وما روي : ( إن ابن عوف يدخل الجنة حبوًا ) كلام موضوع / لا أصل له، فإنه قد ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن أفضل الأمة أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم والخلفاء الأربعة أفضل الأمة . وقد ثبت في الصحاح أنه قال : ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ) وثبت في الصحاح أيضًا أنه قال : ( احتجت الجنة والنار فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار : مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون ) وقوله : ( وقفت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون، إلا أهل النار فقد أمر بهم إلى النار ) ، هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) .(2/252)
فهذه الأحاديث فيها معنيان : أحدهما : أن الجنة دار المتواضعين الخاشعين، لا دار المتكبرين الجبارين سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فإنه قد ثبت في الصحيح : أنه ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) ، و ( لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) . فقيل : يارسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك ؟ فقال : ( لا، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس ) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يحب التجمل في اللباس /الذي لا يحصل إلا بالغنى، وأن ذلك ليس من الكبر، وفي الحديث الصحيح : ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : فقير مختال، وشيخ زان، وملك كذاب ) وكذلك الحديث المروي : ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، حتى يكتب عند الله جبارًا . وما يملك إلا أهله ) . فعلم بهذين الحديثين : أن من الفقراء من يكون مختالًا؛ لا يدخل الجنة . وأن من الأغنياء من يكون متجملا غير متكبر؛ يحب الله جماله، مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) . ومن هذا الباب : قول هرقل لأبي سفيان : أفضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . قال : وهم أتباع الأنبياء . وقد قالوا لنوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] فهذا فيه أن أهل الرئاسة والشرف يكونون أبعد عن الانقياد إلى عبادة الله وطاعته؛ لأن حبهم للرئاسة يمنعهم ذلك، بخلاف المستضعفين . وفي هذا المعنى الحديث المأثور ـ إن كان محفوظًا : ( اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين ) فالمساكين ضد المتكبرين، وهم الخاشعون لله، المتواضعون لعظمته، الذين لا يريدون علوًا في الأرض . سواء كانوا أغنياء أو فقراء .(2/253)
/ومن هذا الباب : أن الله خيره : بين أن يكون عبدًا رسولًا وبين أن يكون نبيًا ملكا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا؛ لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده؛ لا لأجل حظه، وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه، وإن كان مباحًا . كما قيل لسليمان : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] ففي هذه الأحاديث : أنه اختار العبودية والتواضع . وإن كان هو الأعلى هو ومن اتبعه . كما قال : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } [ آل عمران : 139 ] ، وقال : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ولم يرد العلو وإن كان قد حصل له .
وقد أعطى مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره، وإنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا ينفع، بل قد يضر وقد صبر مع هذا من اللأواء والشدة على مالم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين وأفضل مقامات الصابرين، وكان سابقًا في حالي الفقر والغنى، لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما، كبعض أصحابه وأمته . المعنى الثاني : أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء . كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء، فهذا في هؤلاء أكثر وفي هؤلاء أكثر، لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر، فالسالم منها أقل . ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط؛ ولهذا/صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء، لأن المظنة فيهم أكثر . فهذا هذا والله أعلم .(2/254)
فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته، وكذلك لما رأوا المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر، اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر وليس كذلك، بل الفقر هنا عدم المال، والمسكنة خضوع القلب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم : يستعيذ من فتنة الفقر، وشر فتنة الغني، وقال بعض الصحابة : ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها ) ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وكان في المهاجرين أغنياء، هم من أفضل المهاجرين، مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ماصاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه .
فصل
) الفرق بين الحقائق الأمرية الدينية والحقائق الإيمانية الخلقية القدرية الكونية )(2/255)
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ له الخلق والأمر كما قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] فهو ـ سبحانه ـ خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات /التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] ، وقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] .(2/256)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ) ، قلت : ثم أي ؟ قال : ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) ، قلت : ثم أي ؟ قال : ( أن تزني بحليلة جارك ) فأنزل الله تصديق ذلك : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الفرقان : 68 : 70 ] .
وأمر ـ سبحانه ـ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهي عنه كما قال في سورة سبحان : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [ الإسراء : 83 ] وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق / ونهى عن التبذير، وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال : { كٍلٍَ ذّلٌكّ كّانّ سّيٌَئٍهٍ عٌنًدّ رّبٌَكّ مّكًرٍوهْا } وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر .
والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائمًا، قال الله تعالى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور : 31 ] .(2/257)
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده ، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) . وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ) وفي السنن عن ابن عمر قال : كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول : ( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة ) أو قال : ( أكثر من مائة مرة ) .(2/258)
وقد أمر الله ـ سبحانه ـ عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثًا ويقول : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) /كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه، وقد قال تعالى : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [ آل عمران : 17 ] ، فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار . وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المزمل : 20 ] وكذلك قال في الحج : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 198، 199 ] بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته : { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ التوبة : 117، 118 ] وهي آخر ما نزل من القرآن .(2/259)
وقد قيل : إن آخر سورة نزلت قوله تعالى : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة النصر ] ، فأمره تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار . وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه صلى الله عليه وسلم كان/ يقول في ركوعه وسجوده : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ) يتأول القرآن . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، لا إله إلا أنت ) .
وفي الصحيحين : أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : يارسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال : ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) .
وفي السنن عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال : ( قل : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم . قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك ) .(2/260)
فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب؛ بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائمًا . قال الله تبارك وتعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 72، 73 ] ، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لن يدخل الجنة أحد بعمله ) ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) وهذا لا ينافي قوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ] فإن الرسول نفي باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب .
وقول من قال : إذا أحب الله عبدًا لم تضره الذنوب، معناه : أنه إذا أحب عبدًا ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره .(2/261)
وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 133 : 135 ]
ومن ظن أن [ القدر ] حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } قال الله تعالى ردًا عليهم : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 148 : 149 ] .(2/262)
ولو كان [ القدر ] حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات، وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعًا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه أن لا يذم أحدًا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوى عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيرًا وبين من يفعل معه شرًا، وهذا ممتنع طبعًا وعقلا وشرعًا، وقد قال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] ، وقال تعالى : { ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] ، وقال تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] ، أي : مهملًا لا يؤمر ولا ينهى .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( احتج آدم وموسى، قال موسى : يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبًا عليَّ قبل أن أخلق { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] ، قال : بأربعين سنة، قال : فلم تلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ قال : فحج آدم موسى ) أي : غلبه بالحجة .(2/263)
وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان :
[ طائفة ] كذبت به لما ظنوا أنه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر .
و [ طائفة ] شر من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون : القدر/ حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا . ومن الناس من قال : إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل .
ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبًا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضًا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] . والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب .
وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ التغابن : 11 ] ، قال ابن مسعود : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة، مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك فعليهم أن يصبروا/ لما أصابهم، وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر .(2/264)
و [ الصبر ] واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، و [ الرضا ] قد قيل : إنه واجب، وقيل : هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سببًا لتكفير خطاياه، ورفع درجاته وإنابته وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين، وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به .
وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها، ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي/ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) .
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه(2/265)
تبارك وتعالى أنه قال : ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي ،كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ياعبادي ،لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
/فأمر ـ سبحانه ـ بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شرًا فلا يلومن إلا نفسه .(2/266)
وكثير من الناس يتكلم بلسان [ الحقيقة ] ، ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته . ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقًا لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ [ الشريعة ] يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله؛ فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر . وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطئ . هذا إذا كان عالمًا عادلًا وإلا ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضي بغيره فهو في النار ) . وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ( إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع، فمن/ قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ) فقد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار . وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له بالاتفاق . وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول إن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وفرق أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بين النوعين .(2/267)
فلفظ [ الشرع، والشريعة ] إذا أريد به الكتاب و السنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقًا إلى الله، غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا . فلم يتابعه باطنًا وظاهرًا فهو كافر . ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطًا من وجهين : أحدهما : أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولو/ أدركه من هو أفضل من الخضر : كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليًا، ولهذا قال الخضر لموسى : ( أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه ) وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا . الثاني : أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفًا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفًا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرًا، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله . قال : ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان ـ قال له ـ : إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم . وإلا فلا تقتلهم . رواه البخاري، وأما الإحسان إلى اليتيم بلاعوض والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفًا شرع الله .(2/268)
وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالمًا وقد يكون عادلا، وقد يكون صوابًا وقد يكون خطًا، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه : كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن/ سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا؛ أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم . وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك، فهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، و بين ما يكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده .
فصل
قد كثر تنازع الناس : أيهما أفضل [ الفقير الصابر،أو الغنى الشاكر ] ؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعرفة، والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية، والعامة والرؤساء وغيرهم . وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب [ التمام لكتاب الروايتين والوجهين ] لأبيه فيها عن أحمد روايتين :
إحداهما : أن الفقير الصابر أفضل . وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحق بن شاقلا، ووالده القاضي أبو يعلى، ونصرها هو .(2/269)
والثانية : أن الغني الشاكر أفضل، اختاره جماعة منهم ابن قتيبة . و [ القول الأول ] يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه / والصلاح، من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره و [ القول الثاني ] يرجحه طائفة منهم، كأبي العباس بن عطاء [ أبو العباس بن عطاء : هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمىّ البغدادى، الزاهد العابد المتأله، حدث عن : يوسف بن موسى القطان، وعنه محمد بن على بن حُبيش، وقال : كان له في كل يوم ختمة، وكان ينام في اليوم والليلة ساعتين، وقيل عنه : إنه فقد عقله ثمانية عشر عاما، ثم ثاب إليه عقله، وتوفي سنة تسع وثلاثمائة من ذى القعدة، [ سير أعلام النبلاء 14/255، 256 ] . وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعًا، وهو غلط .
وفي المسألة [ قول ثالث ] وهو الصواب أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقًا، ولا هذا أفضل من هذا مطلقًا بل أفضلهما أتقاهما . كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، وقال عمر بن الخطاب : الغنى والفقر مطيتان، لا أبالى أيتهما ركبت، وقد قال تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] وهذا القول اختيار طائفة منهم الشيخ ابن حفص السهروردي، وقد يكون هذا أفضل لقوم، في بعض الأحوال . وهذا أفضل لقوم في بعض الأحوال، فإن استويا في سبب الكرامة استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما الآخر في سببها ترجح عليه، هذا هو الحكم العام .(2/270)
والفقر والغنى حالان يعرضان للعبد باختياره تارة وبغير اختياره أخرى كالمقام والسفر، والصحة والمرض، والإمارة والائتمار، والإمامة والائتمام . وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر، بل قد يكون هذا أفضل في حال، وهذا في حال، وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في [ شرح السنة ] للبغوى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى : ( وإن من عبادي من / لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادى، إنى بهم خبير بصير ) .
وفي هذا المعنى ما يروى : ( إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب ) ، ويروى في مناجاة موسى نحو هذا . ذكره أحمد في الزهد . فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) .
وكما أن الأقوال في المسألة [ ثلاثة ] فالناس [ ثلاثة أصناف ] : غنى، وهو من ملك ما يفضل عن حاجته، وفقير، وهو من لا يقدر على تمام كفايته، وقسم ثالث : وهو من يملك وفق كفايته، ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيًا : كإبراهيم الخليل وأيوب، وداود وسليمان، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين .(2/271)
/وفيهم من كان فقيرًا : كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا وعلى بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسي ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق، من النبيين والصديقين، وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران : الغنى تارة والفقر أخرى؛ وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء : كنبينا صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر .
والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط؛ فإن الله في القرآن لم يفضل أحدا بفقر، ولا غنى، كما لم يفضل أحدًا بصحة ولا مرض، ولا إقامة ولا سفر، ولا إمارة ولا ائتمار، ولا إمامة ولا ائتمام، بل قال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وفضلهم بالأعمال الصالحة : من الإيمان ودعائمه، وشعبه كاليقين والمعرفة، ومحبة الله والإنابة إليه، والتوكل عليه ورجائه، وخشيته وشكره والصبر له . وقال في آية العدل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } [ النساء : 135 ] .
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يعدلون بين المسلمين . غنيهم وفقيرهم في أمورهم . ولما طلب بعض الأغنياء من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الفقراء نهاه الله عن ذلك . وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } الآية [ الأنعام : 52 ] ، /وقال : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف : 28 ] . ولما طلب بعض الفقراء من النبي صلى الله عليه وسلم مالا يصلح له نهاه عن ذلك، وقال : ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا . وإني أحب لك ما أحب لنفسي . لا تأمرن على اثنين . ولا تولين مال يتيم ) .(2/272)
وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغير ذلك . و من اختص منهم بفضل عرف النبيصلى الله عليه وسلم له ذلك الفضل، كما قنت للقراء السبعين، وكان يجلس مع أهل الصفة، وكان أيضًا لعثمان وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد ابن بشر ونحوهم، من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء، وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء . وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد، وابن المبارك ومالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، في معاملتهم للأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء .
وفي الأئمة كالثوري ونحوه من كان يميل إلى الفقراء، ويميل على الأغنياء مجتهدًا في ذلك طالبًا به رضا الله، حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره، ورجع عنه .
/وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء : كالزهري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزناد، وأبي يوسف ومحمد وأناس آخرين، وتكلم فيهم من تكلم بسبب ذلك . ولهم في ذلك تأويل واجتهاد، والأول هوالعدل والقسط، الذي دل عليه الكتاب والسنة .
ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم معتدلة فإنه قد روى : أن الفقراء قالوا له : يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها ولا نتصدق فقال : ( ألا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم، ولم يلحقكم من بعدكم إلا من عمل مثل عملكم ؟ ) فعلمهم التسبيح المائة في دبر كل صلاة . فجاؤوا إليه فقالوا : إن إخواننا من الأغنياء سمعوا ذلك ففعلوه، فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) وهذه الزيادة في صحيح مسلم من مراسيل أبي صالح، فهذا فيه تفضيل للأغنياء الذين عملوا مثل عمل الفقراء من العبادات البدنية بالقلب والبدن، وزادوا عليهم بالإنفاق في سبيل الله ونحوه من العبادات المالية .(2/273)
وثبت عنه أيضًا في الصحيح أنه قال : ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ـ خمسمائة عام ) ، وفي رواية : ( بأربعين خريفًا ) فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين، وكلاهما حق، فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على /قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب، فيسبق في الدخول، وهو أحوج إلى سرعة الثواب، لما فاته في الدنيا من الطيبات . والغني يحاسب، فإن كان محسنًا في غناه غير مسىء وهو فوقه، رفعت درجته عليه بعد الدخول . وإن كان مثله ساواه، وإن كان دونه نزل عنه . وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير .
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم في [ حوضه ] : الذي طوله شهر وعرضه شهر : ( ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أول الناس، علي وردا فقراء المهاجرين : الدنسين ثيابا، الشُّعث رؤوسًا، الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم وحاجته تختلج في صدره لا يجد لها قضاء ) فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا من اللأواء والشدة، وهذا موضع ضيافة عامة فإنه يقدم الأشد جوعًا في الإطعام، وإن كان لبعض المستأخرين نوع إطعام ليس لبعض المتقدمين لاستحقاقه ذلك ببذله عنده أو غير ذلك، وليس في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح من هذين الحديثين وفيها الحكم الفصل : إن الفقراء لهم السبق والأغنياء لهم الفضل، وهذا قد يترجح تارة، وهذا كالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغيرحساب ومع كل ألف سبعين ألفًا، وقد يحاسب بعدهم من إذا دخل رفعت درجته عليهم .(2/274)
وما روي : ( إن ابن عوف يدخل الجنة حبوًا ) كلام موضوع / لا أصل له، فإنه قد ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن أفضل الأمة أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم والخلفاء الأربعة أفضل الأمة . وقد ثبت في الصحاح أنه قال : ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ) وثبت في الصحاح أيضًا أنه قال : ( احتجت الجنة والنار فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار : مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون ) وقوله : ( وقفت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون، إلا أهل النار فقد أمر بهم إلى النار ) ، هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) .(2/275)
فهذه الأحاديث فيها معنيان : أحدهما : أن الجنة دار المتواضعين الخاشعين، لا دار المتكبرين الجبارين سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فإنه قد ثبت في الصحيح : أنه ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) ، و ( لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) . فقيل : يارسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك ؟ فقال : ( لا، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس ) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يحب التجمل في اللباس /الذي لا يحصل إلا بالغنى، وأن ذلك ليس من الكبر، وفي الحديث الصحيح : ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : فقير مختال، وشيخ زان، وملك كذاب ) وكذلك الحديث المروي : ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، حتى يكتب عند الله جبارًا . وما يملك إلا أهله ) . فعلم بهذين الحديثين : أن من الفقراء من يكون مختالًا؛ لا يدخل الجنة . وأن من الأغنياء من يكون متجملا غير متكبر؛ يحب الله جماله، مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) . ومن هذا الباب : قول هرقل لأبي سفيان : أفضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . قال : وهم أتباع الأنبياء . وقد قالوا لنوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] فهذا فيه أن أهل الرئاسة والشرف يكونون أبعد عن الانقياد إلى عبادة الله وطاعته؛ لأن حبهم للرئاسة يمنعهم ذلك، بخلاف المستضعفين . وفي هذا المعنى الحديث المأثور ـ إن كان محفوظًا : ( اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين ) فالمساكين ضد المتكبرين، وهم الخاشعون لله، المتواضعون لعظمته، الذين لا يريدون علوًا في الأرض . سواء كانوا أغنياء أو فقراء .(2/276)
/ومن هذا الباب : أن الله خيره : بين أن يكون عبدًا رسولًا وبين أن يكون نبيًا ملكا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا؛ لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده؛ لا لأجل حظه، وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه، وإن كان مباحًا . كما قيل لسليمان : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] ففي هذه الأحاديث : أنه اختار العبودية والتواضع . وإن كان هو الأعلى هو ومن اتبعه . كما قال : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } [ آل عمران : 139 ] ، وقال : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ولم يرد العلو وإن كان قد حصل له .
وقد أعطى مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره، وإنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا ينفع، بل قد يضر وقد صبر مع هذا من اللأواء والشدة على مالم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين وأفضل مقامات الصابرين، وكان سابقًا في حالي الفقر والغنى، لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما، كبعض أصحابه وأمته . المعنى الثاني : أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء . كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء، فهذا في هؤلاء أكثر وفي هؤلاء أكثر، لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر، فالسالم منها أقل . ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط؛ ولهذا/صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء، لأن المظنة فيهم أكثر . فهذا هذا والله أعلم .(2/277)
فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته، وكذلك لما رأوا المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر، اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر وليس كذلك، بل الفقر هنا عدم المال، والمسكنة خضوع القلب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم : يستعيذ من فتنة الفقر، وشر فتنة الغني، وقال بعض الصحابة : ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها ) ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وكان في المهاجرين أغنياء، هم من أفضل المهاجرين، مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ماصاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه .
فصل
) الفرق بين الحقائق الأمرية الدينية والحقائق الإيمانية الخلقية القدرية الكونية )(2/278)
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ له الخلق والأمر كما قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] فهو ـ سبحانه ـ خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات /التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] ، وقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] .(2/279)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ) ، قلت : ثم أي ؟ قال : ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) ، قلت : ثم أي ؟ قال : ( أن تزني بحليلة جارك ) فأنزل الله تصديق ذلك : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الفرقان : 68 : 70 ] .
وأمر ـ سبحانه ـ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهي عنه كما قال في سورة سبحان : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [ الإسراء : 83 ] وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق / ونهى عن التبذير، وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال : { كٍلٍَ ذّلٌكّ كّانّ سّيٌَئٍهٍ عٌنًدّ رّبٌَكّ مّكًرٍوهْا } وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر .
والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائمًا، قال الله تعالى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور : 31 ] .(2/280)
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده ، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) . وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ) وفي السنن عن ابن عمر قال : كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول : ( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة ) أو قال : ( أكثر من مائة مرة ) .(2/281)
وقد أمر الله ـ سبحانه ـ عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثًا ويقول : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) /كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه، وقد قال تعالى : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [ آل عمران : 17 ] ، فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار . وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المزمل : 20 ] وكذلك قال في الحج : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 198، 199 ] بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته : { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ التوبة : 117، 118 ] وهي آخر ما نزل من القرآن .(2/282)
وقد قيل : إن آخر سورة نزلت قوله تعالى : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة النصر ] ، فأمره تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار . وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه صلى الله عليه وسلم كان/ يقول في ركوعه وسجوده : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ) يتأول القرآن . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، لا إله إلا أنت ) .
وفي الصحيحين : أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : يارسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال : ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) .
وفي السنن عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال : ( قل : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم . قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك ) .(2/283)
فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب؛ بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائمًا . قال الله تبارك وتعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 72، 73 ] ، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لن يدخل الجنة أحد بعمله ) ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) وهذا لا ينافي قوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ] فإن الرسول نفي باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب .
وقول من قال : إذا أحب الله عبدًا لم تضره الذنوب، معناه : أنه إذا أحب عبدًا ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره .(2/284)
وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 133 : 135 ]
ومن ظن أن [ القدر ] حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } قال الله تعالى ردًا عليهم : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 148 : 149 ] .(2/285)
ولو كان [ القدر ] حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات، وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعًا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه أن لا يذم أحدًا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوى عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيرًا وبين من يفعل معه شرًا، وهذا ممتنع طبعًا وعقلا وشرعًا، وقد قال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] ، وقال تعالى : { ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] ، وقال تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] ، أي : مهملًا لا يؤمر ولا ينهى .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( احتج آدم وموسى، قال موسى : يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبًا عليَّ قبل أن أخلق { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] ، قال : بأربعين سنة، قال : فلم تلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ قال : فحج آدم موسى ) أي : غلبه بالحجة .(2/286)
وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان :
[ طائفة ] كذبت به لما ظنوا أنه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر .
و [ طائفة ] شر من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون : القدر/ حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا . ومن الناس من قال : إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل .
ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبًا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضًا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] . والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب .
وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ التغابن : 11 ] ، قال ابن مسعود : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة، مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك فعليهم أن يصبروا/ لما أصابهم، وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر .(2/287)
و [ الصبر ] واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، و [ الرضا ] قد قيل : إنه واجب، وقيل : هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سببًا لتكفير خطاياه، ورفع درجاته وإنابته وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين، وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به .
وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها، ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي/ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) .
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه(2/288)
تبارك وتعالى أنه قال : ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي ،كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ياعبادي ،لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
/فأمر ـ سبحانه ـ بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شرًا فلا يلومن إلا نفسه .(2/289)
وكثير من الناس يتكلم بلسان [ الحقيقة ] ، ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته . ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقًا لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ [ الشريعة ] يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله؛ فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر . وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطئ . هذا إذا كان عالمًا عادلًا وإلا ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضي بغيره فهو في النار ) . وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ( إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع، فمن/ قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ) فقد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار . وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له بالاتفاق . وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول إن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وفرق أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بين النوعين .(2/290)
فلفظ [ الشرع، والشريعة ] إذا أريد به الكتاب و السنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقًا إلى الله، غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا . فلم يتابعه باطنًا وظاهرًا فهو كافر . ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطًا من وجهين : أحدهما : أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولو/ أدركه من هو أفضل من الخضر : كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليًا، ولهذا قال الخضر لموسى : ( أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه ) وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا . الثاني : أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفًا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفًا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرًا، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله . قال : ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان ـ قال له ـ : إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم . وإلا فلا تقتلهم . رواه البخاري، وأما الإحسان إلى اليتيم بلاعوض والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفًا شرع الله .(2/291)
وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالمًا وقد يكون عادلا، وقد يكون صوابًا وقد يكون خطًا، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه : كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن/ سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا؛ أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم . وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك، فهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، و بين ما يكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده
وسئل :
أيما أولى : معالجة ما يكره الله من قلبك مثل : الحسد والحقد والغل والكبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب، وغير ذلك، مما يختص بالقلب من درنه، وخبثه ؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة : من الصلاة والصيام وأنواع القربات : من النوافل والمنذورات مع وجود تلك الأمور في قلبه ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب ـ رحمه الله ـ :(2/292)
الحمد لله . من ذلك ما هو عليه واجب : وأن للأوجب فضل وزيادة . كما قال تعالى فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم : ( ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ) . ثم قال : ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ملك، والأعضاء جنوده . فإذا خبث الملك خبثت جنوده، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ) وكذلك أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد . وإذا كان المقدم هو الأوجب، سواء سمى /باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يسمى باطنًا أوجب مثل ترك الحسد والكبر فإنه أوجب عليه من نوافل الصيام، وقد يكون ما سمى ظاهرًا أفضل : مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد ترك بعض الخواطر التي تخطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها، وكل واحد من عمل الباطن والظاهر يعين الآخر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتورث الخشوع، ونحو ذلك من الآثار العظيمة : هي أفضل الأعمال والصدقة . والله أعلم .
/ وسئل :
هل قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( زدني فيك تحيرًا ؟ ) ، وقال بعض العارفين : أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة . قيل : من أين تقع الحيرة ؟ قيل : من معنيين :(2/293)
أحدهما : كثرة اختلاف الأحوال عليه . والآخر : شدة الشر، وحذر الإياس . وقال الواسطي : نازلة تنزل بقلوب العارفين بين الإياس والطمع لا تطمعهم في الوصل فيستريحون، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحون، وقال بعضهم : متى أصل إلى طريق الراجين، وأنا مقيم في حيرة المتحيرين ؟ . وقال محمد بن الفضل العارف : كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة . وقال : أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا . وقال الجنيد : انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة . وقال ذو النون [ ذو النون المصري هو : ثوبان بن إبراهيم، وقيل : فيض بن أحمد، وقيل : فيض بن إبراهيم النوبي الأخميمي، يكني أبا الفيض، ولد في أواخر أيام المنصور . روى عن مالك، والليث، وابن لهيعة وغيرهم، وروى عنه أحمد بن صحيح الفيومي، وربيعة بن محمد الطائي وغيرهم، وقلَّ ما روى من الحديث، ولا كان يتقنه . وقال الدارقطني : روى عن مالك أحاديث فيها نظر . وكان واعظًا . قال ابن يونس : كان عالمًا فصيحًا حكيما . توفى في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومئتين . [ سير أعلام النبلاء : 11/532 : 536 ] . : غاية العارفين التحير . وأنشد بعضهم :
قد تحيرت فيك خذ بيدي ** يا دليلا لمن تحير فيه
فبينوا لنا القول في ذلك بيانًا شافيًا ؟
/فأجاب :(2/294)
الحمد لله، هذا الكلام المذكور : ( زدني فيك تحيرًا ) من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وإنما يرويه جاهل أو ملحد، فإن هذا الكلام يقتضي أنه كان حائرا، وأنه سأل الزيادة في الحيرة، وكلاهما باطل، فإن الله هداه بما أوحاه إليه وعلمه ما لم يكن يعلم، وأمره بسؤال الزيادة من العلم بقوله : { رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114 ] وهذا يقتضي أنه كان عالمًا، وأنه أمر بطلب المزيد من العلم، ولذلك أمر هو والمؤمنون بطلب الهداية في قوله : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] ، وقد قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، فمن يهدي الخلق كيف يكون حائرًا ؟ والله قد ذم الحيرة في القرآن في قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ } [ الأنعام : 71 ] .(2/295)
وفي الجملة، فالحيرة من جنس الجهل والضلال، ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق علمًا بالله وبأمره، وأكمل الخلق اهتداء في نفسه، وهديا لغيره، وأبعد الخلق عن الجهل والضلال . قال تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } [ النجم : 1-3 ] ، وقال تعالى : / { الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ إبراهيم : 1 ] ، وقال تعالى : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ } إلى قوله : { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] فالله قد هدى المؤمنين به، وقال تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الحديد : 28 ] فقد كفل الله لمن آمن به أن يجعل له نورًا يمشي به . كما قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } [ الأنعام : 122 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، ومثل هذا كثير في القرآن والحديث .(2/296)
ولم يمدح الحيرة أحد من أهل العلم والإيمان، ولكن مدحها طائفة من الملاحدة : كصاحب [ الفصوص ] ابن عربي وأمثاله من الملاحدة، الذين هم حيارى، فمدحوا الحيرة وجعلوها أفضل من الاستقامة، وادعوا أنهم أكمل الخلق، وأن خاتم الأولياء منهم يكون أفضل في العلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله منهم، وكانوا في /ذلك . كما يقال فيمن قال : [ فخر عليهم السقف من تحتهم ] لا عقل ولا قرآن، فإن الأنبياء أقدم، فكيف يستفيد المتقدم من المتأخر، وهم عند المسلمين واليهود والنصارى ليسوا أفضل من الأنبياء، فخرج هؤلاء عن العقل والدين : دين المسلمين واليهود والنصارى . وهؤلاء قد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع .
ولهم في : [ وحدة الوجود والحلول والاتحاد ] كلام من شر كلام أهل الإلحاد، وأما غير هؤلاء من الشيوخ الذين يذكرون الحيرة : فإن كان الرجل منهم يخبر عن حيرته، فهذا لايقتضي مدح الحيرة، بل الحائر مأمور بطلب الهدى، كما نقل عن الإمام أحمد أنه علم رجلا أن يدعو يقول : يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين .
فأما الذي قال : أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة، فقد يريد بذلك معنى صحيحًا مثل أن يريد : أن الطالب السالك يكون حائرًا قبل حصول المعرفة والهدى، فإن كل طالب للعلم والهدى هو قبل حصول مطلوبه في نوع من الحيرة، وقوله : آخرها الحيرة، قد يراد به أنه لا يزال طالب الهدى والعلم، فهو بالنسبة إلى ما لم يصل إليه حائر، وليس في ذلك مدح الحيرة، ولكن يراد به أنه لابد أن يعترى الإنسان نوع من الحيرة التي يحتاج معها إلى العلم والهدى .
/وقوله : والحيرة من معنيين :(2/297)
أحدهما : كثرة اختلاف الأحوال . والآخر : شدة الشر، وحذر الإياس، إخبار عن سلوك معين، فإنه ليس كل سالك يعتريه هذا، ولكن من السالكين من تختلف عليه الأحوال، حتى لا يدري ما يقبل وما يرد وما يفعل وما يترك، والواجب على من كان كذلك دوام الدعاء لله سبحانه وتعالى، والتضرع إليه والاستهداء بالكتاب والسنة .
وكذلك بشدة الشر وحذر الإياس، فإن في السالكين من يبتلى بأمور من المخالفات يخاف معها أن يصير إلى اليأس من رحمة الله، لقوة خوفه وكثرة المخالفة عند نفسه، ومثل هذا ينبغي أن يعلم سعة رحمة الله، وقبول التوبة من عباده وفرحه بذلك .
وقول الآخر : نازلة تنزل بقلوب العارفين بين اليأس والطمع، فلا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا، فيقال : هذا أيضًا حال عارض لبعض السالكين، ليس هذا أمرًا لازمًا لكل من سلك طريق الله، ولا هو أيضًا غاية محمودة ولكن بعض السالكين يعرض له هذا . كما يذكر عن الشبلي [ الشِّبْليُّ : قيل : اسمه دلف بن جحدر، وقيل : جعفر بن يونس، شيخ الطائفة، أبو بكر، الشبلي البغدادي . أصله من الشبلية قرية . ومولده بسامراء . كان فقيهًا عارفًا بمذهب مالك، وكتب الحديث عن طائفة . وقال الشعر، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن، لكنه كان يحصل له جفاف دماغ وسكر . فيقول أشياء يعتذر عنه . توفى ببغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة . عن نيف وثمانين سنة . [ سير أعلام النبلاء 51/367 : 369 ] ، أنه كان ينشد في هذا المعنى :
/أظلت علينا منك يومًا سحابة ** أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها
فلا غيمها يجلو فييأس طامع ** ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها(2/298)
وصاحب هذا الكلام إلى أن يعفو الله عنه ويغفر له مثل هذا الكلام أحوج منه إلى أن يمدح عليه أو يقتدى به فيه، ومثل هذا كثير قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع، لما تكلمنا على ما يعرض لطائفة من كلام فيه معاتبة لجانب الربوبية، وإقامة حجة عليه بالمجنون المتحير، وإقامة عذر المحب، وأمور تشبه هذا، قد تحيز من قال بموجبها إلى الكفر والإلحاد، إذ الواجب الإقرار لله بفضله وجوده وإحسانه، وللنفس بالتقصير والذنب . كما في الحديث الصحيح : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) .
وفي الحديث الصحيح الإلهي : ( يقول الله تعالى : يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ) . وفي الحديث الصحيح : / ( يقول الله : من تقرب إليَّ شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعَا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) وفي الحديث الصحيح : ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ) وقد ثبت : أن الله تعالى كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وقد ثبت من حكمته ورحمته وعدله ما يبهر العقول؛ لأن هذه المسألة تتعلق بأصول كبار من مسائل [ القدر ] و [ الأمر ] و [ الوعد ] و [ الوعيد ] و [ الأسماء والصفات ] قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع .(2/299)
والمقصود هنا : الكلام على ما ذكر عن هؤلاء الشيوخ، فقول القائل : لا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا . هي حال عارض لشخص قد تعلقت همته بمطلوب معين وهو يتردد فيه بين اليأس والطمع، وهذا حال مذموم، لأن العبد لا ينبغي له أن يقترح على الله شيئًا معينًا، بل تكون همته فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور . فمتى أعين على هذه الثلاثة جاء بعد ذلك من المطالب : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . ولو تعلقت همته بمطلوب فدعا الله به فإن الله يعطيه إحدى خصال ثلاث : إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها .
ولفظ [ الوصول ] لفظ مجمل؛ فإنه ما من سالك إلا وله غاية /يصل إليها . وإذا قيل : وصل إلى الله، أو إلى توحيده أو معرفته أو نحو ذلك، ففي ذلك من الأنواع المتنوعة والدرجات المتباينة ما لا يحصيه إلا الله تعالى .
ويأس الإنسان أن يصل إلى ما يحبه الله ويرضاه من معرفته وتوحيده كبيرة من الكبائر، بل عليه أن يرجو ذلك ويطمع فيه . لكن من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف من شىء هرب منه، وإذا اجتهد واستعان بالله تعالى ولازم الاستغفار والاجتهاد فلا بد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال، وإذا رأى أنه لا ينشرح صدره ولا يحصل له حلاوة الإيمان ونور الهداية فليكثر التوبة والاستغفار وليلازم الاجتهاد بحسب الإمكان، فإن الله يقول : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وعليه بإقامة الفرائض ظاهرًا وباطنًا، ولزوم الصراط المستقيم مستعينًا بالله، متبرئًا من الحول والقوة إلا به .(2/300)
ففي الجملة ليس لأحد أن ييأس، بل عليه أن يرجو رحمة الله كما أنه ليس له ألا ييأس، بل عليه أن يخاف عذابه . قال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 57 ] . قال بعضهم : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو /حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد .
وأما قول القائل : متى أصل إلى طريق الراجين ؟ وأنا مقيم في حيرة المتحيرين؛ فهذا إخبار منه عن حال مذموم هو فيها، كما يخبر الرجل عن نقص إيمانه، وضعف عرفانه، وريب في يقينه، وليس مثل هذا مما يطلب، بل هو مما يستعاذ بالله منه .
وأما قول محمد بن الفضل : أنه قال : العارف كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة . فهذا قد يراد به أنه كلما انتقل إلى مقام من المعرفة واليقين حصل له تشوق إلى مقام لم يصل إليه من المعرفة، فهو حائر بالنسبة إلى ما لم يصل إليه دون ما وصل إليه .
وقوله : أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا، أي أطلبهم لزيادة العلم والمعرفة؛ فإن كثرة علمه ومعرفته توجب له الشعور بأمور لم يعرفها بعد، بل هو حائر فيها طالب لمعرفتها والعلم بها، ولا ريب أن أعلم الخلق بالله قد قال : ( لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) والخلق ما أتوا من العلم إلا قليلًا .
وما نقل عن [ الجنيد ] أنه قال : انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة؛/فهذا ما أعرفه من كلام الجنيد، وفيه نظر، هل قاله ؟ ! ولعل الأشبه أنه ليس من كلامه المعهود، فإن كان قد قال هذا فأراد عدم العلم بما لم يصل إليه، لم يرد بذلك أن الأنبياء والأولياء لم يحصل لهم يقين ومعرفة وهدى وعلم، فإن الجنيد أجل من أن يريد هذا، وهذا الكلام مردود على من قاله .(2/301)
لكن إذا قيل : إن أهل المعرفة مهما حصلوا من المعرفة واليقين والهدى فهناك أمور لم يصلوا إليها فهذا صحيح . كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو حاتم في صحيحه : ( اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي ) قال : ( من قال هذا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا ) فقد أخبر أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده وهذه لا يعلمها ملك ولا بشر .
فإذا أراد المريد أن عقول العقلاء لم تصل إلى معرفة مثل هذه الأمور فهذا صحيح، وأما إذا أراد أن العقلاء ليس عندهم علم ولا يقين بل حيرة وريب، فهذا باطل قطعًا .
وما ذكر عن [ ذي النون ] في هذا الباب، مع أن ذا النون قد وقع منه كلام أنكر عليه، وعزره الحارث بن مسكين، وطلبه /المتوكل إلى بغداد واتهم بالزندقة، وجعله الناس من الفلاسفة، فما أدري هل قال هذا أم لا ؟ بخلاف الجنيد فإن الاستقامة والمتابعة غالبة عليه، وإن كان كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ثم معصوم من الخطأ غير الرسول، لكن الشيوخ الذين عرف صحة طريقتهم علم أنهم لا يقصدون ما يعلم فساده بالضرورة من العقل والدين . وهذا قدر ما احتملته هذه الورقة، والله أعلم .
فصل
وأما قول القائل لمن أنكر عليه : أنت شرعي، فكلام صحيح، فإن أراد بذلك أن الشرع لا يتبعه، أو لا يجب عليه اتباعه، وأنا خارج عن اتباعه، فلفظ الشرع قد صار له في عرف الناس ( ثلاث معان ) : الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل .(2/302)
/فأما الشرع المنزل : فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة، وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه، وأفضل أولياء الله أكملهم اتباعًا له، ومن لم يلتزم هذا الشرع، أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل .
وأما المؤول فهو ما اجتهد فيه العلماء من الأحكام، فهذا من قلد فيه إمامًا من الأئمة ساغ ذلك له، ولا يجب على الناس التزام قول إمام معين .
وأما الشرع المبدل فهو الأحاديث المكذوبة،والتفاسير المقلوبة،والبدع المضلة التي أدخلت في الشرع وليست منه، والحكم بغير ما أنزل الله . فهذا ونحوه لا يحل لأحد اتباعه .
وإنما حكم الحكام بالظاهر . والله تعالى يتولى السرائر، وحكم الحاكم لا يحيل الأشياء عن حقائقها . فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) فهذا قول إمام الحكام،وسيد ولد آدم .
/وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم : فإن أصاب فله أجران،وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) . وقال : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة . رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس بجهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ) .
ومن خرج عن الشرع الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم ظانًا أنه متبع للحقيقة . فإنه مضاه للمشركين المكذبين للرسل، ولفظ [ الحقيقة ] يقال : على [ حقيقة كونية ] و [ حقيقة بدعية ] و [ حقيقة شرعية ] .
فـ [ الحقيقة الكونية ] مضمونها الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شىء وربه ومليكه . وهذا مما يجب أن يؤمن به، ولا يجوز أن يحتج به، بل لله علينا الحجة البالغة . فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر عن المعاصي فعذره غير مقبول .(2/303)
وأما [ الحقيقة البدعية ] فهي سلوك طريق الله سبحانه وتعالى، مما يقع في قلب العبد من الذوق والوجد، والمحبة والهوى، من غير اتباع الكتاب والسنة، كطريق النصارى، فهم تارة يعبدون غير الله، وتارة يعبدون بغير أمر الله . كالنصارى المشركين الذين اتخذوا أحبارهم / ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وابتدعوا الرهبانية فأشركوا بالله مالم ينزل به سلطانًا، وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله . وأما دين المسلمين فكما قال الله تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، وقال تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الملك : 2 ] ، قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه، قالوا : وما أخلصه وأصوبه ؟ . قال : إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل . وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه : ( اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا ) .
وأما [ الحقيقة الدينية ] وهي تحقيق ما شرعه الله ورسوله، مثل الإخلاص لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والشكرلله، والصبر لحكم الله، والحب لله ورسوله، والبغض في الله ورسوله، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فهذا حقائق أهل الإيمان، وطريق أهل العرفان .
سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه
عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ وتعلق كل منهم بسبب؛ واستند إلى قول قيل . فمنهم من هو مكب على حضور السماعات المحرمة التي تعمل بالدفوف التي بالجلاجل والشبابات المعروفة في هذا الزمان . ويحضرها المردان والنسوان ويستند في ذلك إلى دعوى جواز حضور السماع عند الشافعي وغيره من الأئمة .(2/304)
فأجاب : أما السماعات المشتملة على الغناء والصفارات والدفوف المصلصلات : فقد اتفق أئمة الدين أنها ليست من جنس القرب والطاعات بل ولو لم يكن على ذلك كالغناء والتصفيق باليد والضرب بالقضيب والرقص ونحو ذلك فهذا وإن كان فيه ما هو مباح وفيه ما هو مكروه وفيه ما هو محظور أو مباح للنساء دون الرجال .
فلا نزاع بين أئمة الدين أنه ليس من جنس القرب والطاعات والعبادات ولم يكن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وغيرهم من مشايخ الدين يحضرون مثل هذا السماع لا بالحجاز ولا مصر ولا الشام ولا العراق ولا خراسان . لا في زمن الصحابة والتابعين ولا تابعيهم . لكن حدث بعد ذلك : فكان طائفة يجتمعون على ذلك ويسمون الضرب بالقضيب على جلاجل ونحوه [ التغبير ] .(2/305)
قال الحسن بن عبد العزيز الحراني : سمعت الشافعي يقول : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين فإن القلب إذا تعود سماع القصائد والأبيات والتذ بها حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات فيستغني بسماع الشيطان عن سماع الرحمن . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) وقد فسره الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما بأنه من الصوت فيحسنه بصوته ويترنم به بدون التلحين المكروه وفسره ابن عيينة وأبو عبيد وغيرهما بأنه الاستغناء به وهذا وإن كان له معنى صحيح فالأول هو الذي دل عليه الحديث فإنه قال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به ) وفي الأثر : ( إن العبد إذا ركب الدابة أتاه الشيطان وقال له : تغن فإن لم يتغن . قال له : تمن ) فإن النفس لا بد لها من شيء في الغالب تترنم به . فمن لم يترنم بالقرآن ترنم بالشعر . وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعارفين والعالمين . قال الله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } الآية [ مريم : 58 ] . وقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ } الآية [ المائدة : 83 ] . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الآيتين [ الإسراء : 107 ] وقال : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الآية [ الزمر : 23 ] . وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية [ الأنفال : 2 ] . وهذا [ السماع ] هو الذي شرعه الله للمؤمنين في الصلاة وخارج الصلاة وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والناس يستمعون .(2/306)
ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى وهو يقرأ . فجعل يستمع لقراءته . وقال : ( مررت بك البارحة وأنت تقرأ . فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا ) أي : لحسنته تحسينا . وكان عمر يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون لقراءته . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود : ( اقرأ علي القرآن . فقال : أقرأ عليك وعليك أنزل قال : إني أحب أن أسمعه من غيري . فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } ؟ [ النساء : 41 ] فقال : حسبك فنظرت فإذا عيناه تذرفان بالدمع ) فهذا هو السماع الذي يسمعه سلف الأمة وقرونها المفضلة . وخيار الشيوخ إنما يقولون بهذا السماع . وأما الاستماع إلى القصائد الملحنة والاجتماع عليها . فأكابر الشيوخ لم يحضروا هذا السماع كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي وأمثالهم من المتأخرين : كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان وأمثال هؤلاء المشايخ : فإنهم لم يكونوا يحضرون هذا السماع وقد حضره طائفة من الشيوخ وأكابرهم ثم تابوا منه ورجعوا عنه . وكان الجنيد - رحمه الله تعالى - لا يحضره في آخر عمره . ويقول : من تكلف السماع فتن به ومن صادفه السماع استراح به أي من قصد السماع صار مفتونا وأما من سمع بيتا يناسب حاله بلا اقتصاد فهذا يستريح به . والذين حضروا السماع المحدث الذي جعله الشافعي من إحداث الزنادقة لم يكونوا يجتمعون مع مردان ونسوان ولا مع مصلصلات وشبابات وكانت أشعارهم مزهدات مرققات . فأما [ السماع ] المشتمل على منكرات الدين فمن عده من القربات استتيب فإن تاب وإلا قتل . وإن كان متأولا جاهلا بين له خطأ تأويله وبين له العلم الذي يزيل الجهل . هذا من كونه طريقا إلى الله .(2/307)
وأما كونه محرمًا على من يفعله على وجه اللهو واللعب لا على وجه القربة إلى الله فهذا فيه تفصيل فأما المشتمل على الشبابات والدفوف المصلصلة فمذهب الأئمة الأربعة تحريمه . وذكر أبو عمرو بن الصلاح أن هذا ليس فيه خلاف في مذهب الشافعي فإن الخلاف إنما حكي في اليراع المجرد مع أن العراقيين من أصحاب الشافعي لم يذكروا في ذلك نزاعا ولا متقدمة الخراسانيين وإنما ذكره متأخرو الخراسانيين . وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف على وجه الذم لهم وأن الله معاقبهم . فدل هذا الحديث على تحريم المعازف . والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها . ولهذا قال الفقهاء : أن من أتلفها فلا ضمان عليه إذا أزال التالف المحرم وإن أتلف المالية ففيه نزاع ومذهب أحمد المشهور عنه . ومالك أنه لا ضمان في هذه الصور أيضًا وكذلك إذا أتلف دنان الخمر وشق ظروفه وأتلف الأصنام المتخذة من الذهب كما أتلف موسى عليه السلام العجل المصنوع من الذهب وأمثال ذلك . وسئل عمن يؤاخي النسوان ويظهر شيئا من جنس الشعبذة؛ كنقش شيء من القطن أو الخرقة باللاذن أو بغير ذلك أو يمسك النار مباشرة بكفه أو بأصابعه بلا حائل بينه وبينها . إلخ . فأجاب : وأما مؤاخاة النساء وإظهار الإشارات المذكورة؛ فهي من أحوال إخوان الشياطين وأصحاب هذه الإشارات ليس فيهم ولي لله بل هم بين حال شيطاني ومحال بهتاني من حال إبليس ومحال تلبيس . وهؤلاء أصل حالهم أن الشياطين تنزل على من يعمل ما يحبه الشيطان من الكذب والفجور فإذا خرج أحدهم عن العقل والدين وصار من المتهوكين - الذين يطيعون الشيطان ويعصون الرحمن . وله شخير ونخير كأصوات الحمير يحضر أحدهم السماع ويؤاخون النسوان ويتخذون الجيران ويرقصون كالقرود وينقرون في صلاتهم الركوع والسجود .(2/308)
يبغضون سماع القرآن واتباع شريعة الرحمن - تنزلت عليهم الشياطين التي تنزل على كل أفاك أثيم؛ فمنهم من ترفعه في الهواء ومنهم من تدخله النار ومنهم من يمشي ومعه ضوء يريه أن ذلك كرامات ومنهم من يستغيث بالشيخ ويخاطب من يستغيث بالشيخ حتى يرى أن ذلك كرامة للشيخ ومنهم من يحضر طعاما وفاكهة وحلوى إلى أمور أخرى قد عرفناها وعرفنا من وقعت له هذه الأمور وأضعافها . فإذا تاب الرجل والتزم دين الإسلام وصلى صلاة المسلمين وتاب عما حرمه رب العالمين واعتاض بسماع القرآن عن سماع الشيطان ذهبت تلك الأحوال الشيطانية فإن قوي إيمانه حصلت له مقامات الصالحين وإلا كفاه أن يكون من أهل جنة النعيم وهذا بين يعرف المسلم أن هذه الأحوال شيطانية لا كرامات إيمانية . وسئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة من الفساد ومنهم من يقول : إن غاية التحقيق وكمال سلوك الطريق ترك التكليف . بحيث أنه إذا ألزم بالصلاة يقوم ويقول : خرجنا من الحضرة ووقفنا بالباب . فأجاب : أما من جعل كمال التحقيق الخروج من التكليف . فهذا مذهب الملاحدة من القرامطة والباطنية ومن شابههم من الملاحدة المنتسبين إلى علم أو زهد أو تصوف أو تزهد يقول : أحدهم إن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة فإذا حصلت زال عنه التكليف ومن قال : هذا فإنه كافر مرتد باتفاق أئمة الإسلام فإنهم متفقون على أن الأمر والنهي جار على كل بالغ عاقل إلى أن يموت قال تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] . قال الحسن البصري : لم يجعل الله لعمل المؤمن غاية دون الموت؛ وقرأ هذه الآية . و [ اليقين ] هنا ما بعد الموت .(2/309)
كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [ المدثر : 46، 47 ] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( لما مات عثمان بن مظعون : أما عثمان فإنه أتاه اليقين من ربه ) وقد سئل الجنيد بن محمد - رحمه الله تعالى - عمن يقول : إنه وصل من طريق البر إلى أن تسقط عنه الأعمال . فقال : الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء ولقد صدق الجنيد - رحمه الله - فإن هذه كبائر وهذا كفر ونفاق والكبائر خير من الكفر والنفاق . وقول الواحد من هؤلاء : خرجنا من الحضرة إلى الباب كلمة حق أريد بها باطل فإنهم خرجوا من حضرة الشيطان إلى باب الرحمن كما يحكى عن بعض شيوخ هؤلاء : أنهم كانوا في سماع فأذن المؤذن فقام إلى الصلاة . فقال : كنا في الحضرة فصرنا إلى الباب ولا ريب أنه كان في حضرة الشيطان فصار على باب الرحمن أما كونه أنه كان في حضرة الله فصار على بابه؛ فهذا ممتنع عند من يؤمن بالله ورسوله فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( بأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد ) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) . وفي الصحيح عن ابن مسعود . عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة على مواقيتها ) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته ) وآخر شيء وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته الصلاة وكان يقول : ( جعلت قرة عيني في الصلاة ) وكان يقول : ( أرحنا يا بلال بالصلاة ) ولم يقل أرحنا منها فمن لم يجد قرة عينه وراحة قلبه في الصلاة فهو منقوص الإيمان . قال الله تعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] .(2/310)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) .
وهذا باب واسع لا ينكره من آمن بالله ورسوله .
سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن [ السماع ]
فأجاب :
[ السماع ] الذي أمر الله به ورسوله، واتفق عليه سلف الأمة ومشائخ الطريق : هو سماع القرآن، فإنه سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين، قال سبحانه وتعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 107 : 109 ] .(2/311)
وقال تعالي : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 2-4 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] .
وقال سبحانه وتعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] ، وهذا كثير في القرآن .(2/312)
وكما أثنى سبحانه وتعالى على هذا السماع، فقد ذم المعرضين عنه، كما قال : { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [ الفرقان : 73 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } [ المدثر : 49، 50 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ الكهف : 57 ] ، وقال : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 22، 23 ] ، وقال سبحانه وتعالى [ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ُ } [ لقمان : 7 ] .
وهذا كثير في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين يمدحون من يقبل على هذا السماع ويحبه ويرغب فيه، ويذمون من يعرض عنه ويبغضه، ولهذا شرع الله للمسلمين في صلاتهم ولطسهم، شرع سماع المغرب، والعشاء الآخر . وأعظم سماع في الصلوات سماع الفجر الذي قال الله فيه : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [ الإسراء : 78 ] ، وقال عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات أن ما قال واقع(2/313)
وهو مستحب لهم خارج الصلوات، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه خرج على أهل الصفة وفيهم واحد يقرأ وهم / يستمعون، فجلس معهم، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : يا أبا موسى،ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى وهو يقرأ : فجعل يستمع لقراءته، وقال : ( لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير داود ) ، وقال : ( يا أبا موسى،لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك ) فقال : لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرًا . أي : حسنته لك تحسينًا .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) ، ( زينوا القرآن بأصواتكم ) وقال : ( لله أشد أذنا للرجل حسن الصوت، من صاحب القينة إلى قينته ) وقوله : ( ما أذن الله أذنا ) أي سمع سمعًا، ومنه قوله : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] أي سمعت، والآثار في هذا كثيرة .
وهذا سماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية، والأحوال الزكية يطول شرحها، ووصفها . وله في الجسد آثار محمودة . من خشوع القلب، ودموع العين، واقشعرار الجلد، وقد ذكر الله هذه الثلاثة في القرآن . وكانت موجودة في أصحاب رسول الله /صلى الله عليه وسلم الذين أثنى عليهم في القرآن، ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة : الاضطراب، والاختلاج، والإغماء أو الموت، والهيام؛ فأنكر بعض السلف ذلك إما لبدعتهم، وإما لحبهم .(2/314)
وأما جمهور الأئمة والسلف فلا ينكرون ذلك، فإن السبب إذا لم يكن محظورًا كان صاحبه فيما تولد عنه معذورًا . لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم،وضعف قلوبهم عن حمله فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين، كما ذم الله الذين قال فيهم : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِك } [ البقرة : 74 ] ، وقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] ، ولو أثر فيهم آثارا محمودة لم يجذبهم عن حد العقل . لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة كانوا محمودين أيضًا ومعذورين .
فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك : إما نشيد مجرد، نظير الغبار، وإما بالتصفيق، ونحو ذلك . فهو السماع المحدث في الإسلام، فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( خير القرون : القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) وقد كرهه أعيان الأمة ولم يحضره أكابر المشايخ .
/وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ : خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن .
وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال : هو محدث أكرهه،قيل له : إنه يرق عليه القلب، فقال : لا تجلسوا معهم . قيل له : أيهجرون ؟ فقال : لا يبلغ بهم هذا كله، فبين أنه بدعة لم يفعلها القرون الفاضلة، لا في الحجاز، ولا في الشام،ولا في اليمن،ولا في مصر،ولا في العراق، ولا خراسان، ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف .(2/315)
ولم يحضره مثل : إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا السري السقطي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، ولا الشيخ حياة، وغيرهم، بل في كلام طائفة من هؤلاء ـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ النهي عنه . وكذلك أعيان المشائخ .
وقد حضره من المشائخ طائفة، وشرطوا له المكان، والإمكان، والخلان، والشيخ الذي يحرس من الشيطان . وأكثر الذين حضروه من المشائخ الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم . كالجنيد فإنه حضره وهو شاب، وتركهم في آخر عمره، وكان يقول : من تكلف السماع / فتن به، ومن صادفه السماع استراح به . فقد ذم من يجتمع له، ورخص فيمن يصادفه من غير قصد . ولا اعتماد للجلوس له .
وسبب ذلك أنه مجمل ليس فيه تفصيل . فإن الأبيات المتضمنة لذكر الحب، والوصل والهجر، والقطيعة، والشوق، والتتيم، والصبر على العذل واللوم ونحو ذلك، هو قول مجمل، يشترك فيه محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الإخوان، ومحب الأوطان، ومحب النسوان، ومحب المردان . فقد يكون فيه منفعة إذا هيج القاطن، وأثار الساكن، وكان ذلك مما يحبه الله ورسوله . لكن فيه مضرة راجحة على منفعته : كما في الخمر والميسر،فإن فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما .
فلهذا لم تأت به الشريعة، لم تأت إلا بالمصلحة الخالصة أو الراجحة .
وأما ما تكون مفسدته غالبة على مصلحته، فهو بمنزلة من يأخذ درهما بدينار، أو يسرق خمسة دراهم، ويتصدق منها بدرهمين .(2/316)
وذلك أنه يهيج الوجد المشترك، فيثير من النفس كوامن تضره آثارها، ويغذي النفس ويفتنها، فتعتاض به عن سماع القرآن، حتى لا يبقى فيها محبة لسماع القرآن ولا التذاذ به، ولا استطابة له، بل / يبقى في النفس بغض لذلك، واشتغال عنه، كمن شغل نفسه بتعلم التوراة والإنجيل، وعلوم أهل الكتاب، والصابئين واستفادته العلم والحكمة منها، فأعرض بذلك عن كتاب الله وسنة رسوله، إلى أشياء أخرى تطول .
فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف، بل قد يصد عن ذلك، و يعطي مالا يحبه الله ورسوله، أو ما يبغضه الله ورسوله، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا سلف الأمة ولا أعيان مشائخها .
ومن نكته أن الصوت يؤثر في النفس بحسنه : فتارة يفرح، وتارة يحزن، وتارة يغضب، وتارة يرضى، وإذا قوى أسكر الروح فتصير في لذة مطربة من غير تمييز . كما يحصل للنفس إذا سكرت بالرقص، وللجسد أيضًا إذا سكر بالطعام والشراب، فإن السكر هو الطرب الذي يؤثر لذة بلا عقل، فلا تقوم منفعته بتلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل، التي صدت عن ذكر الله وعن الصلاة، وأوقعت العداوة والبغضاء .
و بالجملة فعلى المؤمن أن يعلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئًا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا شيئًا يبعد عن / النار إلا وقد حدث به، وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله، فإن الله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 ] ، وإذا وجد فيه منفعة لقلبه، ولم يجد شاهد ذلك، لا من الكتاب ولا من السنة، لم يلتفت إليه .
قال سهل بن عبد الله التستري : كل وجد لايشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .(2/317)
وقال أبو سليمان الداراني : إنه لتلم بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين : الكتاب، والسنة،وقال أبوسليمان أيضًا : ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يجد فيه أثرًا . فإذا وجد فيه أثرًا كان نورًا على نور .
وقال الجنيد بن محمد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في علمنا .
و أيضا فإن الله يقول في الكتاب : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، قال السلف من الصحابة والتابعين : [ المكاء ] كالصفير ونحوه، من التصويت، مثل الغناء . و [ التصدية ] : التصفيق باليد . فقد أخبر الله عن المشركين أنهم كانوا يجعلون التصدية / والغناء لهم صلاة، وعبادة، وقربة، يعتاضون به عن الصلاة التي شرعها الله ورسوله .
وأما المسلمون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان : فصلاتهم وعبادتهم القرآن، واستماعه، والركوع والسجود، وذكر الله ودعاؤه، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك، وشابههم فيما ليس من فعل المؤمنين : المهاجرين والأنصار . فإن كان يفعله في بيوت الله فقد زاد في مشابهته أكبر وأكبر . واشتغل به عن الصلاة وذكر الله ودعائه، فقد عظمت مشابهته لهم . وصار له كفل عظيم من الذم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } .
لكن قد يغفر له ذلك لاجتهاده، أو لحسنات ماحية، أوغير ذلك . فيما يفرق فيه بين المسلم والكافر . لكن مفارقته للمشركين في غير هذا لا يمنع أن يكون مذمومًا خارجًا عن الشريعة، داخلًا في البدعة التي ضاهى بها المشركين، فينبغي للمؤمن أن يتفطن لهذا، ويفرق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله، وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله .(2/318)
/ويعلم أن هذا السماع المحدث هو من جنس سماع المشركين، وهو إليه أقرب منه إلى سماع المسلمين، وإن كان قد غلط فيه قوم من صالح المسلمين،فإن الله لا يضيع أجرهم وصلاحهم، لما وقع من خطئهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد ) .
وهذا كما أن جماعة من السلف قاتلوا أمير المؤمنين عليا بتأويل، وعلي بن أبي طالب وأصحابه أولى بالحق منهم، وقد قال فيهم : من قصد الله فله الجنة .
وجماعة من السلف والخلف استحلوا بعض الأشربة بتأويل ـ وقد ثبت بالكتاب والسنة تحريم ما استحلوه ـ وإن كان خطؤهم مغفورًا لهم .
والذين حضروا هذا السماع من المشائخ الصالحين شرطوا له شروطًا لا توجد إلا نادرًا، فعامة هذه السماعات خارجة عن إجماع المشائخ، ومع هذا فأخطؤوا ـ والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة ـ وإن كانوا معذورين .
والسبب الذي أخطؤوا فيه أوقع أممًا كثيرة في المنكر الذي نهوا / عنه، وليس للعالمين شرعة ولا منهاج، ولا شريعة ولا طريقة أكمل من الشريعة التي بعث الله بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم كما كان يقول في خطبته : ( خير الكلام كلام الله،وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ) .
ومن غلط بعضهم توهمه أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين حضروا هذا السماع، سماع المكاء والتصدية، والغناء والتصفيق بالأكف، حتى روى بعض الكاذبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي شعرًا، قوله :
قد لسعت حية الهوى كبدي ** فلا طبيب لها ولا راقي .
سوى الحبيب الذي شغفت به ** فمنه دائي ومنه ترياقي .
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، وقال : ( ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب ) . وهذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله .(2/319)
كما كذب بعض الكذابين : أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع / المشركين، وأمثال هذه الأمور المكذوبة إنما يكذبها من خرج عن أمر الله ورسوله، وأطبقت عليه طوائف من الجاهلين بأحوال الرسول وأصحابه، بل بأصول الإسلام .
وأما [ الرقص ] فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } [ لقمان : 19 ] ، وقال في كتابه : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْنًا } [ الفرقان : 63 ] ، أي : بسكينة، ووقار .
وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدف والرقص في الطابق لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة، والسكينة، ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع، وكان ذلك الحال بسبب مشروع، كسماع القرآن و نحوه، سلم إليه ذلك الحال كما تقدم، فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به، مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له : مثل شرب الخمر، مع علمه أنها تسكره، وإذا قال : ورد على الحال، وأنا سكران قيل له : إذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورًا .
فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقًا فهو مبتدع، ضال، من جنس خفراء العدو، وأعوان الظلمة،من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى، والمشركين، والصابئين في بعض ما لهم من الأحوال، / ومن كان كاذبًا فهو منافق ضال .
قال سيد المسلمين في وقته ـ الفضيل بن عياض ـ في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الملك : 2 ] ، قال : أخلصه، و أصوبه، قيل له : يا أبا علي ما أخلصه ؟ وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل ،حتى يكون خالصًا صوابًا . والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة .(2/320)
وكان يقول : من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها، ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا . وأكثر إشارته وإشارات غيره من المشائخ بالبدعة إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال، كما قال عن النصارى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } [ الحديد : 27 ] ، وقال ابن مسعود : عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله خاليًا فاقشعر جلده من مخافة الله، إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليًا فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادا في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم ـ إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا ـ على منهاج الأنبياء وسنتهم .
/وأما قول القائل : هذه شبكة يصاد بها العوام،فقد صدق، فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام، والتوانس على الطعام، كما قال الله فيهم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } [ التوبة : 34 ] ، ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال، الذين قيل في رؤوسهم : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [ الأحزاب : 66-68 ] .(2/321)
وأما الصادقون منهم : فهم يتخذونه شبكة، لكن هي شبكة مخرقة يخرج منها الصيد إذا دخل فيها، كما هو الواقع كثيرًا،فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق، ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله، أورثتهم أحوالا فاسدة .
وإلى عبادته ومحبته، وطاعته، والرغبة إليه، والتبتل له والتوكل عليه أحسن من الإسلامية، والشريعة القرآنية، والمناهج الموصلة الحقيقة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة .
/وإذا كان غير مشروع، ولا مأمور به، فالتطهر، أو الإنصات له، واستفتاح باب الرحمة هو من جنس عادة الرهبان، ليس من عبادة أهل الإسلام، والإيمان، ولا عبادة أهل القرآن، ولا من أهل السنة والإحسان، والحمد لله وحده .
فصل
( ما يستغفر منه )(2/322)
وأيضًا فمما يستغفر ويتاب منه ما في النفس من الأمور التى لو قالها، أو فعلها عذب، قال تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة 284 ] . فهو يغفر لمن يرجع عما في نفسه فلم يتكلم به ولم يعمل كالذي همّ بالسيئة ولم يعملها، وإن تركها لله كتبت له حسنة، وهذا مما يستغفر منه ويتوب، فإن الاستغفار والتوبة من كل ما كان سببا للذم والعقاب، وإن كان لم يحصل العقاب ولا الذم، فإنه يفضي إليه فيتوب من ذلك، أي يرجع عنه، حتى لا يفضي إلى شر فيستغفر الله منه، أي يطلب منه أن يغفر له فلا يشقيه به، فإنه وإن لم يعاقب عليه فقد ينقص به، فالذي يهم بالسيئات، وإن كان لا يكتب عليه سيئة، لكن اشتغل بها عما كان ينفعه فينقص بها عمن لم يفعلها واشتغل بما ينفعه عنها، وقد بسطنا في غير هذا الموضع؛ أن فعل الإنسان وقوله، إما له وإما عليه، لا يخلو من هذا أو هذا، فهو يستغفر الله ويتوب مما عليه، وقد يظن ظنون سوء باطلة، وإن لم يتكلم بها فإذا تبين له فيها، استغفر الله وتاب، وظلمه لنفسه يكون بترك واجب، كما يكون بفعل محرم، فقوله تعالى { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء 110 ] من عطف العام على الخاص وكذلك قوله { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران 135 ] . وقد قيل في قوله تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } [ آل عمران 135 ] قيل الفاحشة : الزنا وقيل كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها، قيل هو : فاحشة أيضًا وقيل هى الصغائر .(2/323)
وهذا يوافق قول من قال : الفاحشة هي الكبيرة، فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة، ومن قال : الفاحشة الزنا، يقول ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات، وقيل الفاحشة : الزنا وظلم النفس ما دونه، من اللمس والقبلة والمعانقة، وقيل : هذا هو الفاحشة، وظلم النفس : المعاصى وقيل الفاحشة : فعل وظلم النفس، قول والتحقيق أن ظلم النفس جنس عام، يتناول كل ذنب .
وفى الصحيحين أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاءًا أدعو به في صلاتي فقال ( قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) .
والتحقيق أن [ ظلم النفس ] جنس عام يتناول كل ذنب، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال : يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال : ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) ، / وفي صحيح مسلم، وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استفتاحه : ( اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت ) .
وقد قال أبو البشر وزوجته : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، وقال موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ } [ القصص : 16 ] ، وقال ذو النون ـ يونس ـ : { لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، وقالت بلقيس : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] .(2/324)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عن أهل القرى المعذبين : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، وأما قوله : { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } [ آل عمران : 147 ] ، فقد قيل : إن الذنوب هي الصغائر، والإسراف هو الكبائر .
و [ التحقيق ] أن [ الذنوب ] اسم جنس، و [ الإسراف ] تعدي الحد، ومجاوزة القصد، كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم، /والإسراف كالعدوان، كما في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [ الأنعام : 145 ] ، ومجاوزة قدر الحاجة، فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله، فهذا كله ذنب، كالذي يرضى لنفسه، ويغضب لنفسه، فهو متبع لهواه، و [ الإسراف ] كالذي يغضب لله، فيعاقب بأكثر مما أمر الله . والآية في سياق قتال المشركين، وما أصابهم يوم أحد .
وقد أخبر عمن قبلهم بقوله : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 146 ] ، وقد قيل على الصحيح، المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } الآية .(2/325)
فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها . والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء . فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } [ الإسراء 33 ] . وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [ الفرقان 67 ] . وقال : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } [ الأعراف 31 ] . فالإسراف مجاوزة الحد . هذا آخر ما كتبته هنا . والله سبحانه وتعالى أعلم . والحمد لله رب العالمين .
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله :
الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه؛ إلى الفعل المحبوب من العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل ; فإن العابد لله والعارف بالله في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة يزداد علمًا بالله، وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار ; بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية .(2/326)
وقد ثبتت : دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد، والاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عامل مقام معلوم . فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين؛ تذهب الشرك كله، دقه وجله، خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه . والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول : لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول : أستغفر الله .(2/327)
فأمره بالتوحيد والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين . وقال : إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب، خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس [ عيون ] الخفافيش بالنهار . فاحذر مثل هؤلاء وعليك بصحبة أتباع الرسل، المؤيدين بنور الهدى، وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية العالمين العاملين { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ المجادلة 22 ] . وقال : التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع؛ فمن أحس بتقصير في قوله، أو عمله، أو حاله، أو رزقه ، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص . وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان، فعليه بالدعاء لهم والاستغفار . قال حذيفة بن اليمان للنبي صلى الله عليه وسلم : إن لي لسانًا ذربًا على أهلي . فقال له : ( أين أنت من الاستغفار ؟ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة ) .
فصل
فهذان المتنازعان اللذان تنازعا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فقال أحدهما : إنها قديمة وليس لها مبتدأ، وشكلها ونقطها محدث . وقال الآخر : إنها ليست بكلام الله، وأنها مخلوقة بشكلها ونقطها، وأن القديم هو الله، وكلامه منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق، ولكنه كتب بها . وسؤالهما أن نبين لهما الصواب وأيهما أصح اعتقادًا، يقال لهما :(2/328)
يحتاج بيان الصواب إلى بيان ما في السؤال من الكلام المجمل، / فإن كثيرًا من نزاع العقلاء لكونهم لا يتصورون مورد النزاع تصورًا بينا، وكثير من النزاع قد يكون الصواب فيه في قول آخر غير القولين اللذين قالاهما، وكثير من النزاع قد يكون مبنيًا على أصل ضعيف إذا بين فساده ارتفع النزاع .
فأول ما في هذا السؤال قولهما : الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فإنه قد ذكر بعضهم أن الله أنزل عليه حروف المعجم مفرقة مكتوبة، وهذا ذكره ابن قتيبة في [ المعارف ] ، وهو ومثله يوجد في التواريخ كتاريخ ابن جرير الطبري ونحوه، وهذا ونحوه منقول عمن ينقل الأحاديث الإسرائيلية ونحوها من أحاديث الأنبياء المتقدمين، مثل وهب بن مُنَبِّه وكعب الأحبار، ومالك بن دينار، ومحمد بن إسحاق وغيرهم .(2/329)
وقد أجمع المسلمون على أن ما ينقله هؤلاء عن الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين، إلا إذا ثبت ذلك بنقل متواتر، أو أن يكون منقولا عن خاتم المرسلين، وأيضا فهذا النقل قد عارضه نقل آخر وهو : ( إن أول من خط وخاط إدريس ) . فهذا منقول عن بعض السلف وهو مثل ذلك وأقوى، فقد ذكروا فيه أن إدريس أول من خاط الثياب، وخط بالقلم، وعلى هذا فبنو آدم من قبل إدريس لم يكونوا يكتبون بالقلم ولا يقرءون كتبًا . والذي في حديث أبي ذر المعروف، عن أبي ذر، عن / النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن آدم كان نبيا مُكَلَّمًا كَلَّمه الله قُبُلا ) وليس فيه أنه أنزل عليه شيئًا مكتوبًا، فليس فيه أن الله أنزل على آدم صحيفة ولا كتابا، ولا هذا معروف عند أهل الكتاب، فهذا يدل على أن هذا لا أصل له، ولو كان هذا معروفًا عند أهل الكتاب لكان هذا النقل ليس هو في القرآن،ولا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من جنس الأحاديث الإسرائيلية التي لا يجب الإيمان بها، بل ولا يجوز التصديق بصحتها إلا بحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه ) .
والله ـ سبحانه ـ علم آدم الأسماء كلها، وأنطقه بالكلام المنظوم، وأما تعليم حروف مقطعة ـ لا سيما إذا كانت مكتوبة ـ فهو تعليم لا ينفع، ولكن لما أرادوا تعليم المبتدئ بالخط صاروا يعلمونه الحروف المفردة حروف الهجاء، ثم يعلمونه تركيب بعضها إلى بعض، فيعلم [ أبجد هوز ] ، وليس هذا وحده كلامًا .(2/330)
فهذا المنقول عن آدم من نزول حروف الهجاء عليه لم يثبت به نقل . ولم يدل عليه عقل، بل الأظهر في كليهما نفيه، وهو من جنس ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير أ، ب، ت، ث، وتفسير [ أبجد، / هوز، حطي ] ، ويروونه عن المسيح أنه قاله لمعلمه في الكتاب، وهذا كله من الأحاديث الواهية بل المكذوبة، ولا يجوز باتفاق أهل العلم بالنقل أن يحتج بشيء من هذه، وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في هذا الباب، كالشريف المزيدي، والشيخ أبي الفرج، وابنه عبد الوهاب وغيرهم . وقد يذكر ذلك طائفة من المفسرين والمؤرخين، فهذا كله عند أهل العلم بهذا الباب باطل لا يعتمد عليه في شيء من الدين .
وهذا وإن كان قد ذكره أبو بكر النقاش وغيره من المفسرين، وعن النقاش ونحوه نقله الشريف المزيدي الحراني وغيره، فأجل من ذكر ذلك من المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وقد بين في تفسيره أن كل ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو باطل . فذكر في آخر تفسيره اختلاف الناس في تفسير [ أبجد، هوز، حطي ] ، وذكر حديثًا رواه من طريق محمد بن زياد الجزري، عن فرات بن أبي الفرات، عن معاوية ابن قُرَّة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعلموا أباجاد وتفسيرها، ويل لعالم جهل تفسير أبي جاد ) قال : قالوا : يا رسول الله، وما تفسيرها ؟ قال : ( أما الألف فآلاء الله وحرف من أسمائه، وأما الباء فبهاء الله، وأما الجيم فجلال الله، وأما الدال فدين / الله، وأما الهاء فالهاوية، وأما الواو فويل لمن سها، وأما الزاي فالزاوية، وأما الحاء فحطوط الخطايا عن المستغفرين بالأسحار ) وذكر تمام الحديث من هذا الجنس .(2/331)
وذكر حديثًا ثانيًا من حديث عبد الرحيم بن واقد، حدثني الفرات بن السائب، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس، قال : ( ليس شيء إلا وله سبب، وليس كل أحد يفطن له ولا بلغه ذلك، إن لأبي جاد حديثًا عجيبًا، أما أبو جاد : فأبى آدم الطاعة وجد في أكل الشجرة، وأما هوز : فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، وأما حطي : فحطت عنه خطيئته . وأما كلمن : فأكله من الشجرة ومَنَّ عليه بالتوبة ) وساق تمام الحديث من هذا الجنس .
وذكر حديثًا ثالثا من حديث إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عمن حدثه عن ابن مسعود ومِسعر بن كُدَام، عن أبي سعيد، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم : اكتب بسم الله، فقال له عيسى : وما بسم الله ؟ فقال له المعلم : وما أدري ؟ فقال له عيسى : الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم ملكه، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة . أبو جاد : ألف آلاء الله، وباء بهاء الله، وجيم جمال الله، ودال الله الدائم، وهوز : هاء الهاوية ) وذكر حديثًا / من هذا الجنس، وذكره عن الربيع بن أنس موقوفًا عليه . وروى أبو الفرج المقدسي عن الشريف المزيدي حديثًا، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير : أ، ب، ت، ث من هذا الجنس .
ثم قال ابن جرير : ولو كانت الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صحاح الأسانيد، لم يعدل عن القول بها إلى غيرها، ولكنها واهية الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها؛ وذلك أن محمد بن زياد الجزري الذي حدث حديث معاوية بن قُرَّة عن فُرات عنه غير موثوق بنقله، وإن عبد الرحيم بن واقد الذي خالفه في رواية ذلك عن الفرات مجهول غير معروف عند أهل النقل، وإن إسماعيل بن يحيى الذي حدث عن ابن أبي مُلَيْكَة غير موثوق بروايته ولا جائز عند أهل النقل الاحتجاج بأخباره .(2/332)
قلت : إسماعيل بن يحيى هذا يقال له : التيمي، كوفي معروف بالكذب، ورواية إسماعيل بن عياش في غير الشاميين لا يحتج بها، بل هو ضعيف فيما ينقله عن أهل الحجاز وأهل العراق، بخلاف ما ينقله عن شيوخه الشاميين؛ فإنه حافظ لحديث أهل بلده، كثير الغلط في حديث أولئك، وهذا متفق عليه بين أهل العلم بالرجال . وعبد الرحمن بن واقد لا يحتج به باتفاق أهل العلم وفرات بن السائب ضعيف أيضًا /لا يحتج به، فهو فرات بن أبي الفرات، ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضًا .
وقد تنازع الناس في [ أبجد، هوز، حطي ] ، فقال طائفة : هي أسماء قوم، قيل : أسماء ملوك مدين، أو أسماء قوم كانوا ملوكًا جبابرة . وقيل : هي أسماء الستة الأيام التي خلق الله فيها الدنيا . والأول اختيار الطبري . وزعم هؤلاء أن أصلها أبو جاد مثل أبي عاد . وهواز مثل رواد وجواب، وأنها لم تعرب لعدم العقد والتركيب .
والصواب : أن هذه ليست أسماء لمسميات، وإنما ألفت ليعرف تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم . ولفظها : [ أبجد، هوز، حطي ] ، ليس لفظها أبو جاد، هواز . ثم كثير من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد، فيجعلون الألف واحدًا . والباء اثنين، والجيم ثلاثة، إلى الياء، ثم يقولون : الكاف عشرون . . . وآخرون من أهل الهندسة والمنطق يجعلونها علامات على الخطوط المكتوبة، أو على ألفاظ الأقيسة المؤلفة كما يقولون : كل ألف ب، وكل ب ج، فكل ألف ج . ومثلوا بهذه لكونها ألفاظًا تدل على صورة الشكل، والقياس لا يختص بمادة دون مادة .(2/333)
كما جعل أهل التصريف لفظ [ فعل ] تقابل الحروف الأصلية،/ والزائدة ينطقون بها . ويقولون : وزن استخرج [ استفعل ] ، وأهل العروض يزنون بألفاظ مؤلفة من ذلك؛ لكن يراعون الوزن من غير اعتبار بالأصل، والزائد؛ ولهذا سئل بعض هؤلاء عن وزن [ نَكْتَل ] فقال : نفعل، وضحك منه أهل التصريف . ووزنه عندهم : نفتل، فإن أصله : نكتال، وأصل نكتال : نكتيل . تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم لما جزم الفعل سقطت، كما نقول مثل ذلك في [ نعتد ] و [ نقتد ] من اعتاد يعتاد واقتاد البعير يقتاده . ونحو ذلك في نقتيل، فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها . . .
وجعلت [ ثمانية ] تكون متحركة؛ وهي الهمزة، وتكون ساكنة وهي حرفان على الاصطلاح الأول، وحرف واحد على الثاني، والألف تقرن بالواو والياء لأنهن حروف العلة؛ ولهذا ذكرت في آخر حروف المعجم، ونطقوا بأول لفظ كل حرف منها إلا الألف فلم يمكنهم أن ينطقوا بها ابتداء، فجعلوا اللام قبلها فقالوا : [ لا ] والتي في الأول هي الهمزة المتحركة، فإن الهمزة في أولها، وبعض الناس ينطق بها [ لام ألف ] ، والصواب أن ينطق بها [ لا ] ، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا أن العلم لا بد فيه من نقل مصدق ونظر محقق، وأما النقول الضعيفة لا سيما المكذوبة فلا يعتمد عليها، وكذلك النظريات الفاسدة، والعقليات الجهلية الباطلة لا يحتج بها .
/الثاني : أن يقال : هذه الحروف الموجودة في القرآن العربي قد تكلم الله بها بأسماء حروف، مثل قوله : { الم } وقوله : { المص } وقوله : { الم ـ طس ـ حم ـ كهيعص ـ حم ـ عسق ـ ن ـ ق } فهذا كله كلام الله غير مخلوق .(2/334)
الثالث : أن هذه الحروف إذا وجدت في كلام العباد، وكذلك الأسماء الموجودة في القرآن إذا وجدت في كلام العباد مثل آدم، ونوح، ومحمد، وإبراهيم وغير ذلك، فيقال : هذه الأسماء وهذه الحروف قد تكلم الله بها، لكن لم يتكلم بها مفردة؛ فإن الاسم وحده ليس بكلام، ولكن تكلم بها في كلامه الذي أنزله في مثل قوله : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } [ الفتح : 29 ] ، وقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } إلى قوله : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي } [ إبراهيم : 35 ـ 40 ] ، وقوله : { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 33 ] ونحو ذلك، ونحن إذا تكلمنا بكلام ذكرنا فيه هذه الأسماء، فكلامنا مخلوق وحروف كلامنا مخلوقة، كما قال أحمد بن حنبل لرجل : ألست مخلوقًا ؟ قال : بلى، قال : أليس كلامك منك ؟ قال : بلى، قال : أليس كلامك مخلوقًا ؟ قال : بلى، قال : فالله تعالى غير مخلوق، وكلامه منه ليس بمخلوق .(2/335)
فقد نص أحمد وغيره على أن كلام العباد مخلوق، وهم إنما / يتكلمون بالأسماء والحروف التي يوجد نظيرها في كلام الله ـ تعالى ـ لكن الله ـ تعالى ـ تكلم بها بصوت نفسه وحروف نفسه وذلك غير مخلوق، وصفات الله ـ تعالى ـ لا تماثل صفات العباد؛ فإن الله ـ تعالى ـ ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا صفاته، ولا أفعاله، والصوت الذي ينادي به عباده يوم القيامة، والصوت الذي سمعه منه موسى، ليس كأصوات شيء من المخلوقات، والصوت المسموع هو حروف مؤلفة وتلك لا يماثلها شيء من صفات المخلوقين، كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده؛ فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من الصفات، وهو ـ سبحانه ـ قد علم العباد من علمه ما شاء، كما قال تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } [ البقرة : 255 ] وهم إذا علمهم الله ما علمهم من علمه، فنفس علمه الذي اتصف به ليس مخلوقًا، ونفس العباد وصفاتهم مخلوقة، لكن قد ينظر الناظر إلى مسمى العلم مطلقًا، فلا يقال : إن ذلك العلم مخلوق لاتصاف الرب به، وإن كان ما يتصف به العبد مخلوقًا .
وأصل هذا : أن ما يوصف الله به ويوصف به العباد، يوصف الله به على ما يليق به، ويوصف به العباد بما يليق بهم من ذلك؛ مثل الحياة والعلم والقدرة،والسمع والبصر والكلام؛ فإن الله له حياة وعلم وقدرة، وسمع وبصر وكلام . فكلامه يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه، والعبد له حياة وعلم وقدرة، وسمع وبصر وكلام، /وكلام العبد يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه .(2/336)
فهذه الصفات لها ثلاث اعتبارات : تارة تعتبر مضافة إلى الرب، وتارة تعتبر مضافة إلى العبد، وتارة تعتبر مطلقة لا تختص بالرب ولا بالعبد . فإذا قال العبد : حياة الله وعلم الله وقدرة الله وكلام الله ونحو ذلك، فهذا كله غير مخلوق، ولا يماثل صفات المخلوقين، وإذا قال : علم العبد وقدرة العبد وكلام العبد، فهذا كله مخلوق، ولا يماثل صفات الرب . وإذا قال : العلم والقدرة والكلام، فهذا مجمل مطلق لا يقال عليه كله : إنه مخلوق ولا أنه غير مخلوق، بل ما اتصف به الرب من ذلك فهو غير مخلوق، وما اتصف به العبد من ذلك فهو مخلوق، فالصفة تتبع الموصوف، فإن كان الموصوف هو الخالق فصفاته غير مخلوقة، وإن كان الموصوف هو العبد المخلوق فصفاته مخلوقة .
ثم إذا قرأ بأم القرآن وغيرها من كلام الله، فالقرآن في نفسه كلام الله غير مخلوق، وإن كان حركات العباد وأصواتهم مخلوقة، ولو قال الُجنُب : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ينوي به القرآن مُنِع من ذلك، وكان قرآنا، ولو قاله ينوي به حمد الله لايقصد به القراءة لم يكن قارئًا، وجاز له ذلك .(2/337)
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الكلام بعد / القرآن أربع، وهن من القرآن : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ) رواه مسلم في صحيحه . فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن وقال : هي من القرآن . فهي من القرآن باعتبار، وليست من القرآن باعتبار، ولو قال القائل : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [ مريم : 12 ] ومقصوده القرآن كان قد تكلم بكلام الله ولم تبطل صلاته باتفاق العلماء، وإن قصد مع ذلك تنبيه غيره لم تبطل صلاته عند جمهور العلماء، ولو قال لرجل اسمه يحيى وبحضرته كتاب : يا يحيي خذ الكتاب لكان هذا مخلوقًا؛ لأن لفظ يحيى هنا مراد به ذلك الشخص، وبالكتاب ذلك الكتاب ليس مراداً به ما أراده الله بقوله : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ } ، والكلام كلام المخلوق بلفظه ومعناه .
وقد تنازع الناس في [ مسمى الكلام ] في الأصل، فقيل : هو اسم اللفظ الدال على المعنى . وقيل : المعنى المدلول عليه باللفظ . وقيل : لكل منهما بطريق الاشتراك اللفظي . وقيل : بل هو اسم عام لهما جميعًا يتناولهما عند الإطلاق، وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة وهذا تارة . هذا قول السلف وأئمة الفقهاء وإن كان هذا القول لا يعرف في كثير من الكتب .
وهذا كما تنازع الناس في مسمى [ الإنسان ] : هل هو الروح فقط أو الجسد فقط ؟ والصحيح أنه اسم للروح والجسد جميعًا،وإن / كان مع القرينة قد يراد به هذا تارة وهذا تارة، فتنازعهم في مسمى النطق كتنازعهم في مسمى الناطق . فمن سمى شخصًا محمدًا وإبراهيم، وقال : جاء محمد وجاء إبراهيم، لم يكن هذا محمدًا وإبراهيم المذكورين في القرآن . ولو قال : محمد رسول الله، وإبراهيم خليل الله، يعني به خاتم الرسل وخليل الرحمن، لكان قد تكلم بمحمد وإبراهيم الذي في القرآن، لكن قد تكلم بالاسم وألفه كلاما، فهو كلامه لم يتكلم به في القرآن العربي الذي تكلم الله به .(2/338)
ومما يوضح ذلك أن الفقهاء قالوا في [ آداب الخلاء ] : إنه لا يستصحب ما فيه ذكر الله، واحتجوا بالحديث الذي في السنن : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه . وكان خاتمه مكتوبًا عليه : [ محمد رسول الله ] محمد سطر، رسول سطر، الله سطر . ولم يمنع أحد من العلماء أن يستصحب ما يكون فيه كلام العباد وحروف الهجاء مثل ورق الحساب الذي يكتب فيه أهل الديوان الحساب، ومثل الأوراق التي يكتب فيها الباعة ما يبيعونه ونحو ذلك .
وفي السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح غطفان على نصف تمر المدينة، أتاه سعد فقال له : أهذا شيء أمر الله به فَسَمْعًا وطاعة، أم شيء تفعله لمصلحتنا ؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك بوحي، بل فعله باجتهاده، فقال : لقد كنا في الجاهلية / وما كانوا يأكلون منها تمرة إلا بِقِرًى [ أي : بضيافة الضيف ] . أو بشراء، فلما أعزنا الله بالإسلام يريدون أن يأكلوا تمرنا ! لا يأكلون تمرة واحدة، وبَصَق سعد في الصحيفة وقطعها . فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يقل هذه حروف، فلا يجوز إهانتها والبصاق فيها، وأيضًا، فقد كره السلف مَحْوَ القرآن بالرجل ولم يكرهوا محو ما فيه كلام الآدميين .
وأما قول القائل : إن الحروف قديمة أو حروف المعجم قديمة، فإن أراد جنسها فهذا صحيح، وإن أراد الحرف المعين فقد أخطأ؛ فإن له مبدأ ومنتهى، وهومسبوق بغيره، وما كان كذلك لم يكن إلا محدثًا .(2/339)
وأيضا، فلفظ الحروف مجمل، يراد بالحروف الحروف المنطوقة المسموعة التي هي مباني الكلام، ويراد بها الحروف المكتوبة، ويراد بها الحروف المتخيلة في النفس، والصوت لا يكون كلاما إلا بالحروف باتفاق الناس، وأما الحروف فهل تكون كلاما بدون الصوت ؟ فيه نزاع . والحرف قد يراد به الصوت المقطع، وقد يراد به نهاية الصوت وحده، وقد يراد بالحروف المداد، وقد يراد بالحروف شكل المداد، فالحروف التي تكلم الله بها غير مخلوقة، وإذا كتبت في المصحف قيل كلام الله المكتوب في المصحف غير مخلوق، وأما نفس أصوات العباد فمخلوقة، والمداد مخلوق وشكل المداد مخلوق، فالمداد مخلوق بمادته وصورته، وكلام الله المكتوب بالمداد غير مخلوق . ومن كلام الله / الحروف التي تكلم الله بها . فإذا كتبت بالمداد لم تكن مخلوقة وكان المداد مخلوقًا، وأشكال الحروف المكتوبة مما يختلف فيها اصطلاح الأمم .
والخط العربي قد قيل : إن مبدأه كان من الأنبار، ومنها انتقل إلى مكة وغيرها، والخط العربي تختلف صورته؛ العربي القديم فيه تكوف، وقد اصطلح المتأخرون على تغيير بعض صوره، وأهل المغرب لهم اصطلاح ثالث حتى في نقط الحروف وترتيبها، وكلام الله المكتوب بهذه الخطوط ـ كالقرآن العربي ـ هو في نفسه لا يختلف باختلاف الخطوط التي يكتب بها .
فإن قيل : فالحرف من حيث هو مخلوق أو غير مخلوق مع قطع النظر عن كونه في كلام الخالق أو كلام المخلوق ؟ فإن قلتم : هو من حيث هو غير مخلوق، لزم أن يكون غير مخلوق في كلام العباد، وإن قلتم : مخلوق لزم أن يكون مخلوقًا في كلام الله ؟ قيل : قول القائل الحرف من حيث هو هو كقوله الكلام من حيث هو هو، والعلم من حيث هو هو، والقدرة من حيث هي هي، والوجود من حيث هو هو، ونحو ذلك .(2/340)
والجواب عن ذلك : أن هذه الأمور وغيرها إذا أخذت مجردة مطلقة غير مقيدة ولا مشخصة لم يكن لها حقيقة في الخارج عن الأذهان / إلا شيء معين، فليس ثم وجود إلا وجود الخالق أو وجود المخلوق، ووجود كل مخلوق مختص به وإن كان اسم الوجود عاما يتناول ذلك كله، وكذلك العلم والقدرة اسم عام يتناول أفراد ذلك، وليس في الخارج إلا علم الخالق وعلم المخلوق، وعلم كل مخلوق مختص به قائم به، واسم الكلام والحروف يعم كل ما يتناوله لفظ الكلام والحروف وليس في الخارج إلا كلام الخالق وكلام المخلوقين . وكلام كل مخلوق مختص به واسم الكلام يعم كل ما يتناوله هذا اللفظ، وليس في الخارج إلا الحروف التي تكلم الله بها الموجودة في كلام الخالق، والحروف الموجودة في كلام المخلوقين . فإذا قيل : إن علم الرب وقدرته وكلامه غير مخلوق، وحروف كلامه غير مخلوقة، لم يلزم من ذلك أن يكون علم العبد وقدرته وكلامه غير مخلوق، وحروف كلامه غير مخلوقة .
وأيضًا، فلفظ [ الحرف ] يتناول الحرف المنطوق والحرف المكتوب، وإذا قيل : إن الله تكلم بالحروف المنطوقة كما تكلم بالقرآن العربي وبقوله : { الم ـ وحم ـ وطسم ـ وطس ـ ويس ـ وق ـ ون } ونحو ذلك، فهذا كلامه وكلامه غير مخلوق، وإذا كتب في المصاحف كان ما كتب من كلام الرب غير مخلوق وإن كان المداد وشكله مخلوقًا .(2/341)
وأيضا، فإذا قرأ الناس كلام الله، فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به، وإذا قرأه المبلغ لم يخرج عن أن يكون / كلام الله؛ فإن الكلام كلام من قاله مبتدئًا أمرًا يأمر به، أو خبرًا يخبره، ليس هو كلام المبلغ له عن غيره؛ إذ ليس علي الرسول إلا البلاغ المبين . وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله، فيقال : هذا كلام الله، مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم، وقد يشار إلى نفس صفة العبد كحركته وحياته، وقد يشار إليهما، فالمشار إليه الأول غير مخلوق، والمشار إليه الثاني مخلوق، والمشار إليه الثالث فمنه مخلوق ومنه غير مخلوق، وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا هو نظير صفة العبد لا نظير صفة الرب أبدًا .
وإذا قال القائل : القاف في قوله : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] كالقاف في قوله : قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل**
قيل : ما تكلم الله به وسمع منه لا يماثل صفة المخلوقين، ولكن إذا بلغنا كلام الله، فإنما بلغناه بصفاتنا وصفاتنا مخلوقة، والمخلوق يماثل المخلوق .
وفي هذا جواب للطائفتين؛ لمن قاس صفة المخلوق بصفة الخالق فجعلها غير مخلوقة، فإن الجهمية المعطلة أشباه اليهود، والحلولية الممثلة / أشباه النصارى، دخلوا في هذا وهذا، أولئك مثلوا الخالق بالمخلوق فوصفوه بالنقائص التي تختص بالمخلوق؛ كالفقر والبخل، وهؤلاء مثلوا المخلوق بالخالق فوصفوه بخصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله، والمسلمون يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له ما يستحقه من صفات الكمال، وينزهونه عن الأكفاء والأمثال، فلا يعطلون الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات؛ فإن المعطل يعبد عَدَمًا، والممثل يعبد صَنَمًا، والله ـ تعالى ـ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] .(2/342)
ومما ينبغي أن يعرف : أن كلام المتكلم في نفسه واحد، وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به، فإذا أنشد المنشد قول لَبِيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
كان هذا الكلام كلام لبيد، لفظه ومعناه، مع أن أصوات المنشدين له تختلف، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد، وكذلك من روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه، كقوله : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نَوَى ) كان هذا الكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لفظه ومعناه، ويقال لمن رواه : أدى الحديث بلفظه، /وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله، لفظه ومعناه، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم .
ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة يقولون : من قال : اللفظ بالقرآن أو لفظي بالقرآن مخلوق فهو جَهْمِيٌّ، ومن قال : إنه غير مخلوق فهو مبتدع . وفي بعض الروايات عنه : من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ـ يعني به القرآن ـ فهو جهمي؛ لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظًا، ومسمى هذا فعل العبد وفعل العبد مخلوق، ويراد باللفظ القول الذي يلفظ به اللافظ،وذلك كلام الله لا كلام القارئ، فمن قال : إنه مخلوق فقد قال : إن الله لم يتكلم بهذا القرآن،وأن هذا الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله،ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول .(2/343)
وأما صوت العبد فهو مخلوق، وقد صرح أحمد وغيره بأن الصوت المسموع صوت العبد، ولم يقل أحمد قط : من قال : إن صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وإنما قال : من قال : لفظي بالقرآن، والفرق بين لفظ الكلام وصوت المبلِّغ له فرق واضح، فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الرجل فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه، وهو إنما بلغه بصوت نفسه لا بصوت ذلك الغير، و نفس اللفظ والتلاوة والقراءة والكتابة ونحو ذلك لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات / العباد، وما يحدث عنها من أصواتهم وشكل المداد، ويراد به نفس الكلام الذي يقرأه التالي ويتلوه ويلفظ به ويكتبه، منع أحمد وغيره من إطلاق النفي والإثبات، الذي يقتضى جعل صفات الله مخلوقة، أو جعل صفات العباد ومدادهم غير مخلوق .
وقال أحمد : نقول : القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف، أي حيث تلى وكتب وقرئ مما هو في نفس الأمر كلام الله، فهو كلامه، وكلامه غير مخلوق، وما كان من صفات العباد وأفعالهم التي يقرءون ويكتبون بها كلامه كأصواتهم ومدادهم فهو مخلوق، ولهذا من لم يهتد إلى هذا الفرق يحار؛ فإنه معلوم أن القرآن واحدٌ ويقرؤه خلق كثير، والقرآن لا يكثر في نفسه بكثرة قراءة القراء، وإنما يكثر ما يقرءون به القرآن، فما يكثر ويحدث في العباد فهو مخلوق، والقرآن نفسه لفظه ومعناه الذي تكلم الله به، وسمعه جبريل من الله، وسمعه محمد من جبريل، وبلغه محمد إلى الناس، وأنذر به الأمم؛ لقوله تعالى : { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] قرآن واحد، وهو كلام الله ليس بمخلوق .(2/344)
وليس هذا من باب ما هو واحد بالنوع متعدد الأعيان، كالإنسانية الموجودة في زيد وعمرو، ولا من باب ما يقول الإنسان مثل قول غيره، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } [ البقرة : 118 ] ، فإن / القرآن لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، كما قال تعالى : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : 88 ] ، فالإنس والجن إذا اجتمعوا لم يقدروا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع قدرة كل قارئ على أن يقرأه ويبلغه .
فعلم أن ما قرأه هو القرآن ليس هو مثل القرآن، وأما الحروف الموجودة في القرآن إذا وجد نظيرها في كلام غيره، فليس هذا هو ذاك بعينه، بل هو نظيره، وإذا تكلم الله باسم من الأسماء؛ كآدم ونوح وإبراهيم، وتكلم بتلك الحروف والأسماء التي تكلم الله بها، فإذا قرئت في كلامه فقد بلغ كلامه، فإذا أنشأ الإنسان لنفسه كلامًا لم يكن عين ما تكلم الله به من الحروف والأسماء هو عين ما تكلم به العبد حتى يقال : إن هذه الأسماء والحروف الموجودة في كلام العباد غير مخلوقة؛ فإن بعض من قال : إن الحروف والأسماء غير مخلوقة في كلام العباد ادعى أن المخلوق إنما هو النظم والتأليف دون المفردات، وقائل هذا يلزمه أن يكون ـ أيضًا ـ النظم والتأليف غير مخلوق إذا وجد نظيره في القرآن كقوله : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [ مريم : 12 ] وإن أراد بذلك شخصًا اسمه يحيى وكتابًا بحضرته .(2/345)
فإن قيل : يحيى هذا والكتاب الحاضر ليس هو يحيى والكتاب المذكور في القرآن، وإن كان اللفظ نظير اللفظ . قيل : كذلك / سائر الأسماء والحروف إنما يوجد نظيرها في كلام العباد لا في كلام الله، وقولنا : [ يوجد نظيرها في كلام الله ] تقريب، أي يوجد فيما نقرؤه ونتلوه؛ فإن الصوت المسموع من لفظ محمد ويحيى وإبراهيم في القرآن هو مثل الصوت المسموع من ذلك في غير القرآن، وكلا الصوتين مخلوق .
وأما الصوت الذي يتكلم الله به فلا مثل له لا يماثل صفات المخلوقين، وكلام الله هو كلامه بنظمه ونثره ومعانيه، وذلك الكلام ليس مثل كلام المخلوقين، فإذا قلنا : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] وقصد بذلك قراءة القرآن الذي تكلم الله به فذلك القرآن تكلم الله بلفظه ومعناه، لا يماثل لفظ المخلوقين ومعناهم، وأما إذا قصدنا به الذكر ابتداء من غير أن نقصد قراءة كلام الله فإنما نقصد ذكرًا ننشئه نحن يقوم معناه بقلوبنا، وننطق بلفظه بألسنتنا، وما أنشأناه من الذكر فليس هو من القرآن، وإن كان نظيره في القرآن .(2/346)
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ) ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات أفضل الكلام بعد القرآن . فجعل درجتها دون درجة القرآن، وهذا يقتضى أنها ليست من القرآن . ثم قال : ( هي من القرآن ) ، وكلا قوليه حق وصواب؛ ولهذا منع أحمد أن يقال : الإيمان مخلوق . / وقال : لا إله إلا الله من القرآن . وهذا الكلام لا يجوز أن يقال : إنه مخلوق وإن لم يكن من القرآن، ولا يقال في التوراة والإنجيل : إنهما مخلوقان، ولا يقال في الأحاديث الإلهية التي يرويها عن ربه : إنها مخلوقة، كقوله : ( ياعبادي، إني حَرَّمْتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحَرَّمًا فلا تظالموا ) ، فكلام الله قد يكون قرآنا وقد لا يكون قرآنًا، والصلاة إنما تجوز وتصح بالقرآن، وكلام الله كله غير مخلوق .
فإذا فهم هذا في مثل هذا، فليفهم في نظائره، وأن ما يوجد من الحروف والأسماء في كلام الله ويوجد في غير كلام الله يجوز أن يقال : إنه من كلام الله باعتبار، ويقال : ليس من كلام الله باعتبار، كما أنه يكون من القرآن باعتبار وغير القرآن باعتبار، لكن كلام الله القرآن وغير القرآن غير مخلوق، وكلام المخلوقين كله مخلوق، فما كان من كلام الله فهو غير مخلوق، وما كان من كلام غيره فهو مخلوق .(2/347)
وهؤلاء الذين يحتجون على نفي الخلق أو إثبات القدم بشيء من صفات العباد وأعمالهم ـ لوجود نظير ذلك فيما يضاف إلى الله وكلامه والإيمان به ـ شاركهم في هذا الأصل الفاسد من احتج على خلق ما هو من كلام الله وصفاته، بأن ذلك قد يوجد نظيره فيما يضاف إلى العبد . مثال ذلك : أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله، قرؤوه بحركاتهم وأصواتهم . فقال الجهمي : أصوات العباد ومدادهم مخلوقة، وهذا / هو المسمى بكلام الله، أو يوجد نظيره في المسمى بكلام الله، فيكون كلام الله مخلوقًا .
وقال الحلولي الاتحادي ـ الذي يجعل صفة الخالق هي عين صفة المخلوق ـ الذي نسمعه من القراء هو كلام الله، وإنما نسمع أصوات العباد، فأصوات العباد بالقرآن كلام الله، وكلام الله غير مخلوق فأصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة، والحروف المسموعة منهم غير مخلوقة، ثم قالوا : الحروف الموجودة في كلامهم هي هذه أو مثل هذه فتكون غير مخلوقة، وزاد بعض غلاتهم فجعل أصوات كلامهم غير مخلوقة، كما زعم بعضهم أن الأعمال من الإيمان وهو غير مخلوق، والأعمال غير مخلوقة . وزاد بعضهم أعمال الخير والشر، وقال : هي القدر والشرع المشروع، وقال عمر : ما مرادنا بالأعمال الحركات، بل الثواب الذي يأتي يوم القيامة، كما ورد في الحديث الصحيح : ( إنه تأتى البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أوغيايتان، أو فرقان من طير صواف ) ، فيقال له : و هذا الثواب مخلوق . وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على أنه غير مخلوق، وبذلك أجابوا من احتج على خلق القرآن بمثل هذا الحديث، فقالوا له : الذي يجىء يوم القيامة هو ثواب القرآن لا نفس القرآن، وثواب القرآن مخلوق، إلى أمثال هذه الأقوال التي ابتدعها طوائف، والبدع تنشأ شيئًا فشيئًا، وقد بسط الكلام في هذا الباب في مواضع أخر .(2/348)
/وقد بينا أن الصواب في هذا الباب هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من أئمة الإسلام ومن وافق هؤلاء، فإن قول الإمام أحمد وقول الأئمة قبله هو القول الذي جاء به الرسول، ودل عليه الكتاب والسنة، ولكن لما امتحن الناس بمحنة الجهمية، وطلب منهم تعطيل الصفات، وأن يقولوا بأن القرآن مخلوق،وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك ـ ثبت الله الإمام أحمد في تلك المحنة؛ فدفع حجج المعارضين النفاة، وأظهر دلالة الكتاب والسنة، وأن السلف كانوا على الإثبات، فآتاه الله من الصبر واليقين ما صار به إماما للمتقين، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 42 ] .
ولهذا قيل فيه ـ رحمه الله ـ : عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها، فلما ظهر به من السنة ما ظهر كان له من الكلام في بيانها وإظهارها أكثر وأعظم مما لغيره، فصار أهل السنة من عامة الطوائف يعظمونه وينتسبون إليه .(2/349)
وقد ذكرت كلامه وكلام غيره من الأئمة ونصوص الكتاب والسنة في هذه الأبواب في غير هذا الموضع، وبينا أن كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وأن العقل الصريح لا يخالف / النقل الصحيح،ولكن كثيرًا من الناس يغلطون، إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفًا بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول ؛ ولهذا كان أئمة السنة على ما قاله أحمد بن حنبل، قال : معرفة الحديث والفقه فيه أحب إليَّ من حفظه، أي معرفته بالتمييز بين صحيحه وسقيمه . والفقه فيه : معرفة مراد الرسول وتنزيله على المسائل الأصولية والفروعية، أحب إلىَّ من أن يحفظ من غير معرفة وفقه . وهكذا قال علي بن المديني وغيره من العلماء، فإنه من احتج بلفظ ليس بثابت عن الرسول أو بلفظ ثابت عن الرسول وحمله على ما لم يدل عليه، فإنما أتي من نفسه .
وكذلك العقليات الصريحة، إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحًا لم تكن إلا حقًا، لا تناقض شيئًا مما قاله الرسول، والقرآن قد دل على الأدلة العقلية التي بها يعرف الصانع وتوحيده، وصفاته وصدق رسله، وبها يعرف إمكان المعاد . ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذَّاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها، وبما هو أحسن منها، قال تعالى : { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 33 ] ، وقال : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } [ الروم : 58 ] ، وقال : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 12 ] .(2/350)
/وأما الحجج الداحضة التي يحتج بها الملاحدة، وحجج الجهمية مُعَطِّلَة الصفات، وحجج الدهرية وأمثالها؛ كما يوجد مثل ذلك في كلام المتأخرين الذين يصنفون في الكلام المبتدع وأقوال المتفلسفة ويدعون أنها عقليات ـ ففيها من الجهل والتناقض والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، وقد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع أخر .
وكان من أسباب ضلال هؤلاء تقصير الطائفتين، أو قصورهم عن معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه السلف، ومعرفة المعقول الصريح؛ فإن هذا هو الكتاب، وهذا هو الميزان، وقد قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] .
وهذه المسألة لا تحتمل البسط على هذه الأمور؛ إذ كان المقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء المتنازعين أجمعوا على أصل فاسد، ثم تفرقوا فأجمعوا على أن جعلوا عين صفة الرب الخالق هي عين صفة المخلوق،ثم قال هؤلاء : وصفة المخلوق مخلوقة، فصفة الرب مخلوقة، فقال هؤلاء : صفة الرب قديمة فصفة المخلوق قديمة . ثم احتاج كل منهما إلى طرد أصله، فخرجوا إلى أقوال ظاهرة الفساد؛ خرج النفاة إلى أن الله لم يتكلم بالقرآن، ولا بشيء من الكتب الإلهية، لا التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما، وأنه لم / يناد موسى بنفسه نداء يسمعه منه موسى، ولا تكلم بالقرآن العربي ولا التوراة العبرية، وخرج هؤلاء إلى أن ما يقوم بالعباد ويتصفون به يكون قديمًا أزليًا، وأن ما يقوم بهم ويتصفون به لا يكون قائمًا بهم حالا فيهم، بل يكون ظاهرًا عنهم من غير قيام بهم .(2/351)
ولما تكلموا في [ حروف المعجم ] صاروا بين قولين : طائفة فرقت بين المتماثلين، فقالت : الحرف حرفان، هذا قديم وهذا مخلوق، كما قال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهم، فأنكر ذلك عليهم الأكثرون وقالوا : هذا مخالفة للحس والعقل؛ فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف، وقالوا : الحرف حرف واحد . وصنف في ذلك القاضي يعقوب البَرْزَبَيْني [ وهو يعقوب بن إبراهيم البرزبيني، من فقهاء الحنابلة، من أهل [ برزبين ] من قرى بغداد، تفقه ببغداد، وولى بها قضاء باب الأزج، له كتب في الأصول والفروع منها [ التعليقة ] في الفقه والخلاف، ولد سنة 409هـ، وتوفى سنة 486هـ ] . مصنفًا خالف به شيخه القاضي أبا يعلى مع قوله في مصنفه : وينبغي أن يعلم أن ما سطرته في هذه المسألة أن ذلك مما استفدته وتفرع عندي من شيخنا وإمامنا القاضي أبي يعلى ابن الفراء، وإن كان قد نصر خلاف ما ذكرته في هذا الباب، فهو العالم المقتدى به في علمه ودينه، فإني ما رأيت أحسن سمتا منه، ولا أكثر اجتهادًا منه، ولا تشاغلا بالعلم، مع كثرة العلم والصيانة والانقطاع عن الناس والزهادة فيما بأيديهم، والقناعة في الدنيا باليسير، مع حسن التجمل، وعظم حشمته عند الخاص والعام، ولم يعدل بهذه الأخلاق شيئًا من نفر من الدنيا .(2/352)
/وذكر القاضي يعقوب في مصنفه : أن ما قاله قول أبي بكر أحمد بن المسيب الطبري، وحكاه عن جماعة من أفضل أهل طبرستان، وأنه سمع الفقيه عبد الوهاب بن حلبه قاضي حَرَّان يقول : هو مذهب العلوي الحراني، وجماعة من أهل حران . وذكره أبو عبد الله ابن حامد عن جماعة من أهل طبرستان ممن ينتمي إلى مذهبنا ؛ كأبي محمد الكشفل وإسماعيل الكَلْواذاني في خلق من أتباعهم يقولون : إنها قديمة، قال القاضي أبو يعلى : وكذلك حكى لي عن طائفة بالشام أنها تذهب إلى ذلك منهم النابلسي وغيره، وذكر القاضي حسين أن أباه رجع في آخر عمره إلى هذا . وذكروه عن الشريف أبي علي ابن أبي موسى، وتبعهم في ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي وابنه عبد الوهاب وسائر أتباعه، وأبوالحسن بن الزاغوني وأمثاله . وذكر القاضي يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين .
وهؤلاء تعلقوا بقول أحمد لما قيل له : إن سريا السقطي قال : لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت : لا أسجد حتى أومر . فقال أحمد : هذا كفر . وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد بقوله : كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق، وبقوله : لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن، كما لا تتم بغيره من كلام الناس . وبقول أحمد / لأحمد بن الحسن الترمذي : ألست مخلوقًا ؟ قال : بلى، قال : أليس كل شيء منك مخلوقًا ؟ قال : بلى، قال : فكلامك منك وهو مخلوق .(2/353)
قلت : الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضًا، وليس في كلامه تناقض، وهو أنكره على من قال : إن الله خلق الحروف؛ فإن من قال : إن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله : إن الله لم يتكلم بقرآن عربي، وأن القرآن العربي مخلوق، ونص أحمد ـ أيضًا ـ على أن كلام الآدميين مخلوق، ولم يجعل شيئًا منه غير مخلوق، وكل هذا صحيح، والسري ـ رحمه الله ـ إنما ذكر ذلك عن بكر بن خُنَيْس العابد، فكان مقصودهما بذلك أن الذي لا يعبد الله إلا بأمره، هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله، واستشهدا على ذلك بما بلغهما : ( أنه لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف، فقالت : لا أسجد حتى أومر ) ، وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة في شيء، ولكن مقصودهما ضرب المثل أن الألف منتصبة في الخط، ليست هي مضطجعة كالباء والتاء، فمن لم يفعل حتى يؤمر أكمل ممن فعل بغير أمر .
وأحمد أنكر قول القائل : [ إن الله لما خلق الحروف ] ، وروي عنه أنه قال : من قال : إن حرفًا من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي؛ لأنه سلك طريقًا إلى البدعة، ومن قال : إن ذلك مخلوق فقد قال : إن القرآن مخلوق . وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلما إذا / شاء، وصرح أن الله يتكلم بمشيئته، ولكن أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع؛ لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته .(2/354)
وصرح أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف : إن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم : إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك ـ من كلامه المعين ـ أنه قديم أزلي لم يزل ولايزال، وأن الله قامت به حروف معينة أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا، وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته،وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء، مع قولهم : إن كلام الله غير مخلوق، وأنه منه بدأ، ليس بمخلوق ابتدأ من غيره، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم، مثل ما صنف أبو بكر الخلال في [ كتاب السنة ] وغيره، وما صنفه عبد الرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره، وما صنفه أصحابه وأصحاب أصحابه؛ كابنيه صالح وعبد الله، وحنبل، وأبي داود السجستاني صاحب [ السنن ] والأثرم، والمروزي، وأبي زُرْعَة، وأبي حاتم، والبخاري صاحب الصحيح، وعثمان بن سعيد الدارمي، وإبراهيم الحربي، وعبد الوهاب الوراق، / وعباس بن عبد العظيم العنبري، وحرب بن إسماعيل الكرماني، ومن لا يحصى عدده من أكابر أهل العلم والدين، وأصحاب أصحابه ممن جمع كلامه وأخباره؛ كعبد الرحمن ابن أبي حاتم وأبي بكر الخلال، وأبي الحسن البناني الأصبهاني، وأمثال هؤلاء، ومن كانـ أيضًا ـ يأتم به وبأمثاله من الأئمة في الأصول والفروع، كأبي عيسى الترمذي ـ صاحب الجامع ـ وأبي عبد الرحمن النسائي وأمثالهما، ومثل أبي محمد بن قتيبة وأمثاله، وبسط هذا له موضع آخر .
وقد ذكرنا في [ المسائل الطبرستانية ] و [ الكيلانية ] بسط مذاهب الناس، وكيف تشعبت وتفرعت في هذا الأصل .(2/355)
والمقصود هنا أن كثيرًا من الناس المتأخرين لم يعرفوا حقيقة كلام السلف والأئمة، فمنهم من يعظمهم ويقول : إنه متبع لهم، مع أنه مخالف لهم من حيث لا يشعر، ومنهم من يظن أنهم كانوا لا يعرفون أصول الدين ولا تقريرها بالدلائل البرهانية، وذلك لجهله بعلمهم، بل لجهله بما جاء به الرسول من الحق الذي تدل عليه الدلائل العقلية مع السمعية، فلهذا يوجد كثير من المتأخرين يشتركون في أصل فاسد، ثم يفرع كل قوم عليه فروعا فاسدة يلتزمونها، كما صرحوا في تكلم الله ـ تعالى ـ بالقرآن العربي، وبالتوراة العبرية، وما فيهما من حروف الهجاء مؤلفًا أو مفردًا، لما رأوا أن ذلك بلغ بصفات المخلوقين اشتبه بصفات المخلوقين، فلم يهتدوا لموضع / الجمع والفرق، فقال هؤلاء : هذا الذي يقرأ ويسمع مثل كلام المخلوقين فهو مخلوق .(2/356)
وقال هؤلاء : هذا الذي من كلام الآدميين هو مثل كلام الله فيكون غير مخلوق . كما ذكر ابن عقيل في [ كتاب الإرشاد ] عن بعض القائلين بأن القرآن مخلوق، فقال : شبهة اعترض بها على بعض أئمتهم . فقال : أقل ما في القرآن من أمارات الحدث كونه مشبهًا لكلامنا، والقديم لا يشبه المحدث، ومعلوم أنه لا يمكن دفع ذلك؛ لأن قول القائل لغلامه يحيى : يا يحيى خذ الكتاب بقوة، يضاهي قوله سبحانه، حتى لا يميز السامع بينهما من حيث حسه، إلا أن يخبره أحدهما بقصده والآخر بقصده، فيميز بينهما بخبر القائل لا بحسه، وإذا اشتبها إلى هذا الحد فكيف يجوز دعوى قدم ما يشابه المحدث ويسد مسدّه، مع أنه إن جاز دعوى قدم الكلام مع كونه مشاهدًا للمحدث جاز دعوى التشبيه بظواهر الآي والأخبار، ولا مانع من ذلك، فلما فزعنا نحن وأنتم إلى نفي التشبيه خوفًا من جواب دخول القرآن بالحدث علينا، كذلك يجب أن تفزعوا من القول بالقدم مع وجود الشبه، حتى إن بعض أصحابكم يقول لقوة ما رأى من الشبه بينهما : إن الكلام واحد والحروف غير مخلوقة، فكيف يجوز أن يقال في الشيء الواحد : إنه قديم محدث .
/ قلت : وهذا الذي حكى عنه ابن عقيل من بعض الأصحاب المذكورين منهم القاضي يعقوب البَرْزَبَيْنِيّ ذكره في مصنفه فقال : ( دليل عاشر ) وهو أن هذه الحروف بعينها وصفتها ومعناها وفائدتها هي التي في كتاب الله ـ تعالى ـ وفي أسمائه وصفاته والكتاب بحروفه قديم؛ وكذلك هاهنا . قال : فإن قيل : لا نسلم أن تلك لها حرمة وهذه لا حرمة لها، قيل : لا نسلم، بل لها حرمة .
فإن قيل : لو كان لها حرمة لوجب أن تمنع الحائض والنفساء من مسها وقراءتها، قيل : قد لا تمنع من قراءتها ومسها ويكون لها حرمة كبعض آية لا تمنع من قراءتها ولها حرمة وهي قديمة، وإنما لم تمنع من قراءتها ومسها للحاجة إلى تعليمها، كما يقال في الصبي : يجوز له مس المصحف على غير طهارة للحاجة إلى تعليمه .(2/357)
فإن قيل : فيجب إذا حلف بها حالف أن تنعقد يمينه وإذا خالف يمينه أن يحنث، قيل له : كما في حروف القرآن مثله نقول هنا .
فإن قيل : أليس إذا وافقها في هذه المعاني دل على أنها هي، ألا ترى أنه إذا تكلم متكلم بكلمة يقصد بها خطاب آدمي فوافق صفتها صفة ما في كتاب الله ـ تعالى ـ مثل قوله : يا داود، يا نوح، يا يحيى، وغير ذلك؛ فإنه موافق لهذه الأسماء التي في كتاب الله، وإن / كانت في كتاب الله قديمة وفي خطاب الآدمي محدثة ؟ .
قيل : كل ما كان موافقًا لكتاب الله من الكلام في لفظه ونظمه وحروفه فهو من كتاب الله، وإن قصد به خطاب آدمي .
فإن قيل : فيجب إذا أراد بهذه الأسماء آدميًا وهو في الصلاة ألا تبطل صلاته .
قيل له : كذلك نقول، وقد ورد مثل ذلك عن علي وغيره، إذ ناداه رجل من الخوارج : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } [ الزمر : 56 ] قال : فأجابه على وهو في الصلاة : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [ الروم : 60 ] . وعن ابن مسعود أنه استأذن عليه بعض أصحابه فقال : { ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ } [ يوسف : 99 ] .
قال : فإن قيل : أليس إذا قال : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [ مريم : 12 ] ونوى به خطاب غلام اسمه يحيى يكون الخطاب مخلوقًا ؟ وإن نوى به القرآن يكون قديمًا، قيل له : في كلا الحالين يكون قديمًا؛ لأن القديم عبارة عما كان موجودًا فيما لم يزل، والمحدث عبارة عما حدث بعد أن لم يكن، والنية لا تجعل المحدث قديمًا ولا القديم محدثًا، قال : ومن قال هذا فقد بالغ في الجهل والخطأ .
/ وقال ـ أيضًا ـ : كل شيء يشبه بشيء ما فإنما يشبهه في بعض الأشياء دون بعض، ولا يشبهه من جميع أحواله؛ لأنه إذا كان مثله في جميع أحواله كان هو لا غيره، وقد بينا أن هذه الحروف تشبه حروف القرآن فهي غيرها . ا هـ .(2/358)
قلت : هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله، مع أنه أجَلّ من تكلم في هذه المسألة، ولما كان جوابه مشتملا على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به .
وأجاب ابن عقيل عن سؤال الذين قالوا : هذا مثل هذا، بأن قال : الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث، كما أن كونه عالما هو تبينه للشيء على أصلكم، ومعرفته به على قولنا على الوجه الذي يتبينه الواحد منا، وليس مماثلا لنا في كوننا عالمين . وكذلك كونه قادرًا هو صحة الفعل منه ـ سبحانه وتعالى ـ وليست قدرته على الوجه الذي قدرنا عليها، فليس الاشتراك في الحقيقة حاصلا، والافتراق في القدم والحدوث حاصل .
قال : وجواب آخر : لا نقول : إن الله يتكلم بكلامه على / الوجه الذي يتكلم به زيد، بمعنى : أنه يقول : يا يحيى، فإذا فرغ من ذلك انتقل إلى قوله : خذ الكتاب بقوة، وترتب في الوجود كذلك، بل هو ـ سبحانه وتعالى ـ يتكلم به على وجه تعجز عن مثله أدواتنا، فما ذكرته من الاشتباه من قول القائل : يا يحيى خذ الكتاب، يعود إلى اشتباه التلاوة بالكلام المحدث، فأما أنه يشابه الكلام القائم بذاته فلا .
قال ابن عقيل : قالوا : فهذا لا يجيء على مذهبكم؛ فإن عندكم التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء . قيل : ليس معنى قولنا : هي المتلو، أنها هذه الأصوات المقطعة، وإنما نريد به ما يظهر من الحروف القديمة في الأصوات المحدثة، وظهورها في المحدث لابد أن يكسبها صفة التقطيع لاختلاف الأنفاس، وإدارة اللهوات؛ لأن الآلة التي تظهر عليها لا تحمل الكلام إلا على وجه التقطيع، وكلام الباري قائم بذاته على خلاف هذا التقطيع، والابتداء، والانتهاء، والتكرار، والبعدية، والقبلية .
فصل(2/359)
وأما قول القائل : إن أحمد إنما قال ذلك خوفًا من الناس، فبطلان هذا يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد، وقائل هذا إلى العقوبة البليغة التي يفترى بها على الأئمة أحوج منه إلى جوابه ؛ فإن / الإمام أحمد صار مثلا سائرًا يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، حتى صار اسم الإمام مقرونًا باسمه في لسان كل أحد، فيقال : قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد ؛ لقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] ؛ فإنه أعطى من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين .
وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون، من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين، والقضاة، والوزراء، والسعاة والأمراء، والولاة من لا يحصيهم إلا الله . فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره، وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله، وبالضرب، وبعضهم بالتشريد والنفي، وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض، حتى أصحابه العلماء، والصالحون والأبرار، وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره، ودفع من البدع المخالفة لذلك مالم يتأت مثله لعالم من نظرائه، وإخوانه المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا قال بعض شيوخ الشام : لم يظهر أحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما أظهره أحمد بن حنبل، فكيف يظن به أنه كان يخاف في هذه الكلمة التي لا قدر لها ؟ !
/وأيضا، فمن أصوله أنه لا يقول في الدين قولا مبتدعا، وقد جعلوا يطالبونه بما ابتدعوه، فيقول لهم : كيف أقول مالم يقل ؟ ! فكيف يكتم كلمة ما قالها أحد قبله من خلق الله .(2/360)
وأيضًا، فإن أحمد بن الحسن الترمذي من خواص أصحابه وأعيانهم، فما الموجب لأن يستعمل التقية معه .
وأيضاً، فلم يكن به حاجة إلي أن يقول : كلام الآدمي مخلوق، وإنما هو ذكر ذلك مستدلا به ضاربًا به المثل، فكيف يبتدئ بكلام هو عنده باطل لم يسأله عنه أحد ؟ !
وأيضًا، فقد كان يسعه أن يسكت عن هذا ؛ فإن الإنسان إذا خاف من إظهار قول كتمه . أما إظهاره لقول لم يطلب منه، وهو باطل عنده، فهذا لا يفعله أقل الناس عقلا وعلمًا وديناً .
فمن يسب الإمام أحمد الذي موقفه من الإسلام وأهله فوق ما يصفه الواصف، ويعرفه العارف، فقد استوجب من غليظ العقوبة ما يكون نكالا لكل مفتر كاذب راجم بالظن قاذف، قائل على الله ورسوله والمؤمنين وأئمتهم ما لا يقوله العدو المنافق .
وأيضًا، فقد ذكر ذلك فيما صنفه من [ الرد على الزنادقة / والجهمية ] وهو في الحبس، وكتبه بخطه، ولم يكن ذلك مما أظهره لأعدائه : الذين يحتاج غيره إلى أن يستعمل معهم التقية .
وهذا القول أقبح من قول الروافض فيما ثبت عن أمير المؤمنين على ـ رضي الله عنه ـ أنه قاله وفعله على وجه التقية؛ فإن الإمام أحمد صنف الرد عليهم وبين أنهم زنادقة، فأي تقية تكون لهم مع هذا وهو يجاهدهم ببيانه وبنانه، وقلمه ولسانه ؟ .
فصل(2/361)
وهو ـ سبحانه وتعالى ـ لما أقسم بـ [ الصافات ] و [ الذاريات ] و [ المرسلات ] ذكر المقسم عليه . فقال تعالى : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } [ الصافات : 4 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 5، 6 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } [ المرسلات : 7 ] . ولم يذكره في النازعات؛ فإن الصافات هي الملائكة،وهو لم يقسم على وجودها، كما لم يقسم على وجود نفسه؛ إذ كانت الأمم معترفة بالصافات، وكانت معرفته ظاهرة عندهم لا يحتاج إلى إقسام، بخلاف التوحيد، فإنه كما قال تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] . وكذلك الملائكة يقر بها عامة الأمم، كما ذكر اللّه عن قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، مع شركهم وتكذيبهم بالرسل، أنهم كانوا يعرفون الملائكة . قال قوم نوح : { مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً } [ المؤمنون : 24 ] ، وقال : { أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً } [ فصلت : 13، 14 ] ، وقال فرعون : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 52، 53 ] .(2/362)
وكذلك مشركو العرب، قال تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } [ الأنعام : 8 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } [ الفرقان : 7 ] ، وقال تعالى عن الأمم مطلقًا : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولا } [ الإسراء : 94، 95 ] .
فكانت هذه الأمم المكذبة للرسل المشركة بالرب مقرة باللّه وبملائكته، فكيف بمن سواهم ؟ فعلم أن الإقرار بالرب وملائكته معروف عند عامة الأمم؛ فلهذا لم يقسم عليه وإنما أقسم على التوحيد؛ لأن أكثرهم مشركون .
وكذلك [ الذاريات ] و [ الحاملات ] و [ الجاريات ] ، هي أمور مشهودة للناس، و [ المقسمات أمرًا ] هم الملائكة، فلم يكن فيما أقسم به ما أقسم عليه، فذكر المقسم عليه، فقال تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 5، 6 ] .
و [ المرسلات ] سواء كانت هي الملائكة النازلة بالوحي والمقسم عليه الجزاء في الآخرة، أو الرياح، أو هذا وهذا، فهي معلومة أيضًا .(2/363)
وأما { النازعات غرقا } فهي الملائكة القابضة للأرواح،وهذا يتضمن الجزاء،وهو من أعظم المقسم عليه، قال تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ] ، وقال تعالى : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } [ الأنعام : 61، 62 ] . . . . [ سقط بالأصل ] هو، ولا يعين على عبادته إلا هو، وهذا يقين يعطي الاستعانة والتوكل، وهو يقين بالقدر الذي لم يقع؛ فإن الاستعانة والتوكل إنما يتعلق بالمستقبل .
فأما ما وقع فإنما فيه الصبر والتسليم والرضى، كما في حديث عمار بن ياسر ـ رضي اللّه عنه ـ مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ( أسألك الرضا بعد القضاء ) ، وقول : ( لا حول ولا قوة إلا باللّه ) يوجب الإعانة؛ ولهذا سنها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قال المؤذن : ( حي على الصلاة . فيقول المجيب : لا حول ولا قوة إلا باللّه، فإذا قال : حي على الفلاح . قال المجيب : لا حول ولا قوة إلا باللّه ) .
وقال المؤمن لصاحبه : { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } [ الكهف : 39 ] ، ولهذا يؤمر بهذا من يخاف العين على شىء . فقوله : ما شاء اللّه، تقديره : ما شاء اللّه كان، فلا يأمن، بل يؤمن بالقدر، ويقول : لا قوة إلا باللّه . وفي حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي اللّه عنه ـ المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هي كنز من كنوز الجنة ) ، و [ الكنز ] مال مجتمع لا يحتاج إلى جمع؛ وذلك أنها تتضمن التوكل والافتقار إلى الله تعالى .(2/364)
ومعلوم أنه لا يكون شىء إلا بمشيئة اللّه وقدرته، وأن الخلق ليس منهم شيء إلا ما أحدثه اللّه فيهم، فإذا انقطع طلب القلب للمعونة منهم وطلبها من اللّه فقد طلبها من خالقها الذي لا يأتي بها إلا هو، قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِه } [ فاطر : 2 ] ، وقال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ، وقال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [ الأنعام : 71 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } [ الزمر : 38 ] .
وقال صاحب يس : { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ يس : 23، 24 ] ؛ ولهذا يأمر اللّه بالتوكل عليه وحده في غير موضع . وفي الأثر : من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه أوثق منه بما في يده . قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } [ الفرقان : 58 ] .(2/365)
واللّه تعالى أمر بعبادته والتوكل عليه، قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] وقال تعالى : { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] ، وقال موسى : { يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] .
وقال شعيب : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] ، وقال المؤمنون : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ الممتحنة : 4 ] ،وَقال تعالى : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [ المزمل : 8، 9 ] وَقال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرً } [ الطلاق : 2، 3 ] .
فافترق الناس هنا أربعة أصناف :
صنف لا يعبدونه ولا يتوكلون عليه، وهم شرار الخلق .
وصنف يقصدون عبادته بفعل ما أمر، وترك ما حظر،لكن لم يحققوا التوكل والاستعانة، فيعجزون عن كثير مما يطلبونه، ويجزعون في كثير من المصائب .
ثم من هؤلاء من يكذب بالقدر، ويجعل نفسه هو المبدع لأفعاله، فهؤلاء في الحقيقة لا يستعينونه ولا يطلبون منه صلاح قلوبهم، ولا تقويمها ولا هدايتها، وهؤلاء مخذولون كما هم عند الأمة كذلك، وقوم يؤمنون بالقدر قولاً واعتقادًا، لكن لم تتصف به قلوبهم علمًا وعملاً، كما اتصفت بقصد الطهارة والصلاة، فهم أيضًا ضعفاء عاجزون .(2/366)
وصنف نظر إلى جانب القدرة والمشيئة،وأن اللّه تعالى هو المعطي والمانع، والخافض والرافع، فغلب عليهم التوجه إليه من هذه الجهة والاستعانة به، والافتقار إليه لطلب ما يريدونه، فهؤلاء يحصل لأحدهم نوع سلطان وقدرة ظاهرة أو باطنة وقهر لعدوه؛ بل قتل له ونيل لأغراضه، لكن لا عاقبة لهم؛ فإن العاقبة للتقوى، بل آخرتهم آخرة ردية .
وليس الكلام في الكفار والظلمة المعرضين عن اللّه،فإن هؤلاء دخلوا في القسم الأول الذين لا عبادة لهم ولا استعانة،ولكن الكلام في قوم عندهم توجه إلى اللّه وتأله، ونوع من الخشية والذكر والزهد، لكن يغلب عليهم التوجه بإرادة أحدهم وذوقه ووجده، وما يستحليه ويستحبه، لا بالأمر الشرعي وهم أصناف :
منهم المعرض عن التزام العبادات الشرعية، مع ما يحصل له من الشياطين من كشف له أو تأثير، وهؤلاء كثير منهم يموت على غير الإسلام .
ومنهم من يقوم بالعبادات الشرعية الظاهرة كالصلاة، والصيام، والحج، وترك المحرمات، لكن في أعمال القلوب لا يلتزم الأمر الشرعي؛ بل يسعى لما يحبه ويريده، واللّه تعالى قال : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ } [ الإسراء : 20 ] ،وهو ـ سبحانه ـ يعطي السلطان والمال للبر والفاجر، فقد يعطي أحد هؤلاء تصرفًا؛ إما بقهر عدوه وإما بنصر وليه، كما تعطى الملوك، وقد يعطى نوعًا من المكاشفة؛ إما بإخبار بعض الجن له، وقد يعرف أنه من الجن، وقد لا يعرف، وإما بغير ذلك .(2/367)
وقد يقول الواحد من هؤلاء : أنا آخذ من اللّه وغيري يأخذ من محمد صلى الله عليه وسلم، فيرى بحاله في ذاك وتفرده أن ما أوتيه من التصرف والمكاشفة، يحصل له بغير طريق محمد صلى الله عليه وسلم وهو صادق في ذلك، لكن هذه في الحقيقة وبال عليه؛ فإن من تصرف بغير أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ ما لم يبحه له الرسول فولى وعزل، وأعطى ومنع بغير أمر الرسول، وقتل وضرب بغير أمره، وأكرم وأهان بغير أمره، وجاءه خطاب في باطنه بالأمر والنهي، فاعتقد أن الّله أمره ونهاه من غير واسطة الرسول، كانت حالته هذه كلها من الشيطان، وكان الشيطان هو الذي يأمره وينهاه، فيأمره فيتصرف، وهو يظن أنه يتصرف بأمر اللّه؛ ولعمري هو يتصرف بأمر اللّه الكوني القدري بواسطة أمر الشيطان، كما قال تعالى في السحرة : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة : 102 ] كما أن المؤمن يتصرف بأمر اللّه الكوني القدري، لكن بواسطة أمر الرسول المبلغ له عن اللّه عز وجل .
فالحلال عنده ما أحله اللّه ورسوله، والحرام ما حرمه اللّه ورسوله، والدين ما شرعه اللّه ورسوله؛ بخلاف ذاك فإنه لا يأخذ عن الرسول الأمر والنهي الباطن، ولا ما يفعله ويأمر به، وهذا الضرب كثير في المشايخ أرباب القلوب والأحوال الذين ضعف علمهم بالكتاب والسنة ومتابعة الرسول، وغلب عليهم ما يجده أحدهم في قلبه، وما يؤمر به في باطنه، سواء وافق الرسول أو خالفه .
ثم تفاوتوا في ذلك بحسب قربهم من الرسول وبعدهم منه، فكثير منهم بعد عنه حتى صار يرى أنه يعاون الكفار على قتال المسلمين، ويرى أن اللّه ـ سبحانه ـ أمره بذلك، ويعتقد أن أهل الصُّفَّة فعلوا ذلك .
ومنهم من يرى أن الرسول لم يرسل إليه وإلى أشكاله، وإنما أرسل إلى العوام .
ومنهم من يعتقد أن الرسول كان خاضعًا لأهل الصفة، وكانوا مستغنين عنه، إلى أمثال هذه الأصناف التي كثرت في هذه الأزمنة .(2/368)
وهؤلاء كلهم يدعون علم الحقيقة، ويقولون : الحقيقة لون والشريعة لون آخر، ويجمعهم شيئان : أن لهم تصرفًا وكشفًا خارجًا عما للعامة، وأنهم معرضون عن وزن ذلك بالكتاب والسنة، وتحكيم الرسول في ذلك، فهم بمنزلة الملوك الذين لهم ملك يسوسونه بغير أمر اللّه ورسوله؛ لكن الملوك لا يقول أحدهم : إن اللّه أمرني بذلك، ولا إني ولي اللّه، ولا إن لي مادة من اللّه خارجة عن الرسول، ولا إن الرسل لم تبعث إلى مثلي، وإنما الملوك يقصدون أغراضهم ولا يجعلونها دِينًا .
وهؤلاء يجعلون أغراضهم التي هي من أعظم الظلم والفساد بل والكفر، يجعلون ذلك دينا يدين به أولياء اللّه عندهم؛ لأن هذه الأمور إنما تحصل لهم بنوع من الزهادة والعبادة؛ ولكن ليس هو الزهد والعبادة التي بعث اللّه بها رسوله، بل يشبهه حال أهل الكتاب والمشركين من عباد الهند والنصارى وأمثالهم .
ولهذا تظهر مشابهتهم لعباد المشركين وأهل الكتاب، حتى إن من رأى عباد الهنود ثم رأى مُولِهي بيت الرفاعي أنكر وجود هؤلاء في ديار الإسلام .
وقال : هؤلاء مثل عباد المشركين من الهند سواء، وأرفع من هؤلاء من يشبه عباد النصارى ورهبانهم في أمور كثيرة خارجة عن شريعة الإسلام، فلما كان فيهم دين مبتدع من جنس دين المشركين، وأهل الكتاب ظنوا ما يظنه أولئك من أن هذا دين صحيح، وأنه دين يقرب إلى اللّه، وأن أهله أولياء اللّه، فإن جميع طوائف العلماء والعباد من جميع أهل الملل يظنون [ آخر ما وجد من الأصل ] .
فصل(2/369)
وقد ذكرت فى مواضع ما اشتملت عليه سورة ( البقرة ) من تقرير أصول العلم وقواعد الدين : أن الله ـ تعالى ـ افتتحها بذكر كتابه الهادى للمتقين، فوصف حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين . فهذه ( جمل خبرية ) ثم ذكر ( الجمل الطلبية ) فدعا الناس إلى عبادته وحده، ثم ذكر الدلائل على ذلك من فرش الأرض وبناء السماء وإنزال الماء، وإخراج الثمار رزقا للعباد، ثم قرر ( الرسالة ) وذكر ( الوعد، والوعيد ) ثم ذكر مبدأ ( النبوة والهدى ) وما بثه فى العالم من الخلق والأمر، ثم ذكر تعلم آدم الأسماء، وإسجاد الملائكة له لما شرفه من العلم؛ فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، فقص جنس دعوة الأنبياء .
ثم انتقل إلى خطاب بنى إسرائيل وقصة موسى معهم، وضمن ذلك تقرير نبوته، إذ هو قرين محمد، فذكر آدم الذى هو أول،وموسى الذى هو نظيره، وهما اللذان احتجا، وموسى قتل نفساً فغفر له، وآدم أكل من الشجرة فتاب علىه، وكان فى قصة موسى رد على الصابئة ونحوهم ممن يقر بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاؤوا به، وقد يتأولون أخبار الأنبياء، وفيها رد على أهل الكتاب بما تضمنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتقرير نبوته، وذكر حال من عَدَل عن النبوة إلى السِّحْر، وذكر النسخ الذى ينكره بعضهم، وذكر النصارى وأن الأمتين لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم . كل هذا فى تقرير أصول الدين من الوحدانية والرسالة .
ثم أخذ ـ سبحانه ـ فى بيان شرائع الإسلام التى على ملة إبراهيم، فذكر إبراهيم، الذى هو إمام، وبناء البيت الذى بتعظيمه يتميز أهل الإسلام عما سواهم، وذكر استقباله، وقرر ذلك؛ فإنه شعار الملة بين أهلها وغيرهم؛ ولهذا يقال : أهل القبلة، كما يقال : ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم ) .(2/370)
وذكر من ( المناسك ) ما يختص بالمكان، وذلك أن الحج له مكان وزمان، و ( العمرة ) لها مكان فقط، والعكوف والركوع والسجود شرع فيه، ولا يتقيد به، ولا بمكان، ولا بزمان، لكن الصلاة تتقيد باستقباله، فذكر ـ سبحانه ـ هذه الأنواع الخمسة : من العكوف، والصلاة، والطواف، والعمرة، والحج، والطواف يختص بالمكان، ثم أتبع ذلك ما يتعلق بالبيت من الطواف بالجبلين، وأنه لا جُنَاح فيه؛ جوابا لما كان عليه الأنصار فى الجاهلية من كراهة الطواف بهما لأجل إهلالهم لمناة، وجوابا لقوم توقفوا عن الطواف بهما .
وجاء ذكر الطواف بعد العبادات المتعلقة بالبيت ـ بل وبالقلوب والأبدان والأموال ـ بعد ما أمروا به من الاستعانة بالصبر والصلاة اللذين لا يقوم الدين إلا بهما، وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر؛ لأن ذلك من تمام أمر البيت؛ لأن أهل الملل لا يخالفون فيه، فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه، وذكر الصبر على المشروع والمقدور، وبين ما أنعم به على هذه الأمة من البشرى للصابرين؛ فإنها أعطيت ما لم تعط الأمم قبلها، فكان ذلك من خصائصها وشعائرها كالعبادات المتعلقة بالبيت؛ ولهذا يقرن بين الحج والجهاد لدخول كل منهما فى سبيل الله، فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنص والإجماع، وكذلك الحج فى الأصح، كما قال : الحج من سبيل الله .
وبين أن هذا معروف عند أهل الكتاب بذمه لكاتم العلم، ثم ذكر أنه لا يقبل ديناً غير ذلك . ففى أولها : { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً } [ البقرة : 22 ] ، وفى أثنائها : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادا } [ البقرة : 165 ] ، فالأول نهي عام، والثانى نهي خاص، وذكرها بعد البيت لينتهى عن قصد الأنداد المضاهية له ولبيته من الأصنام والمقابر ونحو ذلك، ووحد نفسه قبل ذلك، وأنه لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، ثم ذكر ما يتعلق بتوحيده من الآيات .(2/371)
ثم ذكر الحلال والحرام، وأطلق الأمر فى المطاعم؛ لأن الرسول بعث بالحنيفية وشعارها وهو البيت، وذكر سماحتها في الأحوال المباحة، وفي الدماء بما شرعه من القصاص، ومن أخذ الدية، ثم ذكر العبادات المتعلقة بالزمان، فذكر الوصية المتعلقة بالموت، ثم الصيام المتعلق برمضان، وما يتصل به من الاعتكاف ذكره في عبادات المكان وعبادات الزمان، فإنه يختص بالمسجد وبالزمان استحباباً أو وجوبا بوقت الصيام، ووسطه أولاً بين الطواف والصلاة؛ لأن الطواف يختص بالمسجد الحرام، والصلاة تشرع فى جميع الأرض، والعكوف بينهما .
ثم أتبع ذلك بالنهى عن أكل الأموال بالباطل، وأخبر أن المحرم نوعان : نوع لعينه كالميتة، ونوع لكسبه كالربا والمغصوب . فاتبع المعنى الثابت بالمحرم الثابت تحريمه لعينه، وذكر فى أثناء عبادات الزمان المنتقل الحرام المنتقل؛ ولهذا أتبعه بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ } الآية [ البقرة : 189 ] ، وهى أعلام العبادات الزمنية، وأخبر أنه جعلها مواقيت للناس فى أمر دينهم ودنياهم وللحج؛ لأن البيت تحجه الملائكة والجن، فكان هذا أيضا فى أن الحج موقت بالزمان كأنه موقت بالبيت المكانى؛ ولهذا ذكر بعد هذا من أحكام الحج ما يختص بالزمان، مع أن المكان من تمام الحج والعمرة .
وذكر المُحْصَر، وذكر تقديم الإحلال المتعلق بالمال وهو الهدى عن الإحلال المتعلق بالنفس وهو الحلق، وإن المتحلل يخرج من إحرامه فيحل بالأسهل فالأسهل؛ ولهذا كان آخر ما يحل عين الوطء [ فى المطبوعة : الوطئ ـ والصواب ما أثبتناه ] ، فإنه أعظم المحظورات ولا يفسد النسك بمحظور سواه .(2/372)
وذكر ( التمتع بالعمرة إلى الحج ) لتعلقه بالزمان مع المكان؛ فإنه لا يكون متمتعاً حتى يحرم بالعمرة فى أشهر الحج، وحتى لا يكون أهله حاضرى المسجد الحرام ـ وهو الأفقى ـ فإنه الذى يظهر التمتع فى حقه لترفهه بسقوط أحد السفرين عنه، أما الذي هو حاضر فسيان عنده تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج، ثم ذكر وقت الحج، وأنه أشهر معلومات، وذكر الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة؛ فإنه هذا مختص بزمان ومكان؛ ولهذا قال : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } [ البقرة : 197 ] ، ولم يقل : ( والعمرة ) لأنها تفرض فى كل وقت، ولا ريب أن السنة فرض الحج فى أشهره، ومن فرض قبله خالف السنة، فإما أن يلزمه ما التزمه كالنذر ـ إذ ليس فيه نقد للمشروع، وليس كمن صلى قبل الوقت ـ وإما أن يلزم الإحرام ويسقط الحج ويكون معتمراً، وهذان قولان مشهوران .
ثم أمر عند قضاء المناسك بذكره، وقضائها ـ والله أعلم ـ قضاء التَّفَث [ التَّفَث : قيل : الشَّعَث وما كان من نحو قص الأظفار والشارب وحلق العانة وغير ذلك . انظر : القاموس المحيط، مادة : تفث ] ، والإحلال؛ ولهذا قال بعد ذلك : { وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] ، وهذا أيضاً من العبادات الزمانية المكانية . وهو ذكر الله تعالى مع رمى الجمار ومع الصلوات، ودل على أنه مكانى قوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } الآية [ البقرة : 203 ] ، وإنما يكون التعجيل والتأخير فى الخروج من المكان؛ ولهذا تضاف هذه الأيام إلى مكانها فيقال : أيام مِنى، وإلى عملها فيقال : أيام التشريق، كما يقال : ليلة جَمْع [ أى مِنى ] ، وليلة مزدلفة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر، ويوم العيد، ويوم الجمعة، فتضاف إلى الأعمال وأماكن الأعمال؛ إذ الزمان تابع للحركة، والحركة تابعة للمكان .(2/373)
فتدبر تناسب القرآن وارتباط بعضه ببعض، وكيف ذكر أحكام الحج فيها فى موضعين، مع ذكر بيته وما يتعلق بمكانه، وموضع ذكر فيه الأهلة فذكر ما يتعلق بزمانه، وذكر أيضاً القتال فى المسجد الحرام والمقاصة فى الشهر الحرام؛ لأن ذلك مما يتعلق بالزمان المتعلق بالمكان؛ ولهذا قرن ـ سبحانه ـ ذكر كون الأهلة مواقيت للناس والحج .
وذكر أن ( البر ) ليس أن يشقى الرجل نفسه، ويفعل ما لا فائدة فيه، من كونه يبرز للسماء، فلا يستظل بسقف بيته، حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره، فأخبر أن الهلال الذى جعل ميقاتاً للحج شرع مثل هذا، وإنما تضمن شرع التقوى، ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحكام النكاح والوالدات، وما يتعلق بالأموال والصدقات والربا والديون وغير ذلك، ثم ختمها بالدعاء العظيم المتضمن وضع الآصار والأغلال والعفو والمغفرة والرحمة وطلب النصر على القوم الكافرين الذين هم أعداء ما شرعه من الدين فى كتابه المبين .
والحمد لله رب العالمين .
فصل
لما ذكر ـ سبحانه ـ ما يبطل الصدقة من المن والأذى ومن الرياء، ومثله بالتراب على الصَّفْوان [ أى الحجارة الملس . انظر : المصباح المنير، مادة : صفو ] إذا أصابه المطر؛ ولهذا قال : { وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ البقرة : 264 ] ،لأن الإيمان بأحدهما لا ينفع هنا، بخلاف قوله فى النساء : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } إلى قوله : { وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } [ النساء : 36-38 ] .
فإنه فى معرض الذم، فذكر غايته وذكر ما يقابله وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم .
فالأول الإخلاص .(2/374)
والتثبيت : هو التثبت كقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } [ النساء : 66 ] ، كقوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا } [ المزمل : 8 ] ، ويشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا من باب قدم وتقدم كقوله : { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الحجرات : 1 ] فتبتل وتثبت لازم بمعنى ثبت . . . [ هنا كلمات غير متضحة ] لأن التثبت هو القوة والمكنة، وضده الزلزلة والرَّجْفَة، فإن الصدقة من جنس القتال، فالجبان يرجف، والشجاع يثبت؛ ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( وأما الخيلاء التى يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند الحرب، واختياله بنفسه عند الصدقة ) لأنه مقام ثبات وقوة، فالخيلاء تناسبه، وإنما الذى لا يحبه الله المختال الفخور البخيل الآمر بالبخل، فأما المختال مع العطاء أو القتال فيحبه .
وقوله : { من أنفسهم } أى : ليس المقوى له من خارج كالذى يثبت وقت الحرب لإمساك أصحابه له، وهذا كقوله : { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } [ الشورى : 37 ] ، بل تثبته ومغفرته من جهة نفسه .
وقد ذكر الله ـ سبحانه ـ فى البقرة والنساء الأقسام الأربعة فى العطاء .
إما ألا يعطى فهو البخيل المذموم فى النساء، أو يعطى مع الكراهة والمن والأذى، فلا يكون بتثبيت وهو المذموم فى البقرة، أو مع الرياء فهو المذموم فى السورتين، فبقى القسم الرابع : ابتغاء رضوان اللّه وتثبيتاً من أنفسهم .(2/375)
ونظيره الصلاة؛ إما ألا يصلى، أو يصلى رياء أو كسلان، أو يصلى مخلصاً، والأقسام الثلاثة الأُول مذمومة . وكذلك الزكاة، ونظير ذلك الهجرة والجهاد؛ فإن الناس فيهما أربعة أقسام، وكذلك { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً } [ الأنفال : 45 ] فى الثبات والذكر، وكذلك { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] فى الصبر والمرحمة أربعة أقسام، وكذلك { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } [ البقرة : 45 ] فهم . . . [ هنا كلمات غير متضحة ] فى الصبر والصلاة .
فعامة هذه الأشفاع التى فى القرآن : إما عملان،و إما وصفان فى عمل؛ انقسم الناس فيها قسمة رباعية، ثم إن كانا عملين منفصلين كالصلاة والصبر، والصلاة والزكاة ونحو ذلك نفع أحدهما ولو ترك الآخر، وإن كانا شرطين فى عمل كالإخلاص والتثبت لم ينفع أحدهما، فإن المن والأذى محبط، كما أن الرياء محبط، كما دل عليه القرآن، ومن هذا تقوى اللّه وحسن الخلق؛ فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والبر والتقوى والحق والصبر، وأفضل الإيمان السماحة والصبر .(2/376)
بخلاف الأشفاع فى الذم كالإفك والإثم، والاختيال والفخر، والشح والجبن، والإثم والعدوان؛ فإن الذم ينال أحدهما مفرداً ومقروناً، لأن الخير من باب المطلوب وجوده لمنفعته، فقد لا تحصل المنفعة إلا بتمامه، والشر يطلب عدمه لمضرته وبعض المضار يضر فى الجملة غالباً؛ ولهذا فرق فى الأسماء بين الأمر والنهى، والإثبات والنفى، فإذا أمر بالشىء اقتضى كماله، وإذا نهى عنه اقتضى النهى عن جميع أجزائه؛ ولهذا حيث أمر الله بالنكاح ـ كما في المطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره، وكما في الإحصان - فلابد من الكمال بالعقد والدخول، وحيث نهى عنه ـ كما فى ذوات المحارم ـ فالنهى عن كل منهما على انفراده، وهذا مذهب مالك وأحمد المنصوص عنه أنه إذا حلف ليتزوجن لم يَبَرَّ إلا بالعُقْدَة والدخول، بخلاف ما إذا حلف لا يتزوج فإنه يحنث بالعقدة، وكذلك إذا حلف لا يفعل شيئاً حنث بفعل بعضه، بخلاف ما إذا حلف ليفعلنه، فإن دلالة الاسم على كل وبعض تختلف باختلاف النفى والإثبات .
ولهذا لما أمر الله بالطهارة والصلاة والزكاة والحج كان الواجب الإتمام، كما قال تعالى : { بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] وقال : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] .
ولما نهى عن القتل والزنا والسرقة والشرب كان ناهياً عن أبعاض ذلك، بل وعن مقدماته ـ أيضاً، وإن كان الاسم لا يتناوله فى الإثبات؛ ولهذا فرق فى الأسماء النكرات بين النفى والإثبات، والأفعال كلها نكرات، وفرق بين الأمر والنهى بين التكرار وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه ) .
وإنما اختلف فى المعارف المنفية على روايتين، كما فى قوله : لا تأخذ الدراهم، ولا تكلم الناس .
وَقَالَ شيخ الإِسلام أبو العباس تقى الدين ابن تيمية ـ قدس الله روحه ونور ضريحه :
فصل(2/377)
فى قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] ، قد ثبت فى صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة، قال : لما أنزل اللّه : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } اشتد ذلك على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بَرَكُوا على الركب، وقالوا : أى رسول الله ! كُلِّفْنَا من العمل ما نُطِيق : الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة؛ وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ، فلما قرأها القوم وذَلَّتْ بها ألسنتهم أنزل الله فى أثرها : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل اللّه : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال : ( نعم ) ، { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال : ( نعم ) ، { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : ( نعم ) ، { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 286 ] ،(2/378)
قال : ( نعم ) .
وروى سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس معناه،وقال : ( قد فَعَلْتُ، قد فَعَلْتُ ) ، بدل ( نعم ) .
ولهذا قال كثير من السلف والخلف : إنها منسوخة بقوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } ، كما نقل ذلك عن ابن مسعود، وأبى هريرة، وابن عمر، وابن عباس فى رواية عنه، والحسن، والشَّعْبِى، وابن سِيرِين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراسانى، والسُّدِّىّ، ومحمد بن كعب، ومقاتل، والكلبى، وابن زيد، ونقل عن آخرين أنها ليست منسوخة، بل هى ثابتة فى المحاسبة على العموم، فيأخذ من يشاء ويغفر لمن يشاء، كما نقل ذلك عن ابن عمر، والحسن، واختاره أبو سليمان الدمشقى والقاضى أبو يعلى، وقالوا : هذا خبر، والأخبار لا تنسخ .
وفصل الخطاب : أن لفظ ( النسخ ) مجمل، فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه، من عموم أو إطلاق أو غير ذلك، كما قال من قال : إن قوله : { اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] ، { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] ، نسخ بقوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، وليس بين الآيتين تناقض، لكن قد يفهم بعض الناس من قوله : { حَقَّ تُقَاتِهِ } و { حَقَّ جِهَادِهِ } الأمر بما لا يستطيعه العبد فينسخ ما فهمه هذا، كما ينسخ اللّه ما يلقى الشيطان ويحكم اللّه آياته . وإن لم يكن نسخ ذلك نسخ ما أنزله، بل نسخ ما ألقاه الشيطان، إما من الأنفس أو من الأسماع أو من اللسان .
وكذلك ينسخ اللّه ما يقع فى النفوس من فهم معنى، وإن كانت الآية لم تدل عليه لكنه محتمل وهذه الآية من هذا الباب؛ فإن قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } الآية إنما تدل على أن اللّه يحاسب بما فى النفوس لا على أنه يعاقب على كل ما فى النفوس، وقوله : { لِمَن يَشَاء } يقتضى أن الأمر إليه فى المغفرة والعذاب لا إلى غيره .(2/379)
ولا يقتضى أنه يغفر ويعذب بلا حكمة ولا عدل، كما قد يظنه من يظنه من الناس، حتى يجوزوا أنه يعذب على الأمر اليسير من السيئات مع كثرة الحسنات وعظمها، وأن الرجلين اللذين لهما حسنات وسيئات يغفر لأحدهما مع كثرة سيئاته وقلة حسناته، ويعاقب الآخر على السيئة الواحدة مع كثرة حسناته، ويجعل درجة ذاك فى الجنة فوق درجة الثانى .
وهؤلاء يجوزون أن يعذب اللّه الناس بلا ذنب، وأن يكلفهم ما لا يطيقون ويعذبهم على تركه، والصحابة إنما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس، فقالوا : لا طاقة لنا بهذا؛ فإنه إن كلفنا ما لا نطيق عذبنا، فنسخ اللّه هذا الظن، وبين أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبين بطلان قول هؤلاء الذين يقولون : إنه يكلف العبد ما لا يطيقه، ويعذبه عليه، وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف والأئمة، بل أقوالهم تناقض ذلك،حتى إن سفيان بن عيينة سئل عن قوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، قال : إلا يسرها، ولم يكلفها طاقتها . قال البغوى : وهذا قول حسن؛لأن الوسع ما دون الطاقة،وإنما قاله طائفة من المتأخرين لما ناظروا المعتزلة فى ( مسائل القدر ) وسلك هؤلاء مسلك الجبر، جَهْم وأتباعه،فقالوا هذا القول وصاروا فيه على مراتب،وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع .
قال ابن الأنبارى فى قوله : { وَلاَتُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] أى : لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تَجشُّم وتحمل مكروه، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل؛ فإن الرجل منهم يقول للرجل : ما أطيق النظر إليك،وهومطيق لذلك،لكنه ثقيل عليه النظر إليه قال : ومثله قوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } [ هود : 20 ] .(2/380)
قلت : ليست هذه لغة العرب وحدهم، بل هذا مما اتفق عليه العقلاء . والاستطاعة فى الشرع هى ما لا يحصل معه للمكلف ضرر راجح، كاستطاعة الصيام والقيام، فمتى كان يزيد فى المرض أو يؤخر البرء لم يكن مستطيعاً؛ لأن فى ذلك مضرة راجحة، بخلاف هؤلاء فإنهم كانوا لا يستطيعون السمع لبغض الحق وثقله عليهم؛إما حسداً لقائله، وإما اتباعاً للهوى ورين الكفر والمعاصى على القلوب، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ومن فيهن .
والمقصود أن السلف لم يكن فيهم من يقول : إن العبد لا يكون مستطيعاً إلا فى حال فعله، وأنه قبل الفعل لم يكن مستطيعاً، فهذا لم يأت الشرع به قط، ولا اللغة، ولا دل عليه عقل، بل العقل يدل على نقيضه، كما قد بسط فى غير هذا الموضع .
والرب ـ تعالى ـ يعلم أن العبد لا يفعل الفعل مع أنه مستطيع له، والمعلوم أنه لا يفعله، ولا يريده لا أنه لا يقدر عليه، والعلم يطابق المعلوم، فاللّه يعلم ممن استطاع الحج والقيام والصيام أنه مستطيع، ويعلم أن هذا مستطيع يفعل مستطاعه، فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد، لا لعدم استطاعته، كالمقدورات له التى يعلم أنه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها، والعبد قادر على أن يفعل، وقد علم اللّه أنه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذبه لأنه إنما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع، ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه .
وإذا قيل : فيلزم أن يكون قادراً على تغيير علم اللّه؛ لأن اللّه علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم اللّه .(2/381)
قيل : هذه مغلطة؛ وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا يلزم فيها تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه، لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم اللّه بعدم وقوعه، بل إن وقع كان اللّه قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان اللّه قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعرف علم اللّه إلا بما يظهر،و علم اللّه مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شىء يستلزم تغيير العلم، بل أى شىء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذى لم يفعل لم يأت بشىء يغير العلم، بل هو قادر على فعل ما لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع .
وإذا قيل : فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم .
قيل : ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه، وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فإذا وقع كان اللّه عالماً أنه سيقع، وإذا لم يقع كان اللّه عالماً بأنه لا يقع البَتةَ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هى محال .
ومما يلزم هؤلاء ألاّ يبقى أحد قادراً على شىء إلا الرب؛ فإن الأمور نوعان : نوع علم اللّه أنه سيكون، ونوع علم الله أنه لا يكون .
فالأول لابد من وقوعه، والثانى لا يقع البتة . فما علم الله أنه سيقع يعلم أنه يقع بمشيئته وقدرته، وما علم أنه لا يقع يعلم أنه لا يشاؤه، وهو ـ سبحانه ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
وأما ( المعتزلة ) فعندهم أنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأولئك ( المجبرة ) فى جانب، وهؤلاء فى جانب، وأهل السنة وَسَط .(2/382)
وما يفعله العباد باختيارهم يعلم ـ سبحانه ـ أنهم فعلوه بقدرتهم ومشيئتهم وما لم يفعلوه مع قدرتهم عليه يعلم أنهم لم يفعلوه لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه، وهوـ سبحانه ـ الخالق للعباد ولقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، وكل ذلك مقدور للرب، وليس هذا مقدوراً بين قادرين، بل القادر المخلوق هو وقدرته ومقدوره مقدور للخالق مخلوق له .
والمقصود هنا أن قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } [ البقرة : 284 ] حق، والنسخ فيها هو رَفْع فَهْم من فَهِم من الآية ما لم تدل عليه، فمن فهم أن الله يكلف نفساً ما لا تسعه فقد نسخ فهمه وظنه، ومن فهم منها أن المغفرة والعذاب بلا حكمة وعدل فقد نسخ فهمه وظنه،فقوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] رد للأول، وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } رد للثانى، وقوله : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } كقوله فى آل عمران : { وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 129 ] ،وقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 40 ] ، ونحو ذلك .
وقد علمنا أنه لا يغفر أن يشرك به، وأنه لا يعذب المؤمنين، وأنه يغفر لمن تاب، كذلك قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } الآية .
ودلت هذه الآية على أنه ـ سبحانه ـ يحاسب بما فى النفوس، وقد قال عمر : زِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا . والمحاسبة تقتضى أن ذلك يحسب ويحصى .(2/383)
وأما المغفرة والعذاب،فقد دل الكتاب والسنة على أن من فى قلبه الكفر وبغض الرسول وبغض ما جاء به أنه كافر بالله ورسوله، وقد عفى الله لهذه الأمة ـ وهم المؤمنون حقاً، الذين لم يرتابوا ـ عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل، كما هو فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وابن عباس، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم : أن الذى يهم بالحسنة تكتب له، والذى يهم بالسيئة لا تكتب عليه حتى يعملها إذا كان مؤمناً من عادته عمل الحسنات وترك السيئات، فإن ترك السيئة للّه كتبت له حسنة، فإذا أبدى العبد ما فى نفسه من الشر بقول أو فعل صار من الأعمال التى يستحق عليها الذم والعقاب، وإن أخفى ذلك وكان ما أخفاه متضمناً لترك الإيمان بالله والرسول مثل الشك فيما جاء به الرسول أو بغضه كان معاقباً على ما أخفاه فى نفسه من ذلك؛ لأنه ترك الإيمان الذى لا نجاة ولا سعادة إلا به، وأما إن كان وسواسا والعبد يكرهه فهذا صريح الإيمان، كما هو مصرح به فى الصحيح .
وهذه ( الوسوسة ) هى مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان، وقد خاف من خاف من الصحابة من العقوبة على ذلك، فقال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .(2/384)
و ( الوُسْع ) فعل بمعنى المفعول، أى : ما يسعه، لا يكلفها ما تضيق عنه فلا تسعه، وهو المقدور عليه المستطاع، وقال بعض الناس : إن ( الوسع ) اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه . وليس كذلك، بل ما يسع الإنسان هو مباح له، وما لم يسعه ليس مأموراً به فما يسعه قد يؤمر به وأما ما لا يسعه فهو المباح يقال : يسعنى أن أفعل كذا، ولا يسعنى أن أفعل كذا، والمباح هو الواسع، ومنه باحة الدار، فالمباح لك أن تفعله هو يسعك ولا تخرج عنه،ومنه يقال : رحم الله من وسعته السُّنَّة فلم يتعدها إلى البدعة،أى : فيما أمر اللّه به وما أباحه ما يكفى المؤمن المتبع فى دينه ودنياه لا يحتاج أن يخرج عنه إلى ما نهى عنه .
وأما ما كلفت به فهو ما أمرت بفعله، وذلك يكون مما تسعه أنت لا مما يسعك هو، وقد يقال : لا يسعنى تركه، بل تركه محرم، وقد قال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] ، وهو أول الحرام، وقال : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] ، وهى آخر الحلال، وقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } [ الأنفال : 53 ] . وهذا التغيير نوعان :
أحدهما : أن يبدو ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب .
والثانى : أن يغيروا الإيمان الذى فى قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر اللّه به ورسوله، فيستحقون العذاب هنا على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور .
وكذلك ما فى النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة . فإذا خلى القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات .(2/385)
وبهذا التفصيل تزول شبه كثيرة، ويحصل الجمع بين النصوص، فإنها كلها متفقة على ذلك، فالمنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يعاقبون على أنهم لم تؤمن قلوبهم، بل أضمرت الكفر، قال تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح : 11 ] ، وقال : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ البقرة : 10 ] ،وقال : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } [ المائدة : 41 ] ، فالمنافق لابد أن يظهر فى قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره، كما قال عثمان بن عفان : ما أسَرّ أحد سريرة إلا أظهرها اللّه على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه،وقد قال تعالى عن المنافقين : { وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } ثم قال : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] ، وهو جواب قسم محذوف، أي : واللّه لتعرفهم فى لحن القول، فمعرفة المنافق في لحن القول لابد منها، وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة .
ولما كانت هذه الآية : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } خبرا من اللّه؛ ليس فيها إثبات إيمان للعبد، بخلاف الآيتين بعدها، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما فى ليلة كفتاه ) متفق عليه، وهما قوله : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلى آخرها [ البقرة : 285 ] .(2/386)
وكلام السلف يوافق ما ذكرناه، قال ابن عباس : هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يقول : إنى أخبركم بما أخفيتم فى أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتى، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله : { يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } يقول : يخبركم به اللّه، وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، وهو قوله : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } [ البقرة : 284 ] .
وقد روى عن ابن عباس : أنها نزلت فى كتمان الشهادة، وروى ذلك عن عكرمة والشعبى، وكتمان الشهادة من باب ترك الواجب، وذلك ككتمان العيب الذى يجب إظهاره، وكتمان العلم الذى يحب إظهاره، وعن مجاهد : أنه الشك واليقين، وهذا أيضاً من باب ترك الواجب؛ لأن اليقين واجب . وروى عن عائشة : ما أعلنت فإن الله يحاسبك به، وأما ما أخفيتَ فما عجلتْ لك به العقوبة فى الدنيا . وهذا قد يكون مما يعاقب فيه العبد بالغم، كما سئل سفيان بن عيينة عن غم لا يعرف سببه قال : هو ذنب هممت به فى سرك ولم تفعله، فجزيت هَمًّا به .
فالذنوب لها عقوبات؛ السر بالسر، والعلانية بالعلانية، وروى عنها مرفوعا قالت : سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } فقال : ( يا عائشة، هذه معاتبة الله العبد مما يصيبه من النَّكْبَةِ والحمى، حتى الشوكة والبِضَاعَة يضعها فى كمِّه فيفقدها فَيُرَوعُ لها فيجدها فى جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير ) .
قلت : هذا المرفوع هو ـ والله أعلم ـ بيان ما يعاقب به المؤمن فى الدنيا؛ وليس فيه أن كل ما أخفاه يعاقب به، بل فيه أنه إذا عوقب على ما أخفاه عوقب بمثل ذلك، وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة .(2/387)
وقد روى الرويانى [ أبو بكر محمد بن هارون الرويانى، من حفاظ الحديث، له مسند، وتصانيف فى الفقه . نسبته إلى رويان بنواحى طبرستان، وتوفى سنة 703هـ ] فى مسنده من طريق الليث عن يزيد بن أبى حبيب، عن سعيد ابن سِنان، عن أنس، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أراد اللّه بعبده الخير عَجَّل له العقوبة فى الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه العقوبة بذنبه حتى يوافيه بها يوم القيامة ) ، وقد قال تعالى : { فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ آل عمران : 153، 154 ] .
فهؤلاء كانوا فى ظنهم ـ ظن الجاهلية ـ ظنا ينافى اليقين بالقدر، وظنا ينافى بأن اللّه ينصر رسوله، فكان عقابهم على ترك اليقين ووجود الشك، وظن الجاهلية، ومثل هذا كثير .(2/388)
ومما يدخل فى ذلك نيات الأعمال، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى . والنية : هى مما يخفيه الإنسان فى نفسه، فإن كان قصده ابتغاء وجه ربه الأعلى استحق الثواب، وإن كان قصده رياء الناس استحق العقاب، كما قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } [ الماعون : 4 ـ 6 ] وقال : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ } [ النساء : 142 ] .
وفى حديث أبى هريرة الصحيح فى الثلاثة الذين أول من تُسَعَّر بهم النار : فى الذى تَعَلَّم وعَلَّم ليقال : عالم وقارئ، والذى قاتل ليقال : جرىء وشجاع، والذى تصدق ليقال : جواد وكريم . فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم، وتعظيمهم لهم وطلب الجاه عندهم، لم يقصدوا بذلك وجه اللّه، وإن كانت صور أعمالهم صوراً حسنة، فهؤلاء إذا حوسبوا كانوا ممن يستحق العذاب، كما فى الحديث : ( من طلب العلم ليُبَاهِى به العلماء، أو ليُمَارِى به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار ) ، وفى الحديث الآخر : ( من طلب علما مما يبتغى به وجه اللّه لا يطلبه إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يُرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ) .
وفى الجملة، القلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة : القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده، وهذا كما فى حديث النعمان بن بشير ـ المتفق عليه ـ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهى القلب فصلاحه وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده، فيكون هذا مما أبداه لا مما أخفاه .(2/389)
وكل ما أوجبه اللّه على العباد لابد أن يجب على القلب فإنه الأصل، وإن وجب على غيره تبعا،فالعبد المأمور المنهى إنما يعلم بالأمر والنهى قلبه، وإنما يقصد الطاعة والامتثال القلب، والعلم بالمأمور والامتثال يكون قبل وجود الفعل المأمور به، كالصلاة، والزكاة، والصيام . وإذا كان العبد قد أعرض عن معرفة الأمر وقصد الامتثال، كان أول المعصية منه، بل كان هو العاصى وغيره تبع له فى ذلك؛ ولهذا قال فى حق الشقى : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ القيامة : 31، 32 ] الآيات،وقال فى حق السعداء : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الكهف : 30 ] فى غير موضع . والمأمور نوعان :
نوع هو عمل ظاهر على الجوارح، وهذا لا يكون إلا بعلم القلب وإرادته . فالقلب هو الأصل فيه، كالوضوء والاغتسال، وكأفعال الصلاة؛ من القيام، والركوع، والسجود، وأفعال الحج؛ من الوقوف، والطواف،وإن كانت أقوالا فالقلب أخص بها، فلابد أن يعلم القلب وجود ما يقوله، أو بما يقول ويقصده .
ولهذا كانت الأقوال فى الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصده، فأما المجنون والطفل الذى لا يميز فأقواله كلها لغو فى الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود،ولاشىء من الأقوال باتفاق المسلمين، وكذلك النائم إذا تكلم فى منامه، فأقواله كلها لغو، سواء تكلم المجنون والنائم بطلاق أو كفر أوغيره، وهذا بخلاف الطفل؛ فإن المجنون والنائم إذا أتلف مالا ضمنه، ولو قتل نفساً وجبت ديتها كما تجب دية الخطأ .
وتنازع العلماء فى السكران،مع اتفاقهم أنه لا تصح صلاته؛لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مروهم بالصلاة لسبع،واضربوهم عليها لعشر،وفَرِّقوا بينهم فى المضاجع ) وهو معروف فى السنن .(2/390)
وتنازعوا فى عقود السكران كطلاقه، و فى أفعاله المحرمة، كالقتل والزنا، هل يجرى مجرى العاقل، أو مجرى المجنون، أو يفرق بين أقواله وأفعاله وبين بعض ذلك وبعض ؟ على عدة أقوال معروفة .
والذى تدل عليه النصوص والأصول وأقوال الصحابة : أن أقواله هدر ـ كالمجنون ـ لا يقع بها طلاق ولا غيره؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد قال : { حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] ، فدل على أنه لا يعلم ما يقول، والقلب هو الملك الذى تصدر الأقوال والأفعال عنه، فإذا لم يعلم ما يقول لم يكن ذلك صادراً عن القلب، بل يجرى مجرى اللغو، والشارع لم يرتب المؤاخذة إلا على ما يكسبه القلب من الأقوال والأفعال الظاهرة، كما قال : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] ، ولم يؤاخذ على أقوال وأفعال لم يعلم بها القلب ولم يتعمدها، وكذلك ما يحدث به المرء نفسه لم يؤاخذ منه إلا بما قاله أو فعله، وقال قوم : إن اللّه قد أثبت للقلب كسباً فقال : { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } فليس للّه عبد أسَرّ عملاً أو أعلنه من حركة فى جوارحه، أو هَمٍّ فى قلبه، إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه، ثم يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء .
واحتجوا بقوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] ، وهذا القول ضعيف شاذ؛فإن قوله : { يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } إنما ذكره لبيان أنه يؤاخذ فى الأعمال بما كسب القلب،لا يؤاخذ بلغو الأيمان، كما قال : { بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } [ المائدة : 89 ] ، فالمؤاخذة لم تقع إلا بما اجتمع فيه كسب القلب مع عمل الجوارح، فأما ما وقع فى النفس، فإن الله تجاوز عنه ما لم يتكلم به أو يعمل، وما وقع من لفظ أو حركة بغير قصد القلب وعلمه فإنه لا يؤاخذ به .(2/391)
وأيضا، فإذا كان السكران لا يصح طلاقه والصبى المميز تصح صلاته، ثم الصبى لا يقع طلاقه، فالسكران أولى، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لماعز لما اعترف بالحد : ( أبك جنون ؟ ) قال : لا، ثم أمر باستنكاهه لئلا يكون سكران، فدل على أن إقرار السكران باطل، وقضية ماعز متأخرة بعد تحريم الخمر؛ فإن الخمر حرمت سنة ثلاث بعد أُحُد باتفاق الناس، وقد ثبت عن عثمان وغيره من الصحابة ـ كعبد اللّه بن عباس ـ أن طلاق السكران لا يقع، ولم يثبت عن صحابى خلافه .
والذين أوقعوا طلاقه لم يذكروا إلا مأخذاً ضعيفا، وعمدتهم أنه عاص بإزالة عقله، وهذا صحيح يوجب عقوبته على المعصية التى هى الشرب فيحد على ذلك، وأما الطلاق فلا يعاقب به مسلم على المعصية، ولو كان كذلك لكان كل من شرب الخمر أو سكر طلقت امرأته، وإنما قال من قال : إذا تكلم به طلقت، فهم اعتبروا كلامه لا معصيته، ثم إنه فى حال سكره قد يعتق، والعتق قربة، فإن صححوا عتقه بطل الفرق، وإن ألغوه فإلغاء الطلاق أولى؛ فإن الله يحب العتق ولا يحب الطلاق .
ثم من علل ذلك بالمعصية، لزمه طرد ذلك فيمن زال عقله بغير مسكر كالبنج، وهو قول من يسوى بين البنج والسكران من أصحاب الشافعى وموافقيه كأبى الخطاب، والأكثرون على الفرق، وهو منصوص أحمد وأبى حنيفة وغيرهما؛ لأن الخمر تشتهيها النفس وفيها الحد، بخلاف البنج فإنه لا حد فيه، بل فيه التعزير؛ لأنه لا يشتهى كالميتة، والدم ولحم الخنزير فيها التعزير، وعامة العلماء على أنه لا حد فيها إلا قولاً نقل عن الحسن، فهذا فيمن زال عقله .
وأما إذا كان يعلم ما يقول، فإن كان مختاراً قاصداً لما يقوله، فهذا هو الذى يعتبر قوله، وإن كان مكرها، فإن أكره على ذلك بغير حق فهذا عند جمهور العلماء أقواله كلها لَغْو، مثل كفره، وإيمانه، وطلاقه وغيره، وهذا مذهب مالك والشافعى وأحمد وغيرهم .(2/392)
وأبو حنيفة وطائفة يفرقون بين ما يقبل الفسخ وما لا يقبله، قالوا : فما يقبل الفسخ لا يلزم من المكره كالبيع، بل يقف على إجازته له، وما لا يقبل الفسخ كالنكاح والطلاق واليمين فإنه يلزم من المكره .
والجمهور ينازعون فى هذا الفرق؛ فى ثبوت الوصف، وفى تعلق الحكم به؛ فإنهم يقولون : النكاح ونحوه يقبل الفسخ، وكذلك العتق يقبل الفسخ عند الشافعى وأحد القولين فى مذهب أحمد، حتى إن المكاتب قد يحكمون بعتقه ثم يفسخون العتق ويعيدونه عبداً، والأيمان المنعقدة تقبل التحلة، كما قال تعالى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] ، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا أن القلب هو الأصل فى جميع الأفعال والأقوال، فما أمر اللّه به من الأفعال الظاهرة فلابد فيه من معرفة القلب وقصده وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم، والمنهى عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب، وأما ثبوت بعض الأحكام، كضمان النفوس والأموال إذا أتلفها مجنون أو نائم أو مخطئ أو ناس، فهذا من باب العدل فى حقوق العباد، ليس هو من باب العقوبة .
فالمأمور به ـ كما ذكرنا ـ نوعان : نوع ظاهر على الجوارح، ونوع باطن فى القلب .(2/393)
النوع الثانى : ما يكون باطنا فى القلب كالإخلاص وحب اللّه ورسوله والتوكل عليه والخوف منه، وكنفس إيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرسول، فهذا النوع تعلقه بالقلب ظاهر فإنه محله، وهذا النوع هو أصل النوع الأول، وهو أبلغ فى الخير والشر من الأول، فنفس إيمان القلب وحبه وتعظيمه للّه وخوفه ورجائه والتوكل عليه وإخلاص الدين له لا يتم شىء من المأمور به ظاهراً إلا بها، وإلا فلو عمل أعمالا ظاهرة بدون هذه كان منافقاً، وهى فى أنفسها توجب لصاحبها أعمالا ظاهرة توافقها، وهى أشرف من فروعها، كما قال تعالى : { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] .
وكذلك تكذيب الرسول بالقلب وبغضه وحسده والاستكبار عن متابعته،أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل والزنا والشرب والسرقة، وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة؛ كالسجود للأوثان، وسب الرسول ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن، وإلا فلو قدر أنه سجد قُدّام وَثَنٍ ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود للّّه بقلبه لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم فى الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود للّه، كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين، حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه، ولم يظهر منافرتهم فى أول الأمر .
وهنا أصول تنازع الناس فيها، منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شىء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر من غير خوف ؟ فالذى عليه السلف والأئمة وجمهور الناس : أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال : إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف، فهذا لا يكون مؤمناً فى الباطن، وإنما هو كافر .(2/394)
وزعم جَهْم ومن وافقه أنه يكون مؤمناً فى الباطن . . . [ بياض الأصل ] وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيماناً يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر، وهذا باطل شرعا وعقلا ـ كما قد بسط فى غير هذا الموضع . وقد كَفَّر السلف ـ كوَكِيع وأحمد وغيرهما ـ من يقول بهذا القول، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلُحَتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب ) ، فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد . فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمناً، حتى إن المكره إذا كان فى إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه وفى السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه، كما قال عثمان . وأما إذا لم يظهر أثر ذلك ـ لا بقوله ولا بفعله قط ـ فإنه يدل على أنه ليس فى القلب إيمان .
وذلك أن الجسد تابع للقلب،فلا يستقر شىء فى القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه، وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض فالمقتضى لظهور موجبه قائم؛ والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له، وإنما يكون فى بعض الأحوال متعذراً إذا كتم ما فى قلبه كمؤمن آل فرعون، مع أنه قد دعى إلى الايمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه، وهذا فى معرفة القلب وتصديقه .
ومنها قصد القلب وعزمه إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده، هل يمكن ألا يوجد شىء مما قصده وعزم عليه ؟ فيه قولان، أصحهما أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور، وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم،وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور لكن يحصل معه مقدمات المقدور، وقيل : بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر .(2/395)
وهذا نظير قول من قال ذلك فى المعرفة والتصديق، وهما من أقوال أتباع جَهْم الذين نصروا قوله فى الإيمان، كالقاضى أبى بكر وأمثاله، فإنهم نصروا قوله، وخالفوا السلف والأئمة وعامة طوائف المسلمين .
وبهذا ينفصل النزاع فى مؤاخذة العبد بالْهَمَّة، فمن الناس من قال : يؤاخذ بها إذا كانت عَزْما، ومنهم من قال : لا يؤاخذ بها . والتحقيق : أن الهمة إذا صارت عزما فلابد أن يقترن بها قول أو فعل؛ فإن الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور .
والذين قالوا : يؤاخذ بها احتجوا بقوله : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار ) الحديث، وهذا لا حجة فيه؛ فإنه ذكر ذلك فى رجلين اقتتلا، كل منهما يريد قتل الآخر، وهذا ليس عزماً مجرداً، بل هو عزم مع فعل المقدور، لكنه عاجز عن إتمام مراده، وهذا يؤاخذ باتفاق المسلمين، فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى فى ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين، وهو كالشارب وإن لم يقع منه شرب، وكذلك من اجتهد على الزنا والسرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثم عجز فهو آثم كالفاعل، ومثل ذلك فى قتل النفس وغيره، كما جعل الداعى إلى الخير له مثل أجر المدعو ووزره لأنه أراد فعل المدعو، وفعل ما يقدر عليه، فالإرادة الجازمة، مع فعل المقدور من ذلك، فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره، وقد قال تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } الآية [ النساء : 95 ] .
وفصل الخطاب فى الآية : أن { أٍوًلٌي بضَّرّر } نوعان :(2/396)
نوع لهم عزم تام على الجهاد ولو تمكنوا لما قعدوا ولا تخلفوا، وإنما أقعدهم العذر، فهم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إنبالمدينة رجالا ما سِرْتُم مَسِيٍرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ) قالوا : وهم بالمدينة ؟ ! قال : ( وهم بالمدينة، حَبَسَهُمُ العُذْرُ ) وهم ـ أيضاً ـ كما قال فى حديث أبى كَبْشَة الأنمارى : ( هما فى الأجر سواء ) ، وكما فى حديث أبى موسى : ( إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له من العمل ما كان يعمل صحيحاً مقيما ) ، فأثبت له مثل ذلك العمل؛ لأن عزمه تام، وإنما منعه العذر .
والنوع الثانى من { أُوْلِي الضَّرَرِ } : الذين ليس لهم عزم على الخروج، فهؤلاء يفضل عليهم الخارجون المجاهدون وأولو الضرر العازمون عزما جازماً على الخروج . وقوله تعالى : { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } سواء كان استثناء أو صفة دل على أنهم لا يدخلون مع القاعدين فى نفى الاستواء، فإذا فصل الأمر فيهم بين العازم وغير العازم بقيت الآية على ظاهرها . ولو جعل قوله : { فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } [ النساء : 95 ] عاما فى أهل الضرر وغيرهم لكان ذلك مناقضاً لقوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } ؛ فإن قوله : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ } ، { وَالْمُجَاهِدُونَ } إنما فيها نفى الاستواء، فإن كان أهل الضرر كلهم كذلك لزم بطلان قوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } ، ولزم أنه لا يساوى المجاهدين قاعد ولو كان من أولى الضرر، وهذا خلاف مقصود الآية .
وأيضاً، فالقاعدون إذا كانوا من غير أولى الضرر، والجهاد ليس بفرض عين فقد حصلت الكفاية بغيرهم؛ فإنه لا حرج عليهم فى القعود، بل هم موعودون بالحسنى كأولى الضرر، وهذا مثل قوله : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } الآية [ الحديد : 10 ] ، فالوعد بالحسنى شامل لأولى الضرر وغيرهم .(2/397)
فإن قيل : قد قال فى الأولى فى فضلهم : { دَرَجَةً } ثم قال فى فضلهم : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } [ النساء : 96 ] ، كما قال : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } [ التوبة : 19ـ 21 ] .(2/398)
فقوله : { أَعْظَمُ دَرَجَةً } كما قال فى السابقين : { أَعْظَمُ دَرَجَةً } وهذا نصب على التمييز؛ أى : درجتهم أعظم درجة، وهذا يقتضى تفضيلا مجملا، يقال : منزلة هذا أعظم وأكبر، كذلك قوله : { وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 95 ] الآيات . ليس المراد به أنهم لم يفضلوا عليهم إلا بدرجة؛ فإن فى الحديث الصحيح الذى يرويه أبو سعيد وأبو هريرة : ( إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ) الحديث، وفى حديث أبى سعيد : ( من رَضِىَ بالله ربا وبالإسلام دِينا، وبمحمد نبياً، وَجَبَتْ له الجنة ) . فعجب لها أبو سعيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة فى الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ) ، فقال : وما هى يا رسول الله ؟ قال : ( الجهاد فى سبيل الله ) ، فهذا الحديث الصحيح بين أن المجاهد يفضل على القاعد الموعود بالحسنى من غير أولى الضرر مائة درجة، وهو يبطل قول من يقول : إن الوعد بالحسنى والتفضيل بالدرجة مختص بأولى الضرر، فهذا القول مخالف للكتاب والسنة .(2/399)
وقد يقال : إن { دَرَجَةً } منصوب على التمييز، كما قال : { أَعْظَمُ دَرَجَةً } أى فضل درجتهم على درجتهم أفضل، كما يقال : فضل هذا على هذا منزلا ومقاماً، وقد يراد بالدرجة جنس الدرج، وهى المنزلة والمستقر،ولا يراد به درجة واحدة من العدد، وقوله : { وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ } ، منصوب بـ { فَضَّلَ } ؛ لأن التفضيل زيادة للمفضل، فالتقدير : زادهم عليهم أجراً عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة، فهذا النزاع فى العازم الجازم إذا فعل مقدوره هل يكون كالفاعل فى الأجر والوزر أم لا ؟ وأما فى استحقاق الأجر والوزر فلا نزاع فى ذلك، وقوله : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما ) فيه حرص كل واحد منهما على قتل صاحبه وفعل مقدوره، فكلاهما مستحق للنار، ويبقى الكلام فى تساوى القعودين بشىء آخر .
وهكذا حال المقتتلين من المسلمين فى الفتن الواقعة بينهم، فلا تكون عاقبتهما إلا عاقبة سوء،الغالب والمغلوب، فإنه لم يحصل له دنيا ولا آخرة، كما قال الشعبى : أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أشقياء، وأما الغالب فإنه يحصل له حظ عاجل ثم ينتقم منه فى الآخرة، وقد يعجل الله له الانتقام فى الدنيا، كما جرى لعامة الغالبين فى الفتن . فإنهم أصيبوا فى الدنيا، كالغالبين فى الحرة، وفتنة أبى مسلم الخراسانى ونحو ذلك .(2/400)
وأما من قال : إنه لا يؤاخذ بالعزم القلبى، فاحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها ) ، وهذا ليس فيه أنه عافٍ لهم عن العزم، بل فيه أنه عَفَى عن حديث النَّفْس إلى أن يتكلم أو يعمل، فدل على أنه ما لم يتكلم أو يعمل لا يؤاخذ، ولكن ظن من ظن أن ذلك عزم وليس كذلك، بل ما لم يتكلم أو يعمل لا يكون عزماً؛ فإن العزم لابد أن يقترن به المقدور وإن لم يصل العازم إلى المقصود، فالذى يعزم على القتل أو الزنا أو نحوه عزما جازما لابد أن يتحرك ولو برأسه، أو يمشى، أو يأخذ آلة، أو يتكلم كلمة، أو يقول أو يفعل شيئا، فهذا كله ما يؤاخذ به كزنا العين واللسان والرِّجل فإن هذا يؤاخذ به، وهو من مقدمات الزنا التام بالفرج، وإنما وقع العفو عما ما لم يبرز خارجا بقول أو فعل ولم يقترن به أمر ظاهر قط، فهذا يعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به، سواء كان المأمور به فى القلب وموجبه فى الجسد، أوكان المأمور به ظاهراً فى الجسد وفى القلب معرفته وقصده، فهؤلاء إذا حدثوا أنفسهم بشىء كان عفواً مثل هَمّ ثابت بلا فعل، ومثل الوسواس الذى يكرهونه وهم يثابون على كراهته، وعلى ترك ما هموا به وعزموا عليه للّه ـ تعالى ـ وخوفاً منه .(2/401)