ترى أحدهم يستغيث بمن يحسن به الظن حيا كان أو ميتا، وكثير منهم تتمثل له صورة المستغاث به وتخاطبه وتقضي بعض حوائجه وتخبره ببعض الأمور الغائبة، ويظن الغير أنه المستغاث به أو أن ملكا جاء على صورته وإنما هى شياطين تمثلت له به وخيالات باطلة فتراه يأتي قبر من يحسن به الظن إن كان ميتا فيقول: أنا في حسبك أنا في جوارك أنا في جاهك قد أصابنى كذا وجرى على كذا، ومقصوده قضاء حاجته إما عن الميت أو به، ومنهم من يقول للميت: اقض ديني واغفر ذنبي وتب على، ومنهم من يقول: سل لي ربك، ومنهم من يذكر ذلك في نظمه ونره، ومنهم من يقول: يا سيدي الشيخ فلان أو يا سيدي يا رسول الله نشكو إليك ما أصابنا من العدو وما نزل بنا من المرض وما حل بنا من البلاء، ومنهم من يظن أن الرسول أو الشيخ يعلم ذنوبه وحوائجه وإن لم يذكرها وأنه يقدر على غفرانها وقضاء حوائجه، ويقدر على ما يقدر عليه الله ويعلم ما يعلمه الله، وهؤلاء قد رأيتهم وععت هذا منهم ومن شيوخ يقتدى بهم ومفتين وقضاة ومدرسين " (2) .
ويقول: " وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا جهة الشبخ عبد القادر خطوات معدودات واستغاث به " (3) . ويذكر أنه لما قدم مصر سال
_________
(1) انظر: جامع الرسائل (1/195-196) .
(2) تلخيص الاستغاثة (1/29-. 3) .
(3) الاستغاثة- الجزء الثاني من المصدر السابق نص الاستغاثة وليس تلخيصا (2/ 250- 251) .(1/148)
بعض ولاة الأمر قاضى القضاة عن فرعون " فقال: ما في القرآن ما يدل على أنه كان كافرا، ومعلوم أن دخول فرعون النار معلوم بالاضطرار من المسلمين واليهود والنصارى.... " (1) . ووصل الأمر بكثير من الناس أنه لما هاجم التتار بلاد الشام خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم.... وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر لوذوا بقبرأبى عمر
فصار ابن تيمية يأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل وأن لا يستغيثوا بغيره. " فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا " (2) .
ثالثا: المذهب الأشعري:
انتشر المذهب الأشعري- في تطوره العقدي- في القرن الرابع والخامس، ولما جاء عهد الأيوبيين- وعلى رأسهم صلاح الدين الأيوبي- تبنوا المذهب الأشعري، وقربوا علماء الأشاعرة، وصلاح الدين نشأ على هذا المذهب؛ فقد حفظ " في صباه عقيدة ألفهاله قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري (3) ، وصار يحفظها صغار أولاده فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه فتمادي الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بنى أيوب ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك " (4) ، ولما تولى صلاح الدين حكم مصر ولى على القضاء صاحبه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني (5) ، الذي ألف "رسالة في الذب
_________
(1) نقض التأسيس المخطوط (2/270) .
(2) 1 لاستغاثة (2/ 276-277) .
(3) ولد سنة: 505 هـ، وتوفي سنة: 578 هـ، رأى أبا نصر القشيري، ودرس بالمدرسة النظامية في نيسابور نيابة عن الجويني، كما درس في دمشق وحلب، انظر: وفيات الأعيان (5/196) ، وطبقات السبكى (7/297) ، والنجوم الزاهرة (6/94) ، وطبقات الأسنوى (2/498) .
(4) الخطط للمقريزى (2/358) .
(5) ولد سنة 516 هـ، وتوفي سنة 655 هـ، انظر التكملة للمنذري (2 / 156) ، =(1/149)
عن أبى الحسن الأشعري " (1) .
ولما جاء عهد المماليك استمر تبنيهم لهذا المذهب من خلال توليه القضاء لأئمة الشافعية والمالكية الذين كانوا يلتزمون المذهب الأشعري، ومما يلاحظ- في هذا العصر- أن المذهب الأشعري صار تبنيه بيد من بيده السلطة من العلماء إلى الحد الذى يستنكر معه أشد الاستنكار أن يقوم أحد بمخالفته ويجاهر في رده ونقض أصوله. ولعل ما حدث لابن تيمية من محن كانت مع الأشاعرة دليل كل ذلك.
وسنعرض- إن شاء اللهـ عند الحديث عن المذهب الأشعري وتطوره تفصيلات أخرى لهذا الموضوع.
وبعد فهذا عرض لعصر ابن تيمية، وأحواله السياسية والعقائدية وهو إن كان فيه نوع من الإطالة إلا أنه سيساعد- بعون اللهـ على إدراك خلفيات هذا العصر الذي هو كالقنطرة بين عصرنا هذا والعصور السابقة، وكثير ممن ترجم لابن تيمية مر عليها مرورا سريعا، ولما كان موقف ابن تيمية من الأشاعرة - وغيرهم ممن كان له انحراف عن طريق السلف- موقفا بارزا وسمة واضحة من سمات هذا العصر، بحيث تحول إلى مدرسة كبرى في العالم الإسلامى لها أتباع ومؤيدون، واستمرت هذه المدرسة تخرج العلماء والمؤلفات والدراسات الداعية إلى العودة إلى مذهب السلف أهل السنة والجماعة ولما كان الأمر بهذا المستوى كان لابد من عرض مركز لأحوال هذا العصر وخلفيته.
* * *
_________
(1) = والبداية والنهاية (13 / 52) ، والعبر (3 / 139) ، وسير أعلام النبلاء (21 / 474) وحسن المحاضرة (1/ 408) .
(1) طبعت في الهند مع مجموعة الرسائل السبعة قي العقائد، وقد حققها علي ناصر فقيهي وطبعها مع كتاب الأربعين في دلائل التوحيد للهروي، وقد أخطأ المحقق في ترجمة ابن درباس فوضع في حاشية (ص: 107) ترجمة ابنه محمد بن عبد الملك المتوفي سنة: 659 هـ، على أنها ترجمة المؤلف للرسالة، كما وضع تاريخ ميلاده ووفاته على الغلاف، وهو وهم. وعبد الملك بن درباس الأب مؤلف الرسالة في الذب عن الأشعري. كان صاحبا وقاضيا لصلاح الدين الأيوبي، وقد توفي صلاخ الدين سنة 589 هـ.(1/150)
المبحث الثاني: حياة ابن تيمية وآثاره
أولا: اسمه ونسبه ومولده:
هو شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس، أحمد ابن العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر، ابن علي، بن عبد الله، بن تيمية الحراني (1) .
ولد شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (2) بحران (3) يوم الاثنين عاشر- أو ثاني عشر- ربيع الأول سنة 661 هـ، وسافر به والده مع والدته واخوته بسبب
_________
(1) انظر في ترجمة ابن تيمية: العقود الدرية، والبداية والنهاية (13/ 241) ، وما بعدها، والأعلام العلية للبزار (ص: 16) وما بعدها، وذيول العبر (ص: 84) ، وتذكرة الحفاظ (4/1496) ، وتتمة المختصر لابن الوردي (2/406) ، والوافي للصفدي (7/15) ، وأعيان العصر عن شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين للمنجد (ص: 49) ، وفوات الوفيات (1/74) ، والدرر الكامنة (1/154) ، وطبقات الحفاظ للسيوطى (ص: 516) ، ودرة الحجال (1/ 30) ، وتذكرة النبيه (2/185) ، وشذرات الذهب (6/ 80) ، والكواكب الدرية (ص:51) ، والشهادة الزكية والرد الوافر، وطبقات المفسرين للداودي (1/45) ، وذيل طبقات الحنابلة (2/387) ، والسلوك (4/2 30) ، والنجوم الزاهرة (9/ 271) ، والمنهل الصافي ط الثانية (1/358) ، والدليل الشافي (1/56) ، والبدر الطالع (1/63) ، وفهرس الفهارس (1/274) ، أما الكتب المعاصرة فكثيرة جدا.
(2) سبب تلقيبه بابن تيمية: أن جده محمد بن الخضر- أو من فوقهـ حج على درب تيماء، فرأى جارية خرجت من خباء فلما رجع وجد زوجته ولدت بنتا فرفعوها إليه فقال: يا تيمية، يا تيمية أي إنها تشيه تلك الجارية التي رآها بتيماء، وقيل: إن جده محمدا كانت أمه تسمى تيمية فنسب إليها، العقود الدرية (ص: 2) ، وتاريخ أربل (1/97) ، وسير أعلام النبلاء (22/289) .
(3) " حران " بتشديد الراء، بلدة في الجزيرة- بين الشام والعراق، وحران مدينة قديمة بين الرها والرقة وهذه هي التي ينسب إليها ابن تيمية، وهناك حران من قرى حلب، وحران قرية بغوطة دمشق- وأخطأ من نسبه إليها، انظر معجم البلدان (2/235) ، ومراصد (1/389) ، ومعحم ما استعجم (1/435) ، وأحسن التقاسيم (ص: 141) ، والروض المعطار (ص: 191) ، والأنساب للسمعافي (ص: 4/ 96) ، ومختصر كتاب البلدان (ص: 132) .(1/151)
أوضاع ديار بنى بكر وما حولها- ومنها حران- التي كانت أحوالها سئية بعد استيلاء التتر عليها (1) ، فوصلوا إلى دمشق سنة 667 هـ واستوطنوها (2) .
وقد اشهرت عائلته بالعلم والمكانة، فجده مجد الدين عبد السلام بن عبد الله من العلماء الأعلام، قال عنه الذهبي: " كان إماما كاملا، معدوم النظير في زمانه، رأسا في الفقه وأصوله بارعا في الحديث ومعانيه، وله اليد الطولى في معرفة القراءات والتفسير " (3) ، وذكر تقي الدين أبو العباس أن جمال الدين ابن مالك (4) كان يقول: ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديد (5) . ولد المجد سنة 590 هـ؛ وتوفي سنة 652 هـ (6) ، أما والد تقى الدين فهو الشهاب عبد الحليم بن عبد السلام، ولد سنة 627 هـ، وتوفي سنة 682 هـ قال عنه الذهبي: " ذو الفنون.... صار شيخ حران وحاكمها وخطيبها بعد موت والده" (7) . وقال ابن كثير: " مفتي الفرق، الفارق بين الفرق، كان له فضيلة حسنة، ولديه فضائل كثيرة " (8) . وقال ابن شاكر الكتبي: " كان إماما في التفسير مبرزا في المذهب والخلاف وأصول الدين والنحو واللغة، وله معرفة تامة بعلم الحساب والجبر والهندسة وكان يعرف علوما كثيرة،
_________
(1) حيث ضرب التتار هذه البلاد كما أن المماليك- في صراعهم مع التتار- كالوا يتلفون المزارع، انظر: الامارات الأرتقية في الجزيرة والشام (ص: 329) وما بعدها و (ص: 441) .
(2) في عيون التواريخ لابن شاكر الكتبى (22/ 339) ما يفيد أن حران أخليت من أهلها فقدم والده دمشق.
(3) معرفة القراء الكبار (2/654) ، ط الرسالة المحققة.
(4) هو: جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الجياني الشافعى النحوي- صاحب الألفية- ولد سنة 0 0 6 هـ، وتوفي سنة 672 هـ، بغية الوعاة (1/130) ، وإشارة التعيين (ص:/ 320) .
(5) سير أعلام النبلاء (23/292) ، ومعرفة القراء الكبار (4/654) .
(6) انظر في ترجمته المصدرين السابقين، وذيل طبقات الحنابلة (2/249) ، والنجوم الزاهرة (7/33) .
(7) 1 لعبر (3/349-350) .
(8) البداية والنهاية (13 / 303) .(1/152)
وكان حسن الأخلاق لطيفا " (1) .
أما والدة تقى الدين فهى ست النعم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرانية عمرت فوق السبعين، توفيت سنة 716 هـ (2) .
ولشيخ الإسلام تقى الدين ثلاثة من الإخوة اشتهروا بالعلم والفضل وهم:
1- أخوه لأمه: بدر الدين أبو القاسم محمد بن خالد الحراني، ولد سنة 650 هـ تقريبا، وتوفي سنة 717 هـ كان عالما فقيها إماما، تولى التدريس عن أخيه تقى الدين (3) .
2- شقيقه زين الدين عبد الرحمن بن عبد الحليم، ولد سنة 663 هـ، وتوفي سنة 747 هـ، كان زاهدا عابدا، كما كان تاجرا، حبس نفسه مع أخيه تقى الدين في الإسكندرية ودمشق ليخدمه (4) .
3- شقيقه شرف الدين عبد الله بن عبد الحليم، ولد سنة 666 هـ، وتوفي سنة 727 هـ لما كان تقى الدين مسجونا في القلعة، كان عالما متبحرا وذهب مع أخيه إلى مصر وناظر خصومه وحده فانتصر عليهم (5) .
ثانيا: حياته الأولى:
نشأ ابن تيمية وتربى في كنف والده، فتلقى العلم عنه وعن غيره من شيوخ عصره، ولم يقتصر على التلقى عن المعاصرين له وإنما اتجه إلى مؤلفات
_________
(1) عيود التواريخ (22/339) ، وانظر في ترجمتهـ غير ما سبق- ذيل طبقات الحنابلة (2/ 0 31) ، وجلاء العيمين (ص: 42) ط المدني، وشذرات الذهب (5/376) ، والنجوم الزاهرة (7/359) .
(2) البداية والنهاية (14/79) .
(3) انظر في ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة (2/ 0 37) ، وشذرات الذهب (6/45) .
(4) انظر في ترجمته: ذيل العبر للحسيني (ص: 143) ، البداية والنهاية (14/ 220) ، الدرر الكامنة (2/437) ، شذرات الذهب (6/ 152) .
(5) انظر: العقود الدرية (ص: 1 36) ، وذيل طبقات الحنابلة (2/382) ، وشذرات الدهب (6/76) ، وجلاء العينين (ص: 42) ط المدني.(1/153)
من سبقه من العلماء حفظا واطلاعا، ونلمح في حياته الأولى ما يلي:
أ - قوة حافظته وسرعة إدراكه لما يسمع أو يقرأ، وذكر مترجموه لذلك قصة (1) .
ب - محافظته على الوقت منذ صغره، وذكروا لذلك حكاية (2) ، ولذلك سار بقية حياته في عمل؛ إما جهاد أو تدريس أو أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر أو تأليف للكتب والرسائل والرد على المخالفين.
جـ - قوة تأثيره وحجته، فقد أسلم على يديه يهودي وهو صغير (3) .
د - بدؤه بالإفتاء والتدريس في وقت مبكر، فقد أفتى عمره 19سنة (4) ، كما درس بدار الحديث السكرية (5) مكان والده في الثاني من محرم سنة 683هـ - أي بعد وفاة والده بقليل - إذ توفي في سلخ (6) ذي الحجة سنة 682 هـ (7) .
هـ - تمثلت مصادره الأولى مختلف فنون المعرفة ومنها: التفسير وعلوم القرآن، والسنة، الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارقطني / ومعجم الطبراني، وما يتعلق بها من علوم الحديث والرجال، والفقه وأصوله، وأصول الدين والفرق، واللغة والخط والحساب، والتاريخ، إضافة إلى علوم أخرى
_________
(1) انظر العقود الدرية (ص:40) ، والكزاكب الدرية (ص80) .
(2) انظر الرد الوافر (ص218) ، أعيان العصر عن المنجد (ص51) .
(3) انظر الأعلام الحلية (ص17) ، وهو غير اليهودي الآخر الذي أسلم على يديه سنة 701هـ، انظر البداية والنهاية (14/ 19) .
(4) أذن له بالإفتاء شرف الدين المقدسي، توفي سنة 694هـ، وكان يفتخر بذلك ويقول: أنا أذنت له بالإفتاء، انظر البداية والنهاية (13/ 341) ، والعقود (ص: 4) .
(5) دار الحديث السكرية: كانت بالقصاعين داخل باب الجابية بدمشق، وبعد تولي ابن تيمية تدريسها حرص على توسعتها، فانتدب لذلك أحد التجار المحبين لشيخ الإسلام يقال له: محمد بن عبد الكريم التدمري، فاعترض أحد نظار الوقف، ولكن بعد أمور وقعت بناها التدمري وأتم بناءها سنة 685هـ. الأطلال (ص: 45 - 46) .
(6) السلخ - بالفتح - آخر الشهر، انظر: تاج العروس مادة: سلخ.
(7) انظر: العقود (ص5) ، والبداية والنهاية (13/ 303) ،، وذيل طبقات ابن رجب (2/ 388) ، والرد الوافر (ص146) .(1/154)
من فلك وطب وهندسة (1) ، وهذا واضح في كتبه التى ألفها فيما بعد، لا يتطرق إلى فن من الفنون إلا ويظنه القارىء متخصصا في هذا الفن.
ثالثا: شيوخه:
تتلمذ تقي الدين على شيوخ كثيرين، وقد خرج لنفسه مشيخة- رواها عنه الذهبى- روى فيها أربعين حديثا عن أكثر من أربعين شيخا وشيخة (2) ،؟ اشتهر برواية جزء حديثى مشهور- وهو جزء ابن عرفة (3) -، ومن شيوخه الذين لم يردوا في مشيخته:
1- شرف الدين المقدسى: أحمد بن الشيخ كمال الدين أحمد بن نعمة ابن أحمد الشافعى خطيب دمشق ومفتيها، وشيخ الشافعية فيها [622هـ -694 هـ] (4) .
2 - محمد بن عبد القوي بن بدران بن عبد اللة المقدسى، المداوي، الفقيه المحدث النحوي، شمس الدين أبو عبد الله، قرأ عليه ابن تيمية العربية [ولد سنة 603 هـ، وتوفي سنة 699 هـ] (5) .
3- تقى الدين الواسطي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الصالحي الحنبلى 1 602 هـ- 692 هـ، (6) .
_________
(1) انظر: العقود (ص: 3، 7) ، والوافي (7/16) ، وتاريخ ابن الوردي (2/ 8 0 4-9 0 4) ، والأعلام العلية (ص: 8 1) ، وذيل ابن رجب (2/388) .
(2) طبعت في مجموع الفتاوى (18/76- ا 2 1) ، كما طبعت مفردة في دار القلم بتحقيق الشيخ عبد العزيز السيروان- ترجم لرواتها فوهم في تراجم بعضهم- وعدد الشيوخ الواردين في المشيخة - وبعضهم تكرر في أكثر من حديث- واحد وأربعون شيخا وأربع شيخات.
(3) طبع هذا الجزء وانظر الصفحات (23،25،28) من مقدمة المحقق، وممن روى هذا الجزء عن ابن تيمية التجيبي: القاسم بن يوسف التجيبى السبتي المتوفي سنة 730 هـ، انظر برنامجه (ص: 92 ا-193) ، هـ الدار العربية للكتاب.
(4) انظر: البداية والنهاية (13/ 341) ، والعبر (3/ 381) ، وشذرات الذهب (5/ 424) .
(5) انظر: العبر (3/ 402) ، وذيل طبقات الحنابلة (342/2) ، شذرات الذهب (5/ 352) .
(6) انظر: العبر (3/378) ، والمنهل الصافي (1/122-126) .(1/155)
4- محمد بن إسماعيل بن أبى سعد بن على الشيباني الآمدي ثم المصري، شمس الدين أبو عبد الله [687 هـ- 4 0 7 هـ] (1) .
5- المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخى الدمشقى، زين الدين أبو البركات [631 هـ- 695 هـ] أخذ عنه ابن تيمية الفقه (2) .
6- عبد الرحيم بن محمد بن أحمد بن فارس العلثى ثم البغدادي، عفيف الدين أبو محمد [2 1 6 هـ- 685 هـ] (3) .
ست الدار بنت عبد السلام ابن تيمية، عمة شيخ الإسلام، روى عنها، توفيت سنة 686 هـ (4)
وغيرهم من الشيوخ الذين روى وأخذ عنهم والذين يزيدون على مئتي شيخ (5) ..
رابعا: هل كان مقلدا لشيوخه؟
كل عالم يبدأ حياته العلمية غالبا ما يبدؤها بتقليد شيوخه الذين أخذ عنهم ووثق في علومهم، والمتتبع لحياة شيخ الإسلام ابن تيمية يلمس منها أن ما أعطاه الله من ذكاء وقوة حافظة وسرعة إدراك وجو علمي مليء بالعلماء وبالكتب التى ألفها من كان قبلهم، ساعده على أن يكون ذا قدرة علمية مستقلة بعيدة عن التقليد الأعمى، ولذلك استمر طول حياته على منهج واحد لم يتغير، بخلاف بعض العلماء- خاصة من غاصوا في علم الكلام والفلسفة- تجد الواحد منهم يمر في حياته بأكثر من مرحلة، كل مرحلة لها منهج وطريقة تخالف المرحلة الأخرى.
_________
(1) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2/352) .
(2) انظر: المصدر السابق (2/332) .
(3) انظر: العبر (3/359) ، وذيل ابن رجب (2/315) .
(4) انظر: أعلام النساء (2/154) .
(5) انظر: العقود (ص: 3) ، والكواكب (ص: 52) ، وانظر في شيوخ ابن تيمية: ديل ابن رجب (2/387) ، والبداية والنهاية (14/136- 137) ، والوافي (7/16) ، وتذكرة الحفاظ للذهبي (4/1496) ، والدرر الكامنة (1/ 154) وغيرها.(1/156)
ومع ذلك فنلمس- من خلال تتبع حياة ابن تيمية- رجوعه عن بعض المسائل التي قد يكون أخذها تقليدا، أو لم تتكامل معرفته بالشخص أو المسألة المعينة: فمثلا: يذكر أنه كان يحسن الظن بابن عربي الصوفي صاحب الفتوحات ثم عرف حقيقة حاله، يقول: " وأنا كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربى ويعظمه، لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات، والكنه، والمحكم المربوط، والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا، فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة هؤلاء وجب البيان " (1) . ومرة حضر مع الصوفية وأقاموا سماعا لكنه لم يشاركهم يقول: " وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والارادة، فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة، فبتنا بمكان، وأرادوا أن يقيموا سماعا وأن أحضر معهم، فامتنعت من ذلك، فجعلوا لي مكانا منفردا قعدت فيه، فلما سمععوا وحصل الوجد والحال، صار الشيخ الكبير يهتف بى في حال وجده ويقول: يا فلان قد جاءك نصيب عظيم، تعال خذ نصيبك، فقلت في نفسي- ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا-: أنتم في حل من هذا النصيب، فكل نصيب لا يأتي عن طريق محمد بن عبد الله فإني لا آكل منه شيئا، وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة وعلم أنه كان معهم الشياطين، وكان فيهم من هو سكران بالخمر" (2) .
وهذه القصة كانت في أوائل عمره، وهنا يلحظ حرص هؤلاء الصوفية عليه لادخاله في زمرتهم، لكن موقفه القوي ووضوح العقيدة عنده ومعرفته بأحوالهم يدل على وعي مبكر بحال هذه الطائفة المنحرفة، ولذلك استمر في موقفه منها ورد عليها وفضح دعاتها. كما حدث له في مسألة"حلول الحوادث- الصفات الاختيارية لله تعالى- ومسألة الزيارة البدعية والشرعية ما يذكره بقوله: " ولكن هذه المسألة
_________
(1) رسالة ابن تيمية إلى نصر المنبجى، مجموع الفتاوى (2/464- 465)
(2) مجموع الفتاوى (10/ 4180-419) .(1/157)
[أي حلول الحوادث] ومسألة الزيارة وغيرهما حدث من المتأخرين فيها شبه، وأنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك، نقول في الأصلين بقول أهل البدع، فلما تبين لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله، أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فكان الواجب هو اتباع الرسول وأن لا نكون ممن قيل فيه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21] وقد قال تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:24] ... " (1) ، بل يذكر أنه صنف منسكا ذكر فيه استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها ثم تبين له أن ذلك بدعة، يقول: " وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري، لبعض الشيوخ جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف وغير ذلك من العبادات " (2) .
فهذه المواقف له تدل على المنهل الأصيل الذي انطلق منه، متبعا للكتاب والسنة ولو كان ذلك فيه مخالفة لما كان عليه الآباء والأجداد، أو ما يترسمه الشيوخ والعلماء والقضاة، فالحق أحق أن يتبع، والأمور لا توزن بكلام الناس وما اعتادوهـ ولو كانوا علماء فضلاء- وإنما توزن بميزان الحق والعدل المبني على الشرع المنزل.
خامسا: جهاده وربطه بالعمل:
لقد تميزت حياة ابن تيمية بهذه الميزة العظيمة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فلم يكن العالم القابع في بيته، المتفرغ للإفتاء
_________
(1) رسالة في الصفات الاختيارية- جامع الرسائل- تحقيق رشاد سا لم (2/56) ، وهو في مجموع الفتاوى (6/258) .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (2/802) .(1/158)
والتدريس والتأليف - وغنما كان رحمه الله - رابطا العلم بالعمل، فعلمه يدفعه إلى تحمل مسؤوليته فيبادر إلى القيام بالحق والجهاد في سبيل الله وردع أهل الباطل.
وحياة ابن تيمية كلها كانت جهادا، والكلام حول هذا الجانب يطول ولكن نشير إلى بعض الأمثلة:
أ - أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
وكانت له في ذلك مواقف عظيمة، منها:
1 - كسره للأصنام والأماكن التي تعظم من دون الله - وقد مضى نماذج من ذلك عند الحديث عن انتشار بعض الشركيات في عصره - كما كان في ديار مصر - ينهى عن إتيان المشاهد وتعظيمها، وكان ينهى الذين يحلفون إذا أرادوا تغليظ أيمانهم حلفوا عند مشهد الحسين (1) .
2 - موقفه من النصارى: لما تضاءل الوجود النصراني في بلاد الشام صارت قبرص موطنا لهم يأوون إليها وهي تحت حكم النصارى وكانوا أحيانا يأخذون معهم أسارى المسلمين، وقد أرسل شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة إلى ملك قبرص - سرجوان - يدعوه فيها إلى الإسلام، ويفضح ما يفعله القسس والرهبان من الكذب على الناس مع معرفتهم أنهم على الباطل، ثم بعد أن ذكر ما عند الملك من الديانة ومحبة العلم وطلب المذاكرة، وحسن المعاملة، دعاه إلى الإسلام والاعتقاد الصحيح - بأسلوب يفيض رقة وأدبا مع مخاطبة العقل - ثم يقول: " وإن رأيت من الملك رغبة في العلم والخير كاتبته وجاوبته عن مسائل يسألها، وقد كان خطر لي أن أجيء إلى قبرص لمصالح في الدين والدنيا ... " (2) ، ثم عقب بعد ذلك بذكر مواقفه من التتار وكيف أنه لما خاطبهم بإطلاق الأسارى وكيف أبى إلا أن يطلق جميع الأسارى من اليهود والنصارى ولا يقتصر على المسلمين، ثم يقول بلهجة قوية:: فيا أيها الملك، كيف تستحل سفك الدماء
_________
(1) انظر ناحية من حياة شيخ الإسلام بقام خادمه (ص15 - 17) .
(2) الرسالة القبرصية (ص54) .(1/159)
وسبى الحريم وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسوله " (1) .
ثم أوصى في آخر الرسالة بالإحسان إلى من عنده من المسلمين، وأن لايسعى إلى تغيير دين أحد منهم (2) .
كا كان لابن تيمية مناقشات لبعض النصارى، ففي الجواب الصحيح أشار إلى بعض مناقشاته لهم (3) ، وأيضا فقد ناقش ثلاثة من رهبان النصارى جاءوه من الصعيد لما كان في مصر (4) .
وفي سنة 693 هـ كانت وقعة عساف (5) النصراني، حين سب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عليه ابن تيمية والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث ودخلا على الأمير، وكانت قصة أوذي فيه الشيخان، ثم جاء الخبر بقتل النصراني (6) .
3- أما الصوفية فله معهم مواقف عدة، من أشهرها موقفه من الدجاجلة البطائحية (7) ، وهذه الطائفة كان له معها وقائع متعددة، بين لهم فيها ما عندهم من حق وباطل، كما فضح أحوالهم الشيطانية التي يزعمونها، وعزم على أن يدخل معهم النار التى يزعمون أنها من أحوالهم وخوارقهم، وقد استتابهم وأظهروا له الموافقة والطاعة، ولكنهم في تاسع جمادي الأولى سنة 705 هـ ذهبوا إلى الأمير
_________
(1) المصدر السابق (ص: 61) .
(2) انظر: رسالته إلى ملك قبرص (ص: 71-72) ، وقارن هذه الرسالة برسالة ألمط الوليد الباجي المتوفي سنة 474 هـ إلى راهب فرنسا النصرالمط جوابا لرمالته إلى المقتدر بالثة حام س قسطة 438 - 474 هـ يدعوه فيها إلى الدخول في النصرانية. فانتدب الباحي لإجابته، وكان أسلوبه جيدا. انظر الرسالتين بتحقيق: محمد عبد اللة الشرقاوي.
(3) انظر: الجواب الصحيح (2/172) .
(4) انظر: مجموع الفتاوى (1/ 370- 371) ، وترجمة ابن تيمية بقلم خادمه (ص: 23-24) .
(5) هو عساف ابن أحمد بن حجى، البداية والنهاية (13/ 340) ، والنجوم الزاهرة (74/8) .
(6) انظر: البداية والنهاية (13/ 335-336) .
(7) يقال لهم الأحمدية والرفاعية نسبة إلى أحمد الرفاعى؛ مؤسسها في أم عبيدة من قرى البطائح بين البصرة وواسط وخلف الرفاعي خاله منصور البطائحي، انظر عن أحمد الرفاعي وأم عبيدة والبطائح: وفيات الأعيان (1/171-172) ، والطرق الصوفية في مصر (ص: 89) .(1/160)
يشكون ابن تيمية ويطلبون منه أن يسلم لهم حالهم، وأن يكف إمارته عنهم، وأن لا يعارضهم ولا ينكر عليهم، وأرادوا أمام الناس إظهار أحوالهم الشيطانية، فلما جاء شيخ الإسلام تكلم عن اتباع الشريعة وأنه لا يسع أحدا الخروج عليها، ورد على دعواهم أنهم يستطعون دخول النار وأن أهل الشرع لا يستطعون ذلك، وعزم على أن يدخل معهم بشرط أن يغسلوا أجسامهم بالخل والماء الحار وقال في أثناء المناقشة: ومع هذا فلو دخلتم النار أو طرتم في الهواء وفعلتم ما فعلتم لم يكن دليلا على صحة ما تدعونه من نحالفة الشرع، وبعد ما غلبوا وبهتوا أقروا بأن يلتزموا التزاما تاما بالكتاب والسنة ومن خرج عنهما ضربت عنقه.
وهكذا قضى على هذه الفتنة العطمة، وأحبطت مزاعم هذه الطائفة المنحرفة الذين " كانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال اكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل " (1) .
4- في سنة 704 هـ قام باستتابة شيخ يسمى إبراهيم القطان، وحلق رأسه وقلم أظافره وكانوا طوالا جدا، واستتابه من كلام الفحشى وأكل ما يغير العقل، وما لا يجوز من المحرمات، وبعد ذلك استحضر الشيخ محمد الخباز البلاسي فاستتابه أيضا عن أكل المحرمات ومخالطة أهل الذمة (2) . وفي الاسكندرية توب رئيسا من رؤساء الصوفية (3) ، كما أنكر على طائفة القلندرية (4) ،
_________
(1) مناظرة ابن تيمية لدجاجلة البطائحية. مجموع الفتاوى (11/456-457) ، وانظر: تفاصيل أخرى مهمة من (ص: 445-475) وهي ضمن مجموعة الرسائل والمسائل، ط المنار (1/ 121-146) ، وانظر في قصتهم: العقود (ص: 194) ، والبداية والنهاية (14/33) .
(2) انظر: البداية والنهاية (14/33) .
(3) انظر العقود (ص: 274) .
(4) ويسمون الملامية أو الملامتية، واليونسية والحيدرية، وهى من طوائف الصوفية المنحرفة نشأت بعد الستمائة بقليل في دمشق، انظر: أخبارهم في خطط المقريزي (2/432-433) ، والرد الوافر مع الحاشية (ص: 94-95) ، وانظر: فتوى شيخ الاسلام فيهم في مجموع الفتاوى (35/163) .(1/161)
وفي سنة 726 هـ ضربت عنق ناصر بن الشرف الهيثي لكفره واستهتاره بآيات الله، شهد قتله ابن كثير وجاءه ابن تيمية وقرعه على ما كان يصدر منه (1) . وفي إحدى المرات عزر أحد المشايخ ممن يدعي أنه المهدي (2) .
5- في سنة 699 هـ قام مع أصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وأراقوها وعزروا جماعة من أهل الحانات ففرح الناس بذلك (3) . وفي سنة 701 هـ قام عليه مجموعة من الحسدة بسبب إقامته الحدود والتعزير (4) .
6- أما مواقفه من السلاطين فمشهورة وأشهرها موقفه من قازان سلطان التتار- والتتار في ذلك الوقت كانت لهم هيبة وصولة- وكيف أنه كلمه بكلام قوي عن أعمالهم وافسادهم وانتهاكهم لحرمات المسلمين مع ادعائهم الإسلام (5) . وكذلك موقفه من الناصر- حين عاد إلى سلطنته للمرة الثالثة وأفرج عن ابن تيمية- فعرض وزيره مسألة أهل الذمة وأنهم يريدون أن يدفعوا أموالا على أن لا يلزموا باللباس المخصوص بهم، فاستشار السلطان العلماء الحاضرين فسكنوا، فتكلم ابن تيمية بكلام غليظ حتى رجع السلطان (6) . وكذلك موقفه من الأمير قطلوبك الكبير الذي كان يأخذ أموال الناس بالباطل فجاءه ونهاه (7) .
7- وكان لابن تيمية تأثير على السلاطين ليقوموا بدورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمثلا حين اشهرت الرشوة وأصبح لها دور في تولية بعض المناصب، بل وفي إسقاط الحدود في سنة 712 هـ ورد خطاب إلى دمشق
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/ 122-123) .
(2) انظر: الاستغاثة (2/218- 219) .
(3) انظر: البداية والهاية (14/ 11) .
(4) المصدر السابق (14/19) .
(5) انظر المصدر السابق (14/ 89) ، والأعلام العلية (ص: 69) ، والكواكب (ص: 93) ، ودولة بني قلاوون (ص: 178) .
(6) انظر: العقود (ص: 281) ، وا لبدا ية وا لنها ية (4 1/54) ، والكواكب (ص: 137) ، وحسن المحاضرة (2/ 300) .
(7) انظر: الوا في (7/17) .(1/162)
من السلطان أن لا يولي أحد بمال ولا رشوة، وأن يقتص من القاتل بحكم الشرع. وكان ذلك بمشورة ابن تيمية (1) . كما حارب ابت تيمية بعض البدع ومنها صلاة الرغائب (2) فيذكر ابن كثير أنه في سنة 706هـ صليت صلاة الرغائب التي أبطلها ابن تيمية بسبب سجنه في مصر (3) ، ثم أبطلت سنة 707 هـ (4) .
هذه نماذج من مواقف ابن تيمية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو لم يكن في حياته إلا هذا الجانب لكان دليلاً على جهاده وصبره -رحمه الله-.
ومما يلحظ في هذا الجانب وفي غيره أن ابن تيمية كانت له جماعة من أصحابه يستعين بهم، وينفذون معه ما يريد، ويصحبونه في حالات جهاده، وأمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، وهذا ملاحظ في ترجمته، فابن كثير يذكر أنه في سنة 699هـ خرج الشيخ ابن تيمية وجماعة من أصحابه إلى ملك التتر (5) ... ، وفي سنة 704هـ ذهب مع أصحابه لهدم صخرة تزار (6) ، وفي نفس السنة ذهب مع أصحابه إلى جبل الكسروانيين، وفي سنة 709 هـ لم يخرج أحد من أصحابه معه إلى الاسكندرية، لكن بعد ذلك لحق به جماعة من أصحابه (7) .
ب - جهاده للتتار:
اكتنفت جهاد التتار حالة من الغموض في بعض الأمور المتعلقة بهم، كما صاحبها أحوال من الخوف والهلع من هذه الجيوش المدمرة، كما أن أوضاع العصر
_________
(1) انظر البداية والنهاية (14/66) .
(2) صلاة مبتدعة نشأت في القدس بعد الثمانين والأربعمائة، ورد فيها حديث موضوع، وهي صلاة في رجب تصلى في الليل على أثر صيام أول خميس فيه، وهذه الصلاة هي موضوع المساجلة العلمية بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح، انظرها مع مقدمتها. طبع المكتب الإسلامي.
(3) انظر البداية والنهاية (14/ 41) .
(4) المصدر السابق (14/46)
(5) المصدر نفسه (14/8)
(6) المصدر نفسه (14/ 34) .
(7) انظر البداية والنهاية (14/ 49 - 50) .(1/163)
وما فيه من فوضى جعلت موضوع " الجهاد في سبيل الله" الذي هو من أشرف الأعمال وأعظمها صورة نظرية تقرأ في نصوص الكتاب والسنة وأقوال العلماء، أو انحصرت في مسألة واضحة- لا يزال المسلمون يعيشون أحداثها- في جهادهم للنصارى. وقد هيأ الله لهذه الأمة في هذا الوضع رجلاً يقوم بدور كبير في هذا المجال وفي هذه الأحوال، وقد ظهرت مواقف ابن تيمية وجهاده العظيم من خلال مايلي:
أ- توضيح حال التتار، وأنه يجب قتالهم- لاتفاق العلماء على وجوب قتال كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام- ثم بيانه لأحوال التتار وأنه ينطبق عليهم هذا الحكم- وقد تقدم بيان ذلك.
ب- بيان أسباب النصر، وأن التتار- على قوتهم وكثرتهم ورهبة الناس منهم- ليس مستحيلا أو صعبا النصر عليهم متى ما أخذ المسلمون بأسباب النصر من تحكيم الشرع ورفع الظلم ونشر العدل، وإخلاص النية في الجهاد في سبيل اللة، ولذلك نجده في معركة " شقحب " (1) يأمر الناس بالفطر اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وأفطر معهم، وكذلك لما حض السلطان على الجهاد سأله السلطان أن يقف معه فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم (2) ، وقبيل المعركة- وابن تيمية يحض على الجهاد- كان يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] . (3) .
_________
(1) شقحب كجعفر، موضع قرب دمشق، وهي قرية صغرة قبلي دمشق على تخوم أرض حوران تبعد عن دمشق 37 كيلو مترا. وشقحب تقع تحت جبل غباغب وهي قرية في أول عمل حوران، انظر: تاج العروس (1/324) ط بولاق، ومعجم البلدان (4/184) ، والسلوك (1/932) ، وأعلام الورى لابن طولون (ص: 166) حاشية المحقق.
(2) انظر: البداية والنهاية (14/26) .
(3) المصدر السابق (14/23) وفيه وقع تحريف في الآية.(1/164)
ب- ثم نجدهـ بعد جهاده لهؤلاء والانتصار عليهم- يحلل تلك المعارك ويبين الدروس المستفادة منها، ويقف فيها وقفات يبين وجه الشبه بين ما جرى مع التتار وغزوات النبى - صلى الله عليه وسلم -، يقول في بداية كلامه: " إن هذه الفتنة التي ابتلى بها المسلمون من هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الاسلام، قد جرى فيها شبيه ما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المغازي التى أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين، ما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القيامة، فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظى والمعنوي، أو بالعموم المعنوي. وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كا نالت أولها وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها ... " (1) ، ثم يذكر هذه الفتنة التي وقعت فيقول: " ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان " (2) .
ثم بين أقسام الناس في هذه الحادثة ووجه الاعتبار منها، ثم أخذ يقارن بين أحداث السيرة وبين ما وقع في هذه الفتنة مع التتار؛ فيعرض لحال الأعداء ولحال المؤمنين، ثم يتكلم عن المنافقين وأفعالهم وصفاتهم، مع مقارنة دقيقة بأحوالهم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيذكر تحزب الأحزاب من كل جانب على المدينة ثم يقول: " وهكذا هذا العام: جاء العدو من ناحيتي علو الشام، وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما، وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا:
هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام.
_________
(1) العقود الدرية (ص: 121) .
(2) المصدر السابق (ص: 124) .(1/165)
وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر.
وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذايظن أنهم يأخذونها ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها.
وهذا- إذا أحسن ظنهـ قال: إنهم يملكونها العام كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منها كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم.
وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات أماني كاذبة وخرافات لاغية.
وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم.
وهذا قد تعارضت عنده الأمارات وتقابلت عنده الإرادات لاسيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب ...
فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتدار، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (1) .
وجهود ابن تيمية في جهاد التتار يمكن تلخيص أهم أحداثها فيما يلي:
أ- في عام 697 هـ في يوم الجمعة 17 شوال عمل ميعادا للجهاد، وحرض عليه، وبين أجر المجاهدين، وكان ميعادا حافلا جليلاً (2) .
2- وفي عام 699 هـ- حين قدم قازان بجيوشه إلى الشام- كانت له مواقف:
أ- ففي الاثنين ثاك ربيع الآخر توجه ابن تيمية وأعيان البلد إلى قازان
_________
(1) المصدر السابق (ص: 149- 150) ، وانظر: بقية التحليل الرائع لهذه الأحداث إلى (ص:175) .
(2) انظر: البداية والنهاية (13/352) .(1/166)
لمقابلته، وأخذ الأمان للبلد، وكلمه ابن تيمة كلاما قويا، شديدا، وكان في موقفه مصلحة عطمة عاد نفعها للمسلمين (1)
ب- ولما كان التتر مستولين على مدينة دمشق فأرادوا الاستيلاء على قلعتها الحصينة، فأرسل ابن تيمية إلى نائب القلعة يقول له: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وقد حفظ هذا الحصن ولم يدخله التتار (2) .
ب- خرج ابن تيمية مرة ثانية لمقابلة ملك التتر في العشرين من ربيع الآخر، فلم يتمكن من ذلك (3) ، ثم خرج لملاقاة بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقد كثيرا منهم من أيديهم وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد (4) .
د- بعد رحيل التتار من دمشق، بقيت البلد في خوف شديد لا يدري الناس متى يهجم التتار مرة أخرى، فاجتمع الناس حول الأسوار لحفظ البلد، وكان ابن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط (5) .
3- في سنة 700 هـ أشيع أن التتار قادمون لغزو الشام، فأصيب الناس بالرعب، يقول ابن كثير: " وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك، وازدادوا ضعفا على ضعفهم وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة، وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة وبيعت الأمتعة والثياب والمغلات بأرخص الأثمان، وجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ثافي صفر بمجلسه في الجامع وحرض الناس
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/7) - وسبقت مصادرها- وكان ممن معه بدر الدين بن جماعة. السلوك (1/ 889) .
(2) انظر: البداية والنهاية (14/7-8) .
(3) المصدر السابق (14/ 8) ، في السلوك (1/892) ، إنه لم يمكنه الاجتماع به لسكره.
(4) المصدر نفسه (4 1/ 0 1) ، والسلوك (1/896) .
(5) المصدر نفسه (14/11) .(1/167)
على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيرا، وأوجب جهاد التتر حتما في هذه الكرة وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد: لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة، فتوقف الناس عن السير، وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعسكر ودقت البشائر لخروجه، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صعرى، وبيت ابن فضل الله، وابن منجا، وابن سويد، وابن الزملكاني، وابن جماعة " (1) ، ثم أرجف في ربيع الآخر بأمر التتر، وأن السلطان رجع إلى مصر فاشتد ذلك على الناس، وخرج الناس خفافا وثقالا هابين من المدينة وقد اشتدت الحال مع كثرة الأمطار والوحل والبرد، فذهب ابن تيمية إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم، وبات عندهم فانتدبوه أن يذهب إلى السلطان يستحثه على المجيء، فسار إليه فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة، وتفرق الجند، لكن ابن تيمية قابل السلطان واستحثه على تجهيز العساكر إلى الشام وقال لهم: " إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام" (2) ، وأقام ابن تيمية بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد فأجابوه ثم رجع إلى الشام، ثم جاءت الأخبار إلى الشام أن التتار رجعوا فأمن الناس وسكن جأشهم.
4- في سنة 752 هـ كانت وقعة شقحب التي هزم فيها التتار وكان لابن تيمية دور عظيم فيها (3) .
_________
(1) البداية والنهاية (14/14) .
(2) المصدر السابق (14/15) ، وانظر: العقود (ص: 119) ، والكواكب (ص: 95) ، والرد الرافر (ص: 106) ، والدرر الكامنة (1/162) .
(3) انظر: العقود (ص: 175) ، والبداية والنهاية (14/25) ، والكواكب (ص: 96) ، وبدائع الزهور (1/1/413) ، والسلوك (1/923) ، والوثائق السياسية لعهد المماليك (ص: 86) .(1/168)
5- وفي سنة 712 هـ وابن تيمية في مصر بعد محنته وسجنه ثم الإفراج عنه خرج مع السلطان قلاوون للجهاد في سبيل الله (1) .
هذه خلاصة مواقفه من التتار، وأسلوبه في معالجة هذه الفتن العظيمة التي حلت بالمسلمين. وفيها يتبين كيف أن هذا الإمام ذا المواقف المشهودة في مجال العلم والرد على الخصوم وتوضيح الحق للناس، كان إماما في الجهاد، وكان مثالا للشجاعة النادرة وقوة القلب وصدق اليقين بوعد الله في وقت ذهلت فيه قلوب الرجال.
ج-- جهاد النصارى والرافضة:
لم تشر أكثر المصادر إلى دور ابن تيمية في جهاد النصارى، قبل إجلائهم عن الشام نهائيا، إلا أن البزار (2) يذكر في معرض ذكره لقوة قلبه وشجاعته فيقول: " وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أمورا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها، قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره (3) . وفتح عكا (4) كان سنة 690 هـ فيكون عمر ابن تيمية وقتها قرابة الثلاثين عاما فلا يستبعد أن يشارك في فتحها خاصة وأن ابن كثير قال في أحداث هذه السنة: " وفيها جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الأول لتجهيز آلات الحصار لعكا، ونودي في دمشق الغزاة في سبيل الله إلى عكا ... وخرجت العامة والمتطوعة يجرون في العجل، حتى الفقهاء والمدرسين والصلحاء.... " (5) . فمن البعيد أن يتخلف ابن تيمية- والحالة هذهـ مع شغفه بالجهاد في سبيل الله.
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/67) .
(2) هو: عمر بن على البزار، كان من أصحاب ابن تيمية، ولد سنة 688 هـ- وتوفي سنة 749 هـ. انظر: ذيل ابن رجب (2/444) ، والرد الوافر (ص: 195) ،، والدرر الكامنة (3/256) .
(3) الأعلام العلية. (ص: 68) ، ونقلها عنه في الكراكب (ص: 92) .
(4) ويقال عكة، وهي مدينة حصينة على ماحل بكر الثام من عمل الأردن، معجم البلدان (4/143) ، وآثار العباد (ص: 223) ، والروض المعطار (ص: 410) .
(5) البداية والنهاية (13/ 0 32) ، وانظر في فتح عكا السلوك (1/763) ، والملحق (ص: 3- 0 1) ، ومختصر أبي الفداء (4/24) ، والأنس الجليل (2/89) ، وتذكرة النبيه (1/137)(1/169)
أما الرافضة: فقد كانوا يتحصنون في جبال الجرد والكسروانيين، وقد ذهب إليهم ابن تيمية سنة 704 هـ ومعه جماعة من أصحابه فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم شرائع الإسلام (1) ، وفي سنة 705 هـ- في أولها- خرج ابن تيمية ومعه طائفة من الجيش ونائب السلطنة فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقا منهم ومن فرقتهم الضالة، وقد حصل بسبب شهود ابن تيمية هذه الغزوة خير كثير، ولما رجع مع نائب الشام منتصرا امتلأت قلوب أعدائه حسدا له (2) .
* * *
هذه نماذج من جهود ابن تيمية وربطه العلم بالعمل، وإذا كان موضوع هذا البحث يدور حول قضايا علمية في مواقفه من الأشاعرة، إلا أن هذه الجوانب العظيمة العملية في حياته أضفت على مواقفه وكلامه ورسائله وكتبه طابعا معينا، فلم تكن المحن التي مر بها، والمناظرات التي عقدت له وما لقي في سبيل الدفاع عن الحق وبيانه للناس من أذى وسجن قر دون أن تظهر للناس، وتأخذ حيزاً كبيرا من اهتمامهم، وتشغلهم أوقاتا طويلة يتابعون أحداثها ويتفاعلون معها.
سادسا: مكانته ومنزلته:
لقد تبوأ شيخ الإسلام ابن تيمية مكانة ومنزلة عظيمة بين علماء عصره، وكان لذلك أسبابه، كما أن هذه المنزلة تمثلت في مظاهر مختلفة ... فمن أسباب ذلك:
ا- بعده عن المناصب أو أخذ رواتب من الدولة، وكان ذلك عن عزم منه وتصميم، فلم يتول القضاء أو الإمارة، كما لم يأخذ أجرا على الدروس التى كان يلقيها في دور الحديث أو الجامع؟ فقد عرض عليه قازان لما قابله أن يعمر حران
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/35) ، والكواكب (ص: 92) ، وانظر: منهاج السنة (1/58- 66) ، المحققة، وأيضا (3/ 244) .
(2) انظر: العقود (ص: 179- 194) ، تاريخ بيروت (ص: 27) ، والبداية والنهاية (14/ 35) ، والسلوك (2/12) ، وانظر موقفا من مواقفه في جهاده في مجموع الفتاوى (11/ 474) .(1/170)
وأن يكتب برسمه أميرا عليها، فرفض ذلك (1) ، كما أنه " لما سافر على البريد إلى القاهرة سنة سبعمائة وحض على الجهاد، رتب له مرتب في كل يوم، وهو دينار وتحفه وجاءته بقجة قماش، فلم يقبل من ذلك شيئا " (2) . بل إن بعض حساده قد وشوا به إلى السلطان الناصر وأنه يطلب الملك وأنه دائما يلهج بذكر ابن تومرت (3) ، فأحضره بين يديه وقال له من جملة كلامه: " إنني أخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك "، فلم يكترث به، بل قال له بنفس مطمئنة وقلب ثابت، وصوت عال سمعه كثير ممن حضر: أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندى فلسين، فتبسم السلطان لذلك وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك الي كاذب " (4) .
لقد أعطى هذا الموقف- من البعد عن المناصب والرواتب- ابن تيمية استقلالية وحرية، كما أبعد عنه وسائل الضغط النفسية والحسية فهو لا يشعر بأن لهم منة عليه، كما أنه لا يخاف قطع رزقه المتمثل براتب أو نحوه. وكان لذلك أثر في مكانته وهيبته في النفوس.
2- توضيحه لأمور اشتبهت على علماء عصره:
أ- فالتتر اشتبه أمرهم على الناس- بعد ادعائهم الدخول في الإسلام فبين ابن تيمية أمرهم للناس، فنشطوا لقتالهم حتى انتصروا عليهم (5) .
_________
(1) انظر: الأعلام العلية (ص: 71) .
(2) تتمة المختصر (2/410) ، ولما كان في السجن في الجب في مصر لم يقبل شيئا من النفقات 1لسلطانية، البداية والنهاية (14/43)
(3) هو: محمد بن عبد الله بن تومرت، مهدى الموحدين- الذين قامت دولتهم على أثر دولة المرابطين في المغرب، ولد سنة 485 هـ، رتوفي سنة 524 هـ. انظر: طبقات السبكى (6/109) .
(4) الأعلام العلية (ص: 72-73) ، والكراكب (ص: 98-99) .
(5) حول اشتباه أمرهم على الناس انظر- إضافة إلى نصوص الأسئلة التى وردت إلى ابن تيمية: رسالة السلطان قلاوون منة 701 هـ. النجوم الزاهرة (8/144) ، ورسالة أخرى في صبح الأعشى (7/249- 250) ، وانظر: الوثائق السياسية للعهد الصليبى والمغولي (ص: 81،83-87) .(1/171)
ب- كذلك اشتبه الناس في الأموال التي أخذت من الرافضة- النصيرية وغيرهم- فأجاب ابن تيمية المستفتي ووضح أمرهم للناس (1) .
ج- في سنة 701 هـ جاء اليهود من أهل خيبر، فأظهروا كتابا يزعمون أنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن فيه إسقاط الجزية عنهم، فبين ابن تيمية كذبهم، ونقد الكتاب المزعوم نقدا حديثيا معتمدا على التاريخ؛ وذلك أن في هذا الكتاب شهادة سعد بن معاذ- رضي الله عنهـ وقد توفي قبل خيبر، وشهادة معاوية ابن أبي سفيان- رضي الله عنهـ ولم يسلم إلا بعد فتح خيبر بوقت (2) . وقد سبق ابن تيمية إلى هذا النقد الخطيب البغدادى (3) .
د- وفي سنة 717 هـ شرع في عمارة أحد جوامع دمشق الكبرى، فتردد القضاة في تحرير قبلته، فاستقر الحال في أمرها على ما قاله ابن تيمية (4) .
هـ- وفي سجنهـ في القاهرة- كان- كما يقول ابن كثير- " تأتيه الفتاوى المشكلة التي لا يستطيعها الفقهاء من الأمراء وأعيان الناس، فيكتب عليها ما يحير العقول من الكتاب والسنة " (5) .
3- دوره في الجهاد في سبيل الله، ولم يكن فيه الجندي الشجاع فقط، وإنما كان القائد والمعلم، وصاحب المشورات والخطط العسكرية، وإذا خاض معركة مع التتار أو الروافض ورجع الجيش منتصرا كان ابن تيمية مقدم هذا الجيش الذي يحظى بتقدير واحترام الناس وإعجابهم الشديد.
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/78)
(2) انظر البداية والنهاية (14/19) ، وانظر أيضا (4/219- 220، 5/351-352) وقد وقف ابن كثير على هذا الخطاب.
(3) هو: أحمد بن علي بن ثابت، حياته [392 هـ- 463 هـ] ترجمته في المصاد التالية: وانظر في قصة كشفه لتزويرهم هذا الكتاب: طبقات السبكي (4/35) ، ومعجم الأدباء لياقوت (4/18) ، والبداية والنهاية (12/101-102) ، والاعلان بالتوبيخ (ص: 26) ، طبع مفردا- مؤسسة الرسالة- والمنار المنيف لابن القيم (ص: 105) ، وانظر: حاشية المحقق- ومقاييس نقد متون السنة (ص: 188) ، وانظر في بطلان ونقض الكتاب المزور أحكام أهل الذمة (1/7-9، 235) .
(4) انظر: البداية والنهاية (4/81) .
(5) انظر: المصدر السابق (14/46) .(1/172)
4- أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفضحه لأصحاب الحيل الشيطانية، وبيانه لأحوال أهل الفلسفة والكلام والطوائف الضالة، فكثيرا ما أقام الحدود على المرتدين، وكثيرا ما قام بكسر الخمارات، وعزر أصحابها. كا أنه بين أحوال أهل الضلالة- في عصرهـ أو من قبله ممن قد تكون له مكانة في نفوس بعض الناس.
5- ومن أهم أسباب تبوئه لهذه المكانة والمنزلة العلم الغزير، فهو إن درس أو خطب، أو أفتى، أو كتب رسالة أو كتابا في أي فن من الفنون أتى في ذلك بما يفوق علماء عصره، وما يبهر عقولهم، ولذلك صار ابن تيمية موضع ثقة الناس يسألونه عن كل ما عن لهم. وإذا اختلف اثنان- وقد يكونان من العلماء أو طلبة العلم، كا يدل على ذلك أسلوب بعض الأسئلة- كان مرجعهما والفيصل بينهما ما يقوله ابن تيمية، ولذلك صارت الأسئلة تأتيه من الأطراف ومن البلاد البعيدة، والأصل في ذلك كله الثقة في علومه ونهجه في النظر والاستدلال.
هذه أهم أسباب تبوئه لهذه المنزلة، وقد تجلت هذه المنزلة في مظاهر عديدة ا) ما سبقت الإشارة إليه في عرض الأسباب من استفتائه في الأمور المشكلة وغيرها. وانتدابه للحض على الجهاد، كما حدث في انتدابه إلى مصر ليحض السلطان على المجيء إلى الشام.
2) تولية المناصب المهمة- أصبح غالبا- بإشارة ابن تيمية، فمثلا تولية النائب الأفرم- نائب دمشق- ونقله إلى نيابة طرابلس كان بإشارة ابن تيمية (1) ، ولما آذى النائب الجديد لدمشق الناس، تم عزله بإشارة ابن تيمية (2) .
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/ 60- 61) .
(2) المصدر السابق (14/ 61-62) .(1/173)
3) وفي سنة 709 هـ كان موقفه المشهور من أهل الذمة، فألزموا باللباس المميز لهم، وكذلك ورد سنة 712 هـ خطاب إلى دمشق أن لا يولى أحد بمال ولا رشوة (1) .
4) بل المناصب الشرعية من الخطابة، وإدارة دور الحديث كان يعين أصحابها بإشارة من ابن تيمية، كما حدث سنة 703 هـ (2) .
سابعا: محنه وسجنه:
امتحن شيخ الإسلام ابن تيمية محنا عديدة، وما تكاد تنتهى عاصفة إحدى المحن حتى تبدأ محنة جديدة، حتى لقي ربه وهو في سجن القلعة بدمشق. ومما يحز في النفس أن هذا الإيذاء والعداء له لم يأت من أعداء الاسلام الذين ظهرت عداوتهم له من اليهود والنصارى والتتار والرافضة، وإنما جاء من علماء وفضلاء، قضاة ومفتين، أشربوا شبه بعض أهل الكلام والتصوف فانضاف إلى ذلك حسدهم لشيخ الإسلام وما له من مكانة في نفوس الناس، فقاموا عليه معتمدين على مناصبهم في الفتيا والقضاء وعلاقتهم بالسلاطين والأمراء، ومما يلفت الانتباه أن غالب محنه كانت مع الأشاعرة متمثلين في علماء ذلك الوقت، حتى محنته مع المتصوفة في مصر لم يكن الأشاعرة بعيدين عنها، ومعلوم أن التصوف دخل في المذهب الأشعري ضمن التطورات التي مر بها هذا المذهب، أما محنته بسبب فتياه في الطلاق فلم تكن القضية قضية خلاف اجتهد فيه ابن تيمية وخالف بعض فقهاء عصره، وإنما كانت مرتبطة بما جرى قبلها حول ردوده على الأشاعرة والمحن التي وقعت بسبب ذلك.
أما أسباب العداء له فلم تكن بعيدة عما سبق بيانه مما تبوأه ابن تيمية من مكانة ومنزلة غطت على مكانة أولئك العلماء- خاصة من كان منهم في منصب القضاء أو الافتاء أو الخطبة- فلم تكن لهم أو لبعضهم تلك المواقف العظيمة
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/66) .
(2) المصدر السابق (14/28) .(1/174)
في أيام المحن والشدائد حين كان التتار يثيرون الرعب في النفوس قبل قدومهم بوقت طويل إذا جاءت الإشاعة أنهم قادمون، وحين كان بعض هؤلاء القضاة والعلماء يحمل أولاده وأهل بيته وما يستطيع حمله من أثاث ومال مبتعدا بهم عن هذا الهول المرتقب القادم إلى دمشق، كان شيخ الإسلام ابن تيمية يلقي درسه في الجامع عن الجهاد في سبيل الله وفضله وفضل الانفاق فيه، بل ويصدر فتوى - يلزم بها الناس- بأنه لا يجوز لأحد الفرار من دمشق، بل يجب البقاء فيها لحمايتها من الأعداء، ويبقى أولئك العلماء في دمشق لكن أولادهم وأهليهم أرسلوهم إلى مصر وغيرها. وحين انتهت هذه المحن بطرد التتار وهزيمتهم برز ابن تيمية- كإمام من أئمة العلم والجهاد-، وصارت له الوجاهة والمنزلة عند الناس.
وهناك أسباب أخرى- لهذه المحن التي مر بها- تتعلق بمواقفه من أهل الكلام والتصوف والفلسفة، إذ لم تقتصر هذه المواقف على بيان مذهب السلف والسكوت عمن عداهم، أو بيان حرمة القول الفلاني أو خطئة فقط، أو غير ذلك من المواقف الباردة، بل كانت مواقفه قائمة على الرد على تلك الفرق والطوائف المختلفة، وذلك ببيان أصولها المنحرفة التي ترجع إليها ومناقضتها لأصول ومنهج السلف- رحمهم الله تعالى- فلما بدأ وهو الخبير بأصول الفرق ونشأتها وتطور المقالات الفلسفية والكلامية وكيف يؤثر بعضها على بعض ويتلقي بعضها من بعض؟ يشرح أصول أهل الكلام- وفيهم الأشاعرة- ويرجعها إلى أصول أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال، ويوضح أصول مذهب السلف وتميزها عن منهج هؤلاء جميعا، وكل ذلك بأسلوب علمى قوي قائم على الأدلة والنصوص والنقول عن كتب ومصادر هذه الطوائف مما لا يقدر أحد على إنكاره أو ادعاء التحريف في نقله لما صار يتحدث ويكتب بهذا الأسلوب أفزع أولئك العلماء المقلدة الذين نشأوا وتلقوا عن شيوخهم مذاهبهم وعقائدهم، وهم لا يشكون انها هي مذهب أهل السنة والجماعة.
لذلك قاموا على ابن تيمية يتهمونه بالطعن على السلف، ويدافعون عن المذهب الأشعري، فكانت بينه وبينهم صولات وجولات استمرت زمنا طويلا.(1/175)
ومن الأشياء التي تلفت الانتباه ني محن ابن تيمية دوره الإيجابي فيها، فلم تكن تلك الأحداث وما يصاحبها من التشهير والسجن وصنوف الإيذاء النفسي والجسدي تبعد به عن أهدافه الكبرى من تعليم الناس وبيان الحق لهم، ولذا تجده وهو في وسط المحنة إذا أحس بانفراج- ولو كان محدودا- لا يلتفت إلى ذاته ونفسه والدفاع عنها، والانتقام لها، وإنما يتوجه إلى أصل القضية التي يدافع عنها يبين الدليل عليها، ويؤلف الكتب والرسائل حولها ولعل تلك الكتب العظيمة التي قد يبلغ الواحد منها مجلدات والتي ألفت على أثر بعض تلك المحن من أعظم الجوانب الإيجابية فيها.
وسنعرض لجانبين اثنين حول محنه:
الجانب الأول: عرض مختصر لمحنه التي مر بها.
والجانب الآخر: أدوار ابن تيمية الإيجابية في هذه المحن.
أ- عرض مختصر للمحن التي مر بها:
1- محنته بسبب " الحموية ":
وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة 698 هـ، في آخر سلطة المنصور حسام الدين لاجين-[696- 698 هـ] وذلك بين سلطة الناصر قلاوون الأولى والثانيةوكان نائب الشام سيف الدين قبج المنصورى، فلما كان في أول عام 698 هـ بلغ النائب والأمراء أن السلطان غاضب عليهم، فعزموا على الذهاب إلى بلاد التتر والنجاة بأنفسهم (1) ، فوقع اضطراب شديد، ففى هذه الأثناء وقعت محنة ابن تيمية حول الحموية، رلعل الفقهاء استغلوا هذه الفوضى فحملوا على عقيدة الشيخ، وملخص هذه المحنة أنه كتب جوابا سئل عنه من حماه (2) في الصفات
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/2) .
(2) يقول ابن تيمية: (كنت سئلت من مدة طويلة بعيدة سنة تسعين وستمائة عن الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله، في فتيا قدمت من حماه فأحلت السائل على غيرى فذكر أنهم يريدون الجواب مني، فكتبت الجواب في قعدة بين الظهر والعصر، نقض التأسيس المخطوط (1/3) .(1/176)
فذكر فيه مذهب السلف، ورجحه على مذهب المتكلمين، وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين (1) ، واجتمع بسيف الدين جاغان (2) في ذلك في حمال نيابته بدمشق، وقيامه مقام نائب السلطة، وامتثل أمره، وقبل قوله، والتمس منه كثرة الاجتماع به، فحصل بسبب ذلك ضيق لجماعة، مع ما كان عندهم قبل ذلك من كراهية الشيخ، وتألمهم لظهوره وذكره الحسن، فانضاف شىء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغا إلى الكلام فيه لزهده وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه، وجودة أجوبته وفتاويه، وما يظهر فيها من غزارة العلم وجودة الفهم.
فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات القرآن على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب، فأخذوا الجواب الذي كتبه، وعملوا عليه أوراقا في رده، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء، واحدا واحدا، وأغروا خواطرهم، وحرفوا الكلام، وكذبوا الكذب الفاحش وجعلوه يقول بالتجسيم- حاشاه من ذلك- وأنه قد أوعز ذلك المذهب إلى أصحابه، وأن العوام قد فسدت عقائدهم بذلك، ولم يقع من ذلك شيء، والعياذ بالله، وسعوا في ذلك سعيا شديدا 00. (3) ، وقد وافقهم القاضي الحنفى جلال الدين بن حسام الدين (4) ، ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية (5) وطلب حضوره وأرسل إليه فلم يحضر، وإنما أجابه ابن تيمية بقوله: " إن العقائد
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (35/172) ، حين ناقش زعماءهم وبين فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها.
(2) انظر في توليه النيابة أحيانا السلوك (1/828-829، 847،849) .
(3) العقود الدرية (ص: 198- 0 0 2) ، وانظر: الكواكب (ص: 13 1- هـ 1 1) .
(4) وهو: أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن الرازى الحنفي، توفى قضاء الحنفية في الشام لما تولى أبوه القضاء بمصر. ولد سنة 651 هـ، وتوفي سنة 745هـ. انظر: البداية والنهاية (14/214) ، والسلوك (2/674) ، والجواهر المضية (1/ 154) ، والفوائد الالبهية (ص: 16) .
(5) بناها الأشرف مظفر الدين موسى ابن العادل سنة 628 هـ، وأول من تولى مشيختها ابن الصلاح. انظر الأطلال (ص: 24-25) وما بعدها. وخطط الشام (6/ 71) .(1/177)
ليس أمرها إليك، وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي "، فلما وصل إلى القاضي هذا الجواب غضب وأمر بأن ينادى في البلد ببطلان هذه العقيدة، ولكن الأمير سيف الدين جاغان أرسل طائفة إلى المنادي فضرب ومن كان معه، وأمر الأمير بطلب من سعى في ذلك فاختفوا، ثم إن شيخ الاسلام ابن تيمية لما هدأت الأمور جلس يوم الجمعة ثالث عشر هذا الشهر- شهر ربيع الأول- وكان تفسيره في درسه لقوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4] وذكر الحلم وكان درسا عظيما (1) .
ثم بعد ذلك اجتمع ابن تيمية بعد ذلك بالقاضى الشافعي إمام الدين القزوينى (2) وواعده لقراءة جزئه الذي أجاب فيه وهو المعروف بالحموية، فاجتمعوا يوم السبت رابع عشر الشهر- من الصباح إلى الثلث من الليل- ميعادا طويلا مستمرا، فقرئت جميع العقيدة وبين مراده من مواضع أشكلت، ولم يحصل إنكار عليه من الحاكم ولا ممن حضر المجلس بحيث انفصل عنهم والقاضي يقول: كل من تكلم في الشيخ يعزر "، ورجع ابن تيمية إلى دار في ملأ كثير من الناس، وهم في فرح واستبشار به (3) ، وكان إمام الدين-كما يذكر ابن كثير- معتقده حسنا ومقصده صالحا- (4) .
وهكذا سكنت هذه الفتنة بالاعتراف للشيخ، في أنه على الحق في عقيدته
التي كتبها و! يت " الحموية " وتعتبر من أهم وأقوى رسائل ابن تيمية التأصيلية لمذهب السلف. ومن خلال هذا العرض لهذه المحنة التي نقلها صاحب العقود الدرية نلمح الظروف والأسباب التي دعت هؤلاء للقيام عليه.
_________
(1) انظر: العقود (ص: 200- 202) .
(2) هو: عمر بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد القزويني تولى قضاء القضاة بدل بدر الدين ابن جماعة، ثم لما جاء التتار انجفل إلى مصر سنة: 699 هـ ومات بعد وصوله بقليل. انظر: طبقات السبكي (8/ 310) ، والبداية والنهاية (13/14) .
(3) 1 نظر: العقود (ص: 202) .
(4) انظر: البداية والنهاية (14/4) .(1/178)
2-- محنته ومناظرته حول " الواسطية ":
وبداية هذه المحنة في يوم الاثنين 8 رجب سنة 705 هـ حين ورد مرسوم من السلطان في مصر إلى نائب الشام أن يسأل الشيخ عن عقيدته، فجمع النائب القضاة والفقهاء وابن تيمية- وهم لا يدرون لماذا جمعوا- فقال النائب: هذا المجلس عقد لك لمساءلتك عن عقيدتك، يقول ابن تيمية: " فقلت: أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني، ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم. وأما الكتب فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكنني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم. وكان قد بلغني أنه زور على كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير (1) - أستاذ دار السلطان- يتضمن ذكر عقيدة محرفة، ولم أعلم بحقيقته، لكن علمت أن هذا مكذوب، وكان يرد علي من مصر وغرها من يسألني مسائل في الاعتقاد أو غيره، فأجبته بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة " (2) ثم طلبوا منه أن يملي عقيدته فأملاها، ثم قال للأمر والحاضرين: " أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي كما قد كذبوا علي مرة (3) ،
وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون: كتم بعضه، أو داهن
_________
(1) هو: بيبرس البرجي الجاشنكو، تسلطن سنة 708 هـ، كان يعتقد في نصر المنبجي ولذلك آذوا ابن تيمية زمن سلطنته. وقتل سنة 709 هـ لما رجع الناصر الى السلطنة، انظر البداية والنهاية (14/55) ، والدرر الكامنة (2/36) ، والنجوم الزاهرة (8/ 232) ، والمنهل الصافي (3/467) .
(2) العقود (ص: 207-208) .
(3) قضية الكذب على ابن تيمية والتزوير عليه أمر مشهور حتى قبل: أنه رجع إلى عقيدة الأشاعرة وأنه كتب ذلك بخطه. وكل ذلك كذب- وليس العجب أن يقع الكذب عليه وإنما العجب أن يقوم مؤرخ ثقة فاضل- كابن حجر العسقلاني- فينقل ترجمته في الدرر الكامنة (1/154) ترجمة مطولة لابن تيمية وينقل عن غيره ويذكر هذه الأمور- التى هي في الحقيقة كذب عليهـ ثم يسكت عنها..ومن نماذج الكذب على ابن تيمية: أنه في سنة: 702 هـ وقع في يد نائب السلطنة كتاب مزور فيه أن ابن تيمية وجماعة يناصحون التتر ويكاتبوهم، ثم فضح المزورون ووجد معهم مسودة الكتاب وعوقبوا. البداية والنهاية (14/22) ، وكذلك وقع الكذب عليه أنه رجع عن عقيدته.=(1/179)
أو دارى، فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين، قبل مجيء التتر إلى الشام " (1)
فأحضرت العقيدة الواسطة، وقرئت وتناقشوا فيها. ثم أجلت بعض المباحث منها إلى المجلس الثاني الذي عقد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث عصر رجب، وفي هذه المرة أخذوا أهبتهم في الاستعداد للمناظرة وأحضروا معهم من يعتبرونه أكبر شيوخهم وهو صفي الدين الهندي (2) ، فلما اجتمعوا بدأ ابن تيمية الكلام وذكر أن الله أمر بالجماعة والائتلاف ونهانا عن الفرقة والاختلاف، ثم قال بأسلوب قوي: " وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين وهو متفق عليه بين السلف!، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك كشفت له الأسرار وهتكت الأستار، وبينت المذاهب الفاسدة،
_________
(1) = انظر: العقود (ص: 204،207،209) ، وحين احتالوا عليه أن يرجع عن عقيدتهـ بأن بكتب كتابا ثم يمزقوهـ فرفض ذلك. ترجمة بقلم خادمه (ص: 27-29) ، وكذلك الكذب عليه في الزعم بأنه أنكر تبديل التوراة، وأنه طعن في عمر وعلى. القول الجلى (ص: 57،66،67) ، وكذلك الكذب عليه في مسألة ضد الرحال العقود (ص: 328) ، والبداية والنهاية (14/123) ، وكذلك الاخنائي كذب عليه. الرد على الاخنائي (ص:10) ط السلفية. وكذلك الكذب عليه لي مسألة النزول. الدرر الكامنة (1/164) ، وابن بطوطة في رحلته (ص: 110) ط الرسالة.
(1) العقود (ص: 209) .
(2) هو: محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموى الهندى ولد سنة 644 هـ وتوفي سنة 715 هـ، وكان من الذين حضروا المجلس الثاني في مناظرة الواسطية، واستعان به العلماء لزعمهم أنه من محققي المذهب الأشعري لكن كا قال ابن كثير (البداية: 14/36) ساقيته لاطمت بحرا. ويذكر ابن تيمية أن الثقة حدثه بعد المناظرة أنه اجتمع به فقال: قلت لهم: مالك على الرجل اعتراض، فإنه نصر ترك التأويل، وقال أنا أختار قول ترك التأويل، وأخرج وصيته التي أوصى بها وفيها قول ترك التأويل. لكن ييدو أن الصفي رجع فإنه ألف " الرسالة التسعينية في الأصول الدينية نصر فيها مذهب الأشاعرة وقال في أولها " أما بعد فهذه رسالة مشتملة على تسعين مسألة من مسائل أصول الدين ألفها لما رأيت طلبة أهل الشام المحروس مقبلين على تحصيل هذا الفن بعد ما جرى من الفتنة المشهورة بين أهل السنة والجماعة، وبين بعض الحنابلة 00" (التسعينية للأرموى الهندى ورقة 2 مخطوطة) .
انظر في ترجمته: البداية والنهاية (14/ 65) ، وطبقات السبكي (9/ 62 1) ، والوافي (3/239) ، ونزهة الخواطر (2/ 135) ، وتاريخ الصالحية (11/67) ، وطبقات الأسنوى (2/ 534) ، والبدر الطالع (2/187) .(1/180)
التى أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس فإن للسلم كلاما وللحرب كلاما " (1) . ثم جرى نقاش حول عدة قضايا حول الكلام، والتجسيم، والاشتراك والتواطؤ في الصفات، وحديث الأوعال، وكان ابن تيمية الشيخ والمرجع فإذا تكلم لم يستطعوا رد كلامه وأدلته. وانتهى هذا المجلس ورجع تقى الدين إلى بيته معززا مكرما (2) .
ثم عقد المجلس الثالث في سابع شعبان بالقصر، واجتمع الجماعة على الرضى بالعقيدة، وعزل القاضي ابن صصري (3) نفسه بسبب كلام سمعه من كمال الدين ابن الزملكاني (4) (4) ، ثم جاء مرسوم السلطان بإعادته إلى منصبه وفي الكتاب: " إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه " (5) .
وكان سبب هذه المناظرات- حول الواسطة- وأمر السلطان بذلك ما قام به ابن تيمية- أول هذا العام 705 هـ- من غزو الروافض والنصيرية في الكسروان، ثم بعد ما قام في جمادى الأولى من مناظرة الأحمدية المتصوفة وإنكاره عليهم،
_________
(1) العقود (ص: 233- 234) .
(2) انظر: البداية والنهاية (14/37) .
(3) قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم ابن صصرى الشافعي ولد سنة 655 هـ، وترفي ممنة 723 هـ، انظر: البداية والنهاية (14/106) ، وطبقات السبكي (9/ 0 2) .
(4) هو: محمد بن على بن عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني، قاضى القضاة، ولد سنة 667 هـ وتوفي سنة 727 هـ، مدح ابن تيمية ثم رد عليه، وفي سنة 727 هـ- وهي قاضي قضاة حلب- فجاء الأمر بالذهاب إلى مصر ليتولى قضاء القضاة في الشام وكان من نيته أن يؤذي شيخ الاسلام إذا رجع- بسبب ما بينهما حول مسألة الزيارة- فدعا عليه شيخ الإسلام فمات ببلبيس قبل وصوله إلى القاهرة.
انظر: البداية والنهاية (4 1/ 131) ، والدرر الكامنة (4/192) ، والوافي (4/ 4 21) ، وفوات الوفيات (4/7) ، وطبقات السبكي (9/ 190) .
(5) انظر: البداية والنهاية (14/37) .(1/181)
وإلزامهم بالشرع وأن من خرج عليه ضربت عنقه، ثم ظهر الشيخ نصر المنبجي (1) - في مصر- وشاع أمره وميوله نحو المتصوفة، فأرسل إليه ابن تيمية بالانكار عليه، فأغرى الشيخ نصر القضاة والعلماء في مصر، وقال: إنه سىء العقيدة مبتدع معارض للفقراء وغيرهم، وطعنوا فيه عند السلطان، ولا يبعد أن يكون الروافض قد برطلوا- أي ارتشوا- عليه فورد مرسوم السلطان بمساءلته عن عقيدته فعقدت له تلك المجالس في رجب (2) .
ولكن المنبجي لم يرض بما انتهت إليه المجالس، فعمد بأسلوب آخر إلى السعي لدى السلطان لامتحان ابن تيمية مرة أخرى.
3- محنته وذهابه إلى مصر:
لم يقتنع نصر المنبجي بما انتهى إليه المرسوم السلطاني الأول، فسعى إلى السلطان الجاشنكير- الذي كان يعتقد في نصر- فاجتمع به مع طائفة من علماء مصر " فأوهمه الشيخ نصر أن ابن تيمية يخرجهم من الملك ويقيم غيرهم، وأنه مبتدع، فورد مرسوم السلطان إلى دمشق بإحضار ابن تيمية إلى مصر (3) في خامس شهر رمضان سنة 705 هـ فلما طلب إلى الديار المصرية مانع نائب الشام وقال: قد عقد له مجلسان بحضرتي، وحضرة القضاة والفقهاء وما ظهر عليه شىء، فقال الرسول لنائب دمشق: أنا ناصح لك، وقد قيل: إنه يجمع الناس عليك، وعقد لهم بيعة، فجزع من ذلك وأرسله إلى القاهرة على البريد " (4) ،
_________
(1) هو: نصر بن سليمان، أبو الفتح المنبجي، توفي سنة 719 هـ، وكان الجاشنكير- السلطان يعتقد فيهـ وكان يغالي في محبة ابن عربي الصوفي، أنشأ له زاوية خارج باب النصر وصار يتعبد فيها ويتردد عليه فيها الأكابر، ثم مات ودفن فيها. انظر: البداية والنهاية (14/95) ، والدرر الكامنة (5/165) ، وطبقات الأولياء لابن الملقلن (ص: 477) ، والخطط للمقريزي (2/432)
(2) . (2) انظر الكواكب (ص: 27 ا-128) .
(3) وكان المرسوم بالكشف عما جرى في محنته الأولى أيام نيابة جاغان وولاية القاضي إمام الدين القزويني- حول الحموية- سنة 698 هـ، وموضوع المناظرة الأول والأخير واحد هر الصفات ولكن القصد إيهام الناس اختلاف الموضوع بالاحالة على ما كان قبل سنين رإلا فالمناظرات بسبب المرسوم الذي قبله انتهت قبل قليل من ورود هذا المرسوم.
(4) 1 لكو اكب (ص: 128) .(1/182)
ويقال: إن النائب أشار على الشيخ بترك التوجه إلى مصر، وأنه يكاتب في ذلك فامتنع الشيخ من ذلك ولم يقبل، وذكر أن في توجهه إلى مصر مصالح كثيرة (1) . ولما توجه ابن تيمية إلى مصر- ازدحم الناس لوداعه وكان يوما مشهودا - فلما كان يوم الخميس 22 رمضان وصل مع القاضي ابن صصري إلى القاهرة، وفي ثاني يوم بعد صلاة الجمعة جمع القضاة وأكابر الدولة في القاعة لمحفل، وادعى عليه القاضي ابن مخلوف المالكي (2) أنه يقول بالاستواء وأن الله يتكلم بحرف وصوت، فأخذ ابن تيمية في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: أجب، ماجئنا بك لتخطب، فقال: ومن الحاكم فى، فقيل له القاضي المالكي، قال: كيف يحكم في وهو خصمي؟ وغضب غضبا شديدا وانزعج، فحبس في برج مرسما (3) عليه أياما، وفي ليلة عيد الفطر نقل إلى الحبس المعروف بالجب (4)
هو وأخواه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن وبقى في السجن عاما كاملا وقرىء تقليد في الشام ومصر بالحط على ابن تيمية ونحالفته في العقيدة، في ليلة عيد الفطر سنة 706 هـ اجتمع نائب السلطنة سيف الدين سلار (5) بالقضاة والفقهاء وتكلم في إخراج الشيخ من السجن فاتفقوا على أن يشترط عليه أمور وأن يرجع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه فأبى أن يحضر، وتكرر إليه الرسول ست مرات وصمم على عدم الحضور فطال عليهم المجلس ثم انصرفوا من غير شىء.
_________
(1) انظر: العقود الدرية (ص: 249) ، والبداية والنهاية (14/37-38) .
(2) على بن مخلوف بن ناهض بن مسلم النوووي المالكي قاضي القضاة- ولد صنة 634 هـ وتوفي سنة 718 هـ، انظر: توشيح الديباج للقراني (ص: 162) ، رو دار الغرب- والبداية والنهابة (14/ 90) ، والدرر الكامنة (3/202) .
(3) الترسيم معناه تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، ويكون في السجن غالبا، والبرج - أحد السجون في القاهرة- وكان الذى سجن فيه ابن تيمية بحارة الديلم في القاهرة، انظر نظم دولة ملاطين المماليك- النظم السياسية (ص: 136) ، والسلوك (2/18) .
(4) سجن الجب كان بالقلعة، وكان يحبس فيه الأمراء وكان مهولا مظلما، كريه الرائحة يقاسي المسجون فيه ما هو كالموت وأضد منه. انظر: الخطط (2/213) وو بولاق..
(5) كان نائبا للسلطنة سنة 698 هـ، ئم قتل سنة 0 71 هـ، انظر: البداية والنهاية (14/ 58-59) .(1/183)
ثم طلب أخوا الشيخ إلى نائب السلطة في ذي الحجة سنة 706 هـ وحضر ابن مخلوف وجرت مناقشات بين عبد الله شرف الدين وبين القاضي المالكي فظهر عليه وخطأه في مواضع (1) ، وفي صفر سنة 707 هـ اجتمع القاضي بدر الدين ابن جماعة (2) بالشيخ تقي الدين في دار الأوحدي بالقلعة وطال بينهما الكلام في غير نتيجة (3) .
فلما كان في ربيع الأول من سنة 707 هـ دخل الأمير حسام الدين: مهنا بن عيسى ملك العرب (4) الى مصر، وحضر بنفسه إلى الجب وأقسم على الشيخ تقى الدين ليخرجن، فلما خرج أقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار، فاجتمع بعض الفقهاء وجرت بحوث ثم بات الشيخ في دار نائب السلطنة سلار، ثم اجتمعوا بعد ذلك مرة أخرى بمرسوم من السلطان- ولم يحضر القضاة- ولما طلبوا للحضور اعتذروا بعضهم بالمرض وبعضهم بغيره، والحقيقة أنه كان هروبا من مناقشة ابن تيمية فقبل نائب السلطنة عذرهم ولم يكلفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم أو بفصل المجلس على خير. وبات الشيخ عند نائب السلطنة ثم جاء حسام الدين بن مهنا وريد أن يستصحب معه الشيخ تقي الدين إلى دمشق، فأشار سلار بأن يقيم الشيخ عنده بمصر ليرى الناس فضله.
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/ 43) ، والعقود (ص: 252) .
(2) محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، قاضي القضاة، ولد سنة 639 هـ وتوفي منة 733 هـ، انظر: طبقات السبكي (9/139) ، وطبقات المفسرين (2/48) ، والدرر الكامنة (3/367) ، والأنس الجليل (12/36) ، وطبقات ابن قاضي شهبة (12/369) ، والوافي (2/18) .
(3) انظر: البداية والنهاية (14/45) ، والعقود (ص: 252) .
(4) في القرن السادس صارت منطقة الجزيرة وبادية الشام مكانا لكثير من البدو فنشأت إمارات متفرقة- يسمون أمراء العرب، ثم برزت أسرة آل مهنا بن عيسى، ابن آل فضل، يرجعون إلى ربيعة وصاروا في الأخير يتولون الامرة من سلاطين مصر، ولذلك لما برزت هذه الأمرة حمي أميرها ملك العرب، - كانت لمهنا علاقة قوية بالسلطان الناصر قلاوون الذي كان مشغوفا بالخيل وجمع النادر منها وكان مهنا يحضر له العدد الكثير، انظر: الخطط (2/255) . والذي يلفت الانتباه ويحتاج إلى بحث كيف توطدت الصلة بين آل مهنا وابن تيمية إلى حد أن يأتي إليه في السجن ويقسم عليه أن يخرج؟. انظر عن قبيلة آل مهنا ونسبها ودورها في الأحداث: مسالك الأبصار- قطعة عن قبائل العرب- (ص: 12 1-136) ، وصبح الأعشى (4/203) ، وتاريخ ابن خلدون (5/426) ط بولاق،-(1/184)
وكتب ابن تيمية كتابا إلى الشام يتضمن ما وقع له، وكان مدة مقامه في الجب ثمانية عشر شهرا، وفرح الناس بخروجه فرحا شديدا. ثم تفرغ للتدريس والإفتاء (1) .
أما أهل الشام فكانوا يتابعون ما يجري للشيخ ويتألمون لما وقع له، حتى إنه لما جاء خطاب من الشيخ وهو في الجب إلى دمشق أخبر نائب السلطنة في الشام فأرسل في طلبه فقرئ على الناس، وجعل النائب يشكر الشيخ ويثني على علمه (2) .
4- محنته مع الصوفية في مصر:
بقي ابن تيمية في مصر- بعد خروجه من السجن- يعلم الناس ويفتيهم ويذكر اللة ويدعو إليه، ويتكلم في الجوامع بتفسير القرآن بعد صلاة الجمعة إلى العصر، ولما كان كثييرا ما يتطرق إلى جوانب عديدة في العقيدة منها ما له مساس بأحوال الصوفية وبدعهم، إضافة إلى أن خصمه نصرا المنبجي لم ينل- وهو المقدم عند الجاشنكير- ما أراد من إيذاء ابن تيمية، بل انعكس الأمر وصار ما جرى له سببا في شهرته وإكباب الناس على الاجتماع به والاستفادة من علومه ليلا ونهارا.
فجاء الأسلوب هذه المرة من نصر المنبجي وابن عطاء الله السكندرى (3) بإثارة أتباعهم من المتصوفة فاجتمع خلق كثير منهم من أهل الخوانق والربط والزوايا واتفقوا على أن يشكوا الشيخ إلى السلطان، فطلع منهم خلق محمير إلى القلعة وكانت لهم ضجة شديدة لفتت انتباه السلطان، فقيل له هؤلاء قد جاءوا من أجل ابن تيمية يشكونه ويقولون: إنه يسب مشايخهم، واستعانوا عليه بالأمراء وغيرهم.
_________
(1) = وانظر عشائر الشام: أحمد وصفي زكريا (ص: 89) وما بعدها.
(1) انظر: العقود (252-256) ، و (ص: 131) ، والبداية والنهاية (12/45) .
(2) انظر: البداية والنهاية (14/43) ، والعقود (ص: 251) .
(3) هو: أحمد بن محمد بن عطاء الله السكندرى الشاذلي، توفي سنة 709 هـ، انظر: الديباج المذهب (1/242) ، والدرر الكامنة (1/ 191) ، وطبقات السبكي (9/23) ، وشجرة النور (1/204) .(1/185)
وكان ذلك في شوال سنة 707 هـ، فأمر بأن يعقد له مجلس فعقد له مجلس يوم الثلاثاء10 شوال 707 هـ، وظهر من علم الشيخ وشجاعته وقوة قلبه الشيء الكثير، فادعى عليه ابن عطاء بأشياء لم يثبت عليه منها شيء، ثم جاء الأمر من الدولة أن يخير بين ثلاثة أشياء، إما أن يسير إلى دمشق، أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس، ثم دخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط فأجاب أصحابه إلى ما اختاروه جبرا لخواطرهم، ثم لما سافر ليلة 18 شوال، رد من الطريق وقيل: إن الدولة لا ترضى إلا الحبس، واستناب ابن جماعة بعض القضاة أن يحكموا فيه بالحبس فامتنع أحدهم وتحير الآخر، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال: أنا أمضى إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فأرسل إلى حبس القضاة وأذن له بأن يكون معه من يخدمه، فبقي الشيخ في السجن يستفتى في الأمور المعضلة ويجتمع الناس به ليلا ونهارا، وكان له دور عظيم في توجيه المحابيس وإصلاح أحوالهم حتى صار له منهم تلاميذ يختارون الإقامة عنده بعد خروجهم (1) ، ثم عقد له مجلس بالصالحية بعد ذلك كله ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير وأكب الناس على الاجتماع به ليلا ونهارا حتى دخلت سنة 708 هـ (2) .
5- نقله إلى ثغر الاسكندرية:
لما كثر اجتماع الناس به وترددهم عليه ساء ذلك أعداءه وحصرت صدورهم وصاحب ذلك تطور سياسي فقد تسلطن الجاشنكير- حين خرج الناصر إلى الكرك مكرها بسبب كف يده عمليا عن السلطة (3) - وكان بيعة الجاشنكير في 23 شوال 708 هـ- وكان ابن تيمية وهو يعلم خفايا الأحداث وقصة ذهاب الناصر إلى الكرك- ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر ويقول:
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/45) ، والعقود (ص: 267) وما بعدها، والكواكب (133) .
(2) انظر: البداية والنهاية (14/46) .
(3) لقد زور علي السلطان كتاب يتضمن عزل نفسه فأثبت ذلك القضاة في مصر، وليس ذلك صحيحا، انظر: البداية والنهاية (14/48) ، وانظر: تحقيقا علميا ودراسة للموضوع في: التاريخ السياسي لشرق الأردن في العصر المملوكي (ص: 154) وما بعدها.(1/186)
" زالت أيامه وانتهت رياسته وقرب انقضاء أجله ويتكلم فيه وفي ابن عربي وأتباعه " (1) ، فقرروا أن يسيروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفى لعل أحدا من أهلها- وفيهم بقايا المتفلسفة والمتصوفة والغلاة- أن يقتله، ومنعوا أن يذهب أحد من أصحابه معه، يقول خادمه: فلما كان بعد العصر- وقد جاء الأمر بنقله إلى الاسكندرية- وقفت أبكي، فقال لي الشيخ لا تبك، ما بقيت هذه المحنة تبطىء. وركب على باب الحبس؟ قال له إنسان: يا سيدي هذا مقام الصبر، فقال له: بل هذا مقام الحمد والشكر، واللة إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قسم على أهل الشام ومصر لففمل عنهم، ولو أن معي في هذا الموضع ذهبا وأنفقته ما أديت عشر هذه النعمة التي أنا فيها " (2) ، ولما ركب الشيخ- وقد منع أحد أن يصحبهـ قال ابن تيمية لخادمه إبراهيم: " يا إبراهيم انزل الشام وقل لأصحابنا، وحق القرآن- ثلاث مرات- ما بقيت هذه المحنة تبطيء وتنفرج قريبا فوق ما في النفوس، ويقلب اللة مملكة بيبرس أسفلها أعلاها، وليجعلن اللة أعز من فيها أذل من فيها " (3) . وكان ذهابه في نهاية شهر صفر سنة 709 هـ وأقام بثغر الاسكندرية في برج مليح واسع والناس يترددون عليه وقد لحق به بعض أصحابه، وفي رسالة كتبها أخو الشيخ شرف الدين إلى أخيه بدر الدين في الشام يقول فيها: " فنحن والجماعة في نعم اللة الكاملة ومننه الشاملة التي تفوق العد والإحصاء ...
فمنها: نزل الأخ الكريم بالثغر المحروس، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمورا يكيدون بها الإسلام وأهله، وظنوا أن ذلك يحصل عن قريب، فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة المعلومة، وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وما زالوا عند اللة وعند العارفين من المؤمنين سود الوجوه يتقطعون حسرات وندما على ما فعلوه، وأقبل أهل الثغر أجمعون إلى الأخ، متقبلين لما يذكره وينشره من كتاب اللة وسنة رسوله والحط والوقيعة في أعدائهما من أهل البدع
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/49) ، وقد جرت في هذه الأئناء أحداث ووساطات من الشيخ الدباهى الذى جاء من دمشق، ومن المشايخ التدامرة، وفيها أحداث عجيبة. انظر ترجمته بقلم خادمه (ص: 24) وما بعدها.
(2) ناحية من حياة شيخ الإسلام بقلم خادمه إبراهيم أحمد الغباشى (ص: 31،32) .
(3) المصدر السابق (ص: 32-33) .(1/187)
والضلالات والكفر والجهالات، خصوصا أخبث الملاحدة والاتحادية ثم الجهمية. واتفق أنه وجد بها إبليس إلحادهم قد باض وفرخ، ونصب بها عرشه ودوح، وأضل بها فريقى السبعينية والعربية (1) ، فمزق الله بها بقدومه المغر جوعهم شذر مذر، وهتك أستارهم وكشف رمز إلحادهم وأسرارهم وفضحهم، واستتاب جاعات منهم وتؤب رئيسا من رؤسائهم، وصنف هذا التائب كتابا في كشف كفرهم وإلحادهم " (2) .
وبقي الشيخ في الاسكندرية ثمانية أشهر، فلما رجع السلطان الناصر إلى الحكم وقدم إلى مصر يوم عيد الفطر سنة 709 هـ لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ ابن تيمية من الإسكندرية، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال فقدم الشيخ في ثامن هذا الشهر- وفي الإسكندرية خرج خلق يودعونهـ فاجتمع السلطان يوم الجمعة في مجلس فيه القضاة والفقهاء، وقد زالت دولة الجاشنكير وأتباعه، وعرض الناصر على ابن تيمية أن ينتقم له من أعدائه ولكنه رفض ذلك، وهنا يسجل للشيخ موقف عظيم ومعرفة بواقع الأمر، فالناصر لما عرض عليه أن يفتيه في قتل بعض الفقهاء والقضاة كان يريد أن ينتقم منهم بسبب موقفهم منه لما تسلطن الجاشنكير، ففطن ابن تيمية لمراده وأخذ يعظم القضاة والعلماء وينكر أن ينال أحدا منهم سوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارا فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح (3) ، وإنه لموقف عظيم ينبغي أن يتفكر فيه العلماء مرارا، إذ كثيرا ما تأتي بعض القضايا مما لها وجه في الشرع ولكن الحكام يحرصون عليها لا لأجل ذاتها واتباعا للشرع فيها، وإنما لأنها تخدم أغراضا أخرى لهم، والدليل على ذلك أنهم لا يرجعون إلى الشرع دائما وإنما عند الحاجة.
_________
(1) نسبة إلى ابن سبعين وابن عربي.
(2) العقود (ص: 273- 275) .
(3) انظر: البداية والنهاية (14/53-54) ، والعقود (ص: 278-282) .(1/188)
ثم أقام ابن تيمية في القاهرة إلى سنة 712 هـ يفتي ويدرس ويؤلف والناس والأكابر يترددون عليه، وكتب إلى أقاربه بدمشق يقول: " والحق دائما في انتصار وعلو وازدياد، والباطل في انخفاض وسفال ونفاد، وقد أخضع الله رقاب الخصوم وأذلهم غاية الذل، وطلب أكابرهم من السلم والانقياد ما يطول وصفه. ونحن- ولله الحمد- قد اشترطنا عليهم في ذلك من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة، وانقماع الباطل والبدعة، وقد دخلوا في ذلك كله وأقنعنا حتى يظهر ذلك إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولا والمذكور مفعولا، ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم، وقد أمد الله من الأسباب التى فيها عز الإسلام والسنة وقمع الكفر والبدعة بأمور يطول وصفها في كتاب!.
" وكذلك جرى من الأسباب التي هى عز الإسلام وقمع اليهود والنصارى بعد أن كانوا قد استطالوا وحصلت لهم شوكة، وأعانهم من أعانهم على أمر فيه ذل كبير من الناس، فلطف الله باستعمالنا في بعض ما أمر الله به ورسوله وجرى في ذلك مما فيه عز المسلمين وتأليف قلوبهم، وقيامهبم على اليهود والنصارى وذل المشركين وأهل الكتاب مما هو من أعظم نعم الله على عباده المؤمنين، ووصف ذلك يطول، وقد أرسلت إليكم كتابا أطلب ما صنفته في أمر الكنائس وهي كراريس بخطي.." (1) .
وكتب الشيخ- إلى والدتهـ كنابا يمتلىء رقة وحنانا ويعتذر لها عن بقائه في مصر، وعدم عودته إلى الشام ومما قاله لها:" وتعلمون أن مقامنا الساعة في هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا ولسنا والله مختارين للبعد عنكم، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم، ولكن الغائب عذره معه، وأنخ لو اطلعغ على باطن الأمور، فإنكم ولله الحمد ما تختارون الساعة إلا ذلك، ولم نعزم على المقام والاستيطان شهرا واحدا، بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم، وادعوا لنا بالخيرة 000" (2) .
_________
(1) العقود (ص: 284- 285) .
(2) العقود (ص: 257-258) ، ومجموع الفتاوى (28/49- 50) .(1/189)
وجرت على الشيخ بعض الأحداث في مصر (1) ، ثم لما كانت سنة 712 هـ خرج لجهاد التتر صحبة الجيش المصري، فلما وصلوا إلى عسقلان توجه إلى بيت المقدس لأنه علم أن التتار رجعوا إلى بلادهم فتحقق من عدم الغزاة، وأقام في القدس أياما، ثم قدم إلى دمشق أول ذي القعدة سنة 712 هـ، ثم استقر في دمشق زمنا طويلا تفرغ فيه للتأليف وكتابة الرسائل، وكانت من أخصب فترات عمره التى ألف! فيها كثيرا من كتبه (2) .
6- محنته بسبب " الطلاق ":
كان استقرار ابن تيمية في دمشق بعد عودته من مصر-؟ يشير مترحموه
- عاملا على تفرغه للبحث والتنقيب في مسائل العقيدة، والأحكام، وكان من نتيجة ذلك ترجيحه في بعض مسائل الأحكام ما يخالف فقهاء عصره، ومن هذه المسائل مسألة الحلف بالطلاق هل يكون طلاقا إذا حنث فيه؟ يرى الجمهور، أم يكون يمينا إذا كان القصد به ا! ين؟ رجحه ابن تيمية وصار يفتى فيه، ومسألة اعتبار الثلاث بكلمة واحدة طلاقا رجعيا، وكان لمنزلة الشيخ ومكانته عند الناس أبعد الأثر في ظهور وانتشار مثل هذه الفتاوى والاقتناع بها، بل ومناقشة من يعارضها ولو كان من العلماء.
فاجتمع جاعة من كبار العلماء إلى القاضى الحنبلي كمالدين بن مسلم
الحنبلي وكلموه في أن يكلم الشيخ وأن يشير عليه بترك الإفتاء في الحلف في الطلاق، فقبل الشيخ ابن تيمية إشارته ونصيحمه وترك الإفتاء بها وكان ذلك في منتصف ربيع الآخر سنة 718 هـ، فلما كان يوم السبت مستهل جمادى الأولى من هذه السنة
_________
(1) منها قيام جماعة من الغوغاء عليه بجامع مصر في 4 رجب 711 هـ وانتصرت الحسينية له حتى كادوا أن يبطشوا بالذين آذوه ولم ينصرفوا إلا بعد مناقثة الشيخ لهم وأمرهم بالانصراف وأن الحق له وليس لهم، انظر: العقود (ص: 285) وما بعدها، وبعد أيام أوذى من فقيه يقال له المبدى، وحضر جماعة من الجند للانتصار للشيخ، ثم تراجع الفقيه وشفع فيه جماعة. العقود (ص: 289) .
(2) انظر: البداية والنهاية (14/ 67) ، والعقود (ص: 1 32) . فقد ذكر أن الشيخ بعد عودته إلى دمشق لم يزل ملازما لنشر العلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة وغيرها.(1/190)
جاء الأمر من السلطان بالمنع من الفتوى فيها، وأمر بعقد مجلس في ذلك فعقد يوم الاثنين ثالث الشهر المذكور، والفصل على ما أمر به السلطان ونودي بذلك في البلد من الغد.
ثم إن ابن تيمية عاد إلى الإفتاء بذلك وقال لا يسعني كتمان العلم، فلما كان يوم الثلاثاء 29 رمضان سنة 719 هـ جمع القضاة وقرئ كتاب السلطان وفيه فصل يتعلق بالشيخ ابن تيمية بسبب الفتوى وأحضر وعوتب على فتياه، واكد عليه في المنع من ذلك، ولكن الشيخ لم يمتنع بل عاد إلى الإفتاء بذلك. فلما كان يوم 22 رجب سنة 720 هـ عقد مجلس بدار السعادة حضره النائب والقضاة وجماعة من المفتين وحضر الشيخ وعاودوه في الافتاء وعاتبوه، وحكموا بحبسه في القلعة فبقي فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يوما، ثم ورد مرسوم السلطان بإخراجه فأخرج منها يوم الاثنين- يوم عاشوراء- سنة 721 هـ (1) . ثم تفرغ للعلم والتدريس والإفتاء.
7- محنته بسبب فتواه في " شد الرحال إلى القبور ":
وهذه المحنة من أعظم المحن التى مرت على الشيخ وعلى أتباعه والذي يبدو أن أعداء الشيخ والحاقدين عليه والحاسدين له لم يجدوا في مسألة الطلاق- كل ما يأملونهـ وإن كان قد سجن بسببها الشيخ ابن تيمية، فصاروا يبحثون وسيلة وقضية أخرى يدخلون من خلالها على إيذاء شيخ الاسلام وأتباعه، فعثروا على فتوى لهـ منذ سبع عشرة سنة- حول شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين، ومنها قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الفتوى تتضمن ذكر القولين الواردين وترجيح أحدهما- وهو التحريم- مع الأدلة على ذلك. ففرحوا بذلك وكثر الكلام حولها، واشتد الأمر، يقول ابن عبد الهادى:
" وكان للشيخ في هذه المسألة كلام متقدم أقدم من الجواب المذكور بكثير ذكره
_________
(1) انظر: العقود (ص:325-327) ، والبداية والنهاية (14/87، 97-98) ، والكو اكب (146-147) .(1/191)
في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " (1) وغيره، وفيه ما هو أبلغ من هذا الجواب الذي ظفروا به، وكثر الكلام، والقيل والقال بسبب العثور على الجواب المذكور، وعظم التشنيع على الشيخ، وحرف عليه، ونقل عنه ما لم يقله، وحصل فتنة طار شررها في الآفاق واشتد الأمر، وخيف! على الشيخ من كيد القائمين في هذه القضية بالديار المصرية والشامية وكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى اللة تعالى، وضعف من أصحاب الشيخ من كان عنده قوة، وجبن نهم من كانت له همة. وأما الشيخ-رحمه الله- فكان ثابت الجأش قوي القلب، وظهر صدق توكله واعتماده على ربه " (2) .
وفي يوم الاثنين 6 شعبان سنة 726 هـ جاء مرسوم السلطان بإقامته في القلعة (3) فأحضر له مركوب وسار إليها، وأخليت له فيها قاعة حسنة أجرى عليها الماء، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ويلاحظ مايلي:
أ- سرور شيخ الإسلام العظيم بذلك، وقال: أنا كنت منتظرا ذلك، وهذا فيه خير عظيم.
ب- مع أن الأمر السلطاني جاء بحبس شيخ الإسلام فقط، إلا أن نائب السلطنة وقاضى القضاة أصدروا أمرهم بحبس جماعة من أصحاب الشيخ والتضييق عليهم، بل عزر جماعة منهم على دواب ونودي عليهم، ثم أطلقوا سوى ابن القيم الذي بقى في حبس القلعة (4) (4) ، فما الداعى لذلك وقد حبس شيخ الإسلام.
_________
(1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/665) ، إلى آخر الكتاب كله حول القبور والشركيات فيها
(2) العقود (ص: 328) .
(3) هي قلعة دمشق، وتسمى الأسد الرابضي، وهي قلعة حصينة، يمر من عند النهر، بناها تاج الدولة تتشى سنة 471 هـ. وبنيت فيها دار الامارة وصارت مدينة كاملة لكنها محصنة. وفي سنة 691 هـ أكمل بناء قاعاتها ودورها. انظر نزهة الأنام في محاسن الشام للبدري (ص: 0 6) ، وخطط الشام (5/276) ، ومنادمة الأطلال (ص: 397) .
(4) انظر: البداية والنهاية (14/123) ، والعقود (ص: 330) .(1/192)
ج-- أخذ ابن تيمية يؤلف ويكتب وتنتشر رسائله ومنها رده على الاخنائي المسماة " الاخنائية ". ولذلك صدر أمر السلطان قبل وفاة شيخ الاسلام بأشهر باخراج ما عنده من الكتب، فكان ذلك من أعظم المصائب عليه وصار يكتب رسائله بالفحم (1) .
د- أما علامة الاستفهام هنا فهي: لماذا تغير السلطان الناصر على ابن تيمية بعد تلك العلاقات الكبيرة بينهما في مصر؟ ومن خلال تتبع الأحداث تتبين أمور لعلها تفي بالجواب:
ا- الكذب والتحريف على الشيخ وعلى فتواه، حتى حملت عباراته ما لم تحتمل، يقول ابن عبد الهادى بعد ذكره لنص فتوى شيخ الإسلام: " ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه، وبعثوا به إلى الديار المصرية، وكتب عليه قاضى الشافعية: " قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية فصح- إلى أن قال- وإنما الخزى (2) جعله زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالاجماع متطوعا بها " يقول ابن عبد الهادى: هذا كلامه فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الاسلام والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما ذكر فيه قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور.." (3)
2- دور القضاة والمفتين في مصر والشام، الذين بادروا بأن كتبوا وشنعوا على ابن تيمية تشنيعا شديدا حتى كتب السلطان بحبسه وكذلك قد يكون للرافضة أو الصوفية دور في ذلك.
3- بعد السلطان عن ابن تيمية، ولو كان عنده لعرف حقيقة الأمر ولسمع من رأيه وأدلته مباشرة، ولكنه وهو في مصر إنما يسمع ما يقوله من حوله
_________
(1) انظر: العقود (ص: 363- 364) ، والبداية والنهاية (4 1/ 34 1) ، والكواكب (ص: 173) .
(2) في العقود: المحرف والتصويب من الكواكب. وفي البداية والنهاية (14/124) كتبت: المحز.
(3) العقود (340- 341) ، والكواكب (ص: 157) .(1/193)
من القضاة فإذا انضاف إلى ذلك ما في المسألة من تحريف على الشيخ، فلا يبعد أن يأمر السلطان بما أمر، والدليل على ذلك أن ابن تيمية لما مرض- مرض الوفاة- دخل عليه شمس الدين الوزير بدمشق فاعتذر له واقس منه أن يحلله فأجابه الشيخ: " إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق، وقال ما معناه: إني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حب! سه إياي، كونه فعل ذلك مقلدا غيره، معذور، أو لم يفعله بحظ نفسه بل لما بلغه، مما ظنه حقا من مبلغه واللة يعلم أنه بخلافه " (1) .
4- انتصر لشيخ الإسلام علماء بغداد وكتبوا بما يوافق قوله في مسألة شد الرحال وسجلوا ذلك بخطوطهم- نقل بعضها ابن عبد الهادي (2) - بل وكتب علماء بغداد للملك الناصر- مع نفس الأجوبة- كتابا يثنون فيه على ابن تيمية ويستنكرون ما جرى له وكان مما قالوه في خطابهم هذا " أحمد ابن تيمية درة يتيمة يتنافس فيها، تشترى ولا تباع، ليس في خزائن الملوك درة تماثلها وتؤاخيها ... وليس يقع من مثله أمر ينقم منه عليه إلا أن يكون أمرا قد لبس عليه، ونسب إلى ما لا ينسب مثله إليه " (3) كما كتب إلى السلطان كتاب آخر، ويعلق صاحب الكواكب الدرية بقوله: " قلت والظاهر أن هذه الكتب لم تصل للسلطان الملك الناصر، إما لعدم من يوصلها أو لموت الشيخ قبل وصولها، وإلا لظهر لها نتيجة " (4)
ب- دور ابن تيمية الإيجايى في هذه المحن:
الذين يتعرضون لمثل هذه الابتلاءات والمحن كثيرون، والرجال الأشداء ذوو الإيمان الصادق هم الذين لا يضعفون أمامها، وثباتهم وعدم ضعفهم يعتبر نصرا لهم أمام هذه الابتلاءات التي قد تكون مما أجراه اللة على يد بعض الظالمين
_________
(1) الأعلام العلية ص: 82) ، والكواكب (ص: 174- هـ 17) .
(2) انظر: العقود (ص: 342- 360) ، والكواكب (ص: 159) وما بعدها
(3) العقود (ص: 357) ، وا لكو اكب (ص: 169) .
(4) 1 لكو اكب (ص: 171) .(1/194)
ليبتلى بهم عباده المؤمنين. فإذا ما تحولت المحنة والابتلاء إلى زيادة في الايمان وإيجابية في العمل في العلم وثقة تامة بهذه العقيدة التي أوذي من أجلها، وانطلاقة صادقة في الدعوة إليها، وتحويل جو المحنة- وما فيها من أذى شخصي ونفسي- إلى خدمة المبدأ الذى يدعو إليه، إذا ما أصبحت آثار وإيجابية المحنة بهذا المستوى فتلك قمة السموق التى لا يصل إليها إلا القليل من الرجال.
وقد كان شيخ الإسلام من هؤلاء، فالمحن التى مر بها تحولت بفضل الله وعونه له إلى مواقف إيجابية كان فيها الخير للإسلام والمسلمين والعزة لعقيدة أهل السنة والجماعة التى يدعو إليها: وهذه نماذج من إيجابياته فيها:
1- اختياره الذهاب إلى مصر- لما جاء طلب السلطان بإشخاصه إلى مصر- وأراد النائب أن يعتذر عنه وأن يبقى في الشام، ولكن شيخ الإسلام اختار الذهاب وقال: إن فيه مصلحة، وفعلا كان من الخير والمصلحة في ذهابه إلى هناك ومناقشاته لنفاة الصفات وللصوفية الذين كان خطرهم قد عم وطم.
2- ثم وهو ذاهب إلى مصر- ويعلم أن أمامه قضاة يريدون محاكمتهـ يمر في الطريق على مدينة غزة ثم يعقد في جامعها مجلسا علميا عظيما، فهل كان وهو يعقد مجلسه هذا لتعليم الناس وتدريسهم لا يفكر فيما أمامه من سجن وإيذاء؟.
3- دوره التربوي داخل السجون- إذا كان مع بقية السجناء- كما حدث له في سجنه في مصر بسبب الصوفية، فإنه لما دخل وجد السجناء مشغولين باللهو واللعب كالنرد والشطرنج مع تضييع الصلوات، فأنكر عليهم الشيخ ذلك وأمرهم بملازمة الصلاة والتوجه إلى الله بالأعمال الصالحة، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه ورغبهم في أعمال الخير، حتى صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيرا من كثير من المدارس والخوانق والربط والزوايا. ومثل ذلك ما حدث له في سجن الاسكندرية.
4- اختياره الذهاب إلى الحبس لما اختلف! فيه القضاة وتمنعوا في الحكم عليه والدولة تريد حبسه، فاختار أن يذهب بنفسه إلى الحبس دون أن يصدر في ذلك حكم قاض.(1/195)
5- اختياره للبقاء في مصر بعد الإفراج عنه ومجيء الملك الناصر، وكان ذلك؟ يقول في خطابه لوالدته لأمور ضرورية في الدين والدنيا، وكان لبقائه في مصر هذه المدة خير كثير في نصر السنة وقمع البدعة، وإيقاف أهل الذمة من اليهود والنصارى عند حد الشرع وقد تطاولوا قبل ذلك كثيرا.
6- أما التأليف والكتابة في أثناء سجنه، وكذلك ما يضاف إلى ذلك من التدريس والتعليم بعد سجنه كل مرة، فتلك كانت من أعظم إيجابياته فيها، ففي سجنه في الإسكندرية وكذلك في سجنه الأخير في القلعة كان مكبا على التأليف والردود، خاصة في القضايا المطروحة التي سجن من أجلها، وكذلك كان لا يخرج من سجن إلا ويتجه مباشرة إلى التدريس والتعليم، لا يأخذ فترة راحة ولا استجمام.
7- ولما أراد الذهاب إلى الشام- موطنه، وفيه والدته الحنون- لم يذهب إلا مع الجيش للجهاد في سبيل الله، ثم لما علم أن الجيش! لن يلقى قتالا توجه في طريقه إلى القدس وعجلون وبلاد السواد وزرع- ولا تذكر الكتب ماذا فعل هناك- ولكنه لن يترك التعجل إلى دمشق إلا لأمر من أمور الخير مما اعتادهـ رحمه الله.
8- عفوه عمن ظلمه، ومسامحته لأعدائه حتى بعد القدرة عليهم وتلك سجية فريدة شهد له بها أعداؤه، حتى قال ابن ت لوف قاضي المالكية وخصمه - بعد مجادلته للملك الناصر حتى حلم عنهم وصفح-: ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا " (1) وقال أيضا: " ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكنات في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا" (2) .
9- وأخيرا فقد كانت المحنة بحد ذاتها سببا في ذيوع وانتشار كتب ورسائل ابن تيمية حتى قال في سجنه الأخير- في ورقة مكتوبة بالفحم- " وكانوا قد سعوا
_________
(1) البداية والنهاية (14/54) .
(2) العقود (ص: 283) .(1/196)
في أن لا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطاب ولا كتاب وجزعوا من ظهور الإخنائية، فاستعملهم الله تعالى حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم وألزمهم بتفتيشه ومطالعته، ومقصودهم إظهار عيوبه وما يحتجون به فلم يجدوا فيه إلا ما هو حجة عليهم ... " (1) .
ثامنا: تلاميذه والمتأثرون به:
من الصعب الإحاطة بتلاميذ ابن تيمية والمتأثرين به، لأن كتبه ومنهجه تحول إلى مدرسة كبرى لها تلاميذها الذين تحولوا إلى شيوخ كبار وهذه المدرسة قائمة إلى اليوم ومنتشرة في العالم الإسلامي والحمد لله، وستبقى إن شاء الله تعالى، لأنها تسير على وفق منهج السلف أهل السنة والجماعة، ومن ثم فهى لا تنتنسب إلى شخص أو طائفة، بل تحصر انتسابها في متابعة الكتاب والسنة والسير على طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح، فليس لابن تيمية ولا لمن بعده إلا فضيلة تجديد ما اندرس أو نسى منها، وبذل الجهد في الدفاع عنها والدعوة إليها.
وشيخ الإسلام ابن تيمية كثرت في عصره الطوائف والفرق وصار لكل طائفة شيوخ وأتباع، ومنهج وكتب يتداولونها، فعظمت مصيبة الأمة الإسلامية بهذه الفرقة، خاصة وأن كل طائفة تدعي أنها على الحق، وكان من أعظم ما دخل على المسلمين- وخفي على كثير منهم- اختلاط الحق بالباطل، وامتزاج العقيدة السلفية بعلم الكلام والفلسفة، حتى وصل الأمر إلى أن قعدت قواعد وأصلت أصول كلامية ونسبت إلى مذهب أهل السنة والجماعة، فكان دور شيخ الإسلام دور المميز لمذهب ومنهج السلف، والمصفى له عن تلك الشوائب، مضيفا إلى ذلك نقد تلك الأصول الكلامية ونقض أسسها التي قامت عليها، فظهر- منهج السلف- واضحا بينا لمن أراده، وتبين أن غيره ما هى إلا أصول كلامية وقواعد فلسفية جاء بها أصحابها واستقوها بعيدا عن المنابع الصافية من الكتاب والسنة.
_________
(1) المصدر السابق (ص: 364) .(1/197)
ولذلك نرى بعض العلماء يعيش في حيرة دهرا يقلب في كتب أهل الكلام، فلا يهتدي إلى الصواب فيها، فلما اطلع على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية تبين له الحق الذي كان يبحث عنه يقول أحدهم: " وكنت قبل وقوفي على مباحث إمام الدنيا-رحمه الله- قد طالعت مصنفات المتقدمين، ووقفت على مقالات المتأخرين من أهل الفلسفة ونظار أهل الإسلام، فرأيت نها الزخارف والأباطيل والشكوكات التي يأنف المسلم الضعيف في الإسلام أن يخطرها بباله فضلا عن القوى في الدين مكان يتعب قلبي ويحزننى ما يصير إليه الأعاظم من المقالات السخيفة والآراء الضعيفة التي لا يعتقد جوازها آحاد العامة، وكنت أفتش على السنة المحضة في مصنفات المتكلمين من أصحاب الإمام أحمد-رحمه الله- على الخصوص، لاشتهارهم بالتمسك بمنصوصات إمامهم في أصول العقائد، فلا أجد عندهم ما يكفى، وكنت أراهم يتناقضون إذ يؤصلون أصولا يلزم فيها ضد ما يعتقدونه، ويعتقدون خلاف مقتضى أدلتهم، ... وكنت ألتجي " إلى الله سبحانه وتعالى وأتضرع إليه، وأهرب إلى ظواهر النصوص وألقى المعقولات المتباينة والتأويلات المصنوعة لنبو الفطرة عن قبولها، ثم قد تشبثت فطرتي بالحق الصريح في أمهات المسائل، غير متجاسرة على التصريح بالمجاهرة قولا وتصميما للعقد عليه، حيث لا أراه مأثورا عن الأئمة وقدماء السلف، إلى أن قدر الله تعالى وقوع مصنفى الشيخ إمام الدنيا-رحمه الله- في يدي قبيل واقعته الأخيرة بقليل، فوجدت ما بهرني، من موافقة فطرتي لما فيه، وعزو الحق إلى أئمة السنة وسلف الأمة، مع مطابقة المعقول والمنقول، فبهت لذلك، سرورا بالحق وفرحا بوجود الضالة التي ليس لفقدها عوض، فصارت محبة هذا الرجل-رحمه الله- محبة ضرورية، يقصر عن شرح أقلها العبارة ولو أطنبت، ولما عزمت على المهاجرة إلى لقيه، وصلني خبر اعتقاله، وأصابني لذلك المقيم المقعد ... " (1) وصمم على السفر إليه سنة 728 هـ ولكن جاءه بخبر وفاته فحزن عليه حزنا عميقا (2) .
_________
(1) العقود الدرية (ص: 503- 505) ..وهذا الرجل اسمه عبد الله بن حامد من بغداد، وانظر: الأعلام العلية (ص: 32) ، والرد الوافر (ص: 196،216) ، ففيهما شيء مشابه. وقد رجع بعض الصوفية، انظر: السبعينية (ص: 135) ، والاستغاثة (2/276) .
(2) انظر: العقود (ص: 505) .(1/198)
هذا نموذج لكيفية ونوعية التأثير في مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية، ونشير بإجمال إلى بعض تلاميذه والمتأثرين به، فمنهم:
1- ابن القيم، محمد بن أبي بكر، ت 751 هـ.
2- الذهبي، محمد بن أحمد، ت 748 هـ.
3- المزممط، يوسف بن عبد الرحمن، ت 742 هـ.
4- ابن كثير، إسماعيل بن عمر، ت 774 هـ.
5- ابن عبد الهادى، محمد بن أحمد بن عبد الهادى بن قدامة. ولد سنة 704 هـ وتوفي سنة 744 هـ (1) .
6- البزار، عمر بن علي، 688- 749 هـ (2) .
7- ابن قاضي الجبل، أحمد بن حسن بن عبد الله بن عمر بن قدامة، قاضي القضاة، 693- 771هـ (3) .
8- ابن فضل الله العمرى، أحمد بن يحى بن فضل الله بن المحلى بن دعجان 697- 749 هـ (4) .
9- محمد بن المنجا بن عثمان التنوخي، 675- 724 هـ (5) .
10- يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام البتي، توفي سنة 726 هـ (6) .
_________
(1) انظر: تاريخ الصالحية (ص: 432) ، وذيل طبقات الحنابلة (2/436) ، وذيل تذكرة الحفاظ للحسينى (ص: 49) ، والرد الوافر (ص: 62) .
(2) انظر: الدرر الكامنة (3/256) ، وذ! ل ابن رجب (2/444) .
(3) انظر: المنهل الصافي (1/ 284) ، والدرر الكامنة (11/29) ، وشذرات الذب (6/ 9 21) .
(4) انظر: المنهل الصافي (2/ 261) .
(5) انظر: البداية والنهاية (14/6 1 1) ، وذيل ابن رجب (2/377) .
(6) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2/379) ، وهو من الذين انتصروا لابن تيمية من علماء بغداد في مسألة ضد الرحال، وناله بسبب ذلك سجن ومحنة، وانظر: العقود (ص: 353) ، والكواكب (ص:159) .(1/199)
11- ابن شيخ الحزاميين، أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، 657-711 هـ (1) .
12- أبو العباس الزرعي، أحمد بن موسى، توفي سنة 761 هـ (2) .
13- شمس الدين الأصبهاني محمود بن عبد الرحمن بن أحمد، توفي سنة 749 هـ (3) .
14- محمد بن أحمد أو نصر الدباهي، الزاهد، شمس الدين، 636- 711 هـ (4) .
15 - محمد بن عمر بن عبد المحمود الحراني، 677- 718 هـ (5)
16 - ابن أبى النجيح: شرف الدين محمد بن سعد اللهـ ت 723 هـ (6)
17 - وأخوه: زين الدين عمر بن سعد اللهـ ت 749 هـ (7) .
18 - محمد بن عمر بن قوام البالس- 650- 718 هـ (8) .
_________
(1) كان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ولما جاء إلى دمشق صحب ابن تيمية وتأثر به، وصنف في الرد على الاتحادية، وكان على عقيدة السلف الصالح. ذيل طبقات الحنابلة (2/358-. 36) .
(2) قدم القاهرة لما سجن ابن تيمية وكلم الأمير الجاشنكير في أمره وأمعن، المنهل الصافي (2/231-232) .
(3) وهو غير الأصبهاني- صاحب العقيدة التي شرحها وناقشها ابن تيمية، أما هذا فقد قدم دمشق سنة 725 هـ وصار يتردد على ابن تيمية ولازمه، انظر: الدرر الكامنة (5/95) ، وبغية الوعاة (2/278) ، وطبقات السبكى (10/383) ، وطبقات الأسنوى (1/172) ، وطبقات المفسرين للد او دي (2/313) .
(4) ذهب إلى مصر ليصلح بين ابن تيمية والمنبجى، انظر ترجمة ابن تيمية بقلم خادمه (ص: 24) . وانظر في ترجمة الدباهى: ذيل ابن رجب (2/361) .
(5) سافر سنة 711 هـ لزيارة شيخ الاسلام في مصر فأسر في الطريق، انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2/373) .
(6) كان مع ابن تيمية في المواطن الصعبة التى لا يستطيع الأقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص. البداية والنهاية (14/ 210) .
(7) انظر: البداية والنهاية (14/227) .
(8) انظر: المصدر السابق (14/89- 90) .(1/200)
19- السرمري: يوسف بن محمد بن مسعود العقيلي، 696- 776 هـ (1) .
20- يعقوب بن فارس الجعبري، توفي سنة 726 هـ (2) .
21- علي بن أحمد بن هوس الهلالمط، ت 727 هـ (3) .
22- محمد بن علي البابا الحلبي العوام، توفي سنة 725 هـ (4) .
23- إبراهيم بن الموله البعلبكي، توفي سنة 725 هـ (5) .
24- عبد الله بن مومى الجزرى، توفي سنة 725 هـ (6) .
25- أم زينب فاطمة بنت عباس، توفيت سنة 714 هـ (7) .
وغيرهم كثير، ذكرهم في الرد الوافر، والشهادة الزكية.
تاسعا: مؤلفاته ورسائله:
قبل الدخول في الكلام عن مؤلفاته نشير إلى بعض الملامح حول طريقته في الكتابة فابن تيمية كان سريعا في الكتابة، وكان له جلد عليها، يقول أخوه عبد الله: "وقد من الله عليه بسرعة الكتابة، ويكتب من حفظه من غير نقل" (8) ويقول ابن عبد الهادي: " وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلدا لطفيا في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأكثر، وأحصيت ما كتبه وبيضه في يوم فكان ثماني كراريس في مسألة من أشكل المسائل" (9) .
_________
(1) له نظم: الحمية الاسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية " لحظ الألحاظ (ص: 160) ، أو بغية الوعاة (2/360) ، والدرر الكامنة (5/249) .
(2) البداية والنهاية (14/127) .
(3) المصدر السابق (14/ 130) .
(4) نفسه (14/120) .
(5) نفسه (14/119) .
(6) نفسه (14/119) .
(7) نفسه (14/72) .
(8) العقود (ص: 64) ، وانظر أعيان العصر- مجموع للمنجد (ص: 50) .
(9) المصدر السابق (ص: 64) .(1/201)
وكان عند ابن تيمية من يبيض له كتبه لأنه يكتب بسرعة، وكان هناك شخص يكتب مصنفات الشيخ اسمه: عبد الله بن رشيق المغربي، [توفي سنة 749 هـ] يقول ابن كثير: " وكان أبصر بخط الشيخ منه " (1) .
وكان أحيانا يتفرغ للاصلاح في كتبه والزيادة فيها والنقصان. كما حدث له بعد خروجه من السجن- بسبب الطلاق- سنة 721 هـ (2) .
وبعد رجوعه من مصر إلى الشام سنة 712 هـ تفرغ للكتابة المطولة (3) .
وكان يهتم كثيرا بما ينسب إليه أنه من خطه (4) ، ويبدو أن الكذب عليه وتحريف كلامه جعله حساسا من هذا الجانب.
وكان لا يؤخر الأجوبة- إذا سئل- بل " يكتب في الحال عدة أوصال بخط سريع في غاية التعليق والاغلاق " (5) ، وقد يكون صاحب الرسالة مستعجلا فيشير إلى ذلك (6) .
وكان يؤلف في سجنه من حفظه، وينسب الأقوال إلى قائليها، ثم تأتي بعد المقابلة كما نقل (7) .
وكان يقرأ كثيرا فيطلع أحيانا على تفسير الآية الواحدة اكثر من مئة تفسير (8) .
وكان يسأل إذا احتاج إلى الكتب، فسأل مرة هل للمدينة كتاب يتضمن أخبارها كما صنف في أخبار مكة (9) .
_________
(1) البداية والنهاية (14/229) .
(2) انظر: العقو د (ص: 327) .
(3) انظر: البداية والنهاية (14/67) .
(4) انظر: مجموع الفتاوى (27/ 315) - الجواب الباهر-.
(5) انظر: تاريخ ابن الوردى (2/408) .
(6) انظر مثلا: الكيلانية مجموع الفتاوى (12/416-417) ، وانظر: مسألة الأحرف مجموع الفتاوى (12/116)
(7) انظر: الأعلام العلية (ص: 22) ، والكواكب (ص: 81) ، والدرر الكامنة (1/163) .
(8) انظر: العقود (ص: 26) ، وا لكو اكب (ص: 78) ، والو افي (7/ 16) .
(9) انظر: الرسالة المدنية، مجموع الفتاوى (6/373) .(1/202)
وكان يرى أنه لا يجوز لمالك الكتب أن يمنعها من سأل عنها، ويقول: لا ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه (1) .
وكتب ورسائل ابن تيمية كثيرة جدا وقد ضاع بعضها لأسباب منها:
المحن التى مر بها هو وأتباعه فلابد أن تنال المحنة كتبه ورسائله، وقد وصل الأمر أن يخاف أتباعه أن يظهروا كتبه. إضافة إلى حرص تلاميذ الشيخ على رسائله حتى أنه إذا سئل عن مسألة قال كتبت في هذا، فلا يدري أين هو، فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردوا خطي وأظهروه لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه فيذهب (2) .
أما مؤلفاته ورسائله فكثيرة جدا، بلغت أكثر من ثلاثمائة مجلد، وقال الذهبى: إنه وجدها أكثر من ألف مصنف (3) ، وقد قام بمحاولة لإحصائها بعض العلماء (4) ونحن هنا نقصر الكلام على بعض مؤلفاته التي أفردها في العقيدة وفيها ردود على الأشاعرة:
1- العقيدة الحموية:
وهي جواب لسؤال ورد من حماه، وموضوع السؤال آيات الصفات كالاستواء وأحاديث الصفات كالأصابع والقدم، فأجاب شيخ الإسلام بهذه الرسالة التى حميت: الفتوى الحموية الكبرى، وقد يكون هناك فتوى حموية صغرى قبلها، وكان قد كتبها في قعدة بين الظهر والعصر.
والحموية خالصة في الرد على الأشاعرة، وقد جاءت بأسلوب تقريري قوي، فهي على اختصارها- بالنسبة للكتب الأخرى- مليئة بالقواعد الأصولية
_________
(1) انظر: الأعلام العلية (ص: 66) ، والكواكب (ص: 87) .
(2) العقود (ص: 65) .
(3) انظر: الرد الوافر (ص: 72) .
(4) منهم ابن القيم، له رسالة في مؤلفات ابن تيمية، والصفدى في الوافي (7/23) ، وفي العصر الحديث صالح المنصور في كتابه أصول الفقه وابن تيمية (1/156) وما بعدها. وصبرى المتولي في منهج ابن تيمية في تفسير القرآن (ص: 272) وما بعدها- ترجمه عن غيرهـ.(1/203)
وقد تعرض لمقولة الأشاعرة: إن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم، ونقضها وبين أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم. كما عرض لنشأة تأويل الصفات وأرجع تأويلات ابن فورك والرازي والغزالي إلى تاءويلات المريسي، ثم ختمها بنقول كثيرة للعلماء الذين ينتسب إليهم الأشاعرة وغيرهم وفيها ما يرد عليهم.
ومن يقرأ هذه الرسالة العطمة لا يستبعد أن تطيش بسببها عقول أشاعرة ذلك العصر. ولذلك امتحن بسيها مرتين مرة في الشام ومرة في مصر.
2- جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوى الحموية:
ويقع في أربعة مجلدات، وقد ألفه في مصر (1) ، وواضح من عنوانه أنه جاء بعد محنته الأولى في مصر حين استدعي لمساءلته عن الحموية- ومناظرته الأولى فيها- ولم يصلنا شيء عن هذا الكتاب.
3- نقض أساس التقديس:
ويسمى أحيانا: كتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ويسمى نقض تأسيس الجهمية، والذين تحدثوا عنه قديما ذكروا أنه في ست مجلدات، وأنه أكبر من درء تعارض العقل والنقل (2) .
والكتاب من أهم كتب ابن تيمية لأنه جعله خاصا بالرد على كتاب من أعظم كتب الأشاعرة، وقد عول عليه من جاء بعده، وهو كتاب " أساس التقديس للرازي " والمطلع على كتاب الرازى هذا يرى خطورة هذا الكتاب لأنه حشد فيه خلاصة أدلة الأشاعرة وشبههم بأسلوب عقلى قوى، خاصة وأنه أفرده
_________
(1) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2/403) .
(2) يذكر ابن عبد الهادي في العقود (ص: 25) أن درء تعارض العقل والنقل في أربع مجلدات - وبعض النسخ في أكثر من أربعة مجلدات-، ويذكر في (ص: 28) أن بيان تلبيس الجهمية في ست مجلدات، وبعض النسخ منه في أكز من ذلك. أما البزار في الأعلام العلية (ص: 23) فيذكر أن تلخيص التلبيس في اثنى عشر مجلدا، وأن درء العقل والنقل في سبع مجلدات، أما ابن الوردى في تتمة المختصر (2/409) فيذكر أن تأسيس التقديس في سبع مجلدات والموافقة في مجلدين.(1/204)
في مسائل الصفات فقط. يقول ابن تيمية مبينا ظروف تأليفه لهذا الكتاب وأسبابه: (اأما بعد فإني كنت سئلت من مدة طويلة بعيدة سنة تسعين وستمائة عن الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله في فتيا قدمت من حماه، فأحلت السائل على غيري، فذكر أنهم يريدون الجواب مني زائد، فكتبت الجواب في قعدة بين الظهر والعصر وذكرت فيه مذهب السلف والأئمة المبني على الكتاب والسنة، المطابق لفطرة اللة التي فطر الناس عليها ... وحصل بعد ذلك من الأهواء والظنون ما اقتضى أن اعترض قوم على خفي هذه الفتيا بشبهات مقرونة بشهوات، وأوصل الى بعض الناس مصنفا لأفضل القضاة المعارضين، وفيه أنواع من الأسئلة والمعارضات، فكتبت جواب ذلك وبسطته في مجلدات، ثم رأيت أن هؤلاء المعترضين ليسوا مستقلين بهذا الأمر استقلال شيوخ الفلاسفة والمتكلمين، فالاكتفاء بجوابهم لا يحصل ما فيه المقصود للطالبين ... واستشعر المعارضون لنا أنهم عاجزون عن المناظرة التي تكون بين أهل العلم والايمان، فعدلوا إلى طريق أهل الجهل والظلم والبهتان، وقابلوا أهل السنة بما قدروا عليه من البغي باليد عندهم واللسان، نظير ما فعلوه قديما من الامتحان، وإنما يعتمدون على ما يجدونه في كتب المتجهمة المتكلمين، وأجل ما يعتمدون كلامه هو أبو عبد اللة الرازي إمام هؤلاء المستأخرين، فاقتضى ذلك أن أتم الجواب عن الاعتراضات المصرية الواردة على الفتيا الحموية بالكلام على ما ذكره أبو عبد الله الرازى في كتابه الملقب بتأسيس التقديس، لتبيين الفرق بين البيان والتلبيس، ويحصل بذلك تخليص التلبيس، ويعرف فصل الخطاب فيما في هذا الباب من أصول الكلام، التى كثر بسيها بين الأمة النزاع والخصام " (1) ثم تحدث عن منزلة الرازي عند المتكلمين.
وهذا الكتاب- للأسف الشديد- لم يصل إلينا كاملا وإنما وصل بعضه، وقد طبع جزء من هذا الذي وصل (2) ، وبعضه لا زال مخطوطا (3) ،
_________
(1) نقض أساس التقديس المخطوط (3/1- هـ) .
(2) طبع مجلدان بتحقيق ابن قاسم، والأول منهما لم يتمحض للكتاب وإنما فيه تكميلات وضعت في صلب الكتاب من كتب ابن تيمية الأخرى.
(3) في جامعة الملك سعود ثلاثة أجزاء مخطوطة- ليس في المطبوع منها شيء - ويلاحظ أن الثالث منها منزلته الثاني.(1/205)
والذي لم يصل من الكتاب أكثر مما وصل (1) .
وهكذا تأتي هذه الكتب الثلاثة على الترتيب، الحموية، فالجواب عن الاعتراضات عليها، فنقض أساس التقديس.
4- درء تعارض العقل والنقل:
وهذا الكتاب من أعظم كتب ابن تيمية، وقد ألفه في الرد على الأشاعرة الذين يقولون بوجوب تقديم العقل على النقل إذا تعارضا، وجعلوا ذلك قانونا كليا لهم، ومن الذين قالوا بهذا القانون الرازي (2) وأتباعه، والغزالي (3) ، والجويني (4) ، والقاضي أبو بكر بن العربى (5) ، وغيرهم.
وقد ألف ابن تيمية هذا الكتاب بعد تأليفه لنقض أساس التقديس، وقد رجح المحقق-رحمه الله- أنه ألفه بعد وصوله إلى الشام من مصر أي بين عامي 712- 718 هـ (6) ، ويقول ابن تيمية مشيرا إلى ذلك " وهذه الطريقة هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية، فإنا قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره " (7) ، فهذا النص أخر تأليف هذا الكتاب عن كتابه الآخر الذي ألفه في مصر نقض أساس التقديس، ونلمح هنا التدرج التأليفي في نقض أصول الأشاعرة، فهو في البداية رد على أدلتهم مباشرة وأجاب عن الاعتراضات الواردة عليها، ثم رأى أن هؤلاء إنما يعتمدون في شبههم واعتراضاتهم على ما كتبه شيخهم ومقدمهم الرازي فرأى أن من تمام الكلام في نقض كلامهم نقض كلام شيوخهم- كالرازي- فألف نقض أساس التقديس،
_________
(1) كتاب الرازي يقع في 196 وعدد الصفحات التي شملها الرد- المخطوط والمطبوع- ما يقارب 60 صفحة فقط.
(2) في كتبه ومنها: أساس التقديس (ص: 172) .
(3) في كتابه قانون التأويل. طبع مع معارج القدس للغزالمط. مكتبة الجندى.
(4) انظر مثلا: الإرشاد (ص: 358) .
(5) انظر: قانون التأويل له (ص: 646-647) .
(6) انظر: درء تعارض العقل والنقل (ج-1 االمقدمة ص: 7-. 1) .
(7) درء تعارض العقل والنقل (14/218) .(1/206)
ثم بعد ذلك رأى أن الرازى وأمثاله ليسوا مستقلين بذلك استقلالا كاملا وإنما مادة كلامهم من كلام الفلاسفة فأراد أن يكمل الرد بنقض أصولهم الفلسفية فجاء هذا الكتاب! درء تعارض العقل والنقل " الذي لم يكن مقتصرا على جواب هذه المسألة فقط: تقديم العقل على النقل، وإنما حوى مباحث طويلة مع الفلاسفة - شيوخ الرازي- وغيرهم، ونقل أقوالهم وبين من وجوه عديدة أنواعا من تناقضاتهم ورد بعضهم على بعض.
والكتاب- والحمد للهـ وصل إلينا كاملا ونشر نشرا علميا ممتازا، فجزى الله محققه خيرا وغفر له ورحمه.
5- القاعدة المراكشية:
وهي أيضا في الرد على الأشاعرة في مسألة " العلو " والاستواء على العرش، وقد ألفها في السنة الأخيرة من سنوات مقامه في مصر 712 هـ، وسبب تأليفها حدوث نزاع بين بعض المغاربة المالكيين حول مسألة العلو، واختلافهم حول معنى ما جرى للإمام مالك مع السائل له عن الاستواء حين قال له " وما أراك إلا رجل سوء "، وهل معنى ذلك أنه لا يجب معرفة هذا الأمر بل من تكلم فيه فهو مبتدع مجسم؟، وقد ورد سؤال في ذلك وجه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فأجاب بهذه القاعدة العظيمة التي سيبت ب " القاعدة المراكشية " (1) ، وقد ذكر فيها أصولا مهمة تتعلق بإكمال الدين، وفهم النصوص، ثم تكلم عن العلو وثبوته والرد على شبه الخالفين، ثم رد على " الواقفة " (2) - الذين أوحى بهم ظاهر السؤال واحتجوا بقول الإمام مالك- وبين خطأهم من وجوه، وبين أن قول الإمام مالك صريح في الإثبات وأنه لم يكن من الواقفة بحال، ثم نقل أقوال العلماء في ذلك من المغاربة وغيرهم.
_________
(1) طبعت مع مجموع الفتاوى (5/153-193) ، ومجموعة الرسائل والمسائل (ج-1ص: 85 ا-216) ،؟ طبعت مستقلة ومحققة، ط دار طيبة.
(2) انظر: المراكشة (ص: 54) ، وما بعدها، المحققة.(1/207)
وهذه الرسالة تجيب على التساؤل الذي يرد دائما بالنسبة للمغاربة وهو: كيف يتبنى المغاربة المذهب الأشعري، وفيه نفي العلو وتأويل الاستواء، مع أن الامام مالكا إمامهم، وهم لا يخرجون عن أقواله بل ويتعصبون له، وهذا الإمام يثبت الاستواء- كما في الرواية المشهورة عنهـ؟.
6- الرسالة التدمرية:
وهي من الرسائل- ذات القواعد العظيمة- في إثبات الصفات والشرع والقدر، والرد على الخالفين من الأشاعرة وغيرهم، وهي رسالة مشهورة لكن لم يتبين تاريخ كتابة هذه الرسالة، وإن كان فيها ما يدل على أن السائلين كانوا من تدمر وقد وصفهم ابن تيمية بقوله: " أما بعد فقد سألني من تعينت إجابتهم أن اكتب لهم مضمون ماسمعوه مني في بعض المجالس " (1) فالظاهر من حالهم أنهم من تلاميذه، أو ممن قدموا إليه وتتلمذوا عليه زمنا وحضروا مجالسه، ويرد ذكر مجموعة من المشايخ التدامرة- في مصر- ولهم محاولات للوساطة بين شيخ الإسلام ومناوئيه (2)
7- شرح الأصفهانية:
والأصفهانية متن في العقيدة مختصر لشمس الدين الأصبهاني، محمد ابن محمود بن عباد (3) ، قدم القاهرة وتولى القضاء ثم استقر بها، وقد ورد في مقدمة شرح ابن تيمية تاريخ ومكان كتابتها، ففيها: " سئل شيخ الاسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه.... وهو مقيم بالديار المصرية في شهور سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أن يشرح العقيدة، التي ألفها الشيخ ثهس الدين محمد بن الأصفهاني، الإمام المتكلم المشهور الذمم! قيل: إنه لم يدخل
_________
(1) التد مر ية (ص: 3) المحققة.
(2) انظر: ناحية من حياة ضيخ الاسلام بقلم خادمه (ص:5 2-.3) .
(3) ولد سنة 6 1 6 هـ، وتوفي سنة 688 هـ، وفي بغية الوعاة أنه توفي سنة 678 هـ. ولعله وهم: انظر: طبقات السبكى (8/ 100) ، وبغية الوعاة (1/ 240) ، والوا في (5/ 12) ، وفوات الوفيات (5/38) والعبر (3/367) وشذرات الذهب (5/ 6 0 4) ، والنجرم الزاهرة (7/ 382) ، وحسن المحاضرة (1/542) ، ومتن العقيدة ذكره السبكي (8/102-103) .(1/208)
إلى الديار المصرية أحد من رؤوس علماء الكلام مثله، وأن يبين ما فيها " (1) . فأجاب إلى ذلك واعتذر بأنه لابد عند شرح ذلك الكلام من مخالفة بعض مقاصده لما توجبه قواعد الإسلام فإن الحق أحق أن يتبع والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " (2) .
وتد شرح ابن تيمية هذه العقيدة، ورد الأصول الكلامية فيها، وبين
ما فيها من انحراف عن منهج أهل الحق، وقد ذكر شيخ الإسلام أن المصنف سلك في الصفات مسلك الرازي (3) .
وقد اشتمل الشرح على مباحث العقيدة كلها ومنها الصفات والإيمان، والمعاد، واليوم الآخر والقدر والنبوات وغيرها.
8- المناظرة حول الواسطية:
وهي تسجيل لما جرى حول " الواسطية " من مجالس ناقشه فيها الأشاعرة وجوابه لهم، وقد سجلها ابن تيمية بنفسمه وذكر ما ورد فيها من اعتراضات ومناقشات حول التحريف والتأويل، ومسألة الحرف والصوت، والإيمان وأت قول وعمل، والاستواء، والأشعري ومذهبه في الصفات الخبرية.
9- الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات:
وقد لخص فيها ابن تيمية مناظرة جرت له مع بعض الأشاعرة حول: وصف
اللة بالعلو على العرش، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات، وتكلم على مقولة: هل الظاهر مراد أو غير مراد، وبين أنه لا يجوز صرف النصوص عن ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، وقد كتبها الزاهد شمس الدين من أهل المدينة (4) .
_________
(1) شرح الأصفهانية، هـ مخلوف (ص: 3) .
(2) نفس المصدر (ص: 3) .
(3) انظر: نفس المصدر (ص: 8،15،18،19) .
(4) انظر: مجموع الفتاوى (1/1 35-373) .(1/209)
10- التسعينية:
وهي في الرد عك الأشاعرة في مسألة " الكلام النفسي " رد فيها عليهم من أوجه عديدة، وهذه الرسالة كتبها في مصر في محنته الأولى سنة 706 هـ (1) ، وذلك حينما ناقشه علماء الأشاعرة في مسائل العلو والكلام، وجرى في ذلك فصول سطرها ابن تيمية في مقدمته للتسعينية، وقال: " وقد كتبت هنا بعض ما يتعلق بهذه المحنة التي طلبوها مني في هذا اليوم، وبينت بعض ما فيها من تبديل الدين واتباع غير سبيل المؤمنين لما في ذلك من المنفعة للمسلمين وذلك من وجوه محميرة نكتب منها ما يسره الله تعالى " (2) ، وهذه الرسالة من رسائل ابن تيمية الفريدة التي ذكر فيها أمورا مهمة ومسائل قد لا توجد في كتبه الأخرى.
11- النبوات:
وهو في الرد على الأشاعرة- ومنهم الباقلاني (3) - في مسألة معجزات الأنبياء والفرق بينها وبين الكرامات والخوارق الشيطانية، وهو مطبوع لكن فيه نقص ولعل الله أن ييسر مخطوطات هذا الكتاب ليحقق ويخرج بشكل جيد.
12- الإيمان:
وفيه الرد على المرجئة، ومنهم الأشاعرة، ونقل أقوالهم في الإيمان وأدلتهم ثم ناقشها (4) . وهو مطبوع.
13- شرح أول المحصل للرازي:
ولم يصل إلينا، وكثيرا ما يشير إليه ابن تيمية في كتبه.
_________
(1) في المطبوعة سنة ست وعشرين، وهو خطأ، إذ في هذه السنة 726 هـ كان معتقلا بسبب شد الرحال، وقد ظن البعض- اعتمادا على ما في المطبوعة- أن هذه الرسالة كتبها ابن تيمية في آخر حياته. وقد قال ابن تيمية فيها (ص: 3) " فقد قلت هذا بالشام وأنا قائله هنا".
(2) التسعينية (ص:4) .
(3) انظر: النبوات (ص: 44) وما بعدها، ط دار الكتب العلمية
(4) انظر: الايمان (ص: 115) وما بعدها، ط المكتب الاسلامى.(1/210)
14- مسائل من الأربعين للرازي:
والأربعين في أصول الدين للرازى مطوع، أما كتاب ابن تيمية فلم يصل إلينا.
أما كتب ابن تيمية ورسائله التي رد فيها على مسائل عقيدة الأشاعرة فكثيرة جدأ، ومنها: منهاج السنة، والاستقامة، والصفدية، والجواب الصحيح، وشرح حديث النزول، والسبعينية، والرد على الاخنالى، والرد على البكري المعروف بالاستغاثة، وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، والحسنة والسيئة، والرسالة العرشية، وقاعدة في المعجزات والكرامات، والمسألة المصرية في القرآن، والأحتجاج بالقدر، ورسالة في علم الظاهر والباطن، والإكليل في المتشابه والتأويل، وتفسير سورة الإخلاص، وغيرها، ولم تفرد هنا لكونها ألفت في الرد على غير الأشاعرة، لكن جاء الحديث عنهم فيها ضمن ردود ومناقشات أخرى.
عاشرا: عبادته وتوكله وذكره لربه:
لقد تحدث مترجموه عما اشتهر عنهـ رحمه الله تعالى- من العبادة والزهد والورع والإيثار والتواضع والكرم الجم (1) .
وأبرز ما في عبادته صدق توكله على ربه وإيمانه بقضائه وقدره ولذلك فهو في أشد حالات الايذاء والمضايقة تجده يكون في أشد حالات التوكل والثقة بالله تعالى، ولما جاءه الخبر بنفيه إلى الاسكندرية وقيل له: هم عاملون على قتلك أو نفيك أو حبسك فقال لهم: " أنا إن قتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبدا، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت تقلبت على صوف " (2) . ومن أقواله: " إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة " (3) يقول ابن القيم وقال لي مرة: " ما يصنع أعدئي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري،
_________
(1) انظر: الأعلام العلية (ص: 36- 1 4، 2 4، 48، 63) ، والكواكب (83-88) .
(2) ناحية من حياة شيخ الاسلام بقلم خادمه (ص: 30) .
(3) الوابل الصيب (ص: 60) - ط دار البيان.(1/211)
إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة " (1) ويقول ابن القيم: " وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندى شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا، وكان يقول في سجوده وهو محبوس:" اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ما شاء الله، وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه " (2) ويقول ابن القيم أيضا: "وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والارهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة " (3) . ويقول ابن القيم عن ذكره لربه: " وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: " الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.. وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال: " هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي " (4) .
حادي عشر: وفاته:
لما أخرجت الكتب والأوراق والدواة والقلم من عند شيخ الإسلام في القلعة في يوم الاثنين تاسع جمادى الآخر سنة 728 هـ، تفرغ الشيخ للعبادة وقراءة القرآن واستمر على هذه الحال حتى توفي في ليلة الاثنين العشرين من ذى القعدة من هذه السنة 728 هـ. وكانت وفاته على أثر مرض ألم به أياما يسيرة،
_________
(1) الوابل الصيب (ص: 60) ط دار البيان.
(2) المصدر السابق (ص: 61) .
(3) المصدر السابق، نفس الصفحة.
(4) المصدر نفسه (ص: 53-54) .(1/212)
ولما كان الشيخ قد ضيق عليه - خاصة بعد إخراج كتبه وأوراقه - فقد كانت وفاته مفاجئة للناس جميعا، فقد أصيبوا بصدمة وما كادوا يعلمون صباح الاثنين حتى خرجوا جميعا في جنازته، واشتد زحامهم عليها، وقد اعتبرها المؤرخون من الجنائز النادرة فيشبهونها بجنازة الإمام أثط عبد اللة أحمد بن حنبل-رحمه الله- في بغداد، وابن تيمية مات في دمشق وهى أصغر من بغداد وليست عاصمة للخلافة، كا أن ابن تيمية مات مسجونا مسخوطا عليه من جهة السلطان وكثير من الفقهاء والصوفية الفقراء يذكرون عنه للناس- مما يسىء- أشياء كثيرة، ومع ذلك كانت جنازته مشهودة ومشهورة.
يقول البزار: " ثم إن الشيخ- رحمه اللة- بقي إلى ليلة الاثنين العشرين من ذى القعدة الحرام وتوفي إلى رحمه الله تعالى ورضوانه في بكرة ذلك اليوم وذلك من سنة ثمان وعشرين وسبع مئة وهو على حاله، مجاهدا في ذات الله تعالى، صابرا، محتسبا لم يجبن ولم يهلع، ولم يضعف، ولم يتتعتع، بل كان رضى الله عنه إلى حين وفاته مشتغلا بالله عن جميع ما سواه، قالوا: فما هو إلا أن سمع الناس بموته، فلم يبق في دمشق من يستطع المجيء للصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك وتفرغ له، حتى غلقت الأسواق بدمشق، وعطلت معايشها حينئذ وحصل للناس بمصابه أمر شغلهم عن غالب أمورهم وأسبابهم، وخرج الأمراء والرؤساء والعلماء والفقهاء، والأتراك، والأجناد، والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام، قالوا: لم يتخلف أحد من غالب الناس فيما أعلم إلا ثلاثة أنفس، كانوا قد اشتهروا بمعاداته، فاختفوا من الناس خوفا على أنفسهم، بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس فأهلكوهم " (1) .
ويذكر ابن كثير أن نائب السلطنة كان غائبا فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال- نائب القلعة- فعزاه فيه، وجلس عنده،
_________
(1) الأعلام العلية (ص: 82-83) .(1/213)
وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون (1) .
" ثم شرعوا في غسل الشيخ ... ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة رجنح الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به ... إلى الجامع الأموى والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصى عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فتباكى الناس، وضجوا عند سماع هذا الصارخ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف بل مرصوصين رصا، لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة، جو الجامع ويرى الأزقة والأسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، ونوى خلق الصيام لأنهم لا يتفرغون هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب- لغيبة الخطيب بمصر- فصلى عليه إماما، وهو الشيخ علاء الدين الخراط، ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد ... واجتمعوا بسوق الخيل " (2) في أرض فسيحة فوضعت الجنازة وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن ثم حملت جنازته إلى قبره، ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله قبيل العصر- رحمهم الله جميعا-. ثم صاروا يتناوبون بالصلاة عليه في قبرهـ ممن لم يتمكن من الصلاة عليه في المرات السابقة-، وما وصل خبر موته إلى بلد إلا وصلى عليه في جميع جوامعه
_________
(1) انظر: البداية والنهاية (14/138) .
(2) المصدر السابق (14/138-39 1) .(1/214)
ومساجده خصوصا الشام ومصر والعراق وتبريز والبصرة وغيرها (1) .
وقد رثى بمراثي عديدة، ذكرها كثير ممن ترجم له (2) .
_________
(1) انظر: الأعلام العلية (ص: 85) .
(2) انظر: في وفاته ومراثيه: العقود الدرية (ص: 369-502) ، وتاريخ ابن الوردى (2/406 - 407) ، وذيل ابن رجب (2/405) ، والكواكب (ص: 174) وما بعدها، والدرر الكامنة (1/159) ، وتذكرة النبيه (185/2) .(1/215)
الفصل الثاني: منهج ابن تيمية في تقرير عقيدة السلف وفي رده على الخصوم
تمهيد.
أولا: مقدمات في المنهج.
ثانيا: منهجه لي المعرفة والاستدلال.
ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها.
رابعا: منهجه في الرد على الخصوم.
خامسا: الأمانة العلمية.(1/217)
الفصل الثاني
تمهيد
الكتابة عن منهج ابن تيمية تحتاج إلى بحث مستقل، لأن هناك قضايا في منهجه لابد من طرحها بوضوح وشمول حتى يتبين حقيقة مذهبه ومنهجه فيها. ومن ثم فمن الصعوبة أن يحصر الباحث الكلام في منهجه في العقيدة في فصل ضمن فصول أخرى يحتاج كل واحد منها إلى استقصاء المراجع حوله وأن يأخذ ما يستحقه ضمن فصول الرسالة من الدراسة والتحقيق.
وابن تيمية-رحمه الله- لم يركز في كتاباته حول العقيدة على جانب معين فقط، بل تنوعت كتبه وردوده، ومناقشاته للمخالفين، فكتب في شرح عقيدة السلف، وأقوال أئمة الإسلام، كما رد وناقش الفلاسفة، والمعتزلة، وا لقد رية، والجهمية، والمر جئة، والمشبهة، والخوارج، والصوفية، والر افضة، والأشاعرة، وغرهم، وكان موقفه من هؤلاء، ومنهجه في الرد عليهم نابعا من المنهج السلفي القائم على الكتاب والسنة بموازين دقيقة.
وهذه الحقيقة تميز شيخ الإسلام عن غيره من العلماء، الذين كانت لهم جهود مشكورة ومساع محمودة في نصرة هذا الدين والذب عن حوزته، لكن الواحد منهم إنما يشتهر في قضية واحدة من قضايا العقيدة، أو الرد على طائفة واحدة فقط من هذه الطوائف المنحرفة، وقد يكون متلبسا بانحراف معين قالت به طائفة أخرى، والمقصود بهذا الكلام العلماء المتأخرون بعد القرون المفضلة، وذلك حين كانت هذه الفرق والطوائف المنحرفة موجودة في كل مكان في العالم الإسلامي. إن من نعم الله الكبرى- على شيخ الإسلام ابن تيمية- أنه ود على كل
طائفة وما وقع في انحراف الطائفة المقابلة لها، ولا شك أن من اعتصم بالله وبكتابه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من غير غلو ولا تقصير فإن الله يوفقه إلى الوسطية، ودين الله وسط بين الأديان، وأهل السنة وسط بين الطوائف!.(1/219)
لقد كان شيخ الإسلام صاحب منهج واضح، وقد وظف هذا المنهج في جميع ما كتب، فما تغيرت طريقته ولا وقع في التناقض كما حدث لغيره. ولا نريد أن نقارن بينه وبين الغزالي- مثلا- كما فعل بعضهم، لأن الغزالي وإن كان قد رد على الفلاسفة والباطنية، إلا أنه لم يكن مستمرا على منهج واحد ثابت، ولذلك تقلبت به الأحوال كثيرا.
ولكن نقارن بين شيخ الإسلام وعلم آخر، كان صاحب منهج، سطر منهجه في كتبه،؟ كان صاحب آراء اجتهادية وأصولية جدد فيها تجديدا جعله من أعلام هذا العلم، وهذا الإمام هو أبو إسحاق الشاطبى المتوفي سنة 790 هـ (1) أي بعد وفاة ابن تيمية بما يزيد قليلا عن ستين عاما، فهذا الإمام كانت له جهود مشكورة في مجالات متعددة، أهمها جانبان:
أحدها: التجديد في مجال " أصول الفقه "، والتركيز على مسائل المصالح المرسلة، وبيان كمال هذه الشريعة، وشرح الكليات المتضمنة لمقاصد الشارع في وضع الشريعة، كما طرق مباحث أصول الفقه وربطها بتلك الكليات والمقدمات فجاءت مباحث هذا الكتاب فريدة في منهجها وأسلوب عرضها.
والآخر: التجديد في مجال تمحيص السنة ورد البدعة، وقد كانت له مواقف عملية في هذا الجانب، ولما رأى الناس في عصرهـ مالوا إلى ما أحدثه متصوفة عصره وغيرهم من البدع في الأذكار والعبادات وإقامة الموالد وغيرها- أيقن أنه لابد من الرجوع إلى الأصول الشرعية لتمييز ما هو من قبيل الشرع موافق لأصوله وأدلته، عن ما هو من قبيل البدع التى حرمها دين الاسلام ونهى عنها، فجاء كتاب " الاعتصام " فريدا في أسلوبه ومنهجه، فعرض بشكل مفصل لقضايا البدع
_________
(1) هو: الامام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي، صاحب الموافقات والاعتصام والافادات والانشادات وغيرها، توفي سنة 790 هـ، انظر: برنامج المجارى (ص: 116) ، ونيل الابتهاج بحاشية الديباج (ص: 46) ، وفهرس الفهارس (1/ 191) ، وشجرة النور الزكية (1/ 231) ، والفكر السامي (2/248) ، وانظر أوفى ترجمة له في مقدمة تحقيق الفتاوى للشاطبي: لمحمد أبو الأجفان (ص:19 - 64)(1/220)
ومنشئها وحكمها، فمن القضايا المنهجية في كتابه:
1- مأخذ أهل البدع في الاستدلال (1) .
2- أحكام البدع الحقيقية والاضافية والفرق بينهما (2) .
3- الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والإستحسان (3) .
4- أنواع دخول البدعة في الشرع أربعة: الجهل بأدوات المقاصد، والجهل بالمقاصد، وتحسين الظن بالعقل، واتباع الهوى (4) .
فهذان الكتابان- الموافقات والاعتصام- بما فيهما من تجديد ومنهجية كانا سببا في شهرة مؤلفهما، وتبوئه لمكانة في النفوس بوصفه من المدافعين عن مذهب السلف الذين عملوا على تمحيصه مما شابه من بدع وضلالات.
ولكن هل هذا المنهج استمر مع الشاطبي في جميع مباحث العقيدة؟ وهل الأصول المنهجية التي وضعها في كتاب " الاعتصام " طبقها في جوانب العقيدة الأخرى؟.
الجواب عن ذلك (5) يتبين من خلال تتبع بعض أقواله في العقيدة وقضاياها التي يذكرها عرضا: وهذه أمثلة:
1- يقول في معرض ذكره لانحراف المنحرفين الذين يتبعون المتشابه:
_________
(1) انظر: الاعتصام (1/ 220) .
(2) المصدر السابق (1/286) .
(3) نفسه (2/111) .
(4) نفسه (2/293) وما بعدها.
(5) الشاطبي وكتبه لها مكانة في النفوس رما كنت أقصد زعزعة هذه المكانة بهذه المناقشات، والذي دعاني إلى ذلك أمران، أحدهما: انتشار كتاب الاعتصام بين عامة الناس وثقهم به، وقد يغتر من لا علم عنده بمثل هذه الزلات التى وقع فيها الشاطبى، أما الأمر الثاني: فهو أن بعض الناس ليس عنده إلا أبيض أو أسود، فأما أن يقبل هذا العالم أو هذا الكتاب بكل ما فيه أويرده بكل ما فيه لوجود ملاحظات عليه، والمنهج الصحيح الاعتراف لأهل الحق بما عندهم من حق وقبوله ولو كانت عليهم ملاحظات.(1/221)
" ومثاله في ملة الاسلام مذهب الظاهرية (1) في إثبات الجوارح للرب- المنزه عن النقائص- من العين واليد والرجل والوجه - المحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات " (2) ، قد يتبادر إلى الذهن أنه يقصد الرد على المشبهة خاصة وأنه قال " المحسوسات "، ولكن ذكره للجهة- والسملف يثبتون لثة صفة العلو- وقوله " وغير ذلك من الثابت للمحدثات " يدل على أن إثبات هذه الصفات: العين، اليد، وغيرها لله تعالى على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته عنده لا تجوز لأنها من الصفات التى تثبت للمحدثات، ومن ثم فيجب تأويلها وهذا هو مذهب الأشاعرة، وإذا كان قد ذكر من مآخذ أهل البدع في الاستدلال " ردهم للأحاديث التى جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدعون أنها مخالفة للمعقول، وغر جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية اللة عز وجل في الآخرة " (3) فكيف- وهذه عبارة الشاطبي نفسهـ نفرق بين الموقفين والمنهجين؟.
2- ويقول أيضا في معرض رده على أهل البدع في استدلالهم بأحد الأحاديث: " والثاني أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع " (4) ، هذا كلام واضح وصريح في هذه المسألة الخطيرة، التي بسببها ردت أحاديث كثيرة في الصفات، ولكن الشاطبى نفسه - في موضع آخر لا يتبنى هذا القول بل يرد- في أثناء عرضه لمآخذ أهل البدع في الاستدلال على الذين لا يأخذون بأحايث الآحاد فيقول: " وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة، والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن، حتى أباحوا الخمر بقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93] ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا
_________
(1) ما بعد هذه الكلمة يوضح المراد منها، وقد يقصد بعض علماء الظاهرية كداود وغيره فإنهم مثبتة في الصفات.
(2) الاعتصام (1/ 240) .
(3) المصدر السابق (1/ 231) .
(4) الاعتصام (2/ 152) .(1/222)
في كتاب الله اتبعناه " (1) وهذا وعيد شديد تضمنه النهي لاحق بمن ارتكب رد السنة (2) ، فهل الرد للحديث في الموضع الأول مختلف عنه في الموضع الثاني.
3- ونضرب مثالا ثالثا- والتركيز في الأمثلة على ما فيها منهج ليس على الجزئيات- يقول الشاطبي في معرض ذكره لأنواع دخول البدع في الشرع وأسبابه وأن منها تحسين الظن بالعقل، يقول بعد كلام طويل: " فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين: أحدهما: أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم- وهو الشرع- ويؤخر ما حقه التأخير- وهو نظير العقل- لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل، لأنه خلاف المعقول والمنقول، بل ضد القضية هو الموافق للأدلة ولا معدل عنه " (3) هذا الكلام منهجي وسليم- موافق لمذهب أهل السنة-، لكنه لما ذكر الأمثلة على ذلك مما قد يتوهم أن العقل يحيله وهو ثابت في الشرع ذكر هذا المثال: " والسابع: رؤية الله في الآخرة جائزة، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا، إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة، ولا مقابلة، ولا تصور جهة، ولا فضل جسم شفاف، ولا غير ذلك، والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة، وهو إلى القصور في النظر أميل، والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق " (4) . أراد الشاطبي أن يقول لا مانع من إثبات الرؤية ونفى صفة العلو دثة تعالى؟ وذلك حين تال: " ولا تصور جهة ولا نضل جسم "،
_________
(1) رواه الامام أحمد (4/ 131، 6/ 8) ، والدارمي- باب السنة قاضية على الكتاب (1/144)
ط دهمان، وأبو داود في السنة- باب لزوم السنة ورقمه (4604-4605، 5/10-12) - ط الدعاس، والترمذى في العلم، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - ورقمه (2663،3715) ، ط عطوة، وابن ماجه فى المقدمة، باب حديث رسول - صلى الله عليه وسلم - (12/13) . والحاكم (1/ 108-109) وصححه ووافقه الذهبى، كا قال فيه الترمذى: حديث حسن صحيح، رصححه الألباني في صحيح الجامع.
(2) الاعتصام (1/132) .
(3) الاعنصام (2/ 326) .
(4) المصدر السابق (2/ 330) .(1/223)
ولكن كيف يصنع بأدلة العلو التي هي أضعاف أضعاف أدلة الرؤية؟ وكيف يسلم لمن نفى العلو- الجهة- لشبهة التجسيم أو مخالفة العقل، وينعي على نفي الرؤية لنفس التعليل، وكلاهما وردت به النصوص؟ وهذا التناقض إنما ساير فيه الشاطبي الأشاعرة، وهو من المضايق الخانقة في مذهبهم، وقد فشلوا في الجواب عنه فشلا ذريعا- كا سيأتي إن شاء اللهـ.
هذه أمثلة توضح الفرق بين المنهجين: منهج الشاطبي، ومنهج شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي جاءت كتبه كلها- سائرة على نهج واحد- حتى أن الانسان ليحتار أي كتبه ألفه أولا، ليس هناك مراحل في منهجه وحياتهـ كماحدث لغيرهـ وإنما هو منهج وطريق واحد في جميع القضايا التي طرحها في كتبه.
لقد التزم شيخ الإسلام بمذهب ونهج السلف- في جميع ما كتب- حتى أن بعض عباراته لا يتبين لأول وهلة أهي عبارته أم عبارة غيره من السلف حين ينقل شيئا من كلامهم.
ومما يعجب له في هذا الباب أن أحد العلماء (1) - المعاصرين لابن تيمية- رد على ابن تيمية في مسألة العلو- أو الجهة كما يسميها- في كتاب ذكره السبكي بتمامه في طبقاته (2) ، فكان مما قاله هذا العالم: " ولو تنازل (3) واكتفى بما نقل عن إمامه الإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- حيث قال: " لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا نتجاوز القرآن والحديث، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق، ليس فيه لغو ولا أحاج، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه
_________
(1) هو: أحمد بن يحيى بن إسماعيل شهاب الدين، ابن جهبل الكلابي الحلبي الأصل، ولد سنة 0 67 هـ وتوفي سنة 733 هـ، طبقات السبكي (9/34) ، والبداية والنهاية (14/163) ، وشذرات الذهب (6/104) ، وطبقات الأسنوي (1/ 0 39) ، والدرر الكامنة (1/ 0 35) .
(2) طبقات الشافعية الكبرى (ج- 9 ص: 35- 91) .
(3) في الطبقات " ولا تنازل، والتصويب من تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدرايسى والحلبي، لأحمد ابن إبراهيم بن عيسى.(1/224)
وهو مع ذلك ليس كمثله شيء في نفسه المقدسة، المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله فكما نتيقن (1) أن الله سبحانه له ذات حقيقة (2) وأفعال حقيقة (2) فكذلك (3) له صفات حقيقة (2) وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله عز وجل منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ممتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم وافتقار المحدث إلى محدث ووجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى " [يقول ابن جهبل بعد هذا مباشرة:] هذا نص إمامه فهلا اكتفى به، ولقد أتى إمامه في هذا المكان بجوامع الكلم، وساق أدلة المتكلمين على ما يدعيه هذا المارق بأحسن رد وأوضح بيان " (4) .
يقول الشيخ أحمد ابن إبراهيم بن عيسى النجدي (5)
في رده على هذا الكتاب لما نقل النص السابق: " أقول: لله در هذا الحلبي ما أمد باعه وأشد جمعه للعلوم واطلاعه، حيث أدرج كلام الإمام أحمد بن تيمية مع كلام الإمام أحمد من غير تمييز، وكلام الامام أحمد انتهى إلى قوله " لا نتجاوز القرآن والحديث فظن الحلبي بجهله أن الجميع كلام الامام أحمد، فأخذ يحتج به على ابن تيمية
_________
(1) في الطبقات (9/39) لا فكان ينبغي والتصويب من الفتوى الحموية، مجموع الفتاوى (5/ 26) ، والذي في تنبيه النبيه والغبى " فكما " فقط والمعنى صحيح.
(2) في المواضع الثلاثة في طبقات السبكى " حقيقية" والتصويب من الحموية والتنبيه.
(3) في طبقات السبكى " وكذلك" والتصويب من نفس المصدرين السابقين.
(4) طبقات الشافعية للسبكي (9/39-. 4) ، وتنبيه النبيه والغبى (ص: 244) .
(5) ولد في شقراء سنة: 1253 هـ، تتلمذ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعلى ابنه عبد اللطيف، كان يتردد على مكة وجده للتجارة " والتقى بعبد القادر التلمساني التاجر وجرت بيهما مناقشات اقتنع الشيخ عبد القادر هذا بمذهب السلف، وصار ينشر كتبهم في مصر، وهو الذى نشر على نفقته كتاب ابن عيسى هذا التنبيه مع مجموعة مها الرد الوافر وغيرهـ ط الكردى- من كتب أحمد ابن عيسى شرح النونية المطبوع، ولم يذكر طابعوه - المكتب الاسلامي- له ترجمة! توفي سنة 1327 هـ.
انظر: فهرس الفهارس (1/25) ، ومعجم المؤلفين (1/141) ، ومشاهير علماء نجد (ص:85) .(1/225)
وهو نفس كلامه ... ونظير هذا أن بعض معاصري (1) شيخ الإسلام ممن رد عليه في مسألة الاستغاثة صار يرد على الشيخ من كتابه " الصارم المسلول على منتقص الرسول "، فانظر إلى هذه السذاجة يرد عليه من كتابه " (2) .
يقول ابن تيمية- في المسألة الثانية قضية البكري- بعد أن نقل كلامه في حرص السلف على حمايته - صلى الله عليه وسلم - من السب أو التنقص: " هذا كله منقول من كلام المجيب من كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول، لكنه أزال بهجته وحذف من محاسنه ما ييين حقيقته، فالمجيب هو المنافح عن الله ورسوله، وهذا كلام المتشبع بما لم يعط، ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور (3) " (4) .
هناك ملاحظة أخرى حول منهج ابن تيمية وهي أنه أطال النفس في مناقشة الخصوم من أهل الكلام والفلسفة، ونقل نصوصا طويلة من كتبهم وناقشها، حتى أن القارىء- وقد يكون من المهتمين بمثل هذه القضايا- يجد صعوبة بالغة في ملاحقة الأفكار التي يناقشها، وهذا جزء من منهجه الذي ارتآه، لأنه لا يمكن قطع دابر بعض الشبه إلا بملاحقة أصولها، ومناقشة تلك الأصول التى قد تكون من المسائل الفلسفية التي لابد لردها من عرضها بوضوح ليغ نقضها بوضوح أيضا، وهذه بعض الأسباب نتلمسها من منهجه في هذا:
_________
(1) هو البكرى: واسمه علي بن يعقوب بن جبريل البكري الشافعى المصري، أبو الحسن، نور الدين، فقيه أهل القاهرة، هاجم القبط في كنائسهم، وكانت له مواقف من السلطان، رد عليه ابن تيمية في مسألة الاستغاثة، ولد سنة 673 هـ، وتوفي سنة 724 هـ، انظر: البداية والنهاية (14/114) ، والدرر الكامنة (4/3 1 2) ، وطبقات ابن قاضي شهبة (2/ 0 36) ، والأسنوى (1/288) ، وشذرات الذهب (6/64) ، وذيول العبر (ص: 69) .
(2) تنبيه النبيه والغبى (ص: 244- هـ 24) .
(3) متفق عليه لكن بلفظ " المتشبع "، البخاري كتاب النكاح، باب المتشبع بما لم ينل، رقمه (5219) ، الفتح (9/317) ، رمسلم في اللباس، باب النهي عن التزوير في اللباس ورقمه (2129- 2130) ، وانظر: المقاصد الحسنة (ض: 639) تحقيق الخشت.
(4) 1 لاستغاثة (2/360) ..(1/226)
أ- فقد سأله البزار- أحد تلاميذهـ عن سبب اهتمامه بالأصول، فأجابه، يقول البزار: " ولقد أكثر- رضى الله عنهـ التصنيف في الأصول، فضلا عن غيره من بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك، والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته، ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، فإذا قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين، جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه، وأما الأصول: فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة، والباطنية، والملاحدة، والقائلين بوحدة الو جود، وا لد هرية، وا لقد رية ة، والنصيرية، والجهمية، والحلولية، وا لمعطلة، والمجسمة، والمشبهة، والراوندية (1) ،
والكلابية، والسليمية (2) ، وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال، وبان لي أن كثيرا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، الظاهرة العلية على كل دين، وإن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قل أن حمعت أو رأيت معرضأ عن الكتاب والسنة مقبلا على مقالاتهم إلا وقد تزندق أوصار على غير يقين في دينه وا عتقا ده ".
" فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم، وقطع حجتهم وأضاليلهم، أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، ويزيف دلائلهم، ذبا عن الملة الحنيفية والسنة الصحيحة الجليلة ".
_________
(1) الراوندية أو الريوندية أتباع ابن الريوندى، وهي إحدى فرق الكيسانية، يزعمون أن الامامة كانت أولا حقا للعباس، انظر: إعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص: 63) ، ت النشار. وابن الريوندي هو: أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسن، فيلسوف مجاهر بالالحاد، توفي سنة 298 هـ، انظر وفيات الأعيان (1/94) ، والمنتظم (6/96) ، ولسان الميزان (1/323) .
(2) هكذا، وفي طبعة المنجد (ص: 34) ! السلمية، والمشهور " السليمانية " إحدى فرق الزيدية، أتباع سليمان بن جرير الزيدي، يزعمون الامامة شورى، ويقول بصحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل، ولذا يقرون بإمامة الشيخين، لكنهم يكفرون عثمان وطلحة والزبير.
انظر: مقالات الإسلاميين (ص: 68) - ت ريتر- الفرق بين الفرق (32) ، التبصير بالدين (ص: 33) ، الملل والنحل للشهرستاني (1/159) .(1/227)
" ولا والله ما رأيت منهم أحدأ ممن صنف في هذا الشأن وادعى علو المقام إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام، وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح المبين، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين، واتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي حموها بزعمهم: حكميات، وعقليات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضا عن غيرها أصلا، فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم، فتخبط حتى خبط فيهاخبط عشواء، ولم يفرق بين الحق والباطل وإلا فالله أعظم لطفا بعباده أن لا يجعل لهم عقلا يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال، وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانا يزن به العبد الواردات فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق وما هو من قبيل الباطل، ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال: إنه مخالف لبعفما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟
هذا باطل قطعا، يشهد له كل عقل سليم لكن {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور:40] .
" قال الشيخ الإمام قدس الله روحه: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جل همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم، وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية " (1) .
فابن تيمية يرى أن سبب تركيزه على هذه الجوانب وإطالة النفس فيها ما رأى عند هذه الطوائف من ضلالات ترمى إفى زعزعة العقيدة ثم الشريعة، وأن الذين ردوا عليها من أهل الكلإم- اتبعوا طرق واصطلاحات الفلاسفة- فساعدوا بمضمون كلامهم في هدم قواعد دين الاسلام، فرأى أنه لابد من بيان الحق للناس صافيأ والرد على هذه المقالات بالأدلة النقلية والعقلية.
2- وفي مناسبة يعلل ابن تيمية السبب في ذكر حجج الفلاسفة والرد عليها طويلا، ويبين أن كل من كان بفساد الباطل أعرف كان بصحة الحق أعرف
_________
(1) الأعلام العلية (ص: 33- هـ 3) .(1/228)
يقول: " ونحن نبين فساد طريق هؤلاء بالطرق الإيمانية والقرآنية تارة، وبالأدلة التى يمكن أن يعقلها من لا يستدل بالقرآن والإيمان؛ وذلك لأنا في مقام المخاطبة لمن يقر بأن ما أخبر به الرسول حق، ولكن قد يعارض ما جاء منه عقليات يجب تقديمها عليه، وإذا كنا في مقام بيان فساد ما يعارضون به من العقليات على وجه التفصيل، فذلك- ولله الحمد- هو علينا من أيسر الأمور ".
" ونحن- وللهالحمد- قد تبين لنا بيانا لا يحتمل النقيض فساد الحجج المعروفة للفلاسفة والجهمية والقدرية ونحوهم، التي يعارضون بها كتاب الله، علمنا بالعقل الصريح فساد أعظم ما يعتمدون عليه من ذلك، وهذا- ولله الحمد- مما زادنا الله به هدى وإيمانا، فإن فساد مما يؤيد معرفة الحق ويقويه، وكل من كان أعرف بفساد الباطل، كان أعرف بصحة الحق ... " (1) .
والمقصود هنا أن معرفة ما يعارض الكتاب والمرسلين كنبوة مسيلمة ونحوه
من الكذابين، وأقاويل أهل الالحاد الذين يعارضون بعقولهم وذوقهم ما جاء به الرسول كلما ازداد العارف معرفة بها بما جاء به الرسول، تبين له صدق ما جاء به الرسول وبيانه وبرهانه، وبطلان هذه وفسادها وكذبها " (2) .
3- ويقول- في موضع آخر- معللا كثرة ردوده على ملاحدة الصوفية والجهمية، بأن هؤلاء ظهروا وانتشروا، وكثير من الناس يثق فيهم بل ويجعلهم أهل التحقيق، ويقول: " ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا، وظهروا وانتشروا، وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الاسلام، وأهل التوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى فضلوهم على الأنبياء والمرسلين واكابر مشايخ الدين، لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأن العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق بين نوع الإنسان فجعل منه من هو أفضل العالمين،
_________
(1) الدرء (5/258) .
(2) نفس المصدر (5/260) .(1/229)
وجعل منه من هو شر من الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولي الألباب هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين، الذين يفسدون الدنيا والدين " (1) .
4- ويعلل- في موضع آخر- كثرة نقوله وردوده أن بعض الناس كلما كان طريق الاستدلال أدق وأخفى وأطول كان أنفع له، يقول: " وقد بسطنا الكلام على ما قاله الناس في هذا المقام من " الحدوث والإمكان " وعلة الافتقار إلى المؤثر، وذكرنا عامة طرائق أهل الأرض في " إثبات الصانع " من المتكلمين والفلاسفة وطرق الأنبياء- صلوات الله عليهم- وما سلكه عامة نظار الإسلام من معتزلي، وكرامى، وكلابي، وأشعري، وفيلسوف، وغيرهم، في غير موضع مثل كتاب درء تعارض العقل والنقل، وغير ذلك، وكذلك بينا طرق الناس في إثبات العلم بالنبوات في " شرح الأصبهانية "، وكتاب " الرد على النصارى " وغيرهما (2) . وبينا أن كثيرا من النظار يسلك طريقا في الاستدلال على المطلوب ويقول: لا يوصل إلى المطلوب إلا بهذا الطريق، ولا يكون الأمر كما قاله في النفي، وإن كان مصيبا في صحة ذلك الطريق، فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة وكثير من الطرق لا يحتاج إليه اكثر الناس، وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره، أو من أعرض عن غيره ".
" وبعض الناس يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى واكثر مقدمات وأطول كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات، أو كانت جلية، لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد يستعمل معه الطريق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم المطلوب
_________
(1) الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الاسلام من بدع الجهمية والصوفية، مجموع الفتاوى (2/357-358) .
(2) انظر أيضا في ذكره لتدرج ردوده على الخالفين، النبوات (ص: 226-227) ط دار الكتب(1/230)
متوقفا عليها مطلقا، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته، لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات، وهذا يسلك معه هذه الطريق)) (1) .
" وأيضا فإن النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدربه ويقويه على العلم، فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل، تعين على قوة الرمى والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال، وهذا مقصد حسن، ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة، كالجبر والمقابلة، وعويص الفرائض، والوصايا، والدور (2) ، لشحذ الذهن، فإنه علم صحيح في نفسه، ولهذا يسمى " الرياضى " فإن لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع: في رياضة الأبدان بالحركة والمشي،؟ يذكر ذلك الأطباء وغيرهم، وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة، والآداب المحمودة، وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة، ويروى عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهـ أنه قال: " إذا لهوتم فالهوا بالرمى، وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض " (3) ، أراد: إذا لهوا بعمل أن يلهوا بعمل ينفعهم في دينهم وهو الرمي، وإذا لهوا بكلام، لهوا بكلام ينفعهم أيضا في عقلهم ودينهم وهو الفرائض " (4) .
_________
(1) الرد على المنطقيين (ص: 253-255) ، وانظر (ص: 328) وما بعدها، وانظر درء التعارض (5/97، 105، 197) .
(2) لابن تيمية كتاب في الدور، والدور أنواع: الدور الكوني: وهو نوعان: دور قبلي ودور معي، والنوع الثاني: الدور الحكمي الفقهى، والنوع الثالث: الدور الحسابي. انظر الرد على المنطقيين (ص: 257) .
(3) روى موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (4/333) ، والبيهقى في السنن الكبرى (6/209) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبى، لكن قال ابن حجر في تلخيص الحبير (3/85) ، " ورواته ثقات إلا أنه منقطع "، كا ضعفه الألبانيي في إرواء الغليل برقم (1666) الارواء (6/107) . وفيه أبو هلال الراسبى: محمد بن سليم، صدوق فيه لين، التقريب، وقال ابن عدى في الكامل (6/ 2220) عامة أحاديثه عن قتادة غير محفوظة ". قلت: وهذا منها فقد رواه عن قتادة.
(4) الرد على المنطقيين (ص: 255-256) .(1/231)
وبعد هذا التمهيد نعرض لمنهج شيخ الاسلام العام، والكلام حول هذا الموضوع كما يلي::
أولا: مقدمات في المنهج.
ثانيا: منهجه في المعرفة والاستدلال.
ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها.
رابعا: منهجه في الرد على الخصوم.
خامسا: الأمانة العلمية.
* * *
أولا: مقدمات في المنهج:
كثيرا ما يضع ابن تيمية بين يدي ردوده ومناقشاته، أو توضيحه لبعض قضايا العقيدة أصولا ومنطلقات ينطلق منها، وتكون هذه الأمور كالمقدمات الممهدة تفتح للقارى آفاقا تد يكون غافلا عنا، أو غير متصور لها تصورا كاملا، وقد ينير له الطريق في معرفة أقسام الناس أو العلماء أو أنواع من طرق الاستدلال.... ومن أمثلة ذلك:
1- ما يحتاجه الناس في العقيدة:
يقول ابن تيمية: " يحتاج المسلمون في العقيدة إفى شيئين: أحدهما: معرفة ما أراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ الكتاب والسنة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي نزل بها، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك الألفاظ، فإن الرسول-! آ- لما خاطبهم بالكتاب والسنة عرفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن ا! مل من حفظهم لحروفه، وقد بلغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه 000، (1) ، " ثم [وهذا هو الثاني] ، معرفة ما قال الناس في هذا الباب
_________
(1) تفسير سورة الاخلاص- مجموع الفتاوى (17/353) .(1/232)
لينظر المعاني الموافقة للرسول والمعاني المخالفة لها " (1) ، ثم شرح الوجه الثاني وبين أن الألفاظ التي يوردها الناس نوعان " نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله، فيعرف معنى الأول، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني ويرد إلى الأول، هذا طريق أهل الهدى والسنة، وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس، يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعا لهم، فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم ... " (2) . وفرق بين منهج أهل السنة وأهل البدعة في هذا.
2- لما سئل شيخ الاسلام عن الهم والعزم على فعل المعاصي- وعدم فعلها- هل يعاقب عليه؟ أجاب بقوله " الحمد لله، هذه المسألة- ونحوها - تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها، فإن اضطراب الناس في هذه المسائل وقع عامته من أمرين:
أحدها: عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها، التي هي مورد الكلام. والثاني: عدم إعطاء الأدلة الشرعية حقها 000 (3) .
وابن تيمية يبين الأصل في الفتوى المبني على معرفة الواقعة وحسن التصور لها، ثم معرفة الأدلة الشرعية وحكم الله فيها.
3- بين طرق الناس في طلب العلم والدين فقال: (والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان، وطريق شرعي:
فالطريق الشرعي: هو النظر فيما جاء به الرسول، والاستدلال بأدلته والعمل بموجبها، فلابد من علم بما جاء به، وعمل به، لا يكفي أحدهما،
_________
(1) المصدر السابق (17/355) .
(2) نفسه. وانظر مجموع فتاوى (4/191) فقد قسم الأقوال إلى قسمين: أقوال منقولة عن الأنبياء، وأقوال غير منقولة عنهم، ثم دين حكم كل منها.
(3) مجموع الفتاوى (0 1/ 0 72- 1 72) .(1/233)
وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية، فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه، والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها، كما ضرب الله في القرآن من كل مثل، وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته.
وأما الطريقان المبتدعان: فأحدها: طريق أهل الكلام البدعي، والرأي البدعي، فإن هذا فيه باطل كثير، وكثير من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال، فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل، وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة.
والثاني: طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية وهؤلاء منحرفون إلى النصرانية الباطلة 00. (1) ، فالأقسام ثلاثة: من يجمع بين العلم والعمل وهم أهل السنة، ومن يميل إلى العلم بلا عمل وهم أهل الكلام ومن يميل إلى العمل بلا علم وهم أهل التصوف.
4- أحسن طريقة لحكاية الخلاف في مسألة من المسائل:
جمن ذلك ابن تيمية فيقول: " هذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشتغل به عن الأهم، فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكى الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا، فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالا متعددة لفظا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبى زور " (2) .
_________
(1) منهاج السنة (3/107) .
(2) مقدمة في أصول التفسير (ص: 01 ا-102) ت زرزور.(1/234)
فقد ذكر أربع ملاحظات على كتير ممن يحكي الخلاف والأقوال:
1- عدم استيعاب الأقوال، وقد يكون الحق في القول الذي أغفله.
2- حكاية الخلاف بلا بيان للصحيح.
3- حكاية الخلاف فيما لا فائدة تحته.
4- تكثير الأقوال وهي ترجع إلى أقل مما ذكره.
وفي موضع آخر بين أنواع النزاع وكيف يفصل النزاع الواقع بين اثنين فيقول: " فصل النزاع قد يكون بوجهين:
أحدهما: فهي كل منهما عن منازعة الآخر بهذا، إذ هو نزاع فيما لا فائدة فيه، كما لو تنازع اثنان في لون كلب أصحاب الكهف، ومقدار السفينة، والبعض البقرة الذي أمر الله بالضرب فيه إن قدر أنه كان معينا- مع أن ظاهر القرآن يدل على أنه مطلق لا معين- وفي أمثال ذلك من الأمور التي لا فائدة فيها، وقد لا يكون إلى معرفتها سبيل- فمثل هذا ينهى كل منهم عن منازعة الآخر، بل ينهى عن أن يقول ما لا يعلم.
والثاني: أن يفصل النزاع ببيان الخطأ من الصواب " (1) .
5- تقعيده في الرد على الخصوم:
احتج بعض النصارى بالقرآن على معتقداتهم الباطلة وذلك بما يزعمون أنه دليل لهم ولا دليل فيه، أما النصوص التى تبين كفرهم وتبين عبودية المسيح عليه السلام فلم يحتجوا بها، بل قالوا: إن القرآن يناقض بعضه بعضا، فرد عليهم ابن تيمية في قولهم: إن القرآن يناقض بعضه بعضا قائلا: " إن هذا أيضا إن كان حقا فإنه يقدح في رسالته أأي رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الرسول لا يناقض بعض خبره بعضا، ومن كان كذلك لم يصح لكم أن تحتجوا بشيء مما جاء به، وإن كان باطلا لم يرد عليه، فعلم أن استدلالهم بما في هذا الكتاب على صحة دينهم الذي خالفوا به هذا الكتاب في غاية الفساد، وهو جمع بين النقيضين،
_________
(1) درء التعارض (10/313-314) .(1/235)
واستدلال بما في الكتاب على ما يوجب بطلان الاستدلال بشيء مما في الكتاب " (1) ، وقال في موضع آخر في الرد على النصارى: " والمقصود هنا: أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به، وأمر بجهادهم، فمن علم أنه نبى ولو إلى طائفة معينة، فيجب تصديقة في كل ما أخبر بهـ وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم-.... وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما وقالوا: ليمر هو نبى أصلا، ولا أرسل إلى أحد، لا إلى العرب ولا إلى غيرهم، بل كان من الكذابين كما امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد بطريق الأولى " (2) .
وبمثل هذه المناقشات والمقدمات يفتح آفاقا في مناهج مناقشة النصارى ومجادلتهم.
أقسام العلماء وأنواعهم في مدى معرفتهم بالمعقول والمنقول:
كثيرا ما يردد شيخ الإسلام ابن تيمية في ردوده على أهل الكلام والنفاة أن اكثرهم قليل المعرفة بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف!، وقد أورد اعتراضا على قوله هذا ثم أجاب عنه. فقال: " فإن قيل: قلت: إن اكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين، وما بلغوه عن الرسول، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك. قيل: هؤلاء أنواع:
نوع ليس لهم خبرة بالعقليات، بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية، وليس لهم قوة على الاستقلال بها، بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال أولئك، فجميع ما يسمعونه من القرآن
_________
(1) الجواب الصحيح (2/263-264) ط المدني.
(2) الجواب الصحيح (1/174- هـ 17) .(1/236)
والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقا لهم وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه، وهذه حال مثل أبي حاتم البستى (1) وأبي سعد السمان المعتزلي (2) ، ومثل أبى ذر الهروي (3) ، وأبي بكر البيهقى (4) ، والقاضى عياض (5)
وأبي الفرج بن الجوزي (6) ، وأبي الحسن على بن المفضل المقدسى (7) وأمثا لهم.
والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها كما غلط غيره فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا يكون له من الخبرة
_________
(1) هو: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ التميمي البستي، صاحب الثقات وصحيح ابن حبان، ولد سنة بضع وسبعين ومئتين، وتوفي سنة 354 هـ، وجهت له تهمة في دينه، لكن دافع عنه الذهبى، وقال فيه " وإن كان في تقاسيمه صحيح ابن حبان " من الأقوال والتأويلات البعيدة والأحاديث المنكرة عجائب، سير أعلام النبلاء (16/97) ، وانظر أيضا تذكرة الحفاظ (3/ 920) ، والوافي (2/317) ،ولسان الميزان (5/ 112)
(2) إسماعيل بن علي بن الحسين الرازى، قال عنه الذهبى: الحافظ المتقن، وأنكر عليه بدعة الاعتزال، توفي سنة 445 هـ، تذكرة الحفاظ (3/ 1121) ، والأنساب (7/130) ، وذكر أن بدعته نفى القدر، والجواهر المضية (1/424) ، والبداية والنهاية (12/65) .
(3) عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، الأنصارى الخراساني الهروى المالكي من تلاميذ الباقلاني وأخذ عنه المذهب الأشعري ونشره في الحرم، ولد سنة 355- أو 356 هـ، وتوفي سنة 434- أو 435 هـ، انظر: ترتيب المدارك (7/229) ، والمنتظم (8/115) ، والعقد الثمين (5/539) ، وسير أعلام النبلاء (17/554) .
(4) ستأتي ترجمته إن شاء الله في الفصل الخامس.
(5) هو: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبى الأندلسى، السبتى المالكى، ولد سنة 476 هـ، وتوفي سنة 544 هـ، انظر: الصلة (2/453) ، والاحاطة (4/222) ، وبغية الملتمس (ص: 437) ، والتكملة لابن الأبار (ص: 6 30) ، وأزهار الرياض، وسير أعلام النبلاء (20/212) ..
(6) عبد الرحمن بن علي بن محمد بن على، القرشي البكرى البغدادى الحنبلى، ولد سنة 509-أو 0 51 هـ، وتوفي سنة 597 هـ، انظر: التكملة للمنذرى (1/394) ، وسير أعلام النبلاء (21/365) ، وذيل طبقات الحنابلة (1/399) .
(7) هو: أبو الحسن على بن المفضل بن على بن مفرج بن حاتم، شرف الدين المقدسى، ولد سنة 544 هـ، وتوفي سنة 611 هـ، انظر: التكملة للمنذرى (2/306) ، وسير أعلام النبلاء (22/66) ، والتاج المكلل (ص: 82) - هندية-.(1/237)
بكلام السلف والأئمة في هذا الباب ما كان لأئمة السنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما، وهذه حال أبي محمد بن حزم (1) ، وأيى الوليد الباجي (2) ، والقاضي أبى بكر بن العريى (3) ، وأمثالهم، ومن هذا النوع بشر المريسى (4) ، ومحمد بن شجاع الثلجى (5) وأمثالهما.
ونوع ثالث: حمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة (6) والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض، وهذه حال أو بكر بن فورك (7) ، والقاضي أبي يعلى (8) ، وابن عقيل وغيرهم، (9)
_________
(1) الامام المشهور علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبى اليزيدي، ولد سنة 384 هـ، وتوفي سنة 456 هـ، انظر: الذخيرة (ق ام اص: 67 1) ، والاحاطة (1/4 1 1) ، وسير أعلام النبلاء (18/184) ، وانظر رأي الذهبى في ابن حزم فهو مهم (ص: 1 0 2-202) ، ولسان الميزان (4/198) .
(2) هو: سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبى الأندلسى القرطبى الباجي، ولد سنة 403 هـ، وتوفي سنة 474 هـ، انظر: ترتيب المدارك (8/117) ، ووفيات الأعيان (2/408) ، والدبياج المذهب (1/377) ، وسير أعلام النبلاء (18/535) .
(3) محمد بن عبد الله بن عبد الله ابن العربي الأندلسى الأشبيلى المالكى، ولد سنة 468 هـ، وتتلمذ على الغزالي، وأبو بكر الشاشى، وهو صاحب عارضة الأحوذى وأحكام القرآن، والعواصم من القواصم، توفي سنة 543 هـ، انظر: بغية الملتمس (ص: 92) ، ونفح الطيب (2/25) ، والمغرب في حلى المغرب (1/254) ، وسير أعلام النبلاء (20/197) .
(4) بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسى، توفي سنة 218 هـ وقيل 219 هـ، انظر تاريخ بغداد (7/56) ، ووفيات الأعيان (1/277) ، وميزان الاعتدال (1/322) ، ولسان الميزان (2/29) .
(5) هو: محمد بن شجاع، أبو عبد الله البغدادى الحنفي المعروف بابن الثلجي، قال عنه ابن عدى: كان يضع الأحاديث في التشبيه، ومنها حديث: عرق الخيل، توفي سنة 266 هـ، انظر الكامل لابن عدي (6/2292) ، وتاريخ بغداد (5/350) ، وسير أعلام النبلاء (12/379) ، وميزان الاعتدال (3/577) ، وتهذيب التهذيب (9/220) .
(6) كذا ولعل فيها سقط كلمة " بالسنة " أو نحوها.
(7) ستأتي ترجمته إن شاء الله في الفصل الخامس.
(8) محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد البغدادى، الحنبلى، الفراء ولد سنة 380 هـ وتوفي سنة 458 هـ، انظر تاريخ بغداد (2/256) ، وطبقات الحنابلة (12/93) ، والوافي (3/7) ، وسير أعلام النبلاء (18/89) .
(9) على بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبلي، العالم المشهور، ولد سنة 431 هـ،=(1/238)
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل؟ فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار (1) ، وتارة يفوضون معانيها ويقولون تجرى على ظاهرها كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك، وتارة يختلف اجتهادهم فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله.
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع ولا يعرفون أنه موضوع، وما له لفظ يدفع الاشكال مثل أن يكون رؤيا منام فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج.
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة من الجهمية وغيرهم وقد شاركهم في بعض أصولها، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة، كمسألة القرآن والرؤية فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث، وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة، ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه والحديث وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة والحديث، فذهب مذهبا مركبا من هذا وهذا وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض، وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه كالقاضي أبى بكر (2) ، وأبي إسحاق الاسفراييني (3) وأمثالهما، ولهذا تجد أفضل هؤلاء كالأشعري يذكر مذهب
_________
(1) = وتوفي سنة 513 هـ، انظر: ذيل طبقات الحنابلة (1/142) ، والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد (ص: 192) ، وسير أعلام النبلاء (19/443) ، وانظر كلام الذهبي عنه مع تعليقات المحققين.
(1) له كتاب! مشكل الحديث وبيانها وفيه ردود على ابن خزيمة في كتابه " التوحيد".
(2) الباقلاني، وستأتي ترجمته إن شاء الله.
(3) هو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابن مهران، الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني روى عنه البيهقي والقشيرى كان من معاصري الباقلاني وابن فورك، توفي سنة 418 هـ، انظر: طبقات السبكي (4/256) ، وتبيين كذب المفترى (ص: 243) ، وسير أعلام النبلاء (17/353) .(1/239)
أهل السنة والحديث على وجه الإجمال ويحكيه بحسب ما يظنه لازما، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم بتفاصيلها، وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغرهم، ومعرفة فساد أقوالهم، وأما في معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة والتابعون فمعرفتهم بذلك قاصرة.
وإلا فمن (1) كان عالما بالآثار، وما جاء عن الرسول وعن الصحابة والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء. إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع الخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال، كأكثر أهل الحديث. أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك ... [عدد جمهرة من أئمة أهل السنة ثم قال،: ومن لا يحصى عدده إلا الله من أئمة الإسلام وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة، كا تواترت الآثار عنهم وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك، من غير خلاف بينهم في ذلك" (2) .
إن هذا التقسيم المبني على الاستقراء الجيد لأقوال وكتب هؤلاء يجيب عن كثير من الأسئلة التي ترد في نفس المسلم- المتمسك بمذهب السلف- وفي قوله، ومن أهمها: كيف وقع هؤلاء العلماء في حبائل علم الكلام ومسائله وقالوا بها؟ وكيف يجمع بين اهتمامهم بالسنة وروايتها، وبين اعتقادهم لأقوال أهل البدع وكثير منها حرب على السنة وما جاء فيها؟. ثم لماذا يتردد بعض هؤلاء في هذه المسائل فتارة يرجحون مذهب السلف، وتارة يميلون إلى أقوال أخرى مخالفة له؟. هذه الأسئلة وغيرها يتضح الجواب عنها من خلال حكم ابن تيمية على هؤلاء العلماء والمعرفة بأحوالهم والاعتراف لهم بما عندهم من العلم والنية الصادقة، " ومن المعلوم- بعد كمال النظر واستيفائهـ أن كل من كان
_________
(1) هذا قسم أهل السنة.
(2) درء التعارض (2/32-37) .(1/240)
إلى السنة وإلى طريقة الأنبياء أقرب- كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح، لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد، لا تتناقض وتتعارض " (1) .
وإذا كان هذا تقسيما للعلماء فإن ابن تيمية أحيانا ينظر نظرة فاحصة إلى الكتب بفنونها- من غير نظر إلى مؤلفيها فيقول: " والمقصود هنا أن يعلم أنه لم يزل في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من يأمر بالمعروف وينس عن المنكر، وأن أمته لا تبقى على ضلالة، بل إذا وقع منكر من لبس حق بباطل أو غير ذلك فلابد أن يقيم الله تعالى من يميز ذلك فلابد من بيان ذلك ولابد من إعطاء الناس حقوقهم، كا قالت عائشة- رضي الله عنها- أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم، رواه أبو داود وغيره (2) .
وهذا الموضع لا يحتمل من السعة
_________
(1) درء التعارض (6/248) .
(2) هذا الحديث ذكره مسلم في مقدمة صحيحهـ بلا إسناد- فقال: " وذكر عن عائشة ... (ص: 6) ، ورواه غيره مسندا: فرواه أبو داود، كتاب الأدب، باب تنزيل الناس منازلهم ورقمه (4842) ، سنن أبي داود (5/173) ط الدعاس، كمارواه البخاري في كتاب " الآداب (ص: 193-194) ، وأبو نعيم في الحلية (4/379) ، وأبو يعلى الموصلى في مسنده رقم (4826، 8/246) ، كما رواه ابن خزيمة، والبزار والعسكرى في الأمثال وغيرهم كما أشار إلى ذلك السخاوى في المقاصد الحسنة، رقم (179) "أمرنا" والزييدي في إتحاف السادة (1/342) ، كما رواه الخرائطي بلفظ آخر عن معاذ في مكارم الأخلاق (ص: 8) ط السلفية، وقد اختلف العلماء في حكمهم عليه.
أ- فضعفه أبو داود حيث قال في هذا الحديث " ميمون لم يدرك عائشة"، كما ضعفه المنذري في مختصر سنن أبي داود (7/190) رقم (4675) ، حيث قال بعد نقل كلام أبي داود " وقيل لأبي حاتم الرازى ميمون بن أبي شبيب عن عائشة متصل قالا: لا،؟ ضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (1342) ، ورقم (1344) . ومحقق مسند أبي يعلى، والمناوى في فيض القدير (3/57-58) حيث تعقب السيوطي في تصحيحه له.
ب- أما الذين صححوه أو حسنوه: فالحاكم في معرفة علوم الحديث (ص: 62) ، قال " فقد صحت الرواية عن عائشة ... !، كما صححه ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط (ص: 83-84) فقال: " وأما قول مسلم في خطبة كتابه " وقد ذكر عن عائشة ... فهذا بالنظر إلى أن لفظه ليس لفظا جازما بذلك عن عائشة غير مقتض كونه مما حكم بصحته،=(1/241)
وكلام الناس في مثل هذه الأمور التي وقعت ممن وقعت منه، بل المقصود التنبيه على حمل ذلك لأن هذا محتاج إليه في هذه الأوقات: فكتب الزهد والتصوف فيها من جنس ما في كتب الفقه والرأي وفي كليهما منقولات صحيحة وضعيفة بل وموضوعة ومقالات صحيحة وضعيفة بل وباطلة، وأما كتب الكلام ففيها من الباطل أعظم من ذلك بكثير، بل فيها أنواع من الزندقة والنفاق، وأما كتب الفلسفة فالباطل غالب عليها، بل الكفر الصرج كثير فيها " (1) .
تلك مقدمات يحرص ابن تيمية على ذكرها في مجال ردوده ورسائله وهي قضايا من منهجهـ رحمه الله.
ثانيا: منهجه في المعرفة والاستدلال:
هذه المسألة من المسائل المهمة، لأنها المنطلق الذي ينبغى أن ينطلق منه في مثل هذه المباحث المتعلقة بالعقيدة وأصول الدين، وشيخ الاسلام له منهج واضح في هذا الموضوع، ولكن منهجه هذا لم يكتب فيه كتابة مستقلة في رسالة أو كتاب، وإنما أشار إلى شذرات متفرقة من خلال ردوده ىيما الخا! وين، واتحر مظانه في بحوثه المتعلقة بنقض المنطق، والنبوات، وبيان موافقة صحيح المنقول لصرج المعقول.
وقد قام منهجه في هذا على أساسين كبيرين:
أحدها: نقض أصول ومناهج الاستدلال الفلسفية والكلامية.
والثاني: بيان المنهج الشرعي الإسلامي في ذلك.
_________
(1) = وبالنظر إلى أنه احتج به وأورده إيراد الأصول لا إيراد الشواهد يقتضي كونه مما حكم بصحته، ومع ذلك فقد حكم الحاكم.... بصحته "، ثم ذكر قول أبي داود أن ميمون لم يسمع من عائشة ورده بأنه عاصرها وعند مسلم يكفي المعاصرة، وانظر شرح النووى (1/19) ، فقد نقل كلام ابن الصلاح وأيده، كا حسنه السخاوي في المقاصد الحسنة رقم (179) وقال السخاوي بعد كلام " وبالجملة فحديث عائشة حسن كما حسنه وأطال الكلام حوله في الجواهر والدرر (411) . كما أيده العجلوني في كشف الخفا (1/194) رقم (590) ، وفي مختصر المقاصد قال: حسن كما رمز له السيوطي بعلامة الصحة.
(1) شرح الأصفهانية (ص: 45 ا-146) .(1/242)
أما الأول: فقد كانت لشيخ الإسلام جهود عظيمة فيه لفتت انتباه من أتى بعده من الموافقين والخالفين له، حتى أصبحوا يعتبرون موقفه موقفا متميزا يؤرخون فيه مرحلة من مراحل نظرة المسلمين إلى الفلسفة، والمنطق بشكل خاص (1) . ولن ندخل في هذا الموضوع ولكن نشير إشارات مجملة إلى نقده لتلك المناهج:
أ- فقد نقض أصول الفلسفة وأهدافها العليا، ورد على المناطقة الذين يزعمون أن فلسفتهم وبراهينهم توصل إلى العلوم الكمالية، وقد بين شيخ الاسلام أن كمال النفس إنما يكون بالايمان بالله والعمل الصالح، أما علومهم هذه فإنها لا تفيد- إن أفادت- إلا أمورا كلية لا حقيقة لها ولا ثمرة (2) ، ولذلك قال شيخ الإسلام عن علومهم هذه: إنها " لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقي " (3) ، وقال عن المنطق اليوناني: " لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد " (4) ، بل بين حكم تعلم المنطق وبين بطلان من قال بوجوبه وأنه فرض كفاية مثل اللغة العربية، كما بين أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يعرفوه (5) ، بل بين لماذا اشتهر عند المسلمين أنه يجر إلى الإلحاد والزندقة (6) .
2- لما كان المنطق اليوناني يزعم أصحابه أنه آلة قانونية تعصم الذهن من أن يزل فكره، نقض هذا المنطق وكتب فيه كتابا مستقلا مرتبا ومبوبا، وأتى على جميع مباحثه بالمناقشة والنقد، فنقد الحد، وقول المناطقة: إن التصورات
_________
(1) انظر فهارس: مناهج البحث للنشار، والمدرسة السلفية وموقفها من المنطق وعلم الكلام-نصار- وغيرها.
(2) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 22 ا-147) ، ونقض المنطق (ص: 164) .
(3) درء التعارض (5/71، 8/234، 7/42) وفيه " ولا سمين فينتقل،، والعبارة وصف إحدى النساء لزوجها في حديث أم زرع) البخارى في النكاح ورقمه (5189) ، الفتح (9/254) .
(4) الرد على المنطقيين (ص: 3) .
(5) انظر: المصدر السابق (ص: 178- 180) ، ومجموع الفتاوى (9/269- 270) .
(6) انظر: درء العارض (1/217-218) ، ومجموع الفتاوى (9/261) .(1/243)
لا تنال إلا بالحد (1) ، كما نقض قولهم لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس (2) ورد قضية الكلية التي يقوم عليها (3) ، كما رد عليهم حصرهم له بأنه لابد أن يقوم على مقدمتين، فبين بأنه قد يقوم على مقدمة واحدة، وقد يحتاج الوصول إلى نتيجة إلى ثلاث مقدمات أو اكثر، فحصرها بهذا العدد محض تحكم (4) . كا بين أن كون القضية بديهية أو نظرية أمر نسبي وليس وصفا لها، إذ قد تكون عند شخص بديهية وعند آخر ليست بديهية (5) ، كا نقض قضايا المنطق الأخرى (6)
3- وإذا كان أهل الفلسفة حصروا منهجهم العلمى بالمنطق والقياس، فإن هناك طائفة قابلتهم في هذا الباب، فرأوا أن مصدر المعرفة ليست في شيء من ذلك، وجعلوا مصدرها ما عندهم من خيالات صوفية، وفيوضات- قد تكون فيوضات شيطانية- وغفل هؤلاء وهؤلاء عن الطريقة الشرعية، ولذلك كان بعض العلماء (7) يتعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي (8) .
_________
(1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 7) وما بعدها، و (ص: 32) وما بعدها، ودرء التعارض (3/319) وما بعدها (8/523) ، ونقض المنطق (ص: 183) وما بعدها.
(2) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 88) ، ونقض المنطق (ص: 156) ، ومجمرع الفتاوى (9/268) ، وانظر المدرسة السلفية (ص: 0 36) .
(3) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 368- 1 37، 381) ، ومناهج البحث للنشار (ص: 69 1، 178، 182) .
(4) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 167) وما بعدها، ومنهاج السنة (2/84) ، مكتبة الرياض الحديثة، وانظر منطق ابن تيمية (ص: 0 0 1) ، ومناهج البحث (ص: 184، 96 1) ، والمدرسة السلفية (ص: 382) .
(5) انظر: درء التعارض (3/ 4 0 3) ، والرد على المنطقيين (ص: 88، 363) ، والمدرسة السلفية (ص: 0 37) .
(6) مثل أقسام الصفات اللازمة وهل تنقسم الى ذاتي وعرضي، انظر الدرء (2/374،3/ 28، 5/10-13) .
ومثل: الفرق يين الماهية ووجدها، انظر الرد على المنطقيين (ص: 64) ، وتفريقهم بين الزاتي واللازم. انظر: الرد على المنطقيين (ص: 70) .
(7) منهم أبو القاسم السهيلي، عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد، صاحب الروض الأنف في شرح السيرة، توفي سنة: 581 هـ، ترجمته فى إشارة التعيين (ص: 182) ، وأنباء الرواة (2/162) ، وبغية الوعاة (2/81) .
(8) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 482) وما بعدها، ونقض المنطق (ص: 35) ، ودرء التعارض (3/303) .(1/244)
4- وقد وقع الفلاسفة- وأهل الكلام- في غلط كبير، حين بنوا علومهم على أن كل ما لم يدل عليه الدليل يجب نفيه، وهذا تحكم ظاهر إذ أن معناه أن كل ما جهله الناس أو لم يجدوا له دليلا فعليهم أن ينفوه وينكروا وجوده أو حصوله، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ببيانه لقاعدة عامة وهي أن عدم العلم ليس علما بالعدم، أي أن الجهل بالشيء ليس دليلا على أن هذا الشيء غير موجود، وهنا يتبين خطأ المنحرفين حين نفوا أشياء كثيرة- ربما تكون من صفات الله أو اليوم الآخر أو المغيبات- لأنهم لم يجدوا عليها دليلا، وليس الخطأ جهلهم بالدليل، وإنما الخطأ حين جعلوا عدم علمهم بالدليل دليلا على انتفاء هذا الشىء (1) ، والنافي عليه الدليل كما على المثبت (2) .
5- كما تطرق ابن تيمية كئيرا إلى شبهة أخرى أضلت كثيرا من الفلاسفة والمتصوفة وأهل الكلام، وهي اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان، أو ما يسمى بالكلى المطلق، فهؤلاء قد يتصورون في أذهانهم أشياء مثل الكليات العقلية التي يزعمون أنها تكون خارج العقل ولا يمكن الإشارة إليها ولا الاحساس بها وليست داخل العالم ولا خارجه، ومثل الكليات المجردة مثل وجود مطلق، أو إنسانية مطلقة، ومثل أصحاب الاتحاد المطلق توهموه في أذهانهم فظنوا أنه في الخارج (3) . أما الثاني: فقد أشار إلى المنهج الصحيح للمعرفة والاستدلال ويمكن أن نعرضه كما يلي:
1- في البداية يوضح شيخ الإسلام مراتب الدلالة فيقول:" ولا ريب أن الدلالة على مراتب: أحدها: أن يدل الدليل بغير شعور منه ولا قصد، فهذا الذى يسمى لسان الحال.... والدرجة الثانية: أن يكون الدال عالما بالمدلول عليه،
_________
(1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 100،437) ، والصفدية (1/ 180) ، ونقض المنطق (ص: 73) ، والجواب الصحيح (4/296) ، ودرء التعارض (4/59، 5/44) .
(2) انظر: الصفدية (1/166) ، وانظر المدرسة السلفية (ص: 305) .
(3) هذه القضية بحثها ابن تيمية كثيرا- وربما تعرض فيما بعد- وانظر نقض أساس التقديس المطبوع (1/332) ، ودرء التعارض (6/1 1 2، 285،289، 5/111، 127، 173، 313، 6/ 96) ، والسبعينية (ص: 0 9، 0 0 1) ، والصفدية (2/1 1 1-17 1 1، 296-308) ، والجواب الصحيح (3/78) .(1/245)
لكن لم يقصد إفهام مخاطب، ولكن حاله دل المستدل على ما علمه، كالأصوات التى تدل بالطبع مثل البكاء والضحك ونحوهما، فإنها تدل على ما يعلمه المرء من نفسه مثل الحزن والفرح، وكذلك صفرة الرجل وحمرة الخجل ... والدرجة الثالثة: الدلالة التي يقصدها الدال، فمنها: الاعلام بغير خطاب مسموع، كمن يعلم لغيره علامات تدله على ما يريد وكإشارة الأخرس ونحو ذلك ... " (1) . ويبين في موضع آخر أن الدليل ينقسم إلى ما يدل بنفسه وما يدل بدلالة الدال به، فالخلوقات تدل على الله الخالق، فهذا مثال ما يدل بنفسه، أما ما يدل بغيره فقد يكون دالا بالمواطأة والاتفاق بين اثنين فصاعدا، مثل أن يتفق الرجل مع وكيله على علامة لمن يرسله إليه تدل على أنه أرسله مثل وضع خنصره في خنصره، ومثل وضع يده على ترقوته، ومثل شعار الناس في الحرب فلكل طائفة شعار خاص بهم يعرفون به بعضهم. وتد يدل بغيره قصدا من غير مواطأة مع المستدلين على أنه دليل، لكنهم يعلمون أنه قصد الدلالة لعلمهم بأحوال مثل أن يرسلوا عمامته أو ثوبه مع شخص فيعلمون أنه أرسلها علامة على أنه أرسله (2) . وشيخ الإسلام إنما يهدف إلى عدم حصر الاستدلال بطريقة معينة، فإثبات الصانع وحدوث العالم، ودلالة صدق الأنبياء وغيرها لا ينحصر الاستدلال لها في قالب معين كما فعل أهل الفلسفة والكلام الذين وصل بهم الأمر إلى إنكار ما لم يأت عن غير هذا الطريق الذي زعموه.
2- يقول المتكلمون: إنه لابد للوصول إلى العلم من النظر ولذلك يقولون: إن النظر يضاد العلم، لأنه لو كان عالما لما احتاج إلى النظر، لكن يرجع هؤلاء فيقولون: إن النظر مستلزم للعلم، وهذا تناقف، ويبين ابن تيمية أن الذي يفصل في القضية أن النظر نوعان: أحدهما: النظر الطلبي، وهو النظر في المسألة التي هي القضية المطلوب حكمها ليطلب دليلها، فهذا هو النظر الذ! ط لا يجامع العلم بل يضاده، لأنه ينظر في المطلوب فقد يجده وتد لا يجده، فهذا نظر في الحكم
_________
(1) درء التعارض (10/200-202) .
(2) انظر: النبو ات (ص: 266- 279) ، وا نظر (ص: 369) .(1/246)
كالذي ينظر في المسألة لينال دليلها من القرآن والحديث، والثاني: النظر الاستدلالي: وهو النظر في الدليل الذي يوصله ويستلزم المدلول، وهذا هو الذي يوجب العلم ولا ينافيه فهو كالذي ينظر في القرآن والحديث فيعلم الحكم (1) . لكن هل النظر واجب؟ يجيب شيخ الإسلام: " لكن من حصر العلم بطريق عينه، هو مثل حد معين ودليل معين، أخطأ كثيرا، كا أن من قال: إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال أخطأ كثيرا، وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر وقالوا: لا يحصل العلم إلا بة مطلقا، أخطأوا، والذين قالوا:- لا حاجة إليه بحال، بل المعرفة دائما ضرورية لكل أحد في كل حال- أخطأوا، بل المعرفة وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة، فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر، والإنسان قد يستغنى عنه فى حال ويحتاج إليه في حال، وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويستغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية، والترجمة قد يحتاج إليها تارة، وقد يستغنى عنها أخرى، وهذا له نظائر. وكذلك كون العلم ضروريا أو نظريا، والاعتقاد قطعيا وظنيا أمور نسبية، فقد يكون الشىء قطعيا عند شخص في حال، وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلا عن أن يكون مظنونا، وقد يكون الشىء ضروريا لشخص في حال، ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى، وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه، لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم، فهو الحق الذي لا يقبل النقيض، ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقا " (2) . والعلم علمان: عملي ونظرى، فالأول: " ما كان شرطا في حصول المعلوم كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به محتاج إليه.
والثاني: العلم الخبري النظرى، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به كعلمنا بوحدانية الله وأسمائه وصفاته وصدق رسله، وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها" (3) .
_________
(1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 352-353) .
(2) درء التعارض (3/303-304) .
(3) درء التعارض (1/88) .(1/247)
3- ما حد الدليل؟ هل هو المرشد إلى المطلوب وهو ما يكون العلم به مستلزما للعلم المطلوب، فهو بذاته دليل يوصل إلى المقصود، أم الدليل هو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى المطلوب، اختلف النظار في ذلك، ويرى شيخ الإسلام أن كون بعضهم خص الثاني باسم الإمارة دون الدليل، نزاع اصطلاحي، ولكن يرى أن " الضابط في الدليل أن يكون مستلزما للمدلول، فكل ما كان مستلزما لغيره أمكن أن يستدل به عليه، فإن كان التلازم من الطرفين، أمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، فيستدل المستدل بما علمه منهما على الآخر الذي لم يعلمه (1) ثم بين شيخ الإسلام أن هذا اللزوم إن كان قطعيا كان الدليل قطعيا، وإن كان ظاهرا وقد يتخلف كان الدليل ظنيا، ويمثل للقطعي بدلالة الخلوقات على خالقها وصفاته كالعلم والقدرة والمشيئة والرحمة والحكمة (2) .
4- والآن ننتقل إلى مسألة أخرى مهمة وهي: طرق العلم والمعرفة ومصادرها هل هى مختصة بجانب معين لا يوصل إلى العلم إلا من خلاله؟ لقد تباينت مذاهب الناس في ذلك فبعضهم حصر العلم بالمحسوس فقط فهو الذي يثبت به الاستدلال يقينا وما عداه لا دليل فيه، وبعضهم حصر الاستدلال بالاعتبار والقياس المنطقي فقط، وبعضهم اعتمد على غير ذلك، ويرى شيخ الإسلام أن طرق العلم متعددة وكثيرة ويمكن إجالها بثلاث طرق:
أحدها: الحس الباطن والظاهر، وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها. والثاني: الاعتبار بالنظر والقياس وإنما يحصل العلم به بعد الىعلم بالحس، مما أفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس مطلقا، فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين لكن يجعل الخاص عاما، والمعين مطلقا، فإن الكليات إنما تعلم بالعقل، كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس.
_________
(1) الرد على المنطقيين (ص: 165) ، وانظر: (ص: 151) ، ودرء التعارض (3/303،11/122) ، والنبوات (ص: 282) ، ومناهج البحث (ص: 194، 197، 199، 216) ، ونظرية القياس الأصولي (ص: 322) .
(2) انظر: الرد عل المنطقييين (ص: 65 ا-166) .(1/248)
والثالث: الخبر، والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب، فهو أعم وأشمل، لكن الحس والعيان أتم واكمل (1) .
ويوسع شيخ الإسلام- في مناسبات مختلفة- الكلام حول هذه الأدلة، ولكنه يركز على مسألة تنوع الأدلة، كما يركز على دليل الخبر الصادق، ولذلك يقول عن أهل الكلام: (إنهم قد سلموا أنه يعلم بالسمع أمور، كما يذكرونه كلهم من أن العلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ونها ما لا يعلم إلا بالسمع، ومنها ما لا يعلم بالسمع والعقل، وهذا التقسيم حق في الجملة، فإن من الأمور الغائبة عن حس الإنسان ما لا يمكن معرفته بالعقل، بل لا يعرف إلا بالخبر " ثم بين طرق العلم فيقول:" وطرق العلم ثلاثة: الحس، والعقل، والمركب منهما كالخبر" (2) ويوضح النقطة الأخيرة في مكان آخر فيقول: " إن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل، فإن الخبر عنه إن كان قد شوهد، كان قد علم بالحس، وإن لم يكن شوهد فلابد أن يكون شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه، وإلا لم يعلم بالخبر شىء، فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل، فكما أن العقل بعد الحس فالخبر بعد العقل والحس، فالإخبار يتضمن هذا وهذا " (3) .
وليس الحس وحده تعلم به الأمور إذ هناك المجريات والمتواترات، ويرى شيخ الإسلام أن هذه الأدلة توصل إلى اليقين، ولكن الخطأ الذي وقع فيه الفلاسفة وأهل المنطق أنهم جعلوا ما علم بالحس يمكن أن يستنبط منه قضية كلية عامة، يبنى عليها القانون المنطقي، يقول شيخ الإسلام عنهم: " إنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا الحسيات، والأوليات والمتواترات والمجربات أو الحدسيات، ومعلوم أنه لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا.... ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرهم
_________
(1) درء التعارض (7/324) ، وانظر: الاستقامة (1/29) ، والرد على المنطقيين (ص: 364، 473) ، ونقض أساس التقديس المطبوع (2/539) .
(2) درء التعارض (1/178) .
(3) نفسه (7/325) .(1/249)
ما جرت العادة باشتراك بني آدم فيه، وتناقضوا في ذلك، وذلك أن بني آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات، فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب، ويرون جنس السحاب والبرق، وإن لم يكن ما رآه هؤلاء من ذلك هو ما يراه هؤلاء، وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد، وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه، بل كل قوم يسمعون ما لا يسمع غيرهم، وكذلك أكر المرئيات، فانه ما من شخص ولا أهل درب ولا مدينة ولا إقليم إلا ويرون من المرئيات ما لا يراه غيرهم، وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه ... وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس، فإنه قد يتواتر عند هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ولم يجربوه، ولكن قد يتفقان في الجنس، كما يجرب قوم بعض الأدوية ويجرب الآخرون جنس تلك الأدوية، فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب " (1) ، فإذا كانت هذه حال هذه الأدلة فلماذا يفرق أهل المنطق! نها، فيقولون: إن ما علم بالحس يمكن أن يكون دليلا عاما، أما المتواترات والمجربات فليست دليلا عاما وإنما يختص بها من علمها، مع أن اشتراك الناس في المتواترات ا! ثر، وفي المجريات يحصل المعنى الكلي الذى يقوم في النفسى بخلاف الحسيات فليس فيها شيء كلي (2) ، لقد أدى هذا التفريق بأهل المنطق أن أنكروا المتواترات والأخبار التى تعلم أو جاءت عن طريق الأنبياء، وكذلك الأدلة القرآنية من الأمثلة الضرورية التي ذكر الله تعالى فيها ما جرى للأم السابقة وأنه يجرى على من عمل مثل عملهم.
إن شيخ الإسلام يرى أن- الحسيات والمتواترات والمجربيات- يمكن أن تكون دليلا ومصدرا من مصادر المعرفة، ولا يفرق بينها، ويمكن أن ننقل نصا يوضح هذه المسألة، يقول: " وقد ذكر من ذكر من هؤلاء المنطقيين أن القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحدس يختص بها من علمها بهذا الطريق، فلا تكون حجة على غيره بخلاف غيرها فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع. وقد بينا ...
_________
(1) الرد على المنطقيين (ص: 384- هـ 38) .
(2) الرد على المنطقيين (ص: 385) .(1/250)
أن هذا تفريق فاسد، فإن الحسيات الظاهرة والباطنة تنقسم أيضا إلى خاصة وعامة وليس ما رآه زيد أو شمه أو ذاقه أو لمسه يجب اشتراك الناس فيه، وكذلك ما وجده في نفسه من جوعه وعطشه وألمه ولذته، لكن بعض الحسيات قد تكون مشتركة بين الناس، كاشتراكهم في رؤية الشمس والقمر والكواكب، وأخص من ذلك اشتراك أهل البلد الواحد في رؤية ما عندهم من جبل وجامع وشهر وغير ذلك من الأمور انحلوقة والمصنوعة ".
" وكذلك الأمور المعلومة بالتواتر والتجارب قد يشترك فيها عامة الناس كاشتراك الناس في العلم بوجود مكة ونحوها من البلدان المشهورة، واشتراكهم في وجود البحر وأكثرهم ما رآه، واشتراكهم في العلم بوجود موسى وعيسى ومحمد وادعائهم النبوة ونحو ذلك، فإن هؤلاء قد تواتر خبرهم إلى عامة بني آدم وإن قدر من لم يبلغه أخبارهم فهم في أطراف المعمورة لا في الوسط، وكذلك المجربات، فعامة الناس قد جربوا أن شرب الماء يحصل معه الري، وأن قطح العنق يحصل معه الموت، وأن الضرب الشديد يوجب الألم. والعلم بهذه القضية تجريبي فإن الحس إنما يدرك ريا معينا وموت شخص معين، وألم شخص معين، أما كون كل من فعل به ذلك يحصل له مثل ذلك، فهذه القضية الكلية لا تعلم بالحس، بل بما يتركب من الحس والعقل، وليس الحس هنا هو السمع. وهذا النوع قد يسميه بعض الناس كله تجريبات، وبعضهم يجعله نوعين: تجريبات وحدسيات، فإن كان الحس المقرون بالعقل من فعل الإنسان كأكله وشربه وتناوله الدواء سماه تجريبا، وإن كان خارجا عن قدرته كتغير أشكال القمر عند مقابلة الشمس سماه حدسيا " (1) .
فهذه الحسيات والمجربات من طرق العلم عند شيخ الاسلام، ولكنه لا يحصر طرق العلم بها، واعتناؤه بهذه الأمور- خاصة التجربة- أثار انتباه وإعجاب كثير من الباحثين المعاصرين حتى قال أحدهم- ممن يخالف شيخ الاسلام في آرائهـ بعد أن نقل كلامه في ذلك: " وأخيرا لا يسعنا أمام
_________
(1) الرد على المنطقيين (ص: 92-93) .(1/251)
هذه الروح العلمية التجريبية التي أتسمت بها فلسفة ابن تيمية إلا أن نقرر أنه لو قدر لهذه الفلسفة أن توضع في قالب منهجي لعد ابن تيمية- بحق- على رأس الفلاسفة التجريبيين، وحسبه أنه وضع الأفكار في وقت كانت فيه أوربا ترسف في أغلال الجهل وتعاني من جود الفكر النظري طوال العصور الوسطى " (1) .
وإذا كانت مثل هذه القضايا أثارت إعجاب هؤلاء الباحثين بشيخ الإسلام فإن الذى أثار إعجاب تلامذة ابن تيمية- من عصره وإلى اليوم- ما عمل رحمه الله من الدعوة إلى العودة إلى مذهب السلف، ونهجهم، ومن ذلك: المنهج الشرعي للاستدلال، الذى تنكبه الفلاسفة والمتكلمون قديما وتلامذتهم حديثا- وهذا ما نشير إليه في الفقرة التالية.
5- من أصول الاستدلال وطرق المعرفة الكبرى: الطريق والدليل الشرعي، ولكن ما الدليل الشرعي؟ هل هو مقتصر على ما أفاده الخبر بنصه فقط، أو ما يسميه البعض الدليل السمعى، المختص بما لا يمكن العلم به إلا بالسمع وخبر الصادق، لقد فهم كثير من أهل الكلام هذا، ورأوا أن الشرع- من الكتاب والسنة- ليس فيه أدلة عقلية، وإنما أخبار عن مغيبات يجب التصديق بها، وغفل هؤلاء عن الأدلة القرآنية الكثيرة التي فيها مجادلة ومحاجة المنكرين للألوهية والنبوة، والبعث وغيرها، وهؤلاء المنكرون من مشركي العرب وأهل الكتاب وغيرهم لم يكونوا مقرين بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا بما نزل عليه من الكتاب، ولذلك كان من أصول منهج شيخ الاسلام- في كتبهـ التركيز على المنهج الشرعي وينبه إلى غلط أهل الكلام في حصرهم لهم في خبر الصادق فقط يقول: " الدليل الشرعي قد يكون سمعيا وقد يكون عقليا، فإن كون الدليل شرعيا يراد به:
أ- كون الشرع أثبته ودل عليه.
ب- ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه.
_________
(1) المدرسة السلفية (ص: 449) ومؤلفه: محمد عبد الستار نصار، وانظر: مناهج البحث للنشار (ص: 166، 173، 178) .(1/252)
(أ) فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوما بالعقل أيضا ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعيا عقليا، وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل وهي براهين ومقاييس عقلية، وهى مع ذلك شرعية. وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيا سمعيا.
وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا على هذا الوجه، ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات، والسمعيات، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة. وهذا غلط فهم، بل القرآن دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها وإن كان من الأدلة العقلية ما لا يعلم بالعيان ولوازمه؟ قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]
(ب) وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات، والشارع يحرم الدليل لكونه كذبا في نفسه، مثل أن تكون إحدى مقدماته باطلة، فإنه كذب والله يحرم الكذب لاسيما عليه، كقوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169} ، ويحرمه لكون المتكلم به يتكلم بلا علم، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء:36] وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] ، وقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران:66] . (1)
_________
(1) درء التعارض (1/198-. 20) .(1/253)
فالأدلة الشرعية قد تكون سمعية، وقد تكون عقلية نبه عليها الشرع، وشيخ الاسلام دائما ما ينبه إلى أنه لا يمكن أن يتعارض العقل والشرع، ولذلك لم يفصل بين جنس الأدلة-؟ فعل أهل الفلسفة والكلام- فالأدلة قد تكون حسية وتد تكون عقلية وقد تكون شرعية، وكلها صادقة، لأن الكل من عند الله، فالكون مخلوق لله والانسان الذي يعقل ويحس نحلوق لله، والنصوص السمعية منزلة من عند الله، فالذين يتوهمون أنهم قد يعلمون بعقولهم ومقاييسهم أمورا قد يعارضها السمع غالطون أشد الغلط بل ومنحرفون في إيمانهم وثقتهم بما جاء من عند الله من الكتاب والسنة، إذ كلها وحي من الله تعالى، ولهذا يقول شيخ الإسلام منبها إلى أن حصول المعرفة بالشرع على وجوه " أحدها: أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع، فتكون عقلية شرعية، والثاني: أن المعرفة المنفصلة (1) بأسماء الله وصفاته التى بها يحصل الإيمان تحصل بالشرع كقوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى:52] ، وقوله: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلي ربي} [سبأ:50] ، وقوله: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} [إبراهيم:1] ، وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن اللة هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه" (2) .
فالهداية التامة والمعرفة الصادقة التي لا يدخلها شك أعظم ما تغ عن طريق الكتاب والسنة، إن كان ثمة طريق غيرهما تحصل به هذه المعرفة، ويوضح شيخ الإسلام في هذافيقول: " وأما النظر المفيد للعلم فهو ما كان في دليل هاد، والدليل الهادكط- على العموم والاطلاق- هو كماب اللة وسنة نبيه، فإن الذكط جاءت به الشريعة من نوعي النظر: هو ما يفيد وينفع ويحصل الهدى، وهو يذكر اللة وما نزل من الحق، فإذا أراد النظر والاعتبار في الأدلة المطلقة
_________
(1) كذ ا، ولعلها: المفصلة.
(2) درء التعارض (9/37-38) .(1/254)
من غير تعيين مطلوب فذلك النظر في كتاب الله وتدبره كما قال تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي الله به من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة:15 - 16] . " (1) .
6- ونعرض للأدلة الشرعية التي ذكرها شيخ الاسلام:
أ- فأولها دلالة السمع من الكتاب والسنة على كل ما تنازع الناس فيه، لأن فيهما الهدى التام، فمن اعتصم بالوحي فقد هدى إلى صراط مستقيم، ولذلك فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، " دعوا الناس إلى عبادة الله أولا بالقلب، واللسان، وعبادته متضمنة لمعرفته، وذكره، فأصل علمهم وعملهم هو العلم بالله والعمل لله" (2) (2) ، ولذلك فالرسل لم يدعوا الناس إلى الإقرار بوجود الله وأنه الخالق، لأن هذا معروف مسلم مركوز في فطر الناس، وإنما دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومنه ينطلق إلى الأمور الأخرى، لأن من عبد الله وحده وأخلص له في العبادة فلابد أن يصدق برسله وبما جاءوا به من عند ربهم تعالى، يقول شيخ الإسلام: " إن الله سبحانه لما كان هو الأول الذي خلق الكائنات والآخر الذي إليه تصير الحادثات فهو الأصل الجامع فالعلم به أصل كل عمل وجامعه، وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته، وإذا حصل لهم ذلك فما سواه إما فضل نافع وإما فضول غير نافعة، وإما أمر مضر "، " ثم من العلم به تتشعب أنواع العلوم، ومن عبادته وقصده تتشعب وجوه المقاصد الصالحة، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي، والبرهان الوثيق، فلا يزال إما في زيادة العلم والايمان، وإما في السلامة من الجهل والكفر، وبهذا جاءت النصوص الالهية في أنه بالإيمان يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وضرب مثل المؤمن - وهو المقر بربه علما وعملا- بالحي والبصير والسميع والنور والظل- وضرب
_________
(1) نقض المنطق (ص: 33) .
(2) مجموع الفتاوى (2/15) .(1/255)
مثل الكافر- بالميت والأعمى والأصم، والظلمة والحرور " (1) ، فمنهج الرسل على الضد من منهج المتكلمين الذين يبدأون بالأمور النظرية فيبدأون بإثبات الصانع ثم النبوات ثم السمعيات، وقد تختلط عليهم الأدلة في أول الطريق أو في وسطها أو في آخرها فلا يصلون إلى المقصود، أما الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم جميعا- فيبدأون من حيث ينتهي الفلاسفة، فإذا كان قصارى ما ينتهي إليه هؤلاء إثبات أن هذا العالم لابد له من خالق، فالأنبياء يبينون لأممهم أنه يجب عبادة الله وحده لا شريك له ما دامت قضية الإترار به وبوجوده مسلمة للجميع. وخلاصة هذا الدليل: أن عبادة الله والإخلاص هي الأساس وهي الموصلة
إلى تصديق رسلهـ والله أيدهم بما يدل على صدقهم من المعجزات وغيرها- فإذا تمت الشهادتان: الألوهية والرسالة، كان ما جاء به هؤلاء الرسل من أمر أو خبر هو الحق الذكط يعتصم به المؤمنون وإذا كان المتصوفة على عكس المتكلمين والفلاسفة، فإن أهل الحق والايمان لا يعتمدون على ما يخطر بقلوبهم من خواطر مطلقا، وإنما يزنونها بالكتاب والسنة، ولا يقدمون عليهما شيئا من الأدلة أو الخواطر، ولذلك فما لا أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمر يجل عن الوصف، ولكن عند عوامهم من اليقين والعلم النافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة والمتكلمين، وهذا ظاهر شهود لكل أحد " (2) .
ب- وهناك دليل آخر وهو دليل الفطرة التي فطر الله الناس جميعا عليها، لأن الإنسان خلقه الله تعالى متميزا عن غيره من الخلوقات، فعنده الشعور والإحساس ولديه الإرادة والحركة، ففي الشعور والإدراك يميز بين الحق والباطل والصدق والكذب، وبالارادة والحركة يحب ويبغض فيحب ما ينفعه ويميل إليه، ويبغض ما يضره وينفر منه، وهذه هي الفطرة (3) ، يقول شيخ الاسلام: " والله سبحانه
_________
(1) مجموع الفتاوى (2/16) .
(2) نقض المنطق (ص: 26) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 29) .(1/256)
خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع المم رالمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة، فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة، وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة أحبته وأطمأنت إليه، وذلك هو المعروف، وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته الفطرة وأنكرته " (1) .
ونصوص الفطرة دالة على أن كل مولود يولد على فطرة الاسلام، وهي الحنيفية المقتضية لعبادة الله وحده لا شريك له والحب والخضوع له تعالى. يقول شيخ الإسلام: " فعلم أن في فطرة الانسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع، وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والايمان به هو الحق أو نقيضه؟ والثاني معلوم الفساد قطعا، فتعين الأول، وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والايمان به، وأيضا: فإنه مع الإقرار به إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته، والثافي معلوم الفساد، وإذا كان الأول أنفع له كان في فطرته محبة ما ينفعه، وأيضا فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له اكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به، والثالث معلوم الفساد فوجب أن يكون في فطرته مقتضى يقتضي توحيده، وأيضا: فإما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين أو الاسلام مرجوحا أو راجحا، والأول والثاني باطلان باتفاق المسلمين وبأدلة كثيرة، فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها، وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة، سواء كانت نسبة قدرة أو نسبة قبول " (2) .
وهذه الفطرة بما فيها من الاستعداد والقبول كافية لحصول مقتضاها من معرفة الله وعبادته، لا يشترط لذلك وجود أدلة يتعلمها من خارج، يوضح شيخ الإسلام هذه المسألة فيقول: " وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته وإخلاص الدين له، فإما أن يكون مع ذلك
_________
(1) نقض المنطق (ص: 29) .
(2) درء التعارض (8/458-459) .(1/257)
لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل، مثل من يعلمه ويدعوه، أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل، فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفا على مخاطب منفصل دائما، فلا يحصل بدونه البتة، ثم القول في حصول موجبها لذلك انحاطب المنفصل، كالقول في الأول، وحينئذ فيلزم التسلسل في الخاطبين، ووجود مخاطبين لا يتناهون، وهم أيضا مخاطبون وهذا تسلسل في الفاعلين وهو ممتنع، وإن كان من الخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل فى ل على إمكان ذلك بالفطرة، فبطل هذا التقرير وهو كون موجب الفطرة لا يحصل قط إلا نحاطب منفصل، وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل علم أن في الفطرة قوة تقتض! اذلك، وإن ذلك ليمى موقوفا على مخاطب منفصل، لكن قد يكون لذلك المقتضى معارض مانع وهذا هو الفطرة " (1) .
وهذه الفطرة توافق ما أخبرت به الرسل ولا تعارضها أبدا، ولذلك فإن دليل الفطرة على علو الله تعالى لا يمكن أن يكون ما جاءت به النصوص بخلافه كما زعم نفاته (2) ، وهكذا.
ج-- ومن الأدلة النظرية التى تفيد العلم، وقد جاء بها القرآن، دليل " الآيات، فالمخلوقات تدل على الخالق وتوجب العلم به، وآيات الأنبياء توجب العلم بنبوتهم، وهكذا يقول شيخ الاسلام إن من الأدلة " الآيات كما يذكر الله ذلك في القرآن، والآية هي دليل عليه بعينه، لا تدل على قدر مشترك بينه وبن غيره، فنفس الكائنات وما فيها وهو عين وجودها في الخارج مستلزم لوجود الرب، وهو آية له ودليل عليه، وشاهد بوجوده بعينه، لا قدر مشترك بينه وبين غيره " (3) ، ودليل الآيات يختلف عن دليل القياس، لأن دليل الآية هو نفسه مستلزم لعين المدلول عليه، يقول شيخ الاسلام: " وأما استدلاله بالآيات
_________
(1) درء التعارض (8/459-. 46) .
(2) انظر: درء التعارض (5/ 312) ، وانظر: دلالة الفطرة الدرء (8/ 371) ، ونقض التأسيس المطبوع (2/475) .
(3) نقض أساس التقديس- المطبوع- (2/474)(1/258)
فكثير في القرآن، والفرق بين الآيات وبين القياس أن الآية هي العلامة، وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول، ولا يكون مدلوله أمرا كليا مشتركا بين المطلوب وغيره، بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول، كما أن الشمس آية النهار قال تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} [الإسراء:12] ، فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار، وكذلك آيات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - نفس العلم بها يوجب العلم بنبوته بعينه، لا يوجب أمرا بهليا مشتركا بينه وبين غيره، وكذلك آيات الرب تعالى، نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى لا يوجب علما كليا مشتركا بينه وبين غيره، والعلم بكون هذا مستلزما لهذا هو جهة الدليل " (1) ، ودليل الآيات إنما هو استدلال بجزئي على جزئي، وهذا يخالف القياس المنطقي (2) .
د- قياس الأولى:
يرى شيخ الإسلام أن هذا من أدلة القرآن، وأنه يستف م في حق الله تعالى لأن الله تعالى ليس مثل خلقه، بحيث يقاس على خلقه لأن الله تعالى ليس كمثله شىء، وهذا الدليل ركز عليه شيخ الاسلام كثيرا، وبين دلالته على إثبات التوحيد لله ونفى الصاحبة والولد عنه، وعلى إثبات صفات الكمال لله، وعلى النبوة والمعاد، يقول شيخ الإسلام: " وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعا للقرآن فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل، كما لا يضبط التفاوت بين الخالق والخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ونحلوق ما لا يحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم مما يثبت
_________
(1) الرد على المنطقيين (ص: 151) .
(2) انظر: نفس المصدر (ص: 163) ، وانظر: (ص: 356) ، ومجموع الفتاوى (2/9، 48/1) ، وانظر: منطق ابن تيمية (ص: 247) ، والمدرسة السلفية (ص: 368،443) ، ومناهج البحث (ص: 216) .(1/259)
لكل ما سواه بما لا يدرك قدره" (1) ، ويقول أيضا: (ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيل (2) يستوي فيه الأصل والفرع، رلا بقياس شمولي (3) تستوي فيه أفراده، فإن الله تعالى ليس كمثله شىء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها" (4) ، ثم طبق هذا على مسألة المعاد (5) ، ثم ذكر أن الله استعمله سبحانه في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه اليه من الولادة سواء سموها حسية أو عقلية (6) ، ثم ذكر النصوص القرآنية التي فيها الانكار على المشركين في زعمهم أن لله ولدا، أو أن لله البنات، ثم عقب شيخ الإسلام قائلا: " فبين سبحانه أن الرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم، فكيف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم، وتستحيون من إضافته إليكم مع أن ذلك واقع لا محالة، ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه، وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم " (7) ،
فذكر قياس الأولى في ذلك (8) .
_________
(1) الرد على المنطقيين (ص: 154) .
(2) قياس التمثيل هو القياس المشهور في كتب أصرل الفقه وهو: أثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر لمعنى مشترك بينهما وهو العلة كقولنا: النبيذ حرام لأنه كالخمر في الإسكار الذي هو علة الحرمة، انظر التهذيب: شرح الخبيصي وحواشيه (ص: 414) ، وإيضاح المبهم (ص: 17) ، وتحرير القواعد المنطقية (ص: 166) ، والمرشد السليم (ص:253) .
(3) قياس الشمول: هو قياس المناطقة المشهور وهو: قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، مثل أن يقال كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس، النتيجة: كل انسان حساس. انظر المصادر السابقة: الهذيب: شرح الخبيصى (ص: 363) ، وتحرير القواعد (ص: 38 1) ، والمرشد السليم (ص: 136) .
(4) درء التعارض (1/29) .
(5) انظر: المصدر نفسه (1/ 30- هـ 3) .
(6) الحسية مثل قول النصارى في عيسى، والعقلية مثل قول الفلاسفة بتولد العقول العشرة والأفلاك.
(7) درء التعارض (1/36-37) ..
(8) انظر: في قياس الأولى وشرح ابن تيمية له: منطق ابن تيمية (ص: 254) ، ونظرية القياس الأصولي (ص: 334) ، ومناهج البحث (18 2) .(1/260)
هـ- الميزان القرآني:
وردت نصوص تدل على " الميزان " وأن الله أنزله، مثل قوله تعالى:
{الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17] ، وقوله: {والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} [الرحمن: 7-9] وغيرها، فما هذا الميزان؟ يقول شيخ الإسلام: " وقد قال الله سبحانه وتعالى: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17] ، وقال: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25] ، والميزان يفسره السلف بالعدل، ويفسره بعضهم بما يوزن به (1) ، وهما متلازمان، وقد أخبر أنه أنزل ذلك مع رسله كا أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان، وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات، فمعرفة أن هذه الدراهم أو غيرها من الأجسام الثقيلة بقدر هذه تعرف بموازينها، وكذلك مثل هذا الزمان يعرف بموازينه التى يقدر بها الأوقات ...
فكذلك الفروع المقيسة على أصولها في الشرعيات والعقليات تعرف بالموازين المشتركة بينهما، وهي الوصف الجامع المشترك الذي يسمى الحد الأوسط، فإنا إذا علمنا أن الله حرم خمر العنب لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، ثم رأينا نبيذ الحبوب من الحنطة والشعير والرز وغير ذلك يماثلها في المعنى الكلي المشترك الذي هو علة التحريم، كان هذا القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان التي أنزلها الله في قلوبنا لنزن بها هذا نجعله مثل هذا، فلا نفرق بين المتماثلين، والقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله تعالى به" (2) ، ويوضح النقطة الأخيرة فيقول:
" إن القياس الصحيح هو من العدل الذي أنزله، وإنه لا يجوز قط أن يختلف الكتاب والميزان، فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح، لا قياس شرعي
_________
(1) انظر هذين القولين في تفسير الآية: 25 من سورة الحديد: تفسير الطبرى، وزاد المسير.
(2) الرد على المنطقيين (ص: 372) .(1/261)
ولا عقلي، ولا يجوز قط أن الأدلة الصحيحة النقلية تخالف الأدلة الصحيحة العقلية ... " (1) ، ويورد اعتراضا على هذا ثم يرد عليه، فيقول: " فإن قيل: إذا كان هذا مما يعرف بالعقل فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل؟ قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية، فليس العلوم النبوية مقصورة على مجرد الخبر، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام، ويجعلون ما يعلم قسيما للعلوم النبوية، بل الرسل- صلوات الله عليهم- بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علما وعملا، وضربت الأمثال، فكملت الفطرة بما نبهتا عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه، أو كانت الفطرة قد فسدت بما حصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة، فأزالت ذلك الفساد وبينت ما كانت الفطرة معرضة عنه، حتى صار عند الفطرة معرفة الميزان التي أنزلها الله وبينتها رسله " (2) ، ويوضح شيخ الاسلام أن الله كما أنزل مع رسله الايمان، فلا يحصل الإيمان إلا بهم، فكذلك أنزل الميزان في القلوب وذلك لما بينت الرسل العدل وما يوزن به (3) .
ولما كان القياس أحد الأصول المعتبرة في الأحكام عند جماهير المسلمين، وقف شيخ الإسلام مع أهل المنطق وقفة طويلة حول زعمهم أن قياسهم الشمولي هو الذي يفيد اليقين، أما القياس التمثيلي- الذي هو قياس الأصوليين- فلا يفيد إلا الظن (4) ، ظنا منهم أن استخدامه في الأحكام الفرعية من جانب الفقهاء
_________
(1) الرد على المنطقيين (ص: 373) .
(2) نفسه (ص: 382) .
(3) نفسه (ص: 383-384) .
(4) سبق التعريف بقياس الشمول والتمثيل والفرق بينهما أن الشمولي إنتقال من خاص إلى عام ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص، أما التمثيلى فهو انتقال من حكم معين (جزئي) إلى حكم معين (جزئي) لاشتراكهما في ذلك المعنى الكلى، ومع ذلك فيمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمبة. ويلاحظ أن بعض الباحثين في علوم المنطق ردوا على إخوانهم المناطقة في قولهم: إن القياس التمثيلى ظنى ويينوا أنه قد يكون قطعيا، انظر التهذيب شرح الخبيصى، حاشية العطار (414) كما ذكروا لهـ(1/262)
دليل على أنه ظني (1) ،
ويرى شيخ الإسلام أنه لا فرق بينهما، بل يمكن إرجاع القياس الشمولي إلى التمثيلى وبالعكس، يقول: (تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل بأن الأول قد يفيد اليقين، والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل، بل حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين، وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين، فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد إلا الظن " (2) ، سم بين أنه لا فرق بينهما فيقول: " فإن قلت: النبيذ حرام قياسا على الخمر، لأن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة، وهذا الوصف موجود في النبيذ، كان بمنزلة قولك كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام، فالنتيجة قولك: النبيذ حرام، والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر، والحرام محمولها وهو الحد الأكبر، والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول، وهو الحد الأوسط المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى " (3) ، وبين شيخ الإسلام أن الفقهاء صاروا يستعملون في الفقه القياس الشمولي، كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلى (4) . بل يرى شيخ الإسلام أن قياس التمثيل أقوى من قياس الشمول، لأن التمثيل إنما هو من قياس الغائب على الشاهد الذي جاء في القرآن الكريم وهو الميزان الذي أنزله الله، يقول شيخ الإسلام ردا على المناطقة:" إذا كان لابد في برهانهم من قضية كلية فالعلم بتلك القضية الكلية لابد له من سبب، فإن عرفوها باعتبار الغائب بالشاهد وأن حكم الشيء حكم مثله، كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة علمنا أن النار الغائبة محرقة لأنها مثلها، وحكم الشيء حكم مثله، فيقال: هذا استدلال بقياس التمثيل 000" (5) .
_________
(1) = فوائد في البحث العلمى وتقدم العلوم، انظر: المرشد السليم (ص: 257) .
(1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 234) .
(2) نفس المصدر (ص: 211) .
(3) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 211) .
(4) نفس المصدر (ص: 117) .
(5) نفسه (ص: 115) ..(1/263)
والخلاصة أن ما ورد به الشرع من قياس التمثيل واعتبار الغائب بالشاهد هو الموصل إلى اليقين، وهذا هو الاعتبار الذى ورد الأمر به، وهو بتناول قياس الطرد وقياس العكس، ويشرح شيخ الاسلام ذلك ويمثل له من القرآن فيقول: " ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف، فإذا رأى الشيئين المتماثلين علم أن هذا مثل هذا، فجعل حكمهما واحدا، كا إذا رأى الماء والماء، والتراب والتراب، والهواء والهواء، ثم حكم بالحكم الكلي على القدر المشترك، وإذا حكم على بعض الأعيان ومثله بالنظير وذكر المشترك كان أحسن في البيان فهذا قياس الطرد، وإذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما وهذا قياس العكس، وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل ما فعلوا أصابه ما أصابهم فيتقي تكذيب الرسل حذرا من العقوبة، وهذا قياس الطرد، ويعلم أن من لم يكذب الرسل بل اتبعهم لا يصيبه ما أصاب هؤلاء وهذا قياس العكس، وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين، فإن المقصود ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره، والاعتبار يكون بهذا وهذا، قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف:111] ." (1)
7- هذه هى الأدلة الشرعية- سمعية وعقلية- جاءت بها ودلت عليها النصوص، وهي دالة على التكامل وأن لا تعارض بين العقل والنقل، ورسل الله تعالى جاءوا بالحق المبين، ولا يمكن أن يأتوا بما يعارض العقول الصحيحة، لكن قد يأتون بما تعجز عنه العقول ولا تستطيع إدراكه، ولذا كثيرا ما يردد شيخ الإسلام أن الرسل يخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول (2) .
ولكن إذا كان المنهج القرآني والشرعى لا يقتصر على مجرد الخبر، فلماذا يرد عن السلف أنهم كثيرا ما يقولون: أن مثل هذا الأمر مما لا مجال للعقل فيه، أو ينهون عن إدخال العقل في بعض الأمور، ونحو ذلك؟ هذا سؤال مهم
_________
(1) الرد على المنطقيين (ص: 371) ، وانظر: منطق ابن تيمية (ص: 222) .
(2) انظر: درء التعارض (5/297، 7/327)(1/264)
ولذلك يخصه شيخ الإسلام بجواب مركز فيقول- عن أهل الكتاب والسنة-
" وأما ما قد يقولونه من أن العقل لا مجال له في ذلك، أو ينهون عن الكلام، أو عن ما سمي معقولات ونظرا، ونحو ذلك، فهذا له وجوه صحيحة ثابتة بالكتاب والسنة، بل وبالعقل أيضا، وبعضهم قد لا يفرق بين ما يدخل في ذلك من حق وباطل، وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة.... ولا ريب أن التقصير ظاهر على اكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك، فيقال: من الوجوه الصحيحة أن ما نطق به الكتاب وبينه، أو ثبت بالسنة الصحيحة، أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه، معقولا ونظرا أو كلاما، وبرهانا، وقياسا عقليا أصلا، بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علما كليا عاما، وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب كل كل أحد، دل يعلمه بعض الناس دون بعض، وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ما عارض النص والإجماع من هذه، وإن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 112] ، فأعداء النبيين دائما يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا".
" وكذلك من الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لا تفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة، وإن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله، وذلك أن قوى العقول متفاوتة مختلفة، ومحميرا ما يشتبه المجهول بالمعقول، فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله، وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء، والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى، ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود:119} ، وأهل الرحمة هم أهل الايمان والقرآن".
ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام: إما بخبره، وإما بخبره وتنبيهه(1/265)
ودلاله على الأدلة العقلية، ولهذا يقولون: لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصف به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين} [الصافات: 80 ا-182] " (1) .
أما أمور المغيبات، مثل أخبار من سبق، أو أخبار الآخرة: أشراطها وأحوال اليوم الآخر وما فيه، والموازين والصراط والجنة والنار وتفاصيل ذلك، فهذا مما اتفق جميع أهل الإيمان على أنه مما يتلقى عن الوحي، فثبوتها والاقرار بها مبني على خبر المعصوم.
" وبالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له، ولما علم الناس اكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولا كانت له شريعة في الأرض، ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين، فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى لذلك واستأنس به.... والقدر الذي يمكن العقل إدراكه بنظره فإن المرسلين- صلوات الله وسلامه عليهم- نبهوا الناس عليه وذكروهم به، ودعوهم إلى النظر فيه، حتى فتحوا أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا، والقدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه وأنبأوهم به.... " (2) .
ثالثا: منهجه في بيان العقيدة وتوضيحها:
هناك فرق بين حالين، الحال الأولى: بيان العقيدة الإسلامية للناس والدعوة إليها، والحال الثانية: الرد على خصومها وبيان العقيدة الصحيحة من خلال ذلك،
_________
(1) نقض أساس التقديس- المطبوع (1/247-248) .
(2) الصارم المسلول (ص: 249- 250) .(1/266)
ففي الحال الأولى يجب ذكر العقيدة سليمة، صافية، بعيدة عن إثارة الشبهات أو أدلة الخصوم والرد عليها، وإنما تذكر أدلة القول الصحيح وتشرح وتوضح حتى يستقر الحق في النفوس- بعيدا عما يضاده من شبهات المخالفين-. أما في الحالة الثانية فلابد من دفع المعارض وبيان الحق من خلال المناقشة، وهذا ما فعله ابن تيمية، ففي الرسائل والأجوبة التى يسأل فيها عن العقيدة أو إحدى قضاياها- ولم يطلب السائل جواب شبهة واردة- ولا يعلم ابن تيمية من حاله حاجته إلى ذلك، يأتي الجواب بعرض عقيدة السلف بأدلتها واضحة صافية (1) ، وقد يجمع بين الطريقتين بأسلوب إجمالي يميل إلى تقرير الحق في الأمور المختلف فيها، كما فعل في رسالته العظيمة " الوصية الكبرى " (2) .
ولتمييز مسألة إثبات الأسماء والصفات عن غيرها من جوانب العقيدة بأصول خاصة، سنفردها وحدها لبيان منهجه فيها، ولذا يمكن أن يكون منهجه عموما كما يلي:
أ- منهجه في العقيدة عموما:
1- عرضها بأسلوب سهل ميسور، يفهمه الجميع، المتعلم وغير المتعلم وهذا ما فعله حين كتب " العقيدة الواسطية "، ففيها الوضوح والبعد عن أي نوع من أنواع التعقيد أو إثارة المشكلات، وقد تميز عرضه للعقيدة بما يلى:
أ- عدم الدخول في متاهات أهل الكلام.
ب- دعم ما يقول بالنصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف.
_________
(1) من أمثلة ذلك العقيدة الواسطية، وقاعدة في توحيد الألوهية، أما ردوده على المخالفين وبيان عقيدة السلف من خلالها فأغلب كتبه على هذا المنهج، الذى سار عليه ابن تيمية بعد المناقشات والمحن التي مر بها، ورأى أنه لابد منه لايضاح الحق للناس.
(2) وهي الوصية التي- كتبهاا إلى جماعة من أتباع عدى بن مسافر، عدى هو: عدى بن مسافر ابن إسماعيل الأموى الشامي الهكارى، من المتصوفة رافق أحمد البدوى وأحمد الرفاعي وعبد القادر الجيلاني وغيرهم، توفي سنة 557 هـ، انظر: البداية والنهاية (12/1432) ، ووفيات الأعيان (3/254) ، والنجوم الزاهرة (5/361) وللشيخ عدى عقيدة مطبوعة سار فيها على مذهب ومنهج الأشاعرة، انظرها (ص: 12) وما بعدها.(1/267)
ج-- الشمول في بيان العقيدة، وبيان جميع أمورها، سواء منها ما يتعلق بالإيمان بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته، أو الايمان بالرسالة وبقية أركان الأيمان من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر والقدر خيره وشره، أو ما يتعلق بالإيمان وما يشمله من القول والاعتقاد والعمل، أو ما يتعلق بالموقف من الصحابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 000 (1) .
2- التركيز على اكبر المسائل وأهمها وهو توحيد الألوهية، والبعد عن الشرك بجميع أنواعه، وربطه ذلك بشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله، فهاتان الشهادتان هما أصل دين الإسلام، يقول:" فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه فإنه أصل الإسلام الذى يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة، شهادة أن لا إله إلا الله رأن محمدا رسول الله، وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين، أو أحدهما، مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد، والعلم والمعرفة، فإقرار المشرك بأن الله رب كل شىء ومليكه وخالقه، لا ينجيه من عذاب الله، إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فلابد من الكلام على هذين الأصلين: الأصل الأول: توحيد الإلهية ... الأصل الثاني: حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (2) .
ودائما ما يركز على أنواع العبادة التي لا يجوز صرف شيء منها إلا لله تعالى، وخاصة أصول العبادة التي تحرك القلوب إلى الله تعالى وهي: المحبة والخوف والرجاء، يقول شيخ الإسلام: " ولابد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل، فتعتصم به، فتقل آفاتها وتذهب عنها بالكلية بحول الله وقوته فنقول: اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء، وأقواها المحبة، وهي مقصودة تراد لذاتها لأنها تراد في الدنيا والآخرة،
_________
(1) انظر لما سبق " الواسطية.
(2) التدمرية، مجموع الفتاوى (3/ 104-109) .(1/268)
بخلاف الخوف فإنهة يزول في الآخرة قال الله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [يونس: 62] ، والخوف المقصود منه الزجر والمنع من الخروج عن الطريق فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها
يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده، فهذا أصل عظيم يجب على كل عبد أن يتنبه له، فإنه لا تحصل له العبودية لدونه، وكل أحد يحب أن يكون عبدا لله لا لغيره " (1) .
3- بيان شروط قبول العمل: الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بأن لا يعبد إلا الله، وأن يعبد بما شرع رسوله وأمر لا بغير ذلك من البدع، وقد ركز على هذه القضية في جميع كتبه ودائما ما يعرج عليها لأنها من منطلقات العقيدة الأساسية (2) .
4- انتسابه إفى مذهب السلف لا إلى مذهب معين، يقول-رحمه الله- عن نفسه " مع أني في عمري إلى ساعتى هذه لم أدع أحدا قط في أصول الدين إفى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمها " (3) ، ويقول: " فدين المسلمين مبني على اتباع كناب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إل طريقته ويوالي عليها ويعادي، غير النبى - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع
_________
(1) مجموع الفتاوى (1/95) ، وانظر: الوجوه التسعة التى بين بها توحيد الألوهية، فهى عظيمة جدا، وتدل على منهج تأصيلى عظيم، قاعدة في توحيد الألوهية، مجموع الفتاوى (1/20-32) .
(2) انظر- على سبيل المثال-: رسالة العبودية، مجموع الفتاوى (10/ 172-174، 234) ، وبحموع الفتاوى (11/ 585، 28/ 177) ، والنبوات (ص: 126) ، وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 23 ا-25 1) ، و (ص: 138-58 1) ط المكتب الإسلامي، وجامع الرسائل " قاعدة في المحبة " (2/226) ، وتلخيص الاستغاثة (1/52. 75) ، والتدمرية، مجموع الفتاوى (3/124) .
(3) مجموع الفتاوى (3/229) .(1/269)
الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون ... " (1) ، ثم بين لماذا تحكى أقوال الأئمة وتنسب إلى أصحابها فقال:" والأقوال إذا حكيت عن قائلها أو نسبت الطوائف إلى متبوعها فإنما ذاك على سبيل التعريف والبيان، وأما المدح والذم والموالاة والمعاداة فعلى الأسماء المذكورة في القرآن العزيز كاسم المسلم والكافر، والمؤمن، والمنافق، والبر والفاجر، والصادق والكاذب، والمصلح والمفسد وأمثال ذلك، وكون القول صواباً أو خطأ يعرف بالأدلة الدالة على ذلك بالمعلومة بالعقل والسمع " (2) .
أما نسبة مذهب أهل السنة إلى الإمام أحمد فقد سبق- في التمهيد عند الحديث عن نشأة أهل السنة - أن نقلنا نصاً عن ابن تيمية يبين السبب في نسبته إلى الإمام احمد وأن مذهب السلف قديم قبل الأئمة الأربعة. ولكن لما امتحن فيه الإمام احمد نسب إليه، ويقول في نص آخر:" والاعتقاد إنما أضيف إلى الإمام أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع، وإلا فهو كتاب الله وسنة رسوله، حط أحمد منه كحظ غيره من السلف: معرفته والإيمان به، وتبليغه والذب عنه، كما قال بعض أكابر الشيوخ: الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة، والظهور لأحمد بن حنبل ... [ثم قال:] وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة، فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت، وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت ... " (3) ، ويقول أيضاً:" فإن احمد بن حنبل لم يبتدع من عنده شيئاً ولكن كان أعلم زمانه بما أنزل الله على رسوله، وما كان عليه الصحابة والتابعون، وكان اتبع الناس لذلك، وابتلي بالمخالفين من أهل الأهواء ومناظرتهم بالخطاب والكتاب والرد عليهم، فأظهر من علوم السلف ما هو متبع فيه كسائر الأئمة قبله، وما من قول يقوله إلا وقد قاله بلفظه أو بمعناه ما شاء الله قبله وفي زمانه، وعلى ذلك من الدلائل ما شاء الله،
_________
(1) درء التعارض (1/272)
(2) درء التعارض (1/273)
(3) نفس المصدر (5/ 5-6)(1/270)
فلهذا اتخذته الأمة إماماً، لأن الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] وكان الإمام أحمد-رحمه الله- تعالى - ممن آتاه الله الصبر واليقين بآيات الله ما استحق به الإمامة حتى اشتهر ذلك عند الخاصة والعامة، فصار لفظ الإمامة مقروناً باسمه أكثر وأشهر مما يقترن باسم غيره" (1) ، وابن تيمية وهو يقول هذا الكلام كان يتهم بأنه حنبلي وأنه يسير على اعتقاد الحنابلة الذين كثيراً ما يتهمهم أعداؤهم بأنهم مجسمة مشبهة، وقد أجاب ابن تيمية عن هذا بأن اتباع الإمام أحمد من الحنابلة أقل انحرافاً من غيرهم، وما فيهم من انحراف ففي غيرهم ما هو أشد منه، ثم تبين أن الحنابلة منهم من كان على مذهب الإمام أحمد وأهل السنة، لكن أيضاً من كان يميل إلى التفويض، أو مذهب الأشاعرة، أو مذهب المعتزلة فهم كغيرهم من الطوائف، وانتسابهم إلى الإمام أحمد لا يكفي لأن يكونوا على وفق مذهب السلف ما لم تكن أقوالهم كذلك (2) .
5- التركيز على بيان وسطية مذهب السلف، وكثراً ما يبنيها على وسطية أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بخصائص ميزه الله بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجاً، أفضل شرعة وأكمل منهاج مبين، كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطاً عدلاً خياراً، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام ... [ثم ذكر أمثلة ثم قال:] "وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل: فهم وسط في باب صفات الله عز وجل، بين أهل الجحد والتعطيل، وبين أهل التشبيه والتمثيل.. وهم وسط في باب أفعال الله عز وجل بين المعتزلة المكذبين بالقدر،
_________
(1) نقض أساس التقديس- المخطوط (3/98) ، وانظر في نفس الموضوع نقض أساس التقديس المطبوع (2/91) ، ومجموع الفتاوى (6/ 214-215) .
(2) انظر: درء التعارض (10/257-258) ، ونقض أساس التقديس المطبوع (2/90-92) .(1/271)
والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله، والمعارضين بالقدر أمر الله ونهيه وثوابه وعقابه، وفي باب الوعد والوعيد: بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار، وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد وما فضل الله به الأبرار على الفجار، وهم وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الغالي في بعضهم الذي يقول فيه بألهية أو نبوة أو عصمة، والجافي فيهم، الذي يكفر بعضهم أو يفسقه وهم خيار الأمة" (1) ، وبين أن كل طائفة من الطوائف من غير أهل السنة لا ينفردون بحق، بل كل من كان معه شيء من الحق ففي أهل السنة والجماعة من يقول به (2) .
6- وعند الحاجة إلى ذكر أقوال المخالفين، فلا بد من المذهب الصحيح المستنبط من الكتاب والسنة، أولاً، وذكر أقوال المخالفين في ضمن ذلك، يقول في مقدمة كتاب "الإيمان":" ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع ما يستفاد من كلام الله تعالى، فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله، فإن هذا هو المقصود، فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء، بل نذكر من ذلك - في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله - ما يبين أن رد موارد النزاع إلى الله وإلى رسوله خير وأحسن تأويلاً، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة" (3) .
وقد طبق هذا المنهج في كتابه هذا.
ب- منهجه في الأسماء والصفات:
لما كانت هذه المسألة من أعظم المسائل التي خاض فيها الناس واضطربت فيها أقوالهم، خاصة وأنها تتعلق بالله تعالى وما ينبغي له من صفات الكمال
_________
(1) الجواب الصحيح (1/806) ، وانظر: أيضاً (1/230-235) ، وأيضاً (1/292-293) ، وأيضاً (2/52-53) .
(2) انظر: منهاج السنة (3/44) ، وانظر في بيان وسطية أهل السنة: الواسطية- مجموع الفتاوى (3/141) ، والوصية الكبرى-مجموع الفتاوى (3/373-375) .
(3) الإيمان (ص:1) .(1/272)
وما ينبغي أن ينزه عنه من صفات النقص، فقد حرص شيخ الإسلام ابن تيمية من خلال مناقشاته أن يؤصل أصولاً ينطلق منها المسلم في بحث هذا الموضوع الخطير، لأن الخطأ والزلل فيه ليس كغيره من المسائل، وكان يركز في دروسه على مثل هذه الأصول حتى أن بعض تلاميذه طلبوا منه أن يكتب لهم هذه القواعد لشعورهم بأهميتها وحاجاتهم إليها، فكتب الرسالة التدمرية، التي تعتبر خلاصة متينة وقوية لما قرره ابن تيمية في كتبه المطولة الأخرى: ويمكن أن نلخص منهجه في هذا الباب بما يلي:
1- إن الأصل في باب الأسماء والصفات أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومعناه أن يقتصر على ما جاء به الكتاب والسنة فهما المصدران الأساسان في هذا الأمر المتعلق بذات الله تعالى وما له من صفات الجلال والكمال، يقول شيخ الإسلام:" وأصل دين المسلمين أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتبه وبما وصفه به رسله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكيف ولا تمثيل، بل يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، ويتبعون في ذلك أقوال رسله، ويجتنبون ما خالف أقوال الرسل كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180] أي عما يصفه الكفار المخالفون للرسل {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181] لسلامة ما قالوه من النقص والعيب {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:182] ، فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال، ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال، ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال، وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه التمثيل" (1) .
والسلف - رحمهم الله تعالى - ساروا على هذا الأصل، فجاء مذهبهم في الأسماء والصفات مبنياً على إثبات ما أثبته الله ورسوله، ونفي ما نفاه الله ورسوله، ويركز شيخ الإسلام كثيراً على منهجهم هذا، ولذلك ذكر منهجه
_________
(1) الجواب الصحيح (3/139-140) .(1/273)
في نقل كلامهم وطبقه في كتبه، يقول:" فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين:
أحدهما: أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم، ومن روي ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة.
والثاني: أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الأربعة، ومن أهل الحديث، والتصوف وأهل الكلام كالأشعري وغيره.
فصار مذهب السلف منقولاً بإجماع الطوائف وبالتواتر، لم نثبته بمجرد دعوى الإصابة لنا والخطأ لمخالفنا كما يفعل أهل البدع (1) ، ويقول عن السلف: " فقولهم في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله تعالى منزه عن صفات النقص مطلقاً كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات" (2) ، بل إن شيخ الإسلام استقصى أقوال السلف فلم يجد ما يخالف ما ذكره عنهم يقول" والله تعالى يعلم أني قد بالغت في البحث عن مذاهب السلف فما علمت أحداً منهم خالف ذلك" (3) ، ومواضع نقله لمذهب السلف إجمالاً أو تفصيلاً منتشر في كتبه ورسائله رحمه الله (4) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (4/152) ، والمتتبع لكتب ابن تيمية كالحموية، ودرء تعارض العقل والنقل، وغيرهما يرى تطبيقه امنهجه هذا واضحاً.
(2) منهاج السنة: تحقيق - رشاد سالم - (2/427) .
(3) التسعيني (ص:126) .
(4) انظر: مجموع الفتاوى (6/515، 4/2-8، 3/3-4) ،" التدمرية" أيضاً (11/479-480) ، الحموية مجموع الفتاوى (5/26-27،45) ، الواسطية، مجموع الفتاوى (3/129-130) ، ومجموع الفتاوى (5/195،263، 12/574-575) ، ومنهاج السنة: المحققة (2/80) ، ونقض المنطق (ص:2-7) ، وشرح الأصفهانية (ص:9) وغيرها.(1/274)
2- إن الرسل جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل، فأثبتوا لله صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه صفات النقص على وجه الإجمال، على الضد من أهل البدع، وقد أوضح ابن تيمية هذه المسألة - في مناسبات عديدة - يقول -رحمه الله- "والرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل، وهؤلاء ناقضوهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، بأن الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه حكيم عزيز، غفور ودود، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليماً، وتجلى للجبل فجعله دكا، وأنه أنزل على عبده الكتاب، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، وقال في النفي والتنزيه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ،
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] ، وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا ولا كذا ولا كذا فلا يقرب من شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يشار إليه ولا يتعين ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه، ولا داخله ولا خارجه، إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم، ثم قالوا في الإثبات: هو وجود مطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية، وقالوا: لا تقول موجود ولا معدوم ... " (1) . ويقول:" مما يبين أن طريقة أتباع الأنبياء من أهل السنة هي الموصلة إلى الحق دون طريقة من خالفهم من الفلاسفة والمتكلمين: إن المقصود هو العلم، وطريقه هو الدليل، والأنبياء جاءوا بالإثبات المفصل والنفي المجمل، كإثبات الصفات لله مفصلة ونفي الكفؤ عنه، والفلاسفة يجيئون بالنفي المفصل: ليس بكذا ولا كذا، فإذا جاء الإثبات أثبتوا وجوداً مجملاً واضطربوا في أول مقامات ثبوته ... " (2) . وهذه هي القاعدة العامة الغالبة، وإلا فقد يرد في النصوص الإثبات المجمل والنفي المفصل، كنفي الصاحبة والولد - كما سيأتي في الفقرة التالية.
_________
(1) الصفدية (1/116-117) .
(2) مجموع الفتاوى (6/66) ، وانظر (ص36-37، 66-67،115) ، وانظر: التدمرية =(1/275)
3- إن النفي الذي وصف الله تعالى به، هو ما تضمن إثبات كمال الله تعالى، وهو النفي غير المحض، أما النفي المحض - الذي لا يتضمن إثباتاً - فلم يوصف الله تعالى به، يقول شيخ الإسلام في معرض رده على نفاة الرؤية في احتجاجهم بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] :" ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى، ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح، لأن النفي المحض لا يكون مدحاً إن لم يتضمن أمراً ثبوتياً، لأن المعدوم أيضاً لا يرى، والمعدوم لا يمدح، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه، وهذا أصل مستمر، وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتاً لا مدح فيه ولا كمال، فلا يمدح الرب نفسه به، ولا يصف نفسه به، وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت كقوله {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وقوله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} وقوله {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} وقوله {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] وقوله {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض} [سبأ:3] وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38] ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه، وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية، مثل كمال حياته وقيوميته، وملكه وقدرته وعلمه وهدايته، وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك، وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدماً محضاً، ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه: إنه لا يرى، فعلم أن نفي الرؤية عدم محض، ولا يقال في العدم المحض: لا يدرك، وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه" (1) ،
ويقول في الرد على النفاة القائلين برفع النقيضين، الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك: " ومما يبين هذا أن الصفات السلبية ليس فيها بنفسها مدح، ولا توجب كمالاً
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/35) ، وأيضاً (20/111-112) ، والنبوات (ص225) ، ودرء التعارض (5/163-164، 6/348) ، والتسعينية (ص13) ، واقتضاء الصراط المستقيم (2/853) ، ونقض أساس التقديس المخطوط (1/121-122) .
(1) منهاج السنة: المحققة (2/244-245) .(1/276)
للموصوف، إلا أن تضمن أمراً وجودياً كوصفه سبحانه بإنه لا تأخذه سنة ولا نوم، فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38] متضمن كمال قدرته، وقوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض} [سبأ:3] يقتضي كمال علمه، وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يقتضي عظمته بحيث لا تحيط به الأبصار، وكذلك نفي المثل والكفؤ عنه يقتضي أن كل ما سواه فإنه عبد مملوك لهن وذلك يقتضي من كماله مالا يحصل إذا كان له نظير مستغن عنه مشارك له في الصنع، فإن ذلك نقص في الصانع، فأما العدم المحض، والنفي الصرف، مثل كونه لا يمكن رؤيته بحال، وكونه لا مبايناً للعالم ولا مداخلاً له، فإن هذا أمر يوصف به المعدوم، والمعدوم المحض لا يتصف بصفة كمال ولا مدح ولهذا كان تنزيه الله تعالى بقوله" سبحان الله" يتضمن مع نفي صفات النقص عنه إثبات ما يلزم ذلك من عظمته، فكان التسبيح تعظيم له مع تبرئته من السوء" (1) ويوضح هذا في التدمرية في القاعدة الأولى فيقول:" وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا ككمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال ... [ثم ذكر أمثلة، ثم قال:] ...
فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محمودا، بل ولا موجودا، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: إنه لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايث له؛ إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست مستلزمة صفة الثبوت" (2) .
_________
(1) درء التعارض (6/176-177) .
(2) التدمرية: تحقيق السعوي (ص57-60)(1/277)
وهكذا يتضح الفرق بين منهج أهل البدع في النفي الذي يصفون الله به، وبين منهج القرآن في النفي، فنفي أهل البدع يتضمن نقصاً لأنهم يسلبون عنه صفات المدح والوجود، والنفي الوارد إنما يتضمن إثبات كمال ضد المنفي وهو صفات الكمال لله تعالى (1) .
4- إن ما لم يرد في النصوص إثباته ولا نفيه فيجب التوقف فيه، والاستفصال عنه، وعن معناه، فإن كان المراد به حقاً موافقاً للنصوص ولا يعارضها قبل، وإلا رد، يقول شيخ الإسلام:" كل لفظ أحدثه الناس فأثبته قوم ونفاه آخرون فليس علينا أن نطلق إثباته ولا نفيه حتى نفهم مراد المتكلم، فإن كان مراده حقاً موافقاً لما جاءت به الرسل والكتاب والسنة من نفي أو إثبات قلنا به، وإن كان باطلاً مخالفاً لما جاء به الكتاب والسنة من نفي أو إثبات منعنا القول به" (2) ، ويقسم الألفاظ - إلى نوعين فيقول:" ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان: نوع جاء به الكتاب والسنة، فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله، وينفي ما نفاه الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق، فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته، وينفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر، ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان وقد قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة، ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به،
_________
(1) انظر: في هذه المسألة أيضاً: درء التعارض (10/291) ، والجواب الصحيح (2/105) ، ونقض التأسيس المطبوع (2/97) ، ومجموع الفتاوى (16/99) ، وجواب أهل العلم والإيمان، ومجموع الفتاوى (17/144) .
(2) مجموع الفتاوى (6/36-37) .(1/278)
وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره، ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها، أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة" (1) ، ويوضح في موضع آخر فيقول:" وبالجملة بمعلوم أن الألفاظ نوعان: نوع ورد في الكتاب والسنة أو الإجماع، فهذا اللفظ يجب القول بموجبه سواء فهمنا معناه أو لم نفهمه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقاً والأمة لا تجتمع على ضلالة، والثاني: لفظ لم يرد به دليل شرعي، كهذه الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام والفلسفة، هذا يقول: هو متحيز، وهذا يقول: ليس بمتحيز، وهذا يقول: هو في جهة، هذا يقول: ليس هو في جهة، وهذا يقول: هو جسم أو جوهر، وهذا يقول: ليس بجسم ولا جوهر، فهذه الألفاظ ليس على أحد أن يقول فيها بنفي ولا إثبات حتى يستفسر المتكلم بذلك، فإن بين أنه أثبت حقاً أثبته، وإن أثبت باطلاً رده، وإن نفى باطلا نفاه، وإن نفى حقا لم ينفع، وكثير من هؤلاء يجمعون في هذه الأسماء بين الحق والباطل في النفي والإثبات" (2) ،
والألفاظ المجملة كثيرة جداً، منها لفظ" الحلول" (3) ، والتركيب (4) ، والافتقار (5) ،
_________
(1) مسألة الأحرف، مجموع الفتاوى (12/113-114) .
(2) في النصوص السابقة مثل ابن تيمية للألفاظ المجملة ب-" الجهة، والتحيز، والتجسيم"، وانظر: التدمرية (ص65-68) المحققة، ومجموع الفتاوى (6/38-40، 7/663) ، والجواب الصحيح (3/84) ..
(3) أي ما يتوهم أن فيه حلولا مثل قول أبي بن كعب في قوله (مثل نوره) "النور35" قال: مثل نوره في قلب المؤمن " تفسير الطبري" (18/136) حلبية، وحديث" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " رواه الترمذي - في التفسير - سورة الحجر ورقمه (3127) ، وقال غريب، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، كما ضعفه محقق جامع الأصول (1/206) ، فالنصارى غلوا في " الحلول "، وقابلهم آخرون فأنكروا هذا الاسم بجميع ما فيه وكلا الأمرين باطل، انظر: الجواب الصحيح (1/87،117-118)
(4) لأن من شبه نفاة الصفات قولهم يلزم من إثباتها لله التركيب، انظر: الرد على المنطقيين (ص222-229) ونصوص ابن تيمية في ذلك كثيرة جداً.
(5) مثل قول النفاة: إن المركب مفتقر إلى أجزائه، وينفون الصفات لذلك، انظر: منهاج السنة - المحققة -
(2/434-435) ، ونقض أساس التقديس المطبوع (2/132) .(1/279)
و" المناسبة " (1) ، و" الغير " (2) ، ولفظ" ذات" (3) ، و"الجزء" (4) ، وغيرها.
5- عدم العلم بالكيفية والبعد عن التشبيه، فالصفات تثبت لله تعالى لورود النصوص بها، والله تعالى أراد أن يعرفنا بنفسه وبما له من صفات الجلال والكمال، فنحن نثبت ما ورد ونفهم المعاني، ولكن كيفية هذه الصفات لا يعلمها إلا الله تعالى، فلا يجوز أن نكيفها، كما أنه لا يجوز أن نشبهها بصفات أحد من الخلق، ولذلك يذكر شيخ الإسلام - وغيره من السلف - مع الإثبات ما يقيده أنه إثبات بلا تكييف ولا تمثيل، فكما أنه يجب الإثبات مع عدم التعطيل أو التأويل أو التحريف، فكذلك أيضاً لا يجوز أن يؤدي نفي هذه الأمور إلى الطرف المقابل من التكييف أو التمثيل، وهذا مبني على قاعدة وهي أنه كما أن لله ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين، يقول شيخ الإسلام:" وحدث مع الجهمية قوم شبهوا الله تعالى بخلقه فجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين، فأنكر السلف والأئمة على الجهمية المعطلة، وعلى المشبهة الممثلة" (5) ، وقد حرص السلف على البعد عن التشبيه كحرصهم على البعد عن التعطيل، والشيطان يأتي الإنسان من جهة التشبيه والتمثيل فإذا عجز عنه أتاه من جهة التعطيل، نقل شيخ الإسلام عن عمرو بن عثمان المكي (6) أنه قال:
_________
(1) قال نفاة صفة "المحبة" إنها مناسبة بين المحب والمحبوب، ومناسبة الرب للخلق نقص، انظر الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/69،114-115) .
(2) مثل مسألة: هل الاسم هو المسمى أو غيره؟، أو هل الكلام هو المتكلم أو غيره؟ أو هل الصفة هي الموصوف أو غيره؟ انظر: الجواب الصحيح (2/154) ، ومجموع الفتاوى (12/560) ، ونقض أساس التقديس المطبوع (2/129-132) .
(3) هل يطلق لفظ "ذات" على النفس، أم لم ترد إلا مضافة فيقال ذات علم وقدرة، ثم هل الذات تكون من غير أن تقوم بها صفات؟ انظر: الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/98-99) ، وأيضاً (6/341-342) ، ودرء التعارض (4/140، 10/157) .
(4) ومثله البعض، لأن نفاة الصفات يقولون: إن مثبتة الصفات التزموا القول بالأجزاء والأبعاض إذا أثبتوا اليدين والوجه والقدم وغيرها، انظر: نقض أساس التقديس المطبوع (1/47، 49-52) .
(5) مجموع الفتاوى (6/35) .
(6) هو: عمرو بن عثمان بن كرب بن غصص أبو عبد الله المكي، أحد المشايخ الصوفية توفي سنة 297هـ، وقيل غير ذلك، انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص200) ، وحلية الأولياء (10/291) ، وتاريخ بغداد (12/223) ، والعقد الثمين (6/410-411) ترجم له مرتين.(1/280)
"اعلم رحمك الله أن كل ما توهمه قلبك أو سنح في مجاري فكرك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء أو ضياء أو إشراق أو جمال، أو شبح ماثل (1) أو شخص متمثل، فالله تعالى بغير ذلك، بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أو لم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته، وشامخ سلطانه؟ كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك، فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفؤ، فإن اعتصمت بها وامتنعت منه [أي الشيطان] أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب تعالى وتقدس؛ في كتابه وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال لك: إذا كان موصوفاً بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه لأنه اللعين غنما يريد أن يستزلك ويغويك ويدخلك في صفات الملحدين الزائفين الجاحدين لصفة الرب تعالى " (2) ، وعندما يذكر شيخ الإسلام جمل أقوال الطوائف في الصفات يذكر المشبهة مع المنحرفين يقول:" أما باب الصفات والتوحيد، فالنفي فيه في الجملة قول الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم من الجهمية.... والإثبات في الجملة مذهب الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وأهل الحديث وجمهور الصوفية والحنبلية والمالكية والشافعية إلا الشاذ منهم وكثير من الحنفية أو أكثرهم وهو قول السلفية (3) ،
لكن الزيادة في الإثبات إلى حد التشبيه هو قول الغالية من الرافضة، ومن جهال أهل الحديث وبعض المنحرفين، وبين نفي الجهمية وإثبات المشبهة مراتب" (4) .
_________
(1) في الأصل: أو سنح مسائل والتصويب من حلية الأولياء (10/291) .
(2) مجموع الفتاوى (5/62-63) وهذا النص نقله ابن تيمية من كتابه " التعرف بأحوال العباد والمتعبدين " وأورد مترجموه كلاما قريبا من هذا أجاب به سائلا، انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص202) وتاريخ بغداد (12/224) وحلية الأولياء (10/291) والعقد الثمين (6/412) .
(3) كذا ولعل الصواب " السالمية "..
(4) مجموع الفتاوى (6/51) .(1/281)
6- قاعدة "الكمال" أو ما يسميه أحيانا "قياس الأولى"، وقد شرح ذلك في مناسبات مختلفة، لكنه أفرد لذلك رسالة عظيمة نافعة، أجاب فيها على سؤال ورد عليه، وصيغة السؤال الطويل - الذي ورد في ثلاث صفحات - تدل على أن صاحبه من العلماء أو من طلبة العلم ممن ليس مبتدئا في هذا الشأن. وقد جاء جواب شيخ الإسلام واضحا ومقعدا، يقول -رحمه الله-: الجواب عن هذا السؤال مبني على مقدمتين:
إحداهما: أن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه، فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وغن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك، ودلالة القرآن على الأمور نوعان: أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به، والثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب، فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية لأن الشرع دل عليها، وأرشدنا إليها، وعقلية: لأنها تعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر، وإذا أخبر الله بالشيء ودل عليه بالدلالات العقلية صار مدلولا عليه بخبره، ومدلولا عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتا بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى "الدلالة الشرعية"، وثبوت "معنى الكمال" قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد له، وتفصيل محامده، وإن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه ونحو ذلك دال على هذا المعنى" (1) ، ثم شرح ذلك وذكر الأدلة العقلية والشرعية عليه، فذكر لفظ "الكامل" وهل ورد - والخلاف حوله - وأدلة إثبات العقل للكمال لله من وجوه، والمثل الأعلى، وأدلة الشرع على ذلك، ودلالة إثبات أن الحمد لله "الحمد" وأنه "حميد مجيد" على ذلك (2) ، ثم قال:
_________
(1) الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/71-72) .
(2) انظر نفس الرسالة (6/72-84) .(1/282)
"أما المقدمة الثانية " فنقول: لابد من اعتبار أمرين:
أحدهما: أن يكون الكمال ممكن الوجود. الثاني: أن يكون سليما من النقص، فإن النقص ممتنع على الله (1) .ثم يجيب عن السؤال الذي يرد حول هذه القاعدة وهو: أن النقص والكمال من الأمور النسبية، فالأكل والشرب والنكاح كمال للمخلوق نقص للخالق والكبر والتعاظم والثناء على النفس نقص للمخلوق كمال للخالق، فيقول:" وأما الشرط الآخر وهو قولنا: الكمال الذي لا يتضمن نقصا - على التعبير بالعبارة السديدة - أو الكمال الذي لا يتضمن نقصا يمكن انتقاؤه - على عبارة من يجعل ما ليس بنقص نقصا -، فاحترز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقض بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصا، كالأكل والشرب مثلا، فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل والشرب، لأن قوامه بالأكل والشرب، فإذا قدر غير قابل له كان ناقصا عن القابل لهذا الكمال، لكن هذا يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره، وهو ما يدخل فيه الطعام والشراب، وهو مستلزم الخروج شيء منه كالفضلات، وما لا يحتاج إلى دخول شيء فيه أكمل مما يحتاج إلى دخول شيء فيه، وما يتوقف كماله على غيره أنقص مما لا يحتاج في كماله إلى غيره، فإن الغني عن الشيء أعلى من الغني به، والغني بنفسه أكمل من الغني بغيره، ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق وهو نقص بالنسبة إلى الخالق، وهو: كل ما كان مستلزما لامكان العدم عليه المنافي لوجوبه وقيوميته، أو مستلزما للحدوث المنافي لقدمه، أو مستلزما لفقره المنافي لغناه" (2) .
7- وهناك قواعد أخرى - في منهجه - نشير إليها هنا سترد إن شاء الله مفصلة في موقفه من الأشاعرة في الصفات. ومنها:
_________
(1) الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/85) .
(2) انظر نفس الرسالة (6/87)(1/283)
أ - القول في الصفات كالقول في الذات.
ب- القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
ج- الاشتراك في الاسم والصفة بين الله وخلق لا يقتضي التماثل.
د- حجية خبر للآحاد.
هـ- إثبات السلف للصفات ليس تفويضا للمعنى. وغيرها.
رابعا: منهجه في الرد على الخصوم:
واجه شيخ الإسلام خصوما كثيرين، ويجمعهم أنهم المخالفون لمذهب السلف ولذلك تنوعوا حسب الفرق والطوائف المشهورة، فإضافة إلى الأشاعرة كان هناك من هو أشد انحرافا منهم، ولذلك رد شيخ الإسلام على جميع الطوائف تقريبا، ابتداء بملاحدة الفلسفة والتصوف والباطنيين والرافضة إلى أصحاب المقالات المنحرفة في جانب أو جوانب العقيدة.
وكان منهجه في الرد عليهم يقوم على أساسين بارزين:
أحدهما: بيان حال الخصوم من أهل البدع والانحراف، وشرح مناهجهم وخلفياتهم لأن الحكم عليهم ونقض أقوالهم لابد أن يكون مبنيا على المعرفة بأحوالهم.
والثاني: رده عليهم، وكان له في ذلك منهج واضح، ولذا سنعرض لمنهجه في الرد على الخصوم من خلال هذين الأمرين:
أ - بيان حال الخصوم:
1- ينطلق شيخ الإسلام - في البداية - إلى وجوب بيان حال أهل البدع، وإن ذلك لا يعتبر من الغيبة، يقول في بيان ما يباح منها:" وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعمد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم، وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر من أمور الدين من المسائل العلمية والعملية فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب(1/284)
بيان أمره للناس فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق" (1) ، وفي موضع آخر يركز على أئمة أهل البدع ووجوب بيان حالهم وإن ذلك ليس بغيبة يقول:" ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فغنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل، فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء" (2) .
ولقد كان إحساس شيخ الإسلام بهذا الواجب عظيما، فقضى جزءا كبيرا من عمره في مجاهدة أصحاب البدع علما وعملا.
2- كشف أسباب نشأة الفرق والبدع، وهذا ضروري للرد عليها لأن كشف الأسباب التي أدت إلى قيامها يهيئ الأمر ليصبح الرد عليها مبنيا على منهج سليم، والطبيب المعالج لا ينبغي له أن يكتفي بمكافحة المرض فقط وإنما يبحث عن أسبابه لأن معرفتها قد تعين في التشخيص ومن ثم في العلاج، وقد يبين أن علاج المرض بمنع أسبابه، وهكذا أمراض القلوب والعقول.
أ- فشيخ الإسلام في البداية يشير إلى أن الاختلاف من لوازم النشأة الإنسانية لأن الشهوات والشبهات لازمة للنوع الإنساني، لذلك فالاختلاف والتفرق لا بد أن يوجد (3) .
_________
(1) منهاج السنة (3/36) مكتبة الرياض الحديثة.
(2) مجموع الفتاوى (28/231-232) .
(3) انظر: نقض أساس التقديس - المخطوط (2/319) .(1/285)
ب- وكثيرا ما يشير إلى الأسباب الخارجية لنشوء الفرق، ويركز على أثر الفلسفة التي انتشرت في العالم الإسلامي في عهد المأمون ومن جاء بعده (1) . ويخص الترجمة - التي قد تكون دقيقة أو غير دقيقة - يكون من الأسباب المهمة (2) .
ج- أما حين يتحدث عن الأسباب الداخلية - التي نشأت من الداخل مثل الاختلاف في فهم النصوص، أو الاستدلال بأدلة عند الآخرين، فيعرض لها مفصلة، فيتكلم عن أسباب الانحراف عن طريق الأنبياء من اليهود والنصارى والمسلمين، يقول في معرض رده على النصارى:" إن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات (3) وغيرها فهو حجة عليهم لا لهم، وهكذا شأن جميع أهل الضلال، إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم، وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما نطق به أنبياؤه، فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب، لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله: إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه يفهموه. وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض، مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزله الله دون بعض فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به كما قال تعالى عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] . وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم.
_________
(1) انظر: نقض أساس التقديس - المطبوع (1/323-324، 374-375) .
(2) انظر: درء التعارض (1/299) .
(3) مثل احتجاجهم بقوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} [المائدة:110] قالوا: سماه الله خالقا، وقد رد عليهم شيخ الإسلام بعد هذا النص الذي نقلناه من عشرة أوجه، الجواب الصحيح (2/288-293) .(1/286)
ومن جهة: ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة، وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده، وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ يجعل كلامه متناقضا، ويترك كلامه على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه، فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم" (1) . فهذه أسباب أربعة بين فيها كيف يضل الضالون عن طريق أنبيائهم، ويجمعها التفريط في اتباع ما جاء به الرسول، يقول شيخ الإسلام:" لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا" (2) .
وفي موضع آخر يذكر أسباب الانحراف والضلال لطوائف خاصة فيقول:" ومما ينبغي أن يعلم أنى سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية كغالية العباد والشيعة وغيرهم ثلاثة أشياء:
أحدها: ألفاظ متشابهة، مجملة، منقولة عن الأنبياء، تمسكوا بها وعدلوا الصريحة المحكمة بها، وهم كلما سمعوا لفظا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لم يكن دليلا على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها وإما أن يتأولوها ... ".
_________
(1) الجواب الصحيح (2/287-288) .
(2) مجموع الفتاوى (3/314) .(1/287)
والثاني: خوارق ظنوها من الآيات وهي من أحوال الشياطين، وهذا مما ضل به كثير من الضلال المشركين وغيرهم، ممثل دخول الشياطين في الأصنام وتكليمهم للناس، ومثل إخبار الشياطين للكهان بأمور غائبة، لابد لهم مع ذلك من كذب، ومثل تصرفات تقع من الشياطين.
والثالث: أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقا وهي كذب ... (1)
وكثيرا ما يركز على منشأ البدع واختلاط الحق بالباطل فيها" فإن البدعة لو كان باطلا محضا لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقا محضا لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقا محضا لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل" (2) ، وبعد ما يبين شيخ الإسلام لبس الحق بالباطل وكيف يكون (3) يقول:" والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات، وحقائق وغير ذلك، لا بد أن تشتمل (4) على لبس حق بباطل وكتمان، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك" (5)
ومن أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم - كما يرى شيخ الإسلام -" قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين، فإنهم يناظرونهم ويحاجونهم بغير الحق والعدل لينصروا الإسلام - زعموا - بذلك، فيسقط عليهم أولئك لما فيهم من الجهل والظلم ويحاجونهم بممانعات ومعارضات، فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول، والظلم والعدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر عليهم أولئك المشركون، فصار مشتملا على إيمان وكفر،
_________
(1) الجواب الصحيح (1/316-317) .
(2) درء التعارض (1/209) .
(3) انظر المصدر السابق (1/209-220) .
(4) في الأصل: تشمل، والتصويب من طبعة محيى الدين عبد الحميد، والفقي (1/132) .
(5) درء التعارض (1/221) .(1/288)
وهدى وضلال، ورشد وغي، وجمع النقيضين، وصاروا مخالفين للكفار والمؤمنين كالذين يقاتلون الكفار والمؤمنين " (1) ، ويمثل حالهم بحال بعض ملوك النواحي والأطراف في عصره الذين استزلهم الشيطان فأصبحوا" يقاتلون العدو قتالا مشتملا على معصية الله من الغدر والمثلة والغلول والعدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم المؤمنين" (2) ، ثم يطبق على مثال من التاريخ الكلامي (3) .
ومن أسباب الانحراف عدم فهم كلام العلماء، وتفريع المسائل على مسألة معينة قد يكون العالم تكلم فيها بكلمة زل فيها، أو قصد الرد على طائفة معينة، فحملت على محامل أخرى لم يقصدها، ويذكر لذلك أمثلة عديدة (4) .
3- المعرفة التاريخية بنشوء الفرق، وتاريخها، والتسلسل التاريخي لظهور البدع، والمدن التي انتشرت فيها، وهذه المعرفة تفيد في بيان أول البدع ظهورا، وأثر البدع السابقة في ظهور البدع اللاحقة، كما أنها تعين على فهم الخلفيات التاريخية والعقدية لظهورها.
وكثيرا ما يقرن شيخ الإسلام بين الأحداث التاريخية والبدع التي صاحبتها، والشواهد على ذلك من كتابات شيخ الإسلام كثيرة، ففي إحدى رسائله يتحدث بشكل موسع عن ظهور البدع، وتاريخها، فيذكر أنه في آخر خلافة علي - رضي الله عنه - ظهرت بدعة الخوارج والرافضة لأنها متعلقة بالإمامة والخلافة، ثم حدثت فتنة أهل الحرة، وقصة ابن الزبير بمكة، وظهور المختار بن أبي عبيد بالعراق، وذلك في أواخر عهد الصحابة فحدثت بدعة القدرية والمرجئة، وتكلموا في مسائل القدر ومسائل الإيمان والوعد والوعيد، أما نفي الصفات فلم يحدث
_________
(1) التسعينية (ص32) .
(2) المصدر السابق (ص32) .
(3) وهي قصة الجهم بن صفوان لما ناظر نفرا من "السمنية" الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس، وحين احتجوا على الجهم في إنكار وجود الله لأنه غير محسوس، أجابهم بأن الروح نقر بوجودها وإن كنا لا نراها، فأدى هذا بالجهم إلى نفي صفات الله، وأنه يمكن نفي جميع الصفات عنه مع الإقرار بوجوده. انظر التسعينية (ص32-38) .
(4) انظر: مجموع الفتاوى (8/422-428) .(1/289)
إلا في أواخر عصر صغار التابعين، وذلك في أواخر عهد الدولة الأموية، وبداية الدولة العباسية، وكيف أنه لما تولى الأعاجم، وعربت الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم، حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوف. وحدث التجهم ونفي الصفات، وبإزائه التمثيل، وكان جمهور الرأي في الكوفة، وجمهور الكلام والتصوف في البصرة، ويذكر أول دويرة بنيت للصوفية في البصرة. وهكذا - بهذا الأسلوب - يستمر في عرض أحوال البلاد الإسلامية وانتشار البدع فيها (1) . والمعرفة التاريخية أوصلت شيخ الإسلام إلى استنتاجات وتحليلات مهمة، فمثلا: أحاديث السفر لزيارة القبور والمشاهد أول من أحدثها أهل البدع من الروافض (2) ، ونسبة رسائل إخوان الصفا إلى جعفر الصادق ليست صحيحة، ويرى أنها صنفت بعد المئة الثالثة (3) ، وأحيانا ينقد متون بعض الروايات التاريخية من خلال الاستقراء والمعرفة بالتاريخ (4) .
4- معرفته بأحوال الخصوم، مذاهبهم وعقائدهم، وأدلتهم، وكتبهم، وهذا غير ما سبق من معرفته بتاريخ نشوء الفرق، أو أسباب نشوئها، وقد كان شيخ الإسلام في معرفته بأحوال الخصوم واثقا من نفسه حتى قال في إحدى مناقشاته ومناظراته لهم:" كل من خالفني في شيء مما كتبته، فأنا أعلم بمذهبه منه" (5) ، وقال عن نفسه:" وقلت في ضمن كلامي: أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها ومتا كان سبب ابتداعها" (6) .
_________
(1) انظر لما سبق مجموع الفتاوى (10/356-372) ، وانظر أيضا: منهاج السنة (1/218-227) ، تحقيق: رشاد سالم، والنبوات (ص193-198) .
(2) انظر: الرد على الأخنائي (ص32) ط السلفية.
(3) انظر: منهاج السنة (2/370) . تحقيق: رشاد سالم، وأيضا (2/154) ، مكتبة الرياض الحديثة، والتسعينية (ص59) .
(4) انظر: درء التعارض (7/254-257) .
(5) الواسطية - مجموع الفتاوى (3/163) .
(6) نفس المصدر (3/184) .(1/290)
وبلغ من معرفته بأحوال الخصوم أن قال عن "الاتحادية" ":" ولهذا لما بينت لطوائف من اتباعهم ورؤسائهم قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون ... " (1) .ولما عرض لمسألة: أفعال العباد، وهل هي قديمة قال:" ولم يقل قط أحد لا من أصحاب أحمد المعروفين، ولا من غيرهم من العلماء المعروفين: إن أفعال العباد قديمة، وإنما رأيت هذا [قولا] لبعض المتأخرين بأرض العجم وأرض مصر من المنتسبين إلى مذهب الشافعي وأحمد فرأيت بعض المصريين يقولون: إن أفعال العباد من خير وشر قديمة، ويقولون: ليس مرادنا بالأفعال نفس الحركات ولكن الثواب الذي يكون عليها" (2) . وكثيرا ما يمحص الأقوال التي تنسب إلى الخوارج (3) ، أو بعض طوائف النصارى (4) ، بل قال عن الزبور:" وقد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - باسمه ورأيت نسخة أخرى "من الزبور" (5) ، فلم أر ذلك فيها، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس في أخرى" (6) . ومن علمه بحال الخصوم معرفته بالبلدان التي يكثر فيها الكفر والشرك والأحوال الشيطانية والتي يقل فيها ذلك (7) .
_________
(1) حقيقة مذهب الاتحاديين، مجموع الفتاوى (2/138) ، وانظر: قصته في الإسكندرية لما جاء أحد فضلائهم وطلب منه أن يشرح له مذهبهم، فشرحه، النبوات (ص120) ، دار الكتب العلمية.
(2) مجموع الفتاوى (8/408) .
(3) انظر: الصارم المسلول (ص184-185) .
(4) انظر: مناقشته للطبري وغيره حول طوائف النصارى وعقائدهم في الجواب الصحيح (1/170-171) .
(5) في الأصل: بالزبور، ولعل الصواب ما ذكرته.
(6) الجواب الصحيح (2/27) .
(7) انظر: تلخيص الاستغاثة (1/49-50) .(1/291)
5- بيانه لمنهج أهل البدع والكلام، المخالف لمنهج السلف - رحمهم الله تعالى - ولا شك أن بيان منهج الباطل يعين على معرفة منهج أهل الحق، ولذلك أشار في الوصية الكبرى إلى جوامع من أصول أهل الباطل فقال:" وأنا أذكر جوامع من أصول الباطل التي ابتدعها طوائف ممن ينتسب إلى السنة وقد مرق منها وصار من أكابر الظالمين، وهي فصول: الفصل الأول: أحاديث رووها في الصفات زائدة على الأحاديث التي في دواوين الإسلام مما نعلم باليقين القاطع أنها كذب وبهتان، بل كفر شنيع ... فصل: وكذلك الغلو في بعض المشايخ ... فصل: وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله ... " (1) ، ويقول عن أهل البدع: إنهم على عكس منهج الرسل، فالرسل" يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه، ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما هو أقوى وأنفع، وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل، ويذكرون من ذلك ما أضعف وأضر، فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى، ومتبع هؤلاء ضال شقي ... " (2) . ومن منهج أهل الباطل أنهم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، وهؤلاء أصناف (3) .
ويذكر شيخ الإسلام أن من منهج أهل الباطل التلبيس على أتباعهم والتدرج بهم، حيث يبدأون بالألفاظ المتشابهة ثم يؤلفون أقوالهم ويعظمونها في النفوس ويهولونها، حتى يستجيب لهم من يدعونه ولو لم يكن مقتنعا بأقوالهم، ويشبه هذا ما تفعله القرامطة من التدرج في دعوتهم، يقول شيخ الإسلام:" ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة، وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم، ثم ركبوها، وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض، وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه،
_________
(1) الوصية الكبرى، مجموع الفتاوى (3/384-385، 395، 415) .
(2) درء التعارض (8/21) .
(3) انظر مقدمة في أصول التفسير (ص81-93) ، تحقيق: زرزور.(1/292)
ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته، فأخذ يعترض عليهم قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل، ونقلوا الناس في مخاطبتهم درجات كما ينقل إخوانهم القرامطة المستجيبين لهم درجة بعد درجة ... " (1) . ومن منهجهم فرارهم إلى التقليد، فرأس الطائفة إذا قال كلاما بقى ذلك الكلام "دائرا في الاتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه، وكلما كانت العبارات أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما، وهذه حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر ولا وقعوا له على عين ولا أثر، وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة الغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة" (2) ، ثم يقول شيخ الإسلام عن تقليدهم لشيوخهم:" وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة - ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم وممن خاطبتهم، وممن بلغني أخبارهم - إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها، ولم يجد له ما يدفعها به فر إلى التقليد ولجأ إلى قول شيوخه، وقد كان في أول الأمر يدعو إلى النظر والمناظرة، والاعتصام بالعقليات والإعراض عن الشرعيات، ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] " (3) .
ثم يذكر تناقضهم فيقول:" ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر" (4) .
_________
(1) درء التعارض (1/295-296) ، وأيضا (5/61-62) .
(2) درء التعارض (5/315) .
(3) درء التعارض (5/317) .
(4) نفس المصدر (5/318) .(1/293)
وإذا كان كثيرا ما يتكلم عن المنهج العام للمبتدعة مثل اتباع الهوى والإعراض عن الكتاب والسنة، وتقديم معقولهم عليهما، وغير ذلك - فإنه أحيانا يتكلم عن منهج بعض الطوائف، فيتكلم عن منهج الجهمية وما ارتكبوه من العظائم (1) ويتكلم عن منهج المعتزلة واستدلالهم بدليل حدوث الأجسام وتقديمهم للدليل العقلي على دليل السمع (2) . ولسنا بصدد استقصاء ما كتبه في منهج أهل البدع، وغنما الغرض بيان أن من منهجه في رده على الخصوم شرحه لمناهجهم. ب- الرد على الخصوم ومناقشتهم ومنهجه في ذلك: في الفقرة السابقة كان الحديث عن أن من منهج شيخ الإسلام في الرد على الخصوم شرح أحوالهم ونشأة بدعهم وأسباب ذلك، ومناهجهم، ونذكر هنا منهجه في مناقشتهم ونقض أقوالهم والرد على أدلتهم، والكلام في ذلك طويل، ولكن نعرض لبعض الملامح في ذلك: 1- ثقته المطلقة بما عنده من الحق، حتى قال مرات - في مناظرته حول الواسطية -:" قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم " (3) يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك ... (4) ،
وفي موضع ذكر أنه قال:" أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين، إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيء مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت " (5) .
_________
(1) درء التعارض (1/277) .
(2) انظر: شرح حديث النزول، مجموع الفتاوى (5/541-542) .
(3) متفق عليه - لكن مع اختلاف يسير عن هذا اللفظ - البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور ورقمه (2652) الفتح (5/259) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ورقمه (2533) وما بعدها.
(4) المناظرة حول الواسطية، مجموع الفتاوى (3/169) ..
(5) مجموع الفتاوى (6/15) .(1/294)
وهذه الثقة بما عنده من الحق المبني على الكتاب والسنة وأقوال السلف بارزة في جميع ما كتب، وخاصة عن مناقشته لخصوم العقيدة، وكانت من عوامل وحدة المنهج عنده، حيث أصبح يتعامل مع جميع من يناقشه - وهم كثر - من خلالها، ولم يمر عليه في وقت من الأوقات أو في مناظرة من المناظرات أن تردد في دلالة الكتاب والسنة، أو في صحة مذهب السلف.
2- اعتماده في العقيدة على الكتاب والسنة، وتقديمهما على غيرهما، وهذه سمة بارزة في منهجه يجد الإنسان شاهدها في جميع كتبه:
أ- "فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها" (1) .
ب- والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين لأصول الدين وفروعه (2) .
ج- وما صح من السنة - من أخبار الآحاد وغيره - هو حجة في العقائد كما أنه حجة في غيرها (3) .
د- لا تعارض بين العقل والنقل (4) .
3- كيف تفهم نصوص الكتاب والسنة؟ ، لأن قائلا قد يقول: كل من ينتسب إلى الإسلام يدعي أنه يعتمد في أقواله على الكتاب والسنة، وقليلون هم الذين يجاهرون بنبذها مباشرة، هذه مسألة لا يغفلها شيخ الإسلام بل يرى أنها سبب مهم للاختلاف الواقع بين الناس، ولذلك وضع لها قواعد وضوابط:
أ - فقد كتب رسالة في أصول التفسير، أوضح فيها المنهج الصحيح لتفسير كلام الله تعالى، وهذا المنهج نقله ابن كثير في مقدمة تفسيره، ثم طبقه في تفسيره
_________
(1) درء التعارض (5/56) .
(2) انظر: نقض أساس التقديس المخطوط (2/321-323) ، والحموية، مجموع الفتاوى (5/6-7) ، ومجموع الفتاوى (3/294-296) ، والقاعدة المراكشية (ص26-28) وغيرها.
(3) انظر مثلا: الجواب الصحيح (2/12) .
(4) سيأتي شرح لذلك في موقفه من الأشاعرة.(1/295)
الذي انتشر بين المسلمين انتشارا عظيما (1) .
ب- كيف يفهم كتاب الله؟ يقول شيخ الإسلام:" دلالة الكلام على المراد تعرف تارة بالضرورة وتارة بالاستدلال، ويستدل على ذلك بما نقله الأئمة، وبما كان يقوله السلف يفسرون به القرآن، وبدلالة السنة، وسائر الآيات وغير ذلك ... " (2) .
ج- ويركز على أنه لابد في معرفة لفظ القرآن والحديث من ذكر نظائره يقول" كل من كان له عناية بألفاظ الرسول ومراده بها، عرف عادته في خطابه، وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره، ولهذا ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث أن يذكر نظائر ذلك اللفظ، ماذا عنى الله بها ورسوله، فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث، وسنة الله ورسوله التي خاطب بها عباده، وهي العادة المعروفة من كلامه ... " (3) ،ويطبق هذا المنهج في بعض الألفاظ (4) .
د- ولابد أيضا من معرفة اللغة العربية ودلالة الألفاظ، يقول شيخ الإسلام:" ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ وكيف يفهم كلامه، فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك " (5) .
هـ- وليس كل معنى يفسر به لفظ الآية والحديث ويعلل ذلك ب-" أن المعاني تنقسم إلى حق وباطل، فالباطل لا يجوز أن يفسر به كلام الله، والحق
_________
(1) انظر: مقدمة في أصول التفسير (ص93-105) ، تحقيق: زرزور، وهناك أكثر من رسالة علمية في منهج ابن تيمية في التفسير.
(2) نقض التأسيس المخطوط (2/328) .
(3) الإيمان (ص110) .
(4) انظر: مجموع الفتاوى (1/43-44، 67) .
(5) الإيمان (ص111-112) ، وانظر: (ص161) .(1/296)
إن كان هو الذي دل عليه القرآن فسر به، وإلا فليس كل معنى صحيح يفسر به اللفظ لمجرد مناسبة كالمناسبة التي بين الرؤيا والتعبير، وإن كانت خارجة عن وجوه دلالة اللفظ كما تفعله القرامطة والباطنية" (1) . كما أنه ليس " لأحد أن يقول: إن الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني، ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني هذا من فعل أهل الإلحاد والمفترين" (2) ،ويذكر شيخ الإسلام أمثلة لذلك (3) .
4- أن السلف أعلم وأحكم من غيرهم، ولذلك يجب الرجوع إلى فهمهم في العقيدة وكلامهم حولها، لأنهم أعلم الناس بالكتاب والسنة ومعانيهما (4) .
5- ومن منهجه: جواز استعمال المصطلحات الحادثة، ومخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم إذا احتيج إلى ذلك، ويرى مع ذلك أن معرفة لغة العدو واصطلاحه جائز وقد يكون واجبا (5) ، ومثله استخدام المصطلحات والألفاظ الحادثة قد يحتاج إليه وقد يكون مستحبا وقد يكون واجبا (6) . وهذه المسألة شرحها شيخ الإسلام شرحا مستفيضا، وذكر الأحوال المختلفة لذلك، يقول في معرض كلامه عن استخدام أهل الكلام للكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس، وذلك بالألفاظ المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة: مثل لفظ: العقل، والمادة، والصورة، والجوهر، والعرض، والجسم، والتحيز، والجهة، والتركيب، والجزء، والعلة والمعلول، والحدوث، والقدم، والواجب والممكن وغيرها، يقول شيخ الإسلام معقبا على ذلك:" وما من أهل فن إلا وهم معترفون بأنهم يصطلحون على ألفاظ يتفاهمون بها مرادهم،
_________
(1) مجموع الفتاوى (2/27) .
(2) الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/111) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص111-112) .
(4) هذه القضية من أسس منهجه العام، وسيأتي إيضاحها - إن شاء الله - عند مناقشته للأشاعرة.
(5) انظر: السبعينية (ص25) ، وانظر أيضا: نقض أساس التقديس المخطوط (2/5-6) .
(6) انظر: نقض أساس التقديس المطبوع (2/389) ، ومجموع الفتاوى (3/306-308) .(1/297)
كما لأهل الصناعات العملية ألفاظ يعبرون بها عن صناعتهم، وهذه الألفاظ هي عرفية عرفاً خاصاً، ومرادهم بها غير المفهوم منها في أصل اللغة، سواء كان ذلك المعنى حقاً أو باطلاً، وإذا كان كذلك فهذا مقام يحتاج إلى بيان: وذلك أن هؤلاء المعارضين إذا لم يخاطبوا بلغتهم واصطلاحهم فقد يقولون: إنا لا نفهم ما قيل لنا، أو إن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا، ويلبسون على الناس بأن الذي عنيناه حق معلوم بالعقل أو الذوق، ويقولون أيضاً: إنه موافق للشرع إذا لم يظهروا مخالفة الشرع، كما يفعله الملاحدة من القرامطة والفلاسفة ومن ضاهاهم وإذا خوطبوا بلغتهم واصطلاحهم - مع كونه ليس هو اللغة المعروفة التي نزل بها القرآن - فقد يفضي إلى مخالفة ألفاظ القرآن في الظاهر..وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة كما ذكر فالمخاطب لهم: إما أن يفصل ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت، وإن فسروها بخلاف ذلك ردت، وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً أو إثباتاً، فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع، وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم: أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي يتنزه الله عنها، فحينئذ تختلف المصلحة: فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق. وهذا الطريق تكون اصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه عفي بدعتهم (1)
كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة، وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء،
_________
(1) كذا ولعل العبارة: وأدخلهم في بدعته..(1/298)
وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أداة إلى علم ضروري، ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة" (1) ،
وذكر شيخ الإسلام مناظرة الإمام أحمد للجهمية، ثم يوضح الحالة الثانية فيقول: " فهذه المناظرة هي التي تصلح إذا كان المناظر داعيان وأما إذا كان المناظر معارضا للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلى الشريعة، مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات، أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك، أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء، فهؤلاء لا بد في مخاطبتهم من كلام على المعاني التي يدعونها: إما بألفاظهم، وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وحينئذ فيقال لهم: الكلام إما أن يكون في الألفاظ، وإما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون فيهما، فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ، كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع، بل يسميه علة وعاشقا ومعشوقا ونحو ذلك، فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبادة الشرعية كان حسنا، وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ، كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفا من التشبه بهم في الثياب. وأما إذا كان الكلام مع من يتقيد بالشريعة فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفيا وإثباتا بدعة، وفي كل منهما تلبيس وإيهام، فلا بد من الاستفسار والاستفصال، أو الامتناع عن إطلاق كل الأمرين في النفي والإثبات (2) ، ويشير هنا شيخ الإسلام إلى ما يظنه بعض الناس من أن السلف ذموا الكلام لأجل الاصطلاحات الحادثة فيه، ويقول:" ليس الأمر كذلك، بل ذمهم للكلام
_________
(1) درء التعارض (1/ 222- 229) ..
(2) درء التعارض (1/231- 232) .(1/299)
لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعا، ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله ومنهم من لا يعلم ذلك" (1) .ويوضح شيخ الإسلام ما سبق فيقول:" وبالجملة، فالخطاب له مقامات: فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة، ويدعوه إليها، أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب حقا.... وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له وفي مقام النظر أيضا فعليه أن يعتصم بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة ... " (2) ، وضرب شيخ الإسلام أمثلة من الكتاب والسنة ومواقف السلف (3) . " وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها، فإذا أخذ الثاني يذكر ألفاظا مجملة.... فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ " (4) فإن أراد حقا قبل وإن أراد باطلا رد.
ومن هذا الكلام وتفصيل ابن تيمية فيه يتبين لماذا رد شيخ الإسلام على الفلاسفة وأتباعهم وذكر عباراتهم ونقلها من كتبهم، ولماذا رد عليها ردودا طويلة،
_________
(1) درء التعارض (1/ 232 - 233)
(2) نفس المصدر (1/ 234 - 236) .
(3) انظر الأمثلة لذلك في المصدر السابق (1/ 236 - 238) ، فقد ضرب أمثلة من القرآن في بيان التوحيد وصدق الرسل والمعاد، ومن السنة في مسألة الرؤية حينما سأله أبو رزين: كيف وهو واحد ونحن كثير فأجابه بمثال القمر، ومن أقوال السلف يقول ابن عباس في مسألة الرؤية وأن السماء ترى ولا يحاط بها، وقول الإمام أحمد في مسألة المعية مع الاستواء والعلو.
(4) درء التعارض (1/ 238) .(1/300)
تصل إلى حد أن القارئ لا يستطيع متابعته والاستمرار معه، بل ينقطع حين يقف على نصوص من كلام هؤلاء الفلاسفة المبني على المنطق والعبارات والتراكيب الغامضة، والاصطلاحية.
6- تناقض أقوال الخصوم، وكون أدلة كل فريق ترد أدلة الفريق المقابل، ويبقى مذهب السلف هو الحق والعدل، يقول شيخ الإسلام: بعد ذكره للنزاع بين المعتزلة والأشعرية حول كلام الله وأفعال العباد:" وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعيا له إلى طلب الحق، ولا تجد الحق إلا موافقا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا تجد ما جاء به الرسول إلا موافقا لصريح المعقول" (1) ، ويرى شيخ الإسلام أن هناك فوائد من ذكر كلامهم وأدلتهم ومنها:" نقض بعضهم كلام بعض، فلا يعتقد شيء منها، ثم إن عرف الحق الذي جاء به الرسول فهذا الصواب الموافق لصريح المعقول، وإلا استفيد من ذلك السلامة من تلك الاعتقادات الباطلة" (2) .
وكل واحد من أصحاب البدع يقدح في أدلة الآخرين، " ولهذا لا يتفق اثنان رئيسان على جميع مقدمات دليل إلا نادرا، فكل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريقة في الاستدلال تخالف طريقة الرئيس الآخر، بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريقة الآخر، ويعتقد كل منهما أن الله لا يعرف إلا بطريقته وإن كان جمهور أهل الملة بل عامة السلف يخالفونه فيها " (3) .
ويضرب لذلك أمثلة (4) ، وطريقته في ذلك جزء من بيانه لوسطية مذهب السلف.
_________
(1) مجموع الفتاوى (12/ 314) .
(2) منهاج السنة: المحققة (2/ 197) .
(3) مجموع الفتاوى (2/ 22) .
(4) انظر: المصدر السابق (2/ 22-24) ، ومنهاج السنة (3/72، 76، 104) .(1/301)
وعندما أطال في ذكر مناقشات ونقول عن ابن سينا وابن رشد والطوسي في مسألة علم الله، يقول:" وبيان بطلان أقوالهم النافية للصفات يطول، وإنما القصد هنا إبطال بعضهم لقول بعض، فإن هذا يؤنس نفوسا كثيرة قد تتوهم أنه ليس الأمر كذلك " (1) .وأحيانا يركز شيخ الإسلام على تناقض الشخص نفسه في أقوال، ومن أمثلة ذلك ما ذكره من تناقض ابن سينا (2) ، وبعض أصحاب وحدة الوجود (3) .
7- ويرى شيخ الإسلام - وهذا جانب من تناقض الخصوم -" أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق، لا تدل على قول المبطل وهذا ظاهر يعرفه كل أحد، فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق، لا على باطل.... والمقصود هنا أن نفس الدليل الذي يحتج به المبطل هو بعينه إذا أعطي حقه وتميز ما فيه من حق وباطل، وبين ما يدل عليه، تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به في نفس ما احتج به عليه. وهذا عجيب قد تأملته فيما شاء الله من الأدلة السمعية فوجدته كذلك" (4) .
ومن منهجه؛ الذي طبقه أن "المناظرة تارة تكون بين الحق والباطل وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد، وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا، لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم
_________
(1) درء التعارض (10/97)
(2) انظر: درء التعارض (8/ 32، 133، 186، 10/ 98 - 104، 159 - 160)
(3) انظر: نموذج لتناقض التلمساني في الجواب الصحيح (3/ 201 - 202) .
(4) مجموع الفتاوى (6/ 288) وانظر: (8/ 29) .(1/302)
فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ورسوله، فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله" (1) .
8- إنصافه للخصوم والاعتراف بما عندهم من الحق، وسيأتي - إن شاء الله - بيان إنصافه للأشاعرة، ولكن نقرر هنا أن هذه قاعدة عنده حتى مع من هو أشد انحرافا من الأشاعرة من المعتزلة والجهمية، والفلاسفة، والمتصوفة والرافضة وغيرهم. ولكن ينبغي أن نشير هنا إلى ردوده القوية على الخصوم حين يعارضون الكتاب والسنة وكلام السلف وإجماعهم، أو حين يؤولون النصوص الصريحة تأويلات فاسدة، أو حين يقدمون معقولاتهم على نصوص الشرع أو غير ذلك من مناهج المنحرفين وأدلتهم الباطلة، فإذا ما واجه مثل ذلك تحركت غيرته على هذا الدين وواجه هذه الأقوال الفاسدة نقضا وإبطالا وردا، وأطال النفس في ذلك، وواجه خصومه مواجهة صريحة، يخطئهم ويضلل أقوالهم، ويبين تناقضهم وقلة أدبهم في تعاملهم مع نصوص الشرع. ولسنا بصدد ذكر نماذج لذلك فغالب كتبه شاهد على ذلك، ولكن نشير - ونحن بصدد بيان إنصافه للخصوم - إلى مواقفه وعباراته القوية في مخاطبة بعض خصومه فحين ذكر طرقا عديدة من الأدلة تدل على وجوب قتل ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بعد التوبة، ذكر في أثناء الطريقة الخامسة والعشرين قول من يقول: إن سب النبي مثل سب غيره، ثم قال:" واعلم أن منشأ الشبهة في هذه المسألة القياس الفاسد، وهو التسوية في الجنس بين المتباينين تباينا لا يكاد يجمعها جامع، وهو التسوية بين النبي وغيره في الدم أو في عرض - إذا فرض عود المنتهك على الإسلام - وهو مما يعلم بطلانه ضرورة، ويقشعر الجلد من التفوه به، فإن من قتله للردة فقط أو للنقض فقط، ولم يجعل لخصوص كونه أذى له أثرا،
_________
(1) درء التعارض (4/ 206) .(1/303)
وإنما المؤثر عنده عموم وصف الكفر، إما أن يهدر خصوص الأذى، أو يسوي فيه بينه وبين غيره زعما منه أن جعله كفرا أو نقضا هو غاية التعظيم، وهذا كلام من لم ير للرسول حقا يزيد على مجرد تصديقه في الرسالة، وسوى بينه وبين سائر المؤمنين فيما سوى هذا الحق. وهذا كلام خبيث يصدر عن قلة فقه، ثم يجر إلى شعبة نفاق، ثم يخاف أن يخرج إلى النفاق الأكبر، وإنه لخليق
به" (1) . ولما تكلم ابن سينا في أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة ووصفهم بأنهم أهل الوبر، وأنهم لا يستطيعون فهم المعاني الغامضة التي تحتاج من هو أفضل منهم من المبرزين المتفلسفة إلى مزيد إيضاح وشرح لفهمها؛ هجم عليه شيخ الإسلام هجوما شديدا لأن هذا استخفاف بأفضل الخلق بعد الرسل وهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:" فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن، فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية وعوام الفلاسفة الدهرية، وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعلية وأمثالهم فإنك تجد بين أدنى أولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق، أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد، الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين، حتى اعتقدوا فيمن هو أكفر الناي وأكذبهم أنه أمام معصوم، يعلم علم الأولين والآخرين، بل عوام النصارى مع فرط جهلهم وضلالهم أحذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم، وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤوسها فلاسفة؟ أو لم تكن أئمتكم اليونان - كأرسطو وأمثاله - مشركين يعبدون الأوثان، ويشركون بالرحمن، الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين ويصوم له ويصلي....وأما أئمتكم البارعون - كأرسطو وذويه - فغايته أن يكون مشركا سحارا وزيرا لملك مشرك سحار ... " (2) ، ثم يقول شيخ الإسلام:" وهذا الكلام وأمثاله
_________
(1) الصارم المسلول (ص455)
(2) درء التعارض (5/ 64 -65) .(1/304)
إنما قيل للمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء، وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة -، كفضلاء الصحابة مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عباس، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بقوم كانوا أتم عقولا، وأكمل أذهانا، وأصح معرفة، وأحسن علما من هؤلاء؟ " (1) ، ثم يقول:" ثم يقال لهذا الأحمق ... " (2) . وفي مناسبة أخرى يقول عن مذهبه:" وكل ذلك فضيحة من الفضائح" (3) . ويقول في معرض مناقشته لابن رشد وأقواله:" قلت: ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل، كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين ... " (4) . وفي رده على الطوسي الذي رد على ابن سينا وما رضي برجوعه إلى إثبات الصفات:" قلت: فليتدبر العاقل - الذي هداه الله تعالى وفهمه ما جاءت به الرسل، وما قاله غيرهم - كلام هذا الذي هو رئيس طائفته في وقته، وما قرر به كلام سلفه الملحدين في علم الله تعالى، لما كان ابن سينا - وهو أفضل متأخريهم - قد قال في ذلك بعض الحق الذي يقتضيه العقل الصريح مع موافقته للنقل الصحيح، فأراد هذا الطوسي أن يرد ما قاله ابن سينا من الحق انتصارا لطائفته الملاحدة، فقال في الكلام الذي عظم قدره وتبجح به ما يظهر لمن فهمه أنه من أفسد أقوال الآدمين وأشبه الأشياء، بأقوال المجانين، ولا ريب أن هذه عقول كادها باريها، لما ألحدت في صفات الله تعالى، وأرادت نصر التعطيل وقعت في هذا الجهل الطويل ... " (5) .
_________
(1) درء التعارض (5/ 69) .
(2) نفس المصدر (5/ 70) .
(3) نفسه (10/ 33) .
(4) نفسه (3/ 427) .
(5) درء التعارض (10/ 44 -45) .(1/305)
هذه أساليبه مع هؤلاء، ويلاحظ أن هذه العبارات جاءت مع المتفلسفة الملاحدة، ومع ذلك فلم يمنعه ما يجده من مقالاتهم وانحرافاتهم الواضحة، من ا، ينصفهم ويعترف لهم بالحق الذي معهم، سواء على وجه الإجمال أم التفصيل عند عرض المسألة المعينة. وينطلق شيخ الإسلام في ذلك ببيان وجوب الإنصاف والعدل مع الآخرين ومع النفس فيقول:" وكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره، ويرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويذكر تناقض أقوال غيره ومخالفتها للمنصوص والمعقول، ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال أو أضعف منها أو أقوى منها، والله تعالى يأمر بالعلم والعدل، ويذم الجهل والظلم كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] ... ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم " (1) . ثم هو يقسم الطوائف إلى طبقات فالفلاسفة والصوفية وأتباع الفلاسفة، هم أبعد عن الحق من المعتزلة، والمعتزلة أقرب منهم، ومتكلمة أهل الإثبات من الكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية أقرب من المعتزلة، والسلف وأهل الحديث أقرب الطوائف إلى الحق (2) . وهو ينبه إلى أنه قد يكون في كلام المبتدعة وأهل الكلام ما هو حق لأنهم قد يذكرون معاني حسنة وصحيحة، ولكن الضلال جاء من جهة أنهم نفوا ما زاد عليها من الحق مما يثبته أهل السنة، ويذكر أمثلة لذلك ومنها:" ما يثبته المتكلمة من أن العبد يتقرب ببدنه وروحه إلى الأماكن المفضلة التي يظهر منها نور الرب كالسموات والمساجد، وكذلك الملائكة، فهذا صحيح، لكن دعواهم أنهم لا يتقربون إلى ذات الله، وأن الله على العرش، فهذا باطل، وإنما الصواب إثبات ذلك وإثبات ما جاءت به النصوص من قرب العبد إلى ربه،
_________
(1) درء التعارض (7/ 463 - 464) .
(2) انظر الصفدية (1/ 160 - 161) .(1/306)
وتجلي الرب لعباده بكشف الحجب المتصلة بهم والمنفصلة عنهم، وإن القرب والتجلي فيه علم العبد الذي هو ظهور الحق له، وعمل العبد الذي هو دنوه إلى ربه ... ثم بعض المتسننة والجهال إذا رأوا ما يثبته أولئك من الحق قد يفرون من التصديق به، وإن كان لا منافاة بينه وبين ما ينازعون أهل السنة في ثبوته، بل الجميع صحيح، وربما كان الإقرار بما اتفق على إثباته أهم من الإقرار بما حصل فيه نزاع؛ إذ ذلك أظهر وأبين وهو أصل للمتنازع فيه، فيحصل بعض الفتنة في نوع تكذيب، ونفي حال أو اعتقاد ككمال المبتدعة، فيبقى الفريقان في بدعة وتكذيب ببعض موجب النصوص، وسبب ذلك أن قلوب المثبتة تبقى معلقة بإثبات ما نفته المبتدعة، وفيهم نفرة عن قول المبتدعة بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له، فيعرضون عن ما يثبتونه من الحق، أو ينفرون منه أو يكذبون به" (1) .
ثم يذكر أمثلة أخرى فيقول:" كما قد يصير بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها، بل بعض المسلمين يصير في إعراض عن فضائل موسى وعيسى بسبب اليهود والنصارى...... حتى يحكى عن قوم من الجهال أنهم ربما شتموا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب، وعن بعض الجهال أنه قال: سبوا عليا كما سبوا عتيقكم، كفر بكفر وإيمان بإيمان ... " (2) . وحين يذكر تناقض الفلاسفة وغيرهم - حتى في قواعدهم المنطقية - وما أوقعتهم فيه من عقائد فاسدة، يقول:" وهم لم يقصدوا هذا التناقض، لكن أوقعتهم فيه قواعدهم الفاسدة المنطقية " (3) . ويركز دائما على أن الانحراف درجات، وأن المنتسبين إلى أصول الدين والكلام أيضا درجات، فيقول:" ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.
_________
(1) مجموع الفتاوى (6/ 25 - 26) .
(2) نفس المصدر (6/ 26) .
(3) شرح حديث النزول، مجموع الفتاوى (5/ 341) .(1/307)
ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه؛ فيكون محمودا فيما رده من الباطل، وقاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد بالباطل باطلا بباطل أخف منه (1) ، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه، ويعادون، كان من نوع الخطأ والله سبحانه يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك " (2) ، والانحراف بعضه أخف من بعض ف- " قد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة، فينتقل إلى ما هو أقل منها شرا وأقرب إلى الخير، فيكون حمد تلك الطريقة ومدحها لكونها طريقة الخير الممدوحة، مثال ذلك: أن الظلم كله حرام مذموم، فأعلاه الشرك فإن الشرك لظلم عظيم، والله لا يغفر أن يشرك به وأوسطه ظلم العباد بالبغي والعدوان، وأدناه ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله ... وهكذا النحل التي فيها بدعة، قد يكون الرجل رافضيا فيصير زيديا، فذلك خير له، وقد يكون جهميا قدريا فيصير جهميا غير قدرى، أو قدريا غير جهمي، أو يكون من الجهمية الكبار، فيتجهم في بعض الصفات دون بعض ونحو ذلك" (3)
ومن قواعد إنصافه أنه لا يبرىء بعض أهل السنة من المحدثين وغيرهم من الوقوع في الخطأ فيقول: " لكن يوجد في أهل الحديث مطلقا من الحنبلية وغيرهم من الغلط قي الاثبات أكثر مما يوجد في أهل الكلام، ويوجد فى أهل الكلام من الغلط فى النفى أكثر مما يوجد في أهل الحديث.... " (4) .
تلك قواعد في منطلقه في الانصاف والعدل، وهي التي مهدت لشيخ الإسلام ليتميز بمنهج سليم في هذا الباب، أما الذين ينطلقون في ردودهم الخصوم على أساس أن الحق معهم أو مع طائفتهم، وأن طائفتهم لا يقع فيها خطأ
_________
(1) كذا، ولعل العبارة: ورد الباطل بباطل أخف منه.
(2) مجموع الفتاوى (3/348-349) .
(3) الاستقامة (1/ 464- 465) .
(4) تفسير سورة الاخلاص، مجموع الفتاوى (17/363) .(1/308)
ولا انحراف، وأن خصومهم على الباطل، وأقوالهم كلها باطلة -هكذا بإطلاق- فهؤلاء لابد أن يقعوا في الخطأ أو باقتراب شيء من الباطل ونسبته إلى الحق، أوجحد شيىء من الحق لأن الخصوم قالوا به.
وننتقل الآن إلى ذكر نماذج من إنصافه لخصومه، والفلاسفة هم أشد خصوم ابن تيمية ومع ذلك يقول فيهم "نعم، لهم في " الطبيعيات" كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم يقصدون الحق لا يظهر عليهم العناد، لكن جهال بالعلم الالهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ " (1) ،كما يذكر أنهم يتفاوتون في القرب والبعد عن الحق (2) . ويعترف للمعتزلة ويميزهم عن غيرهم من أهل البدع فيقول: " ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة والخوارج، فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة ... ويعظمون الذنوب، فهم يتحرون الصدق كالخوارج، لا يختلقون الكذب كالرافضة ولا يرون أيضا اتخاذ دار الاسلام كالخوارج، ولهم كتب في التفسير القرآن ونصر الرسول، ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض ... ) (3) ، ويرى أنه لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول لكنهم احتجوا بحجج عقلية أدت الى هذا (4) .
أما الشيعة فيرى أنه "ليس كل ما أنكره بعض الناس عليهم يكون باطلا بل من أقوالهم أقوال خالفهم فيها بعض أهل السنة ووافقهم بعض، والصواب مع من وافقهم، ولكن ليس لهم مسألة انفردوا بها أصابوا فيها " (5) ، ولما ذكر تفضيل الخوارج والمعتزلة عليهم ذكر " أن الزيدية من الشيعة خير منهم [أي من الرافضة] ، وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم) (6) ، ثم قال: " ومع هذا
_________
(1) الرد على المنطقيين (ص: 43) .
(2) درء التعارض (9/276)
(3) الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوى (13/97-98) .
(4) انظر: درء التعارض (7/106-107)
(5) منهاج السنة، تحقبق: رشاد سالم (1/27) .
(6) المصدر السابق- مكتبة الرياض الحدينة (3/39) .(1/309)
فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقا بل وأهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا" (1) .
أما أهل الكلام فكثيرا ما يفضلهم على الفلاسفة، ويرى أنهم أقل انحرافا منهم (2) .
فإذا انتقلنا إلى إنصافه للأفراد، فابن سينا الذى رد عليه كثيرا وذكر عبارات قاسية في الرد عليه يقول عنه: إنه أفضل متأخرى الفلاسفة (3) ، ولما نقل من كلامه في الإشارات والتنبيهات حول مقامات العارفين، ذكر أن فيه حقا وباطلا، وأن ما فيه من حق يقبل، ولما نقل كلامه قال: إنه كلام صحيح (4) . ولما خالف ابن سينا بقية الفلاسفة في مسألة علم الله مدحه شيخ الإسلام وقال:
" وكون ابن سينا خالفهم في هذا هو من محاسنه وفضائله، التي علم فيها ببعض الحق، والحجة معه عليهم، كما أن أبا البركات كان أكثر إحسانا منه في هذا الباب فكل من أعطى الأدلة حقها، وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره كان ذلك مما يفضل ويمدح " (5) ويذكر أن "الصواب في هذا الباب أن يقرر ما ذكره ابن سينا من الطريق الدال على كونه عالما بالمخلوقات فإنها طريق صحيحة ... " (6) . ويمدح أبا البركات البغدادي (7) صاحب المعتبر ونحوه ويرى أنهم " كانوا بسبب عدم تقليدهم لأولئك [أى الفلاسفة] ، وسلوكهم طريقة النظر العقلي
_________
(1) منهاج السنة (3/39) .
(2) انظر الرد على المنطقيين (ص: 395) ، والصفدية (1/161-162) ، ودرء التعارض (7/143) .
(3) انظر: النبوات (ص: 7) ، ودرء التعارض (10/44) .
(4) انظر: درء التعارض (6/59) .
(5) انظر: درء التعارض (10/140) .
(6) انظر: درء التعارض (10/146) .
(7) هو: هبة الله بن علي بن ملكا، كان يهوديا فأسلم، ولد نحو سنة 480 هـ، وتوفي سنة 560 هـ عيون الأنباء (ص: 374) ، ووفيات الأعيان (6/74) ، وأخبار الحكماء للقفطي (ص: 224)(1/310)
بلا تقليد، واستنارتهم بأنوار النبوات أصلح قولا في هذا الباب من هؤلاء وهؤلاء، فأثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا، وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله وبين ما بينه من خطأ سلفه، ورأى فساد قولهم في أسباب الحوادث، فعدل عن ذلك إلى أن أثبت للرب تعالى ما يقوم به [من] ، الارادات (1) الموجبة للحوا دث " (2) .
وابن عربى- الصوفي- يرى أنه أقرب الاتحادية إلى الاسلام " لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرا، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذى يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى، والله أعلم بما مات عليه " (3) ، ويرى أنه أقرب إلى الإسلام لأنه " يفرق بين الظاهر والمظاهر، فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه" (4) ومع ذلك فقد رد عليه وبين ما في كلامه وأقواله من الكفر.
والطوسى لما بين مخازيه، وتآمره مع هولاكو ضد أهل الإسلام قال:"ومع هذا فقد قيل: إنه كان آخر عمره يحافظ على الصلوات ويشتغل بتفسير البغوي والفقه ونحو ذلك، فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والله تعالى يقول: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} [الزمر: 53] " (5) .
هذه نماذج لمواقفه من خصومه وإنصافه لهم، وهنا يرد السؤال الذى يطرحه بعض من يترجم لابن تيمية وهو: كيف يوجه شدة ابن تيمية على " خصومه في مواضع، ثم رفقه بهم في مواضع أخرى؟.
_________
(1) في طبعة رشاد سالم- الارادات- بدون "من"، والتصويب من طبعة مكتبة الرياض الحديثة (1/128)
(2) منهاج السنة، تحقيق: رشاد سالم (1/247) .
(3) حقيقة مذهب الاتحاديين- مجموع الفتاوى (2/143) .
(4) رسالته الى نصر المنبجي، مجموع الفناوى (2/470- ا 47) .
(5) منهاج السنة النبوية- مكتبة الرياض الحديثة- (2/123) .(1/311)
والإجابة عن هذا السؤال واضحة لمن يتتبع منهج شيخ الإسلام وطريقته في الرد على خصومه.
أ- فشيخ الاسلام يفرق بين الأشخاص والأقوال، فإذا كان في مقام الرد على إحدى المقالات الفاسدة، نقضها بقوة، وردها إلى أصولها الأخرى الفاسدة، وشنع على من يعتقد مثل هذا الكلام، ويستدل بهذا الدليل الفاسد، ومن ثم يكون موقفه قويا وشديدا في سبيل نصرة الحق ورد الباطل، أما حين يتجه إلى صاحبها فقد يكون رجع عن هذه المقالة، أو تاب في آخر عمره، ومن ثم فلابد من إنصافه.
ب- ثم هو-رحمه الله- إذا رد إحدى المقالات الباطلة رد على المقالة نفسها فنقضها ونقض ما فيها من استدلال، وشنع على من قال بها فيشتد في موقفه، لكنه حين يحكم على الأشخاص لا يحكم عليهم من خلال هذه المقالة الفاسدة التي ردها، وإنما ينظر إليهم نظرة متكاملة فيرى أن لهذا الشخص جهودا في الرد على النصارى، أو الفلاسفة، أو الرافضة، أو الجهمية، فيمدح أقواله تلك ويمدحه لأجلها. وهكذا
9- وأخيرا نشير إلى لمحات في منهجه:
أ- فهو يقرن الأمور العلمية بالعملية، وكانت حياتهكما أسلفنا- قائمة على هذا، ولهذا فهو مع ردوده على أصحاب وحدة الوجود- الذين كانوا كثيرين في عهدهـ يقول: " ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم، ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو من قال إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التى لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان علي خلق من المشايخ والعلماء والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدون عن سبيل الله، فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم كقطاع الطريق، وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم" (1) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (2/132) .(1/312)
ولما سئل عمن يقول: إن رد أحمد بن حنبل على اللفظية كان خوفا من الناس أجاب بجواب طويل، لكنه قال في البداية: " بطلان هذا يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد، وقائل هذا إلى العقوبة البليغة التي يفترى بها على الأئمة أحوج منه إلى جواب ... " (1) .
ب- ويرى أن بعض المسائل الفرعية التى وقع فيها الخلاف لا ينبغي مفاتحة عوام المسلمين فيها وامتحانهم حولها، ومن ذلك مسألة رؤية الكفار لله، فهو يقول في رسالته إلى أهل البحرين حول هذه المسألة وغيرها " وهنا آداب تجب مراعاتها ... ومنها،: " وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين، الذين هم في عافية وسلام من الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها، أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به، بخلاف الايمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، فإن الإيمان بذلك فرض واجب، لما قد تواتر فيها عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وسلف الأمة " (2) .
ج- كما يرى التدرج في ذكر المسائل العلمية، يقول بعد كلام طويل حول القدر: " ومن فهم ما كتب انفتح له الكلام في هذا الباب، وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل، فإن الكلام فيها بالتدرج مقاما بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها والجواب عما يعارضها، كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها فلهذا يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر دليل كل قول، ومعارضة الآخر له حتى يتبين الحق بطريقة لمن يريد الله هدايته، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور:40] " (3) .
د- ويرى أن القول الباطل قد يتبين بطلانه في نفسه من غير بيان وجه ذلك يقول بعد أن بين مذهب ابن عربي وأنه مبني على الزعم بأن المعدوم شيء ثابت
_________
(1) الكيلانية- مجموع الفتاوى (12/438) .
(2) مجموع الفتاوى (6/503-504) .
(3) أقوم ماقيل في القضاء والقدر: مجموع الفتاوى (8/158) .(1/313)
في العدم: " واعلم أن المذهب إذا كان باطلا في نفسه لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصورا حقيقيا؛ فإن هذا لا يكون إلا للحق، فأما القول الباطل فإذا بين فبيانه يظهر فساده، حتى يقال: كيف اشتبه هذا على أحد، ويتعجب من اعتقادهم إياه " (1) .
ذ- ويرى أيضا أنه لابد من هدم الباطل الذي عند الخصم، ثم بناء الحق مكانه، ولذلك لما ذكر مناظرة الإمام أحمد للجهمية حين سألوا عن كلام الله أهو الله أو غير الله، فقال لهم أحمد: ما تقولون في علم الله، أهو الله أو غيره فعارضه أحمد بالعلم فسكت مناظرة- قال ابن تيمية- معلقا: " وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله بالمناظرة-رحمه الله- فإن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد، فينبغي إذا كان المناظر مدعيا أن الحق معه، أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فأعطه إياه، والا فما دام معتقدا نقيض الحق لم يدخل الحق إلى قلبه، كاللوح الذي كتب فيه كلام باطل، امحه أولا، ثم اكتب فيه الحق، وهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم فذكر لهم الإمام أحمد -رحمه الله- من المعارضة ما يبطلها " (2) . وهذا يدل على براعة علماء السلف - رحمهم الله تعالى-.
هـ- كما يرى شيخ الإسلام أن جواب الشبهة يجب أن يكون قويا حتى ينقضها ويعيب على الذين يوردون شبهات أهل الباطل ثم يردون عليها ردودا ضعيفة، ولما عرض لمسألة مجادلة أهل الكتاب ورأى جواز ذلك، ورد على من زعم أن جواز مجادلتهم منسوخ بآيات الجهاد والقتال (3) ، قال في أثناء الوجه السابع: ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناء على ظهور دلائل النبوة نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذين يعتمد في أصول الدين على نظرهم ومناظرتهم، ويزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة قد أوردوا من الشبهات والشكوك
_________
(1) حقيقة مذهب الاتحاديين، مجموع الفتاوى (2/145) .
(2) جواب أهل العلم والإيمان، مجموع الفتاوى (7/158-159) .
(3) انظر: الجواب الصحيح (1/66-78) .(1/314)
والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالا، وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جوابا في المسائل الظنية، بل هى إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين، وهم مثلهم الغزالي وغيره بمن يضرب شجرة ضربا يزلزلها به وهو يزعم أنه يريد أن يثبتها" (1) . والمشكلة أنه في بعض الأحيان يورد البعض الشبهة، وإن لم يوردها الخصوم، ويصورها تصويرا جيدا، ثم يجيب عنها فيأتي الجواب أضعف منها، ولو لم يوردها لكان أفضل.
و ومن قواعد شيخ الإسلام مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك فيما إذا ولد الأمر بالمعروف ترك معروف اكبر، أو ولد النهي عن المنكر منكرا اكبر، وبني ذلك على مسألة المصالح والمفاسد اذا تعارضت، أو تزاحمت الحسنات والسيئات، "فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد؛ فإن الأمر والنهي- وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد: اكثر، لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الانسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا: إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوال فعل الحسنات.
_________
(1) انظر: الجواب الصحيح (1/66-77) .(1/315)
وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه: أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله.
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان: لم يأمر بهما، ولم ينه عنهما.
فتارة يصلح الأمر، وتارة لا يصلح لا أمر ولانهى، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة، وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا، وينهى عن المنكر مطلقا" (1) ، ويمثل لذلك في مكان آخر فيقول: " ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب، أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر عظيم مما هم عليه من ذلك- ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة،-لم ينهوا عنه" (2) .
وهذه مسألة مهمة، ينبغي دراستها بعمق، ودراسة أصولها الشرعية لئلا يؤدي الأمر إلى نوع من الافراط أو التفريط في هذه المسألة التي اعتبرها بعض العلماء من أصول الدين.
ز- كان شيخ الاسلام لا يطلب رضى الناس، ويعلل ذلك بأن رضى المخلوقين غير ممكن، ولأننا مأمورون بأن نتحرى رضى الله تعالى، كما أن علينا أن لا نخاف إلا الله، ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له (3) .
ح- أمر بالاجتماع وعدم الفرقة، ويرى أن الاختلاف الذي ذكره الله في القرآن قسمان: قسم يذم فيه الطائفتان جميعا، وقسم يحمد فيه إحدى الطائفتين
_________
(1) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص: 34) ت الجليند.
(2) مجموع الفتاوى (14/472) .
(3) انظر: مجموع الفتاوى (3/232-233) .(1/316)
- وهم المؤمنون- وتذم فيه الطائفة الأخرى المخالفة لهم، كما يرى أن هناك اختلاف تنوع واختلاف تضاد، وإن الخلاف الذي بين السلف في تفسير الآيات وغيره إنما هو من النوع الأول (1) ، ثم يورد الأحاديث الواردة في النهي عن الاختلاف (2) .
ويرى شيخ الاسلام أن " البدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة، كما يقال: أهل البدعة والفرقة " (3) ، (ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه، ونتيجة الفرقة: عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه وبراء الرسول منهم " (4) .
ط- ضربه للأمثلة بما يوضح المراد، ففي مسألة التوسل، إنكار الوسائط بين الله وخلقه، ووضح المراد بضرب الأمثلة بالوسائل التي بين الملوك وبين الناس (5) -،كما ضرب الأمثلة لعذاب الروح والبدن ونعيمها في القبر (6) ، كما ضرب الأمثلة في مناسبات أخرى (7) .
خامسا: الأمانة العلمية:
قد يظن البعض أن المنهجية العلمية والأمانة في نقل النصوص ونسبتها إلى أصحابها، ومقارنة النسخ الخطية للوصول إلى نص المؤلف ... وغيرها، من مبتكرات هذا العصر، عصر الطباعة والنشر على نطاق واسع، كما يظن أن المستشرقين هم الذين تنبهوا إلى ذلك وتبنوه، ثم حذا حذوهم المسلمون، وليس المقام مقام مناقشة هذه الأمور لأن مثل هذه القضايا- والحمد لله - أصبحت
_________
(1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/126-133) .
(2) نفس المصدر (1/135-144) .
(3) الاستقامة (1/ 42) .
(4) مجموع الفتاوى (1/17) .
(5) انظر: الواسطة بين الحق والخلق- ط المكتب الاسلامي- (ص: 8-.1) .
(6) انظر: مجموع الفتاوى (4/274-276) .
(7) انظر: درء التعارض (3/97-98،5/366) .(1/317)
واضحة لدى الكثير من المهتمين بأمور التراث والبحث العلمي، والمستشرقون وحركتهم المعادية للاسلام، وحقدهم الدفين عليه وعلى تراثه وعلى المتمسكين به لا يكاد يجهله من عنده غيرة على هذا الدين، والايجابيات- التي صاحبت حركتهم- جاءت مشوبة بهذه الأغراض الخبيثة، وهذا حكم عام، والا فالمستشرقون ليسوا على حد سواء.
والأمانة العلمية من صميم ما يدعو اليه الإسلام، ولذلك طبقها المسلمون في حياتهم:
أ- فالإسلام حث على الصدق والعدل، ونهى عن الكذب والقول بلا علم.
ب- ثم تمثل ذلك في علم مصطلح الحديث، بأبوابه وفنونه، التي وصلت إلى أدق ما يمكن من الاتقان والضبط في الجرح والتعديل، والتحمل والأداء، وطبقات الرواة، والإدراج، والتصحيف والتحريف، وغيرها من علوم الحديث التي تميزت بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم.
وشيخ الإسلام إنما سار على منهج علماء الإسلام في هذا الباب، ولما كان يواجه خصوما عديدين برزت عنده كمنهج له طبقها في كتاباته ورسائله ... وشهد له بهذه المنهجية أعداؤه الذين لا يرضون سلفيته وردوده على من يعظمونه من أهل الأعتزال والأشاعرة وغيرهم، فالنشار- الذي يتهم شيخ الإسلام بتهم عديدة منها الكذب على الأشاعرة (1) - لا يملك إلا أن يناقض نفسه فيقول:
" ولكن حسبنا من ابن تيمية أنه كان مؤرخا ممتازا للفكر الاسلامي، وأنه ترك لنا نصوصا رائعة نستطع بواسطتها أن نصوغ المذاهب التى لم تصل إلينا مصادرها الأصلية صياغة منهجية متكاملة " (2) ، ويقول:"وبهذا حفظت لنا كتب
_________
(1) انظر: نماذج من اتهاماته لشيخ الإسلام في نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (ج1 ص: 378، 333، 356،366،371) وغيرها.
(2) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام للدكتور على سامي النشار (1/278) .(1/318)
ابن تيمية الكثير من عناصر المذهب الكلابي، وسيقدم لنا عرضه السهل الممتع تفسيرا هاما له، علاوة على أن ابن تيمية كان مؤرخا ممتازا للأفكار الفلسفية" (1)
والدكتور أحمد صبحي لما انتقد البغدادي في كتبه لأنه شوه أقوال الفرق علق على ذلك بمدح من ينقل الأقوال بأمانة ومنهم:"ابن تيمية في منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، ومن لم يطلع على كتاب (منهاج الكرامة في الامامة) لابن المطهر الحلى- والذي يرد عليه ابن تيمية- يستطع أن يستخلص من كناب ابن تيمية معظم عبارات ابن المطهر بنصها، وتلك نزاهة في الحوار لم يعرفها البغدادي" (2) .
وكاتب آخر يقول: " ولكن الثابت أن ابن تيمية ينقل آراء الخصوم نقلا أمينا، ويشرع في مناقشتها بعد ذلك" (3) ، وبذلك أصبحت كتبه موضع ثقة الدارسين كما أشار أحد الكتاب (4) .
وشيخ الإسلام ينطلق في هذا الباب من بيان أن من صفة أهل السنة العدل والرحمة، فيعدلون على من خرج عن السنة ويرحمون الخلق ويحبون الخير لهم (5) ، ويشير إلى أن الامام أحمد-رحمه الله- كان يعطي كل ذي حق حقه (6) ، وانه في كل فن يجب أن يرجع فيه إلى أهل فنه فالأحاديث يرجع فيها إلى أهل المعرفة بالحديث، والأحكام يرجع فيها إلى أهل المعرفة بها (7) . ثم يطبق هذا فيقول مثلا في رده على الاخنائي؛ حين خلط بين الأحاديث الواردة فيما سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته من زيارة القبور، وما نهى عنه مما يقصده
_________
(1) نشأة الفكر الفلسفي (1/270) ، وانظر (2/339- 392) .
(2) في علم الكلام: أحمد صبحى (2/95-96) .
(3) نشأة الأشعرية وتطورها، للدكتور جلال محمد موسى (ص: 334) .
(4) دراسات في فكر ابن تيمية: عبد اللطيف محمد العبد (ص: 14- هـ 1) .
(5) انظر: الاستغاثة (2/256-257) .
(6) انظر: تلخيص الاستغاثة (1/12-13) .
(7) انظر: نفس المصدر (1/12-13) .(1/319)
أهل البدع من السفر لزيارة القبور ودعائهم والاستشفاع بهم:"وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله، ليس الغلط فيه من خصائصه، ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه كما أمر الله تعالى، فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار، فقال سبحانه وتعالى {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8] ، فكيف بإخواننا المسلمين، والمسلمون إخوة، والله يغفر له ويسدده، ويوفقه وسائر اخواننا المسلمين" (1) .
ويرى شيخ الإسلام أن عامة ما يؤتي الناس إما في تفريط في الحق وأدلته أو دخول في الباطل (2) ، كا أنه يؤكد أن الحجج القوية لا تقابل بالجحد فيقول: "وليس مما أمر الله به ورسوله ولا مما يرتضيه عاقل أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء، وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم؛ اذ هم- ولله الحمد- أكمل الناس عقلا، وأتمهم إدراكا، وأصحهم دينا، وأشرفهم كتابا، وأفضلهم نبيا، وأحسنهم شريعة" (3) .
وبعد هذه المقدمة نذكر نماذج من منهجه:
أ- دعوته إلى نقل الأقوال بألفاظها:
ا- قال في رده على النصارى: "وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها، فصلا فصلا، وأتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعا وأصلا وعقدا وحلا.." (4) ، ثم لما نقل نصا من كتاب النصارى الذى ردوا به على المسلمين
_________
(1) الرد على الإخنائي (ص: 81-82) ط السلفية.
(2) انظر: الصفدية (1/293- 294)
(3) انظر: درء التعارض (9/207) .
(4) الجواب الصحيح (1/19) .(1/320)
قال:"وهذه ألفاظهم بأعيانها في الفصل الأول " (1) .
2- وينعي على الإخنائي الذي رد على ابن تيمية فحرف كلامه، يقول:" وكان ينبغى أن يحكي لفظ المجيب بعينه، ويبين ما فيه من الفساد، وإن ذكر معناه فيسلك سبيل الهدى والسنة، فأما أن يذكر عنه ما ليس فيه، ولا يذكر ما فيه فهذا خروج عن الصدق والعدل إلى الكذب والظلم" (2) .
3 ولما نقل الرازى مناظرة ابن الهيصم لابن فورك حول العلو، وذكر الرازي أنه نظم حجة ابن الهيصم أحسن من نظمه، فقال ابن تيمية في معرض المناقضة: "وأما الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم فلم يذكر ألفاظها، لكن ذكر أنه نظمها أحسن من نظمه، ونحن في جميع ما نورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها، فإن التصرف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل، إما عمدا وإما خطأ، فإن الإنسان إن لم يتعمد أن يلوي لسانه بالكذب أو يكتم بعض ما يقوله غيره، لكن المذهب الذي يقصد الإنسان إفساده لا يكون في قلبه من المحبة له ما يدعوه إلى صوغ أدلته على الوجه الأحسن حتى ينظمها نظما ينتصر به، فكيف إذا كان مبغضا لذلك؟ والله أعلم بحقيقة ما قاله ابن الهيصم ونقله هذا عنه، لكن نحن نتكلم على ما وجدناه، مع العلم بأن الكرامية فيهم نوع بدعة في مسألة الإيمان وغيرها كما في الأشعرية أيضا بدعة، لكن المقصود في هذا المقام ذكر كلامهم وكلام النفاة" (3) .
ومن هذا النص المهم يتبين حرص شيخ الإسلام على نقل ألفاظ الخصوم بعينها، وأن هذه خطة اختطها لنفسه، كما أنه يشير إلى ناحية نفسية عند الإنسان حين يريد إبطال مذهب أو قول، وهو تنبيه إلى أمر واقعي، كثيرا ما يكون سببا في كثرة الجدال، وغلبة الشحناء وعدم الوصول إلى الحق بسرعة.
_________
(1) الجواب الصحيح (1/28)
(2) الرد على الاخنائي (ص: 13) ط السلفية
(3) نقض أساس التقديس المطبوع (2/344) ، وانظر ردا آخر على أحد المعترضين عليه حول اسم "النور" وأنه لم يقل ما قاله المعترض على الوجه الذي حكاه، مجموع الفتاوى (6/375) .(1/321)
ب- الدقة في نسبة الأقوال إلى أصحابها:
أ- فهو يعتمد النقل الصحيح للأقوال، فيقول: " وقد بلغنى بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم- وهو الخونجي (1) - صاحب " كشف الأسرار في المنطق " - وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن- أنه قال عند الموت " أموت وما علمت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب " ثم قال: " الافتقار وصف عدمي، أموت وما علمت شيئا "، وذكر الثقة عن هذا الآمدي أنه قال: " أمعنت النظر في الكلام وما استفدت شيئا إلا ما عليه العوام، أو كلاما هذا معناه.. ". وكذلك حدثني الثقة من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال: " أبيت بالليل وأستلقى على ظهري وأضع الملحفة على وجهي، أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء " كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة " (2) .
وكثيرا ما ينقل شيخ الإسلام عن الثقات فيما يتعلق بأحوال عصره وأقوال رجالهم.
2- ولما رمى ابن المطهر الحلي المسلمين بأنهم حشوية ومجسمة، قال شيخ الاسلام في معرض الرد عليه: " ومن أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسم القائل والناقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب، فقد تبين كذبه فيما نقله عن أهل السنة " (3) .
3- ويرى أن المعرفة بحقيقة أقوال الناس إنما تتم بنقل ألفاظهم فيقول: " وكثير
من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم" (4) .
_________
(1) هو: أفضل الدين أبو عبد الله محمد بن ناماور بن عبد الملك، الخونجي الشافعي، تولى قضاء القضاة في مصر، ولد سنة 590 هـ، وتوفي سنة 646 هـ، له الحمل في المنطق ط- وكشف الأسرار - في المنطق وغيرها، انظر: عيون الأنباء (ص: 586) ، وذيل الروضتين (182) ، وسير أعلام النبلاء (23/228) ، ومقدمة رسالتان في المنطق (ص:5- 25) .
(2) درء التعارض (3/262-264) .
(3) منهاج السنة؛ المحققة (2/413) .
(4) منهاج السنة (3/208) - مكتبة الرياض الحديثة.(1/322)
4- وفي رده على الآمدي حين نقل عن طائفة أنهم يقولون عن الله: إنه جسم الأجسام، حقق القول في هذه النسبة فقال:"مع أني إلى ساعتى هذه لم أقف على قول لطائفة، ولا نقل عن طائفة أنهم قالوا: جسم كالأجسام مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون: يد كيدى، وقدم كقدمي، وبصر كبصري مقالة معروفة، وقد ذكرها الأئمة كيزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وغيرهم، وأنكروها وذموها، ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله، ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثل بكل شيء من الأجسام، بل ببعضها، ولابد مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه والاختلاف من وجه، لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقين كانوا مبطلين على كل حال " (1) .
5- ولما ذكر أقوال المرجئة في الوعيد قال: " ويذكر عن غلاتهم أنهم نفوا الوعيد بالكلية، لكن لا أعلم معينا معروفا أذكر عنه هذا القول، ولكن حكي هذا عن مقاتل بن سليمان، والأشبه أنه كذب عليه " (2) . وأحيانا يقول: وأظن أن قول فلان هو هذا وما يشبه هذا (3) ، وقد يعبر أحيانا بمثل قوله:" كأن في الحكاية عنهما غلطا " (4) .
6- تصحيحه للأقوال التي تنسب خطأ إلى بعض الناس، فالكرامية الذين يقولون: إن الايمان قول في اللسان- وعليه فالمنافقون عندهم مؤمنون- يقول عنهم: " وبعض الناس يحكى عنهم أن من تكلم بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون: إنه مؤمن كامل الايمان، وأنه من أهل النار " (5) .
_________
(1) درء التعارض (4/144-145) ، وانظر (4/26-27) .
(2) شرح الأصفهانية (ص: 144) ، وانظر منهاج السنة (3/73) . وقال " والظاهر أنه غلط عليه".
(3) الرسالة الأكملية، مجموع الفتاوى (6/96) .
(4) النبوات (ص:5) ، دار الكتب العلمية.
(5) الفرقان بين الحق والباطل- مجموع الفتاوى (3/561) .(1/323)
ويقول- بعد أن نقل كلاما للحلاج رواه عنه القشيري في الرسالة-:" قلت هذا الكلام- والله أعلم- هل هو صحيح عن الحلاج أم لا؟ فإن في الإسناد من لا أعرف حاله، وقد رأيت أشياء كثيرة منسوبة إلى الحلاج من مصنفات وكلمات ورسائل، وهي كذب عليه لاشك في ذلك، وإن كان في كثير من كلامه الثابت عنه فساد واضطراب، لكن حملوه أكثر مما حمله.... " (1) .
ولما ذكر مسألة الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن، مثل قوله: هذه شجرة إن شاء الله، وهذا إنسان إن شاء الله، قال: " هذه بدعة مخالفة للعقل والدين، ولم يبلغنا عن أحد من أهل الإسلام، إلا عن طائفة من المنتسبين إلى الشيخ أبي عمرو بن مرزوق (2) ، ولم يكن الشيخ يقول بذلك، ولا عقلاء أصحابه ولكن حدثني بعض الخبيرين أنه بعد موته تنازع صاحبان له: حازم وعبد الملك فابتدع حازم هذه البدعة في الاستثناء في الأمور الماضية المقطوع بها، وترك القطع بذلك، وخالفه عبد الملك في ذلك موافقة لجماعة المسلمين وأئمة الدين، وأما الشيخ أبو عمرو فكان أعقل من أن يدخل في مثل هذا الهذيان فإنه كان له علم ودين ... " (3) .
7- ولما انتقد بعض العلماء لأنه يحرف المقالات ذكر الدليل على ذلك، بالمقارنة بين نقله والأصل المنقول عنه، ولما نقل عن هذا العالم نفسه نصا آخر شك في وجود تحريف فيه قال بكل أمانة: " وكذلك فيما نقله من كلام الأشعري كيف زاد فيه ونقص مع أن المنقول نحو ورقتين فلعله أيضا قد عمل ذلك فيما نقله من كلام ابن كلاب إذ لم نجد نحن نسخة الأصول الذي (4) نقل منها حتى نعلم كيف فعل فيها، وفيما نقله تحريف بين " (5) .
_________
(1) الاستقامة (1/119) .
(2) هو: الشيخ عمان بن مرزوق بن حميد القرشي، توفي سنة 564 هـ، ذيل طبقات الحنايلة (1/306-311) .
(3) مجموع الفتاوى (8/ 421-422) .
(4) كذا في المخطوط وصحة العبارة أن يقال (التي) .
(5) نقض أساس التقديس المخطوط (1/87) ، وانظر في المثال الأول، الذى أثبت فيه التحريف لوجود الأصل الذي نقل عنه (ص:54) .(1/324)
ج- رجوعه إلى المصادر والكتب، والاعتذار إذا لم يجدها:
ا- فيشير إلى أن أقوال الخوارج إنما عرفها بنقل الناس عنهم، ولم يقف لهم على كتاب مثل غيرهم، يقول: " وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة، والرافضة، والزيدية، والكرامية، وا لأشعرية، والسالمية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة والصوفية ونحو هؤلاء " (1) .
2- ولما تكلم في إحدى المسائل- مسألة الارادة الجازمة هل يعاقب عليها إذا كانت معصية- فصل القول تفصيلا دقيقا، لكنه اعتذر أثناء الجواب فقال: " وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان به على الجواب فإن له موارد واسعة " (2) .
3- ولما نقل كلام الباقلافي من كتابه " الإبانة " بما يدعم مذهب أهل السنة قال:" وقال في كتاب التمهيد كلاما اكثر من هذا، لكن ليست النسخة حاضرة عندي " (3) .
4- اعتماده الخط- إذ عرف صاحبهـ يقول:"ورأيت بخط القاضى أبي يعلى-رحمه الله- على ظهر كتاب " العدة" بخطه قال:" نقلت من آخره كتاب الرسالة للبخارى في أن القراءة غير المقروء ... " (4) .
د - رجوعه إلى اكثر من نسخة للكتاب الواحد:
ا- فحينما يرجع إلى سنن الترمذي، يذكر اختلاف النسخ في حكم الترمذي على الأحاديث، فمثلا في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:
_________
(1) الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوى (13/49) .
(2) مجموع الفتاوى (1/765-766) .
(3) الفتوى الحموية، مجموع الفتاوى (5/99) .
(4) الكيلانية، مجموع الفتاوى (12/362) ، وفي نموذج آخر: لما نقل أبيات ابن عربي المشهورة وتكلم عليها قال:" ولهذا يقول: إن قلت عبد فذاك ميت"، وفي موضع آخر رأيته بخطه " إن قلت ميت فذاك نفي"، مجموع الفتاوى (2/114-115) .(1/325)
" لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" قال: رواه أهل السنن الأربعة، وقال الترمذي " حديث حسن " وفي بعض نسخه "صحيح " (1) .
2- ولما نقل من كتاب " الرد على الجهمية " للامام أحمد بن حنبل رجع إلى أكثر من نسخة، ففي أحد النصوص: " ولا يكون شيئين مختلفين، وفي نسخة ولا يوصف بوصفين مختلفين ... " وفي نص آخر: تبين للناس أنهم لا يأتون بشيء- وفي نسخة: لا يثبتون شيئا- ... " (2) .
3- وأيضا في كتاب"الحيدة"لعبد العزيز الكناني رجع إلى اكثر من نسخة (3) ، وطرح رأيه في إحداها وناقشه (4) .
4- ولما نقل عن الرازي نصا فيه"فقد التزمه أصحابنا" قال: وفي نسخة "بعض أصحابنا " (5) .
هـ- تصويبه لما يرى من أخطاء بعد نقل النص كما هو:
1-ومن أمثلة ذلك أن الاخنائي احتج في رده على ابن تيمية بحديث موضوع صحفه ليحتج به، ولفظه كما ذكره: " من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى على نائيا سمعته" قال شيخ الإسلام:"هكذا في النسخة التي أحضرت إلي مكتوبة عن المعترض، وقد صحح على قوله " سمعته " وهو غلط
_________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/294) ، والحديث رواه الترمذى في أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا ورقمه (0 32) " (2/136) - تحقيق: شاكر"وقد رجعت إلى طبعة عبد الوهاب عبد اللطيف (1/ 201) ورقمه (319) ، والى تحفة الأحوذي (1/266) ، هندبة، وإلى عارضة الأحوذى (2/117) ، ومعارف السنن (3/309) وفي كلها " أن الترمذى قال " حديث حسن، وابن تيمية إنما رجع إلى نسخة أخرى غير ما اعتمد عليه هؤلاء.
(2) درء التعارض (2/176-177) ، وانظر نموذجا آخر في نقله من هذا الكتاب في الجواب الصحيح (1/173) .
(3) درء التعارض (2/251، 272، 290) .
(4) المصدر نفسه (2/273) .
(5) نقض التأسيس المخطوط (2/116) .(1/326)
فإن لفظ الحديث "من صلى على عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيا بلغته" هكذا ذكره الناس " (1) . ثم ذكر من رواه وكلام العلماء في إسناده ورجاله، وما يغني عنه من الأحاديث الأخرى (2) .
2- ولما نقل عن أبي محمد بن عبد المالكي من كتابه في أصول السنة والتوحيد، نقل كلامه حول المعارف فذكر أنه قال: " فأول الكلام الواقع في الخلاف في المعارف فجمهور قول المعتزلة أن جميعها اضطرار، قلت: كأنه بالعكس " (3) ، وفي نص آخر قال أبو محمد بن عبد: " فعز ربنا أن يقوم بالعلل فيصير دليلا بعدما كان مدلولا"، هكذا رأيته في الكتاب، إنما أراد: فيصير مدلولا بعدما كان دليلا " (4) .
هذا منهج شيخ الاسلام، جاء الكلام حوله طويلا، لكثرة كتبه وتنوعها، وطولها، ولعل ما سبق يعين على إعطاء صورة واضحة لذلك.
* * *
_________
(1) الرد على الاخنائي (ص: 131-134) ط السلفية، وانظر: مختصره في مجموع الفتاوى (27/241-242) . والحديث ذكر شيخ الاسلام أن القاضى عياض نسبه إلى ابن أبي شيبة، وقد اطلعت عل المصنف في مظانه ومنها أحاديث فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أجده، انظر: المصنف كتاب الفضائل (11/504) وما بعدها، لكن ذكر حديثا فيه أن ملكا موكلا بمن صلى عليه أن يبلغ عنه؛ انظره في (11/507) برقم (841) ، كما ذكر ابن تيمية أن البيهقى رواه وذلك في شعب الايمان كما في كنز العمال (1/492) برقم (2165) . ثم وجدته في الشعب رقم 1481 (4/213-214) - ط الدار السلفية الهند. وانظر تعليق المحقق عليه.
(2) انظر: الرد على الإخنائي (ص: 132) وما بعدها.
(3) درء التعارض (8/504) .
(4) نفس المصدر (8/507) .(1/327)
الفصل الثالث: أبو الحسن الأشعري
أولا: عصره.
ثانيا: نسبه ومولده ووفاته.
ثالثا: ثناء العلماء عليه.
رابعا: شيوخه.
خامسا: تلاميذه.
سادسا: مؤلفاته.
سابعا: أطوار حياته العقدية:
أ- طور الأشعري الأول (الاعتزال) .
ب- رجوعه عن الاعتزال وتاريخه وأسبابه.
ج- مذهب الأشعري بعد رجوعه: وهل كان طورا أو طورين.
ثامنا: عقيدته.(1/329)
أولا: عصر الأشعري:
عاش أبو الحسن الأشعري-رحمه الله- بين سنتي 260 هـ- 324 هـ- على الأرجح، وعاش في البصرة وبغداد في العراق، بلد الخلافة العباسية التي بقيت داخلة تحت حكمهم إلى أن شطت الخلافة سنة 656 هـ.
ويتميز عصر الأشعري بما يلي:
1- ضعف الدولة العباسية، بسبب ضعف الخلفاء، الذي بدأ في عهد الخليفة أبى إسحاق محمد المعتصم بالله [خلافته: 218- 227 هـ] ، وذلك حين بدأ نفوذ الأتراك يزداد لما اكثر منهم، حتى ضاقت فيهم بغداد فبنى لهم سامراء (1) التى أصبحت عاصمة الخلافة وكان ذلك سنة 221 هـ، وقد استمرت عاصمة للخلفاء من بعده إلى أن تحول عنها الخليفة أبو العباس أحمد المعتمد على الله [خلافته: 256- 279 هـ] ، حيث استقرت دار الخلافة مرة أخري في بغداد (2) .
وهؤلاء الأتراك- الذين أصبحوا جند الخلافة- أصبح نفوذهم كبيرا حتى أنهم صاروا ينصبون من يشاءون ويعزلون أو يقتلون من يشاءون من الخلفاء، وكان الوزير هو الذي يتولى تدبير شؤون البلاد، وليس للخليفة إلا الاسم. وقد عاصر أبو الحسن الأشعري ستة من الخلفاء أولهم المعتمد على الله وآخرهم أبو العباس أحمد الراضي بالله [خلافته: 322- 329 هـ] .
2- كما يتميز عصره ببعض القلاقل والأحداث من أهمها ثورة الزنج التي
_________
(1) سامراء أو سر من رأى، بلدة على نهر دجلة فوق بغداد بثلاثين فرسخا، بين بغداد وتكريت، وقد خربت ولم يبق فيها إلا سرداب الشيعة حيث ينتظر الشيعة خروج مهديهم منه، انظر: الأنساب للسمعاني (7/14) ، ومعجم البلدان (3/173) ، والروض المعطار (ص300) .
(2) انظر: العالم الاسلامي في العصر العباسي (ص: 323) ومابعدها، والكامل (7/455) .(1/331)
استمرت قرابة خمسة عشر عاما من سنة 255 هـ إلي سنة 270 هـ (1) ، وفها ابتداء أمر القرامطة سنة 278 هـ الذين أشاعوا الفتن وحربوا الخلافة العباسية واستمرت تحركاتهم ردحا من الزمن (2) ،
وإقامة الدولة العبيدية الفاطمية في المغرب سنة 296 هـ (3) ، ثم في مصر بعد ذلك، واستقلال الطولونيين بحكم مصر وسوريا من سنة 264 هـ إلي سنة 292 هـ بعد أن كانوا ولاة على مصر من قبل العباسيين (4) وبلغ من قوة هذه الدولة وضعف الخلفاء أن الخليفة المعتمد عزم على الذهاب إلى ابن طولون في مصر لاستبداد أخيه الموفق، ثم عمل أخوه على إرجاعه، وكان ذلك سنة 269 هـ قبل وفاة أحمد بن طولون بعام (5) .
3- أما من الناحية العلمية، فتميز هذا العصر بوجود عدد من العلماء في الحديث والفقه والعقيدة ومن أبرز أعلام هذا العصر:
- داود بن على الظاهري، الذي توفي سنة 270 هـ (6) .
- والربيع بن سليمان، صاحب الشافعي، توفي سنة 270 هـ (7) .
- وابن ماجه، صاحب السنن، توفي سنة 273 هـ (8) .
_________
(1) انظر: الكامل (7/5 0 2،235،241،244،5 0 4) ،والعبر (1/387، 388) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (10/23) ، وفضائح الباطنية (ص: 12) ، والمنتظم (5/ 110) ،
وتثبيت دلائل النبوة: عبد الجبارالهمذاني (2/376) ، وكشف أسرار الباطنية (ص: 1 0 2) مطبوع في آخر التبصير بالدين، والقرامطة: محمود شاكر (ص: هـ) وما بعدها.
(3) انظر في نشأة الدولة العبيدية الفاطمية: عيون الأخبار للداعي الإسماعيلى إدريس القرشي، السبع الخامس (ص: 44) وما بعدها، ورسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان الإسماعيلى (ص: 54) وما بعدها، واتعاظ الحنفاء (1/55) وما بعدها، وانظر: القوى السنية في المغرب (1/98) وما بعدها.
(4) انظر حسن المحاضرة (1/594) ، وتاريخ الدولة الإسلامية ومعجم الأسر الحاكمة (1/128)
(5) انظر: الكامل (7/ 394) ، والعبر (1/ 386) .
(6) العبر (1/389) ، والكامل (2/7 1 4) ، والبداية والنهاية (11/47) .
(7) العبر (1/0 39) ، والبداية والنهاية (1/48) .
(8) الكامل (7/425) ، والبداية والنهاية (11/52) .(1/332)
- وأبو بكر المروزى- أحد أجلاء أصحاب الإمام أحمد، توفي سنة 275 هـ (1) .
- وأبو داود السجستاني- صاحب السنن- ت 275 هـ وهو من تلاميذ
الإمام أحمد، توفي بالبصرة (2) .
- ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم عالم وخطيب أهل السنة. ت 276 (3) هـ في بغداد.
- الترمذى- صاحب السنن- ت 279 هـ (4) .
- عثمان بن سعيد الدارمي، الذى كان " جذعا في أعين المبتدعة، قيما بالسنة " (5) . توفي سنة 280 هـ.
- إبراهيم بن إسحاق الحربي، أحد تلامذة الامام أحمد، وكان يشبه به في وقته، توفي سنة 285 هـ (6) .
- عبد الله بن إلامام أحمد ت 290 هـ (7)
- محمد بن نصر المروزي، المحدث الشافعي، ت 294 هـ (8) .
- النسالمط- صاحب السنن، ت 303 هـ (9) .
- الطبري- صاحب التفسير، ت 310 هـ (10) .
_________
(1) العبر (1/396) .
(2) العبر (1/396) ، والبداية والنهاية (11/54)
(3) الكامل (7/438) ، والعبر (1/397) ، وجعله ابن كثير في وفيات 270 هـ، البداية (11/48) .
(4) الكامل (7/460) ، والعبر (1/402) ، والبداية (11/66) .
(5) العبر (1/403) ، والبداية (11/69) .
(6) الكا مل (7/492) ، والعبر (1/410) ، والبداية (11/79) .
(7) الكامل (7/539) ، والعبر (1/418) ، والبداية (11/96) .
(8) العبر (1/426) ، والبداية (11/102)
(9) الكامل (8/ 96) ، والعبر (1/444) ، والبداية (11/123) .
(10) الكامل (8/134) ، والعبر (1/460) ، والبداية (11/145) .(1/333)
- ابن خزيمة- إمام الأئمة محمد بن إسحاق- ت 311 هـ (1) .
- الطحاوي- أحمد بن محمد بن سلامة- ت 321 هـ (2) .
وغيرهم من العلماء، وهم كثير، لكن لم نشر إليهم اختصارا.
4-كما وجد عدد من أهل الكلام والاعتزال والتصوف، وغيرهم، كما وجدت بعض الأحداث، فإضافة إلى القرامطة كان للخوارج بعض التحركات (3) ، كما عزم الخليفة المعتضد سنة 284 هـ على لعن معاوية- رضي الله عنهـ على المنابر (4) ، كما كان عام 321 هـ ابتداء ظهور دولة بني بويه الشيعية (5) .
ومن أشهر أهل الكلام والتصوف والرفض:
- أحمد بن مخالد، مولى المعتصم، وكان من دعاة المعتزلة، ت 269 هـ (6) .
- وابن الراوندي الملحد، كان معتزليا ثم خرج عليهم، ت 300 هـ (7) .
- والجبائي، أبو على محمد بن عبد الوهاب، ت 353 هـ (8) .
- والكعبى، عبد الله بن أحمد البلخي شيخ المعتزلة، ت 319 هـ (9) .
- والجبائي، أبو هاشم، ت 321 هـ (10) .
_________
(1) العبر (1/462) ، وسير أعلام النبلاء (14/365) ، وطبقات السبكي (3/159) .
(2) العبر (2/ 11) ، والبداية (11/174) .
(3) انظر: الكامل (7/423، 437،453، 462، 470، 476) ، أحداث سنة 273 هـ- 283 هـ.
(4) انظر: الكامل (7/485) ، والعبر (1/408) ، والبداية (11/76) .
(5) الكامل (8/264) .
(6) الكامل (7/398) .
(7) العبر (1/439) .
(8) الكامل (8/96) .
(9) العبر (2/4) .
(10) الكامل (8/273- 274) ، والعبر (2/12) .(1/334)
- سهل بن عبد الله التستري، ت 283 هـ (1) .
- والحزاز أحمد بن عيسى، أول من تكلم في الفناء والبقاء، ت 286 هـ (2) .
- الجنيد، أبو القاسم الجنيد بن محمد القواريرمم! ا، سيد الطائفة الصوفية،
ت 298 هـ (3) .
- الحلاج، قتل سنة 309 هـ (4) .
- الشلمغاني، قتل سنة 322 هـ (5) .
- الكليني الرافضي: محمد بن يعقوب صاحب الكافي، توفي سنة 329 هـ (6) كما كان من العلماء الذين كانت لهم ميول إلى أقوال أهل الكلام:
- الصبغي: أحمد بن إسحاق، ولد سنة 258 هـ، وتوفي سنة 342 هـ وكانت له قصة مع ابن خزيمة حول الكلام ومذهب ابن كلاب (7) .
- وأبو علي الثقفي: محمد بن عبد الوهاب، من ولد الحجاج، ولد سنة 244 هـ وتوفي سنة 328 هـ، قال عنه الصبغى: " ما عرفنا الجدل والنظر حتى ورد أبو علي الثقفي العراق " (8) ، وكان ممن خالف ابن خزيمة.
_________
(1) العبر (1/407) .
(2) العبر (1/412) .
(3) المصدر السابق (1/435) .
(4) الكا مل (8/126- 129) ، والعبر (1/454) .
(5) اسمه محمد بن علي المعروف بابن أبي القراقر، وشلمغان قرية بنواحي واسط، انظر: الكامل (8/290-294) ، والعبر (2/14) .
(6) سير أعلام النبلاء (15/280) .
(7) ستأتي ترجمة الصبغي وابن كلاب في الفصل الرابع.
(8) سير أعلام النبلاء (15/282) وستأتي ترجمته في الفصل الرابع.(1/335)
- الماتريدي: محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور، إمام الماتريدية،
توفي سنة 333 هـ (1) .
5-كما كان للحنابلة أحيانا نفوذ في بغداد، وكانت تقع بينهم وبين غيرهم بعض الفتن (2) ، وفي سنة 323 هـ كان لهم نفوذ عظيم في عهد عالمهم البربهاري- أبو محمد الحسن بن على بن خلف الذي توفي سنة 328 هـ (3) - ثم خرج توقيع الخليفة الراضى ضدهم بتهمة التشبيه حتى اختفى واستتر شيخهم وتوفى وهو مستتر (4) .
هذا عصر الأشعري الذي عاش فيه، وهو يدل على قوة أهل السنة بأعلامهم الكبار، الذي كان لهم نفوذ كبير وصل إلى أن يصدر الأمر من المعتضد إلى الوراقين ببغداد- سنة 279 هـ- أن يحلفوا أن لا يبيعوا كتب الكلام والفلسفة، وأن لا يمكن أحد من القصاص والطرقية والمنجمين ومن أشبههم من الجلوس في المساجد ولا في الطرقات (5) .
_________
(1) ستأتي ترجمته في الفصل الرابع.
(2) انظر: الكامل (8/213) حوادث عام 317 هـ.
(3) ستأتي ترجمته ومصادرها (ص: 384) ،وانظر: حول نفوذ الحنابلة الكامل (8/307) ، والعبر (2/18) .
(4) انظر: الكامل (8/308- 309) .
(5) انظر: الكامل (7/453) ، والعبر (1/400) ، والبداية والنهاية (11/64) .(1/336)
ثانيا: نسبه ومولده ووفاته:
هو الشيخ أبو الحسن على بن إسماعيل بن أبي بشر- إسحاق- بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبو الحسن الأشعري ينتهي نسبه الى هذا الصحابي الجليل، واسمه عبد الله بن قيس بن حضار الأشعري اليماني (1) .
اختلف في تاريخ ولادته فقيل سنة 260 هـ، وقيل سنة 266 هـ (2) ، وقيل سنة 270 هـ (3) ، والأول هو الأرجح الذي عليه اكثر مترجميه، كما أنه يتناسب مع ماذكر (4) في حياته من تحوله عن الاعتزال وهو في الأربعين، وهو الذي رجحه الخطيب البغدادي وابن عساكر.
_________
(1) انظر في ترجمة الأشعري: تاريخ بغداد (11/346) وتبيين كذب المفتري، والفهرست (ص:231) - ط طهران-، والمنتظم لابن الجوزي (6/332) ، والكامل في التاريخ (8/392) ، والأنساب للسمعاني (1/273) ، واللباب (1/64) ، وتكملة تاريخ الطبري للهمذاني (ص: 334) ت- أبو الفضل إبراهيم- و (ص: 130) من الطبعة الكاثوليكية. وترتيب المدارك (5/ 24) - الطبعة المغربية-، ووفيات الأعيان (3/284) ، والعبر (2/23) ، وسير أعلام النبلاء (15/ 85) ، والبداية والنهاية (11/187، 204، 206) ، وطبقات الشافعية لابن قاضى شهبة (1/81) ، وللسبكي (3/347) ، وللأسنوي (1/72) ، والمختصر لأبي الفداء (2/89) ، وتتمة المختصر لابن الوردي (1/409) ، والدبياج المذهب (2/94) ، والجواهر المضية (2/544، 4/33) ، والخطط للمقريزي (2/358) - ط- بو لاق-، وشذرات الذهب (2/303) ، والنجوم الزاهرة (3/259) ، وطبقات المفسربن للداودي (1/390) ، وشجرة النور الزكية (1/79) ، وجلاء العينين (ص: 247) - ط المدني-، ومفتاح السعادة (2/152) ، ودائرة المعارف الاسلامية (2/218) ، وبروكلمان (4/38) ، وسزكين (م1ج 4 ص: 35) ، ومعجم أعلام الفكر الإنساني (1/587) ، والأشعري حمودة غرابة، ومذاهب الإسلاميين: بدوي (1/487) ، ونشأة الأشعرية وتطورها (ص: 165) ، وفي علم الكلام أحمد صبحى (ج2) عن الأشاعرة (ص: 35) ، ومقدمة تحفيق الإبانة لفوقية حسين محمود (ص: 9) وما بعدها، والأعلام (4/263) ، ومعجم المؤلفين (7/35) وغيرها.
(2) انظر: الخطط (2/359) .
(3) انظر: السير للذهبى (15/85) ذكر هذا القول والقول الأول، وابن خلكان (3/284) .
(4) انظر: تاريخ بغداد (11/347) ، والتبيين (ص: 146) .(1/337)
فأما أبوه إسماعيل فكان سنيا جماعيا حديثيا، ويدل على ذلك أنه أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحى الساجى (1) ، وفيه دلالة علي أن أباه توفي وابنه أبو الحسن صغير، ولذلك عاش في كنف زوج أمه الجبائي.
وكان مولد أبي الحسن في البصرة ولذلك يقال له البصري، وكانت أسرته من ولد الصحابي أبي موسى الأشعري- رضى الله عنهـ قد سكنوا هذه المدينة. أما وفاته، فقد قيل: إنه توفي سنة 320 هـ، وقيل: 330 هـ وهو أرجحها، وقد رجحه ابن عساكر (2) .
ثالثا: ثناء العلماء عليه:
أثنى عليه العلماء- وخاصة علماء الأشاعرة- وتركز ثناؤهم على ما كان
له من نسب، وماقام به من الرد على المعتزلة والملحدة وغيرهم، فيقول الخطيب البغدادي: " أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة " (3) ، ويروى عن أبي بكر بن الصيرفي (4) أنه قال: " كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعري فجحرهم في أقماع السمسم " (5) .
ويقول القاضى عياض عند ترجمته: " وصنف لأهل السنة التصانيف،
_________
(1) انظر: التبيين (ص: 35) .
(2) انظر: التبيين (ص: 146- 147) ، ووفيات الأعيان (3/285) .
(3) تاريخ بغداد (11/346-347) .
(4) هو: محمد بن عبد الله، أبو بكبر الصيرفي، الامام الأصولي، توفي سنة 330 هـ، كانت له مناظرة مع أبي الحسن الأشعري حول وجوب شكر النعم، طبقات السبكي (3/186) .
(5) تاريخ بغداد (11/347) ، وتبيين كذب المفترى (ص: 94) وقال: إسناد هذه الحكاية مضيء كالشمس، ورواتها لا يخالط عدالتهم شك في النفس، والأنساب (1/274) ، وطبقات السبكي (3/349) ، وعزا الزركشي في المعتبر في تخرج أحادبث المنهاج والمختصر (ص: 268) هذه العبارة إلي أبي بكر بن العربي، ولعله وهم، وقد نبه على ذلك في الحاشية محقق المعتبر.(1/338)
وأقام الحجج على إثبات السنة وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى ورؤيته وقدم كلامه وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط، والميزان، والشفاعة، والحوض وفتنة القبر التى نفت المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شبه المبتدعة ومن بعدهم من الملحدة والرافضة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة " (1) .
ويقول الذهبى: " ولأبى الحسن ذكاء مفرط، وتبحر في العلم، وله أشياء حسنة، وتصانيف جمة تقضى له بسعة العلم " (2) ويقول: " رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات وقال فيها: تمر كما جاءت، ثم قال: وبذلك أقول وبه أدين، ولا تؤول " (3) .
أما ابن عساكر في الكتاب الذي أفرده في ترجمته والدفاع عنه، فقد مدحه كثيرا، وجعله من المجددين، وذكر الروايات الواردة في مدح قومه وأسرته. وكذلك السبكي في طبقات الشافعية- ذلك الكتاب الذي يصح أن يسمي " طبقات الأشاعرة "- فقد بالغ في مدح شيوخ الأشاعرة ونقل أقوالهم وعقائدهم (4) ، ولذلك فمن المتوقع أن يمدح الأشعري عندما يصل إلي ترجمته، وكان مما قال فيه: " شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى، الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري شيخ طريقة أهل السنة والجماعة، وإمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين، سعيا يبقى أثره إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، إمام حبر، وتقى بر، حمى جناب الشرع
_________
(1) ترتيب المدارك (5/24) .
(2) سير أعلام النبلاء (15/87) .
(3) المصدر السابق (15/86) .
(4) يتهم السبكى الذهبى أنه يعلى من شأن الحنابلة ويحط من شأن الأشاعرة، وليس هذا موضع مناقشة هذه التهمة، وقد ناقشها بشار عواد في مقدمته لسير أعلام النبلاء (ص: 127-135) ، ولكن نقول. أن السبكي وقع في تراجم الأشاعرة في طبقاته في نفس الشيء الذى اتهم به الذهبي.(1/339)
من الحديث المفترى وقام في نصرة ملة الإسلام فنصرها نصرا مؤزرا...." (1)
وغيرهم من العلماء الذين مدحوه وأثنوا على ماقام به من نصر السنة والرد على المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، لكنه لم يسلم من القدح والذم، فقد ذمه أبو على الأهوازي (2) وألف كتابا في مثالبه (3) ، كا شنع عليه ابن حزم (4) ، وابن الجوزي والمقبلى (5) .
رابعا: شيوخه:
لم يكن الأشعري مشهورا بالرواية عن أهل الحديث، سوى بعض الروايات التى رواها في تفسيره عن بعض شيوخه، أما مذهبه الفقهي فقد تنازع الانتساب إليه كل من الشافعية والمالكية والحنفية، كا هو واضح في قائمة الكتب التي ترجمت له، وكما صرح بذلك بعض العلماء (6) ، والأرجح أنه كان شافعي المذهب، وهو الذى عليه اكثر.
_________
(1) طبقات السبكي (3/347) .
(2) هو: الحسن بن على بن إبراهيم، أبو على الأهوازى مقرئ الشام في عصره، ولد سنة: م 362 هـ، صنف كتابا في الصفات أتى فيه بموضوعات، اتهم بوضعها الأهوازى نفسه منها حديث: رأيت ربي بعرفات على جمل أحمر عليه إزار، وغيره، فصل القول فيه الذهبي في ميزان الاعندال (1/512-513) . وقال:"لو حابيت أحدا لحابيت أبا على لمكان علو رواتي في القراءات عنه"، توفي سنة 446 هـ، وانظر: معرفة القراء الكبار (1/402) ، وغاية النهاية في طبقات القراء (1/220) .
(3) رد عليه ابن عساكر في تبيين كذب المفترى.
(4) انظر: ترتيب المدارك (5/26) .
(5) ابن الجوزي في المنتظم (6/332) ،والمقبلى في العلم الشامخ (ص:290-363) وغيرها ط دار البيان.
(6) من الذين قالوا إنه مالكي المذهب القاضي عياض ني ترتيب المدارك (5/24) ، وابن فرحون في الديباج (2/64) ، ومن الذين قالوا إنه حنفي المذهب: القرشى في الجواهر المضية (2/545) .(1/340)
وأهم شيوخه:
1- أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، شيخه في الاعتزال قبل رجوعه.
2- زكريا بن يحيى الساجي، محدث البصرة وشيخها ومفتيها، المتوفي سنة 307 هـ، يقول الذهبي: " أخذ عنه أبو الحسن الأشعري مقالة السلف في الصفات، واعتمد عليها أبو الحسن في عدة تآليف " (1) وسبقت الإشارة إلى أن والده لما توفي أوصى إلى الساجى، وممن ذكر تتلمذه على الساجى ابن عساكر (2) والسبكى (3) والبغدادي (4) .
3- أبو إسحاق المروزي: إبراهيم بن أحمد المروزي، صاحب أو العباس بن سريج وأكبر تلامذته، انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي، توفي سنة 340 هـ (5) ، وممن ذكر تتلمذ الأشعري عليه الخطيب البغدادى وابن خلكان (6) ، فقد ذكروا أنه كان يجلس إلى حلقته في بغداد.
4- أبو العباس بن سريج: أحمد بن عمر بن سريج القاضي البغدادى ولد سنة 240 هـ، توفي سنة 303 هـ (7) ، قال ابن كثير عن الأشعري: " وتفقه بابن سريج " (8) .
_________
(1) سير أعلام النبلاء (14/98) وانظر ترجمته أيضا في طبقات السبكي (3/299) ، وتذكرة الحفاظ (2/ 709) .
(2) انظر: التبين (ص: 400) .
(3) طبقات السبكي (3/299،355) .
(4) الملل والنحل للبغدادي (ص: 128-129) .
(5) ترجمته في تاريخ بغداد (6/11) ، وسير أعلام النبلاء (1/429) ، وشذرات الذهب (2/355) .
(6) انظر: تاريخ بغداد (11/ 347) ، ووفيات الأعيان (3/284) .
(7) انظر: سير أعلام النبلاء (14/201) ، وطبقات السبكي (3/21) .
(8) البداية والنهاية (11/187) .(1/341)
5- أبو بكر القفال الشاشي: محمد بن على بن إسماعيل القفال الكبير، توفي سنة 365 هـ (1) ، ذكر السبكي: " أن القفال أخذ علم الكلام عن الأشعري، وأن الأشعري كان يقرأ عليه الفقه، كما كان هو يقرأ عليه الكلام " (2) ، وذكر ابن عساكر عن القفال أنه " كان في أول أمره مائلا عن الاعتدال قائلا بمذاهب أهل الاعتزال (3) " وذكر السبكي أنه رجع إلى مذهب الأشعر ى (4) .
6- أبو خليفة الجمحي: الفضل بن الحباب، واسم الحباب: عمرو بن محمد بن شعيب، ولد أبو خليفة سنة 206 هـ، وتوفي 305 هـ، قال عنه الذهبي: " وكان ثقة، صادقا مأمونا أديبا، فصيحا مفوها، رحل إليه من الآفاق وعاش مئة عام سوى أشهر " (5) . وممن ذكر تتلمذ الأشعري عليه ابن عساكر والذهبي والسبكي (6) .
7- سهل بن نوح.
8- عبد الرحمن بن خلف الضبي.
9- محمد بن يعقوب المقبري، أو المقري.
ذكر تتلمذ الأشعري على هؤلاء الثلاثة ابن عساكر والسبكي (7) .
_________
(1) انظر: تبيين كذب المفترى (ص: 182) ، وطبقات السبكي (3/ 200) ، وسير أعلام النبلاء (16/283) .
(2) طبقات السبكى (3/202) .
(3) التبيين (ص: 183) .
(4) الطبقات (3/201) ، وقد دافع عنه الذهبي فقال بعد ذكره ماقاله أبو سهل الصعلوكي عن تفسير القفال من أنه دنسه من جهة نصره للاعتزال، قال الذهبى معلقا:" الكمال عزيز وانما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل، فلا تدفع المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر له باستفراغه الوسع في طلب الحق، ولا قوة إلا بالله " السير (16/285) .
(5) سير أعلام النبلاء (8/14) ، وانظر أيضا في ترجمته البداية والنهاية: (11/128)
(6) وذلك في التبيين (ص: 400) ، وسير أعلام النبلاء (15/86) ، وطبقات (5/355) .
(7) التبين (ص: 400) ، والطبقات (3/355) ، وذكر شيخ الاسلام ابن تيمية في =(1/342)
خامسا: تلاميذه:
تتلمذ على الأشعري كثيرون، ولا شك أن قصة رجوعه وماصاحبها كان سببا في انكباب كثير من التلاميذ عليه، والظاهر أن هذه التلمذة انما كانت- في الغالب- في مجال العقيدة وما آمن به الشيخ الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال.
وإذا كان تلاميذه كثيرين فإن أخصهم به كما يقول السبكي أربعة:
ابن مجاهد، وأبو الحسن الباهلي، وبندار خادمه، وأبو الحسن الطبري (1) . ونذكر هؤلاء، ئم نذكر بعض تلاميذه:
1- ابن مجاهد: محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب الطائي البغدادي،
توفي سنة 370 هـ، تتلمذ عليه الباقلاني (2) .
2- أبو الحسن الباهلي: توفي في حدود سنة 375 هـ، تتلمذ عليه أبو إسحاق الإسفراييني، وابن فورك والباقلاني، وكان يلقي عليهم دروسه من وراء حجاب بسبب أنهم يرون السوقة فلا يريد أن يروه بالعين التي رأوا فيها اولئك، وكان زاهدا صوفا (3) .
3- أبو الحسين بندار بن الحسين الشيرازي الصوفي: خادم أبي الحسن الأشعري، وكان من أصحاب الشبلي، توفي سنة 353 هـ (4)
4- أبو الحسن علي بن مهدي الطبري، توفي في حدود سنة 380 هـ (5) .
_________
= كتابه التسعينية (ص: 201) عن ابن الراوندي أنه يقال: إنه أحد شيوخ أبي الحسن الأشعري.
(1) طبقات السبكي (3/368-369) .
(2) تبيين كذب المفتري (ص: 177) ، وسير أعلام النبلاء (16/305) ، والديباج المذهب (2/210) .
(3) التبيين (ص: 178) ، وسير أعلام النبلاء (16/304) ، والوافي بالوفيات (12/312) .
(4) التبيين (ص: 179) ، حلية الأولياء (10/385) ، وطبقات الصوفية (ص: 467) ، وسير اعلام النبلاء (16/108) ، وطبقات السبكي (3/224) .
(5) التبيين (ص:195) ، وطبقات السبكي (3/466) .(1/343)
5- أبو بكر القفال الشاشي، وهو من شيوخ الأشعري أيضا وتقدم.
6- ابن خفيف: أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي الصوفي، توفي
سنة 371 هـ، كانت له رحلة إلى الأشعري وله معه حكايات (1) .
7- أبو الحسن عبد العزيز بن محمد الطبرى المعروف بالدمل، نشر مذهب الأشعري بالشام (2) .
8- أبو سهل الصعلوكي، محمد بن سليمان بن محمد، ولد سنة 276 هـ، وتوفي سنة 369 هـ (3) .
9- أبو زيد المروزي: محمد بن أحمد بن عبد الله، ت 371 هـ (4) .
وغيرهم (5) .
سادسا: مؤلفاته:
لأبي الحسن الأشعري مؤلفات كثيرة، قال ابن حزم إنها خمسة وخمسون
_________
(1) التبيين (ص:190) ، وحلية الأولياء (10/386) ، وسير أعلام النبلاء (16/342) ، وطبقات السبكى (3/149) .
(2) تبيين كذب المفترى (ص: 195) ، ونزهة الألباب في الألقاب لابن حجر ترجمة رقم (1064) ، تحقيق عبد العزيز بن محمد السديري، مطبوع على الآلة الكاتبة.
(3) تبيين كذب المفترى (ص: 183) ، وسير أعلام النبلاء (16/235) .
(4) التبيين (ص: 88 1) ، وسير أعلام النبلاء (16/313) .
(5) الذين ذكروا هم الذين ثبت انهم التقوا بالأشعري وتتلمذوا عليه، أما من يسيهم ابن عساكر بالطبقة الأولى من أصحاب الأشعري فلم يثبت عنهم كلهم تتلمذهم عليه، ولهذا قال::فالطبقة الأولى هم أصحابه الذين أخذوا عنه ومن أدركه ممن قال بقوله أو تعلم منه" (التبيين ص: 177) ، وكذلك احتاط السبكي فقال: لما عدد جماعة من الآخذين عن الشيخ قال:"وربما كان في هؤلاء من لم يثبت عندنا انه جالس الشيخ ولكن كلهم عاصروه وتمذهبوا بمذهبه ... " الطبقات (3/368) ، ويتبين غلط بعض الباحثين الذين سردوا أسماء الطبقة الأولى الذين ذكرهم ابن عساكر على أنهم تلاميذه. (منهم صاحب رسالة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه في العقيدة (ص: 37) .(1/344)
مصنفا، وقال غيره: إنها اكثر من ثمانين وثلاثمائة مصنف (1) .
ولا حاجة إلى سرد هذه المصنفات، فقد سبق أن سردها غير واحد (2) ،ولكن أشير الى مؤلفاته التي وصلت الينا، ثم إلى كتاب ابن فورك " مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري
فمصنفاته التي وصلت إلينا حتى الآن:
1- مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين:
وهو من أهم كتب المقالات وأوثقها وأدقها في نسبة الأقوال إلى أصحابها، ويلاحظ في هذا الكتاب:
أ- التكرار، فكثيرا ما يكرر الأقوال، وخاصة حين يتكلم عن الطوائف وأقوالها، ثم يعيد الكلام عن بعض الموضوعات وأقوال الطوائف فيها.
ب- معرفة الأشعري بمذاهب أهل الكلام، وخاصة المعتزلة، ولذلك فصل أقوالهم ومذاهبهم، وفروق أقوالهم الدقيقة.
ج- ذكره بالتفصيل لأقوال شيخه في الاعتزال، الجبائي، ويعتبر من أهم المصادر لأقوال الجبائي- الذي لم يصل إلينا من مؤلفاته شيء-، وهو يدل على مدى تأثير الجبائي على الأشعري في المرحلة الأولي من حياته.
د- ذكره لأقوال السلف- الذين يسميهم أهل الحديث وأهل السنة بإجمال، لأنه لم يكن خبيرا بتفاصيل أقوالهم، ولهذا نسب إليهم
_________
(1) انظر: التبيين (ص: 92، 136) وفيه (ص: 136) "مئتين وثلاثمائة" وهو خطأ والتصويب من النقض (1/87) .
(2) منهم ابن فورك وابن عساكر في التبيين (ص: 128) وما بعدها، وبدوي في مذاهب الأسلاميين (1/55) ، ومقدمة الإبانة تحقيق فوقيه محمود (ص: 38) .(1/345)
ما لم يقولوه، فمثلا قال عنهم: إنهم يقولون عن الله إنه " ليس بجسم.... (1) وليس مذهب السلف بهذا الإطلاق، كما ذكر عنهم أنهم يقولون: " ان أحدا لا يستطع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله ... " (2) وهذا أيضا ليس مذهب أهل السنة.
وأهم طبعات الكتاب طبعة ريتر، وطبعة محمد محي الدين عبد الحميد
التي أضاف إليها حواشي جيدة، وإن كان قد اعتمد على طبعة ريتر ولم يشر إلى فروق النسخ.
2- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع:
لم يشك أحد في نسبته إلى الأشعري، وقد بين فيه كثيرا من القضايا الكلامية التي رد فيها على المعتزلة، وشرح فيها مذهبه خاصة في مسائل: وجود الصا نع، والقرآن، والإرادة، والرؤية، والقدر- والكسب- والاستطاعة، ثم مسائل التعديل والتجوير والايمان، والوعد والوعيد والإمامة.
وسيأتي- إن شاء اللهـ تفصيل آخر عنه، وقد طبع مرتين: بتحقيق مكارثي، وحمودة غرابة.
3- رسالته إلى أهل الثغر:
وسماه ابن عساكر: " جواب مسائل كتب بها إلى أهل الثغر (3) في تبيين ما سألوه عنه من مذهب أهل الحق (4) ، وهذا الثغر العظيم المسمي باب الأبواب
_________
(1) مذاهب الإسلاميين (ص: 211) - ت- ريتر.
(2) المصدر السابق (ص: 291) .
(3) يسمي باب الأبواب، وهو على ساحل نهر طبرستان المسمي بحر الخزر (قزوين) وباب الأبواب دربند او شروان، ويقع في اقليم الران بين القوقاز وأذربيجان، وكان هذا الثغرعلى حدود الدولة الإسلامية. انظر: تفصيلات أخرى في كتاب الأقاليم للإصطخرى (ص: 79) "مخطوطة مصورة"، ومعجم البلدان (1/303) ، وآثار العباد (ص: 506) ، والروض المعطار (ص:77) .
(4) تبيين كذب المفترى (ص: 136) ، وهذه الرسالة ثابتة للأشعري، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية نصا طويلا في درء النعارض (7/186) .(1/346)
يسكن فيه أناس كثيرون مختلفوا اللغات، وقد ذكر الإصطخري أنها نيف وسبعون لغة حتي أن الجار لا يعرف لغة جاره، ومع ذلك فهو من ثغور الإسلام العظيمة، فهو يحمي ظهور المسلمين وينذرهم إذا قدم العدو، والذين سألوا الأشعري يظهر أنهم كانوا من العلماء ولهذا قال في مقدمة الرسالة: أما بعد أيها الفقهاء والشيوخ من أهل الثغر ... (1) .
أما موضوعها فيشتمل على مقدمة طويلة حول الاستدلال ومنهج الرسل فيه،
مع بيان أنهم لم يدعوا إلى دليل الاعراض الذي دعا إليه المعتزلة وأهل الكلام، ويستغرق هذا مايقرب من نصف الرسالة، ثم بعد ذلك عرض لما أجمع عليه السلف في مسائل العقيدة المختلفة، الصفات، والرؤية، والقدر، والنبوة، والإيمان، ومرتكب الكبيرة، وعذاب القبر، والصراط، والشفاعة، والصحابة. وغيرها. والشيء الملفت في هذه الرسالة ما ورد في مقدمتها من قول الأشعري: "ووقفت أيدكم الله على ما ذكرتموه من إحمادكم جوابي على المسائل التى كنتم أنفذتموها إلي في العام الماضي وهو سنة سبع وستين ومئتين " (2) ، هكذا في المخطوطة التي اعتمد عليها من طبع هذه الرسالة، والأشعري ولد علي القول الراجح سنة 260 هـ وهو أيضا أقدم ما أرخت به ولادته؛ إذ الأقوال الأخرى فيها أن ولادته بعد هذا إما في سنة 266 هـ أو سنة 270 هـ، وعلي أقصى التقديرات يكون عمر الأشعري ثماني سنوات، والرسالة إنما ألفها بعد رجوعه عن الاعتزال.
والحل الأقرب ما أشار إليه بعض الباحثين (3) من أنه ربما يكون هناك سهومن الناسخ للمخطوطة وأن صوابه 297 هـ، فيكون تاريخ رسالته هذه الى أهل الثغر سنة 298 هـ، وهذا التاريخ يعطى دلالة على زمن تحول الأشعري
_________
(1) رسالة أهل الثغر (ص: 31) تحقيق الجليند.
(2) نفس المصدر والصفحة، وهو في النسخة الخطية- مصورة معهد المخطوطات- لوحة رقم (1) .
(3) انظر: مذاهب الإسلاميين (1/522-523) ، ومقدمة الجليند للرسالة (ص: 12-13، 31) .(1/347)
عن الاعتزال وأنه كان قبل الثلاثمائة- ولو بقليل- وبه يظهر خطأ من جعل هذه الرسالة مما ألفه الأشعري بعد سنة 320 هـ بدون دليل يذكره (1) . وهذه الرسالة طبعت في بعض الدوريات في تركيا (2) ، وأخيرا طبعت
عام 1407 هـ بتحقيق محمد السيد الجليند، كا أنها حققت فى الجامعة الاسلامية في المدينة وطبعت أيضا، وهى بتحقيق عبد الله شاكر.
4- الإبانة عن أصول الديانة:
وهو من أهم كتب الأشعري، وأكثرها إثارة للجدل، لأنه يحوي جوانب من العقيدة تخالف ما عليه متأخرو الأشعرية، خاصة في مسائل الصفات الخبربة والعلو والاستواء.
ونسبته إلى الأشعري مشهورة، ففضلا عن النسخ الخطية التي تنسب هذا الكتاب إليه فإن جمهرة من جلة العلماء نسبوه إليه، وفيهم من دافع عن الأشعرية- في المحن التى مروا بها- من خلال بيان صحة اعتقاد الأشعري الذي ينتسبون إليه، وذلك بالنقل من هذا الكتاب مما يوافق مذهب أهل السنة، ومن هؤلاء العلماء: البيهقي، والصابوني، وابن عساكر، ونصر المقدسي، وأبو بكر، السمعاني (3) ، وابن تيمية وابن القيم (4) ، حتى الأهوازي الذى ألف في مثالب،
_________
(1) انظر: مقدمة تحقيق الإبانة (ص:90-91) ، ويلاحظ أن في عبارة ابن فورك بعد أن عدد مؤلفات الأشعري مايدل على أن هذه الرسالة ألفها الأشعري قبل سنة 320 هـ فإنه قال:"هذا هو أسامي كتبه التي ألفها إلي سنة عشرين وثلاثمائة سوى أماليه والجوابات المتفرقة عن المسائل الواردات من الجهات المختلفات، تبيين كذب المفترى (ص: 135) فهذا يعطي ظنا غالبا تقدم هذه الرسالة عن التاريخ المذكور.
(2) نشرها قوام الدين في مجلة دار الفنون بإستانبول، ثم نشرها في مجلة كلية الإلهيات سنة 1928م في (ج7،8) ، مذاهب الإسلاميين (1/521) ، ودرء التعارض (7/186) ، حاشية المعلق،وانظر: بروكلمان- تاريخ الأدب العربي (4/ 40) - من الطبعة العربية.
(3) انظر: الاعتقاد للبيهقي (ص: 108-109) تحقيق أحمد عصام الكاتب، وتبين كذب المفترى (ص: 152، ص: 389) ، ورسالة في الذب عن الأشعري فإنها كلها تثبت أن الأبانة للأشعرى، وذلك لإثبات العلماء له، وانظر: ما يأتي عند الحديث عن أطوار الأشعري.
(4) ابن تيمية في غالب كتبه ومنها الحموية، ودرء التعارض، ونقض التأسيس، وابن القيم اجتماع الجيوش (ص: 182) .(1/348)
الأشعري ورد عليه ابن عساكر لم ينكر نسبة الإبانة الى الأشعري، بل قال: إن الحنابلة لم يقبلوا من الأشعري ما أظهره فى الابانة (1) ، وهذا دليل على أنه يقر بانه له (2) .
ومع ذلك لم يسلم هذا الكتاب من اعراض بعض الأشعرية المتقدمين عنه، وصل إلى حد الانكار، مما أوقع الشك عند بعض المعاصرين حول نسبته الى الأشعري (3) ..
ومن أمثلة الانكار ما ذكره ابن درباس المتوفي سنة 605 هـ في معرض حديثه عن إحدى نسخ الإبانة الموجودة عند بعض العلماء فإنه قال: ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراء إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس فأنكرها وجحدها، وقال: ماسمعنا بها قط ولا هى من تصنيفه، واجتهد آخرا في إعمال رويته ليزيل الشبهة بفطنته فقال بعد تحريك لحيته: لعله ألفها لما كان حشويا فما دريت من أي أمريه أعجب؟ أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في التصانيف من العلماء، أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته بالاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها" (4) .
_________
(1) انظر: التبيين (ص: 389) .
(2) يذكر ابن درباس في رسالته في الذب عن أبي الحسن الأشعري (ص: 114) - ت الفقيهي - أن من العلماء الذين أثبتوا الابانة للأشعري إمام القراء أبا علي الحسن بن على بن ابراهيم الفارسى، ثم ترجم المحقق في الحاشية له علي أنه الأهوازي، ولكن في الإسناد مايثير الشك، وذلك أن أبا الحسن بن نجية المولود سنة 508 هـ وزوجته فاطمة بنت سعد الخير المولودة سنة 522 هـ قالا في الإسناد " أنبأنا الإمام أبو علي الحسن بن على بن ابراهيم المقري وذكر الإمام أبا الحسن الأشعري ... "، والأهوازي توفي سنة446 هـ، فكيف يرويان عنه بقولهما " أنبأنا" حتى على القول بأنها قد تستخد م- عند بعض العلماء - في الإجازة؟ وقد بحثت طويلا في كتب التراجم عمن يسمى بهذا الاسم مما يناسب الإسناد فلم أجد سوى ماذكره المحقق مع مافي سند الرواية اليه من الإشكال، والله أعلم.
(3) من هؤلاء المستشرقان مكارثي وآلار، انظر: مذاهب الإسلاميين- بدوي- (1/517- 518) ، ومقدمة تحقيق الإبانة: فوقية محمود (ص: 75-79) .
(4) رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري (ص 131) تحقيق الفقيهي.(1/349)
ومن أسباب الشك أن ابن فورك لم يذكر الإبانة عند ذكره لمؤلفات الأشعري، بل ولم ينقل منها حين جمع مقالات الأشعري، أو مقالات ابن كلاب مع مقارنتها بأقوال الأشعري، وهذا مثير للانتباه فعلا، لأن الأشعرية يفتخرون بهذا الكتاب ويؤكدون نسبته إلى الأشعري ليبينوا عدم انحراف أمامهم وأنهم تبع له، فكيف يجهل ابن فورك هذا الكتاب المهم؟. وإذا كان ابن فورك قد توفي سنة 406 هـ فإن تلميذه الذى يروى عن شيخه ابن فورك في أسانيدهـ الإمام الحافظ أبا بكر البيهقي المولود سنة 384 هـ- أثبت نسبة الإبانة للأشعرى ونقل عنه في بعض كتبهـ كما تقدم قربيا- والبيهقي- المحدث الفقيهـ أجل من ابن فورك الذي غلب عليه علم الكلام (1) .
ولابن تيمية كلام مهم حول هذا الموضوع- نثبته هنا لعلاقته بكتاب الإبانة ونسبته إلى الأشعري، فإنه قال بعد ذكره للعلماء الذين أثبتوه ونقلوا عنه - " فإن قيل: فابن فورك وأتباعه لم يذكروا هذا؟، قيل له سببان:
أحدها: أن هذا الكتاب ونحوه صنفه ببغداد في آخر عمره لما زاد استبصاره في السنة، ولعله لم يفصح في بعض الكتب القديمة بما أفصح به فيه وفي أمثاله وإن كان لم ينف فيها ما ذكره هنا في الكتب المتأخرة، ففرق بين عدم القول وبين القول بالعدم ... ثم نقل ابن تيمية ماذكره ابن عساكر عن ابن فورك وماذكره من مؤلفات الأشعري وتعقب ابن عساكر له،....
السبب الثاني: أن ابن فورك وذويه كانوا يميلون الى النفي في مسألة الاستواء ونحوها، وقد ذكرنا فيما نقله هو من ألفاظ ابن كلاب- وهو من
_________
(1) ومع ذلك فقد يتحرز ابن فورك في بعض الأحيان في الرواية والضبط، حتى أنه عندما تكلم في مشكل الحديث وبيانه (ص: 36-37) ط المكتبة العصرية، حول تأويل الحديث " رأيت ربي في أحسن صورة،- وذكر القول بأنه منام- قال بعد ذلك " وقد تهور بعض المتكلمين في ذلك أيضا فغير اللفظ المسموع الى مالم يضبط ولم ينقل تعسفا في التأويل فقال: إنما هو"ربي" بكسر الراء وهو اسم عبد كان لعثمان- رضي الله عنهـ رآه - صلى الله عليه وسلم - في النوم على تلك الصفات، وهذا غلط، لأن التأويل والتخريج إنما يكون لمسموع مضبوط منقول، ولم يثبت سماع ذلك على هذا الوجه ... ". فهذايدل على احترامه لنصوص السنة، وإن كان قد وقع في كثير من التأويل الباطل.(1/350)
المثبتين لذلك- كيف تصرف في كلامه تصرفا يشبه تصرفه في ألفاظ النصوص الواردة في إثبات ذلك كما فعله في كتابه تأويل شكل النصوص، فكان هواه في النفي يمنعه من تتبع ماجاء في الاثبات من كلام أئمته وغيرهم، وكذلك فيما نقله من كلام الأشعري كيف زاد فيه ونقص مع أن المنقول نحو ورقتين (1) ، فلعله قد عمل ذلك فيما نقله من كلام ابن كلاب، إذ لم نجد نحن نسخة الأصول التي نقل منها، حتى نعلم كيف فعل فيها. وفيما نقله تحريف بين، لكن مأخذه في ذلك مأخذ من ينسب فتاويه وعقائده إلى السنة والشريعة النبوية لظنه أن هذا هو الحق الذي لا تأتي بخلافه، فكذلك هو يظن أن مازاده ونقصه يوجبه بعض أصول ابن كلاب والأشعري، وإن كان فيما ظهر من كلامهما خلافه، وهذا أصل معروف لكثير من أهل الكلام والفقه يسوغون أن ينسب إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - نسبة قولية توافق ما اعتقدوه من شريعته حتي يضعوا أحاديث توافق ذلك المذهب ولينسبونها إلي النبي، لكن ابن فورك لم يكن من هؤلاء (2) ، وإنما هو من الطبقة الثانية الذين ينسبون إلي الأئمة ما يعتقدون هم أنه الحق فهذا واقع في كثير من طائفته، حتي أن في زماننا في بعض المجالس المعقودة قال كبير القضاة: إن مذهب الشافعي المنصوص عنه كيت وكيت، وذكر القول الذى يعلم هو وكل عا لم أن الشافعي لم يقله، ونقل القاضيان الآخران عن أبي حنيفة ومالك مثل ذلك، فلما روجع ذلك القاضي قيل له: هذا الذى نقلته عن الشافعي من أين هو؟، أى أن الشافعي لم يقل هذا، فقال: هذا قول العقلاء، والشافعي عاقل لا يخالف العقلاء، وقد رأيت في مصنفات طوائف من هؤلاء ينقلون عن أئمة الإسلام المذاهب التي لم ينقلها أحد عنهم لاعتقادهم أنها حق، فهذا أصل ينبغى أن يعرف.
" ومن أسباب ذلك أيضا أن الأشعري ليس له كلام كثير منتشر في تقرير مسألة العرش والمباينة للمخلوقات، كما كان لابن كلاب إمامه، وذلك لأنه تصدى للمسائل التي كان المعتزلة تظهر الخلاف فيها كمسألة الكلام والرؤية وانكار القدر والشفاعة في أهل الكبائر ونحو ذلك، وأما العلو فلم يكونوا يظهرون
_________
(1) يشير ابن تيمية الى ماسبق من مناقشة (ص: 54-55) من الجزء الأول المخطوط.
(2) انظر: الحاشية فى الصفحة السابقة.(1/351)
الخلاف فيه إلا لخاصتهم لانكار جمهور المسلمين لذلك، وانما كان سلف الأمة وأئمتها يعلمون ما يضمرون من ذلك بالاستدلال، فالأشعري تصدي لرد ما اشتهر من بدعهم فكان اظهر خلافهم في القرآن والرؤية من شعار مذهبه التي لم يتنازع فيها أصحابه وإن كانوا قد يفسرون ذلك بما يقارب قول المعتزلة بخلاف مالم يكونوا يظهرون مخالفته فإنه كان أدخل في السنة وأعظم في الأمة وأثبت في الشرع والعقل مما أظهروا مخالفته...." (1) .
ولعل هذا النص- الطويل- يعين على فهم تجاهل بعض الأشاعرة لهذا الكتاب الذى يعتبر من الكتب التي ترد على نفاة العلو والاستواء من الأشعرية المنتسبين إلى مؤلفه. وهذا الذى ذكره شيخ الإسلام عن ابن فورك ليس ببعيد وسيأتي مثال عملي على ذلك عند الكلام على كتاب " مجرد مقالات الأشعري،. والخلاصة: أن كتاب الإبانة ثابت للأشعري، أما طبعاته فقد طبع عدة طبعات في الهند ومصر ولبنان كما طبعته جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية. وأهم طبعاتهـ التي اشتهرت مؤخرا- تلك الطبعة المحققة على أربع نسخ خطية مع دراسة مطولة عن الأشعري ومؤلفاته ونهجه، وقامت بها الدكتورة فوقية حسين محمود، ونشرته دار الأنصار سنة 1397 هـ، ومع ذلك فهناك ملاحظات على هذه الطبعة لا يجوز السكوت عنها، أهمها ملاحظتان: الأولى: كثرة الأخطاء والتحريفات، إما بسبب الطباعة، أو بسبب الخطأ في قراءة بعض الكلمات أو الجمل، وقد يوضع ماهو خطأ حتما في الأصل، ثم تجد الصواب في الحاشية جاءت به إحدى النسخ الخطية، ولأجل هذه الملاحظات أصبحت قراءة النص متعبة وتحتاج الى أن تكون بين يديك الطبعات الأخرى.
أما الملاحظة الأخرى: فتهون الأولى أمامها، ألا وهي اعتماد إحدى النسخ الخطية التي انفردت بزيادات ليست موجودة في النسخ الأخرى، وقد أثبت
_________
(1) نقص أساس التقديس المخطوط (1/85-89) .(1/352)
هذه الزيادات في النص الأصلى وأشير إليها في الحاشية، وهذه النسخة حفلت بزيادات من نوع خاص- وهو ما يضفي ظلالا من الشك عليها- وقد أثار هذا انتباه المحققة فقالت في حديثها عن هذه النسخة في الدراسة: (وقد اعتبرتها النسخة الأم لأنها تخلو من التقديم والتأخير المخلين بالمعنى، وليس بها خروم ذات قيمة، بخلاف النسخ الأخرى، ولأن ناسخها كان يضبط الألفاظ الى حد كبير، غير أنه يجب أن يلاحظ أن مابها من زيادات في حاجة إلى المراجعة الدقيقة، لاستبعاد ماعلق به من عبارات مدسوسة، فقد ظهر رغم أن هذه الزيادات تؤكد بصفة عامة اتجاه السلف تصريح يخالف هذا الاتجاه، مثال ذلك ما ورد في صفحة (81) لتفسير الاستواء من أنه بالقهر والقدرة، فهذا تصريح لابد وأنه بيد أحد قراء المخطوط الميالين إلى الاعتزال والذين هم في نفس الوقت على جهل بحقيقة الأمور، ويؤكد هذا تعليقة بصفحة (82) نصها [وهي في المطبوعة في الحاشية ص 120] ،: " قف على هذا الباب، فإن المؤلف تسامح في إيراده هذه العبارات فإنها تدل على الجهات تصريحا وعلي الجسمية ضمنا، يدل الكلام هنا على أن صاحبه يتجه إلى التنزيه المطلق الذى يقول به المعتزلة والذي ترتب عليه نفي الصفات، على نحو ما بينا قبل ذلك، خاصة وأن الالتزام باتجاه السلف في هذه الزيادات واضح لكل فاحص مدقق.
ويلاحظ أننا لم نقع على تاريخ نسخ هذا الأصل يسبب انتهاء الميكروفيلم مباشرة بعد نهاية النص، كما أنه بدأ ببدايته، وهي بخط معتاد، وقد رمزت إليها بالحرف " س " (1) . هذا ما قالته المحققة عن هذه النسخة.
وهنا لابد من التعليق بما يلي:
1- كيف تجعل هذه النسخة هي الأصل- عند التحقيق- مع أنها مجهولة الناريخ والناسخ؟ وهل كون ناسخها يضبط الألفاظ مسوغا لذلك؟ ثم هى مخرومة الآخر فعيبها مثل عيب النسخ الأخرى، ووجود الزيادات المدسوسة
_________
(1) الإبانة. المقدمة (ص: 188) تحقيق فوقية حسين محمود.(1/353)
تقتضي صرف النظر عنها لا جعلها أصلا ثم إدخال الزيادات في النص المحقق، على الأقل جعلها نسخة ثانوية.
2- القول بأن هذه الزيادات كتبت بيد أحد الميالين إلى الاعتزال لا دليل عليه، بل الراجح أنه أحد متأخري الأشعرية النافين للعلو [الجهة] وللصفات الخبرية كالوجه واليدين بناء على انها مستلزمة للتجسيم.
3- حفلت هذه النسخة بزيادات لا تتمشي مع الإثبات الذي جاء به هذا الكتاب، خاصة في مسألة الاستواء والعلو، وإذا كانت زيادة "بالقهر والقدرة" في تفسير الاستواء واضحة في هذا، ولذلك لم تثبتها المحققة فهناك عبارات أخري قريبة من هذه العبارة وقد انفردت بها هذه النسخة ومن ذلك:
أ- في ص 21 في فصل إبانة قول أهل الحق والسنة ورد في النسخ الثلاث مايلي: " وأن اللة مستو علي عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . أما في نسخة (س) صاحبة الزيادات فجاءت العبارة هكذا:
" وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذى قاله وبالمعني الذي أراده، استواء منزها عن المماسة"في المطبوعة الممارسة"، والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش، وفوق كل شيء الى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلي العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو علي كل شيء شهيد".
فانظر إلى الفرق بينهما، وهل هذه الزيادة متوافقة مع مذهب السلف كما تدعى المحققة؟ هل قوله "استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال " وقوله "فوقية لا تزيده قربا إلي العرش والسماء" هل هذا موافق لما يثبته السلف من صفة العلو؟ والأشعري في هذه المسألة انما قال بقول السلف خلافا لمتأخري الأشعرية.(1/354)
ثم إن هذا النص المقحم منقول بحروفه من كتاب الأربعين للغزالي (1) .
ب- في ص 126- حول اثبات صفة اليدين لله تعالى ورد ما يلي تعقيبا على أحد الأحاديث:" وغرس شجرة طوبى [في المطبوعة طولى] بيده، (أى بيد قدرته سبحانه) ، فهذه العبارة الشارحة انفردت بها نسخة (س) ، دون باقى النسخ، وهو تأويل لصفة اليد بما يوافق قول متأخرى الأشعرية وليس هو قول الأشعري، بل رد عليه وناقشه فيما بعدص 130- 132، ولا شك أن هذه الزيادة مدسوسة.
ج- هناك زيادات أخرى أو نقص انفردت به هذه النسخة وهي إن لم تكن ذات بال إلا أنها تدل على ما نحن بصدده، فمثلا في ص 156 سطر 3 ورد عبارة " وجب أن ينفي ذلك عن الله تعالى" بينما الصواب مافي النسخ الأخرى " وجب أن لا ينفى ذلك عن الله تعالى"، وفي ص 193 سطر 10- 11 وردت زيادة "أعاذنا الله من ذلك" وقد انفردت بها نسخة "س" وهي عبارة زائدة مخلة بسياق الكلام إلا إذا وضعت في مكان آخر كأن تكون بعد قوله " وأجلهم".
د- وهناك فروق أخرى- ملفتة للانتباهـ لكن شاركتها نسخة أخرى- خاصة نسخة "د"- لكنها مخالفة للنسخ المطبوعة الأخرى (2) .
هذا ما يتعلق بكتاب الابانة، نسبته إلى الأشعري، ونسخه، وقد طال الكلام حوله لأن له علاقة بما سيأتي من الكلام عن أطوار الأشعري وعقيدته،
_________
(1) انظر الأربعين في أصول الدين للغزالي (ص: 7-8) ط: دار الآفاق.
(2) من الأمئلة على ذلك ماورد (ص: 112) من الإبانة- ت فوقية- بعد إيراد حديث النزول من عبارة "نزولا يليق بذاته من غير حركة وانتقال تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا " فهذه العبارة ليست " موجودة في نسختي ك- ز، كما أنها ليست موجودة في الطبعة الهندية (ص: 48) ، ولا المصرية (السلفية) (ص: 38) ، ومثلها عبارة؛ في (ص: 113) "استواء منزها عن الحلول والاتحاد"ليست موجودة إلا في نسخة س- د.(1/355)
ولو اعتمدت الدراسة علي مافي هذه الطبعة بزياداتها لصار للدراسة مسار مختلف.
5- رسالة استحسان الخوض في علم الكلام:
وتسمي " رسالة في الرد على من ظن أن الاشتغال بالكلام بدعة" (1) ، ومضمونها الرد على من زعم أن الاشتغال بعلم الكلام والمصطلحات الحادثة بدعة لم تكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهـ رضي الله عنهم-.
وقد طبعت هذه الرسالة مرتين (2) ، وقد شكك بعض الباحثين في نسبتها إلى الأشعري (3) ، لكن الرسالة مروية بالإسناد، ولها نسخة خطية، كما أن هناك تشابها في بعض العبارات مع اللمع الثابت نسبته الى الأشعري (4) ، ولعلها هي المقصودة برسالة الحث على البحث التي ذكرها ابن عساكر (5) ، ولا يمنع أن تكون من مؤلفات الأشعري الأولى.
6- رسالة في الايمان- في ورقتين-، حققها شبيتا (6) .
7- العمد في الرؤية: وصلت قطعة صغيرة منه ذكرها ابن عساكر وفيها
ذكر الأشعري أسماء مؤلفاته (7) .
8- كتاب تفسير القرآن: رد فيه على شيخه الجبائي، وعلى البلخي،
_________
(1) انظر: تاريخ التراث، سزكين (م1 ب 4 ص 38) .
(2) طبعت في الهند- حيدرأباد- سنة 1323 هـ، ومرة ثانية سنة 1344 هـ، ثم طبعها على هذه الطبعة مكارثي مع كتاب اللمع سنة 1952 م، المطبعة الكاثوليكية بيروت.
(3) منهم عبد الرحمن بدوى في مذاهب الإسلاميين (1/519- ا 52) ومحققة الابانة (ص: 72-74) من الدراسة، وأحالت على كتاب لها تحت الطبع بعنوان " كتب منسوبة للأشعري"
(4) قارن مثلا بين اللمع ورسالة استحسان الخوض- في طبعة مكارثي التي جمعت بين الكتابين - (ص: 90- سطر 10) ومابعده من اللمع، وأيضا (ص: 92 سطر 15) ومابعده من الاستحسان بصفحة (7 سطر 13) من اللمع.
(5) التبيين (ص: 136) .
(6) انظر: تاريخ التراث، سزكين (م1 ب 4 ص 38) .
(7) التبيين (ص: 129-134) .(1/356)
وقد وصلت قطعة منه أثبتها ابن عساكر (1) ، وقد سماه أبو بكر بن العربي بالمختزن (2) فقال: "وانتدب أبو الحسن الى كتاب الله فشرحه في خمسمائة مجلد وسماه بالمختزن، فمنه أخذ الناس كتبهم ومنه [في المطبوعة ومنهم] أخذ عبد الجبار الهمذاني كتابه في تفسير القرآن الذي سماه بالمحيط في مائة سفر قرأته في خزانة المدرسة النظامية بمدينة السلام [ثم ذكر قصة إحراق نسخة تفسير الأشعري، ثم قال:] ففقدت بين أيدي الناس إلا أني رأيت الأستاذ الزاهد الإمام أبا بكر ابن فورك يحكي عنه، فلا أدري وقع على بعضه أم أخذه من أفواه الرجال" (3) .
* * *
هذه مؤلفات الأشعري التي وصلت الينا، وهي قليلة جدا بالنسبة لمؤلفاته الكثيرة التى عرفت أسماؤها، وقد وصلت بعض أقوال الأشعري عن طريق مصادر أخرى نسبت بعض الأقوال إليه ومن أهمها كتب الأشاعرة أمثال: الجويني، والبغدادي، والشهرستاني، والرازي، إلا أن هناك كتابا لابن فورك حاول فيه أن يجرد مقالات أبي الحسن الأشعري معتمدا علي مجموعة كبيرة من كتبه أكثرها لم يصل الينا، ولأهمية هذا الكتاب بالنسبة لأقوال الأشعري نذكر نبذه عنه في هذا المكان:
_________
(1) المصدر السابق (ص: 137 -139) .
(2) ذكر ابن عساكر في التبيين (ص: 117) أن الأشعري ألف في القرآن كتابه الملقب بالمختزن، وانه بلغ فيه سورة الكهف، لكن نقل في (ص: 133) عن الأشعري أنه قال في الحمد:"وألفنا كتابا في ضروب من الكلام سميناه: المختزن، ذكرنا فيه مسائل للمخالفين لم يسألونا عنها ولا سطروها في كتبهم ولم يتجهوا للسؤال وأجبنا عنها بما وفقنا الله تعالى له"، فهل هما كتابان مختلفان اسمهما واحد، أم أن الأشعري قال في تفسيره: انه في ضروب من الكلام لغلبة هذه المسائل عليه، ولذلك قال أبو بكر بن العربي منه أخذ الناس كتبهم " لعل هذا أرجح "والله أعلم.
(3) العواصم من القواصم (ص: 97-98) - ت عمار طالبي- كما ذكره في قانون التأويل (ص:456) .(1/357)
كتاب ابن فورك هذا اسمه " مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري" (1) ، وكان مخطوطا ثم طبع هذا العام 1987 م بتحقيق دانيال جيماريه، وقد اعتمد ابن فورك في كتابه على كتب الأشعري التالية: الادراك، الأصول الكبير، الإيضاح، التفسير، الرد على البلخي في أدب الجدل، الرؤية الكبير، زيادات النوادر، الصفات الكبير، العمد، في أدب الجدل، في أصول الفقه، في أفعال النبي، في الإمامة، اللمع، المختزن، المختصر في التوحيد والقدر، المسائل المنثورة، مسألة في الاجتهاد، مسألة تعريف عجز المعتزلة عن جواب الجسمية، مسألة العجز، المعرفة، المقالات، الموجز، نقض الاستطاعة على الجبائي، النقض على ابن الراوندى في الصفات، النقض على أصول الجبائي، النقض على أوائل الأدلة للبلخى، النقض على الجبائي والبلخي، نقض اللطيف على الإسكافي، النوادر (2) .
فهذه 32 كتابا من مؤلفات الأشعري اعتمد علها ابن فورك ونقل عنها، وكان من المفترض أن يكون هذا المجرد من أهم الكتب التي تدل على أقوال الأشعري خاصة في مؤلفاته المفقودة- وهي كثيرة- الا أن منهج ابن فورك في كتابه هذا وطريقته في النقل لم تسلم من ملاحظة جوهرية تؤثر على قيمة الكتاب الى حد كبير.
يقول ابن فورك في المقدمة: " أما بعد، فقد وقفت على ما سألتم أسعدكم الله بطاعته من شدة حاجتكم إلى الوقوف على أصول مذاهب شيخنا أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري- رضي الله عنهـ، وما تبنى عليه أدلته وحججه على المخالفين، وأن أجمع لكم منها متفرقها في كتبه ما يوجد منها منصوصا له،
_________
(1) في المخطوطة التي فيها ذكر اسم مؤلف الكتاب والموجودة في مكتبة عارف حكمة، كتب اسم المملى لهذا الكتاب " الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن المبارك، وقد رجح المحقق بأدلة ذكرها أنه ابن فورك، انظر: المقدمة (ص: 3-4) ، ويؤيد ذلك أن ابن فورك ذكر ذلك فقال:"وكان ذلك على اثر ماجمعت من متفرق مقالات شيخنا الأشعري " (درء التعارض 6/121) .
(2) اعتمدت في هذا التعداد فهرس كتب الأشعري المذكورة في المتن للمجرد (ص: 361-362)(1/358)
ومالا يوجد منصوصا له أجبنا فيه على حسب مايليق بأصوله وقواعده، وأعرفكم مع ذلك ما اختلف قوله فيه في كتبه، وما قطع به منهما، ومالم يقطع بأحدهما، ورأينا أن أحدهما أولي بمذهبه وأليق بأصوله فنبهنا عليه" (1) ، ويوضح أكثر في الخاتمة فيقول: " وقد كنا شرطنا في أول الكتاب أنا نذكر ماوجدنا عنه فيه نصا منه عليه في كتاب له معروف وننسبه الى ذلك الكتاب إذا لم يكن ذلك من المشهور الذى لا يحتاج الي ذكره الحكاية عنه لشهرته وإن لم نجد عنه فيه نصا عليه ووجدنا أصوله تشهد بذلك وقواعده عليه تبني نسبناه إليه على هذا الوجه، وما وجدنا له معنى ما حكيناه عنه أضفناه إليه على أنه معنى مذهبه، وقلنا في جميع ذلك: انه كان يقول كذا وكذا، وتفصيل ذلك على الوجه الذي بينا، وطريقنا في نسبة ذلك إليه من جهة القول ومن طريق أنه قال جارية على الرسم الذى كشفنا عنه" (2) .
ومن هذين النصين يتبين منهجه في كتابه، وكيف أنه أجاز لنفسه أن ينسب اليه مالم يقله، ويقول- لأنه يرى أنه جار على أصول مذهبه:- إنه كان يقول كذا وكذا، فما الذي يميز نصوص الأشعري عن نصوص ابن فورك التي أدخلها، وكيف ينسب الانسان إلى الأشعري قولا من هذا الكتاب ومؤلفه نهج فيه هذا النهج؟ لو أن ابن فورك نقل نصوص الأشعري من كتبه ثم أضاف أو علق، وميز هذا من هذا لكانت للكتاب مكانة وأهمية لا تقدر.
وحتى لا يصبح الكلام نظريا، وحتى يتبين مستوي التغيير الذى أحدثه ابن فورك في أقوال الاشعرى، نضرب لذلك بأمثلة مما نقله من كتبه الموجودة ين أيدينا:
أ- يقول ابن فورك في المجرد- في مسألة رؤية اللهـ: "وحكى في كتاب المقالات عن رقبة بن مصقلة وسليمان التيمي أنه قال: " رأيت الله تعالى في النوم فقال لي: اكرمت مثوى سليمان التيمي" (3) .
_________
(1) مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري (ص: 9) .
(2) مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري (ص: 338-339) .
(3) المصدر السابق (ص 870) .(1/359)
لكن عبارة الأشعري في المقالات هكذا: " وروى عن رقبة بن مصقلة أنه قال: رأيت رب العزة في النوم فقال: لأكرمن مثواه، يعني سليمان التيمي، صلي الفجر بطهر العشاء أربعين سنة" (1) . ومن يدقق يجد فروقا كثيرة.
ب- ذكر ابن فورك في كتابه هذا في مسألة القدرة المحدثة وهل تخلو عن العلم في اكتساب الفعل المحكم بها، فذكر أن الأشعري اختلف جوابه، وأنه ذكر في بعض كتبه أن ذلك سائغ، ثم قال: " وهو ماذكره في كتاب اللمع" في قوله: " ولو وجدت قدرة الحياكة مع عدم الإحسان لها لوجدت مع قدرتها لا محالة" (2) .
وعند الرجوع إلى اللمع نجد العبارة مختلفة، ولتوضيح المعنى نذكر النص كاملا ونشير الي العبارة التي نقلها ابن فورك، يقول الأشعري في الكلام عن الاستطاعة:" فإن قالوا: إذا كان في عدم الإحسان للحياكة عدم الحياكة، فلم لا يكون في وجود الإحسان لها وجودها؟ قيل: إن الحياكة تعدم لعدم قدرتها لا لعدم إحسانها، ولو عدمت الحياكة لعدم الإحسان لها لوجدت بوجود الإحسان لها. فلما لم يكن ذلك كذلك، وكان الإحسان لها يجامعه العجز علم أنها إنما تعدم لعدم القدرة عليها، [ولو أجرى الله تعالى العادة أن يخلق القدرة عليها مع عدم الإحسان لها لوقعت القدرة عليها لا محالة] " (3) ، والعبارة- الأخيرة هي العبارة التي نقلها ابن فورك، ويلاحظ ما بينهما من فرق، إذ عبارة اللمع تربطها بإجراء الله العادة.
ج- ذكر في المجرد عبارة حول العلم (4) ، وحين تبحث عن العبارة في الكتاب المنقول عنه وهو اللمع تجد أول العبارة ولا تجد باقيها (5) .
_________
(1) مقالات الإسلاميين (ص: 214) - ت ريتر، (1/263) - ت محمد محيي الدين عبد الحميد.
(2) المجرد (ص: 93) .
(3) اللمع (ص: 57) - ت مكارثي، (وص: 98) - ت غرابة.
(4) انظر المجرد (ص: 267) سطر 13-14.
(5) قارن المصدر السابق- نفس الصفحة باللمع (ص: 12) سطر 17- ت مكارثي
(وص: 28) سطر ا- ت غرابة.(1/360)
فهذه المقارنات تدل على أن حكاية ابن فورك لأقوال الأشعري لا تؤخذ قضية مسلمة على أنها عبارته وكلامه، خاصة وأن المسائل التي ذكرها في كتابه هذا- مما لا يوجد في كتب الأشعري المطبوعة- كثيرة جدا، سواء في جليل المسائل أو دقيقها، ولعل المقارنة بين هذا الكتاب، ما يذكره الأشعري في كتبه المطبوعة، أو ما ينسبه اليه من ينقل أقوال الأشعري من بقية علماء الأشعرية كالجويني، والبغدادى والشهرستاني والرازي، تؤدى إلى استخلاص فائدة علمية من هذا الكتاب.
وهذا الكتاب يعطي مضمون ما في كتب الأشعري الكلامية التي لم تصل إلينا، وكيف أنه خاض في كثير من المسائل على منهج المتكلمين، وذلك حين خاض في قضايا كثيرة من دقيق المسائل التي نجدها عند بعض علماء الأشعرية كالشهرستاني والجويني والرازي والآمدي وغيرهم.
سابعا: أطوار حياته العقدية:
مر الشيخ أبو الحسن الأشعري في حياته بأطوار، منها ماهو متفق عليه بين العلماء والمترجمين له، ومنها ماوقع حوله خلاف، وقد شغل الناس قديما وحديثا في هذا الأمر، ولا شك أن التطور الذي حدث لمذهب الأشعرية- بعد الأشعري- كان من أسباب طرق هذا الموضوع الذي يتصل بمؤسسه ومن ينتسبون إليه؛ وذلك من خلال علاقته ودوره في هذا التطور الذي حدث للمذهب الأشعري، وشيء آخر وهو محاولة الدفاع عن هذا المذهب من خلال بيان سلامة عقيدة من ينتسبون إليه ورجوعه إلى مذهب السلف.
والملاحظ أن بعضا ممن كتب عن الأشعري وتطرق لهذا الموضوع لم يتجرد من مغالبة الهوي والميل مع أو ضد الأشعري، فجاء كلامه وأسلوبه متضمنا للمدح أو الذم، ومع ذلك فهناك من حاول الإنصاف، ووضع الأمر موضعه الصحيح، والتوفيق بيد الله سبحانه وتعالى.(1/361)
وسيكون الكلام حول هذا الموضوع من خلال ما يلي:
أ- طور الأشعري الأول، المتفق عليه.
ب- رجوعه عن الاعتزال وتاريخه وأسبابه.
ب- مذهب الأشعري بعد رجوعه: هل كان طورا واحدا أو طورين؟.
أ- طور الأشعري الأول (مرحلة الاعتزال) :
لم يشك أحد في أن الأشعري نشأ على مذهب المعتزلة، وأنه أقام علي ذلك فترة طويلة من الزمن، وليس أدل على ذلك من اعترافه هو حين قال فى كتابه " العمد" يعدد مؤلفاته: " وألفنا كتابا كبيرا في الصفات [وهو اكبر كتبه] سميناه كتاب: الجوابات في الصفات عن مسائل أهل الزيغ والشبهات، نقضنا فيه كتابا كنا ألفناه قديما فيها على تصحيح مذهب المعتزلة، لم يؤلف لهم كتاب مثله، ثم أبان الله سبحانه لنا الحق فرجعنا عنه فنقضناه وأوضحنا بطلانه" (1) ، وفي هذا النص نلمح المستوى الذى وصل إليه في مرحلة الاعتزال، وكيف أنه صار يؤلف الكتب على مذهبهم، بل إن هذا الكتاب المنقوض يذكر أنه لم يؤلف للمعتزلة مثله.
أما المصادر التي ترجمت له فتذكر ذلك، فابن النديم يقول: " ابن أبي بشر وهو أبو الحسن على بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري من أهل البصرة، وكان أولا معتزليا ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة في يوم الجمعة" (2) .
ويذكر السجزي (3) المتوفي سنة 444 هـ في رسالته إلى أهل زبيد
_________
(1) التبيين (ص:131) .
(2) الفهرست (ص: 231) - ط طهران.
(3) هو: الإمام الحافظ أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوايلي السجزي، انظر الأكمال (7/397) ، والأنساب (13/279) ، والتمييز والفصل لإسماعيل بن باطيش (ص: 758) .(1/362)
المسماة: " الرد على من أنكر الحرف والصوت "رواية عن خلف المعلم (1) - المتوفي سنة 371 هـ- من فقهاء المالكية أنه قال: "أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة، فرجع عن الفروع وثبت على الأصول" (2) ، أى أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الاعراض وغيره.
ويذكر ابن عساكر أن أبا القاسم حجاج بن محمد الطرابلسي قال:
"سألت أبا بكر إسماعيل بن أبي إسحاق الأزدي القيرواني المعروف بابن عزرة (3) -رحمه الله- عن أبي الحسن الأشعري-رحمه الله- فقلت له: قيل لى عنه: أنه كان معتزليا، وأنه لما رجع عن ذلك أبقي للمعتزلة نكتا لم ينقضها، فقال لي: الأشعري شيخنا وإمامنا ومن عليه معولنا، قام على مذاهب المعتزلة أربعين سنة، وكان لهم إماما، ثم غاب عن الناس فى بيته خمسة عشر يوما، فبعد ذلك خرج الى الجامع فصعد المنبر....." (4) وذكر قصته.
ومما ينبغي ملاحظته أن بداية نبوغه وطلبه للعلم قد لا تكون بدأت على مذهب المعتزلة، لأن أباهـ الذي لا يعرف متى كانت وفاتهـ قد أوصى بولده إلى الساجي الإمام المحدث، ومن المحتمل أن يكون قد تتلمذ عليه وعلى أمثاله من العلماء فترة، إلى أن تحول إلى مذهب الاعتزال على يد الجبائي، ويذكر بعض مترجمي الأشعري سببا وجيها لهذه الصلة القوية بينه وبين الجبائي، وذلك حين يذكرون أن الجبائي تزوج بامه (5) ، وبذلك صار الأشعري ربيبا عنده،
_________
(1) اسمه خلف بن عمر، وقيل عثمان بن عمر، وقيل عثمان بن خلف، ويعرف بابن أخي هشام الربعي، من أهل القيروان، اختلف في وفاته فقيل 371 هـ وقيل 373 هـ، ترتيب المدارك (6/210) ، ومعالم الإيمان (3/99) .
(2) الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 168) ، مطبوع على الآلة الكاتبة.
(3) هكذا في التبيين لابن عساكر، والذى ترتيب المدارك بن عذرة، وذكر المحقق في الحاشية إن في احدى النسخ عزرة كما في التبيين، وهو فقيه من أصحاب ابن أبي زيد القيرواني وطبقته، رحل الى المشرق ولقي ابن مجاهد الطائي المتكلم- تلميذ الأشعري- وأخذ عنه وعن غيره، لم يذكر له تاريخ ولادة ولا وفاة، ترتيب المدارك (7/274) .
(4) التبيين (ص: 39) .
(5) انظر: المختصر لأبي الفداء (2/90) ، وتاريخ ابن الوردي (1/410) ، والوافي للصفدي (4/74) ، وخطط المقريزي (2/359) - ط بولاق.(1/363)
خاصة إذا كان هذا الزواج في حياة الأشعري المبكرة، حيث يكون التأثير أقوى، والتتلمذ على يد علماء السنة- إن حصل- لم يكن قد بلغ مرحلة النضج وا لاستقلال.
وعلى أي حال فمما لا خلاف فيه أن الأ شعري تتلمذ على يد الجبائي المعتزلي فمن الجبائي وما أهم آرائه؟.
الجبائي هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولي عثمان بن عفان- رضى الله عنهـ، الجبائي (1) البصري، ولد سنة 234- أو- 235 هـ ودرس الاعتزال على شيخ المعتزلة أبي يعقوب يوسف ابن عبد الله الشحام الذى انتهت عليه رئاسة المعتزلة في البصرة، ولما توفي الشحام سنة 267 هـ تبوأ مكانه في رئاسة المعتزلة تلميذه أبو على الجبائي، الذي عده ابن المرتضي على رأس الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة (2) ، وبقي أبو علي ينافح عن مذهب المعتزلة ويرد على من خالفه من المعتزلة وغيرهم، فكان ممن رد عليه أبو الحسن الخياط، والصالحي والجاحظ والنظام وغيرهم من المعتزلة، كما رد على تلميذه أبي الحسن الأشعري الذى كانت له أيضا كتب كثيرة في الرد كل من شيخه الجبائي، ولم يصل إلينا شيء من كتبه، وآراؤه مبثوثه في كتب المقالات - وأهمها كتاب الأشعري- وفى كتب المعتزلة وأهمها كتب عبد الجبار الهمذاني. ومن أبرز تلاميذ الجبائي أبو الحسن الأشعري- الذى ترك الاعتزال- وابنه أبو هاشم الجبائي الذى صار إماما للمعتزلة بعد والده، وقد توفي أبو على الجبائي سنة 303 هـ (3) .
_________
(1) نسبة الى "جبي"بلد من أعمال خوزستان (الأهواز) قريبة من البصرة وليست من أعمالها،انظر كتاب الأقاليم للإصطخرى- المخطوط- (ص: 54) ، والروض المعطار (ص: 156) ، ومعجم البلدان (2/97) ، وكلهم ذكر أبا علي الجبائي ونسبته اليها.
(2) انظر: كتاب المنية والأمل، تحقيق محمد جواد مشكور (ص: 170) .
(3) انظر ترجمته فى: الأنساب (3/176) ، والمنتظم (6/137) ، ووفيات الأعيان (4/267) ، وسير أعلام النبلاء (14/183) ، والوافي (4/ 74) ، والبداية والنهاية (11/125) ،وطبقات المفسرين للداودى (2/189) ، ولسان الميزان (5/ 271) ، والمنية والأمل (ص:170) ، =(1/364)
وأهم ما يلاحظ في حياة الجبائي أنه عاش في فترة انحسار الأعتزال، التي بدات في عهد المتوكل- تولي الخلافة سنة 232 هـ-، حين أبطل ما دعا إليه من قبله من الخلفاء من محاربة أهل السنة والدعوة إلي مذهب المعتزلة من القول بخلق القرآن وغيره، والإمام أحمد الذى نصر الله به أهل السنة توفي في أول حياة الجبائي سنة 241 هـ.
ومع ذلك فلم يصل الأمر الى منع دراسة وتدريس الجدل وعلم الكلام، وإنما أبطل المتوكل ما تبنته الدولة من نصرة المعتزلة وفرض مذهبهم على الناس، ولذلك بقيت بعض المساجد في البصرة وبغداد وغيرها يتولى التدريس فيها أو في بعض حلقاتها بعض المعتزلة (1) .
وقد سبق في بيان أحوال عصر الأشعري؛ أنه في عام 279 هـ صدر الأمر بمنع الوراقين من بيع كتب الفلسفة والكلام (2) ، وقد استمر هذا الانحسار بالنسبة للمعتزلة إلى مجىء البويهيين الذين دخلوا بغداد سنة 334 هـ، ومالوا إلى التشيع والاعتزال.
في هذه الفترة عاش الجبائي، وتزعم حركة الاعتزال بعد شيخه الشحام، واستطاع بتبنيه لمذهب شيوخه، وبآرائه التجديدية في مذهب الاعتزال أن يكون له طائفة أو فرقة سميت بالجبائية.
ومن الملفت للنظر حقا أن يكون رجوع الأشعري عن الاعتزال في هذه الفترة التي انحسر فيها مذهب المعتزلة، فكيف يفسر هذا الفرح العظيم لأهل السنة؟ هل كان الجدل بين أهل السنة والمعتزلة في تلك الفترة قويا دون أن يبرز على السطح، أم أن الصراع الذي تلا هذه الفترة حين ظهرت للمعتزلة مكانة وسلطة في عهد البويهيين جعلت علماء السنة يستعيدون الأحداث السابقة التي تدعم مواقفهم ومنها قصة الأشعري؟. فصاروا ينشرونها ويؤلفون حولها.
_________
= والفرق بين الفرق (ص: 183) ، والملل والنحل للبغدادي (ص:128) ، والتبصير بالدين (ص:79) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/78) ، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص: 43) ،- ت النشار-، و (ص: 35) مع المرشد الأمين.
(1) انظر: الجبائيان (ص:66)
(2) انظر: عصر الأشعري في أول هذا الفصل.(1/365)
أما أهم آراء أبي علي الجبائي، فهي مبنية على مذهب المعتزلة القائم على أصولهم الخمسة، ومع أن الجبائي يعتبر إماما للمعتزلة في زمانه الا أنه انفرد بآراء تستوقف الناظر، ولن نتعرض لجميع آرائه فقد كتبت حولها مع آراء ابنه أبي هاشم رسالة علمية (1) ، ولكن نذكر منها ما يلفت النظر ويعين على فهم الأجواء التي عاشها الأشعري في فترة تتلمذه عليه:
ا- في مسألة كلام الله، قال بقول المعتزلة: أنه مخلوق، لكنه أتى برأى جديد وهو قوله: " إن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارى كلاما لنفسه في محل القراءة" (2) ، وقوله " كلام الله يوجد مع قراءة كل قارىء، ثم الكلام عنده حروف تقارن الأصوات المتقطعةعلى مخارج الحروف، وليست هي أصواتا" (3) وقوله "إذا اجتمع طائفة من القراء على تلاوة آية، فيوجد بكل واحد منهم كلام الله، والموجود بالكلام كلام واحد" (4) ، فهل كان قوله: إن الله يحدث عند قراءة كل قارى كلاما لنفسه، وقوله إن الكلام بلا أصوات يقرب من الكلام النفسي الذى قال به الأشعرية (5) ؟.، ومما يلاحظ أن الأشعري شنعوا عليه في قوله: إن الصوت كامن في الحروف في المصاحف، وقد علق ابن المرتضي على ذلك بقوله: " فالشيخ أبو على خاف ما خاف أهل الأثر في المرتبة الأولى من الكفر في مخالفة السمع، فتكلف مخالفة المعقول في كون الصوت في الحروف المكتوبة، وفي إحداث صوت من الله مع صوت كل قارى، حتى
_________
(1) بعنوان: الجبائيان أبو على وأبو هاشم، تأليف على فهمي خشيم، حصل عليها من جامعة عين شمس بمصر، كلية الآداب بإشراف محمد عبد الهادى أبو ريدة، وقد طبعت في ليبيا- دار الفكر سنة 1968. م- ويظهر الباحث تعاطفه الشديد معهم وقد قال في المقدمة (ص: هـ) " كان المعتزلة استولوا على عقلي بعقلهم منذ زمن بعيد".
(2) الملل والنحل للشهرستاني (1/81) .
(3) الإرشاد للجويني (ص: 123) .
(4) نفس المصدر والصفحة.
(5) انظر: الجبائيان (ص: 117) .(1/366)
يكون السامع لكل قارئ سامعا لكلام الله على الحقيقة كما سمعه موسى عليه السلام " (1) .
2- وهو ينكر الرؤية لكنه لا يكفر من أثبتها كما يقول المعتزلة (2) .
3- من أصول المعتزلة إنفاذ الوعيد وأن أهل الكبائر لابد أن يخلدوا في النار وقد قال الجبائي بذلك، لكنه قال بأنه يجوز على الله العفو وهذا مخالف لسائر المعتزلة، يقول الأشعري عن المعتزلة: "واختلفوا هل كان في العقل يجوز أن يغفر الله لعبده ذنبا ويعذب غيره على مثله، أم لا على مقالتين: فأجاز ذلك بعضهم وهو الجبائي، وأنكره أكثرهم " (3) .
4- يرى أن العلة لا توجب معلولها، والسبب لا يجوز أن يكون موجبا للمسبب، ومعلوم أن أكثر المعتزلة يقولون: ان الأسباب موجبة لمسبباتها (4) ، والجبائي " يصف ربه بالقدرة على أن يجمع بين النار والقطن ولا يخلق إحراقا وأن يسكن الحجر في الجو فيكون ساكنا لا على عمد من تحته، واذا جمع بين النار والقطن فعل ما ينفي الا حراق وسكن النار فلم تدخل بين أجزاء القطن فلم يوجد إحراق" (5) . فهذا القول يقرب مما أخذ به الأشعرية من إنكار الأسباب (6) .
5- وفي الكسب كان له رأي متميز عن المعتزلة، يقول الأشعري:
_________
(1) إشار الحق عل الخلق (ص: 319) - رسالة محققة في جامعة الإمام، ت أحمد مصطفي حسين صالح. وهو في الطبعة الأولى (ص: 125) .
(2) انظر: شرح الأصول الخمسة (ص:275) .
(3) مقالات الإسلاميين (ص:276) - ريتر-، ويرى الجبائي: أن الفاسق الملى مؤمن من أسماء اللغة بما فعله من الإيمان، وهذا مخالف لسائر المعتزلة الذين يقولون: إن الفاسق في منزلة بين المنزلتين، بل زعم الجبائي أن في اليهودي إيمانا نسميه به مؤمنا مسلما من أسماء اللغة، انظر: المقالات (ص:269) ، فهل الجبائي يقرب هنا من أقوال المرجئة؟.
(4) انظر: المقالات (ص: 412- 413) .
(5) مقالات الإسلاميين (ص:570) .
(6) انظر: الجبائيان (ص:172) .(1/367)
" واختلف الناس في معني مكتسب، فقال قوم من المعتزلة: معناه أن الفاعل فعل بآلة وبجارحة وبقوة مخترعة، وقال الجبائي: معني المكتسب هو الذي يكتسب نفعا أو ضررا أو خيرا أو شرا، أو يكون اكتسابه للمكتسب غيره كاكتسابه للأموال وما أشبه ذلك واكتسابه للمال غيره، والمال هو الكسب له في الحقيقة وإن لم يكن له فعلا، قال الأشعري: والحق عندى أن معني الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة فيكون كسبا لمن وقع بقدرته" (1) . وقد خالف الجبائي سائر المعتزلة في معنى أن الله خالق (2) ، بل وقال: إن الله " لا يقدر على عين فعل العبد بدليل التمانع ... " (3) .
6- وقوله في إرادة العبد خالف فيه سائر المعتزلة، يقول الأشعري: " وأجمعت المعتزلة إلا الجبائي أن الإنسان يريد أن يفعل ويقصد إلى أن يفعل، وإن إرادته لأن يفعل لا تكون مع مراده ولا تكون إلا متقدمة للمراد، وزعم الجبائي: أن الإنسان إنما يقصد الفعل في حال كونه، وأن القصد لكون الفعل لا يتقدم الفعل، وأن الإنسان لا يوصف بأنه في الحقيقة مريد أن يفعل، وزعم أن إرادة البارئ مع مراده" (4) .
7- قوله بالشريعة العقلية، يقول الشهرستاني عنه وعن ابنه أبي هاشم:" وأثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية الى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعة التي لا يتطرق اليها عقل ولا يهتدى اليها فكر، وبمقتضي العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي، إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف
_________
(1) المقالات (ص: 542) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 539) .
(3) المواقف (ص: 284) ، ومع شرحه (8/64) ، وقد شرح الإيجي معنى التمانع هنا على رأي الجبائي بأنه "لو أراد الله تعالى فعلا، وأراد العبد عدمه، لزم اما وقوعهما فيجتمع النقيضان أو لا وقوعهما فيرتفع النقيضان، أو وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر، لايقال يقع مقدور الله لأن قدرته أعم، لأنا نقول معنى كون قدرته أعم تعلقها بغير هذا المقدور ولا أثر له في هذا المقدور، فهما في هذا المقدور سواء".
(4) مقالات الإسلاميين (ص:418) .(1/368)
بالسمع " (1) ، وهذا كلام خطير يدل على مقدار النبوة عند هؤلاء، فالصلاة تجب بالعقل، لكن توقيتها فجرا وظهرا وعصرا يعرف عن طريق النبي، فالنبي جاء بالحكم الوضعي دون الحكم التكليفي، وهذا القول- لشناعتهـ يظهر أن الجبائي لم يسطره في كتاب ولم يكن مذهبا مصرحا به عنده كما يقول عبد الجبار الهمذاني (2) ، وهذه عادة الجبائي (3) .
8- ومن الأمور المثيرة والتي قال بها الجبائي قولهـ على مذهبهـ إن بغداد- في عهدهـ دار كفر، يقول الأشعري: "واختلفوا هل الدار دار إيمان أم لا؟ فقال اكثر المعتزلة والمرجئة: الدار دار إيمان، وقالت الخوارج من الأزارقة والصفرية: هي دار كفر وشرك، وقالت الزيدية: هي دار كفر نعمة، وقال جعفر بن مبشر ومن وافقه هي دار فسق. وقال الجبائي: كل دار لا يمكن فيها أحد أن يقيم بها أو يجتاز بها إلا بإظهار ضرب من الكفر، أو باظهار الرضي بشيء من الكفر، وترك الإنكار له فهي دار كفر، وكل دار أمكن القيام بها والاجتياز بها من غير اظهار ضرب من الكفر أو إظهار الرضي بشيء من الكفر وترك الإنكار له فهي دار إيمان"، ويعلق الأشعري على رأى الجبائي قائلا:" وبغداد على قياس الجبائي دار كفر لا يمكن المقام بها عنده الا بإظهار الكفر الذي هو عنده كفر أو الرضي، كنحو القول إن القرآن غير مخلوق، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل متكلما به، وأن الله سبحانه أراد المعاصي وخلقها، لأن هذا كله عنده كفر، وكذلك القول في مصر وغيرها على قياس قوله، وفي سائر أمصار المسلمين، وهذا هو القول بأن دار الإسلام دار كفر ومعاذ الله من ذلك" (4) .
9- ومن أقواله العجيبة أيضا رأيه في النبوة، يقول الأشعري: " واختلفوا
_________
(1) الملل والنحل للشهرستاني (1/81) .
(2) انظر: المجموع المحيط بالتكليف (ج:3،ص:195) و مخطوط- عن الجبائيان (ص:276) .
(3) انظر: الجبائيان (ص:276) مع الحواشي.
(4) مقالات الإسلاميين (ص:463- 464) .(1/369)
في النبوة هل هي ثواب أو ابتداء، فقال قائلون: هي ابتداء، وقال قائلون: هى جزاء على عمل الأنبياء، هذا قول عباد، وقال الجبائي: يجوز أن تكون ابتداء" (1) ، فهل قوله يجوز أن تكون النبوة ابتداء فيه ميل إلى أولئك الذين يقولون: إن النبوة قد تكون مكتسبة؟.
10- والجبائي كان يتوقف في المفاضلة بين علي وأبي بكر- رضي الله عنهما-، (2) ثم مال أخيرا إلى تفضيل على، وألف كتابا لعباد بن سليمان في تفضيل أبي بكر (3) ، ويروي أن الجبائي هم أن يجمع بين المعتزلة والشيعة (4) . 11- أما موقفه من السنة فهو موقف باقي المعتزلة، وقد أورد بعض مترجميه أن أحدهم سأله عن حديث في الاحكام ورد بإسناد فقبله، ولما أورد نفس هذا الإسناد في حديث حجاج آدم وموسى رده (5) .
هذه أهم آراء الجبائي- البارزة- مع ملاحظة أنه يتبني مذهب المعتزلة ويقول بأقوالهم، فهل كان لهذه الأقوال والتناقضات أثر في موقف الأشعري ورجوعه عن مذهب الاعتزال؟ إن أقوال وحياة الجبائي يلاحظ فيها مايلي:
أ- خروجه عن بعض آراء أهل الاعتزال، قد يكون أحيانا خروجا على إجماعهم.
ب- شناعة بعض أقواله: كقوله بالشريعة العقلية، أو دار الكفر، أو أن النبوة يجوز أن تكون ابتداء.
ج- عدم تصريحه ببعض آرائه ومواقفه، ولعل الأشعري الذي كان قريبامنه مطلع عليها كلها، وحين نعلم أن الجبائي قد تعرض لمصادرة أمواله،
_________
(1) مقالات الإسلاميين (ص:448) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص:458-459) .
(3) انظر: المنية والأمل (ص:171-172) ، ت مشكور.
(4) انظر: الجبائيان (ص:294) .
(5) انظر: المنية والأمل (ص:171) .(1/370)
وأن شيخه الشحام كان مقدما عند قائد الزنج، الذين أثاروا فتنة عظيمة (1) ، وأن ذلك كان وقت أفول نجم المعتزلة، فلا يستبعد أن تكون له بعض المواقف. والله أعلم.
هذه مرحلة الأشعري الأولى، وقد تبوأ فيها مكانة عالية خاصة عند شيخه الجبائي، الذى كان ينيبه في بعض مناظراته، يقول ابن عساكر- عن العسكرى-: " كان الأشعري تلميذ الجبائي يدرس عليه فيتعلم منه ويأخذ عنه، لا يفارقه أربعين سنة، وكان صاحب نظر في المجالس، وذا إقدام على الخصوم، ولم يكن من أهل التصنيف، وكان اذا أخذ القلم يكتب وربما ينقطع وربما يأتي بكلام غير مرضي، وكان أبو على صاحب تصنيف وقلم، إذا صنف يأتي بكل ما أراد مستقصي، وإذا حضر المجالس وناظر لم يكن بمرض، وكان إذا دهمه الحضور في المجالس ييعث الأشعري ويقول له نب عني، ولم يزل على ذلك زمانا" (2) ، وقد دافع ابن عساكر عما في هذه الحكاية من رداءة تصنيفه بأن ذلك كان في أول أمره قبل اهتدائه (3) .
ب- رجوعه عن الاعتزال وأسبابه:
أعلن الأشعري رجوعه عن الإعتزال، فقد غاب في بيته ثم خرج إلى الناس بعد صلاة الجمعة وأعلن رجوعه عليهم، وإنه يتبرأ من جميع أقواله السابقة، وأظهر بعض مؤلفاته الجديدة، والملاحظ أن مترجمي الأشعري يشيرون الى أن مدة مقامه في الاعتزال أربعين سنة، فإذا كان الأشعري ولد سنة 260 هـ والجبائي توفي سنة 303 هـ ورجوع الأشعري كان قبل وفاة الجبائي لأن الجبائي نفسه رد على الأشعري، فالأولي أن يعتبر هذا الكلام تقريييا وأن المقصود أن رجوع الأشعري كان وهو قريب من الأربعين في عمره، ولذلك عبر البعض بأن إقامة الأشعري في الاعتزال كانت عدة سنين (4) .
_________
(1) سبقت الإشارة اليها في أول هذا الفصل، وانظر: الجبائيان (ص:377-283) .
(2) تبيين كذب المفترى (ص:91) .
(3) انظر المصدر السابق (ص:91-92) .
(4) انظر: الخطط للمقريزي (2/359) ، بولاق.(1/371)
ولما كان رجوع الأشعري عن الاعتزال بعد هذه المدة التي تعتبر طويلة إضافة الى المفاجأة في ذلك، فقد كثرت الأقوال في أسباب رجوعه، ويمكن حصر أهمها فيما يلي:
ا- فالنوع الأول من الأسباب المباشرة للتحول: الرؤيا، وتتعدد الروايات في ذلك، فمنها ما ورد " أن الشيخ أبا الحسن-رحمه الله- لما تبحر في علم كلام الاعتزال وبلغ غاية، كان يورد الأسئلة على أستاذيه في الدرس، ولا يجد فيها جوابا شافيا فتحير في ذلك، فحكى عنه أنه قال: وقع في صدري في بعض الليالي شيء مما كنت فيه من العقائد، فقمت وصليت ركعتين، وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم، وقمت فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فشكوت إليه بعض مابي من الأمر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليك بسنتي، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار، فأثبته ونبذت ماسواه ورائي ظهريا" (1) ، وهذه الرواية ينتهي اسنادها الى بعض الأصحاب، دون تحديد، وفي رواية أخرى أطول: وأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام في رمضان عدة مرات، ويطلب منه نصرة المذاهب المروية، وان الأشعري قال له في رؤياه اياه ليلة سبع وعشرين: كيف أدع مذهبا تصورت مسائله وعرفت أدلته منذ ئلاثين سنة لرؤيا، فقال لي لولا أني أعلم أن الله تعالى يمدك بمدد من عنده لما قمت عنك حتى أبين لله وجوهها وكأنك تعد إتياني اليك هذا رؤيا، أو رؤياى جبريل كانت رؤيا، إنك لا تراني في هذا المعنى بعدها، فجد فيه فإن الله سيمدك بمدد من عنده، قال فاستيقظت وقلت مابعد الحق الا الضلال، وأخذت في نصرة الأحاديث في الرؤية والشفاعة والنظر وغير ذلك، فكان يأتيني شيء ما سمعته من خصم قط، ولا رأيته في كتاب فعلمت أن ذلك من مدد الله تعالى الذي بشرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (2) ، وهي رواية تنتهي إلى مجاهيل، ويورد القاضي عياض هذه الرواية بلا إسناد ويذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) التبيين (ص: 38-39) .
(2) المصدر السابق (ص:0 4- 41) ، وطبقات السبكي (3/348-349) .(1/372)
قال لى في المنام: " إنما قلت لك اطلب علم الكلام، واعمل بمسألة الرؤية، ولم أقل لك نح الكلام،، وأنه لما رآه ليلة سبع وعشرين قال له الأشعري لما سأله ما الذى عملت فيما قلت لك؟: " فقلت: يارسول الله، كيف أدع مذهبا نصرته أربعين سنة، وصنفت فيه، ورسخت؟ يقول الناس: هذا رجل موسوس يدع المذاهب بالمنامات"، فغضب غضبا شديدا وقال: كذلك كانوا يقولون لي: موسوس ومجنون، وماضيعت حق الله تعالى لقول الناس، وتعد هذه من جملة المنامات؟ أتردد اليك في الشهر ثلاث مرات، ثم تقول: إنه منام، هذه اعتذارات كلها باطلة فدعها، ولا تعرج عليها...." (1) .
ويلاحظ ما دخل هذه الروايات من زيادات حتى يقول الرسول: انظر علم الكلام، وقد يكون لمسألة الرؤية أصل، لكن ليس بهذه الأساليب والروايات التي لم يتصل سند شيء منها.
2- النوع الثاني من الأسباب: مناظراته لشيخه الجبائي، وأشهر هذه المناظرات: مناظرته حول الصلاح والأصلح فقد أوردها ابن خلكان في ترجمة الجبائي فقال:" وعنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري شيخ السنة وعلم الكلام، وله معه مناظرة روتها العلماء، فيقال: إن أبا الحسن المذكور سأل أستاذه أبا على الجبائي عن ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمنا برا تقيا، والثاني كان كافرا فاسقا شقيا، والثالث كان صغيرا، فماتوا، فكيف حالهم؟ فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة، فقال الأشعري: ان أراد الصغير أن يذهب الى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة، فقال الجبائي: يقول البارى جل وعلا: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك، فقال الأشعري: فلو قال الأخ الكافر: يا اله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالى، فلم راعيت مصلحته
_________
(1) ترتيب المدارك (5/28-29) .(1/373)
دوني؟ " [وفي بعض نسخ الوفيات الخطية] : فقال الجبائي للأشعرى: إنك مجنون، فقال: لا، بل وقف حمار الشيخ في العقبة" (1) ، وبسبب انقطاع الجبائي رجع الأشعري عن الاعتزال (2) ، وهناك مناظرة أخرى حول هل يسمي الله عاقلا فقد " دخل رجل على الجبائي فقال: هل يجوز أن يسمي الله تعالى عاقلا؟ فقال الجبائي: لا، لأن العقل مشتق من العقال، وهو المانع، والمنع في حق الله محال، فامتنع الإطلاق. قال الشيخ أبو الحسن فقلت له: فعلى قياسك لا يسمي الله سبحانه حكيما؟ لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابة من الخروج ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت- رضي الله عنهـ:
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء (3)
وقول الآخر:
أبني حنيفة حكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا (4)
أى نمنع بالقوافي من هجانا، وامنعوا سفهاكم، فإذا كان اللفظ مشتقا من المنع، والمنع على الله محال لزمك أن تمنع إطلاق حكيم عليه سبحانه وتعالى قال: فلم يحر جوابا، الا أنه قال لي: فلم منعت أنت أن يسمي الله سبحانه عاقلا، وأجزت أن يسمي حكيما؟ قال: فقلت له: لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوى، فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته" (5) .
_________
(1) وفيات الأعيان (4/267-268) ، وانظر طبقات السبكي (3/356) ، وانظر رأي الجبائي في هذه المسألة في مقالات الأشعري (ص: 575) ، وانظر: تعليق المقبل القاسي على هذه القصة في العلم الشامخ (ص: 297) .
(2) انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/93) ، ويذكر الرازى في تفسيره "سورة الأنعام، آية 125" انها بعد رجوع الأشعري (13/185) .
(3) ديوان حسان (ص: 74) ، ت سيد حنفي وحسن كامل الصيرفي، الهيئة المصريةالعامة 1394هـ، 1974م.
(4) البيت لجرير، ديوانه (1/466) وفيه " أحكموا".
(5) طبقات السبكي (3/357-358) ، وانظر: ظهر الإسلام (4/68-69) .(1/374)
والمناظرات بين الأشعري والجبائي كثيرة، وواضح أن بعضها كان بعد رجوع الأشعري (1) ، وقد تكون من عوامل عدم ثقته بمذهب الاعتزال.
3- أن سبب رجوعه حيرته وتكافؤ الأدلة عنده،-روي ابن عساكر عن ابن عذرة أنه قال عن الأشعري: " قام على مذاهب المعتزلة أربعين سنة، وكان لهم لهم إماما ثم غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوما، فبعد ذلك خرج إلى الجامع فصعد المنبر وفال: معاشر الناس: اني تغيبت عنكم في هذه المدة لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي حق على باطل، ولا باطل كل حق، فاستهديت الله تبارك وتعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ماكنت أعتقده؟ انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به ودفع الكتب الى الناس فمنها: كتاب اللمع، وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة سماه بكتاب كشف الأسرار وهتك الأستار، وغيرهما، فلما قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنة والجماعة أخذوا بما فيها، وانتحلوه واعتقدوا تقدمه واتخذوه إماما حتى نسب مذهبهم اليه" (2) .
4- وبعضهم يربط أسباب رجوعه بعوامل خارجية، فمحنة الامام أحمد، ثم ماجرى بعد ذلك من انتصاره وأفول نجم أعدائه من المعتزلة في عهد المتوكل، وأن الناس ملوا كثرة المماجكات والمحن التي شهدوها فكرهوا هذه الطائفة، فولد هذا لدى الأشعري كراهية هذا المذهب فرجع عنه (3) .
5- أن أسباب رجوعه نشأة الأشعري الحديثية، والفقهية، فأبوه كان
_________
(1) انظر: ما أشار اليه الأشعري في المقالات (ص:355-356) حول الحركة والسكون، و (ص: 19،) حول هل يريد الإنسان إرادته، وانظر عيون المناظرات للسكوني، فقد أورد للأشعري عدة مناظرات، فإضافة الى مناظراته حول الصلاح والأصلح، وهل يسمي الله عاقلا (ص:226،وص:228) ذكر مناظرات أخرى: (ص:226 حول الرؤية، وص:232) مع أحد النصارى حضرها بعض المعتزلة منهم الجبائي، وأخرى (ص:234) لكن ليس فيها الجبائي.
(2) التبببن (ص:39-40) .
(3) انظر ظهر الإسلام (4/66) ، منهج علماء الحديث والسنة (ص 160) ، نشأة الأشعرية وتطورها (ص:179) .(1/375)
محدثا جماعيا، وأوصي به الى الساجي المحدث، ثم بعد ذلك صار الأشعري يتردد على حلقة الفقيه أبو إسحاق المروزى الشافعي، فتأثر بذلك خاصة وأن موقف أهل الحديث من المعتزلة معروف، كذلك الإمام الشافعي كان له موقف من آراء المعتزلة بل وعلم الكلام، فلم يستطع الأشعري أن يجمع بين كونه شافعي المذهب يتعبد به ويدرس على شيوخه وبين آرائه الاعتزالية التي تعظم العقل، وترد أحاديث السنة فرجع عن مذهب المعتزلة (1) .
والبعض عرض هذا السبب بأسلوب آخر، وهو أن الأشعري أراد أن يجمع بين الفقهاء والمحدثين وبين أهل الكلام، الذين اشتد بينهم العداء، وأن الأشعري لما رأى ذلك ساءل نفسه وما الذي يمنع من الجمع بين الفقه وعلم الكلام، فأتي بمذهبه الذى توسط فيه بين المعتزلة والمحدثين (2) .
والبعض يذكر هذا السبب وأن الذى دعا الأشعري إلي تحوله ما رآه من انقسام المسلمين عقائديا، ما بين معتزلة يفرطون في النزعة العقلية، ومن يقابلهم من أهل النص، فأراد أن يسهل للأمة الإسلامية مخرجا وسطا بينهما (3) .
6- وهناك أسباب أخرى ذكرها أعداؤه ليشنعوا عليه (4) .
هذه أهم ما أورد من أسباب لتحول الأشعري، وقد سبق عند الحديث عن الجبائي وآرائه التلميح إلى ما قد يكون من أسباب نبذه لمذهب المعتزلة، ومع ذلك فكل ما ذكر لا يرقى أى منها إلى درجة اليقين، إذ لم يرد عن الأشعري
_________
(1) انظر: في علم الكلام (ج 2) ، الأشاعرة (ص:42-43) .
(2) انظر: مقدمة الكوثرى لتبيين كذب المفترى (ص: 15) ونشأة الأشعرية وتطورها: (ص:186)
(3) انظر: تاريخ الفلسفة الإسلامية: هنرى كوربان (ص:180-182) ، ويقول سبيتا"عكف على دراسة الحديث وضح له مابين رأى المعتزلة وروح الإسلام من تناقض، دائرة المعارف الإسلامية (2/218) ، وانظر: تاريخ الفلسفة العربية: الفاخورى، الجر (1/177) .
(4) مثل قول بعض المعتزلة: إن السبب تغير في عقله، تبيين كذب المفتري (ص:80) ، وقول البعض: انه مات له قريب فخاف أن يمنع من الميراث، ومثل أنه فارق مذهب المعتزلة لأنه لم يظفر عند العامة بسمو المنزلة (التبيين ص: 381) . ومثل القول: إن السبب الضغط من أسرته وإغرائه بالمال، أو أنه أراد أن يبني لنفسه بطولة، أو مجاملته للحنابلة، انظر المدرسة السلفية (ص: 564-565)(1/376)
بطريق صحيح أو في أحد كتبه المعتمدة السبب المباشر لتحوله ورجوعه، لذلك لابد من التماس ذلك في أكثر من سبب، علما بأن الرجوع إلى الحق ونبذ الباطل إنما هو عودة إلى الهداية الموافقة للفطرة، وهو أمر يقذفه الله في قلب عبده المؤمن، فليس الأمر غرييا أو مخالفا للمعقول حتي يتلمس له السبب، والله أعلم.
* * *
ج- مذهب الأشعري بعد رجوعه [هل كان طورا أو طورين؟] :
اختلف العلماء والباحثون- بعد اتفاقهم علي العطور الأول الذي هو طور الاعتزال- هل مر الأشعري بعد تحوله بطور أو طورين؟، ويمكن تحديد الأقوال كما يلي:
الأول: أن الأشعري- بعد تحولهـ بقي على طور واحد، وأنه في هذه المرحلة تابع ابن كلاب، لكن كانت له آراء مستقلة توسط فيها بين المعتزلة والمثبتة، نشأ عنها ما يسمى بالمذهب الأشعري، وهذا قول الأشعرية، أما كتاب الإبانة فإما أن يتغافلوا عنه، أو يقولوا بإثباته، لكنهم يفسرون مافيه من الإثبات بأن ذلك جاء على طريقة "التفويض" وأن هذا لا يتعارض مع القول بتأويل بعض الصفات (1) .
وهذا القول يقول به أيضا بعض العلماء من غير الأشاعرة، وهؤلاء يقولون: إن الأشعري سار علي طريقة ابن كلاب، فبقيت عليه بقايا من مذهب الاعتزال، أما كتاب الإبانة فيرون أنه مع أنه يقرب فيه كثيرا من مذهب السلف ق الاستدلال بالنصوص، إلا أن ما أثبت فيه هو مذهبه قبل ذلك، ولذلك فليس فيه ما يعارض كتبه السابقة، والمباحث التي ركز عليها في كتاب " اللمع"
_________
(1) انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/93) ، ولسان الميزان لابن حجر (3/ 291) الذى يرى أن الأشعري مشى على طريقة ابن كلاب في كتابه الإبانة، وهذا رأي ابن فورك الذي يرى أن أصولهما واحدة، انظر: نص كلامه فيما جمعه من مقالات ابن كلاب، نقض التأسيس المخطوط (1/37-41) .(1/377)
لم يركز عليها في كتاب الإبانة، فليس بينهما تعارض، وليس في الإبانة ما بدل على رجوعه عن مذهب ابن كلاب (1) .
فهذان رأيان يتفقان في أن الأشعري مر بعد الاعتزال بمرحلة واحدة، ويختلفان في التفسير والتحليل.
الثاني: أن الأشعري بعد تحوله مر بطورين:
أ- طور التوسط والسير علي طريقة ابن كلاب.
ب- وطور الإثبات والتخلي عن طريقة ابن كلاب والسير علي منهاج أهل السنة والجماعة كما في " الإبانة".
لكن أصحاب هذا القول اختلفوا علي قولين متعارضين:
أحدهما: أن الأشعري مر أولا بطور التوسط والسير علي طريقة ابن كلاب
وألف في ذلك كتبه المختلفة التي اشتهرت وتناقلها الناس، ثم رجع في الآخر إلى مذهب السلف من خلال تأليفه للإبانة وذلك في آخر عمره في بغداد (2) .
_________
(1) ويرى الدكتور فاروق دسوقي أن الأشعري، رجع مرة واحدة الي مذهب السلف، ولم يتغير موقفه ولا منهجه، ولا فرق بين الإبانة واللمع، انظر: رأيه وحججه بالتفصيل في كتابه القضاء والقدر (2/286-304) ، وهو رأي الدكتورة فوقية محمود، الإبانة- الدراسة- (ص: 91) .
(2) من الذين نصوا على أن الأشعري مر بثلانة أطوار آخرها الرجوع الي مذهب السلف ابن كثير كما نقل عنه الزبيدى في إتحاف السادة المتقين (2/4) ، والشيخ محب الدين الخطيب في حواشيه عل الروض الباسم (ص: 174) ، ومعارج القبول (1/346) ، والمنتقي (ص: 41، 43) ، والشيخ أحمد بن حجر أبو طامي في العقائد السلفية (1/143) ، والشيخ محمد الصالح العثيمين في القواعد المثلى (ص: 80-81) ، ومصطفي حلمي في ابن تيمية والتصوف (ص: 16) وفي قواعد المنهج السلفي - ط الثانية (ص: 30) وغيرهم، ومن الباحثين: هادى طالبي في رسالته أبو الحسن الأشعري بين المعتزلة والسلف (ص: 39) ومابعدها، وخليل إبراهيم الموصلى في رسالته بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين اليه في العقيدة (ص: 39) ومابعدها، ومحمد باكريم باعبد الله في مقدمة تحقيقه لكتاب الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي (ص: 8) من الدراسة ومابعدها.(1/378)
الآخر: العكس: وهو أن الأشعري، انتقل أولا إلى مذهب السلف، - الذي يسمونه مذهب الحنابلة- فألف الابانة في حال الحماس والاندفاع، ثم بعد ذلك انتقل إلى الطور الأخير الذي توسط فيه، وألف فيه كتبه ومنها اللمع، فهؤلاء يبنون قولهم علي أن الإبانة قبل اللمع (1) .
هذه أهم الأقوال الواردة في مسألة رجوع الأشعري-رحمه الله- ويمكن تلخيصها كما يلي:
1- إن الأشعري تحول عن الاعتزال إلى التوسط، أو ما يسمي بمذهب الأشعري، وان ما رجع إليه هو الحق.
2- أنه رجع الى مذهب السلف والقول الحق- الذي هو مذهب الإمام أحمد -ولم تختلف أقواله ولا كتبه.
3- أنه رجع الى المذهب الحق لكنه تابع ابن كلاب وبقيت عليه بقايا اعتزالية.
4- أنه رجع أولا إلى التوسط ومتابعة ابن كلاب، ثم رجع إلى مذهب السلف رجوعا كاملا..
5- أنه رجع أولا إلى مذهب السلف، ثم انتقل إلى التوسط واستقر عليه.
مناقشة هذه الأقوال:
أما بالنسبة للقول الأول والثاني فمبنيان علي أن ما سطره الأشعري في كتبه إنما هو المذهب الحق الذي يقولون به، فالأشاعرة المتأخرون الذين انحرفوا
_________
(1) وهذا رأي الكوثري كما في تعليقه عل تبيين كذب المفترى (ص: 392) ، وتعليقه على كتاب اللمعة (ص: 57) ، وحمودة غرابة في كتايه عن الأشعري (ص: 67-69) ، وفي مقدمة تحقيقه للمع (ص:6-9) ، وهو رأي عرفان عبد الحميد في دراسات في الفرق والعقائد (ص:148) ، وجلال موسى في نشأة الأشعرية (ص: 194-195) ، وأحمد صبحي في كتابه عن الأشاعرة (ص:45-46) ، وفوقية محمود في مقدمة الإبانة (ص 79-. 8، 90، 191) ، والسقا في كتابه: الله وصفاته (ص:100-103) .(1/379)
كثيرا عن مذهب السلف إذا نوقشوا في أقوالهم وانها مخالفة لأقوال السلف ولأقوال شيخهم الأشعري لا يقرون بذلك، وانما يقولون: ان السلف والأشعري قصدوا من الاثبات التفويض، ولا مانع من تفويض النصوص، أو تأويلها بما يوافق المعقول، وأن الأشعري ومن جاء بعده انما أرادوا دعم العقيدة بالحجج والقواعد الكلامية، لذلك تنتقل القضية مع هؤلاء من مسألة رجوع الأشعري الى مسألة أوسع الا وهي مذهب الأشعرية ومدى قربه أو بعده من مذهب السلف، وفصول الرسالة القادمة متضمنة لمناقشة ذلك.
أما رأى الدكتور فاروق دسوقي- ومن وافقهـ فبناه على أن الأشعري من المثبتة، وأنه قال بأقوال أهل السنة والإمام أحمد، وبنى ذلك على أنه ليس هناك تعارض بين اللمع والإبانة، وأن مباحثهما متقاربة، وإنما الاختلاف فقط في الأسلوب والطريقة، لأن الأشعري هدف من اللمع الرد على أهل الزيغ والبدع، وهدف من الابانة بيان الأدلة على أصول الديانة، فخلص من هذه الدراسة والمقارنة الى أن الأشعري رجع إلى مذهب الإمام أحمد، وهذا القول ربما يكون له وجاهة- مع بعض التحفظ أيضا- لو أن الأشعري ليس له الا هذان الكتابان، أما وقد ثبت أن للأشعري كتبا كثيرة نقل منها العلماء، وهي تدل علي أن للأشعري بعض الآراء الكلامية التي لا توافق مذهب السلف، فبصبح هذا الرأى ضعيفا جدا.
ثانيا: أما بالنسبة للقول الرابع والخامس، فالخلاف بينهما مبني على الإبانة واللمع أيهما أسبق، وبتحقيق الأمر في ذلك يتبين رجحان أحدهما.
وخلاصة أدلة من يرى أن كتاب الابانة ألفه الأشعري أولا ما يلي:
أ- قول ابن خلكان بعد ذكره لقصة رجوع الأشعري وانخلاعه من ثوب كان عليه:" ودفع للناس ما كتبه علي طريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين" (1) ، والإبانة هو الذى كتبه الأشعري على هذه الطريقة.
_________
(1) انظر: دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية للدكتور عرفان عبد الحميد (ص: 148) ، وانظر الإمام ابن تيمية وقضية التأويل (ص: 100) ، ونسبها الى طبعة عبد الحميد من الوفيات ولكن =(1/380)
2- أن العادة أن الإنسان إذا انتقل من عقيدة إلى عقيدة يكون متحمسا لعقيدته الجديدة، وأن الأشعري في أول فترة انتقاله كان متحمسا لعقيدة السلف، يعيش رد فعل لحياته الأولى، فمن الملائم- والحالة هذهـ أن الأشعري قد ألف كتابه الإبانة، التى يعلن فيها صراحة تمسكه بأقوال الإمام أحمد بن حنبل-رحمه الله- (1) .
3- أن المطلع على اللمع، يرى أنه يمثل فترة نضوج فكري، فهو يعرض فيه الأدلة والمناقشات بشكل جيد، فالأشعري في هذا الكتاب أقوي حجة وبيانا فلذلك من المفترض أن يكون ألفه في مرحلته الأخيرة (2) .
أما أدلة الذين يقولون إن الإبانة آخر كتب الأشعري فهي كما يلي:
1- ما رواه ابن عساكر عن ابن عذرة في قصة رجوع الأشعري وفيها:
" فبعد ذلك خرج إلى الجامع فصعد المنبر وقال: يا معشر الناس: إني إنما تغيبت عنكم في هذه المدة لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي حق علي باطل، ولا باطل على حق، فاستهديت الله تبارك وتعالى فهداني الى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ئوب كان عليه ورمى به ودفع الكتب إلى الناس فمنها كتاب "اللمع" وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة سماه بكتاب " كشف الأسرار وهتك الأستار وغيرهما" (3) ، فهذا دليل على تقدم اللمع على الإبانة.
2- أن الأشعري لما ذكر مؤلفاته في كتابه " العمد" لم يذكر منها الإبانة وقد ذكر ابن فورك أن هذه المؤلفات ألفها فى سنة عشرين وثلاثمائة، فلو كانت
_________
= بعد الرجوع الى هذه الطبعة (2/446-447) لم أجده فيها، كما لم أجده في الطبعة الأولى (1/586-587) ، ولا في طبعة دار صادر (3/285) .
(1) انظر: الأشعري: حمودة غرابة (ص: 67-68) ، ومقدمة اللمع له (ص: 7-8) ، والقضاء والقدر: للدسوقي (2/298) ، والأشاعرة: أحمد صبحي (ص: 45-46) .
(2) انظر: نشأة الأشعربة وتطورها (ص: 194-195،210) ، والقضاء والقدر للدسوقي (2/298) .
(3) التبيين (ص: 39) .(1/381)
من ضمنها لذكرها، ولما أضاف ابن فورك ما ألفه بعد ذلك لم يذكر الابانة- وقد سبق عند الحديث عن الابانة ضمن مؤلفات الأشعري- التفصيل في ذلك، لكن ابن عساكر الناقل عن ابن فورك يذكر الإبانة وينقل منها نصوصا، فهذا يدل علي أن الإبانة من آخر ما ألفه الأشعري، مع أن الأشعري يذكر في قائمة كتبه كناب اللمع وهذا يدل علي تقدم اللمع علي الإبانة (1) .
3- قصة الأشعري مع شيخ الحنابلة في بغداد البربهاري (2) ، فقد روي القاضي أبو يعلى أنه " لما دخل الأشعري الى بغداد جاء الى البربهاري، فجعل يقول: رددت علي الجبائي وعلى أبي هاشم، ونقضت عليهم وعلي اليهود والنصارى والمجوس، وقلت لهم، وقالوا واكثر الكلام في ذلك، فلما سكت قال البربهاري: ما أدرى مما قلت قليلا ولا كثيرا، ولا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل، قال: فخرج من عنده وصنف كتاب الإبانة فلم يقبله منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها" (3) ، وقد ضعف ابن عساكر هذه الرواية فى قوله في آخرها "ولم يظهر ببغداد الى أن خرج منها" بأن الأشعري إذ صار إليها لم يفارقها ولا رحل عنها فإن بها منيته (4) ، وابن عساكر إنما ينكر هذه القصة لا تأخر الإبانة.
4- دليل عقلي وهو أن الإنسان يغلب عليه التدرج شيئا فشيئا في تنقلاته، لأن الإنسان يتضح له الأمر شيئا فشيئا، فينتقل إليه خطوة خطوة، وهذا ما حدث للأشعري (5) .
_________
(1) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 128-135) .
(2) هو: الحسن بن على بن خلف أبو محمد البربهارى كان من المنكرين على أهل البدع، صحب جماعة من أصحاب الإمام أحمد، توفي سنة 328 هـ وقيل 329 هـ، طبقات الحنابلة (2/18) ، وسير أعلام النبلاء (15/90) .
(3) طبقات الحنابلة (2/18) ، والوافي (12/246) ، والسير للذهبي (15/90)
(4) انظر: التبيين (ص: 391) .
(5) انظر: القضاء والقدر للدسوقي (2/295) .(1/382)
5- أن مجموعة من العلماء قالوا بأن الإبانة آخر مؤلفات الأشعري، ومنهم:
1- إمام القراء أبو على الحسن بن على بن إبراهيم الفارسى ذكر انه صنف الإبانة في بغداد لما دخلها (1) .
2- أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس المتوفي سنة 605 هـ، فإنه قال في رسالته في الذب عن الأشعري: " أما بعد: فاعلموا معاشر الإخوان وفقنا الله وإياكم للدين القويم وهدانا أجمعين للصراط المستقيم بأن كتاب الإبانة عن أصول الديانة الذي ألفه الإمام أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده " (2) .
3- وشيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة من كتبه (3) .
4- وابن قيم الجوزية، نقل منه في بعض كتبه وأشار إلى أنه آخر مؤلفاته (4) .
5- وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ذكر أنه آخر مؤلفاته فقال:
"وهو آخر كتاب صنفه وعليه يعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه" (5) .
6- وابن كثير كما نقل عنه الزبيدي (6) .
_________
(1) انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لابن درباس (ص: 115) - ت الفقيهي.
(2) المصدر السابق (ص:107) .
(3) من ذلك الرسالة المدنية- مجموع الفتاوي (6/359) ، والحموية- مجموع الفتاوي (5/93) ، ونقض التأسيس المخطوط (1/83) ، وغيرها.
(4) انظر: مختصر الصواعق (2/136) ، ففيه أشار الى أنه آخر مؤلفاته.
(5) شذرات الذهب (2/303) .
(6) انظر: اتحاف السادة المتقين (2/4) .(1/383)
7- والشيخ إبراهيم بن مصطفي الحلبي، المتوفي سنة 1190 هـ في كتابه " اللمعة في تحقيق مباحث الوجود والحدوث والقدر وأفعال العباد" (1) .
8- والشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني، المتوفي سنة 1101 هـ كما في القول الجلى (2) .
9- والشيخ خالد النقشبندى الشافعى شيخ مشايخ الألوسي كما في جلاء العينين (3) .
10- والشيخ نعمان خير الدين الألوسى في كتابه جلاء العينين (4) .
11- والشيخ محب الدين الخطيب في تعليقه على المنتقي من منهاج الإعتدال (5) .
وغيرهم (6) ، وهؤلاء هم الذين نصوا على أن " الابانة" آخر مؤلفات الأشعري أما الذين ذكروا الإبانة ونسبوها إلى الأشعري فكثيرون.
هذه خلاصة أدلة الذين يقولون بتأخر الإبانة عن اللمع، وهي كما يلاحظ أدلة علمية تعتمد على نقل العلماء وأقوالهم. أما أدلة القول الأول فليس في واحد منها ما ينص على تأخر اللمع وتقدم الإبانة؛ فعبارة ابن خلكان مجملة، وجميع
_________
(1) (ص:57) .
(2) (ص: 36) - ت سالم الدخيل، ضمن مجلة كلية أصول الدين العدد الثاني 1399- 1400 هـ وهو في (ص: 216) في ترقيم صفحات المجلة.
(3) (ص: 157) - ط المدني.
(4) (ص: 462) .
(5) (ص:41،43) .
(6) فقد رجحه مجموعة من الباحثين منهم: راجح الكردى في كتابه " علاقة صفات الله تعالى بذاته (ص: 142) ، ومحمد أحمد محمود في كتابه" الحنابلة في بغداد (ص: 186) ، ورضا نعسان في علاقة الإثبات والتفويض (ص: 41-44) ، وقد ذكر (ص: 41) أن فوقية محمود في تحقيقها للإبانة أثبتت انه آخر مؤلفاته وهو وهم بل هي ترى العكس انظر مقدمتها للأبانة (ص: 79-.8،90، 191) ، وممن رجحه من المستشرقين جولد تسهر في العقيدة والشريعة في الإسلام (ص: 122) ، ومكدونالد كما جاء في الحنابلة في بغداد (ص: 186) .(1/384)
الذين يميلون إلى المذهب الأشعري يقولون ان كتبه كلها تسير على طريقة الفقهاء والمحدثين لا يفرقون بين الإبانة واللمع، أما الدليل النفسي وأن الإنسان عند انتقاله يكون متحمسا فيقابله دليل نفسي آخر وهو التدرج الذى ورد في أدلة القول الثاني، أما مسألة النضج ففى الإبانة مناقشات للمعتزلة لا تقل قوة عن مافي اللمع، فيتبين بذلك أن الإبانة آخر مؤلفات الأشعري، ويتبين أيضا ضعف هذا القول الذى يقول: ان الأشعري رجع أولا إلى مذهب السلف ثم استقر على التوسط.
ثالثا: من خلال المناقشة السابقة تبين أن القول الأول مع ظهور ضعفه فهو خارج محل النقاش فهو يقوم على دعوى أن الأشعري يتأول أحيانا الصفات الخبرية، وأنه قال بالتفويض، أو المجاملة للحنابلة حين ألف الإبانة والا فليس هذا معتقده، وكل هذا من أجل تبرير التطور الذى حدث للمذهب الأشعري حين انحرف الأشعرية عن كثير من آراء شيخهم أبو الحسن-رحمه الله- تعالى- كما تبين أن القول الثاني والقول الخامس ضعيفان.
وبقي من الأقوال:
ا- القول الثالث: أنه رجع الى الحق لكنه تابع ابن كلاب وبقيت عليه بقايا اعتزالية وكلامية.
2- والقول الرابع: أنه رجع أولا إلى قول ابن كلاب ثم رجع أخيرا إلى مذهب السلف
وقبل المناقشة وبيان أدلة الفريقين ثم الترجيح نعرض لما يلي:
1- أن نسبة الأقوال إلى شخص إنما تأتي من خلال كتبه وأقواله المروية عنه، وكثيرا ما يشهر عن أحد من العلماء أقوال فتنسب اليه هذه الأقوال ويتناقلها الناس خاصة اذا كانت مسطرة في كتاب أو كتب اشتهرت باسمه فإذا ما رجع هذا العالم عن أقواله هذه فربما لاتشتهر بحيث تستدرك ما عرف أولا عنه، وخاصة إذا تبني الأقوال الأولى أناس وشرحوها ودرسوها للناس على أنها القول الحق،(1/385)
فالغالب أنها هي التي تنتشر وتشتهر وتبقى أقواله المتأخرة خافتة وضعيفة، ولا يحتج بها إلا عند الرد على الخصوم أو عند الحاجة، وهذا الكلام ينطبق على كثير من أعلام أهل الكلام، فالجويني مثلا اشتهرت كتبه الأشعرية كالشامل والإرشاد ولمع الأدلة، وتناقلها الناس، لكن رجوعه في آخر عمره إلى عقيدة السلف وما سطره في النظامية لا يكاد يعتمد على أنه قوله ومذهبه الذي يجب أن ينسب إليه، ومثله الرازى الذى ألف كتبا فلسفية وكلامية على مذهب الأشاعرة، انتشرت وتناقلها الناس ولكن رجوعه ووصيته في آخر عمره لا تكاد تذكر فيما ينسب إليه من العقائد.
وهذا نفسه ينطق على الأشعري فكتبه الكلامية انتشرت وتناقلها الناس، ومن يطالع مجرد مقالات أبو الحسن الأشعري الذى ألفه ابن فورك- على مافيه من ملاحظات- والذى اعتمد فيه على عدد كبير من مؤلفات الأشعري المفقودة يرى العجب من الآراء الكلامية والمنطقية، ومع ذلك فهي التي انتشرت ونسبت إلى الأشعري أما ما ذكره في المقالات من أقوال أهل الحديث وماسطره في الإبانة فلا تجد لهـ في الغالب- ذكرا لدى الأشعرية المتأخرين.
لذلك فحينما نناقش قضية رجوع الأشعري قد لا تكون هناك فائدة كبيرة لأولئك الذين أشربوا المذهب الأشعري في أطواره الأخيرة، وإنما هو منهج في بيان مذهب السلف والرد على متأخرى الأشعرية بأقوال شيخهم أبي الحسن وانهم لم يقولوا بما قاله في كتبه المتأخرة كالإبانة وغيره، وان أقواله إنما تدعم ما يقوله من يسير على مذهب السلف أهل السنة والجماعة.
2- أن أهم ما يميز مذهب ابن كلاب- الذي تابعه الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال- قوله في مسألة الكلام والصفات الاختيارية لله تعالى، أما الصفات اللازمة لله تعالى فهو يثبتها مثل السمع والبصر والعلم والقدرة، ومثل اليدين والوجه والعينين والعلو والاستواء وغيرها لكنه قال بامتناع أن تقوم الصفات الاختيارية بذات الله مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك، وعلل ذلك بأنه يستلزم حلول الحوادث بذات الله تعالى وما لم يخل من الحوادث(1/386)
فهو حادث واضطر لطرد هذا الأصل أن يقول في مسألة كلام الله: إنه ليس إلا مجرد المعنى وان الحروف ليست من كلام الله. كما أنه بناء على هذا الأصل لم يثبت لله صفة الرضي والغضب.
فهذه الطريقة لم تكن موجودة قبل ابن كلاب، بل كان الناس قبله على قولين فقط، قول المعتزلة والجهمية والنفاة، وقول السلف الذين يثبتون لله جميع الصفات سواء كانت لازمة لذاته أو تتعلق بمشيئته وقدرته، فلما جاء ابن كلاب أثبت الصفات لكنه نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته، واتبعه على ذلك جماعة منهم
الأشعري (1) .
3- أما الأدلة على كون الأشعري قد تابع ابن كلاب فيتضح من خلال النصوص التالية:
أ- يقول الأشعري في اللمع في الدلالة على اثبات الصانع- بعد أن ذكر دليل خلق الإنسان-: "فإن قالوا: فما يؤمنكم أن تكون النطفة لم تزل قديمة؟ قيل لهم: لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الإعتمال والتأثير، ولا الانقلاب والتغيير، لأن القديم لا يجوز انتقاله وتغيره، وأن يجري عليه صفات الحدث.." (2) ، والصفات الاختيارية التي تدل على أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه ينزل ويأتي كما يليق بجلاله وعظمته هى عند الأشعري من الحوادث التي لا يجوز أن تحل بذاته تعالى.
ب- ويقول في مسألة كلام الله وأنه قديم أزلي: "دليل آخر على أن الله لم يزل متكلما: ان الكلام لا يخلو أن يكون قديما أو حديثا، فإن كان محدثا لم يخل أن يحدثه في نفسه، أو قائما بنفسه، أو في غيره، فيستحيل أن يحدثه في نفسه لأنه ليس بمحل للحوادث ... ثم يقول: وإذا فسدت الوجوه التي
_________
(1) انظر: رسالة الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزى (ص: 87) ومابعدها ط على الآلة الكاتبة، وانظر: درء التعارض (2/6) ، وانظر: أقوال ابن كلاب في مقالات الأشعري (ص:169،584) - ط ريتر.
(2) اللمع (ص: 19) غر ابة، و (ص: 7) - ط- مكارثي.(1/387)
لا يخلو الكلام منها لو كان محدثا صح أنه قديم وأن الله تعالى لم يزل به متكلما" (1) . فنفى أن يحدثه في نفسه أى أن يتكلم به إذا شاء متى شاء، وعلل ذلك بأنه ليس محلا للحوادث ثم أثبت أن كلامه قديم وأن الله لم يزل به متكلما.
ج- وفي مسألة الارادة يقول بعد ذكره لدليل الكلام:"وهذا الدليل على قدم الكلام هو الدليل على قدم الإرادة لله تعالى لأنها لو كانت محدثة لكانت لا تخلو من أن يحدثها في نفسه أو في غيره أو قائمة بنفسها، فيستحيل أن يحدثها في نفسه لأنه ليس بمحل للحوادث، ويستحيل أن يحدثها قائمة بنفسها لأنها صفة والصفة لا تقوم بنفسها كما لا يجوز أن يحدث علما وقدرة قائمين بأنفسهما، ويستحيل أن يحدثها في غيره لأن هذا يوجب أن يكون ذلك الغير مريدا بإرادة الله تعالى، فلما استحالت هذه الوجوه التي لا تخلو الإرادة منها لو كانت محدثة، صح أنها قديمة، وأن الله لم يزل مريدا بها" (2) .
د- ويقول الأشعري في رسالته الى أهل الثغر في باب ذكر ما أجمع عليه السلف من الأصول: "وأجمعوا على إثبات حياة الله عز وجل لم يزل بها حيا، وعلما لم يزل به عالما، وقدرة لم يزل بها قادرا، وكلاما لم يزل به متكلما، وإرادة لم يزل بها مريدا، وسمعا وبصرا لم يزل به سميعا بصيرا، وعلى أن شيئا من هذه الصفات لا يصح أن يكون محدثا؛ إذ لو كان شيء منها محدثا لكان تعالى قبل حدثها موصوفا بضدها، ولو كان كذلك يخرج عن الأهلية وصار إلى حكم المحدثين (3) ، الذي يلحقهم النقص ويختلف عليهم صفات الذم والمدح، وهذا يستحيل على الله عز وجل، وإذا استحال ذلك عليه وجب أن يكون لم يزل بصفة الكمال، إذا كان لا يجوز عليه الانتقال من حال من الكمال" (4) . وهذا واضح في نفي الصفات الاختيارية له تعالى.
_________
(1) اللمع (ص: 43- 44) ، و (ص: 22) - ط- مكارثي
(2) اللمع (ص: 45- 6،) - ط- غرابة، و (ص: 23) - مكارثي.
(3) في الطبعة الأخيرة- ت عبد الله شاكر (ص: 215) -"ولو كان كذلك لخرج عن الإلهية وصار الى حكم المحدثين".
(4) رسالة أهل الثغر (ص: 67-68) ت الجليند وفيه وسار بدل (وصار) وهو خطأ.(1/388)
هـ- وقال في إثبات صفات الله وأنها صفات له على الحقيقة لا على المجاز، وذكر الحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة، ثم قال: " واجب- إذا أثبتنا هذه الصفات له عز وجل على ما ذكرته العقول واللغة والقرآن والإجماع عليها- أن لا تكون محدثة، لأنه تعالى لم يزل موصوفا بها، ولا يجب أن تكون أعراضا لأنه عز وجل ليس بجسم، وإنما توجد الأعراض في الأجساد، وتدل بأعراضها فيها وتعاقبها عليها على حدثها، ويجب أن لا تكون غيره عز وجل، لأن غير الشىء هو مفارقته له على وجه من الوجوه، والباريء عز وجل لا تجب مفارقة صفاته له من قبل أن مفارقتها له ما يوجب حدثه وخروجه عن الإلهية، وهذا يستحيل عليه كما لا يجب أن تكون نفس الباريء عز وجل جسما أو جوهرا أو محدودا، أو في مكان دون مكان، أو غير ذلك، مما لا يجوز عليه من صفاتنا لمفارقته لنا، فلذلك لا يجوز على صفاته ما يجوز على صفاتنا ... " (1) ، وهذا واضح في أنه لا يرى مفارقة صفات الله له لأن هذا يوجب حدثه، كما نفى أن يكون تعالى في مكان دون مكان، ولذلك قال في صفة المجيء: " وأجمعوا على أنه يجيء يوم القيامة والملك صفا صفا، لعرض الأم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن شاء من المذنبين، ويعذب منهم من يشاء كما قال، وليس مجيئه حركة ولا زوالا، وإنما يكون المجيء حركة وزوالا إذا كان الجائي جسما أو جوهرا، فإذا ثبت أنه عز وجل ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه نقلة أو حركة، ألا ترى أنهم لا يرون بقولهم: جاءت زيدا الحمي، أنها تنقلت إليه أو تحركت من مكان كانت فيه، إذ لم تكن جسما ولا جوهرا وإنما مجيئها إليه وجودها به " (2)
ثم قال عن صفة النزول: " وأنه عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس نزوله تعالى نقلة لأنه ليس بجسم ولا جوهر، وقد نزل الوحي على النبى - صلى الله عليه وسلم - عند من خالفنا" (3) ، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان.
_________
(1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 70) ، وفى هذه الطبعة تحريف عدلته من ط عبد الله شاكر (ص:218-219) .
(2) نفس المصدر (ص: 73-74) ..
(3) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 74) .(1/389)
و ويقول الأشعري في صفة الرضا والغضب: " وأجمعوا على أنه عز وجل يرضي عن الطائعين له (1) ، وأن رضاه عنهم إرادته لنعيمهم، وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم وأن غضبه إرادته لعذابهم وأنه لا يقوم لغضبه شيء" (2) .
فهذا نص في تأويل الرضا والغضب.
هذه آراء الأشعري الدالة على أنه سلك طريق ابن كلاب في مسألة الصفات، فهل رجع عن هذا القول إلى مذهب السلف؟.
الذين يرون أته رجع رجوعا كاملا:
أ- تصريح الأشعري في الإبانة برجوعه واتباعه للإمام أحمد، فإنه قال:" قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن السادة، الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد ابن محمد ابن حنبل- نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبتهـ قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائفين، وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم" (3) ، فهذا تصرج منه برجوعه إلى مذهب السلف الذين يمثلهم الامام أحمد، وأنه قائل بأقواله، مخالف لما خالفها، والإمام أحمد- نفسهـ كان شديدا على الكلابية، ولذلك هجر الحارث المحاسبي لكونه كلابيا.
2- قول الحافظ ابن عساكر معلقا على النص السابق للأشعري حين نقله ونقل ماذكره من اعتقاده، قال:"فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه
_________
(1) في المطبوعة هنا زيادة "وإن له" ويبدو أنه خطأ مطبعي والتصويب من المخطوطة (ص: 12)
(2) المصدر السابق (ص: 74- هـ 7) .
(3) الإبانة (ص:20-21) - ت- فوقية، و (ص:6-7) - ط- هندية.(1/390)
وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الامام العالم الذى شرحه وبينه، وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأحسنه، وكونوا ممن قال الله فهم {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل، واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الإعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين" (1) .
3- تتلمذ الأشعري على الحافظ زكريا الساجي، الذي توفي سنة 307 هـ يقول الذهبي:"وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها، وعنه أخذ أبو الحسن الأشعري الحديث ومقالات أهل السنة" (2) وقال أيضا عنه:"وعنه أخذ أبو الحسن الأشعري الأصولى تحرير مقالة أهل الحديث والسلف" (3) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " قلت: زكريا بن يحيى الساجي أخذ عنه أبو الحسن الأشعري ما أخذه من أصول أهل السنة والحديث وكثير مما نقل في كتاب: مقالات الإسلاميين من مذهب أهل السنة والحديث" (4) ، فهذا يدل على رجوع الأشعري الي مذهب أهل السنة والحديث.
4- أن الأشعري في مقالات الإسلاميين الذي يعتبر من مؤلفاته المتأخرة فرق بين مقالة أهل السنة والحديث ومقالة ابن كلاب وأصحابه، ثم لما ذكر مقالة أهل الحديث قال:"وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول واليه نذهب" (5) ، ولما ذكر مقالة ابن كلاب- في مواضع متفرقة- لم يقل: إنه يقول بقوله، وهذا دليل على أنهـ في تلك الفترة- لم يكن متابعا له.
5- قول الإمام ابن كثير:"ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال:
أولها: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
_________
(1) التبيين (ص: 163) .
(2) العلو (ص: 150) .
(3) تذكرة الحفاظ (2/907) .
(4) شرح حديث النزول، مجموع الفتاوي (5/386) .
(5) المقالات (ص: 297) ، ريتر.(1/391)
الحال الثاني: اثبات الصفات العقلية السبعة، وهي الحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام، وتأويل الجزئية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك (1) .
الحال الثالث: أثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريا على منوال السلف وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخرا وشرحها الباقلاني، ونقلها ابن عساكر " (2) .
6- وأهم المسائل في مذهب الأشعرية التي تميزهم مسألة كلام الله، ونصوصه في الإبانة تدل على أنه يقول بقول أهل السنة وأنه لا يقول بالكلام النفسي، يقول:"وقد قال الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء:164] ، والتكليم هو المشافهة بالكلام، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالا في غيره، مخلوقا في شيء سواه، كما لا يجوز ذلك في العلم" (3) ، ثم يقول عن القرآن " فإن قال قائل: حدثونا أتقولون ان كلام الله في اللوح المحفوظ؟ قيل له: كذلك نقول، لأن الله تعالى قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21- 22] ، فالقرآن في اللوح المحفوظ، وهو في صدور الذين أوتوا العلم، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] ، وهو متلو بالألسنة، قال الله تعالى: {لا تحرك لسانك لتعجل به} [القيامة: 16] ، والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة، كما قال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، (4) ، فهو يصرح أنه محفوظ مسموع متلو مكتوب كل ذلك في الحقيقة.
_________
(1) هذا النقل غير دقيق، إذ ليس للأشعري في الصفات الخبرية كالوجه والبدين قول بتأويلهما، والزبيدى ذكر في إتحاف السادة (2/3) أنه سينقل من كتاب الطبقات لابن كثير.
(2) نقلا عن إتحاف السادة المتقين للزبيدي (2/4) .
(3) الإبانة (ص: 72) - ت- فوقية، و (ص: 29) - ط- هندية.
(4) الإبانة (ص:100-101) - ت - فوقية، و (ص: 29) - ط- هندية.(1/392)
7- يقول الشيخ حافظ الحكمي الذي رجح رجوعه الى مذهب السلف حتى في مسألة الكلام التى كان يقول فيها بقول ابن كلاب، وذلك حين شرح الأقوال فى مسألة الكلام نقلا عن الصواعق لابن القيم، فذكر المذهب الخامس - مذهب الأشعري- ومن وافقه أنه معنى واحد قائم بذات الرب، لأنه ليس بحرف ولا صوت ولا ينقسم، ثم ذكر أن هذا المذهب مبني على مسألة انكار قيام الأفعال والأمور الاختيارية بالرب تعالى، وهي مسألة حلول الحوادث (1) .
لكن الشيخ حافظ-رحمه الله- عقب قائلا: " وأقول: والحق يقال، لا شك أن ابن القيم هذا وشيخه ابن تيمية- رحمهما الله تعالى- من أعلم من صنف في المقالات والملل والنحل وأدراهم بمواردها ومصادرها وأبصرهم برد الباطل منها وإدحاضه، وأوفاهم تقريرا لمذهب السلف أهل السنة والجماعة، وأشدهم تمسكا به ونصرة له، واكملهم تحريرا لبراهينه عقلا ونقلا، واكثرهم اشتغالا بهذا الباب وتنقيبا عن عامل البدع واجتثاثا لأصولها، ولكن هذا الذى ذكرهـ رحمه الله تعالى- عن الأشعري في مسألة القرآن هو الذي وجدناه عمن ينتسب إلى الأشعري، ويسمون أنفسهم أهل الحق، ويقررون ذلك ويكررونه في كتبهم، ويناظرون عليه، وأما أبو الحسن الأشعري نفسهـ رحمه الله تعالى- فالذى قرره في كتاب الإبانة، الذي هو من آخر ما صنف هو قول أهل الحديث ساقه بحروفه، وجاء به برمته، واحتج فيه ببراهينهم العقلية والنقلية، ثم نقل أقوال الأئمة في ذلك كأحمد بن حنبل، ومالك بن أنس، والشافعي، وأصحابه، والحمادين، والسفيانين، وعبد العزيز بن الماجشون، والليث بن سعد، وهشام وعيسى بن يونس، وحفص بن غياث، وسعد بن عامر، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي بكر بن عياش، ووكيع، وأبي عاصم النبيل، ويعلى بن عبيد، ومحمد بن يوسف، وبشر بن المفضل، وعبد الله ابن داود، وسلام بن أبي مطيع، وابن المبارك، وعلي بن عاصم، وأحمد بن يونس، وأبي نعيم، وقبيصة ابن عقبة، وسليمان بن داود، وأبي عبيد القاسم ابن سلام، وغيرهم، ولولا
_________
(1) انظر: معارج القبول (1/343-344) - ط- السلفية.(1/393)
خوف الإطالة لسقنا فصول كلامه بحروفه، فإنه وإن أخطأ في تأويل بعض الآيات، وأجمل في بعض المواضع، فكلامه يدل على أنه مخالف للمنتسبين إليه من المتكلمين في مسألة القرآن، كما هو مخالف لهم في إثباته الاستواء، والنزول، والرؤية، والوجه، واليدين، والغضب، والرضا، وغير ذلك، وقد صرح في مقالاته (1) ، بأنه قائل بما قال الإمام أحمد ابن حنبل وأئمة الحديث، معتقد ما هم عليه، مثبت لما أثبتوه، محرم ما أحدث المتكلمون من تحريف الكلم عن مواضعه وصرف اللفظ عن ظاهره، وإخراجه عن حقيقته، وبالجملة فبينه وبين المنتسبين اليه بون بعيد، بل هو برىء منهم، وهم منه براء، والموعد الله وكفي بالله حسيبا، وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا بالله" (2) . هذه أدلة الذين يرون رجوع الأشعري رجوعا كاملا الى مذهب السلف.
الذين يرون أنه بقى كلابيا:
أما الذين يرون أنه بقى كلابيا ولم يكن رجوعه كاملا فأشهرهم ابن حزم (3) ، وعبد الجبار الهمذاني (4) ، وشارح الطحاوية ابن أبي العز (5) ، وهو قول ابن تيمية وابن القيم، وهذه بعض أقوالهما في ذلك- أما شارح الطحاوية فهو ناقل عنهما-:
1- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأبو الحسن الأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب، ومال الى أهل السنة والحديث، وانتسب إلى الامام أحمد، كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها، كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها، وكان مختلطا بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم
_________
(1) أى أقواله في الإبانة، لا كتاب المقالات.
(2) معارج القبول (1/344-346) ، وقد علق محب الدين الخطيب هنا في الحاشية بما يؤيد قول المؤلف.
(3) في الفصل (3/25) - المحققة، ونسب الى الأشعري أنه يقول: إن القرآن أزلي مع الله لم يفارقه، ولا أنزل إلينا ولا سمعناه قط!، لكنه قبل ذلك ذكر قول أتباع الأشعري فيه.
(4) في شرح الأصول الخمسة، انظر: (ص: 528) .
(5) في شرح الطحاوية (ص: 180) - ط- المكتب الإسلامي.(1/394)
بهم" (1) ، فهو ينسبه إلى مقالة ابن كلاب، ومع ذلك لا يغفل انتسابه إلى الإمام أحمد ولا كتابه الابانة، بل ينسب كلابيته إليه والى المقالات والموجز، ثم بعد كلامه عن الأشعري واثباته الصفات الخبرية وأنه ليس له فيها قولان، وإنما لأتباعه فيها قولان يقول:"وأما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به: فإن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا الباب بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم الى البدعة، وبقايا بعض الاعتزال فيهم " (2) ، ولم يستثن الإبانة من هذا الحكم العام (3) .
2- ولما ذكر أن متأخرى الأشعرية مالوا إلى نوع من التجهم بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه قال:"والذى كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريق الأعراض وتركيب الأجسام، وانكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها، وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة، كالحارث المحاسبي، وأبي علي الثقفي، وأبي بكر بن اسحاق الصبغي ... " (4) .
3- ولما ذكر قول من قال في كلام الله بأن حروف القرآن ليست من كلام الله وأن كلام الله معني قائم بذاته هو الأمر والنهي والخبر عقب بقوله:" وهذا القول أول من أحدثه ابن كلاب، ولكنه هو ومن أتبعه عليه كالأشعري وغيره يقولون مع ذلك: أن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة مكتوب في المصاحف حقيقة ... " (5) ، وهذا نص مهم جدا في بيان رأى شيخ
_________
(1) درء التعارض (2/16) ، وقد نقل ابن القيم هذا الكلام في اجتماع الجيوش الاسلامية (ص: 181) مؤيدا له.
(2) درء التعارض (2/18) .
(3) بل لشيخ الإسلام نص آخر في منهاج السنة (2/227-229) - ط جامعة الامام- يذكر فيه أن الأشعري احتج في الإبانة بمقدمات سلمها للمعتزلة، وأنه لذلك نسب الى التناقض.
(4) درء التعارض (7/97) .
(5) مجموع الفتاوى (8/424) .(1/395)
الإسلام في هذا النص الوارد في الإبانة، والذى هو أحد الأدلة للذين يقولون برجوع الأشعري عن مذهب ابن كلاب الى قول أهل السنة.
4- وذكر ابن القيم الأقوال في كلام الله ومنها قول الأشعري فقال:" المذهب الخامس: مذهب الأشعري ومن وافقه: انه معنى واحد، قائم بذات الرب، وهو صفة قديمة أزلية، ليس بحرف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا له أبعاض، ولا له أجزاء..... (1) .
5- وهناك كلام مهم لشيخ الإسلام ابن تيمية حول الابانة، ومن اعتقد مافيه، فإنه قال:"فأما من قال منهم بكتاب الابانة الذى صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب الى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر" (2) ، وقد قال ذلك لبيان أن الأشعرية حين يصفهم بعض علماء السنة بأنهم جهمية إنما يقصدون نفاة الصفات الخبرية، أما من قال بالإبانة ولم يظهر مقالة تناقض مافيها فليس بأشعري، ويلاحظ هنا ما يلي:
أ- أن كلام ابن تيمية هنا حول الصفات الخبرية التي أولها متأخرو الأشعرية وليس الكلام عن كلام الله الذي كرر شيخ الإسلام ان الاشعرى متبع فيه لابن كلاب.
ب- أنه قال هنا:"ولم يظهر مقالة تناقض ذلك"، ولا شك أن للأشعري أقوالا في مسألة الكلام تخالف مذهب السلف، فهل يرى شيخ الإسلام أن على الأشعري أن يعلن في الابانة- أو غيرهـ براءته من أقواله الأخري التي وافق فيها ابن كلاب؟.
ج- وشيخ الإسلام لا يجعل أقوال الأشعري كلها بمنزلة واحدة في قربه
_________
(1) مختصر الصواعق (2/ 291) .
(2) الرسالة المدنية، مجموع الفتاوى (9/6 35-360) .(1/396)
من مذهب السلف، فهو يرى أنه لما قدم بغداد أخذ أمورا أخرى من مذهب أهل السنة غير التي أخذها في البصرة، يقول:"والأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي، ومال الى طريقة ابن كلاب، وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلبة بغداد أمورا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم" (1) . فمنزلة الإبانة- عند شيخ الإسلام- ليست كمنزلة كتبه التي ألفها قبل قدومه إلى بغداد.
د- والدليل على أن شيخ الإسلام قصد من قوله: من قال بالإبانة فليس بأشعرى- لأثبات الصفات الخبرية- أن في إلإبانة أقوالا في بعض المسائل، لا توافق مذهب السلف ومنها مسألة الإستطاعة فإن الأشعري قال:"وان أحدا لا يستطع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله" (2) ، وكذلك مسألة القدرة فإنه ذكر أن الكافرين غير قادرين على الإيمان وقال:"ووجب أن يكون الله تعالى اختص بالقدرة على الإيمان للمؤمنين" (3) وفي تفسير قوله تعالى: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56] قال "إن الله تعالى إنما عنى المؤمنين دون الكافرين " (4) ، وهذا بناء على أصل قوله في القدرة والتعليل.
هـ- وأن تيمية كتب كتبه وقد اطلع على ما وصل اليه من كتب الأشعري ومنها المقالات، والإبانة، واللمع، ورسالته الى أهل الثغر، ولم يذكر في موضع أن الأشعري ترك طريقة ابن كلاب، بل كثيرا ما يمتدح ابن كلاب ويذكر أنه اكثر أثباتا واتباعا للسنة من الأشعري، وكتاب الإبانة نقل عنه كثيرا خاصة في كتبه التي رد فيها على أشاعرة عصره الذين خالفوا الأشعري في كثير من أقواله.
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/228) .
(2) الإبانة (ص: 23) .
(3) نفس المصدر (ص: 185) .
(4) نفسه (ص: 192) .(1/397)
ومما سبق يمكن أن نستخلص أدلة من يرى أنه بقى على كلابيته فيما يلي:
ا- أن الأشعري لم يذكر في الإبانة رجوعه عن مذهب ابن كلاب، وأن عباراته المتعلقة بمسألة القرآن وكلام الله ركزعلى الرد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن، ولو كان يعتقد بطلان مقالة ابن كلاب- التي اتبعها- لرد عليها، وأبطلها، فدل ذلك على أن عباراته الموافقة لمذهب أهل السنة لا تعارض ما يعتقده من مذهب ابن كلاب.
2- أن الأشعري لو كان رجوعه كاملا إلى مذهب السلف لما شنع عليه بعض علماء أهل السنة وأنكروا بعض أقواله.
الترجيح:
قد يكون من الصعب على الإنسان الترجيح في هذه المسألة، خاصة وأن علماء أفاضل قالوا فيها بقولهم وأدلوا برأيهم، فالفصل بينهم- مع قصر الباع وضعف القدرة- أمر شديد على النفس، ولكن لما كان الأمر لا بد فيه من ترجيح رأيت أن أدلي بدلوي في ذلك، والله الموفق.
ومنهج الترجيح قائم على تتبع كلام الأشعري في الإبانة، ومقارنته ببعض كتبه التي صرح فيها بما يوافق قول ابن كلاب ومن خلال المقارنه يتبين هل بقى كلابيا أم أنه رجع عن ذلك الى مذهب السلف؟:
ومن المعلوم أن مذهب ابن كلاب القول بأن كلام الله أزلي، ومنع أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، فعندهم لا يجوز أن يقال: إن الله إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم، كما أنه إذا شاء خلق، وإذا شاء لم يخلق لأن هذا يلزم منهـ على زعمهم- حلول الحوادث بذات الله تعالى، والله تعالى ليس محلا للحوادث، وحتى يفروا من هذا قالوا بأزلية الصفات، ولم يفرقوا بين صفات الذات كالعلم والحياة والقدرة، وصفات الفعل كالكلام والرضا والغضب، ومع هذا فهم يقولون إن القرآن كلام الله غر مخلوق، ويثبتون الصفات الواردة، وقد لا ينتبه الى حقيقة مذهبهم الا من استفصل في ذلك. ولذلك جرت(1/398)
قصة ابن خزيمة- إمام الأئمة- مع جماعة من كبار أصحابه (1) لما نمى إلى علمه أنهم مع إثباتهم للصفات يقولون بقول ابن كلاب، فجرت لهم معه محنة طويلة استتيبوا ورجعوا، ولهذا قال ابن خزيمة عنهم:" من زعم هؤلاء الجهلة أن الله لا يكرر الكلام، فلاهم يفهمون كتاب الله، إن الله قد أخبر في مواضع أنه خلق آدم، وكرر ذكر موسى، وحمد نفسه في مواضع، وكرر {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] ، ولم أتوهم أن مسلما يتوهم أن الله لا يتكلم بشيء مرتين وهذا قول من زعم أن كلام الله مخلوق، ويتوهم أنه لا يجوز أن يقول: خلق الله شيئا واحدا مرتين" (2) . ولما اجتمعوا لمصالحة ابن خزيمة " فقال له أبو علي الثقفي: ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟ قال: ميلكم الى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله ابن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره، حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب، فقلت: قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق، فأخرجت إليه الطبق، فأخذه وما زال يتأمله وينظر فيه، ثم قال: لست أرى هاهنا شيئا لا أقول به، فسألته أن يكتب عليه خطه ان ذلك مذهبه، فكتب آخر تلك الأحرف، فقلت لأبي عمرو الجيري: احتفظ أنت بهذا الخط حتى ينقطع الكلام، ولا يتهم واحدا منا بالزيادة فيه، ثم تفرقنا، فما كان بأسرع من أن فصده أبو فلان وفلان وقالا: ان الأستاذ لم يتأمل ماكتب في ذلك الخط، وقد غدروا بك وغيروا صورة الحال، فقبل منهم، فبعث إلى أبي عمرو الجيري لاسترجاع خطه منه، فامتنع عليه أبو عمرو، ولم يرده حتى مات ابن خزيمة، وقد أوصيت أن يدفن معي، فأحاجه بين يدي الله تعالى فيه" (3) .
وقد أورد الذهبي جزءا من هذا الاعتقاد الذى كتبوه وفيه: " القرآن كلام الله تعالى، وصفة من صفات ذاته، ليس شيء من كلامه مخلوقا،
_________
(1) القصة كانت بنيسابور، وكانت قرابة سنة 309 هـ، أى بعد رجوع الأشعري واعتناقه مذهب ابن كلاب.
(2) سير أعلام النبلاء (14/380) .
(3) سير أعلام النبلاء (14/380-381) .(1/399)
ولا مفعولا ولا محدثا (1) ، فمن زعم أن شيئا منه مخلوق أو محدث، أو زعم أن الكلام من صفة الفعل فهو جهمي ضال مبتدع، وأقول: لم يزل الله متكلما، والكلام له صفة ذات، ومن زعم أن الله لم يتكلم إلا مرة، ولم يتكلم إلا ما تكلم به، ثم انقضى كلامه، كفر بالله...." (2) . وهذا الكلام موافق لمذهب الكلابية، فقد جعل الكلام صفة ذات، وليس صفة فعل، وجعله أزليا، ثم ذكر كفر من زعم أن الله لم يتكلم إلا مرة ولم يتكلم إلا ما تكلم به وهذا حق، لكن قوله بعد ذلك ثم انقضى كلامه كفر بالله يدل على أنه يقصد أن كلام الله لازم لذاته كالعلم، وهذا قول الكلابية الذين يقولون لو قلنا إنه يتكلم بكلام بعد كلام لحلت فيه الحوادث والتغير وهذا محال على الله.
بعد هذا الاستطراد نذكر عبارات الأشعري وكلامه في الإبانة لننظر هل فيه ما يوافق مذهب ابن كلاب ام لا؟:
ا- يقول في باب: أن القرآن كلام الله غير مخلوق: " فلما كان الله عز وجل لم يزل عالما، إذ لم يجز أن يكون لم يزل بخلاف العلم موصوفا، استحال أن يكون لم يزل بخلاف الكلام موصوفا، لأن خلاف الكلام الذي لا يكون معه كلام سكوت أو آفة، كما أن خلاف العلم الذى لا يكون معه علم جهل أو شك أو آفة، ويستحيل أن يوصف ربنا جل وعلا بخلاف العلم، وكذلك يستحيل أن يوصف بخلاف الكلام من السكوت والآفات، فوجب لذلك أن يكون لم يزل متكلما، كما وجب أن يكون لم يزل عالما " (3) .
ويلاحظ في هذا النص أن الأشعري جعل كلام الله أزليا (4) كما أن علم الله أزلي، ثم ذكر أنه يستحيل أن يكون لم يزل بخلاف الكلام موصوفا،
_________
(1) في المطبوعة من السير "ليس شىء من كلامه مخلوق ولا محدث" بالرفع، وهو خطأ.
(2) سير أعلام النبلاء (14/381) ، ومما يدل على أن هذا الاعتقاد الذى كتبوه موافق لمذهب الكلابية أن بعض علماء الاشاعرة ذكروا أن ابن خزيمة رجع الى مذهب السلف- الذي هو مذهبهم- ومن هؤلاء البغدادي في أصول الدين (ص: 314) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص:69)
(3) الإبانة (ص: 66-67) - ت فوقية-.
(4) السلف يقولون إن الله متكلم في الأزل، لكنهم يقولون إنه يتكلم بمشيته وقدرته.(1/400)
وخلاف الكلام يفسره بأنه سكوت أو آفة، وهذا واضح الدلالة أنه قصد أن الله لا يتكلم بكلام بعد كلام، بل كلامه كله قديم أزلى، ثم وضح ذلك بقوله:" فوجب لذلك أن يكون لم يزل متكلما كما وجب أن يكون لم يزل عالما"، ويمكن أن يقارن بكلام له مشابه في كتابه اللمع- الذى سبق أن نقلنا منه نصوصا عديدة تدل على سيره على مذهب ابن كلاب- يقول في كتابه هذا: "ومما يدل من القياس على أن الله تعالى لم يزل متكلما انه لو كان لم يزل غير متكلم - وهو ممن لا يستحيل عليه الكلام- لكان موصوفا بضد من أضداد الكلام من السكوت أو الآفة" (1) .
2- ويقول في الإبانة في الأدلة على كلام الله وأنه غير مخلوق: "دليل آخر: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} [الكهف:109] ، فلو كانت البحار مدادا لكتبه لنفذت البحار، وتكسرت الأقلام، ولم يلحق الفناء كلمات ربي، كما لا يلحق الفناء علم الله تعالى، ومن فني كلامه لحقته الآفات، وجرى عليه السكوت، فلما لم يجز ذلك على ربنا سبحانه صح أنه لم يزل متكلما، لأنه لو لم يكن متكلما وجب السكوت والآفات، تعالى ربنا عن قول الجهمية علوا كبيرا" (2) ، فقد ربط الكلام بالعلم في كونه صفة أزلية قائمة بذات الله أزلا وأبدا، وكلمات الله لا نهاية لها كما دلت على ذلك هذه الآية وغيرها، لكنها لا تدل على أن الله لا يتكلم بكلام بعد كلام اذا شاء متى شاء، وأنه كلم موسى بعد أن لم يكن مكلما له، والأشعري جعل ضد الكلام السكوت وهذا يوحي بأنه يمنع من ذلك.
3- والأشعري يقول ان ارادة الله أزلية، ولا يجعلها من صفات الأفعال بأنه يريد في وقت دون وقت، ويقرن الإرادة بالكلام في هذا الباب كما يربطهما جميعا بالعلم، فكما أن علم الله صفة لذاته وأنه أزلي وأنه لا يجوز أن يقال علم
_________
(1) اللمع (ص: 17) - ت- مكا رثي.
(2) الإبانة (ص: 67) - ت- فوقية.(1/401)
بعد أن لم يكن عالما لأنه يدل على وصف الله بالنقص، فكذلك الإرادة والكلام، يقول في الإبانة:"يقال لهم [أي للمعتزلة،: ألستم تزعمون أن الله تعالى لم يزل عالما؟ فمن قولهم: نعم، قيل لهم: فلم لا؟ قلتم: إن ما لم يزل عالما انه يكون في وقت من الأوقات لم يزل مريدا أن يكون في ذلك الوقت، وما لم يزل عالما انه لا يكون فلم يزل مريدا أن لا يكون، وانه لم يزل مريدا أن يكون ما علم كما علم؟ " (1) . ثم قال:"فإن قالوا: لا يجوز أن يكون علم الله محدثا، لأن من لم يكن عالما ثم علم لحقه النقصان، قيل لهم: ولا يجوز أن تكون ارادة الله محدثة مخلوقة، لأن من لم يكن مريدا ثم أراد لحقه النقصان، وكما لا يجوز أن تكون إرادته تعالى محدثة مخلوقة كذلك لا يجوز أن يكون كلامه محدثا مخلوقا" (2) ، وقد يتبادر إلى الذهن أنه قصد الرد على من قال بخلق القرآن - وهذا حق- لكنه قصد أيضا المنع من أن الله يتكلم بكلام بعد كلام بإرادته ومشيئته، وأن الله مريد إذا شاء، متي شاء وعلل ذلك بأنه يلزم منه أن يلحقه النقصان، وحتي يتضح كلامه هنا ننقل كلامه من رسالته إلى أهل الثغر- التي نص فيها في مواضع- بما يوافق ابن كلاب، فإنه بعد ذكره لقدم الصفات:
الحياة، والعلم، والإرادة، والكلام، والقدرة، والسمع، والبصر، قال: " [وأجمعوا] على أن شيئا من هذه الصفات لا يصح أن يكون محدثا؟ إذ لو كان شي منها محدثا لكان تعالى قبل حدوثها موصوفا بضدها ولو كان كذلك يخرج عن الأهلية وصار إلى حكم المحدثين الذين يلحقهم النقص، ويختلف عليهم صفات الذم والمدح، وهذا يستحيل على الله، وإذا استحال ذلك عليه وجب أن يكون لم يزل بصفة الكمال، إذ كان لا يجوز عليه الانتقال من حال من الكمال" (3) . والذى ينتقل من حال إلى حال ويفعل بمشيئته وقدرته، فيرضى عن هذا بعد أن لم يكن راضيا عنه، ويسخط على هذا بعد أن لم يكن ساخطا
_________
(1) الإبانة (ص: 161) .
(2) نفس المصدر (ص: 62 ا-63 1) .
(3) الرسالة الى أهل الثغر (ص: 67-68) ت: الجلنيد، وفي طبعة مكتبة العلوم والحكم ت: عبد الله شاكر (ص: 215) . ومنها:"لخرج عن الإلهة". وفيها أيضا:" الانتفال من حال إلى حال" ولعلهما أصوب.(1/402)
عليه، ويريد أمراً بعد أن لم يكن مريدا له، ويكلم أحدا من البشر بعد أن لم يكن مكلما له، هذهـ عندهم- حوادث وتغيرات لا يجوز أن يتصف بها الله، لأن الحوادث لا تحل في ذاته.
4- والرضا والغضب- عند الكلابية أزليان- ولذلك التزموا بالقول بالموافاة. ومقتضاها: أن الله " لم يزل راضيا عمن يعلم أنه يموت مؤمنا وإن كان أكثر عمره كافرا، ساخطا على من يعلم أنه يموت كافرا وإن كان أكثر عمره مؤمنا" (1) ، ومعناه أن لم يزل راضيا عن الصحابة، حتى وهم قبل إسلامهم يقاتلون المسلمين ويشركون بالله، ورضاه عنهم أزلي، وكذلك العكس، وهذا حتى لا يقول بتجدد الحوادث في ذاته تعالى إذا قيل إنه كان ساخطا على هذا ثم رضي عنه، يقول الأشعري في الإبانة:"ثم يقال لهم: اذا كان غضب الله غير مخلوق وكذلك رضاه وسخطه فلم لا؟ قلتم: إن كلامه غير مخلوق، ومن زعم أن غضب الله مخلوق لزمه أن غضب الله وسخطه على الكافرين يفنى، وأن رضاه عن الملائكة والنبيين يفني حتى لا يكون راضيا عن أوليائه ولا ساخطا على أعدائه، وهذا هو الخروج عن الإسلام" (2) ، فقول الأشعري:" لزمه أن غضب الله وسخطه على الكافرين يفنى، هذا عنده خاص فيمن علم أنه يموت كافرا، أما الإنسان لو عاش سنين طويلة كافرا ثم أسلم ومات على إسلامه، فهذا- عند الأشعري- لا يجوز أن يقال إن الله كان ساخطا عليه في وقت كفره، ثم رضي عنه لما أسلم، وإنما يقال: ان الله لم يزل راضيا عنه حتى في حال كفره لأنه علم أنه يموت مؤمنا، وهذا بناء على أصله الكلابي.
5- ولما كان من أدلة المعتزلة على قولهم أن القرآن مخلوق قوله تعالى:
{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه هم يلعبون} [الأنبياء:2] أجاب الأشعري عن هذه الآية بقوله: " الذكر الذى عناه الله عز وجل ليس هو القرآن، بل هو كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووعظه إياهم ... " (3) ،
_________
(1) المقالات (ص: 547) - ط- ريتر، ونسبه الأشعري إلى ابن كلاب.
(2) الإبانة (ص: 80- 81) .
(3) نفس المصدر (ص: 102) .(1/403)
الذى دعاه إلى هذا التأويل البعيد خوفه من أن يوصف القرآن بأنه محدث، والحدوث: في اصطلاح أهل الكلام بمعنى الخلق، فالمحدث هو الخلوق، وهذا هو الذى فر منه الأشعري، لكن الحدوث في لغة العرب يكون بمعنى التجدد، فيسمون ما تجدد حادثا، وما تقدم على غيره قديما (1) ، فلماذا لم يفسر الأشعري هذه الآية بالمعنى الثاني وأن المقصود به القرآن؟ ولا يقتضي ذلك أن يكون مخلوقا، وقد بوب الإمام البخارى في صحيحه لذلك فقال:"باب قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] ، {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء:2] ، وقوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق: ا] ، وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع العليم} [الشورى:11] ، وقال ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، لان مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة"، ثم ذكر البخارى أثرين عن ابن عباس في هذا، أحدهما قوله:"كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله، تقرأونه محضا لم يشب (2) ... " (3) ، وفي رواية أخرى لهذا الأثر "أحدث الأخبار بالله" (4) ، وهذا بناء على قول أهل السنة: إن الله يتصف بالصفات الاختيارية، وأن كلامه متعلق بالمشيئة، وأن من صفات كمال تعالى أنه لم يزل متكلما اذا شاء، وهذا الذى قال به الامام أحمد والبخارى وغيرهما وردوا على الكلابية الذين ينكرون هذا (5) .
والظاهر أن تأويل الأشعري للآية {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}
_________
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة (2/36) ، ودرء التعارض (1/374) ، وقد ذكر شيخ الإسلام أن هذه الآية تدل على نقيض قول المعتزلة " فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم".
(2) لم يشب أي لم يخالطه غيره، الفتح (13/499) .
(3) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، ورقم الأثر (7522) 0 الفتح (13/ 396) .
(4) انظر: فتح الباري (13/499) .
(5) انظر: درء التعارض (2/291- ا 30) .(1/404)
اشتهر عند الأشاعرة الذين التزموا هذا الأصل، ولذلك ذكره ابن حجر العسقلاني- في شرحه لباب البخارى هذا - وذكر تأويلات أخرى مشابهة، وكل ذلك فرارا مما يدل عليه ظاهر الآية، بل نقل ردود العلماء وأقوالهم في أن اقول بان المقصود بالآية القرآن"يلزم منه أن يكون الله متكلما بكلام حادث فتحل فيه الحوادث" (1) .
هذه أقوال الأشعري من كتابه الإبانة وهي بمجموعها دالة على أنه بقي على اتباعه لابن كلاب، وإن كان لم صرح بذلك كتصريحه في كتبه الأخرى، فهو في الإبانة- بلا شك- أكثر إثباتا واتباعا لأهل السنة، وبعدا عن كلام أهل البدع، خاصة وأنه رد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن، كما رد على الكرامية الذين يقولون: إن الله لم يكن متكلما ثم تكلم، لكنه لم يرد على أقوال الكلابية الذين اشتهر في عهده إنكار السلف عليهم.
وهذه الملحوظات التى ذكرناها- فيما نقلناه عن الإبانة- هي التي جعلت شيخ الإسلام يذكر أن الأشعري احتج في الإبانة وغيرها بمقدمات سلمها للمعتزلة. يقول شيخ الاسلام:" وهذا من الكلام الذي بقي على الأشعري من بقايا كلام المعتزلة، فإنه خالف المعتزلة لما رجع عن مذهبهم فى أصولهم التي اشهروا فيها بمخالفة أهل السنة كإثبات الصفات والرؤية، وأن القرآن غير مخلوق، وإثبات القدر، وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث، وذكر في كتاب "المقالات" أنه يقول بما ذكره عن أهل السنة والحديث.
وذكر فى الإبانة أنه يأتم بقول الإمام أحمد، قال:"فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل، الذى أبان الله به الحق، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائفين، وشك الشاكين"، وقال:"فإن قال قائل قد انكرتم قول الجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة"، واحتج فى ضمن ذلك بمقدمات سلمها للمعتزلة، مثل هذا الكلام، فصارت المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام يقولون: إنه متناقض فى ذلك، وكذلك سائر أهل السنة والحديث يقولون: إن هذا تناقض، وإن هذه بقية بقيت عليه من كلام المعتزلة" (2) .
_________
(1) فتح الباري (13/498) ، وانظر: شرح ابن حجر في (13/971)
(2) منهاج السنة (12/227-229) ط جامعة الامام 0(1/405)
بقي في أدلة الذين قالوا بوجوعه رجوعا كاملا إلى مذهب السلف دليلان
- لابد من التعليق عليهما- أما بقية الأدلة فهي مجملة ومحتملة:
الأول: تصريح الأشعري في الإبانة بأن كلام اللة مكتوب في اللوح المحفوظ في الحقيقة، متلو بالألسن في الحقيقة، محفوظ في الصدور في الحقيقة، وأن موسى- عليه الصلاة والسلام- سمع كلام الله، فهل هذا يدل على أنه لا يقول بقول ابن كلاب؟، لقد سبق في عرض أقوال ابن تيمية أنه يقول عن الكلابية: إنهم مع ذلك يقولون: القرآن محفوظ في القلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة. وشاهد ذلك أن أحد أعلام الأشاعرة- الباقلاني - صرح بأن كلام الله معنى قائم بنفسه، وأنه أزلي أبدي متكلم به في الأزل، كما هو متكلم به فيما لا يزال، لا أول لوجوده ولا آخر له، وأنه ليس بحرف ولا صوت (1) - ومع ذلك صرح بأن " كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة" (2) ، و " مسموع لنا على الحقيقة، لكن بواسطة القارىء" (3) ، وقال: " إن كلام الله مسموع بحاسة الآذان على الحقيقة" (4) ، وهو يقول: إن موسى سمع كلام الله بلا واسطة لكنه يقول أيضا في قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6] ، بأن المسموع كلام الله القديم، صفة لله تعالى قديمة موجودة بوجود قبل سماع السامع لها، وإنما الموجود بعد أن لم يكن هو سمع السامع وفهم الفاهم لكلام الله تعالى، يحدث الله تعالى له سمعا اذا أراد أن يسمعه كلامه، وفهما إذا أراد أن يفهمه كلامه" (5) .فلم يدل قوله: أن موسى سمع كلام الله أنه لا يقول بقول ابن كلاب.
_________
(1) رسالة الحرة، المطبوعة باسم الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به (ص:89،99،109-110) .
(2) المصدر السابق (ص: 93) .
(3) نفسه (ص: 94) .
(4) رسالة الحرة (ص: 136) ، ويلاحظ أن السجزي- الذي شنع على الأشعرية- قال في رسالته الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 136) إنهم يقولون:"كلام الله مكتوب في المصاحف على الحقيقة، وليس بحروف".
(5) رسالة الحرة (ص: 94- هـ 9) .(1/406)
الثاني: أن الأشعري فرق في كتابه "المقالات" بين أهل الحديث، والكلابية، وهذا دليل مهم، ويلقي ظلالا من الشك في تبعيته لابن كلاب، ومع ذلك فيلاحظ ما يلي:
1- ان هذا الكتاب في مقالات أهل الإسلام، يحكي فيه الأقوال دون أن يذكر معتقده في كل مسألة يعرض لها، ولذلك لم يرد على المعتزلة أو الرافضة أو الخوارج أو المرجئة أو الجهمية أو غيرهم، بل حكى أقوالهم وسكت إلا نادرا. ومن غير المعقول- وهو الخبير بمقالات أهل الكلام- أن لا يفرد مقالات ابن كلاب أو الكلابية، وهم المتميزون عن كل من المعتزلة وأهل الحديث.
2- أن الأشعري لم يكن خبيرا بأقوال أهل الحديث، ولذلك نسب إليهم قولين ليسا من أقوال أهل الحديث- وقد سبق ذكرهما عند الحديث عن مؤلفات الأشعري ومنهجه في كتاب المقالات- ولما ذكر مقالتهم بإجمال ذكر انتسابه إليهم وقوله بقولهم، فلما ذكر مقالة ابن كلاب قال: " فأما أصحاب عبد الله ابن سعيد القطان فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة" (1) ، ثم ذكر بعض أقوالهم، إذا هو لا يجعل الكلابية بعيدين عن أهل السنة والحديث.
3- إن المسألة التي تميز أهل السنة عن الكلابية وهي مسألة كلام الله والقرآن لم يذكرها الأشعري في عرضه لمقالة أهل الحديث، بل قال كلاما مجملا قصيرا، وهذا نصه: "ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ: من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهبم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق" (2) ، لكنه لما ذكر مسألة القرآن ذكر قول ابن كلاب فيها تفصيلا (3) ، ثم ذكر أقوال غيره من المعتزلة وغيرهم، وذكر مسائل كثيرة متفرعة، ولم يذكر لنفسه أو لمن يقول بقولهم- كما يعبر أحيانا بقوله: قال أهل الحق، أو الإثبات، أو أهل الإسلام، أو أهل السنة،
_________
(1) المقا لات (ص: 298) .
(2) المقا لات (ص: 292) .
(3) نفسه (ص: 584) .(1/407)
أو الاستقامه ... - قولا في ذلك، فإذا لم يكن شرح قول أهل الحديث عند ذكره لمقالتهم، ولا ذكر مقالتهم عند تفصيل القول في ذلك، فما هو قول الأشعري في هذه المسألة؟، علما بأن الأشعري ذكر قوله صراحة في بعض المسائل مثل مسألة " الكسب" (1) ، وهل الله موصوف بالقدرة على أن يضطر عباده الى إيمان وكفر؟ (2) .
4- ثم إن الأشعري ذكر في ثنايا عرضه للأقوال في كتابه المقالات ما يدل على كلابيته، فمثلا: ذكر في مسألة القول بأن الله قادر اختلاف المتكلمين في: هل يوصف البارىء بأنه قادر على الأعراض، فقال: " قال المسلمون كلهم أجمعون- إلا معمرا-: إن الله قادر على الأعراض والحركات والسكون والألوان والحياة والموت والصحة والمرض والقدرة والعجز وسائر الأعراض، وقال معمر: بالتعجيز لله، وأنه لا يوصف القديم بأنه قادر إلا على الجواهر، وأما الأعراض فلا يجوز أن يوصف بالقدرة عليها ... وأن من قدر على الحركة قدر أن يتحرك ... "، فرد عليه الأشعري بقوله: " فيقال له إذا قلت: إن البارىء قادر على التحريك والتسكين، فقل قادر على أن يتحرك ويسكن، فإن كان من قدر على تحريك غيره وتسكينه لا يوصف بالقدرة أن يتحرك، فكذلك من وصف بالقدرة على حركة غيره لا يوصف بالقدرة على أن يتحرك"- ثم قال الأشعري-: "وخالف أهل الحق أهل القدر ومعمرا في ذلك فقالوا: قد يوصف القديم بالقدرة على إنشاء الحركة ولا يوصف بالقدرة على التحرك" (3) . والحركة من الحوادث التي لا يجوز أن تحل بالله عند الكلابية، ولهذا قال الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر في صفة المجيء لله:"ليس مجيئه حركة ولا زوالا" (4) . فرد الأشعري على معمر المعتزلي ثم نسبته إلى أهل الحق هذا القول يدل ميله إلى هذا الأصل الكلابي، علما بأن لفظ الحركة أطلقه
_________
(1) المقا لات (ص: 539- 542) .
(2) نفسه (ص:552) .
(3) نفسه (ص: 548-545) .
(4) الرسالة الى أهل الثغر (ص: 73) .(1/408)
بعض السلف ومنعه البعض لأنه لم يرد، ويذكر العلماء هذا الكلام في مبحث الصفات الفعلية الاختيارية لله تعالى مثل المجيء والنزول.
مثال آخر: ذكر الأشعري الأقوال في أن البارى متكلم، فذكر أقوال المعتزلة ثم قال: " وقالت شرذمة: إن الله لم يزل متكلما، بمعني أنه لم يزل مقتدرا على الكلام، وأن كلام الله محدث، وافترقوا فرقتين: فقال بعضهم مخلوق، وقال بعضهم غير مخلوق " ثم قال: " وقال ابن كلاب: إن الله لم يزل متكلما، والكلام من صفات النفس كالعلم والقدرة " (1) . ولا أدري من يقصد بهذه الشرذمة، خاصة وأن منهم من يقول: إن كلام الله غير مخلوق، وقد ذكر فيما بعد قول داود الأصبهاني فقال:"وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول: إن الله لم يزل متكلما بمعني أنه لم يزل قادرا على الكلام، ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق وهذا قول داود الأصبهاني (2) ، وقول داود مبني على أن كلام الله من صفات الفعل، فهو أزلي، ويتكلم إذا شاء متى شاء، وعرض الأشعري للقضية يدل على ميل عنده عن هذا القول.
وقال الأشعري في معرض الإنكار على المعتزلة: " وأنكروا أن يكون الباري سبحانه لم يزل مريدا متكلما، راضيا، ساخطا، مواليا معاديا، جوادا، حكيما، عادلا محسنا، صادقا، خالقا، رازقا، وزعموا أن هذا أجمع من صفات الأفعال" (3) ، فما معني الإنكار منه أن تكون أو بعضها صفات أفعال الله؟.
فهذه الأدلة تدل على مارجحه شيخ الاسلام ابن تيمية من أن الأشعري وإن كان في الإبانة قد قرب كثيرا من مذهب أهل السنة إلا أنه قد بقيت عليه بقايا من مذهب ابن كلاب، والله أعلم.
_________
(1) المقالات (ص 517) - ريتر-
(2) نفس المصدر (ص: 583) .
(3) نفس المصدر (ص: 505) .(1/409)
ثامنا: عقيدته:
قبل بيان عقيدته لابد من توضيح بعض الأمور:
الأمر الأول:
أن المصادر التي يرجع إليها في بيان عقيدته هي كتبه الثابتة عنه، أما ماعدا ذلك من المصادر فالجزم بنسبة القول إليه منها لا يخلو من محاذير، والسبب في ذلك - فوق ما في النقل من مظنة تغير العبارات أو الزيادة والنقص- أن الأشعري بالذات له منزلة خاصة لدى أتباعه الذين ينتسبون إليه، والذين طوروا مذهبه وغيروا فيه واقتربوا كثيرا من المعتزلة، لذلك فأقواله التي تخالف ما هم عليه لن تكون محل ارتياح لهم مما قد يؤدى الى تحريف كلامه وأن ينسب إليه ما لم يقله. وأقرب مثال على ذلك مسألة الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين فقد نسب اليه المتأخرون أن له فيها قولين: الإثبات مع التفويض أو التأويل، وهذا غير صحيح مطلقا.
الأمر الثاني:
جمع ابن فورك مقالات الأشعري في كتاب كبير، وذكر فيه قضايا عديدة من مسائل العقيدة، ومن دقائق علم الكلام، مما لم يوجد في كتبه التي وصلت إلينا، وقد قال محقق الكتاب عن قيمته بالنسبة لفكر الأشعري: " سوف تدرك - دون كبير جهد- أهمية هذا الكتاب البالغة، صحيح أن فكر الأشعري لم يكن مجهولا لدينا تماما، فالجوهري منه على الأقل قد وصلنا، خصوصا في كتاب " اللمع" إلا أن ذلك يعد نزرا يسيرا إذا ما قيس بفيض المعلومات التي يزودنا بها كتاب المجرد، ولعلنا لا نبالغ كثيرا إذا نحن تحدثنا بهذا الخصوص عن بعث لفكر الأشعري، ذلك أننا هنا إذا كان البعض لا يزال يشك- لفرط ما كان الأشعري ضحية للأفكار الخاطئة- أننا هنا أمام فكر الأشعري الحقيقي كاملا غير منقوص، لا يؤكد ذلك فقط أن مرجعنا هو ابن فورك، ولا يؤكد ذلك فقط الرجوع الكثير إلى مؤلفات الأشعري " إلى ثلاثين منها، وبعضها يذكر أكثر من عشر مرات" وإنما كذلك المطابقة التامة بين الآراء التي يوردها الكتاب وبين الآراء التي ترد في اللمع أو تلك التي ينقلها أبو منصور البغدادي والجويني وأبو القاسم الأنصاري وغيرهم ".(1/410)
" هكذا يستعيد الأشعري بصورة نهائية هويته الحقيقية: هويته لا بوصفه تلميذا إمعا لابن حنبل، وإنما باعتباره متكلما حقيقيا من متكلمي عصره، وتلميذا خليقا بشيخه أبى علي الجبائي، متكلما كشيخه، يقطع برأي نفسه في المسائل المختلفة، ويخوض ببراعة شيخه في جميع لطائف "دقيق" الكلام، هويته كرجل استحق بجدارة أن يطلق اسمه على كل المدرسة التي انتسبت إليه" (1) .
ولا شك أن من اطلع على "المجرد" يرى أن هذا الكلام صحيح في الجملة، ويعلل كثيرا من الأمور- المثيرة للتساؤل- ومنها: لماذا كان موقف علماء السلف من الأشعري بهذه الشدة؟، ولماذا نسبت هذه المدرسة- التي قربت كثيرا في مراحلها الأخيرة من المعتزلة- إلى أبي الحسن الأشعري دون غيره؟.
ومع ذلك فالكتاب منطو على مشكلة- عسير حلها- ألا وهي مدى الدقة في نسبة الأقوال إلى الأشعري في هذا الكتاب لأن ابن فورك تصرف في النقل- كما أشار إلى ذلك في مقدمة وخاتمة الكتاب- وقد سبق شرح ذلك في آخر مؤلفات الأشعري (2) .
لذلك فكتاب المجرد يعطي رأيا مجملا في منهج الأشعري الكلامي وأنه خاض في هذه القضايا كلها خوض أهل الكلام، لكنه لا يعطي رأيا محددا في مسألة معينة يمكن أن نطمئن على أنها من كلام الأشعري الا بعد مقارنات بما نقله عنه الآخرون.
الأمر الثالث:
لاشك أن الأشعري جاء بقول توسط فيه بين أقوال المعتزلة وأقوال أهل السنة:
_________
(1) المجرد، مقدمة المحقق (ص: 4- هـ) - ت-- دانيال جيماريه.
(2) (ص: 359-363) .(1/411)
أ- فطبيعة نشأته في أحضان الاعتزال بقي تأثيرها على منهجه بعد رجوعه (1) : وتمثل ذلك في:
ا- خبرته بأقوال أهل الكلام ومعرفة دقائق أقوالهم.
2- قلة خبرته بأقوال أهل السنة، ولذلك لا ينقل أقوالهم مفصلة بالطرق التي ينقلونها، ثم قد ينسب إليهم مالم يقولوه.
3- قوله بأقوال ابن كلاب، خاصة فيما يتعلق بالصفات الاختيارية.
ب- ورجوعه عن الاعتزال جعله يقول بكثير من أقوال أهل النسة وتمثل
ذلك في:
1- إثبات الصفات لله ومنها الصفات الخبرية وإقرارها كما جاءت.
2- إثبات العلو والاستواء والرؤية خلافا للمعتزلة.
3- إثبات السمعيات، ومنها أمور خالف فيها المعتزلة أو بعضهم مثل الشفاعة، وعذاب القبر، وغيرها.
4- الاستدلال بالنصوص من الكتاب والسنة، وموافقة إجماع السلف.
والآن نذكر باختصار عقيدته:
أ- إثبات وجود الله:
يحتج الأشعري على وجود الله بخلق الإنسان، يقول في اللمع " إن سأل سائل فقال ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره؟ قيل: الدليل على ذلك أن الانسان الذي هو في غاية الكمال والتمام كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظاما ودما، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الى حال، لأنا نراه في حال كمال قوته وتمام عقله لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعا ولا بصرا،
_________
(1) ذكر ابن عساكر عن الأشعري: أنه قال في بعض عباراته مع مخالفيه:" إني أظهرت بدعة أنقض بها كفرهم"، التبيين (ص: 97) ، وانظر تعليق ابن عساكر وجوابه عن هذا، ولما سئل الأشعري وقيل له: كيف تخالط أهل البدع وقد أمرت بهجرهم أجاب عن ذلك بأنه لابد من إظهار الحق ومعرفة أن لأهل السنة ناصرا، انظر: جوابه في التبيين أيضا (ص: 116) .(1/412)
ولا أن يخلق لنفسه جارحة، يدل ذلك على أنه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز؛ لأن ما قدر عليه في حال النقصان فهو في حال الكمال عليه أقدر، ومما عجز عنه في حال الكمال فهو في حال النقصان عنه أعجز، ورأيناه طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب الى حال الكبر والهرم لأن الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك فدل ماوصفنا على أنه ليس هو الذى ينقل نفسه ني هذه الأحوال وأن له ناقلا نقله من حال الى حال ودبره على ما هو عليه، لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر" (1) ، ثم يشرح ذلك بأن القطن لا يتحول غزلا مفتولا ثم ثوبا منسوجا بغير ناسج ولا صانع (2) .
واحتج بنفس الدليل في رسالته إلى أهل الثغر فقال:" ونبههم على حدثهم بما فيهم من اختلاف الصور والهيآت، وغرر ذلك من اختلاف اللغات، وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم بما فيهم وفي غيرهم بما يقتضى وجوده، ويدل على إرادته وتدبيره حيث قال عز وجل {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات:21] ، فنبههم عز وجل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك وصرح بقوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون:12-14] (3) . لكن الأشعري لما شرح ذلك أتى باستدلال لا يسلم له حين قال معلقا على الآيات السابقات:"وهذا من أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان ووجود المحدث له، من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديما، وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره، وكونه قديما ينفي تلك الحال ... " (4) . فقد ذكر أمرين: إثبات حدث
_________
(1) اللمع (ص: 6) - ط- مكارثي.
(2) انظر: نفس المصدر (ص: 6-7) .
(3) الرسالة الى أهل الثغر (ص:،3- هـ 3) .
(4) نفس المصدر (ص: 35) .(1/413)
الإنسان، وإثبات وجود المحدث له، فاستدل للأول بالتغير الذى يحدث للإنسان وتقلبه من حال الى حال وأن هذا يقتضي حدوثه، ثم استدل بذلك على وجود المحدث له لأن كل متغير لا يكون قديما، وهذا مبني على ما سبق بيانه من نفى حلول الحوادث الذى يقول به الأشعري، والخلاصة أن الاستدلال بحدوث الانسان وخلقه على خالقه دليل صحيح وهو الذي جاء به القرآن، أما الاستدلال على حدث الانسان بتغيره، ثم ربط التغير بالمحدث (الخالق) - وانه لا يكون متغيرا والا لكان محدثا؛ غير مسلم.
أما دليل الأعراض وحدوث الأجسام الذى احتج به المتكلمون، وقالوا: إن إثبات الصانع لا يتم الا بإثبات حدوث الأجسام، ولا يتم إثبات حدوث الأجسام إلا بإثبات حدوث صفاتها (الأعراض) ، ورتبوا على ذلك نفى الصفات عن الله أو بعضها، فقد بين الأشعري أن الرسل لم يدعوا إليه، يقول: " فأما ما دعاهم إليه عليه الصلاة والسلام من معرفة حدثهم ومعرفة محدثهم، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعدله وحكمته، فقد بين لهم وجوه الأدلة في جميعه حتي ثلجت صدورهم به واستغنوا عن استئناف الأدلة فيه، وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم، فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك مقطوعا بما (1) نبههم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأدلة على ذلك وما شاهدوه من آياته الدالة على صدقه ... وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول مشهور في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك وانقطعوا إلى الاحتياط فيه، والاجتهاد في طلب الطرق الصحيحة إليه من المحدثين والفقهاء، يعلمه أكابرهم أصاغرهم ويدرسونه صبيانهم في كتاتيبهم لتقرر ذلك عندهم وشهرته فيهم، واستغنائهم ني العلم بصحة جميع ذلك بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته" (2) ، ثم بعد هذه المقدمة المركزة لبيان استغناء الصحابة ومن بعدهم بأدلة الكتاب والسنة قال عن دليل الأعراض: " واعلموا أرشدكم الله أن ما دل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات بعد تنبيهه لسائر المكلفين على حدثهم
_________
(1) في المطبوعة، الجليند "بها" والتصويب من المخطوطة (ص: 6) ، ودرء التعارض (7/207) .
(2) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 52-54) .(1/414)
ووجود المحدث لهم قد أوجب صحة اخباره ودل على أن ما أتي به من الكتاب والسنة من عند الله عز وجل، وإذا ثبت بالآيات صدقه فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وصارت أخباره عليه الصلاة والسلام أدلة على صحة سائر ما دعا اليه من الأمور الغائبة عن حواسنا، وصفات فعله، وصار خبره عليه الصلاة والسلام عن ذلك سبيلا إلى إدراكه، وطريقا إلى العلم بحقيقته، وكان يستدل به من اخباره عليه الصلاة والسلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام" (1) ، لكن الأشعري يعلل ذلك ليس ببطلانها في ذاتها وإنما لأمور أخرى يقول- بعد الكلام السابق-:"من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها" (2) - ثم شرح ذلك ثم قال-:"وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم أرشدكم الله أن طرق الاستدلال باخبارهم عليهم السلام على سائر ما دعينا إلى معرفته مما لا يدرك بالحواس، أوضح من الاستدلال بالأعراض؛ إذ كانت أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء.." (3) .
ب- وحدانية الله:
يستدل الأشعري لذلك بدليل التمانع، وقد شرحه بقوله"لأن الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على احكام، ولابد أن يلحقهما العجز أو واحدا منهما، لأن أحدهما اذا أراد أن يحيى انسانا وأراد الآخر أن يميته لم يخل أن يتم مرادهما جميعا، أو لا يتم مرادهما، أويتم مراد أحدهما دون الآخر، ويستحيل أن يتم مرادهما جميعا لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيا ميتا في حال واحدة، وإن لم يتم مرادهما جميعا وجب عجزهما، والعاجز لا يكون إلها ولا قديما، وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما،
_________
(1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 54-55) .
(2) المصدر السايق (ص: 55) .
(3) المصدر السابق (ص: 57) .(1/415)
والعاجز لا يكون إلها ولا قديما، فدل ما قلناه على أن صانع الأشياء واحد، وقد قال تعالى: {لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء:22] ، فهذا معنى احتجاجنا آنفا" (1) .
ودليل التمانع احتج به العلماء، وهو دليل صحيح، أما الاستدلال له بآية {لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا} ، فقد بناه الأشعري على رأيه في معنى الإله وأن المقصود به: القادر على الاختراع والخلق، ففسر الألوهية بتوحيد الربوبية، يقول الشهرستاني:"قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى، لا يشركه في الخلق غيره، فأخص وصفه تعالى هو: القدرة على الاختراع، قال: وهذا هو تفسير اسمه تعالى: الله" (2) .
والآية إنما هي في توحيد الألوهية، وأما توحيد الربوبية فقد كان المشركون وجميع الأمم مقرين به، ولذلك جاءت الرسل بتقرير توحيد الألوهية والرد على المشركين فيه، واحتجوا على ذلك بتوحيد الربويية، لأنه مستلزم له، أما توحيد الألوهية- الذى دلت عليه الآية- فهو متضمن لتوحيد الربوبية.
ج- عقيدته في الأسماء والصفات:
أما الأسماء:
فيثبت الأشعري جميع ما ورد من أسماء الله تعالى، ويعتمد في ذلك على السمع فقط، فما ورد أثبته، ومالم يرد سكت عن إثباته، ولذلك ناظر أبا علي الجبائي حول هل يسمى الله عاقلا مستخدما هذا المنهج (3) .
وأما الصفات:
فإنه أثبت أيضا ما ورد في النصوص، وإن كان قد استدل لبعضها بالأدلة
_________
(1) اللمع (ص: 8) - ت مكارثي، وذكره أيضا مع الإحتجاج بالآية في الرسالة إلى أهل الثغر (ص:41) .
(2) الملل والنحل (1/ 100) ، وذكره في نهاية الإقدام (ص: 91) ، كما ذكره ابن فورك في المجرد (ص: 47) ، والبغدادي في أصول الدين (ص: 123) .
(3) سبق عند الحديث عن أسباب رجوع الأشعري.(1/416)
العقلية إلا أنه جعل أدلة السمع هي المقدمة، ويمكن تفصيل أقواله في الصفات كما يلي:
1- الصفات العقلية:
وهي صفات الذات العقلية التي يسميها المتكلمون صفات المعاني، وهي سبع صفات: العلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة.
والأشعري يثبت هذه الصفات ويستدل لها بالنصوص وبالعقل، يقول عن أهل السنة:"وأجمعوا على إثبات حياة لله عز وجل لم يزل بها حيا، وعلما لم يزل به عالما، وقدرة لم يزل بها قادرا، وكلاما لم يزل به متكلما، وإرادة لم يزل بها مريدا، وسمعا وبصرا لم يزل به سميعا بصيرا" (1) ، ثم ذكر قدم هذه الصفات، وأن صفاته لا تشبه صفات المخلوقين كما أن نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين، ويحتج على ذلك بدلالة الأسماء على الصفات فيقول:"واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يكن له عز وجل هذه الصفات لم يكن موصوفا بشيء منها في الحقيقة، ومن لم يكن له فعل لم يكن فاعلا في الحقيقة، ومن لم يكن له إحسان لم يكن محسنا، ومن لم يكن له كلام لم يكن متكلما في الحقيقة، ومن لم يكن له إرادة لم يكن في الحقيقة مريدا، وإن وصف شيء من ذلك مع عدم الصفات التي توجب هذه الأوصاف له لا يكون مستحقا لذلك في الحقيقة، وإنما يكون وصفه مجازا أو كذبا ... وذلك أن هذه أوصاف مشتقة من أخص أسماء هذه الصفاث ودالة عليها ... " (2) .
ويقول في اللمع:"فإن قال قائل: لم قلتم: أن للباري تعالى علما به علم؟ قيل له: لأن الصنائع الحكمية كما لا تقع منا إلا من عالم كذلك لا تحدث منا إلا من ذي علم، فلو لم تدل الصنائع على علم من ظهرت منه منا، لم تدل على أن من ظهرت منه منا فهو عالم" (3) . ثم قال: "والدليل على أن لله تعالى قدرة وحياة كالدليل على أن لله تعالى علما، وقد قال الله جل ذكره
_________
(1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 67) .
(2) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 68-69) ، وأشار إلى ذلك في الإبانة (ص: 151) - ت- فوقية.
(3) اللمع (ص: 12) - مكارثي-، و (ص: 26- 27) - ت- غرابة.(1/417)
{أنزله بعلمه} [النساء:166] ، وقال: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر:11، فصلت:47] ، فثبت العلم لنفسه، وقال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت:15] ، فثبت القوة لنفسه" (1) . وفي الإبانة يذكر الأدلة السمعية على العلم وغيره (2) ، ثم يذكر في معرض الرد على المعتزلة الدليل العقلي فيقول:" فإن قالوا: قلنا: ان الله عالم لأنه صنع العالم على مافيه من آثار الحكمة وأتساق التدبير، قيل لهم: فلم لا قلتم إن لله علما بما ظهر في العالم من حكمة وآثار تدبيره؟؛ لأن الصنائع الحكمية لا تظهر إلا من ذى علم كا لا يظهر الا من عالم، وكذلك لا تظهر الا من ذى قوة كا لا تظهر إلا من قادر" (3) .
2- الصفات الفعلية:
وهي الصفات المتعلقة بإرادة الله ومشيئته مثل الكلام- وهو صفة ذات أيضا- وا لاستواء، وا لنزول، وا لمجيء، وا لضحك، وا لغضب، وا لرضا، وا لمحبة، وا لتعجب، وغيرهما.
وقد سبق بيان أن الأشعري لا يقول بالصفات الاختيارية ويبني ذلك على أن الله لا تحله الحوادث (4) .
لكن الأشعري يثبت ما ورد في النصوص منها، ويتأولها بأحد أمرين:
أ- إما أن يجعل الصفة أزلية، قديمة مع الله، لا يتجدد له فيها حال كما يشاء، وذلك مثل الكلام، والمحبة، والرضا.
_________
(1) اللمع (ص: 13- 14) - مكارثي-.
(2) انظر: الإيانة (ص: 22-23،141) - ت- فوقية.
(3) الإبانة (ص:148-149) ، وانظر: (ص:156-159) ، وانظر: أيضا اللمع (ص: اا-12) - مكارثي-.
(4) عند الحديث عن أطوار الأشعري.(1/418)
ب- وإما أن يجعل مقتضي الصفة مفعولا منفصلا عن الله لايقوم بذاته كالخلق، فإن الله خلق الخلق فلم تحل بذاته حوادث لأن الخلق هو المخلوق، وكذلك يقول في الاستواء والنزول: إنه لا تقوم بالله صفة وإنما فعل فعلا في العرش سماه استواء، كما فعل في سماء الدنيا فعلا سماه نزولا.
ونذكر نماذج من كلامه في هذه الصفات:
- الكلام:
يثبت أن القرآن كلام اللة غير مخلوق، ويذكر لذلك الأدلة من القرآن، ويرد على المعتزلة، يقول: " إن قال قائل: لم قلتم إن الله تعالى لم يزل متكلما وإن كلام الله تعالى غير مخلوق؟ قيل له: لأن الله تعالى قال: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل:40] ، فلو كان القرآن مخلوقا لكان الله تعالى قائلا له: كن، والقرآن قوله، ويستحيل أن يكون قوله مقولا له، لأن هذا يوجب قولا ثانيا، والقول في القول الثاني وفي تعلقه بقول ثالث كالقول في القول الأول وتعلقه بقول ثان، وهذا يقتضي مالا نهاية له من الأقوال، وذلك فاسد، وإذا فسد ذلك فسد أن يكون القرآن مخلوقا" (1) .
وفي الإبانة يذكر أدلة أخرى ومنها، قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف:54] ، ففرق بين الأمر والخلق (2) ، كما يحتج بقوله تعالى {وكلم الله موسى تكليما} [النساء:164] ، "والتكليم هو المشافهة بالكلام، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالا في غيره مخلوقا في شيء سواه، كما لا يجوز ذلك في العلم" (3) ، كما يذكر من الأدلة أن أسماء الله في القرآن، فكيف يكون مخلوقا (4) .
_________
(1) اللمع (ص: 15) - مكارثي-، وانظر: الإبانة (ص: 65) .
(2) انظر: الإبانة (ص: 63- 64) .
(3) نفس المصدر (ص: 72) .
(4) انظر: نفس المصدر (ص: 73) .(1/419)
ويذكر ما ورد من الروايات عن الامام أحمد وغيره في أن القرآن غير مخلوق (1) .
ويرد على من توقف في القرآن، وقال لا أقول: إنه مخلوق ولا إنه غير مخلوق، ويقول لهم- بعد المناقشة-:" يلزمكم أن تتوقفوا في كل ما اختلف الناس فيه ولا تقدموا في ذلك على قول، فإن جاز لكم أن تقولوا ببعض تأويل المسلمين اذا دل على صحتها دليل، فلم لا قلتم: إن القرآن غير مخلوق بالحجج التي ذكرناها في كتابنا هذا " (2) .
ثم يذكر أن كلام الله في اللوح المحفوظ، وفي صدور الذين أوتوا العلم
وهو متلو بالألسنة، ويقول: "والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة، محفوظ في صدورنا في الحقيقة، متلو بألسنتنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة؟ قال تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6] (3) .
وأما مسألة اللفظ بالقرآن فإنه ينكر ذلك ويقول:"القرآن يقرأ في الحقيقة ويتلي، ولا يجوز أن يقال يلفظ به لأن القائل لا يجوز له أن يقول: إن كلام الله ملفوظ به، لأن العرب إذا قال قائلهم لفظت باللقمة من فمي فمعناه رميت بها، وكلام الله لا يقال يلفظ به، وإنما يقال: يقرأ ويتلي ويكتب ويحفظ، وإنما قال قوم: لفظنا بالقرآن ليثبتوا أنه مخلوق ويزينوا بدعتهم وقولهم بخلقه ... " (4) .
وفي اللمع يشرح عقيدته في كلام الله وأنه أزلي ويبنيه على مسألة حلول الحوادث (5) .
_________
(1) الإبانة (ص: 87- 96) .
(2) المصدر السابق (ص: 99) .
(3) نفس المصدر (.. ا- 101) .
(4) نفسه (ص:101) .
(5) انظر: اللمع (ص: 22-23) - ط مكارثي-(1/420)
لكن بقي في مسألة الكلام ما نسب إلى الأشعري من أنه يقول: إن كلام الله واحد، وأنه معنى قائم بذات الله تعالى، وأنه لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا، وأنه ليس بحروف ولا أصوات.
فهذه الأقوال بذاتها لم نجدها منصوصا عليها في كتبه الموجودة، لكن نسبها إليه أعلام الأشاعرة وغيرهم، كابن فورك، والجوينى، والشهرستاني، وأبي نصر السجزي (1) ، ونقلها عن هؤلاء من جاء بعدهم.
- الاستواء والعلو:
أثبت الاستواء واستدل به وبغيره على إثبات علو الله تعالى، يقول: " إن
قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله عز وجل مستو على عرشه؟ قال: {الرحمن على العش استوى} [طه:5] ، وقد قال الله عز وجل: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر:10] ، وقال: {بل رعه الله إليه} [النساء:158] ، وقال عز وجل: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} [السجدة: 5] وقال حكاية عن فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 26- 27] ، كذب موسى عليه السلام في قوله: إن الله عز وجل فوق السموات، وقال عز وجل: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك:16] ، فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال: {أأمنتم من في السماء} لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات ... " (2) ، ثم رد على المعتزلة والجهمية وغيرهم في تأويلهم الاستواء
_________
(1) انظر: المجرد (ص: 67) ، وا لإ رشاد (ص:120) ، ونهاية الإقدام (ص:304،313،320) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/96) ، والرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 95، 119) مطبوع على الآلة الكاتبة.
(2) الإبانة (45-46) - ط هندية-.(1/421)
بالاستيلاء والملك والقهر، وقولهم: إن الله في كل مكان، وناقشهم نقاشا قويا مركزا، ثم احتج على الاستواء والعلو بأحاديث النزول، وبأدلة أخرى (1) . هذا مذهب الأشعري وقوله في الاستواء نم ذكره في الإبانة والرسالة إلى أهل الثغر، لكن نجد أن أتباعه ينسبون إليه تفسيرا للاستواء، نذكره لأن مجموعة منهم نسب اليه ذلك، يقول البيهقي:"وذهب أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة أو غيرهما من أفعال، ثم لم يكيف الاستواء الا أنه جعله من صفات الفعل لقوله: {ثم استوى على العرش} [الأعراف:54، يونس: 3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4] ، وثم للترا خي، والتراخي إنما يكون في الأفعال، وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة" (2) ، وأشار الى ذلك البغدادي، وابن فورك وابن عساكر، والجويني (3) .
- النزول والمجيء:
يثبت الأشعري النزول للأحاديث الواردة في ذلك، والتي يذكرها، كما يثبت المجيء لله تعالى ويذكر أدلته من القرآن (4) .
وقد شرحهما في رسالته إلى أهل الثغر بما يوضح مذهبه في أنه لا تقوم
_________
(1) انظر: الإبانة (ص: 46- 50) - هندية-، وكان الاعتماد في الإبانة على الطبعة الهندية لأن طبعة فوقية المحققة فيها زيادات غير صحيحة- خاصة في هذه الفصول-، وانظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 75-76) .
(2) الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 410) ، وانظر: مختصره المسمي:" دقيق الإشارات إلى معاني الأسماء والصفات" لعبد الله بن عبد الأنصاري الخليلي، توفي سنة 724 هـ (ص: 312) مطبوع طباعة أولية.
(3) انظر: أصول الدين (ص: 113) ، والمجرد (ص:325-326) ، وتبيين كذب المفتري (ص:150) . والشامل (ص: 555-556) .
(4) انظر: الإبانة- هندية- (ص:11، 47، 48) .(1/422)
بذات الله صفات الفعل فيقول:"وليس مجيئه حركة ولا زوالا ... وليس نزوله تعالى نقلة لأنه ليس بجسم ولا جوهر ... " (1) .
وقد نسب البيهقي إلى الأشعري في معناهما مثل ما ورد في الاستواء بأن "يحدث الله تعالى يوم القيامة فعلا يسميه إتيانا ومجيئا، لا بأن يتحرك أو ينتقل ... وهكذا قال في أخبار النزول: أن المراد به فعل يحدثه الله عز وجل في سماء الدنيا كل ليلة يسميه نزولا بلا حركة ولا نقلة ... " (2) وهو موافق لتأويلات الأشعري السابقة.
- الرضا والغضب:
يثبتهما لكن يتأولهما بالإرادة، فرضاه عن الطائعين إرادته لنعيمهم، وغضبه على الكافرين إرادته لعذابهم (3) ، وتأويله لهما مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، لكن الأشعري يتأولهما ليسلم له الأصل الفاسد الذى قال به.
3- الصفات الخبرية:
يثبت الأشعري لله الصفات الخبرية، كالوجه، واليدين، والعينين، ويستدل لذلك بالنصوص، ويرد على من تأولها من الجهمية وغيرهم، وأطال بصفة خاصة في صفة اليدين، وناقش من تأولهما مستدلا بنصوص الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف- رحمهم الله (4) -.
بقى أن بعض المتأخرين زعم أن للأشعري قولا آخر فيها وهو القول
_________
(1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 73-74) .
(2) الأسماء والصفات للبقي (ص: 448-449) .
(3) انظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 74- هـ 7) .
(4) انظر: الإبانة (ص:51-58) - هندية-، و (ص:120- 140) - ت- فوقية، وانظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 72-73) .(1/423)
بتأويلها (1) ، وهذا غير صحيح، والتأويل إنما هو قول متأخري الأشعرية فقط كالجويني ومن جاء بعده، أما الأشعري فليس له فيها إلا قول واحد.
د- قوله في الرؤية:
يثبت الأشعري الرؤية، وأن المؤمنين يرون الله عز وجل يوم القيامة بأعين وجوههم على ما أخبر به تعالى (2) ، ويحتج لذلك بعدد كبير من النصوص من الكتاب والسنة، ويناقش المعتزلة طويلا (3) .
ويلاحظ أن الأشعري لا يفرق- أحيانا- بين الإدراك والرؤية، ولذلك لما أورد سؤال سائل عن معنى قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام:103] قال: " قيل له: يحتمل أن يكون لا تدركه في الدنيا وتدركه في الآخرة ... " (4) ، "ويحتمل أن يكون الله تعالى أراد بقوله: {لا تدركه الأبصار} يعني لا تدركه أبصار الكافرين المكذبين" (5) ، وهذان جوابان ضعيفان، ولذلك لما أطال في مناقشة المعتزلة وذكر اعتراضاتهم حول هذه الآية ألمح إلى الجواب الصحيح فقال:"فإن قالوا قوله تعالى: {لاتدركه الأبصار} يوجب أن لا يدرك بها في الدنيا والآخرة وليس ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا، ونبصره بها ولا ندركه بها؟ قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون لا ندركه بأبصار العيون، ولا يوجب إذا لم ندركه بها أن لا نراه بها، فرؤيتنا له بالعيون وأبصارنا له بها ليس بإدراك له بها، كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له بها ليس بإدراك له، فإن قالوا: رؤية البصر هي إدراك البصر، قيل لهم: ما الفرق
_________
(1) ممن ذكر ذلك: الإيجي في المواقف (8/110-112) مع شرحه، والبياضي في إشارات المر ام (ص: 188) .
(2) انظر: الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 76) .
(3) عقد الأشعري لمسألة الرؤية أبوابا مستقلة في الإبانة (ص: 3 ا-24) - هندية-، و (ص: 35-62) - ت- فوقية، وفي اللمع (ص: 32-36) - ط مكارثي-.
(4) الإبا نة (ص: 47) - فوقية، انظر: اللمع (ص: 35) مكارثي.
(5) الإبانة (ص: 47) .(1/424)
بينكم وبين من قال: إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته؟، فإذا كان علم القلب بالله عز وجل وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة ولا ادراك فما أنكرتم أن تكون رؤية العيون وإبصارها لله عز وجل ليس بإحاطة ولا ادراك" (1) ، فلو بنى الجواب على التفريق بين الإدراك والرؤية لوضح الأمر ولأصبحت الآية دالة على الرؤية، فيكون الكلام في إثبات دلالتها على المذهب الحق، وليس في بيان عدم دلالتها على نفى الرؤية.
أما الأدلة العقلية على إثبات الرؤية فقد ذكر دليلين:
أحدهما: دلالة الوجود، و" أنه ليس موجودا إلا وجائز أن يريناه الله عز وجل، وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما كان الله عز وجل موجودا مثبتا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل" (2) .
خر: أن: أن الله يرى الأشياء، فإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، ويقول: " ولما كان الله عز وجل رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها" (3) .
هذا كلامه في الإبانة، لكنه في اللمع يستدل على جواز الرؤية باستدلال يقوم على أن الرؤية لا يلزم منها إثبات حدث الباري، أو اثبات حدث معني فيه أو تشبيهه أو غيره مما يقول: إنه يستحيل أن يتصف به، وذلك احترازا من اللوازم الباطلة التي يظنها نفاة الرؤية (4) ، ولذلك ذكر الأشعري عن بعض أصحابه انه التزم جواز اللمس والذوق والشم اذا كان ذلك لا يقتضي إحداث معنى في الباري (5) .
_________
(1) الإبانة (ص: 59) - ت- فوقية، و (ص: 22- 23) - هندية-
(2) المصدر السابق (ص: 52) - ت- فوقية.
(3) المصدر نفسه.
(4) اللمع (ص: 32-33) - مكارثي-.
(5) انظر: نفس المصدر (ص: 33) .(1/425)
واذا كان الأشعري يثبت لله صفة العلو والاستواء، والمباينة للمخلوقات فإثبات الرؤية مستقيم على مذهبه خلافا لمتأخرى أصحابه الذين أثبتوا الرؤية ونفوا العلو فتناقضوا.
والأشعري يرى أنه لا يلزم من اثبات الرؤية التجسيم لأنه لا يشترط أن يكون المرئي جسما يقول: " فإن قال قائل: فهل شاهدتم مرئيا إلا جوهرا أو غرضا محدودا أو حالا في محدود؟ قيل له: لا، ولم يكن المرئي مرئيا لأنه محدود ولا لأنه حال في محدود ولا لأنه جوهر، ولا لأنه عرض، فلما لم يكن ذلك كذلك لم يجب القضاء بذلك على الغائب، كما لم يجب إذا لم نجد فاعلا إلا جسما، ولا شيئا الا جوهرا أو عرضا، ولا عالما قادرا حيا الا بعلم وحياة وقدرة محدثة، أن نقضي بذلك على الغائب، إذ لم يكن الفاعل فاعلا لأنه جسم، ولا الشيء شيئا لأنه جوهر أو عرض" (1) .
هـ- قوله في القدر:
كلام الأشعري في القدر وأفعال العباد طويل جدا ومتفرع إلى مسائل كثيرة، وهو يثبت علم الله الشامل المحيط بكل شيء (2) ،؟ يثبت الكتابة في اللوح المحفوظ وأن الله أثبت فيه جميع ماهو كائن إلى يوم القيامة، وقد دل عليه قوله تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر} [القمر:52- 53] (3) ،كما انه يثبت إرادة الله الشاملة لكل شيء- وهي التي بمعنى المشيئة- ويذكر الأدلة على ذلك، ويناقش المعتزلة طويلا الذين يقولون: إن الله لايريد الكفر ولا المعاصي وانها كائنة بغير ارادة منه (4) ، كما أثبت قدرة الله وأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها ورد على القدرية المعتزلة الذين
_________
(1) اللمع (ص: 36) .
(2) انظر: الرسالة إلى الثغر (ص: 81) .
(3) المصدر السابق (ص: 79) .
(4) انظر: الإبانة (ص: 161) وما بعدها- ت- فوقية.(1/426)
يقولون: إن الله غير خالق لأفعال العباد يقول:"ويقال لأهل القدر: أليس قول الله تعالى: {بكل شيء عليم} [البقرة: 29] يدل على أنه لا معلوم إلا والله به عا لم، فإذا قالوا نعم، قيل لهم: فما أنكرتم أن يدل قوله تعالى: {على كل شيء قدير} [البقرة:20] على أنه لا مقدور إلا والله عليه قادر، وأن يدل قوله تعالى: {خالق كل شيء} [الزمر: 62] على أنه لا محدث مفعول إلا والله محدث له فاعل خالق" (1) .
ويذكر في الإبانة بابا فيه الروايات الواردة في القدر، مثل حجاج آدم وموسى، وحديث النطفة في الرحم وتقلبها، وكل ميسر لما خلق له، وغيرها (2) ، وهي دالة على قدر الله السابق الشامل.
لكن الأشعري مع قوله بهذه المراتب للقدر- مخالفا للمعتزلة وموافقا لأهل السنة- مال الى الجبر، وخالف أهل السنة في بعض المسائل ومنها:
القول بالكسب:
وهو من المسائل التي اشتهرت عن الأشعري، وأخذ بها الأشعرية من بعده، وقد جاء قوله بالكسب لإثبات قدرة الله الشاملة لكل شيء، يقول الأشعري في المقالات:"واختلف الناس في معنى القول: إن الله خالق، فقال قائلون: معنى أن الخالق خالق أن الفعل وقع منه بقدرة قديمة فإنه لا يفعل بقدرة قديمة الا خالق ومعنى الكسب: أن يكون الفعل بقدرة محدثة، فكل من وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب، وهذا قول أهل الحق" (3) ، وبعد أن يذكر عددا من الأقوال لأهل الإثبات وغيرهم يقول:"والحق عندي أن معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة، فيكون كسبا لمن وقع بقدرته" (4) .
_________
(1) اللمع (ص: 50- 51) ، وانظر: الرسالة (ص: 82) .
(2) انظر: الإبانة (ص: 225-237) .
(3) المقالات (ص: 39) .
(4) نفس المصدر (ص: 542) .(1/427)
والأشعري يفرق بين حركة الإضطرار كحركة المرتعش، وحركة الاختيار مثل ذهاب الانسان ومجيئه، يقول:"فإن قال قائل: فيجب إذا كانت إحدى الحركتين ضرورة أن تكون الأخري كذلك، وإذا كانت إحداهما كسبا أن تكون الأخرى كذلك، قيل له: لا يجب ذلك لافتراقهما في معني الضرورة والاكتساب، لأن الضرورة ما حمل عليه الشيء وأكره وجبر عليه، ولو جهد في التخلص منه وأراد الخروج عنه واستفرغ في ذلك مجهوده لم يجد منه انفكاكا ولا الى الخروج عنه سبيلا، فإذا كانت إحدى الحركتين بهذا الوصف الذي هو وصف الضرورة وهي حركة المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمي كانت اضطرارا، وإذا كانت الحركة الأخرى بخلاف هذا الوصف لم تكن اضطرارا، لأن الانسان في ذهابه ومجيئه واقباله وإدباره بخلاف المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمي، يعلم الإنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره علم اضطرار لا يجوز معه الشك، فقد وجب إذا كان العجز في إحدى الحالتين أن القدرة التي هي ضده حادثة في الحال الأخرى، لأن العجز لو كان في الحالين جميعا لكان سبيل الإنسان فيهما سبيلا واحدة، فلما لم يكن هذا هكذا وكانت القدرة في إحدى الحركتين وجب أن تكون كسبا لأن حقيقة الكسب: أن الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة لافتراق الحالين في الحركتين، ولأن إحداهما بمعنى الضرورة وجب أن تكون ضرورة، ولأن الأخرى بمعنى الكسب وجب أن تكون كسبا، ودليل الخلق في حركة الاضطرار وحركة الاكتساب واحد، فلذلك وجب إذا كانت إحداهما خلقا أن تكون الأخرى خلقا" (1) ، ويوضح أن كلا منهما خلق لله تعالى سواء كان اضطرارا أو اختيارا، ثم يقول:"ليس العجز بأن يدل على أن الله تعالى خلق المعجوز عنه بأولي من أن تكون القدرة التي جعلها الله تعالى دلالة على أن الله خلق المقدور عليه، لأن ماخلق الله القدرة فينا عليه فهو عليه أقدر، كما أن ماخلق فينا العلم به فهو به أعلم، وما خلق
_________
(1) اللمع (ص: 41- 42) - مكارثي-.(1/428)
فينا السمع له فهو له أسمع فإذا استوى ذلك في قدرة الله تعالى وجب إذا قدرنا الله على حركة الاكتساب أن يكون هو الخالق لها فينا كسبا لنا ... " (1) . وهذا الكلام قد يكون ظاهره أن الخلاف بين الأشعري والسلف الذين يقولون: إن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة- خلاف في العبارات والألفاظ (2) -، لكن أقوال الأشعري الأخرى مما له علاقة في الموضوع تدل على أن الخلاف ليس لفظا، ومن ذلك:
أ- مسألة الاستطاعة:
يري الأشعري أن الاستطاعة- التي هي قدرة العبد- لا تكون إلا مع الفعل، وليس له استطاعة قبله، وهذه الاستطاعة التي يثبتها هي التي بها يتحقق الفعل، ويبني ذلك على أن الإستطاعة والقدرة عرض، والعرض لايبقي زمانين، يقول: "فإن قال قائل: فإذا أثبتم له استطاعة هي غيره فلم زعمتم أنه يستحيل تقدمها للفعل، قيل له: زعمنا ذلك من قبل أن الفعل لا يخلو أن يكون حادثا مع الاستطاعة في حال حدوثها أو بعدها، فإن كان حادثا معها في حال حدوثها فقد صح أنها مع الفعل للفعل، وإن كان حادثا بعدها وقد دلت الدلالة على أنها لا تبقى وجب حدوث الفعل بقدرة معدومة، ولو جاز ذلك لجاز أن يحدث العجز بعدها فيكون الفعل واقعا بقدرة معدومة، ولو جاز أن يفعل في حال هو فيها عاجز بقدرة معدومة لجاز أن يفعل بعد مئة سنة من حال حدوث القدرة وإن كان عاجزا في المئة سنة كلها بقدرة عدمت من مئة سنة وهذا فاسد" (3) ، ثم يذكر لماذا القدرة لا تبقي (4) ، ويذكر بعض الأدلة على قوله (5) .
وسيأتي بيان فساد القول بأن العرض لا يبقى زمانين.
_________
(1) اللمع (ص: 43) .
(2) ممن رجح ذلك الشيخ هادي طالبي في رسالته للماجستير: أبو الحسن الأشعري بين المعتزلة والسلف (ص: 114) - مطبوعة على الآلة الكاتبة-.
(3) اللمع (ص:54) .
(4) انظر: المصدر السابق (ص: 55) .
(5) انظر: نفس المصدر (ص: 56-58) .(1/429)
ب- هل القدرة مؤثرة أو لا؟:
القدرة المحدثة التي أثبتها للعبد وبها يكسب أعماله، يرى الأشعري أنها غير مؤثرة كما حكى عنه الشهرستاني الذي قال:"ولم يثبت شيخنا أبو الحسن -رحمه الله- للقدرة الحادثة صلاحية أصلا، لا لجهة الوجود، ولا لصفة من صفات الوجود، فلم يلزمه التعميم والتخصيص" (1) ، وشرح ذلك في الملل والنحل فقال:" لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث، لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض، فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث، حتي تصلح لإحداث الألوان والطعوم والروائح، وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام، فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة، غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، ويسمي هذا الفعل كسبا، خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا، وكسبا من العبد حصولا تحت قدرته" (2) ، وهذا يؤيد مافي المجرد من أنه لم يذكر مع القدرة المحدثة سوى العلم والإرادة للمكتسب، كقول ابن فورك:"وكان يقول: إن ما استحق هذه العين المكتسبة من وصف الاكتساب فلأجل تعلق القدرة المحدثة بها، واختلف جوابه في أن العين المكتسبة صارت مكتسبة بتعلق القدرة المحدثة فقط أم باقتران أوصاف أخر إليها، فدار أكثر كلامه على أن التأثير في ذلك للقدرة المحدثة، وربما قال: إنه لا بد معها من إرادة المكتسب وعلمه" (3) ،
وقوله التأثير للقدرة المحدثة أي أن العين وصفت بأنها مكتسبة بتأثير القدرة المحدثة، لا أن القدرة المحدثة مؤثرة (4) ،بدليل أن ابن فورك لما ذكر قوله الثاني لم يذكر إلا أنه يقول بأن
_________
(1) نهاية الإقدام (ص: 72) ، وانظر: أيضا (ص: 78، وص: 87) .
(2) الملل والنحل (1/97) .
(3) المجرد (ص: 93) ..
(4) ليس المقصود بالتأثير الانفراد بالإبداع لأن هذا لله تعالى الخالق لكل شيء، وإنما المقصود أن قدرة العبد سبب وواسطة في خلق الله تعالى الفعل بهذه القدرة، ولذلك لابد من الإرادة الجازمة، ووجود القدرة وزوال المانع، انظر: مجموع الفتاوى (8/487-488) .(1/430)
مع القدرة علم المكتسب وإرادته، وكما هو واضح لا علاقة لهما بالقدرة هل هي مؤثرة أو لا، يوضح ذلك قول الأشعري في اللمع:"فإن قال: فهل اكتسب الانسان الشيء على حقيقته كفرا باطلا وإيمانا حسنا؟ قيل له: هذا خطأ، وإنما معنى اكتسب الكفر أنه كفر بقوة محدثة وكذلك قولنا اكتسب الإيمان إنما معناه أنه آمن بقوة محدثة من غير أن يكون اكتسب الشي على حقيقته بل الذى فعله علي حقيقته هو رب العالمين" (1) .
- تكليف مالا يطاق:
صرح الأشعري بجواز تكليف مالا يطاق (2) ، ويستدل لذلك بعدة أدلة منها قصة أبي لهب ونزول السورة فيه، يقول: " ويقال لهم قد قال الله تبارك وتعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله ومما كسب. سيصلى نارا ذات لهب} [المسد:1- 3] وأمره مع ذلك بالإيمان، فأوجب عليه أن يعلم أنه لا يؤمن، وأن الله صادق في إخباره عنه أنه لا يؤمن، وأمره مع ذلك أن يؤمن ولا يجتمع الايمان والعلم بأنه لا يكون ولا يقدر القادر على أن يؤمن وانه يعلم أنه لا يؤمن، وإذا كان هذا هكذا فقد أمر الله سبحانه أبا لهب بما لا يقدر عليه لأنه أمره أن يؤمن وأنه يعلم أنه لا يؤمن" (3) ، والأشعري يفرق بين عدم الاستطاعة للعجز عن الشيء وعدم الاستطاعة للاشتغال بضده، فيقول:"فإن قال قائل: أليس قد كلف الله تعالى الكافر الإيمان؟ قلنا له: نعم، قال: فيستطيع الإيمان، قيل له: لو استطاعه لآمن، فإن قال: فكلفه مالا يستطيع؟ قيل له: هذا كلام على أمرين: إن أردت بقولك: إنه لا يستطيع الإيمان لعجزه عنه فلا، وان أردت أنه لا يستطيعه لتركه والاشتغال بضده فنعم" (4) ، وهذا تفصيل جيد يزيل الإشكالات الواردة حول تكليف مالا يطاق.
_________
(1) اللمع (ص:40) .
(2) انظر: المصدر السايق (ص: 68) .
(3) الإبانة (ص: 195) - فوقية-.
(4) اللمع (ص:58-59) .(1/431)
- إنكار التعليل:
يصرح الأشعري بنفي التعليل في أفعال اللهـ خلافا لأهل السنة الذين يقولون بهـ ويقول:"وأجمعوا على أنه عز وجل غير محتاج إلى شيء مما خلق، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وينعم على من يشاء ويعز من يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويغني من يشاء، وانه لا يسأل في شيء من ذلك عما يفعل، ولا لأفعاله علل، لأنه مالك غير مملوك، ولا مأمور ولا منهي، وانه يفعل ما يشاء" (1) ، ولذلك يتأول الآية الواردة في ذلك وهي قوله تعالى: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56] بأن المقصود: أنه أراد بعض الجن والإنس وهم العابدون لله منهم" (2) ، أى انه عني المؤمنين دون الكافرين (3) . والآية نص في إثبات حكمة الله في خلق الجن والانس، وانه خلقهم للعبادة فهي نص في إثبات التعليل، وقول الأشعري ضعيف كما سيأتي.
- التحسين والتقبيح:
قال بالتحسين والتقبيح الشرعي فقط، يقول عن أهل السنة:"وأجمعوا على أن القبيح من أفعال خلقه كلها مانهاهم عنه وزجرهم عن فعله، وأن الحسن ما أمرهم به أو ندبهم إلى فعله وأباحه لهم، وقد دل الله عز وجل على ذلك بقوله: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] " (4) .
ولا يقبح من الله شيء،"فلا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان، وانما نقول: انه لا يفعل ذلك لأنه أخبرنا أنه يعاقب الكافرين وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره" (5) ،ويعلل ذلك بأن الله هو المالك القاهر وانه لا آمر
_________
(1) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 77) .
(2) اللمع (ص: 68) .
(3) انظر: الإبانة (ص: 192) .
(4) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 78) .
(5) اللمع (ص:71) .(1/432)
فوقه، يقول:" والدليل على أن كل مافعله فله فعله أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك ولا فوقه مبيح ولا آمر ولا زاجر ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم وحد له الحدود، فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء إذ (1) كان الشيء انما يقبح منا لأنا تجاوزنا ماحد ورسم لنا، وأتينا مالم نملك إتيانه، فلما لم يكن الباري مملكا ولا تحت آمر لم يقبح منه شيء، فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبحه؟ قيل له: أجل، ولو حسنه لكان حسنا ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض (2) ، ومذهب الأشعري هذا يأتي في الطرف المقابل لمذهب المعتزلة الذين قالوا بالتحسين والتقبيح العقلي، والحق مذهب السلف وهو التفصيل.
و قوله في الإيمان:
صرح في الإبانة " أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (3) ، وفصل ذلك في الرسالة فقال:"وأجمعوا على أن الايمان يزيد يالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شكا فيما أمرنا بالتصديق به ولا جهلا به، لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان، كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كنا مؤدين للواجب علينا" (4) ، وقوله: إن الإيمان قول وعمل، ويزيد، وينقص هو قول أهل السنة والجماعة.
ولكنه في اللمع فسره بالتصديق بالله، واحتج بإجماع أهل اللغة على أن الإيمان هو التصديق، كما احتج بقوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف:17] أي بمصدق لنا، ويقول الناس:" فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة"، ويريدون: يصدق (5) .
هذا ما هو موجود في كتبه، وقد نسب اليه متأخرو الأشعرية وغيرهم
_________
(1) في طبعة مكارثي إذا، وذكر في الحاشية أن فى إحدى النسخ إذ وهى الصواب.
(2) اللمع (ص: 71) .
(3) الإبانة (ص: 27) - فوقية-.
(4) الرسالة إلى أهل الثغر (ص: 93) .
(5) انظر: اللمع (ص: 75) .(1/433)
انه يقول: إنه المعرفة (1) ، كما نسبوا إليه قولا آخر؛ انه التصديق وان القول باللسان والعمل بالأركان غير داخلين فيه (2) .
أما قوله في مرتكب الكبيرة فهو قول أهل السنة: انه مؤمن بأيمانه فاسق بكبيرته وانه لا يخلد في النار (3) .
ز- قوله في: الشفاعة، وعذاب القبر، والحوض، والصراط، والإمامة والصحابة:
وقوله فيها جميعا: هو قول السلف- رحمهم الله تعالى- كما ذكر ذلك في أواخر كتبه كلها.
هذا هو أبو الحسن الأشعري الذي تنسب اليه طائفة الأشعرية ولعل ما سبق عرضه من حياته، وأطواره وعقيدته يعطي صورة واضحة نوعا ما لهذا العلم الذي تكونت من بعده مدرسة مشهورة انتسبت اليه واشتهرت باسمه.
* * *
_________
(1) انظر: المجرد (ص: 151) ، ونهاية الإقدام (ص: 472) ، والفصل لابن حزم (2/266) - ط- المحققة.
(2) انظر: أصول الدين للبغدادي (ص: 248) ، والمجرد (ص 150) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 101) ، ونهاية الإقدام (ص: 472) .
(3) انظر: الإبانة (ص: 26) ، واللمع (ص: 75) ، والرسالة (ص: 93- 94) .(1/434)
الفصل الرابع: نشأة الأشعرية وعقيدتهم
المبحث الأول: أسلاف الأشعرية "الكلابيه" وموقف السلف منهم.
المبحث الثاني: الماتريدية وعلاقتهم بالأشعرية.
المبحث الثالث: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره.
المبحث الرابع: عقيدة الأشاعرة.(1/435)
المبحث الأول: أسلاف الأشعرية "الكلابية" وموقف السلف منهم
ارتبطت نشأة الأشعرية بالشيخ أبي الحسن الأشعري-رحمه الله- الذي أصبح فيما بعد شيخهم عند الإطلاق، يرجعون إلى أقواله، ويحاولون السير على ما سطره في كتبه من آراء.
والفصل السابق كان عن هذا الإمام وحياته وعقيدته، وفي هذا الفصل محاولة استكمال موضوع النشأة في الحديث عن الذين تأثر بهم الأشعري ثم تأثر بهم تلامذته من بعده، وأهم الطوائف التي يوجد لها صدي في عقائد الأشعرية هي:
1- المعتزلة والجهمية.
2- أهل السنة.
3- الكلابية.
أما المعتزلة فلا شك أن منهجهم الكلامي والعقلي كان ذا أثر مباشر أو غير مباشر على الكلابية ثم الأشعرية، وهؤلاء وإن ردوا على المعتزلة وبينوا فساد أقوالهم الا أنهم لم يخرجوا سالمين من المعركة كما خرج أعلام السلف، بل اضطروا تحت وطأة الردود الكلامية والمناقشات العقلية أن يسلموا لهم بعض أصولهم وان يلتزموا لوازمها، وبذلك بدأت بوادر الاختلاف والانحراف في مذهبهم تبعد بهم عن مذهب السلف الخالص.
أما الجهمية فهم في الصفات شيوخ المعتزلة، وفي القدر على النقيض من مذهبيهم، والأشعرية في مسألة القدر مالوا إلى مذهب الجبر.
وأما أهل السنة فهم يجمعون ما عند الطوائف من حق، ويردون على الباطل الموجود عند كل طائفة، والأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة- وكذلك(1/437)
الأشعرية الذين أتبعوهـ ساروا على مذهب السلف واتبعوا منهجهم في كثير من المسائل، وقد وقفوا مع أئمة السلف في الرد على سائر الطوائف في هذه المسائل، ولا شك أن تأثرهم بأئمة أهل السنة وانتسابهم اليهم مشهور لا يحتاج إلى أدلة. أما الكلابية فهم أسلاف الأشعرية حقا، وقد اندمجوا فيهم حتي وصل الأمر- بعد انتشار مذهب الأشعرية- الى أن يطلق اسم الطائفتين على الأخرى، وإن كان الغلب في التسمية للأشعرية، ولما كانت نشأة الأشعرية ترتبط كثيرا بنشأة الكلابية كان لابد من الحديث عن أهم أعلام هذه الطائفة وأهم أقوالهم وآرائهم، أما المعتزلة والجهمية وأهل السنة فأقوالهم وآراؤهم معروفة وقد كتب عنها الكثير، ومن أهم أعلام الكلابية: ابن كلاب، والمحاسبي، والقلانسي.
أولا: ابن كلاب:
هو عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان البصرى، أبو محمد (1) ، ويقال: " عبد الله بن محمد (2) ، والأول أشهر، ويلقب كلابا- مثل خطاف- وزنا ومعنى، لأنه كان لقوته في المناظرة يجتذب من يناظره ويجره إليه كما يجتذب الكلاب الشيء (3) .
_________
(1) هكذا ترجمه الذهبي في السير (11/174) ، وابن حجر في اللسان (3/290) ، وابن قاضي شهبة في الطبقات (1/33) ، وكذلك سماه الأشعري في المقالات: عبد الله بن سعيد، انظر: (ص:298) .
(2) هكذا سماه ابن النديم في الفهرست (ص: 230) - ط- طهران، وذكر القولين السبكي في الطبقات (2/299) ، كما ترجمه الصفدى مرتين: مرة باسم عبد الله بن سعيد، الوافي (17/197) ، ومرة باسم عبد الله بن محمد (17/492) .
(3) انظر: السير للذهبي (1/174) ، والطبقات للسبكي (2/299) ، واللسان لابن حجر (3/291) .
ومما يلاحظ هنا أنه يقال له ابن كلاب وليس كلابا، مما يدل عل أن هذا اللقب ليس له وإنما لأبيه أو أحد أجداده، وهذا يجعل التحليل الذى ذكروه محل نظر.(1/438)
قال عنه الذهبي:"رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه" (1) ، وذكر ابن النديم أنه كانت له مع عباد بن سليمان- المعتزلي- مناظرات (2) ، ونقل السبكي عن والد الفخر الرازي (3) ؛ أنه قال في آخر كتابه " غاية المرام في علم الكلام":"ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبد الله بن سعيد التميمي، الذي دمر المعتزلة في مجلس المأمون، وفضحهم ببيانه، وهو أخو يحيى بن سعيد القطان، وارث علم الحديث وصاحب الجرح والتعديل" (4) ، قال السبكي معلقا:"وكشفت عن يحيى بن سعيد القطان هل له أخ اسمه عبد الله؟ فلم أتحقق إلى الآن شيئا، وإن تحققت شيئا ألحقته إن شاء الله " (5) ، والصواب أنه ليس أخا له كما حققه ابن حجر (6) والزبيدي (7) .
ولمناقشات ابن كلاب للمعتزلة ومخالفته لهم فقد اتهم بأنه ابتدع أقواله ليدس دين النصارى في ملة المسلمين، وأنه أرضي أخته النصرانية بذلك لما اعترضت على اسلامه، وقد فند هذا القول وكذبه شيخ الإسلام ابن تيمية (8) ، والذهبي (9) .
_________
(1) السير (11/174) .
(2) انظر: الفهرست (ص: 230) .
(3) هو: عمر بن حسين بن الحسن الرازى، الشافعي، ضياء الدين، أبو القاسم، خطيب الري من آثاره هذا الكتاب "غاية المرام" الذي مدحه السبكي كثيرا، ذكر في هدية العارفين أنه توفي سنة 559 هـ، انظر: طبقات السبكي (7/242) ، وهدية العارفين (ص:784) ، ومعجم المؤلفين (7/282) .
(4) طبقات السبكي (2/300) ، وهذا النص بتمامه في أصول الدين للبغدادى (ص: 309) ، ولعل والد الفخر الرازي نقله عنه، لأن البغدادي توفي سنة 429.
(5) طبقات السبكي (2/300) .
(6) في لسان الميزان (3/291) .
(7) في تاج العروس مادة " كلب"، وفي إتحاف السادة المتقين (2/6) .
(8) في منهاج السنة (2/397) ، ت رشاد سالم- ط الأولى-، ودرء التعارض (6/155) ، ومجموع الفتاوى (5/555،8/115) .
(9) السير (11/175) .(1/439)
ولم تشر المصادر إلى شيوخ ابن كلاب، أما تلامذته فأشار الذهبي إلى أن ممن قيل انه أخذ عنه الكلام: داود الظاهرى، والحارث المحاسبي، ثم ذكر الذهبي أن ابن النجار ذكر لابن كلاب ترجمة لم يحررها وأنه ذكر فيها أنه كان في أيام الجنيد (1) - سيد الطائفة الصوفية- وذكر السبكي أنه وجد بخط الذهبي حاشية على تاريخ ابن النجار كتب فيها بإزاء ما ذكره من حكاية طويلة - بين ابن كلاب والجنيد- مانصه:"لا يصح؛ فإن ابن كلاب له ذكر في زمان أحمد بن حنبل، فكيف يتم له هذا مع الجنيد" (2) ، قال السبكي مؤيدا "والأمر كما قال" (3) . ومن المعلوم ان الحنيد قد توفي سنة 298 هـ، أما ولادته فقد كانت سنة نيف وعشرين ومئتين، وأما ابن كلاب فقد توفي بعد الأربعين ومئتين (4) ، وحددها صاحب هدية العارفين بسنة 241 هـ (5) ، ومن ثم فليس مستبعدا- من الناحية التاريخية- أن يلتقي به وهو في شبابه.
وقد ذكر عبد القاهر البغدادي أن من تلامذة ابن كلاب عبد العزيز المكي (6) ،
_________
(1) انظر: السير (11/175) ، والجنيد هو: الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي البغدادي القواريرى، وملقب بالخزاز، لم أطلع على من ترجم لولادته الا الذهبي في السير فإنه ذكر أنه ولد سنة نيف وعشرين، وتوفي سنة 297 هـ وقيل سنة 298 هـ وغلط الذهبي من أرخه بسنة 297 هـ. انظر: تاريخ بغداد (7/241) ، وطبقات السلمي (ص: 155) ، والحلية (10/255) ، والأنساب (10/254) في نسب القواريري، وصفة الصفوة (2/416) ، ووفيات الأعيان (1/373) ، وسير أعلام النبلاء (14/66-77) وقد أدخل في ترجمته ترجمة الذي بعده.
(2) طبقات السبكي (2/299) .
(3) نفس المصدر والصفحة.
(4) انظر: نفس المصدر.
(5) (ص:440) .
(6) ذكر ابن تيمية في درء التعارض (2/245-257) : انه لايقول بقول ابن كلاب، اسمه: عبد العزيز ابن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم بن ميمون الكناني المكي، يعتبر أحد أصحاب الشافعي، وهو صاحب الحيدة، توفي سنة 240 هـ، انظر: تاريخ بغداد (10/449) ، وميزان الاعتدال (2/639) ، وطبقات الشيرازي (ص:103) ، وطبقات الأسنوي (1/41) ، وطبقات السبكي (2/144) ، ومقدمة تحقيق الحيدة (ص: 9) وما بعدها.(1/440)
والحسين بن الفضل البجلى (1) ، والجنيد (2) ، وقد قرن الكلاعي-كما نقل عنه ابن عساكر- بين عبد العزيز المكي والحارث المحاسبي وابن كلاب في الزهد ومقاومة أهل البدع فقال بعد إشارته إلى محنة خلق القرآن وتورع أحمد ابن حنبل عن مجادلتهم- وانهم موهوا بذلك على الملوك: "وكان في ذلك الوقت من المتكلمين جماعة كعبد العزيز المكي والحارث المحاسبي وعبد الله بن كلاب وجماعة غيرهم وكانوا أولي زهد وتقشف لم ير واحد منهم أن يطأ لأهل البدع بساطا ولا أن يداخلهم، فكانوا يردون عليهم ويؤلفون الكتب في إدحاض حججهم إلى أن نشأ بعدهم وعاصر بعضهم بالبصرة أيام إسماعيل القاضي ببغداد أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري رضي الله عنه ... " (3) وسياق هذا الكلام جاء لبيان فضائل الأشعري وأنه صار يؤلف ويقصد أهل البدع ليناظرهم (4) ،
وإلا فعبد العزيز المكي ناقش المعتزلة في مجلس المأمون وأثبت ذلك في كتابه الحيدة (5) ، وابن كلاب ذكر بعض مترجميه أنه دمر على المعتزلة في مجلس المأمون.
_________
(1) هو: الإمام اللغوي المفسر أبو على البجلي الكوفي ثم النيسابوري توفي سنة 282 هـ، طبقات المفسرين (1/156) ، والوافي (13/27) ، وسير أعلام النبلاء (13/414) .
(2) انظر: أصول الدين (ص:309) .
(3) تبيين كذب المفتري (ص: 116) .
(4) انظر: نفس المصدر والصفحة..
(5) هناك خلاف حول نسبة كتاب الحيدة لعبد العزيز الكناني، فيرى الذهبي في ميزان الاعتدال (2/639) أنها لم تصح نسبتها اليه وتابعه السبكي في الطبقات (2/145) ، أما الذين أثبتوا نسبته إليه فهم جماهير العلماء ومنهم: الخطيب في تاريخ بغداد (10/449) ، وابن النديم في الفهرست (ص: 236) - ط طهران-، وابن العماد في الشذرات (2/95) ، والفاسي في العقد الثمين (5/466-467) ، وابن حجر في التهذيب (6/363) ، وفي التقريب (2/513) ، وابن تيمية في درء التعارض (2/245) ، ومابعدها حيث نقل منه نصوصا، وأيضا (6/115) ، بل والذهبي في دول الإسلام (1/146) حيث قال عنه "صاحب كتاب الحيدة،، وأشار ابن الجوزي في المنتظم (8/81) الى أنه في عهد القادر بالله سنة 420 هـ اجتمع العلماء والقضاة وكان مما قرأوه المناظرة التي جرت بين الكناني والمريسي، وانظر: مقدمة تحقيق الحيدة: جميل صليبا (ص: 7 ا-23) .(1/441)
أما مؤلفات ابن كلاب فقد ذكر له صاحب الفهرست: كتاب الصفات، وكتاب خلق الأفعال، وكتاب الرد على المعتزلة (1) ، أما صاحب هدية العارفين فقد ذكر له كتاب الرد على الحشوية، ولم يذكر الرد على المعتزلة (2) .
وقد تقدم أن وفاة ابن كلاب كانت بعد سنة 240 هـ وحددها البعض بسنة 241 هـ.
- أهم أقوال ابن كلاب:
لم يصل الينا شيء مما ذكر من مؤلفات ابن كلاب، ولذلك فالاعتماد في بيان آرائه وأقواله إنما يكون بواسطة الناقلين عنه أو عن بعض كتبه، وأهم مصدر لذلك ماكتبه الأشعري في المقالات، والنتف التي نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض كتبه.
وقد سبق- في الفصل الماضي- عند الحديث عن الأشعري ذكر أهم آراء ابن كلاب بإجمال، ويمكن تفصيل ذلك فيما يلي:
أ- قوله في الأسماء والصفات:
يثبت ابن كلاب الأسماء والصفات لله تعالى، يقول الأشعري: " قال عبد الله ابن كلاب: لم يزل الله تعالى عالما قادرا، حيا، سميعا، بصيرا، عزيزا، عظيما، جليلا، متكبرا، جبار ا، كريما، جوا د ا، وا حدا، صمد ا، فرد ا، باقيا، أولا، ربا، الها، مريدا، كارها، راضيا عمن علم أنه يموت مؤمنا وإن كان أكثر عمره كافرا، ساخطا على من علم أنه يموت كافرا وإن كان أكثر عمره مؤمنا، محبا، مبغضا، مواليا، معاديا، قائلا، متكلما، رحما نا، بعلم وقدرة وحياة وسمع وبصر وعزة وعظمة وجلال، وكبرياء، وجود، وكرم، وبقاء، وإرادة وكراهة، ورضي وسخط، وحب وبغض، وموالاة ومعاداة، وقول
_________
(1) انظر: الفهرست (ص: 230) ، والسير (11/ 176) ، والوافي (17/ 492) .
(2) انظر: هدية العارفين (ص:440) .(1/442)
وكلام، ورحمة، وأنه قديم لم يزل بأسمائه وصفاته، وكان يقول: معنى أن الله عالم أن له علما، ومعني أنه قادر أن له قدرة، ومعنى أنه حي أن له حياة، وكذلك القول في سائر أسمائه وصفاته" (1) .
كما يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين وقال: " أطلق اليد والعين والوجه خبرا، لأن الله أطلق ذلك، ولا أطلق غيره، فأقول: هي صفات لله عز وجل كما قال في العلم والقدرة والحياة أنها صفات" (2) .
كما يثبت لله صفة الاستواء والعلو، يقول في كتاب الصفات- في باب القول في الاستواء-: " فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعا به، يجيز السؤال بأين، ويقوله، ويستصوب قول القائل: انه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا، ويحيلون القول به، ولو كان خطأ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق بالانكار له، وكان ينبغي أن يقول لها (3) : لا تقولى ذلك فتوهمين أن الله عز وجل محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولى إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت، كلا لقد أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بما فيه وانه أصوب الأقاويل، والأمر الذى يجب الإيمان لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، فكيف يكون الحق في خلاف ذلك، والكتاب ناطق به وشاهد له؟ " (4) .
_________
(1) المقالات للأشعري (ص: 169) - ط ريتر-.
(2) نفس المصدر (ص: 217-218) ، وانظر: (ص: 522) ، أما" الأصابع ففي طبقات الحنابلة (2/133) اشارة الى أنه يؤولها".
(3) الإشارة الى حديث الجارية التي سألها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أين الله؟ قالت في السماء، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة، رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ورقمه (537) ، كما رواه غيره.
(4) درء التعارض (6/193-194) ، وقد نقله عن ابن فورك.(1/443)
وقال ابن كلاب:" ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة الا ماذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنيه الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك مالا شيء أبين منه ولا أوكد؟ لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه، عربيا ولا عجميا، ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إن كان لا يفصح، لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان كما يقولون، وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم وحده وخمسون رجلا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن" (1) .
ورد ابن كلاب على من يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فقال: " وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا في العالم ولا خارج منه، فنفاه نفيا مستويا، لأنه لو قيل له: صفه بالعدم ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، ورد أخبار الله نصا، وقال في ذلك مالا يجوز في خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص. والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسون " (2) .
وقال مجيبا على شبهتهم: " فإن قالوا: هذا إفصاح منكم بخلو الأماكن منه، وانفراد العرش به، قيل: إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره وأنه عالم بها فلا، وإن كنتم تذهبون الى خلوها من استوائه عليها كما استوى على العرش فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله على العرش، ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض، واستوى على الجدار، وفي صدر البيت" (3) .
_________
(1) درء التعارض (6/194) .
(2) المصدر السابق (6/119) .
(3) نفس المصدر (6/119-. 12) ، ويرى ابن كلاب ان استواء الله كونه فوق العرش بلا مماسة، انظر: أصول الدين (ص: 113) .(1/444)
كما يذكر مناقشات أخرى لنفاة العلو (1) .
ب- صفات الفعل:
مع أن ابن كلاب يثبت الأسماء والصفات كما سبق الا أنه ينفي منها ما يتعلق بمشيئة الله وإرادته، بناء على نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، وهو بهذا قد وافق المعتزلة على هذا الأصل المقرر عندهم المبني على دليل حدوث الأجسام وهو أن من قامت به الحوادث لا يخلو منها، فنفوا جميع الصفات عن الله تعالى بناء على ذلك، أما ابن كلاب فقد خالفهم فأثبت لله الصفات الذاتية والمعنوية وجعلها أزلية (2) ، ونفي الصفات الاختيارية لموافقته لهم على هذا الأصل، ويمكن عرض مذهبه وبيان الأدلة على أنه يقول بهذا الأصل، من خلال ما يلي:
1- قوله بأزلية الصفات كلها دون أن يفرق بين صفات الذات وصفات الفعل، فيجعل صفات الرضي والسخط والمحبة والكرم والجود أزلية كالسمع والبصر والحياة، حتى لا يفهم منها ما يدل على الصفات الاختيارية له تعالى (3) .
2- قوله بالموافاة: وأنه اللة لم يزل راضيا عمن يعلم أنه يموت مؤمنا، وإن كان أكثر عمره كافرا، ساخطا على من يعلم أنه يموت كافرا وإن كان أكثر عمره مؤمنا (4) ، ومعنى ذلك أن الله لا يرضي عن المؤمن- الذى كان كافرا- بعد سخطه عليه لئلا يقال: إن الله حدث له أمر لم يكن موجودا من قبل.
3- انه حين أثبت العلو والاستواء ربطهما بما يدل على أنه يقول بنفي
_________
(1) انظر: أصول الدين (6/120) ومابعدها.
(2) المعتزلة جعلوا الصفات كلها أعراضا ونفوها، أما ابن كلاب فلم يسمها أعراضا وأثبتها أزلية لله، انظر: مجموع الفتاوي (6/36) .
(3) انظر: المقالات (ص: 169، 546، 584) .
(4) نفس المصدر (ص: 298،547) ، وانظر: المجرد لابن فورك (ص: 45) .(1/445)
صفات الفعل لله تعالى كما يشاء، يقول الأشعري عن ابن كلاب:"وكان ويزعم أن الباري لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق، وأنه على مالم يزل، وأنه مستو على عرشه كما قال، وأنه فوق كل شيء تعالى" (1) ، ولو أخذت العبارات الأولى لتوهم أن ابن كلاب ينفي العلو والاستواء لنفيه الزمان والمكان قبل الخلق وانه بعد الخلق على مالم يزل، لكن إثباته للإستواء والعلو ففي هذا التوهم، ولكن من مجموع الكلام يتضح مذهبه في نفي أن تكون لله صفة اختيارية.
4- نفيه لبعض صفات الفعل أن تكون من هذا النوع، يقول الأشعري: "وقال ابن كلاب: الوصف لله بأنه كريم ليس من صفات الفعل" (2) ، ولا شك أن الله كريم أزلا، لكن أيضا يتكرم على عباده بما يشاء كما يشاء متى شاء فهو أيضا صفة فعل.
5- جعله ولاية الله وعداوته ورضاه وسخطه من صفات الذات لا من صفات الفعل (3) ، وهذا معنى قوله: إنها أزلية.
6- قوله في مسألة الكلام، وجعله مثل صفة العلم والقدرة، يقول الأشعري: " وقال ابن كلاب: ان الله لم يزل متكلما، والكلام من صفات النفس كالعلم والقدرة" (4) ، ويقول:"إن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به" (5) .
ومن خلال الأدلة والنقول السابقة عن ابن كلاب يتبين أن ابن كلاب- مع مخالفته للمعتزلة- قد التزم هذا الأصل وقال به، وهذا ما لم يمار فيه أحد من الباحثين (6) .
_________
(1) المقالات (ص:298- 299) .
(2) نفس المصدر (ص: 179) .
(3) نفسه (ص: 582) .
(4) نفسه (ص:517) .
(5) نفسه (ص: 584) .
(6) انظر: نشأة الفكر الفلسفي للنشار (1/217) ، ونشأة الأشعرية وتطورها (ص:42) وما بعدها، ورسالة: الكلابية وأثرها في المدرسة الأشعرية (ص: 87) - ط على الآلة الكاتبة-.(1/446)
هذه أهم مسألة تميز بها مذهب ابن كلاب، وقد تلقاها عنه تلاميذه كما تلقاها بعد ذلك الأشاعرة وصارت جزءا من مذهبهم، وقد كانت من أهم الأسباب في موقف علماء السلف من الكلابية ورميهم بالابتداع والأمر بهجرهم، كما كانت أيضا من أهم الأسباب في عدم قبول مذهب الأشعرية والطعن فيه من جانب علماء السلف.
ج- قوله في الكلام والقرآن:
بنى ابن كلاب قوله على الكلام والقرآن فى نفي الصفات الاختيارية لئلا يقال: إن الله تعالى تحل فيه الحوادث، لذلك قال بأزلية الكلام وأنه قائم بالله كالعلم والقدرة، وأنه ليس بحروف ولا أصوات ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وأنه معنى واحد، وأن القرآن الذى يتلى هو حكاية عن كلام الله مع قوله: إن القرآن غير مخلوق، يقول الأشعري مفصلا مذهبه في ذلك: "قال عبد الله بن كلاب: إن الله سبحانه لم يزل متكلما، وأن كلام الله سبحانه صفة له قائمة به، وأنه قديم بكلامه، وأن كلامه قائم به، كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وأن الكلام ليس بحروف ولا صوت، ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وأنه معني واحد بالله عز وجل، وأن الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القرآن، وأنه خطأ أن يقال: كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره، وأن العبارات عن كلام الله سبحانه تختلف وتتغاير، وكلام الله سبحانه ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله عز وجل يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير، وانما سمى كلام الله سبحانه عربيا لأن الرسم الذى هو العبارة عنه (1) - وهو قراءتهـ عربي، فسمى عربيا لعلة، وكذلك سمى عبرانيا لعلة، وهي أن الرسم الذي هو
_________
(1) المشهور أن ابن كلاب يقول عن القرآن: إنه حكاية عن كلام الله، وأن الأشعري منع من ذلك وقال: هو عبارة عن كلام الله، انظر: المجرد لابن فورك (ص: 60) ، ومجموع الفتاوي (12/272) ، والتسعينية (ص: 87) ، ومختصر الصواعق (2/290) .(1/447)
عبارة عنه عبراني، وكذلك سمى أمرا لعلة وسمى نهيا لعلة، وخبرا لعلة، ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي لها سمى كلامه أمرا، وكذلك القول في تسمية كلامه نهيا وخبرا، وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرا أو لم يزل ناهيا، وقال: إن الله لا يخلق شيئا إلا قال له كن، ويستحيل أن يكون قوله كن مخلوقا" (1) .
وهذا النص الطويل يوضح كيف كان مذهب ابن كلاب في هذه المسألة العظيمة- مسألة كلام الله والقرآن- منحرفا عن مذهب السلف، وكيف تأثر به الأشعرية فيما بعد، مع ملاحظة الفرق بينه وبينهم في هذه المسألة فإنه قال هنا: " ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمي كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي لها سمي كلامه أمرا ... الخ، فهو يقول: إن كلام الله لا يتصف بالأمر والنهي والخبر في الأزل، وان هذه الأمور حادثة مع قدم الكلام، أما الأشعرية فيقولون بأزلية الكلام النفسي وكذلك وصفه بكونه أمرا أو نهيا أو خبرا كل ذلك أزلى، وقد أشار السبكي الى هذه المسألة في ترجمته لابن كلاب فقال:" ثم زاد هو وأبو العباس القلانسي على سائر أهل السنة فذهبا الى أن كلامه تعالى لا يتصف بالأمر والنهي والخبر في الأزل؛ لحدوث هذه الأمور وقدم الكلام النفسي، وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال فألزمهما أئمتنا أن يكون القدر المشترك موجودا بغير واحد من خصوصياته" (2) ، ويقصد السبكي بأهل السنة الأشعرية.
وابن كلاب يقول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق (3) ويرد على المعتزلة في ذلك، لكنه ينكر أن يتكلم الله بصوت، كما يقول: إن كلام الله معني واحد قائم بذات الله تعالى، و "ان ما نسمع التالين يتلونه هو عبارة عن كلام الله عز وجل، وان موسى عليه السلام سمع الله متكلما بكلامه، وأن معنى قوله:
_________
(1) المقالات (ص: 584- 585) .
(2) طبقات السبكي (2/300) ، وانظر: أصرل الدين للبغدادى (ص: 108) ، والإرشاد للجويني (ص:119-120) ، ونهاية الإقدام (ص: 303-4 30) ، والمجرد (ص: 328) .
(3) المقالات (ص: 298) .(1/448)
{فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]- معناه: حتى يفهم كلام الله ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه حتي يسمع التالين يتلونه " (1) ، ولا شك أن إنكاره أن كلام الله بصوت، قوله إنه معنى واحد، وان القرآن عبارة عن كلام الله، كل ذلك مما أحدثه ابن كلاب وهو مخالف لمذهب السلف.
وهذه المسألة- مسألة كلام اللهـ مرتبطة بالمسألة السابقة مسألة الصفات الاختيارية وبسببهما أعلن السلف البراءة من مذهبهم هذا، وهجروهم ونسبوهم إلى الاعتزال والابتداع.
د- رأيه في أحكام الصفات:
يقصد بأحكام الصفات ما يتعلق بها من أمور كالقدم وهل الصفة هي الذات أو غيرها، وهل هي متغايرة أم لا؟:
1- يرى ابن كلاب أنه لا ينبغي أن يقال عن صفات الله وحدها إنها قديمة، وإنما يقال: الله بصفاته قديم (2) ، وابن كلاب أراد الهرب من القول بتعدد القدماء مع الله حين يطلق على كل صفة لوحدها أنها قديمة، وهذا يبين وجه التهمة التي اتهمه بها خصومه من انه يدعو إلى النصرانية سرا، فنفاة الصفات اتهموه بذلك لإثباته الصفات لله، وهذا كذب عليه كما سبق.
2-كما يرى أن الصفات والأسماء لا يقال هي الله ولا هي غيره وانها قائمة بالله تعالى (3) ، وهذا القول موافق لمذهب السلف لأن إطلاق أحد الأمرين يحتمل معنى باطلا، ومن ثم فلابد من الاستفصال (4) .
3- أما مسألة كل صفة وهل هي الصفة الأخرى أو غيرها فيرى ابن كلاب "أن صفات الباري لا تتغاير، وأن العلم لا هو القدرة ولا غيرها،
_________
(1) المقالات (ص:585) .
(2) انظر: منهاج السنة (2/391) - ت رشاد سالم- ط الأولى.
(3) المقالات (ص: 169 وص: 546) .
(4) انظر: درء التعارض (2/270) .(1/449)
وكذلك كل صفة من صفات الذات لاهي الصفة الأخرى ولا غيرها" (1) ، وهذا قول موهم، فابن كلاب وان قصد بهذا ماقصده في الفقرة السابقة من أن الصفات لا يقال هي الله ولا غيره حتي لا يتعدد القدماء، الا أنه بقوله: إنه لا يقال الصفة هي الأخرى ولا غيرها يقرب قليلا من أقوال النفاة الذين يرجعون صفات الله كلها إلى صفة واحدة كالعلم أو الإرادة، ولهذا لما نقل الأشعري مقالة أبي الهذيل العلاف المعتزلي في هذه المسألة قال: " وأما أبو الهذيل من المعتزلة فإنه أثبت العزة والعظمة والجلال والكبرياء، وكذلك في سائر الصفات التي يوصف بها لنفسه وقال: هي الباريء، كما قال في العلم والقدرة، فإذا قيل له: العلم هو القدرة؟ قال: خطأ أن يقال هو القدرة، وخطأ أن يقال هو غير القدرة، وهذا نحو ما أنكر من قول عبد الله بن كلاب" (2) . والشاهد من هذا عبارة الأشعري الأخيرة.
هـ- الرؤية:
يثبت ابن كلاب الرؤية كما أثبتها أهل السنة (3) ، ويبني ذلك على أن كل قائم بنفسه يرى (4) ، وابن كلاب يثبت العلو والاستواء ولذلك لا يرد على إثباته للرؤية ما ورد على متأخري الأشعرية الذين أثبتوا الرؤية ونفوا العلو والاستواء (5) .
و القضاء والقدر:
ذكر الأشعري أن ابن كلاب يقول فيه بقول أهل السنة وهو اثبات القدر
_________
(1) المقالات (ص: 170 وانظر: ص 546) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 177) .
(3) المصدر نفسه (ص:298 مع ص 292) .
(4) انظر: المجرد لابن فورك (ص: 333) ، وأصول الدين للبغدادي (ص: 97) ، ومنهاج السنة (3/254) - ت رشاد سالم-.
(5) انظر: الكلابية وأثرها في المدرسة الأشعرية (ص: 222) وما بعدها، والعجيب أن الباحث حرص على أن يقول إن ابن كلاب لا يقول بالجهة ليكون موافقا لمتأخري الأشعرية.(1/450)
من الله تعالى، لكن سياق الأشعري لمذهب أهل السنة في القدر ليس دقيقا (1) ، وقد أوضح البغدادي جانبا من مذهب ابن كلاب في القدر فقال:"قال شيخنا أبو محمد عبد الله بن سعيد: أقول في الجملة: إن الله أراد حدوث الحوادث كلها خيرها وشرها، ولا أقول في التفصيل: انه أراد المعاصي وان كانت من جملة الحوادث التي أراد حدوثها، كما أقول في الجملة عند الدعاء: ياخالق الأجسام ولا أقول في الدعاء يا خالق القرود والخنازير والدم والنجاسات، وان كان هو الخالق لهذه الأشياء كلها" (2) ، وهذا موافق لقول أهل السنة.
أما مسألة الكسب فلم تذكر المصادر أن له كلاما فيه، والمشهور أن هذه المسألة مما أحدثه وقال به الأشعري من بعد.
ز- الإيمان:
أول مسائل الإيمان تعريفه، ويذهب ابن كلاب إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان والمعرفة، يقول البغدادي: " وكان عبد الله بن سعيد يقول: ان الإيمان هو الإقرار بالله عز وجل وبكتبه وبرسله إذا كان ذلك عن معرفة وتصديق بالقلب، فإن خلا الإقرار عن المعرفة بصحته لم يكن إيمانا" (3) ، ويقول السبكي مبينا رأي ابن كلاب وأنه لا يخالف قول الأشعرية انه التصديق: " انه إقرار باللسان والمعرفة وهذا المذهب يعزي إلأى عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان من أهل السنة والجماعة على الجملة، وله طول الذيل في علم الكلام وحسن النظر، ولم يتضح لي بعد شدة البحث انفصال مذهبه عن مذهب القائلين بأنه التصديق، فإن الإقرار باللسان والمعرفة يستدعي سبق المعرفة ... " (4) ،
_________
(1) لأنه لما ذكر عموم مشيئة الله تعالى قال:"وقالوا ان أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، وهذه حكاية عنهم بحسب ما يعتقده هو وليس مذهبا لهم.
(2) أصول الدين (ص: 104) .
(3) أصول الدين (ص: 149) .
(4) طبقات السبكي (1/95) .(1/451)
والسبكي يريد أن لا يجعل ابن كلاب مخالفا لجمهور الأشعرية، وهناك فرق بين من يجعل الإيمان هو التصديق فقط ومن يضيف إليه الإقرار باللسان، كما أن هناك فرقا بين مذهب هؤلاء ومذهب السلف الذين يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان. ويرى ابن كلاب-كما يرى جمهور أهل السنة- صحة إيمان المقلد وأنه يحكم له بالإسلام (1) ، وكذلك مذهبه في مرتكب الكبيرة (2) .
هذه أهم آراء وأقوال ابن كلاب كان المصدر في عرضها الكتب الناقلة لمذهبه سوى بعض النصوص القليلة من كتبه في اثبات العلو والاستواء، وبها يتبين كيف كان ابن كلاب شيخا للأشعري، وأن المسائل الكبرى التي ميزت المذهب الأشعري- كمسألة الصفات الاختيارية والكلام- قد سبقهم إليها ابن كلاب، وهذا يفسر جانبا من جوانب نشأة المذهب الأشعري، تسبق وجود أبي الحسن نفسه.
وليس هذا في مذهب ابن كلاب نفسه، بل في مدرسته التى سار على طريقه فيها علماء آخرون، كالمحاسبي والقلانسي وغيرهما.
ثانيا: الحارث المحاسبي:
أ- ترجمته:
هو الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي (3) ، أبو عبد الله، ولد بالبصرة ولكنه انتقل إلى بغداد وعاش فيها، وكانت ولادته سنة 165 هـ تقرييا، أما وفاته فقد كانت سنة 243 هـ.
_________
(1) انظر: أصول الدين (ص: 254) .
(2) انظر: المقالات (ص: 298 مع ص: 293) .
(3) انظر: في ترجمته: طبقات الصوفية (ص: 56) ، والحلية (10/73) ، وتاريخ بغداد (8/211) ، والرسالة القشيرية (1/78) ، والأنساب (12/103) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/8) ، والكامل (7/84) ، وميزان الاعتدال (1/430) ، والسير للذهبي (12/110) ، ووفيات الأعيان (2/57) ، والوافي (11/257) ، وطبقات السبكى (2/275) ، وتهذب الكمال للمزى (5/208) - المطبوعة- وتهذيب التهذيب (2/134) ، والبداية والنهاية (10/330- 331،345) ، والطبقات الكبرى للشعراني (1/64) وغيرها.(1/452)
وقد حظى المحاسبي- نظرا لاشتهاره بالتصوف- بترجمات عديدة في كتب الرجال والتراجم والطبقات (1) ،كما أفردت عنه دراسات (2) ، وهذا ما لم يحظ به ابن كلاب والقلانسي وغيرهما من الكلابية.
ويمكن الإشارة إلى لمحات في حياته:
1- كان أبوه رجلا موسرا، ولكنه لم يكن على وفاق مع ابنه في المذهب الكلابي، والمشهور أن أباه كان قدريا يقول بقول المعتزلة في القدر (3) ، وقيل بل كان واقفيا (4) ، أي يتوقف في مسألة القرآن فلا يقول: هو مخلوق ولا غير مخلوق، وشذ السبكي فقال: إن أباه كان رافضيا (5) ، وكان من آثار ذلك ما ورد من قصة الحارث معه حين دعاه أمام الناس إلى أن يطلق أمه، وكذلك لما توفى لم يأخذ من تركته شيئا لهذا السبب، وقد كان مبعث هذا أنه يرى كفر المعتزلة.
2- كان المحاسبي ذا صلة بأهل الحديث، وقد روى عن جماعة منهم (6) ، والظاهر أنه انصرف عن ذلك بانشغاله في التصوف والتأليف فيه، ومع ذلك فقد ترجم في كتب الرجال، وقال فيه الذهبي: " صدوق في نفسه
_________
(1) كما سجل هو نفسه عرضا مختصرا لأحواله قبل سلوكه طريق التصرف، انظر الوصايا (ص: 59-64) .
(2) منها دراسة لعبد الحليم محمود بعنوان: أستاذ السائرين، ولم تكن ترجمة بقدر ماكانت دعوة الى التصوف على طريقته في مؤلفاته، ومنها دراسة حسين القوتلي في مقدمته لتحقيق كتاب المحاسبي العقل وفهم القرآن، وهي دراسة جيدة وعميقة وان كانت لا تخلو من ملاحظات عليها.
(3) انظر: الرسالة للقشيري (1/78) ، والوفيات (2/57) ، والتعرف للكلاباذي (ص: 147) .
(4) انظر: تاريخ بغداد (8/241) ، والوافي (11/257) ، والسير (12/1102) .
(5) انظر: الطبقات (2/277) .
(6) انظر: تهذيب المزى (5/218) ، وتهذيب التهذيب (2/134) ، ومقدمة تحقيق العقل وفهم القرآن (ص: 13-18) .(1/453)
وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه" (1) ،وقال فيه ابن حجر"مقبول" (2) وليست له رواية عن أحد من أصحاب الكتب الستة.
3- كان معارضا للفرق المنحرفة في عصره وخاصة المعتزلة والرافضة، والجهمية، والخوارج والمرجئة (3) ، وأشد مواقفه ماكان مع المعتزلة، وقد رد عليها طويلا في كتابه (فهم القرآن) ، كما لم تخل كتبه الصوفية من فضح لأحوالهم وغرورهم، ومن ذلك قوله فيهم:" فرقة ضالة مضلة، لا تفطن لضلالتها، لاتساعها في الحجاج، ومعرفتها بدقائق مذاهب الكلام، وحسن العبارة بالرد على من خالفها، فهم عند أنفسهم من القائلين على الله عز وجل بالحق، والرادين لكل ضلالة، لا أحد أعلم منهم بالله، ولا أولى به منهم، وكل الأمم ضالة سواهم، وان الله عز وجل لا يعذب مثلهم، بل لاينجو أحد في زمانهم غيرهم، وغيرهم من المغترين يدعي ذلك وينتحله، ويشهد عليهم بالاكفار. فهم فرق كثيرة كفر بعضها بعضا، وكل فرقة منها مغترة، لاترى أن أحدا يقول عليه بالحق غيرها" (4) ، والمحاسبي الذى يقول هذا الكلام ممن عاصر محنة القول بخلق القرآن، من أولها الى نهايتها، فهو خبير بأحوالهم، ولذلك لم يوافق على القول بخلق القرآن، إن لم ينله فيها ما نال أئمة أهل السنة من المحنة (5) .
4- ترك المحاسبي مجموعة من المؤلفات، وغالبها ذو صبغة صوفية، ولذلك عني بنشرها من لهم اهتمام بهذا الشأن، ومن كتبه:
_________
(1) ميزان الإعتدال (1/130) .
(2) التقريب (1/139) .
(3) انظر: الرعاية للمحاسبي (ص: 97) ، والمكاسب (ص:108-109) ، وفهم القرآن (ص: 333) .
(4) الرعاية (ص: 358) .
(5) وقد تساءل هذا التساؤل عبد القادر عطا. انظر مقدمة تحقيق آداب النفوس (ص: 13) ، والمكاسب (ص: 13) ، وقد أجاب عن ذلك بأن العداء الذي وقع بينه وبين الإمام أحمد جعل السلطة ترى أنه لا خطر من المحاسبى، ويمكن أن يضاف الى هذا أن المحاسبي كان كلابيا يميل الى النفي لبعض الصفات وهذا قربه من المعتزلة.(1/454)
- رسالة المسترشدين، حققها عبد الفتاح أبو غدة.
- الرعاية لحقوق الله عز وجل، طبع عدة مرات آخرها بتحقيق عبد القادر عطا
- المسائل في الزهد.
- المسائل في أعمال القلوب والجوارح.
- المكاسب [طبع بتحقيق محمد عثمان الخشت باسم الرزق الحلال] .
- العقل، وهذه الأربعة نشرها جميعا عبد القادر عطا، ثم طبع المكاسب مستقلا، كما طبع الزهد بتحقيق مصطفى عبد القادر عطا.
- التوبة، تحقيق عبد القادر عطا.
- النفوس، طبع بتحقيق عبد القادر عطا.
- النصائح الدينية، طبع باسم الوصايا، تحقيق عبد القادر عطا.
- القصد والرجوع الى الله، طبع مع الكتاب السابق.
- من أناب إلى الله، طبع مع كتاب الوصايا.
- الصلاة- طبع مع كتاب الوصايا، كما طبع بتحقيق " محمد عثمان الخشت"
- التوهم، طبع عدة مرات، ومنها طبعة مكتبة النهضة الإسلامية طبعة دار الوعي بحلب، وبتحقيق عبد القادر عطا مع مجموع" الوصايا"
- فهم القرآن، طبع مع كتاب العقل بتحقيق شكرى القوتلي.
- كتاب العلم، طبع تحقيق محمد المعابد مزالي.
- البعث والنشور، طبع بتحقيق محمد عيسى رضوان.
- معاتبة النفس، طبع مع الكتاب السابق.(1/455)
وكتاب فهم القرآن هو الذي يحوي بعض آراء المحاسبي الكلامية، وعليه اعتمد شيخ الإسلام ابن تيمية في نقل أقواله (1) .
5- وأبرز قضية في حياة المحاسبي هجر الإمام أحمد له، وأمره الناس بهجره حتى انه لما مات لم يصل عليه إلا أربعة نفر، وقل من يترجم له إلا ويتعرض لهذه المسألة، ومن أهم أسباب ذلك دخوله في علم الكلام وموافقته لبعض أقوالهم وكلامه في التصوف.
مذهب الحارث وأقواله:
يعتبر الحارث من متقدمي أهل الكلام الذين عاصروا أئمة أهل السنة، ووقفوا معهم ضد كثير من أقوال المعتزلة وخاصة في مسائل القرآن وأنه غير مخلوق، والقدر والوعد والوعيد، كما وقفوا معهم ضد الطوائف الأخرى المنحرفة، ولذلك فالمحاسبي ومن في طبقته أكثر إثباتا وأحسن اتباعا ممن جاء بعدهم كالأشعري وطبقته.
ولكن مع موافقته لأهل السنة في ذلك إلا أن في أقواله ما يخالف منهجهم من جانبين، أحدهما: التصوف، والآخر: آراؤه في العقيدة، وفي كل من الجانبين كان المحاسبي شيخا للأشعرية كما يقول البغدادي (2) .
- التصوف عند المحاسبي:
أما الجانب الأول فقد كان المحاسبى أحد رواده الكبار، الذين كونوا مدرسة كبرى ربطت بين الكلام والتصوف فيما بعد. وهذا من أبرز ماطرأ على المذهب الأشعري من تطور-كما سيأتي إن شاء اللهـ.
_________
(1) انظر: درء التعارض (2/45) ، فقد نقل منه نصوصا، كما أشار إليه في مجموع الفتاوي (5/557) .
(2) يقول البغدادي في أصول الدين (ص: 208-209) " وعلى كتب الحارت ابن أسد في الكلام والفقه والحديث معول متكلمي أصحابنا وفقهائهم وصوفيتهم".(1/456)
وحتى تتضح الصورة بالنسبة لتصوفه لابد من الإشارة إلى ما يلي:
1- أن تصوف المحاسبي لم يكن كتصوف غيره في الغلو والانحراف، بل كان كثيرا ما يشير إلى وجوب الالتزام بالكتاب والسنة، ومتابعة الشرع، وإذا كان المحاسبي يركز على أعمال القلوب وخطرات النفوس، ومسائل تتعلق ببواطن الأعمال ومقاصد الإنسان فيها كالنية، والمراقبة، والتوكل، والتيقظ، والعجب، والرياء، والحسد وغيرها- ويطيل الكلام في كل واحدة منها بما ير اه من وسائل إصلاح النفس- الا أنه يأمر مع ذلك باتباع الشرع بفعل الأوامر واجتناب النواهي، يقول في آداب النفوس:"ثم اعلم يا أخي أن الله جل ذكره قد افترض فرائض ظاهرة وباطنة، وشرع لك شرائع، دلك عليها، وأمرك بها، ووعدك على حسن أدائها جزيل الثواب، وأوعدك على تضييعها أليم العقاب رحمة لك، وحذرك نفسه شفقة منه عليك، فقم يا أخي بفرائضه، والزم شرائعه، ووافق سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، واتبع آثار أصحاب نبيه والزم سيرتهم، وتأدب بآدابهم واسلك طريقهم ... " (1) ويقول عن أول منزلة من الرعاية لحقوق الله عز وجل أنها: "الرعاية عند الخطرات، بعد اعتقاد جمل حقوق الله تعالى، فلا تخطر بقلبه خطرة من أعمال قلبه الا جعل الكتاب والسنة دليلين عليها، فلم يقبلها باعتقاد الضمير، ولا يتركها يسكن قلبه في مجال الفكر من التمني وغيره، الا أن يشهد له العلم أن الله تعالى قد أمر بها وندب إليها أو أذن فيها بأسبابها وعللها ووقتها وإرادته فيها؛ فإنه قد يقبل الخطرة يرى أنها داعية الى سنة وهي بدعة، وقد يرى أنها داعية إلى طاعة وهي معصية، وقد يرى أنها داعية إلى خير وهي شر ... " (2) وكثيرا ما يذكر الأدلة على بعض الأمور التي يذكرها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة (3) .
_________
(1) آداب النفوس (ص: 38) .
(2) الرعاية (ص: 96) .
(3) انظر: رسالة المسترشدين (ص: 36) وما بعدها.(1/457)
ولذلك شنع المحاسبي على بعض متصوفة عصره وانحرافاتهم، فذكر أنواعا من غرورهم بما عندهم وعدم مطابقة أقوالهم وقال بعد كلام طويل عنهم:"وإنما أطلت الوصف في هذه الفرقة لأنها عظيمة غرتها، قد غلب ذلك على كثير ممن يتعبد ويرى أنه من النساك العاملين لله عز وجل" (1) ،كما يرد على الذين يقعد بهم توكلهم الى التواكل وترك الكسب والعمل مثل شقيق البلخي الذي زعم أن الحركة في الكسب معصية (2) ، بل-رد على من زعم أن القعود وترك العمل أفضل من الحركة، ويفصل رده عليهم من وجوه (3) ، ثم يعرض لأقوال العلماء في مسائل عملية كثر الجدال حولها مثل الورع وحده، والعزلة عن الناس ومجانبتهم، والشبهة ومعناها، وجوائز السلطان، وغير ذلك (4) ، وقد عرض لهذه المسائل بشكل جيد، كما رد على بعض الصوفية الذين يبيحون لأنفسهم بعض المحرمات مثل النظر المحرم ويرد حججهم الباطلة (5) ،كمايرد على بعض الصوفية الذين يقولون بإيمان فرعون (6) .
2- يركز المحاسبي على مسألة " العقل"، وله كتاب في ذلك، وهو
وإن كان يميل إلى أقوال أهل الكلام إلا أنه يركز في مسألة " العقل" على ربطه بأعمال القلوب وأن الذى عقل عن ربه هو الذى يخافه ويعظمه، ولذلك ذكر معاني العقل الواردة فيه وهي:
أ- انه " غريزة جعلها الله عز وجل في الممتحنين من عباده، أقام به على البالغين للحلم الحجة ... " (7) .
_________
(1) انظر: الرعاية (ص: 455) .
(2) انظر: الكسب (ص: 61) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 64) .
(4) انظر: الكسب (ص: 68) وما بعدها.
(5) انظر: المسائل في أعمال القلوب والجوارح (ص: 163) .
(6) انظر: فهم القرآن (ص: 336) .
(7) العقل مطبوع مع فهم القرآن (ص: 203) .(1/458)
ب- والمعنى الثاني: أنه "الفهم لإصابة المعنى، وهو البيان لكل ماسمع من الدنيا والدين أو مس أو ذاق أو شم، فسماه الخلق عقلا، وسموا فاعله عاقل" (1) .
ج- والمعنى الثالث: هو البصيرة والمعرفة بتعظيم قدر الأشياء النافعة والضارة في الدنيا والآخرة، ومنه العقل عن الله تعالى" (2) ويستمر في شرح ذلك مركزا على جوانب من أحوال النفس وخطراتها من الخوف واليقين، وحسن البصر بدين الله، وما يتعلق بذلك.
فالمحاسبي بهذا التركيز على هذه الجوانب دون غيرها مما يتعلق بأمور العقيدة والإيمان، ومعرفة سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأحكام الشريعة، انما يفتح الطريق لمنهج سلوكي صوفي قد لايقف عند حد معين.
3- أدى التصوف بالمحاسبي الى أن تكون له مواقف من علماء عصره من أهل الحديث والفقه ينعي فيها اهتمامهم بهذه الأمور وتركيزهم عليها، يقول عنهم:"فأما المغترون بالعلم فهم فرق شتى على قدر منازلهم فيه، فمنهم: فرقة تغتر بكثرة الرواية وحسن الحفظ مع تضييع واجب حق الله عز وجل، وتخيل نفس أحدهم اليه وعدوه أن مثله لا يعذب لأنه من العلماء دائمة العباد الحافظين على المسلمين علمهم ... والفرقة الثانية: يغتر أحدهم بالفقه في العلم بالحلال والحرام، وبالبصر في الفتيا والقضاء، فهو يغتر كغرة الحافظ للعلم وأعظم منه غرة حتي لا يرى أن أحدا أعلم بالله عز وجل منه لأنه قد علم الحلال والحرام والفتيا والقضاء000" (3) ، وإذا كان في عصر المحاسبي قد يوجد من تكون فيه مثل هذه الصفات التي ذكرها إلا أن ما يعترض عليه أسلوبه في العرض حين يقول بعد كلامه حول طرق نفي الاغترار عند أهل الحديث: "فإذا ألزم قلبه ذلك انتفت عنه الغرة بما حفظ من العلم، واهتم بطلب معانيه والتفكر فيه والقيام
_________
(1) العقل مطبوع مع فهم القرآن (ص: 208) .
(2) المصدر نفسه (ص:210) .
(3) الرعاية (ص:441-445) .(1/459)
به، فلم يغتر بما حفظ، وعد نفسه جاهلا بالعلم بعد حفظه له، وأسوأ حالا ممن لم يحفظه ولم يدرسه ولم يروه" (1) .
فالمحاسبي بهذا الكلام إنما يرسم منهجا ارتضاه وينتقد من خالفه، ولو كان من أهل الحديث والسنة، ولاشك أن هؤلاء هم الذين حفظوا للأمة الحديث النبوى وميزوا صحيحه من ضعيفه، وفي هذا من الجهاد والطاعة والعمل الصالح والتقرب إلى الله عز وجل والمنزلة عنده مالا يبلغه زهد الزاهدين وعزلتهم.
وقد عاب المحاسبي في كتاب العلم من يهتم بالفقه ومعرفة الحلال والحرام فيما يتنازع الناس فيه فقال:"أما ما تولد من ذلك [أى من أحكام الحلال والحرام] لتنازع الناس وتجاذبهم للدنيا فقد يستغنى عنه بعض الناس إذا قام به الغير، وقد يكون الرجل في جميع عمره لا تنوبه مسألة من بعض تلك المسائل" (2) ، ثم بعرضه منهجه ونقده لهم بقوله:"فلو أن رجلا تبحر في نحو هذه المسائل وغاص في فنونها فقيل له: ما النية؟ وما عزيمتها؟ وأى شيء محلها من القلب؟ وماذا يدخل عليها من الفساد من قبل النفس ومن قبل العدو؟ أو قيل له: ما الورع؟ عجز عن جوابه، فللورع منازل يحتاج إلى معرفتها، فهذه أصول من أصول الدين التي يحدث فيها عند منازعة النفس وادخالها فها ماليس ينبغي أن يدخل فيها بتفرع القول فيها أكثر من تفرعه في الحلال والحرام، وهو أولى في التعليم والحفظ على الأمة من ذلك 000" (3) ، ويقول في موضع آخر:"فاتق الله ياعبد الله ولا تدع العلم بمعرفة الفتيا فإن العلم هو العلم بالله عز وجل" (4) ، ويدعو الى أتباع آثار الصوفية الذين هم الخاصة ويأمر بسلوك طريقهم (5) .
_________
(1) الرعاية (ص: 444- 445) .
(2) العلم (ص: 86) .
(3) المصدر السايق (ص: 86-87) .
(4) المصدر نفسه (ص: 92) .
(5) انظر: فهم القرآن (ص: 267-. 27) .(1/460)
وقد فسر محقق كتاب العلم هذا الهجوم بأنه موجه من المحاسبي الى الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه (1) ، وسواء قصد المحاسبى الإمام أحمد أو لم يقصده فواضح من أقواله أنه يقصد طائفة من أهل الحديث الذين عنوا بالروايات ونقلها وتمحيصها وإفتاء الناس على ضوئها.
وبذلك يتضح أن تصوف المحاسبي ومنهجه مائل عن منهج أهل السنة الذي يقوم على الوسطية والتوازن والجمع بين العلم والعمل.
أقواله في العقيدة:
ترد أقوال المحاسبى في الغالب مقرونة برأي ابن كلاب، ولذلك فهما متقاربان في كثير من مسائل العقيدة، ولذا سيقتصر الكلام هنا على بعض أقواله التي ذكرها في كتابه (فهم القرآن) .
ا- إثباته للصفات:
يصف المحاسبي من يمتدحهم من الخاصة بأنهم "وصفوه بصفاته الكاملة ونزهوه من كل مالا يليق" (2) ، فهو يثبت الصفات بإجمال، وسيتضح أنه ينفي منها مايتعلق بمشيئة الله من الصفات الاختيارية.
كما يثبت أن القرآن كلام الله " إذ تكلم الله عز وجل به تكليما من نفسه من فوق عرشه، من فوق سماواته" (3) .
ويقرر أن الصفات لا يجوز نسخها فيقول:" لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله جل ثناؤه ولا صفاته ولا أسماءه يحوز أن ينسخ جل وعز وصف نفسه بصفاته الكاملة ومدح نفسه بمدحه الطاهرة وبأسمائه الحسنى، فمن أجاز النسخ بها أجاز أن يبدل أسماءه الحسنى فيبدلها قبيحة سوى وصفاته الكاملة
_________
(1) انظر: العلم، المقدمة (ص: 59- 61) .
(2) فهم القرآن (ص: 267) .
(3) المصدر السايق (ص: 302) ، وانظر: (ص: 309) .(1/461)
العلية فيكون دنية ناقصة سفلى، ومدحه الطاهرة فيكون مذمومة دنية، جل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا" (1) .
ويحتج لبعض الصفات بالعقل مع دليل السمع مثل صفة العلم (2) .
2- إثباته للعلو والاستواء:
ذكر أدلة ذلك من نصوص القرآن ورد على الذين يقولون:"إن الله في كل مكان (3) ، ثم قال:" وأما قوله {على العرش استوى} [طه: 5] .. {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18] و {أأمنتم من في السماء} [الملك: 16] و {إذا لابتغوا إلى ذي العرش} بالإسراء: 42] فهذه وغيرها مثل قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] وقوله: {ثم يعرج إليه} [السجدة: 5] ، فهذا مقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء، منزه عن الدخول في خلقه لا يخفي عليه منهم خافية، لأنه أبان في هذه الآيات أن ذاته بنفسه فوق عباده لأنه قال: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك: 16] ،يعني فوق العرش، والعرش على السماء لأن من كان فوق شيء على السماء فهو في السماء، وقد قال مثل ذلك {فسيحوا في الأرض} [التوبة: 2] ، يعني على الأرض، لايريد الدخول في جوفها ... " (4) ويستمر في عرض الأدلة، ويناقش أدلة الحلولية في مسألة المعية وان آية {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} [المجادلة: 7] مبدوءة بالعلم ومختومة به، ويناقش ذلك بشكل موسع وقوي (5) .
_________
(1) فهم القرآن (ص: 332) .
(2) نفسه (ص: 338) .
(3) انظر: فهم القرآن (ص: 6،3-349) .
(4) المصدر السابق (ص: 349- 350) .
(5) انظر: نفس المصدر (ص: 352-356) .(1/462)
3-كما يذكر أن القرآن غير مخلوق ويرد على المعتزلة الذين يسميهم الضلال، ويذكر أدلتهم وينااقشها بالتفصيل (1) .
4- كما يذكر مسألة الوعد والوعيد ويرد على المعتزلة ويذكر مذهب أهل السنة في ذلك ويورد أقوالهم وأقوال الخوارج في مذهبهم في مرتكب الكبيرة (2) ، ويناقش على ضوء ذلك مسألة الشفاعة وكيف أنكرها المعتزلة لقولهم بالوعيد على أهل الكبائر (3) .
5- مذهبه في الصفات الاختيارية:
يوافق المحاسبي ابن كلاب في نفي هذه الصفات، بناء على نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، ونصوص المحاسبي في ذلك واضحة جدا:
أ- يقول عن القرآن وعظمته:"ومن عقل عن الله جل ذكره ما قال فقد استغني به عن كل شيء، وعز به من كل ذل، لا تتغير حلاوته، ولا تخلق جدته في قلوب المؤمنين به على كثرة الترداد والتكرار لتلاوته، لأن قائله دائم لا يتغير، ولا ينقص، ولا يحدث به الحوادث (4) ، وهذا منطلق الكلابية في نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته.
ب- ويقول في مسألة علم الله:"والله جل ذكره لا تحدث فيه الحوادث، لأنا لم نجهل موت من مات أنه سيكون، وكذلك علمنا أن النهار سيكون صبيحة ليلتنا، ثم يكون فنعلم أنه قد كان من غير جهل منا تقدم أنه سيكون، فكيف بالقديم الأزلي الذي لا يكون موت ولا نهار ولا شيء من الأشياء إلا وهو يخلقه ونحن لا نخلق شيئا، وكذلك قوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين} [الفتح: 27] وقوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا
_________
(1) انظر: فهم القرآن (ص: 363) وما بعدها.
(2) انظر: نفس المصدر (ص: 370) وما بعدها.
(3) انظر: نفس المصدر (ص:390) .
(4) انظر: فهم القرآن (ص:307) .(1/463)
مترفيها} [الإسراء: 16] وقوله: {إنما قولنا (1) لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40] ، ليس ذلك ببدء منه لحدوث إرادة حدثت له ولا أن يستأنف مشيئة لم تكن له، وذلك فعل الجاهل بالعواقب الذى يريد الشيء وهو لايعلم العواقب، فلم يزل تعالى يريد ما يعلم أنه يكون، لم يستحدث إرادة لم تكن، لأن الارادات إنما تحدث على قدر مالم يعلم المريد، فأما من لم يزل ما يكون ومالا يكون من خير وشر فقد أراد على علم لا يحدث له بداء إذا كان لا يحدث فيه علم به" (2) ، والمحاسبي يقرر مسألة أزلية صفات الله تعالى لينفي ما يتعلق بمشيئة الله تعالى من صفات الأفعال، ولذلك يقول معلقا على الآية: {إذا اردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل:40] ، وقوله: {وإذا أدرنا أن نهلك قرية..} [الإسراء:16] : "فإنه لم يزل يريد، قبل أن يحدث الشيء أن يحدثه في وقت إحداثه، فلم يزل يريد احداثه في الوقت المؤخر، فإذا جاء الوقت فهو أيضا يريد أن يحدثه فيه، فبإرادته أحدثه في ذلك الوقت الذى فيه أحدثه، فإرادة الله جل وعز دائمة لأنه مريد قبل الوقت الذى يحدث فيه المخلوقات، وفي الوقت الذى أحدثه فيه ... " (3) ، ولا يحتاج هذا الى تعليق سوى التناقض الذى يفيده قوله " فإذا جاء الوقت فهو أيضا يريد أن يحدثه فيه" لأن هذه الإرادة إن كانت هي الإرادة الأزلية فلا فائدة من قوله هذا، وإن كانت إرادة حادثة نقض قوله.
ج- ومما يدل على كلابيته ونفيه الصفات الاختيارية أن تقوم بالله قوله في صفتي السمع والبصر:" وكذلك قوله عز وجل: {إنا معكم مستمعون} [الشعراء:15] ليس معناه احداث سمع، ولا تكلف لسمع مايكون من المتكلم في وقت كلامه، وانما معنى (انا معكم مستمعون) ، {فسيرى الله عملكم} [التوية:94] أي المسموع والمبصر لن يخفي على سمعي ولا على بصرى أن أدركه
_________
(1) في المطبوعة: أمزنا، وهو خطأ.
(2) فهم القرآن (ص:340- ا 34) .
(3) المصدر نفسه (ص: 342-343) .(1/464)
سمعا وبصرا لا بالحوادث في الله جل وعز وتعالى عن ذلك، وكذلك قوله: {اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} [التوبة:105] لا يستحدث بصرا ولحظا محدثا في ذاته تعالى عن ذلك" (1) ، ثم يرد المحاسبي على من خالفه في هذا ممن يثبت لله الصفات الاختيارية فيقول:" وقد ذهب قوم (2) أن لله جل وعز اسماعا حادثا في ذاته، فذهب الى ما يعقل من الخلق أنه يحدث فيهم علة لسمع ما يكون من قول عند سمعه للقول، لأن المخلوق اذا سمع الشيء حدث له عنه فهم عما أدركته أذنه من الصوت، وكذلك ذهب الى أن رؤية تحدث له، قال أبو عبد الله: وهذا خطأ، وانما معنى (سيرى) و (إنا معكم مستمعون) أن المسموع والمبصر لم يخف على عيني ولا على سمعي أن أد ركه سمعا وبصرا لا بالحوادث في الله جل وعز، ومن ذهب الى أنه يحدث له استماع مع حدوث المسموع، وإبصار مع حدوث المبصر فقد أدعى على الله عز وجل مالم يقل ولإنما على العباد التسليم كما قال، وانه عالم سميع بصير ولا يريد مالم يكن، وإنما معني (حتى يعلم) حتى يكون المعلوم، وكذلك حتى يكون المبصر والمسموع، ولا يخفى على الله عز وجل أن يعلمه موجودا ويراه موجودا ويسمعه موجودا بغير حدوث علم في الله جل وعز، ولا سمع ولا بصر، ولا يعني حدوثا في ذات الله، جل الله عن الحوادث في نفسه وتعالى عن البداوات في علمه وإرادته علوا كبيرا" (3) .
ثم يذكر نصوص العلو والاستواء وأن ذلك لا يدل على حلول الحوادث (4) .
وهذه النصوص- وهي من المصادر القليلة التي بقيت من كتب الكلابية - تبين إلى أي حد كان رسوخ هذه المسألة عندهم، حتى ان المحاسبي يجزم
_________
(1) فهم القرآن (ص: 344- هـ 34) .
(2) يقصد الكرامية.
(3) فهم القرآن (ص: 345-346) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص: 346-349) .(1/465)
ويقطع بما يراه ويخطئ من خالفه وكأنها من مسائل أصول أهل السنة المسلمة. وهذا يفسر موقف أهل السنة الصلب من الكلابية وخاصة موقف الامام أحمد -رحمه الله- من الحارث المحاسبي.
- هل رجع الحارث عن قوله؟:
ينسب الكلاباذي الى الحارث المحاسبي قولا في القرآن يخالف قول ابن كلاب، فابن كلاب- كما سبق- يقول: إن كلام الله ليس بحرف ولا صوت، أما الحارث فقد نسب اليه الكلاباذي أنه يقول:"وقالت طائفة منهم: كلام الله حروف وصوت، وزعموا أنه لايعرف كلامه الا كذلك مع إقرارهم أنه صفة الله تعالى، في ذاته غير مخلوق، وهذا قول الحارث المحاسبي" (1) ، فهذا القول قد يدعم ماذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن معمر ابن زياد أن الحارث رجع عن أقواله (2) .
ثالثا: أبو العباس القلانسي:
يرتبط اسم القلانسي بابن كلاب كثيرا، ومع اشتهاره إلا أن كتب التراجم لم تعن بترجمته كما فعلت مع ابن كلاب والمحاسبي، ولذلك فتاريخ ولادة القلانسي ووفاته غير معروفين سوي أنه كان معاصرا لأبي الحسن الأشعري، والذي ذكر ابن عساكر عنه أنه "أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خال القلانسي الرازي، من معاصري أبي الحسن-رحمه الله- لا من تلامذته كما قال الأهوازي، وهو من جملة العلماء الكبار الأثبات، واعتقاده موافق لاعتقاده في الإثبات" (3) .
_________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف (ص: 40) .
(2) انظر: درء التعارض (7/148-149) ، وقد ذكر شيخ الإسلام أن معمر بن زياد ذكر رجوع المحاسبي في ماكتبه عن أخبار شيوخ أهل المعرفة والتصوف، وذكر الدكتور محمد رشاد سالم -رحمه الله- أن لمعمر هذا نسخة خطية في دار الكتب المصرية بعنوان " شواهد التصوف" ورقمها 66 م مجاميع.
(3) تبيين كذب المفتري (ص: 398) .(1/466)
أما البغدادي فقد وصفه بأنه " امام أهل السنة ... الذي زادت تصانيفه في الكلام على مئة وخمسين كتابا" (1) ، وقد أشار البغدادي كثيرا الى أقواله في ثنايا كتابه " أصول الدين ".
وفي كتاب " الأسماء والصفات" للبيهقي نص مهم عن القلانسي ومنزلته وعلاقته بالكلابية، وذلك عند حديثه عن الفتنة التي وقعت بين ابن خزيمة والكلابية من تلامذته كالثقفي والصبغي، يقول البيهقي:" أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا الحسن علي بن أحمد الزاهد البوشنجي يقول: دخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي بالري فأخبرته بما جرى بنيسابور بين أبي بكر ابن خزيمة وبين أصحابه فقال: ما لأبي بكر والكلام؟ إنما الأولى بنا وبه أن لا نتكلم فيما لم نتعلمه، فخرجت من عنده حتى دخلت على أبي العباس القلانسي فقال: كأن بعض القدرية من المتكلمين وقع الى محمد بن إسحاق فوقع لكلامه عنده قبول، ثم خرجت الى بغداد فلم أدع بها فقهيا ولا متكلما إلا عرضت عليه تلك المسائل فما منهم أحد إلا وهو يتابع أبا العباس القلانسي على مقالته، ويغتم لأبي بكر محمد بن اسحاق فيما أظهره" (2) .
والذين ساقوا القصة: كالبيهقي، والبوشنجي كلابية لذلك فهم يرون تخطئة أمام الأئمة ابن خزيمة في موقفه من أصحابه الكلابية، والقصة تدل بالنسبة للقلانسي على:
1- أنه كان مقيما بالري، من المدن الكبرى المشهورة قرب خراسان.
2- أن مقالته كانت منتشرة وأقواله معروفه.
3- أنه كان يقول بقول الكلابية.
_________
(1) أصول الدين (ص: 310) .
(2) الأسماء والصفات (ص: 269) .(1/467)
- ومن أبرز أقواله:
1- أنه يقول بتقديم العلوم النظرية على الحسية خلافا للأشعري (1) .
2-كما أجاز وجود الكلام لما ليس بحي خلافا للاشعرية الذين جعلوا الحياة شرطا في وجود الكلام (2) .
3- وافق ابن كلاب أن الله قديم بقدم بمعنى هو قائم به، خلافا للأشعري
الذى يقول: انه قديم لذاته (3) .
4- وفي صفة اليدين قال القلانسي أن التثنية ترجع الى اللفظ لا الى الصفة (4) ويفسر البغدادي ذلك حين يقول:"وزعم بعض أصحابنا أن اليدين صفتان لله سبحانه وتعالى، وقال القلانسي هما صفة واحدة " (5) .
5- وقال في الاستواء على العرش أن معناه:"كونه فوق العرش بلا مماسة" (6) .
6- أنه يقول: " بوجوب المعارف العقلية على العاقل من جهة العقل" (7) .
7- كما توقف في التفضيل بين على وعثمان (8) .
هذه أهم أقوال القلانسي، ويجعل شيخ الإسلام القلانسي من العراقيين الذين هم أكثر إثباتا من أهل خراسان وإن كان الجميع كلابية فيقول:"كما أن العراقيين المنتسبين الى أهل الإثبات من أتباع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري، وأبي الحسن على بن مهدي الطبري، والقاضي أبي بكر
_________
(1) انظر: أصول الدين للبغدادي (ص:10) .
(2) انظر: المصدر السايق (ص: 29) .
(3) انظر: أصول الدين للبغدادي (ص:89) .
(4) انظر: نقض التأسيس المطبوع (1/80) .
(5) أصول الدين (ص:111) وانظر: المجرد لابن فورك (ص: 326) .
(6) المصدر نفسه (ص: 113) .
(7) نفسه (ص:256) .
(8) انظر: المصدر نفسه (ص: 293-4 30) .(1/468)
ابن الباقلاني وأمثالهم أقرب الى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله، من أهل خراسان المائلين الى طريقة ابن كلاب" (1) .
* * *
هؤلاء هم أهم أعلام مدرسة ابن كلاب قبل الأشعري الذى وافقهم في أبرز أقوالهم مع زيادة في الشرح والتفصيل ولذلك نسب إليه هذا المذهب.
* * *
موقف السلف من الكلابية:
لما كانت موازين علماء أهل السنة ثابتة، ومنطلقاتهم مرتكزة على أساس متين لم تتغير مواقفهم من أهل الأهواء الذين يستحدثون بدعهم في كل زمن. ولذلك حذر السلف من أهل الكلام عموما وردوا بدعهم بل حذروا من علم الكلام الذى دخل منه الجهمية والمعتزلية والقدرية والرافضة وغيرهم.
والكلابية- وان كانوا موافقين لأهل السنة في الرد على الجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم- إلا أنهم تلبسوا بأشياء من أقوال أهل الكلام وبدعهم، ومن ثم ذمهم السلف وحذروا من أقوالهم التي خالفوا فها أهل السنة، وهذه نماذج لمواقف السلف منهم:
أ- موقف الامام أحمد من الكلابية، فقد كان-رحمه الله- معاصرا لزعمائهم ولذلك حذر منهم، ومواقفه من الحارث المحاسبي مشهورة، والإمام أحمد وإن كان لا يعجبه تصوف الحارث الا أن سبب هجره والتحذير منه إنما كان لقوله بأقوال أهل الكلام ويجمع على هذا جميع مترجمي المحاسبي تقريبا (2) ،
والعجب من السبكي حين يجعل موقف الامام أحمد من المحاسبي من كلام الأقران
_________
(1) انظر: درء التعارض (1/270) .
(2) انظر: تاريخ بغداد (4/214) ، والكامل في التاريخ (7/84) ، وميزان الاعتدال (1/430) ، وتلببس إبليس (ص: 162) - منيرية-، وشرح الكوكب المنير (ص: 47) من التصويب، وطبقات الحنابلة (1/62-63) .(1/469)
الذين لا يقبل قول بعضهم في بعض (1) ، ولا شك أن القاعدة التي ذكرها السبكي لها قيمة كبرى في الجرح والتعديل ولكن تطبيقه لها هنا لم يصادف محلا، لأن الإمام أحمد انتقد عقيدة المحاسبي والبراهين واضحة جلية في دخوله علم الكلام وقوله ببعض أقوالهم، ولو سلمت هذه القاعدة بإطلاق لما قبل قول السلف في معاصريهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والقدرية وغيرهم، وهذا مالا يقول به السبكي ولا غيره.
ب- موقف الامام ابن خزيمة:
كان في زمن ابن خزيمة علمان من أعلام الكلابية:
أحدهما: أبو علي الثقفي، وهو شيخ خراسان أبو على محمد بن عبد الوهاب ابن عبد الرحمن بن عبد الوهاب، الثقفي، النيسابوري، الشافعي، الواعظ الزاهد ولد سنة 244 هـ، قال عنه الصبغي:"ما عرفنا الجدل والنظر حتى ورد أبو علي الثقفي من العراق" (2) ، وقال أبو عبد الرحمن السلمي:"كان إماما في أكثر علوم الشرع، مقدما في كل فن منه، عطل أكثر علومه واشتغل بعلم الصوفية وتكلم فيه أحسن كلام" (3) ، وقال عنه البغدادي:"شيخ العلوم على الخصوص والعموم" وقال:"وتصانيف الثقفي ونقوضه على أهل الأهواء زائدة على مئة كتاب" (4) وقال عنه الذهبي:"ومع علمه وكماله خالف الإمام ابن خزيمة في مسائل التوفيق والخذلان، ومسألة الايمان، ومسألة اللفظ، فألزم البيت، ولم يخرج منه الى أن مات وأصابه في ذلك محن" (5) توفى الثقفي سنة 328 هـ (6) .
_________
(1) انظر: الطبقات للسبكي (2/278) ، وقاعدة في الجرح والتعديل (ص: 47) ، والرفع والتكميل (ص: 263) .
(2) سير أعلام النبلاء (15/282) .
(3) طبقات الصوفية (ص: 361) .
(4) أصول الدين (ص:300) .
(5) السير (15/282) .
(6) انظر: في ترجمته اضافة الى المصادر السابقة الرسالة القشيرية (1/164) ، وقال: به ظهر التصوف بخراسان، والأنساب (3/135) وغيرها.(1/470)
والثاني: أبو بكر الصبغي، وهو الإمام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد، النيسابورى الشافعي المعروف بالصبغي، ولد سنة 258 هـ كان يخلف إمام الأئمة ابن خزيمة في الفتوى بضع عشرة سنة، ومن تصانيفه كتاب الأسماء والصفات، وكتاب الايمان، وكتاب القدر، وكتاب الخلفاء الأربعة، وكتاب الرؤية، وكتاب الأحكام، وكتاب الإمامة، توفى سنة 342 هـ (1) ، والعجيب أن ابن فورك الذي رد على كتاب التوحيد لابن خزيمة، رد أيضا على أحد كتب الصبغي وهو كتاب " الأسماء والصفات" (2) . هذان الامامان: الثقفي والصبغي كانا من أخص تلامذة ابن خزيمة، وولكنهما مع إثباتهما للصفات كما يثبتها إلا أنهما يقولان بقول ابن كلاب أن الله لا يتكلم إذا شاء متى شاء وإنما كلامه أزلى، فلما علم بذلك ابن خزيمة ثارت ثائرته وغضب عليهم وعلى من معهم ممن يقول بقولهم، وجرت بينه وبينهم وقائع استتيبوا من قولهم، وهي قصة طويلة ذكرها الحاكم في تاريخ نيسابور، ونقل بعض أحداثها شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي (3) .
ج- أما غير الامام أحمد وابن خزيمة، فأبو عبد الرحمن السلمي كان يلعن الكلابية (4) ، وكذلك أبو نصر السجزى (5) ،وغيرهما (6) .
_________
(1) انظر: في ترجمته: الأنساب (8/33) - ط لبنان-، وسير أعلام النبلاء (15/483) ، وطبقات السبكي (3/9) .
(2) انظر: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك (ص:201) وما بعدها- ط المكتبة المصرية-.
(3) انظر: درء التعارض (2/77) وما بعدها، والسير (14/377) وما بعدها.
(4) عن درء التعارض لابن تيمية (2/82) .
(5) انظر: رسالة الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 87-88) - ط على الآلة الكاتبة-.
(6) انظر: درء التعارض (2/83) .(1/471)
موقف ابن تيمية من الأشاعرة
الجزء الثاني(2/473)
المبحث الثاني: الماتريدية وعلاقتهم بالأشعرية
أولا: الأشعري والماتريدي
بعد الحديث عن الكلابية- شيوخ الأشاعرة - وقبل الحديث عن نشأة المذهب الأشعري لابد من الإشارة إلى نشأة مذهب مشهور نشأ مواكبا لمذهب الأشاعرة، واشتهر كشهرتهم ألا وهو المذهب الماتريدي.
وقد عاصر الأشعري المتوفي سنة 324هـ اثنان من العلماء كان لما كتبوه في العقيدة أثر كبير فيمن جاء بعدهم:
أحدهما: الطحاوي، في مصر (توفي سنة 321هـ) .
والثاني: أبو منصور الماتريدي. في ما وراء النهر (توفي سنة 333هـ) .
أما الطحاوي: فهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك، الأزدي، الحجري، المصري، الطحاوي، الحنفي، ينسب إلى بلدة طحا من أعمال مصر ولد سنة 239هـ وكان في أول أمره شافعيا - لأن خاله المزني، صاحب الشافعي - ثم تحول إلى مذهب أي حنيفة وصار أحد أعلامه في مصر، كما صار أحد أعلام الحديث (1) ، وتوفي سنة 321 هـ، له كتب كثيرة من أهمها:
_________
(1) لابن تيمية رأي في علمه بالحديث فهو يقول عنه: " والطحاوي ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم، ولهذا روي في شرح معاني الآثار والأحاديث المختلفة، وإنما يرجح ما يرجحه منها في الغالب من جهة القياس الذي رأه حجة، ويكون أكثرها مجروحا من جهة الإسناد، لا يثبت، ولا يتعرض لذلك، فإنه لم تكن معرفته بالإسناد كمعرفة أهل العلم به، وإن كان كثير الحديث، فقيها، عالما" (منهاج السنة 4/194) وذكر ابن تيمية هذا بمناسبة مناقشته للرافضي عند ذكره لحديث رد الشمس لعلي- رضي الله عنه - الذي أثبته الطحاوي في مشكل الآثار (2/8-12) ، وقد بين شيخ الإسلام أنه حديث موضوع وتكلم على طرقه بكلام طويل.
انظر: منهاج السنة (4/185-195) - ط بولاق -.(2/477)
شرح معاني الآثار، ومشكل الآثار، والشروط الصغير، والعقيدة، المسماة عقيدة الطحاوي، وتسمي بيان السنة والجماعة (1) ، وهذه كلها مطبوعة كما أن له مؤلفات أخرى ذكرها مترجموه (2) .
وعقيدة الطحاوي تلقاها العلماء بالقبول، حتى قال فيها تاج الدين السبكي - وهو شافعي أشعري جلد: " وهذه المذاهب الأربعة - ولله الحمد - في العقائد واحدة، إلا من لحق منها بأهل الإعتزال والتجسيم. وإلا فجمهورها على الحق يقرون عقيدة أبي جعفر الطحاوي، التي تلقاها العلماء سلفا وخلفا بالقبول " (3) .
وقد اشتهرت هذه العقيدة التي كتبها الطحاوي وشرحها كثيرون (4) ، ولكن غالبية هؤلاء كانوا على مذهب الماتريدية، ولذلك فقد أولوا عبارات الطحاوي وشروحها على وفق مذهبهم، ونقلوا في هذه الشروح أقوال أثمة الماتريدية، بل ردوا على الأشعرية عند شرحهم للمسائل التي خالفوهم فيها (5) .
_________
(1) ذكر صاحب كتاب أبو جعفر الطحاوي وأثره في الحديث (ص: 126) أن من كتب الطحاوي في العقيدة: كتابا في النحل وأحكامها وصفاتها وأجناسها وما ورد فيها من خبر. والظاهر أن قراءته النحل أوقعته في هذا الوهم حيث يدل باقي العنوان على ان المقصود النحل - بالنون المشددة المفتوحة، والحاء المهملة الساكنة - أو أن تكون بالخاء المعجمة.
(2) انظر في ترجمة الطحاوي: طبقات الشيرازي (ص: 142) والأنساب (8/218) ، ط لبنان. وتاريخ ابن عساكر (7/317) ط مجمع اللغة العربية بدمشق، والجواهر المضية (1/271) ، والوافي (8/9) ، وغاية النهاية في طبقات القراءة (1/116) ، وسير أعلام النبلاء (15/27) ،وانظر في مؤلفاته ومخطوطاته بروكلمان (3/161/165) - الطبعة العربية، وسنركين (2/85) ، ط مصر.
(3) معيد النعم (ص: 22-23) .
(4) انظر ما عثر عليه من هذه الشروح في بروكلمان وسزكين - فقرة تراجم الطحاوي السابقة - ومن الشروح التي لم يذكروها شرح لعبد الغني الغنيمي الميداني، الحنفي، الدمشقي، المتوفي سنة 1298 هـ. وهو شرح مطبوع في دار الفكر بدمشق.
(5) مما اطلعت عليه من هذه الشروح التي تنهج هذا المنهج شرح الغنيمي المطبوع. انظر (ص: 57) حول صفة التكوين، و (ص: 7.- 74) حيث رجح في الصفات الخبرية التفويض. و (ص: 99-103) حيث رجح مذهب الماتريدية. ومن هذه الشروح شرح الناصري (بكير التركي الناصري، نجم الدين أبو شجاع، المتوفي سنة 652هـ، ترجمته في الفوائد البهية ص: 56) وشرحه للطحاوية اسمه: النور اللامع والبرهان الساطع، ولا يزال مخطوطا، وهو شرح مطول يعتمد على كتب الماتريدية ومنها كتب الماتريدي نفسه وكتب أبي المعين النسفي، وأبرز ما في هذا= =الشرح فوق تبنيه للمذهب الماتريدي؛ ردوده على الأشاعرة، انظر مثلا: لوحة رقم (5- أ) حول إيمان المقلد - ولوحة (47 - ب) وما بعدها حول صفة التكوين، وانظر لوحة (50) وما بعدها حيث ذكر أسبقية الماتريدية وتميزهم عن الأشعرية، ومن الشروح شرح في جامعة الإمام مخطوطة أصلية مجهولة المؤلف.(2/478)
وقد قيض الله لهذه العقيدة من يشرحها على وفق مذهب السلف- رحمهم الله - وهو الإمام علي بن علي بن أبي المعز الحنفي المتوفي سنة 792 هـ (1) .
وقد انتهج فيه مؤلفه نهجا ممتازا حيث ركز على تقرير مذهب السلف، والرد على من سبقه من الشراح، خاصة في فهمهم وتفسيرهم لبعض عبارات الطحاوي الموهمة، مثل قوله: " وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات " (2) ، حيث فهم بعض الشراح أن الطحاوي يؤول العلو والصفات الخبرية، فبين ابن أبي العز خطأهم في هذا الفهم " ومع ذلك رجح أن الأولي الابتعاد عن مثل هذه العبارات الموهمة (3) . ومثل قول الطحاوي - حول الإيمان -: " وأهله في أصله سواء" (4) ، وقوله عن أهل الكبائر وأنهم لا يخلدون.. " بعد أن لقوا الله عارفين " (5) ، وقوله في الاستطاعة وتكليف ملا يطاق: " ولا يطيقون إلا ما كلفهم به (6) ، فبين ما في مثل هذه العبارات من إشكال أن إيهام. وقد اعتمد ابن أبي العز في شرحه على كلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهم الله - وطبع هذا الشرح عدة طبعات وكتب له القبول والانتشار في أنحاء العالم الإسلامي - والحمد لله -.
_________
(1) ترجمته في: الدرر الكامنة (4/103) - ط هندية - وأنباء الغمر (3/50) ، باسم محمد ابن علي.
(2) شرح الطحاوية - ط المكتب الإسلامي - (ص: 238) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 243) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص: 375) .
(5) انظر: المصدر نفسه (ص: 416-417) .
(6) انظر: المصدر نفسه (ص:505) .(2/479)
أما الماتريدي: فهو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي، أبو منصور، وماتريد محلة بسمرقند فيما وراء النهر (1) ، تتلمذ على عدة شيوخ من أشهرهم أبو نصر العياضي (2) , وأبو بكر الجوزاني (3) ، ومحمد بن مقاتل الرازي (4) ، ونصير بن يحيى (5) وغيرهم، كما تتلمذ عليه عدة أشهرهم الحكيم السمرقندي (6) وأبو الحسن الرستغفني (7) ، وأبو محمد البزدوي (8) ، وغيرهم.
والماتريدي حنفي المذهب هو وشيوخه وشيوخ شيوخه الذين تتلمذوا على أصحاب أبي حنيفة، ولأبي منصور كتب كثيرة في الفقه وأصوله وفي التفسير وعلم الكلام، وغالب كتبه الكلامية في الرد على معتزلة عصره (9) ، والرد على الباطنية والروافض، ولم يصل إلينا من هذه الكتب سوى كتاب التأويلات المسمى تأويلات أهل النسة، وقد وصل كاملا وله عدة نسخ خطية (10) ، وكتاب
_________
(1) انظر: معجم البلدان (5/32) ، وسماها ماثترب، وفي اللباب (3/140) ما تريت، قال يقال ما تريد.
(2) هو: أحمد بن العباس بن الحسين، ينتهي نسبه إلى سعد بن عبادة الأنصاري - رضي الله عنه - أسره الكفار فقتل صبرا في ديار الترك، انظر: الجواهر (1/177) ، والفوائد البيهة (ص:23)
(3) اسمه محمد بن أحمد بن رجا، توفي سنة 285هـ، الجواهر (3/82، 4/29) .
(4) قاضي الري، توفي سنة 248 هـ، قال فيه الذهبي: تكلم فيه ولم يترك، ميزان الاعتدال (4/47) ، وقال ابن حجر في التقريب (2/210) ضعيف، وانظر تهذيب التهذيب (9/469) ، والجواهر (3/372) .
(5) توفي سنة 268هـ، وقيل اسمه نصر، انظر: الجواهر (3/546) ، والفوائد البهية (221) .
(6) هو: أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل، توفي سنة 340هـ، الأنساب (4/185) ، والجواهر المضية (1/371) .
(7) هو: أبو الحسن علي بن سعيد - لم يحدد تاريخ وفاته - الجواخر المضية (2/458) ، وتاج التراجم (ص: 41) .
(8) هو: عبد الكريم بن موسى، المتوفى سنة 390هـ، الجواهر (2/570، 4/212) .
(9) منها: كتاب بيان وهم المعتزلة، وكتاب رد الأصول الخمسة لأبي محمد الباهلي، وكتاب رد أوائل الأدلة للكعبي، وكتاب رد وعيد الفساق للكعبي، وكتاب رد تهذيب الجدل للكعبي، وغيرها= =وانظر مصادر ترجمته. وأكثر ردوده على الكعبي لأنه عند المعتزلة إمام أهل الأرض، كما يقول الماتريدي في التوحيد (ص: 49) .
(10) انظر في أماكن وجودها: تاريخ التراث، سزكين (2/378-379) - ط القاهرة - وقد طبع الجزء الأول من تفسير الماتريدي بتحقيق إبراهيم عوضين والسيد عوضين، ضمن منشورات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة، سنة 1391هـ، كما طبع الجزء الأول في بغداد.(2/480)
التوحيد الذي طبع بتحقيق فتح الله خليف، وقد نسبت إليه كتب أخرى منها: العقيدة - التي شرحها السبكي (1) - وشرح الفقه الأكبر (2) ،
وقد كانت وفاة الماتريدي سنة 333هـ (3) ،
- منهج الماتريدي وعقيدته:
- لا يبعد الماتريدي كثيرا عن أبي الحسن الأشعري، فهو خصم لدود للمعتزلة، وقد خالفهم في المسائل التي اشتهروا بمخالفة أهل السنة فيها مثل مسائل الصفات، وخلق القرآن، وإنكار الرؤية، والقدرة، وتخليد أهل الكبائر في النار، والشفاعة، وغيرها، وقد ألف في ذلك كتبا مستقلة، ومع ذلك فالماتريدي لم ينطلق في ردوده عليهم من منطلق منهج السلف - رحمهم الله تعالى - وإنما كان متأثرا بمناهج أهل الكلام، ولذلك وافقهم في بعض الأصول الكلامية، والتزم لوازمها فأدى به ذلك إلى بعض المقالات التي لا تتفق مع مذهب السلف، وإنما كان فيها قريبا من مذهب الأشعرية.
_________
(1) من أسباب القول بأنها منسوبة إليه أنها تتعرض للخلاف بين الأشعرية والماتريدية، والماتريدي معاصر للأشعري، وليس بينهما أي التقاء، لذلك فلا يمكن أن تكون من تأليف الماتريدي، وانظر كتاب: إمام أهل السنة والجماعة أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية لعلي عبد الفتاح المغربي (ص: 28-29) ، ومصطلح الأشعرية كطائفة نشأت بعد الأشعري بوقت طويل.
(2) طبع الكتاب في الهند ضمن الرسائل السبعة في العقائد، ومما يدل على أنه ليس من كتب الماتريدي ذكره للأشعرية، انظر الكتاب المذكور - شرح الفقه الأكبر - (ص: 10،13، 23، 25) وفي (ص: 24) " وسئل أبو منصور عن صفات الله تعالى ما هي؟ قال: لا هو ولا غيره، قيل له.."..وفي (ص: 17 وص: 31) ما يشير إلى احتمال أن يكون من تأليف الفقيه أبي الليث نصر بن محمد بن أحمد السمرقندي المتوفى سنة 373 هـ وقيل سنة 393هـ، انظر ترجمته في: الجواهر (3/544) ، وتاج التراجم (ص: 79) ، ومقدمة تحقيق تفسيره " بحر العلوم" (1/45-94) .
(3) لم يخط الماتريدي بالعناية من جانب أصحاب التواريخ والتراجم، حتى كتب الطبقات الحنفية ترجمت له ترجمات مختصرة، انظر: الجواهر (3/360) ، وتاج التراجم (ص:59) ، والفوائد البهية (ص: 195) ، ومفتاح السعادة - طاش كبرى زاده - (2/251) ، وبروكلمان (4/41) ، وسزكين (2/378) ، وانظر: مقدمة تحقيق التوحيد (ص: 11) وما بعدها، ومقدمة تحقيق تفسيره (1/9) .(2/481)
ومن المسائل التي تميز بها مذهب الماتريدي:
1- القول بوجوب النظر وإبطال التقليد في مسائل العقيدة ولذلك يقول: "ثبت أن التقليد ليس مما يعذر صاحبه" (1) ، وهذا قريب من مذهب بعض الأشاعرة الذين لا يصححون إيمان المقلد.
2- ومصادر المعرفة عنده: الأعيان (الحس) ، والخير، والنظر (2) .
3- الاستدلال على إثبات الصانع بدليل حدوث الأجسام المبني على عدم خلوها من الأعراض، ومالا يخلو من الحوادث فهو حادث (3) ، والماتردي لا يقتصر على هذا الدليل، وإنما يذكر أدلة أخرى (4) ، والعجيب أن الماتريدي يعتز بإجابته أحد شيوخ الاعتزال عن الاعتراض على دليل حدوث الأجسام (5) .
4- استدلاله في بعض مسائل العقيدة بالسمع والعقل (6) .
5- والماتريدي يثبت الصفات العقلية لله تعالى كالسمع والبصر والقدرة، والإرادة والإحياء والإماتة والرزق، وغيرها من صفات الذات وصفات الفعل ولذلك فهو يقول بأزلية صفات الفعل ومنها صفة التكوين التي قال إنها أزلية، وهي من المسائل الكبار التي تميز بها مذهب الماتريدية عن مذهب الأشعرية، وأصل الخلاف فيها أن الأشاعرة - ومعهم المعتزلة - يقولون: الفعل هو المفعول،
_________
(1) التوحيد (ص: 3) ، وانظر كلامه حول النظر (ص:135-137) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 7-11) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص: 12-17) ، وانظر: (ص: 43) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص: 17-19) ، ولكنه في (ص: 231) و (ص: 233) يقول كلاما يدل على أن إثبات الصانع ليس له دليل إلا حدوث الأجسام.
(5) انظر: المصدر نفسه (ص: 137-138) .
(6) انظر: المصدر نفسه (ص:4،1،4،44،56،373،381،382) .(2/482)
فالتكوين أو الخلق هو عين المكون أو المخلوق، لذلك قالوا بحدوث صفات الفعل لله تعالى مثل الخلق، وأن الله لم يكن خالقا ثم خلق، قالوا: فلو قلنا بقدم صفات الفعل لله تعالى للزم من ذلك قدم المفعول، وهذا يبطل القول بقدم الصانع وحدوث العالم. أما الماتريدية فعندهم أن الفعل غير المفعول، والتكوين غير المكون، ولذلك فهم يقولون بأزلية صفات الفعل لله تعالى من الخلق والإحياء والرزق، وإن كان المفعول منها حادثا، يقول الماتريدي بعد كلام:" والأصل أن الله تعالى إذا أطلق الوصف له، وصف بما يوصف به من الفعل، والعلم، ونحوه، يلزم الوصف به في الأزل، وإذا ذكر معه الذي هو تحت وصفه به من المعلوم، والمقدور عليه، والمراد، والمكون، يذكر فيه أوقات تلك الأشياء لئلا يتوهم قدم تلك الأشياء" (1) ، وأوضح في تفسيره فقال في قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] : " ثم الآية ترد على من يقول بان خلق الشيء هو ذلك هو ذلك الشيء نفسه، لأنه قال: " إذا قضي أمرا"، ذكر " قضي "، وذكر " أمرا "، وذكر " كن فيكون "، ولو كان التكوين والمكون واحدا لم يحتج إلى ذكر كن في موضع [العبارة (2) ] عن التكوين، فالكن تكوينه، فيكون المكون، فيدل أنه غيره، ثم لا يخلو التكوين: إما أن لم يكن فحدث، أو كان في الأزل ...
" (3) ، ثم رجح أنه موصوف به في الأزل، وأن الشيء يكون في الوقت الذي أراد كونه فيه (4) ، والماتريدي بنى قوله على الفرار من حلول الحوادث بذاته تعالى الذي يلزم به الأشاعرة حين يقولون بحدوث صفات الفعل لله تعالى (5) .
_________
(1) التوحيد (ص:47) .
(2) في المطبوع: العبادة، وكذا تكررت في الصفحة نفسها - قبل خمسة أسطر - وهو خطأ مطبعي أو وهم من المحقق.
(3) تأويلات أهل السنة للماتريدي (1/268) .
(4) انظر: المصدر السابق، الصفحة نفسها.
(5) انظر: إمام أهل السنة والجماعة "الماتريدي" (ص: 181-182) ، والروضة البهية (ص:39-43) .(2/483)
6- والماتريدي من نفاة الصفات الاختيارية لله تعالى تبعا لمنعه حلول الحوادث بذات الله تعالى، ويبني ذلك على مسألة دليل حدوث الأجسام (1) ، وفي مسألة كلام الله قال بأنه أزلي وأنه لا يتجرأ ولا يتبعض وبنى في الرد على الكعبي والمعتزلة - في قولهم بخلق القرآن - على منع حدوث كلام الله، والقول بأنه أزلي (2) ، أما ما سمعه موسى - عليه الصلاة والسلام - فالله " أسمعه بلسان موسى، وبحروف خلقها، وصوت أنشأه، فهو أسمعه ما ليس بمخلوق" (3) ، وقد رد شارح الطحاوي - ابن أبي العز - على الماتريدي قوله هذا (4) ، ويؤول الماتريدي الصفات الفعلية مثل صفة الاستواء فيقول - بعد ذكره الأقوال فيه -: " وجملة ذلك أن إضافة كلية الأشياء إليه، وإضافته عزوجل إليها، يخرج مخرج الوصف له بالعلو والرفعة، ومخرج التعظيم له والجلال ... وإضافة الخاص إليه يخرج مخرج الاختصاص له بالكرامة والمنزل ... [و] الأصل فيه أن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة، وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن، جل عن التغير والزوال والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم" (5) ، وبعد أن يؤصل الماتريدي هذا الأصل يذكر الأقوال في الاستواء من أنه بمعنى الاستيلاء أو العلو والارتفاع، أو التمام، ثم يرجح التفويض لاحتماله أحد هذه المعاني أو غيرها فيقول: " فيجب القول بالرحمن على العرض استوى، على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل، ثم لا تقطع تأويله على شيء لاحتماله غيره مما ذكره، واحتماله أيضاً ما لم يبلغنا مما يعلم أنه غير محتمل شبه الخلق" (6) ،
والعجيب أنه يقيس ذلك على مسألة الرؤية.
_________
(1) انظر: التوحيد (ص: 53-69) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 53) .
(3) التوحيد (ص: 59) .
(4) انظر: شرح الطحاوية (ص:190) - ط المكتب الإسلامي-.
(5) التوحيد (ص: 68-69) .
(6) التوحيد (ص:74) ، وانظر: تفسير الماتريدي (1/84/85) -المطبوع -..(2/484)
7- ينكر الماتريدي أن يكون الله في جهة العلو، ويؤول بعض الأدلة مثل رفع الأيدي إلى السماء تأويلات عجيبة (1) ، ولذلك فهو يثبت الرؤية ويرى أن الاستدلال لها بالسمع وحده، والرؤية عنده تكون بلا مقابلة (2) .
8- يقول بأن الله فاعل مختار على الحقيقة، وهو خالق كل شيء، والعبد مختار لما يفعله وهو فاعل كاسب (3) ، وبعد أن يذكر قولي الجبرية والقدرية يقول: " والعدل هو القول بتحقيق الأمرين" (4) ، ثم يذكر الفرق في أحوال العبد بين أفعاله الاضطرارية والاختيارية (5) .
9- يقسم الماتريدي قدرة العبد واستطاعته إلى قسمين: " أحدهما: سلامة الأسباب وصحة الآلات، وهي تتقدم الأفعال ... والثاني: معنى لا يقدر على تبين حدة الشيء يصار إليه سوى أنه ليس إلى للفعل، لا يجوز وجوده بحال إلى ويقع به الفعل عندما يقع معه (6) ، والقدرة الثانية هي التي لا تكون إلى مع الفعل - وهذا قول الأشعري - وقد رد الماتريدي على المعتزلة في قولهم " إنها تكون قبل الفعل" (7) ، ومما سبق يتضح أن كسب الماتريدي يعطي العبد الاختيار، وهذا ما يخالف - قليلا - كسب الأشعري، والماتريدي أيضا يقول بأنه لا يجوز تكليف مالا يطاق (8) .
10- والماتريدي يميل إلى القول بالتحسين والتقبيح العقلي (9) ، كما يثبت
_________
(1) انظر: التوحيد (ص:75-79) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 77-85) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص: 225-226-233) .
(4) المصدر السابق (ص: 229) .
(5) انظر: المصدر السابق - الصفحة نفسها.
(6) المصدر السابق (ص: 256) .
(7) انظر: تفسير الماتريدي (1/181) ، وانظر: التوحيد (ص:258-262) .
(8) انظر: التوحيد (ص: 263-277) .
(9) انظر: التوحيد (ص:100، 178) .(2/485)
التعليل والحكمة في أفعال الله تعالى (1) ، وهذان الأمران يخالف فيهما الأشعري.
11- والإيمان عند الماتريدي هو التصديق، ومحله القلب، ويستدل لذلك بدليل السمع والعقل (2) ، ويرى التفريق بين التصديق والمعرفة، ويعقد لذلك مسألة مستقلة (3) ، وهو بهذا يرد على الجهمية القائلين بأن الإيمان هو المعرفة. والماتريدي يرد على القائلين بأن الإيمان قول باللسان (4) ، كما يرد على الذين يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان (5) ، وعلى ضوء ذلك فالماتريدي يمنع من الاستثناء في الإيمان (6) .
12- ويوافق الماتريدي أهل السنة في حكم مرتكب الكبيرة، ولذلك فهو يرد على المعتزلة والخوارج في ذلك (7) ، ويقرن ذلك بمسألة الشفاعة، وإنها رد عليهم (8) .
13- وفي موضوع "الإرجاء" المنسوب إلى الحنفية عقد الماتريدي له مسألة مستقلة، ذكر فيها ما ورد من الأقوال فيهـ حيث إن كل طائفة تتهم الأخرى بالإرجاء - كما دافع عما نسب إلى القائلين بعدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان من أنهم مرجئة، ويقول: إن تهمة الإرجاء واقعة إما على الجبرية حين أرجت أفعال الخلق إلى الله تعالى ولم تجعل للخلق فيها حقيقة البتة، وإما على من يسميهم بالحشوية حين يستثنون في الإيمان (9) ، أما مسألة الفرق بين الإيمان والإسلام فيرجع أنهما بمعنى واحد (10) .
_________
(1) انظر: التوحيد (ص: 177، 216-217) .
(2) انظر: المصدر نفسه (ص: 373-378) .
(3) (ن) انظر: المصدر نفسه (ص: 380-381) .
(4) وهم الكرامية، انظر: تفسير الماتريدي (1/44) ، والتوحيد (ص: 376-378) .
(5) انظر: كتاب التوحيد (ص: 378-379) .
(6) انظر: المصدر السابق (ص: 388-392) .
(7) انظر: تفسير الماتريدي (1/73) ، والتوحيد (ص: 323-365) .
(8) انظر: التوحيد (ص:365-373) .
(9) انظر: المصدر السابق (ص: 381-385) .
(10) انظر: المصدر نفسه (ص: 393-401) .(2/486)
هذه أهم أقوال وآراء الماتريدي، التي وردت مفصلة في تفسيره وفي كتاب التوحيد، وبالمقارنة بين أقواله وأقوال أبي الحسن الأشعري يتبين أنهما قد اتفقا في بعض المسائل الأصولية مثل إثبات بعض الصفات، ومنع حلول الحوادث، وصحة دليل حدوث الأجسام، والكسب، وغيرها، ومع ذلك فبينهما عدة فروق أهمها:
أ - إن الماتريدي قال: بأزلية صفة التكوين لله تعالى ولم يفرق بين صفات الذات والفعل.
ب - وانه يقول: بأن موسى سمع الصوت المخلوق حين كلمه ربه تعالى.
جـ - وفي مسألة العلو والاستواء، فالماتريدي ينفي العلو ويؤول الاستواء أو يفوضه، بخلاف الأشعري الذي يثبت العلو والاستواء - وإن روي عنه في الإستواء معنى آخر.
د - قال الماتريدي بالتحسين والتقبيح العقلي، والأشعري قال بالشرعي فقط.
هـ- قول الماتريدي بالتحسين بالحكمة والتعليل، بخلاف الأشعري.
و منع الماتريدي تكليف مالا يطاق، بخلاف الأشعري الذي جوزه.
ز - وفي الكسب - مع قوله به كما يقول الأشعري - إلا أنه مال إلى إعطاء العبد حرية في الاختيار، ولذلك فقدرة العبد عنده مؤثرة بخلاف الأشعري.
ح - وفي الإيمان قال إنه التصديق وهذا ما قال به الأشعري، إلا أنه خالفه في دخوله الأعمال في الإيمان وجواز الاستثناء فيه، وهذان منعهما الماتريدي.
ط - أما رؤية الله فقد أثبتها الماتريدي سماعا فقط، أما الأشعري فاستدل مع أدلة السمع بدليلين عقليين، أحدهما الوجود، والآخر أن الله يرى الأشياء.(2/487)
ثانيا: مقارنة بين الأشعرية والماتريدية:
تكون على إثر الأشعري مذهب الأشعرية، وعلى إثر الماتريدي مذهب الماتريدية ولكل من المذهبين أعلامه ورجاله، وكتبه ومتونه العقيدية، ومع غلبة المذهب الأشعري في العالم الإسلامي وانتشاره، إلا أن المذهب الماتريدي بقي متميزا نوعا ما، ولعل ارتباط كل واحد من المذهبين بمذهب فقهي مخالف للآخر كان له أثر في ذلك (1) .
وليس المقصود هنا متابعة التطور الذي حدث لأحدهما أو كليهما، ولا تفصيل المقارنة بين المذهبين، ولكن يمكن الإشارة بإجمال إلى الملاحظات التالية:
14- تبين أنه لم يكن هناك لقاء بين الأشعري والماتريدي، إذ لم يجمعهما مكان ولا حتى منطقة معينة، فالأشعري عاش ومات في العراق، والماتريدي عاش ومات في بلاد ما وراء النهر، كما لم يجمعهما شيخ أو شيوخ تتلمذوا على أيديهم، والسؤال الذي يطرح هنا هو: إذا كان الأمر كذلك فم يفسر التوافق بين الرجلين في المنهج والموقف من المعتزلة وممن يسمونهم بالمشبهة؟ أحد الباحثين أجاب بعد إيراد هذا التساؤل بقوله: " ويمكن تفسير وجوه الشبه بينهما في الآراء بأنه يرجع إلى تشابه منهج كل منهما إلى حد ما في التوسط بين العقل والنقل" (2) ، وهذا التفسير تحصيل حاصل، لأن السؤال يرد مرة أخرى: لماذا كان منهج كل منهما أدى إلى التوسط بين العقل والنقل؟، الحقيقة أنه ليست هناك إجابة واضحة لهذا التساؤل، وإن كان انتشار المذهب الكلابي في العراق والري وخراسان - كما في قصة ابن خزيمة مع الكلابية - ما يدفع إلى القول باحتمال أن يكون هذا المذهب الذي ظهر فيه تلامذة - تناءت بهم الديار -
_________
(1) (ن) انظر في الفلسفة الإسلامية: إبراهيم مذكور (2/56) .
(2) إمام أهل السنة (الماتريدي) (ص: 424) .(2/488)
قد انتشر أيضا في بلاد ما وراء النهر، خاصة وأن تلك المنطقة كانت كما يقول المقدسي تغص بمختلف الطوائف والفرق (1) ، ولذلك فمن المحتمل أن يكون الماتريدي أو أحد شيوخه قد تلقى هذا المذهب عن بعض أعلام أو أتباع الكلابية.
15- تطور المذهب الأشعري - كما سيأتي - وكان تطوره بالقرب من مذهب المعتزلة أو بالالتصاق بالفلسفة أو التصوف، أما المذهب الماتريدي فلم يقع في التطور، بل بقيت أقوال الماتريدي - الذي لم يحدث له تطور كما حدث للأشعري - هي المعتمدة لدى متأخري الماتريدية كأبي المعين النسفي (2) ، ونجم الدين أبي حفص النسفي (3) ، ونور الدين الصابوني (4) ، وابن الهمام (5) ، وغيرهم، فهؤلاء وإن كان قد يقع لبعضهم مخالفة لمذهب شيخهم، إلا أن الأمر لا يصل إلى مستوى التطور الذي حدث للمذهب الأشعري.
16- اهتم العلماء ببيان الفروق بين مذهبي الأشاعرة والماتريدية، وقسموا الفروق أحيانا إلى لفظية ومعنوية (6) .
_________
(1) انظر أحسن التقاسيم (ص:323) .
(2) هو: ميمون بن محمد بن محمد بن معتمد، أبو المعين النسفي المكحولي، من أشهر كتبه التمهيد وتبصرة الأدلة في العقائد توفي سنة 508هـ، وهو الذي روى عن أبي حنيفة القول بفساد صلاة من يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع، مما سبب في قول كثير من الأحناف بعدم صحة صلاة الحنفي خلف الشافعي، انظر تفاصيل هذا الموضوع ومدى صحة نسبته إلى أبي حنيفة في الفوائد البهية في ترجمة أبي المعين النسفي (ص: 216-217) .
وانظر في ترجمته: الجواهر المضية (3/527) ، وتاج التراجم (ص: 78) .
(3) هو: عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل النسفي السمرقندي، كان من المهتمين بالحديث ولذلك نعته السمعاني بالحافظ لكنه قال: إن مجموعاته الحديثة فيها أخطاء وأوهام كثيرة، انظر، التحبير (1/527-5287) ، توفي أبو حفص النسفي سنة 537هـ، وانظر في ترجمته أيضا معجم الأدباء (16/70) ، والجواهر (2/657) .
(4) هو: أحمد بن محمود بن أبي بكر الصابوني، أبو محمد له البداية في أصول الدين، توفي سنة 580هـ، انظر: الجواهر (1/328) ، وتاج التراجم (ص:10) .
(5) هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، كمال الدين، الشهير بابن الهمام الكندري السيواس، ولد سنة 790هـ، وتوفي سنة 861هـ، من كتبه مسايرة في العقيدة، انظر: الفوائد البهية (ص: 180) .
(6) هناك في هذا الموضوع كتب مخطوطة كثيرة، ومن المطبوع، كتاب نظم الفرائد لشيخ زاده، والروضة البهية لأبي عذبه.(2/489)
17- على الرغم من وجود الفروق بين المذهبين إلا أنه قد وقع نوع امتزاج بينهما، ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
أ - ما فعله ابن الهمام في كتابه المشهور، "المسايرة" حيث اعتمد على كتاب الرسالة القدسية - وهي المسماة قواعد العقائد التي ألفها الغزالي لأهل القدس، ثم أدخلها ضمن إحياء علوم الدين - وكان هدف ابن الهمام أن يختصر كتاب الغزالي إلا أنه بعد أن بدأ بالكتابة رأي أن يزيد عليه زيادات مهمة، ولم يزل يزيد فيها - كما يقول - "حتى خرج عن القصد الأول، فلم يبق إلا كتابا مستقلا، غير أنه يسايره في تراجمه، وزدت عليها خاتمة ومقدمة " (1) ، ولذلك سمى كتابه المسايرة، فابن الهمام اعتمد على أحد كتب الأشاعرة، وهذا وحده كاف للتدليل على ما كان بين المذهبين من تقارب، لذلك فابن الهمام؛ وإن ذكر قول الأشعرب - بناء على ما في كتاب الغزالي - إلا أنه أعقبه بذكر مذهب الماتريدي، انظر كأمثلة على ذلك مسألة سماع موسى لكلام الله وهل سمع الكلام النفسي أم يستحيل أن يسمع ما ليس بصوت (2) ، وفي مسألة صفات الأفعال لله، وصفة التكوين، والعجيب في هذه المسألة أن ابن الهمام ذكر قولي الماتريدية والأشعرية، ثمن رجح قول الأشعرية معتمدا على أن مذهب أبي حنيفة وأصحابه الذين ذكر عقيدتهم الطحاوي يخالف ما ذهب إليه الماتريدي ومن جاء بعده (3) ، وقد تعقب ابن الهمام شارحو كتابه وضعفوا ما رجحه (4) ،
ومن المسائل التي ذكر الخلاف فيها مسألة التحسين والتقبيح (5) ، وتكليف ما لا يطاق (6) ،وغيرها.
_________
(1) المسايرة - ضمن شرحها - المسامرة (1/7-8) .
(2) انظر: المسامرة شرح المسايرة (1/80) .
(3) انظر: المسامرة شرح المسايرة (1/89-93) .
(4) ومنهم كمال الدين محمد بن محمد المعروف بابن أبي شريف المقدسي المتوفى سنة 905هـ، وهو صاحب المسامرة - انظر: تعليقه فيها (1/93-96) ، ومنهم زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي - صاحب تاج التراجم في طبقات الحنفية - توفي سنة 878هـ، انظر: حاشيته على المسايرة، طبعت مع المسامرة - في الحاشية (1-92-96) ..
(5) انظر: المسامرة (2/35-39) ، وقد ذكر ابن الهمام نفسه القولين في ذلك: قول الماتريدية الذين وافقوا المعتزلة، وقول الأشعرية.
(6) انظر: المصدر السابق (2/41) .(2/490)
ب - لما ألف النسفي - عمر بن محمد - متن العقيدة الذي سمي بالنسفية اعتني يشرحها - من منطلق المذهب الأشعري - بعض الحنفية، ومنهم سعد الدين التفتازاني (1) ، في شرحه المشهور الذي اشتهر ووضعت له حواش عديدة، انظر كمثال على منهجه كلامه حول صفة التكوين (2) .
جـ - ألف البزدوي (3) ، كتابا في أصول الدين، حاول فيه أن يجمع بين طريقتي الأشعرية والماتريدية.
د - ومن الأمثلة على تداخل المذهبين أن نور الدين الصابوني الماتريدي رجح - خلافا لشيخ الماتريدية - أن دليل الرؤية الوجود (4) ، ومن المعلوم أن الماتريدي يحتج للرؤية بالسمع فقط، أما معاصره فخر الدين الرازي - وهو دليل الوجود (5) ، ثم في الأخير رجح مذهب الماتريدي ونص على ذلك، ذاكرا اسم الماتريدي (6) .
_________
(1) هو: مسعود بن عمر التفتازاني، صاحب المقاصد وشرحه، وشرح النسفية وغيرها، ولد سنة 712هـ، وتوفي سنة 791هـ، انظر: الدرر الكامنة (6/112) ، "هندية" وبغية الوعاة (2/285) .
(2) انظر: شرح النسفية ضمن مجموعة الحواشي البهية عليها (ط الكردي - القاهرة 1/129) مع حاشية ملا أحمد الجندي، والخيالي، ونظر: أيضا - حاشية السيالكوتي في نفس الكتاب - آخر الجزء الأول (ص: 269) ، وانظر: حاشية العصام على شرح النسفية (ص: 146) وما بعدها - طبعة مستقلة.
(3) هو: أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين النسفي، الزدوي، له كتاب أصول الدين - مطبوع - ولد سنة 421هـ وتوفي سنة 493هـ، وأخوه أبو الحسن فخر الدين البزدوي - على ابن محمد - ونسبتهم إلى بزدة، قلعة على بعد ستة فراسخ من نسف، انظر: في ترجمة أبي اليسر الجواهر المضية (4/98) ، وتاج التراجم (ص:65) ، وسير أعلام النبلاء (19/49) .
(4) انظر: مناظرات فخر الدين الرازي فيما وراء النهر (ص: 15-16) وقد ناظر الرازي الصابوني في هذه المسألة.
(5) انظر: الأربعين للرازي (ص: 191-198) .
(6) انظر: المصدر السابق (ص: 198) .(2/491)
هذه لمحات في مذهب الماتريدي والماتريدية، وبها يتبين كيف دخل في مذهب الأشاعرة وامتزج به، وهذا ما يفسر إغفال كثير من العلماء - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - في كتبهم وردودهم لذكرهم إلا في مسائل معينة اشتهروا بالخلاف فيها (1) .
* * *
_________
(1) ذكر ابن القيم في أسماء مؤلفات ابن تيمية (ص: 23) ، ورقم (79) ، أن من مؤلفات شيخ الإسلام " رسالة في عقيدة الأشعرية وعقيدة الماتريدية وغيره من الحنفية، نحو خمسين ورقة" وحتى الآن لم يعثر على هذه الرسالة.(2/492)
المبحث الثالث: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره
عرضنا فيما سبق لمذهب ابن كلاب ومدرسته، وتبين أن مذهبهم في الصفات وكلام الله هو مذهب أبي الحسن الأشعري، والأشعري كان أحد تلامذة الكلابية، لذلك فلتحديد نشأة الأشعرية لا ينفك الأمر من حالين:
الحالة الأول: النظر إلى حقيقة المذهب الذي تميز به الأشاعرة عن غيرهم، فهنا لا ترتبط النشأة بأبي الحسن الأشعري، وإنما ترتبط بابن كلاب ومدرسته الكلابية.
الحالة الثانية: النظر إلى التشمية، فلا شك أن التسمية بالأشاعرة أو المذهب الأشعري مرتبطة بأبي الحسن الأشعري وتلامذته من بعده.
ويتضح الفرق بالنسبة لمن كان معاصرا للأشعري وتتلمذ على ابن كلاب أو تلامذته دون الأشعري وتلامذته مع أنه يقول بقول ابن كلاب الذي هو قول الأشعري، فمثل هذا أشعري الاعتقاد لكنه لا ينسب إلا إلى ابن كلاب، وفي خراسان وغيرها من بلاد الإسلام النائية قد توجد مثل هذه النماذج، ولذلك لما عرض شيخ الإسلام ابن تيمية لنشأة المذهب الكلابي في كلام الله ربطه بابن كلاب ومدرسه، فقال: " وكان ... قد نبغ في آواخر عصر أبي عبد الله [أحمد ابن حنبل] من الكلابية ونحوهم؛ أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد ابن كلاب البصري، الذي صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وهو من متكلمة الصفاتية، وطريقته يميل فيها إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن فيه نوع من البدع، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته، ولكن له في الرد على الجهمية - نفاة الصفات والعلو - من الدلائل والحجج وبسط القول ما بين به فضله في هذا الباب، وإفساده لمذاهب(2/493)
نفاة الصفات بأنواع من الأدلة والخطاب، وصار ما ذكره معونة ونصيرا وتخليصا من شبههم لكثير من أولي الألباب، حتى صار قدوة وإماما لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات، وناقضوا نفاتها، وإن كانوا قد شاركوهم في بعض أصولهما الفاسدة، التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول ".
" وكان ممن اتبعه الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي، ثم أبو الحسن الأشعري، وأبو الحسن بن مهدي الطبري، وأبو العباس الصبغي، وأبو سليمان الدمشقي، وأبو حاتم البستي، وغير هؤلاء، المثبتين للصفات المنتسبين إلى السنة والحديث، المتلقبين بنظار أهل الحديث ".
" وسلك طريقة ابن كلاب - في الفرق بين الصفات اللازمة كالحياة، والصفات الاختيارية، وإن الرب يقوم به الأول دون الثاني - كثير من المتأخرين، من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، كالتيميين أبي الحسن التيمي، وابنه أبي الفضل التيمي، وابن ابنه رزق الله التيمي، وعلى عقيدة الفضل التي ذكر أنها عقيدة أحمد اعتمد أبو بكر البيهقي فيما ذكره من مناقب أحمد بن الاعتقاد".
" وكذلك سلك طريقة ابن كلاب هذه أبو الحسن بن سالم وأتباعه " السالمية" والقاضي أبو يعلي وأتباعه كابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني، وهي طريقة أبي المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم، لكنهم افترقوا في القرآن، وفي بعض المسائل على قولين - بعد اشتراكهم في الفرق الذي قرره ابن كلاب -" (1) .
فالأصل الذي قرره ابن كلاب قال به هؤلاء كلهم، وفيه الأشاعرة وغيرهم ممن لا ينسب إليهم كالسالمية وبعض الحنابلة.
ومع مرور الزمن بدأت تنقرض النسبة إلى ابن كلاب لتحل محلها النسبة
_________
(1) الكيلانية: مجموع الفتاوي (12/366-368) .(2/494)
إلى الأشعري، والسؤال الذي يطرح هنا هو: إذا كان قول ابن كلاب هو الأصل فلماذا لم ينسب إليه مذهب الأشاعرة وإنما نسب إلى أبي الحسن الأشعري؟
ويمكن الجواب عن هذا السؤال من خلال الأمور التالية:
1- إن أبا الحسن الأشعري لم يكن صورة طبق الأصل لابن كلاب ومدرسته، وأتباعه له في أصل معين لا يعني أنه في جميع آرائه وأقواله كان متابعا له، فمثلا مع أن الأشعري قال بنفي حلول الحوادث بذات الله وهو ما يسمى بالصفات الاختيارية القائمة بالله، وهذا هو الأصل الذي قال به ابن كلاب ومدرسته، إلا أن الأشعري خالف ابن كلاب في جوانب من مسألة الكلام التي هي أهم المسائل، فإنه قال بأزلية الأمر والنهي، أما ابن كلاب فقال بحدوث ذلك، وعدم التطابق بين آراء الرجلين له دلالته في تحديد نسبة المذهب إلى أحدهما، خاصة وأن مسألة الكلام من أهم المسائل التي تميز المذهب الأشعري لأن غيرها من المسائل قد شارك غير الأشاعرة القول فيها.
2- إن ابن كلاب جاء في وقت محنة أهل السنة من جانب المعتزلة، ولما زالت المحنة برز في مجتمع الإسلام كعلم من أعلام أهل السنة الإمام أحمد ابن حنبل، أما بان كلاب ومن اتبعه فردودهم على المعتزلة والجهمية وإن كانت قوية إلا أنهم شابوها بشيء من البدع، فإذا أضيف إلى ذلك تحذير أئمة أهل السنة كالإمام أحمد وغيره من هؤلاء، فلا شك أن قدرة ابن كلاب في التأثير على الناس ستكون محصورة في نطاق معين لا تتعداه، وهذا ما حدث (1) .
أما أبو الحسن الأشعري فقد جاء بعد هدوء العاصفة، وركون الناس إلى أن مذهب أهل السنة هو الغالب المسيطر، لذلك لما قام الأشعري في الرد على المعتزلة كانت الأوضاع مهيأة لاشتهاره وتبني مجموعة من الأعلام لمذهبه.
_________
(1) انظر: دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية: عرفان عبد الحميد (ص: 147-148) .(2/495)
3- من الأمور المهمة قصة انتقال الأشعري عن الاعتزال إلى مذهب السلف فمن المعلوم أنه قد بلغ مكانة ومنزلة في مذهب المعتزلة حتى صار صنوا لأحد أعلامها، ينوب عنه في الدروس والمناقشات الاعتزالية، وحتى صار يؤلف الكتب لدعم مذهبهم، وهي كتب صارت معتمدة في مذهبهم حتى قال الأشعري عن أحدها بعد بعد أن نقضه ورد عليه: " إنه لم يؤلف لهم كتاب مثله" (1) ، وفي ظل هذه الأوضاع التي تنبي عن وجود نهضة اعتزالية - تعيد إليها سابق عزها - إذا بالعالم الإسلامي يفاجأ بهذا القرار الخطير يتخذه أشهر أعلام المعتزلة معلنا رجوعه التام عن جميع أقوال المعتزلة، ويتبع ذلك بكشف ضلالاتهم، والرد عليهم بأسلوب كلامي قوي يوازي ما عند المعتزلة من قدرة وأساليب.
والمفاجأة إذا وقعت بهذا المستوى ينسي الناس معها تفاصيل الأمور، من مثل أن الأشعري لم يكن رجوعه إلى مذهب السلف كاملا، وأن لديه بعض البقايا من أصول المعتزلة - وتنحصر القضية في رد العدو الأكبر " المعتزلة " ولا شك أن الرد عليهم وكشف ضلالاتهم في ذلك الوقت جهاد وأي جهاد، يقول ابن عساكر - فيما رواه عن ابن عذرة - في قصة رجوع الأشعري وصعوده المنبر وإعلان ذلك على الملأ: " ودفع الكتب إلى الناس فمنها كتاب اللمع وكتاب أظهر فيها عوار المعتزلة سماه بكتاب " كشف الأسرار وهتك الأستار " وغيرها، فلما قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنة والجماعة أخذوا بما فيها، وانتحلوه، واعتقدوا تقدمه، واتخذوه إماما، حتى نسب مذهبهم إليه، قال لي أبو بكر - أي ابن عذرة - فصار عند المعتزلة ككتابي أسلم وأظهر عوار ما تركه فهو أعدي الخلق إلى أهل الذمة، وكذلك الأشعري أعدي الخلق إلى المعتزلة، فهم يشنعون عليه من الأشانيع ونيسبون إليه الأباطيل" (2) .
4- ومن أسباب نسبة المذهب إلى الأشعري كثرة مؤلفاته، ورسائله، فمؤلفاته قد تزيد على ثلاثمائة كتاب، كما أن الأسئلة كانت تأتيه من الآفاق ويكتب
_________
(1) تبيين كذب المفتري (ص:131) .
(2) المصدر السابق (ص: 39-40) .(2/496)
في ذلك رسائل مختلفة، وسرعان ما تشتهر وتنتشر بين الناس، وهذا بخلاف ابن كلاب الذي كانت مؤلفاته قليلة، ولم تكن تلقى قبولا بسبب موقف أئمة أهل السنة منه، بل وصل الأمر إلى أن يتستر الكلابية بما عندهم كما حدث لتلامذة ابن خزيمة الموافقين لابن كلاب، لم يستطيعوا أن يظهروا ما عندهم فضلا عن أن ينشروه أو يدرسوه.
5- وأخيرا يأتي دور تلاميذ الأشعري، ومن جاء بعدهم من تلامذتهم في ترسيخ نسبة المذهب إليه في دروسهم وكتبهم، إضافة إلى دورهم في نشره والدفاع عنه، يقول القاضي عياض عن الأشعري: " فلما كثرت تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة وأخذوا عنه، وتفقهوا في طريقه (1) ، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة، فسموا باسمه، وتلاهم أتباعهم وطلبتهم فعرفوا بذلك، وإنما كانوا يعرفون قبل ذلك بالمثبتة، سمة عرفتهم بها المعتزلة؛ إذا أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه، فبهذه السمة أولا كان يصرف أئمة الذب عن السنة من أهل الحديث كالمحاسبي، وابن كلاب، وعبد العزيز بن عبد الملك المكي، والكراسي، إلا أن جاء أبو الحسن، وأشهر نفسه، فنسب طلبته والمتفقهة عليه في علمه ونسبه، كما نسب أصحاب الشافعي إلى نسبة وأصحاب مالك وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة إلى أسماء أئمتهم الذين فكذلك أبو الحسن، وتفقهوا بطرقهم في الشريعة، - وهم لم يحدثوا فيها ما ليس منها - فكذلك أبو الحسن، فأهل السنة من أهل المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى منهاجه يذهبون، وقد أثني عليه غير واحد منهم، وأثنوا على مذهبه وطريقة (2) .
- أسباب انتشار المذهب الأشعري:
لاشك أن مذهب الأشاعرة انتشر في أنحاء العالم الإسلامي، حتى كاد يستقر في بعض الأزمنة أن مذهبهم هو مذهب أهل السنة والجماعة، ومع
_________
(1) هكذا في ترتيب المدارك.
(2) ترتيب المدارك (5/25) -ط مغربية -.(2/497)
أن هناك مواقف لكثير من العلماء من المذهب الأشعري إلا أن هذه المواقف كثيرا ما تأخذ شكل صراع مذهبي تنتقل بسببه القضية إلى إطار آخر، ومن ثم يكثر الخصام وتتعدد الاتهامات، ويحمل كل فريق على الآخر، ثم قد يصاحب البعض الهوي والتعصب المذهبي، فيزاد في الكلام وينقص، ويحمل على غير محامله، ويسيء كل طرف الظن بالطرف الآخر، ولذلك قلما تنتهي مناقشة من هذه المناقشات إلى اتفاق على رأي واحد يكون مبنيا على أسس سلمية من مذهب ومنهج أهل السنة والجماعة حيث يدعي الطرفان أنهم لا يخالفونه.
وهذا تفسير لما حدث، وإلا فالواجب أن يكون رائد كل مسلم الوصول إلى الحق بالأدلة الصحيحة. ومذهب أهل السنة والجماعة إنما هو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ومن ثم فعلى كل عالم أن لا يجعل الانتساب إلى طائفة أو جماعة - غير أهل السنة - شعارا له يفاصل عليه ويوالي ويعادي من أجله.
وقد يقول قائل: إذا كان مذهب الأشاعرة فيه ما فيه من هنات وعليه ما عليه من ملاحظات فلماذا انتشر في العالم الإسلامي؟ ولماذا تبناه جمهرة من جلة العلماء من أهل الفقه والحديث؟ يجيب على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من وجوه:
" أحدهما: كثرة الحق الذي يقولونه، وظهور الإثارة النبوية عندهم.
الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية، بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم، وظنهم أنه لم يمكن التمسك بالإثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه.
الثالث: ضعف الإثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات، والموضحة لسبيل الهدي عندهم.(2/498)
الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث، تارة يروون مالا يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور" (1) .
أما أهم أسباب انتشار مذهب الأشاعرة في العالم الإسلامي فيمكن تلخيصها في الأمور التالية:
1- أفول نجم المعتزلة، مع ظهور المذهب الأشعري كخصم لمذهبهم (2) .
2- نشأة المذهب في حاضرة الخلافة العباسية " بغداد "، ولا شك أن أنظار الناس في شتى الأقطار تتجه في الغالب إلى دار الخلافة، ففيها الفقهاء والمحدثون والمقرئون، كما أنها من أهم البلدان التي يرحل إليها العلماء ليسمعوا الروايات أو يحدثوا فيها بمروياتهم، فلما نشأ المذهب الأشعري في بغداد وهي على هذه الحالة كثر المتلقون لهذا المذهب، الناقلون له إلى كل مكان، وهذا - مثلا - بخلاف مذهب الماتريدي الذي نشأ في زمن الأشعري لكنه كان في بلاد ما وراء النهر فلم ينتشر كانتشار المذهب الأشعري (3) .
3- تبني بعض الأمراء والوزراء لمذهب الأشاعرة واحتضان رجالهم له، ومن أبرز هؤلاء:
- الوزير نظام الملك (4) ، الذي تولى الوزارة لسلاطين السلاجقة، فتولى الوزارة لالب أرسلان وملكشاة مدة ثلاثين سنة، من سنة 455-485هـ،
_________
(1) مجموع الفتاوي (12/33) .
(2) انظر علم الكلام: الأشاعرة (ص: 68) .
(3) انظر علم الكلام: الأشاعرة (ص: 28) .
(4) اسمه الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي، أبو علي، ولد سنة 408هـ، وقتل سنة 585هـ، انظر: الروضتين (1/25) ، والمنتظم (9/64-68) ، وطبقات السبكي (4/309-328) ,(2/499)
والسلاجقة جاءوا على أثر البويهيين الشيعة الذين كانوا يوالون الدولة الفاطمية الباطنية، ولما استولى السلاجقة على بغداد وقضوا عليهم سنة 447هـ لم تمض سنوات قليلة حتى حدثت فتنة البساسيري - أحد القواد الأتراك الموالين لبني بويه - وكان ذلك سنة 450 هـ، وكان من آثارها أن احتل بغداد وأعلن الخطبة للخليفة المستنصر بالله العلوي العبيدي، وأمر بأن يؤذن بحي على خير العمل، وعزل الخليفة العباسي القائم بأمر الله وكتب عليه عهدا أن لا حق له في الخلافة ولا لبني العباس وأرسل العهد إلى الخليفة الفاطمي في القاهرة، وقد استمرت فتنة البسايري سنة كاملة حتى قضي عليها السلاجقة وأعيد الخليفة العباسي. لذلك جاءت دولة السلاجقة لتنصر أهل السنة ضد أهل الرفض والبدعة، والوزير نظام الملك من اعظم وزرائهم أثرا وخطرا وكانت له جهود عظيمة في حرب الحركات الباطنية والإسماعلية وتحدث عنها طويلا في كتابه المشهور سياست تامة أو سير الملوك (1) ،
ومن أهم آثاره المدارس النظامية التي أنشئت في مدن عديدة منها: البصرة، أصفهان، وبلخ، وهراة، ومرو، والموصل، وأهمها وأكبرها المدرسة النظامية في نيسابور وفي بغداد، وقد جعلهما مع أوقافهما وقفا على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا (2) ، وكان نظام الملك معظما للصوفية وللقشيري والجويني وغيرهما من أعلام الأشعرية، وقد كان هؤلاء يلقون دروسهم في هذه المدارس على المذهب الشافعي، ويدرسون أصول العقيدة الأشعرية، فكان لذلك دور عظيم في نشرها (3) .
- المهدي بن تومرت، مهدي الموحدين، توفي سنة 524 هـ، فقد دعا إلى المذهب الأشعري وتبناه وكان له دور عظيم في نشره (4) .
_________
(1) (ص: 234) - وما بعدها - وانظر عن فتنة البساسيري: الكامل (9/640-650) ، والتاريخ الفارقي (ص: 152) ، وتاريخ دولة آل سلجوق (ص: 16-20) ، وزبدة التواريخ للحسيني (ص: 59-63) ، وسياسة الفاطميين الخارجية (ص: 179) ..
(2) انظر: المنتظم (9/65-66) ، وتاريخ الفكر الفلسفي -أبو ريان: (ص: 213) ، والتاريخ السياسي والفكري للمذهب السني (ص: 211-234) .
(3) انظر: المنتظم (9/65) ، وطبقات السبكي (4/316) .
(4) انظر: المعجب (ص: 275) ، والخطط للمقريزي (2/358) ، وظهر الإسلام (4/97-98) .(2/500)
ج-- نور الدين محمود بن زنكي، الذي جاهد الصلبيين، وقد ولد سنة 511 هـ وتوفي سنة 569هـ (1) ، وكان من آثاره أنه بنى أكبر دار للحديث في دمشق ووكل مشيختها إلى ابن عساكر صاحب " تبيين كذب المفتري" (2) ، كذلك أنشأ في حلب سنة 544هـ المدرسة النفرية النورية، وكانت للشافعية، وتولى التدريس فيها قطب الدين مسعود بن محمد النيسابوري (3) ، وكان أحد أساتذة المدرسة النظامية في نيسابور، وكان أحد أعلام أهل الكلام على المذهب الأشعري، وفي عهد نور الدين بدأت صلة قطب الدين مسعود بصلاح الدين الأيوبي، وتوثقت فيما بعد - كما سيأتي -.
ولا شك أن لهذه المدارس، والمدارس النظامية (4) ، متمثلة بأولئك العلماء الذين درسوا فيها أثرا عظيما في مقاومة التيار الباطني الإسماعيلي، ومعلوم أن من أعظم آثار نور الدين وصلاح الدين القضاء على الدولة الفاطمية الباطنية في مصر، حيث حلت محلها دولة سنية حكمها صلاح الدين الأيوبي نائبا لنور الدين ثم مستقلا بعد وفاته - رحمهم الله -.
د- صلاح الدين الأيوبي: يقول المقريزي: " وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي، وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعي من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عرفت بالشريفية" (5) ،ثم يقول عن المذهب الأشعري: " فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح
_________
(1) انظر: في ترجمته: الكواكب الدرية في السيرة النووية لابن قاضي شهبة (ص: 15) ، وما بعدها، والروضتين (1/28) وما بعدها، والتاريخ الباهر (ص: 95) وما بعدها.
(2) انظر: التاريخ السياسي والفكري (ص: 261) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 252) ، وقطب الدين مسعود سبقا ترجمته.
(4) لكن المدارس النظامية كانت خاصة بالشافعية فولد ذلك أنواعا من التعصب بينهم وبين الحنفية والحنابلة، أما المدارس التي أنشأها نور الدين وصلاح الدين فكانت متنوعة.
(5) الخطط للمقريزي (2/343) .(2/501)
الدين يوسف بن أيوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني (1) ، على هذا المذهب قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك (2) ، وإذا كان قطب الدين مسعود قد ألف لصلاح الدين عقيدة (3) ، فإن الفخر الرازي قد ألف كتابه المشهور " أساس التقديس " - الذي نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية- للملك العادل محمد بن أيوب بن شادي أخو صلاح الدين. المتوفى سنة 615 هـ (4) ،
أما ابنه الأشرف بن العادل فقد مال إلى الحنابلة وأهل السنة في العقيدة، وجرت بينه وبي العز بن عبد السلام- وهو أشعري - مناقشة ومحنة طويلة (5) .
4- ومن أسباب انتشار المذهب الأشعري أن جمهرة من العلماء اعتمدوه ونصروه، وخاصة فقهاء الشافعية والمالكية المتأخيرن (6) ، والأعلام الذين تبنوه: الباقلاني، وابن فورك، والبيهقي، والإسفراييني، والشيرازي،
_________
(1) وهو: مؤلف رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري - سبقت الإشارة إليها.
(2) الخطط (2/358) ، وانظر خبيئة الأكوان (ص: 48) ، ونظريات شيخ الإسلام، لاوست (1/141-142) ، وابن تيمية لأبي زهرة (ص: 25) .
(3) انظزر سيرة صلاح الدين لابن شداد (ص:7) ، وطبقات السبكي (7/297) .
(4) انظر أساس التقديس (ص: 3) ، وسير أعلام النبلاء (22/120) ..
(5) انظر طبقات السبكي (8/218) ، والتاريخ السياسي والديني (ص: 298) .
(6) ومن المعلوم أن أبا الحسن الأشعري تجاذبه أصحاب المذاهب الأربعة، ولذلك ترجم له في طبقات الشافعية والمالكية والحنفية، أما الحنابلة فقد صرح هو في مقدمة الإبانة بانتسابه إلى إمام أحمد في الأصول.(2/502)
والجويني، والقشيري، والبغدادي، والغزالي، والرازي، والآمدي، والعز ابن عبد السلام، وبدر الدين ابن جماعة، والسبكي، وغيرهم كثير، ولم يكن هؤلاء أشاعرة فقط، بل كانوا مؤلفين ودعاة إلى هذا المذهب، ولذلك ألفوا الكتب العديدة، وتخرج على أيديهم عدد كبير من التلاميذ.
كما انتشر في أنحاء عديدة بواسطة هؤلاء، ففي الحجاز انتقل إليه المذهب الأشعري بواسطة أبي ذر الهروي (1) ، كما انتقل عن طريقه إلى المغرب عن طريق المغاربة الذين كانوا يأتون إلى الحج، وكان ممن له أثر في نشره في المغرب بين المالكية أبو بكر الأبهري، والباقلاني وتلامذته (2) ، والباجي وابن العربي (3) ، وغيرهم، كما دافع كل من ابن أبي زيد القيرواني، وأبي الحسن القابس عن الأشعري (4) .
ويذكر المقريزي أنه قد انتشر في العراق نحو سنة 380هـ وانتقل منه إلى الشام (5) ، وممن انتشر على يديه في الشام أبو الحسن عبد العزيز بن محمد الطبري المعروف بالدمل (6) .
وفي العصور المتأخرة كان لتبني كثير من دور العلم والجامعات عقيدة ومذهب الأشاعرة دور في نشره، ومن أهمها الجامع الأزهر في مصر مع ماله من مكانة علمية في العالم الإسلامي.
_________
(1) انظر: صون المنطق (1/122) ، ودرء التعارض (1/271، 2/101) .
(2) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 120، 121، 410) ، والتطور المذهبي بالمغرب (ص: 28-30) .
(3) انظر: نشأة الفكر الفلسفي- النشار (1/284) .
(4) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 123-124) ، ولأبي نصر السجزي في رسالة من أنكر الحرف والصوت تعليق معهم على ذلك (ص: 298-304) .
(5) انظر: الخطط (2/358) .
(6) انظر: التبيين (ص: 195) .(2/503)
هذه أهم أسباب انتشار المذهب الأشعري، وهي تدل على مدى تغلغل هذا المذهب بين الناس، وإن كانت الجمهرة الغالبة للمسلمين تؤمن بهذا الدين وعقيدته بإجمال وتعظم السلف ومنهجهم، لأنه لا تعرف المداخل الكلامية والقضايا العقلية التي يعتمدها أهل الكلام.(2/504)
المبحث الرابع: عقيدة الأشعرية
بعد عرض نشأة الأشعرية، وأسلاف الأشاعرة، وأسباب انتشار مذهبهم، لابد لاستكمال الموضوع من عرض عقيدة الأشاعرة، ولما كان المذهب الأشعري قد مر بعدة أطوار حتى في حياة مؤسسة فضلا عن التطورات الأخرى الكبيرة التي مر بها هذا المذهب عبر القرون، فإن هناك صعوبة في تحديد العقيدة الأشعرية والصعوبة تأتي من خلال مايلي:
1- هل المعتبر في تحديد المذهب ما يقوله مؤسسة فقط، أم لابد أن يدخل في ذلك ما قاله الأتباع؟ وفي مذهب الأشاعرة كثيرا ما يعرض المتأخرون مذهب الأشاعرة كما طوروه، ثم إذا رد عليهم أو هوجموا ورموا بالابتداع رجعوا يحتجون بأقوال شيخهم الأشعري التي تخالف في كثير منها أقوالهم ومنهجهم.
2- هل المعتبر في المذهب: الأقوال أو الأشخاص؟ أي أن أحد الأعلام إذا عرف عنه أنه أحد أئمة الأشاعرة المنافحين عن مذهبهم، هل تصبح جميع أقواله في إطار التزامه لأصول المذهب مذهبا وعقيدة أشعرية؟ أم أن المعتبر الأقوال الموافقة للمذهب الأشعري فقط؟ وإذا كان فما المقياس في تحديد هذه الأقوال؟ ومن الأمثلة على ذلك أن الفخر الرازي يعتبر من أهم أعلام وأئمة الأشعرية وله في ذلك جهود ومؤلفات كبرى، ومع ذلك فقد دخل في الفلسفة وألف فيها أحيانا كتبا مستقلة، ففي هذه الحالة هل يؤخذ الرازي وكتبه على أنه أشعري أراد موج عقيدة الأشاعرة بالفلسفة، أو تفصل الفلسفة عنده عن العقيدة الأشعرية وتعتمد أقواله الموافقة لها فقط؟
3- الرجوع عن المذهب، كثيرا ما وقع لأعلام الأشاعرة، ومع انتشار الكتب التي تمثل المرحلتين لعلم ما، تصبح نسبة الأقوال إليه غير مستقرة على(2/505)
وضع معين، فالأشعري نفسه هل تعرض أقواله من خلال الإبانة فقط، وما عداها لا قيمة له لأن المفترض أن يكون قد رجع عنه، أو لابد من اعتماد كتبه الأخرى التي شاعت وتلقفها الناس واعتمدوها ... وهكذا بقية أعلامن الأشاعرة.
4- التطور الذي وقع في المذهب الأشعري - كما سبق - هل يعتبر الطور الأول أو الثاني أو الثالث، إذا قيل يعتمد ما استقر عليه مذهب الأشاعرة، فما المصدر في ذلك؟
هذه أهم الصعوبات في تحديد عقيدة الأشعرية، ومن ثم فقد ترجح أن يكون العرض لها كما يلي:
أ - بالنسبة للأشعري، فقد سبق عرض عقيدته عند ترجمته، وأبرز سمات عقيدته:
1- إثبات أن الله موجود واحد، أزلي، وأن العالم حادث.
2- إثبات صفات الله تعالى، دون تفريق بين الخبرية والعقلية، ومن ذلك إثبات صفات السمع والبصر، والحياة، والإرادة، والكلام، والقدرة، والعلم، واليدين والوجه، والعين، والاستواء والنزول، والعلو والمجيء، وغيرها مما هو ثابت في الكتاب أو السنة.
3- أما الصفات الإختيارية فلا يثبتها صفات قائمة بالله تتعلق بمشيئته واختياره، بل إما أن يؤولها أو يثبتها أزلية وذلك خوفا من حلول الحوادث بذات الله.
4- الإيمان بكلام الله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لكن الكلام -عنده - أزلي، لا يتعلق بمشيئته وإرادته.
5- إثبات الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة.
6- الإيمان بالقدر، مع القول بالكسب، وأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل.(2/506)
7- الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ومرتكب الكبيرة مؤمن فاسق.
8- وفي الإمامة، والصحابة، وأمور المعاد، وغيرها يقول كما قال أهل السنة.
ب - أما بالنسبة لعقيدة الأشاعرة بعد الأشعري فلا يتم هذا إلا بعد عرض التطور الذي حدث لمذهبهم، وهذا ما سيتم توضيحه في الفصل التالي - إن شاء الله -.(2/507)
الفصل الخامس: تطور مذهب الأشاعرة وأشهر رجالهم إلى عهد ابن تيمية(2/509)
الفصل الخامس: تطور مذهب الأشاعرة
من الأمور المسملة لدى الأشاعرة وغيرهم أن أقوال الأشاعرة تعددت واختلفت في مسائل عديدة من مسائل العقيدة، وكل علم من أعلامهم حوت مؤلفاته ورسائله آراء توصل إليها إما باجتهاده أو تقليدا لأحد أعلام عصره أو مدرسته ممن تلقى على يديه العلوم والمعارف، فأصبح ذا منهج مستقل، ثم قد يرجع عن بعض أقواله في مؤلف أومؤلفات أخرى فتكثر الأقوال وتتعدد المناهج.
ويعتبر الأشاعرة مثل هذا الاختلاف أو التعدد في الأقوال اجتهادا داخل المذهب لا يؤثر عليه، ويجددون التفسير المناسب لمثل لذلك، فيقولون مثلا في بعض الصفات الخبرية، قال قدماء أصحابنا أو شيوخنا بإثباتها مع التفويض ونفي التشبيه، ثمن يذكرون القول الثاني بالتأويل تنزيها لله عن مشابهة المخلوقات، والقولان - عندهم - صحيحان ولا تعارض بينهما، والعجيب أن يتلقى الأشاعرة بعضهم عن بعض مثل هذا، لا يتوقفون عنده، ولا يثيرهم ما فيه من تناقض.
والحق أن التطور في المذهب الأشعري لم يكن في مسألة من المسائل بحيث لا يؤبه له، ولا يلفت النظر، بل كان تطورا في الأصول والمناهج، ويتعدى ذلك إلى مسائل عديدة في العقيدة، وقد كان أبرز مظاهر التطور في المذهب الأشعري ما يلي:
أ - القرب من أهل الكلام والاعتزال.
ب - الدخول في التصوف، والتصاق المذهب الأشعري به.
ج-- الدخول في الفلسفة، وجعلها جزءا من المذهب.(2/511)
هذه أهم الخطوط العامة لما وقع من التطور فيه، وقد تكون هناك تطورات جزئية، لكنها تدخل ضمن أحد هذه الأمور، وهناك بعض الظواهر في المذهب الأشعري قد تلفت نظر المطلع، وذلك مثل ظاهرة ارتباط المذهب الشافعي الفقهي بالمذهب الأشعري، ومثله المالكي، ولكن هذه لا تعدو أن تكون دعوى يدعيها بعض المتحمسين للمذهب الأشعري، وأقرب الأمثلة على ذلك السبكي في طبقات الشافعية، فقد حاول أن يجعل من كتابه هذا ما يمكن أن يسمي بطبقات الأشعرية، ويلاحظ ذلك من يطلع على التراجم في هذا الكتاب وأسلوبه في عرض كل ترجمة، ولا شك أن المدارس النظامية وبعض أعلام الشافعية كان لهم أثر فيما يلمس من تبني جمهرة كبيرة من فقهاء الشافعية للمذهب الأشعري، ولكن ليس بهذه الصورة التي يدعيها هؤلاء، كما أنه ليس كل الحنابلة مثبتة على وفق مذهب السلف، بل فيهم أعداد مالت إلى مذهب الأشاعرة أو إلى ما هو أشد غلوا منه.
والجزم في مثل هذه الأمور - التي لا يمكن أن يحصر من لهم علاقة بها من الأعلام، على مختلف الأزمنة والأمكنة- نوع من المجازفة يأباها النظر الفاحص والتتبع الدقيق، ومع ذلك فظاهرة تبني بعض أعلام الشافعية للمذهب الأشعري مما لا ينكر.
وقد يرد في الذهن تساؤل عن أسباب حدوث هذا التطور في مذهب الأشاعرة، وهل كان المذهب يحمل في داخله دواعي مثل ذلك؟ ثم لماذا كان التطور في هذه الاتجاهات المنحرفة ولم يكن في الرجوع إلى مذهب السلف، والتخلي عن البقايا الكلامية والاعتزالية؟.
لعل في عرض النقاط التالية شيئا من التحليل والتعليل، والأمر قبل كل شيء بيد الله تعالى، فهو الذي يصرف قلوب عباده كما يشاء، ولو شاء لجمعهم على الهدى:
1- إن الانحراف يبدأ في الغالب صغيرا، ثم يكبر، والمتتبع لأغلب المقالات، يجدها تبدأ صغيرة ثم يزداد انحرافها وغلوها مع الزمن، والمذهب الأشعري لما أن حوى منذ البداية انحرافا معينا سواء كان بالدخول في علم الكلام، أو تبني بعض آراء المعتزلة - وهذا كله مما يخالف مذهب السلف ومنهجهم -(2/512)
أصبح قابلا للزيادة في هذا الانحراف من خلال التمادي في علم الكلام والتزام لوازم الأقوال الفاسدة، والاستسلام لبعض شبهات أهل الضلال، وعدم القدرة على رد باطلهم إلا بالتزام بعض الأقوال الفاسدة.
2- كثرة مؤلفات مؤسسة أبي الحسن الأشعري، مع ما صاحب ذلك من كونه نشأ وعاش زمنا طويلا في ظل مذهب المعتزلة، وكان من آثار ذلك عدم استطاعته التخلص من المنهج الكلامي في عرض العقيدة، بل زاد على ذلك بأن التزم بعض أصولهم، وهذا كله بعد رجوعه، وقد كان من المفترض أن يكون رجوعه كاملا عن منهجهم وعقيدتهم إلى منهج وعقيدة السلف، لكن الذي وقع أنه ترك الاعتزال وتبني مذهب الكلابية، فإذا أَضيف إلى ذلك كثرة مؤلفاته ورسائله التي ألفتها بعد رجوعه واستخدامه في غالبها الاسلوب العقلي الكلامي، كما هو واضح في مثل كتابه " اللمع " وفي ما حواه كتاب ابن فورك " مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري "، مع تأخر كتابه الإبانة، وكونه كتابا واحدا في مقابل عشرات الكتب المنتشرة، فهذا يفسر ما وقع من تطور في مذهب الأشاعرة، مع قناعة أعلامهم بأنهم لم يخالفوا أقوال شيخهم الأشعري مخالفة أصولية (1) .
3- إن المذهب لم يبن منذ البداية على منهج مؤصل؛ حيث لم يحدد له أصول واضحة في الاعتقاد أو كيفية التعامل مع النصوص، والأشعري في الإبانة كان صاحب منهج يختلف عن منهجه في كثير من كتبه، لذلك فالمذهب منذ البداية نشأ على التذبذب بين موافقة مذهب السلف، والرد على المعتزلة، وتأييد العقيدة بعلم الكلام، ولو نشأ المذهب واضح المعالم في الاستدلال للعقيدة أو الرد على المخالفين لكان ذلك مانعا من اجتهاد يأتي فيما بعد يؤدي إلى الانحراف، وهذا ما حدث بالنسبة لما كتبه أعلام السلف في ردودهم على الجهمية
_________
(1) سبقت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن كتاب "المجرد" في آخر الكلام عن مؤلفات الأشعري، ويرى ابن بدران أن أتباع الشعري التقطوا مسائل كتبه التي رد بها على المعتزلة وجعلوها مذهبا له، وتركوا الإبانة التي صرح فيها بعقيدته، انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أزحمد (ص: 49-50) .(2/513)
والمعتزلة، فعلى الرغم من المناقشات العقلية، والالزامات القوية للخصوم، في مؤلفات الأئمة مثل الإمام أحمد، والكناني، والدرامي، وابن قتيبة، وغيرهم، لم تؤد هذه الردود- التي بقيت وحفظت - إلى شيئ من الانحراف، بل على العكس كان لها دور في دعم مذهب السلف وإسكات خصومهم.
4- رفض أهل السنة للمذهب الأشعري منذ البداية مما كان سببا في جعله مذهبا منعزلا عنهم، ولكا كان رفض أئمة الحديث والسنة له الأثر النفسي والواقعي في حياة الناس، حرص المتأخرون على الدفاع عن مذهبهم وعقيدتهم الأشعرية ودعمها بالأدلة، وبيان بعدها عن التشبيه والتجسيم الذي قد يصمون به أهل الإثبات، والمعارضة القوية من جانب علماء السلف لمذهب الأشاعرة ورمي معتنقيه - أحيانا - بأنهم نفاة ومعتزلة، يؤدي إلى ردود فعل نفسية من جانب هؤلاء فيؤدي إلى اتساع دائرة البعد بين الفريقين.
5- ومن الأسباب أيضا فشو التقليد في أصول العقيدة وفروع الأحكام فقد يقلد شيخه في إحدى المسائل؛ ظنا منه أنه - وهو العالم المشهور- ما قال بها إلا هي حق، ثم يضطر في النهاية إلى التزام لوازم هذه المسألة، وقد تكون لوازم باطلة، لكنه التزمها التزاما لأصلها الذي أخذه تقليدا، وقد يكون شيخه قال بهذه المسألة بناء على وجه معين وهو يرفض لوازمها لو ألزمها.
6- وهناك أسباب أخرى مثل الهوى، والتعصب لطائفة أو لمذهب، وحرص أهل الباطل على التفريق بين المسلمين بإثارة الفتن بينهم، وغيرها.
* * *
بعد هذه المقدمة ننتقل إلى عرض مجمل لترجمة ومنهج أهم أعلام الأشاعرة إلى عصر بان تيمية مع ذكر جوانب التطور التي حدثت في المذهب الأشعري عن طريقهم، وسيتم هذا العرض على المنهج التالي:(2/514)
1- الاقتصار على ذكر أعلام الأشاعرة الذي كان لهم دور في المذهب، وذلك من خلال مؤلفاتهم وكتبهم التي ساعدت على دعم أو تطوير المذهب الأشعري.
2- لما كان كل علم من هؤلاء بحاجة إلى دراسة مستقلة- وكثير منهم كتبت عنهم مؤلفات ورسائل علمية - فسيقتصر العرض على مايلي:
- ترجمة موجزة للعلم، وأهم شيوخه وتلاميذه.
- آثاره العلمية المتعلقة بمذهب الأشاعرة.
3- مجمل منهجه وعقيدته، وبيان جوانب التطور عنده إن وجدت، مع التركيز على بعض شخصيات الأشاعرة المشهورة.
* * *(2/515)
- أبو الحسن الطبري: توفي بحدود سنة 380هـ.
تقدم ذكر أبي الحسن (1) الطبري في تلامذة الأشعري، وأنه كان أحد تلاميذه الأربعة الذين اختصوا به، واسمه علي بن محمد بن مهدي، أبو الحسن الطبري (2) ، -وأحيانا يقال: على بن مهدي -، وقد ذكر السبكي أنه تحقق أن أباه اسمه محمد، ومهدي جده.
قال عنه السبكي: " كان من المبرزين في علم الكلام، والقوامين بتحقيقه، ... وكان مفتنا في أصناف العلوم"، وذكر الاسنوي عن أبي عبد الله الأسدي أنه قال في كتاب "مناقب الشافعي":" كان شيخنا وأستاذنا أبو الحسن بن مهدي حافظا للفقه والكلام والتفاسير والمعاني وأيام العرب، فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله، مصنفا للكتب في أنواع العلم، صحب أبا الحسن الأشعري في البصرة مدة"، ولم يؤرخ ولادته ولا وفاته، إلا أن الصفدي ذكر أنه توفي في حدود سنة 380هـ.
أما أهم آثاره فهي:
1- كتاب "الأصول".
2- تفسير أسامي الرب عزوجل.
وهذان الكتابان ذكرهما العبادي، ولا يعرف عنهما شيء.
3- تأويل الأحاديث المشكلة الموضحة وبيانها بالحجة والبرهان.
وقد ذكر هذا الكتاب جميع من ترجم له، وقد وصلت إلينا نسخة منه
_________
(1) هكذا في الكتب التي ترجمت له، وفي مخطوطة كتابه تأويل الأحاديث المشكلات، أنه: أبو الحسين.
(2) انظر في ترجمته: تبيين كذب المفتري (ص: 195) ، والوافي للصفدي (22/143) .(2/516)
لا تزال مخطوطة (1) .
عقيدته:
بما أن على بن محمد الطبري يعتبر من تلامذة الأشعري فهو يمثل مرحلة متوسطة بين الأشعري والباقلاني، وعرض عقيدته وآرائه يفيد في بيان مستوى النقلة من المؤسس الأول إلى أتباعه من بعده، وكيف تلقى تلاميذ الأشعري أقواله، وهل تابعوه فيها من خلال المرحلة الأولى من رجوعه أم المرحلة الأخيرة؟
1- كتب أبو الحسن الطبري في بداية كتابه ما يبين سبب تأليفه حين قال: " أما بعد فإنك كتبت إليّ شكوى مافشا بالناحية من معتقد الفرقة المنتسبة إلى الحديث، المنتحلة الأثر، حتى مالوا إلى قوم من ضعفه المسلمين بمعاهدتهم بالتلبيس والتمويه" (2) ، ثم يصف هؤلاء الذين يوردون الأخبار فقط بأنهم: " تقصر معرفتهم عن استخراج تأويلها ... لقلة عنايتهم بمعرفة مصادر الكلام وموارده، وظاهره وباطنه، ومجازه وحقيقته واستعارته، وما يجوز إطلاقه في القديم ومالا يجوز إطلاقه" (3) ، ثم يقول عنهم:" قد قنع الواحد منهم من العلم برسمه، ومن الحديث بجمعه واسمه، فأبعد غاية هذه الطائفة أن يكتبوا أجزاء من الحديث وأجلادا من القصص ثم يقبلوا على تفسيرها بغير ما أذن الله بها" (4) .
ثم يذكر تأثير هؤلاء بأنهم: " يتقربون إلى الرعاع والهمج من أهل الحديث بذلك، وإن من عدل عن هذا المنهج والسير فقد خالف المشايخ والقدماء والأسلاف من العلماء" (5) .
ثم يذكر نماذج من الأحاديث التي يوردونها، ويبين أنه لابد من تفسيرها ب-: " ما يوافق المعقول من الأصول، والمعمول به من اللغات" (6) .
_________
(1) موجودة في مكتبة طلعت في القاهرة محموع رقم (491) من 108 -أ - 162 - ب، وقد رقمت المخطوطة ترقيما خاصة بها، وعليها الإحالة في بيان أرقام لوحاتها.
(2) تأويل الأحاديث المشكلة - مخطوط - (لوحة 1- أ) .
(3) المصدر السابق (لوحة 1- ب) .
(4) نفس المصدر.
(5) نفس المصدر.
(6) تأويل الأحاديث المشكلة- مخطوط - (لوحة 2- ب) .(2/517)
فأبو الحسن الطبري في هذه المقدمات [يعرض بأهل الحديث و] يستخدم المنهج العقلي في تأويل النصوص الدالة على الإثبات دون أن يفرق بين الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة والأحاديث الثابتة، بل واضح من كلامه أن حذره من التشبيه أكثر من حذره من التعطيل.
2- يحتج على إثبات الصانع بخلق الإنسان من نطفة ثم من علقة، ثم يحتج على الوحدانية بدليل التمانع (1) ، وهذه نفسها أدلة الأشعري، ويقول: إن الله ليس بجسم ويحتج لذلك بإن الله لم يسم نفسه به ولا اتفق المسلمون عليه، ويعلل منع إطلاقه بأن حقيقة منع إطلاقه بأن حقيقة الجسم أن يكون طويلا عريضا عميقا وهذا يخالف وصف الله بأنه واحد (2) .
3- أما مذهب أبي الحسن الطبري في الصفات فقد فصله في كتابه، ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي:
أبالنسبة للصفات الخبرية فهو يثبتها مع نفي أي دلالة فيها على التجسيم أو التبعيض - على حد زعمه - فمثلا حين يتكلم على صفة اليدين وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] يذكر الوجوه الواردة في معنى اليد، كالقوة، والنعمة، والجارحة، وبمعنى النفس والذات، ومنها يد صفة لا تحتمل معنى من المعاني السابقة، وبعد أن يبطل هذه الأقوال تفسيرا للآية يقول: "فإذا بطلت هذه الوجوه بأسرها لم يرجع تفسيرها إلى غير إطلاق اللفظ فيها كما جاء عن الله سبحانه من غير تفسيرنا ذلك بالفارسية الموهمة للخطأ، فإن قيل: كيف يستقيم لك أن تقسم اليد على أوجه ثم تخرج اليد التي تثبتها للقديم من جملتها من غير أن ترجع في العبارة عنها إلى الفارسية وغيرها من اللغات ولا تزيد على قولك من أنها يد صفية وهي غير معقولة فيما بيننا؟ قيل له: إن ذلك التقسيم الذي قسمنا إنما فعلنا فيما شاهدناه، ونحن فلم نرتب الباب بيننا
_________
(1) تأويل الأحاديث المشكلة (لوحة 3- أ-ب) .
(2) المصدر السابق (لوحة 4- أ) .(2/518)
وبين خصومنا، لا لنثبت ما شاهدناه، وعقلناه معاينة حتى يكون قولك هذا قادحا في جملة ما أوردناه في هذا الباب؛ لأنا قد نثبت فاعلا في الغائب قديما ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر وإن كنا في الشاهد لا نعقل موجودا إلا جسما أو جوهرا أو عرضا، فإن صح ذلك كله مع خروجه عن حكم الشاهد صح لغيرك إثبات اليد القديم من غير رجوع في تفسيرها إلى أكثر من إطلاق اللفظ بها كما جاء في القرآن " (1) ، والخلاصة أنه يثبت اليدين مع التفويض الكامل لها، ولذلك لم يثبت القبضة الواردة في قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] بل أولها بقوله عن معنى الآية: "أي والأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة بقدرته على إفنائها" (2) ، وكذلك يقول في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) ، إن الطي أريد به الفناء والذهاب، ويذكر أدلة ذلك من الشعر ثم يقول:" ومن الناس من يقول: مطويات بيمينه أي ذاهبات بقسمه لأنه أقسم ليفنيها " (3) .
ويقول: إن الله راء بلا عين، ويرد على أدلة من يسميهم بالمشبه الذين أثبتوا لله عينا ويتأول النصوص الواردة في ذلك من الكتبا والسنة (4) ، كما يتأول" القدم "ويذكر له عدة تأويلات ولا يثبت هذه الصفة كما يليق بالله تعالى (5) .
ب - يثبت أبو الحسن الطبري صفة الاستواء والعلو لله تعالى، يقول:" اعلم عصمنا الله وإياك من الزيغ برحمته أن الله سبحانه في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه، وبمعنى الاستواء الاعتلاء، كما يقول: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح يعني علوته، واستوت الشمس على رأسي واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي،
_________
(1) تأويل الأحاديث المشكلة (ل 21 - ب)
(2) المصدر السابق (ل 22 - أ)
(3) نفسه (ل 22 - ب) ، كما أنه تأويل (عن يمين الرحمن) و (كلتا يديه يمين) ، انظر: (ل51 -أ -ب) .
(4) انظر: نفس المصدر (ل5 - أ، ل6 - أ - ب، ل54 - أ) .
(5) نفسه (ل38 - ب- 39 -أ) .(2/519)
والقديم جل جلاله عال على عرشه لا قاعد ولا قايم ولا مماس له ولا مباين، والعرش ما تعقله العرب وهو السرير، يريد بذلك أيضا على أنه في السماء عال على عرشه قوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (الملك: 16) ، وقوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) ، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل: 50) ، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10) ، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (السجدة: 5) (1) ، ثم رد على البلخي وغيره من المعتزلة في تأويلهم الاستواء بالاستيلاء واحتجاجهم بقولهم: استوى بشر على العراق - وغيره - فقال:" فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون عرش الله جسما مجسما، خلقه وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه كما خلق في الأرض بيتا وامتحن بني آدم بالطواف - حوله وبقصده من الآفاق، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (الزمر: 75) ، وقال في موضع آخر: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة: 17) ، ففي كل هذا دلالة أن العرش ليس بالملك وأنه سرير " (2) ،
ثم قال:" ومما يدل على أن الاستواء ها هنا ليس بالاستيلاء أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون ساير خلقه، وليس للعرش مزية على ما [وصفت] (3) ، فبان بذلك فساد قوله، ثم يقال له أيضا: إن الاستواء ليس هو بالاستيلاء في قول العرب: استوى فلان على كذا أي استولى عليه، إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكنا، فلما كان الباري سبحانه لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء، وحدثنا الشيخ أبو عبد الله الأزدي الملقب بنفطويه قال: حدثنا أبو سليمان، قال كنا عن ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما معنى قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ، قال: إنه مستو على
_________
(1) تأويل الأحاديث المشكلة (ل24= أ- ب) .
(2) نفسه (ل 24 - ب) ..
(3) في المخطوطة: وضعت، والتصويب من نقض التأسيس المطبوع (2/336) ، حيث نقل هذا النص عنه.(2/520)
عرشه كما أخبر، فقال له الرجل: إنما معنى استوى استولى فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك ما هذا، العرب لا تقول استوى (1) على العرش حتى يكون فيه مضاد له، فأيهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله سبحانه لا مضاد له، وهو مستو على عرشه كما أخبر، والاستيلاء يكون بعد المغالبة" ثم يقول: " فإن قيل فما تقول في قوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (الملك:16) ، قيل له معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} (التوبة:2) ، أي على الأرض ... " (2) .
وكلامه في ذلك طويل حيث رد على الذين يقولون: إن الله في كل مكان، كما رد على من تأول رفع المسلمين أيديهم إلى السماء عند الدعاء بأن ذلك لأن أرزاقهم في السماء أو لأن الملائكة الحفظة في السماء، فقال: بأن ذلك لو جاز لجاز " أن تخفض أيدينا في الأرض نحو الأرض من أجل أن الله تعالى يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش وأنها قرار، ومنها خلقوا وإليها يرجعون، ولأنه يحدث فيها آيات كالزلازل والرجف والخسف، ولأن الملائكة معهم في الأرض، الذين يكتبون أعمالهم، فإذا لم يجب خفض الأيدي نحو الأرض لما وصفنا لم تكن العلة في رفعها نحو السماء ما وصفه البلخي، وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه برفعهما نحو العرش الذي هو مستو عليه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) (3) .
هذا رأي الطبري في مسألة العلو والاستواء، وهذه النصوص تدل على استقرار هذه المسألة وفق مذهب السلف عند تلامذة الأشعري، وهذا ما سنجده أيضام عند الباقلاني - كما سيأتي -.
ج-- يتأول أبو الحسن الطبري النصوص الواردة في الضحك والعجب، والفرح، ففي صفة الضحك الواردة في الأحاديث يذكر المعاني المجازية للضحك
_________
(1) في شرح السنة للالكائي رقم 666 "استولى" ولعلها أصوب.
(2) تأويل الأحاديث المشكلة (ل25 - أ -ب) .
(3) تأويل الأحاديث المشكلة (ل27 - أ- ب) ، وقد نقل ابن تيمية أغلب النصوص الواردة في العلو والاستواء في نقض التأسيس المطبوع (2/335-337) .(2/521)
مثل قول العرب ضحكت الأرض إذا تبدي نباتها، وضحك طلع النخل إذا بدا كافوره، ويقال هذا طريق ضاحط أي ظاهر واضح، ثم يقول: " فمرجع الضحك في هذا كله إلى البيان، ومعنى الخبر (1) والله أعلم بالمراد: يضحك الله أي يبين الله ثواب هذين الرجلين المقتولين ... فإذا وجدنا للضحك معنى صحيحا تعرفه العرب في لغتها غير الكشر عن الأسنان عند حلول التعجب منه كانت إضافة ذلك إلى ربنا سبحانه أولى مما أضافت إليه المشبهة، نعوذ بالله من الحيرة في الدين وهو ولي المعونة" (2) ، وهذا تأويل واضح لهذه الصفة، وفي صفة العجب يذكر عدة تأويلات منها: أن معنى عجب ربك أي عظم عنده، وقيل معناه رضي وأثاب، وقيل: جازاه على عجبه (3) ، ولا يذكر إثبات هذه الصفة كما يليق بجلال الله وعظمته، كما يؤول الفرح بالرضا (4) .
د- أما الصفات الاختيارية التي تقوم بالله تعالى كالنزول والمجيء والإتيان فيتأولها ولا يثبتها كما يليق الله وعظمته، وهذا بناء على نفي حلول الحوادث، يقول عن النزول: " ولا يجوز حمل ذلك على النزول والنقلة ... لما فيه من تفريغ مكان وشغل آخر، والقديم قد جل أن يكون موصوفا بشيء من ذلك، كذلك وقد حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام:76) ، واحتجاجه بهذه الآية هنا هو احتجاج جمهور الأشاعرة الذين يزعمون إن إبراهيم عليه السلام استدل بتغير وتحرك النجم على أنه لا يصلح أن يكون إلها، وبنوا على ذلك نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى. ويقول أبو الحسن الطبري عن الإتيان والمجيء، " فإن قيل: فما تقول في قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ
_________
(1) يشير إلى ما سبق أن ذكر من حديث " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة ... " وهو حديث متفق عليه، البخاري كتاب الجهاد، باب الكافر يقتل المسلم ورقمه (2826) فتح الباري (6/39) ، ومسلم كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الحنة ورقمه (1890) .
(2) تأويل الأحاديث (1 35 - أ - ب) .
(3) انظر: المصدر (ل35 - أ - ب) .
(4) نفسه (ل 42- أ) .(2/522)
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل:26) ، وفي قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الفجر:22) وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (البقرة:210) ، تقول في قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل:26) ، وفي قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الفجر:22) ، وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (البقرة:210) ، قيل له: إن الله سبحانه قد صح أنه لا يجوز وصفه بالإتيان والمجيء الذي بمعنى الإنتقال والزوال، إذ كان ذلك من صفات الأجسام تعالى الله أن يكون جسما أعرضا، وكلام العرب واسع له ظهر وبطن لاتباع العرب في المجازات وطرق الكلام.
ومعنى البيان في قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} (النحل:26) ، الاستئصال في الهلاك والدمار بإرساك العذاب ... وأما قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ،فمعناه جاء حكم ربك وأمر ربك، ألا ترى أن الخاص والعام يقول: ضرب الأمير زيدا، وإن كان الأمير لم يباشر زيدا بالضرب، بل كان ذلك بأمره وحكمه عليه، وقد قال الله تعالى في قصة لوط) {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} (القمر:37) ، وإن كان الطمس للأعين للملائكة بأمر الله، وأما قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} ، فمعناه هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالحساب في ظلل من الغمام، يراد به بظلل من الغمام، وأن الفاء بمعنى الباء ... " (1) ، هذا هو مذهبه في تأويل هذه الصفات.
4- يثبت أبو الحسن الطبري الرؤية ويرد على المعتزلة المنكرين لها، لكن الملاحظ أنه أورد سؤالا حولها يتعلق بأنه يلزم من إثباتها المقابلة، فأجاب بما يدل على أنه يقول بأنه لا يلزم من الرؤية المقابلة، ومما قاله - وهو يرد على المعتزلة - " وقد زعمتم أن معنى ترون ربكم: تعلمون ربكم، ولم تلزموا أنفسكم أنكم تعلمونه مقابلا لكم" (2) .
_________
(1) تأويل الأحاديث (ل 50 - أ - ب) .
(2) المصدر السابق (ل 44 - ب) .(2/523)
5- هذه أقوال أحد تلامذة الأشعري، ممن جاء قبل الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري، وهذه النصوص التي نقلت من كلام أبي الحسن الطبري تمثل مرحلة جاءت بين علمين مهمين من أعلام الأشاعرة، ومما سبق يتبين مايلي:
1- إن منهج الأشاعرة الكلامي جعلهم يحرصون على رد تهمة التشبيه عنهم حين يثبتون الصفات كحرصهم على رد تهمة التعطيل وذلك في ردودهم المتوالية على المعتزلة، ولذلك تجد عبارات نفي التجسيم عن الله، أو تأويل أي صفة تدل عليه بزعمهم، وكان من أثر ذلك هجومهم على أهل السنة والحديث الذين يوردون أحاديث الصفات ويروونها مثبتين لها.
2- إثبات الصفات الخبرية لله تعالى، وهذا موجود أيضا عند الباقلاني، لكن نلمح من عبارات أبي الحسن الطبري شرحا واضحا لقولهم وقول الباقلاني: ونثبت أن الله يدين بلا كيف، فما معنى بلا كيف، عبارات الطبري تدل على أنه يقصد التفويض.
3- إن صفة العلو والاستواء لم تكن محل شك أو نقاش عندهم، لأن نفيه أو تأويله هو منهج المعتزلة والجهمية، وهم مخالفون لهم في ذلك، وهذا ما ستجده عند الباقلاني أيضا.
4- تأويل الصفات الأخرى: كالفرح والضحك والمجيء والإتين والنزول، وهذا ما سنجده عند من جاء بعده كالباقلاني الذي يؤول صفات الضحك والفرح أو المجيء والإتيان فيذكر عدة أقوال منه التأويل، كما نجد هذا واضحا عند البيهقي في كتابه الأسماء والصفات، فقد نقل عنه كثيرا خاصة في هذه الصفات (1) .
_________
(1) نظرا لأن البيهقي نقل من كتابه تأويل الأحاديث المشكلة نصوصا، فنشير إلى بعض مواضع النقل في كتابه " الأسماء والصفات"، انظر: (ص/ 310 " النور "، و (ص: 352 " القدم "، و (ص: 397) ، حول اهتزاز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ، و (ص: 410 " إثبات الاستواء") و (ص: 415) حول الاستواء، و (ص: 466، 473، 477، 481، 483، 484، 487، 488، 490، 509) ، في صفات متعددة كالضحك، والفرح، والغيرة، والحياء، وغيرها..(2/524)
5- ونلمح في منهج أبي الحسن الطبري في مسألة الرؤية إشارة لبداية المشكلة بين المعتزلة النفاة والأشاعرة المثبتين، وذلك حول لزوم المقابلة من إثبات الرؤية.
6- وعلى العموم فيدل كلام الطبري في كتابه هذا على حرص الأشاعرة على أن يسيروا على منهج متوسط بين المعتزلة وأهل الحديث؛ ولذلك ردوا على المعتزلة وخالفوهم، كما أولوا بعض الصفات وخالفوا أهل السنة المثبتين، وهذا ما يفسر تلك المواقف القوية لعلماء السنة من الأشاعرة في ذلك الوقت، ومن يطلع على عبارات أبي الحسن الطبري في تاويله لبعض الصفات يتضح لديه أن تلامذة الأشعري لم يسيروا على ما في الإبانة وإنما تتلمذوا على كتبه الأخرى ذات الصبغة الكلامية والمناهج التأويلية.(2/525)
- الباقلاني: ت 403 هـ.
أحياته: هو الإمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بان جعفر قاسم البصري، ثم البغدادي، ابن الباقلاني (1) ، لم يعرف تاريخ ولادته، كان من أهل البصرة، وسكن بغداد، وقد كانت وفاته سنة 403 هـ.
تتلمذ على مجموعة من الشيوخ منهم:
1- أبو بكر أحمد بن جعفر بن مالك القطيعي، رازي مسند الإمام أحمد، توفي سنة 368 هـ، سمع منه الحديث.
2- أبو بكر: محمد بن عبد الله الأبهري، توفي سنة 375هـ، أخذ عنه الفقه.
3- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي البصري - تلميذ أبي الحسن الِأشعري-، درس عليه الأصول والكلام.
4- أبو الحسن الباهلي: تلميذ أبي الحسن الأشعري، توفي سنة 370هـ، تلقى على يديه أصول المذهب الأشعري.
5- أبو عبد الله: محمد بن خفيف الشيرازي الصوفي، المتوفى سنة 371هـ، وهو أيضا ممن تتلمذ على أبي الحسن الأشعري.
6- أبو محمد: عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي، صاحب الرسالة، المتوفى سنة 386هـ، قال عنه الباقلاني: شيخنا (2) .
_________
(1) انظر: ترجمته في: تاريخ بغداد (5/379) ، الأنساب (2/51) ، واللباب (1/112) ، ترتيب المدارك (7/44) ، تبيين كذب المفتري (ص: 217) ، الوفيات (4/269) ، الوافي (3/177) ، سير أعلام النبلاء (17/190) ، الديباج المذهب (2/228) ، شجير النور الزكية (1/92) ، ومقدمة تحقيق إعجاز القرآن لأحمد صقر (ص: 17) ، وما بعدها، وغيرها.
(2) انظر: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات (ص: 50) .(2/526)
7- أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، المتوفى سنة 369هـ.
8- أبو أحمد الحسين بن علي النيسابوري، المتوفى سنة 375هـ.
9- محمد بن عمر البزار، المتوفى سنة 374هـ.
10- وأبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، المتوفى سنة 382هـ، وغيرهم، ويلاحظ أن من شيوخه ثلاثة من تلاميذ أبي الحسن الأشعري.. كما تتلمذ عليه مجموعة من العلماء، منهم:
1- القاضي المالكي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي، المتوفى سنة 422هـ.
2- أبو ذر الهروي، عبد بن أحمد، الأشعري، المتوفى سنة 434هـ، والذي نقل المذهب الأشعري إلى الحرم، ثم أخذ عنه المالكية هذا المذهب، وقد أن شيخه الدارقطني المتوفى سنة 385هـ، يعظم الباقلاني لما التقى به في الطريق، ولما سأله الهروي قال: " هو أبو بكر بن الطيب، الذي نصر السنة وقمع المعتزلة، وأثنى عليه" (1) .
3- أبو جعفر محمد بن أحمد السمناني، الحنفي، المتوفى سنة 444هـ.
4- أبو الحسن علي بن عيسى السكري الفارسي، الشاعر، المتوفى سنة 413هـ.
5- الحسين بن حاتم الأزدي، الذي أرسله الباقلاني إلى جامع دمشق ليلقي درسا في العقيدة، وقد رجع إلى المغرب ونشر علمه هناك، ومات بالقيروان (2) .
_________
(1) ترتيب المدارك (7/46) .
(2) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 216-217) .(2/527)
6- أبو عبد الرحمن السلمي، محمد بن الحسين الصوفي، المتوفى سنة 412هـ، قرأ عليه لما قدم الباقلاني إلى شيراز.
7- ابن اللبان، أبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني الشافعي، المتوفى سنة 446هـ.
8- أبو علي الحسن بن شاذان، ت 426هـ.
9- أبو بكر بن الحسين الإسكافي.
وغيرهم كثير.
أقوال العلماء فيه:
1- قال عنه الخطيب البغدادي: " المتكلم على مذهب الأشعري ... وكان ثقة، فأما الكلام فكان أعرف الناس به، وأحسنهم خاطراً، وأجودهم لساناً، وأوضحهم بياناً، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الرد على المخالفين من الرافضة، والمعتزلة، والجهمية، والخوارج وغيرهم" (1) .
2- وقال عنه القاضي عياض: " الملقب بشيخ السنة، ولسان الأمة، المتكلم على مذهب المثبتة وأهل الحديث وطريقة أبي الحسن الأشعري" (2) ، ونقل عن الهمداني قوله: " كان شيخ المالكيين في وقته، وعالم عصره، المرجوع إليه فيما أشكل على غيره، وقال غيره: وإليه انتهت رئاسة المالكين في وقته، وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وكانت له بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة" (3) .
4- وقال عنه الذهبي: " الإمام العلامة، أوحد المتكلمين، مقدم
_________
(1) تاريخ بغداد (5/379) .
(2) ترتيب المدارك (7/44) .
(3) نفس المصدر (7/45) .(2/528)
الأصولين" وقال: " وكان ثقة إماماً بارعاً صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرامية وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق، فإنه من نظراته" (1) .
5- وكان الباقلاني ذا شهرة واسعة، ولذلك استقدمه عضد الدولة البويهي إلى شيراز وناظر المعتزلة في مجلسه، كما أرسله سنة 371هـ، رئيساً للبعثة التي أوفدها إلى ملك الروم، وجرت له أمور كثيرة (2) .
ب - آثاره:
تتلمذ على يد الباقلاني تلامذة عديدون، كان لهم أكبر الأثر في نشر المذهب الأشعري، خاصة عند المغاربة، كذلك ترك عدداً كبيراً من المؤلفات في معارف مختلفة، وما يختص منها بالكلام - الذي سار فيه على طريقة أبي الحسن الأشعري- كانت ذا أثر عظيم في المذهب الأشعري، بل يعتبر المؤسس الثاني لهذا المذهب.
ومؤلفات الباقلاني تبلغ (55) مؤلفاً، وقد ذكر أكثرها القاضي عياض (3) ، ثم ذكرها وفصل القول فيها السيد أحمد صقر (4) ، وأكثرها مفقود، وغالب ما وجد منها كتبه الكلامية أو ما هو قريب منها (5) .
وأهم كتبه الكلامية - التي دعم فيها المذهب الأشعري-:
1- التمهيد: ويسمى تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، وقد ألفه لابن عضد الدولة وولي عهده لما طلب منه أن يعلمه مذهب أهل السنة.
_________
(1) السير (17/190) .
(2) انظر: تفصيل ذلك في ترتيب المدارك (7/51) وما بعدها.
(3) ترتيب المدارك (7/69-70) .
(4) مقدمة تحقيق إعجاز القرآن (ص: 37) وما بعدها.
(5) انظر: تاريخ التراث العربي، سزكين المجلد الأول (ج- 4 ص: 49) ، وما بعدها- ط جامعة الإمام -.(2/529)
والتمهيد من أهم كتب الأشاعرة، وقد ركز فيه الباقلاني على الحجاج العقلي، ولذلك تضمن الردود الطويلة على المنجمين، والثنوية، والديصانية، والمجوس، والبراهمة، واليهود، والنصارى، وغيرهم.. مع أبواب أخرى في تفصيل مسائل الصفات والقدر وغيرها على وفق مذهب الأشاعرة.
والكتاب طبع في القاهرة وبيروت، وكل واحدة من الطبعتين ناقصة، وإحداهما تكمل الأخرى، وقد طبع أخيراً في بيروت طبعة تجمع بين الطبعتين، ولكن الذي سمى نفسه محققاً لهذه الطبعة وهو الشيخ عماد الدين حيدر ارتكب خطأ علمياً شنيعاً حين حذف من الكتاب نصاً للباقلاني يتعلق بإثباته للعلو والاستواء والرد على من أوله بالاستيلاء، وهو خطأ مقصود لأن الذي حذفه لا يناسب اعتقاده خاصة وأن له تعليقات يهاجم فيها المثبتة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية (1) ، وسيأتي إيضاح هذه المسألة بعد قليل.
2- رسالة الحرة، وقد طبع باسم " الإنصاف فيما يحب اعتقاده ولا يجوز الجهل به" وهذا الاسم خطأ، بل الاسم الصحيح "الحرة" وقد ذكره في مقدمة كتابه فقال: " أما بعد فقد وقفت على ما التمسته الحرة الفاضلة الدينية.." (2) ، وبهذا الاسم ذكره القاضي عياض (3) ، ونقل عنه ابن القيم (4) ، ورسالة الحرة رسالة جامعة ذكر فيها الباقلاني مسائل العقيدة أولاً بإجمال ثم فصلها، وتوسع كثيراً في مسألة القرآن وكلام الله وما يتعلق بذلك [ص:71-143] ، كما توسع في مسائل القدر والكسب [ص: 144-168] ، ثم ذكر مسائل الشفاعة والرؤية.
_________
(1) انظر: التمهيد- ط - مؤسسة الكتب الثقافية في بيروت (ص: 41-42، وص: 296، وص: 301-302) ، الحواشي. أما النص الذي حذفه فمكانه في (ص: 298) ، وهو موجود في طبعة مكارثي (ص: 260-262) .
(2) الحرة (مطبوعة باسم الانصاف) ، (ص: 193) .
(3) انظر: ترتيب المدارك (7/70) .
(4) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 193) .(2/530)
3- كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنارنجات، وهو في إثبات النبوات، والفرق بين معجزات الأنبياء وخوارق السحرة والكهان وغيرهم، وهو من أوسع ما كتب في هذا الباب.
وقد طبع الكتاب بتحقيق مكارثي، وذكر أنه طبعه على المخطوط الوحيد المعروف لهذا الكتاب (1) ، ولما كان المخطوط ناقصاً رجح أن الباقلاني لم يتمه لأنه ربما ألفه في آخر عمره (2) ، أما كونه من آواخر كتبه فهو صحيح لأن الباقلاني في كتابه هذا يشير إلى كتبه الأخرى مثل التمهيد وأصول الديانات وكتبه في أصول الفقه، كما أشار إلى أنه قد ألف منذ سنين حول هذا الموضوع - المعجزات والفرق بينها وبين الكرامات والسحر - وأنه قد انتسخ في الحرم (3) ، وهذا يدل على أنه قد بلغ من الشهرة مبلغاً، أما دعوى مكارثي أن الباقلاني لم يتم كتابه هذا، لأن المخطوط انتهى عند قوله: " يتلوه إن شاء الل باب القول في الإبانة عن وجود الشياطين وذكر الأدلة على ذلك.." (4) ، فهي دعوى غير صحيحة لأن شيخ الإسلام ابن تيمية نقل نصوصاً من هذا الكتاب في كتابه " النبوات "، ومنها نصوص ليست موجودة في المطبوعة من البيان (5) ، مما يدل على أنه قد اعتمد على نسخة كاملة وأن الباقلاني قد أتمه.
وكتاب النبوات رد على الباقلاني في كتابه هذا.
4- كتاب هداية المسترشدين والمقنع في معرفة أصول الدين، وهو كتاب كبير بقي منه مجلد واحد من الجزء السادس إلى الجزء السابع عشر بتجزئة
_________
(1) انظر: مقدمة تحقيق البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات (ص: 15) .
(2) انظر: مقدمة المصدر السابق (ص: 20) .
(3) انظر: البيان (ص: 5-6) .
(4) نفس المصدر (ص: 108) .
(5) انظر: النبوات (ص: 51-182) - ط دار الكتب العلمية -.(2/531)
المؤلف (1) ، وقد أشار إليه ابن تيمية في التسعينية (2) ، والفرقان بين الحق والباطل (3) ، وهو كتاب جامع وإن ركز فيه الباقلاني - في الجزء الموجود - على مسألة النبوات وإعجاز القرآن (4) .
5- دقائق الكلام والرد على من خالف الحق من الأوائل ومنتحلي الإسلام وهي في الرد على الفلاسفة والمنجمين، وقد أشار إليه ابن تيمية في درء التعارض (5) .
6- الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والضلالة، وقد نقل منه ابن تيمية نصاً حول الصفات في الفتوى الحموية (6) ، وابن القيم في اجتماع الجيوش (7) ، كما أشار إليه ابن تيمية في درء التعارض (8) .
7- شرح اللمع لأبي الحسن الأشعري، ولم يصل إلينا هذا الكتاب، لكن نقل منه شيخ الإسلام نصوصاً كثيرة في درء التعارض، وكتاب (9) ، " اللمع " للأشعري يحمل مكانة عند الأشاعرة، ولذلك لما قدم الباقلاني إلى شيراز لمقابلة عضد الدولة البويهي استقبله فيها عبد الله بن خفيف - أحد تلامذة الأشعري - في جماعة من الصوفية وأهل السنة، يقول الباقلاني: " فلما جلسنا في موضع كان ابن خفيف يدارس فيه أصحابه اللمع للشيخ أبي الحسن الأشعري، فقلت له: تماد على التدريس كما كنت، فقال لي: أصلحك الله، إنما أنا بمنزلة المتيمم عند عدم الماء.." (10) .
_________
(1) انظر: مقدمة السيد أحمد صقر لإعجاز القرآن (ص: 38-39) .
(2) (ص: 241) .
(3) (ص: 109) ، - ت الأرناؤوط -.
(4) مقدمة السيد أحمد صقر (ص: 39) .
(5) 1/158.
(6) ضمن مجموع الفتاوى (5/98) .
(7) (ص: 193) .
(8) 3/382، 6/206.
(9) 7/304، 30-307، 8/315-317، 330-333، 334-335، 339-342.
(10) انظر: الإشارات الحسان لابن غازي، ضمن أزهار الرياض للمقري (3/80) ، ونص الكتاب موجود ما بين صفحتي (65-87) من هذا الجزء.(2/532)
8- كتاب في الإيمان، ذكره ابن تيمية في الفرقان بين الحق والباطل (1) .
9- كتاب النقض الكبير، نقل منه الجويني في الشامل (ص: 680) .
10- كتاب الكسب، ذكره أبو المظفر الإسفراييني في التبصير بالدين (2) .
11- كتاب الإيجاز، ذكره في الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية (3) .
12- مناقب الأئمة ونقض المطاعن على سلف الأمة، يوجد جزء منه في الظاهرية (4) .
13- إعجاز القرآن، طبع عدة مرات.
14- الانتصار للقرآن، يوجد المجلد الأول منه في تركيا، مكتبة قرة مصطفى باشا - مكتبة بايزيد في استانبول - وقد صوره فؤاد سزكين ضمن منشورات معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية في ألمانيا، وأشار إلى وجود قسم من كلا المجلدين في الحسينية في الرباط (5) . وقد دافع فيه الباقلاني عن القرآن ونقله، ورد ردوداً طويلة على الرافضة والملاحدة الطاعنين في كتاب الله، ولا يخلو من الردود الكلامية في المناسات المختلفة (6) .
وقد اختصر هذا الكتاب أبو عبد الله الصيرفي، وطبع هذا المختصر (7) ،
_________
(1) (ص:38) - ت الأرناؤوط -.
(2) (ص: 174) .
(3) لأبي عذبة (ص: 18، 35، 58) .
(4) مقدمة السيد أحمد صقر (ص: 42) .
(5) مقدمة سزكين لمخطوطة الانتصار (ص:6) .
(6) انظر مثلاً _ ص: 440) ، من المجلد الأول المخطوط وما بعدها، فقد عقد فصلاً حول الهدى والضلال وخلق الأفعال والقضاء وتقدير الأعمال وتكليف مالا يطاق رد فيه على ابن الراوندي، والقدرية والمعتزلة.
(7) باسم " نكت الانتصار لنقل القرآن"، تحقيق د: محمد زغلول سلام - ط منشأة المعارف بالاسكندرية.(2/533)
ولكن بالمقارنة بينه وين أصله تبين أنه تصرف فيه كثيراً، وقد شمل المختصر كل أبواب الكتاب.
هذه أهم كتب الباقلاني التي وصلت إلينا أو وصل إلينا جزء منها إما مخطوطاً أو منقولاً في بعض المصادر، وفي قائمة كتب الباقلاني بعض الكتب التي يدل عنوانها على أنها في العقيدة أو علم الكلام، أو الرد على الباطنية وغيرهم، نكتفي بالإشارة إليها، فمنها كتاب إكفار المتأولين، والإمامة الكبير، وتصرف العباد والفرق بين الخلق والاكتساب، والرد على المعتزلة فيما اشتبه عليهم من تأويل القرآن، والمقدمات في أصول الديانات، وكتاب الكرامات، وكتابه الإمامة الصغير، وكتاب التعديل والتجوير، وكتاب في أن المعدوم شيء، وكتاب كشف الأسرار وهتك الأستار في الرد على الباطنية.
ج-- مجمل عقيدته ومنهجه، ودوره في تطوير المذهب الأشعري:
1- يبتدئ الباقلاني كتبه بالحديث عن المقدمات حول حقيقة العلم ومعناه، فيذكر أن حده "معرفة المعلوم على ما هو به" (1) ، ثم يقسم العلوم إلى قسمين: علم الله القديم، وعلم الخلق، ويقسم علم الخلق إلى علم اضطرار وعلم نظر واستدلال (2) ، ثم يشرح ذلك، ثم يذكر استدلال فيعرفه، ثم يعرف الدليل ويقسمه إلى ثلاثة أقسام: عقلي، وسمعي شرعي، ولغوي (3) . ثم يذكر أقسام المعلومات وأنها قسمان: معدوم وموجود ولا ثالث لهما (4) .
ثم يقسم الموجودات ويقول: إنها ضربين: قديم لم يزل ومحدث لوجوده على أول (5) ، ثم يقسم المحدثات إلى ثلاثة أقسام: جسم مؤلف، وجوهر منفرد، وعرض موجود بالأجسام والجواهر (6) .
_________
(1) التمهيد (ص: 6) ، ت مكارئي، وهي التي سنعتمدها إلا ما يشار إليه، والحرة (ص: 13) .
(2) انظر: المصدرين السابقين: التمهيد (ص: 7) ، والحرة (ص: 14) .
(3) انظر: الحرة (ص: 15) .
(4) انظر المصدرين: (ص: 15) ، والحرة (ص: 15) .
(5) انظر المصدرين: التمهيد (ص: 16) ، والحرة (ص: 16) .
(6) انظر: التمهيد (ص: 17) ، والحرة (ص: 16-17) .(2/534)
فالباقلاني يقول بالجوهر الفرد ويدلل على إثباته ب-" علمنا بأن الفيل أكبر من الذرة، فلو كان لا غاية لمقادير الفيل ولا لمقادير الذرة لم يكن أحدهما أكثر مقادير من الآخر، ولو كان كذلك لم يكن أحدهما أكبر من الآخر" (1) .
كما يرى الباقلاني أن الأعراض لا يصح بقاؤها فهي لا تبقى زمانين (2) .
2- ويرى أن أول الواجبات النظر فيقول: " أول ما فرض الله عزوجل على جميع العباد: النظر في آياته والاعتبار بمقدوراته والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته؛ لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، والبراهين الباهرة" (3) .
3- يذكر دليل حدوث العالم، ويستدل لذلك بدليل حدوث الأجسام ويبنيه على دليل ثبوت الأعراض، فيذكر دليل ثبوت الأعراض، ثم يذكر أنها حادثه، ويستدل على ذلك ببطلان الحركة عند مجيء السكون، ثم يذكر دليل حدوث الأجسام وهو أنها لم تسبق الحوادث، ولم توجد قبلها، وما لم يسبق المحدث، ويفصل القول في ذلك (4) .
والباقلاني يرى ضرورة دليل حدوث الأجسام، وقد سبق بيان أن الأشعري لا يرى هذا الدليل ضرورياً وأن الرسل لم تدع إليه، وذلك في رسالته إلى أهل الثغر، لكن الباقلاني في شرحه للمع - للأشعري - يفسر كلامه في إثبات الصانع واستدلاله على ذلك بالنطفة وتغيرها وانتقالها من حال إلى حال فيقول: " اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث الأجسام ... " (5) ، ويرى الباقلاني أن الخليل عليه السلام احتج بهذا الدليل
_________
(1) التمهيد (ص: 17-18) .
(2) انظر: التمهيد (ص: 18،239، 287) ، والحرة (ص: 16-17) .
(3) الحرة (ص: 22) .
(4) انظر: التمهيد (ص:18-21) ، والحرة (ص: 17-18) .
(5) شرح اللمع - عن الدرء - لابن تيمية (8/315) ، وانظر: أيضاً التمهيد (ص: 48-49، 301) ، الحرة (ص:30) .(2/535)
في قوله: {هَذَا رَبِّي} (الأنعام:76) ، والآيات بعدها (1) .
4- ويحتج لإثبات الصانع بأن الكتابة لا بد لها من كاتب، ولا بد للصورة من مصور، وللبناء من بان (2) ، ويستدل أيضاً بوجود المحدثات متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر (3) ، كما يحتج لإثبات وحدانيته بدليل التمانع ويحتج له بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء:22) (4) .
5- أما رأيه في الصفات فيمكن توضيحه كما يلي:
أ - يثبت الباقلاني الصفات عموماً ولا يقتصر على إثبات الصفات السبع، ويقسم الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل فيقول: " صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان، والغضب والرضى، وهما الإرادة على ما وصفناه - وهي الرحمة والسخط والولاية والعداوة والحب والإيثار والمشيئة - وإدراكه تعالى لكل جنس يدركه الخلق من الطعوم والروائح والحرارة والبرودة وغير ذلك من المدركات، وصفات فعله هي الخلق والرزق، والعدل، والإحسان والتفضل والأنعام، والثواب والعقاب، والحشر والنشر، وكل صفة كان موجوداً قبل فعله لها، غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق رازق باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق" (5) .
_________
(1) انظر: الحرة (ص:30) .
(2) انظر: التمهيد (ص: 23) ، والحرة (ص:18) .
(3) انظر المصدر السابق: التمهيد (ص: 23) ، والحرة (ص: 19) .
(4) انظر: التمهيد (ص: 25) ، والحرة (ص: 34) .
(5) التمهيد (ص: 262-263) .(2/536)
ويتبين من ذلك أنه يثبت الصفات لله تعالى، ولا يفرق بين الصفات العقلية والصفات الخبرية.
ب - يستدل للصفات السبع وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة بأدلة نقلية وعقليه؛ ففي التمهيد يقتصر على الأدلة العقلية لهذه الصفات (1) ، أما في رسالة الحرة فيحتج بالأدلة من القرآن وبأدلة العقول (2) .
جـ - يؤول صفات الغضب والرضى بأن المقصود بهما: إرادته لإثابه المرضى عنه وعقوبة المغضوب عليه (3) ، وهو بذلك يقول بقول الأشعري - كما سبق -.
د - يرى أن صفة البقاء من صفات الذات لله، وأنه ليس باقياً ببقاء، فهي صفة نفسية وليست صفة زائدة على الذات (4) .
هـ - يثبت الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه واليدين والعينين، يقول: "وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عزوجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (القصص:88) ، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} (الرحمن:27) ، واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن في قوله عزوجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة:64) ، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (صّ:75) ، وإنهما ليستا بجارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن، وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عزوجل: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39) ، {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر:14) ،وإن عينه ليست بحاسه من الحواس، ولا تشبه الجوارح
_________
(1) انظر: التمهيد (ص: 26-29) .
(2) انظر: رسالة الحرة (ص: 35-37) .
(3) انظر: التمهيد (ص:27) ، والحرة (ص: 39) ، ومثلها صفات الرحمة والمحبة والسخط والبغض، انظر: الحرة (ص: 24) .
(4) انظر: التمهيد (ص: 263) ، وأصول الدين للبغدادي (ص: 90-109) ، وفيصل التفرقة للغزالي (ص: 131) - ت سليمان دنيا - والروضة البهية (ص: 66) .(2/537)
والأجناس" (1) ، وفي التمهيد يستدل ببعض هذه الأدلة، ثم يرد على من أول اليدين بالقدرة أو النعمة فيقول: " يقال لهم: هذا باطل، لأنه قوله: " بيدي" يقتضي إثبات يدين هما صفة له، فلو كان المراد بهما القدرة، لوجب أن يكون له قدرتان وأنتم فلا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟ وقد أجمع المسلمون، من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان، فبطل ما قلتم، وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين؛ لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى ... " (2) ،
وكلام الباقلاني يدل على أنه في زمنه لم يكن أحد يؤول اليدين بالقدرة إلا المعتزلة، ولهذا قال لهم: "وأنتم لا تزعمون أن للباري قدرة واحدة "، وعلى ذلك فالتأويل لهذه الصفات - أعني صفة الوجه واليدين والعين - عند الأشعرية جاء بعد الباقلاني.
و كما يثبت الباقلاني صفة العلو والاستواء لله تعالى، ويرد على الذين يؤولون الاستواء بالاستيلاء، وعلى الذين يقولون إن الله في كل مكان، يقول: " فإن قالوا: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ لله، بل هومستو على العرش، كما خبرّ في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) ، وقال تعالى:) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر:10) ، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (الملك:16) ، ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها تعالى عن ذلك، وأوجب أن يزيد بزيادة الأماكي إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا، وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله" (3) ، ثم يرد على من اعترض بالنصوص الدالة على أن الله في السماء إله
_________
(1) رسالة الحرة (ص: 24) .
(2) التمهيد (ص: 259) ..
(3) التمهيد (ص: 260) - ت مكارثي-.(2/538)
وفي الأرض إله، وأنه مع المؤمنين وغيرها من النصوص الدالة على المعية، ويبين أنه لا دلالة فيها (1) . ثم يقول: " ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق (2)
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادراً قاهراً، عزيزاً مقتدراً، وقوله:) {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأعراف:54) ، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فبطل ما قالوه" (3) .
وهذا النص موجود في طبعة مكارثي من التمهيد، يبين ما في اتهام كل من الكوثري ومحققي التمهيد - الخضيري وأبي زيدة - من تجن على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، اللذين نقلا هذا النص ونسباه إلى الباقلاني في التمهيد (4) . ومع أن محققي التمهيد قد ذكرا في ذيول تحقيقهما لهذا الكتاب ما يدل دلالة قاطعة على أن المخطوط الذي اعتمداه ناقص (5) ، إلا أنهما جزما بخطأ ابن تيمية وابن القيم فقالا: " ونحن نثق على كل حال بنسخة التمهيد التي بين أيدينا ثقة أقوى من ثقتنا بنقل ابن تيمية وابن القيم، والله أعلم " (6) ، ولما نشر التمهيد - عن عدة نسخ خطية بتحقيق رجل نصراني - تبين صدق شيخي الإسلام وتثبتهما في النقل، وخطأ هؤلاء الذين اتهموهما بالتحيز والخداع، وكيف يعتمد هؤلاء على أقول الكورثي المشهور بالتجهم والحاقد على أئمة أهل السنة؟ (7) .
_________
(1) انظر: التمهيد (ص: 261-262) .
(2) هذا البيت منسوب إلى الأخطل النصراني، انظر: البداية والنهاية (9/7) في ترجمة بشر ابن مروان أخو عبد الملك بن مروان، وتاج العروس مادة سوا من حرف الياء.
(3) التمهيد (ص: 262) ، وقد ذكر السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 143) ، أن الباقلاني يقول إن الاستواء فعل فعله الله في العرش.
(4) انظر: درء التعارض (6/206 - 207) ، واجتماع الجيوش (ص: 193) .
(5) انظر: التمهيد - ط القاهرة - (ص: 260-261) ، ذيول المحققين - حيث ذكرا سببين يدلان على نقص المخطوطة التي اعتمدا عليها، ومع ذلك- ولا أدري ما السبب - جزماً بكمالها.
(6) المصدر السابق - نفس الطبعة (ص: 265) .
(7) سأل المحققان الكوثري عما نقله ابن القيم من التمهيد حول الاستواء فقال: " لا وجود لشيء مما عزاه ابن القيم إلى كتاب التمهيد في كتاب التمهيد هذا، ولا أدري ما إذا كان ابن القيم عزا إليه ما ليس فيه زوراً ليخادع المسلمين في نحلته أم ظن بكتاب آخر أنه كتاب التمهيد للباقلاني"، التمهيد (ص: 265) ، وممن نبه إلى ما وقع فيه هؤلاء من خطأ في هذا الموضوع جلال موسى في كتابه نشأة الأشعرية (ص: 331) ، مع أنه ممن لا يوافق ابن تيمية في آرائه لكنه قال هنا كلمة الحق والإنصاف.(2/539)
والباقلاني وإن كان يثبت الاستواء والعلو إلا أنه يرى عدم إطلاق الجهة على الله تعالى، يقول: " ويجب أن يعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والانصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11) ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الاخلاص:4) ، ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى بتقديس عن ذلك، فإن قيل: أليس قد قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) ، قلنا: بلى، قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول: استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول: إن العرش له قرار ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان" (1) ، ثم ينقل عن أبي عثمان المغربي أنه قال: " كنت اعتقد شيئاً من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي، فكتبت إلى أصحابنا: إني قد أسلمت جديداً" (2) . ولفظ الجهة -كما سيأتي - لفظ مجمل.
ز- أما رأيه في كلام الله تعالى فهو يقول: " اعلم أن الله تعالى متكلم، له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم، ليس بمخلوق ولا مجعول ولا محدث، بل كلامه قديم، صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات، ولا يجوز أن يقال: كلام الله عبارة ولا حكاية ... " (3) ، ويقول: " ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة" (4) و" مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القاري" (5) ، وحقيقة الكلام عنده
_________
(1) رسالة الحرة (ص: 41) .
(2) المصدر السابق (ص: 42) .
(3) نفسه (ص: 71) ، وانظر: (ص: 110) .
(4) نفسه (ص: 93) .
(5) نفسه (ص: 94) .(2/540)
- على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق - " إنما هو المعنى القائم بالنفس، لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقاً، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده، وتارة إشارة ورمزاً دون الحرف والأصوات ووجودهما " (1) ، وكلام الله عنده ليس بحروف ولا أصوات، ولا يحل في شيء من المخلوقات (2) .
هذه خلاصة أقوال الباقلاني في كلام الله، ولكن إذا كان الكلام هو المعنى القائم في النفس، فالكلام النازل علينا كلام من؟ ، سبق قبل قليل أن الباقلاني يقول: إن كلام الله مكتوب في المصاحف على الحقيقة، ومتلو بالألسن على الحقيقة، لكنه بعد ذلك يقول كلاماً خطيراً حيث يزعم ... إن كلام النازل كلام جبريل، يقول الباقلاني: " ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال "، ثم يقول بعد كلام: " والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر قول جبريل عليه السلام، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ* وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأيات: (الحاقة38-43) ، وقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ... } الآيات: (التكوير:15-29) ، يقول الباقلاني معلقاً على هذا: " هذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن" (3) ،
ثم يقول - بعد كلام- " فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات، لا يجوز أن تفارق الموصوف، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها، فافهم ذلك، فجاء من ذلك أن جبريل
_________
(1) رسالة الحرة (ص: 108) .
(2) انظر: نفس المصدر (: 99) .
(3) رسالة الحرة (ص: 96-97) ..(2/541)
عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله النظم العربي الذي هو قراته، وعلم هو القراءة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ... لكن المقروء والمتلو هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يشبه كلام الخلق " (1) .
وهذا كلام عجيب، ولا شك أن الباقلاني متابع في هذا الأصل لشيوخه الأشاعرة.
ح - أما مسألة الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وهي المسماة بمسألة حلول الحوداث، فالباقلاني ينفيها بقوة، ويدل على ذلك:
1- قوله في النص السابق لما ذكر الصفات الفعلية قال: غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق، رازق، باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق" فهو لا يرى أن الصفات الفعلية تقوم بالله، بل يجعل أمر الله وقوله أزلياً، وهو كلامه، أما المخلوق فهو منفصل عن الله لا يقوم به.
2- قوله عن صفات الله: " إنه لا يجوز حدوثها له، لأن ذلك يوجب أن تكون من جنس صفات المخلوقين، وأن تكون ذات أضداد كصفات المخلوقين، وأن يكون الباري سبحانه قبل حدوثها موصوفاً بما يضادها وينافيها من الأوصاف، ولو كان ذلك كذلك، لوجب قد إضدادها، ولاستحال أن يكون القديم سبحانه موصوفاً بها في هذه الحال، وأن يوجد منه من ضروب الأفعال ما يدل على كونه عالماً قادراً حياً، وفي بطلان ذلك دليل على قدم هذه الصفات وأن الله سبحانه لا يجوز أن يتغير بها ويصير له حكم لم يكن قبل وجودها، إذ لا أول لوجودها" (2) ويقول في كلامه عن نفي السنة والنوم عن الله عزوجل: " والمعتمد في هذا أنه سبحانه ذكر السنة والنوم تنبيهاً على أن جميع الأعراض ودلالات الحدوث لا تجوز عليه" (3) .
_________
(1) رسالة الحرة (ص: 98) ، وفيما يتعلق بالمعجز من القرآن يرى أنه يقع على نظم الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلام الله، انظر: إعجاز القرآن (ص: 394-395) .
(2) التمهيد (ص: 214) .
(3) المصدر السابق (ص: 269) .(2/542)
3- ويقطع في هذه المسألة عند كلامه عن كلام الله والرد على القول بخلق القرآن فيقول: " ويستحيل من قولنا جميعاً أن يفعله في نفسه تعالى لأنه ليس بمحل للحوادث" (1) .
4- ومن ذلك قوله في صفة المجيء والإتيان فقد ذكر فيهما عدة أقوال، وكلها ذكر فيها ما يدعم قوله في نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، يقول عن المخالفين المعترضين على آيات القرآن: " واعترضوا أيضاً [ب-] قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22) ، وقوله: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (البقرة:210) ، قالوا: والمجيء والإتيان حركة وزوال وذلك عندهم محال في صفته، فالجواب عن هذا عند بعض الأمة: أنه يجيء ويأتي بغير زوال ولا انتقال ولا تكييف، بل يجب تسليم ذلك على ما ورد وجاء به القرآن، والجواب الآخر أنه يفعل معنى يسميه مجيئاً وإتياناً، فيقال: جاء الله، بمعنى أنه فعل فعلاً كأنه جائياً (2) ، كما يقال: أحسن الله وأنعم وتفضل، على معنى أنه فعل فعلاً استوجب به هذه الأسماء، ويمكن أن يكو أراد بذلك إتيان أمره وحكمه والأهوال الشديدة التي توعدهم بها وحذرهم من نزولها، ويكون ذلك نظيراً لقوله عزوجل: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} (الحشر:2) ، ولا خلاف في أن معنى هذه الآية: أنها أمره وحكمه إياهم (3) ، وعقوبته ونكاله، وكذلك قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} (النحل:26) (4) .
فهذه ثلاثة أقوال في معنى المجيء والإتيان: أحدهما: التسليم بهتين الصفتين بشرط نفي ما يدل على قيام الحوادث بالله بحيث تكون بغير زوال ولا انتقال.
_________
(1) التمهيد (ص: 238) .
(2) هكذا في المخطوطة، والصواب: جاء.
(3) في نكت الانتصار حيث اختصر النص السابق وردت هنا كلمة: وحكمته بدل وحكمه إياهم.
(4) الانتصار للقرآن - مخطوط - (1/539-540) ، وانظر: نكت الانتصار المطبوع (ص: 194) .(2/543)
والثاني: جعلهما من صفات الفعل المنفصلة عن الله لا تقوم به مثل خلقه الخلق وإحسانه إليهم، وهذا يوافق ما نسب إليه من قوله عن الاستواء: إنه فعل فعله الله في العرش سماء استواء، وقد سبقت الإشارة إليه، والثالث: التأوي كما هو مذهب متأخري الأشعرية.
5- والباقلاني ممن يقول بالأحوال (1) ، ولكنه يخالف أبا هاشم الجبائي المعتزلي - أول من قال بالحال - في قوله: إن الحال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، بل يرى أنها معلومة، ويرد ردوداً طويلة على الجبائي، ويقول بعد تقريره أن الحال لابد أن تكون معلومة: " وإن كانت هذه الحال معلومة، وجب أن تكون إما موجودة أو معدومة، فإن كانت معدومة استحال أن توجب حكماً وأن تتعلق بزيد دون عمرو، ويالقديم دون المحدث، وإن كانت موجودة وجب أن تكون شيئاً وصفة متعلقة بالعالم، وهذا قولنا الذي نذهب إليه إنما يحصل الخلاف في العبارة وفي تسمية هذا الشيء علماً أو حالاً، وليس هذا بخلاف في المعنى فوجب صحة ما نذهب إليه في إثبات الصفات" (2) ،
وقد عرف الشهر ستاني الحال عند القاضي بأنها: " كل صفة لموجود لا تتصف بالوجود فهي حال، سواء كان المعنى الموجب مما يشترط في ثبوته الحياة أو لم يشترط ككون الحي حياً وعالماً وقادراً وكون المتحرك متحركاً والساكن ساكناً والأسود والأبيض إلى غير ذلك " (3) .
والباقلاني بذلك يعتبر من أوائل من قال بالحال من الأشاعرة، ومن المعلوم أن أبا الحسن الأشعري ممن ينكر الأحوال، والباقلاني يثبت الصفات ويقول
_________
(1) أول من قال بالأحوال أبو هاشم الجباني - والحال يصعب تعريفها بشكل دقيق- " انظر: نهاية الإقدام (ص: 131-132" ولذلك فهي مع كسب الأشعري وطفرة النظام مما قيل فيه: إنه لا حقيقة له، والحال تطلق على ما هو وسط بين الموجود والمعدوم، وهو صفة لا موجودة ولا معدومة، لكنها قائمة بموجود كالعالمية، وهي النسبة بين العالم والمعلوم، والحال عند أبي هاسم لا هي موجودة ولا معدومة، ولا هي معلومة ولا هي مجهولة، ولا هي قديمة ولا هي حديثة، انظر: المعجم الفلسفي، صليباً (1/438) ، ولمجمع اللغة (ص: 66) .
(2) التمهيد (ص: 201) ..
(3) نهاية الإقدام (ص: 132) .(2/544)
بالأحوال إلا أنه يخص الأحوال بالأمور التي تتصف بالوجود كالعرضية واللونية والاجتماع والافتراق والقادرية والعالمية وغيرها مما به تتفق المتماثلات، وتختلف المختلفات (1) ، على أنه قد ذكر رجوعه عن القول بها (2) .
6- أما رأيه في القدر فهو لا يختلف عن رأي الأشاعرة فهو يثبت القدر من الله تعالى وأن الله خالق كل شيء، كما أنه يقول بالموافاة وأن الله رضي في الأزل عمن علم أنه يمون مؤمناً وإن عاش أكثر عمره كافراً، وسخط في الأزل عمن علم أنه يموت كافراً وإن كان أكثر عمره مؤمناً (3) ، وهذا بناء على أنه ينفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، أما الاستطاعة والقدرة فلا تكون إلا مع الفعل، لكن الباقلاني خالف شيخه الأشعري بأن قال: إن قدرة العبد مؤثرة، يقول: " فإن قالوا: إن قلتم إن القادر منا على الفعل لا يقدر عليه إلا في حال حدوثه، ولا يقدر على تركه وفعل ضده، لزمكم أن يكون في حكم المطبوع المضطر إلى الفعل، قيل لهم: لا يجب ما قلتم لأنه ليس ها هنا مطبوع على كون شيء أو تولد عنه، أما المضطر إلى الشيء فهو المكره المحمول على الشيء الذي يوجد به، شاء أم أبى، والقدر على الفعل يؤثره ويهواه ولا يستنزل عنه برغبة ولا رهبة فلم يجز أن يكون مضطراً مع كونه مؤثراً مختاراً ... " (4) ، وهذا يوافق ما ذكره عنه الشهرستاني (5) ، كما أنه ينفي تعليل أفعال الله كقول الأشاعرة (6) ، ويقول بالكسب (7) ، كما أنه يقول بإنكار الضرورة بين العلة والمعلول، ويرى إنكار السببية، وربط الأمر كله بالله، فالإحراق لا يكون بالنار
_________
(1) انظر: الشامي للجويني (ص: 630-642) ، ونشأة الأشعرية (ص: 340) .
(2) ممن ذكر تردده في إثبات الأحوال ونفيها الجويني في الشامل (ص: 294-629) ، وفي بعض أجوبته انظر: المعيار المعرب (11/246) ، والشهرستاني في الملل والنحل (1/95) .
(3) انظر: رسالة الحرة (ص: 24-45) .
(4) التمهيد (ص: 293) .
(5) انظر: الملل والنحل (1/97) ، ونهاية الإقدام (ص: 73) ، وما فيهما أصرح مما هنا.
(6) انظر: تعليقه على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56) ، في الانتصار (ص: 480-481) من المجلد الأول المخطوط.
(7) انظر: الحرة (ص: 144) ، والانتصار (1/491) .(2/545)
وإنما يقع عندها لا بها، وهذا مبدأ السببية الذي اشتهر إنكاره عند الأشاعرة (1) .
7- يثبت الرؤية بالنصوص الواردة، والله يرى لأنه موجود (2) ، ولكنه مع أنه يقول بالعلو والاستواء إلا أنه يلمح إلا أنه الله تعالى يرى وليس حالاً في مكان أو مقابلاً أو خلفاً، أو عن يمين أو عن شمال (3) ، وهذه عبارات استخدمها نفاة العلو ممن يقول بالرؤية.
8- أما الإيمان فهو عنده التصديق بالله تعالى، وهو العلم. والتصديق يوجد بالقلب، ويستدل لذلك بإجماع أهل اللغة قاطبة، وبأن الإيمان قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو التصديق، كما يستدل بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يوسف:17) وبقولهم: فلان يؤمن بالشفاعة أي يصدق (4) ، ويرى أن " ما يوجد من اللسان وهو الإقرار، وما يوجد من الجوارح وهو العمل، فإنما ذلك عبارة في القلب ودليل عليه" (5) .
ولا ينكر الباقلاني أن يطلق القول على الإيمان بأنه عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان، ويفسر ذلك بأن المقصود به الإيمان الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة (6) ، كما أنه لا ينكر أن يطلق على الإيمان أنه يزيد وينقص على أن يرجع ذلك إما إلى القول والعمل دون التصديق، أو إلى الثواب والجزاء والمدح والثناء دون التصديق الذي إذا انخرم منه شيء بطل الإيمان (7) .
_________
(1) انظر: التمهيد (ص: 40) ، وما بعدها، وانظر: الأشاعرة أحمد صبحي (ص: 87) .
(2) انظر: التمهيد (ص: 266) .
(3) انظر: الحرة (ص: 187) ، والتمهيد (ص: 277) .
(4) انظر: التمهيد (ص: 346) ، ورسالة الحرة (ص: 22،55) .
(5) الحرة (ص:55) .
(6) انظر: المصدر السابق (ص: 56) .
(7) الحرة (ص: 57-58) .(2/546)
9- أما الإمامة فيذهب فيها إلى ما يذهب إليه السلف، وله في التمهيد بحوث طويلة في الدفاع عن الصحابة، وخاصة عثمان وعلياً رضي الله عنهما، كما أنه يثبت إمامة الخلفاء الأربعة على الترتيب، ويرد على الرافضة ودعاواهم الباطلة (1) .
10- ومن الأمور التي ركز عليها الباقلاني مسألة المعجزات، والفرق بينهما وبين الكرامات والسحر، وقد فصل رأيه في ذلك في كتابه المتعلق بهذا الموضوع.
ويمكن تلخيص رأيها فيها بمايلي:
أ- أن الدلالة على صدق الرسول لا تتم إلا بالمعجزة، "فمتى أهله الله لهذه المنزلة وأحلّه في هذه الرتبة وألزم الأمم العلم بنبوته والتصديق بخبره، لم يكن بد له من آية تظهر على يده ما يفصل بها المكلفون لصدقه بينه وبين الكاذب المتنبئ، وإلا لم يكن لهم إلا فعل العلم بما كلفوه من صدقه وتعظيمه، والقطع على ثبوت نبوته وطهارة سريرته سبيل ... وقد اتفق على أنه لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في إدعاء الرسالة إلا الآيات المعجزة " (2) ، ومعنى هذا إن الدلائل الأخرى العديدة للنبوات - غير المعجز الخارق للعادة - لا يثبت بها صدق الأنبياء.
ب- والمعجز لا يكون معجزاً " حتى يكون مما ينفرد الله عزوجل بالقدرة عليه ولا يصح دخوله تحت قدر الخلق من الملائكة والبشر والجن، ولابد أن يكون ذلك من حقه وشرطه " (3) ، ويعرض الباقلاني للرأي الآخر لبعض أصحابه الأشاعرة وجمهور القدرية وهو جواز أن يكون المعجز مما ينفرد الله بالقدرة عليه، كما يجوز أن يكون مما يدخل جنسه تحت قدر العباد، ومثال الأول:
_________
(1) انظر: التمهيد - ط القاهرة - تحقيق الخضيري وأبي زيدة (ص: 164-249) .
(2) كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر (ص: 37-38) .
(3) المصدر السابق (ص:8) .(2/547)
اختراع الأجسام وإبداع الجوارج والأسماع والأبصار، ورفع العمى، والزمانة وغيرهما من العاهات والضرب الآخر: شيء يقع مثله وما هو من جنسه تحت قدرة العباد، غير أنه يقع من الله على وجه يتعذر على العباد مثله، وذلك نحو تفريق أجزاء الجبال الصم، ورفعها إلى السماء، وتغييض ماء البحار، وحنين الجذع، ونظم القرآن ... (1) ، ويرى الباقلاني أن هذا القول ليس ببعيد (2) ، لكنه يقيد ذلك بأن يمنعوا وأن يرفع عنهم القدرة على فعل مثل ذلك الذي جاء به النبي، ويمثل لذلك بأن النبي لو قال: " آيتي وحجتي أنني أقوم من مكاني وأحرك يدي، وأنكم لا تستطيعون مثل ذلك، فإذا منعوا من فعل مثل ما فعله، كانت الآية له خرق العادة بخلق المنع لهم من القيام وتحريك الجوارح ورفع قدرهم على ذلك مع كونه معتاداً من أفعالهم" (3) .
جـ - أما شروط المعجزة عنده فهي:
1- أن تكون مما ينفرد الله بالقدرة عليه.
2- أن يكون ذلك الذي يظهر على أيديهم خارقاً للعادة.
3- أن يكون غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ممنوعاً من إظهار ذلك على يده.
4- أن يقع عند تحدي النبي وادعائه النبوة وأن ذلك آية له (4) .
د - ولكن كيف يفرق بين المعجزة وبين حيل المشعوذين وأصحاب الخوارق الشيطانية؟ يجيب الباقلاني بما أجاب به سابقاً، من أن معجزات الرسل لا يصح أن يقدر عليها إلا الله تعالى مثل إحياء الموتى واختراع الأجسام (5) .
وكذلك بالنسبة لما يأتي به الساحر (6) ، ولكنه يقول: " إن الساحر إذا احتج
_________
(1) انظر: كتاب البيان (ص: 14-15) .
(2) انظر: نفس المصدر (ص:16) .
(3) البيان (ص: 16-17) .
(4) انظر: البيان (ص: 45-46) .
(5) انظر: نفس المصدر (ص: 56-58) ، وانظر: بعض التفاصيل لذلك في نكت الانتصار المطبوع (ص: 299-306) .
(6) انظر: نفس المصدر (ص: 94) .(2/548)
بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله تعالى عليه بوجهين: أحدهما: أنه إذا علم ذلك في حال الساحر وأنه سيدعي به النبوة أنساه عمل السحر جملة. والثاني: أن ينجد خلق من السحرة يفعلون مثل فعله ويعارضونه بأدق مما أورده فينتقض بذلك ما ادعاه (1) ، أما الفرق بين المعجزة والكرامة فليس موجوداً في المطبوعة الناقصة من البيان، ولكن الباقلاني، ذكر ذلك في رسالته لأحد العلماء، وذكر فيها أن الفرق هو أن الأمر الخارق للنبي مقرون بالتحدي والاحتجاج، وأن صاحب الكرامة لا يدعي النبوة بكرامته ولو علم الله أنه يدعي بها النبوة لما أجراها على يديه (2) .
دور الباقلاني في تطور المذهب الأشعري:
يعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري (3) ؛ والباقلاني تلميذ لتلامذة الأشعري فهو قريب العهد به، وعلى الرغم من أن تلامذة الأشعري كانوا أقوياء وذوي تأثير واسع إلا أن أحداً منهم لم يبلغ ما وصل إليه الباقلاني، ولعل الفترة التي عاشها الأشعري وتلامذته كان السائد فيها المذهب الكلابي، فكان المذهبان متداخلين، والأشعري وغيره من معاصريه كانوا تلامذة لابن كلاب، وتلامذة هؤلاء لم يتميزوا كأشاعرة وإنما كانوا كلابية لأن تتلمذهم لم يكن مقتصراً على الأشعري، وإنما كان عليه وعلى غيره من الكلابية، وهذا حسب الأغلب فقط.
فلما جاء الباقلاني جرد نفسه لنصرة أبي الحسن الأشعري ومذهبه، والعمل على دعمه بأوجه جديدة من الحجاج والمناظرات، وقد تمثل ذلك بعد طرق أهمها:
_________
(1) البيان (ص: 94-95) .
(2) انظر: المعيار المعرب (ص: 11/250-251) ، ضمن رسالة كتبها الباقلاني إلى محمد بن أحمد ابن المعتمر المرقى.
(3) انظر في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه، إبراهيم مدكور (2/47) ، وفي علم الكلام، الأشاعرة أحمد صبحي (ص:75) .(2/549)
1- أن الباقلاني ربط اسمه بالأشعري، فصار علماً عليه يذكر في نسبه فيقال: أبو بكر بن الطيب الباقلاني الأشعري، وهذا موجود في الكتب التي ترجمت له، وفي صور عناوين مخطوطات كتبه (1) ، ولحماسة في الانتساب إلا الأشعري ونصرة مذهبه عدة الأشاعرة المجدد على رأس المئة الرابعة بعد الأشعري الذي يعتبرونه مجدد المئة الثالثة (2) .
2- مع انتسابه إلى الأشعري وطد علاقته بالحنابلة، تبعاً لأبي الحسن الأشعري الذي أعلن في الإبانة رجوعه إلى قول الإمام أحمد، وقد وصل الأمر بالباقلاني إلى أنه كان يكتب أحياناً في أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي، كما كان يكتب: الأشعري؛ لأن الأشعري وأصحابه كانوا منتسبين إلى الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة (3) .
وكانت علاقة الباقلاني بالتميميين الحنابلة قوية، ويذكر ابن عساكر وغيره نماذج لهذه العلاقات الوطيدة بينهم (4) ، وقد استفاد الباقلاني من ذلك سمعة طيبة عند الحنابلة مع أنه أشعري جلد، كما أن بعض الحنابلة كالتميميين مالوا إلى بعض أقوال الأشاعرة، ولا شك أن علاقتهم بالباقلاني صاحب البلاغة والفصاحة والحجج المنطقية كان لها تأثير في ذلك.
3- حرص الباقلاني على مناقشة المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، ومناظرتهم مناظرة علنية أمام السلاطين، ولذلك لما جاء خطاب عضد الدولة يدعوه إلى مجلسه في سيراز قال شيخ الباقلاني أبو الحسن الباهلي - وفي رواية أبو بكر بن مجاهد -
_________
(1) انظر: صور عناوين المخطوطات لكل من: الأنتصار، والتمهيد، طبعة القاهرة، وإعجاز القرآن، ت السيد أحمد صقر، والبيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات.
(2) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 53) ، أما المجدد الأول والثاني فعند جمهور العلماء أن مجدد المئة الأولى عمر بن عبد العزيز والثانية الإمام الشافعي، وهذا قول الإمام أحمد وغيره، انظر: توالي التأسيس لابن حجر (ص: 47-48) .
(3) انظر: درء التعارض (1/270) .
(4) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 221-390) ، والمعيار المعرب (11/76) .(2/550)
وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة، فسقه، لأن الديلم كانوا روافض، لا يحل لنا أن نطأ بساطهم وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله لنهضت، قال القاضي [الباقلاني] : فقلت لهم: كذا قال ابن كلاب، والمحاسبي، ومن في عصرهم: إن المأمون فاسق، لا يحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس، وجرى عليه بعده ما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ما هم عليه من الحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولون بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج، فقال الشيخ: إذا شرح الله صدرك لهذا فاخرج، فخرجت مع الرسول إلى شيراز (1) ، وكان من نتيجة ذلك تلك المناظرات مع المعتزلة في مجلس عضد الدولة، ولما انتصر عليهم قربه الملك وأمره أن يعلم ولده، فألف له التمهيد (2) ، كما أن عضد الدولة أرؤسله إلى ملك الروم وجرت له مناظرات عديدة مع النصارى اشتهرت حكاياتها عند الناس.
فالباقلاني حين عزم على مناقشة المعتزلة (3) ، ومناظراتهم كان ذلك بناء على منهج اختطه لنفسه، ورأى أنه وسيلة لازمة لمقاومة مخالفيه من أهل البدع، ولذلك نعى على شيوخه كابن كلاب والمحاسبي حين تركوا المأمون ومن معه من أهل الاعتزال يفرضون على الناس مقالتهم الاعتزالية، وحين يضرب الباقلاني المثل بهذين كان يقصد أن تمكنهما من علم الكلام يعطيهما قدرة على مناقشة المعتزلة أصحاب الكلام والجدل العقلي فهو يرى أن الواجب عليهما أكبر من غيرهما.
4- كان للباقلاني دور واضح في تطوير المذهب الأشعري، ويكاد يجمع جميع الباحثين على أن له دوراً في ذلك، يقول ابن خلدون: " وكثر أتباع الشيخ
_________
(1) ترتيب المدارك (7/52-53) .
(2) انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 118-120، 215-219) .
(3) في الانتصار - المخطوط - (1/495) ، يشن الباقلاني هجوماً على المعتزلة وأسالبيهم في نشر أقوالهم ومنها دعاواهم في وصف خصومهم بأنهم حشو وعامة ونابتة.(2/551)
أبي الحسن الأشعري، واقتفي طريقته من بعده تلميذه (1) ، كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وإن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" ثم يعقب ابن خلدون مشيراً إلى الظروف التاريخية للقول بهذه الأمور، فيقول: " وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية، إلا أن صور الأدلة فيها جاءت بعض الأحيان على غيرالوجه القناعي لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء، لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك" (2) ، ويرى الدكتور إبراهيم مدكور أنه يعتبر: الخليفة للأشعري، وأنه " تأثر بالمعتزلة، فاعتنق نظرية الجوهر الفرد كما اعتنقها الأشعري، ودعمها وعمقها، وقال بفكرة الأحوال، وحاول أن يسوي بين الحال والصفة، ولا شك في أنه بعد أو من ثبت دعائم المذهب الأشعري، وأضاف إليه أسساً عقلية، وإن قال بمبدأ له خطره وهو: إن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" (3) .
ويشير محققاً التمهيد - أبو ريدة ومحمود الخضيري - إلى جوانب من دور الباقلاني في تطوير مذهب الأشاعرة، فيقولان: " أما القيمة الكبرى لعمل الباقلاني فهي.. كانت في التنهيج وفي بناء مذهب الأشاعرة الكلامي والاعتقادي بناء منظماً لا من حيث الطريقة المنطقية الجدل فحسب، بل من حيث وضع المقدمات التي تبني عليها الأدلة، ومن حيث ترتيب هذه المقدمات بعضها بعد بعض على نحو يدل على امتلاك ناصية الجدل وعلى طول اعتبار في أصول الاستدلال" (4) ، ثم يذكران
_________
(1) كذا في طبعات مقدمة ابن خلدون، ومنها - ط بولاق - (ص: 388) ، - وط كاترمير- (3/40) ، - وط دار الكتاب اللبناني - المجلد الأول (ص: 934) ، إضافة إلى طبعة الشعب، ولعل الصواب، تلاميذه.
(2) مقدمة ابن خلدون (ص:429) ، - ط الشعب -.
(3) في الفلسفة الإسلامية (2/51) ..
(4) مقدمة تحقيق التمهيد - ط القاهرة - (ص: 15) .(2/552)
قول ابن خلدون، وقبل ذلك ذكرا أن الباقلاني لم يكن " مجرد مواصل لحمل تراث الأشاعرة المتقدمية عليه، بل قد تم على يديه توضيح بعض النقط، وتحديد بعض المفهومات، مما أدى إلى تعديل مذهب الأشعري من بعض الوجوه وإلى تقريبه من رأي المعتزلة، وهذا ما لم يغفله بعض العلماء المتقدمين" (1) ، ثم ذكرا نماذج لتعليقات الغزالي والشهرستاني على مخالفة الباقلاني لشيخ الأشاعرة في مسائل: صفة البقاء، والحال، وتأثير القدرة الحادثة، وقد سبق ذكر ذلك عند شرح عقيدة الباقلاني وأقواله.
ويذكر أحمد صبحي أن الأشعري كان يعتمد على النقل كثيراً، لكن أتباعه عدلوا " ابتداء من الباقلاني عن الاستشهاد بدليل النقل إلا فيما ندر، مغلبين أدلى العقل.. وجاء الباقلاني ليختط منهجاً مغايراً لمنهج الأشعري دفاعاً عن المذهب، إذ وضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة كالحديث عن العلم وأقسامه، وعن الموجود قديمه وحديثه، وعن الجوهر والعرض والجسم" (2) .
وهذا ما سار عليه الأشاعرة من بعده، وواضح أن الباقلاني يستشهد بالأدلة النقلية في كتبه ولكن مناقشاته العقلية تطغى عليه كثيراً، حتى وهو يعرض أن يستشهد بالنصوص.
ويرى بروكلمان أن الباقلاني أتى بآراء جديدة أخذها عن الفلسفة اليونانية (3) ، أما مكارثي فيرى أنه يتصف ببعض الأصالة في مناقشته للبيان والمعجز، وأنه عمل كثيراً على نشر المذهب الأشعري (4) ، كما يرى فتح الله خليف أنه أدخل بعض العديلات على مذهب الأشعري (5) .
والمسألة التي اشتهر بها الباقلاني وهي أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول
_________
(1) مقدمة تحقيق التمهيد - ط القاهرة - (ص: 14) .
(2) في علم الكلام - الأشاعرة - (ص: 222-223) .
(3) دائرة المعارف الإسلامية، للمستشرقين (6/105-106) ، ط الشعب.
(4) المصدر السابق (6/107) ، وهو من زيادات الطبعة الجديدة لدائرة المعارف الإسلامية.
(5) انظر: معجم أعلام الفكر الإنساني (1/850) .(2/553)
لم نجد لها نصاً صريحاً فيما وصل من كتب الباقلاني، ولكن ابن خلدون ذكرها، ثم تناقلها عنه الباحثون، وقد حاول النشار، وتبعه محمد عبد الستار نصار أن يوجدا ما يدعم هذا القول في بعض المقدمات التمهيد (1) ، والذي يترجح أنها بنيت على قوله بوجوب المعجزات لثبوت نبوة الأنبياء لأن بطلان المعجزة يؤدي إلى بطلان نبوة الأنبياء، أو أنها بنيت على قوله بالجوهر الفرد وأن بطلانه يؤدي إلى بطلان دليل حدوث الأجسام.
ويتضح من خلال عرض عقيدة وأقوال الباقلاني، وأقوال الباحثين في ذلك أن الباقلاني قد طور المذهب الأشعري من خلال:
1- الميل في المناقشات إلى العقل، وضعف الاعتماد على النقل، وإن كان الأمر لم يصل إلى إهماله.
2- وضع المقدمات العقلية لمباحث العقيدة وعلم الكلام، مثل مباحث الجوهر والعرض، وأقسام العلوم، والاستدلال، والكلام عن الموجودات وأنواعها.
3- الميل إلى بعض أقوال المعتزلة وخاصة في بعض الصفات، وإذا كان الأشعري أخذ يبعد عن الاعتزال في آخر كتبه، فالباقلاني أعاد المنهج الأشعري ليقرب من أهل الكلام.
4- تقعيد بعض القواعد الكلامية، التي أصبحت فيما بعد أصول الأشاعرة مثل القول بالجوهر الفرد، وأن العرض لا يبقى زمانين، وأنه لا يقول بالعرض.
5 - التركيز على مبدأ إنكار العلية والسببية التي جعلها الله في الأشياء. كذلك القول في مسألة المعجزات والفرق بينها وبين السحر والكرامات والحيل.
_________
(1) انظر: مناهج البحث للنشار (ص: 112- 113) ، والمدرسة السلفية (ص: 281-282) .(2/554)
ابن فورك: ت 406 هـ:
هو محمد بن الحسن بن فورك (1) ، أبو بكر الأنصاري، الأصبهاني (2) ، ولا يعرف تاريخ ولادته، لكن المعروف عنه أنه أقام أولاً بالعراق ودرس بها مذهب الأشعري على أبي الحسن الباهلي - تلميذ أبي الحسن الأشعري (3) -، ثم ذهب إلى الري فسعب به الكرامية، ثم راسله أهل نيسابور فبنيت له فيها دار ومدرسة، وصار يدرس فيها وتخرج عليه جمهرة كبيرة من الفقهاء (4) ، وقد ذكر قصة له في سبب اشتغاله بعلم الكلام (5) .
وفي آواخر عمره أنهى إلى السلطان محمود بن سبكتكين أنه يعتقد أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس نبياً اليوم، وأن رسالته انقطعت بموته، وقد امتحن وجرت له مناظرات مع محمود بن سبكتكين، وممن نسب إليه هذا القول ابن حزم حيث قال في الفصل: [حدثت (6) ] فرقة مبتدعة تزعم أن محمد ابن عبد الله ابن عبد المطلب - صلى الله عليه وسلم - ليس هو الآن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه كان رسول الله، وهذا قول ذهب إليه الأشعرية، وأخبرني سليمان بن خلف الباجي - وهو من مقدميهم اليوم - أن محمد بن الحسن ابن فورك الأصبهاني على هذه المسألة قتله
_________
(1) فورك: بضم الفاء وفتح الراء، هكذا ضبطها بان خلكان وصاحب الوافي وغيرهما.
(2) انظر: ترجمته في: تبيين كذب المفتري (ص: 232) ، وإنباء الرواة (3/110) ، ووفيات الأعيان (4/272) ، وسير أعلام النبلاء (17/214) ، والعبر (2/213) ، والوافي (2/344) ، وطبقات السبكي (4/127) ، وطبقات الشافعية للأسنوي (2/266) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهية (1/185) ، وشذرات الذهب (3/181) ، والنجوم الزاهرة (4/240) ، وتاج التراجم (ص: 62) .
(3) انظر: سر أعلام النبلاء (17/216) ، وطبقات السبكي (4/128) ، وابن قاضي شهبة (1/185) .
(4) انظر: السير (17/215) ، وطبقات السبكي (4/128) ، وتاريخ التراجم لابن قطلوبغا (ص: 62) - ط باكستان -.
(5) انظر: طبقات السبكي (4/129) .
(6) في طبعة الفصل الأولى - مع ملل الشهرستاني - (1/88) [حديث] وكذا في الطبعة المحققة (1/161) ، ولعل الصواب ما أثبته.(2/555)
بالسم محمود بن سبكتكين، صاحب ما دون وراء النهر من خراسان -رحمه الله- " (1) ، ثم ذكر ابن حزم السبب الذي أدى إلى هذه المقالة (2) ، وقد نفى السبكي بشدة نسبة هذه المقالة وشنع على ابن حزم والذهبي بسبها، وقال إن ابن فورك لما سأله ابن سبكتكين كذب الناقل، وإن السلطان عندما وضح له الأمر أمر بإعزازه وإكرامه، فلما أيست الكرامية دست له السم (3) ، وقول ابن حزم سبق نقله قريباً وقد نسبه إلى الباجي، أما الذهبي فقال: " ونقل أبو الوليد الباجي أن السلطان محموداً سأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان رسول الله، وأما اليوم فلا، فأمر بقتله بالسم " (4) ، وهذه المسألة من المسائل التي كانت سبباً في محنة الأشعرية زمن القشيري والجويني، وقد رد القشيري نسبتها إلى الأشعرية وبين بطلان نسبتها إليهم (5) .
والذي يظهر أنه قد وقعت بين ابن فورك وابن سبكتكين مناظرات في موضوعات متعددة ولذلك ذكر ابن رجب مناظرة بينهما حول العلو، فروى في أثناء ترجمته لأبي الحسن العكبري أنه قال: " سمعت أبا مسعود أحمد بن محمد البجلي الحافظ قال: دخل ابن فورك على السلطان محمود، فتناظرا، قال ابن فورك لمحمود، لا يجوز أن تصف الله بالفوقية، لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية، لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت. فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتلزمني أن أصفه بالتحتية، وإنما هو وصف نفسه بذلك، قال: فبهت" (6) .
_________
(1) الفصل (1/161) - المحققة -.
(2) انظر: المصدر السابق (1/162) .
(3) انظر: طبقات السبكي (4/130-133) .
(4) سير أعلام النبلاء (17/216) .
(5) انظر: رسالة شكاية أهل السنة للقشيري (ص: 10-28) ، ضمن "رسائل القشيرية" وهو في طبقات السبكي (3/40-413) .
(6) الذيل على طبقات الحنابلة (1/12) .(2/556)
ومن أبرز شيوخ ابن فورك إضافة إلى أبي الحسن الباهلي: عبد الله بن جعفر الأصبهاني الذي سمع منه مسند أبي داود الطيالسي، وابن خرزاد الأهوازي.
أما أبرز تلاميذه الذين رووا عنه فالبيهقي، والقشيري، وأبو بكر أحمد ابن علي بن خلف (1) .
أما مصنفاته فقد ذكر مترجموه أنها قريب من المئة (2) ، وقد ذكر سزكين ما وصل إليه منها، وهي باختصار:
1- مشكل الحديث وبيانه، وقد ذكر أن له أسماء كثيرة، وهو مطبوع.
2- كتاب الحدود في الأصول، وذكر أنه طبع في بيروت سنة 1324هـ.
3- النظامي في أصول الدين.
4- رسالة في علم التوحيد.
5- تفسير القرآن.
6- الإبانة عن طرق القاصدين والكشف عن مناهج السالكين، والتوفر إلى عبادة رب العالمين.
7- مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري، وقد طبع أخيراً في بيروت.
8 - شرح كتاب العالم والمتعلم لأبي حنيفة.
9- انتقاء من أحاديث أبي مسلم محمد بن أحمد بن علي الكاتب البغدادي المتوفى سنة 399هـ (3) .
توفي ابن فورك سنة 406هـ.
_________
(1) انظر: السير (17/215) ، وطبقات السبكي (4/129) .
(2) انظر: التبيين (ص: 233) .
(3) انظر: تاريخ التراث لسزكين مجلد 1ج- 4 (ص: 52-54) - ط جامعة الإمام -.(2/557)
منهج ابن فورك ودوره في تطور المذهب الأشعري:
يعتبر ابن فورك من المعاصرين للباقلاني المتوفى سنة 403هـ، وكلاهما تتلمذ على يد أبي الحسن الباهلي، تلميذ أبي الحسن الأشعري، ولكن شيوخ الباقلاني في مسائل الكلام أكثر، كما أن عناية ابن فورك بالحديث أكثر، ويكفي أن أحد تلامذته الإمام البيهقي.
وإذا كان قد مضى تفصيل مذهب وأقوال الباقلاني، فسيقتصر البحث هنا في عقيدة ومنهج ابن فورك على عرض مقارنة بينه وبين الباقلاني، إذ هما يمثلان مرحلة واحدة في مسيرة مذهب الأشاعرة.
فمن المسائل التي يوافق فيها ابن فورك الباقلاني:
1- الاستدلال بدليل حدوث الأجسام المسمى دليل الأعراض، وهو دليل المتكلمين المشهور، وقد أشار إليه ابن فورك عرضاً في كتابه مشكل الحديث فقال: " إن الخلق عرفوا الله سبحانه وتعالى بدلالاته المنصوبة، وآياته التي ركبها في الصور، وهي الأعراض الدالة على حدوث الأجسام، واقتضائها محدثاً لها من حيث كانا محدثين" (1) .
2- نفي الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وهي المسألة المسماة بحلول الحوادث، وقد جاءت الإشارة إلى هذه المسألة عند ابن فورك في عدة مواضع (2) .
3- يثبت ابن فورك من الصفات الخبرية: الوجه (3) ، واليدين (4) ، والعين (5) ، ويمنع من تأويلها، وينفي عنها أن تكون جارحة أو دالة على
_________
(1) مشكل الحديث وبيانه (ص: 43) - ت موسى محمد علي - المكتبة العصرية، بيروت.
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 68، 100، 133، 143، 193، 194، 230) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص: 171، 204) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص: 53، 157، 179، 183، 206) .
(5) انظر: المصدر نفسه (ص: 206، 123، 203، 205) .(2/558)
تجسيم أو أجزاء، وهذا ما يقوله الباقلاني - إلا أننا نرى ابن فورك يتأول ما عدا هذه الصفات الخبرية، فيتأول ما ورد من اليد (1) ، ويمين الرحمن (2) ، والكف (3) ، والقبضة (4) ، والقدم (5) ، والأصابع (6) ، والساق (7) ، ولم يجعلها مع اليدين والوجه والعين نسقاً واحداً في الإثبات مع عدم التمثيل، بل أوّل هذه ومنع تأويل تلك، وكأن ابن فورك شعر بالتناقض هنا فأورد سؤالاً وأجاب عليه حيث قال بعد إثباته صفة الوجه لله تعالى، ورده على المعتزلة الذين يتأولونه بأن معناه: أنه هو، وإن وجه الشيء قد يكون نفسه - قال: " فإن قال قائل: فإنه لا يعقل وجه، الجارحة أو بعض (8) ،
أو نفس الشيء؟ قيل: في هذا جوابان: أحدهما: أنه إثبات وجه بخلاف معقول الشاهد، كما أن إثبات من أضيف إليه الوجه إثبات موجود بخلاف معقول الشاهد، والثاني: أن الوجه على الحقيقة لا يكون نفس الشيء، لما بينا أن ذلك لا يوجد في اللغة حقيقة أيضاً، وأما إطلاق البعض على الوجه الذي هو جارحة فتوسع عندنا، وإن كان حقيقة أيضاً ... واعلم أن أحد أصولنا في هذا الباب أنه كلما أطلق على الله عزوجل من هذه الأوصاف والأسماء التي قد تجرى على الجوارح فينا، فإنما يجري ذلك في وصفة على طريق الصفة، إذا لم يكن وجه آخر يحمل عليه، مما يسوغ فيه التأويل، وذلك لصحة قيام الصفة بذاته، فإن قيامها مما لا يقتضي انتقاض توحيده وخروجه عما يستحقه من القدم والإلهية، فأما وصفه بذلك على الحد الذي يتوهمه المشبه الممثلة لربها بالخلق في إثبات الجوارح والآلات،
_________
(1) انظر: مشكل الحديث (ص: 207) .
(2) انظر: المصدر نفسه (ص: 209) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص: 40) .
(4) انظر المصدر نفسه (ص: 49) .
(5) انظر المصدر نفسه (ص: 62-63) .
(6) انظر، المصدر نفسه (ص: 116-118) .
(7) انظر: المصدر نفسه (ص: 167-210) .
(8) كذا ولعل الصواب: فإنه لا يعقل وجه إلا جارحة أو بعض ...(2/559)
فخلاف الدين والتوحيد، وحملها على ما ذهبت إليه المعتزلة فيه إبطال فائدتها، وإخراجها عن كونها معقولة مفيدة على وجه الحق ... " (1) ، ثم يورد سؤالاً آخر فيقول: " فإن قيل: فلم لا تقولون على هذا الوصف: " قدم " صفة و " صورة " صفة، لأن الإضافة قد حصلت في الخبر إليه على هذا الوجه؟ فقيل: " على صورته " وقيل: " قدمه "؟ قيل: إنما لم يحمل ذلك على الصفة لامتناع المعنى فيه، وإن الصفة ليست مما يوصف بالوضع في الأماكن، وقد وجدنا لذلك تأويلاً صحيحاً قريباً، يمنع هذه الشبهة، وهو ما ذكرنا قبل أن قدم المتجبر على الله عزوجل، بضعها على النار على استحقاق العقوبة على عتوه على الله..
وإنما حملنا ما أطلق من ذكر الوجه واليدين والعين على الصفة من حيث لم يوجد في واحد منها ما يستحيل ويمتنع، وليس كل ما أضيف إليه فهو عن طريق الصفة، بل ذلك ينقسم على أقسام: منها بمعنى الملك، ومنها بمعنى الفعل، ومنها بمعنى الصفة، وإنما يكشف الدليل، ويميز القرائن مواقعها على حسب ما بينا ورتبنا، فاعلمه إن شاء الله" (2) ، وواضح من منهجه هذا أن الصفة إذا كان لها وجه آخر تحمل عليه وجب حملها، بحيث لا تكون صفة لله تعالى، ومن تأمل تأويلاته لبعض الصفات الخبرية لا يجد بينها وبين تأويلات مخالفي ابن فورك لصفة اليدين والوجه والعين كبير فرق.
4- يؤول ابن فورك صفات النزول (3) ، والإتيان (4) ، والمجيء (5) ، والضحك (6) ،
_________
(1) مشكل الحديث (ص: 172) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 173) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص: 99، 101، 191، 222، 224) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص: 43، 102) .
(5) انظر: المصدر نفسه (ص: 102، 124) .
(6) انظر: المصدر نفسه (ص: 67، 200، 222، 225، 226) .(2/560)
والعجب (1) ، والغضب (2) ، والفرح (3) ، وغيرها، وهذا ما نجده مماثلاً له عند الباقلاني، وهذا كله بناءً على أصلهما الذي هو أصل الأشاعرة وهونفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية.
5- يثبت صفة الكلام على مذهب الأشاعرة، ويشرح بعض الأمور المتعلقة به، فيقول: " فأما كلام الله الذي هو صفة من صفات ذاته، غير بائن منه: فكلام واحد، شيء واحد، يفهم منه ويسمع ملا يحصى ولا يعد من الفوائد والمعاني، ونظير ذلك ما نقول: إن علمه واحد، ولكنه يحيط بمعلومات لا تتناهى، والذي تقع عليه الكثرة والقلة من المعلومات دون العلم ... " (4) ، وما نسمعه من كلام الله هو عبارة عنه، وكلام الله ليس بحرف ولا صوت، يقول: " اعلم أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت عندنا، وإنما العبارات عنه تارة تكون بالصوت والعبارات هي الدالة عليه، وأمارات له تظهر للخلق، ويسمعون عنها كلام الله فيفهمون المراد، فيكون ما سمع موسى عليه السلام من الأصوات مما سمع يسمى كلام الله عزوجل، ويكون ذلك في نفسه غير الكلام، ويحتمل أن يكون معناه: أن يسمي العبارة كلام الله، كما يسمي الدلالة على الشيء باسمه، وكما يسمي الواقع عن القدرة قدرة، والكائن عن الرحمة رحمة " (5) ،
ويقول في موضع آخر" " وقد بينا فيما قبل أن معنى ذلك راجع إلى العبارات والدلالات، التي هي الطريق إلى الكلام وبها يفهم مراده منه، لا أنه تعالى قوله إذا تكلم الله بالوحي، أنه يتجدد له كلام، ولكنه يتجدد إسماع وإفهام بخلق عبارات ونصب دلالات، بها يفهم الكلام، ثم يقال على طريق السعة والمجاز لهذه العبارات كلام من حيث أنها دلالات عليه ... واعلم أنه لا يصح على أصلنا في قولنا:
_________
(1) مشكل الحديث (ص: 95) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 229) ، وفي تأويل الغضب والرحمة (ص: 112، 179) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص: 212) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص: 212) .
(5) انظر: المصدر نفسه (ص: 169) ..(2/561)
إن كلام الله غير مخلوق ولا حادث بوجه أن يقول: إن الله يتكلم كلاماً بعد كلام، لأن ذلك يوجب حدوث الكلام، وإنما يتجدد الإسماع والإفهام، ونصب العبارات وإقامة الدلالات على الكلام الذي لم يزل موجوداً وحدوث الدلالة والعبارة لا يقتضي حدوث المدلول المعبر عنه، كما أن حدوث الذكر والدعاء لا يقتضي حدوث المذكور والمدعو" (1) .
هذه بعض المسائل التي اتفق فيها الباقلاني وابن فورك، على أن ابن فورك تميز عن الباقلاني بما يلي:
1- الاستدلال بالسنة في دقائق مسائل الأسماء والصفات، مع أن له رأياً في أخبار الآحاد وأنها لا تفيد اليقين والعلم، لكنه يرى جواز ذكرها لإفادتها غلبة الظن، فهي من باب الجائز الممكن، يقول: " وأما ما كان من نوع الآحاد مما صحت الحجة به من طريق وثاقة النقلة، وعدالة الرواة، واتصال نقلهم، فإن ذلك - وإن لم يوجب العلم والقطع - فإنه يقتضي غالب ظن وتجويز حكم، حتى يصح أن يحكم أنه من باب الجائز الممكن، دون المستحيل الممتنع" (2) ، والسبيل الأمثل فيها تخريجها وتأويلها، وليس إنكارها كما فعلت المعتزلة، ولا اعتقاد التشبيه بها كما فعلت المشبهة (3) .
والمطلع على كتاب ابن فورك في مشكل الحديث يلحظ أمرين عجيبين:
أحدهما: البحث عن أوجه التأويل لكل حديث، والتكلف في ذلك، وهو يعتقد أن هذه مهمة طائفة من أهل الحديث، فقد قسمهم إلى فرقتين: فرقة هم أهل النقلة والرواية، وحصر أسانيدها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وفرقة منهم يغلب عليهم تحقيق طرق النظر والمقاييس، والإبانة عن ترتيب الفروع على الأصول ونفي شبه الملبسين عنها، فالفرقة الأولى للدين كالخزنة للملك
_________
(1) مشكل الحديث (ص: 193-194) .
(2) المصدر السابق: (ص: 22) .
(3) انظر: المصدر نفسه (ص: 235-236) .(2/562)
والفرقة الأخرى كالحرس الذين يذبون عن خزائن الملك (1) ، وواضح أن ابن فورك في كتابه جعل مهمته هدف الفرقة الثانية، ولذلك ذكر فيه ما يراه من مشكل الحديث.
والأمر الآخر: خلطه فيما يورده بين الأحاديث الصحيحة، والضعيفة والموضوعة، حيث جعلها نسقاً واحداً في الدلالة وضرورة التأويل، وإذا أشار إلى ضعف بعض الروايات لا يكتفي بذلك في ردها وبيان عدم الحاجة إلى بحث ما دلت عليه من الصفة لله تعالى، وإنما يشير إلى ضعفها - إن أشار - بكلمات ثم يجلب بخيله ورجله في تأويلها (2) .
ومن الأمثلة على ذلك - وهي كثيرة - تأويله لرواية "الحجر الأسود يمين الله في أرضه، يصافح بها من شاء من خلقه" (3) ،
فإنه قال - دون أن
_________
(1) انظر: مشكل الحديث (ص: 17-18) .
(2) نظر: كأمثلة على ذلك مشكل الحديث (الصفحات: 59، 64، 69، 83، 103، 108، 141، 163، 168، 169) .
(3) هذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، فرواه - عن عبد الله بن عمرو -: الحاكم في المستدرك (1/457) ، بلفظ، يأتي الركن يوم القيامة.. وهو يمين الله التي يصافح بها خلقه "، والطبراني في الأوسط (1/337) ، ورقمه (567) ، وابن خزيمة في صحيحه (4/221) ورقمه (2737) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/85) ، وصحيحه الحاكم وتعقبه الذهبي بأن في إسناده عبد الله ابن المؤمل وهو ضعيف، كما رواه عن جابر مرفوعاً: الخطيب في تاريخ بغداد (6/328) ، وابن عدي في الكامل (1/336) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/84) ، وفي إسناده إسحاق بن بشر الكاهلي قال عنه ابن عدي في الكامل: هو في عداد من بضع الحديث، كما رواه عن أنس بن مالك مرفوعاً: الديلمي في الفردوس (2/258) ، بلفظين، وفي إسناده على بني عمر العسكري ضعيف، والعلاء بن سلمة الرواس متهم بالوضع، انظر: فيض القدير (3/310) ، كما رواه موقوفاً على ابن عباس - عبد الرزاق في المصنف (5/39) ، ورقمه (8919-8920) ، وابن قتيبة في غريب الحديث (2/337) ، والأزرقي في أخبار مكة من طرق (1/323، 324، 326) ، ومحمد ابن يحيى العدني المعروف بمحمد بن أبي عمر - كما في المطالب العالية - (1/339) ورقمه (1147) ، وفي الحاشية (1/340) ، " في المسندة هذا موقوف جيد، وقال البوصيري: رواه ابن أبي عمر موقوفاً بإسناد صحيح"، كما روى موقوفاً على عكرمة، رواه الأزرقي في أخبار مكة (1/325) ، ومما سبق يتبين أن المرفوع ضعيف، وأن الصحيح وقفه على ابن عباس، وممن صحح وقفه العجلوني في كشف الخفا (1/349) ، وقال في تمييز الطيب من الخبيث (ص: 68) ، " قال شيخنا هو موقوف صحيح"، كما أشار ابن تيمية في مجموع الفتاوى (6/397) ، وفي التدمرية (ص: 72) ، أن المشهور فيه أنه عن ابن عباس وانظر: حول هذا الحديث أيضاً إحياء علوم الدين (1/103) ، مع تخريج العراقي، وشرحه إتحاف السادة (2/79-80) ، والسراج المنير للعزيزي (2/236-237) ، وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني رقم (223) ، وكنز العمال (12/215، 217) .
ملحوظة: وقع في الترغيب والترهيب (2/194) - ت مصطفى عمارة - و (2/314) ، ت الهراس رواية عبد الله بن عمرو بلفظ " يأتي الركن اليماني.." والذي في مصادر الحديث - التي أشرنا إليها - وأيضاً في مسند الإمام أحمد (2/211) ، حيث روى أول الحديث دون المصافحة، مجيء الرواية بلفظ " يأتي الركن"، فقط، ولذلك بوبوا له بالحجر الأسود، فلعل ما في الترغيب والترهيب وهم من المنذري أو من النساخ، والله أعلم.(2/563)
يتعرض لإسناده، وهل هو مرفوع أو موقوف -: " وقد تأول أهل العلم ذلك على وجهين من التأويل: أحدهما: أن المراد بذلك الحجر أنه من نعم الله على عباده، بأن جعله سبباً يثابون على التقرب إلى الله تعالى بمصافحته، فيؤجرون على ذلك، وقد بينا أن العرب تعبر عن النعم باليمين واليد.. وزعم بعضهم: أن هذا تمثيل وأصله أن الملك إذا صافح رجلاً، قبل الرجل يده، فكان الحجر لله تعالى بمنزلة اليمين للملك ليستلم ويلثم، وقد روى في الخبر أن الله عزوجل لما أوجده أخذ الميثاق من بني آدم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم؟ قالوا: بلى، جعل ذلك في الحجر الأسود، فلذلك يقال عنده: إيماناً بك ووفاءً بعهدك (1) .
ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يكون قوله " الحجر يمين الله في أرضه، إنما إضافة إليه على طريق التعظيم للحجر، وهو فعل من أفعال الله عزوجل سماه يميناً، ونَسَبهُ إلى نفسه وأمر الناس باستلامه ومصافحته، ليظهر طاعتهم بالإئتمار وتقربهم إلى الله عزوجل، فيحصل لهم بذلك البركة والسعدة" (2) . ولو أن ابن فورك بين درجته وضعفه - أو ضعف المرفوع منه - ثم بين وضوح دلالته وأن نص الحديث يدل على أن الحجر ليس يمين الله حقيقة والتي هي صفته القائمة به لأنه قال: " في الأرض "، لما احتاج إلى هذه التأويلات.
_________
(1) وردت في ذلك رواية ضعيفة عن عمر - رضي الله عنه - رواها الحاكم في المستدرك (1/457) ، والأزرقي في تاريخ مكة (1/323-324) .
(2) مشكل الحديث (ص: 57-58) .(2/564)
وأحياناً يستعين ببعض الروايات الشاذة أو الضعيفة، فمثلاً حين أوّلَ أحاديث النزول بعدة تأويلات قال: " وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يؤيد هذا الباب، وهو بضم الياء من " ينزل " وذكر أنه قد ضبطه عمن سمعه عنه من الثقات الضابطين" (1) ، والروايات المتواترة جاءت بما هو مشهور، فكيف تمسك بهذه الرواية الشاذة، والمجهول رواتها؟ وفي تأويله للإتيان في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة:210) ، ذكر رواية عن مجاهد أنه قال: يأتيهم بوعده ووعيده (2) . مع أن المأثور عن مجاهد عكس هذا.
2- وابن فورك يؤول الاستواء والعلو، خلافاً للباقلاني الذي يثبتهما، وقد سبق نقل كلامه في ذلك، ولأهمية قول ابن فورك في هذه المسألة في تتبع تطور المذهب الأشعري نعرض لأقواله فيها، يقول عن الاستواء في معرض رده على ابن خزيمة في كتابه التوحيد: " ثم ذكر صاحب التصنيف بابا ترجمه باستوائه على العرش، وأوهم معنى التمكين والاستقرار، وذلك منه خطأ، لأن استواءه على العرش سبحانه ليس على معنى التمكين والاستقرار، بل هو في معنى العلو بالقهر والتدبير، وارتفاع الدرجة بالصفة على الوجه الذي يقتضي مباينة الخلق" (3) ، وفي موضع آخر حين رد على أحمد بن إسحاق الصبغي - صاحب ابن خزيمة - أحال على تأويله للاستواء فيما سبق - والذي نقلناه قبل قليل -.
أما العلو: فله في تأويله أقوال كثيرة:
أ - يقول في حديث الجارية حين قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الله؟ قالت في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة (4) ، يقول ابن فورك: " إن ظاهر
_________
(1) مشكل الحديث (ص: 100) .
(2) المصدر نفسه (ص: 103) ، وقد بحثت عن هذه الرواية فلم أجدها في كتب التفسير ومنها تفسير مجاهد، والطبري، والسيوطي، وابن كثير، والقرطبي، وابن الجوزي، والخازن، والبغوي، والألوسي، والبسيط للواحدي (مخطوط) وتفسير الثعلبي (مخطوط) وغيرها.
(3) مشكل الحديث (ص: 186) .
(4) رواه مسلم - في آخر قصة - كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ورقمه (537) .(2/565)
اللغة تدل من لفظه أين أنها موضوعة للسؤال عن المكان، ويستخبر بها عن مكان المسؤول عنه بأين.. غير أنهم قد استعملوها عن مكان المسؤول عنه في غير هذا المعنى توسعاً أيضاً تشبيهاً بما وضع له، وذلك أنهم يقولون - عند استعلام منزلة المستعلم عند من يستعمله -: أين منزلة فلان منك، وابن فلان من الأمير، واستعملوه في استعلام الفرق بين الرتبتين بأن يقولوا: أين فلان من فلان، وليس يريدون المكان والمحل من طريق التجاوز في البقاع، بل يريدون الاستفهام عن الرتبة والمنزلة، وكذلك يقولون: لفلان عند فلان مكان ومنزلة، ومكان فلان في قلب فلان حسن، ويريدون بذلك المرتبة والدرجة في التقريب والتبعيد، والإكرام والإهانة، فإذا كان ذلك مشهوراً في اللغة احتمل أن يقال: إن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: أين الله؟ استعلام لمنزلته وقدره عندها وفي قلبها، وأشارت إلى السماء، ودلت بإشارتها على أنه في السماء عندها على قول القائل - إذا أراد أن يخبر عن رفعة وعلو منزلة -: فلان في السماء، أي هو رفيع الشأن، عظيم المقدار، كذلك قولها في السماء على طريقة الإشارة إليها، تنبيهاً عن محله في قلبها ومعرفتها به وإنما أشارت إلى السماء لأنها كانت خرساء، فدلت بإشارتها على مثل دلالة العبارة، على نحو هذا المعنى، وإذا كان كذلك لم يجز أن يحمل على غيره مما يقتضي الحد والتشبيه والتمكين في المكان والتكييف " (1) ،
وبعد أن يقرر ابن فورك مذهبه هذا وتأويله - العجيب - لهذا الحديث، يذكر قولاً آخر لبعض الأشاعرة فيقول: " ومن أصحابنا من قال: إن القائل إذا قال: إن الله في السماء، ويريد بذلك أنه فوقها من طريق الصفة، لا من طريق الجهة، على نحو قوله سبحانه {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (الملك:17) ، لم ينكر ذلك " (2) ، وقد يكون قصد ببعض أصحابه: الباقلاني، الذي صرح بنفي الجهة - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
_________
(1) مشكل الحديث (ص: 76) ، ويلحظ أن رواية أنها أشارت بيدها إلى السماء رواية ضعيفة..
(2) المصدر السابق (ص: 76-77) .(2/566)
ب - قال في معرض رده على المعتزلة الذين يذهبون إلى أن الله في كل مكان، وبيانه أن المسلمين يطلقون أن الله فوق خلقه، وأن "في" في قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} بمعنى "على" غير أنه يعقب قائلاً: "واعلم أنا إذا قلنا: إن الله عزوجل فوق ما خلق، لم يرجع به إلى فوقية المكان، والاتفاع على الأمكنة بالمسافة، والإشراف عليها بالممارسة منها، بل قولنا إنه فوقها يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يراد به أنه قاهر لها، مسؤول عليها، إثباتاً لإحاطة قدرته بها، وشمول قهره لها، وكونها تحت تدبيره، جارية على حسب علمه ومشيئته.
والوجه الثاني: أن يراد أنه فوقها على معنى أنه مباين لها بالصفة والنعت، وأن ما يجوز على المحدثات من العيب والنقص والعجز والآفة والحاجة، لا يصح شيء من ذلك عليه، ولا يجوز وصفه به، وهذا أيضاً متعارف في اللغة أن يقال: فلان فوق فلان، ويراد بذلك رفعة المرتبة والمنزلة، والله عزوجل فوق خلقه على الوجهين جميعاً ".
وإنما يمتنع الوجه الثالث: وهو أن يكون على معنى التحيز في جهة الاختصاص ببقعة دون بقعة، وإذا قلنا: إنه فوق الأشياء على هذا الوجه قلنا أيضاً في تأويل إطلاق القول بأنه فيها على مثل هذا المعنى" (1) .
جـ - ويقول في رده على ابن خزيمة: " واعلم أنه ليس ينكر قول من قال: إن الله في السماء، لأجل أن لفظ الكتاب قد ورد به وهو قوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (الملك: 16) ، ومعنى ذلك: أنه فوق السماء لا على معنى فوقية المتمكن في المكان، لأن ذلك صفة الجسم المحدود المحدث، ولكن بمعنى ما وصف به أنه فوق من طريق الرتبة والمنزلة والعظمة والقدرة، ثم ذكر هذا القائل [ابن خزيمة] في ذلك قوله عزوجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر:10) ، وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء:158)
_________
(1) مشكل الحديث (ص: 84) .(2/567)
وهذا منه غلط، من قبل [أن] صعود الكلم الطيب إليه على معنى صعود من سفل إلى علو، لاستحالة ذلك في الكلام لكونه عرضاً لا يبقى، وكذلك العمل الصالح وإنما معنى صعود الكلام إليه قبوله، ووقوعه منه موضع الجزاء والثواب، وقوله: (يرفعه) لا على معنى رفع من مكان إلى مكان، ولكن رفع له على معنى أنه قد تقبل، وأن الكلام إذا اقترن به العمل الصالح قُبلاً دون أن ينفرد الكلام من العمل. وأما قوله تعالى في قصة عيسى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ، فمعناه: رفعه إلى الموضع الذي لا يعبد فيه إلا الله، ولا يذكر فيه غيره، لا على معنى أنه ارتفاع إليه كما يرتفع الجسم من سفل إلى جسم في علو، بأن تقرب منه بالمسافة والمساحة" (1) .
د - ويشير في مواضع أخرى إلى تأويله للعلو والفوقية (2) .
هذا في كتابه الذي وصل إلينا كاملاً، وقد ذكر شيخ الإسلام - نقلاً عن كتابه في أصول الدين - ما يدل على إثبات العلو والاستواء، وأنه قال فيه: "وإن سألت أين هو فجوابنا: أنه في السماء كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك فقال - عز من قائل - {أأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (الملك:16) ، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه، وإنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت: أين الله؟ لقالوا: إنه في السماء ولم ينكروا لفظ السؤال بأين، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال: أين الله؟ فقالت: في السماء: مشيرة بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقها فإنها مؤمنة، ولو كان ذلك قولاً منكراً لم يحكم بإيمانها ولأنكره عليها، ومعنى ذلك أنه فوق السماء، لأن في معنى فوق، قال الله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} (التوبة:2) أي فوقها (3) ، وقال عن الاستواء" فإن قال: فعلى ما هو اليوم؟ قيل له: مستو على العرش كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) (4) .
_________
(1) مشكل الحديث (ص: 188) .
(2) انظر: المصدر نفسه (ص: 178-216، 218) .
(3) أصول الدين لابن فورك - عن مجموع الفتاوي - (16/90) .
(4) المصدر السابق (ص: 16/93) .(2/568)
قال ابن تيمية معلقاً: " فيشبه - والله أعلم - أن يكون اجتهاده مختلفاً في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل ثم حرمه، وحكى إجماع السلف على تحريمه ... " (1) .
* * *
ومما سبق يمكن تلخيص دور ابن فورك في تطور المذهب الأشعري بما يلي:
1- العناية بالحديث والاهتمام به، مع البقاء على منهج وطريقة أهل الكلام وتأويلاتهم، وبذلك خف الحاجز الذي كان يفصل بين أهل السنة من أهل الحديث الذين يثبتون ما دلت عليه النصوص، وأهل الكلام الذين كانوا بعيدين عن الاهتمام بعلم الحديث رواية ودراية، وهذا المنهج الذي سلكه ابن فورك هو ما سنجده بشكل أقوى وأوضح عند البيهقي.
2- الغلو في التأويل، وكأنه صار هو الأصل، والإثبات هو القليل.
3- تأويل صفة الاستواء والعلو، وهذا تطور خطير وكبير في المذهب الأشعري، وإن كان - كغيره من الأشاعرة - قد أثر عنه المنع من تأويلها.
عبد القاهر البغدادي: ت 429هـ
هو عبد بن طاهر بن عبد الله، أبو منصور البغدادي، التميمي (2) ، لم يحدد تاريخ ولادته، لكن المعروف عنه أنه ولد في بغداد ونشأ
_________
(1) مجموع الفتاوي (16/91) .
(2) انظر ترجمته في: تبيين كذب المفتري (ص: 253) ، ووفيات الأعيان (3/203) ، وفوات الوفيات (2/370) ، وأنباء الرواة (2/185) ، وطبقات السبكي (5/136) ، وطبقات الإسنوي (1/194) ، وابن قاضي شبهة (1/213) ، وسير أعلام النبلاء (17/572) ، وبغية الوعاة (2/105) ، ومقدمة تحقيق كتاب الناسخ والمنسوخ له (ص: 15-23) ، ومثلها كتابه التكملة في الحساب (ص: 10) ، ومقدمة تحقيق مختصر الفرق بين الفرق للرسعني (ص: 6) ، وما بعدها.(2/569)
بها، ثم رحل مع أبيه إلى نيسابور، حيث تتلمذ على يد أبي إسحاق الإسفراييني، وكان من أبرز شيوخه، ومنهم أيضاً، إسماعيل بن نجيد، وأبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، وأبو بكر الإسماعيلي، وأبو أحمد بن عدي وغيرهم (1) .
وقد مدحه العلماء - خاصة علماء الأشاعرة - كابن عساكر (2) والرازي والسبكي (3) ، وقال فيه شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني: " كان من أئمة الأصول، وصدور الإسلام، بإجماع أهل الفضل والتحصيل، بديع الترتيب، غريب التأليف والتهذيب، تراه الجلة صدراً مقدماً، وتدعوه الأئمة إماماً مُفخّماً، ومن خراب نيسابور اضطرار مثله إلى مفارقتها" (4) ، قال السبكي " قلت: فارق نيسابور بسبب فتنة وقعت بها من التركمان" (5) ، وكان استقراره آخر أمره في إسفراين حيث لم يبق فيها إلا يسيرا، فمات بها سنة 429هـ ودفن بجانب شيخه أبي إسحاق الإسفراييني.
ومن أبرز تلاميذ البغدادي: القشيري، والبيهقي، وناصر بن الحسين المروزي المتوفى سنة 444هـ، وعبد الغفار بن محمد النيسابوري المتوفى سنة 510هـ وعمره 96سنة (6) ، ومنهم أيضاً صهره، أبو المظفر الإسفراييني المتوفى سنة 471هـ، صاحب التبصير بالدين، الذي قلد فيه شيخه (7) .
أما أهم آثاره فهي:
1- الملل والنحل، وهو كتاب مختصر ألفه قبل " الفرق بين الفرق"،
_________
(1) انظر: السير (17/572) ، والسبكي (5/137) .
(2) انظر: التبيين (ص: 253) .
(3) انظر: طبقات السبكي (5/136، 138) .
(4) المصدر السابق (5/137) ، وهذه الفتنة هي فتنة الغز - وهم من التركمان - انظر أحداثها في: الكامل (9/457) أحداث سنة 429هـ، وانظر: طبقات الأسنوي (1/195) -الحاشية -.
(5) المصدر السابق (5/137) ، وهذه الفتنة هي فتنة الغز - وهم من التركمان - انظر أحداثها في: الكامل (9/457) أحداث سنة 429هـ، وانظر: طبقات الأسنوي (1/195) -الحاشية -.
(6) انظر: السير (17/572) ، والسبكي (5/137) .
(7) انظر: التبصير بالدين (ص: 10-11) ، من المقدمة، و (ص: 175) ، من الكتاب.(2/570)
وميزته أنه توسع كثيراً في شرح مقالة المعتزلة (1) ، إضافة إلى كلامه عن بقية الفرق قال عنه السبكي: " مختصر ليس في هذا النوع مثله " (2) ، وقد طبع بتحقيق ألبير نصري نادر - ط دار المشرق - بيروت سنة 1986م.
2- الفرق بين الفرق، وهو مشهور، طبع عدة مرات.
3- أصول الدين، مطبوع أيضاً.
4- الناسخ والمنسوخ، حقق رسالة للماجستير من جامعة أم القرى، تحقيق حلمي كامل أسعد عبد الهادي - وطبعته دار العدوي بعمان - الأردن سنة 1407هـ.
5- التكملة في الحساب، وهو من أشهر كتبه حتى قال فيه الرازي "لو لم يكن له إلا كتاب التكملة في الحساب لكفاه " (3) ، وقد طبع في الكويت سنة 1406هـ، ضمن منشورات معهد المخطوطات العربية، تحقيق: أحمد سليم سعيدان.
6- رسالة في المساحة، طبعت في ذيل الكتاب السابق.
7- تأويل متشابه الأخبار، ذكره السبكي وابن شاكر الكتبي، والزركلي (4) ، وذكر محقق كتاب الناسخ والمنسوخ أن له نسخة خطية في جامعة عليكرة الإسلامية بالهند (5) ، وبما أن هذا الكتاب موجود فهو ذو أهمية كبيرة لمعرفة منهج البغدادي، خاصة في الصفات، ومع ذلك فكتابه "أصول الدين" جمع فيه ما يتعلق بجميع مسائل أصول الدين.
_________
(1) انظر: الملل والنحل للبغدادي (ص: 82) ، وما بعدها.
(2) الطبقات (5/140) .
(3) طبقات السبكي (5/138) .
(4) انظر: طبقات السبكي (5/140) ، وفوات الوفيات (2/372) ، والأعلام (4/48) - ط السادسة -.
(5) انظر: مقدمة تحقيق الناسخ والمنسوخ (ص: 21) ، وقد أحال على بروكلمان - الملحق (1/666) -.(2/571)
وهناك مؤلفات أخرى ذكرها مترجموه، ومنها تفسير أسماء الله الحسنى، أشار الزركلي إلى أنه مخطوط (1) .
منهج البغدادي ودوره في تطور المذهب الأشعري:
البغدادي أحد أعلام الأشاعرة في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس حيث كانت وفاته سنة 429هـ، وهو يمثل تقريباً مرحلة كل من الباقلاني - ت 403هـ- وابن فورك - ت 406هـ- وإن تأخر عنهما قليلاً، لكنه مثلاً يلتقي مع ابن فورك بكونهما شيخين للبيهقي، كما أنه يذكره في كتابه أصول الدين (2) ، ويذكر الباقلاني أيضاً، ويصفه بقوله: " قال قاضينا " (3) ، كما أن البغدادي ذكر أنه أدرك أبا عبد الله بن مجاهد، تلميذ أبي الحسن الأشعري (4) .
والبغدادي يميزه كتبه خاصة "أصول الدين" إنه ينقل أقوال أصحابه من الكلابية والأِشعرية، ويذكر الخلاف بينهم إن وجد، لذلك فقد يتبادر إلى الناظر أنه مقلد للأشاعرة، وممن رأى هذا الرأي عبد الرحمن بدوي الذي قال: " لقد كان عبد القاهر البغدادي - بحسب ما لدينا من مؤلفاته - عارضاً لآراء الأشاعرة أكثر من مفكراً أصيلاً، ذا آراء انفرد بها، أو براهين جديدة ساقها" (5) ، وهذا الكلام فيه شيء من الحق لكن البغدادي - كما سيأتي - له ترجيحات خاصة تعتبر بمثابة منعطف في تطور المذهب الأشعري، صحيح أنه في غالب المسائل مقلد لشيوخه، لكن ليس فيها كلها.
والبغدادي لا يخالف من سبقه من الأشاعرة في مسائل العقيدة والكلام،
_________
(1) الأعلام (4/48) ، وانظر: المصادر السابقة في الفقرتين السابقتين.
(2) (ص: 253، 310) ، كما ذكره في الفرق بين الفرق (ص: 364) .
(3) أصول الدين (ص: 230-231) ، و (ص: 253-310) ، والفرق بين الفرق (ص: 364) .
(4) المصدر السابق (ص: 253-310) ، والفرق بين الفرق (ص: 364) .
(5) مذهب الإسلاميين (1/674) .(2/572)
فيرى أن أول الواجبات النظر (1) ، وأخبار الآحاد - إذا رواها الثقات - تقبل إذا كانت تحتمل تأويلاً يوافق المعقول (2) ، كما أنه يقول بالجزء الذي لا يتجزأ، وهو الجوهر الفرد، ويستدل له (3) ، كما يقول بأن الأعراض لا تبقى زمانين (4) ، كما أنه يحتج بدليل الأعراض وحدوث الأجسام ويحتج له ويطيل الكلام حوله (5) ، كما أنه ينفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية، وهي مسألة حلول الحوادث (6) ، ولذلك تأوّل صفات المحبة، والرحمة، والغضب، والفرح، والضحك (7) ، كما أنه قال بكلام الله الأزلي وأنه قائم بالله وأنه أمره ونيه وخبره ووعده ووعيده، ويربط ذلك بمسألة حلول الحوادث (8) ، لكنه لما ذكر ما وقع من الخلاف بين الكلابية والأِشعرية في أزلية الأمر والنهي، ذكر قوليهما دون ترجيح (9) ، أما الإيمان فهو عنده الطاعات فرضها ونقلها كما هو قول أهل الحديث والسنة، ويرجح هذا بعد ذكره لأقوال كل من الأشعري وابن كلاب (10) ،
أما الاستثناء في الإيمان، فقد رتب الخلاف فه ترتيباً حسناً على الخلاف في حقيقة الإيمان، وبما أنه رجح مذهب أهل الحديث فقد قال: "وكل من وافى ربه على الإيمان فهو مؤمن، ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في
_________
(1) انظر: أصول الدين (ص: 210) .
(2) انظر: أصول الدين (ص: 12،23) ، والفرق بين الفرق (325) . - ط عبد الحميد -.
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 35-36) ، والفرق بين الفرق (ص: 328) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص: 51، 229، 230) .
(5) انظر: المصدر نفسه (ص: 54-67) ، والفرق بين الفرق (ص: 329) .
(6) انظر: المصدر نفسه (ص: 106-337) ، وانظر: الملل والنحل للبغدادي (ص: 150) ، والفرق بين الفرق (ص: 333) ، والناسخ والمنسوخ للبغدادي (ص: 107) .
(7) انظر: المصدر نفسه (ص: 46، 80) .
(8) انظر: المصدر نفسه (ص: 106-108) ، والفرق بين الفرق (ص: 337) .
(9) انظر: المصدر نفسه (ص: 108) .
(10) انظر: المصدر نفسه (ص: 248-249) ..(2/573)
الدنيا، علم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمناً" (1) ، وهذا الكلام ليس هو قول أهل الحديث الذين يجيزون الاستثناء في الإيمان إذا لم يكن شقاً، أما الموافاة فهي من مسائل مذهب الأشاعرة بناءً على قولهم في منع حلول الحوادث، وأن غضب الله أو رضاه أزلي، فالكافر إذا مات على الكفر فهو مغضوب عليه غير مرضي عنه ولو عاش أغلب عمره مؤمناً، وعكسه المؤمن، أما مسألة القدر، فقد قال بالكسب وسار فيه على خطأ شيوخه في ذلك مع التجديد في العرض والاستدلال (2) ، أما ما يتعلق بالمعجزات وشروطها، فأقواله فيها جاءت على وفق ما ذهب إليه الباقلاني (3) .
هذه خلاصةسريعة لبعض رؤوس المسائل التي وافق فيها شيوخه الأشاعرة أما الجوانب البارزة في منهجه، كمعالم على تطور المذهب الِأشعري فأهمها:
1- مخالفته صراحة لبعض أقوال شيخ الأشاعرة أبي الحسن الأشعري، فهو يعرض الأقوال ومنها قول الأشعري، ثم يرجح قولاً آخر قال به غيره كابن كلاب أو القلانسي، أو غيرهما، ومن ذلك مسألة إيمان المقلد (4) ، ومعنى "الإله" (5) ، والوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران:7) ، ومخالفة البغدادي - في هذه المسائل أو غيرها - للأشعري له أهمية في تصور مدى المتابعة والتقليد لشيخهم في ذلك الزمن القريب من اِلأشعري، إذ أن الفرق بين وفاتيهما يتجاوز القرن بقليل، وهذه مدة زمنية قليلة نسبياً.
2- تبني دليل حدوث الأجسام بقوة، وهو من أدلة المعتزلة، وقد قال به بعض الأشاعرة قبل البغدادي، لكن شيخهم أبا الحسن الأِشعري رأى أنه
_________
(1) أصول الدين (ص: 253) .
(2) انظر: أصول الدين (ص: 133) ، وما بعدها والفرق (ص:339) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 170-179) ، والفرق (ص: 344) .
(4) انظر: المصدر السابق (ص: 254) .
(5) انظر: المصدر نفسه (ص: 123) .(2/574)
دليل لم تدع إليه الرسل - كما سبق شرح ذلك - فالبغدادي لما عرض هذا الدليل عرضه وكأنه دليل مسلم لا يجوز الاعتراض عليه، بل قال: " وكل قول لا يصح معه الاستدلال على حدوث الأجسام وعلى حدوث الجواهر فهو فاسد" (1) ، وهذا الجزم بالقول بصحة هذا الدليل هو ما نجده إحدى مسلمات مذهب الأشاعرة فيما بعد.
3- تأييد القول بتجانس الأجسام كلها، وأن اختلافها في الصورة،- وهذا قد قال به بعض المعتزلة (2) ، وبنوا عليه نفي صفات الله حين قالوا: إثبات الصفات تجسيم والأجسام متماثلة.
4- أما مسألة الاستواء، فقد سبق بيان أن الباقلاني ومن قبله قالوا بإثباته بلا تأويل، وردوا على من أوّله بالاستيلاء، وأن ابن فورك مال فيه إلى التأويل، أما البغدادي فقد قال بالتأويل، مع أنه رد على المعتزلة الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء وقال: " زعمت المعتزلة أنه بمعنى استولى كقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق، أي استولى، وهذا تأويل باطل؛ لأنه يوجب أنه لم يكن مستولياً عليه قبل استوائه عليه" (3) ، ثم عرض أقوال أصحابه الأشاعرة فقال: " واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إن آية الاستواء من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وهذا قول مالك بن أنس وفقهاء المدينة والأصمعي ... ومنهم من قال: إن استواءه على العرش فعل أحدثه في العرش ثم سماه استواء، كما أحدث في بنيان قوم سماه إتياناً، ولم يكن ذلك نزولاً ولا حركة، وهذا قول أبي الحسن الأشعري ... ومنهم من قال: إن استواءه على العرش كونه فوق العرش بلا مماسة، وهذا قول القلانسي وعبد الله بن سعيد، ذكره في كتاب الصفات" (4) ، وبعد عرضه لهذه الأقوال يرجح فيقول: " والصحيح عندنا
_________
(1) أصول الدين (ص: 58) .
(2) انظر: أصول الدين (ص: 54) ، والفرق بين الفرق (ص: 328) .
(3) أصول الدين (ص: 112) .
(4) أصول الدين (ص: 112-11-) .(2/575)
تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثّلّ عرشُ فلان إذا ذهب ملكه ... فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه (1) ، ويقول في موضع آخر حول معنى آية الاستواء: " ومعناه عندنا على الملك استوى، أي استوى الملك للإله، والعرش هاهنا بمعنى الملك ... " (2) .
أما مسألة العلو فهو من نفاته، ولذلك بوب لإحدى المسائل بقوله: " المسألة السابعة من الأصل الثالث في إحالة كون الإله في مكان دون مكان " (3) ، ثم ذكر أقوال الكرامية والمعتزلة والحلولية، ثم قال: " ودليلنا على أنه ليس في مكان بمعنى المماسة قيام الدلالة على أنه ليس بجوهر ولا جسم ولا ذي حد ونهاية، والمماسة لا تصح إلا من الأجسام والجواهر التي لها حدود" (4) ، ثم ذكر أنه أفراد هذه المسألة في كتاب مفرد (5) ، وفي موضع آخر يذكر أن الله كان ولا مكان وهو الآن على ما كان (6) .
فالبغدادي من نفاة العلو ومؤولة الاستواء، وبهذا يتبين أن القول بذلك في المذهب الأشعري جاء قبل الجويني.
5- وأبرز تطور جاء على يد البغدادي هو قوله في الصفات الخبرية، وقد سبق ذكر أن الباقلاني وابن فورك ومن قبلهما أثبتوا لله الوجه واليدين والعين ومنعوا من تأويلها، وابن فورك - مثلاً - وإن قال بتأويل بعض الصفات الخبرية، كالقدم والإصبع واليمين - كما مر - إلا أن هذه الصفات - صفات الوجه واليدين والعين- لم يؤولها ولم يسلك فيها ما سلكه في غيرها بل نص على
_________
(1) أصول الدين (ص: 113-114) .
(2) المصدر نفسه (ص: 78) .
(3) المصدر نفسه (ص: 76) .
(4) المصدر نفسه (ص: 77) .
(5) انظر: المصدر نفسه (ص: 78) .
(6) انظر: الفرق بين الفرق (ص: 333) .(2/576)
القول بالإثبات والمنع من التأويل، أما البغدادي فإنه قال: " المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل في تأويل الوجه والعين من صفاته "، ثم ذكر قول المشبه ثم قال: " وزعم بعض الصفاتية أن الوجه والعين المضافين إلى الله تعالى صفات له، والصحيح عندنا أن وجهه ذاته، وعينه رؤيته للأشياء، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن:27) ، معناه ويبقى ربك، ولذلك قال:) {ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} ، بالرفع لأنه نعت الوجه، ولو أراد الإضافة لقال ذي الجلال والإكرام، بالخفض ... " (1) ، ثم ذكر المسألة الرابعة عشرة في تأويل اليد المضافة إلى الله تعالى، وبعد أن أبطل مذهب المشبهة قال: " وزعم بعض القدرية أن اليد المضافة إليه بمعنى القدرة، وهذا التأويل لا يصح على مذهبه مع قوله: إن الله تعالى قادر بنفسه بلا قدرة، وقد تأول بعض أصحابنا هذا التأويل، وذلك صحيح على المذهب، إذا أثبتنا لله القدرة، وبها خلق كل شيء، ولذلك قال في آدم عليه السلام {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (صّ:75) ، ووجه تخصيصه آدم بذلك أن خلقه بقدرته لا على مثال له سبق، ولا من نطفة، ولا نقل من الأصلاب إلى الأرحام، كما نقل ذريته من الأصلاب إلى الأرحام، وزعم بعض أصحابنا أن يديه صفتان، وزعم القلانسي أنهما صفة واحدة " (2) ،
وكلامه هذا يدل على تأويل صريح لهذه الصفات، وقد بنى تأويله هذا على أن الله واحد فقال بعد ذكر بعض الصفات الخبرية ناسياً إثباتها إلى المشبهة: " ودليلينا على أن الله واحد في ذاته، ليس بذي أجزاء وأبعاض أنه قد صح أنه حي، قادر، عالم، مريد فلو كان ذا أجزاء وأبعاض لم يخل أن يكون في كل جزء منه حياة وقدرة وعلم وإرادة، أو تكون هذه الصفات في بعض أجزائه ... " (3) ، ثم قال: " وأما قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] ، فمعناه ويبقى ربك ... [ثم ذكر التعليل
_________
(1) أصول الدين (ص: 109-110) .
(2) المصدر السابق (ص: 111) ، ويلاحظ أنم الطابعين للكتاب خلطوا بين نسختين منه، مع تمييز إحداهما عن الأخرى، وقد نقلنا إحداهما ليستقيم الكلام..
(3) المصدر نفسه (ص: 75) .(2/577)
السابق، ثم قال:] واليد المضافة إلى الله تعالى صفة له خاصة وقدرة له بها فعله" (1) ،كما أنه أوّل القدم والإصبع (2) .
وبهذا يتبين أن البغدادي قال بتأويل الصفات الخبرية في وقت مبكر، وأن الجويني - المولود سنة 419 هـ والمتوفى سنة 478هـ - الذي اشتهر عنه أنه أول من أوّل الصفات الخبرية قد سبق إلى ذلك من جانب بعض أعلام الأشاعرة، مع أن البغدادي يشير في مسألة تأويل اليد بالقدرة إلى أن بعض أصحابهم قد قال به، ولم يحدد القائل، وهذا يدل على أنها مسألة مطروحة عند الأشاعرة في ذلك الوقت.
6- ومن المعالم البارزة في منهج البغدادي، مما كان له أثر فيمن أتى بعده: صياغته لمذهب الأشاعرة على أنه مذهب أهل السنة والجماعة، حتى أنه كاد يستقر في أذهان كثير ممن ينتسب إلى الفقه والعلم أن أقوال الأشاعرة تمثل المذهب الصحيح الذي هو مذهب السلف، ومحاولة البغدادي جاءت على النحو التالي:
أ- تأليفه لكتاب في الملل والنحل، ثم في الفرق، والأشعري وإن سبقه إلى ذلك في تأليف مقالات الإسلاميين، إلا أن أسلوبه في العرض لم يكن مرتباً بشكل واضح، وحتى ذكره لمذهب أهل الحديث كان مختصراً (3) ، ولما ذكره أشار إلى أنه به يقول وإليه مذهب، أما البغدادي فقد عرض أقوال الفرق بمنهج واضح ومرتب، واعتمد على حديث الافتراق الوارد، وساق بعض رواياته بأسانيده هو، ثم ذكر أنه مروي عن جمع من الصحابة (4) ، ثم حصر أعداد الفرق لتوافق ما في الحديث، فذكر اثنتين وسبعين فرقة، ثم الفرقة الثالثة والسبعين وجعلها فرقة أهل السنة والجماعة على أنهم الفرقة الناجية، الواردة في الحديث.
ولما شرح اعتقاد هذه الطائفة ذكر عقائد الأشعرية مختصرة، وفصلها في كتابه
_________
(1) أصول الدين (ص: 76) .
(2) انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة.
(3) ومع ذلك فالأشعري أوثق وأدق في نقل الأقوال لسائر الطوائف من البغدادي وممن جاء بعده.
(4) انظر: الفرق بين الفرق (ص: 4-9) .(2/578)
"أصول الدين"، ولما كان هذا الكتاب أول كتاب في الفرق بعد مرحلة الأشعري، وجاء مرتباً على هذه الطريقة، توهم الكثيرون أن ما عرضه من عقائد الفرقة الناجية في كتابه هذا هو عقيدة أهل السنة والجماعة الذي يجب أتباعه.
ب - حين ذكر أصناف أهل السنة والجماعة أدخل فيهم مختلق فئات الناس على أنهم على هذا الاعتقاد الأشعري، فذكر أن منهم سالكي طرق الصفاتية من المتكلمين، الذين تبرءوا من التشبيه والتعطيل، كما ذكر أن منهم أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث وأدخل فيهم أصحاب المذاهب الأربعة وأهل الظاهر وغيرهم (1) ، كما ذكر أن منهم أهل الأدب والنحو والتصريف واللغة، فذكر أعلامم، كما ذكر أن منهم علماء القراءات والتفسير، كما ذكر أن منهم الزهاد والصوفية، والمرابطين في الثغور، وعامة البلدان التي غلب فيها شعار أهل السنة (2) ، وبذكر هذه الأصناف كلها، ونسبتها في الاعتقاد إلى مذهب الأشاعرة يكون البغدادي قد ادعى أن انتشار المذهب الأشعري عند هؤلاء دليل على أنه الحق.
جـ - ولما كان مذهب الأشاعرة اعتمد على مناهج أهل الكلام، فإن البغدادي حرص على أن ينسب لأعلام الصحابة والسلف أنهم من المتكلمين، فذكر أن منهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لأنه ناظر الخوارج، وعبد الله ابن عمر لكلامه في القدرية وبراءته منهم، وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وأن له رسالة في الرد على القدرية، وزيد بن علي بن الحسين، والحسن البصري، والزهري، والشعبي، وجعفر الصادق، وأبا حنيفة، والشافعي، وأبا يوسف صاحب أبي حنيفة ثم ذكر أعلام الكلابية والأِشعرية الذين سبقوه أو عاصروه (3) .
_________
(1) انظر: الملل والنحل (ص: 158) ، حيث ذكر أن مدار الفتوى عليهم دون غيرهم، وانظر: الفرق بين الفرق (ص: 313-317) .
(2) انظر: الفرق بين الفرق (ص: 317-318) ، وانظر: أصول الدين (ص: 307-317) ، وفيه تفصيلات كثيرة.
(3) انظر: أصول الدين (ص: 307-310) .(2/579)
بهذا المنهج المتميز الذي لم يكن معهوداً في مؤلفات ذلك العصر - مع حسن العرض والترتيب والتبويب - استطاع البغدادي أن ينشر بين الناس أن المذهب الأشعري هو المذهب الصحيح، وأنه المذهب الذي يتبناه أعلام الإسلام على مختلف تخصصاتهم وميولهم، وعلى ذلك فليس الأشاعرة فرقة من فرق المسلمين، وإنما عقيدتهم هي عقيدة جمهور أهل السنة من المسلمين (1) .
البيهقي: ت 458 هـ
إذا كان الباقلاني، وابن فورك، والبغدادي، يمثلون مرحلة زمنية معينة بالنسبة للمذهب الأشعري - وقد سبق عرض دور كل واحد منهم في تطوره - فإن البيهقي المتوفى سنة 458هـ، والقشيري المتوفى سنة 465هـ، والجويني المتوفى سنة 478هـ، يمثلون مرحلة تالية، وقد أخذ التطور في هذه المرحلة أبعاداً أخرى:
أ - فالبيهقي: مجدد المذهب الشافعي في الفقه، وأحد أعلام المحدثين، كان له دور في ربط المذهب الأشعري بالفقه الشافعي، ثم في دعم الأشاعرة من خلال حرصه على الحديث وروايته، ولبيان أن ذلك لا يخالف منهج الأشاعرة الكلامي.
ب - والقشيري أدخل التصوف في منهج وعقائد الأشاعرة.
جـ - والجويني خطا خطوات بالمذهب نحو الاعتزال.
والبيهقي هو أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، الخسروجردي، البيهقي (2)
_________
(1) انظر: الأشاعرة - محمود صبحي - (ص: 93) .
(2) الخسروجردي: بضم الخاء وسكون السين وفتح الراء وسكون الواو وكسر الجيم، وهي قربة من ناحية بيهق، وبيهق عدة قرى من أعمال نيسابور، انظر: الأنساب (5/116) ، وياقوت (2/37،1/53) .(2/580)
أبو بكر، الإمام، الحافظ، العلامة، شيخ الإسلام (1) ، ولد سنة 384هـ، وتتلمذ على يد عدد كبير من الشيوخ، منهم أبو عبد الله الحاكم، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن فورك، وأبو الفتح العمري - شيخه في الفقه - وأبو محمد الجويني، وأبو ذر الهروي، وعبد القاهر البغدادي، وأبو عبد الله الحليمي، وغيرهم، وكان واسع الرحلة كثير الرواية، له التصانيف المتعددة، فكان كما قال الذهبي ممن " بورك له في علمه، وصنف التصانيف النافعة" (2) ، وقال: " تصانيف البيهقي عظيمة القدر، غريزة الفوائد، قل من جوّد تواليفه مثل الإمام أبي بكر" (3) ، وقال فيه إمام الحرمين: " ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا أبا بكر البيهقي فإن المنة له على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه" (4) ،
قال الذهبي معلقاً: " قلت: أصاب أبو المعالي، هكذا هو، ولو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهباً يجتهد فيه لكان قادراً على ذلك، لسعة علومه، ومعرفته بالاختلاف، ولهذا تراه يلوح بنصر مسائل مما صح فيه الحديث" (5) . أما تلاميذه فمنهم ابنه إسماعيل، وحفيده عبيد الله بن محمد بن أحمد، وأبو عبد الله الفراوي، وأبو زكريا بن منده، وغيرهم (6) .
أما مؤلفاته فهي كثيرة جداً، كتب لها القبول والانتشار منذ عهده وإلى اليوم، ومن كتبه المطبوعة في الحديث والفقه والدلائل:
_________
(1) انظر في ترجمته: الأنساب (2/381) ، وتبيين كذب المفتري (265-267) ، والمنتظم (8/242) ، ووفيات الأعيان (1/75) ، وتذكرة الحفاظ (3/1132) ، وسير أعلام النبلاء (18/163) ، والوافي (6/354) ، وطبقات السبكي (4/8) ، والأسنوي (1/198) ، والرسالة المستطرفة (ص: 29) ، وقد أفرد له السخاوي ترجمة باسم: القول المرتقى في ترجمة البيهقي كما في فهرس الفهارس (2/990) ، وانظر: البيهقي وموقفه من الإلهيات (ص: 31) ، وما بعدها، ومقدمة تحقيق دلائل النبوة: قلعجي (1/92-119) ، ومقدمة تحقيق بقية كتبه المطبوعة.
(2) السير (18/165) .
(3) نفسه (18/168) .
(4) المصدر السابق - نفس الصفحة - وتبيين كذب المفتري (ص: 266) ، والوافي (6/354) ..
(5) السير (18/169) .
(6) طبقات السبكي (4/9) ، والسير (18/169) ,(2/581)
1- السنن الكبرى، في عشرة مجلدات، مطبوع ومشهور.
2- معرفة السنن والآثار، طبع المجلد الأول منه بتحقيق: أحمد صقر، ثم طبع كاملاً.
3- المدخل إلى السنن - طبع عن نسخة ناقصة الأول - بتحقيق: محمد ضياء الرحمن الأعظمي.
4- القراءة خلف الإمام. مطبوع.
5- مناقب الشافعي، تحقيق: أحمد صقر.
6- مسألة الاحتجاج بالشافعي - ت خليل ملاخاطر-.
7- بيان خطأ من أخطأ على الشافعي، ت خليل ملاخاطر، وأخرى بتحقيق نايف الدعيس.
8 - اختلاف الحديث، على هامش الأم، ومستقلة بتحقيق عامر حيدر.
9- الأربعون الصغرى - ت محمد نور المراغي- وأخرى بتحقيق محمد السعيد زغلول.
10- الزهد الكبير - ت تقي الدين الندوي -.
11- الآداب - ت: محمد عبد القادر عطا-.
12- دلائل النبوة: طبع جزء في القاهرة، ثم طبع الجزء الأول والثاني في المدينة، ثم طبع كاملاً في 7 أجزاء بتحقيق: قلعجي.
ومن كتبه المطبوعة في العقيدة.
13- الأسماء والصفات، طبع عدة مرات، وهو من أهم كتب البيهقي في الاعتقاد.
14- الاعتقاد، طبع عدة مرات، وهو مختصر جداً من الكتاب السابق وأحال عليه مرات.
15- البعث والنشور - ت عامر حيدر - عرض فيه للشفاعة والحوض، والنار والجنة وغير ذلك.(2/582)
16- إثبات عذاب القبر - ت شرف محمود القضاة -.
17- الجامع لشعب الإيمان، طبع الجزء الأول في الهند (حيدر آباد) - ط1 في 132 صفحة - وأعيد - ط2 في 400 صفحة - ثم شرعت الدار السلفية في الهند (بومباي) نشره محققاً فظهر منه عدة مجلدات بتحقيق: عبد العلي حامد.
والكتاب كبير تقع مخطوطته في ثلاثة مجلدات كبار.
18- حياة الأنبياء في قبورهم، هو كتيب صغير، طبع في القاهرة بالمطبعة المحمودية، ولعل البيهقي ألفه إثر الفتنة المعروفة بفتنة القشيري.
وهناك كتب أخرى للبيهقي، وبعضها لا يزال مخطوطاً (1) ، ومنها في العقيدة: كتاب الرؤية، وكتاب القضاء والقدر (2) .
عقيدة البيهقي ومنهجه:
سبق أن قام أحد أساتذة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة بدراسة واسعة ومركزة عن " البيهقي وموقفه من الإلهيات"، وقد تقدم بها لنيل درجة الكتوراه (3) ، واعتمد فيها على منهج السلف - رحمهم الله تعالى - ولذلك جاءت دراسته واضحة وشاملة، مع نقد واضح ومنصف لما عند البيهقي من مخالفات لمذهب السلف، ولذلك أكتفي بالإحالة عليها، مع ذكر الملاحظات التالية حول منهج البيهقي:
1- إذا كان البيهقي من المبرزين في الحديث والفقه فلماذا اهتم بالعقيدة، والتأليف فيها، ثم تأويل النصوص الواردة في الصفات؟، وإذا كان قد ألف
_________
(1) انظر: في ذلك مقدمة تحقيق البعث والنشور (ص: 28) ، وما بعدها، والمدخل (ص: 51) ، وما بعدها، والبيهقي وموقفه من الإلهيات (ص: 64) ، وما بعدها.
(2) حقق كتاب القضاء والقدر في قسم العقيدة - جامعة الإمام -.
(3) قام بها الدكتور أحمد بن عطية الغامدي - من كلية الشريعة بمكة، وقد طبعته الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة - المجلس العلمي، التراث الإسلامي -.(2/583)
في إثبات عذاب القبر، والرؤية، وما يتعلق بالبعث من الشفاعة والميزان والحوض، وهذه الأمور مما أنكرته أو أوّلته المعتزلة - والرد عليهم من سمات أهل السنة -، فلماذا حرص على التأليف في الأسماء والصفات واستقصاء جميع ما ورد في ذلك من الألفاظ والروايات وغالبها مما يؤول الأشاعرة؟ لقد ذكر البيهقي في ثنايا كتابه " الأسماء والصفات " إشارة إلى سبب تأليفه إذ قال:- في معرض تأويله الصورة- " ومعنى هذا فيما كتب إليّ الأستاذ أبو منصور محمد بن الحسن ابن ايوب الأصولي -رحمه الله- الذي كان يحثني على تصنيف هذا الكتاب، لما في الأحاديث المخرجة فيه من العون على ما كان فيه من نصرة السنة وقمع البدعة، ولم يقدر في أيام حياته لاشتغالي بتخريج الأحاديث في الفقهيات على مبسوط أبي عبد الله محمد بن ادريس الشافعي -رحمه الله- الذي أخرجه على ترتيب مختصر أبي ابراهيم المزني -رحمه الله- ولكل أجل كتاب " (1) ،
وهذا الذي أوصى البيهقي بتأليف كتاب في الأسماء والصفات هو أحد أعلام الأشاعرة، كان من أخص تلاميذ ابن فورك حتى أنه زوجه من ابنته الكبرى ومما قيل في ترجمته أنه: " الأستاذ الإمام، حجة الدين، صاحب البيان، والحجة والبرهان، واللسان الفصيح، والنظر الصحيح، أنظر من كان في عصره، ومن تقدمه، ومن بعده على مذهب الأشعري، واتفق له أعداد من التصانيف المشهورة المقبولة عند أئمة الأصول مثل تخليص الدلائل، تتلمذ للأستاذ أبي بكر بن فورك في صباه، وتخرج به، ولزم طريقته، وجد واجتهد في فقر وقلة من ذات اليد ... وكان أنفذ من الاستاذ وأشجع منه، توفي في ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة " (2) ، وعلى هذا فالبيهقي ألف كتابه استجابة لطلب أستاذه خدمة للمذهب الأشعري - الذي كان أحد أعلامه - ولذلك حشاه بالنقول من أقوالهم وتأويلاتهم إضافة إلى تأويلاته هو، وما أدري
_________
(1) الأسماء والصفات (ص: 289) ..
(2) تبيين كذب المفتري (ص: 249) ، وانظر في ترجمته أيضاً سير: أعلام النبلاء (17/573) ، واسمه فيهما محمد بن الحسن، وانظر: طبقات السبكي (4/147) ، والوافي (3/10) ، ومعجم المؤلفين (9/235) ، وهو فيها كلها: محمد بن الحسين.(2/584)
ما قصد البيهقي بقوله السابق: " لما في الأحاديث المخرجة فيه من العون على ما كان فيه من نصرة السنة وقمع البدعة"، هل يقصد بدعة التعطيل، أو بدعة الإثبات ورفض التأويل التي يسمونها تجسيماً أو تشبيهاً؟! الذي يترجح من خلال معرفة حال شيخ الجميع ابن فورك، وتلميذه - أبي منصور الأيوبي - وحال البيهقي في تأويلاته في كتابه هذا أنه قصد قمع بدعة الإثبات التي يزعمون أن فيها تشبيهاً، والله أعلم.
والخلاصة أن البيهقي بهذا المنهج الذي سلكه تحولت معرفته في الحديث وإمامته فيه إلى خدمة أهل التأويل لا إلى خدمة مذهب أهل الحديث والسنة، وهذا من باب العقائد دون الأحكام.
2- نقد البيهقي بعض الروايات والأحاديث نقداً لا يتفق مع منهج المحدثين في قبول الروايات أوردها ومن ذلك ما ذكره البيهقي من أن "الصوت" لم يرد في صفة كلام الله عزوجل ففد قال بعد ذكر رواية البخاري: " ثم يناديهم بصوت.." (1) : " هذا حديث تفرد به القاسم بن عبد الواحد عن ابن عقيل.. [ثم ذكر أن القاسم وابن عقيل لم يحتج بهما الشيخان، وأن ابن عقيل أيضاً متهم بسوء الحفظ ثم قال:] ولم يثبت صفة الصوت في كلام الله عزوجل أو في حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير حديثه، وليس بنا ضرورة إلى إثباته، وقد يجوز أن يكون الصوت فيه إن كان ثابتاً راجعاً إلى غيره.." (2) ،
ثم شرع في ذكر الروايات الدالة على الصوت وتضعيفها، وهذا من مثل البيهقي المحدث كبير لا يحتمل، لأن فيه محاولة لتضعيف الأحاديث الثابتة لأجل أن تسلم
_________
(1) رواه البخاري - تعليقاً - كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} (سبأ:23) ، ووصله ابن حجر في التغليق (5/355) ، ورواه البخاري موصولاً في الأدب المفرد ورقمه (970) ، فضل الله الصمد (2/433) ، وفي خلق أفعال العباد ورقمه (463) - ت البدر - كما رواه الإمام أحمد في مسنده (3/395) ، والطبراني في مسند الشاميين كما في التغليق (5/356) ، والحاكم في المستدرك (2/437-438، 4/574-575) ، وصحيحه ووافقه الذهبي، كما رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/111) ، والخطيب في الرحلة في طلب الحديث (ص: 109) ، ورقم (31، 32، 33) ، وفي الجامع لأخلاق الراوي (2/225) ، ورقم (1686) - ت الطحان-.
(2) الأسماء والصفات (ص: 273-274) ..(2/585)
الأصول الكلامية والعقلية التي يؤمن بها، وهذا منهج المتكلمين وليس منهج المحدثين، ولهذا كان تعليق الحافظ ابن حجر على كلام البيهقي بعد نقله له أقرب إلى منهج أهل الحديث من منهج البيهقي فقد قال - وهو الذي يميل إلى مذهب الأشاعرة -:" هذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة، ويلزم منه أن الله لم يُسمع أحداً من ملائكته ورسله كلامه، بل ألهمهم إياه، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين لأنها التي عهد أنها ذات مخارج، ولا يخفي ما فيه، إذ الصوت قد يكون من غير مخارج، كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة ... (1) ، لكن تمنه القياس المذكور، وصفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوق، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة (2) وجب الإيمان به، ثم إما التفويض وإما التأويل (3) ،
وهذا بناءً على منهج ابن حجر المخالف لمنهج أهل السنة، لأن منهجهم ليس التفويض أو التأويل، بل الإثبات للنصوص على ما دلت عليه مع نفي التشبيه والتكييف لها، والشاهد من كلام ابن حجر قوله: " وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به" فأين هو من كلام البيهقي الذي حاول تضعيف الروايات الواردة فيه؟.
وقد وقع للبيهقي ما هو شبيه بهذا في مواضع أخرى، مثل حديث " لا شخص أغير من الله " (4) ، فقد نقل عن الخطابي ترجيحه أن هذه اللفظة
_________
(1) بناءً على مذهب الأشاعرة.
(2) هذا الكلام لابن حجر يرد على ما ذكره هو سابقاً في كتاب العلم، الفتح (1/174) في معرض تعليله لتفريق البخاري بين الموضعين، حيث جزم في تعليقه هنا، ولم يجزم في تعليقه لحديث جابر في كتاب التوحيد، وذلك حين قال: " ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا، فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأن الإسناد حسن، وقد اتعضد، وحيث ذكر طرفاً من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو أتعضده"، وهو هنا ذكر أن الصوت ثبت بالأحاديث الصحيحة ويجب الإيمان به، ومنهج البخاري في الصفات لا يتوافق مع تعليل ابن حجر لعدم جزمه هنا.
(3) فتح الباري (13/458) ..
(4) رواه مسلم، كتاب اللعان، ورقمه (1499) ، والبخاري تعليقاً في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شخص أغير من الله، الفتح (13/399) ، ووصله ابن حجر في التعليق (5/344) ، بإسناده إلى الدرامى وهو في سنن الدرامى (2/73) ، ورقمه (2233) .(2/586)
مصحفة، ثم قال البيهقي معلقاً: " ولو ثبتت هذه اللفظة لم يكن فيها ما يوجب أن يكون الله سبحانه شخصاً.." (1) ، ثم فصل القول في تأويلها، وهذه اللفظية رواها مسلم، والبخاري تعليقاً بصيغة الجزم، كما رواها غيرهما، والحري بالبيهقي المحدث أن يرد على الخطابي دعواه أنها مصحفة ويبين ثبوتها، ثم يشرحها، ويبين مذهبه فيها.
ومثله ما ذكره في باب في الأصابع، فإنه نقل كلاماً للخطابي حول حجية السنة إذا عارضها المعقول، كما نقل ورود الأصابع لا في كتاب ولا سنة، ولم يرد البيهقي على الخطابي في أقواله تلك، بل أورد تأويلاته وتأويلات أبي الحسن الطبري وغيره للأحاديث الواردة في ذلك (2) ، وعبارة الخطابي: إنها لم ترد في كتاب ولا سنة ولا يجوز السكوت عنها.
3- اعتمد البيهقي في شرح نصوص الصفات أو تأويلها، بعد سياقه لأسانيدها اعتمد على أقوال مجموعة من علماء الأشاعرة ومنهم:
أ - الحليمي، وهو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم، المعروف بالحليمي الجرجاني، المتوفى سنة 403هـ، وهو أحد أعلام الأشاعرة في الحديث والفقه والكلام (3) ، نقل عنه البيهقي كثيراً في الجامع لشعب الإيمان (4) ، وفي الأسماء والصفات (5) .
_________
(1) الأسماء والصفات (ص: 287-288) .
(2) انظر: الأسماء والصفات (333-341) ، ومن الأمور الغريبة ما نقله البيهقي هنا عن الخطابي في رواية الأصابع لما جاء الحبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أن اليهود مشبهة وإن الرسول أنكر عليه ذلك، وقدناقش هذه المسألة بالتفصيل أحمد بن عطية الغامدي في كتابه البيهقي وموقفه من الإلهيات. (ص: 260-269) .
(3) قال عنه الذهبي: " القاضي العلامة، رئيس المحدثين والمتكلمين بما وراء النهر" السير (17/231) ، وانظر: أيضاً تاريخ جرجان (ص: 198) ، والأنساب (4/198) ، وطبقات السبكي (4/333) ، ومقدمة تحقيق المنهاج في شعب الإيمان (1/13) وما بعدها.
(4) بل إنه اعتمد على كتاب المنهاج في شعب الإيمان، وذكر أنه لم يؤلف كتابه إلا لأن الحليمي لم يسق أسانيده للأحاديث التي يوردها، انظر: المنهاج (1/94-95) ، أما نقوله منه فهي كثيرة جداً.
(5) انظر: (ص: 8-97) ، من الأسماء والصفات حيث نقل فيها نصوصاً من المنهاج للحليمي (1/183) ، وما بعدها.(2/587)
ب- أبو سليمان الخطابي، حمد بن محمد بن إبراهيم، المتوفى سنة 388هـ (1) ، وقد نقل البيهقي عنه كثيراً جداً في الأسماء والصفات (2) ، واعتمد على أقواله وتأولاته.
جـ - أبو الحسن الطبري - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في ترجمته -.
د - وغيرهم من الأشاعرة، كالأشعري (3) ، وأبي إسحاق الإسفراييني (4) ، وأبي بكر الصبغي (5) ، والمحاسبي (6) ، وابن فورك (7) ، وغيرهم.
وكان اعتماد البيهقي على هؤلاء يتم غالباً النقل الحرفي من كلامهم، بذلك امتزجت كتبه الحديثة - في العقيدة - بمقولات هؤلاء، فمثلاً في كتابه الجامع لشعب الإيمان لما تحدث عن الشعبة الأولى وهي الإيمان بالله عزوجل، ذكر أن دليل معرفة الله تعالى هو دليل معرفة الله تعالى هو دليل حدوث الأجسام، ثم شرحه وأطال فيه، ونقل عن الحيلمي أقواله فيه (8) ، وفي مناسبة أخرى لما ذكر البيهقي حديث الجارية: أين الله؟ قالت في السماء، تكلم في تأويله بكلام عجيب وأوّله بما يدل على أنه لا يقول بإثبات العلو لله تعالى (9) .
_________
(1) من مؤلفاته المطبوعة: معالم السنن (شرح سنن أبي داود) ، والعزلة، وإصلاح المحدثين، وبيان إعجاز القرآن، وغريب الحديث وشأن الدعاء والغنية عن الكلام وأهله (نقله السيوطي في صون المنطق) (1/137-147) ، ومن كتبه المخطوطة شعار الدين وغيره، انظر: في ترجمته يتيمة الدهر (4/334) ، وفهرست بن خير (ص: 201) ، ومعجم الأدباء (4/246) ، - باسم أحمد وهو خطأ -، (10/268) ، باسم (حمد) ، وسير أعلام النبلاء (17/23) ، ومقدمة تحقيق غريب الحديث (1/8) .
(2) انظر: (ص: 12) ، وما بعدها.
(3) انظر: الأسماء والصفات (ص: 187) .
(4) انظر: الأسماء والصفات (ص: 115-310) ، والجامع (1/281-337) .
(5) انظر: الأسماء والصفات (ص: 431) .
(6) انظر: الجامع (1/337-338) .
(7) انظر: الجامع (1/462) .
(8) انظر: الجامع لشعب الإيمان (1/341-344) .
(9) انظر: مناقب الشافعي (1/397) ، وانظر أيضاً الاعتقاد (ص: 117) ، والأسماء والصفات (ص: 400، 424، 426) .(2/588)
4- دافع البيهقي عن علم الكلام، ولما ذكر أقوال الشافعي المشهورة في ذم الكلام وأهله، علق البيهقي على ذلك مبرراً ما فعله العلماء من الأخذ بالعقل أو علم الكلام (1) ، وفي مناقب الإمام أحمد له نقل عن الإمام أحمد أنه قال بتأويل بعض نصوص الصفات (2) ، ولما ذم الشافعي الصوفية دافع البيهقي عنهم، بل ونقل إباحة أنواع من السماع (3) .
ومما ينبغي ملاحظته أن البيهقي مع أقواله الموافقة لمذهب الأشاعرة في مسائل حدوث الأجسام، وحلول الحوادث، وتأويل الاستواء والنزول والمجيء، والضحك والعجب، ونفيه العلو (الجهة) ، وتأويله للقدم والأصابع، وغيرها - إلا أن قال بإثبات الوجه واليدين والعين بلا تأويل (4) -،- فهو بذلك قد خالف شيخه البغدادي.
5- قام البيهقي بدور عملي في الفتنة التي وقعت على الأشاعرة، المعروفة بفتنة القشيري، والتي وقعت سنة 445هـ، واستمرت سنوات، وفيها لعنت المبتدعة وفيهم الأشعرية، حتى اضطر كثير من الأشاعرة إلى الهجرة من خراسان، وكان منهم القشيري والجويني وغيرهما، وفي سنة 450هـ، حج هؤلاء ومعهم البيهقي، وفي سنة 456هـ قتل الوزير الكندري - صاحب الفتنة (5) - وكان قد تولى ألب أرسلان واستوزر نظام الملك الذي قام بنصرة الأشاعرة وبنى لهم المدارس المعروفة.
_________
(1) انظر: مناقب البيهقي (11/461-464) .
(2) كتاب البيهقي في مناقب الإمام أحمد غير موجود - على حد قول مترجمي البيهقي - لكن نقل منه ابن كثير نصوصاً في ترجمته للإمام أحمد، انظر: فيما نقله عن البيهقي: إن الإمام أحمد قال بالتأويل، البداية والنهاية (10/327) .
(3) انظر: مناقب الشافعي (2/207-209) .
(4) انظر: الاعتقاد (ص: 88-90) ، والأسماء والصفات (ص: 301-319) .
(5) انظر: تفاصيل هذه الفتنة في المنتظم (8/157) ، والكامل (10/33) ، وطبقات السبكي (3/389-395) ، ومقدمة تحقيق الرسائل القشيرية (ص: 12-17) .(2/589)
وكان البيهقي من القلائل الذين دافعوا عن الأشعري والأشاعرة، وكتب من بلدته بيهق رسالة إلى العميد يشرح له الحال ويمدح الأشعري وأسرته، بل ويجعله أحد المجددين، وبعد ذكر فضل أبي موسى الأشعري وقومه الأشعريين الذين انفردوا من بين الوفود بسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن علم الأصول وحدوث العالم - كما يقول البيهقي - يقول: " فمن تأمل هذه الأحاديث وعرف مذهب شيخنا أبي الحسن رضي الله عنه في علم الأصول، وعلم تبحره فيه ابصره صنع الله عزت قدرته في تقديم هذا الأصل الشريف لما ذخر لعباده من هذا الفرع المنيف الذي أحيا به السنة وأمات به البدعة وجعله خلف حق لسلف صدق " (1) ، ثم يأمره في آخر الرسالة بالسعي لإطفاء الفتنة، وأن يستدرك ما وقع من هذه المحنة (2) .
* ... * ... *
فهذه الجهود العظيمة التي قام بها البيهقي في خدمة ودعم المذهب الأشعري - وهو الإمام الفقيه المحدث - توضح دوره في إعادة الثقة بهذا المذهب.
_________
(1) تبيين كذب المفتري (ص: 105) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 107) ، وطبقات السبكي (3/395) .(2/590)
القشيري: ت 465هـ
هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد، أبو القاسم القشيري النيسابوري، ولد سنة 375هـ، تتلمذ على يد مجموعة من العلماء منهم الحاكم، وابن فورك، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو إسحاق الإسفراييني وغيرهم، وتتلمذ في التصوف على شيخه أبي علي الدقاق وتزوج من ابنته.
ولما وقعت الفتنة على الأشاعرى ترك القشيري بلده واتجه إلى بغداد ثم إلى الحج بصحبة الجويني -إمام الحرمين- والبيهقي- ثم عاد بعد نهاية الفتنة إلى نيسابور حيث تولى ألب أرسلان واستوزر نظام الملك الذي كان يقدر القشيري والجويني كثيراً، فعاش القشيري بقية عمره محترماً مقدراً ذا مكانة ومنزلة عالية إلى أن توفي سنة 465هـ، ومن أبرز تلاميذه أولاده ومنهم: عبد الله، وعبد الواحد، وأبو نصر عبد الرحيم، كما تتلمذ عليه زاهر الشحامي، ومحمد بن الفضل الفراوي، وغيرهم (1) .
ومن أبرز آثاره:
1- لطائف الإشارات، في التفسير، مطبوع.
2- الرسالة القشيرية، طبعت عدة مرات.
3- شرح أسماء الله الحسنى، طبع بتحقيق: أحمد عبد المنعم الحلواني.
4- نحو القلوب الصغير، طبع بتحقيق: أحمد علم الدين الجندي.
5- شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة، طبعت ضمن الرسائل القشيرية كما ذكرها كامل السبكي في الطبقات (3/399-423) .
_________
(1) انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (11/83) ، وكشف المحجوب للهجويري (ص: 382) ودمية القصر (2/993) ، - ت التونجي- تبيين كذب المفتري (ص: 271) ، المنتظم (8/280) ، سير أعلام النبلاء (18/227) ، وطبقات السبكي (5/153-3/399) ، والإمام القشيري سيرته وآثاره: إبراهيم بسيوني، وغيرها.(2/591)
6- كتاب السماع، طبع ضمن الرسائل القشيرية.
7- ترتيب السلوك، ضمن الرسائل القشيرية.
8 - التحبير في التذكير، مطبوع.
وهناك مؤلفات أخرى بعضها لا يزال مخطوطاً (1) .
عقيدة القشيري ودوره في تطور المذهب الأشعري:
لم يؤلف القشيري كتاباً خاصاً في العقيدة ومسائلها، حتى كتابه " شرح أسماء الله الحسنى، يدور على التصوف و " علم التذكير" و " الأتعاظ" كما أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه حين بين سبب تأليفه (2) ، وكذلك رسالته " الشكاية " هي في الدفاع عن الأشعري وما اتهم به من أمور كانت سبباً في المحنة التي جرت على القشيري وأصحابه، أما غالب كتبه - حتى كتابه في التفسير - فهي في التصوف، ولذلك اشتهر القشيري بالتصوف أكثر من شهرته كعلم من أعلم الأشاعرة.
ومع ذلك فليس من العسير استخلاص مذهبه وآرائه في العقيدة، - التي وافق فيها المشهور من مذهب الأشاعرة - من خلال ما يشير إليه في ثنايا كتبه المختلفة.
فالقشيري ممن ينكر قيام الصفات الاختيارية بالله -وهي مسألة حلول الحوادث - ولذلك فهو يقول بأزلية المحبة، والرضا والغضب (3) ، كما أنه ينكر العلو (4) ، وينقل عن غيره من الصوفية تأويلاتهم للاستواء وأنه لا يدل على
_________
(1) انظر في مؤلفاته: سير أعلام النبلاء (18/229) ، ومقدمة تحقيق نحو القلوب الصغير (ص: 30-33) ، والرسائل القشيرية (ص: 24-26) .
(2) انظر: شرح أسماء الله الحسنى للقشيري (ص: 19-20) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 26، 43، 134، 162، 176) .
(4) انظر: المصدر السابق (ص: 62-150) ، والرسالة القشيرية (1/19، 38، 46، 50) ، المحققة.(2/592)
العلو (1) ،ويقول: إن الله يرى بلا مقابلة (2) ، وهو يثبت الصفات السبع مع صفة البقاء (3) ، ويستدل لبعضها بالعقل (4) ، ويتأول صفة المحبة (5) ، والضحك (6) ، وفي القدر مع إثباته له ينكر التعليل (7) ، ويقول: إن القدرة مع الفعل فقط (8) ، كما هو مذهب الأشارعة، وحين يتحدث عن معنى " التوحيد " يرى أنه يشمل الأقسام الثلاثة المشهورة عند أهل الكلام وهو أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له (9) ، كما أنه يرى أن الواجب الإشتغال بالتأويل الصحيح، ويرد على من يسميهم بالحشوية، ويرى أن كثيراً ممن يناظره في زمنه ليس له تحقيق ولا تحصيل (10) ، وفي مسألة النبوة والمعجزات ينقل عن الباقلاني (11) .
أما دور القشيريفي المذهب الأشعري وتطويره فتمثل في جانبين:
أحدهما: دفاعه عن الأشاعرة وقت المحنة التي مروا بها، وقد فاق في دفاعه عنهم أقطاب الأشاعرة في زمنه، وكتب رسالته " الشكاية " يبث فيها أشجانه ويدافع عن الأشعري وعن الأشاعرة ويرد على التهم الموجهة إليهم، ويصور
_________
(1) انظر: الرسالة القشيرية (1/44-45) .
(2) انظر: المصدر السابق (1/37-51) .
(3) انظر: المصدر نفسه (1/49) ، وشرح أسماء الله (ص:259) .
(4) انظر: الرسالة (1/209-220) .
(5) انظر: شرح أسماء الله (ص: 276-239) ، والرسالة (2/611) . المحققة.
(6) انظر: الرسالة (ص:63) ، ط الأولى.
(7) انظر: شرح أسماء الله (ص:31) .
(8) انظر: المصدر السابق (ص: 98) .
(9) انظر: المصدر السابق (ص: 215) ، والرسالة (2/582) - المحققة-.
(10) انظر: شرح أسماء الله (ص: 260) .
(11) انظر: الرسالة (2/661) ، وانظر: في موقفه من بعض الصفات كاليدين والمجيء وغيرها الإمام القشيري (ص: 143-152) .(2/593)
الأمر وكأنه ليس في الأمة الإسلامية إلا الأشاعرة، والمعتزلة، وأن قول الأشاعرة إذا بطل لا يبقى إلا قول المعتزلة فهل يكون هو المعتمد؟! يقول القشيري بعد كلام طويل: " وإذا لم يكن في مسألة لأهل القبلة غير قول المعتزلة، وقول الأشعري قول زائد، فإذا بطل قول الأشعري فهل يتعين بالصحة أقوال المعتزلة، وإذا بطل القولان فهل هذا إلا تصريح بأن الحق مع غير أهل القبلة؟! وإذا لعن المعتزلة والأشعري في مسألة لا يخرج ثول الأمة عن قوليهما، فهل هذا إلا لعن جميع أهل القبلة؟! (1) ، ثم يذكر المسائل التي نقمت على الأشعري ولعن من أجلها، ويناقشها واحدة واحدة وأهم هذه المسائل:
أ - اتهامه مع أصحابه أنهم يقولون: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بنبيٍّ في قبره ولا رسول بعد موته، ويرد هذه التهمة ويذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيٌ في قبره ويذكر الأدلة على ذلك (2) ، وهذه أيضاً أوقعت الأشاعرة في مشكلة أخرى وهي كيف يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - حياً في قبره، وما معنى هذه الحياة وما مداها، والإجابة عن هذه الأسئلة مما يثير التساؤل حقاً، خاصة في ظل التصاق التصوف بالمذهب الأشعري، ومن المعلوم أن البيهقي الف رسالة في حياة الأنبياء في قبورهم ولا شك أنه ألفها بسبب ما أثير في هذه المحنة.
ب - أن الأشعري يقول: إن الله لا يجازي المطيعين على إيمانهم وطاعتهم، ولا يعذب الكفار والعصارة على كفرهم ومعاصيهم، ويرد على ذلك موضحاً مذهب الأشاعرة في القدر (3) .
جـ - في مسألة كلام الله وأن موسى لم يسمع كلام الله، وأنه ليس القرآن في المصحف وقد أجاب القشيري عن ذلك موضحاً مذهب الأشاعرة (4) .
_________
(1) شكاية أهل السنة (ص:9-10) ، ضمن الرسائل القشيرية - وطبقات السبكي (3/405-406) .
(2) انظر: الشكاية- ضمن الرسائل القشيرية - (ص: 10-28) ، وطبقات السبكي (3/405-406) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص: 28-38، و 3/413-416) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص: 38-42، و 3/416-418) .(2/594)
د - أن الأشعري يكفر العوام الذين لا يملكون النظر والاستدلال، وقد رد القشيري على ذلك (1) .
هـ - أن الاشتغال بعلم الكلام بدعة، وقد دافع القشيري عن علم الكلام، وأن القول بأنه صفة الحشوية الذين لا تحصيل لهم (2) .
وبهذا الدفاع الذي جاء بأسلوب بث الشكوى برز القشيري كعلم من أعلام الأشاعرة، وكان لذلك دوره في تبني ما كان عنده من تصوف.
الجانب الآخر: إدخال التصوف في المذهب الأشعري، وربطه به، وذلك حين ألف القشيري رسالته المشهورة في التصوف وأحواله وتراجم رجاله المشهورين، فذكر في أحد فصول الرسالة، وفي ثناياها أن عقيدة أعلام التصوف هي عقيدة الأشاعرة فنسب إليهم أنهم يقولون: " إنه أحدي الذات، ليس يشبه شيئاً من المصنوعات، ولا يشبه شيء من المخلوقات ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا صفاته أعراض، ولا يتصور في الأوهام، ولا يتقدر في العقول، ولا له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت وزمان، ولا يجوز في وصفه زيادة ولا نقصان، ولا يخصه هيئة وقد، ولا يقطعه نهاية وحد، ولا يحله حادث، ولا يحمله على الفعل باعث ... ولا يُقال له: أين، ولا حيث ولا كيف ... يُرى لا عن مقابلة ... خالق أكساب العباد" (3) ، ويركز على نفي أن الله في جهة العلو (4) ، ثم يقول في أواخر الرسالة: " فإذا كان أصول هذه الطائفة أصح الأصول، ومشايخهم أكبر الناس، وعلماؤهم أعلم الناس، فالمريد الذي له إيمان بهم: إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقاصدهم فهو يساهمهم فيما خصوا به من مكاشفات الغيب، فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة، وإن كان مريداً طريقة الأتباع وليس بمستقل بحاله، ويريد
_________
(1) انظر: الشكلية (ص: 42-45، و 3/418-420) .
(2) انظر: المصدر نفسه (ص: 43-49، و 3/421-423) .
(3) الرسالة (1/50-51) .
(4) انظر: المصدر السابق (1/21، 37-38،46) .(2/595)
أن يعرج في أوطان التقليد إلى أن يصل إلى التحقيق فليقلد سلفه وليجر على طريقة هذه الطبقة فإنهم أولى به من غيرهم" (1) ، فهو يرى أن من أراد دخول طريقة التصوف كوشف مع شيوخه، ومن لم يرد دخول طريقة التصوف فعليه بتقليدهم في القعائد لأنهم أولى من غيرهم.
ودعوى القشير أن هذه عقائد شيوخ الصوفية ليست مسلمة، وليس هذا موضع مناقشة ذلك، ولكن الذي حدث هو تبني أعلام الأشاعرة للتصوف وتمثل ذلك بشكل واضح في الغزالي ومن جاء بعده.
على أنه يجب أن لا يغيب عن البال هنا أن هناك من الأشاعرة من سبق القشيري إلى نوع ممن الارتباط بالتصوف، فالمحاسبي الكلابي تصوفه مشهور، وكذلك كان من أخص تلاميذ أبي الحسن الأشعري بندار خادمه، وعبد الله ابن خفيف وكانا من المتصوفه المشهورين، وعبد القاهر البغدادي ذكر أنه: " قد اشتمل كتاب تاريخ الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي على زهاء ألف شيخ من الصوفية ما فيهم واحد من أهل الأهواء، بل كلهم من أهل السنة سوى ثلاثة" (2) ، والبغدادي يقصد بأهل السنة الأشاعرة، ولكن الذي تميز به القشيري أنه ذكر قواعد التصوف وأصوله، وأحوال المريدين، وآداب الصوفية، ودعا إلى سلوك طريقتهم، وفي أثناء ذلك نسب إليهم العقائد الأشعرية، وأنهم يخالفون المعتزلة والمشبهة.
وقد يظن البعض أن تصوف القشيري كان تصوفاً سنياً، بعيداً عن شطحات وبدع الصوفية، ولكن المتمعن في كتبه يجد غير ذلك، وقد كتبت دراسات عن القشيري وتصوفه (3) ، ويمكن الإشارة باختصار إلى القضايا التالية في تصوفه:
_________
(1) الرسالة (2/734) .
(2) أصول الدين (ص: 315) .
(3) منها: الإمام القشيري: سيرته، آثاره، مذهبه في التصوف، لإبراهيم بسيوني، ومقدمة تحقيق نحو القلوب لأحمد الجندي - وله ميل إلى التصوف -.(2/596)
أ - صلته بطائفة الملامتية (1) ، التي انتشرت في بلده نيسابور، وقد ترجم لبعض أعلامها (2) ، ويربط بعض الدراسين بين ما عند هذه الطائفة من كتمان لأحوالهم وما عند الرافضة من التقية، ويشير إلى أمر مستغرب وهو أن القشيري لم يرد على طائفة الذين عظم شأنهم في زمنه (3) .
ب - إيمانه بوجود القطب (4) ، والأوتاد (5) ، والأبدال (6) ،والغوث (7) ، وتفسير القرآن بما يوافق ذلك، فمثلاً يقول في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} (الكهف:47) ، " كما تقتلع الأرض يوم القيامة بأوتادها، تسير اليوم بموت الأبدال الذين هم والقطب كجبال الأرض، إذ هم في الحقيقة أوتاد
_________
(1) سبق في (ص: 167) ، التعريف بطائفة من الطوائف المنتسبة إليهم وهم اليونسية، وهنا نعرف بهم تعريفاً عاماً بأنهم الذين لم يظهر على ظواهرهم فما في بطونهم أثر، لأنهم يجتهدون في الإخلاص، والملامتي لا يظهر حيراً ولا يضمر شراً، ولذلك فهم يسترون صلاحهم بأمور تتداولها العوام ليست بمخالفات ولا معاص مبالغة في الخفاء، وينسب انتشار هذا المذهب في نيسابور إلى أبي صالح حمدون بن أحمد القصار المتوفى سنة 271هـ، انظر: الرسالة القشيرية (1/114) ، وعوارف العوارف (ص: 71) ، ومعجم مصطلحات الصوفية (ص: 249) ، وانظر: عن نشأتهم: القشيري لإبراهيم بسيوني (ص:17) ، وما بعدها.
(2) انظر: الرسالة القشيرية (1/114) .
(3) انظر: القشيري لإبراهيم بسيوني (ص: 25) .
(4) القطب عند الصوفية: عبارة عن رجل واحد هو موضوع نظر الله تعالى من العالم في كل زمان وهو على قلب إسرافيل عليه السلام، وحين يلتجأ إليه يسمى الغوث، انظر: اصطلاحات الصوفية للكاشاني (ص: 45) ، ومعجم اصطلاحات الصوفية (ص: 217) .
(5) الأوتاد عند الصوفية: الرجال الأربعة على منازل الجهات الأربع من العالم، بهم يحفظ الله تلك الجهات لكونهم محال نظره تعالى، اصطلاحات الصوفية (ص: 33) ، ومعجم مصطلحات الصوفية (ص: 264) .
(6) ويقال البدلاء: وهم مجموعة - اختلف الصوفية في عددهم - على قلب إبراهيم عليه السلام، إذا سافر أحد منهم عن موضع ترك فيه جسداًعلى صورته بحيث لا يعرف أحد أنه فقد، انظر: اصطلاحات الصوفية (ص: 36) ، والتعريفات للجرجاني (ص: 24) ، والصلة بين التصوف والتشيع (ص: 458) .
(7) الغوث - عن الصوفية - هو القطب حين يلتجأ إليه، ولا يسمى في غير ذلك الوقت غوثاً، اصطلاحات الصوفية (ص: 167) ، والتعريفات (ص:87) .(2/597)
العالم" (1) ، ويقول في قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} (النحل:15) ، " في الظاهر الجبال، وفي الإشارة الأولياء الذين هم غياث الخلق، وبهم يرحم ربهم عباده، ومنهم إبدال ومنهم أوتاد، ومنهم القطب" (2) .
جـ - إقراره لما يقع للمتصوفة في حال فنائهم بربهم إلى حد أن يقول أحدهم: أنا الحق أو سبحاني، يبرر ذلك (3) .
د - قوله أن " هو " اسم موضوع للإشارة، وأنه عند الصوفية إخبار عن نهاية التحقيق، وينقل عن ابن فورك أنه قال: " هو: حرفان، هاء وواو، فالهاء تخرج من أقصى الحلق، وهو آخر المخارج، والواو تخرج من الفم، وهو أول المخارج، فكأنه يشير إلى ابتداء كل حادث منه وانتهاء كل حادث إليه" (4) ، ويقول: إن أهل الإشارة يقولون: " إن الله كاشف الأسرار يقول هو وكاشف القلوب بما عداه من الأسماء " (5) .
هـ - دعوته إلى أدب المريد مع الشيخ، وأنه يجب عليه أن يكون يره بشيخه أكثر من بره بوالديه، ويروي عن أبي عبد الرحمن السلمي يقول: " سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يقول: " من قال لأستاذ: لم، لا يفلح أبداً " (6) ، ويقول بعد ذكر قصص الصوفية الغريبة: " واعلم أن هذه الألفاظ توهم ظواهرها، وإنما يقف على معانيها ومرمى القول فيها من جمع بين حقائق الأصول وبين شيء من علوم هذه الطائفة، وتحقق ولو بشظية من معانيه، وإلا وقع في الاعتراض على السادة، ونعوذ بالله من تلك العقوبة" (7) ، ويقول بعد ذكر قصة لهم: " وهكذا سنة الله في أوليائه أن يسترهم عمن لا يبلغ مرتبتهم " (8) .
_________
(1) لطائف الإشارات - عن القشيري - (ص: 27) .
(2) المصدر السابق، نفس الصفحة.
(3) رسالة ترتيب السلوك، ضمن الرسائل القشيرية (ص:72-73) .
(4) شرح أسماء الله الحسنى (ص: 71-72) .
(5) المصدر السابق (ص: 72) .
(6) نفسه (ص:230) ، وانظر: الرسالة (2/735) .
(7) نفسه (ص: 136) .
(8) نفسه (ص: 46) .(2/598)
و - يذكر القشيري الخلاف في الولي: هل يجوز أن يعلم أنه ولى أم لا فيقول: " كان الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله يقول: لا يجوز ذلك، لأنه يسلبه الخوف ويوجب له الأمن، وكان الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله يقول بجوازه"، قال القشيري: " وهو الذي نؤثره ونقول به، وليس ذلك بواجب في جميع الأولياء " (1) .ز - ينصح المريدين بسلوك طريق الصوفية، ويفضلهم على أهل النقل والأثر وأرباب العقل والفكر، ويرى أن الصوفية أهل الوصال، والناس أهل الاستدلال، ويرى ليس هناك عصر من العصور إلا وفيه شيخ من شيوخ هذه الطائفة، وأن علماء الوقت يخضعون له ويتبركون به، ويذكر قصة لأحمد بن حنبل والشافعي مع شيبان أحد الصوفية (2) ، ويرى على المريد إذا لم يجد من يتأدب معه في بلده أن يهاجر إلى من هو منصوب في وقته لإرشاد المريدين، ثم يقيم عليه ولا يبرح عن سدته - أي داره - إلى وقت أن يأذن له الشيخ، ثم يعقب القشيري بكلام خطير حين يقول: " إن تقديم معرفة رب البيت - سبحانه - على زيارة البيت واجب، فلولا معرفة رب البيت ما وجبت زيارة البيت" (3) ، وينعى على الشبان الذين يحجون من غير إشارة الشيوخ (4) .
ح - إباحته للسماع، وذكره للأدلة في ذلك، ومناقشته للمخالفين (5) .
* ... * ... *
هذه مقتطفات من منهج وأصول القشيري أحد أعلام الأشاعرة، وهي تبين مدى صلته بالصوفية وتمكنه فيها حتى صار شيخاً فيها، ومدى ثقته بعقيدة الأشاعرة حتى نسب إلى شيوخ الصوفية أنهم لا يخالفونها، ولا شك أن القشيري يمثل مدرسة كان لها الأثر الكبير في عقائد ومنهج الأشاعرة.
_________
(1) الرسالة (2/662) .
(2) انظر: المصدر السابق (2/731-733) .
(3) المصدر السابق (2/743) .
(4) انظر: المصدر نفسه (2/742-743) .
(5) انظر: الرسالة (2/673) ، ورسالة: كتاب السماع ضمن الرسائل القشيرية (ص: 50) وما بعدها.(2/599)
الجويني: ت 478هـ.
أحد الأعلام المشهورين، وهو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيوية، الجويني، النيسابوري، أبو المعالي، إمام الحرمين، ولد سنة 419هـ، وتتلمذ على يد والده أبي محمد الجويني، وجماعة منهم أبو القاسم الإسفراييني الإسكاف واسمه عبد الجبار بن علي، وأبو عبد الله الخبازي: محمد بن علي بن محمد بن حسن، والحافظ أبو نعيم الأصبهاني وبو القاسم الفوراني، وابن الزكي أبو حسان محمد بن أحمد، وغيرهم، كما تتلمذ عليه مجموعة منهم أبو حامد الغزالي، وأبو طاهر إبراهيم بن المطهر الجرجاني، وإسماعيل بن أحمد أبو سعد بن أبي صالح المؤذن، وأبو القاسم الأنصاري - شارح الإرشاد - وعبد الرحيم بن عبد الكريم أبو نصر القشيري، وعلي بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراسي، وغيرهم.
اشتهر الجويني - خاصة بعد فتنة الأشاعرة والتي بسببها جاور في الحرمين وسمي إمام الحرمين - كأحد أعلام الشافعية والأشعرية بعد تدريسه في نظامية نيسابور قرابة ثلاثين عاماً إلى أن توفي سنة 478هـ.
وقد عني كثير من العلماء بترجمته (1) ، كما أفردت له عدة تراجم مع دراسات عن حياته ومنهجه (2) ، ولذلك جاءت ترجمته هنا مختصرة.
أما أهم مؤلفاته فهي:
1 - البرهان في أصول الفقه، مطبوع بتحقيق عبد العظيم الديب.
_________
(1) انظر في ترجمته: دمية القصر (2/1000) ، والأنساب (3/386) ، - ط لبنان - وتبيين كذب المفتري (278) ، والمنتظم (9/18) ، وذيل تاريخ بغداد لابن النجار (1/85) ، والمستفاد (ص: 312) ، - ط مؤسسة الرسالة - وطبقات السبكي (5/165) ، والعقد الثمين (5/507) ، وسير أعلام النبلاء (18/468) وغيرها كثير.
(2) منها: الجويني إمام الحرمين: فوقية حسين محمود، سلسلة أعلام العرب، وإمام الحرمين حياته وعصره: عبد العظيم الديب، الإمام الجويني: محمد الزحيلي. وغيرها.(2/600)
2- الورقات في أصول الفقه، مطبوعة ولها شروح عديدة.
3- مغيث الخلق في اتباع الأحق، في ترجيح مذهب الشافعي طبع في مصر سنة 1934م، ورد عليه الكوثري.
4- الغياثي أبو غياث الأمم بالتياث الظلم، في الخلافة والإمامة، وخلو الزمان عن الإمام أو عن المفتين نشره مصطفى حلمي، وفؤاد عبد المنعم أحمد ثم طبع مع تحقيق جيد للدكتور عبد العظيم الديب.
5- الشامل في أصول الدين: من كتب الجويني الكلامية المطولة، لم يعثر عليه كاملاً، طبع جزء منه بتحقيق المستشرق كلوبفر، ثم طبع جزء أكبر بتحقيق النشار وفيصل بدير عون، وسهير مختار.
6- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد - وهو مختصر للشامل - طبع بتحقيق محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم عبد الحميد.
7- لمع الأدلة في قواعد وعقائد أهل السنة والجماعة - مختصر جداً - طبع مع مقدمة طويلة عن حياته بتحقيق فوقيه محمود.
8 - الكافية في الجدل، طبع بتحقيق: فوقيه محمود.
9- العقيدة النظامية: طبع بتحقيق: الكوثري، ثم بتحقيق السقا مع إبقائه على حواشي الكوثري.
وله مناظرات (1) ،وكتب أخرى بعضها لا يزال مخطوطاً، ومن أهمها: مختصر الإرشاد للباقلاني، في علم الكلام (2) .
_________
(1) ذكر بعضها السبكي في الطبقات (5/209-218) .
(2) انظر: مقدمة تحقيق " الجدل " (ص: 16) ، وانظر في مؤلفاته: طبقات السبكي (5/171) ، وسير أعلام النبلاء (18/475) ، وإمام الحرمين: عبد العظيم الديب (ص: 49) ، وما بعدها، ومقدمة تحقيق الجدل (ص: 12) وما بعدها.(2/601)
منهج الجويني وأثره في تطور المذهب الأشعري:
يعتبر الجويني إمام الحرمين من أعظم أعلام الأشاعرة، ولا يكاد يذكر المذهب الأشعري إلا ويسبق إلى الذهن هذا الإمام المشهور كأحد من يتمثل هذا المذهب في أقواله وكتبه، ولذلك فاستعراض عقيدته وأقواله تدل على أشعريته وموافقته لشيوخه الأشاعرة مما لا داعي لبسطه هنا، وإنما المقصود الإشارة إلى عموم منهجه الذي طور فيه هذا المذهب، ويمكن عرض ذلك من خلال ما يلي:
أ - تجديده في داخل المذهب الأشعري، فالجويني وإن تبني أقوال شيوخه السابقين ونقلها إلا أنه رد أو ناقش منها ما يرى أنه يستحق الرد والمناقشة بل إمام الأشاعرة أبو الحسن الأشعري الذي يذكره الجويني غالباً بقوله: قال شيخنا أو ذهب شيخنا (1) ، ودافع عن كتابه " اللمع" فيما وجه إليه من المطاعن من قبل المعتزلة وغيرهم (2) ؛ لم يسلم من تضعيف أقواله، ومن الأشاعرة - بعد الأشعري - الذين نقل أقوالهم الجويني وناقش بعضها: الباقلاني (3) ، وأبو إسحاق الإسفراييني (4) ، وان فورك (5) ، ومن ثم فيلاحظ في منهج الجويني بهذا الخصوص ما يلي:
1 - إن الجويني ضعف التأويل المشهور - والمنسوب للأشعري - لبعض الصفات الفعلية مثل الاستواء والنزول والمجيء من أنه فعل فعله الله في العرش
_________
(1) انظر: - على سبيل المثال - الإرشاد (ص: 14) ، وغيرها، والشامل (ص: 149) ، والبرهان (1/135-274) .
(2) ذكر الجويني فصولاً في كتابه الشامل ذكر فيها المطاعن التي وجهت إلى اللمع للأشعري وأجاب عنها، انظر (ص: 245-287-338-342) .
(3) انظر: البرهان (1/89،101، 148-149، 218، 280، 287) ، والإرشاد (ص:407) ، والشامل (ص: 198، 211،221، 233،247، 274،294، 570) .وغيرها.
(4) انظر: البرهان (1/95، 100، 111، 170) ، والإرشاد (ص: 33، 333) ، والشامل (ص: 212، 267، 350، 433، 533، 624) ، والكافية في الجدل (ص: 307، 409) .
(5) انظر: البرهان (1/116) ، والشامل (ص: 212، 346، 543، 562) .(2/602)
سماه استواء، أو فعل يفعله كل ليلة، أو يوم القيامة سماه نزولاً أو مجيئاً (1) ، وترجيحه التأويل بالملك والغلبة بالنسبة للاستواء، وبنزول أو مجيء أمره أو بعض ملائكته.
2- نقده لمذهب الأشعري في مسألة تكليف مالا يطاق (2) ، يقول: " نقل الرواة عن الشيخ أبي الحسن الأشعري - رضي الله عنه - أنه كان يجوز تكليف ملا يطاق، ثم نقلوا اختلافاً عنه في وقوع ما جوزه من ذلك، وهذا سوء معرفة بمذهب الرجل، فإن مقتضى مذهبه أن التكاليف كلها واقعة على خلاف الاستطاعة، وهذا يتقرر من وجهين: أحدهما: أن الاستطاعة عنده لا تتقدم على الفعل، والأمر بالفعل يتوجه على المكلف قبل وقوعه، وهو إذ ذاك غير مستطيع ... والثاني: أن فعل العبد عنده واقع بقدرة الله تعالى، والعبد مطالب بما هو من فعل ربه ولا ينجى من ذلك تمويه المموه بذكر الكسب، فإنا سنذكر سر ما نعتقده في خلق الأعمال " (3) ، ثم رجح منع تكليف مالا يطاق، ورجح جواز ورود الصيغة به دون الطلب كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (البقرة:65) ، وخلاصة قوله: " إنه يكلف المتمكن، ويقع التكليف بالممكن، ولا نظر إلى الاستصلاح ونقيضه " (4) ، فالجويني بهذا القول يكون قد بعد عن مذهب الأشاعرة في هذه المسألة، ويزيدها إيضاحاً قوله في مسألة " قدرة العبد " هل تقارن المقدور أو تسبقه.
3- وفي مسألة الاستطاعة، أو القدرة الحادثة للعبد (5) ، ذكر مذهب أبي الحسن الأشعري أن القدرة الحادثة تقارن حدوث المقدور ولا تسبقه
_________
(1) انظر: الشامل (ص: 549، 555، 556) .
(2) مع أنه في الإشاد (ص: 226) ، رجح مذهب الأشعري والأشاعرة في جوازه.
(3) البرهان في أصول الفقه (1/102-103) .
(4) المصدر نفسه (1/105) .
(5) رجع الجويني في الإرشاد (ص: 218) ، مذهب الأشاعرة المشهور وهو أن القدرة الحادثة تقارن " في المطبوعة الأرشاد: وهو خطأ" حدوث المقدور بها.(2/603)
ثم قال بعد شرحه: "ومذهب أبي الحسن -رحمه الله- مختبط عندي في هذه المسألة " (1) ، ثم قال: " ومن أنصف من نفسه علم أنه معنى القدرة التمكن من الفعل، وهذا إنما يعقل قبل الفعل وهو غير مستحيل في واقع حادث في حالة الحدوث" (2) .
4- وفي مسألة أزلية كلام الله تعالى والخلاف الواقع بين الكلابية والأشعرية في أزلية الأمر والنهي- وهما من أجزاء الكلام عندهم- قال:" اشتهر من مذهب شيخنا أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري- رضي الله عنهـ مصبره إلى أن المعدوم وقع في العلم وجوده واستجماعه شرائط التكليف فهو مأمور- معدوما- بالأمر الأزلي، وقد تمادي المشغبون عليه، وانتهى الأمر إلى انكفاف طائفة من الأصحاب هم هذا المذهب، وقد سبق القلانسي (3) رحمه الله من قدماء الأصحاب- إلى هذا، وقال: كلام الباري تعالى في الأزل لايتصف بكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وإنما يثبت له هذه الصفات فيما لايزال عند وجود المخاطبين" (4) ، ثم رد ثم رد الجويني على القلانسي- الذي يمثل مذهبه مذهب الكلابية (5) ، ثم ذكر مسلكين لأئمة الأشاعرة في إثبات أن المعدوم مأمور، ثم ذكر طريقة أبي الحسن الأشعري في ذلك (6) ،
ثم قال معلقا: " هذا منتهى مذهب الشيخ [الأشعري]- رضي الله عنهـ فأقول: إن ظن ظان أن المعدوم
_________
(1) البرهان (1/277) .
(2) المصدر نفسه (1/279) .
(3) رجح محقق البرهتن هنا (1/270) ، وقبل ذلك (ص: 135) أن المقصود بالقلانسي أحمد بن إبراهيم المعاصر لابن فورك المتوفى سنة 406هـ، وليس هو القلانسي الآخر السابق للأشعري المعاصر للمحاسبي وغيره من الكلابية، وترجيحه هذا مرجوح، والراجح أنه قصد القلانسي الكلابي، ولذلك قال عنه هنا: أنه من قدماء الأصحاب، ثم ذكر قوله في هذه المسألة والذي هو قول ابن كلاب وأصحابه.
(4) البرهان (1/270-271) .
(5) انظر: المصدرنفسه (1/271) .
(6) البرهان (1/272-274) ..(2/604)
مأمور فقد خرج عن حد المعقول، وقول القائل: إنه مأمور على تقدير الوجود تلبيس، فإنه إذا وجد، ليس معدوما، ولاشك أن الوجود شرط في كون المأمور مأمورا"- ثم قال بعد هذا الكلام مباشرة- معلنا حيرته في هذه المسألة العظيمة المتعلقة بكلام الله تعالى: " وإذا لاح ذلك بقي النظر في أمر بلا مأمور، وهذا معضل الأرب، فإن الأمر من الصفات المتعلقة بالنفس، وفرض متعلق لا متعلق له محال، والذي ذكره (1) في قيام الأمر بنا في غيبة المأمور تمويه، ولا أرى ذلك أمرا حاقا، وإنما هو فرض تقدير- وما أرى الأمر لو كان كيف يكون- إذا حضر المٌخَاطَب قام بنفس الأمر إالحاق المتعلق به، والكلام الأزلي ليس تقديرا، فهذا مما نستخير الله تعالى فيه، وإن ساعف الزمان أملينا مجموعا من الكلام ما فيه شفاء الغليل إن شاء الله تعالى" (2) ، هذا منتهاه في مسألة من أهم المسائل التي تميز بها المذهب الأشعري0
4- ويري الجويني أن الأشاعرة وضعوا بعض الأصول مثل: نفي التجسيم عن الله ومثل نفي العلو (الجهة) ، ثم ذكر أن المعتزلة عجزوا عن نصب الأدلة على استحالة كون القديم جسماً (3) ، كما أن نفى الجهة لا يستقيم على أصولهم أيضاً (4) ، والجويني بهذا الأسلوب يبرز مذهب الأشاعرة على أنه أكثر أصالة وأقوي أدلة في نفي بعض الصفات، ونفى العلو عن الله تعالى- من المعتزلة - الذين هم أهل التجهم والتعطيل، وهذا منهج للجويني في إعلاء المذهب الأشعري يعتمد على أسلوب غريب؛ إذ لو أنه ذكر أن أصول المعتزلة لا تستقيم على نفي الصفات السبع، أو الرؤية أو أن القرآن كلام الله غير مخلوق لكان هذا معتادا غير مستغرب، أما أن
يذكر أن أصولهم لا تستقيم على نفى العلو وإنما تستقيم الأدلة على أصولنا نحن الأشاعرة فهذا هو الذي يلفت الانتباه0
_________
(1) أي الأشعري فيما سبق انظر: البرهان (1/273) .
(2) البرهان (1/274-275) .
(3) انظر: الشامل (ص: 414) .
(4) انظر: المصدر نفسه (ص:528) .(2/605)
5-وفي مسألة أخبار الآحاد- وإفادتها للعلم ثم حجيتها في العقيدة- يسير الجويني في ركب غالب شيوخه في أنها لا تفيد العلم (1) ، وفي أحد المواضع في الشامل ذكر قولين أحدهما قول الباقلاني: إنه لا يقطع بها في القطعيات، الآخر قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني الذي ذكره قائلا: " وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن الحديث المدون في الصحاح الذي لم يعترض عليه أحد من أهل الجرح والتعديل، هو (2) مما يقضي به في القطعيات، وليس من أصله أنه يبلغ مبلغ التواتر، إذ لو بلغه لأوجب العلم الضروري، ولكنه مما يتوجب العلم استدلالا ونظراً " (3) ،ثم قال الجويني: "والصحيح في ذلك طريقه القاضي" (4) ،وفي البرهان كانت عبارة قاسية جدا فيمن يقول إن خبر الواحد العدل يفيد العلم، يقول: " ذهبت الحشوية من الحنابلة، وكتبة الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم، وهذا خزي (5) لا يخفي مدركه على ذي لب " (6) .
ب- تأويله للاستواء وللصفات الخبرية:
في العرض السابق لأقوال شيوخ الأشاعرة- قبل الجويني- تبين أن تأويل هذه الصفات كان موجودا قبل الجويني، وليس كما اشتهر من أنه أول من تأولها، ومع ذلك فللجويني مذهب متميز فيها، قرب فيه من مذهب المعتزلة0
ويوضح ذلك أن السابقين كابن فورك ومن بعده قالوا بنفي الجهة، ثم قالوا في الاستواء: إنه بمع نى العلو بالقهر والتدبير - كما يقول ابن فورك- أو على معنى الملك - كما يقول البغدادي - لكنهم أبطلوا تأويل المعتزلة استوى باستولى،
_________
(1) انظر: الإرشاد (ص: 161) ، والشامل (ص: 100) .
(2) في الشامل (وهو) والواو زائدة.
(3) الشامل (ص: 557) .
(4) نفس المصدر والصفحة.
(5) ذكر المحقق في الحاشية أن في نسخة ت:خرق.
(6) البرهان (1/606) .(2/606)
فلما جاء الجويني ذكر أن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقال: " لم يمتنع منا حمل الاستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة، إذ العرب تقول: استوى فلان على الممالك إذا احتوى على مقاليد الملك، واستعلى على الرقاب، وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية، فنص تعالى عليه تنبيهاً بذكره على ما دونه، فإنه قيل: الاستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مطامحة ومحاولة؟ قلنا: هذا باطل، إذ لو أنبأ الاستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر، ثم الاستواء بمعنى الاستقرار بالذات ينبئ عن اضطراب واعوجاج سابق، والتزام ذلك كفر " (1) ، ثم ذكر أنه لا يبعد تفسير الاستواء بالقصد، ثم ذكر التفويض ورده (2) . أما في الشامل فذكر عدة أقوال فيه: منها التفويض مع القطع بنفي الجهات والمحاذيات، بحيث يكون الاستواء من الأسرار التي لا يطلع علها الخلائق، والله تعالى مستأثر بعلمها (3) ، ثم قال: "ذهب بعضهم إلى أن المراد بالاستواء: الاقتدار والقهر والغلبة، وذلك سائغ في اللغة، شائع فيها، إذ القائل يقول: استوى المالك على الإقليم، إذا احتوى على مقاليد الملك فيه، ومنه قول القائل:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق (4)
وقول آخر:
ولما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر (5) " (6)
_________
(1) الإرشاد (ص: 40-41) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 41) .
(3) انظر: الشامل (ص: 550) .
(4) هذا البيت منسوب إلى الأخطل النصراني، وقد سبق تخريجه، وفي الشامل " ولا دم ".
(5) لم أقف على قائله.
(6) الشامل (ص:553) .(2/607)
ثم ذكر الاعتراض الذي أورده في الإرشاد وأجاب عنه بمثل ما أجاب به هناك (1) ، ثم ذكر القول الآخر أنه بمعنى القصد والإرادة، وقول الأشعري أنه فعل في العرش واستبعده (2) ، أما في لمع الأدلة - المختصر في العقائد - فلم يذكر سوى التأويل: حيث قال: " المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو، ومنه قول العرب: استوى فلان على المملكة - أي استعلى عليها واطردت له " ومنه قول الشاعر:
"قد استوى بشر ... ." (3) ، وفي النظامية - وهي من آخر مؤلفاته - قطع بتنزيه الله عن الاختصاص ببعض الجهات (4) ، ثم ذكر أن مذهب السلف إجرؤها على ظاهر دون تأويل، وهو ما رجحه (5) .
هذه خلاصة أقوال الجويني في الاستواء، ومنه يتبين أن ما اختاره في لمع الأدلة وقال بجواز القول به في الإرشاد والشامل هو قول المعتزلة (6) ، الذي رده شيوخ الجويني، كابن كلاب والأشعري والباقلاني والبيهقي وغيرهم، وبذلك يصبح الجويني أول من ارتضى هذا التأويل الاعتزالي المشهور.
أما الصفات الخبرية فقسمان: ما عدا صفة الوجه والعين واليدين، فقد تأوّله غالب الأشاعرة ومنهم أبو الحسن الطبري، والبغدادي والبيهقي وغيرهم ومشى على طريقتهم الجويني (7) ، وذلك مثل صفة القدم، والساق، والأصابع
_________
(1) انظر: الشامل (ص: 553) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 554-556) .
(3) لمع الأدلة (ص: 95) .
(4) انظر: النظامية (ص: 21) .
(5) انظر: المصدر نفسه (ص: 32-34) .
(6) انظر: مثلاً كلامهم حول الاستواء وتأويله، وشواهدهم في ذلك: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار الهمذاني (ص: 226-227) .
(7) انظر: مثلاً تأويل الجويني للقدم الشامل (ص: 562) ، والإرشاد (ص: 162) ، والأصابع الشامل (ص: 564) ، والساق الإرشاد (ص: 159) .(2/608)
وغيرها، فالجويني ليس في مذهبه جديد في هذا، أما صفة الوجه والعين واليدين فجمهور شيوخ الجويني من الأشاعرة على إثباتها بلا تأويل، والذي أثر عنه تأويلها عبد القاهر البغدادي - كما سبق تفصيل ذلك - ولم يقل يقول البغدادي في تأويلها أحد من تلامذته، ومنهم البيهقي الذي أثبتها بلا تأويل، فلما جاء الجويني قطع بتأويلها، وإن كان قد رجع عن ذلك عن النظامية، يقول الجويني في الإرشاد: " ذهب بعض أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى، والسبيل إلى إيباتها السمع دون قضية العقل، والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود" (1) ، ثم شرح ذلك ورد على الذين يعتقدون أنها صفات لله تعالى لورود النصوص الصريحة بذلك (2) ، ثم يسوق الجويني كلاماً في الرد على شيوخه الأشاعرة المثبتين لهذه الصفات نهج فيه منهج المعتزلة الذين يصفون الأشاعرة حين يثبتون بعض الصفات دون بعض بأنهم متناقضون لأن مساق الصفات واحد فإما أن تثبت جميعاً أو تؤول جميعاً، يقول الجويني هنا: " ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات [أي صفات اليدين والعين والوجه] بظواهر هذه الآيات ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات، تمسكاً بالظاهر، فإن ساق تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضاً طريق التأويل فيما ذكرناه " (3) ،
ولاشك أن الجويني معه الحق فيما يقول، لأن تأويل شيوخه لصفات الاستواء والنزول والمجيء ليس بأولى من تأويل الصفات الخبرية، ودلالات النصوص واحدة.
وفي الشامل تأوّل الجويني النصوص الواردة في العين (4) ، أما في النظامية فقد رجع عن التأويل فيها كلها إلى التفويض.
_________
(1) الإرشاد (ص: 155) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 155-157) .
(3) المصدر السابق (ص: 157-158) ..
(4) انظر: الشامل (ص:556-557) .(2/609)
ومما سبق يتبين أن الجويني وإن كان قد سبق إلى تأويل الاستواء والوجه واليدين والعين - إلا أن مذهبه فيها تميز بأمرين:
الأول: اختيار تأويل الاستواء بالاستيلاء والملك - كقول المعتزلة - وهذا التأويل بالذات رده شيوخ الأشاعرة ومنهم عبد القاهر البغدادي الذي قال بعد أن رد تأويل المعتزلة بأن الصحيح تأويل العرش على معنى الملك أي أن الملك ما استوى لأحد غيره (1) ، وهذا القول للبغدادي ليس ببعيد من قول المعتزلة، ومع ذلك فلم يجسر على مخالفة شيوخه الذين ردوا تأويل المعتزلة للاستواء، فلما جاء الجويني أزال هذا الحاجز، ورأى أنه لا فرق بين التأويلين، ولذلك نص على تأويل المعتزلة واختاره.
الثاني: التأويل الصريح لصفة الوجه واليدين والعين، مع إلزام الأشاعرة أن تأويلها لازمهم كتأويل الاستواء والنزول.
جـ - قربه من المعتزلة ومذهبهم:
يجمع الباحثون على تأثر الجويني بالمعتزلة أكثر ممن سبقه من الأشاعرة (2) ، وما تقدم - في الفقرة السابقة - دليل واضح على قربه منهم وتأثره بهم، ومن الأدلة والشواهد على ذلك ما يلي:
1- إن الجويني في مسألة كلام الله والقرآن، لما شرح مذهب الأشاعرة، ورد على المعتزلة قال: " واعلموا بعدها أن الكلام مع المعتزلة وسائر المخالفين في هذه المسألة يتعلق بالنفي والإثبات، فإن ما أثبتوه وقدّروه كلاماً فهو في
_________
(1) انظر: أصول الدين للبغدادي (ص: 112-113) .
(2) انظر: مقدمة تحقيق الشامل (ص: 77) ، حيث ذكر المحققون: أن الجويني لم يخالف المعتزلة في الأصول؛ لكنه خالفهم في فهمهم لهذه الأصول نفسها، وانظر: في علم الكلام: الأشاعرة، أحمد صبحي (ص:123-132) ، حيث ذكر أن خصومه الأشاعرة للمعتزلة فترت لدى الجويني، وانظر: نشأة الأشعرية (ص: 409) ، وإمام الحرمين: عبد العظيم الديب (ص: 84) ، وغيرها.(2/610)
نفسه ثابت، إنه كلام الله تعالى إذ [لعل صوابها إذا] رد إلى التحصيل آل الكلام إلى اللغات والتسميات فإن معنى قولهم: هذه العبارات كلام الله، أنها خلقه، ونحن لا ننكر أنها خلق الله (1) ، ولكن نمتنع من تسمية خالق الكلام متكلماً به، فقد أطبقنا على المعنى، وتنازعنا بعد الاتفاق في تسميته، والكلام الذي يقضي أهل الحق بقدمه هو الكلام القائم بالنفس، والمخالفون ينكرون أصله ولا يثبتونه " (2) ،والجويني لم يخالف في هذا بقية الأشاعرة لأنهم يفرقون بين كلام الهل القائم بالنفس، وبين القرآن المتلو، فالأول قائم بالله لا يجوز انفصاله عن الله بحال، كما لا يجوز حدوثه، بل هو أزلي كأزلية الحياة والعلم كما أنه واحد ليس بحروف ولا أصوات أما الكلام المتلو فهم وإن صرحوا أنه كلام الله إلا أنهم عند التحقيق يقولون: إن هذا الكلام - بعباراته - فهمه جبريل أو غيره من الله، ولذلك فهو حكاية لكلام الله أو عبارة عنه، فالقرآن المتلو على هذا القائل به هو جبريل أو غيره - وقد ذكر ما يدل على ذلك من قوله الباقلاني - لكن الجديد في قول الجويني تصريحه بأنه لا ينكر أن تكون العبارات - أي القرآن المتلو - خلق الله، وهذا مذهب المعتزلة، وإن خالفهم في أن الكلام هو الكلام القائم بالنفس، ولتوضيح قول الجويني هذا ننقل ما ذكره الإيجي في الموقف - الذي يعتبر من أهم كتب الأشاعرة التي استقر عليها مذهبهم في القرون المتأخرة، يقول - حول صفة الكلام -: " وقالت المعتزلة: أصوات وحروف يخلقها الله في غيره، كاللوح المحفوظ، وجبريل أو النبي، وهو حاديث.
وهذا لا ننكره، لكننا نثبت أمراً وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس ... ثم نزعم أنه قديم، لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى، ولو قالت المعتزلة: إنه هو إرادة فعل يصير سبباً لاعتقاد المخاطب علم المتكلم بما أخبره به، أو إرداته لما أمر به لم يكن بعيداً - لكني لم أجده في كلامهم - إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة: وهو
_________
(1) ذكر المحققان أن في نسخة م: لا ننكر كونها خلقاً له.
(2) الإرشاد (ص: 116-117) .(2/611)
خلق الأصوات والحروف، وكونها حادثة قائمة (1) ، فنحن نقول به، ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك، وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته " (2) .
فالجويني في نصه السابق يخفف من حدة المعركة بين الأشعرية والمعتزلة في مسألة خلق القرآن، ويصرح بأن المذهب الأشعري لا يعارض قول المعتزلة، ومن ثم فالخلاف معهم في أنهم لا يثبتون الكلام النفسي.
2- دفاعه عن المعتزلة فيما نقل من مذاهبهم، فمثلاً في مسألة التحسين والتقبيح العقلي الذي قال به المعتزلة يقول الجويني: " واضطرب النقلة عنهم في قولهم يقبح الشيء لعينه أو يحسن، فنقل عنهم أن القبح والحسن في المعقولات من صفات أنفسها ونقل عنهم أن القبح صفة النفس، وأن الحسن ليس كذلك، ونقل ضد هذا عن الجبائي، وكل ذلك جهل بمذهبهم، فمعنى قولهم يقبح ويحسن الشيء لعينه أنه يدرك ذلك عقلاً من غير إخبار مخبر " (3) ، ثم رد على المعتزلة في قولهم هذا وهذا يدل على إطلاعه على كتبهم، ومعرفته بأقوالهم.
3- وفي مسألة المخاطب إذا خص بالخطاب ووجه الأمر إليه وهو في حالة اتصال الخطاب به هل يعلم أنه مأمور، رجح الأشاعرة أنه يعلم، وقالت المعتزلة: إنه لا يعلم إلا بعد مضي زمان الإمكان الذي يسعه فعل المأمور به، وقد رجح الجويني مذهب المعتزلة وقال: " المختار ما عزى إلى المعتزلة في ذلك " (4) .
4- وللجويني صلة خاصة بكتب أبي هاشم الجبائي (5) ، الذي يرد في
_________
(1) قال في شرح الموافق (8/95) ، قائمة، بغير ذاته تعالى.
(2) المواقف (ص: 293-294) ، ومع شرحه وحواشيه (8/92-95) .
(3) البرهان (1/88-89) .
(4) البرهان (1/282) ، وانظر ما قبلها (ص: 280-281) .
(5) هو عبد السلام بن أبي علي بن عبد الوهاب - تقدمت ترجمة أبيه عند الحديث عن الأشعري - ولد أبو هاشم سنة 277هـ، وتوفي سنة 321 هـ، وإليه تنسب فرقة البهشمية - إحدى فرق المعتزلة - انظر في ترجمته وآرائه: تاريخ بغداد (11/55) ، والمنتظم (6/261) ، والأنساب (3/176) ، ووفيات الأعيان (3/183) ، " وفي هذين المصدرين أنه ولد سنة 247هـ وهو خطأ"، وسير أعلام النبلاء (15/63) ، والملل والنحل (1/78) والفرق بين الفرق (ص: 184) ، والتبصير بالدين (ص: 80) .(2/612)
كتبه كثيراً، وأقرب مثال على ذلك قول الجويني بالأحوال، وتأكيده على ذلك بعد أن ذكر تردد الباقلاني في القول بها، ومما يلاحظ أن الباقلاني لما قال بالأحوال لم يوافق أبا هاشم الجبائي في أن الحال لا معدومة ولا موجودة، ولا معلومة ولا مجهولة -كما سبق بيان قوله - لكن الجويني وافق الجبائي في عدم اتصاف الحال بالوجود والعدم (1) ، ولإن قطع بأنها معلومة مقدورة مرادة (2) ، مع تفسير معين لهذه المعاني (3) .
ومن الأدلة على صلة الجويني بأبي هاشم دفاعه عنه فيما نسب إليه في مسألة تعريف العلم، وأن علم المقلد هل يعتبر علماً أم لا، يقول: " نقول: عقد المقلد إذا لم يكن له مستند عقلي فهو على القطع من جنس الجهل، وبيان ذلك بالمثال: إن من سبق إلى عقده أن زيداً في الدار، ولم يكن فيها، ثم استمر العقد، فدخلها زيد، فحال المعتقد لا يختلف وإن اختلف المعتقد، وعن ذلك نقل النقلة عن عبد السلام بن الجبائي - وهو أبو هاشم - أنه كان يقول: العلم بالشيء والجهل به مثلان، وأطال المحققون ألسنتهم فيه، وهذا عندي غلط عظيم في النقل، فالذي نصن عليه الرجل في كتاب الأبواب: إن العقد الصحيح مماثل للجهل، وعني بالعقد اعتقاد المقلد " (4) .
وفي مسألة الصلاة في الدار المعصوبة ذكر قول أبي هاشم الجبائي: أنها لا تصح، وبعد كلام ذكر معارضة المعترضين لكلامه ثم قال: " وأبو هاشم لا يسلم ذلك ولا أمثاله، وليس هو (5) ، ممن تزعه التهاويل " (6) ، ويذكر في إحدى المسائل أنه طلع على مصنفاته (7) .
_________
(1) انظر: الشامل (ص: 639-341) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 642) .
(3) انظر: تفصيل أقواله في الأحوال في الشامل (ص: 629-645) ، والإرشاد (ص: 80) .
(4) البرهان (1/121) .
(5) في المطبوعة من البرهان لو، ولعله خطأ مطبعي.
(6) البرهان (1/286) ، وفي الحاشية في نسخة ش، ع، ت ترمعه، وتزعه بمعنى: تكفه.
(7) المصدر السابق (1/304) .(2/613)
د - صلته بالفلسفة وعلوم الأوائل:
لم يكن الجويني فيلسوفاً، أو متبنياً لأفكار الفلاسفة، وإنما اطلع على كتبهم واستفاد منها في تأصيل المذهب الأشعري في بحوثه الكلامية ولذلك جاء تفكيره - كما عبر البعض - متسماً بنزعة فلسفية عميقة (1) ، وتأثر الجويني بِكتب الأوائل من الفلاسفة تمثل فيما يلي:
1- نقوله عنهم، يقول في مسألة إحاطة الإنسان بأحكام الإلهيات وحقائقها: " أقصى إفضاء العقل إلى أمور جميلة منها، والدليل القاطع في ذلك على رأي الإسلاميين: إن ما يتصف به حادث، وموسوم بحكم النهاية، يستحيل أن يدرك حقيقة ملا يتناهى، وعبر الأوائل عن ذلك بأن قالوا: تصرف الإنسان في المعقولات بفيض ما يحتمله من العقل عليه، ويستحيل أن يدرك الجزء الكل، ويحيط جزء طبيعي له حكم عقلي بما وراء عالم الطبائع، وهذه العبارات وإن كانت مستنكرة في الإسلام، فهي محومة على الحقائق" (2) .
2- مسألة علم الله بالجزئيات، التي أثارت جدلاً بالنسبة للجويني، وهل وافق الفلاسفة في قولهم: إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات، والحق أن عبارة الجويني موهمة وذلك حين يقول: " وبالجملة علم الله تعالى إذا تعلق بجواهر لا تتناهى فمعنى تعلقه بها استرساله عليها من غير فرض تفصيل الآحاد" (3) ، وقد شنع عليه من العلماء الإمام المازري (4) ، وقال: " إنما سهل عليه ركوب هذا المذهب إدمانه النظر في مذهب أولئك " (5) ، والجويني الذي قال العبارة الموهمة السابقة هو الذي يقول في نفس الكتاب " إن الرب تعالى كان
_________
(1) انظر: مقدمة تحقيق الشامل (ص: 76) .
(2) البرهان (1/142) .
(3) البرهان (1/145-146) .
(4) كما هجره صديقه القشيري لأجلها بقول الذهبي: " هذه هفوة اعتزال، هجر أبو المعالي عليها، وحلف أبو القاسم القشيري لا يكلمه، ونفي بسببها، فجاور وتعبد، وتاب ولله الحمد منها" (السير 18/472) .
(5) طبقات السبكي (5/201) .(2/614)
عالماً في أزله تفاصيل ما يقع فيما لا يزال " (1) ، وهذا نص في إثبات علم الله بالجزئيات، ولذلك دافع السبكي - بحق - في طبقاته عن الجويني وأطال الكلام حول هذه المسألة وأتى بالنقول من كتب الجويني الأخرى كالشامل والإرشاد، كما نبه إلى النص الذي نقلناه آنفاً من البرهان وهي نقول تدل على إثباته لعلم الله بالجزئيات " (2) .
3- ومن معالم تأثره بالكتب الفلسفية ما هو واضح في منهجه من التحديد الدقيق للمصطلحات في كتبه، فهو قبل أن يبدأ في الكلام في أي باب يبدأ بتعريف المصطلحات والتعريفات (3) ، وتأخذ هذه المقدمات - أحياناً - قسطاً كبيراً من كتبه، وهذا المنهج الذي سلكه الجويني ظهر جلياً في كتب متأخري الأشعرية، حيث يصل الأمر أن تبلغ المقدمات أكثر من ثلثي الكتاب قبل أن يدخل المؤلف في المقصود من الكتاب وهو البحث في الإلهيات، ومن الأمثلة على ذلك كتاب شرح المقاصد، والمواقف وشروحه.
هـ - الفقه وأصوله عند الجويني وعلاقة ذلك بمذهبه الكلامي:
يعتبر الجويني من أئمة الشافعية، وقد سبقت الإشارة إلى أنه كتب كتاباً يفضل فيه مذهب الشافعي ويرى أنه الأحق بالاتباع، وهو ما صرح به أيضاً في البرهان (4) .
ومن الأمور الملفتة والبارزة في منهجه إدخاله مسائل المنطق والكلام في أصول الفقه، ولما كان كتابه من الكتب الأصولية المتقدمة فقد تأثر بمنهجه هذا من جاء بعده من الأشاعرة وغيرهم مثل الغزالي والرازي والآمدي وغيرهم.
يقول النشار في عرضه لمسألة إدخال المنطق الأرسطي في أصول الفقه: " أما الأشاعرة فقد احترزوا بأصولهم عن منطق أرسطوا، ونجد هذا واضحاً لدى عدو
_________
(1) البرهان (2/130) .
(2) انظر: طبقات السبكي (5/192-207) .
(3) انظر: مثلاً لمع الأدلة (ص: 76) من أول الكتاب، وما بعدها، والإرشاد (ص: 5) وما بعدها.
(4) (2/1148-1155) .(2/615)
ممتاز للتراث اليوناني - أبي بكر الباقلاني - وهو شخصية ضخمة لم تبحث بع، ولم يصل إلينا إنتاجها الأصولي إلا خلال كتب المتأخرين أيضاً".
"
ولكن ما لبث علم الأصول أن اتجه وجهة أخرى على يد إمام الحرمين (478هـ) ، وقد كان المظنون أن إمام الحرمين سار على منهج المدرسة الكلامية الأصولية الأولى، إلا أنه تسنى لي بحث مخطوطة نادرة لكتاب البرهان فتبين لي أنه وإن كان إمام الحرمين خالف المنطق الأرسططاليسي في نقاط كثيرة إلا أنه تأثر به إلى حد ما، بل قد تجد عنده أول محاولة لمزج منطق أرسطو بأصول الفقه، فكما أنه خالف متكلمي أهل السنة في القول بالواسطة أولاً، ثم وافق أبا هاشم الجبائي في أقوال له كثيرة ... تراه يخالفهم أيضاً في محاولته مزج المنطق الأرسططاليس في الأصول، ويمهد الطريق بذلك لتلميذه أبي حامد الغزالي (1) ، (2) وقد أدخل الجويني مسائل كلامية كثيرة في أصول الفقه ومنه صيغ الأمر (3) ، والكلام النفسي (4) ، وعلم الله (5) ، وتكليف ما لا يطاق (6) ، والاستطاعة (7) ، والمعجزة (8) ، والتحسين والتقبيح (9) وغيرها.
و حيرة الجويني ورجوعه:
لما كان الجويني ممن خاض في مسائل علم الكلام أكثر ممن سبقه، وما تميزت به شخصيته من استقلال واعتداد، بحيث لا يرى غضاضة في مخالفة
_________
(1) للغزالي كتابه المشهور: المستصفي، وله المنخول من تعليقات الأصول نص في آخر على أنه اقتصر " على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله في تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل " المنخول (ص: 504) .
(2) مناهج البحث (ص: 73) - ط الرابعة -.
(3) البرهان (1/212) .
(4) نفسه (1/199) .
(5) نفسه (1/145) .
(6) نفسه (1/102) .
(7) نفسه (1/276) .
(8) نفسه (1/148) .
(9) نفسه (1/87) .(2/616)
شيوخه وتزييف أقوالهم أحياناً ولو كانوا أعلاماً كالأشعري، والباقلاني، وابن فورك، وأبي إسحاق الإسفراييني وغيرهم، لهذا ولما يحسب من قصده الحق وتجرده فقد برز في كتبه ما يدل على تراجعه عن بعض أقواله، وانتهاء الأمر عنده إلى الحيرة ويمكن عرض الشواهد التالية من كتبه.
1- في أثناء جواب الجويني عن المطاعن التي وجهت إلى اللمع للأشعري، ومنها استدلاله في إثبات حدث العالم بالنطفة وأنه لم يوضح الدلالة على حدثها القائم على إثبات الأعراض، وبعد مناقشات يقول الجويني: " ثم نقول: لا يتوقف ثبوت حدث العالم على إثبات الأعراض، ولكن من علم تعاقب الأحوال المتناقضةعلى بعض الذوات، علم استحالة عروة منها، فهذا يفضي به إلى العلم بحدث الذات، وإن لم يتعرض لكون الأحوال موجودات، وكونها أغياراً للذات، فلم يتوقف إذاً إثبات حدث الجواهر على إثبات الأعراض، هكذا قال ابن مجاهد والقاضي - رضي الله عنهما - فاستبان بما قلناه أنه لا يتوقف العلم بحدث العالم على العلم بثبوت الأعراض، فإن المقصد يثبت دون ذلك " (1) ، فالجويني يصرح هنا بأن دليل حدوث العالم
_________
(1) الشامل (ص: 247) ، ومن العجيب أن الجويني وهو يدافع عن الأشعري في عدم ذكره لدليل حدوث الأجسام قال: " إنه " أي الأشعري، رأى كثيراً من الناي ينفرون عن طرق الكلام ويأبونها، ولو صدر الكلام بإثبات الأعراض والتعرض للجواهر لن يأمن أن ينفر صدر كتابه مطالعه، فبدأ بإثبات الصانع في معرض لا يأباه أحد ثم ذكر حدث العالم في درج الكلام، الشامل (ص: 279) .(2/617)
لا يتوقف على دليل حدوث الأعراض، ولكنه لما أخذ يرد على الكرامية في مسألة القول بأن الله جسم قال: " وسبيل الكلام أن يسألوا عن دلالة حدث العالم، فإن ترددوا فيها، ولم يستقلوا بإيرادها بأن عجزهم عن قاعدة الدين، وأصل المعارف، فإن السبيل الذي به تتوصل إلى معرفة المحدث ثبوت الحدث، وإن راموا ذكر الدلالة على حدث الأجسام، لم يطردوا دلالة إلا تقرر عليهم مثلها في الجسم الذي حكموا بقدمه" (1) ، ومن أصول أدلة حدوث العالم عند الجويني أن الجواهر لا تخلو من الأعراض (2) .
فالجويني في رده على الكرامية سد طرق إثبات حدث العالم إلا بطريق حدوث العالم إلا بطريق حدوث الأجسام والأعراض، وهو هناك في رده على خصوم الأشعري يصرح بأنه لا يتوقف إثبات حدوث الجواهر على حدوث الأعراض؟.
وقد رجح الجويني في إثبات الصانع إدعاء الضرورة في أن هذا العالم لابد له من خالق دون الدخول في طرائق الاستدلال، يقول الجويني بعد كلام ومناقشات حول ما ذكره الأشعري من أدلة إثبات الصانع وأن هذا الكون لابد له من خالق كما أن البناء لا بد له من بانٍ والكتابة لا بد لها من كاتب: " قال عبد الملك بن عبد الله: أسد الطرق اعندي في المسألة ادعاء الضرورة، ومن لم يسلك هذا المسلك أولاً اضطرته الحاجة إلى سلوكه أخرا " (3) ، وهذا الذي يدعي فيه الجويني الضرورة كتب حول الاستدلال له كلاماً طويلاً (4) .
2- حيرته في مسألة هل المعدوم مأمور؟ وقد تقدم كلامه في ذلك حين قال: وهذا مما نستخبر الله تعالى فيه.
3- في مسألة قدرة العبد ذكر في الشامل والإرشاد ولمع الأدلة (5) ، أنه لا تأثير لها كما هو مذهب جمهور الأشاعرة ثم رجع في النظامية إلى أن لها تأثير (6) .
4- ومن الأمور المهمة رجوعه في نظرته إلى السلف، فإنه قال في كتابه - الكافية في الجدل - في الجواب عن الاعتراض الذي يقول: إن السلف لم يستخدموا بعض أنواع القياس في الرد على الخصم - فقال بعد ذكر عدة أجوبة: " وأيضاً فإنهم [أي السلف] لما علموا أنه قد يكون بعدهم من لعل الله سبحانه يخصه بجودة قريحة، وزيادة فهم، وفطنة وذكاء ... لم يطولوا واقتصروا على النبذة والإشارة" (7) ،فهذه عبارات توحي بتجهيل وسلبية للسلف، لكنه يقول عنهم في الغياثي - الذي ألفه بعد النظامية - فهو في آخر كتبه (8) ، موصياً مغيث الدولة الذي هو نظام الملك - قائلاً: " والذي أذكره لائقاً بمقصود
_________
(1) انظر: الشامل (ص: 411) .
(2) انظر: المصدر السابق (ص: 204، 209، 220) .
(3) المصدر السابق (ص: 282-283) .
(4) انظر: الشامل (ص: 123-342) .
(5) انظر: الشامل (ص: 182) ، والإرشاد (ص: 208) ، ولمع الأدلة (ص: 107) .
(6) انظر: النظامية (ص: 43-51) .
(7) الكافية في الجدل (ص: 346-347) .
(8) أحال الجويني في الغياثي (ص: 190) على النظامي.(2/618)
هذا الكتاب أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء، وزاغت الآراء وكانوا - رضي الله عنهم- ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكفون - رضي الله عنهم - عما تعرض له المتأخرون عن عي وحصر، وتبلد في القرائح، هيهات، قد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً، وأرجحهم بياناً ... " (1) .
5- حيرته في مسألة العلو - وقصته مع الهمذاني مشهورة (2) - وقد صرح بالحيرة في هذه المسألة في النظامية بعد كلام طويل (3) .
6- رجوعه عن علم الكلام، وهو من الأمور المشهورة التي لا ينازع فيها إلا من يحمل في قلبه تعصباً أعمى للأشاعرة وعلومهم الكلامية، ومن أقواله في رجوعه:
أ - ما رواه الفقيه غانم الموشيلي: سمعت الإمام أبا المعالى يقول: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام " (4) .
ب - ما حكاه أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا عليَّ أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور " (5) .
_________
(1) الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم (ص: 190-191) ، وفي هذا الكتاب (ص: 193-194) ، هاجم المأمون بسبب تساهله مع المعطلة، وترجمته لكتب الأوائل، وحملة المسؤولية أمام الله.
(2) انظرها: في العلو الذهبي (ص: 188) ، وقال الألباني في مختصر العلو (ص: 277) " إسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ " وانظر: سير أعلام النبلاء (18/474، 175، 477) وطبقات السبكي (5/190) ، وحاول ردها بما لا طائل من ورائه.
(3) انظر: النظامية (ص: 23) .
(4) سير أعلام النبلاء (18/463) .
(5) المصدر السابق (18/474) ، وطبقات السبكي (5/191) .(2/619)
جـ - وروى عنه أنه قال: " قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني " (1) .
د - وقال أبو الحسن الشقيرواني الأديب -وهو من تلاميذ الجويني -: سمعت أبا المعالى يقول: " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به " (2) .
وقد حاول السبكي رد هذه الأقوال المروية عن الجويني بأساليب معهودة عند السبكي حين يتعلق الأمر بالطعن على الأشاعرة.
7 - رجوع الجويني في النظامية.
اشتهر عن الجويني أنه رجع في النظامية وأبرز ما رجع فيه مسألتان:
أ - مسألة القدرة الحادثة وقوله: إنه مؤثرة بعد أن كان يرى أنها غير مؤثرة - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك -.
ب - مسألة الصفات الخبرية، فإنه قال: " اختلفت مسالك العلماء في الظواهرالتي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها، وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزام هذا المنهج في أي الكتاب وما يصح من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآله وسلم، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقلاً أتباع سلف الأمة، فالأولى الأتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي
_________
(1) السير (18/474) ، والمنتظم (9/19) ، والسبكي (5/185) .
(2) السير (18/474) ، والمنتظم (9/19) ، والسبكي (5/186) .(2/620)
القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة.
وقد درج أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة.." (1) ، ورجوع الجويني في النظامية لم يكن رجوعاً كاملاً إلى مذهب السلف في جميع المسائل العقيدة وعلم الكلام، والدليل على ذلك:
1 - أن رجوعه بالنسبة للصفات كان إلى التفويض، وليس هذا مذهب السلف.
2- أن الجويني أبقى على بعض المسائل وعرضها كما هي في مذهب الأول ومنها مسألة حدوث الأجسام (2) ، وكلام الله (3) ، ومنع حلول الحوادث التي هي مسألة الصفات الاختيارية (4) ، والرؤية بلا مقابلة (5) ، كما أنه أوّل بعض الصفات مثل المحبة أوّلها بالإرادة (6) ، وفي الإيمان ذكر أولاً أنه التصديق (7) ، ثم ذكر عند الكلام على زيادة الإيمان ونقصانه قول السلف: إنه معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، وقال: " هذا غير بعيد في التسمية " (8) ، لكنه ذكر بعده القول الآخر؛ إنه التصديق، ولم يرجح بينهما.
* ... * ... *
هذا هو الجويني في أحواله وأقواله، ومما سبق يتبين كيف خطا بالمذهب الأشعري نحو الاعتزال، والتأصيل الكلامي.
_________
(1) النظامية (ص: 32-33) .
(2) النظامية (ص: 16) ، وما بعدها.
(3) المصدر السابق (ص: 27-30) .
(4) المصدر نفسه (ص: 27) .
(5) نفسه (ص: 39) .
(6) نفسه (ص: 61) .
(7) نفسه (ص: 85) .
(8) نفسه (ص: 90) .(2/621)
أبو حامد الغزالي: ت 505هـ
هو الشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، ولد بمدينة طوس سنة 450هـ، توفي والده وهو صغير، وكان قد أوصى إلى صديق له صوفي بكفالة ولده محمد وأخيه أحمد، وأن يعنى بتعليمهما، وبقيا تحت رعاية هذا الرجل - وكان فقيراً- حتى نفد المال الذي تركه والدهما، فطلب منهما أن يذهبا إلى إحدى دور العلم، فبدأ الغزالي بالدراسة على الفقيه علي بن أحمد الراذكاني بطوس، وكان ذلك سنة 465هـ ثم رحل إلى جرجان حيث طلب العلم على الشيخ الإسماعيلي - إسماعيل بن مسعدة - (1) ، فلما كان عام 473هـ، اتجه أبو حامد إلى نيسابور يطلب العلم على أبي المعالي الجويني - رئيس المدرسة النظامية فيها - وأصبح أشهر تلاميذه وأكثرهم نبوغاً، ولما توفي الجويني سنة 478هـ، رحل إلى عسكر نيسابور واتصل بنظام الملك هناك وناظر العلماء وبهرهم واعترفوا بمكانته، فولاه نظام الملك التدريس في نظامية بغداد، فقدم الغزالي بغداد سنة 484هـ وصار يدرس فيها الفقه والأصول وعلم الكلام، فتكونت له بذلك شهرة عالية وجاه عريض ومنزلة رفيعة، وفي أثناء ذلك أخذ يعيش صراعاً باطنياً بينه وبين نفسه مما أدى إلى عزوفه عما هو في وميله إلى العزلة والتصوف، فرحل سنة 488هـ عن بغداد - وترك أخاه أحمد يتولى التدريس مكانه - وتوجه إلى الشام فنزل دمشق، ثم ذهب إلى بيت المقدس، واستمرت عزلته هناك قرابة عشر سنين، حيث رجع إلى بغداد وأقام زمناً يسيراً ثم ارتحل سنة 499هـ إلى نيسابور - بأمر من بعض سلاطينها - ليتولى الإمامة والتدريس في نظاميتها، ثم لم يلبث زمناً قصيراً حتى رجع إلى بلده طوس حيث بنى بجوار بيته مدرسة وخانقاه (2)
للصوفية، وأقبل على علوم الآخرة والحديث حتى توفي سنة 505هـ (3) .
_________
(1) توفي سنة 477هـ، انظر: العبر (2/336) ، والشذرات (3/354) .
(2) سبق التعريف بها (ص: 143) ..
(3) ذكر الغزالي جوانب مهمة من حياته في كتابه " المنقذ من الضلال " وهو من أهم المصادر ترجمته، انظره: (ص:77) وما بعدها - ت تحقيق صليبا عياد- وانظر: تبيين كذب المفتري (ص:291) ، المنتظم (9/168) ، وفيات الأعيان (4/216) ، المستفاد (ص:127) ، وسير أعلام النبلاء (19/322) ، وطبقات السبكي (6/191) ، والوافي (1/274) ، واتحاف السادة المتقين (1/6) ، والتاج المكلل (ص: 388) ، والطبقات العلية في مناقب الشافعية للواسطي [ترجمة الغزالي] طبعت ضمن كتاب الأعسم الفيلسوف الغزالي ص: 153-194) وغيرها، أما الكتب المعاصرة فكثيرة جداً.(2/622)
مؤلفات الغزالي:
تعددت كتب الغزالي ومؤلفاته، وبلغت من الكثرة والشهرة حداً كبيراً، وكل من ترجم له ذكر أسماء مؤلفاته، ومؤلفاته لكثرتها فهي أقسام:
- منها ما هو ثابت أنه من مؤلفاته.
- ومنها ما هو منحول منسوب إليه.
- ومنها ما هو مشكوك في نسبته إليه.
وقد قام محققاً المنقذ من الضلال بتعدادها، مع الإشارة إلى بعض ما هو منحول منها (1) ، كما قام عبد الرحمن بجوي بتأليف كتاب ضخم أفرده لدراسة مؤلفات الثابت منها والمشكوك فيه والمنحول (2) .. أما أشهر مؤلفات الغزالي الأشعرية فهي:
1- الأربعين في أصول الدين، وهذا الكتاب هو الجزء الثاني من كتابه الآخر " جواهر القرآن ".
2- قواعد العقائد - وكتابه العقيدة القدسية جزء منه - وقد ضم الغزالي قواعد العقائد إلى كتابه الآخر " إحياء علوم الدين " وهو ضمن المجلد الأول منه.
3- الاقتصاد في الاعتقاد.
4- تهافت الفلاسفة، نقض فيه أقوال الفلاسفة من منطلق أشعري.
_________
(1) انظر: مقدمة تحقيق المنقذ -صليبا عياد - (ص: 52-65) .
(2) كما أنه ذكر في آخر ملاحق تحوي نصوص بعض القدماء في تعداد مؤلفاته: انظر: مؤلفات الغزالي (ص: 469) ، وما بعدها، إضافة إلى نصوص في ترجمته من مصادر مختلفة.(2/623)
5- فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.
وللغزالي كتب أخرى كثيرة في أصول الفقه، والفقه، والفلسفة، والمنطق، والتصوف، وتفصيل الكلام حولها يضيق به هذا المقام، ولكن نشير إلى أهمها بالنسبة لمن يريد الإطلاع على فكر وأقوال الغزالي، فإضافة إلى كتبه الأشعرية السابقة هناك له.
6- المستصفى من علم الأصول، وأشهر ما فيه مقدمته المنطقية، ومباحثه الكلامية في أثنائه، وقد برر الغزالي فعل المتكلمين في كتبهم الأصولية حين خلطوا مع الأصول المباحث الكلامية بقوله: " وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم، فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة" (1) ، لكنه قال: " وبعد أن عرفناك إسرافهم في هذا الخلط فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شيء منه لأن الفطام عن المألوف شديد ... " (2) ، أما المقدمة المنطقية فالعجيب قوله فيها: " وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلاً " (3) ، وقد ألف كتابين آخرين مشهورين في المنطق هما: محك النظر، ومعيار العلم، وهما مطبوعان.
7 - المعارف العقلية، طبع بتحقيق عبد الكريم العثمان.
8 - مشكاة الأنوار، طبع عدة مرات منها طبعة بتحقيق أبي العلا عفيفي.
9- المقصد الأسني في شرح معاني أسماء الله الحسنى، طبع عدة مرات منها طبعة بعناية بسام الجابي.
_________
(1) المستصفى (ص: 17) - ط الجندي-.
(2) المصدر السابق (ص: 18) .
(3) المصدر نفسه (ص:19) ، وفي جواهر القرآن (ص:21) ، حين تحدث عن محك النظر ومعيار العلم - عبارة مشابهة -(2/624)
10- ميزان العمل، طبع عدة مرات، منها طبعة بتحقيق سليمان دنيا، وأخرى بتحقيق سليمان البواب.
11- المضنون به على غير أهله، وهذا الكتاب مثار جدل قديم وحديث حول نسبته إلى الغزالي، والمطلع على كتب الغزالي الأخرى - خاصة التي تجمع بين الفلسفة والتصوف - يترجح لديه صحة نسبته إليه - والله أعلم، وقد طبع الكتاب عدة مرات، آخرها بعناية وضبط رياض العبد الله.
12- المضنون الصغير، المسمى: الأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية، طبع ضمن القصور العوالي الجزء الثاني.
13- معارج القدس في مدارج معرفة النفس - ط مكتبة الجندي -.
14- قانون التأويل، طبع مع الكتاب السابق.
15- وهناك كتب في الرد على الباطنية ومنها الكتابان المشهوران: فضائح الباطنية، والقسطاس المستقيم، وهما مطبوعان.
16- إلجام العوام عن علم الكلام: طبع عدة مرات منها طبعة بتعليق وتصحيح محمد المعتصم بالله البغدادي.
17 - روضة الطالبين وعمدة السالكين - طبع بتصحيح محمد بخيت -.
18- الرسالة اللدنية - طبعت ضمن القصور العوالي الجزء الأول-.
19- إحياء علوم الدين، وهو أشهر كتبه وأهمها.
20- المنقذ من الضلال، ورسائل الغزالي (1) ، ولها أهمية كبر في معرفة حياته وأحواله.
_________
(1) ترجمت رسائل الغزالي من الفارسية إلى العربية بعنوان: فضائل الأنام من رسائل حجة الإسلام الغزالي، ترجمها الدكتور نور الدين آل علي، ط الدار التونسية 1972م، وهي رسائل متنوعة كتبها للملوك والوزراء والأمراء والفقهاء، وغالبها مما كتبه آخر عمره، ولها أهمية كبرى في معرفة آراء وأحوال الغزالي.(2/625)
وهناك كتب أخرى للغزال، قد يقع التردد كثيراً في نسبة بعضها إليه ومع ذلك فما سبق ذكره منها يمثل فكر وعقيدة الغزالي، وهي كتب تجمع بين المذهب الأشعري، والتصوف، والفلسفة.
منهج الغزالي ودوره في تطور المذهب الأشعري:
هذا الموضوع بحاجة إلى دراسات مستقلة، وقد كتبت حوله بحوث ودراسات عديدة تشعبت بأصحابها المناهج والنتائج (1) ، ولضيق المقام هنا نشير إلى الملاحظات التالية:
أولاً: يعتبر الغزالي أحد أعلام الأشاعرة والذين دافعوا عن المذهب الأشعري ضد مناوئيه من مختلق الطوائف، ولذلك سمي أحد أشهر كتبه الأشعرية بالاقتصاد في الاعتقاد ليكون مقتصداً ووسطاً كما يقول بين الحشوية من جهة والمعتزلة والفلاسفة من جهة أخرى (2) ، والغزالي لم يأتِ بجديد فيما يتعلق بمذهب الأشاعرة، بل جاءت كتبه واستدلالاته ملخصة عمن سبقه من أعلام الأشاعرة مع صياغة جديدة وأسلوب سهل، والملاحظ في مذهبه تركيزه على:
1- قوله بصحة إيمان المقلد - خلافاً للمشهور من مذهب جمهور الأشاعرة - بل يرى أن فئات من الناس آمنوا بالله وصدقوا برسله واعتقدوا الحق واشتغلوا بالعبادة أو الصناعة " فهؤلاء ينبغي أن يتركوا وما هم عليه، ولا تحرك عقائدهم بالاستحثاث على تعلم هذا العلم [أي علم الكلام بأدلته] ، فإن صاحب الشرع صلوات الله عليه لم يطالب العرب في مخاطبته إياهم بأكثر
_________
(1) منها على سبيل المثال: الأخلاق عند الغزالي، زكي مبارك، والحقيقة في نظر الغزالي، سليمان دنيا، والفيلسوف الغزال، إعادة تقويم لمنحني تطويره الروحي، عبد الأمير الأعسم، والغزالي: البارون كارادوفو، ترجمة عادل زعيتر= =ومنهج البحث عن المعرفة عند الغزال، فكتور سعيد باسيل، ومنهاج البحث عند الغزالي، عادل زعبوب، ومفهوم السببية عند الغزالي، أبو يعرب المرزوقي، وهناك دراسة مهمة عن الغزالي لحسام الألوسي، نشر فصلاً منها في كتابه دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي وعنوانه: الغزالي مشكل وحل، والمنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارات محمود زقزوق، وغيرها كثير جداً.
(2) انظر: الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 3) .(2/626)
من التصديق، ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان وعقد تقليدي أو بيقين برهاني " (1) ، وفي الأربعين يقول بعد ذكره عشرة أصول على وفق مذهب الأشاعرة: " ووراء هذه العقيدة الظاهرة رتبتان: إحدهما: معرفة أدلة هذه العقيدة الظاهرة من غير خوض على أسرارها، والثانية: معرفة أسرارها، ولباب معانيها، وحقيقة ظواهرها والرتبتان جميعاً ليستا واجبتين على جميع العوام، أعني أن نجاتهم في الآخرى غير موقوفة عليهما، ولا فوزهم موقوف عليهما " (2) ، وكتاب الأربعين من كتب الغزالي المتأخرة التي جمعت بين إيضاح المذهب الأشعري مع آرائه الأخيرة في مسائل التصوف والكشف والذوق.
2- تأكيده لإنكار السببية، وهي مسألة مشهورة في المذهب الأشعري، وقد قال بها الأشاعرة وأكدوها لأمرين:
الأول: إثبات المعجزات، التي هي في الحقيقة خوارق للعادات المعهودة، فحتى تربط هذه المعجزات بالله وقدرته بحيث يقلب العصا حيّة، ويشق القمر وغيرها من الأمور الخارقة لابد من ربط هذا بإنكار التلازم الذي يدعيه الفلاسفة وغيرهم بين السبب والمسبب (3) .
والثاني: إثبات قدرة الله الشاملة، وإبطال التولد الذي قال به المعتزلة، فالفاعل والخالق لكل شيء هو الله تعالى وهذا بناء على مذهبهم في القدر الذي يميل إلى الجبر (4) .
وقد شرح الغزالي هذه النظرية في معرض رده على الفلاسفة، وأطال
_________
(1) الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 8) .
(2) الأربعين في أصول الدين (ص: 20) .
(3) انظر: تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية (ص: 104) ، وكلامه مبني على كلام الغزالي في التهافت (ص: 236) .
(4) انظر: تهافت الفلاسفة (ص: 238-251) .(2/627)
فيها (1) ، فلما ألف معيار العلم - وهو متأخر عن مقاصد الفلاسفة والتهافت - ذكر دليل المجريات - كجزء من الأدلة اليقينية الصادقة (2) - قال: " فإن قال قائل: كيف تعتقدون هذا يقيناً، والمتكلمون شكوا فيه وقالوا: ليس الجز سبباً للموت، ولا الأكل سبباً للشبع، ولا النار علة للإحراق، ولكن الله تعالى يخلق الاحتارق والموت والشبع عند جريان هذه الأمور؟ قلنا: قد نبهنا على غور هذا الفصل وحقيقته في كتاب " تهافت الفلاسفة " والقدر المحتاج إليه الآن، إن المتكلم إذا أخبره بأن ولده جزت رقبته لم يشك في موته وليس في العقلاء من يشك فيه، وهو معترف بحصول الموت، وباحث عن وجه الاقتران، وأما النظر في أنه هل لزوم ضروري، ليس في الإمكان تغييره؟ أو هو يحكم جريان سنة الله تعالى لنفوذ مشيئته الأزلية التي لا تحتمل التبديل والتغيير، فهو نظر في وجه الاقتران، لا في نفس الاقتران، فليفهم هذا، وليعلم أن التشكك في موت من جزت رقبته وسواس مجرد، وأن اعتقاد موته يقين لا يستراب فيه " (3) ،وفي التهافت قال في جواب اعتراض " ولم ندع أن هذه الأمور واجبة، بل هي ممكنة، يجوز أن تقع، ويجوز أن لا تقع، واستمرار العادة بها، مرة بعد أخرى، يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسيخاً لا تنفك منه " (4) ،
وهذا النصوص تدل على أن فهم الغزالي للسببية ليس كما يتصوره بعض من ينتصر للفلسفة اليونانية (5) ، وليس أيضاً كما فهمه بعض أتباع الأشاعرة الذين أخذوا يشككون في حقائق الأشياء حتى إن بعضهم يقول: هذا ثوب إن شاء الله، ومع ذلك فالغزالي وإن استدرك على نفسه ما يبعد عنها تهمة إنكار السببية (6) ، إلا أن تأصيل هذه النظرية وشرحها كان له -
_________
(1) انظر: تهافت الفلاسفة (ص: 235) ، وما بعدها.
(2) انظر: معيار العلم (ص: 186) ، - ت سليمان دنيا -.
(3) معيار العلم (ص: 190-191) .
(4) تهافت الفلاسفة (ص: 245) ..
(5) كابن رشد انظر: تهافت التهافت (ص: 777-788) ، وانظر: مفهوم السببية عند الغزالي للمرزوقي (ص: 51-67) ، وانظر: ابن رشد والغزالي، التهافتان ليو حنا قنبر (ص: 31) .
(6) انظر: المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت (ص: 181-188) ، وتاريخ الفلسفة في الإسلام دي بور (ص: 338-339) ، تعليقات المترجم - ط الخامسة-.(2/628)
على ما أظن - تأثير كبير في الفكر الصوفي - بعد الغزالي - حين أصبحت الكرامات والخوارق المزعومة للأولياء مقبولة مهما كان فيها من مخالفة للشرع والعقل.
3- مجيئه بقانون التأويل الكلامي حين يتعارض - وبالأصح حين يتوهم التعارض - بين العقل والنقل، والغزالي وإن كان مسبوقاً إلى هذا القانون (1) ، إلا أنه ألف فيه رسالة مستقلة كانت على إثر أسئلة سألها أحد تلاميذه (2) ، وفي هذه الرسالة ذكر فرق الناس في هذه المسألة، ورجح قول الفرقة الخامسة التي قال عنها " هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول الجاعلة كل واحد منهما أصلاً مهماً، المنكرة لتعارض العقل والشرع، وكونه حقاً، ومن كذب العقل فقد كذب الشرع إذ بالعقل عرف صدق الشرع، ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي، والصادق والكاذب، وكيف يكذب العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل، وهؤلاء هم الفرقة المحقة، وقد نهجوا منهجاً قويماً.." (3) ، وبعد أن يذكر صعوبة هذا المسلك أوصى بعدة وصايا منها: " الوصية الثانية أن لا يكذب برهان العقل أصلاً، فإن العقل لا يكذب، ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع، فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي الكاذب، والشرع شاهد بالتفاصيل، والعقل مزكي الشرع" (4) ،
وقد تأثر بهذا القانون جمهرة الأشاعرة بعد الغزالي، ومن
_________
(1) من الفلاسفة ابن سينا، حيث يقول في الأضحوية في المعاد: " أما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد وهو أن الشرع والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة" (الأضحوية ص: 97 ت حسن عاصي) ، ومن المتكلمين الجويني في الإرشاد، انظر: (ص: 358-360) .
(2) وهو أبو بكر بن العربي، وفي المعيار المعرب (11/23-24) ، نقل نص جواب للغزالي على أحد أسئلة ابن العربي وهذا النص أخّر قانون التأويل للغزالي (ص: 345-346) ، وممن نبه إلى أن السائل ابن العربي ابن تيمية في الدرء (1/5) وانظر: الدراسة الواردة في مقدمة تحقيق قانون التأويل لابن العربي (ص: 244) .
(3) قانون التأويل للغزالي (ص: 238-239) ، - ط في ذيل معارج القدس - مكتبة الجندي.
(4) قانون التأويل للغزالي (ص: 240) ..(2/629)
أبرزهم تلميذه، أبو بكر بن العربي (1) ، والرازي (2) ، وغيرهم، وهذا القانون أصبح فيما بعد أحد ركائز العقيدة الأشعرية وأخطرها وأعظمها أثراً، ولذلك أفرده شيخ الإسلام ابن تيمية بمؤلفه الكبير " درء تعارض العقل والنقل ".
4- ومن أهم سمات منهج الغزالي أنه حول المعركة - التي كانت تدور فيما سبق بين الأشاعرة والمعتزلة - إلى معركة بين الأشاعرة والفلاسفة، وكتاب تهافت الفلاسفة يعتبره الأشاعرة بدءاً من الغزالي نفسه أحد الكتب المؤيدة لمذهبهم، وقد ألفه الغزالي في المرحلة التي كان فيها أستاذ المدرسة النظامية -الأشعرية- دون منازع (3) ، والذي ينبغي أن يلاحظ أمران:
أحدهما: أن الغزالي ناقش الفلاسفة بمختلف المناهج، ولذلك قال في المقدمة الثالثة في كتابه: " ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة، وظن أن مسالكهم نقية من التناقض، ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا دخول مدع مثبت، فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعاً بإلزامات مختلفة، فإلزامهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطوراً مذهب الواقفية، ولا أتنهض ذاباً عن مذهب مخصوص، بل أجعل الجميع ألباً واحداً عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد " (4) ، ومع ذلك فالغزالي غلب منهج الأشاعرة، واستفاد من منهجه السابق في الهروب من تحديد مذهبه الذي يؤمن به في القضايا المطروحة ولذلك قال في جواب أحد الاعتراضات عليه: " نقول: نحن لم نخض في هذا
_________
(1) انظر: كتابه قانون التأويل (ص: 452-576-646) ، وانظر: كتاب مع القاضي أبي بكر ابن العربي سعيد اعراب (ص: 43) .
(2) انظر: أساس التقديس للرازي (ص: 220-221) ، - ت السقا - و (ص:172-173) ، - ط الحلبي -.
(3) ولذلك قرر في كتابه التهافت مذهب الأشاعرة مثل قضية السببية، ومثل مسألة تأويل الصفات. انظر: (ص: 293) .
(4) تهافت الفلاسفة (ص: 82-83) ، - ت سليمان دنيا -.(2/630)
الكتاب خوض الممهدين، بل خوض الهادمين المعترضين، ولذلك سمينا الكتاب " تهافت الفلاسفة " لا تمهيداً لحق، فليس يلزمنا الجواب عن هذا" (1) .
والثاني: أن الغزالي ألف هذا الكتاب بعد دراسته للفلسفة ليستفيد منها ولا شك أنه تأثر بها أيما تأثر، أما رده عليها فبناء على العقيدة التي يظهرها للعوام -كما هو مذهبه في أن للإنسيان ثلاث عقائد - ولذلك قال في مقدمة التهافت بعد ذكره لانتشار أقوال الفلاسفة وإعجابهم بأنفسهم: " فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء انتدبت لتحرير هذا الكتاب، رداً على الفلاسفة القدماء " (2) ، وهذا يشبه موقفه من الباطنية -الذين انتشرت دعوتهم في زمنه انتشاراً عظيماً - يقول عنهم: " وكان قد نبغت نابغة التعليمية، وشاع بين الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق، فعن لي أن أبحث في مقالاتهم، لأطلع على ما في كنانتهم، ثم اتفق أن ورد على أمر جازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف حقيقة مذهبهم، فلم يسعني مدافعته " (3) ، ثم بين أن هذا الأمر جاء موافقاً لما في نفسه من معرفة مذهبهم - ليستفيد منه - فقال: " وصار ذلك مستحثاً من خارج ضميمة للباعث الأصلي من الباطن " (4) ، وهذا يوافق قوله في فضائح الباطنية: " فكانت المفاتحة بالاستخدام في هذا المهم في الظاهر نعمة أجابت قبل الدعاء، ولبت قبل النداء، وإن كانت في الحقيقة ضالة كنت أنشدها، وبغية كنت أقصدها" (5) .
فدراسة الغزالي لمذهب الباطنية جاء عن رغبة باطنة في الاستفادة مما قد يكون عندهم من معارف، وهذا يشبه ما فعله مع الفلاسفة، ومما يلاحظ أنه في رده على الباطنية انطلق من منطلق أشعري، وهذا واضح في كتابيه فضائح
_________
(1) تهافت الفلاسفة (ص:180) .
(2) المصدر نفسه (ص:75) .
(3) المنقذ من الضلال (ص: 118) ، - ت صليبا وعياد - والكتاب الذي ألفه: فضائح الباطنية انظره: (ص: 2-3) .
(4) المنقذ من الضلال (ص: 118) .
(5) فضائح الباطنية (ص: 3) .(2/631)
الباطنية (1) ، والقسطاس المستقيم (2) - الذي هو عبارة عن مناقشة ومحاورة بينه وبين أحد دعاة التعليم من الباطنية -، وهو بهذا الكتاب يحيل على كتابيه المنطقيين " محك النظر" و " معيار العلم" (3) .
فالغزالي ينطلق في ذلك من منطلق عقيدة العوام التي هي عقيدة الأشاعرة، ولذلك يقول في جواهر القرآن عن علم محاجة الكفار ومجادلتهم: " ومنه يتشعب علم الكلام المقصود لرد الضلالات والبدع وإزالة الشبهات، ويتكفل به المتكلمون، وهذا العلم شرحناه على طبقتين: سمينا الطبقة القريبة منهما الرسالة القدسية، والطبقة التي فوقها الاقتصاد في الاعتقاد، ومقصود هذا العلم حراسة عقيدة العوام من تشويش المبتدعة، ولا يكون هذا العلم ملياً (4) بكشف الحقائق، وبجنسه يتعلق الكتاب الذي صنفناه في تهافت الفلاسفة، والذي أوردناه في الرد على الباطنية في الكتاب الملقب بالمستظهري وفي كتاب حجة الحق، وقواصم الباطنية، وكتاب مفصل الخلاف في أصول الدين، ولهذا العلم آلة يعرف بها طريق المجادلة، بل طرق المحاجة بالبرهان الحقيقي، وقد أودعناه كتاب " محك النظر "، وكتاب معيار العلم على وجه لا يلفي مثله للفقهاء والمتكلمين ولا يثق بحقيقة الحجة والشبهة من لم يحظ بهما علماً" (5) .
ثانياً: هناك مشكلة تتعلق بحقيقة مذهب الغزالي، هل هو المذهب الأشعري الذي تبناه ظاهراً ودافع عنه كثيراً (6) ، أم له مذهب آخر يذكره
_________
(1) انظر: - من هذا الكتاب - (ص: 154) حول تأويل الصفات.
(2) بنى الغزالي كتابه هذا على المنطق، وغير في الألفاظ فقط حيث أتى بألفاظ من القرآن، وقد اعترف بذلك (ص: 67) ، بل وصرح أنه قد قال بهذه الموازين من سبقه من الأمم الخالية، أما منطلقه الأشعري فواضح انظر: (ص: 55-56) حيث أشار إلى دليل حدوث الأجسام وفسر به الأفوال في قصة إبراهيم عليه السلام، (ص: 94-95) ، مسألة الصلاح والأصلح.
(3) انظر: القسطاس المستقيم (ص: 71-75) .
(4) كذا، ومثله في -ط الجندي - (ص: 24) ، ولعل صوابها: مليئاً، أو ملماً.
(5) جواهر القرآن (ص: 21) .
(6) انظر في أسباب تبنيه للمذهب الأشعري، منهج البحث عن المعرفة عند الغزالي، فكتور سعيد باسل (ص: 237-239) .(2/632)
لخاصته وأومأ إليه في كثير من كتبه؟ يقول الغزالي في كتابه ميزان العمل الذي ألفه بعد معيار العلم، لأن السعادة عنده إنما تكون بالعلم والعمل (1) - ميزان العمل من كتب الغزالي الصوفية - يقول في آخره: " لعلك تقول: كلامك في هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفية، وإلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد، فما الحق من هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقاً فكيف يتصور هذا؟ وإن كان بعضه حقاً فما ذلك الحق؟ فيقال لك: إذا عرفت حقيقة المذهب لا تنفعك قط، إذ الناس فيه فريقان:
فريق يقول: المذهب اسم مشترك لثلاث مراتب:
أحدهما: ما يتعصب له في المباهاة والمناظرات.
والأخرى: ما يسار به في التعليمات والإرشادات.
والثالثة: ما يعتقده الإنسان في نفسه مما انكشف له من النظريات".
ثم شرح هذه المراتب بقوله: " ولكل كامل ثلاثة مذاهب بهذا الاعتبار: فأما المذهب بالاعتبار الأول: هو نمط الآباء والأجداد، ومذهب المعلم، ومذهب البلد الذي فيه النشوء، وذلك يختلف بالبلاد والأقطار، ويختلف بالمعلمين، فمن ولد في بلد المعتزلة أو الأشعرية أو الشفعوية أو الحنفية، انغرس في نفسه منذ صباه التعصب له، والذب دونه، والذم لما سواه ... المذهب الثاني: ما ينطبق في الإرشاد والتعليم على من جاء مستفيداً مسترشداً، وهذا لا يتعين على وجه واحد بل يختلف بحسب المسترشد، فيناظر كل مسترشد بما يحتمله فهمه.. المذهب الثالث: ما يعتقد الرجل سراً بينه وبين الله عزوجل لا يطلع عليه غير الله تعالى ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الإطلاع على ما اطلع، أو بلغ رتبة يقبل الاطلاع عليه ويفهمه " (2) ، ثم ذكر قول الفريق الثاني الذين
_________
(1) انظر: معيار العلم (ص: 348) ، آخر الكتاب.
(2) ميزان العمل (ص: 405-408) ، - ت سليمان دنيا -.(2/633)
يقولون المذهب واحد، ثم ذكر أن الأولين يوافقون هؤلاء على أنهم لو سئلوا عن المذهب لم يجز أن يذكروا إلا مذهباً واحداً (1) .
إن هذا الكلام يفيد في معرفة وتحليل ذلك التناقض العجيب في كتبه.
ثالثاً: الشك عند الغزالي.
وقد احتلت هذه المسألة مكاناً بارزاً لدارسي الغزالي، بل وكثرت المقارانات بينه وبين ديكارت (2) ، صاحب الفلسفة المعروفة التي قال فيها: " أنا أفكر، إذن فأنا موجود " (3) ، بل أثبت أحد الباحثين أن ديكارت قد اطلع على كتاب الغزالي "المنقذ من الضلال" وأنه اقتبس منه فكرة الشك (4) ، والكلام حول شك الغزالي وكنهه وإلى أي مدى كان يطول، ولكن الثابت أن منهج الشك عند الغزالي تمثل في أمرين:
أحدهما: عملي، وهو ما عايشه وسطره بوضوح في كتابه المنقذ من الضلال (5) ، ويلاحظ هنا أن الغزالي يشرح ما جرى له، ولذلك سماه داءً ومرضاً.
_________
(1) انظر: ميزان العمل (ص: 408-409) .
(2) اسمه رينه ديكارت، فيلسوف فرنسي ولد سنة 1596م، وتوفي سنة 1650، يعرف بأنه أبو الفلسفة الحديثة، من أهم كتبه: مقال عن المنهج، وتأملات في الفلسفة الأولى، وهما مترجمان ومطبوعان، انظر: في فلسفته وترجمته: أعلام الفلسفة الحديثة، رفقي زاهر (ص: 43) ، وقصة الفلسفة الحديثة (1/65) ، وتاريخ الفلسفة الحديثة: يوسف كرم (ص:58) .
(3) مقال عن المنهج لديكارت (ص: 51) ، ترجمة محمود الخضيري، وانظر أيضاً: كتابه الآخر: التأملات في الفلسفة الأولى (ص: 93) ، وما بعدها ترجمة عثمان أمين، وانظر: ديكارت والعقلانية: جنفياف لويس (ص: 37) ، ترجمة عبده الحلو، ودراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة يحيى هويدي (ص: 5) ، وما بعدها.
(4) انظر: المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت (ص: 17-20) - ط الثالثة -.
(5) انظر: المنقذ (ص: 81-87) .(2/634)
والثاني: شك منهجي، وهو الذي أشار إليه في بعض كتبه، ومن ذلك قوله: " ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعاً، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال، نعوذ بالله من ذلك " (1) ، وهذا الشك هو الذي يذكر في أول واجب على المكلف، هل هو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك، وإذا كان الأول والثاني قد أخذ به بعض الأشاعرة فإن الثالث - وهو الشك- إنما يؤثر القول به عن أبي هاشم الجبائي المعتزلي (2) .
رابعاً: تصوف الغزالي وفلسفته.
بقدر اشتهار الغزالي بأشعريته، اشتهر بتصوفه، ولذلك فهو يمثل مرحلة خطيرة من مراحل امتزاج التصوف بالمذهب الأشعري حتى كاد أن يكون جزءاً منه، ولكن ما نوعية التصوف الذي اعتنقه الغزالي بقوة حتى قال فيه في المنقذ - بعد شرح مطول لمحنته ورحلته وعزلته -: " ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به: إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطريق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به " ثم يشرح ويوضح فيقول:
_________
(1) ميزان العمل للغزالي (ص:153) ، - ت البواب -، وانظر: الإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالعقل للفيومي (ص: 107) .
(2) انظر: الشامل (ص: 121) ، وأبكار الأفكار (ج- 1 - ل31 أ) ، وشرح المواقف (1/278) ، ودرء التعارض (7/419) .(2/635)
" وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟ وهذا آخرها، بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها، وهي على التحقيق أول الطريقة، وما قبل ذلك إلا كالدهليز للسالك إليه " - ثم يوضح أكثر فيقول: " ومن أول الطريقة تبتدي المكاشفات والمشاهدات حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز منه.." (1) ، ما نوع تصوف الغزالي الذي يقول فيه هذا الكلام - خاصة المقطع الأخير منه -؟.
لقد كان التصوف قبله متمثلاً بتصوف المحاسبي، ثم القشيري، وقد سبق حقيقة تصوفهما، وما يحمله من بدع مخالفة للسنة، فهل كان تصوف الغزالي من هذا النوع، أم كان تصوفاً من نوع آخر.
إن هناك من يدافع عن الغزالي، ويرى أن تصوفه تصوف سني، وأنه هاجم الفلاسفة والمتكلمين لنصرة طريق الصوفية (2) ، ولكن المطلع على كتبه - وما ألفه منها للخاصة - كمشكاة الأنوار، والمعارف العقلية، وميزان العمل، ومعارج القدس، وروضة الطالبين، والمقصد الأسني، وجواهر القرآن، والمضنون به على غير أهله، يرى شيئاً آخر غير التصوف المعروف.
_________
(1) المنقذ من الضلال (ص: 139-140) .
(2) مثل عبد الحليم محمود وتلامذته، انظر: مقدمات تحقيق المنقذ من الضلال، عبد الحليم محمود (ص: 17) ، وما بعدها، (ص: 58) ، وما بعدها، وانظر: التوحيد الخالص أو الإسلام والعقل، عبد الحليلم محمود (ص: 174-179) ، وانظر: الفلسفة الإسلامية بين التقليد والابتكار: عبد الرحمن عميرة (ص: 48) ، وما بعدها، والإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالشك (ص: 177) ، وما بعدها.(2/636)
إن مفتاح معرفة شخصية الغزالي أمران:
أولهما: ما سبق نقله عنه من أن لكل رجل كامل ثلاث عقائد، إحداها ما يتظاهر به أمام العوام ويتعصب، والثانية: ما يسار به في التعليم والإرشاد - وهو يختلف بحسب حال المسترشد الطالب -،والثالثة: ما يعتقده الإنسان في نفسه ولا يطلع عليه إلا من هو شريكه في المعرفة، إذن الغزالي -حتماً - يخفي جوانب خاصة وسرية من عقيدته.
والثاني: جمع أقواله ولمحاته - التي يشير دائماً إلى سريتها والضن بها - ثم مقارنتها بأقوال من سبقه من الفلاسفة - المائلين إلى الإشراق والتصوف - كابن سينا وغيره، وقد تنبه إلى هذا المنهج بعض الباحثين (1) ، ونحن هنا نذكر نماذج فقط من أقواله التي تدل على أن تصوفه كان تصوفاً فلسفياً إشراقياً، وإن هجومه على الفلاسفة في التهافت لم يكن إلا بمنهج النوع الأول من العقيدة -لكل إنسان - وهي العقيدة التي يتعصب لها ويذب عنها:
1- يقول الغزالي في كتابه: إحياء علوم الدين عن علم المكاشفة: " هو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها، فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتتضح إذ ذلك، حتى تحصل المعرفة الحقيقة بذات الله سبحانه، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي، ومعنى الشيطان، ومعنى لفظ الملائكة والشياطين، وكيفية معاداة الشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض..الخ" ثم يقول عن هذه الكشوفات التي تحصل: " وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب، ولا يتحدث بها
_________
(1) من هؤلاء سليمان دنيا في كتابه: الحقيقة في نظر الغزالي (ص:149) ، وما بعدها، وحسام الألوسي في كتابه عن الغزالي، انظر: دراسات (ص: 237) ، وما بعدها.(2/637)
من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله، وهو المشارك فيه، علي سبيل المذاكرة، وبطريق الإسرار وهذا هو العلم الخفي ... " (1) ، إن هذا الكلام الخطير يقوله الغزالي في أهم وأشهر كتاب من كتبه، وقد ألفه في أواخر عمره بعد عزلته ورجوعه إلى بغداد، ومما يلاحظ أن لفتات كثيرة تشبه هذا الكلام جاءت متفرقة في هذا الكتاب الكبير (2) .
2- ويقول في كتابه مشكاة الأنوار وهو من كتبه التي ألفها للمخاصة ولذلك يقول في مقدمته: " أما بعد فقد سألتني أيها الأخ الكريم.. أن أثبت إليك أسرار الأنوار الإلهية، مقرونة بتأويل ما يشير إليه ظواهر الآيات المتلوة والأخبار المروية "، ثم يقول: " ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقى صعباً تنخفض دون أعاليه أعين الناظرين، وقرعت باباً مغلقاً لا يفتح إلا للعلماء الراسخين، ثم ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر ... " (3) ، وبعد أن يذكر تأويلات باطنية وفلسفية عجيبة يقسم الناس - في آخر الكتاب - إلى أصناف، ومنهم المحجوبون بمحض الأنوار، وهؤلاء أيضاً أصناف وبعد أن يذكر الصنف الأول والثاني يقول: " والصنف الثالث ترقوا عن هؤلاء وقالوا: إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين، وعبادة له وطاعة من عبد من عباده يسمى: ملكاً، نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر في الأنوار المحسوسة، فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك، ويكون الرب تعالى محركاً للكل بطريق الأمر، لا بطريق المباشرة، ثم في تقسيم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الأفهام ولا يحتمله هذا الكتاب"، ثم يقول: " فهؤلاء الأصناف كلهم محجوبون بالأنوار المحضة، وإنما الواصلون صنف رابع تجلى لهم أن هذا " المطاع " موصوف بصفة
_________
(1) إحياء علوم الدين (1/20-21) .
(2) انظر على سبيل المثال: (1/100،104، 4/241) .
(3) مشكاة الأنوار (ص:39) ، - ت أبو العلا عفيفي-.(2/638)
تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ لسر لا يحتمل هذا الكتاب كشفه، وإن نسبة هذا المطاع نسبة الشمس في الأنوار ... " (1) ، وهذا المطاع هو العقل الأول عند الفلاسفة (2) .
3- وفي معارج القدس - وهو من كتبه الفلسفية الخاصة - ينهج فيه نهج الفلاسفة في بحوثهم عن النفس الإنسانية، ويذكر خصائص النبوة، وأنها ثلاث: قوة التخيل وقوة العقل، وقوة النفس (3) - وهذا نفسه هو كلام الفلاسفة الذين يقولون: إن النبوة مكتسبة -، ويفسر الغزالي آية النور {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} (النور:35) ، بقوله: " فالمشكاة مثل العقل الهيولاني، فكما أن المشكاة مستعدة لأن يوضع فيها النور فكذلك النفس بالفطرة مستعدة لأن يفيض عليها نور العقل ... ثم إذا حصلت له المعقولات فهو نور على نور، نور العقل المستفاد على نور العقل الفطري، ثم هذه الأنوار مستفادة من سبب هذه الأنوار بالنسبة إليه كالسرج بالنسبة إلى نار عظيمة طبقت الأرض، فتلك النار هي العقل الفعال المفيض لأنوار المعقولات على الأنفس البشرية " (4) ، وهذا لا يحتاج إلى تعليق، ومنها يتضح ما يقصده الغزالي بالأسرار، والتي يقول فيها في كتابه المعارف العقلية: " وهذا القدر الذي كتبنا وذكرنا في هذه الأوراق نخبة أسرار غير مكتوبة، وإشارات مكنونة ورموز مستورة.. ولا يحل أن يوضع الورد بين الحمير، ويطرح الدر في فم الخنزير" (5) ، وقد صرح في كتابه هذا بأمور غريبة وعجيبة حقاً (6) .
4- ويقول الغزالي في كتابه - جواهر القرآن - " وهذه العلوم الأربعة أعني علم الذات والصفات والأفعال وعلم المعاد أودعنا من أوائله ومجامعه القدر
_________
(1) مشكاة الأنوار (ص: 91) ، وانظر: رسائل الغزالي (ص:54-55) .
(2) انظر: دراسات في الفكر الفلسفي، الألوسي (ص: 248) .
(3) انظر: معارج القدس في مدارج معرفة النفس (ص: 151) ، -ط مكتبة الجندي -.
(4) معارج القدس في مدارج معرفة النفس (ص: 164-165) .
(5) المعارف العقلية (ص: 108-109) ،- ت عبد الكريم العثمان -.
(6) انظر: المصدر السابق (ص: 27-34، 66، 70) .(2/639)