مفهوم الصبر عند ابن تيمية رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى الدين
أما بعد :
فهذا كتاب عن مفهوم الصبر وأبعاده عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله استخرجته من مجموع الفتاوى وهو متناثر في جميع أجزاء الكتاب فقمت بجمعها وضمها لبعضها البعض حتى نأخذ تصورا كاملا عن مفهوم الصبر عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
******************
وقد حث الله تعالى على الصبر في مواضع كثيرة من كتابه الكريم قال تعالى :
((1/1)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (الاحقاف:35) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200) ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الحج:35) ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31) توجيه يقال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي احتمل ما احتمل , وعانى من قومه ما عانى . وهو الذي نشأ يتيما , وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحدا بعد واحد . الأب . والأم . والجد . والعم . والزوج الوفية الحنون . وخلص لله ولدعوته مجردا من كل شاغل . كما هو مجرد من كل سند أو ظهير . وهو الذي لقي من أقاربه من المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين . وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كل مرة بلا نصرة . وفي بعض المرات باستهزاء السفهاء ورجمهم له بالحجارة حتى تدمى قدماه الطاهرتان , فما يزيد على أن يتوجه إلى ربه بذلك الابتهال الخاشع النبيل .
وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربه: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . .
ألا إنه لطريق شاق طريق هذه الدعوة . وطريق مرير . حتى لتحتاج نفس كنفس محمد صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها للدعوة , وفي ثباتها وصلابتها , وفي صفائها وشفافيتها . تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين .(1/2)
نعم . وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة , وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر . وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم .
******************
وبين بعض أنواع الصبر قال تعالى :
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177) وقال تعالى :
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
***************
وبين أنه لا بد من الاستعانة بالله تعالى لتحمل الشدائد والمشاق قال تعالى :
( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل:127)
فإذا لم تكن هناك إعانة من الله تعالى فلا يستطيع الإنسان الصبر *************
وبين جزاء الصابرين قال تعالى :
((1/3)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10) فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب , ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي , وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة . ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب . . فسبحان العليم بهذه القلوب , الخبير بمداخلها ومساربها , المطلع فيها على خفي الدبيب
*************
وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة عن فضيلة الصبر وأنواعه وثوابه
هذه طائفة منها
ففي البخاري :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ مَرَّ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ « اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى ». قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّى فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِى وَلَمْ تَعْرِفْهُ. فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَتَتْ بَابَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ « إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى ».
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ « مَا يَكُونُ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ».(1/4)
عَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - رَجَعْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِى بَايَعْنَا تَحْتَهَا كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ. فَسَأَلْتُ نَافِعًا عَلَى أَىِّ شَىْءٍ بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ قَالَ لاَ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ.
وفي سنن أبي داود
عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِى حَكِيمٍ قَالَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِىُّ حَدَّثَنِى أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِىُّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىَّ فَقُلْتُ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِى هَذِهِ الآيَةِ (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِى رَأْىٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ - يَعْنِى بِنَفْسِكَ - وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ». وَزَادَنِى غَيْرُهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ « أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ».
وفي سنن الترمذي(1/5)
عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ قَالَ عَدَّهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى يَدِى أَوْ فِى يَدِهِ « التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ وَالْحَمْدُ يَمْلَؤُهُ وَالتَّكْبِيرُ يَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ وَالطُّهُورُ نِصْفُ الإِيمَانِ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِىُّ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ.
*************
ولا بد من ذكر بعض المقدمات حول مفهوم الصبر حتى نستطيع فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بشكل دقيق
****************
ففي مختصر منهاج القاصدين :
كتاب الصبر
الأول : فضل الصبر وحقيقته وأقسامه ونحو ذلك . وقد ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعاً، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له، فقال تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا } [ السجدة : 24 ] . وقال : { وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] وقال : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10 ] .
فما من قربة إلا أجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر قال الله تعالى (1): { الصوم لى وأنا أجزى به } . وقد وعد الله الصابرين بأنه معهم، وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال : { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } [ البقرة : 157 ] والآيات في هذا كثيرة .(1/6)
وأما الأحاديث، ففى " الصحيحين " من حديث أبى سعيد رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " ما أعطى أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر " وفى حديث آخر : " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد " (2) وقال الحسن : الصبر من خاصية الإنسان، ولا يتصور في البهائم لنقصانها، وغلبة الشهوات عليها من غير شئ يقابلها، ولا يتصور الصبر أيضاً في الملائكة لكمالها، فإن الملائكة جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصدها عن حضرة الجلال .
وأما الإنسان فإنه يخلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة، ثم شهوة النكاح، وليس له قوة الصبر، فإذا تحرك العقل وقوى، ظهرت مبادئ إشراق نور الهداية عند سن التمييز، ولكنها هداية قاصرة لا مرشد لها إلى المصالح الآخرة، فإذا عقد بمعرفة الشرع تلمح ما يتعلق بالآخرة وكثر سلاحه، إلا أن الطبع يقتضي ما يحب، وباعث الشرع والعقل يمنع، والحرب بينهما قائمة، ومعركة هذا القتال قلب العبد، فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوات، فإن ثبت حتى قهر الشهوة التحقق بالصابرين، وإن ضعف حتى غلبت الشهوة ولم يصبر على دفعها، التحق بأتباع الشياطين، وإذا ثبت أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقاومة الهوى، فهذه المقاومة من خاصية الآدميين .
1ـ فصل [ في أقسام الصبر ]
اعلم أن الصبر على ضربين :
أحدهما : بدني، كتحمل المشاق بالبدن، وكتعاطي الأعمال الشاقة من العبادات أو من غيرها .(1/7)
الضرب الآخر : هو الصبر النفساني على مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى، وهذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج، سمى عفة، وإن كان الصبر في قتال، سمى شجاعة، وإن كان في كظم غيظ سمى حلماً، وإن كان في نائبة مضجرة، سمى سعة صدر، وإن كان في إخفاء أمر سمى كتمان سر، وإن كان في فضول عيش سمى زهداً، وإن كان صبراً على قدر يسير من الحظوظ سمى قناعة .
وأما المصيبة، فإنه يقتصر فيها على اسم الصبر، فقد بان بما ذكرنا أن أكثر أخلاق الإيمان داخلة في الصبر، وإن اختلفت الأسماء باختلاف المتعلقات .
ثم اعلم أن العبد لا يستغني عن الصبر في كل حال من الأحوال، وذلك أن جميع ما يلقى العبد في الدنيا لا يخلو من نوعين :
النوع الأول : ما يوافق هواه من الصحة، والسلامة والمال، والجاه، وكثرة العشيرة، والأتباع، وجميع ملاذ الدنيا، فالعبد محتاج إلى الصبر في جميع هذه الأمور، فلا يركن إليها، ولا ينهمك في التلذذ بها، ويراعى حق الله تعالى في ماله بالإنفاق، وفى بدنه بالمعونة للحق .
ومتى لم يضبط نفسه عن الانهماك في الملاذ والركون إليها، أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان، حتى قال بعض العارفين : المؤمن يصبر على البلاء، ولا يصبر على العافية إلا صدِّيق .
وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه : ابتلينا بالضراء فصبرانا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر .
ولذلك قال الله تعالى : { لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } [ المنافقون : 9 ] وقال تعالى : { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } [ الأنفال : 28 ] { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم } [ التغابن : 14 ]
فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية، وهذا الصبر متصل بالشكر، فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر، وإنما كان الصبر على السراء شديداً، لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه عند حضور الطعام اللذيذ .
النوع الثاني المخالف للهوى وهو ثلاثة أقسام :(1/8)
أحدها : الطاعات، فيحتاج العبد إلى الصبر عليها، لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية .
ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة، ومنا ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسببها جميعاً كالحج والجهاد .
ويحتاج المريد إلى الصبر على طاعته في ثلاثة أحوال :
حال قبل العبادة، وهى تصحيح النية، والإخلاص والصبر على شوائب الرياء، وحال في نفس العبادة، وهى أن لا يغفل عن الله تعالى في أثناء العبادة، ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن، فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ من العمل .
الحالة الثالثة بعد الفراغ من العمل : وهى الصبر عن إفشائه، والتظاهر به لأجل الرياء والسمعة، وعن كل ما يبطل عمله، فمن لم يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى أبطلها .
القسم الثاني : الصبر عن المعاصي، وما أحوج العبد إلى ذلك .
ثم إن كان الفعل مما تيسر فعله، كمعاصي اللسان من الغيبة، والكذب والمراء ونحوه، كان الصبر عليه أثقل، فترى الإنسان إذا لبس حريراً استنكر ذلك، ويغتاب أكثر نهاره، فلا يستنكر ذلك . ومن لم يملك لسانه في المحاورات، ولم يقدر على الصبر، لم ينجه إلا العزلة .
القسم الثالث : ما لا يدخل تحت الاختبار : كالمصائب، مثل موت الأحبة، وهلاك الأموال، وعمى العين، وزوال الصحة، وسائر أنواع البلاء، فالصبر على ذلك من أعلى المقامات، لأن سنده اليقين . وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : " من يرد الله به خيراً يصب به " .
وقريب من هذا القسم، الصبر على أذى الناس، كالذي يؤذى بقول أو فعل أو جناية على نفسه أو ماله، والصبر على ذلك يكون بترك المكافآت .
والصبر على أذى الناس من أعلى المراتب، قال الله تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] وقال { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } [ الحجر : 97 ] وقال : { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } [ النحل : 126 ] .(1/9)
وقد روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : { الصبر ثلاثة : صبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر عن المصيبة حتى يردها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الأخرى كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتبت له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش مرتين " ( ( أخرجه ابن أبى الدنيا في " فضل الصبر " وأبو الشيخ في " الثواب " من حديث على رضى الله عنه وسنده ضعيف ) )
والأحاديث في فضائل الصبر كثيرة، منها : ما أخرجناه في " الصحيحين " عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز وجل بها عنه، حتى الشوكة يشاكها " .
وفى حديث آخر : " ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه " أخرجاه في " الصحيحين " .
وفى حديث آخر : " لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده وفى ماله وفى ولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة " .
وفى حديث سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال : قلت : يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء ؟ قال " الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة " قال الترمذى : حديث حسن صحيح .(1/10)
وروينا عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : قال الله تعالى : " إذا وجهت إلى عبد من عبادي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً، أو أنشر له ديواناً " ( ( أخرجه ابن عدى في " الكامل " والديلمى في مسند الفردوس، والحكيم الترمذى في النوادر من حديث أنس بن مالك، وسنده ضعيف كما قال الحافظ العراقي ) )
2ـ فصل [ في آداب الصبر ]
ومن آداب الصبر استعماله في أول صدمة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " حديث صحيح .
ومن الآداب الاسترجاع عند المصيبة، لحديث أم سلمة رضى الله عنها وهو من رواية مسلم .
ومن الآداب سكون الجوارح واللسان، فأما البكاء فجائز .
قال بعض الحكماء : الجزع لا يرد الفائت، ولكن يسر الشامت .
ومن حسن الصبر أن لا يظهر أثر المصيبة على المصاب، كما فعلت أم سليم امرأة أبى طلحة لما مات ابنها، وحديثها مشهور في صحيح " مسلم " .
وقال ثابت البنانى : مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا، وقالوا : يموت عبد الله، ثم تخرج في ثياب من هذه مدهنا ؟ ! قال : أفأستكين لها، وعدني ربى تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إلى من الدنيا وما فيها .
قال الله تعالى : { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } [ البقرة : 156و 157 ] .
وقال مطرف : ما شىء أعطى به في الآخرة قدر كوز من ماء، إلا وددت أنه أخذ منى في الدنيا .
وكان صلة بن شيم في مغزىً له ومعه ابنه، فقال : أي بنى ! تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم فقتل، فاجتمع النساء عند أمه معاذة العدوية، فقالت : مرحباً إن كنتن جئتن تهنئننى، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن .
وإذا كانت المصيبة مما يمكن كتمانها، فكتمانها من نعم الله عز وجل الخفية .(1/11)
وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فيقول : انظروا ما يقوله لعواده، فإن هو حمد الله تعالى إذا دخلوا عليه، رفعا ذلك إلى الله تعالى وهو أعلم . فيقول : لعبدي إن أنا توفيته أن ادخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه خطاياه " ( ( أخرجه مالك في " الموطأ " 2/940 : باب ما جاء في أجر المريض من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . ورجاله ثقات إلا أنه مرسل، ووصله ابن عبد البر من طريق عباد بن كثير عن زيد عن عطاء عن أبى سعيد الخدري، وعباد بن كثير ليس بالقوى ) )
وقال على رضى الله عنه : من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك .
وقال الأحنف : لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة، ما ذكرتها لأحد .
وقال رجل للإمام أحمد : كيف تجدك يا أبا عبد الله ؟ قال : بخير في عافية . فقال له : حممت البارحة ؟ قال : إذا قلت لك : أنا في عافية فحسبك، لا تخرجني إلى ما أكره .
وقال شقيق البلخى : من شكي مصيبة به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبداً .
وقال بعض الحكماء : من كنوز البر كتمان المصائب، وقد كانوا يفرحون بالمصائب نظراً إلى ثوابها، وحكاياتهم مشهورة في ذلك .
منها : ما روى أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما مات دفنه عمر، وسوى عليه ثم استوى قائماً، فأحاط به الناس، فقال : رحمك الله بابني ! قد كنت براً بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك الله لى مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أشد بك سروراً، ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه .
فإن قيل : إن كان المراد من الصبر عدم كراهية المصائب، فلا قدرة للآدمي على ذلك، وإن كان الفرح بوجودها كما حكيتم، فهو أبعد .(1/12)
والجواب : أن الصبر لا يكون إلا عن محبوب أو على مكروه، ولا ينهى عما لا يدخل تحت الكسب، وهو انزعاج الباطن، وإنما ينهى عن المكتسب، كشق الجيوب، ولطم الخدود، والقول باللسان، فأما ما ذكرنا من فرح بعضهم، فذلك فرح شرح لا طبعي، إذ الطبع لابد له من كراهة المصائب .
ومثال هذا رجل مريض له شربة لمرضه، فسعى في طلب حوائجها، وأنفق عليها مالاً، فلما تمت، فرح بتمامها وتناولها لما يرجو لها من العافية، فأما طبعه، فما زالت عنه كراهة التناول أصلاً . ولو أن ملكاً قال لرجل فقير : كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار، لأحب كثرة الضرب، لا لأنه لا يؤلم، ولكن لما يرجوا من عاقبة، وإن أنكاه الضرب، فكذلك السلف تلمحوا الثواب، فهان عليهم البلاء .
3ـ فصل في بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه
اعلم أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ووعد بالشفاء، فالصبر وإن كان شاقاً فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل، فمنهما تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها، فيحتاج كل مرض إلى علم وعمل يليق به، فإن العلل إذا اختلفت اختلف العلاج، إذ معنى العلاج : مضادة العلة .
ونضرب لك مثالاً، فنقول : إذا افتقر الإنسان إلى الصبر عن شهوة الجماع، وقد غلبت عليه بحيث لا يملك فرجه ولا عينه ولا قلبه، فعلاج ذلك بثلاثة أشياء :
أحدها : مواظبة الصوم، والاقتصار عند الإفطار على قليل من الطعام .
الثاني : قطع أسباب المهيجة، فإنه إنما يهيج بالنظر، والنظر بالقلب، والقلب يحرك الشهوة، ودواء هذا العزلة، والاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور المشتهاة، فان النظر سهم مسموم من سهام إبليس، ولا يمنع عنه إلا غمض الجفن أو الهرب .
الثالث : تسلية النفس بالمباح من جنس المشتهى، وذلك بالنكاح، وكل ما يشتهيه الطبع من الحرام، ففى المباحات غنية عنه، وهذا هو العلاج الأرفع في حق أكثر الناس، لأن قطع الغذاء يضعف ، ولا يقمع الشهوة بخلاف هذا .(1/13)
وينبغى للإنسان أن يعود نفسه المجاهدة، فإن من عَّود نفسه مخالفة الهوى، غلبها متى أراد .
واعلم : أن أشد أنواع الصبر والمجاهدة، كف الباطن من حديث النفس، وإنما يشتد ذلك على من تفرغ واعتزل، فان الوساوس لا تزال تجاذبه، ولا علاج لهذا إلا قطع العلائق ، وجعل الهم هماً واحداً، وصرف الفكر إلى ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع اللَّه تعالى، وجميع أبواب معرفة الله تعالى، حتى إذا استولى ذلك على قلبه، دفع اشتغاله مجاذبة الشيطان ووسواسة، وإن لم يكن له سير الباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة، من القراءة، والأذكار، والصلوات، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور، فإن الفكر الباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة، فهذا الذي يمكن أن ينال بالاكتساب والجهد .
فأما مقادير ما ينكشف، ومبالغ ما يرد من لطف الله تعالى من الأحوال والأعمال، فذلك يجرى مجرى الصيد، وهو بحسب الرزق، فقد يقل الجهد، ويكثر الصيد، وقد يطول الجهد ويقل الصيد، والمعلوم وراء هذا الاجتهاد على جذبه من جذبات الرحمن عز وجل، فإنها توازى أعمال الثقلين، وليس ذلك اختيار العبد، بل اختياره أن يتعرض لتلك الجذبة، بأن يقلع عن قلبه جواذب الدنيا، فان المجذوب إلى أسفل سافلين، لا يجذب إلى أعلى عليين، وكل منهوم بالدنيا هو منجذب إليها، فقطع العلائق الجاذبة، هو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم : " إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها " . فالذي علينا تفريغ المحل، والانتظار لنزول الرحمة، كالذي يصلح الأرض وينقيها من الحشيش، ويضع فيها البذر، وكل ذلك لا ينفع إلا بمطر، ولا يدرى متى يقدر الله أسباب المطر، إلا أنه يثق بفضل الله تعالى أنه لا يخلى سنة عن مطر، وكذلك قلما تخلو سنة وشهر ويوم عن جذبة من الجذبات ونفحة من النفحات .(1/14)
فينبغي أن يكون العبد قد طهر القلب من حشيش الشهوات، وبذر الإرادة والإخلاص، وعرضه لمهاب ريح الرحمة، وكما يقوى انتظار الأمطار في أوقات الربيع عند ظهور الغيم، كذلك انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة، وعند اجتماع الهم ونشاط القلوب، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وفى رمضان . والهمم والأنفاس أسباب لاستدرار رحمة الله تعالى بحكمته وتقديره .
وفي طريق الهجرتين للإمام ابن القيم رحمه الله بحث نفيس حول فلسفة الصبر :
فصل المثال الخامس: الصبر.
قال أبو العباس: ((وهو من منازل العوام أيضاً، لأن الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته. وهذا فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة، فإن حاصله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحمل الأذى بالبلوى. وتحقيقه الخروج عن الشكوى بالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى.
وقيل: إنه على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فالأول: التصبر، وهو تحمل مشقة، وتجرع غصة، والثبات على ما يجرى من الحكم. وهذا هو التصبر لله وهو صبر العوام. والثانى: الصبر، وهو نوع سهولة تخفف عن المبتلى بعض الثقل، وتسهل عليه صعوبة المراد، وهو الصبر لله، وهو نوع سهولة، وهو صبر المريدين. والثالث: الاصطبار وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى، وهذا هو الصبر على الله، وهو صبر العارفين)). والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال الصبر نصف الدين، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. قال تعالى: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}* [سبأ:19]، وقال النبى صلى الله عليه وسلم: ((والذى نفسى بيده، لا يقضى الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له: إن أصابته سراءٌ شكر فكان خيراً له، إن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)). فمنازل الإيمان كلها بين الصبر والشكر، والذى يوضح هذا:(1/15)
الوجه الثانى: وهو أن العبد لا يخلو قط من أَن يكون فى نعمة أَو بلية، فإن كان فى نعمة ففرضها الشكر والصبر. أما الشكر فهو قيدها وثباتها والكفيل بمزيدها، وأما الصبر فعن مباشرة الأَسباب التى تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التى تحفظها فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلى. ومن هنا يعلم سر مسألة الغنى الشاكر والفقير الصابر، وأن كلا منهما محتاج إلى الشكر والصبر، وأنه قد يكون صبر الغنى أكمل من صبر الفقير. كما قد يكون شر الفقير أكمل، فأفضلهما أعظمهما شكراً وصبراً، فإن فضل أحدهما فى ذلك فضل صاحبه.
فالشكر مستلزم للصبر لا يتم إلا به، والصبر مستلزم للشكر لا يتم إلا به. فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر، ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر، وإن كان فى بلية ففرضها الصبر والشكر أيضاً: أما الصبر فظاهر، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه فى تلك البلية، فإن لله على العبد [عبودية فى البلاء كما له عليه عبودية فى النعماء وعليه] أن يقوم بعبوديته فى هذا وهذا. فعلم أنه لا انفكاك له عن الصبر، ما دام سائراً إلى الله.
الوجه الثالث: أن الصبر ثلاثة أقسام: إما صبر عن المعصية فلا يرتكبها وإما صبر على الطاعة حتى يؤديها وإما صبر على البلية فلا يشكو ربه فيها وإن كان العبد لا بد له من واحد من هذه الثلاثة فالصبر لازم له أبداً لا خروج له البتة.(1/16)
الوجه الرابع: أن الله سبحانه ذكر الصبر فى كتابه فى نحو تسعين موضعاً، فمرة أمر به، ومرة أثنى على أهله، ومرة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر به أهله، ومرة جعله شرطاً فى حصول النصر والكفاية ومرة أخبر أنه مع أهله، وأثنى به على صفوته من العالمين وهم أنبياؤه ورسله، فقال عن نبيه أيوب: {إِنَا وَجَدْنَاهُ صَابِرَاً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب}* [سورة ص: 44]، وقال [تعالى] لخاتم أنبيائه ورسله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنِ الرُّسُلِ}* [الأحقاف: 35]، وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ}* [النمل: 127]، وقال يوسف الصديق، وقد قال له إخوته: {أَإِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى، قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيَعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}* [يوسف:90]، وهذا يدل على أن الصبر من أجل مقامات الإيمان، وأن أخصّ الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياماً وتحققاً به، وأن الخاصة أحوج إليه من العامة.
الوجه الخامس: أن الصبر سبب فى حصول كل كمال، فأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص.
فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحال كامل، ولهذا فى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه الإمام أحمد وابن حبان فى صحيحه: ((اللَّهم إنى أسألك الثبات فى الأمر والعزيمة على الرشد))، ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر، فلو علم العبد الكنز الذى تحت هذه الأحرف الثلاثة أعنى اسم ((الصبر)) لما تخلف عنه.(1/17)
قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((ما أُعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر))، وقال عمر بن الخطاب [رضى الله عنه] حين غشى عليه: أدركناه بالصبر. وفى مثل هذا قال القائل:
نزه فؤادك عن سوانا والقنا فجنابنا حل لكل منزه
والصبر طلّسم لكنز وصالنا من حل ذا الطلَّسم فاز بكنزه
فالصبر طلسم على كنز السعادة، من حله ظفر بالكنز.
الوجه السادس: قوله: ((الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته))، فيقال: هذا أحد أقسام الصبر، وهو الصبر على البلاءِ. وأما الصبر على الطاعة فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه وقد لا يعرض فيه، بل [يتجلى] بها ويأْتى بها محبة ورضى، ومع هذا فالصبر واقع عليها، فإنه حبس النفس على مداومتها والقيام بها، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى}* [الكهف: 28]، وأما الصبر عن المعصية فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه، وقد لا يعرض فيه، لتمكن الصابر من قهر داعيها وغلبته.
وإذا كان ما ذكر من الأُمور الأربعة إِنما يعرض فى الصبر على البلية فقوله: ((إنه فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة)) ليس كذلك، وإنما فيه التجلد، فأين المناوأة [والجرأة] والمنازعة؟
وأما لوازم الطبيعة من وجود ألم البلوى فلا تنقلب ولا تعدم فلا يصح أن يقال: إن وجود التألم والتجلد عليه وحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى جرأَة ومنازعة، بل هو محض العبودية والاستكانة وامتثال الأَمر، وهو من عبودية الله المفروضة على عبده فى البلاءِ، فالقيام بها عين كمال العبد ولوازم الطبيعة لا بد منها، ومن رام أن لا يجد البرد والحر والجوع والعطش والألم عند تمام أسبابها وعللها فقد رام الممتنع.(1/18)
وهل يكون الأَجر إلا على وجود تلك الآلام والمشاق والصبر عليها؟ وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أشد الناس بلاءَ الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل))، وقيل له فى مرضه: إنك لتوعك وعكاً شديداً، قال: ((أجل إن لى أجر رجلين منكم)) يعنى فى وعكة [صلى الله عليه وسلم].
ولا ريب أن ذلك الوعك مؤلم له صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فى مرض موته قال: ((وارأْساه))، وهذا إنما هو من وجود أَلم الصداع، وكان يقول فى غمرات الموت: ((اللَّهم أَعنِّى على سكرات الموت)) [ويدخل يده فى القدح ويمسح وجهه بالماء من كرب الموت]، وهذا كله لتكميل أجره وزيادة رفعة درجاته صلى الله عليه وسلم.
وهل كان ذلك إلا محض العبودية وعين الكمال؟ وهل الجرأة والمناوأة والمنازعة إلا فى ترك الصبر، وفى التسخط والشكوى؟(1/19)
الوجه السابع: قوله: ((فإن حامله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحامل الأذى بالبلوى، والاستبشار باختيار المولى))، فيقال: الذى يمكن الخروج عنه هو الشكوى، وأما أن يخرج عن ذوق البلوى فلا يجده أو يتلذذ بها، فهذا غير ممكن، ولا هو فى الطبيعة، وإنما الممكن أن يشاهد العبد فى تضاعيف البلاءِ لطف صنع الله به وحسن اختياره له وبره به فى حمله عنه [فيخفف عنه] مؤنة حمله، وتشتغل النفس باستخراج لطائف صنع الله به وبره وحسن اختياره عن شهود حمله فيحصل له لذة بما شهده من ذلك، وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهى أن يشهد أن هذا مراد محبوبه، وإنه بمرأى منه ومسمع، وأنه هديته إلى عبده، وخلعته التى خلعها عليه ليرفل له فى أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله، فيعلم العبد أن حقيقة المحبة هى موافقة المحبوب فى محابه فيحب ما يحبه محبوبه، فيحب العبد تلك الحال من حيث موافقته لمحبوبه وإن كرهها من حيث الطبع البشرى، فإن هذه الكراهة لا تنافى محبته لها كما يكره طبعه الدواءَ الكريه وهو يحبه من وجه آخر، وهذا لا ينكر فى المحبة المتعلقة بالمخلوق مع ضعفها وضعف أسبابها، كما قال القائل فى ذلك:
أهوى هواه وبعدى عنه يعجبه فالبعد قد صار لى فى حبه أَربا
وقال الآخر:
أريد وصاله ويريد هجرى فأترك ما أريد لما يريد
وقال الآخر:
وأَهنتنى فأَهتت نفسى جاهداً ما من يهون عليك ممن أُكرم(1/20)
وإنه لتبلغ المحبة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه عن مراده هو منه. فإذا شهد مراد محبوبه أَحبه، وإن كان كريهاً إليه. فهذا لا ينكر ولا ينافى التأَلم بمراد المحبوب المنافى للمحب وصبره عليه، بل يجتمع فى حقه الأَمران، وتقوى هذه المحبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة، فكلما قوى علمه بذلك وقويت محبته لمن ذكره بابتلائه ازداد تلذذه بها مع الكراهية الطبيعية التى هى من لوازم الخلقة ولا سيما إِذا علم المحب الذى أَحب الأشياءَ إليه أن يجرى ذكره على بال محبوبه أَن محبوبه قد ذكره بنوع من الامتحان، فإنه يفرح بذكره له وإن ساءه ما ذكره به كما قال القائل:
لئن ساءَنى أن نلتنى بمساءَة لقد سرنى أَنى خطرت ببالكا
الوجه الثامن: قوله: ((وهو على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فالأول التصبر- إلى قوله- وهو صبر العوام))، فيقال: لا ريب أن التصبر مؤذن بتكلف وتحمل على كره، ولكن هذا لا بد منه فى الصبر. وهو سببه الذى ينال به، فالتصبر من العبد، والصبر ثمرته التى يفرعها الله إذا تعاطاه وتكلفه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((ومن يتصبر يصبره لله))، فمنزلة التصبر من الصبر منزلة التعلم والتفهم من العمل والفهم، فلا بد منه فى حصول الصبر.
الوجه التاسع: قوله: ((والثانى الصبر، وهو نوع سهولة يخفف عن المبتلى بعض الثقل، ويسهل عليه صعوبة المراد وهو الصبر للله، وهو صبر المريدين))، فقد تقدم أن الصبر ثمرة التصبر وكلاهما إنما يحمد إذا كان الله. وإنما يكون إذا كان بالله فما لم يكن به لا يكون، وما لم يكن له لا ينفع ولا يثمر، فكلاهما لا يحصل للمريد السالك مقصوده إلا أن يكون بالله ولله. قال تعالى فى الصبر به: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ}* [النحل: 127]، وقال فى الصبر له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}* [الطور: 48].(1/21)
واختلف الناس أى [الله] الصبرين أعلى وأفضل: الصبر له، أو به؟ فقالت طائفة منهم صاحب [كتاب] ((منازل السائرين)): وأضعف الصبر الصبر لله وهو صبر العامة، وفوقه الصبر بالله، [وهو صبر المريد وفوقهما الصبر على الله ووجه هذا القول السالك ووجه هذا القول إن الصبر لله]هو صبر العابد الذى تصبر نفسه لأَمر الله طالباً لمرضاته وثوابه، فهو صابر على العمل صابر عن المحرمات، وأما الصبر به فهو تبرؤ من الحول والقوة، وإضافة ذلك إلى الله [عز وجل] وهو صبر المريد.
وأما الصبر على الله فصبر السالك على ما يجيء به متعلق أقداره وأحكامه. والصواب أن الصبر لله أكمل من الصبر به، فإِن الصبر له متعلق بإلهيته ومحبته، والصبر به متعلق بربوبيته ومشيئته، وما هو له أكمل مما هو به، فإن ما هو له [هو] الغاية وما به هو الوسيلة، فالصبر به وسيلة والصبر له غاية، وبينهما من التفاوت ما بين الغايات والوسائل.
وأيضاً فإن الصبر له متعلق بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين}* [الفاتحة: 5]،وهاتان الكلمتان منقسمتان بين العبد وبين الله، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه و((إِيَّاك نعبد)) هى التى لله، و((إيَّاك نستعين)) هى التى للعبد، وما لله أكمل مما للعبد فما تعلق بما هو له أفضل مما تعلق بما هو للعبد، وأيضاً فالصبر له مصدره المحبة، والصبر به مصدره الاستعانة والمحبة أكمل من الاستعانة. وأما الصبر على الله [سبحانه] فهو الصبر على أحكامه الدينية والكونية، فهو يرجع إلى الصبر على أوامره والصبر على ابتلائه، فليس فى الحقيقة قسماً ثالثاً، والله أعلم.(1/22)
فقد تبين أن الصبر بجميع أقسامه أصل مقامات الإيمان، وهو أصل لكمال العبد الذى لا كمال له بدونه، ولا يذم منه إلا قسم واحد وهو الصبر عن الله [سبحانه] فإنه صبر المعرضين المحجوبين، فالصبر عن المحبوب أقبح شيء وأسوؤُه، وهو الذى يسقط المحب من عين محبوبه، فإن المحب كلما كان أَكمل محبة كان صبره عن محبوبه متعذراً.
الوجه العاشر: قوله: ((الثالث الاصطبار، وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى. وهذا هو الصبر على الله وهو صبر العارفين)). فيقال: الاصطبار افتعال من الصبر كالاكتساب والاتخاذ، وهو مشعر بزيادة المعنى على الصبر، كأَنه صار سجية وملكة: فإن هذا البناء مؤذن بالاتخاذ والاكتساب، قال تعالى: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِر} [القمر: 27] ، فالاصطبار أبلغ من الصبر كما أن الاكتساب أبلغ من الكسب، ولهذا كان فى العمل الذى يكون على صاحبه، والكسب فيما له، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}* [البقرة: 286] تنبيهاً على أن الثواب يحصل لها بأَدنى سعى وكسب، وأن العقاب إنما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه.
وإذا علم هذا فالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار الله سبحانه لا يخص الاصطبار، بل يكون مع الصبر ومع [التصبر]. ولكن لما كان الاصطبار أبلغ من الصبر وأقوى كان بهذا التلذذ والاستبشار أولى. والله أعلم
قاعدة الصبر عن المعصية ينشأُ من أسباب عديدة:
أحدها: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءَتها، وأن الله إنما حرَّمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمى الوالد الشفيق [والده] عما يضره. وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب.
السبب الثانى: الحياءُ من الله سبحانه، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأَى منه ومسمع- وكان [حياً] حييّاً- استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه.(1/23)
السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}* [الرعد: 11]، وأعظم النعم الإيمان، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها.
وقال بعض السلف: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل سنة. وقال آخر: أذنبت ذنباً فحرمت فهم القرآن. وفى مثل هذا قيل:
إذا كنت فى نعمة فارعها فإن المعاصى تزيل النعم
وبالجملة فإن المعاصى نار النعم تأْكلها كما تأْكل النار الحطب، عياذاً بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته.
السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه. وهذا إنما يثبت بتصديقه فى وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله. وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين ويضعف بضعفهما. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}* [فاطر:28]، وقال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً وبالاغترار بالله جهلاً.
السبب الخامس: محبة الله [سبحانه] وهى أقوى الأسباب فى الصبر عن مخالفته ومعاصيه. فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوى سلطان المحبة فى القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده، وفى هذا قال عمر: ((نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)) يعنى أنه لو لم يخف من الله لكان فى قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته.
فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه.(1/24)
وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهى أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياءَ والطاعة، وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق، ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها، ويفتش العبد قلبه فيرى [فيه] نوع محبة لله، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه. وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم، فما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ.
السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التى تحطها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوى بينها وبين السفلة.(1/25)
السبب السابع: قوة العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشيء منها: من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وأَلمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله. وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريه من زينته والحيرة فى أَمره وتخلى وليه وناصره عنه، وتولى عدوه المبين له، وتوارى العلم الذى كان مستعداً له عنه، ونسيان ما كان حاصلاً له أَو ضعفه ولا بد، ومرضه الذى إذا استحكم به فهو الموت ولا بد، فإِن الذنوب تميت القلوب، ومنها ذله بعد عزة، ومنها أن يصير أسيراً فى يد أعدائه بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه، ومنها أن يضع تأثيره فلا يبقى له نفوذ فى رعيته ولا فى الخارج فلا رعيته تطيعه إذا أَمرها، ولا ينفذ فى غيرهم، ومنها زوال أَمنه وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها زوال الأُنس والاستبدال به وحشة، وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة، ومنها زوال الرضى واستبداله بالسخط، ومنها زوال الطمأْنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبدال الطرد والبعد منه، ومنها وقوعه فى بئر الحسرات، فلا يزال فى حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً، أو إلى [غيرها] إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه.(1/26)
فيالها ناراً قد عذب بها القلب فى هذه الدار قبل نار الله الموقدة التى تطلع على الأفئدة، ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنياً بما معه من رأْس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح الأرباح الكثيرة، فإذا سلب رأْس ماله أصبح فقيراً معدماً، فإما أن يسعى بتحصيل رأْس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير [وإلا] فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأْس ماله، ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها ضعف بدنه، ومنها زوال المهابة والحلاوة التى لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة، ومنها حصول البغضة والنفرة منه فى قلوب الناس، ومنها ضياع أعز الأشياءِ عليه وأنفسها وأعلاها، وهو الوقت الذى لا عوض منه، ولا يعود إليه أبداً، ومنها طمع عدوه فيه وظفره به، فإِنه إِذا رآه منقاداً مستجيباً لما يأْمره اشتد طمعه فيه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى يصير هو وليه دن مولاه الحق، ومنها الطبع والرين على قلبه، فإن العبد إذا أذنب نكت فى قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أُخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران، قال الله تعالى: {كَلا بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكسِبُونَ}* [المطففين: 14]، ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها فى قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة فى الآخرة، فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولا بد. ومنها أن تمنع قلبه من ترحله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة، فإن القلب لا يزال مشتتاً مضيعاً حتى يرحل من الدنيا وينزل فى الآخرة، فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أَطرافه وقضاءِ جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده، وما لم يترحل إلى الآخرة ويحضرها فالتعب والعناءُ والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة.(1/27)
ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه فأعرضت عنه ملائكته وعباده، كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه، ومنها أن الذنب يستدعى ذنبا آخر، ثم يقوى أحدهما بالآخر فيستدعيان ثالثاً، ثم تجتمع الثلاثة فتستدعى رابعاً، وهلم جرا حتى تغمره ذنوبه وتحيط به خطيئته.
قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها، ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها، فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات فى الدنيا ولذة ما فى الآخرة.
كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}* [الأحقاف: 20]، فالمؤمن لا يذهب طيباته فى الدنيا، بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة.(1/28)
وأما الكافر فإنه لا يؤمن بالآخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته فى الدنيا، ومنها علمه بأن أعماله هى زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته، ومنها علمه بأَن عمله هو وليه فى قبره وأنيسه فيه وشفيعه عند ربه والمخاصم والمحاج عنه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه، ومنها علمه بأن أعمال البر تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إلى الله به، فبحسب قوة تعلقه بها يكون صعوده مع صعودها، وأعمال الفجور تهوى به وتجذبه إلى الهاوية وتجره إلى أسفل سافلين، وبحسب قوة تعلقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث [تستقر] به، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والعملُ الصَالِحُ يَرْفَعُهُ}* [فاطر: 10]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ}* [الأعراف: 40]، فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أُغلقت عنها.
وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه، فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه تعالى وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها فى عليين، ومنها خروجه من حصن الله الذى لا ضيعة على من دخله، فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهباً للصوص وقطاع الطريق.
فما الظن بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه [آفة] إلى خربة موحشة هى مأْوى اللصوص وقطاع الطريق فهل يتركون معه شيئاً من متاعه؟
ومنها أنه بالمعصية قد تعرّض لمحق بركته [فى كل شيء من أمر دنياه وآخرته فإن الطاعة تجلب للعبد بركات كل شيء والمعصية متحق منه كل بركة].(1/29)
وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً فخير الدنيا والآخرة بحذافيره فى طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره فى معصيته، وفى بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى: من ذا الذى أطاعنى فشقى بطاعتى؟ ومن ذاى الذى عصانى فسعد بمعصيتى؟
السبب الثامن: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال فى ظل شجرة ثم سار وتركها. فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل.
السبب التاسع: مجانبة الفضول فى مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعى إلى المعاصى إنما تنشأُ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام. ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد.
السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثبات شجرة الإيمان فى القلب، فصبر العبد عن المعاصى إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار، وامتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم.(1/30)
ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصى بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإذا قوى سراج الإيمان فى القلب، وأَضاءَت جهاته كلها به، وأشرق نوره فى أرجائه، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعى الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته. فهو كل وقت يترقب داعيه، ويتأهب لموافاته. والله يختص برحمته من يَشاءُ، والله ذو الفضل العظيم.
فصل والصبر على الطاعة ينشأُ من معرفة هذه الأسباب ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة،
ومن أَقوى أسبابها: الإيمان والمحبة، فكلما قوى داعى الإيمان والمحبة فى القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
وههنا مسألة تكلم فيها الناس، وهى أى الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟ فطائفة رجحت الأول وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدّيقين، كما قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصى إلا صدّيق. قالوا: ولأن داعى المعصية أشد من دواعى ترك الطاعة، فإن داعى المعصية إلى [داع أمر] أمر وجودى تشتهيه النفس وتلتذ به، والداعى إلى ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريب أن داعى المعصية أقوى.
قالوا: ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعى النفس والهوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناءُ الرجل وطلب التشبه والمحاكاة وميل الطبع، وكل واحد من هذه الدواعى يجذب العبد إلى المعصية ويطلب أثره، فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأى صبر أَقوى من صبر عن إجابتها؟ ولولا أَن الله يصبره لما تأْتى منه الصبر.(1/31)
وهذا القول كما ترى حجته فى غاية الظهور، ورجحت طائفة الصبر على الطاعة بناءً منها على أن فعل المأْمور أَفضل من ترك المنهيات، واحتجت على ذلك بنحو من عشرين حجة. ولا ريب أن فعل المأمورات إنما يتم بالصبر عليها، فإذا كان فعلها أفضل كان الصبر عليها أفضل، وفصل النزاع فى ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية: فالصبر على الطاعة [العظيمة] الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة، وصبر العبد على الجهاد مثلاً أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة [الضحى]
وصوم يوم تطوعاً ونحوه، فهذا فصل النزاع فى المسألة. والله أعلم.
فصل والصبر على البلاء ينشأُ من أسباب عديدة:
أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثانى: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجارى بها، وأنها مقدرة فى أُم الكتاب قبل أن يخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاءً.
الرابع: شهوده حق الله عليه فى تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأُمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأْمور بأداء حق الله وعبوديته عليه فى تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: {وَمَآ أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَكُمْ}* [الشورى: 30]، فهذا عام فى كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذى هو أعظم الأسباب فى دفع تلك المصيبة. قال على بن أبى طالب: ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع بلاءٌ إلا بتوبة.
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختاره وقسمها وأن العبودية تقتضى رضاه بما رضى له به سيده ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدى الحق.(1/32)
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هى دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأْه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً.
الثامن: أن يعلم أن فى عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحة وزوال الأَلم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأْثيره. قال [الله] تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُم، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}* [البقرة: 216].
وقال الله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}* [النساء: 19] وفى مثل هذا القائل:
لعلّ عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءَت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وأَلبسه ملابس الفضل وجعل أولياءَه وحزبه خدماً له وعوناً له، وإن انقلب على وجه ونكص على عقبيه طرد وصفع قفاه وأُقصى وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر فى الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة فى حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة فى حقه صارت نعماً عديدة.
وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب فى تلك الساعة. والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأَنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان، لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل الْعظيم.(1/33)
العاشر: أن يعلم أن الله يربى عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته فى جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذى يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته. فلا ريب أن الإيمان الذى يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاءِ والعافية.
فالابتلاء كير العبد [محل] إيمانه: فإما أن يخرج تبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلاً [غضاً]، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاءُ حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهباً خالصاً فلو علم العبد أن نعمة الله عليه فى البلاءِ ليست بدون نعمة الله عليه فى العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه، اللَّهم أعنِّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبراً خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه فى داره؟ فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر.
فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه.
********************
نسال الله تعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم :(1/34)
أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الرعد
والحمد لله أولا وآخرا
أبو حمزة الشامي
22 جمادى الأولى 1425 هـ
*********************
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى :
فصل: العبد كلما كان أذل للّه وأعظم افتقارًا إليه كان أقرب إليه وأعز عليه
والعبد كلما كان أذل للّه وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له، كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله . وأما المخلوق فكما قيل : احتج إلى من شئت تكن أسِيرهُ، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل :
بين التذلل والتدلل نقطة ** فى رفعها تتحير الأفهام
ذاك التذلل شرك ** فافهم يا فتى بالخلف
فأعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمة عند الخلق، إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم، كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ـ ولو فى شربة ماء ـ نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شىء .(1/35)
ولهذا قال حاتم الأصم ـ لما سئل : فيم السلامة من الناس ؟ قال : أن يكون شيئك لهم مبذولاً وتكون من شيئهم آيسًا، لكن إن كنت معوضًا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر، وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك .
فالرب ـ سبحانه ـ أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه . والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون فى أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم ؟ ! فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة . والرب ـ تعالى ـ يعلم مصالحك ويقدر عليها، ويريدها رحمة منه وفضلا، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شىء آخر جعله مريدًا راحمًا، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شىء، والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئًا إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغى لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذى يعمل لمصلحته التى هى مصلحة،لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك . فهم ثلاثة أصناف : ظالم، وعادل، ومحسن .
? فالظالم : الذى يأخذ منك مالا أو نفعًا ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك .
? والعادل : المكافئ . كالبائع لا لك ولا عليك، كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه، كالزوجين، والمتبايعين، والشريكين .
? والمحسن : الذى يحسن لا لعوض يناله منك . فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح الخلق، وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك .(1/36)
وبكل حال : ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع . وسائر الخلق، إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم، وعلى هذا بنى أمر العالم . وإما بطريق الإحسان منك إليهم . فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك، فهم فى الحقيقة إنما يحبون أنفسهم، وأغراضهم .
فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم، تجد أحدهم سيدًا مطاعًا، وهو فى الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذى أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال، ومتى كنت محتاجا إليهم، نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك .
والرب ـ تعالى ـ يمتنع أن يكون المخلوق مكافئا له أو متفضلا عليه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ـ إذا رفعت مائدته : ( الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه غير مكفى ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ) رواه البخارى من حديث أبى أمامة . بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له فى ذلك، بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله، وسعادة العبد فى كمال افتقاره إلى الله واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أى بموجب علمه ذلك . فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم، مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقيًا، فإذا علم بذهابه صار له حال آخر، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر والنفاق فى جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره، وهؤلاء هم عباد الله .(1/37)
الإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيرًا إلى خالقه، وليس أحد غنيًا بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغنى عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته، كما قد بسط هذا فى مواضع .
والإنسان يذنب دائما، فهو فقير مذنب، وربه تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه لما وجد خير إصلا، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولولا مغفرته لما وقى العبد شر ذنوبه، وهو محتاج دائما إلى حصول النعمة، ودفع الضر والشر ولا تحصل النعمة إلا برحمته، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى : {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [ النساء : 79 ] ، والمراد بالسيئات : ما يسوء العبد من المصائب، وبالحسنات : ما يسره من النعم، كما قال : {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [ الأعراف : 168 ] ، فالنعم والرحمة والخير كله من الله فضلا وجودًا، من غير أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، وإن كان ـ تعالى ـ عليه حق لعباده، فلذلك الحق هو أحقه على نفسه، وليس ذلك من جهة المخلوق، بل من جهة الله، كما قد بسط هذا فى مواضع .(1/38)
والمصائب بسبب ذنوب العباد وكسبهم، كما قال : {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [ الشورى : 30 ] والنعم، وإن كانت بسبب طاعات يفعلها العبد فيثيبه عليها، فهو ـ سبحانه ـ المنعم بالعبد وبطاعته وثوابه عليها، فإنه ـ سبحانه ـ هو الذى خلق العبد وجعله مسلما طائعا، كما قال الخليل : {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ، وقال : {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [ البقرة : 128 ] ، وقال : {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ} [ إبراهيم : 40 ] ، وقال : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [ السجدة : 24 ] ، فسأل ربه أن يجعله مسلما وأن يجعله مقيم الصلاة، وقال : {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [ الحجرات : 7 ] ، قال فى آخرها : {فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [ الحجرات : 8 ] .
وفى صحيح أبى داود وابن حبان : ( اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا ) ، وفى الفاتحة : {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [ الفاتحة : 6 ] وفى الدعاء الذى رواه الطبرإني عن ابن عباس قال : مما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة : ( اللهم إنك تسمع كلامى، وترى مكإني، وتعلم سِرّى وعلانيتى، ولا يخفى عليك شىء من أمرى، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوَجِل [ أى : الخائف . انظر : لسان العرب، مادة " وجل " ] المشفق، المقر بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، ورَغِمَ لك أنفسه، اللّهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيا، وكن بى رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين ) .(1/39)
ولفظ العبد فى القرآن يتناول من عَبَدَ الله، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده، كما قال : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [ الحجر : 42 ] ، وأما قوله : {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [ الحجر : 42 ] ، فالاستثناء فيه منقطع، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء، وقوله : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [ الإنسان : 6 ] ، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [ الفرقان : 63 ] ، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} [ ص : 17 ] و {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ ص : 30، 44 ] ، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ ص : 41 ] ، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} [ ص : 45 ] ، {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا} [ الكهف : 65 ] ، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [ الإسراء : 1 ] ، {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [ الإسراء : 3 ] ، {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [ البقرة : 23 ] ، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [ النجم : 10 ] ، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [ الجن : 19 ] ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [ الفرقان : 1 ] . ونحو هذا كثير . وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات كلها، كقوله : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [ الأعراف : 194] ، {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء} [ الكهف : 102 ] قد يقال فى هذا : إن المراد به الملائكة، والأنبياء، إذا كان قد نهى اتخاذهم أولياء فغيرهم بطريق الأولى، فقد قال : {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [ مريم : 93 ] .(1/40)
وفى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم فى الدَّجَّال : ( فيوحى الله إلى المسيح أن لى عبادًا لا يَدَان لأحد بقتالهم ) ، وهذا كقوله : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا} [ الإسراء : 5 ] ، فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم مُعَبَّدُونَ، مُذَللونَ، مقهورون، يجرى عليهم قدره .
وقد يكون كونهم عبيدًا : هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفارًا، كقوله : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [ يوسف : 106 ] ، وقوله : {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [ مريم : 93 ] أى : ذليلاً خاضعا . ومعلوم أنهم لا يأتون يوم القيامة إلا كذلك، وإنما الاستكبار عن عبادة الله كان فى الدنيا، ثم قال : {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [ مريم : 94، 95 ] ، فذكر بعدها أنه يأتى منفردًا، كقوله : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [ الأنعام : 94 ] ، وقال : {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [ آل عمران : 83 ] ، {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} الآية [ الرعد : 15 ] ، وقال : {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [ البقرة : 116 ] ، فليس المراد بذلك مجرد كونهم مخلوقين مدبرين مقهورين تحت المشيئة والقدرة، فإن هذا لا يقال طوعا وكرها، فإن الطوع والكره إنما يكون لما يفعله الفاعل طوعا وكرها، فأما ما لا فعل له فيه فلا يقال له : ساجد أو قانت، بل ولا مسلم، بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم، وهم خاضعون مستسلمون، قانتون مضطرون من وجوه :
? منها : علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه .
? ومنها: دعاؤهم إياه عند الاضطرار .
? ومنها : خضوعهم واستسلامهم لما يجرى عليهم من أقداره ومشيئته .(1/41)
? ومنها : انقيادهم لكثير مما أمر به فى كل شىء، فإن سائر البشر لا يُمَكِّنُونَ العبد من مراده، بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذى يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له فى بعض ما أمر به ـ وإن كان هو التوحيد ـ لا يمنع كونهم قانتين خاضعين، مستسلمين كرهاً، كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذِّمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذى بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه فى أمور .
والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعا، وكذلك لما يقدره من المصائب، فإنه يفعل عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعا، فهو مسلم لله طوعا، خاضع له طوعا، والسجود مقصود الخضوع، وسجود كل شىء بحَسَبِه سجودا يناسبها ويتضمن الخضوع للرب .
وأما فقر المخلوقات إلى الله ـ بمعنى حاجتها كلها إليه، وأنه لا وجود لها ولا شىء من صفاتها، وأفعالها إلا به ـ فهذا أول درجات الافتقار، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها، وخلقه وإتقانه، وبهذا الاعتبار كانت مملوكة له، وله ـ سبحانه ـ الملك والحمد .
وهذا معلوم عند كل من آمن بالله ورسله الإيمان الواجب، فالحدوث دليل افتقار الأشياء إلى محدثها، وكذلك حاجاتها إلى محدثها بعد إحداثه لها دليل افتقارها، فإن الحاجة إلى الرزق دليل افتقار المرزوق إلى الخالق الرازق .
والصواب : أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه، بل فقرها لازم لها، لا يمكن أن تكون غير مفتقرة إليه، كما أن غَنَاء الرب وصفُ لازم له لا يمكن أن يكون غير غنى، فهو غنى بنفسه لا بوصف جعله غنيًا، وفقر الأشياء إلى الخالق وصف لها، وهى معدومة وهى موجودة، فإذا كانت معدومة فقيل عن مطر ينتظر نزوله وهو مفتقر إلى الخالق كان معناه : أنه لا يوجد إلا بالخالق . هذا قول الجمهور من نظار المسلمين وغيرهم، وهذا الافتقار أمر معلوم بالعقل، وما أثبته القرآن من استسلام المخلوقات وسجودها وتسبيحها وقنوتها، أمر زائد على هذا عند عامة المسلمين من السلف وجمهور الخلف .(1/42)
ولكن طائفة تدعى أن افتقارها، وخضوعها، وخلقها، وجريان المشيئة عليها هو تسبيحها وقنوتها، وإن كان ذلك بلسان الحال، ولكونها دلالة شاهدة للخالق جل جلاله . وقل للأرض : من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج نباتها وثمارها، فإن لم تجبك حواراً وإلا أجابتك اعتباراً، وهذا يقوله الغزالى وغيره، وهو أحد الوجوه التى ذكرها أبو بكر بن الأنبارى فى قوله : {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [ البقرة : 116 ] قال : كل مخلوق قانت له باشر صنعت فيه وجرى أحكامه عليه، فذلك دليل على ذله لربه، وهو الذى ذكره الزجاج فى قوله : {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران : 83 ] قال : إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره فى جِبِلِّهم، لا يقدر أحد يمتنع من جبلة جبله الله عليها، وهذا المعنى صحيح، لكن الصواب ـ الذى عليه جمهور علماء السلف والخلف : أن القنوت، والاستسلام، والتسبيح أمر زائد على ذلك، وهذا كقول بعضهم : إن سجود الكاره وذله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر، وكما قال بعضهم فى قوله : {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [ الإسراء : 44 ] . قال : تسبيحه دلالته على صانعه، فتوجب بذلك تسبيحا من غيره، والصواب : أن لها تسبيحا وسجودا بحسبها .
والمقصود أن فقر المخلوقات إلى الخالق، ودلالتها عليه وشهادتها، له أمر فِطْرِىّ فطر الله عليه عباده، كما أنه فطرهم على الإقرار به بدون هذه الآيات، كما قد بسط الكلام على هذا فى مواضع، وبين الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس الشمولى، والتمثيلى، فإن القياس البرهإني العقلى، سواء صيغ بلفظ الشمول، كالأشكال المنطقية، أو صيغ بلفظ التمثيل، وبين أن الجامع هو علة الحكمة ويلزم ثبوت الحكم أينما وجد، وقد بسطنا الكلام على صورة القياسين فى غير هذا الموضع .(1/43)
والتحقيق : أن العلم بأن المحدَث لابد له من محدِث هو علم فطرى، ضرورى فى المعينات الجزئية، وأبلغ مما هو فى القضية الكلية، فإن الكليات إنما تصير كليات فى العقل بعد استقرار جزئياتها فى الوجود، وكذلك عامة القضايا الكلية، التى يجعلها كثير من النظار المتكلمة والمتفلسفة أصول علمهم، كقولهم : الكل أعظم من الجزء، أو النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشىء واحد متساوية ونحو ذلك، فإنه أىّ كلى تصوره الإنسان علم أنه أعظم من جزئيه، وإن لم تخطر له القضية الكلية، كما يعلم أن بدن الإنسان بعضه أكثر من بعض، وأن الدرهم أكبر من بعضه، وأن المدينة أكثر من بعضها، وأن الجبل أكبر من بعضه، وكذلك النقيضان وهما : الوجود والعدم، فإن العبد إذا تصور وجود أى شىء كان وعدمه، علم أن ذلك الشىء لا يكون موجودا معدوما فى حالة واحدة، وأنه لا يخلو من الوجود والعدم، وهو يقضى بالجزئيات المعينة، وإن لم يستحضر القضية الكلية، وهكذا أمثال ذلك .
ولما كان القياس الكلى فائدته أمر مطلق لا معين، كان إثبات الصانع بطريق الآيات هو الواجب، كما نزل به القرآن، وفطر الله عليه عباده، وإن كانت الطريقة القياسية صحيحة، لكن فائدتها ناقصة، والقرآن إذا استعمل ـ لعله فى الآيات الإلهيات ـ استعمل قياس الأولى لا القياس الذى يدل على المشترك، فإنه ما وجب تنزيه مخلوق عنه من النقائص والعيوب التى لا كمال فيها، فالبارى ـ تعالى ـ أولى بتنزيهه عن ذلك، وما ثبت للمخلوق من الكمال الذى لا نقص فيه كالحياة، والعلم، والقدرة، فالخالق أولى بذلك منه، فالمخلوقات كلها آيات للخالق، والفرق بين الآية وبين القياس : أن الآية تدل على عين المطلوب الذى هو آية وعلامة عليه، فكل مخلوق فهو دليل، وآية على الخالق نفسه، كما قد بسطناه فى مواضع .(1/44)
ثم الفِطر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات، لم تعلم أن هذه الآية له، فإن كونها آية له ودلالة عليه، مثل كون الاسم يدل على المسمى، فلابد أن يكون قد تصور المسمى قبل ذلك، وعرف أن هذا اسم له، فكذلك كون هذا دليلاً على هذا يقتضى تصور المدلول عليه، وتصور أن ذلك الدليل مستلزم له، فلابد فى ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصوراً لم يعلم أنه دليل عليه، فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه، لكن قد لا يكون الإنسان عالماً بالإضافة، ولا كونه دليلا، فإذا تصوره عرف المدلول إذا عرف أنه مستلزم له، والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلابد أن يكونوا يعرفونه، حتى يعلموا أن هذه دلائل مستلزمة له .
والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية، هى التى جاء بها القرآن، واتفق العقل والشرع، وتلازم الرأى والسمع .
والمتفلسفة ـ كابن سينا والرازى ومن اتبعهما ـ قالوا : إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات، وإن الممكن لابد له من واجب، قالوا : والوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين . وهذه المقالة أحدثها ابن سينا، ورَكَّبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه، فإن المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث، وقسمه هو إلى واجب وممكن، وذلك أن الفلك عنده ليس محدثا، بل زعم أنه ممكن . وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة، بل حُذَّاقُهُمْ عرفوا أنه خطأ، وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم، وقد بينا فى مواضع أن القِدَم، ووجوب الوجود، متلازمان عند عامة العقلاء، الأولين والآخرين، ولم يعرف على طائفة منهم نزاع فى ذلك، إلا ما أحدثه هؤلاء، فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة، حدثت بعد أن لم تكن، ونشهد عدمها بعد أن كانت، وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجب الوجود، ولا قديمًا أزليًا .(1/45)
ثم إن هؤلاء إذا قدر أنهم أثبتوا واجب الوجود، فليس فى دليلهم أنه مغاير للسموات والأفلاك، وهذا مما بيَّن تهافتهم فيه الغزالى وغيره، لكن عمدتهم أن الجسم لا يكون واجبًا؛ لأنه مركب، والواجب لا يكون مركبًا، هذا عمدتهم .
وقد بينا بطلان هذا من وجوه كثيرة، وما زال النظار يبينون فساد هذا القول كل بحسبه، كما بين الغزالى فساده بحسبه .
وذلك أن لفظ الواجب صار فيه اشتراك بين عدة معان : فيقال للموجود بنفسه الذى لا يقبل العدم، فتكون الذات واجبة والصفات واجبة، ويقال للموجود بنفسه والقائم بنفسه، فتكون الذات واجبة دون الصفات، ويقال لمبدع الممكنات، وهى المخلوقات، والمبدع لها هو الخالق، فيكون الواجب هو الذات المتصفة بتلك الصفات، والذات مجردة عن الصفات لم تخلق، والصفات مجردة عن الذات لم تخلق، ولهذا صار من سار خلفهم ممن يدعى التحقيق والعرفان، إلى أن جعل الواجب هو الوجود المطلق، كما قد بسط القول عليه فى مواضع .
والمقصود هنا الكلام أولاً فى أن سعادة العبد فى كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه؛ أى فى أن يشهد ذلك ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء فيطغى، كما قال تعالى : {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [ العلق : 6، 7 ] ، وقال : {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} [ فصلت : 51 ] ، وفى الآية الأخرى : {كَانَ يَؤُوسًا} [ الإسراء 83 ] .
فصل: السعادة فى معاملة الخلق أن تعاملهم لله(1/46)
والسعادة فى معاملة الخلق : أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم فى الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم فى الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفًا من الله لا منهم، كما جاء فى الأثر : ( ارج الله فى الناس ولا ترج الناس فى الله، وخف الله فى الناس ولا تخف الناس فى الله ) أى : لا تفعل شيئًا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم، لا رجاء مدحهم ولا خوفًا من ذمهم، بل ارج الله ولا تخفهم فى الله فيما تأتى وما تذر، بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه . وفى الحديث : ( إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله، أو تَذُمَّهُمْ على ما لم يؤتك الله ) فإن اليقين يتضمن اليقين فى القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا، لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك، إما ميل إلى ما فى أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله؛ لما يرجوه منهم . وإما ضعيف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب فى الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك، ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم؛ وذلك من ضعف اليقين .
وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر فى ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر، كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله ورسوله فهو المحمود، ومن ذمَّه الله ورسوله فهو المذموم .
ولما قال بعض وفد بنى تَمِيم : يا محمد، أعطنى، فإن حَمْدِى زَيْنُ وإن ذَمِّى شَيْنٌ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذاك الله عز وجل )(1/47)
وكتبت عائشة إلى معاوية، وروى أنها رفعته إلى النبى صلى الله عليه وسلم : ( من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئا ) هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف : ( من أرضى الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً ) هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه فى الدين، والمرفوع أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2، 3 ] . فالله يكفيه مُؤْنَةَ الناس بلا رَيْب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه، فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه، إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً، كالظالم الذى يعض على يده يقول : {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان : 27، 28 ] ، وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً، ويحصل فى العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم .(1/48)
فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذى هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئاً كان موحداً . ومن توحيد الله وعبادته : التوكل عليه والرجاء له، والخوف منه، فهذا يخلص به العبد من الشرك . وإعطاء الناس حقوقهم، وترك العدوان عليهم، يخلص به العبد من ظلمهم، ومن الشرك بهم . وبطاعة ربه واجتناب معصيته، يخلص العبد من ظلم نفسه، وقد قال ـ تعالى ـ فى الحديث القدسى : ( قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ) . فالنصفان يعود نفعهما إلى العبد، وكما فى الحديث الذى رواه الطبرانى فى الدعاء : ( يا عبادى، إنما هى أربع، واحدة لى، وواحدة لك، وواحدة بينى وبينك، وواحدة بينك وبين خلقى، فالتى لى : تعبدنى لا تشرك بى شيئا . والتى لك : عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه . والتى بينى وبينك : فمنك الدعاء وعلىّ الإجابة . والتى بينك وبين خلقى : فأت إليهم ما تحب أن يأتوه إليك ) . والله يحب النصفين، ويحب أن يعبدوه .(1/49)
وما يعطيه الله العبد من الإعانة والهداية هو من فضله وإحسانه، وهو وسيلة إلى ذلك المحبوب، وهو إنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج أولا، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة وإلى الهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة . فهو يطلب ما يحتاج إليه أولا ليتوسل به إلى محبوب الرب، الذى فيه سعادته . وكذلك قوله : ( عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه ) ، فإنه يحب الثواب الذى هو جزاء العمل، فالعبد إنما يعمل لنفسه، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [ البقرة : 286 ] ، ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هى نافعة له، محصلة لسعادته، محصنة له من عذاب ربه فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له، وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، فمن عبد الله لا يشرك به شيئًا أحبه وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعم تبعًا لمحبوب الرب، وهذا كالبائع والمشترى، البائع يريد من المشترى أولا الثمن، ومن لوازم ذلك : إرادة تسليم المبيع، والمشترى يريد السلعة، ومن لوازم ذلك : إرادة إعطاء الثمن .(1/50)
فالرب يحب أن يحب، ومن لوازم ذلك : أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به . والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك : محبته لعبادة الله، فمن عبد الله وأحسن إلى الناس، فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله، فى إخلاص الدين له . ومن طلب من العباد العوض، ثناء أو دعاء أو غير ذلك، لم يكن محسنًا إليهم لله . ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم فى الله كان محسنًا إلى الخلق وإلى نفسه، فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم، ومن خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه؛ لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشىء أعظم من شرهم أو مثله، وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله، وهو إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم، فإن طبع النفس الظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يظلمها ؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق، كثير الظلم إذا قدر، مهين ذليل إذا قهر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع الفتن بين الناس .(1/51)
وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفا من الله عز وجل، وهذا موجود كثيرًا فى الناس، تجدهم يخاف بعضهم بعضًا ويرجو بعضهم بعضًا، وكل من هؤلاء يتظلم من الآخر، ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم لبعض، ظالمون فى حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التى تعذب النفس بها وعليها، وهو يجر إلى فعل المعاصى المختصة، كالشرك والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له؛ فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر مجريات النفس والهزل واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك، ولا يستغنى القلب إلا بعبادة الله ـ تعالى .
فإن الإنسان خلق محتاجًا إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائمًا، ولابد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا لله وحده، فلا تطمئن القلوب إلا به، ولا تسكن النفوس إلا إليه، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [ الأنبياء : 22 ] ، فكل مألوه سواه يحصل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له .(1/52)
فإذا لم تكن القلوب مخلصة لله الدين، عبدت غيره من الآلهة التى يعبدها أكثر الناس مما رضوه لأنفسهم، فأشركت بالله بعبادة غيره، واستعانته، فتعبد غيره وتستعين به، لجهلها بسعادتها التى تنالها بعبادة خالقها والاستعانة به، فبالعبادة له تستغنى عن معبود آخر، وبالاستعانة به تستغنى عن الاستعانة بالخلق، وإذا لم يكن العبد كذلك، كان مذنبًا محتاجًا، وإنما غناه فى طاعة ربه، وهذا حال الإنسان؛ فإنه فقير محتاج، وهو مع ذلك مذنب خطاء، فلابد له من ربه، فإنه الذى يسدى مغافرَهُ، ولابد له من الاستغفار من ذنوبه، قال تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [ محمد : 19 ] ، فبالتوحيد يقوى العبد ويستغنى، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، وبالاستغفار يغفر له ويدفع عنه عذابه، {وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [ الأنفال : 33 ] ، فلا يزول فقر العبد وفاقته إلا بالتوحيد؛ فإنه لابد له منه، وإذا لم يحصل له لم يزل فقيرًا محتاجًا معذبًا فى طلب ما لم يحصل له، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار، حصل له غناه وسعادته، وزال عنه ما يعذبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والعبد مفتقر دائما إلى التوكل على الله والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلابد أن يشهد دائمًا فقره إلى الله، وحاجته فى أن يكون معبودًا له، وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه، قال تعالى : {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} [ آل عمران : 175 ] أى يخوفكم بأوليائه . هذا هو الصواب الذى عليه الجمهور، كابن عباس وغيره وأهل اللغة كالفراء وغيره . قال ابن الأنبارى : والذى نختاره فى الآية : يخوفكم أولياءه . تقول العرب : أعطيت الأموال : أى أعطيت القوم الأموال، فيحذفون المفعول الأول .(1/53)
قلت : وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفًا مطلقًا، ليس له فى تخويف ناس بناس ضرورة، فحذف الأول لأنه ليس مقصودًا .
وقال بعض المفسرين : يخوف أولياءه المنافقين، والأول أظهر؛ لأنها نزلت بسبب تخويفهم من الكفار، فهى إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس، وقد قال : {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [ آل عمران : 175 ] الضمير عائد إلى أولياء الشيطان، الذين قال فيهم : {فَاخْشَوْهُمْ} [ آل عمران : 173 ] قبلها، والذى قال الثانى فسرها من جهة المعنى، وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه؛ لأن سلطانه عليهم، فهو يدخل عليهم المخاوف دائما، وإن كانوا ذوى عَدَدٍ وعُدَدٍ، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم الكفار، أو أنهم أرادوا المفعول الأول، أى يخوف المنافقين أولياءه، وهو يخوف الكفار، كما يخوف المنافقين، ولو أريد أنه يجعل أولياءه خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه، وهو قوله : {فّلا تّخّافٍوهٍم} .
وأيضًا، فإنه يعد أولياءه وَيُمَنِّيهِمْ، ولكن الكفار يلقى الله فى قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى : {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} [ الحشر : 13 ] ، وقال : {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ} [ الأنفال : 12 ] ، ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام وهم يوالون العدو فصاروا بذلك منافقين، وإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما قال تعالى : وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [ التوبة : 56 ] ، وقال : {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ} الآية [ الأحزاب : 19] . فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين، كما دل عليه السياق، وإذا جعلهم مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم .(1/54)
فدلت الآية على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين، ويجعل ناسا خائفين منهم .
ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس، كما قال : {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة : 44 ] ، فخوف الله أمر به، وخوف أولياء الشيطان نَهَى عنه، قال تعالى : {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [ البقرة : 150 ] ، فنهى عن خَشْيَةِ الظالم وأمر بخشيته، وقال : {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [ الأحزاب : 39 ] ، وقال : {فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل : 51 ] .
وبعض الناس يقول : يا رب، إنى أخافك وأخاف من لا يخافك، فهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدًا، فإن من لا يخاف الله أذل من أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه، وإذا قيل : قد يؤذينى، قيل : إنما يؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد الله دفع شره عنك دفعه، فالأمر لله، وإنما يسلط على العبد بذنوبه، وأنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت عليه كفاك شر كل شر، ولم يسلطه عليك، فإنه قال : {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [ الطلاق : 3 ] ، وتسليطه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك واستغفرته لم يسلط عليك، كما قال : {وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [ الأنفال : 33 ] .
وفى الآثار : ( يقول الله : أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيها بيدى، فمن أطاعنى جعلت قلوب الملوك عليه رحمة، ومن عصانى جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك، ولكن توبوا إلىَّ وأطيعون أعطفهم عليكم ) .(1/55)
ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال : {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} الآية [ آل عمران : 165 ] ، وقال : {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} الآيات [ آل عمران : 146 ] والأكثرون يقرؤون : قاتل ـ والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف : هم الجماعات الكثيرة، قال ابن مسعود وابن عباس ـ فى رواية عنه ـ والفراء : ألوف كثيرة . وقال ابن عباس فى أخرى ومجاهد وقتادة : جماعات كثيرة، وقرئ بالحركات الثلاث فى الراء، فعلى هذه القراءة فالربيون الذين قاتلوا معه : الذين ما وهنوا وما ضعفوا . وأما على قراءة أبى عمرو وغيره ففيها وجهان :
? أحدهما : يوافق الأول، أى الربيون يقتلون فما وهنوا، أى ما وهن من بقى منهم، لقتل كثير منهم، أى ما ضعفوا لذلك ولا دخلهم خور ولا ذلوا لعدوهم، بل قاموا بأمر الله فى القتال حتى أدَالُهم الله عليهم وصارت كلمة الله هى العليا .
? والثانى : أن النبى صلى الله عليه وسلم قتل معه ربيون كثير فما وهن من بقى منهم لقتل النبى صلى الله عليه وسلم . وهذا يناسب صرخ الشيطان أن محمدًا قد قتل، لكن هذا لا يناسب لفظ الآية، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة ما وهنوا، ولو أريد أن النبى قتل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم بل تقليلهم هو المناسب لها، فإذا كثروا لم يكن فى مدحهم بذلك عبرة .
وأيضا، لم يكن فيه حجة على الصحابة، فإنهم يوم أحد قليلون والعدو أضعافهم، فيقولون ولم يهنوا؛ لأنهم ألوف ونحن قليلون .
وأيضًا، فقوله : {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ} [ آل عمران : 146 ] يقتضى كثرة ذلك، وهذا لا يعرف أن أنبياء كثيرون قتلوا فى الجهاد .(1/56)
وأيضا : فيقتضى أن المقتولين مع كل واحد منهم ربيون كثير، وهذا لم يوجد، فإن من قبل موسى من الأنبياء لم يكونوا يقاتلون، وموسى وأنبياء بنى إسرائيل لم يقتلوا فى الغزو، بل ولا يعرف نبى قتل فى جهاد، فكيف يكون هذا كثيرًا ويكون جيشه كثيرًا ؟ !
والله ـ سبحانه ـ أنكر على من ينقلب، سواء كان النبى مقتولا أو ميتا، فلم يذمهم إذا مات أو قتل على الخوف بل على الانقلاب على الأعقاب، ولهذا تلاها الصديق رضى الله عنه ـ بعد موته صلى الله عليه وسلم فكأن لم يسمعوها قبل ذلك .
ثم ذكر بعدها معنى آخر : وهو أن من كان قبلكم كانوا يقاتلون فيقتل منهم خلق كثير وهم لا يهنون، فيكون ذكر الكثرة مناسبا؛ لأن من قتل مع الأنبياء كثير، وقتل الكثير من الجنس يقتضى الوهن، فما وهنوا وإن كانوا كثيرين، ولو وهنوا دل على ضعف إيمانهم، ولم يقل هنا : ولم ينقلبوا على أعقابهم، فلو كان المراد أن نبيهم قتل لقال : فانقلبوا على أعقابهم؛ لأنه هو الذى أنكره إذا مات النبى أو قتل، فأنكر سبحانه شيئين : الارتداد إذا مات أو قتل، والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم فى سبيل الله من استيلاء العدو؛ ولهذا قال : {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ} [ آل عمران : 146 ] . . . إلخ . ولم يقل : فما وهنوا لقتل النبى، ولو قتل وهم أحياء لذكر ما يناسب ذلك، ولم يقل : {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ} ، ومعلوم أنّ ما يصيب فى سبيل الله فى عامة الغزوات لا يكون قتل نبى .(1/57)
وأيضًا : فكون النبى قاتل معه أو قتل معه ربيون كثير، لا يستلزم أن يكون النبى معهم فى الغزاة، بل كل من اتبع النبى وقاتل على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من قتل على دينه فقد قتل معه، وهذا الذى فهم الصحابة، فإن أعظم قتالهم كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، حتى فتحوا البلاد شامًا، ومصرًا، وعراقًا، ويمنًا وعربًا، وعجمًا، ورومًا، ومغربًا، ومشرقًا، وحينئذ فظهر كثرة من قتل معه، فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون، ويكون فى هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبى صلى الله عليه وسلم على دينه، وإن كان قد مات، والصحابة الذين يغزون فى السرايا، والنبى ليس معهم، كانوا معه يقاتلون، وهم داخلون فى قوله : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية [ الفتح : 29 ] ، وفى قوله : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ} الآية [ الأنفال : 75 ] . ليس من شرط من يكون مع المطاع أن يكون مشاهدًا للمطاع ناظرًا إليه .
وقد قيل فى : {ربيون} هنا : إنهم العلماء، فلما جعل هؤلاء هذا كلفظ الربانى، وعن ابن زيد هم الأتباع كأنه جعلهم المربوبين . والأول أصح من وجوه :
? أحدها : أن الربانيين عين الأحبار، وهم الذين يربون الناس، وهم أئمتهم فى دينهم، ولا يكون هؤلاء إلا قليلاً .
? الثانى : أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهم، وأصحاب الأنبياء لم يكونوا كلهم ربانيين، وإن كانوا قد أعطوا علما ومعهم الخوف من الله عز وجل .
? الثالث : أن استعمال لفظ الربانى فى هذا ليس معروفا فى اللغة .
? الرابع : أن استعمال لفظ الربى فى هذا ليس معروفا فى اللغة، بل المعروف فيها هو الأول، والذين قالوه قالوا : هو نسبة للرب بلا نون والقراءة المشهور [ ربى ] بالكسر، وما قالوه إنما يتوجه على من قرأه بنصب الراء، وقد قرئ بالضم، فعلم أنها لغات .(1/58)
? الخامس : أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد، سواء كان من الربانيين أو لم يكن .
? السادس : أنه لا مناسبة فى تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم فى مثل قوله : {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} الآية [ المائدة : 63 ] . وفى قوله : {وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} [ آل عمران : 79 ] فهناك ذكرهم به مناسبا .
? السابع : قيل : إن الربانى منسوب إلى الرب، فزيادة الألف والنون كاللحيانى، وقيل : إلى تربيته الناس، وقيل : إلى ربان السفينة، وهذا أصح، فإن الأصل عدم الزيادة فى النسبة؛ لأنهم منسوبون إلى التربية، وهذه تختص بهم، وأما نسبتهم إلى الرب فلا اختصاص لهم بذلك، بل كل عبد له فهو منسوب إليه، إما نسبة عموم أو خصوص ولم يسم الله أولياءه المتقين ربانيين، ولا سمى به رسله وأنبياءه، فإن الربانى من يرب الناس، كما يرب الربانى السفينة، ولهذا كان الربانيون يذمون تارة، ويمدحون أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الرب لم يذموا قط .
? الثامن : أنها إن جعلت مدحًا فقد ذموا فى مواضع، وإن لم تكن مدحا لم يكن لهم خاصة يمتازون بها من جهة المدح، وإذا كان منسوبًا إلى ربانى السفينة بطل قول من يجعل الربانى منسوبا إلى الرب، فنسبة الربيون إلى الرب أولى بالبطلان .(1/59)
? التاسع : أنه إذا قدر أنهم منسوبون إلى الرب، فلا تدل النسبة على أنهم علماء . نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله، وهذا يعم جميع المؤمنين، فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئا فهو متأله عارف بالله، والصحابة كلهم كذلك، ولم يسموا ربانيين ولا ربيين، وإنما جاء أن ابن الحنفية قال لما مات ابن عباس : اليوم مات ربانى هذه الأمة، وذلك لكونه يؤدبهم بما آتاه الله من العلم، والخلفاء أفضل منهم، ولم يسموا ربانيين، وإن كانوا هم الربانيين . وقال إبراهيم : كان علقمة من الربانيين؛ ولهذا قال مجاهد : هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، فهم أهل الأمر والنهى . والأحبار يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدث به وإن لم يأمر، أو ينه، وذلك هو المنقول عن السلف فى الربانى، نقل عن علىّ قال : ( هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها ) ، وعن ابن عباس قال : [ هم الفقهاء المعلمون ]
قلت : أهل الأمر والنهى هم الفقهاء المعلمون . وقال قتادة وعطاء : هم الفقهاء العلماء الحكماء . قال ابن قتيبة : واحدهم ربانى، وهم العلماء المعلمون . قال أبو عبيد : أحسب الكلمة عبرانية أو سريانية، وذلك أن أبا عبيد زعم أن العرب لا تعرف الربانيين .
قلت : اللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة الذى ينزلها ويقوم لمصلحتها، ولكن العرب فى جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون؛ لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل .
فصل: العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع
فإن الإسلام مبنى على أصلين :
? أحدهما : أن نعبد الله وحده لا شريك له .
? والثانى : أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نعبده بالأهواء والبدع.(1/60)
قال الله تعالى : {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} الآية [ الجاثية : 18، 19 ] ،وقال تعالى : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [ الشورى : 21 ] .
فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، من واجب ومستحب، لا نعبده بالأمور المبتدعة، كما ثبت فى السنن من حديث الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ . قال الترمذى : حديث حسن صحيح . وفى مسلم أنه كان يقول فى خطبته : ( خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) .(1/61)
وليس لأحد أن يعبد إلا الله وحده، فلا يصلى إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يحج إلا بيت الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يخاف إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يحلف إلا بالله . وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو لِيَصْمُتْ ) . وفى السنن : ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) ، وعن ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقا؛ لأن الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله توحيد . وتوحيد معه كذب، خير من شرك معه صدق، ولهذا كان غاية الكذب أن يعدل بالشرك، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ) مرتين أو ثلاثا . وقرأ قوله تعالى : {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [ الحج : 31 ] ، وإذا كان الحالف بغير الله قد أشرك، فكيف الناذر لغير الله ؟ والنذر أعظم من الحلف؛ ولهذا لو نذر لغير الله فلا يجب الوفاء به، باتفاق المسلمين . مثل أن ينذر لغير الله صلاة، أو صوما، أو حجا، أو عمرة، أو صدقة .(1/62)
ولو حلف ليفعلن شيئا، لم يجب عليه أن يفعله، قيل : يجوز له أن يكفر عن اليمين، ولا يفعل المحلوف عليه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذى هو خير، وليُكَفِّر عن يمينه ) ، وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن النذر وقال : ( إنه لا يأتى بخير، وإنما يستخرج به من البخيل ) ، فإذا كان النذر لا يأتى بخير فكيف بالنذر للمخلوق ؟ ولكن النذر لله يجب الوفاء به إذا كان فى طاعة، وإذا كان معصية لم يجز الوفاء باتفاق العلماء، وإنما تنازعوا : هل فيه بدل، أو كفارة يمين، أم لا ؟ لما رواه البخارى فى صحيحه، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من نَذَرَ أن يطيع الله فَلْيُطِعْه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يَعْصِه ) .
فمن ظن أن النذر للمخلوقين يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة، فهو من الضالين كالذين يظنون أن عبادة المخلوقين تجلب لهم منفعة، أو تدفع عنهم مضرة .
وهؤلاء المشركون قد تتمثل لهم الشياطين، وقد تخاطبهم بكلام، وقد تحمل أحدهم فى الهواء، وقد تخبره ببعض الأمور الغائبة، وقد تأتيه بنفقة أو طعام، أو كسوة، أو غير ذلك، كما جرى مثل ذلك لعباد الأصنام من العرب وغير العرب، وهذا كثير، موجود فى هذا الزمان، وغير هذا الزمان، للضالين المبتدعين المخالفين للكتاب والسنة، إما بعبادة غير الله، وإما بعبادة لم يشرعها الله .(1/63)
وهؤلاء إذا أظهر أحدهم شيئا خارقا للعادة لم يخرج عن أن يكون حالا شيطانيا، أو محالا بهتانيا فخواصهم تقترن بهم الشياطين، كما يقع لبعض العقلاء منهم، وقد يحصل ذلك لغير هؤلاء، لكن لا تقترن بهم الشياطين إلا مع نوع من البدعة، إما كفر، وإما فسق، وإما جهل بالشرع . فإن الشيطان قصده إغواء بحسب قدرته، فإن قدر على أن يجعلهم كفارًا جعلهم كفارًا وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقا، أو عصاة، وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهم، ببدعة يرتكبونها يخالفون بها الشريعة التى بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فينتفع منهم بذلك ! !
ولهذا قال الأئمة : لو رأيتم الرجل يطير فى الهواء أو يمشى على الماء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهى، ولهذا يوجد كثير من الناس يطير فى الهواء وتكون الشياطين هى التى تحمله، لا يكون من كرامات أولياء الله المتقين .
ومن هؤلاء : من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس، ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة، ويظن هذا الجاهل أن هذا من أولياء الله، ولا يعرف أنه يجب عليه أن يتوب من هذا، وإن اعتقد أن هذا طاعة وقربة إليه، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأن الحج الذى أمر الله به ورسوله لابد فيه من الإحرام، والوقوف بعرفة، ولابد فيه من أن يطوف بعد ذلك طواف الإفاضة؛ فإنه ركن لا يتم الحج إلا به، بل عليه أن يقف بمزدلفة، ويرمى الجمار ويطوف للوداع، وعليه اجتناب المحظورات، والإحرام من الميقات، إلى غير ذلك من واجبات الحج . وهؤلاء الضالون الذين يضلهم الشيطان يحملهم فى الهواء، يحمل أحدهم بثيابه، فيقف بعرفة ويرجع من تلك الليلة . حتى يرى فى اليوم الواحد ببلده ويرى بعرفة .(1/64)
ومنهم من يتصور الشيطان بصورته ويقف بعرفة، فيراه من يعرفه واقفًا، فيظن أنه ذلك الرجل وقف بعرفة ! فإذا قال له ذلك الشيخ : أنا لم أذهب العام إلى عرفة، ظن أنه ملك خلق على صورة ذلك الشيخ، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ومثل هذا وأمثاله يقع كثيرًا، وهى أحوال شيطانية، قال تعالى : {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [ الزخرف : 36 ] . وذكر الرحمن هو الذكر الذى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [ الحجر : 9 ] وقال تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} إلى قوله : {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [ طه : 123-126 ] ونسيانها هو ترك الإيمان والعمل بها، وإن حفظ حروفها، قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألا يَضِلَّ فى الدنيا، ولا يَشْقَى فى الآخرة وقرأ هذه الآية، فمن اتبع ما بعث الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة هداه الله وأسعده، ومن أعرض عن ذلك ضل وشقى، وأضله الشيطان وأشقاه .(1/65)
فالأحوال الرحمانية وكرامات أوليائه المتقين يكون سببه الإيمان، فإن هذه حال أوليائه : قال تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [ يونس : 62-63 ] وتكون نعمة لله على عبده المؤمن فى دينه ودنياه، فتكون الحجة فى الدين والحاجة فى الدنيا للمؤمنين، مثل ما كانت معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : كانت الحجة فى الدين والحاجة للمسلمين، مثل البركة التى تحصل فى الطعام والشراب، كنبع الماء من بين أصابعه، ومثل نزول المطر بالاستسقاء، ومثل قهر الكفار وشفاء المريض بالدعاء، ومثل الأخبار الصادقة، والنافعة بما غاب عن الحاضرين، وأخبار الأنبياء لا تكذب قط .
وأما أصحاب الأحوال الشيطانية، فهم من جنس الكهان، يكذبون تارة ويصدقون أخرى، ولابد فى أعمالهم من مخالفة للأمر، قال تعالى : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [ الشعراء : 221 : 222 ] .
ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء ملابسا الخبائث من النجاسات والأقذار، التى تحبها الشياطين، ومرتكبا للفواحش، أو ظالما للناس فى أنفسهم وأموالهم، وغير ذلك، والله تعالى قد حرم {الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ} الآية [ الأعراف : 33 ]
وأولياء الله هم الذين يتبعون رضاه بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور، وهذه جملة لها بسط طويل لا يتسع له هذا المكان، والله أعلم .(1/66)
والمقصود هنا أن من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان كإخبار عن غائب أو أمر يتضمن قضاء حاجة ونحو ذلك، فإذا شاهد أحدهم القبر انشق وخرج منه شيخ بهي عانقه أو كلمه، ظن أن ذلك هو النبى المقبور، أو الشيخ المقبور، والقبر لم ينشق، وإنما الشيطان مثّل له ذلك، كما يمثل لأحدهم أن الحائط انشق وأنه خرج منه صورة إنسان ويكون هو الشيطان تمثل له فى صورة إنسان وأراه أنه خرج من الحائط .
ومن هؤلاء من يقول لذلك الشخص الذى رآه قد خرج من القبر : نحن لا نبقى فى قبورنا، بل من حين يقبر أحدنا يخرج من قبره ويمشى بين الناس . ومنهم من يرى ذلك الميت فى الجنازة يمشى ويأخذ بيده، إلى أنواع أخرى معروفة عند من يعرفها .
وأهل الضلال إما أن يكذبوا بها وإما أن يظنوها من كرامات أولياء الله، ويظنون أن ذلك الشخص هو نفس النبى أو الرجل الصالح أو ملك على صورته، وربما قالوا : هذه روحانيته أو رقيقته أو سره أو مثاله أو روحه تجسدت، حتى قد يكون من يرى ذلك الشخص فى مكانين فيظن أن الجسم الواحد يكون فى الساعة الواحدة فى مكانين، ولا يعلم أن ذلك حين تصور بصورته ليس هو ذلك الإنسى .(1/67)
وهذا ونحوه مما يبين أن الذين يدعون الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وغير قبورهم، هم من المشركين الذين يدعون غير الله، كالذين يدعون الكواكب والذين اتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، قال تعالى : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [ آل عمران : 79، 80 ] ، وقال تعالى : {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [ الإسراء : 56، 57 ] ، وقال تعالى : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} [ سبأ : 22، 23 ] . ومثل هذا كثير فى القرآن : ينهى أن يدعى غير الله لا من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك، بخلاف ما يطلب من أحدهم فى حياته من الدعاء والشفاعة فإنه لا يفضى إلى ذلك، فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يعبد فى حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك، بخلاف دعائهم بعد موتهم، فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم فى مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك .(1/68)
فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له : [ ادع لي ] لم يفض ذلك إلى الشرك به، بخلاف من دعاه فى مغيبه، فإن ذلك يفضى إلى الشرك به كما قد وقع، فإن الغائب والميت لا ينهى من يشرك، بل إذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك به فدعى وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين .
ومعلوم أن الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم كما قال تعالى : {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ غافر : 7 ـ 9 ] ، وقال تعالى : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [ الشورى : 5، 6 ] .
فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد، وكذلك ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين يدعو ويشفع للأخيار من أمته هو من هذا الجنس، هم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد .(1/69)
وإذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة وإن كانوا يدعون ويشفعون، لوجهين :
أحدهما : أن ما أمرهم الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به لا يفعلونه ولو طلب منهم فلا فائدة فى الطلب منهم .
الثانى : أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم فى هذه الحال يفضى إلى الشرك بهم ففيه هذه المفسدة . فلو قدِّر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه، بخلاف الطلب منهم فى حياتهم وحضورهم فإنه لا مفسدة فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم، بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم، فإنهم فى دار العمل والتكليف، وشفاعتهم فى الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة .
وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التى لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه . وسؤال الخلق فى الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] أى ارغب إلى الله لا إلى غيره، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] فجعل الإيتاء لله والرسول لقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [ الحشر : 7 ] ، فأمرهم بإرضاء الله ورسوله .(1/70)
وأما فى الحسب فأمرهم أن يقولوا : {حَسْبُنَا اللّهُ} لا يقولوا : حسبنا الله ورسوله . ويقولوا : { إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] لم يأمرهم أن يقولوا : إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى فى الآية الأخرى : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ النور : 52 ] ، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده .
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس : ( يا غلام، إنى معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جَفَّ القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن فى الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ) ، وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصراً .
وقوله : ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ) هو من أصح ما روى عنه . وفى المسند لأحمد : أن أبا بكر الصديق كان يسقط السَّوط من يده فلا يقول لأحد : ناولنى إياه، ويقول : إن خليلى أمرنى ألا أسأل الناس شيئا . وفى صحيح مسلم عن عوف بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم بايع طائفة من أصحابه وأسرّ إليهم كلمة خفية : ( ألا تسألوا الناس شيئا ) . قال عوف : فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد : ناولني إياه .
وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يدخل من أمتى الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ) ، وقال : ( هم الذين لا يَسْتَرقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ ولا يَتَطَيَّرونَ وعلى ربهم يتوكلون ) فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أى لا يطلبون من أحد أن يرقيهم . والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحد ذلك .(1/71)
وقد روى فيه : ( ولا يرقون ) وهو غلط، فإن رقياهم لغيرهم ولأنفسهم حسنة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يرقى نفسه وغيره ولم يكن يسترقى، فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره، وهذا مأمور به، فإن الأنبياء كلهم سألوا الله ودعوه كما ذكر الله ذلك فى قصة آدم وإبراهيم وموسى وغيرهم .
/وما يروى أن الخليل لما ألقى فى المنجنيق قال له جبريل : سل، قال : ( حسبى من سؤالى علمه بحالى ) ليس له إسناد معروف وهو باطل، بل الذى ثبت فى الصحيح عن ابن عباس أنه قال : ( حسبى الله ونعم الوكيل ) . قال ابن عباس : قالها إبراهيم حين ألقى فى النار، وقالها محمد حين : { قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } [ آل عمران : 173 ] ، وقد روى أن جبريل قال : هل لك من حاجة ؟ قال : ( أما إليك فلا ) وقد ذكر هذا الإمام أحمد وغيره .
وأما سؤال الخليل لربه ـ عز وجل ـ فهذا مذكور فى القرآن فى غير موضع، فكيف يقول : حسبى من سؤالى علمه بحالى، والله بكل شيء عليم، وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه؛ لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسباباً لما يرتبه عليها من إثابة العابدين، وإجابة السائلين . وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هى عليه، فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافى أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار، ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التى تقضى بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التى بها ينال كرامته .
ولكن العبد قد يكون مأموراً فى بعض الأوقات بما هو أفضل من الدعاء كما روى فى الحديث : ( من شَغَلهُ ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) ، وفى الترمذى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من شَغَلهُ قراءة القرآن عن ذكرى ومسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) قال الترمذى : حديث حسن غريب .(1/72)
وأفضل العبادات البدنية الصلاة، وفيها القراءة والذكر والدعاء، وكل واحد فى موطنه مأمور به، ففى القيام بعد الاستفتاح يقرأ القرآن، وفى الركوع والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر بالتسبيح والذكر، وفى آخرها يؤمر بالدعاء، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يدعو فى آخر الصلاة ويأمر بذلك . والدعاء فى السجود حسن مأمور به، ويجوز الدعاء فى القيام أيضاً وفى الركوع، وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل، فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال المشروع حسن مأمور به .(1/73)
وقد سأل الخليل وغيره، قال تعالى عنه : { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [ إبراهيم : 37- 41 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [ البقرة : 127- 129 ]
وكذلك دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به ، وقد ثبت فى الصحيح عن أبى الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من رجل يدعو/لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به : آمين، ولك بمثله ) أى بمثل ما دعوت لأخيك به .(1/74)
وأما سؤال المخلوقِ المخلوقَ أن يقضى حاجة نفسه أو يدعو له فلم يؤمر به، بخلاف سؤال العلم، فإن الله أمر بسؤال العلم كما فى قوله تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43، والأنبياء : 7 ] ، وقال تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [ يونس : 94 ] ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وهذا لأن العلم يجب بذله، فمن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة . وهو يزكو على التعليم، لا ينقص بالتعليم كما تنقص الأموال بالبذل، ولهذا يُشبه بالمصباح .
وكذلك من له عند غيره حق من عين أو دين كالأمانات مثل الوديعة والمضاربة، لصاحبها أن يسألها ممن هى عنده، وكذلك مال الفىء وغيره من الأموال المشتركة التى يتولى قسمتها ولىُّ الأمر، للرجل أن يطلب حقه منه كما يطلب حقه من الوقف والميراث والوصية؛ لأن المستولى يجب عليه أداء الحق إلى مستحقه .
ومن هذا الباب سؤال النفقة لمن تجب عليه، وسؤال المسافر الضيافة لمن تجب عليه، كما استطعم موسى والخضر أهل القرية . وكذلك الغريم له أن يطلب دينه ممن هو عليه . وكل واحد من المتعاقدين له أن يسأل الآخر أداء حقه إليه؛ فالبائع يسأل الثمن، والمشترى يسأل المبيع . ومن هذا الباب قوله تعالى : { وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] .
فالمطلوب من السادة العلماء :(1/75)
أن يبينوا هذه الأقوال، وهل هي حق أو باطل ؟ وما يعرف به معناها ؟ وما يبين أنها حق أو باطل ؟ وهل الواجب إنكارها، أو إقرارها، أو التسليم لمن قالها ؟ وهل لها وجه سائغ ؟ وما الحكم فيمن اعتقد معناها، إما مع المعرفة بحقيقتها ؟ وإما مع التسليم المجمل لمن قالها ؟
/ والمتكلمون بها، هل أرادوا معنى صحيحا يوافق العقل والنقل ؟ وهل يمكن تأويل ما يشكل منها وحمله على ذلك المعنى ؟ وهل الواجب بيان معناها، وكشف مغزاها، إذا كان هناك ناس يؤمنون بها، ولا يعرفون حقيقتها ؟ أم ينبغي السكوت عن ذلك وترك الناس يعظمونها، ويؤمنون بها . مع عدم العلم بمعناها ؟ بينوا ذلك مأجورين .
/ فأجاب ـ رضي الله عنه :
الحمد لله رب العالمين، هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين، مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى، مع مخالفتهما للمنقول والمعقول .
أحدهما : الحلول والاتحاد، وما يقارب ذلك، كالقول بوحدة الوجود، كالذين يقولون : إن الوجود واحد، فالوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك أهل الوحدة، كابن عربي، وصاحبه القونوي، وابن سبعين، وابن الفارض صاحب القصيدة التائية ـ نظم السلوك ـ وعامر البصري السيواسي، الذي له قصيدة تناظر قصيدة ابن الفارض . والتلمساني الذي شرح [ مواقف النفري ] وله شرح الأسماء الحسنى، على طريقة هؤلاء، وسعيد الفرغاني، الذي شرح قصيدة ابن الفارض، والششتري صاحب الأزجال، الذي هو تلميذ ابن سبعين، وعبد الله البلياني، وابن أبي المنصور المتصوف المصري، صاحب [ فك الأزرار عن أعناق الأسرار ] وأمثالهم .(1/76)
ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت ـ كما يقوله ابن عربي ـ ويزعم/ أن الأعيان ثابتة في العدم، غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق مفتقر إلى الأعيان، في ظهور وجوده بها، وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها، الذي هو نفس وجوده . وقوله مركب من قول من قال : المعدوم شيء، وقول من يقول : وجود الخالق هو وجود المخلوق، ويقول : فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق، والوجود الخالق هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في موضع آخر .
ومنهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين، كما يقول القونوي ونحوه، فيقولون : إن الواجب هو الوجود المطلق لا بشرط، وهذا لا يوجد مطلقًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فما هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينا، وإن قيل : إن المطلق جزء من المعين لزم أن يكون وجود الخالق جزءًا من وجود المخلوق، والجزء لا يبدع الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودًا .
ومنهم من قال : إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، كما يقول ابن سينا وأتباعه، فقوله أشد فسادًا، فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان؛ فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء ـ الذين يلزمهم التعطيل ـ شر من قول الذين يشبهون أهل الحلول والاتحاد .
وآخرون يجعلون الوجود الواجب، والوجود الممكن بمنزلة المادة / والصورة، التي تقولها المتفلسفة، أو قريب من ذلك، كما يقوله ابن سبعين وأمثاله .
وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، وهي لا تخرج عن وحدة الوجود، والحلول أو الاتحاد، وهم يقولون بالحلول المطلق، والوحدة المطلقة، والاتحاد المطلق، بخلاف من يقول بالمعين، كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون بإلهية علىّ، أو الحاكم، أو الحلاج، أو يونس القنيني، أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية .
فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم .(1/77)
ولهذا يقولون : إن النصارى إنما كان خطؤهم في التخصيص، وكذلك يقولون في المشركين عباد الأصنام، إنما كان خطؤهم لأنهم اقتصروا على بعض المظاهر دون بعض، وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقا، على وجه الإطلاق والعموم .
ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال، ما هو أعظم من كفر اليهود والنصارى .
وهذا المذهب شائع في كثير من المتأخرىن، وكان طوائف من الجهمية يقولون به، وكلام ابن عربي، في فصوص الحكم وغيره، وكلام ابن سعبين / وصاحبه الششتري، وقصيدة ابن الفارض نظم السلوك وقصيدة عامر البصري، وكلام العفيف التلمساني، وعبد الله البلياني، والصدر القونوي وكثير من شعر ابن إسرائيل، وما ينقل من ذلك عن شيخه الحريري، وكذلك نحو منه يوجد في كلام كثير من الناس غير هؤلاء هو مبني على هذا المذهب ـ مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود .
وكثير من أهل السلوك، الذين لا يعتقدون هذا المذهب، يسمعون شعر ابن الفارض وغيره، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرًا من الرجال .
وأصل ضلال هؤلاء : أنهم لم يعرفوا مباينة الله لمخلوقاته، وعلوه عليها، وعلموا أنه موجود، فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أنه الشمس نفسها .
ولما ظهرت الجهمية ـ المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه ـ افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال :
فالسلف والأئمة يقولون : إن الله فوق سمواته، مستو على عرشه، بائن من خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وكما علم المباينة والعلو بالمعقول الصريح، الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه، من إقرارهم به، وقصدهم إياه سبحانه وتعالى .(1/78)
/ والقول الثاني : قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون : لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين، اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من غيرهم .
والقول الثالث : قول حلولية الجهمية، الذين يقولون : إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية ـ أتباع حسين النجار ـ وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية، وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل : متكملة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء .
وذلك لأن العبادة تتضمن الطلب والقصد، والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يطلب موجودًا، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه .
وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي ـ التي لا يوصف بها إلا المعدوم ـ لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعبود المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة، فإنه ينافي عدم المعبود .
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء ـ عند نظره وبحثه ـ يميل إلى النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول، وإذا قيل له : هذا ينافي ذلك، قال : هذا مقتضى / عقلي ونظري، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجد إن لم يكن موافقا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما .
والقول الرابع : قول من يقول : إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف، كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف، ويوجد في كلام السالمية ـ كأبي طالب المكي وأتباعه، كأبي الحكم بن برجان وأمثاله ـ ما يشير إلى نحو من هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا .(1/79)
وفي الجملة، فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخرى الصوفية؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد ـ لما سئل عن التوحيد ـ فقال : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث .
وقد أنكر ذلك عليه ابن عربي ـ صاحب الفصوص ـ وادعى أن الجنيد وأمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين الرب والعبد، بناء على دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم والمحدث إلا من ليس بقديم ولا محدث وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس ذاك، والتمييز بين هذا وذاك لا يفتقر إلى أن يكون العارف المميز بين الشيئين ليس هو أحد الشيئين، بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذلك الإنسان الآخر، مع أنه أحدهما، فكيف لا يعلم أنه غير ربه، وإن كان هو أحدهما ؟
/ الأصل الثاني : الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وعلى ترك المأمور وفعل المحظور، فإن القدر يجب الإيمان به، ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده .
والناس ـ الذين ضلوا في القدر ـ على ثلاثة أصناف :
قوم آمنوا بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكذبوا بالقدر، وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله، كالمعتزلة ونحوهم .
وقوم آمنوا بالقضاء والقدر، ووافقوا أهل السنة والجماعة، على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وربه ومليكه، لكن عارضوا هذا بالأمر والنهي، وسموا هذا حقيقة، وجعلوا ذلك معارضا للشريعة .
وفيهم من يقول : إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وإن العارف يستوى عنده هذا وهذا .(1/80)
وهم في ذلك متناقضون، مخالفون للشرع والعقل، والذوق والوجد، فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم، وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل، والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث، ولا بين العادل والظالم، بل يفرقون بينهما، ويفرقون أيضا بموجب أهوائهم وأغراضهم، لا بموجب الأمر والنهي، ولا يقفون لا مع القدر، ولا مع الأمر، بل كما/ قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب يوافق هواك تمذهبت به .
ولا يوجد أحد يحتج بالقدر في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض، لا يجعله حجة في مخالفة هواه، بل يعادي من آذاه وإن كان محقا، ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده لا بحسب أمر الله ونهيه، ومحبته وبغضه، وولايته وعداوته .
إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد، فإن هذا مستلزم للفساد، الذي لا صلاح معه، والشر الذي لا خير فيه؛ إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد، ولا اقتص من ظالم باغ، ولا أخذ لمظلوم حقه من ظالمه، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارضه فيه، وهذا فيه من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد .
فمن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد، وإلى ما يضرهم، والله قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه تبع ضده من الأهواء والبدع، وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لا من باب الاعتماد عليه، ولزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير .(1/81)
/ وإن قال : أنا أعذر بالقدر من شهده، وعلم أن الله خالق فعله ومحركه، لا من غاب عن هذا الشهود، أو كان من أهل الجحود . قيل له : فيقال لك : وشهود هذا، وجحود هذا من القدر ؟ فالقدر متناول لشهود هذا، وجحود هذا ؟ فإن كان هذا موجبا للفرق مع شمول القدر لهما، فقد جعلت بعض الناس محمودا، وبعضهم مذموما مع شمول القدر لهما ؟ وهذا رجوع إلى الفرق واعتصام بالأمر والنهي، وحينئذ فقد نقضت أصلك، وتناقضت فيه، وهذا لازم لكل من دخل معك فيه .
ثم مع فساد هذا الأصل وتناقضه، فهو قول باطل وبدعة مضلة .
فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرًا في ترك الواجبات، وفعل المحظورات، بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات، فلو أشرك مشرك بالله، وكذب رسوله ناظرًا إلى أن ذلك مقدر عليه، لم يكن ذلك غافرًا لتكذيبه، ولا مانعا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، سواء كان المشرك مقرًا بالقدر وناظرًا إليه، أو مكذبًا به أو غافلًا عنه، فقد قال إبليس : { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] ، فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسببا لمزيد عذابه .(1/82)
وأما آدم عليه السلام فإنه قال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، قال تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عليه إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 37 ] . فمن استغفر وتاب كان آدميا سعيدا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا شقيا، وقد قال تعالى لإبليس : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] . وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق، فإنهم يسلكون أنواعا من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها، ويحتجون بالقدر فيما خالفوا فيه الأمر، فيضاهئون المشركين الذين كانوا يبتدعون دينا لم يشرعه الله، ويحتجون بالقدر على مخالفة أمر الله .
والصنف الثالث : من الضالين في القدر : من خاصم الرب في جمعه بين القضاء والقدر، والأمر والنهي ـ كما يذكرون ذلك على لسان إبليس ـ وهؤلاء خصماء الله وأعداؤه .
وأما أهل الإيمان : فيؤمنون بالقضاء والقدر، والأمر والنهي، ويفعلون المأمور، ويتركون المحظور، ويصبرون على المقدور، كما قال تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] ، فالتقوى تتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور .
وهؤلاء إذا أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم علموا أن ذلك في كتاب، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فسلموا الأمر لله وصبروا على ما ابتلاهم به .(1/83)
وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى/الطاعات، ويدعون ربهم رغبا ورهبا، ويجتنبون محارمه ويحفظون حدوده، ويستغفرون الله ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده؛ علما منهم بأن التوبة فرض على العباد دائما، واقتداء بنبيهم، حيث يقول في الحديث الصحيح : ( أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ) ، وفي رواية : ( أكثر من سبعين مرة ) ، وآخر سورة نزلت عليه : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] . وإذا عرف هذان الأصلان، فعليهما ينبني جواب ما في هذا السؤال من الكلمات، ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات .
فقول القائل : إن الله لطف ذاته فسماها حقا، وكثفها فسماها خلقا، هو من أقوال أهل الوحدة والحلول والاتحاد، وهو باطل؛ فإن اللطيف إن كان هو الكثيف فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكثيف، وإن كان اللطيف غير الكثيف فقد ثبت الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق، وحينئذ فالحق لا يكون خلقا، فلا يتصور أن ذات الحق تكون خلقا بوجه من الوجوه، كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات الخالق بوجه من الوجوه .
وكذلك قول الآخر : [ ظهر فيها حقيقة، واحتجب عنها مجازًا ] فإنه إن كان الظاهر غير المظاهر، فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير الآخر، فلا يتصور ظهور ولا احتجاب .(1/84)
/ ثم قوله : [ فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل الفرق شهدها ستورًا وحجبا ] كلام ينقض بعضه بعضا، فإنه إن كان الوجود واحدًا لم يكن أحد الشاهدين غير الآخر، ولم يكن الشاهد غير المشهود . ولهذا قال بعض شيوخ هؤلاء : من قال : إن في الكون سوى الله فقد كذب . فقال له آخر : فمن الذي كذب ؟ فأفحمه . وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه، كان هو الذي يكذب ويظلم، ويأكل ويشرب، وهذا يصرح به أئمة هؤلاء، كما يقول صاحب الفصوص وغيره : إنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض ويضرب وتصيبه الآفات، ويوصف بالمعايب والنقائص، كما أنه هو الذي يوصف بنعوت المدح والذم .
قال : فالعلى بنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات الثبوتية والسلبية، سواء كانت محمودة عقلا وشرعًا وعرفا، أو مذمومة عقلا وشرعًا وعرفًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة .
وقال : ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وقد أخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم ؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق وكلها حق له، كما أن صفات المخلوق حق للخالق .
وقول القائل :
لقد حق لي عشق الوجود وأهله
يقتضي أنه يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب/ والخنازير، والبول والعذرة، وكل خبيث، مع أنه باطل عقلا وشرعًا، فهو كاذب في ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذ وآلمه ألما شديدًا لأبغضه وعاداه، بل اعتدى في أذاه، فعشق الرجل لكل موجود محال عقلا، محرم شرعا .
وما ذكر عن بعضهم من قوله : [ عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى ] هو من كلام ابن سبعين، وهو من أكابر أهل الشرك والإلحاد، والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة .(1/85)
وقول ابن عربي : [ ظاهره خلقه، وباطنه حقه ] هو قول أهل الحلول، وهو متناقض في ذلك، فإنه يقول بالوحدة، فلا يكون هناك موجودان، أحدهما باطن والآخر ظاهر، والتفريق بين الوجود والعين تفريق لا حقيقة له، بل هو من أقوال أهل الكذب والمين .
وقول ابن سبعين : [ رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط، والكثرة وهم ] هو موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال : وأنتم ذلك . فإنه جعل العبد هالكا أي : لا وجود له، فلم يبق إلا وجود الرب، فقال : وأنتم ذلك، وكذلك قال : الله فقط، والكثرة وهم، فإنه على قوله لا موجود إلا الله .
ولهذا كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم : ليس إلا الله، بدل قول المسلمين : لا إله إلا الله .
/ وكان الشيخ قطب الدين ابن القسطلاني يسميهم [ الليسية ] ويقول : احذروا هؤلاء الليسية، ولهذا قال : والكثرة وهم وهذا تناقض، فإن قوله : [ وهم ] يقتضي متوهما، فإن كان المتوهم هو الوهم فيكون الله هو الوهم، وإن كان المتوهم هو غير الوهم فقد تعدد الوجود، وكذلك إن كان المتوهم هو الله فقد وصف الله بالوهم الباطل، وهذا ـ مع أنه كفر ـ فهو يناقض قوله : الوجود واحد، وإن كان المتوهم غيره، فقد أثبت غير الله، وهذا يناقض أصله، ثم متى أثبت غيرًا لزمت الكثرة، فلا تكون الكثرة وهمًا، بل تكون حقا .
والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما ـ مبنيان على هذا الأصل، فإن قوله :
يا صورة أنس سرها معنائي **
خطاب على لسان الحق، يقول لصورة الإنسان : يا صورة أنس سرها معنائي، أي هي الصورة وأنا معناها، وهذا يقتضي أن المعنى غير الصورة، وهو يقتضي التعدد، والتفريق بين المعنى والصورة، فإن كان وجود المعنى هو وجود الصورة ـ كما يصرح به ـ فلا تعدد، وإن كان وجود هذا غير وجود هذا فهو متناقض في قوله .
وقوله :
ما خلقك للأمر ترى لولائي **(1/86)
/ كلام مجمل يمكن أن يريد به معنى صحيحا، أي لولا الخالق لما وجد المكلفون ولا خلق لأمر الله، لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا، وأن مراده الوحدة والحلول والاتحاد؛ ولهذا قال :
شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا ** كي تشهدنا في أكمل الأشياء
فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية، وهذا يشير إلى الحلول ـ وهو حلول الحق في الخلق ـ لكنه متناقض في كلامه، فإنه لا يرضي بالحلول، ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل، لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود، فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده، وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا، لكنه هو مذهبه المتناقض في نفسه .
وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب فقال : طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره .
وقوله : [ ما فارقه الله طرفة عين قط ] إن أراد به الحلول المطلق العام فهو مع بطلانه متناقض، فإنه لا فرق حينئذ بين الطائف والمطوف به، فلم يكن طواف/ هذا بهذا أولى من العكس، بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب، والخنازير، والكفار، والنجاسات، والأقذار، وكل خبيث وكل ملعون، لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا كله .(1/87)
وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني، وقد مر بكلب أجرب ميت : هذا أيضًا من ذات الله ؟ فقال : وثمَّ خارج عنه ؟ ومر التلمساني ومعه شخص بكلب، فركضه الآخر برجله، فقال : لا تركضه فإنه منه، وهذا ـ مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين ـ فإنه متناقض، فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، فليس شيء من ذلك بأولى بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد، وإذا قيل : مظاهر ومجالى، قيل : إن كان لها وجود غير وجود الظاهر والمتجلى، فقد ثبت التعدد وبطلت الوحدة، وإن كان وجود هذا هو وجود هذا لم يبق بين الظاهر، والمظهر، والمتجلي فيه فرق .
وإن أراد بقوله : [ ما فارقه الله طرفة عين ] الحلول الخاص ـ كما تقوله النصارى في المسيح ـ لزم أن يكون هذا الحلول ثابتا له من حين خلق ـ كما تقوله النصارى في المسيح ـ فلا يكون ذلك حاصلا له بمعرفته وعبادته وتحقيقه وعرفانه .
وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين، فلماذا يكون الحلول ثابتا له دون غيره ؟ وهذا شر من قول النصارى، فإن النصارى ادعوا ذلك في المسيح لكونه خلق من غير أب، وهؤلاء الشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق، وإنما فضلوا بالعبادة والمعرفة، والتحقيق والتوحيد .
/ وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن لهم، فإذا كان هذا هو سبب الحلول، وجب أن يكون الحلول فيهم حادثا لا مقارنا لخلقهم، وحينئذ فقولهم : إن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط، كلام باطل كيفما قدر .
وأما ما ذكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت : إنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله لكان كافرًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو كذب، فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به، والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها : والله ما ولجه الله ولا خلا منه، كلام باطل عليها .(1/88)
وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا المعني، فلأي مزية يطاف به ويصلى إليه ويحج دون غيره من البيوت ؟
وقول القائل : ما ولج الله فيه كلام صحيح . وأما قوله : ما خلا منه فإن أراد أن ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى، فهو باطل وهو مناقض لقوله : ما ولج فيه، وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له لم يتجدد له ولوج ولم يزل غير حال فيه، فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب ألا يكون للبيت مزية على غيره من البيوت إذ الموجودات كلها عندهم كذلك .
/ وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج :
سبحان من أظهر ناسوته ** سر سنا لاهوته الثاقب
حتى بدا فى خلقه ظاهرا ** في صورة الآكل والشارب
فهذه قد بين بها الحلول الخاص ـ كما تقول النصارى في المسيح ـ وكان أبو عبد الله ابن خفيف الشيرازي ـ قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج ـ يذب عنه، فلما أنشد هذين البيتين قال : لعن الله من قال هذا .
وقوله : وله :
عقد الخلائق في الإله عقائدا ** وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
فهذا البيت يعرف لابن عربي، فإن كان قد سبقه إليه الحلاج وقد تمثل هو به، فإضافته إلى الحلاج صحيحة، وهو كلام متناقض باطل .
فإن الجمع بين النقيضين في الاعتقاد في غاية الفساد . والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما .
وهؤلاء يزعمون أنه يثبت عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل، وإنهم يقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين، وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول، ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة .(1/89)
/ ومعلوم أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أعظم من الأولىاء، والأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم يجيؤوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وأن الجمع بين النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح .
ولا ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام، يتخيلون في نفوسهم أمورًا يتخيلونها ويتوهمونها، فيظنونها ثابتة في الخارج، وإنما هي من خيالاتهم، والخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له .
ولهذا يقولون : أرض الحقيقة هي أرض الخيال، كما يقول ذلك ابن عربي وغيره، ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض، وكان من شيوخهم .
وأما قوله :
بيني وبينك إني تزاحمني ** فارفع بحقك إنيي من البين
فإن هذا الكلام يفسر بمعانٍ ثلاثة، يقوله الملحد، ويقوله الزنديق، ويقوله الصديق .
فالأول : مراده به طلب رفع ثبوت إنيته حتى يقال : إن وجوده هو وجود الحق، وإنيته هي إنية الحق، فلا يقال : إنه غير الله ولا سواه .
/ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة : إن الحلاج نصف رجل، وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى، فرفعت له صورة . يقولون : إنه لما لم ترفع إنيته في الثبوت في حقيقة شهوده رفعت صورة فقتل، وهذا القول مع ما فيه من الكفر والإلحاد، فهو متناقض ينقض بعضه بعضا فإن قوله :
بيني وبينك إني تزاحمني
خطاب لغيره، وإثبات إنية بينه وبين ربه، وهذا إثبات أمور ثلاثة ولذلك يقول :
فارفع بحقك إنيي من البين **
طلب من غيره أن يرفع إنيته، وهذا إثبات لأمور ثلاثة .
وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد، وهو الفناء عن وجود السوى، فإن هذا فيه طلب رفع الإنية ـ وهو طلب الفناء ـ والفناء ثلاثة أقسام :
فناء عن وجود السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن عبادة السوى .(1/90)
فالأول : هو فناء أهل الوحدة الملاحدة، كما فسروا به كلام الحلاج ـ وهو أن يجعل الوجود وجودًا واحدًا .
وأما الثاني ـ وهو الفناء عن شهود السوى : فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين، كما يحكى عن أبي يزيد وأمثاله وهو مقام الاصطلام، وهو أن يغيب بموجوده عن وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، وبمذكوره عن ذكره، فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن / رجلا كان يحب آخر، فألقى المحبوب نفسه في الماء، فألقى المحب نفسه خلفه فقال : أنا وقعت فلم وقعت أنت ؟ فقال : غبت بك عني، فظننت أنك أني . فهذا حال من عجز عن شهود شىء من المخلوقات إذا شهد قلبه وجود الخالق، وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين .
ومن الناس من يجعل هذا من السلوك، ومنهم من يجعله غاية السلوك، حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور، والمحبوب والمكروه .
وهذا غلط عظيم، غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع والأمر والنهي، وعبادة الله وحده وطاعة رسوله، فمن طلب رفع إنيته بهذا الاعتبار، لم يكن محمودًا على هذا ولكن قد يكون معذورًا .
وأما النوع الثالث ـ وهو الفناء عن عبادة السوى : فهذا حال النبيين وأتباعهم، وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، فهذا تحقيق توحيد الله وحده لا شريك له، وهو الحنيفية ملة إبراهيم .
ويدخل في هذا : أن يفنى عن اتباع هواه بطاعة الله، فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه .
/ ومن قال :
فارفع بحقك إنيي من البين **(1/91)
بمعنى أن يرفع هو نفسه فلا يتبع هواه، ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته، بل يكون عمله لله لا لهواه، وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته، كما قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] فهذا حق محمود .
وهذا كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال : رأيت رب العزة في المنام فقلت : خدايي كيف الطريق إليك ؟ قال : اترك نفسك وتعال ـ أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك ـ فيكون عملك لله واستعانتك بالله، كما قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه } [ هود : 123 ]
والقول المحكي عن ابن عربي :
وبي حلفت وإن المقسم الله
هو أيضا من إلحادهم وإفكهم جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله، فهو الحالف والمحلوف به، كما يقولون : أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه، فهو المرسِل والمرسَل إليه والرسول . وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك :
لها صلواتي بالمقام أقيمها ** وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ** حقيقته بالجمع في كل سجدة
/وما كان بي صلى سواي ولم تكن ** صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال :
وما زلت إياها وإياي لم تزل ** ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ** وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ** منادى أجابت من دعاني ولبت
إلى رسولا كنت مني مرسلا ** وذاتي بآياتي على استدلت(1/92)
وأما المنقول عن عيسى ابن مريم ـ صلوات الله عليه ـ فهو كذب عليه، وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح، وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني، فإنه لا يوافق قول النصارى، فإن قوله : إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة فخلق من نوره آدم، وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة، فهذا الكلام ـ مع ما فيه من الكفر والإلحاد ـ متناقض، وذلك أن الله ـ سبحانه ـ يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو عبد مخلوق لله ـ قال لأصحابه : ( إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من بين يدي ) . فإذا كان المخلوق قد يرى ما خلفه ـ وهو أبلغ من رؤية نفسه ـ فالخالق تعالى كيف لا يرى نفسه ؟ وأيضا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم، يقتضي أنه لم يكن في الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم .
/ثم ذلك الشوق إن كان قديما، كان ينبغي أن يفعل ذلك في الأزل، وإن كان محدثا فلابد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال : الشوق أيضا صفة نقص، ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى، وقد روى : ( طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق ) وهو حديث ضعيف .
وقوله : ( فخلق من نوره آدم وجعله كالمرآة، وأنا ذلك النور وآدم هو المرآة ) يقتضي أن يكون آدم مخلوقا من المسيح، وهذا نقيض الواقع، فإن آدم خلق قبل المسيح، والمسيح خلق من مريم، ومريم من ذرية آدم فكيف يكون آدم مخلوقاً من ذريته ؟ .
وإن قيل : المسيح هو نور الله فهذا القول ـ وإن كان من جنس قول النصارى ـ فهو شر من قول النصارى، فإن النصارى يقولون : إن المسيح؛ هو الناسوت، واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر الابن . وهم يقولون : اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن المسيح، لا يقولون : إن آدم خلق من المسيح، إذ المسيح عندهم اسم اللاهوت والناسوت جميعا، وذلك يمتنع أن يخلق منه آدم، وأيضا فهم لا يقولون : إن آدم خلق من لاهوت المسيح .(1/93)
وأيضا، فقول القائل : إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح : إن أراد به نوره الذي هو صفة لله، فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه، إذ يمتنع أن يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه، فمعلوم أن المسيح لم يكن شيئا موجودا منفصلا قبل خلق آدم، فامتنع على كل تقدير أن يكون آدم مخلوقا من نور الله الذي هو المسيح .
/وأيضا فإذا كان آدم كالمرآة، وهو ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته، لا أن آدم هو ذاته، ولا مثال ذاته، ولا كذاته .
وحينئذ، فإن كان المراد بذلك أن آدم يعرف الله تعالى، فيرى مثال ذاته العلمي في آدم، فالرب ـ تعالى ـ يعرف نفسه، فكان المثال العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدم نفسه مثال لله، فلا يكون آدم هو المرآة، بل يكون هو كالمثال الذي في المرآة .
وأيضا، فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور، هو قول النصارى الذين يخصونه بأنه الله أو ابن الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد، حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح .
وأما قول ابن الفارض :
وشاهدْ إذا استجليت ذاتك من ترى ** بغير مراء في المرآة الصقيلة
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ** إلىك بها عند انعكاس الأشعة ؟
فهذا تمثيل فاسد، وذلك أن الناظر في المرآة يرى مثال نفسه، فيرى نفسه بواسطة المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة، فقولهم بوحدة الوجود باطل، وبتقدير صحته ليس هذا مطابقا له .
/وأيضا،فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شىء،فتخصيصهم بعد هذا آدم أو نحو المسيح يناقض قولهم بالعموم، وإنما يخص المسيح ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص، كالنصارى والغالية من الشيعة، وجهال النساك ونحوهم .(1/94)
وأيضا، فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة، فالمرآة خارجة عن نفسه، فيرى نفسه أو مثال نفسه في غيره، والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى، فليس هناك مظهر مغاير للظاهر، ولا مرآة مغايرة للرائي .
وهم يقولون : إن الكون مظاهر الحق، فإن قالوا : المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا : المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شىء في شىء، ولا تجلى شىء في شىء، ولا ظهر شىء لشىء، ولا تجلى شىء لشىء، وكان قوله :
وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى
كلاما متناقضا؛ لأن هنا مخاطِبا ومخاطَبا ومرآة تستجلى فيها الذات، فهذه ثلاثة أعيان، فإن كان الوجود واحداً بالعين بطل هذا الكلام، وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم .
فصل
( الأمر أمران )
وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل : الأمر أمران : أمر بواسطة وأمر بغير واسطة، إلى آخره ـ فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني، والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني، وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل، فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة، فإن اللّه كلم موسى وأمره بلا واسطة، وكذلك كلم محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمره ليلة المعراج، وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة وهي أوامر دينية شرعية .
وأما الأمر الكوني : فقول القائل : إنه بلا واسطة خطأ، بل الله ـ تعالى ـ خلق الأشياء بعضها ببعض، وأمر التكوين ليس هو خطابا يسمعه المكون المخلوق، فإن هذا ممتنع؛ ولهذا قيل : إن كان هذا خطابا له بعد وجوده لم يكن قد كون بكن؛ بل كان قد كون قبل الخطاب، وإن كان خطابا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع . وقد قيل في جواب هذا : إنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم، وإن كان معدوما في العين .
وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب .
/وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهرًا وباطنًا فكان قوله : لا تقرب ظاهراً، وكان أمره [ بكل ] باطنا .(1/95)
فيقال : إن أريد بكونه قال : [ كل ] باطنا أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع ودين، فهذا كذب وكفر . وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه، فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
وإن قيل : إن آدم شهد الأمر الكوني القدري وكان مطيعاً لله بامتثاله له، كما يقول هؤلاء : إن العارف الشاهد للقدر يسقط عنه الملام، فهذا مع أنه معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام فهو كفر باتفاق المسلمين .
فيقال : الأمر الكوني يكون موجودًا قبل وجود المكون، لا يسمعه العبد، وليس امتثاله مقدورًا له، بل الرب هو الذي يخلق ما كونه بمشيئته وقدرته، والله ـ تعالى ـ ليس له شريك في الخلق والتكوين . والعبد وإن كان فاعلاً بمشيئته وقدرته، والله خالق كل ذلك، فتكوين الله للعبد ليس هو أمرًا لعبد موجود في الخارج يمكنه الامتثال، وكذلك ما خلقه من أحواله وأعماله خلقه بمشيئته وقدرته و { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٍ } [ يس : 82 ] ، فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر . /وأكل آدم من الشجرة، وغير ذلك من الحوادث، داخل تحت هذا كدخول آدم، فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم .(1/96)
فقول القائل : إنه قال لآدم في الباطن : [ كل ] مثل قوله : إنه قال للكافر : اكفر، وللفاسق : افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يوجد منه خطاب باطن، ولا ظاهر للكفار والفساق، والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعا بمشيئته، وقدرته وخلقه وأمره الكوني، فالأمر الكوني ليس هو أمراً للعبد أن يفعل ذلك الأمر، بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد، أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال . فهو ـ سبحانه ـ الذي خلق الإنسان هلوعا { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 20، 21 ] ، وهو الذي جعل المسلمين مسلمين، كما قال الخليل : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] فهو ـ سبحانه ـ جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها، وأمره لهم بذلك أمر تكوين، بمعنى أنه قال لهم : كونوا كذلك فيكونون كذلك، كما قال للجماد : كن فيكون .
فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان، وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته، لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله، كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن، بخلاف ما أمره في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطنا / وظاهرًا، ونهاه عن المعصية باطنا وظاهراً، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنا وظاهرًا، وخلق العبد وجميع أعماله باطنا وظاهرًا، وكون ذلك بقوله : كن باطنا وظاهرًا .(1/97)
وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر، بل القدر يؤمن به ولا يحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين، متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرًا لزم ألا يلام أحد، ولا يعاقب ولا يقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه ـ إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته ـ ألا ينتصر من الظالم، ولا يغضب عليه، ولا يذمه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة، لا يمكن أحد أن يفعله، فهو ممتنع طبعا محرم شرعا .
ولو كان القدر حجة وعذرًا، لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا، ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار، ولا كان جهاد الكفار جائزاً، ولا إقامة الحدود جائزاً، ولا قطع السارق، ولا جلد الزاني ولا رجمه، ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه .
ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلا في فطر الخلق وعقولهم، لم تذهب إليه أمة من الأمم، ولا هو مذهب أحد من العقلاء، الذين يطردون قولهم، فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد، لا في دنياه ولا آخرته، ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة، إن لم يكن أحدهما ملتزما مع الآخر نوعاً من الشرع، فالشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده .(1/98)
/ لكن الشرائع تتنوع : فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل، وتارة لا تكون كذلك، ثم المنزلة : تارة تبدل وتغيرـ كما غير أهل الكتاب شرائعهم ـ وتارة لا تغير ولا تبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل . وأما القدر،فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه، فإذا فعل فعلا محرما بمجرد هواه وذوقه ووجده، من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر، كما قال المشركون : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، قال الله تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ . قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 148، 149 ] . فبين أنهم ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين، وإنما يتبعون الظن .
والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر، فإنه لو خرب أحد الكعبة، أو شتم إبراهيم الخليل، أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه، كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الدين، وما فعله هو أيضا من المقدور .
فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر، إن كان الاحتجاج به صحيحاً، ولكن كانوا يعتمدون / على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون .(1/99)
وموسى لما قال لآدم : ( لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ ) فقال آدم عليه السلام ـ فيما قال لموسى : ( لم تلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين عاماً ؟ فحج آدم موسى ) ،لم يكن آدم ـ عليه السلام ـ محتجا على فعل ما نهى عنه بالقدر، ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله، بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا، فكيف آدم وموسى ؟
وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى، وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه، فكيف بنبي من الأنبياء ؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة، ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك، ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره، وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق، ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها، كيف وقد قال موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } [ القصص : 16 ] ، وقال : { أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [ الأعراف : 155 ] ، وهذا باب واسع .
وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة؛ ولهذا قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر، / فإن الأب لو فعل فعلا افتقر به حتى تضرر بنوه، فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر، لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب . والعبد مأمور أن يصبر على المقدور، ويطيع المأمور، وإذا أذنب استغفر، كما قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ } [ غافر : 55 ] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ التغابن : 11 ] . قال طائفة من السلف : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .(1/100)
فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان والدين، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر .
فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عَظُمَ جَزَعُه وقَلَّ صَبْرُه، فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له، وإذا أذنب ذنباً أخذ يحتج بالقدر، فلا يفعل المأمور، ولا يترك المحظور، ولا يصبر على المقدور، ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين، وأئمة المحققين الموحدين، وإنما هو من أعداء الله الملحدين، وحزب الشيطان اللعين .
وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان، تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر، وأعظمهم ظلما وعدوانا، وأذل الناس إذا قهر، وأعظمهم جزعا ووهنا، كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب،والمقاتلة من أصناف الناس .
/والمؤمن إن قدر عدل وأحسن،وإن قهر وغلب صبر واحتسب،كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم ـ التي أولها : بانت سعاد . . . إلخ ـ في صفة المؤمنين :
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ** يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : رأيته يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر .(1/101)
وقد قال تعالى : { أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] ، وقال تعالى : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ، وقال تعالى : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، وقال تعالى : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ آل عمران : 168 ] ،فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة، فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور، والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور .
فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير، بخلاف من عكس فلا يتقى الله بل يترك طاعته متبعا لهواه ويحتج بالقدر،ولا يصبر إذا ابتلى ولا ينظر حينئذ إلى القدر، فإن هذا حال الأشقياء، كما قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به .
/يقول : أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقا لطاعتك، فتنسى نعمة الله عليك أن جعلك مطيعا له، وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب،بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده،أو المحرك الذي لا إرادة له ولا قدرة ولا علم، وكلاهما خطأ .(1/102)
وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال : إذا عمل العبد حسنة فقال : أي رب، أنا فعلت هذه الحسنة، قال له ربه : أنا يسرتك لها وأنا أعنتك عليها . فإن قال : أي رب، أنت أعنتني عليها ويسرتني لها، قال له ربه : أنت عملتها وأجرها لك، وإذا فعل سيئة فقال : أي رب، أنت قدرت على هذه السيئة . قال له ربه : أنت اكتسبتها وعليك وزرها،فإن قال : أي رب،إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه، قال له ربه : أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك . وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع .
وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط، من غير شهود الأمر والنهي، والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور، وهذا أعظم الضلال
ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه، كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين، لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله
وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله : آدم كان أمره بكل باطنا فأكل، وإبليس كان توحيده ظاهراً فأمر بالسجود لآدم فرآه غيراً فلم يسجد / فغير الله عليه وقال : { اخْرُجْ مِنْهَا } الآية [ الأعراف : 18 ] ، فإن هذا ـ مع ما فيه من الإلحاد ـ كذب على آدم وإبليس فإن آدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة،وأنه هو الظالم لنفسه وتاب من ذلك، ولم يقل : إن الله ظلمني، ولا إن الله أمرني في الباطن بالأكل،قال تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 37 ] ،وقال تعالى : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، وإبليس أصر واحتج بالقدر فقال : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] .(1/103)
وأما قوله : [ رآه غيراً فلم يسجد ] ، فهذا شر من الاحتجاج بالقدر، فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين، وهو كذب على إبليس، فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيراً بل قال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] ، ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيراً، بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة، والله تعالى : { ّوَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ البقرة : 31، 32 ]
وكانت الملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم، وهم مغايرون له، ولهذا دعوه دعاء العبد ربه، فآدم يقول : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] ، والملائكة تقول : { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة : 32 ] ، وتقول : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } الآية [ غافر : 7 ] ، وقد قال تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [ الزمر : 64 ] ، وقال تعالى : { أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] ، وقال : { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } [ الأنعام : 114 ](1/104)
فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروه بعبادة غير الله، ولا اتخاذ غير الله ولياً ولا حكماً، فلم يكونوا يستحقون الإنكار، فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غيرٍ يمكن عبادته واتخاذه ولياً وحكماً، وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [ الشعراء : 213 ] ، وقال : { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] ،وأمثال ذلك .
وأما قول القائل : إن قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] عين الإثبات للنبي صلى الله عيله وسلم كقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] ، { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] فهذا بناء على قول أهل الوحدة والاتحاد، وجعل معنى قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } أن فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة، وهذا ضلال عظيم من وجوه :
أحدها : أن قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } نزل في سياق قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ . لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [ آل عمران : 127، 128 ] . /وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت، فلما أنزل الله هذه الآية ترك ذلك، فعلم أن معناها إفراد الرب تعالى بالأمر، وأنه ليس لغيره أمر، بل إن شاء الله ـ تعالى ـ قطع طرفاً من الكفار، وإن شاء كَبَتَهُم فانقلبوا بالخسارة، وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم .(1/105)
وهذا كما قال في الآية الأخرى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } [ الأعراف : 188 ] ، ونحو ذلك قوله تعالى : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لله } [ آل عمران : 154 ] .
الوجه الثاني : أن قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] لم يرد به أن فِعلَ العبد هو فعل الله ـ تعالى ـ كما تظنه طائفة من الغالطين ـ فإن ذلك لو كان صحيحا لكان ينبغي أن يقال لكل أحد، حتى يقال للماشي : ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى، ويقال للراكب : وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، ويقال للمتكلم : ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم، ويقال مثل ذلك للآكل والشارب، والصائم والمصلي ونحو ذلك .
وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكفار : ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر، ويقال للكاذب : ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب .
ومن قال مثل هذا فهو كافر ملحد، خارج عن العقل والدين .
/ولكن معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم، ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذ رماهم بالتراب وقال : ( شاهت الوجوه ) لم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم، فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم كلهم بقدرته . يقول : وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل، فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه، فإن هذا مستلزم للجمع بين النقيضين، بل نفى عنه الإيصال والتبليغ، وأثبت له الحذف والإلقاء، وكذلك إذا رمى سهما فأوصله الله إلى العدو إيصالا خارقاً للعادة، كان الله هو الذي أوصله بقدرته .(1/106)
الوجه الثالث : أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية : أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق، وقد قال الخليل : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] ، فالله هو الذي جعل المسلم مسلما، وقال تعالى : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19، 21 ] ، فالله هو الذي خلقه هلوعا، لكن ليس في هذا أن الله هو العبد، ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، ولا أن الله حال في العبد .
فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق، والقول بأن الخالق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل .
وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد، وهذا عين الضلال والإلحاد .
/الوجه الرابع : أن قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] لم يرد به : أنك أنت الله، وإنما أراد : أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه، فمن بايعك فقد بايع الله، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله، ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله، ولكن الرسول أمر بما أمر الله به .
فمن أطاعه فقد أطاع الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني ) ومعلوم أن أميره ليس هو إياه .
ومن ظن في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } أن المراد به : أن فعلك هو فعل الله، أو المراد : أن الله حال فيك ونحو ذلك، فهو ـ مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده ـ قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره .(1/107)
وذلك أنه لو كان المراد به : كون الله فاعلا لفعلك، لكان هذا قدراً مشتركا بينه وبين سائر الخلق، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله، ومن بايع مسيلمة الكذاب فقد بايع الله، ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله، وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضا، فيكون الله قد بايع الله، إذ الله خالق لهذا ولهذا، وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد، فإنه عام عندهم في هذا وهذا، فيكون الله قد بايع الله .
وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية الاتحادية، حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو يقول : أقاتل الله ؟ ما أقدر أن أقاتل الله، ونحو هذا / الكلام الذي سمعناه من شيوخهم، وبينا فساده لهم وضلالهم فيه غير مرة .
وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء، بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية وهو باطل أيضا، فإن الله ـ سبحانه ـ قال له : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، وقال : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] ، وقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] ، وقال : { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] ، وقال : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا . وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [ الفتح : 18، 19 ] .(1/108)
فقوله : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } بيَّن قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ } ؛ ولهذا قال : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] . ومعلوم أن يد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مع أيديهم، كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة، فعلم أن يد الله فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول عبد الله ورسوله، فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله، فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم .
ألا ترى أن كل من وكل شخصا يعقد مع الوكيل، كان ذلك عقداً مع الموكل ؟ ومن وكل نائبا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه، كانوا معاهدين لمستنيبه ؟ ومن وكل رجلا في إنكاح أو تزويج، كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد ؟ وقد قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } الآية [ التوبة : 111 ] ، ولهذا قال في تمام الآية : { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ الفتح : 10 ] .
فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح، وأن الله إذا كان قد قال لنبيه : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } فإيش نكون نحن ؟ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : ( لا تُطْرُوني كما أَطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله ورسوله )
وأما قول القائل :
ما غبت عن القلب ولا عن عيني ** ما بينكم وبيننا من بين
فهذا قول مبنى على قول هؤلاء، وهو باطل متناقض، فإن مبناه على أنه يرى الله بعينه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت )(1/109)
وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحداً من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله علسه وسلم، والصحابة وأئمة المسلمين .
ولم يثبت عن ابن عباس، ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما، أنهم قالوا : إن محمداً رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد، / وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه، وقوله : ( أتاني البارحة ربي في أحسن صورة ) الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، إنما كان بالمدينة في المنام، هكذا جاء مفسراً .
وكذلك حديث أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما ـ مما فيه رؤية ربه ـ إنما كان بالمدينة كما جاء مفسراً في الأحاديث، والمعراج كان بمكة كما قال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] ، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل له : { لن رآني } [ الأعراف : 143 ] ، وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء، كما قال تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] ، فمن قال : إن أحدًا من الناس يراه، فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران،ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتاباً من السماء .
والناس في رؤية الله على ثلاثة أقوال :
فالصحابة والتابعونَ وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عيانًا، وأن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه، لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب ـ من المكاشفات والمشاهدات ـ ما يناسب حالها .(1/110)
ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه، حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه، / وهو غالط، ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد، ومعرفته في صورة مثالية، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
والقول الثاني : قول نفاة الجهمية : أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة .
والثالث : قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة .
وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات، فيقولون : إنه لا يري في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه يرى في الدنيا والآخرة، وهذا قول ابن عربي ـ صاحب الفصوص ـ وأمثاله؛ لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى، وهو وجود الحق عندهم .
ثم من أثبت الذات قال : يرى متجلياً فيها، ومن فرق بين المطلق والمعين قال : لا يرى إلا مقيداً بصورة .
وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين : إنكار رؤية الله، وإثبات رؤية المخلوقات، ويجعلون المخلوق هو الخالق، أو يجعلون الخالق حالا في المخلوق، وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول : بأن المعدوم شيء في الخارج، وهو قول باطل، وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق .
وأما التفريق بين المطلق والمعين ـ مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقاً ـ فيقتضي أن يكون الرب معدوما، وهذا هو جحود الرب وتعطيله،/ وإن جعلوه ثابتا في الخارج جعلوه جزءا من الموجودات،فيكون الخالق جزءا من المخلوق أو عرضا قائما بالمخلوق، وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع .
وأما تناقضه فقوله :
ما غبت عن القلب ولا عن عيني ** ما بينكم وبيننا من بين
يقتضى المغايرة، وأن المخاطَب غير المخاطِب، وأن المخاطَب له عين وقلب لا يغيب عنهما المخاطب، بل يشهده القلب والعين، و الشاهد غير المشهود .
وقوله :
ما بينكم وبيننا من بين **(1/111)
فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب، وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا : هذه مظاهر ومجالٍ، قيل : فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر والمتجلي، فقد ثبتت التثنية وبطلت الوحدة، وإن كان هو إياها فقد بطل التعدد، فالجمع بينهما تناقض .
وقول القائل :
فارق ظلم الطبع وكن متحدا ** بالله وإلا فكل دعواك محال
إن أراد الاتحاد المطلق، فالمفارق هو المفارق، وهو الطبع وظلم الطبع، وهو المخاطب بقوله : وكن متحداً بالله وهو المخاطب بقوله : كل دعواك محال وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى .
/وإن أراد الاتحاد المقيد، فهو ممتنع، لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين ـ كما كانا قبل الاتحاد ـ فذلك تعدد وليس باتحاد .
وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث ـ كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد، ونحو ذلك مما يثبته النصارى بقولهم في الاتحاد ـ لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته، كسائر ما يتحد مع غيره، فإنه لابد أن يستحيل .
وهذا ممتنع على الله ـ تعالى ـ ينزه عنه؛ لأن الاستحالة تقتضى عدم ما كان موجوداً، والرب ـ تعالى ـ واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له، يمتنع العدم على شيء من ذلك؛ ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال، فعدم شيء منها نقص يتعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب، وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق، فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل .
والرب ـ تعالى ـ يلازمه القدم والغنى والعزة، وهو ـ سبحانه ـ قديم غني عزيز بنفسه، يستحيل عليه نقيض ذلك، فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضى أن يكون الرب متصفا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل، والعبد متصفاً بنقيض صفاته من القدم، والغنى الذاتي، والعز الذاتي، وكل ذلك ممتنع، وبسط هذا يطول .
فصل(1/112)
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة . ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء، أبرارًا كانوا أو فجارًا، ويحافظون على الجماعات .
ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا ) ، وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .
ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) .
ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخُيَلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالى الأخلاق، وينهون عن سفسافها وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره، فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة .(1/113)
وطريقتهم هي دين الإسلام، الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) ، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم . وهم الطائفة المنصورة، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ) .
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب . والله أعلم .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
قال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة :
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وآله وسلم تسليما أما بعد :(1/114)
قد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الأخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعلهم ممن ينصر به السلطان سلطان العلم والحجة والبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصر بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وجنده الغالبين لمن ناواهم من الأقران ومن أئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والأيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والأعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان الذي يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من الداعي إلى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان قال الله تعالى { الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 1 : 4 ] . فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب؛ وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكإذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14، 15 ] .(1/115)
وأخبر في كتابه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] ، وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد 31 ]
وأخبر ـ سبحانه ـ أنه عند وجود المرتدين؛ فلابد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 45 ] .(1/116)
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 144-148 ] .
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر، والشكر، كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لايقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له . إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فَصَبر كان خيرًا له ) . والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه .
ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان .(1/117)
فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
والله هو المسؤول أن يثبتكم، وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه الباطنة والظاهرة، وينصر دينه وكتابه، وعباده المؤمنين على الكافرين، والمنافقين الذي أمرنا بجهادهم والأغلاظ عليهم في كتابه المبين .
وأنتم فأبشروا من أنواع الخير والسرور بما لم يخطر في الصدور . وشأن هذه [ القضية ] وما يتعلق بها أكبر مما يظنه من لا يراعى إلا جزئيات الأمور؛ ولهذا كان فيما خاطبت به أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي إن قلت : هذه [ القضية ] ليس الحق فيها لي بل لله ولرسوله وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين، ولا أنكس راية المسلمين . ولا أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، وفلان .
نعم يمكنني ألا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إليَّ وافترى عليَّ، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا كله مبذول مني ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك، وكنت قد قلت له : الضرر في هذه [ القضية ] ليس عليَّ، بل عليكم، فإن الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه، ويبغضون أولياءه والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من التتار ونحوهم .
وهم دبَّروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار، وبعضهم مقيم بالشام وغيره، ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن إذكرها، ولا أسمِّي من دخل في ذلك حتى تشاوروا نائب السلطان، فإن إذن في ذلك ذكرت لك ذلك، وإلا فلا يقال ذلك له، وما أقوله فاكشفوه أنتم، فاستعجب من ذلك وقال : يا مولانا، إلا تسمى لي أنت أحدًا ؟ فقلت : وأنا لا أفعل ذلك، فإن هذا لا يصلح .
لكن تعرفون من حيث الجملة أنهم قصدوا فساد دينكم، ودنياكم، وجعلوني إمامًا تسترًا، لعلمهم بأني أواليكم، وأسعى في صلاح دينكم ودنياكم، وسوف ـ إن شاء الله ـ ينكشف الأمر .(1/118)
قلت له : وإلا فأنا على أي شيء أخاف ! إن قتلت كنت من أفضل الشهداء ! وكان عليَّ الرحمة والرضوان إلى يوم القيامة ! وكان على من قتلني اللعنة الدائمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة ! ليعلم كل من يؤمن بالله ورسوله أني إن قتلت لأجل دين الله، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله عليَّ، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله على في هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه ! لا أقطاعي ! ولا مدرستي ! ولا مالي ! ولا رياستي وجاهي .
وإنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا والآخرة، وهذا كان مقصود العدو الذي أثار هذه الفتنة .
وقلت : هؤلاء الذين بمصر من الأمراء ، والقضاة، والمشائخ ، إخواني وأصحابي ، أنا ما أسأت إلى أحد منهم قط، وما زلت محسنًا إليهم، فأي شيء بيني وبينهم ؟ ! ولكن لَبَّس عليهم المنافقون أعداء الإسلام . وأنا أقول لكم - لكن لم يتفق أني قلت هذا له : إن في المؤمنين من يسمع كلام المنافقين ويطيعهم، وإن لم يكن منافقًا، كما قال تعالى : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [ التوبة : 74 ] ، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { ولا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ إذاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ]
والنفاق له شعب ودعائم، كما أن للإيمان شعبًا ودعائم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ) . وفيهما أيضا أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر، وإذا اؤتمن خان ) .(1/119)
وقلت له : هذه القضية أكبر مما في نفوسكم، فإن طائفة من هؤلاء الأعداء ذهبوا إلى بلاد التتر . فقال : إلى بلاد التتر ؟ فقلت : نعم . هم من أحرص الناس على تحريك الشر عليكم إلى أمور أخرى لا يصلح أن إذكرها لك .
وكان قد قال لي : فأنت تخالف المذاهب الأربعة، وذكر حكم القضاة الأربعة، فقلت له : بل الذي قلته عليه الأئمة الأربعة المذاهب، وقد أحضرت في الشام أكثر من خمسين كتابًا، من كتب الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأهل الحديث . والمتكلمين، والصوفية، كلها توافق ما قلته بألفاظه، وفي ذلك نصوص سلف الأمة وأئمتها .
ولم يستطع المنازعون ـ مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه ـ أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه، وكان لما أعطاني الدرج . فتأملته فقلت له : هذا كله كذب؛ إلا كلمة واحدة، وهي أنه استوى على العرش حقيقة، لكن بلا تكييف، ولا تشبيه . قلت : وهذا هو في [ العقيدة ] بهذا اللفظ : بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل . فقال : فاكتب خطك بهذا . قلت : هذا مكتوب قبل ذلك في [ العقيدة ] ولم أقل بما يناقضه فأي فائدة في تجديد الخط ؟ ! .
وقلت : هذا اللفظ قد حكى إجماع أهل السنة والجماعة عليه غير واحد من العلماء، المالكية، والشافعية، وأهل الحديث، وغيرهم، وما في علماء الإسلام من ينكر ذلك، إلا هؤلاء الخصوم .
قلت : فإن هؤلاء يقولون : ما فوق العرش رب يُدْعى، ولا فوق السماء إله يُعْبَد، وما هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، ولكن صعد إلى السماء، ونزل . وأن الداعي لا يرفع يديه إلى الله . ومنهم من يقول : إن الله هو هذا الوجود، وأنا الله، وأنت الله، والكلب والخنزير والعذرة ! ويقول : إن الله حالٌّ في ذلك .(1/120)
فاستعظم ذلك، وهاله أن أحدًا يقول هذا . فقال : هؤلاء يعني ؟ ابن مخلوف وذويه . ففلت : هؤلاء ما سمعت كلامهم، ولا خاطبوني بشيء؛ فما يحل لي أن أقول عنهم ما لم أعلمه، ولكن هذا قول الذين نازعوني بالشام، وناظروني وصرحوا لي بذلك، وصرح أحدهم بأنه لا يقبل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في هذا الباب مما يخالفهم .
وجعل الرجل في أثناء الكلام يصغى لما أقوله، ويعيه، لما رأى غضبي؛ ولهذا بلغني من غير وجه أنه خرج فرحًا مسرورًا بما سمعه مني . وقال : هذا على الحق، وهؤلاء قد ضيعوا الله، وإلا فأين هو الله ؟ ! وهكذا يقول كل ذي فطرة سليمة . كما قاله جمال الدين الأخرم للملك الكامل لما خاطبه الملك الكامل في أمر هؤلاء ، فقال له الأخرم : هؤلاء قد ضيعوا إلهك، فاطلب لك إلهًا تعبده .
ومن المعلوم باتفاق المسلمين أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصيرحقيقة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، وإنما ينكر ذلك الفلاسفة الباطنية . فيقولون : نطلق عليه هذه الأسماء، ولا نقول : إنها حقيقة . وغرضهم بذلك جواز نفيها، فإنهم يقولون : لا حي حقيقة، ولا ميت حقيقة، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا سميع ولا أصم .
فإذا قالوا : إن هذه الأسماء مجاز، أمكنهم نفي ذلك؛ لأن علامة المجاز صحة نفيه . فكل من أنكر أن يكون اللفظ حقيقة لزمه جواز إطلاق نفيه، فمن أنكر أن يكون استوى على العرش حقيقة، فإنه يقول : ليس الرحمن على العرش استوى، كما أن من قال : إن لفظ الأسد للرجل الشجاع، والحمار للبليد ليس بحقيقة، فإنه يلزمه صحة نفيه . فيقول : هذا ليس بأسد، ولا بحمار، ولكنه آدمي .(1/121)
وهؤلاء يقولون لهم : لا يستوى الله على العرش . كقول إخوانهم : ليس هو بسميع ولا بصير، ولا متكلم؛ لأن هذه الألفاظ عندهم مجاز . فيأتون إلى محض ما أخبرت به الرسل عن الله ـ سبحانه ـ يقابلونه بالنفي والرد، كما يقابله المشركون بالتكذيب، لكن هؤلاء لا ينفون اللفظ مطلقًا .
وقال الطلمنكي [ هو أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى المعافري الأندلسي، صنف كتبًا كثيرة في السنة، وكان سيفًا مجردًا على أهل الأهواء والبدع ، توفي سنة 924هـ ] ـ أحد أئمة المالكية ـ قبل ابن عبد البر، والباجي، وطبقتهما ـ في [ كتاب الوصول إلى معرفة الأصول ] : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] ، ونحو ذلك من القرآن : أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته مستو على العرش كيف شاء .
وقال ـ أيضًا : قال أهل السنة في قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] : إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة، لا على المجاز . وقال ابن عبد البر في [ التمهيد ] ـ شرح الموطأ، وهو أشرف كتاب صنف في فنه ـ لما تكلم على حديث النزول قال : هذا حديث ثابت لا يختلف أهل الحديث في صحته . وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم : إنه في كل مكان، وليس على العرش .
قال : والدليل على صحة ما قاله أهل الحق، قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] .
وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، وقال : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [ المعارج : 4 ] ، وقال : { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55 ] وذكر آيات .(1/122)
إلى أن قال : وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا خالفهم فيه مسلم .
وهذا مثل ما ذكر محمد بن طاهر عن أبي جعفر الهمداني : أنه حضر مجلس بعض المتكلمين فقال : [ كان الله ولا عرش ] فقال : يا أستاذ ، دعنا من ذكر العرش . أخبرنا عن هذه الضرورات التي نجدها في قلوبنا : ما قال عارف قط يا الله ، إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يُمْنة ولا يسْرَةً . فضرب بيده على رأسه وقال : حيرني الهمداني، حيرني الهمداني . أراد الشيخ أن إقرار الفطر بأن معبودها ، ومدعوها فوق، هو أمر ضروري ، عقلي ، فطري، لم تستفده من مجرد السمع، بخلاف الاستواء على العرش ـ بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام ـ فإن هذا علم من جهة السمع .
ولهذا لا تعرف أيام الأسبوع إلا من جهة المقرين بالنبوات، فأما من لا يعرف ذلك كالترك المشركين ، فليس في لغتهم أسماء أيام الأسبوع . وهذا من حكمة اجتماع أهل كل ملة في يوم واحد في الأسبوع ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليوم لنا، وغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى ) . وبسط ابن عبد البر الكلام في ذلك .
إلى أن قال : وأما احتجاجهم بقوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ، فلا حجة فيه لهم؛ لأن علماء الصحابة، والتابعين قالوا في تأويل هذه الأية : هو على العرش ، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله .(1/123)
قال أبو عمر : أهل السنة مجمعون على الأقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا، ولا يحدون فيه صفة محصورة . وأما أهل البدع ـ الجهمية والمعتزلة والخوارج ـ فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه، وهم ـ عند من أقرَّ بها ـ نافون للمعبود، والحق ما نطق به كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة .
وقال ـ أيضًا : الذي عليه أهل السنة، وأئمة الفقه، والأثر، في هذه المسألة وما أشبهها : الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتصديق بذلك، وترك التحديد، والكيفية في شيء منه .
وقال السجزي في [ الإبانة ] : وأئمتنا كالثوري، ومالك ، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد ، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله ـ سبحانه ـ بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه برءاء .
وقال الشيخ عبد القادر في [ الغنية ] : أما معرفة الصانع بالآيات، والدلالات ـ على وجه الأختصار ـ فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد صمد، إلى أن قال : وهو بجهة العلو، مستو على العرش ، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء . قال : ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال : إنه في السماء على العرش، إلى أن قال : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش . قال : وكونه على العرش في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا تكييف .(1/124)
وذكر الشيخ نصر المقدسي في [ كتاب الحجة ] عن ابن أبي حاتم قال : سألت أبي وأبا زُرْعَةَ عن مذاهب أهل السنة ؟ فقالأ : أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازًا، وعراقًا، ومصر، وشامًا ويمنًا؛ فكان من مذاهبهم : أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص والقرآن كلام الله منزل، غير مخلوق، بجميع جهاته، إلى أن قال : وإن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا .
وقال الشيخ نصر في أثناء الكتاب : إن قال قائل : قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء فإذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه .
فالجواب : أن الذي أدركنا عليه أهل العلم، ومن بلغني قوله من غيرهم . . . فذكر جمل [ اعتقاد أهل السنة ] وفيه : وأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه . كما قال في كتابه .
وقال أبو الحسن الكجي الشافعي في [ قصيدته المشهورة في السنة ] :
عقيدتهم أن الإله بذاته ** على عرشه مع علمه بالغوائب
وقال القرطبي - صاحب التفسير الكبير ـ في قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 59 ] . قال : هذه [ مسألة الاستواء ] وللعلماء فيها كلام . فذكر قول المتكلمين . ثم قال : كان السلف الأول لا يقولون : بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك . بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله؛ كما نطق به كتابه، وأخبرت به رسله . قال : ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة؛ وإنما جهلوا كيفية الاستواء . فإنه لا تعلم حقيقته .
ثم قال ـ بعد أن حكى أربعة عشر قولاً : وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي، والأخبار، والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه ، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه . هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله الثقات عنهم .(1/125)
ولما اجتمعنا بدمشق، وأحضر فيمن أحضر كتب أبي الحسن الأشعري : مثل [ المقالات ] ، و [ الإبانة ] وأئمة أصحابه كالقاضي أبي بكر، وابن فُورَك، والبيهقي، وغيرهم . وأحضر كتاب [ الإبانة ] ، وما ذكر ابن عساكر في كتاب [ تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري ] وقد نقله بخطه أبو زكريا النووي .
وقال فيه : فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة : فعرفونا قولكم الذي به تقولون .
قيل له : قولنا : التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث . ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أحمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين .
وذكر الاعتقاد الذي ذكره في [ المقالات ] عن أهل السنة ثم احتج على أبواب الأصول مثل : [ مسألة القرآن ] ، و [ الرؤية ] و [ الصفات ] ثم قال :
وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه :
عن قوله صلى الله عليه وسلم : ( تفترق أمتي ثلاث وسبعين فرقة ) . ما الفرق ؟ وما معتقد كل فرقة من هذه الصنوف ؟
فأجاب :
الحمد لله الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند؛ كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ولفظه : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة ) . وفي لفظ : ( على ثلاث وسبعين ملة ) وفي رواية قالوا : يا رسول الله، من الفرقة الناجية ؟ قال : ( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) . وفي رواية قال : ( هي الجماعة، يد الله على الجماعة ) .(1/126)
ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم .
وأما الفرق الباقية، فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية، فضلا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة . وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع . فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة .(1/127)
وأما تعيين هذه الفرق، فقد صنف الناس فيهم مصنفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة . . . [ هنا كلمة لم تظهر بالأصل ] هي إحدى الثنتين والسبعين لابد له من دليل، فإن الله حرم القول بلا علم عمومًا، وحرم القول عليه بلا علم خصوصًا، فقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 168، 169 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا } [ الإسراء : 36 ] ، وأيضًا، فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/128)
فمن جعل شخصًا من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة ـ كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك ـ كان من أهل البدع والضلال والتفرق .
وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعًا لها، تصديقًا وعملا وحبًا وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عادها، الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه .
وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف، فما كان من معانيها موافقًا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفًا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم .
وجماع الشر الجهل والظلم، قال الله تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } إلى آخر السورة [ الأحزاب : 72، 73 ] . وذكر التوبة لعلمه سبحانه وتعالى أنه لابد لكل إنسان من أن يكون فيه جهل وظلم، ثم يتوب الله على من يشاء، فلا يزال العبد المؤمن دائمًا يتبين له من الحق ما كان جاهلًا به، و يرجع عن عمل كان ظالمًا فيه .(1/129)
وأدناه ظلمه لنفسه، كما قال تعالى : { اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } [ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ الحديد : 9 ] ، وقال تعالى : { الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ إبراهيم : 1 ] .
ومما ينبغي أيضًا أن يعرف : أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة .
ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محمودًا فيما رده من الباطل وقاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد بالباطل باطلًا بباطل أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة .
ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ . والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك .
ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة، بخلاف من والى موافقه وعادي مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات .
ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع [ الخوارج ] المارقون . وقد صح الحديث في الخوارج عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري منها غير وجه .(1/130)
وقد قاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب، فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفين؛ إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناف : صنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا، وجاءت النصوص بترجيح هذه الحال .
فالخوارج لما فارقوا جماعة المسلمين وكفّروهم واستحلوا قتالهم، جاءت السنة بما جاء فيهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ) .
وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى قِسْمَة النبي صلى الله عليه وسلم قال : يامحمد، اعدل؛ فإنك لم تعدل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ) فقال له بعض أصحابه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال : ( إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم ) الحديث .
فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه .
وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك ـ وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين ـ قالا : أصول البدع أربعة : الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة .(1/131)
فقيل لابن المبارك : والجهمية ؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد . وكان يقول : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية . وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا : إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وهم الزنادقة .
وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم : بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة، فعلى قول هؤلاء : يكون كل طائفة من [ المبتدعة الخمسة ] اثنا عشر فرقة، وعلى قول الأولين : يكون كل طائفة من [ المبتدعة الأربعة ] ثمانية عشر فرقة .
وهذا يبني على أصل آخر، وهو : تكفير أهل البدع . فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم؛ فإنه لا يكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله : ( هم في النار ) مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] .
ومن أدخلهم فيهم فهم على قولين :
منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين .
وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير [ المرجئة ] و [ الشيعة ] المفضلة ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع ـ من هؤلاء وغيرهم ـ خلافًا عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم . وهذا غلط على مذهبه، وعلى الشريعة .
ومنهم من لم يكفر أحدًا من هؤلاء إلحاقًا لأهل البدع بأهل المعاصي،قالوا : فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدًا بذنب،فكذلك لا يكفرون أحدًا ببدعة .(1/132)
والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير [ الجهمية المحضة ] ، الذين ينكرون الصفات، وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى، ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر ولا حياة، بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لايرونه كما لا يراه أهل النار، وأمثال هذه المقالات .
وأما الخوارج والروافض، ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره .
وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال .
وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين :
أحدهما : أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقًا؛ فإن الله منذ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وأنزل عليه القرآن، وهاجر إلى المدينة، صار الناس ثلاثة أصناف : مؤمن به، وكافر به مظهر الكفر، ومنافق مستخف بالكفر؛ ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفار، وبضع عشرة آية في المنافقين .(1/133)
وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن، كقوله : { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 1 ] ، وقوله : { إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [ النساء : 14 ] ، وقوله : { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ الحديد : 15 ] ، وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شر من الكفار، كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] ، وكما قال : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 84 ] ، وكما قال : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 53، 54 ] .
وإذا كان كذلك، فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة . وأول من ابتدع الرفض كان منافقًا . وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق؛ ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم .(1/134)
ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًِا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولا مغفورًا له خطؤه ، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين .
والأصل الثاني : أن المقالة تكون كفرًا، كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع؛ فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله .
وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جدًا مشهورة وإنما يردونها بالتحريف .
الثاني : أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع . فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله، فأصل الكفر الإنكار لله .
الثالث : أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها، لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان، حتى يظن أن الحق معهم، لما يوردونه من الشبهات . ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا، وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفارًا قطعًا، بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطئ المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه .(1/135)
وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة : أن الإيمان يتفاضل ويتبعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) وحينئذ فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك .
وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنبًا ما ليس بذنب، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب ـ وإن كانت متواترة ـ ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم : ( يقتلون أهل الإسلام وَيَدعون أهل الأوثان ) . ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما، وكفروا أهل صفين ـ الطائفتين ـ في نحو ذلك من المقالات الخبيثة .
وأصل قول الرافضة : أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على عَلِيٍّ نصًا قاطعًا للعذر، وأنه إمام معصوم، ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم، واتبعوا أهواءهم وبدلوا الدين، وغيروا الشريعة، وظلموا واعتدوا، بل كفروا إلا نفرًا قليلًا : إما بضعة عشر أو أكثر، ثم يقولون : إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين . وقد يقولون : بل آمنوا ثم كفروا .
وأكثرهم يكفر من خالف قولهم، ويسمون أنفسهم المؤمنين، ومن خالفهم كفارًا، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة، أسوأ حالاً من مدائن المشركين والنصارى؛ ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين . ومعاداتهم ومحاربتهم، كما عرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين .(1/136)
ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم، ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة؛ ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السنى إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم : أنا سني، فإنما معناه : لست رافضيًا .
ولا ريب أنهم شر من الخوارج، لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة، وموالاتهم الكفار أعظم من سيوف الخوارج، فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون إليهم، وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب . والخوارج مرقوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام .
وأما القدرية المحضة ، فهم خير من هؤلاء بكثير، وأقرب إلى الكتاب والسنة، لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضًا، وقد يكفرون من خالفهم، ويستحلون دماء المسلمين فيقربون من أولئك .
وأما المرجئة، فليسوا من هذه البدع المغلظة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يُعَدُّون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة .
ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون، تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيرًا عن مقالتهم، كقول سفيان الثوري : من قَدَّم عليًا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى ( أي : حطَّ من شأنهم ) بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك . أو نحو هذا القول . قاله لما نسب إلى تقديم على بعض أئمة الكوفيين . وكذلك قول أيوب السختياني : من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين . وقد روى أنه رجع عن ذلك ، وكذلك قول الثوري ومالك والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين .(1/137)
وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى، ليس له قول ابتدعه ولكن أظهر السنة وبينها، وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها، وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع، وقد قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } [ السجدة : 24 ] فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به وصار متبوعًا لمن بعده، كما كان تابعًا لمن قبله .
وإلا فالسنة هي ما تَلَقَّاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم وعليها أصبر . والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ، والله أعلم .
وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
(نداء لجماعة عدي بن مسافر )
بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة ـ أبي البركات عدي بن مسافر الأموي ـ ( هو أبو البركات عدي بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان . تنسب إليه طائفة العدوية سار ذكره في الآفاق وتبعه خلق كثير، توفى سنة سبع، وقيل : خمس وخمسين وخمسمائة ) ـ رحمه الله ـ ومن نحا نحوهم ، وفقهم الله لسلوك سبيله، وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج ؛ الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(1/138)
وبعد : فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير . ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عنده درجة، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد : فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنًا عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله .
وجعلهم أمة وسطًا أي عدلًا خيارًا، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، هداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم ـ بعد ذلك ـ بما ميزهم وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم .(1/139)
فالأول : مثل أصول الإيمان وأعلاها وأفضلها هو [ التوحيد ] وهو : شهادة أن لا إله إلا الله، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } [ الشورى : 13 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ المؤمنون : 51 ،52 ] .(1/140)
ومثل الإيمان بجميع كتب الله، وجميع رسله، كما قال تعالى : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ] ، ومثل قوله تعالى : { وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } [ الشورى : 15 ] ، ومثل قوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلى آخرها [ البقرة : 285 ـ 286 ]
ومثل الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب، كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم به، حيث قال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] .(1/141)
ومثل أصول الشرائع كما ذكر في سورة [ الأنعام ] و [ الأعراف ] و [ سبحان ] وغيرهن من السور المكية : من أمره بعبادته وحده لا شريك له، وأمره ببر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والعدل في المقال، وتوفية الميزان والمكيال، وإعطاء السائل والمحروم، وتحريم قتل النفس بغير الحق، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحريم الإثم والبغي بغير الحق، وتحريم الكلام في الدين بغير علم، مع ما يدخل في التوحيد من إخلاص الدين لله، والتوكل على الله والرجاء لرحمة الله، والخوف من الله، والصبر لحكم الله والقيام لأمر الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من أهله وماله والناس أجمعين .
إلى غير ذلك من أصول الإيمان التي أنزل الله ذكرها في مواضع من القرآن، كالسور المكية وبعض المدنية .
وأما الثاني : فما أنزله الله في السور المدنية من شرائع دينه، وما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فإن الله سبحانه أنزل عليه الكتاب والحكمة وامتن على المؤمنين بذلك، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك، فقال : { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] وقال : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 164 ] ، وقال : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } [ الأحزاب : 34 ] .(1/142)
قال غير واحد من السلف : الحكمة هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه ـ رضي الله عنهن ـ سوى القرآن هو سننه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ) وقال حسان بن عطية ( هو أبو بكر حسان بن عطية المحاربي مولاهم الدمشقي، وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان، وذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات في العشرين إلى الثلاثين ومائة ، وقال : كان من أفاضل أهل زمانه ) : كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن، فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن .
وهذه الشرائع التي هدي الله بها هذا النبي وأمته مثل : الوجهة، والمنسك، والمنهاج، وذلك مثل الصلوات الخمس في أوقاتها بهذا العدد، وهذه القراءة، والركوع ، والسجود، واستقبال الكعبة .
ومثل فرائض الزكاة ونصبها التي فرضها في أموال المسلمين : من الماشية والحبوب، والثمار، والتجارة، والذهب، والفضة، ومن جعلت له ، حيث يقول : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 60 ] .
ومثل صيام شهر رمضان، ومثل حج البيت الحرام، ومثل الحدود التي حدها لهم، في المناكح، والمواريث، والعقوبات والمبايعات، ومثل السنن التي سنها لهم؛ من الأعياد، والجمعات، والجماعات في المكتوبات، والجماعات في الكسوف والاستسقاء وصلاة الجنازة والتراويح .(1/143)
وما سنه لهم في العادات، مثل : المطاعم ، والملابس، والولادة، والموت، و نحو ذلك من السنن، والآداب، والأحكام التي هي حكم الله ورسوله بينهم، في الدماء، والأموال، والأبضاع، والأعراض، والمنافع،والأبشار، وغير ذلك من الحدود والحقوق، إلى غير ذلك مما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ، فجعلهم متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة كما ضلت الأمم قبلهم؛ إذ كانت كل أمة إذا ضلت أرسل الله تعالى رسولا إليهم، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] .
ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة كما كان الكتاب والسنة حجة؛ ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة والسنة والجماعة عن أهل الباطل، الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ، ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين .(1/144)
فإن الله أمر في كتابه باتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولزوم سبيله، ،وأمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [ النساء : 80 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ } [ النساء : 64 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، وقال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] .
وقال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ } [ آل عمران : 105 ] { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] ، وقال تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقال تعالى في أم الكتاب : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] .(1/145)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون ) . فأمر ـ سبحانه ـ في [ أم الكتاب ] التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، والتي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش، التي لا تجزئ صلاة إلا بها : أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ، كاليهود، ولا الضالين ، كالنصارى .
وهذا [ الصراط المستقيم ] هو دين الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله تعالى، وهو [ السنة والجماعة ] فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه من وجوه متعددة رواها أهل السنن والمسانيد، كالإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم أنه قال : ( ستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة ) وفي رواية : ( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) .
وهذه الفرقة الناجية : أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون .
ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا .(1/146)
بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، كما قال تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 79 ،80 ] .
ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في [ المسيح ] فلم يقولوا : هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا : هذا عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه .
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء، ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : { سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] ، وبقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } [ البقرة : 91 ] .(1/147)
ولا جَوَّزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عما شاؤوا ، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ } [ التوبة : 31 ] ، قال عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ : قلت : يا رسول الله، ما عبدوهم ؟ قال : ( ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم ) .
والمؤمنون قالوا : [ لله الخلق والأمر ] فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره . وقالوا : سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا : { إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [ المائدة : 1 ] ، وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيمًا .
وكذلك في صفات الله تعالى : فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، فقالوا : هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا : يد الله مغلولة . وقالوا : إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت . إلى غير ذلك .
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به، فقالوا : إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب .
والمؤمنون آمنوا بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس له سمى ولا ند ، و لم يكن له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء ، فإنه رب العالمين وخالق كل شيء ، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه { ِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم :93-95] .(1/148)
ومن ذلك : أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال الله تعالى : { َفبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط، ولا شحم الثرب والكليتين ولا الجدي في لبن أمه، إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل : إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعًا، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمرًا، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت .
وأما النصارى، فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح : { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عمران : 50 ] ، ولهذا قال تعالى : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] .(1/149)
وأما المؤمنون، فكما نعتهم الله به في قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 156، 157 ] . وهذا باب يطول وصفه .
وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق . فهم في [ باب أسماء الله وآياته وصفاته ] وسط بين [ أهل التعطيل ] الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين [ أهل التمثيل ] الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات .
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل .
وهم في [ باب خلقه وأمره ] وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] .(1/150)
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير . فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات .
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا، إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله .
وهم في [ باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ] وسط بين الوعيدية، الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبين المرجئة الذين يقولون : إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية .
فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته .
وهم ـ أيضًا ـ في [ أصحاب رسول الله ] ـ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ـ وسط بين الغالية، الذين يغالون في على ـ رضي الله عنه ـ فيفضلونه على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان ـ رضي الله عنهما ـ ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحبون سب على وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة على رضي الله عنه وإمامته .(1/151)
وكذلك في سائر أبواب السنة، هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان .
فصل
( دعوتم للتوبة )
وأنتم ـ أصلحكم الله ـ قد مَنَّ الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام الذي هو دين الله، وعافاكم الله مما ابتلى به من خرج عن الإسلام من المشركين وأهل الكتاب . والإسلام أعظم النعم وأجلها؛ فإن الله لا يقبل من أحد دينًا سواه { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] .
وعافاكم الله بانتسابكم إلى السنة من أكثر البدع المضلة، مثل كثير من بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية، بحيث جعل عندكم من البغض لمن يكذب بأسماء الله وصفاته، وقضائه وقدره، أو يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو من طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا من أكبر نعم الله على من أنعم عليه بذلك ، فإن هذا من تمام الإيمان وكمال الدين؛ ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين، وما زال في عساكر المسلمين المنصورة وجنود الله المؤيدة منكم، من يؤيد الله به الدين ، ويعز به المؤمنين .
وفي أهل الزهادة والعبادة منكم من له الأحوال الزكية والطريقة المرضية، وله المكاشفات والتصرفات .
وفيكم من أولياء الله المتقين من له لسان صدق في العالمين، فإن قدماء المشائخ الذين كانوا فيكم، مثل الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري وبعده الشيخ العارف القدوة عدي بن مسافر الأموي، ومن سلك سبيلهما فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة ما عظم الله به أقدارهم، ورفع به منارهم .(1/152)
والشيخ عدي ـ قدس الله روحه ـ كان من أفاضل عباد الله الصالحين وأكابر المشائخ المتبعين، وله من الأحوال الزكية والمناقب العلية ما يعرفه أهل المعرفة بذلك . وله في الأمة صيت مشهور ولسان صدق مذكور، وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشائخ الذين سلك سبيلهم، كالشيخ الإمام الصالح أبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي [ عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي، أبو الفرج شيخ الشام في وقته، حنبلي أصله من شيراز، تفقه ببغداد ، وسكن بيت المقدس واستقر في دمشق ، فنشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومن مؤلفاته [ الإيضاح ] ، و [ الجواهر ] ، وتوفي بدمشق ] ، وكشيخ الإسلام الهكاري ونحوهما .
وهؤلاء المشائخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول [ أهل السنة والجماعة ] بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة والدعاء إليها والحرص على نشرها ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم، وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد، مع أنه لابد وأن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة والدلائل الضعيفة، كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد ما يعرفه أهل البصيرة .
وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة ، والفقه فيهما ، ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها وناتج المقاييس وعقيمها، مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء ، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق ، وحصول العداوة والشقاق .(1/153)
فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب [ قوة الجهل والظلم ] اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [ الأحزاب : 27 ] فإذا منَّ الله على الإنسان بالعلم والعدل أنقذه من هذا الضلال، وقد قال سبحانه : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة العصر ] ، وقد قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] .
وأنتم تعلمون ـ أصلحكم الله ـ أن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها ويذم من خالفها، هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمور الاعتقادات، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات . وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان .
وذلك في دواوين الإسلام المعروفة؛ مثل : صحيحي البخاري ومسلم، وكتب السنن؛ مثل : سنن أبي داود، والنسائي، وجامع الترمذي، وموطأ الإمام مالك، ومثل : المسانيد المعروفة؛ كمثل مسند الإمام أحمد وغيره . ويوجد في كتب [ التفاسير ] و [ المغازي ] وسائر كتب الحديث جملها وأجزائها من الآثار ما يستدل ببعضها على بعض . وهذا أمر قد أقام الله له من أهل المعرفة من اعتنى به، حتى حفظ الله الدين على أهله .
وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب [ عقائد أهل السنة ] مثل : حماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وعثمان بن سعيد الدارمي،وغيرهم في طبقتهم . ومثلها ما بوب عليه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم في كتبهم .(1/154)
ومثل مصنفات أبي بكر الأثرم، وعبد الله بن أحمد، وأبي بكر الخلال، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي بكر الآجري، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي عبد الله بن منده، وأبي القاسم اللالكائي، وأبي عبد الله بن بطة، وأبي عمرو الطلمنكي، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي بكر البيهقي، وأبي ذر الهروي، وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة .
وقد يروي كثير من الناس في الصفات، وسائر أبواب الاعتقادات وعامة أبواب الدين، أحاديث كثيرة تكون مكذوبة، موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قسمان :
منها ما يكون كلامًا باطلاً لا يجوز أن يقال، فضلا عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
والقسم الثاني من الكلام : ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض العلماء أو بعض الناس، ويكون حقًا . أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهبًا لقائله، فيعزي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي وضعها الشيخ أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري، وجعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي، وهي مسائل معروفة، عملها بعض الكذابين وجعل لها إسنادًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها من كلامه، وهذا يعلمه من له أدنى معرفة أنه مكذوب مفترى .
وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقًا لأصول السنة، ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع، مثل أول نعمة أنعم بها على عبده؛ فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة، والنزاع فيها لفظي لأن مبناها على أن اللذة التي يعقبها ألم، هل تسمى نعمة أم لا ؟ وفيها أيضًا أشياء مرجوحة .
فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا .
فصل(1/155)
وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله؛ مثل أن يقال للرجل : أنت شكيلي، أو قرفندي؛ فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي . والواجب على المسلم إذا سُئل عن ذلك أن يقول : لا أنا شكيلي ولا قرفندي، بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله .
وقد روينا عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال : أنت على ملة علي، أو ملة عثمان ؟ فقال : لست على ملة علي، ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان كل من السلف يقولون : كل هذه الأهواء في النار ويقول أحدهم : ما أبالي أي النعمتين أعظم ؟ على أن هداني الله للإسلام، أو أن جنبني هذه الأهواء، والله تعالى قد سمانا في القرآن : المسلمين المؤمنين عباد الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم ـ وسموها هم وآباؤهم ـ ما أنزل الله بها من سلطان .
بل الأسماء التي قد يسوغ التسمى بها، مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي، والشافعي، والحنبلي أو إلى شيخ، كالقادري، والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل؛ كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري ـ فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان .(1/156)
وأولياء الله ـ الذين هم أولياؤه ـ هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فقد أخبر ـ سبحانه ـ أن أولياءه هم المؤمنون المتقون، وقد بين المتقين في قوله تعالى : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] ، والتقوى هي فعل ما أمر الله به وترك ما نهي الله عنه .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال أولياء الله، وما صاروا به أولياء، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) .
فقد ذكر في هذا الحديث أن التقرب إلى الله تعالى على درجتين : إحداهما : التقرب إليه بالفرائض . والثانية : هي التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض .(1/157)
فالأولى درجة المقتصدين الأبرار أصحاب اليمين . والثانية درجة السابقين المؤمنين، كما قال الله تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 22ـ26 ] .
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يمزج لأصحاب اليمين مزجًا، ويشربه المقربون صرفًا .
وقد ذكر الله هذا المعنى في عدة مواضع من كتابه، فكل من آمن بالله ورسوله واتقى الله، فهو من أولياء الله .(1/158)
والله ـ سبحانه ـ قد أوجب موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأوجب عليهم معاداة الكافرين، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 51-56 ] .(1/159)
فقد أخبر ـ سبحانه ـ أن ولى المؤمن هو الله ورسوله وعباده المؤمنين، وهذا عام في كل مؤمن موصوف بهذه الصفة، سواء كان من أهل نسبة أو بلدة أو مذهب أو طريقة أو لم يكن، وقال الله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } إلى قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } [ الأنفال : 72ـ75 ] ، وقال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } إلى قوله تعالى : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات : 9، 10 ] .
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ، وفي الصحاح ـ أيضًا ـ أنه قال : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ) ، وشبك بين أصابعه، وفي الصحاح ـ أيضًا ـ أنه قال : ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم، لا يسلمه ولا يظلمه ) وأمثال هذه النصوص في الكتاب والسنة كثيرة .(1/160)
وقد جعل الله فيها عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعلهم إخوة، وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين، وأمرهم سبحانه بالائتلاف ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، فقال : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ } [ الأنعام : 159 ] .
فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى، بلا برهان من الله تعالى . وقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كان هكذا .
فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم .
وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله . وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه، وإن كان غيره أتقى لله منه .
وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضى الله به ورسوله، وأن يكون المسلمون يدًا واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة ؟ ! ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين، فليس كل من أخطأ يكون كافرًا ولا فاسقًا، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] ، وثبت في الصحيح أن الله قال : ( قد فعلت ) .(1/161)
لا سيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام، مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي أو منتسبًا إلى الشيخ عدي، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء، وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عرضه ودمه أو ماله ؟ مع ما قد ذكر الله ـ تعالى ـ من حقوق المسلم والمؤمن ؟ !
وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ .
وهذا التفريق الذي حصل من الأمة ـ علمائها ومشائخها وأمرائها وكبرائها ـ هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء } [ المائدة : 14 ] .
فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب .
وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } إلى قوله { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 102- 104 ] ، فمن الأمر بالمعروف : الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر : إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله ـ تعالى .
فمن اعتقد في بشر أنه إله، أو دعا ميتًا، أو طلب منه الرزق والنصر والهداية، وتوكل عليه أو سجد له ـ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه .(1/162)
ومن فضَّل أحدًا من المشائخ على النبي صلى الله عليه وسلم، أو اعتقد أن أحدًا يستغنى عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ استتيب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه .
وكذلك من اعتقد أن أحدًا من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم، كما كان الخضر مع موسى ـ عليه السلام ـ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه؛ لأن الخضر لم يكن من أمة موسى ـ عليه السلام ـ ولا كان يجب عليه طاعته، بل قال له : إني على علم من علم الله، علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه . وكان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم : ( وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ) .
ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين؛ إنسهم وجنهم . فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته، فهو كافر يجب قتله .
وكذلك من كَفَّر المسلمين أو استحل دماءهم وأموالهم، ببدعة ابتدعها ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله، فإنه يجب نهيه عن ذلك وعقوبته بما يزجره، ولو بالقتل أو القتال، فإنه إذا عوقب المعتدون من جميع الطوائف، وأكرم المتقون من جميع الطوائف، كان ذلك من أعظم الأسباب التي ترضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتصلح أمر المسلمين .
ويجب على أولى الأمر ـ وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشائخها ـ أن يقوموا على عامتهم، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر؛ فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله، وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم .(1/163)
فالأول : مثل شرائع الإسلام : وهي الصلوات الخمس في مواقيتها، وإقامة الجمعة والجماعات من الواجبات، والسنن الراتبات؛ كالأعياد، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، والتراويح، وصلاة الجنائز، وغير ذلك، وكذلك الصدقات المشروعة، والصوم المشروع، وحج البيت الحرام، ومثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومثل الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
ومثل سائر ما أمر الله به ورسوله من الأمور الباطنة والظاهرة، ومثل إخلاص الدين لله، والتوكل على الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،والرجاء لرحمة الله والخشية من عذابه، والصبر لحكم الله، والتسليم لأمر الله، ومثل صدق الحديث، والوفاء بالعهود، وأداء الأمانات إلى أهلها، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين، وابن السبيل والصاحب والزوجة والمملوك، والعدل في المقال والفعال، ثم الندب إلى مكارم الأخلاق، مثل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، قال الله تعالى : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ الشورى : 40 ـ43 ] .(1/164)
وأما المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، فأعظمه الشرك بالله، وهو أن يدعو مع الله إلها آخر؛ إما الشمس وإما القمر أو الكواكب، أو ملكًا من الملائكة، أو نبيًا من الأنبياء، أو رجلًا من الصالحين، أو أحدًا من الجن، أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم، أو غير ذلك مما يدعى من دون الله تعالى، أو يستغاث به أو يسجد له، فكل هذا وأشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله .
وقد حرم الله قتل النفس بغير حقها، وأكل أموال الناس بالباطل؛ إما بالغصب وإما بالربا أو الميسر، كالبيوع والمعاملات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وتطفيف المكيال والميزان، والإثم والبغي بغير الحق .
وكذلك مما حرمه الله ـ تعالى : أن يقول الرجل على الله ما لا يعلم؛ مثل أن يروي عن الله ورسوله أحاديث يجزم بها وهو لا يعلم صحتها، أو يصف الله بصفات لم ينزل بها كتاب من الله ولا أثارة من علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كانت من صفات النفي والتعطيل، مثل قول الجهمية : إنه ليس فوق العرش ولا فوق السموات، وأنه لا يرى في الآخرة، وأنه لا يتكلم ولا يحب، ونحو ذلك مما كذبوا به الله ورسوله، أو كانت من صفات الإثبات والتمثيل، مثل من يزعم أنه يمشي في الأرض أو يجالس الخلق، أو أنهم يرونه بأعينهم أو أن السموات تحويه وتحيط به، أو أنه سار في مخلوقاته، إلى غير ذلك من أنواع الفرية على الله .(1/165)
وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، فإن الله شرع لعباده المؤمنين عبادات، فأحدث لهم الشيطان عبادات ضاهاها بها، مثل أنه شرع لهم عبادة الله وحده لا شريك له، فشرع لهم شركاء، وهي عبادة ما سواه والإشراك به . وشرع لهم الصلوات الخمس وقراءة القرآن فيها والاستماع له والاجتماع لسماع القرآن خارج الصلاة أيضًا، فأول سورة أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] أمر في أولها بالقراءة وفي آخرها بالسجود، بقوله تعالى : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [ العلق : 19 ] .
ولهذا كان أعظم الأذكار التي في الصلاة قراءة القرآن، وأعظم الأفعال السجود لله وحده لا شريك له،وقال تعالى : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [ الإسراء : 78 ] ،وقال تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] .
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى ـ رضي الله عنهما ـ : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون، ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسي ـ رضي الله عنه ـ وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته، فقال : ( يا أبا موسى، مررت بك البارحة فجعلت أستمع لقراءتك ) فقال : ( لو علمت لحَبَّرتُه لك تحبيرًا . وقال : ( لله أشد أذنا ) أي استماعا ( إلى الرجل يحسن الصوت بالقرآن من صاحب القِينَةِ إلى قينته ) .(1/166)
وهذا هو سماع المؤمنين وسلف الأمة وأكابر المشائخ، كمعروف الكرخي والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ونحوهم . وهو سماع المشائخ المتأخرين الأكابر، كالشيخ عبد القادر، والشيخ عدي بن مسافر، والشيخ أبي مدين، وغيرهم من المشائخ ـ رحمهم الله .
وأما المشركون، فكان سماعهم كما ذكره الله ـ تعالى ـ في كتابه بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] . قال السلف : المكاء : الصفير . والتصدية : التصفيق باليد . فكان المشركون يجتمعون في المسجد الحرام يصفقون ويصوتون يتخذون ذلك عبادة وصلاة، فذمهم الله على ذلك، وجعل ذلك من الباطل الذي نهى عنه .
فمن اتخذ نظير هذا السماع عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله، فقد ضاهى هؤلاء في بعض أمورهم، وكذلك لم تفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أكابر المشائخ .
وأما سماع الغناء على وجه اللعب، فهذا من خصوصية الأفراح للنساء والصبيان كما جاءت به الآثار؛ فإن دين الإسلام واسع لا حرج فيه .
وعماد الدين الذي لا يقوم إلا به هو الصلوات الخمس المكتوبات، ويجب على المسلمين من الاعتناء بها ما لا يجب من الاعتناء بغيرها . كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يكتب إلى عماله : إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة .
وهي أول ما أوجبه الله من العبادات، والصلوات الخمس تولى الله إيجابها بمخاطبة رسوله ليلة المعراج، وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته وقت فراق الدنيا، جعل يقول : ( الصلاة الصلاة ! وما ملكت أيمانكم ) وهي أول ما يحاسب عليه العبد من عمله، وآخر ما يفقد من الدين، فإذا ذهبت ذهب الدين كله، وهي عمود الدين فمتى ذهبت سقط الدين .(1/167)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوَة سِنَامه الجهاد في سبيل الله ) ، وقد قال الله في كتابه : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ مريم : 59 ] .
قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وغيره : إضاعتها : تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها كانوا كفارًا . وقال تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } [ البقرة : 238 ] ، والمحافظة عليها : فعلها في أوقاتها، وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 4، 5 ] وهم الذين يؤخرونها حتى يخرج الوقت .
وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجوز تأخير صلاة النهار إلى الليل، ولا تأخير صلاة الليل إلى النهار، لا لمسافر ولا لمريض ولا غيرهما . لكن يجوز عند الحاجة أن يجمع المسلم بين صلاتي النهار وهي الظهر والعصر في وقت إحداهما، ويجمع بين صلاتي الليل وهي المغرب والعشاء في وقت إحداهما، وذلك لمثل المسافر والمريض وعند المطر، ونحو ذلك من الأعذار .
وقد أوجب الله على المسلمين أن يصلوا بحسب طاقتهم،كما قال الله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، فعلى الرجل أن يصلي بطهارة كاملة وقراءة كاملة، وركوع وسجود كامل، فإن كان عادمًا للماء، أو يتضرر باستعماله لمرض أو برد أو غير ذلك، وهو محدث أو جنب، يتيمم الصعيد الطيب، وهو التراب . يمسح به وجهه ويديه ويصلي، ولا يؤخرها عن وقتها باتفاق العلماء .(1/168)
وكذلك إذا كان محبوسًا أو مقيدًا أو زَمِنًا أو غير ذلك، صلى على حسب حاله، وإذا كان بإزاء عدوه صلى أيضًا صلاة الخوف، قال الله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } إلى قوله : { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } إلى قوله : { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } [ النساء : 101-103 ] .
ويجب على أهل القدرة من المسلمين أن يأمروا بالصلاة كل أحد من الرجال والنساء حتى الصبيان . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) .
والرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس، أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل . فمن العلماء من يقول : يكون مرتدًا كافرًا لا يصلي عليه ولا يدفن بين المسلمين، ومنهم من يقول : يكون كقاطع الطريق وقاتل النفس، والزاني المحصن .(1/169)
وأمر الصلاة عظيم شأنها أن تذكر هاهنا، فإنها قوام الدين وعماده، وتعظيمه تعالى لها في كتابه فوق جميع العبادات؛ فإنه ـ سبحانه ـ يخصها بالذكر تارة، ويقرنها بالزكاة تارة، وبالصبر تارة، وبالنسك تارة، كقوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } [ البقرة : 43، 83، 110 ] ، وقوله : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } [ البقرة : 45 ] ، وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] ، وقوله : { إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 162، 163 ] . وتارة يفتتح بها أعمال البر ويختمها بها؛ كما ذكره في سورة : [ سأل سائل ] وفي أول سورة [ المؤمنون ] . قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 1-11 ] .
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
سُئِلَ الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن الذبيح من ولد خليل اللّه إبراهيم ـ عليه السلام ـ هل هو إسماعيل، أو إسحاق ؟
فَأَجَاب :(1/170)
الحمد للّه رب العالمين، هذه المسألة فيها مذهبان مشهوران للعلماء، وكل منهما مذكور عن طائفة من السلف، وذكر أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد، ونصر أنه إسحاق، إتباعًا لأبي بكر عبد العزيز، وأبو بكر اتبع محمد بن جرير . ولهذا يذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن أصحاب أحمد ينصرون أنه إسحاق، وإنما ينصره هذان، ومن اتبعهما، ويحكى ذلك عن مالك نفسه لكن خالفه طائفة من أصحابه .
وذكر الشريف أبو علي بن أبي يوسف : أن الصحيح في مذهب أحمد أنه إسماعيل، وهذا هو الذي رواه عبد اللّه بن أحمد عن أبيه، قال : مذهب أبي أنه إسماعيل، وفي الجملة فالنزاع فيها مشهور، لكن الذي يجب القطع به أنه إسماعيل، وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلائل المشهورة، وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب .
/وأيضا، فإن فيها أنه قال لإبراهيم : اذبح ابنك وحيدك . وفي ترجمة أخرى : بِكْرك، وإسماعيل هو الذي كان وحيده وبكره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، لكن أهل الكتاب حرَّفوا، فزادوا إسحاق، فتلقى ذلك عنهم من تلقاه، وشاع عند بعض المسلمين أنه إسحاق، وأصله من تحريف أهل الكتاب .(1/171)
ومما يدل على أنه إسماعيل قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات، قال تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } [ الصافات : 101 ] ، وقد انطوت البشارة على ثلاث : على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليمًا . وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال : { سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] ؟ وقيل : لم ينعت اللّه الأنبياء بأقل من الحلم، وذلك لعزة وجوده، ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] ، { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [ هود : 75 ] لأن الحادثة شهدت بحلمهما : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } إلى قوله : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ] { الصافات 107-113 ] .
فهذه القصة تدل على أنه إسماعيل من وجوه :
أحدها : أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أولا، فلما استوفى في ذلك قال : / { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ } [ الصافات : 112، 113 ] .
فبين أنهما بشارتان : بشارة بالذبيح، وبشارة ثانية بإسحاق، وهذا بيّن .(1/172)
الثاني : أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع، وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة، كما في سورة هود، من قوله تعالى : { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 17 ] ، فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفًا للوعد في يعقوب، وقال تعالى : { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [ الذاريات : 28، 29 ] .
وقال تعالى في سورة الحجر : { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ { [ الحجر : 53-55 ] ، ولم يذكر أنه الذبيح، ثم لما ذكر البشارتين جميعًا : البشارة بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده، كان هذا من الأدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح .
ويؤيد ذلك أنه ذكر هبته وهبة يعقوب لإبراهيم في قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ } [ الأنبياء : 72 ] ، وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ العنكبوت : 27 ] ، ولم يذكر اللّه الذبيح .
الوجه الثالث : أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع، والتخصيص لابد له من حكمة، /وهذا مما يقوي اقتران الوصفين، والحلم هو مناسب للصبر الذي هو خلق الذبيح .(1/173)
وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ } [ الأنبياء : 85 ] ، وهذا أيضًا وجه ثالث فإنه قال في الذبيح : { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] ، وقد وصف اللّه إسماعيل أنه من الصابرين، ووصف اللّه ـ تعالى ـ إسماعيل أيضًا بصدق الوعد في قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } [ مريم : 54 ] ؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به .
الوجه الرابع : أن البشارة بإسحاق كانت معجزة؛ لأن العجوز عقيم؛ ولهذا قال الخليل ـ عليه السلام : { أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] ، وقالت امرأته : } أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا } [ هود : 72 ] ، وقد سبق أن البشارة بإسحاق في حال الكِبَر، وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته .
وأما البشارة بالذبيح، فكانت لإبراهيم ـ عليه السلام ـ وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة به، وهذا مما يوافق ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصحيح وغيره : من أن إسماعيل لما ولدته هاجر غارت سارة، فذهب إبراهيم /بإسماعيل وأمه إلى مكة، وهناك أمر بالذبح . وهذا مما يؤيد أن هذا الذبيح دون ذلك .
ومما يدل على أن الذبيح ليس هو إسحاق، أن اللّه تعالى قال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه ؟ والبشارة بيعقوب تقتضى أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب، ولا خلاف بين الناس أن قصة الذبيح كانت قبل ولادة يعقوب، بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم ـ عليه السلام ـ وقصة الذبيح كانت في حياة إبراهيم بلا ريب .(1/174)
ومما يدل على ذلك : أن قصة الذبيح كانت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسادن : ( إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي المصلي ) .
ولهذا جعلت مني محلا للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن .
ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة، لا من أهل الكتاب، ولا غيرهم، لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام، فهذا افتراء . فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك / الجبل، وربما جعل مَنْسَكًا كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر .
وفي المسألة دلائل أخرى على ما ذكرناه، وأسئلة أوردها طائفة؛ كابن جرير، والقاضي أبي يعلى، والسهيلي، ولكن لا يتسع هذا الموضع لذكرها والجواب عنها، واللّه ـ عز وجل ـ أعلم .
والحمد للّه رب العالمين . وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا
فصل
في أعداء الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين
الخلفاء الراشدون الأربعة ابتلوا بمعاداة بعض المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة، ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم . فأَبو بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف؛ ولهذا قيل للإمام أحمد : من الرافضي ؟ قال : الذي يسب أبا بكر وعمر . وبهذا سميت الرافضة، فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر، لبغضهم لهما، فالمبغض لهما هو الرافضي، وقيل : إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر .
وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلوَّ في عليّ بِدَعوَى الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له؛ ولهذا لما كان مبدؤه من النفاق قال بعض السلف : حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق، وحب بني هاشم إيمان، وبغضهم نفاق .(1/175)
وقال عبد اللّه بن مسعود : حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة، أي من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمر بها؛ فإنه قال : ( اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر ) ؛ ولهذا كان معرفة فضلهما على من بعدهما واجبًا لا يجوز التوقف فيه، بخلاف عثمان وعلى، ففي جواز التوقف فيهما قولان .
وكذلك هل يسوغ الاجتهاد في تفضيل عليّ على عثمان ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يسوغ ذلك، فمن فضل عليًا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة؛ لمخالفته لإجماع الصحابة؛ ولهذا قيل : من قدَّم عليًا على عثمان، فقد /أزرى بالمهاجرين والأنصار . يروي ذلك عن غير واحد؛ منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل، والدارقطني .
والثانية : لا يُبَدَّع من قدم عليًا ؛ لتقارب حال عثمان وعليّ؛ إذ السنة هي الشريعة وهي ما شرعه اللّه ورسوله من الدين، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فلا يجوز اعتقاد ضد ذلك، لكن يجوز ترك المستحب من غير أن يجوز اعتقاد ترك استحبابه؛ ومعرفة استحبابه فرض على الكفاية، لئلا يضيع شىء من الدين . فلما قامت الأدلة الشرعية على وجوب اتباع أبي بكر وعمر وتقديمهما، لم يجز ترك ذلك .
وأما عثمان، فأبغضه أو سبه أو كفره أيضًا ـ مع الرافضة ـ طائفة من الشيعة الزيدية والخوارج .
وأما علي، فأبغضه وسبه ـ أو كفره ـ الخوارج، وكثير من بني أمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبوه . فالخوارج تكفر عثمان وعليًًًًا وسائر أهل الجماعة .
وأما شيعة علي، الذين شايعوه بعد التحكيم، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم، فكان بينهما من التقابل، وتَلاعُن بعضهم، وتكافر بعضهم ما كان، ولم تكن الشيعة التي كانت مع على يظهر منها تَنَقُّص لأبي بكر وعمر، ولا فيها من يقدم عليًا على أبي بكر وعمر، ولا كان سَبُّ عثمان شائعًا فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر .(1/176)
وكذلك تفضيل عليّ عليه لم يكن مشهورًا فيها، بخلاف سبّ على فإنه كان /شائعًا في أتباع معاوية؛ ولهذا كان علي وأصحابه أولى بالحق وأقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه . كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تَمْرُقُ مارقة على حين فُرْقَةٍ من المسلمين، فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) . وروى في الصحيح أيضًا : ( أدنى الطائفتين إلى الحق ) .
وكان سب على ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها : الطائفة الباغية، كما رواه البخاري في صحيحه، عن خالد الحَذَّاء، عن عِكْرِمة، قال : قال لي ابن عباس ولابنه على : انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه . فانطلقنا، فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحْتَبَي به، ثم أنشأ يحدثنا، حتى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال : كنا نحمل لَبِنَةً لَبِنة، وَعمَّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يَنْفُضُ التراب عنه ويقول : ( ويْحَ عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ) قال : يقول عمار : أعوذ باللّه من الفتن .
ورواه مسلم عن أبي سعيد ـ أيضًا ـ قال : أخبرني من هو خير مني ـ أبو قتادة ـ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعمار ـ حين جعل يحفر الخندق ـ جعل يمسح رأسه ويقول : ( بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ تقتله فئة باغية ) . ورواه مسلم ـ أيضًا ـ عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تقتل عمارًا الفئة الباغية ) .
وهذا ـ أيضًا ـ يدل على صحة إمامة على، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار ـ وإن كان متأولا ـ وهو /دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ، وإن كان متأولًًًًا أو باغ بلا تأويل، وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليًا وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين .(1/177)
وكذلك أنكر يحيى بن مَعِين على الشافعي استدلاله بسيرة على في قتال البغاة المتأولين، قال : أيجعل طلحة والزبير بغاة ؟ رد عليه الإمام أحمد فقال : ويحك، وأي شىء يسعه أن يضع في هذا المقام : يعني إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة .
والقول الثاني : أن كلا منهما مصيب، وهذا بناء على قول من يقول : كل مجتهد مصيب، و هو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية .
وفيها قول ثالث : إن المصيب واحد لا بعينه . ذكر الأقوال الثلاثة ابن حامد، والقاضي، وغيرهما . وهذا القول يشبه قول المتوقفين في خلافة على من أهل البصرة، وأهل الحديث، وأهل الكلام؛ كالكرامية الذين يقولون : كلاهما كان إمامًا، ويجوزون عقد الخلافة لاثنين .
لكن المنصوص عن أحمد تَبْدِيعُ من توقف في خلافة علي، وقال : هو أضل من حمار أهله، وأمر بهُجْرانه، ونهى عن مناكحته، ولم يتردد أحمد ـ ولا أحد من أئمة السنة ـ في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكوا في ذلك . فتصويب أحدهما لا بعينه تجويز لأن يكون غير على أولى منه بالحق، وهذا لا يقوله إلا مبتدع ضال، فيه نوع من النصب وإن كان متأولًًًًا، لكن قد /يسكت بعضهم عن تخطئة أحد كما يمسكون عن ذمه والطعن عليه إمساكًًًًا عما شجر بينهم، وهذا يشبه قول من يصوب الطائفتين .
ولم يسترب أئمة السنة، وعلماء الحديث : أن عليا أولى بالحق وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن وصفها بالظلم والبغي ـ لما جاء من حديث عمار ـ جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل .(1/178)
يبقى أن يقال : فاللّه ـ تعالى ـ قد أمر بقتال الطائفة الباغية فيكون قتالها كان واجبا مع علي، والذين قعدوا عن القتال هم جملة أعيان الصحابة، كسعد، وزيد، وابن عمر، وأسامة، و محمد بن مسلمة، وأبي بَكْرَة، وهم يروون النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الموضع ) وقوله : ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غَنَم يتبع بها شَعَفَ الجِبال، ومواقع القَطْر، يَفِرُّ بدينه من الفتن ) وأمره لصاحب السيف عند الفتنة ( أن يتخذ سيفًًًًا من خشب ) وبحديث أبي بَكْرَة للأحنف بن قيس، لما أراد أن يذهب ليقاتل مع علي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) الحديث، والاحتجاج على ذلك بقوله : ( لا تَرْجِعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رِقَاب بعض ) . وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة، حتى قال : لا يختلف أصحابنا أن قعود على عن القتال كان أفضل /له لو قعد، وهذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له : ألم أنهك يا أبت ؟ وقوله : للّه در مقام قامه سعد بن مالك وعبد اللّه بن عمر، إن كان برًا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير .(1/179)
وهذا يعارض وجوب طاعته، وبهذا احتجوا على الإمام أحمد في ترك التربيع بخلافته، فإنه لما أظهر ذلك قال له بعضهم : إذا قلت : كان إمامًا واجب الطاعة ففي ذلك طعن على طلحة والزبير حيث لم يطيعاه بل قاتلاه، فقال لهم أحمد : إني لست من حربهم في شىء، يعني : أن ما تنازع فيه على وإخوانه لا أدخل بينهم فيه؛ لما بينهم من الاجتهاد والتأويل الذي هم أعلم به مني، وليس ذلك من مسائل العلم التي تعنيني حتى أعرف حقيقة حال كل واحد منهم، وأنا مأمور بالاستغفار لهم، وأن يكون قلبي لهم سليمًا، ومأمور بمحبتهم وموالاتهم، ولهم من السوابق والفضائل ما لا يهدر، ولكن اعتقاد خلافته وإمامته ثابت بالنص وما ثبت بالنص، وجب اتباعه وإن كان بعض الأكابر تركه، كما أن إمامة عثمان وخلافته ثابتة إلى حين انقراض أيامه؛ وإن كان في تخلف بعضهم عن طاعته أو نصرته، وفي مخالفة بعضهم له من التأويل ما فيه، إذ كان أهون ما جرى في خلافة علي .
وهذا الموضع هو الذي تنازع فيه اجتهاد السلف والخلف، فمن قوم يقولون بوجوب القتال مع علي، كما فعله من قاتل معه، وكما يقول كثير /من أهل الكلام والرأي الذين صنفوا في قتال أهل البغي، حيث أوجبوا القتال معه؛ لوجوب طاعته، ووجوب قتال البغاة، ومبدأ ترتيب ذلك من فقهاء الكوفة واتبعهم آخرون .
ومن قوم يقولون : بل المشروع ترك القتال في الفتنة كما جاءت به النصوص الكثيرة المشهورة، كما فعله من فعله من القاعدين عن القتال لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك القتال في الفتنة خير، وأن الفرار من الفتن باتخاذ غَنَم في رؤوس الجبال خير من القتال فيها وكنهيه لمن نهاه عن القتال فيها، وأمره باتخاذ سيف من خشب، ولكون على لم يذم القاعدين عن القتال معه، بل ربما غبطهم في آخر الأمر .(1/180)
ولأجل هذه النصوص لا يختلف أصحابنا أن ترك على القتال كان أفضل؛ لأن النصوص صرحت بأن القاعد فيها خير من القائم، والبعد عنها خير من الوقوع فيها، قالوا : ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته، ومن المعلوم أنهم إذا لم يبدؤوه بقتال فلو لم يقاتلهم لم يقع أكثر مما وقع من خروجهم عن طاعته، لكن بالقتال زاد البلاء، وسفكت الدماء، وتنافرت القلوب، وخرجت عليه الخوارج، وحكم الحكمان، حتى سمى منازعه بأمير المؤمنين، فظهر من المفاسد ما لم يكن قبل القتال ولم يحصل به مصلحة راجحة .
وهذا دليل على أن تركه كان أفضل من فعله، فإن فضائل الأعمال إنما هي /بنتائجها وعواقبها، والقرآن إنما فيه قتال الطائفة الباغية بعد الاقتتال ؛ فإنه قال تعالى : } وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } الآية [ الحجرات : 9 ] . فلم يأمر بالقتال ابتداء مع واحدة من الطائفتين، لكن أمر بالإصلاح وبقتال الباغية .
و إن قيل : الباغية يعم الابتداء والبغي بعد الاقتتال .
قيل : فليس في الآية أمر لأحدهما بأن تقاتل الأخرى، وإنما هو أمر لسائر المؤمنين بقتال الباغية، والكلام هنا إنما هو في أن فعل القتال من عِلىٍّ لم يكن مأموراً به، بل كان تركه أفضل، وأما إذا قاتل لكون القتال جائزاً، وإن كان تركه أفضل، أو لكونه مجتهداً فيه، وليس بجائز في الباطن، فهنا الكلام في وجوب القتال معه للطائفة الباغية أو الإمساك عن القتال في الفتنة، وهوموضع تعارض الأدلة، واجتهاد العلماء والمجاهدين من المؤمنين، بعد الجزم بأنه وشيعته أولى الطائفتين بالحق، فيمكن وجهان :(1/181)
أحدهما : أن الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان؛ إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحياناً هي التألف بالمال، والمسالمة والمعاهدة، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة، ولم تكن حاصلة كان الترك في نفس الأمر أصلح .
/ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته، علم أنه قتال فتنة، فلا تجب طاعة الإمام فيه؛ إذ طاعته إنما تجب فيما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص، فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة ـ الذي تركه خير من فعله ـ لم يجب عليه أن يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولى الأمر، ولا سيما وقد أمر اللّه ـ تعالى ـ عند التنازع بالرد إلى اللّه والرسول .
ويشهد لذلك أن الرسول أخبر بظلم الأمراء بعده وبغيهم، ونهى عن قتالهم؛ لأن ذلك غير مقدور إذ مفسدته أعظم من مصلحته، كما نهى المسلمون في أول الإسلام عن القتال، كما ذكره بقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } [ النساء : 77 ] ، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين والعفو والصفح عنهم حتى يأتي اللّه بأمره .
الوجه الثاني : أنها صارت باغية في أثناء الحال بما ظهر منها من نصب إمام وتسميته أمير المؤمنين، ومن لعن إمام الحق، ونحو ذلك . فإن هذا بغي، بخلاف الاقتتال قبل ذلك، فإنه كان قتال فتنة، وهو ـ سبحانه ـ قد ذكر اقتتال الطائفتين من المؤمنين ثم قال : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } [ الحجرات : 9 ] ، فلما أمر بالقتال إذا بغت إحدى الطائفتين المقتتلتين، دل على أن الطائفتين المقتتلتين قد تكون إحداهما باغية في حال دون حال .(1/182)
فما ورد من النصوص بترك القتال في الفتنة، يكون قبل البغي، وما ورد من الوصف بالبغي يكون بعد ذلك، وحينئذ يكون القتال مع عليٍّ واجباً لما /حصل البغي، وعلى هذا يتأول ما روى ابن عمر : إذا حمل على القتال في ذلك . وحينئذ فبعد التحكيم والتشيع وظهور البغي لم يقاتلهم على، ولم تطعه الشيعة في القتال، ومن حينئذ ذمت الشيعة بتركهم النصر مع وجوبه، وفي ذلك الوقت سموا شيعة، وحينئذ صاروا مذمومين بمعصية الإمام الواجب الطاعة، وهو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ولما تركوا ما يجب من نصره صاروا أهل باطل وظلم إذ ذاك يكون تارة لترك الحق وتارة لتعدي الحق .
فصار حينئذ شيعة عثمان الذين مع معاوية أرجح منهم؛ ولهذا انتصروا عليهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من خالفهم ) وبذلك استدل معاوية، وقام مالك بن يُخَامِر ] ويقال : أخامر السكسكي الألهاني الحمصي، يقال : له صحبة، وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة سبعين، وقيل سنة اثنتين وسبعين [ فروى عن معاذ بن جبل أنهم بالشام . وعليّ هو من الخلفاء الراشدين، ومعاوية أول الملوك، فالمسألة هي من هذا الجنس، وهو : قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين، فإن كثيرًا من الناس يبادر إلى الأمر بذلك، لاعتقاده أن في ذلك إقامة العدل، ويغفل عن كون ذلك غير ممكن بل تربو مفسدته على مصلحته .(1/183)
ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر، وقد يكون هذا من أسرار القرآن في كونه لم يأمر بالقتال ابتداء، وإنما أمر بقتال الطائفة الباغية بعد اقتتال الطائفتين، وأمر بالإصلاح بينهما، فإنه إذا اقتتلت طائفتان من أهل /الأهواء ـ كقَيْس ويمن ـ إذ الآية نزلت في نحو ذلك ـ فإنه يجب الإصلاح بينهما، وإلا وجب على السلطان والمسلمين أن يقاتلوا الباغية؛ لأنهم قادرون على ذلك، فيجب عليهم أداء هذا الواجب، وهذا يبين رجحان القول ابتداء، ففي الحال الأول لم تكن القدرة تامة على القتال ولا البغي حاصلاً ظاهرًا، وفي الحال الثاني حصل البغي وقوى العجز وهو أولى الطائفتين بالحق وأقربهما إليه مطلقًا، والأخرى موصوفة بالبغي كما جاء ذلك في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد، كما تقدم .
وقد كان معاوية والمغيرة وغيرهما يحتجون لرجحان الطائفة الشامية، بما هو في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللّه، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة ) ، فقام مالك بن يخامر فقال : سمعت معاذ بن جبل يقول : وهم بالشام، فقال معاوية : وهذا مالك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذًا يقول : وهم بالشام، وهذا الذي في الصحيحين من حديث معاوية فيهما ـ أيضاً ـ نحوه من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزال من أمتي أمة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك ) وهذا يحتجون به في رجحان أهل الشام بوجهين :
أحدهما : أنهم الذين ظهروا وانتصروا وصار الأمر إليهم بعد الاقتتال والفتنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يضرهم من خالفهم ) وهذا يقتضى /أن الطائفة القائمة بالحق من هذه الأمة هى الظاهرة المنصورة، فلما انتصر هؤلاء كانوا أهل الحق .(1/184)
والثاني : أن النصوص عينت أنهم بالشام، كقول معاذ، وكما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين ) قال الإمام أحمد : وأهل الغرب هم أهل الشام . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيما بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه، وما يشرق عنها فهو شرقه، وكان يسمى أهل نجد وما يشرق عنها أهل المشرق، كما قال ابن عمر : قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحرًا ) .
وقد استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشر أن أصله من المشرق؛ كقوله : ( الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا ) ويشير إلى المشرق، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( رأس الكفر نحو المشرق ) ونحو ذلك . فأخبر أن الطائفة المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب وهو الشام وما يغرب عنها، والفتنة ورأس الكفر بالمشرق، وكان أهل المدينة يسمون أهل الشام أهل المغرب، ويقولون عن الأوزاعي : إنه إمام أهل المغرب، ويقولون عن سفيان الثوري ونحوه : إنه مشرقي إمام أهل المشرق، وهذا لأن منتهى الشام عند الفرات هو على مُسَامَتَة [ أي : على مقربة منه ] مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم طول كل منهما، وبعد ذلك حَرَّان والرَّقَّة ونحوهما على مسامتة مكة؛ ولهذا كانت قبلتهم أعدل /القبلة، بمعنى : أنهم يستقبلون الركن الشامي ويستدبرون القطب الشامي من غير انحراف إلى ذات اليمين؛ كأهل العراق، ولا إلى ذات الشمال؛ كأهل الشام .(1/185)
قالوا : فإذا دلت هذه النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي لا يضرها خلاف المخالف، ولا خذلان الخاذل هي بالشام، كان هذا معارضًا لقوله : ( تقتل عمارا الفئة الباغية ) ، ولقوله : ( تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) ، وهذا من حجة من يجعل الجميع سواء والجميع مصيبين، أو يمسك عن الترجيح وهذا أقرب . وقد احتج به من هؤلاء على أولئك، لكن هذا القول مرغوب عنه وهو من أقوال النواصب، فهو مقابل بأقوال الشيعة والروافض، هؤلاء أهل الأهواء وإنما نتكلم هنا مع أهل العلم والعدل .
ولا ريب أن هذه النصوص لابد من الجمع بينها والتأليف، فيقال : أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين ) ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم، فهكذا وقع وهذا هو الأمر، فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين .
وأما قوله ـ عليه السلام : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللّه ) ومن هو ظاهر، فلا يقتضي ألا يكون فيهم من فيه بغي ومن غيره أولى بالحق منهم، بل فيهم هذا وهذا .
وأما قوله : ( تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) فهذا دليل على أن عليًا /ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى، وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحًا في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائماً بأمر اللّه، وأن يكون ظاهراً بالقيام بأمر اللّه عن طاعة اللّه ورسوله، وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه .
وأما كون بعضهم باغياً في بعض الأوقات، مع كون بغيه خطأ مغفورًا، أو ذنبًا مغفورًا، فهذا ـ أيضاً ـ لا يمنع ما شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم، ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال .(1/186)
وكذلك عمر بن الخطاب كان يفضلهم في مدة خلافته على أهل العراق، حتى قدم الشام غير مرة، وامتنع من الذهاب إلى العراق، واستشار فأشار عليه أنه لا يذهب إليها، وكذلك حين وفاته لما طعن أدخل عليه أهل المدينة أولاً وهم كانوا إذ ذاك أفضل الأمة، ثم أدخل عليه أهل الشام، ثم أدخل عليه أهل العراق، وكانوا آخر من دخل عليه ـ هكذا في الصحيح .
وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال : لَكَفْر من كفور الشام أحب إلى من فتح مدينة بالعراق .
والنصوص التي في كتاب اللّّه وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام، وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل المشرق، أكثر من أن تذكر هنا، بل عن/ النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص الصحيحة في ذم المشرق وإخباره بأن الفتنة ورأس الكفر منه ما ليس هذا موضعه، وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين على، وذاك كان أمرًا عارضًا؛ ولهذا لما ذهب عليٌّ ظهر منهم من الفتن، والنفاق، والردة، والبدع، ما يعلم به أن أولئك كانوا أرجح .
وكذلك ـ أيضًا ـ لا ريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام، كما كان على وابن مسعود وعمار وحذيفة ونحوهم، أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة، لكن مقابلة الجملة وترجيحها لا يمنع اختصاص الطائفة الأخرى بأمر راجح .
والنبي صلى الله عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر اللّه دائمًا إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر، فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير الشام من أرض الإسلام، فإن الحجاز ـ التي هي أصل الإيمان ـ نقص في آخر الزمان منها : العلم والإيمان والنصر والجهاد، وكذلك اليمن والعراق والمشرق .
وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان، ومن يقاتل عليه منصوراً مؤيداً في كل وقت، فهذا هذا، واللّه أعلم .(1/187)
وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن علياً كان أولى / بالحق ممن فارقه، ومع أن عمارًا قتلته الفئة الباغية ـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند اللّه، ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة . فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف .
ولهذا لما اعتقدت طوائف من الفقهاء وجوب القتال مع علي، جعلوا ذلك قاعدة فقهية فيما إذا خرجت طائفة على الإمام بتأويل سائغ وهي عنده، راسلهم الإمام، فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم، وإن ذكروا شبهة بَيَّنَها، فإن رجعوا وإلا وجب قتالهم عليه وعلى المسلمين .
ثم إنهم أدخلوا في هذه القاعدة قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة و قتال علي للخوارج المارقين؛ وصاروا فيمن يتولى أمور المسلمين من الملوك والخلفاء وغيرهم يجعلون أهل العدل من اعتقدوه لذلك، ثم يجعلون المقاتلين له بغاة، لا يفرقون بين قتال الفتنة المنهي عنه والذي تركه خير من فعله، كما يقع بين الملوك والخلفاء وغيرهم وأتباعهم؛ كاقتتال الأمين والمأمون وغيرهما، وبين قتال الخوارج الحرورية والمرتدة، والمنافقين؛ كالمزدكية ونحوهم .
وهذا تجده في الأصل من رأي بعض فقهاء أهل الكوفة وأتباعهم، ثم الشافعي وأصحابه، ثم كثير من أصحاب أحمد الذين صنفوا : باب قتال أهل البغي، نسجوا على منوال أولئك، تجدهم هكذا، فإن الخَرْقِيّ نسج على منوال/ المُزَنِي، والمزني نسج على منوال مختصر محمد بن الحسن، وإن كان ذلك في بعض التبويب والترتيب .
والمصنفون في الأحكام : يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعاً، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتال البغاة حديث، إلا حديث كَوْثَر بن حكيم عن نافع، وهو موضوع .(1/188)
وأما كتب الحديث المصنفة ـ مثل : صحيح البخاري، والسنن ـ فليس فيها إلا قتال أهل الردة والخوارج، وهم أهل الأهواء، وكذلك كتب السنة المنصوصة عن الإمام أحمد ونحوه .
وكذلك ـ فيما أظن ـ كتب مالك و أصحابه، ليس فيها باب قتال البغاة، وإنما ذكروا أهل الردة وأهل الأهواء وهذا هو الأصل الثابت بكتاب اللّه وسنة رسوله، وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة، فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين، فليس في النصوص أمر بذلك، فارتكب الأولون ثلاثة محاذير :
الأول : قتال من خرج عن طاعة ملك معين، وإن كان قريبًا منه ومثله ـ في السنة والشريعة ـ لوجود الافتراق، والافتراق هو الفتنة .
/والثاني : التسوية بين هؤلاء وبين المرتدين عن بعض شرائع الإسلام .
والثالث : التسوية بين هؤلاء، وبين قتال الخوارج المارقين من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية؛ ولهذا تجد تلك الطائفة يدخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور، ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم، بناء على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة، وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم، أو أئمة الكلام، أو أئمة المشيخة على نظرائهم، مدعين أن الحق معهم، أو أنهم أرجح، بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير، لا بالاجتهاد، وهذا كثير في علماء الأمة وعبادها وأمرائها وأجنادها، وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها . فنسأل اللّه العدل، فإنه لا حول ولا قوة إلا به .
ولهذا كان أعدل الطوائف : أهل السنة أصحاب الحديث .(1/189)
وتجد هؤلاء إذا أمروا بقتال من مرق من الإسلام، أو ارتد عن بعض شرائعه، يأمرون أن يسار فيه بسيرة عليّ في قتال طلحة والزبير، لا يُسْبَي لهم ذرية ولا يُغْنَمُ لهم مال، ولا يُجْهَزُ لهم على جريح، ولا يقتل لهم أسير، ويتركون ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسار به عليّ في قتال الخوارج وما أمر اللّه به رسوله، وسار به الصديق في قتال مانعي الزكاة، فلا يجمعون بين ما فرق اللّه بينه من المرتدين والمارقين، وبين المسلمين المسيئين، ويفرقون بين ما جمع اللّه بينه من الملوك والأئمة المتقاتلين على الملك وإن كان بتأويل . واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم .
سُئِلَ شَيْخُ الإسْلام ـ قدس اللّهَ رُوحَهُ :
هل صح عند أحد من أهل العلم والحديث، أو من يقتدى به في دين الإسلام، أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ قال : إذا أنا مت فأركبوني فوق ناقتي وسيبوني، فأينما بركت ادفنوني، فسارت ولم يعلم أحد قبره ؟ فهل صح ذلك أم لا ؟ وهل عرف أحد من أهل العلم أين دفن أم لا ؟ وما كان سبب قتله ؟ وفي أي وقت كان ؟ ومن قتله ؟
ومن قتل الحسين ؟ وما كان سبب قتله ؟ وهل صح أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم سُبُوا ؟ وأنهم أركبوا على الإبل عراة، ولم يكن عليهم ما يسترهم، فخلق اللّه ـ تعالى ـ للإبل التي كانوا عليها سنامين استتروا بها . وأن الحسين لما قطع رأسه داروا به في جميع البلاد، وأنه حمل إلى دمشق، وحمل إلى مصر ودفن بها ؟ وأن يزيد بن معاوية هو الذي فعل هذا بأهل البيت، فهل صح ذلك أم لا ؟
وهل قائل هذه المقالات مبتدع بها في دين اللّه ؟ وما الذي يجب عليه إذا /تحدث بهذا بين الناس ؟ وهل إذا أنكر هذا عليه منكر هل يسمى آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر أم لا ؟ أفتونا مأجورين، و بينوا لنا بيانًا شافيا .
فَأَجَاب :(1/190)
الحمد للّه رب العالمين، أما ما ذكر من توصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ إذا مات أركب فوق دابته وتسيب، ويدفن حيث تبرك، وأنه فعل ذلك به، فهذا كذب مختلق باتفاق أهل العلم، لم يوص علي بشىء من ذلك، ولا فعل به شيء من ذلك، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين بالعلم والعدل، وإنما يقول ذلك من ينقل عن بعض الكذابين .
ولا يحل أن يفعل هذا بأحد من موتى المسلمين، ولا يحل لأحد أن يوصي بذلك، بل هذا مُثْلَة بالميت، ولا فائدة في هذا الفعل، فإنه إن كان المقصود تعمية قبره، فلابد إذا بركت الناقة من أن يحفر له قبر ويدفن فيه، وحينئذ يمكن أن يحفر له قبر ويدفن به بدون هذه المثلة القبيحة، وهو أن يترك ميتًا على ظهر دابة تسير في البرية .
وقد تنازع العلماء في موضع قبره . والمعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة، وأنه أخفى قبره لئلًا ينبشه الخوارج ـ الذين كانوا يكفرونه ويستحلون قتله ـ فإن الذي قتله واحد من الخوارج، وهو عبد الرحمن /بن مِلْجَم المرادي، وكان قد تعاهد هو وآخران على قتل علي وقتل معاوية، وقتل عمرو بن العاص، فإنهم يكفرون هؤلاء كلهم، وكل من لا يوافقهم على أهوائهم .
وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بذمهم . خرج مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه، وخرجه البخاري من عدة أوجه، وخرجه أصحاب السنن والمساند من أكثر من ذلك . قال صلى الله عليه وسلم فيهم : ( يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمِيَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ـ وفي رواية ـ أينما لقيتموهم فاقتلوهم ـ فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند اللّه يوم القيامة، يقتلون أهل الإسلام ) .(1/191)
وهؤلاء اتفق الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ على قتالهم، لكن الذي باشر قتالهم وأمر به، علي ـ رضي اللّه عنه ـ كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تمرق مارقة على حين فُرْقَةٍ من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) فقتلهم علي ـ رضي اللّه عنه ـ بالنَّهْرَوان، وكانوا قد اجتمعوا في مكان يقال له : حَرُورَاء؛ ولهذا يقال لهم : الحرورية .
وأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم حتى رجع منهم نحو نصفهم، ثم إن الباقين قتلوا عبد اللّه بن خَبَّاب، وأغاروا على سرح المسلمين، فأمر / علي الناس بالخروج إلى قتالهم . وروى لهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وذكر العلامة التي فيهم : أن فيهم رجلًا مُخْدَجَ اليدين ـ ناقص اليد ـ على ثديه مثل البضعة من اللحم تَدَرْدَر . ولما قتلوا وجد فيهم هذا المنعوت .
فلما اتفق الخوارج ـ الثلاثة ـ على قتل أمراء المسلمين الثلاثة، قتل عبد الرحمن بن ملجم عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ يوم الجمعة سابع عشر، شهر رمضان، عام أربعين، اختبأ له، فحين خرج لصلاة الفجر ضربه، وكانت السنة أن الخلفاء ونوابهم الأمراء الذين هم ملوك المسلمين، هم الذين يصلون بالمسلمين الصلوات الخمس، والجمع والعيدين، والاستسقاء والكسوف، ونحو ذلك كالجنائز، فأمير الحرب هو أمير الصلاة الذي هو إمامها .
وأما الذي أراد قتل معاوية فقالوا : إنه جرحه، فقال الطبيب : إنه يمكن علاجك، لكن لا يبقى لك نسل، ويقال : إنه من حينئذ اتخذ معاوية المقصورة في المسجد، واقتدى به الأمراء؛ ليصلوا فيها هم وحاشيتهم، خوفًا من وثوب بعض الناس على أمير المؤمنين وقتله، وإن كان قد فعل فيها مع ذلك ما لا يسوغ، وكره من كره الصلاة في نحو هذه المقاصير .
وأما الذي أراد قتل عمرو بن العاص، فإن عمرًا كان قد استخلف ذلك اليوم رجلاـ اسمه خارجة ـ فظن الخارجي أنه عمرو فقتله، فلما تبين له قال : أردت عمرًا وأراد اللّه خارجة، فصارت مثلا .(1/192)
/فقيل : إنهم كتموا قبر علي وقبر معاوية وقبر عمرو خوفًا عليهم من الخوارج؛ ولهذا دفنوا معاوية داخل الحائط القبلي من المسجد الجامع في قصر الإمارة، الذي كان يقال له الخضراء، وهو الذي تسميه العامة قبر هود، وهود باتفاق العلماء لم يجئ إلى دمشق، بل قبره ببلاد اليمن حيث بعث، وقيل : بمكة حيث هاجر، ولم يقل أحد : إنه بدمشق .
وأما معاوية الذي هو خارج باب الصغير، فإنه معاوية بن يزيد، الذي تولى نحو أربعين يومًا، وكان فيه زهد ودين . فعلي دفن هناك وعفي قبره؛ فلذلك لم يظهر قبره .
وأما المشهد الذي بالنَّجف، فأهل المعرفة متفقون على أنه ليس بقبر علي، بل قيل : إنه قبر المغيرة بن شعبة، ولم يكن أحد يذكر أن هذا قبر علي، ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة، مع كثرة المسلمين من أهل البيت، والشيعة وغيرهم، وحكمهم بالكوفة .
وإنما اتخذوا ذلك مشهدًا في ملك بني بويه ـ الأعاجم ـ بعد موت علي بأكثر من ثلاثمائة سنة، ورووا حكاية فيها : أن الرشيد كان يأتي إلى تلك، وأشياء لا تقوم بها حجة .
وأما السؤال عن سَبْي أهل البيت وإركابهم الإبل حتى نبت لها سنامان وهي البَخَاتِيّ؛ ليستتروا بذلك، فهذا من أقبح الكذب وأبينه، وهو مما افتراه الزنادقة /والمنافقون، الذين مقصودهم الطعن في الإسلام، وأهله من أهل البيت، وغيرهم . فإن من سمع مثل هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول : إن المنقول إلينا من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء هو من هذا الجنس، ثم إذا تبين أن الأمة سَبتْ أهل بيت نبيها، كان فيها من الطعن في خير أمة أخرجت للناس ما لا يعلمه إلا اللّه؛ إذ كل عاقل يعلم أن الإبل البَخَاِتيّ كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث اللّه النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل وجود أهل البيت، كوجود غيرها من الإبل والغنم، والبقر والخيل والبغال والمعز .(1/193)
وإنما هذا الكذب نظير كذبهم بأن عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ نصب يده بخيبر فوطئته البغلة، فقال لها : قطع اللّه نسلك، فإن كل عاقل يعلم أن البغلة لم يكن لها نسل قط . هذا مع أنهم لم يكن معهم بخيبر بغلة، بل لم يكن للمسلمين بغال، وأول بغلة صارت لهم التي أهداها المقوقس ـ صاحب مصر ـ للنبي صلى الله عليه وسلم حتى مات وهي عنده .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد : نساء كاسيات مائلات مُمِيلات، على رؤوسهن مثل أسْنِمَة البُخْت، لا يَدْخُلْنَ الجنة، ولا يَجِدْن ريحها، ورجال معهم سِياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد اللّه ) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم شبه أصحاب العصائب الكبار ـ التي ستكون بعد موته ـ بأسنمة البخاتي، فلولا أنهم كانوا يعرفونها لم يفهموا، وهذه العصائب قد /ظهرت بعده بمدة طويلة في هذا الزمان ونحوه، ثم إن البخاتي لا يستتر راكبها إذا كان عاريًا، ولو شاء اللّه أن يستتر من عري ـ بغيرحق ـ لستره بما يصلح له، كما ستر إبراهيم الخليل لما جرد وألقى في المنجنيق .
ومما يبين ظهور الكذب في هذا، أن المسلمين ما زالوا يسبون الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ومع هذا فما علم أنهم قط كانوا يرحلون النساء مجردات بادية أبدانهن، بل غاية ما يظهر من المرأة المسْبِيَّة وجهها، أو يداها، أو قدمها .
ولم يعلم في الإسلام أن أهل البيت سبى أحدًا منهم أحد من المسلمين في وقت من الأوقات، مع العلم بأنهم من أهل البيت، اللهم إلا أن يقع في أثناء ما تسبيه المسلمون من لا يعلم أنه من أهل البيت، كامرأة سباها العدو ثم استنقذها المسلمون، وإذا تبين أنها كانت حرة الأصل أرسلوها، وإن كان في ضمن ذلك من لا يعرف من يخفي نسبها ويستحل منها ما حرم اللّه من هو زنديق منافق، فاللّه أعلم بحقيقة ذلك، لكن لم يكن شىء من ذلك علانية في الإسلام قط .(1/194)
وهذا مما يقوله هؤلاء الجهال، أن الحجاج بن يوسف قتل الأشراف وأراد قطع دابرهم، وهذا من الجهل بأحوال الناس، فإن الحجاج ـ مع كونه مُبِيرًا [ أي : مهلك يسرف في إهلاك الناس] سفاكًا للدماء قتل خلقًا كثيرًا ـ لم يقتل من أشراف بني هاشم أحدًا قط، بل سلطانه عبد الملك بن مروان نهاه عن التعرض لبني هاشم وهم الأشراف، وذكر أنه أتى إلى الحرب لما تعرضوا لهم، يعني لما قتل الحسين .
/ولا يعلم في خلافة عبد الملك والحجاج نائبه على العراق أنه قتل أحدًا من بني هاشم .
والذي يذكر لنا السبي أكثر ما يذكر مقتل الحسين وحمل أهله إلى يزيد، لكنهم جهال بحقيقة ما جرى، حتى يظن الظان منهم أن أهله حملوا إلى مصر، وأنهم قتلوا بمصر، وأنهم كانوا خلقًا كثيرًا، حتى إن منهم من إذا رأى موتى عليهم آثار القتل قال : هؤلاء من السبي الذين قتلوا، وهذا كله جهل وكذب . والحسين ـ رضي اللّه عنه، ولعن من قتله، ورضي بقتله ـ قتل يوم عاشوراء عام واحد وستين .
وكان الذي حض على قتله الشَّمِر بن ذي الجَوْشَن، صار يكتب في ذلك إلى نائب السلطان على العراق عبيد اللّه بن زياد، وعبيد اللّه هذا أمر ـ بمقاتلة الحسين ـ نائبه عمر ابن سعد بن أبي وقاص، بعد أن طلب الحسين منهم ما طلبه آحاد المسلمين لم يجئ معه مقاتلة، فطلب منهم أن يدعوه إلى أن يرجع إلى المدينة، أو يرسلوه إلى يزيد ابن عمه، أو يذهب إلى الثَّغْرِ يقاتل الكفار، فامتنعوا إلا أن يستأسر لهم أو يقاتلوه، فقاتلوه حتى قتلوه وطائفة من أهل بيته وغيرهم .(1/195)
ثم حملوا ثقله وأهله إلى يزيد بن معاوية إلى دمشق، ولم يكن يزيد أمرهم بقتله، ولا ظهر منه سرور بذلك ورضى به، بل قال كلامًا فيه ذم لهم حيث نقل عنه أنه قال : لقد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، وقال : /لعن اللّه ابن مرْجَانة ـ يعني عبيد اللّه بن زياد ـ واللّه لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله ـ يريد بذلك الطعن في استلحاقه حيث كان أبوه زياد استلحق حتى كان ينتسب إلى أبي سفيان صخر بن حرب ـ وبنو أمية وبنو هاشم كلاهما بنو عبد مناف .
وروى أنه لما قدم على يزيد ثقل الحسين وأهله ظهر في داره البكاء والصراخ لذلك، وأنه أكرم أهله، وأنزلهم منزلًا حسنًا، وخير ابنه عليًا بين أن يقيم عنده وبين أن يذهب إلى المدينة، فاختار المدينة، والمكان الذي يقال له سجن على بن الحسين بجامع دمشق باطل لا أصل له .
لكنه مع هذا لم يقم حد اللّه على من قتل الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ ولا انتصر له، بل قتل أعوانه لإقامة ملكه، وقد نقل عنه أنه تمثل في قتل الحسين بأبيات تقتضي من قائلها الكفر الصريح، كقوله :
لما بدت تلك الحمول وأشرفت ** تلك الرؤوس إلى ربى جيرون
نعق الغراب فقلت نح أو لا تنح ** فلقد قضيت من النبي ديوني ! !
وهذا الشعر كفر .
ولا ريب أن يزيد تفاوت الناس فيه، فطائفة تجعله كافرًا، بل تجعله هو وأباه كافرين؛ بل يكفرون مع ذلك أبا بكر وعمر، ويكفرون عثمان، وجمهور المهاجرين والأنصار . وهؤلاء الرافضة من أجهل خلق اللّه وأضلهم، وأعظمهم /كذبًا على اللّه ـ عز وجل ـ ورسوله والصحابة والقرابة وغيرهم، فكذبهم على يزيد مثل كذبهم على أبي بكر وعمر وعثمان، بل كذبهم على يزيد أهون بكثير .(1/196)
وطائفة تجعله من أئمة الهدى، وخلفاء العدل، وصالح المؤمنين، وقد يجعله بعضهم من الصحابة، وبعضهم يجعله نبيًا، وهذا ـ أيضًا ـ من أبين الجهل والضلال، وأقبح الكذب والمحال، بل كان ملكًا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات، والقول فيه كالقول في أمثاله من الملوك، وقد بسطنا القول في هذا في غير هذا الموضع .
وأما الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ فقتل بكَرْبِلاء قريب من الفرات، ودفن جسده حيث قتل، وحمل رأسه إلى قُدام عبيد اللّه بن زياد بالكوفة، هذا الذي رواه البخاري في صحيحه وغيره من الأئمة .
وأما حمله إلى الشام إلى يزيد، فقد روي ذلك من وجوه منقطعة لم يثبت شيء منها، بل في الروايات ما يدل على أنها من الكذب المختلق، فإنه يذكر فيها أن يزيد جعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن بعض الصحابة الذين حضروه ـ كأنس بن مالك، وأبي بَرْزَة ـ أنكر ذلك، وهذا تلبيس، فإن الذي جعل ينكت بالقضيب إنما كان عبيد اللّه بن زياد، هكذا في الصحيح والمساند . وإنما جعلوا مكان عبيد اللّه بن زياد [يزيد ] ، وعبيد اللّه لا ريب أنه أمر بقتله، وحمل الرأس إلى بين يديه . ثم إن ابن زياد قتل بعد ذلك لأجل ذلك . /ومما يوضح ذلك أن الصحابة المذكورين كأنس وأبي برزة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق ـ حينئذ ـ وإنما الكذابون جهال بما يستدل به على كذبهم .
وأما حمله إلى مصر فباطل باتفاق الناس، وقد اتفق العلماء كلهم على أن هذا المشهد الذي بقاهرة مصر الذي يقال له : مشهد الحسين باطل، ليس فيه رأس الحسين ولا شىء منه، وإنما أحدث في أواخر دولة بني عبيد اللّه بن القداح الذين كانوا ملوكًا بالديار المصرية مائتي عام، إلى أن انقرضت دولتهم في أيام نور الدين محمود وكانوا يقولون : إنهم من أولاد فاطمة، ويدعون الشرف . وأهل العلم بالنسب يقولون : ليس لهم نسب صحيح، ويقال : إن جدهم كان ربيب الشريف الحسيني فادعوا الشرف لذلك .(1/197)
فأما مذاهبهم وعقائدهم، فكانت منكرة باتفاق أهل العلم بدين الإسلام، وكانوا يظهرون التشيع، وكان كثير من كبرائهم وأتباعهم يبطنون مذهب القرامطة الباطنية، وهو من أخبث مذاهب أهل الأرض، أفسد من اليهود والنصارى؛ ولهذا كان عامة من انضم إليهم أهل الزندقة والنفاق والبدع : المتفلسفة، والمباحية، والرافضة، وأشباه هؤلاء، ممن لا يستريب أهل العلم والإيمان في أنه ليس من أهل العلم والإيمان .
فأحدث هذا المشهد في المائة الخامسة، نقل من عسقلان، وعقيب ذلك بقليل انقرضت دولة الذين ابتدعوه بموت العاضد ـ آخر ملوكهم .
/والذي رجحه أهل العلم في موضع رأس الحسين بن علي ـ رضي اللّه عنهما ـ هو ما ذكره الزبير بن بكار في كتاب [ أنساب قريش ] والزبير بن بكار هو من أعلم الناس وأوثقهم في مثل هذا، ذكر أن الرأس حمل إلى المدينة النبوية ودفن هناك، وهذا مناسب، فإن هناك قبر أخيه الحسن، وعم أبيه العباس، وابنه علي وأمثالهم .(1/198)
قال [أبو الخطاب ] ابن دَحية ـ الذي كان يقال له : [ذو النسبين بين دحية والحسين ] في كتاب [العلم المشهور في فضل الأيام والشهور]ـ لما ذكر ما ذكره الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن : أنه قدم برأس الحسين وبنو أمية مجتمعون عند عمرو بن سعيد، فسمعوا الصياح فقالوا : ما هذا ؟ فقيل : نساء بني هاشم يبكين حين رأين رأس الحسين ابن علي، قال : وأتي برأس الحسين بن علي، فدخل به على عمرو فقال : واللّه لوددت أن أمير المؤمنين لم يبعث به إلي، قال ابن دحية : فهذا الأثر يدل أن الرأس حمل إلى المدينة ولم يصح فيه سواه، والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء بهذا السبب، قال : وما ذكر من أنه في عسقلان في مشهد هناك فشيء باطل، لا يقبله من معه أدنى مُسْكَة [المُسْكَة : ما يمسك الرَّمَق من الطعام والشراب، والمقصود هنا : من معه أدنى بقية من العقل] من العقل والإدراك، فإن بني أمية ـ مع ما أظهروه من القتل والعداوة والأحقاد ـ لا يتصور أن يبنوا على الرأس مشهدًا للزيارة .(1/199)
هذا، وأما ما افتعله بنو عبيد في أيام إدبارهم، وحلول بوارهم، وتعجيل دمارهم، في أيام الملقب بالقاسم عيسى بن الظافر وهو الذي عقد له بالخلافة /وهو ابن خمس سنين وأيام ؛ لأنه ولد يوم الجمعة الحادي من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وبويع له صبيحة قتل أبيه الظافر يوم الخميس سلخ المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة . وله من العمر ما قدمنا، فلا تجوز عقوده ولا عهوده، وتوفى وله من العمر إحدى عشرة سنة وستة أشهر وأيام؛لأنه توفى لليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فافتعل في أيامه بناء المشهد المحدث بالقاهرة، ودخول الرأس مع المشهديِّ العسقلاني أمام الناس، ليتوطن في قلوب العامة ما أورد من الأمور الظاهرة، وذلك شىء افتعل قصدًا، أو نصب غرضًا، وقضوا ما في نفوسهم لاستجلاب العامة عرضًا، والذي بناه طلائع بن رُزَيْك الرافضي . وقد ذكره جميع من ألف في مقتل الحسين أن الرأس المكرم ما غرب قط، وهذا الذي ذكره أبو الخطاب بن دَحية في أمر هذا المشهد، وأنه مكذوب مفترى، هو أمر متفق عليه عند أهل العلم .
والكلام في هذا الباب وأشباهه متسع، فإنه بسبب مقتل عثمان ومقتل الحسين وأمثالهما جرت فتن كثيرة، وأكاذيب وأهواء، وقع فيها طوائف من المتقدمين والمتأخرين، وكذب على أمير المؤمنين عثمان وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنواع من الأكاذيب، يكذب بعضها شيعتهم ونحوهم، ويكذب بعضها مبغضوهم، لاسيما بعد مقتل عثمان، فإنه عظم الكذب والأهواء .(1/200)
/وقيل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مقالات من الجانبين، علي برىء منها . وصارت البدع والأهواء والكذب تزداد، حتى حدث أمور يطول شرحها، مثل ما ابتدعه كثير من المتأخرين يوم عاشوراء، فقوم يجعلونه مأتمًا يظهرون فيه النياحة والجزع، وتعذيب النفوس وظلم البهائم، وسب من مات من أولياء اللّه والكذب على أهل البيت، وغير ذلك من المنكرات المنهى عنها بكتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق المسلمين .
والحسين ـ رضي اللّه عنه ـ أكرمه اللّه ـ تعالى ـ بالشهادة في هذا اليوم، وأهان بذلك من قتله، أو أعان على قتله، أو رضى بقتله، وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء، فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد تربيا في عز الإسلام، لم ينالا من الهجرة والجهاد والصبر على الأذى في اللّه ما ناله أهل بيته، فأكرمهما اللّه ـ تعالى ـ بالشهادة؛ تكميلًا لكرامتهما، ورفعا لدرجاتهما، وقتله مصيبة عظيمة، واللّه ـ سبحانه ـ قد شرع الاسترجاع عند المصيبة بقوله تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155-157 ] . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول : إنا للّه وإنا إليه راجعون، اللهم أجِرْنِي في مصيبتي، واخْلُفْ لي خيرًا منها، إلا آجره اللّه في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها ) ومن أحسن ما يذكر هنا : أنه قد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن فاطمة بنت /الحسين عن أبيها الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قَدُمَتْ، فيحدث عندها استرجاعًا، كتب اللّه له مثلها يوم أصيب ) ، هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه .(1/201)
وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد، فكان في محاسن الإسلام أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، و هو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر مثل الأجر يوم أصيب بها المسلمون .
وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد، مثل لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية . ففي الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ) . وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي اللّه عنه ـ قال : ( أنا بريء مما برئ منه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم برئ من الحالقة، والصالقة، والشاقة ) .
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري : أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب، /والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت ) . وقال : ( النائحة إذا لم تَتُبْ قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سِرْبَال من قَطِرَان، ودِرْع من جَرَبٍ ) ، والآثار في ذلك متعددة .
فكيف إذا انضم إلى ذلك ظلم المؤمنين، ولعنهم وسبهم، وإعانة أهل الشقاق والإلحاد على ما يقصدونه للدين من الفساد وغير ذلك، مما لا يحصيه إلا اللّه ـ تعالى .(1/202)
وقوم من المتسننة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة، بنوا عليها ما جعلوه شعارًا في هذا اليوم، يعارضون به شعار ذلك القوم، فقابلوا باطلًا بباطل، وردوا بدعة ببدعة، وإن كانت إحداهما أعظم في الفساد وأعون لأهل الإلحاد، مثل الحديث الطويل الذي روى فيه : ( من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام ) وأمثال ذلك من ( الخضاب يوم عاشوراء والمصافحة فيه ) ونحو ذلك . فإن هذا الحديث ونحوه كذب مختلق باتفاق من يعرف علم الحديث، وإن كان قد ذكره بعض أهل الحديث وقال : إنه صحيح وإسناده على شرط الصحيح، فهذا من الغلط الذي لا ريب فيه، كما هو مبين في غير هذا الموضع .
ولم يستحب أحد من أئمة المسلمين الاغتسال يوم عاشوراء، ولا الكحل فيه والخِضاب، وأمثال ذلك، ولا ذكره أحد من علماء المسلمين الذين يقتدى بهم، /ويرجع إليهم في معرفة ما أمر اللّه به ونهى عنه، ولا فعل ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي .
ولا ذكر مثل هذا الحديث في شىء من الدواوين التي صنفها علماء الحديث، لا في المسندات ؛ كمسند أحمد، وإسحاق، وأحمد بن مَنِيع الحميدي، والدالاني، وأبو يعلى الموصلي، وأمثالها . ولا في المصنفات على الأبواب؛ كالصحاح، والسنن . ولا في الكتب المصنفة الجامعة للمسند والآثار؛ مثل موطأ مالك، ووَكِيع، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأمثالها .(1/203)
ثم إن أهل الأهواء ظنت أن من يفعل هذا أنه يفعله على سبيل نصب العداوة لأهل البيت والاشتفاء منهم، فعارضهم من تسنن، وأجاب عن ذلك بإجابة بين فيها براءتهم من النصب واستحقاقهم لموالاة أهل البيت، وأنهم أحق بذلك من غيرهم . وهذا حق . لكن دخلت عليهم الشبهة والغلط في ظنهم أن هذه الأفعال حسنة مستحبة، واللّه أعلم بمن ابتدأ وضع ذلك وابتداعه، هل كان قصده عداوة أهل البيت أو عداوة غيرهم ؟ فالهدى بغير هدى من اللّه ـ أو غير ذلك ـ ضلالة .
ونحن علينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا من الكتاب والحكمة، ونلزم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم، من النبيين، والصديقين، /والشهداء، والصالحين، ونعتصم بحبل اللّه جميعًا ولا نتفرق، ونأمر بما أمر اللّّه به وهو المعروف، وننهي عما نهى عنه وهو المنكر؛ وأن نتحرى الإخلاص للّه في أعمالنا، فإن هذا هو دين الإسلام قال اللّه تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] .(1/204)
وقال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الأعراف : 28-30 ]
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } إلى قوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 102-106 ] قال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة .
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 ] .
/ وقال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [ البينة : 5 ] .
وليس الكذب في هذا المشهد وحده، بل المشاهد المضافة إلى الأنبياء وغيرهم كذب، مثل القبر الذي يقال له : [ قبر نوح ] قريب من بعلبك في سفح جبل لبنان، ومثل القبر الذي في قبلي مسجد جامع دمشق، الذي يقال له : قبر هود، فإنما هو قبر معاوية بن أبي سفيان، ومثل القبر الذي في شرقي دمشق الذي يقال له : قبر أبي بن كعب، فإن أبيًّا لم يقدم دمشق باتفاق العلماء .
وكذلك ما يذكر في دمشق من قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما توفين بالمدينة النبوية .(1/205)
وكذلك ما يذكر في مصر من قبر علي بن الحسين أو جعفر الصادق أو نحو ذلك، هو كذب باتفاق أهل العلم . فإن علي بن الحسين وجعفر الصادق إنما توفيا بالمدينة، وقد قال عبد العزيز الكناني ـ الحديث المعروف ـ : ليس في قبور الأنبياء ما ثبت، إلا قبر نبينا قال غيره : وقبر الخليل أيضًا .
وسبب اضطراب أهل العلم بأمر القبور أن ضبط ذلك ليس من الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تتخذ القبور مساجد، فلما لم يكن معرفة ذلك من الدين لم يجب ضبطه .
/فأما العلم الذي بعث اللّه به نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه مضبوط ومحروس، كما قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَِِِِِ ِِِِِ} [ الحجر : 9 ] وفي الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يَضُرُّهُمْ من خالفهم، ولا من خَذَلَهُمْ، حتى تقوم الساعة ) .
وأصل هذا الكتاب هو الضلال والابتداع والشرك، فإن الضُّلال ظنوا أن شد الرحال إلى هذه المشاهد، والصلاة عندها، والدعاء والنذر لها، وتقبيلها واستلامها، وغير ذلك، من أعمال البر والدين، حتى رأيت كتابًا كبيرًا قد صنفه بعض أئمة الرافضة ـ محمد بن النُّعْمَان الملقب بالشيخ المُفِيد، شيخ الملقب بالمرتضي وأبي جعفر الطوسي ـ سماه [ الحج إلى زيارة المشاهد] ذكر فيه من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وزيارة هذه المشاهد والحج إليها، ما لم يذكر مثله في الحج إلى بيت اللّه الحرام .(1/206)
وعامة ما ذكره من أوضح الكذب وأبين البهتان، حتى إني رأيت في ذلك من الكذب والبهتان أكثر مما رأيته من الكذب في كثير من كتب اليهود والنصارى، وهذا إنما ابتدعه وافتراه في الأصل قوم من المنافقين والزنادقة؛ ليصدوا به الناس عن سبيل اللّه . ويفسدوا عليهم دين الإسلام، وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين للّه، كما ذكره ابن عباس وغيره من السلف في قوله تعالى عن قوم نوح : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا } [ نوح : 23، 24 ] قالوا : هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه، وبسطه وبينه في أول كتابه في قصص الأنبياء وغيرها .
ولهذا صنف طائفة من الفلاسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه، واتفقوا هم والقرامطة الباطنية على المحادة للّه ولرسوله، حتى فتنوا أمما كثيرة وصدوهم عن دين اللّه . وأقل ما صار شعارًا لهم، تعطيل المساجد وتعظيم المشاهد، فإنهم يأتون من تعظيم المشاهد وحجها والإشراك بها، ما لم يأمر اللّه به ولا رسوله ولا أحد من أئمة الدين، بل نهى اللّه عنه ورسوله عباده المؤمنين .
وأما المساجد التي أمر اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فيخربونها، فتارة لا يصلون جمعة ولا جماعة؛ بناء على ما أصلوه من شُعب النفاق، وهو أن الصلاة لا تصح إلا خلف معصوم، ونحو ذلك من ضلالتهم .(1/207)
وأول من ابتدع القول بالعصمة لعلي، وبالنص عليه في الخلافة، هو رأس هؤلاء المنافقين عبد اللّه بن سبأ الذي كان يهوديًا، فأظهر الإسلام وأراد فساد دين الإسلام، كما أفسد بولص دين النصارى، وقد أراد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتل هذا لما بلغه أنه يسب أبا بكر وعمر حتى هرب منه، /كما أن عليًا حرق الغالية الذين ادعوا فيه الإلهية . وقال في المفضلة : لا أوتى بأحد يفضلني على أبى بكر وعمر إلا جلدته جلد المفترى .
فهؤلاء الضالون المفترون أتباع الزنادقة المنافقون، يعطلون شعار الإسلام وقيام عموده، وأعظمه سنن الهدى التي سنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بمثل هذا الإفك والبهتان، فلا يصلون جمعة ولا جماعة .
ومن يعتقد هذا فقد يسوى بين المشاهد والمساجد، حتى يجعل العبادة كالصلاة والدعاء، والقراءة، والذكر، وغير ذلك مشروعًا عند المقابر، كما هو مشروع في المساجد، وربما فضل بحاله أو بقاله العبادة عند القبور، و المشاهد على العبادة في بيوت اللّه التي هي المساجد، حتى تجد أحدهم إذا أراد الاجتهاد في الدعاء والتوبة ونحو ذلك قصد قبر من يعظمه، كشيخه أو غير شيخه، فيجتهد عنده في الدعاء والتضرع، والخشوع والرقة، ما لا يفعله مثله في المساجد، ولا في الأسحار، ولا في سجوده للّه الواحد القهار .
وقد آل الأمر بكثير من جهالهم إلى أن صاروا يدعون الموتى ويستغيثون بهم، كما تستغيث النصارى بالمسيح وأمه، فيطلبون من الأموات تفريج الكربات وتيسير الطلبات، والنصر على الأعداء ورفع المصائب والبلاء، وأمثال ذلك، مما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماء .
حتى إن أحدهم إذا أراد الحج، لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه /اللّه عليه وهو [ حج بيت اللّه الحرام] ، وهو شعار الحنيفية ملة إبراهيم إمام أهل دين اللّه، بل يقصد المدينة .(1/208)
ولا يقصد ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في مسجده، حيث قال في الحديث الصحيح : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام ( ، ولا يهتم بما أمر اللّه به من الصلاة والسلام على رسوله حيث كان، ومن طاعة أمره، واتباع سنته، وتعزيره، وتوقيره، وهو أن يكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين، بل أن يكون أحب إليه من نفسه، بل يقصد من زيارة قبره أو قبر غيره ما لم يأمر اللّه به ورسوله، ولا فعله أصحابه ولا استحسنه أئمة الدين .
وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج، وربما سوى بين القصدين، وكل هذا ضلال عن الدين باتفاق المسلمين، بل نفس السفر لزيارة قبر من القبورـ قبر نبي أو غيره ـ منهي عنه عند جمهور العلماء، حتى إنهم لا يجوزون قصد الصلاة فيه، بناء على أنه سفر معصية ؛ لقوله الثابت في الصحيحين : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا ) وهو أعلم الناس بمثل هذه المسألة .
وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف، بل موضوع، بل قد /كره مالك وغيره من أئمة المدينة أن يقول القائل : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المسنون السلام عليه إذا أتى قبره صلى الله عليه وسلم، وكما كان الصحابة والتابعون يفعلون إذا أتوا قبره، كما هو مذكور في غير هذا الموضع .
ومن ذلك الطواف بغير الكعبة، وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور، فلا يجوز الطواف بصخرة بيت المقدس، ولا بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بالقبة التي في جبل عرفات، ولا غير ذلك .
وكذلك اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستلام ولا التقبيل إلا للركنين اليمانيين؛ فالحجرالأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم . وقد قيل : إنه يقبل، وهو ضعيف .(1/209)
وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله، كجوانب البيت، والركنين الشاميين، ومقام إبراهيم، و الصخرة، والحجرة النبوية، وسائر قبور الأنبياء والصالحين .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( قَاتَل اللّهُ اليهود والنصارى، اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم مساجد ) وفي رواية لمسلم : ( لَعَنَ اللّهُ اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .
/ وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة وابن عباس قالا : لما نزل برسول اللّه صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يطرح خَمِيصَة له على وجهه، فإذا اغْتَمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك : ( لعن اللّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ، يُحَذِّر ما صنعوا .
وفي الصحيحين ـ أيضًا ـ عن عائشة قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه : ( لعن اللّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدًا .
وفي صحيح مسلم عن جُنْدُب بن عبد اللّه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمس وهو يقول : ( إني أبرأ إلى اللّه أن يكون لي منكم خليل، فإن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ) .
وفي صحيح مسلم عن أبي مَرْثَد الغَنوىّ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها ) .
وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي اللّه عنه ـ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) رواه أهل السنن، /كأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وعلله بعضهم بأنه روي مرسلًا، وصححه الحافظ .(1/210)
وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت : لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له بعض نسائه أنها رأت كنيسة بأرض الحبشة يقال لها : [مارية ] . وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال : ( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللّه ) .
وعن ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ قال : ( لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زَوَّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرُج ) . رواه أهل السنن، كأبي داود، والنسائي، والترمذي . وقال : حديث حسن، وفي بعض النسخ صحيح .
وفي موطأ مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اللهم لا تجعل قبري وَثَنًا يُعْبَد ) ، وفي سنن أبي داود عنه أنه قال : ( لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر ) .
وأما العبادات في المساجد ؛ كالصلاة والقراءة والدعاء، ونحو ذلك، فقد قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } [ البقرة : 411 ] ، وقال تعالى : } إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ } الآية [ التوبة : 18 ](1/211)
وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن اللّه تعالى يقول : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } ) الآية [ التوبة : 18 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الآية [ الأعراف : 29 ] ، وقال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] ، وقال تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } الآية [ النور : 36 ] ، وقال تعالى : } وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [ البقرة : 187 ] .
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( صلاة الرجل في المسجد تَفْضُلُ على صلاته في بيته وسُوقه بخمس وعشرين درجة ) . وفي لفظ : ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم بخمس وعشرين درجة ) وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معي، معهم حُزَم من حَطَبٍ، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال : يا رسول اللّه، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص /له . فلما ولى دعاه، فقال : ( هل تسمع النداء بالصلاة ؟ ) قال : نعم . قال : ( فأجب ) .(1/212)
وفيه ـ أيضًا ـ عن أبي سعيد ـ رضي اللّه عنه ـ قال : من سَرَّهُ أن يلقى اللّه غدًا مسلمًا، فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، فإن اللّه شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب اللّه له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها خطيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهَادى [ وقوله : يُهَادى بين رجلين : أي : يمشي بينهما معتمدًا عليهما من ضعفه وتمايله ] بين رجلين حتى يقام في الصف .
وهذا باب واسع، قد نبهنا بما كتبناه على سبيل الهدى في هذا الأمر، الفارق بين أهل التوحيد الحنفاء أهل ملة إبراهيم، المتبعين لدين اللّه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وبين من لبس الحق بالباطل، وشاب الحنيفية بالإشراك .
قال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] .
/وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } الآية [ البينة : 5 ](1/213)
وقال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ الروم : 30-32 ]
واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم .
وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني ـ شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده ـ قال : أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين . قال فيها : [ وأن اللّه استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول والكيف فيه مجهول، وأنه ـ عز وجل ـ مستوٍِ على عرشه، بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط، ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق .
وأن اللّه ـ عز وجل ـ سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب ،ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، ( فيقول : هل من داع ـ فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ حتى يطلع الفجر ) ، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه، ولا تأويل . فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة من العارفين على هذا ] ا . هـ .(1/214)
وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في [ كتاب السنة ] : ثنا أبو بكر الأثرم، ثنا إبراهيم بن الحارث ـ يعني العبادي ـ حدثنا الليث/ بن يحيى قال : سمعت إبراهيم بن الأشعث ـ قال أبو بكر : هو صاحب الفضيل ـ قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : ليس لنا أن نتوهم في اللّه كيف هو؛ لأن اللّه ـ تعالى ـ وصف نفسه فأبلغ فقال : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ الإخلاص ] فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه .
وكل هذا النزول والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطلع، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف . فإذا قال الجهمي : أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل : بل أومن برب يفعل ما يشاء .
ونقل هذا عن الفضيل جماعة، منهم البخاري في [ أفعال العباد ] .
ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه [ الفاروق ] فقال : ثنا يحيي بن عمار، ثنا أبي، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا حَرَميّ بن على البخاري، وهانئ بن النضر، عن الفضيل .
وقال عمرو بن عثمان المكي ـ في كتابه الذي سماه : [ التعرف بأحوال العباد والمتعبدين ] ـ قال : [ باب ما يجيء به الشيطان للتائبين ] وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل، ثم في التوحيد . فقال : [ من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل ] ، فقال بعد ذكر حديث الوسوسة :(1/215)
/واعلم ـ رحمك اللّه ـ أن كُلَّ ما توهمه قلبك، أو سَنَح [ أي : عَرَض ] . في مجاري فكرك، أو خطر في معارضات قلبك، من حسن، أو بهاء، أو ضياء، أو إشراق أو جمال، أو سنح مسائل، أو شخص متمثل، فاللّه ـ تعالى ـ بغير ذلك، بل هو ـ تعالى ـ أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، وقوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] أى : لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أو لم تعلم أنه لما تجلي للجبل تدكدك لعظم هيبته وشامخ سلطانه ؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك . فرد بما بين اللّه في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل، والنظير والكفء .
فإن اعتصمت بها وامتنعت منه، أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب ـ تعالى وتقدس ـ في كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لك : إذا كان موصوفًا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك، ويدخلك في صفات الملحدين، الزائغين، الجاحدين لصفة الرب ـ تعالى .
واعلم ـ رحمك اللّه تعالى ـ أن اللّه ـ تعالى ـ واحد لا كالآحاد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد ـ إلى أن قال ـ : خلصت له الأسماء السَّنِيَّة، فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث ـ تعالى ـ صفة كان منها خليًا، واسمًا كان منه بريًا، تبارك وتعالى، فكان هاديًا سيهدي، وخالقًا سيخلق، ورازقًا سيرزق، وغافرًا سيغفر، وفاعلًا سيفعل، ولم يحدث له /الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل، فهو يسمي به في جملة فعله .(1/216)
كذلك قال اللّه تعالى : { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [ الفجر : 22 ] بمعنى : أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجودًا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه؛ لأن ذلك فعل الربوبية فيستحسر العقل، وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين، لا معطلا ولا مشبهًا، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقف عند خبره لنفسه مسلمًا، مستسلمًا، مصدقًا، بلا مباحثة التنفير، ولا مناسبة التنقير .
إلى أن قال : فهو ـ تبارك وتعالى ـ القائل : أنا اللّه لا الشجرة، الجائي قبل أن يكون جائيًا، لا أمره، المتجلي لأوليائه في المعاد، فتبيض به وجوههم، وتَفْلُج [ أي : تظهر وتثبت ] . به على الجاحدين حجتهم، المستوى على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان، تبارك وتعالى الذى كلم موسى تكليما، وأراه من آياته، فسمع موسى كلام اللّه؛ لأنه قربه نَجِيّا . تقدس أن يكون كلامهم مخلوقًا أو محدثًا أو مربوبًا، الوارث بخلقه لخلقه، السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسامهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه ـ وهو أمره ـ تعالى وتقدس ـ أن يحل بجسم أو يمازج بجسم أو يلاصق به، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، الشائي له المشيئة، العالم له العلم، الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب/ إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس .(1/217)
إلى أن قال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، القائل { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك : 16 ،17 ] ، تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء، جل عن ذلك علوًا كبيرًا " ا . هـ .
وقال الإمام أبو عبد اللّه الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي، في كتابه المسمى [ فَهْم القرآن ] ، قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ، وأن النسخ لا يجوز في الأخبار، قال : لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح اللّه وصفاته، ولا أسماءه، يجوز أن ينسخ منها شيء .
إلى أن قال : وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا، أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب، بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب، وأنه لا يبصر ما قد كان، ولا يسمع الأصوات، ولا قدرة له، ولا يتكلم، ولا كلام كان منه، وأنه تحت الأرض، لا على العرش، جل وعلا عن ذلك .
فإذا عرفت ذلك واستيقنته، علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز، فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ } الآيات [ يونس : 90 ] ، وقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ } [ محمد : 31 ] .(1/218)
/ وقال : قد تأول قوم : أن اللّه عنى أن ينجيه ببدنه من النار، لأنه آمن عند الغرق، وقال : إنما ذكر اللّه أن قوم فرعون يدخلون النار دونه وقال : { فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [ هود : 98 ] ، وقال : { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } [ غافر : 45 ] ، ولم يقل : بفرعون . قال : وهكذا الكذب على اللّه؛ لأن اللّه تعالى يقول : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى } [ النازعات : 25 ] كذلك قوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } [ العنكبوت : 3 ] فأقر التلاوة على استئناف العلم من اللّه ـ عز وجل ـ عن أن يستأنف علمًا بشيء؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر أن يصنعه ـ نجده ضرورة ـ قال : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] قال : وإنما قوله : { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ } [ محمد : 31 ] إنمايريد حتى نراه، فيكون معلومًا موجودًا؛ لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوما من قبل أن يكون، ويعلمه موجودًا كان قد كان، فيعلم في وقت واحد معدومًا موجودًا وإن لم يكن، وهذا محال .
وذكر كلامًا في هذا في الإرادة .
إلى أن قال : وكذلك قوله : { إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ } [ الشعراء : 15 ] ، ليس معناه أن يحدث له سمعًا، ولا تكلف بسمعما كان من قولهم، وقد ذهب قوم من [ أهل السنة ] أن لله استماعًا في ذاته، فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت، وكذلك قوله : { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 105 ] لا يتحدث بصرًا محدثًا في ذاته، إنما يحدث الشيء فيراه مكونًا، كما لم يزل يعلمه قبل كونه .(1/219)
/إلى أن قال : وكذلك قوله تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] ، وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، وقوله : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } [ الملك : 61 ] ، وقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] .
وقال : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [ السجدة : 5 ] وقال : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [ المعارج : 4 ] ، وقال لعيسى : { إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية [ آل عمران : 55 ] ، وقال : { بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } [ النساء : 158 ] وقال : { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [ الأعراف : 206 ] .
وذكر الآلهة، أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلًا، حيث هو، فقال : { قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 24 ] أي طلبه، وقال : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ]
قال أبو عبد اللّه : فلن ينسخ ذلك لهذا أبدًا .
كذلك قوله : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] ، وقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، وقوله : { وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ } [ الأنعام : 3 ] ، وقوله : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } الآية [ المجادلة : 7 ] ، فليس هذا بناسخ لهذا، ولا هذا ضد لذلك .(1/220)
واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن اللّه أراد الكون بذاته، فيكون في أسفل الأشياء، أو ينتقل فيها لانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها، جل وعز عن ذلك، وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال، فزعموا أن اللّه / تعالى في كل مكان بنفسه كائنًا، كما هو على العرش، لا فرقان بين ذلك، ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئًا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات أن اللّه ـ تعالى ـ في كل شيء بنفسه كائنًا، ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا : لا كالشيء في الشيء .
قال أبو عبد اللّه لنا قوله : { حَتَّى نَعْلَمَ } [ محمد : 31 ] { فَسَيَرَى اللّهُ } [ التوبة : 105 ] و { إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ } [ الشعراء : 15 ] فإنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجودًا، ويسمعه مسموعا، ويبصره مبصرًا، لا على استحداث علم ولا سمعولا بصر .
وأما قوله : { وَإِذَا أَرَدْنَا } [ الإسراء : 16 ] : إذا جاء وقت كون المراد فيه .(1/221)
وأن قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] ، { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } [ الملك : 16 ] ، { إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] فهذا وغيره مثل قوله : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [ المعارج : 4 ] { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها، منزه عن الدخول في خلقه، لا يخفي عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أرادأنه بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ } [ الملك : 16 ] يعني فوق العرش، والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء، في السماء، وقد قال مثل ذلك في قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ } [ التوبة : 2 ] يعني : على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله : { سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ } [ المائدة : 26 ] يعني : على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [ طه : 17 ] يعني : فوقها عليها .
/وقال : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } ثم فصل فقال : { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ } [ الملك : 16 ] ولم يصل، فلم يكن لذلك معنى ـ إذا فصل قوله : { مَّن فِي السَّمَاء } ثم استأنف التخويف بالخسف ـ إلا أنه على عرشه فوق السماء .(1/222)
وقال تعالى : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [ السجدة : 5 ] ، وقال : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] ، فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال : { فٌي يّوًمُ كّانّ مٌقًدّارٍهٍ خّمًسٌينّ أّلًفّ سّنّةُ } [ المعارج : 4 ] فقال : صعودها إليه وفصله من قوله إليه، كقول القائل : اصعد إلى فلان في ليلة أو يوم . وذلك أنه في العلو وإن صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى اللّه ـ عز وجل ـ، وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض، وعرجوا بالأمر إلى العلو، قال تعالى : { بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } [ النساء : 158 ] ولم يقل : عنده .
وقال فرعون : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } [ غافر : 36 ،37 ] ، ثم استأنف الكلام فقال : { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [ غافر : 37 ] فيما قال لي أن إلهه فوق السموات .
فبين اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال، وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب، ولو أن موسى قال : إنه في كل مكان بذاته، لطلبه في بيته، أو في بدنه، أو حُشِّه [ الحُشُّ : البستان، ويطلق على مخرج الغائط ] ، فتعالى اللّه عن ذلك، ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح [ الصَّرْح : بيت واحد يُبنى مفردًا طويلًا ضخمًا ] .(1/223)
/قال أبو عبد اللّه : وأما الآي التي يزعمون أنها قد وصلها ـ ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه ـ فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فأخبر بالعلم ثم أخبر أنه مع كل مناج، ثم ختم الآية بالعلم بقوله : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ المجادلة : 7 ] .
فبدأ بالعلم، وختم بالعلم، فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا، لا يخفون عليه، ولا يخفي عليه مناجاتهم . ولو اجتمع القوم في أسفل، وناظر إليهم في العلو، فقال : إني لم أزل أراكم، وأعلم مناجاتكم لكان صادقًا ـ ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق ـ فإن أبَوْا إلا ظاهر التلاوة وقالوا : هذا منكم دعوى، خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة؛ لأن من هو مع الاثنين فأكثر، هو معهم لا فيهم، ومن كان مع شيء خلا جسمه، وهذا خروج من قولهم .(1/224)
وكذلك قوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء، ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليسفي حبل الوريد . وكذلك قوله : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] لم يقل : في السماء ثم قطع ـ كما قال : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } ثم قطع فقال : { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ } [ الملك : 16 ] ـ فقال : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } يعني : إله أهل السماء وإله أهل الأرض وذلك موجود في اللغة، تقول : فلان أمير في خراسان، وأمير في بلخ، وأمير في سمرقند؛ وإنما هو في موضع واحد، ويخفي عليه ما وراءه فكيف العالي فوق الأشياء، لا يخفي عليه شيء من الأشياء يدبره، فهو إله فيهما / إذ كان مدبرًا لهما، وهو على عرشه وفوق كل شيء، تعالى عن الأشباه والأمثال ] . ا . هـ .(1/225)
وقال الإمام أبو عبد اللّه محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه [ اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات ] ، قال في آخر خطبته : [ فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد اللّه ـ عز وجل ـ ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه، قولا واحدًا وشرعًا ظاهرًا، وهم الذين نقلوا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك حتى قال : ( عليكم بسنتي ) وذكر الحديث . وحديث ( لعن اللّه من أحدث حدثًا ) قال : فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف ـ وهم الذين أُمرنا بالأخذ عنهم؛ إذ لم يختلفوا بحمد اللّه تعالى في أحكام التوحيد، وأصول الدين من [ الأسماء والصفات ] ، كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا، كما نقل سائر الاختلاف ـ فاستقر صحة ذلك عند خاصتهم وعامتهم، حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان، فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين، حتى نقلوا ذلك قرنًا بعد قرن؛ لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر، وللّه المنة .
ثم إني قائل ـ وباللّه أقول ـ : إنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين، من الصحابة والتابعين، فخاضوا في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معولهم على أحكام هوى حسن النفس المستخرجة من سوء الظن به، على مخالفة السنة والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس، فتأولوا على ما وافق هواهم /وصححوا بذلك مذهبهم : احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين؛ خوفًا من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمته ومنع المستجيبين له حتى حذرهم .(1/226)
ثم ذكرأبو عبد اللّه خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتنازعون في القدر وغضبه، وحديث ( لا أُلْفَيَنَّ أحَدَكم ) وحديث ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) فإن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه، ثم قال : فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة، ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان، المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرنًا بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة، الحافظين على الأمة مالهم وما عليهم من إثبات السنة ـ إلى أن قال :
فأول ما نبتدئ به ما أوردنا هذه المسألة من أجلها ذكر [ أسماء اللّه عز وجل ] في كتابه، وما بيَّن صلى الله عليه وسلم من [ صفاته ] في سنته، وما وصف به ـ عز وجل ـ مما سنذكر قول القائلين بذلك، مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك، ومما قد أمرنا بالاستسلام له ـ إلى أن قال :
ثم إن اللّه تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية والإقرار بالألوهية، أن ذكر ـ تعالى ـ في كتابه بعد التحقيق، بما بدأ من أسمائه وصفاته، وأكد ـ عليه السلام ـ بقوله، /فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله : لا إله إلا اللّه، إلى أن قال بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل . فقال لموسى عليه السلام : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [ طه : 41 ] ، وقال : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28،30 ] .
ولصحة ذلك واستقرار ما جاء به المسيح ـ عليه السلام ـ فقال : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [ المائدة : 116 ] ، وقال عز وجل : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 45 ] .(1/227)
وأكد ـ عليه السلام ـ صحة إثبات ذلك في سنته فقال : ( يقول اللّه عز وجل : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) ، وقال : ( كتب كتابًا بيده على نفسه : إن رحمتي غلبت غضبي ) ، وقال : ( سبحان اللّه رضا نفسه ) ، وقال في محاجة آدم لموسى : ( أنت الذي اصطفاك اللّه واصطنعك لنفسه ) فقد صرح بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفسًا، وأثبت له الرسول ذلك، فعلى من صدق اللّه ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه، ويكون ذلك مبنيًا على ظاهر قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
ثم قال : فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه ـ عليه السلام ـ بنقل العدل عن العدل، حتى يتصل به صلى الله عليه وسلم، وإن مما قضى اللّه علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك أن قال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ النور : 35 ] ثم قال عقيب ذلك : { نُّورٌ عَلَى نُورٍ } [ النور : 35 ] ، وبذلك دعاه / صلى الله عليه وسلم : ( أنت نور السموات والأرض ) ثم ذكر حديث أبي موسى : ( حجابه النور ـ أو النار ـ لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه ) وقال : سبحات وجهه : جلاله ونوره، نقله عن الخليل وأبي عبيد، وقال : قال عبد اللّه بن مسعود : نوّر السموات نورُ وجهه .
ثم قال : ومما ورد به النص أنه حي، وذكر قوله تعالى : { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] . والحديث : ( يا حي، يا قيوم، برحمتك أستغيث ) ، قال : ومما تعرف اللّه إلى عباده أن وصف نفسه، أن له وجهًا موصوفًا بالجلال والإكرام فأثبت لنفسه وجها ـ وذكر الآيات .(1/228)
ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم، فقال : في هذا الحديث من أوصاف اللّه ـ عز وجل ـ لا ينام، موافق لظاهر الكتاب : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] ، وأن له [ وجهًا ] موصوفًا بالأنوار، وأن له [ بصرًا ] كماعلمنا في كتابه أنه سميع بصير .
ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه، وفي إثبات السمع والبصر، والآيات الدالة على ذلك .
ثم قال : ثم إن اللّه ـ تعالى ـ تعرف إلى عباده المؤمنين، أن قال : له يدان قد بسطهما بالرحمة، وذكر الأحاديث في ذلك، ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت .
/ثم ذكر حديث : ( يلقى في النار وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع فيها رجله ) وهي رواية البخاري، وفي رواية أخرى : ( يضع عليها قدمه ) .
ثم ما رواه مسلم البطين عن ابن عباس : أن الكرسي موضع القدمين، وأن العرش لا يقدر قدره إلا اللّه، وذكر قول مسلم البطين نفسه، وقول السدى، وقول وهب بن منبه، وأبي مالك، وبعضهم يقول : موضع قدميه، وبعضهم يقول : واضع رجليه عليه .
ثم قال : فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة، موافقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم، متداولة في الأقوال، ومحفوظة في الصدر، ولا ينكر خلف عن السلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم، نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم، إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم، ممن حذرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم ومكالمتهم، وأمرنا ألا نعود مرضاهم، ولا نشيع جنائزهم، فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه، وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس، وكفر المتقدمين وأنكروا على الصحابة والتابعين، وردوا على الأئمة الراشدين، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل .(1/229)
ثم ذكر المأثور عن ابن عباس، وجوابه لنجدة الحروري، ثم حديث [ الصورة ] ، وذكر أنه صنف فيه كتابًا مفردًا، واختلاف الناس في تأويله . / ثم قال : وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده فيما خالفنا فيه أهل الزيغ، وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة ـ إن شاء اللّه .
ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها، وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم [ الصديق ] وأنه أفضل الأمة .
ثم قال : وكان الاختلاف في [ خلق الأفعال ] : هل هي مقدرة أو لا ؟ قال : وقولنا فيها : إن أفعال العباد مقدرة معلومة، وذكر إثبات القدر . ثم ذكر الخلاف في أهل [ الكبائر ] ومسألة [ الأسماء والأحكام ] وقال : قولنا فيها إنهم مؤمنون على الإطلاق وأمرهم إلى اللّه، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم .
وقال : أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد، فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال، وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه . وقال : قولنا إنه يزيد وينقص . قال : ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقا وغير مخلوق، فقولنا وقول أئمتنا : إن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، وأنه صفة اللّه، منه بدأ قولًا، وإليه يعود حكمًا . ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال : قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد إن اللّه يرى في القيامة، وذكر الحجة .
ثم قال : اعلم ـ رحمك اللّه ـ أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدِّثين في كل الأزمنة، وقد بدأت أن أذكر أحكام الجمل من العقود . فنقول ونعتقد : إن اللّه ـ عز وجل ـ له عرش، وهوعلى عرشه فوق سبع سمواته/بكل أسمائه وصفاته؛ كما قال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ } [ السجدة : 5 ] ، ولا نقول : إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه لأنه عالم بما يجري على عباده : { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [ السجدة : 5 ] .(1/230)
إلى أن قال : ونعتقد أن اللّه ـ تعالى ـ خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء، لا للفناء . إلى أن قال : ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بنفسه إلى سدرة المنتهي . إلى أن قال : ونعتقد أن اللّه قبض قبضتين فقال : ( هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار ) .
ونعتقد أن للرسول صلى الله عليه وسلم حوضًا، ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع . وذكر [ الصراط ] و [ الميزان ] و [ الموت ] وأن المقتول قتل بأجله واستوفي رزقه .
إلى أن قال : ومما نعتقد أن اللّه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر؛ فيبسط يده فيقول : ( ألا هل من سائل ) الحديث، وليلة النصف من شعبان، وعشية عرفة، وذكر الحديث في ذلك . قال : ونعتقد أن اللّه ـ تعالى ـ كلم موسى تكليمًا، واتخذ إبراهيم خليلا، وأن الخُلَّة غير الفقر، لا كما قال أهل البدع .
ونعتقد أن اللّه ـ تعالى ـ خص محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرؤية، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا . ونعتقد أن اللّه ـ تعالى ـ اختص بمفتاح خمس من الغيب لا يعلمها إلا اللّه : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية [ لقمان : 43 ] .
/ ونعتقد المسح على الخفين ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم . ونعتقد الصبر على السلطان من قريش، ما كان من جور أو عدل، ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد . والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة، والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب؛ إذا لم يكن عذر أو مانع، والتراويح سنة، ونشهد أن من ترك الصلاة عمدًا فهو كافر، والشهادة والبراءة بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ولا ننزل أحدًا جنة ولا نارًا حتى يكون اللّه ينزلهم؛ والمراء والجدال في الدين بدعة .
ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرهم إلى اللّه، ونترحم على عائشة ونترضى عنها، والقول في اللفظ والملفوظ، وكذلك في الاسم والمسمى بدعة، والقول في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة .(1/231)
واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملا من غير استقصاء؛ إذ تقدم القول من مشائخنا المعروفين من أهل الإبانة والديانة، إلا أني أحببت أن أذكر [ عقود أصحابنا المتصوفة ] ، فيما أحدثته طائفة نسبوا إليهم ما قد تخرصوا من القول بما نزه اللّه تعالى المذهب وأهله من ذلك .
إلى أن قال : وقرأت لمحمد بن جرير الطبري في كتاب سماه : [ التبصير ] ، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم،وسألوه أن يصنف لهم/ ما يعتقده ويذهب إليه، فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية اللّه ـ تعالى ـ فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة .
ونسب هذه المقالة إلى [ الصوفية ] قاطبة لم يخص طائفة، فبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول ـ بعد أن ادعى على الطائفة ـ ابن أخت عبد الواحد بن زيد، واللّه أعلم محله عند المخلصين، فكيف بابن أخته . وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولا نسب إلى الجملة؛ كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولا في الفقه، وليس فيه حديث يناسب ذلك، ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين .
واعلم أن لفظ [ الصوفية ] وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجرى فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه، رجع عنهم وهو خاسئ وحسير .
ثم ذكر إطلاقهم لفظ [ الرؤية ] بالتقييد، فقال : كثيرًا ما يقولون : رأيت اللّه يقول . وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل : هل رأيت اللّه حين عبدته ؟ قال : رأيت اللّه ثم عبدته . فقال السائل : كيف رأيته ؟ فقال : لم تره الأبصار بتحديد الأعيان، ولكن رؤية القلوب بتحقيق الإيقان، ثم قال : وإنه تعالى يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه، وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم .
هذا قولنا وقول أئمتنا، دون الجهال من أهل الغباوة فينا .(1/232)
/وإن مما نعتقده : أن اللّه حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك في حجة الوداع، فمن زعم أنه يبلغ مع اللّه إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين إلا المضطر على حال يلزمه إحياء للنفس لو بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادات ـ فذلك كفر باللّه، وقائل ذلك قائل بالإباحة، وهم المنسلخون من الديانة .
وأن مما نعتقده : ترك إطلاق تسمية [ العشق ] على اللّه ـ تعالى . وبين أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه ولعدم ورود الشرع به، وقال : أدنى ما فيه أنه بدعة وضلالة، وفيما نص اللّه من ذكر المحبة كفاية .
وإن مما نعتقده : أن اللّه لا يحل في المرئيات، وأنه المتفرد بكمال أسمائه وصفاته، بائن من خلقه مستو على عرشه، وأن القرآنكلامه غير مخلوق ـ حيثما تلي ودرس وحفظ ـ ونعتقد أن اللّه تعالى اتخذ إبراهيم خليلا واتخذ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم خليلا وحبيبا، والخلة لهما منه، على خلاف ما قاله المعتزلة : إن الخلة الفقر والحاجة . إلى أن قال :
والخلة والمحبة صفتان للّه هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليها الكيف، فأما صفاته ـ تعالى ـ فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفي عنهما التشبيه، فالإيمان به واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط .(1/233)
/ومما نعتقده : أن اللّه أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم اللّه الغش والظلم، وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع؛ إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، إنما حرم اللّه ورسوله الفساد، لا الكسبوالتجارات؛ فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة، وإن مما نعتقد : أن اللّه لا يأمر بأكل الحلال، ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة؛ والمعتقدأن الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقلبون في الحرام، فهو مبتدع ضال، إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع، لا أنه مفقود من الأرض .
ومما نعتقده : أنا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه، والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عما قاله . فإن سأل سائل على سبيلالاحتىاط، جاز إلا من داخل الظلمة .
ومن ينزع عن الظلم، وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك، فالسؤال والتوقي؛ كما سأل الصديق غلامه، فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا، فلا يطلق عليه الحلال ولا الحرام، إلا أنه مشتبه؛ فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق . وأجازابن مسعود وسلمان الأكل منه وعليه التبعة، والناس طبقات، والدينُ الحنيفيةُ السمحة .
وإن مما نعتقد : أن العبد مادام أحكام الدار جارية عليه، فلا يسقط عنه / الخوف والرجاء، وكل من ادعى [ الأمن ] فهو جاهل باللّه، وبما أخبر به عن نفسه : { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }
[ الأعراف : 99 ] ، وقد أفردت كشف عورات من قال بذلك .(1/234)
ونعتقد أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه، فيبقى على أحكام القوة والاستطاعة؛ إذ لم يسقط اللّه ذلك عن الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية، والخروج إلى أحكام الأحدية المسَدِيَّة بعلائق الآخرية، فهو كافر لا محالة، إلا من اعتراه علة، أو رأفة، فصار معتوها أو مجنونًا أو مبرسمًا، وقد اختلط عقله أو لحقه غشية يرتفع عنه بها أحكام العقل، وذهب عنه التمييز والمعرفة، فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة .
ومن زعم الإشراف على الخلق، يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند اللّه ـ بغير الوحي المنزل من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ فهو خارج عن الملة، ومن ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم، وعلى ماذا يموتون عليه ويختم لهم ـ بغير الوحي من قول اللّه وقول رسوله ـ فقد باء بغضب من اللّه .
و [ الفراسة ] حق على أصول ما ذكرناه، وليس ذلك مما رسمناه في شيء، ومن زعم أن صفاته تعالى بصفاته ـ ويشير في ذلك إلى غير آية العظمة والتوفيق والهداية ـ وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة، فهو حلولي قائل باللاهوتية، والالتحام، وذلك كفر لا محالة .
/ ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة، ومن قال : إنها غير مخلوقة فقد ضاهي قول النصارى ـ النسطورية ـ في المسيح، وذلك كفر باللّه العظيم . ومن قال : إن شيئا من صفات اللّه حال في العبد، أو قال بالتبعيض على اللّه فقد كفر، والقرآن كلام اللّه ليس بمخلوق، ولا حال في مخلوق؛ وأنه كيفما تلي، وقرئ، وحفظ، فهو صفة اللّه ـ عز وجل ـ وليس الدرس من المدروس، ولا التلاوة من المتلو؛ لأنه ـ عز وجل ـ بجميع صفاته وأسمائه غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك فهو كافر .
ونعتقد أن القراءة [ الملحنة ] بدعة وضلالة .(1/235)
وأن [ القصائد ] بدعة، ومجراها على قسمين : فالحسن من ذلك من ذكر آلاء اللّه ونعمائه وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين، فذلك جائز، وتركه والاشتغال بذكر اللّه والقرآن والعلم أولى به، وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على اللّه كفر، واستماع الغناء والربعيات على اللّه كفر، والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكامالدين فسق، وعلى أحكام التواجد والغناء لهو ولعب .
وحرام على كل من يسمع القصائد والربعيات الملحنة ـ الجائي بين أهل الأطباع ـ على أحكام الذكر، إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد، ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يضاف إلى اللّه ـ تعالى ـ من ذلك، وما لا يليق به ـ عز وجل ـ مما هو منزه عنه، فيكون استماعه كما قال : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } الآية [ الزمر : 18 ] .
/وكل من جهل ذلك وقصد استماعه على اللّه على غير تفصيله فهو كفر لا محالة، فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى اللّه فغير جائز، إلا لمن عرف بما وصفت من ذكر اللّه ونعمائه، وما هو موصوفبه ـ عز وجل ـ مما ليس للمخلوقين فيه نعت ولا وصف، بل ترك ذلك أولى وأحوط، والأصل في ذلك أنها بدعة، والفتنة فيها غير مأمونة على استماع الغناء .
و [ الربعيات ] بدعة، وذلك مما أنكره المطلبي ومالك والثوري، ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل، وإسحاق، والاقتداء بهم أولى من الاقتداء بمن لا يعرفون في الدين، ولا لهم قدم عند المخلصين .
وبلغني أنه قيل لبشر بن الحارث : إن أصحابك قد أحدثوا شيئًا يقال له : القصائد . قال : مثل إيش ؟ قال : مثل قوله :
اصبري يانفس حتى تسكني دار الجليل
فقال : حسن . وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك ؟ قال : قلت : ببغداد . فقال : كذبوا ـ واللّه الذي لا إله غيره ـ لا يسكن ببغداد من يستمع ذلك .(1/236)
قال أبو عبد اللّه : ومما نقول ـ وهو قول أئمتنا ـ : إن الفقير إذا احتاج وصبر ولم يتكفف إلى وقت يفتح اللّه له كان أعلى، فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله صلى الله عليه وسلم : ( أن يأخذ أحدكم حَبْلَه ) الحديث، ونقول : إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط موسومة من التعفف والاستغناء /عما في أيدي الناس، ومن جعل السؤال حرفةـ وهو صحيح ـ فهو مذموم في الحقيقة خارج .
ونقول : إن المستمع إلى ( الغناء، والملاهي ) فإن ذلك كما قال ـ عليه السلام ـ : ( الغناء ينبت النفاق في القلب ) ، وإن لم يكفر فهو فسق لا محالة .
والذي نختار : قول أئمتنا : أن ترك المراء في الدين، والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم واسط يؤدى، وأن المرسل إليهم أفضل ـ فهو كافر باللّه، ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة فقد كفر . ا . هـ .
ومن متأخريهم الشيخ الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني، قال في كتاب [ الغنية ] : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن يعرف ويتيقن أن اللّه واحد أحد . إلى أن قال :
وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ] ؛ ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال : إنه في السماء على العرش، كما قال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] .(1/237)
/وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش قال : وكونه على العرش مذكورٌ في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف . وذكر كلاما طويلا لا يحتمله هذا الموضع، وذكر في سائر الصفات نحو هذا .
ولو ذكرت ما قاله العلماء في هذا لطال الكتاب جدًا .
قال أبوعمر بن عبد البر : روينا عن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والأوزاعي، ومعمر بن راشد [ في أحاديث الصفات ] أنهم كلهم قالوا : أمِرُّوها كما جاءت؛ قال أبو عمر : ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مننقل الثقات أو جاء عنه أصحابه ـ رضي اللّه عنهم ـ فهو علم يُدَان به، وما أحدث بعدهم ـ ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم ـ فهو بدعة وضلالة .
وقال في [ شرح الموطأ ] لما تكلم على حديث النزول، قال : هذا حديث ثابت النقل صحيح من جهة الإسناد، ولا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو منقول من طرق ـ سوى هذه ـ من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن اللّه في السماء على العرش استوى من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على [ المعتزلة ] في قولهم : إن اللّه ـ تعالى ـ في كل مكان بذاته المقدسة .
قال : والدليل على صحة ما قال أهل الحق قول اللّه ـ وذكر بعض الآيات ـ/ إلى أن قال : وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم .
وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا : أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله : { الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] : هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله .(1/238)
وقال أبوعمر أيضًا : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يَحُدُّون فيه صفة محصورة .
وأما أهل البدع ـ الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج ـ فكلهم ينكرونها، ولا يحملون شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب اللّه وسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة .
هذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب .
وفي عصره الحافظ أبوبكر البيهقي، مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري، وذبه عنهم، قال : في كتابه [ الأسماء والصفات ] :
باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين ـ لا من حيث الجارحة ـ لورود خبر/ الصادق به، قال اللّه تعالى : { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] ، وقال : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 46 ] .
وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب، مثل قوله في غير حديث، في حديث الشفاعة : ( يا آدم، أنت أبو البشر خلقك اللّه بيده ) ، ومثل قوله في الحديث المتفق عليه : ( أنت موسى اصطفاك اللّه بكلامه، وخط لك الألواح بيده ) ، وفي لفظ : ( وكتب لك التوراة بيده ) ، ومثل ما في صحيح مسلم ( أنه ـ سبحانه ـ غرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده ) ، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( تكون الأرض يوم القيامة خُبْزَةً واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خُبْزَته في السفر؛ نُزُلًا لأهل الجنة ) [ والخُبْزَة : هي عجين يوضع في الرماد الحار حتى ينضج . والمعنى : أن الله يميل الأرض من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي كالرغيف العظيم، ويكون ذلك طعامًا نزلا لأهل الجنة ] .(1/239)
وذكر أحاديث مثل قوله : ( بيدي الأمر ) ، ( والخير في يديك ) ، ( والذي نفس محمد بيده ) و ( إن اللّه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) ، وقوله : ( المقسطون عند اللّه على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين ) ، وقوله : ( يطوي اللّه السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول : أنا الملك، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول : أنا الملك، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ) .
وقوله : ( يمين اللّه ملأى لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء،/ وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع ) وكل هذه الأحاديث في الصحاح .
وذكر ـ أيضًا ـ قوله : ( إن اللّه لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان : اختر أيهما شئت . قال : اخترت يمين ربي، وكلتا يدىربي يمين مباركة ) ، وحديث : ( إن اللّه لما خلق آدم مسح على ظهره بيده ) إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع .
ثم قال البيهقي : أما المتقدمون من هذه الأمة، فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب، وكذلك قال في [ الاستواء على العرش ] وسائر الصفات الخبرية، مع أنه يحكي قول بعض المتأخرين .
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب [ إبطال التأويل ] : لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات اللّه، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روى عن الإمام أحمد وسائر الأئمة .(1/240)
وذكر بعض كلام الزهري، ومكحول، ومالك، والثوري، والأوزاعي والليث، وحماد ابن زيد، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ووَكِيع، وعبد الرحمن بن مهدي، والأسود بن سالم، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب . وفي حكاية ألفاظهم طول . إلى أن قال :
/ويدل على إبطال التأويل : أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغا لكانوا أسبق إليه؛ لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة .
وقال أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام، في كتابه الذي صنفه في [ اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين ] وذكر فرق الروافض، والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة وغيرهم .
ثم قال : [ مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث ] جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة : الإقرار باللّه وملائكته، وكتبه ورسله، وبما جاء عن اللّه تعالى، وما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا يردون شيئا من ذلك، وأن اللّه واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النارحق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور، وأن اللّه على عرشه، كما قال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] وكما قال : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] ، وأن له عينين بلا كيف، كما قال : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } [ القمر : 14 ] ، وأن له وجهًا كما قال : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ الرحمن : 27 ] .(1/241)
وأن أسماء اللّه ـ تعالى ـ لا يقال : إنها غير اللّه، كما قالت المعتزلة والخوارج . وأقروا أن للّه علمًا، كما قال : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] ، وكما قال : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } [ فصلت : 47 ] ، وأثبتوا له السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن اللّه كما نفته المعتزلة، وأثبتوا للّه القوة، كما قال : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] ، وذكر مذهبهم في القدر . إلى أن قال :
ويقولون : إن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف، من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال : اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال : غير مخلوق، ويقرون أن اللّه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن اللّه محجوبون، قال عز وجل : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] ، وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء . إلى أن قال :
ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون : مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار . إلى أن قال :
وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ لا يقولون : كيف، ولا لم؛ لأن ذلك بدعة عندهم . إلى أن قال :(1/242)
ويقرون أن اللّه يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى : { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [ الفجر : 22 ] ، وأن اللّه يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] . إلى أن قال :
ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الآثار، والنظر في الفقه، مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والشكاية، وتفقد المآكل والمشارب .
قال : فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا باللّه، وهو المستعان
فصل
وأما قول القائل : الرحمة : ضعف وخَوَر في الطبيعة، وتألم على المرحوم، فهذا باطل . أما أولا : فلأن الضعف والخَوَر مذموم من الآدميين، والرحمة ممدوحة؛ وقد قال تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] ، وقد نهى الله عباده عن الوهن والحزن؛ فقال تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] ، ونَدَبَهُم إلى الرحمة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لا تُنْزَعُ الرحمة إلا من شَقِيِّ ) ، وقال : ( من لا يَرْحَمْ لا يُرحَمْ ) ،وقال : ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) .
ومحال أن يقول : لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي، ولكن لما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور ـ كما في رحمة النساء ونحو ذلك ـ ظن الغالط أنها كذلك مطلقًا .(1/243)
وأيضاً، فلو قدر أنها في حق المخلوقين مستلزمة لذلك، لم يجب أنتكون في حق الله ـ تعالى ـ مستلزمة لذلك، كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم من النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه .
وكذلك الوجود، والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجًا إلى خالق يجعلنا موجودين، والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا، فنحن وصفاتنا وأفعالنا مقرونون بالحاجة إلى الغير، والحاجة لنا أمر ذاتي لا يمكن أن نخلو عنه، وهو ـ سبحانه ـ الغني له أمر ذاتي، لا يمكن أن يخلو عنه، فهو بنفسه حي قيوم واجب الوجود،ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء .
فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا، وما اتصفنا به من الكمال من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، ولا يقدر ولا يعلم؛ لكون ذلك ملازمًا للحاجة فينا . فكذلك الرحمة وغيرها، إذا قدر أنها في حقنا ملازمة للحاجة والضعف، لم يجب أن تكون في حق الله ملازمة لذلك .
وأيضًا، فنحن نعلم بالاضطرار : أنا إذا فرضنا موجودين؛ أحدهما : يرحم غيره، فيجلب له المنفعة ويدفع عنه المضرة، والآخر : قد استوى عنده هذا وهذا، وليس عنده ما يقتضى جلب منفعة، ولا دفع مضرة، كان الأول أكمل .
سُئل : عمن زعم أن [ الإمام أحمد ] كان من أعظم النفاة للصفات ـ صفات الله تعالى ـ وإنما الذين انتسبوا إليه من أتباعه في المذهب ظنوا أنه كان من أهل الإثبات المنافي للتعطيل، جهلاً منهم بما جرى له، فإنه اتفق له أمر عجيب .(1/244)
وهو أن ناسا من [ الزنادقة ] قد علموا زهد أحمد وورعه وتقواه، وأن الناس يتبعونه فيما يذهب إليه، فجمعوا له كلامًا في الإثبات، وعزوه إلى تفاسير وكتب أحاديث، وأضافوا ـ أيضًا ـ إلى الصحابة والأئمة وغيرهم، حتى إليه هو ـ شيئًا كثيرًا من ذلك على لسانه ـ وجعلوا ذلك في صندوق مقفل، وطلبوا من الإمام أحمد أن يستودع ذلك الصندوق منهم، وأظهروا أنهم على سفر ونحو ذلك، وأنهم غرضهم الرجوع إليه ليأخذوا تلك الوديعة، وهم يعلمون أنه لا يتعرض لما في الصندوق، فلم يزل عنده ذلك إلى أن توفاه الله، فدخل أتباعه، والذين أخذوا عنه العلم، فوجدوا ذلك الصندوق وفتحوه، فوجودا فيه تلك [ الأحاديث الموضوعة ] و [ التفاسير والنقول ] الدالة على الإثبات . فقالوا : لو لم يكن الإمام أحمد يعتقد ما في هذه الكتب، لما أودعها هذا الصندوق واحترز عليها، فقرؤوا تلك الكتب، وأشهروها في جملة ما أشهروا من تصانيفه وعلومه وجهلوا مقصود أولئك الزنادقة، الذين قصدوا فساد هذه الأمة الإسلامية، كما حصل مقصود بولص بإفساد الملة النصرانية، بالرسائل التي وضعها لهم .
فأجاب :
من قال تلك الحكاية المفتراة عن أحمد بن حنبل، وأنه أودع عنده صناديق فيها كتب لم يعرف ما فيها حتى مات، وأخذها أصحابه فاعتقدوا ما فيها، فهذا يدل على غاية جهل هذا المتكلم، فإن أحمد لم يأخذ عنه المسلمون كلمة واحدة من صفات الله ـ تعالى ـ قالها هو، بل الأحاديث التي يرويها أهل العلم في صفات الله ـ تعالى ـ كانت موجودة عند الأمة قبل أن يولد الإمام أحمد، وقد رواها أهل العلم غير الإمام أحمد، فلا يحتاج الناس فيها إلى رواية أحمد، بل هي معروفة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يخلق أحمد .(1/245)
وأحمد إنما اشتهر أنه إمام أهل السنة، والصابر على المحنة؛ لما ظهرت محن [ الجهمية ] الذين ينفون صفات الله ـ تعالي ـ ويقولون : إن الله لا يرى في الآخرة، وأن القرآن ليس هو كلام الله، بل هو مخلوق من المخلوقات، وأنه تعالى ليس فوق السموات، وأن محمدًا لم يعرج إلى الله، وأضلوا بعض ولاة الأمر، فامتحنوا الناس بالرغبة والرهبة، فمن الناس من أجابهم ـ رغبة ـ ومن الناس من أجابهم ـ رهبة ـ ومنهم من اختفى فلم يظهر لهم .
وصار من لم يجبهم قطعوا رزقه وعزلوه عن ولايته، وإن كان أسيرا لم يفكوه ولم يقبلوا شهادته؛ وربما قتلوه أو حبسوه .
و [ المحنة ] مشهورة معروفة، كانت في إمارة المأمون، والمعتصم،والواثق، ثم رفعها المتوكل، فثبت الله الإمام أحمد، فلم يوافقهم على تعطيل صفات الله ـ تعالى ـ وناظرهم في العلم فقطعهم، وعذبوه، فصبر على عذابهم، فجعله الله من الأئمة الذين يهدون بأمره، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] .
فمن أعطى الصبر واليقين، جعله الله إمامًا في الدين . وما تكلم به من [ السنة ] فإنما أضيف له لكونه أظهره وأبداه لا لكونه أنشأه وابتدأه، وإلا فالسنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم . فأصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد بن عبد الله، وما قاله الإمام أحمد هو قول الأئمة قبله، كمالك والثوري، والأوزاعي، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وقول التابعين قبل هؤلاء،وقول الصحابة الذين أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث [ السنة ] معروفة في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام .(1/246)
والنقل عن أحمد وغيره من أئمة السنة، متواتر بإثبات صفات الله ـ تعالى ـ وهؤلاء متبعون في ذلك ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم . فأما أن المسلمين يثبتون عقيدتهم في أصول الدين، بقوله، أو بقول غيره من العلماء، فهذا لا يقوله إلا جاهل .
وأحمد بن حنبل نهى عن تقليده وتقليد غيره من العلماء في الفروع، و قال : لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا . وقال : لا تقلدني، ولا مالكًا، ولا الثوري،ولا الشافعي، وقد جرى في ذلك على سنن غيره من الأئمة، فكلهم نهوا عن تقليدهم، كما نهى الشافعي عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، فكيف يقلد أحمد وغيره في أصول الدين ؟
وأصحاب أحمد، مثل أبي داود السِّجِسْتاني، و إبراهيم الحربي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي زُرْعَة، وأبي حاتم، والبخاري، ومسلم، وبَقِيّ بن مَخْلد، وأبي بكر الأثرم، وابنيه صالح وعبد الله، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ومحمد بن مسلم ابن وارة، وغير هؤلاء الذين هم من أكابر أهل العلم والفقه والدين، لا يقبلون كلام أحمد ولا غيره إلا بحجة يبينها لهم، وقد سمعوا العلم كما سمعه هو، وشاركوه في كثير من شيوخه، ومن لم يلحقوه أخذوا عن أصحابه الذين هم نظراؤه، وهذه الأمور يعرفها من يعرف أحوال الإسلام وعلمائه .
فَصْل(1/247)
وقد أثبت اللّه في القرآن إسلامًا بلا إيمان في قوله تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [ الحجرات : 14 ] . وقد ثبت في الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص، قال : أعطى النبي صلىالله عليه وسلم رهطاً ـ وفي رواية قسم قسماً ـ وترك فيهم من لم يعطه، وهو أعجبهم إلى، فقلت : يا رسول اللّه، مالك عن فلان ؟ فواللّه إني لأراه مؤمناً، فقال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( أو مسلمًا ) . أقولها ثلاثا، ويرددها على رسول اللّه صلىالله عليه وسلم ثلاثاً، ثم قال : ( إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يَكُبَّهُ اللّه على وجهه في النار ) ، وفي رواية : فضرب بين عنقي وكتفي، وقال : ( أقتال أي سعد ؟ ! ) .
فهذا الإسلام الذي نفى اللّه عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم، هل هو إسلام يثابون عليه ؟ أم هو من جنس إسلام المنافقين ؟ فيه قولان مشهوران للسلف والخلف :
أحدهما : أنه إسلام يثابون عليه، ويخرجهم من الكفر والنفاق . وهذا مروي عن الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النَّخَعِي، /وأبي جعفر الباقر، وهو قول حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد اللّه التَّسْتُرِي، وأبي طالب المكي، وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق .
قال أحمد بن حنبل : حدثنا مُؤَمَّل بن إسحاق عن عمار بن زيد قال : سمعت هشاماً يقول : كان الحسن ومحمد يقولان : مسلم، ويهابان : مؤمن، وقال أحمد بن حنبل : حدثنا أبو سلمة الخُزَاعِي، قال : قال مالك، وشريك، وأبو بكر بن عياش، وعبد العزيز ابن أبي سلمة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد : الإيمان : المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان، يجعل الإيمان خاصاً، والإسلام عاماً .(1/248)
والقول الثاني : أن هذا الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين، قالوا : وهؤلاء كفار، فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر . وهذا اختيار البخاري، ومحمد بن نصر المروزي، والسلف مختلفون في ذلك .
قال محمد بن نصر : حدثنا إسحاق، أنبأنا جَرِير، عن مُغِيرة، قال : أتيت إبراهيم النَّخَعِي، فقلت : إن رجلاً خاصمني يقال له : سعيد العَنْبَرِيّ، فقال إبراهيم : ليس بالعنبري ولكنه زُبٍيْدِيّ . قوله : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] فقال : هو الاستسلام، فقال إبراهيم : لا، هو الإسلام .
وقال : حدثنا محمد بن يحيي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن /مجاهد : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } ، قال : استسلمنا خوف السبي والقتل، ولكن هذا منقطع، سفيان لم يدرك مجاهداً، والذين قالوا : إن هذا الإسلام هو كإسلام المنافقين، لا يثابون عليه، قالوا : لأن اللّه نفى عنهم الإيمان، ومن نفى عنه الإيمان فهو كافر، وقال هؤلاء : الإسلام هو الإيمان، وكل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، ومن جعل الفساق مسلمين غير مؤمنين، لزمه ألاّ يجعلهم داخلين في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } [ المائدة : 6 ] ، وفي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [ الجمعة : 9 ] وأمثال ذلك، فإنهم إنما دعوا باسم الإيمان، لا باسم الإسلام، فمن لم يكن مؤمناً لم يدخل في ذلك .(1/249)
وجواب هذا أن يقال : الذين قالوا من السلف : إنهم خرجوا من الإيمان إلى الإسلام، لم يقولوا : إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج، والمعتزلة . وأهل السنة الذين قالوا هذا يقولون : الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيماناً يخرجون به من النار . لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب، ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله،وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان؛ لأن الخطاب بذلك هو لمن دخل في الإيمان وإن لم يستكمله، فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان، فكيف يكون قد أتمه قبل الخطاب ؟ ! وإلا كنا قد تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل الخطاب، وإنما صار من الإيمان بعد أن أمروا به، فالخطاب بـ { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا } ، غير قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } [ الحجرات : 15 ] ونظائرها،فإن الخطاب بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أولاً : يدخل فيه من أظهر الإيمان، وإن كان منافقاً في الباطن يدخل فيه في الظاهر، فكيف لا يدخل فيه من لم يكن منافقاً، وإن لم يكن من المؤمنين حقاً .
وحقيقته أن من لم يكن من المؤمنين حقاً، يقال فيه : إنه مسلم، ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان ؟ هذا هو الذي تنازعوا فيه . فقيل : يقال : مسلم، ولا يقال : مؤمن . وقيل : بل يقال : مؤمن .(1/250)
والتحقيق أن يقال : إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطي اسم الإيمان المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر اللّه به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره، وإنما الكلام في اسم المدح المطلق، وعلى هذا فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث طوائف : يدخل فيه المؤمن حقاً . ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة، وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن ينفي عنه الإسلام والإيمان، وفي الظاهر يثبت له الإسلام والإيمان الظاهر . ويدخل فيه الذين أسلموا وإن لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن معهم جزء من الإيمان والإسلام يثابون عليه .
/ثم قد يكونون مفرطين فيما فرض عليهم، وليس معهم من الكبائر ما يعاقبون عليه كأهل الكبائر، لكن يعاقبون على ترك المفروضات، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم، فإنهم قالوا : آمنا، من غير قيام منهم بما أمروا به باطناً وظاهراً . فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل اللّه، وقد كان دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد وقد يكونون من أهل الكبائر المعرضين للوعيد، كالذين يصلون ويزكون ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون ولكن بينهم نزاع لفظي : هل يقال : إنهم مؤمنون، كما سنذكره إن شاء اللّه ؟(1/251)
وأما الخوارج والمعتزلة، فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام؛ فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد، فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام، لكن الخوارج تقول : هم كفار، والمعتزلة تقول : لا مسلمون ولا كفار، ينزلونهم منزلة بين المنزلتين، والدليل على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين، أنه قال : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } ثم قال : { وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [ الحجرات : 14 ] ، فدل على أنهم إذا أطاعوا اللّه ورسوله مع هذا الإسلام، آجرهم اللّه على الطاعة، والمنافق عمله حابط في الآخرة .(1/252)
وأيضاً، فإنه وصفهم بخلاف صفات المنافقين، فإن المنافقين وصفهم بكفر في قلوبهم، وإنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، كما قال تعالي : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } الآيات [ البقرة : 8 : 10 ] ، وقال : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، فالمنافقون يصفهم في القرآن بالكذب، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وبأن في قلوبهم من الكفر ما يعاقبون عليه، وهؤلاء لم يصفهم بشيء من ذلك، لكن لما ادعوا الإيمان قال للرسول : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } .(1/253)
ونفى الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين، كما في قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 ] ثم قال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2 : 4 ] ، ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك، يكون منافقاً من أهل الدرك الأسفل من النار، بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب، فنفى عنه كما ينفي سائر الأسماء عمن ترك بعض ما يجب عليه، فكذلك الأعراب لم يأتوا بالإيمان الواجب، فنفى عنهم لذلك وإن كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يثابون عليه .(1/254)
وهذا حال أكثر الداخلين في الإسلام ابتداء، بل حال أكثر من لم يعرف /حقائق الإيمان، فإن الرجل إذا قوتل حتى أسلم، كما كان الكفار يقاتلون حتى يسلموا، أو أسلم بعد الأسْرِ، أو سمع بالإسلام فجاء فأسلم، فإنه مسلم ملتزم طاعة الرسول، ولم تدخل إلى قلبه المعرفة بحقائق الإيمان، فإن هذا إنما يحصل لمن تيسرت له أسباب ذلك، إما بفهم القرآن وإما بمباشرة أهل الإيمان والاقتداء بما يصدر عنهم من الأقوال والأعمال، وإما بهداية خاصة من اللّه يهديه بها . والإنسان قد يظهر له من محاسن الإسلام ما يدعوه إلى الدخول فيه، وإن كان قد ولد عليه وتربى بين أهله فإنه يحبه، فقد ظهر له بعض محاسنه وبعض مساوئ الكفار . وكثير من هؤلاء قد يرتاب إذا سمع الشبه القادحة فيه، ولا يجاهد في سبيل اللّه، فليس هو داخلاً في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ الحجرات : 15 ] ، وليس هو منافقاً في الباطن مضمراً للكفر، فلا هو من المؤمنين حقاً ولا هو من المنافقين، ولا هو ـ أيضاً ـ من أصحاب الكبائر، بل يأتي بالطاعات الظاهرة ولا يأتي بحقائق الإيمان التي يكون بها من المؤمنين حقاً، فهذا معه إيمان وليس هو من المؤمنين حقاً، ويثاب على ما فعل من الطاعات؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } ؛ولهذا قال : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 ] يعني : في قولكم : { آمنا } .(1/255)
يقول : إن كنتم صادقين فاللّه يمن عليكم أن هداكم للإيمان، وهذا/ يقتضي أنهم قد يكونون صادقين في قولهم : { آمنا } . ثم صدقهم، إما أن يراد به اتصافهم بأنهم آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه أولئك هم الصادقون . وإما أن يراد به أنهم لم يكونوا كالمنافقين، بل معهم إيمان وإن لم يكن لهم أن يدعوا مطلق الإيمان، وهذا أشبه ـ واللّه أعلم ـ لأن النسوة الممتحنات قال فيهن : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } [ الممتحنة : 10 ] ، ولا يمكن نفي الرِّيبِ عنهن في المستقبل، ولأن اللّه إنما كذب المنافقين ولم يكذب غيرهم، وهؤلاء لم يكذبهم ولكن قال : { لَّمْ تُؤْمِنُوا } كما قال : ( لا يؤمن أحدُكُمْ حتى يحب لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه ) ، وقوله : ( لا يزني الزاني حين يزني وهومؤمن ) ،و ( لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَهُ ) وهؤلاء ليسوا منافقين .
وسياق الآية يدل على أن اللّه ذمهم؛ لكونهم مَنُّوا بإسلامهم لجهلهم وجفائهم، وأظهروا ما في أنفسهم مع علم اللّه به، فإن اللّه تعالى قال : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [ الحجرات : 16 ] ، فلو لم يكن في قلوبهم شيء من الدين لم يكونوا يعلمون اللّه بدينهم، فإن الإسلام الظاهر يعرفه كل أحد، ودخلت الباء في قوله : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } لأنه ضُمِّن معنى : يخبرون ويحدثون، كأنه قال : أتخبرونه وتحدثونه بدينكم وهو يعلم ما في السموات وما في الأرض . وسياق الآية يدل على أن الذي أخبروا به اللّه هو ما ذكره اللّه عنهم من قولهم : { آمنا } فإنهم أخبروا عما في قلوبهم .(1/256)
/وقد ذكر المفسرون أنه لما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،ويحلفون أنهم مؤمنون صادقون، فنزل قوله تعالى : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } [ الحجرات : 16 ] ، وهذا يدل على أنهم كانوا صادقين أولاً في دخولهم في الدين؛ لأنه لم يتجدد لهم بعد نزول الآية جهاد حتى يدخلوا به في الآية، إنما هوكلام قالوه، وهو سبحانه قال : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] ، ولفظ : { لما } ينفي به ما يقرب حصوله ويحصل غالباً كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } [ آل عمران : 142 ] ، وقد قال السُّدِّيّ : نزلت هذه الآية في أعراب مُزَيْنَة وجُهيْنَة وأسْلَمَ، وأشْجَع وغِفَار، وهم الذين ذكرهم اللّه في سورة الفتح وكانوا يقولون : آمنا باللّه؛ ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى الحُدَيْبِيَةِ تخلّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية .(1/257)
وعن مقاتل : كانت منازلهم بين مكة والمدينة، وكانوا إذا مرت بهم سَرِيَّةٌ من سرايا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا : آمنا؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم،فلما سار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية استنفرهم،فلم ينفروا معه . وقال مجاهد : نزلت في أعراب بني أسد بن خُزَيْمة، ووصف غيره حالهم فقال : قدموا المدينة في سنة مُجْدِبَةٍ، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارهم، وكانوا يمنون على رسول اللّه/ صلى الله عليه وسلم يقولون : أتيناك بالأثقال والعيال، فنزلت فيهم هذه الآية . وقد قال قتادة في قوله : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 ] قال : منوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين جاؤوا فقالوا : إنا أسلمنا بغير قتال، لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال اللّه لنبيه : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ } .
وقال مُقاتِل بن حَيَّان : هم أعراب بني أسد بن خزيمة، قالوا : يا رسول اللّه، أتيناك بغير قتال، وتركنا العشائر والأموال، وكل قبيلة من العرب قاتلتك حتى دخلوا كرها في الإسلام، فلنا بذلك عليك حق، فأنزل اللّه تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فله بذلك المن عليكم، وفيهم أنزل اللّه : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] ، ويقال : من الكبائر التي ختمت بنار، كل موجبة من ركبها ومات عليها لم يتب منها .(1/258)
وهذا كله يبين أنهم لم يكونوا كفاراً في الباطن، ولا كانوا قد دخلوا فيما يجب من الإيمان، وسورة الحجرات قد ذكرت هذه الأصناف، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] ، ولم يصفهم بكفر ولا نفاق، لكن هؤلاء يخشى عليهم الكفر والنفاق؛ ولهذا ارتد بعضهم لأنهم لم يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، وقال بعد ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } الآية [ الحجرات : 6 ] وهذه الآية نزلت في الوليد بن عُقْبَة، وكان قد كذب فيما أخبر .
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطَلِق ليقبض صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فسار بعض الطريق ثم رجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : إنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم البعث إليهم، فنزلت هذه الآية . وهذه القصة معروفة من وجوه كثيرة، ثم قال تعالى في تمامها : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [ الحجرات : 7 ] ، وقال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } الآية [ الحجرات : 9 ] ، ثم نهاهم عن أن يسخر بعضهم ببعض، وعن اللَّمْزِ والتَّنَابُزِ بالألقاب وقال : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } [ الحجرات : 11 ] ، وقد قيل : معناه : لا تسميه فاسقاً ولا كافراً بعد إيمانه، وهذا ضعيف، بل المراد : بئس الاسم أن تكونوا فساقا بعد إيمانكم، كما قال تعالى في الذي كذب : { إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فسماه فاسقاً .(1/259)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سِبَابُ المسلم فُسُوقٌ وقتاله كُفْر ) ، يقول : فإذا ساببتم المسلم وسخرتم منه ولمزتموه، استحققتم أن تسموا فساقاً، وقد قال في آية القَذْف : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ النور : 4 ] . يقول : فإذا أتيتم بهذه الأمور التي تستحقون بها أن تسموا /فساقاً كنتم قد استحققتم اسم الفسوق بعد الإيمان، وإلا فهم في تنابزهم ما كانوا يقولون : فاسق، كافر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبعضهم يُلَقِّب بعضاً .
وقد قال طائفة من المفسرين في هذه الآية : لا تسميه بعد الإسلام بدينه قبل الإسلام، كقوله لليهودي إذا أسلم : يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس وطائفة من التابعين، كالحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، والقُرَظِيّ . وقال عِكْرِمَة : هو قول الرجل : يا كافر، يا منافق . وقال عبد الرحمن بن زيد : هو تسمية الرجل بالأعمال، كقوله : يا زاني، يا سارق، يا فاسق . وفي تفسير العَوْفِيّ عن ابن عباس قال : هو تعيير التائب بسيئات كان قد عملها، ومعلوم أن اسم الكفر، واليهودية، والزاني، والسارق وغير ذلك من السيئات ليست هي اسم الفاسق، فعلم أن قوله : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ } لم يرد به تسمية المسبوب باسم الفاسق، فإن تسميته كافرًا أعظم، بل إن الساب يصير فاسقًا لقوله : ( سِبَابُ المسلم فُسُوق وقتاله كُفْر ) ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ الحجرات : 11 ] ،فجعلهم ظالمين إذا لم يتوبوا من ذلك وإن كانوا يدخلون في اسم المؤمنين، ثم ذكر النهي عن الغيبة، ثم ذكر النهي عن التفاخر بالأحساب، وقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، ثم ذكر قول الأعراب : { آمنا } .(1/260)
فالسورة تنهى عن هذه المعاصى والذنوب التي فيها تَعَدٍّ على الرسول وعلى/ المؤمنين، فالأعراب المذكورون فيها من جنس المنافقين . وأهل السباب والفسوق والمنادين من وراء الحجرات وأمثالهم، ليسوا من المنافقين؛ ولهذا قال المفسرون : إنهم الذين استنفروا عام الحديبية، وأولئك وإن كانوا من أهل الكبائر فلم يكونوا في الباطن كفاراً منافقين .
قال ابن إسحاق : لما أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العمرة ـ عمرة الحديبية ـ استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه خوفاً من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عني اللّه بقوله : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } [ الفتح : 11 ] أي : ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك { يّقٍولٍونّ بٌأّلًسٌنّتٌهٌم مَّا لّيًسّ فٌي قٍلٍوبٌهٌمً } أي : ما يبالون، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وهذا حال الفاسق الذي لا يبالي بالذنب، والمنافقون قال فيهم : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ المنافقون : 5، 6 ] ، ولم يقل مثل هذا في هؤلاء الأعراب . بل الآية دليل على أنهم لو صدقوا في طلب الاستغفار نفعهم استغفار الرسول لهم ثم قال : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 16 ] ، فوعدهم الله بالثواب على طاعة الداعي إلى الجهاد، وتوعدهم بالتولي عن طاعته .(1/261)
وهذا كخطاب أمثالهم من أهل الذنوب والكبائر، بخلاف من هو كافر/ في الباطن، فإنه لا يستحق الثواب بمجرد طاعة الأمر حتى يؤمن أولاً، ووعيده ليس على مجرد توليه عن الطاعة في الجهاد، فإن كفره أعظم من هذا .
فهذا كله يدل على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك الفرائض، وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض الله عليهم من الجهاد وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم، لم يكونوا من الصادقين الذين وصفهم، وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام .
وقول المفسرين : لم يكونوا مؤمنين، نفى لما نفاه الله عنهم من الإيمان كما نفاه عن الزاني، والسارق، والشارب، وعمن لا يأمن جاره بَوَائِقَه، وعمن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وعمن لا يجيب إلى حكم الله ورسوله، وأمثال هؤلاء . وقد يحتج على ذلك بقوله : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } [ الحجرات : 11 ] كما قال : ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ) ،فذم من استبدل اسم الفسوق بعد الإيمان؛ فدل على أن الفاسق لا يسمى مؤمناً،فدل ذلك على أن هؤلاء الأعراب من جنس أهل الكبائر لا من جنس المنافقين .(1/262)
وأما ما نقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي، فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار، أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإسلام المؤلفة قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نَجْد وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل/من النار،بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في قلوبهم تكذيب ومعاداة للرسول،ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان ولا استبصروا فيه،وهؤلاء قد يحسن إسلام أحدهم فيصير من المؤمنين كأكثر الطُّلَقَاء، وقد يبقى من فساق الملة، ومنهم من يصير منافقاً مرتاباً إذا قال له منكر ونكير : ( ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول : هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتهَ )
وقد تقدم قول من قال : إنهم أسلموا بغير قتال، فهؤلاء كانوا أحسن إسلاماً من غيرهم، وأن اللّه إنما ذمهم لكونهم منوا بالإسلام وأنزل فيهم : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] وإنهم من جنس أهل الكبائر .(1/263)
وأيضًا، قوله : { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] و { لما } إنما ينفي بها ما ينتظر ويكون حصوله مترقباً، كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] ، وقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [ البقرة : 214 ] ، فقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم، فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء لا يكون قد حصل في قلبه الإيمان، لكنه يحصل فيما بعد كما في الحديث : ( كان الرجل يسلم أول النهار رَغْبَةً في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس ) ؛ ولهذا كان عامة الذين أسلموا رغبة ورهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك، وقوله : { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } / أمر لهم بأن يقولوا ذلك، والمنافق لا يؤمر بشيء، ثم قال : { وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [ الحجرات : 14 ] والمنافق لا تنفعه طاعة اللّه ورسوله حتى يؤمن أولاً .(1/264)
وهذه الآية مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره، على أنه يستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام . قال الميموني : سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في : أنا مؤمن إن شاء اللّه ؟ فقال : أقول : مؤمن إن شاء اللّّه، وأقول : مسلم ولا أستثني، قال : قلت لأحمد : تفرق بين الإسلام والإيمان ؟ فقال لي : نعم، فقلت له : بأي شيء تحتج ؟ قال لي : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] ، وذكر أشياء . وقال الشَّالَنْجِيّ : سألت أحمد عمن قال : أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث، ولا أعلم ما أنا عند اللّّه ؟ قال : ليس بمرجئ .
وقال أبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي : الاستثناء جائز، ومن قال : أنا مؤمن حقاً، ولم يقل : عند اللّه، ولم يستثن، فذلك عندي جائز وليس بمرجئ، وبه قال أبو خَيْثَمَة وابن أبي شيبة، وذكر الشالنجي أنه سأل أحمد بن حنبل عن المُصِرِّ على الكبائر يطلبها بجهده، أي : يطلب الذنب بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم؛ هل يكون مصراً من كانت هذه حاله ؟ قال : هو مصر مثل قوله : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام، ومن نحو قوله : ( ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا/ يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ) ومن نحو قول ابن عباس في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ، فقلت له : ما هذا الكفر ؟ قال : كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه . وقال ابن أبي شيبة : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصاً من إيمانه .(1/265)
قال الشالنجي : وسألت أحمد عن الإيمان والإسلام . فقال : الإيمان قول وعمل، والإسلام إقرار، قال : وبه قال أبو خيثمة . وقال ابن أبي شيبة : لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام، وإذا كان على المخاطبة فقال : قد قبلت الإيمان، فهو داخل في الإسلام، وإذا قال : قد قبلت الإسلام فهو داخل في الإيمان . وقال محمد بن نصر المروزي : وحكي غير هؤلاء أنه سأل أحمد بن حنبل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) فقال : من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمنا، ومن أتى دون ذلك، يريد دون الكبائر، أسميه مؤمناً ناقص الإيمان .
قلت : أحمد بن حنبل كان يقول تارة بهذا الفرق، وتارة كان يذكر الاختلاف ويتوقف، وهو المتأخر عنه، قال أبو بكر الأثرم في [ السنة ] : سمعت أبا عبد اللّه يسأل عن الاستثناء في الإيمان : ما تقول فيه ؟ فقال : أما أنا فلا أعيبه، أي من الناس من يعيبه . قال أبو عبد الله : إذا كان يقول : إن الإيمان قول /وعمل يزيد وينقص، فاستثنى مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثنى للعمل . قال أبو عبد اللّه : قال اللّه تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] أي : أن هذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل القبور : ( وإنَّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ) أي : لم يكن يشك في هذا، وقد استثناه وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وعليها نُبْعَثُ إن شاء الله ) : يعني : من القبر، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه ) قال : هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان .(1/266)
قلت لأبي عبد اللّه : وكأنك لا ترى بأساً ألا يستثنى . فقال : إذا كان ممن يقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله : إن قوماً تضعف قلوبهم عن الاستثناء، كالتعجب منهم، وسمعت أبا عبد اللّّه وقيل له : شَبَابَة أي شيء تقول فيه ؟ فقال : شبابة كان يدعى الإرجاء، قال : وحكى عن شبابة قول أخبث من هذه الأقاويل، ما سمعت عن أحد بمثله، قال أبو عبد اللّه : قال شبابة : إذا قال فقد عمل بلسانه كما يقولون، فإذا قال فقد عمل بجارحته، أي : بلسانه حين تكلم به، ثم قال أبو عبد اللّه : هذا قول خبيث، ما سمعت أحداً يقول به ولا بلغني، قيل لأبي عبد اللّه : كنت كتبت عن شبابة شيئًا ؟ فقال : نعم، كنت كتبت عنه قديمًا يسيراً قبل أن نعلم أنه يقول بهذا، قلت لأبي عبد اللّه : كتبت عنه بعد ؟ قال : لا ولا حرف . قيل لأبي عبد اللّه : يزعمون أن سفيان كان يذهب إلى الاستثناء في الإيمان . فقال : هذا مذهب سفيان، المعروف به الاستثناء، قلت لأبي عبد اللّه : من يرويه عن /سفيان ؟ فقال : كل من حكى عن سفيان في هذا حكاية كان يستثنى، قال : وقال وَكِيع عن سفيان : الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ؟ ولا ندري ما هم عند اللّه . قلت لأبي عبد اللّّه : فأنت بأي شيء تقول ؟ فقال : نحن نذهب إلى الاستثناء .(1/267)
قلت لأبي عبد اللّه : فأما إذا قال : أنا مسلم فلا يستثنى ؟ فقال : نعم، لا يستثنى إذا قال : أنا مسلم، قلت لأبي عبد اللّّه : أقول : هذا مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ، وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه، فذكر حديث مَعْمَر عن الزهري، فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، قال أبو عبد اللّّه : حدثناه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، قيل لأبي عبد الله : فنقول : الإيمان يزيد وينقص ؟ فقال : حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك، فذكر قوله : ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال كذا، أخرجوا من كان في قلبه مثقال كذا ) فهو يدل على ذلك وذكر عند أبي عبد اللّه عيسى الأحمر، وقوله في الإرجاء فقال : نعم، وذلك خبيث القول، وقال أبو عبد الله : حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا حماد بن زيد، سمعت هشاماً يقول : كان الحسن ومحمد يقولان : مسلم . ويهابان : مؤمن .
قلت لأبي عبد اللّّه : رواه غير سُوَيْد ؟ قال : ما علمت بذلك، وسمعت أبا عبد اللّّه يقول : الإيمان قول وعمل . قلت لأبي عبد اللّّه : فالحديث الذي يروى : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) قال : ليس كل أحد يقول : إنها مؤمنة، يقولون : أعتقها . قال : ومالك سمعه من هذا الشيخ هلال بن علي لا يقول : ( فإنها مؤمنة ) / وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذاك فحكمها حكم المؤمنة، وهذا معناه . قلت لأبي عبد اللّّه : تفرق بين الإيمان والإسلام ؟ فقال : قد اختلف الناس فيه، وكان حماد بن زيد ـ زعموا ـ يفرق بين الإيمان والإسلام، قيل له : من المرجئة ؟ قال : الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل .(1/268)
قلت : فأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سلب جميع الإيمان فلم يبق معه منه شيء، كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فإنه قد صرح في غير موضع بأن أهل الكبائر معهم إيمان يخرجون به من النار، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ، وليس هذا قوله ولا قول أحد من أئمة أهل السنة، بل كلهم متفقون على أن الفُسَّاق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار، هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين، لكن إذا كان معه بعض الإيمان لم يلزم أن يدخل في الاسم المطلق الممدوح، وصاحب الشرع قد نفى الاسم عن هؤلاء فقال : ( لا يرني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ، وقال : ( لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه ) وقال : ( لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَه ) وأقسم على ذلك مرات وقال : ( المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم )
والمعتزلة ينفون عنه اسم الإيمان بالكلية، واسم الإسلام ـ أيضاً ـ ويقولون : ليس معه شيء من الإيمان والإسلام، ويقولون : ننزله منزلة بين منزلتين، فهم يقولون : إنه يخلد في النار لا يخرج منها بالشفاعة، وهذا هو الذي أنكر عليهم،/ وإلا لو نفوا مطلق الاسم وأثبتوا معه شيئًا من الإيمان يخرج به من النار لم يكونوا مبتدعة، وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب، لكنه من أهل الوعيد، وإنما ينازع في ذلك من يقول : الإيمان لا يتبعض من الجهمية والمرجئة، فيقولون : إنه كامل الإيمان، فالذي ينفى إطلاق الاسم يقول : الاسم المطلق مقرون بالمدح واستحقاق الثواب، كقولنا : مُتَّقٍ، وبَرٌّ، وعلى الصراط المستقيم، فإذا كان الفاسق لا تطلق عليه هذه الأسماء، فكذلك اسم الإيمان، وأما دخوله في الخطاب، فلأن المخاطب باسم الإيمان كل من معه شيء منه؛ لأنه أمر لهم، فمعاصيهم لا تسقط عنهم الأمر .(1/269)
وأما ما ذكره أحمد في الإسلام، فاتبع فيه الزهري حيث قال : فكانوا يرون الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، في حديث سعد بن أبي وقاص، وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة،وتصوم رمضان، وتحج البيت ) . وقد يراد به الكلمة فقط من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام . لكن قد يقال : إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال : الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا ـ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ ألزموا بالأعمال الظاهرة : الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة، بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها .
/وأحمد إن كان أراد في هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتان فقط، فكل من قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه، والرواية الأخرى : لا يكون مسلماً حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصل كان كافراً . والثالثة : أنه كافر بترك الزكاة ـ أيضاً . والرابعة : أنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ما إذا لم يقاتله، وعنه أنه لو قال : أنا أؤديها ولا أدفعها إلى الإمام، لم يكن للإمام أن يقتله، وكذلك عنه رواية أنه يكفر بترك الصيام والحج، وإذا عزم أنه لا يحج أبداً . ومعلوم أنه على القول بكفر تارك المباني يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام، وهذا صحيح، فإنه يشهد له بالإسلام ولا يشهد له بالإيمان الذي في القلب، ولا يستثنى في هذا الإسلام، لأنه أمر مشهور، لكن الإسلام ـ الذي هو أداء الخمس كما أمر به ـ يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها .(1/270)
وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال : قيل : هو الإيمان، وهما اسمان لمسمى واحد . وقيل : هو الكلمة، وهذان القولان لهما وجه سنذكره، لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام، فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا / هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له : مؤمن ؟ قد تقدم الكلام فيه . وكذلك هل يستلزم الإسلام للإيمان ؟ هذا فيه النزاع المذكور وسنبينه، والوعد الذي في القرآن بالجنة وبالنجاة من العذاب، إنما هو معلق باسم الإيمان وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه .(1/271)
وبالإسلام بعث اللّه جميع النبيين، قال تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] ،وقال : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } [ آل عمران : 19 ] ، وقال نوح : { يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 71، 72 ] ، وقد أخبر أنه لم ينج من العذاب إلا المؤمنين فقال : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] ، وقال : { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] وقال نوح : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ هود : 29 ] .(1/272)
وكذلك أخبر عن إبراهيم أن دينه الإسلام فقال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 130 : 132 ] ،/وقال : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] ، وبمجموع هذين الوصفين علق السعادة فقال : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] ، كما علقه بالإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] .(1/273)
وهذا يدل على أن الإسلام الذي هو إخلاص الدين للّه، مع الإحسان وهو العمل الصالح الذي أمر اللّه به، هو والإيمان المقرون بالعمل الصالح متلازمان، فإن الوعد على الوصفين وعد واحد وهو الثواب، وانتفاء العقاب، فإن انتفاء الخوف علة تقتضي انتفاء ما يخافه؛ ولهذا قال : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لم يقل : لا يخافون، فهم لا خوف عليهم وإن كانوا يخافون اللّه، ونفى عنهم أن يحزنوا؛ لأن الحزن إنما يكون على ماض، فهم لا يحزنون بحال لا في القبر ولا في عَرَصَات القيامة، بخلاف الخوف فإنه قد يحصل لهم قبل دخول الجنة ولا خوف عليهم في الباطن، كما قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] .(1/274)
وأما الإسلام المطلق المجرد، فليس في كتاب اللّه تعليق دخول الجنة به، كما في كتاب اللّه تعليق دخول الجنة بالإيمان المطلق المجرد، كقوله : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ِ } [ الحديد : 12 ] ، وقال : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [ يونس : 2 ] . وقد وصف الخليل ومن اتبعه بالإيمان كقوله : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] ، ووصفه بذلك فقال : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } [ الأنعام : 81 : 83 ] ، ووصفه بأعلى طبقات الإيمان، وهو أفضل البرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم .(1/275)
والخليل إنما دعا بالرزق للمؤمنين خاصة فقال : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ البقرة : 126 ] ، وقال : { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] بعد قوله : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ْ } [ يونس : 83 ] ، وقال : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 87 ] ، وقد ذكرنا البشرى المطلقة للمسلمين في قوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] .(1/276)
وقد وصف اللّه السحرة بالإسلام والإيمان معاً، فقالوا : { آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [ الأعراف : 121،122 ] ، وقالوا : { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } [ الأعراف : 126 ] ، وقالوا : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 51 ] وقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الأعراف : 126 ] ، ووصف اللّه أنبياء بني إسرائيل بالإسلام في قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } [ المائدة : 44 ] ، والأنبياء كلهم مؤمنون، ووصف الحواريين بالإيمان والإسلام فقال تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] و { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] .
وحقيقة الفرق : أن الإسلام دين . والدين مصدر دان يدين ديناً : إذا خضع وذل، و [ دين الإسلام ] الذي ارتضاه اللّه وبعث به رسله هو الاستسلام للّه وحده، فأصله في القلب هو الخضوع للّه وحده بعبادته وحده دون ما سواه . فمن عبده، وعبد معه إلهاً آخر، لم يكن مسلماً، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، والإسلام هو الاستسلام للّه، وهو الخضوع له، والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة : أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب العمل، عمل القلب والجوارح .(1/277)
وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له؛ فلهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم [ الإيمان ] بإيمان القلب وبخضوعه، وهو الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، وفسر [ الإسلام ] باستسلام مخصوص، هو المباني الخمس . وهكذا في سائر كلامه صلى الله عليه وسلم يفسر الإيمان بذلك النوع ويفسر الإسلام بهذا، وذلك النوع أعلى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب ) فإن الأعمال الظاهرة يراها الناس، وأما / ما في القلب من تصديق ومعرفة وحب وخشية ورجاء فهذا باطن، لكن له لوازم قد تدل عليه، واللازم لا يدل إلا إذا كان ملزومًا؛ فلهذا كان من لوازمه ما يفعله المؤمن والمنافق، فلا يدل . . [ بياض بالأصل ] ففي حديث عبد اللّه بن عمرو وأبي هريرة جميعاً أن النبي صلىالله عليه وسلم قال : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَهُ الناس على دمائهم وأموالهم ) ، ففسر المسلم بأمر ظاهر وهو سلامة الناس منه؛ وفسر المؤمن بأمر باطن، وهو أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وهذه الصفة أعلى من تلك، فإن من كان مأمونًا سلم الناس منه، وليس كل من سلموا منه يكون مأمونًا . فقد يترك أذاهم وهم لا يأمنون إليه، خوفًا أن يكون ترك أذاهم لرغبة ورهبة؛ لا لإيمان في قلبه .(1/278)
وفي حديث عبيد بن عمير عن عمرو بن عَبَسَة عن النبي صلىالله عليه وسلم؛ أن رجلاً قال للنبي صلىالله عليه وسلم : ما الإسلام ؟ قال : ( إطعام الطعام، ولينُ الكلام ) قال : فما الإيمان ؟ قال : ( السَّمَاحَة والصبر ) فإطعام الطعام عمل ظاهر يفعله الإنسان لمقاصد متعددة، وكذلك لين الكلام، وأما السماحة والصبر فخُلُقَانِ في النفس، قال تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] ، وهذا أعلى من ذاك، وهو أن يكون صباراً شكوراً فيه سماحة بالرحمة للإنسان وصبر على المكاره، وهذا ضد الذي خُلِقَ هَلُوعاً إذا مسه الشر جَزُوعاً، وإذا مسه الخير منوعا، فإن ذاك ليس فيه سماحة عند النعمة، ولا صبر عند المصيبة .
/وتمام الحديث : فأي الإسلام أفضل ؟ قال : ( من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ) قال : يا رسول اللّّه، أي المؤمنين أكمل إيماناً ؟ قال : ( أحسنهم خُلُقاً ) قال : يا رسول اللّّه، أي القتل أشرف ؟ قال : ( من أرِيقَ دَمُهُ، وعُقِرَ جَوَادُهُ ) قال : يا رسول اللّه، فأي الجهاد أفضل ؟ قال : ( الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّّه ) . قال : يا رسول اللّه، فأي الصدقة أفضل ؟ قال : ( جُهْدِ المُقِلِّ ) . قال : يا رسول اللّه، فأي الصلاة أفضل ؟ قال : ( طول القُنُوت ) . قال : يا رسول اللّه، فأي الهجرة أفضل ؟ قال : ( من هَجَرَ السُّوءَ ) . وهذا محفوظ عن عبيد بن عمير، تارة يروى مرسلاً، وتارة يروى مسنداً، وفي رواية : أي الساعات أفضل ؟ قال : ( جَوْفَ الليل الغَابِر ) وقوله : ( أفضل الإيمان السماحة والصبر ) يروى من وجه آخر عن جابر عن النبي صلىالله عليه وسلم .(1/279)
وهكذا في سائر الأحاديث، إنما يفسر الإسلام بالاستسلام للّه بالقلب مع الأعمال الظاهرة، كما في الحديث المعروف الذي رواه أحمد عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ أنه قال : واللّه يا رسول اللّه، ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به ؟ قال : ( الإسلام ) . قال : وما الإسلام ؟ قال : ( أن تسلم قلبك للّه وأن توجه وجهك إلى اللّه، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل اللّه من عبد أشرك بعد إسلامه ) . وفي رواية قال : ( أن تقول : أسلمت وجهي للّه وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكل مسلم على مسلم مُحَرَّم ) وفي لفظ تقول : ( أسلمت نفسي للّه، وخليت وجهي إليه ) . وروى محمد بن نصر من حديث خالد/ بن معدان عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( إن للإسلام صُوًى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد اللّه ولا تشرك به شيئًا، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسلم على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك، ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم إن سَكَتَّ عنهم،وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئًا فهو سهم في الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نَبَذَ الإسلام وراء ظهره ) .(1/280)
وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] قال مجاهد وقتادة : نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، وهذا لا ينافي قول من قال : نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب أو فيمن لم يسلم؛لأن هؤلاء كلهم مأمورون ـ أيضًا ـ بذلك، والجمهور يقولون : { فٌي بسٌَلًم } أي : في الإسلام . وقالت طائفة : هو الطاعة، وكلاهما مأثور عن ابن عباس، وكلاهما حق، فإن الإسلام هو الطاعة كما تقدم أنه من باب الأعمال . وأما قوله : { كَآفَّةً } فقد قيل : المراد ادخلوا كلكم . وقيل : المراد به ادخلوا في الإسلام جميعه، وهذا هو الصحيح، فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره، وإنما يؤمر بما يقدر عليه، وقوله : { ادْخُلُوا } خطاب لهم كلهم فقوله : { كَآفَّةً } إن أريد به مجتمعين لزم أن يترك الإنسان الإسلام حتى يسلم غيره فلا يكون الإسلام مأموراً به إلا بشرط موافقة الغير له كالجمعة، وهذا لا يقوله مسلم، وإن أريد بكافة : أي : ادخلوا جميعكم، فكل أوامر القرآن كقوله : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الحديد : 7 ] ، { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } [ النور : 56 ] كلها من هذا الباب، وما قيل فيها كافة، وقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] أي : قاتلوهم كلهم لا تدعوا مشركاً حتى تقاتلوه، فإنها أنزلت بعد نبذ العهود، ليس المراد : قاتلوهم مجتمعين أو جميعكم، فإن هذا لا يجب، بل يقاتلون بحسب المصلحة، والجهاد فرض على الكفاية، فإذا كانت فرائض الأعيان لم يؤكد المأمورين فيها بكافة، فكيف يؤكد بذلك في فروض الكفاية ؟ ! وإنما المقصود تعميم المقاتلين . وقوله : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] فيه احتمالان .(1/281)
والمقصود أن اللّّه أمر بالدخول في جميع الإسلام كما دل عليه هذا الحديث، فكل ما كان من الإسلام وجب الدخول فيه، فإن كان واجباً على الأعيان لزمه فعله، وإن كان واجباً على الكفاية اعتقد وجوبه، وعزم عليه إذا تعين، أو أخذ بالفضل ففعله، وإن كان مستحباً اعتقد حسنه وأحب فعله، وفي حديث جرير : أن رجلاً قال : يا رسول اللّه، صِفْ لي الإسلام . قال : ( تشهد أن لا إله إلا اللّه، وتُقِرُّ بما جاء من عند اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) قال : أقررت، في قصة طويلة فيها : أنه وقع في أخَاقِيقَ جُرْذَان، وأنه قتل وكان جائعا، وملكان يَدُسَّان في شِدْقِه من ثمار الجنة، فقوله : ( وتقر بما جاء من عند اللّه ) . هو الإقرار بأن محمداً رسول اللّه فإنه هو الذي جاء بذلك .(1/282)
وفي الحديث الذي يرويه أبو سليمان الداراني : حديث الوفد الذين قالوا : نحن المؤمنون، قال : ( فما علامة إيمانكم ؟ ) قالوا : خمس عشرة خَصْلة : خمس أمرتنا رسلك أن نعمل بهن، وخمس أمرتنا رسلك أن/نؤمن بهن، وخمس تَخَلَّقْنَا بها في الجاهلية، ونحن عليها في الإسلام إلا أن تكره منها شيئًا . قال : ( فما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها ؟ ) قالوا : أن نشهد أن لا إله إلا اللّه،وأن محمداً رسول اللّه، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت . قال : ( وما الخمس التي أمرتكم أن تؤمنوا بها ؟ ) قالوا : أمرتنا أن نؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، قال : ( وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية، وثَبَتُّمْ عليها في الإسلام ؟ ) قالوا : الصبر عند البَلاء،والشكر عند الرَّخَاء والرِّضَي بِمُرِّ القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء، فقال النبي صلىالله عليه وسلم : ( علماء حكماء، كادوا من صِدْقِهم أن يكونوا أنبياء ) . فقال صلىالله عليه وسلم : ( وأنا أزيدكم خمسًا فتتم لكم عشرون خصلة : إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غداً تزولون وعنه منتقلون، واتقوا اللّه الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون ) .
فقد فرقوا بين الخمس التي يعمل بها فجعلوها الإسلام، والخمس التي يؤمن بها فجعلوها الإيمان، وجميع الأحاديث المأثورة عن النبي صلىالله عليه وسلم تدل على مثل هذا .(1/283)
وفي الحديث الذي رواه أحمد، من حديث أيوب، عن أبي قِلابة، عن رجل من أهل الشام عن أبيه أن النبي صلىالله عليه وسلم قال له : ( أسْلِمْ تَسْلَمْ ) قال : / وما الإسلام ؟ قال : ( أن تُسْلِم قلبك للّه، ويَسْلَم المسلمون من لسانك ويدك ) قال : فأي الإسلام أفضل ؟ قال : ( الإيمان ) قال : وما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت ) قال : فأي الإيمان أفضل ؟ قال : ( الهجرة ) قال : وما الهجرة ؟ قال : ( أن تهجر السوء ) قال : فأي الهجرة أفضل ؟ قال : ( الجهاد ) قال : وما الجهاد ؟ قال : ( أن تجاهد الكفار إذا لقيتهم ولا تُغَلُّ ولا تَجْبنُ ) ثم قال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما ) قالها ثلاثاً ( حجة مبرورة؛ أو عمرة ) وقوله : ( هما أفضل الأعمال ) أي بعد الجهاد؛ لقوله : ( ثم عملان ) ، ففي هذا الحديث جعل الإيمان خصوصاً في الإسلام، والإسلام أعم منه، كما جعل الهجرة خصوصًا في الإيمان والإيمان أعم منه، وجعل الجهاد خصوصًا من الهجرة والهجرة أعم منه . فالإسلام أن تعبد اللّه وحده لا شريك له مخلصًا له الدين .
وهذا دين اللّه الذي لا يقبل من أحد دينًا غيره،لا من الأولين ولا من الآخرين، ولا تكون عبادته مع إرسال الرسل إلينا إلا بما أمرت به رسله، لا بما يضاد ذلك؛ فإن ضد ذلك معصية، وقد ختم اللّه الرسل بمحمد صلىالله عليه وسلم فلا يكون مسلماً إلا من شهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإنسان في الإسلام . فمن قال : الإسلام الكلمة وأراد هذا، فقد صدق، ثم لابد من التزام ما أمر به الرسول من الأعمال الظاهرة،كالمباني الخمس،ومن ترك من ذلك شيئًا نقص إسلامه/ بقدر ما نقص من ذلك، كما في الحديث : ( من انتقص منهن شيئًا فهو سَهْمٌ من الإسلام تَرَكَهُ ) .(1/284)
وهذه الأعمال إذا عملها الإنسان مخلصاً للّه ـ تعالى ـ فإنه يثيبه عليها، ولا يكون ذلك إلا مع إقراره بقلبه أنه لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فيكون معه من الإيمان هذا الإقرار، وهذا الإقرار لا يستلزم أن يكون صاحبه معه من اليقين ما لا يقبل الرَّيْب، ولا أن يكون مجاهداً ولا سائر ما يتميز به المؤمن عن المسلم الذي ليس بمؤمن، وخلق كثير من المسلمين باطناً وظاهراً معهم هذا الإسلام بلوازمه من الإيمان، ولم يصلوا إلى اليقين والجهاد، فهؤلاء يثابون على إسلامهم وإقرارهم بالرسول مجملاً، وقد لا يعرفون أنه جاء بكتاب، وقد لا يعرفون أنه جاءه ملك، ولا أنه أخبر بكذا، وإذا لم يبلغهم أن الرسول أخبر بذلك لم يكن عليهم الإقرار المفصل به، لكن لابد من الإقرار بأنه رسول اللّه، وأنه صادق في كل ما يخبر به عن اللّه .
ثم الإيمان الذي يمتاز به فيه تفصيل، وفيه طمأنينة ويقين، فهذا متميز بصفته وقدره في الكمية والكيفية، فإن أولئك معهم من الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله وتفصيل المعاد والقدر ما لا يعرفه هؤلاء .(1/285)
وأيضاً، ففي قلوبهم من اليقين والثبات ولزوم التصديق لقلوبهم ما ليس مع هؤلاء، وأولئك هم المؤمنون حقاً، وكل مؤمن لابد أن يكون مسلماً، فإن الإيمان يستلزم الأعمال، وليس كل مسلم مؤمناً هذا الإيمان المطلق؛ لأن/ الاستسلام للّه والعمل له لا يتوقف على هذا الإيمان الخاص، وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة للّه ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم اللّه ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شُكِّكوا لشَكُّوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفاراً ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الرَّيْبَ، ولا عندهم من قوة الحب للّه ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم اللّه عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق .(1/286)
وكذلك إذا تعين عليهم الجهاد ولم يجاهدوا، كانوا من أهل الوعيد؛ ولهذا لما قدم النبي صلىالله عليه وسلم المدينة أسلم عامة أهلها، فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق . فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة، ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين ابتلوا فظهر صدقهم، قال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 : 3 ] ، وقال تعالى : { مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [ آل عمران : 179 ] ، وقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [ الحج : 11 ] ؛ ولهَذا ذم اللَّه المنافقين بأنهم دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه بقوله تعالى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } إلى قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 1،3 ] ، وقال في الآية الأخرى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } إلى قوله : { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ التوبة : 64 : 66 ] ، فقد أمره أن يقول لهم : قد كفرتم بعد(1/287)
إيمانكم .
وقول من يقول عن مثل هذه الآيات : إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم، لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال : قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق، وتكلموا بالاستهزاء، صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين، وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [ التوبة : 73، 74 ] فهنا قال : { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } .(1/288)
فهذا الإسلام قد يكون من جنس إسلام الأعراب فيكون قوله : { بعد إيمانكم } و { بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } سواء، وقد يكونون ما زالوا منافقين، فلم يكن لهم حال كان معهم فيها من الإيمان شيء، لكونهم أظهروا الكفر والردة؛ ولهذا دعاهم إلى التوبة فقال : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا } بعد التوبة عن التوبة { يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } وهذا إنما هو لمن أظهر الكفر، فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة؛ ولهذا ذكر هذا في سياق قوله : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ؛ ولهذا قال في تمامها : { وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ التوبة : 47 ] .(1/289)
وهؤلاء الصنف الذين كفروا بعد إسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم فإن هؤلاء حلفوا باللّه ما قالوا، وقد قالوا كلمة الكفر التي كفروا بها بعد إسلامهم وهَمُّوا بما لم ينالوا، وهو يدل على أنهم سعوا في ذلك، فلم يصلوا إلى مقصودهم؛ فإنه لم يقل : هموا بما لم يفعلوا، لكن { بٌمّا لّمً يّنّالٍوا } فصدر منهم قول وفعل، قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [ التوبة : 65 ] فاعترفوا واعتذروا؛ ولهذا قيل : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ التوبة : 66 ] فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفراً، وكان كفراً كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه، وهكذا قال غير واحد من السلف /في صفة المنافقين، الذين ضرب لهم المثل في سورة البقرة : أنهم أبصروا ثم عموا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا . وكذلك قال قتادة ومجاهد : ضرب المثل لإقبالهم على المؤمنين، وسماعهم ما جاء به الرسول، وذهاب نورهم، قال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 17، 18 ] إلى ما كانوا عليه .(1/290)
وأما قول من قال : المراد بالنور : ما حصل في الدنيا من حقن دمائهم وأموالهم، فإذا ماتوا سلبوا ذلك الضوء كما سلب صاحب النار ضوءه، فلفظ الآية يدل على خلاف ذلك، فإنه قال : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } ويوم القيامة يكونون في العذاب كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } الآية [ الحديد : 13، 14 ] ، وقد قال غير واحد من السلف : إن المنافق يعطي يوم القيامة نوراً ثم يطفأ؛ ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا } [ التحريم : 8 ] . قال المفسرون : إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ، سألوا اللّه أن يتم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة .(1/291)
/قال ابن عباس : ليس أحد من المسلمين إلا يعطي نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، وأما المؤمن فيشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهو يقول : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } ، وهو كما قال : فقد ثبت في [ الصحيحين ] من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ـ وهو ثابت من وجوه أخرـ عن النبي صلىالله عليه وسلم . ورواه مسلم من حديث جابر، وهو معروف من حديث ابن مسعود ـ وهو أطولها ـ ومن حديث أبي موسى في الحديث الطويل الذي يذكر فيه أنه ينادى يوم القيامة : ( لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم اللّه في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول : أنا ربكم، فيقولون : نعوذ باللّه منك، وهذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم اللّه في صورته التي يعرفون، فيقول أنا ربكم، فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ) . وفي رواية : ( فيكشف عن ساقه ) . وفي رواية فيقول : ( هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها، فيقولون : نعم . فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياء إلا جعل اللّه ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خَرَّ على قفاه . فتبقى ظهورهم مثل صَيَاصِي البقر فيرفعون رؤوسهم فإذا نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويطفأ نور المنافقين فيقولون : ذرونا نقتبس من نوركم ) .(1/292)
فبين أن المنافقين يحشرون مع المؤمنين في الظاهر، كما كانوا معهم في الدنيا ثم وقت الحقيقة، هؤلاء يسجدون لربهم، وأولئك لا يتمكنون من السجود،/فإنهم لم يسجدوا في الدنيا له، بل قصدوا الرياء للناس، والجزاء في الآخرة هو من جنس العمل في الدنيا، فلهذا أعطوا نوراً ثم طفئ؛ لأنهم في الدنيا دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه؛ ولهذا ضرب اللّه لهم المثل بذلك، وهذا المثل، هو لمن كان فيهم آمن ثم كفر، وهؤلاء الذين يعطون في الآخرة نوراً ثم يطفأ .
ولهذا قال : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] إلى الإسلام في الباطن . وقال قتادة ومقاتل : لا يرجعون عن ضلالهم . وقال السدي : لا يرجعون إلى الإسلام، يعني في الباطن، وإلا فهم يظهرونه، وهذا المثل إنما يكون في الدنيا، وهذا المثل مضروب لبعضهم وهم الذين آمنوا ثم كفروا . وأما الذين لم يزالوا منافقين فضرب لهم المثل الآخر، وهو قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [ البقرة : 19 ] ، وهذا أصح القولين، فإن المفسرين اختلفوا : هل المثلان مضروبان لهم كلهم، أو هذا المثل لبعضهم ؟ على قولين . والثاني هو الصواب؛ لأنه قال : { أَوْ كَصَيِّبٍ } وإنما يثبت بها أحد الأمرين، فدل ذلك على أنهم مثلهم هذا وهذا، فإنهم لا يخرجون عن المثلين بل بعضهم يشبه هذا وبعضهم يشبه هذا، ولو كانوا كلهم يشبهون المثلين لم يذكر [ أو ] بل يذكر الواو العاطفة .
وقول من قال : [ أو ] هاهنا للتخييرـ كقولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ـ ليس بشيء، لأن التخيير يكون في الأمر والطلب لا يكون في الخبر، وكذلك قول من قال : { أّوً } بمعنى الواو أو لتشكيك المخاطبين،/ أو الإبهام عليهم ليس بشيء، فإن اللّه يريد بالأمثال البيان والتفهيم، لا يريد التشكيك والإبهام .(1/293)
والمقصود تفهيم المؤمنين حالهم، ويدل على ذلك أنه قال في المثل الأول : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } وقال في الثاني : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 19، 20 ] فبين في المثل الثاني أنهم يسمعون ويبصرون ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم، وفي الأول كانوا يبصرون ثم صاروا في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمي . وفي الثاني إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فلهم حالان : حال ضياء، وحال ظلام، والأولون بقوا في الظلمة . فالأول حال من كان في ضوء فصار في ظلمة، والثاني حال من لم يستقر لا في ضوء ولا في ظلمة، بل تختلف عليه الأحوال التي توجب مقامه واسترابته .(1/294)
يبين هذا أنه ـ سبحانه ـ ضرب للكفار ـ أيضاً ـ مثلين بحرف [ أو ] فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [ النور : 39، 40 ] . فالأول/ مثل الكفر الذي يحسب صاحبه أنه على حق وهو على باطل، كمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فإنه لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم؛ فلهذا مثل بسراب بقيعة، والثاني مثل الكفر الذي لا يعتقد صاحبه شيئاً، بل هو في ظلمات بعضها فوق بعض، من عظم جهله لم يكن معه اعتقاد أنه على حق، بل لم يزل جاهلاً ضالاً في ظلمات متراكمة .
وأيضاً، فقد يكون المنافق والكافر تارة متصفاً بهذا الوصف وتارة متصفًا بهذا الوصف، فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم، وبكل حال فليس ما ضرب له هذا المثل هو مماثل لما ضرب له هذا المثل؛ لاختلاف المثلين صورة ومعنى؛ ولهذا لم يضرب للإيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد فضرب مثله بالنور، وأولئك ضرب لهم المثل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة أو بالظلمات المتراكمة، وكذلك المنافق يضرب له المثل بمن أبصر ثم عمى، أو هو مضطرب يسمع ويبصر ما لا ينتفع به . فتبين أن من المنافقين من كان آمن ثم كفر باطناً، وهذا مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسير، أنه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب :(1/295)
منها : أمر القبلة، لما حولت ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن اللّه بها الناس، قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } [ البقرة : 143 ] /قال : أي : إذا حولت، والمعنى : أن الكعبة هي القبلة التي كان في علمنا أن نجعلها قبلتكم؛ فإن الكعبة ومسجدها وحرمها أفضل بكثير من بيت المقدس وهي البيت العتيق، وقبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء، ولم يأمر اللّه قط أحداً أن يصلي إلى بيت المقدس، لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما؛ فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة، ولكن جعلناها أولاً قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس،فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فكان في شرعها هذه الحكمة .(1/296)
وكذلك ـ أيضاً ـ لما انهزم المسلمون يوم أحد وشُجَّ وجه النبي صلىالله عليه وسلم وكسرت رَبََِاعِيَتُهُ، ارتد طائفة نافقوا، قال تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 139 : 141 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [ آل عمران : 166، 167 ] فقوله : { وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } ظاهر فيمن أحدث نفاقاً وهو يتناول من لم ينافق قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقاً ثانياً، وقوله : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم بل إما أن يتساويا، وإما أن يكونوا للإيمان أقرب، وكذلك كان، فإن ابن أبيّ لما /انخزل عن النبي صلىالله عليه وسلم يوم أحد، انخزل معه ثلث الناس، قيل : كانوا نحو ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق .(1/297)
فإن ابن أبي كان مظهراً لطاعة النبي صلىالله عليه وسلم والإيمان به؛ وكان كل يوم جمعة يقوم خطيباً في المسجد يأمر باتباع النبي صلىالله عليه وسلم ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس إن ظهر، وكان معظماً في قومه، كانوا قد عزموا على أن يتوجوه ويجعلوه مثل الملك عليهم، فلما جاءت النبوة بطل ذلك، فحمله الحسد على النفاق، وإلا فلم يكن له قبل ذلك دين يدعو إليه؛ وإنما كان هذا في اليهود، فلما جاء النبي صلىالله عليه وسلم بدينه وقد أظهر اللّه حسنه ونوره، مالت إليه القلوب لا سيما لما نصره اللّه يوم بدر، ونصره على يهود بني قينقاع، صار معه الدين والدنيا، فكان المقتضى للإيمان في عامة الأنصار قائماً، وكان كثير منهم يعظم ابن أبي تعظيماً كثيراً ويواليه، ولم يكن ابن أبي أظهر مخالفة توجب الامتياز، فلما انخزل يوم أحد وقال : يدع رأيي ورأيه، ويأخذ برأي الصبيان ـ أو كما قال ـ انخزل معه خلق كثير، منهم من لم ينافق قبل ذلك .(1/298)
وفي الجملة، ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب اللّه به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من /المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان، ينقص إيمانهم كثيراً وينافق أكثرهم أو كثير منهم . ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة . وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسول باطناً وظاهراً لكن إيماناً لا يثبت على المحنة . ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم .(1/299)
وهؤلاء من الذين قالوا : { آمنا } فقيل لهم : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] أي : الإيمان المطلق، الذي أهله هم المؤمنون حقًا، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب اللّه ـ تعالى ـ كما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب، والريب يكون في علم القلب وفي عمل القلب، بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم؛ ولهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علماً وعملاً، وإلا فإذا كان عالماً بالحق، ولكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعًا عظيماً، لم يكن صاحب يقين قال تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] .
/وكثيراً ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوب اللّه عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، ويدفعه اللّه عنه . والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قالت الصحابة : يا رسول اللّه، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يَخرَّ من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به . فقال : ( ذاك صريح الإيمان ) ، وفي رواية : ما يتعاظم أن يتكلم به . قال : ( الحمد للّه الذي رد كيده إلى الوسوسة ) أي : حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب، هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو، فدافعه حتى غلبه، فهذا أعظم الجهاد، والصريح الخالص، كاللبن الصريح . وإنما صار صريحاً، لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية، ودفعوها فخلص الإيمان فصار صريحاً .(1/300)
ولابد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فصير كافراً أو منافقاً، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمناً وإما أن يصير منافقاً؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع اللّه ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة؛/فإنه عدوهم يطلب صدهم عن اللّه، قال تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } [ فاطر : 6 ] ؛ ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم، فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقيناً وطمأنينة وشفاء، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : { هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 138 ] ، وقال تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، وقال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] .(1/301)
وهذا مما يجده كل مؤمن من نفسه، فالشيطان يريد بوساوسه أن يشغل القلب عن الانتفاع بالقرآن، فأمر اللّه القارئ، إذا قرأ القرآن، أن يستعيذ منه، قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 98 : 100 ] ، فإن المستعيذ باللّه مستجير به، لاجئ إليه، مستغيث به من الشيطان، فالعائذ بغيره مستجير به؛ فإذا عاذ العبد بربه كان مستجيراً به متوكلاً عليه فيعيذه اللّه من الشيطان ويجيره منه، ولذلك قال اللّه تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فصلت : 34 : 36 ] .
وفي الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : ( إني لأعلم كلمة لو/ قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ) . فأمر ـ سبحانه ـ بالاستعاذة عند طلب العبد الخير؛ لئلاً يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه من الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات، وعند ما يأمره الشيطان بالسيئات؛ ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم : ( لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق اللّه ؟ فمن وجد ذلك فليستعذ باللّه ولينته ) ، فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شر أو يمنعه من خير، كما يفعل العدو مع عدوه .(1/302)
وكلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك من غيره بحيث تكون قوته على ذلك أقوى، ورغبته وإرادته في ذلك أتم، كان ما يحصل له ـ إن سلمه اللّه من الشيطان ـ أعظم، وكان ما يفتتن به ـ إن تمكن منه الشيطان ـ أعظم؛ ولهذا قال الشعبي : كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم .
وأهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل، وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم، وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب، ولهذا أمر النبي صلىالله عليه وسلم بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة؛ وأولئك لهم/نهمة في العلم والعبادة، فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم ـ وهم يظنونها هدي، فيطيعونها ـ ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم؛ كما قال ابن مسعود لأصحابه : كونوا ينابيع العلم،مصابيح الحكمة، سُرُج الليل،جُدَد القلوب، أحْلاس البيوت، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض .
وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن باللّه وملائكته وكتبه، قال : ومثل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا يكون ذو جسم حي لا قلب له، ولا ذو قلب بغير/ جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى منفصلان، ومثلهما ـ أيضًا ـ مثل حبة لها ظاهر وباطن وهي واحدة، لا يقال : حبتان لتفاوت صفتهما . فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان، وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام وهو من أعمال القلوب .(1/303)
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإسلام علانية،والإيمان في القلب ) وفي لفظ : ( الإيمان سر ) فالإسلام أعمال الإيمان، والإيمان عقود الإسلام، فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقد . ومثل ذلك مثل العمل الظاهر والباطن، أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح، ومثله قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) أي : لا عمل إلا بعقد وقصد؛ لأن [ إنما ] تحقيق للشيء ونفي لما سواه، فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات، وعمل القلوب من النيات، فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان لا يصح الكلام إلا بهما؛ لأن الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، وكذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان؛ ولذلك حين عدد اللّه نعمه على الإنسان بالكلام ذكر الشفتين مع اللسان في قوله : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } [ البلد : 8،9 ] بمعنى : ألم نجعله ناظراً متكلما، فعبر عن الكلام باللسان والشفتين لأنهما مكان له وذكر الشفتين؛لأن الكلام الذي جرت به النعمة لا يتم إلا بهما .
ومثل الإيمان والإسلام ـ أيضاً ـ كفسطاط قائم في الأرض له ظاهر /وأطناب،وله عمود في باطنه، فالفسطاط مثل الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط،والعمود الذي في وسط الفسطاط مثله كالإيمان لا قوام للفسطاط إلا به . فقد احتاج الفسطاط إليها، إذ لا قوام له ولا قوة إلا بهما، كذلك الإسلام في أعمال الجوارح لا قوام له إلا بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب لا نفع له إلا بالإسلام، وهو صالح الأعمال .(1/304)
وأيضاً، فإن اللّه قد جعل ضد الإسلام والإيمان واحداً، فلولا أنهما كشيء واحد في الحكم والمعني ما كان ضدهما واحداً فقال : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } [ آل عمران : 86 ] ، وقال : { أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 80 ] فجعلَ ضدهما الكفر . قال : وعلى مثل هذا أخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام من صنف واحد، فقال في حديث ابن عمر : ( بني الإسلام على خمس ) ،وقال في حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس أنهم سألوه عن الإيمان فذكر هذه الأوصاف، فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر، وأن الإيمان والعمل قرينان،لا ينفع أحدهما بدون صاحبه .
قال : فأما تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بين الإيمان والإسلام،فإن ذلك تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني، التي وصفناها أن تكون عقوداً من تفصيل أعمال الجوارح، مما يوجب الأفعال/ الظاهرة التي وصفها أن تكون علانية، لا أن ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضاد، ليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم، قال : ويجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن، فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف جسمه .
قال : وأيضاً، فإن الأمة مجتمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكره من عقود القلب في حديث جبريل من وصف الإيمان ولم يعمل بما ذكره من وصف الإسلام أنه لا يسمى مؤمناً، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان أنه لا يكون مسلماً، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة .(1/305)
قلت : كأنه أراد بذلك إجماع الصحابة ومن اتبعهم، أو أنه لا يسمى مؤمناً في الأحكام، وأنه لا يكون مسلماً إذا أنكر بعض هذه الأركان، أو علم أن الرسول أخبر بها ولم يصدقه، أو أنه لم ير خلاف أهل الأهواء خلافاً،وإلا فأبو طالب كان عارفا بأقوالهم، وهذا ـ واللّه أعلم ـ مراده، فإنه عقد [ الفصل الثالث والثلاثين ] في بيان تفصيل الإسلام والإيمان، وشرح عقود معاملة القلب من مذهب أهل الجماعة، وهذا الذي قاله أجود مما قاله كثير من الناس، لكن ينازع في شيئين :
أحدهما : أن المسلم المستحق للثواب لابد أن يكون معه الإيمان الواجب المفصل المذكور في حديث جبريل .
/والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يطلق مؤمناً دون مسلم،في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أو مسلم ) لكونه ليس من خواص المؤمنين وأفاضلهم، كأنه يقول : لكونه ليس من السابقين المقربين، بل من المقتصدين الأبرار، فهذان مما تنازع فيهما جمهور العلماء، ويقولون : لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل : ( أو مسلم ) لكونه لم يكن من خواص المؤمنين وأفاضلهم كالسابقين المقربين، فإن هذا لو كان كذلك لكان ينفي الإيمان المطلق عن الأبرار المقتصدين المتقين،الموعودين بالجنة بلا عذاب إذا كانوا من أصحاب اليمين، ولم يكونوا من السابقين والمقربين، وليس الأمر كذلك، بل كل من أصحاب اليمين مع السابقين المقربين،كلهم مؤمنون موعودون بالجنة بلا عذاب،وكل من كان كذلك فهو مؤمن باتفاق المسلمين من أهل السنة وأهل البدع،ولو جاز أن ينفي الإيمان عن شخص لكون غيره أفضل منه إيماناً نفى الإيمان عن أكثر أولياء اللّه المتقين،بل وعن كثير من الأنبياء،وهذا في غاية الفساد،وهذا من جنس قول من يقول : نفى الاسم لنفي كماله المستحب .(1/306)
وقد ذكرنا أن مثل هذا لا يوجد في كلام اللّه ورسوله، بل هذا الحديث خص من قيل فيه : مسلم وليس بمؤمن، فلابد أن يكون ناقصاً عن درجة الأبرار المقتصدين أهل الجنة، ويكون إيمانه ناقصاً عن إيمان هؤلاء كلهم، فلا يكون قد أتى بالإيمان الذي أمر به هؤلاء كله، ثم إن كان قادراً على ذلك الإيمان وترك الواجب، كان مستحقاً للذم، وإن قدر أنه لا يقدر على ذلك الإيمان الذي اتصف به هؤلاء، كان عاجزاً عن مثل إيمانهم، ولا يكون هذا وجب عليه، فهو وإن/ دخل الجنة لا يكون كمن قدر أنه آمن إيماناً مجملاً، ومات قبل أن يعلم تفصيل الإيمان وقبل أن يتحقق به ويعمل بشيء منه، فهو يدخل الجنة، لكن لا يكون مثل أولئك .
لكن قد يقال : الأبرار أهل اليمين هم ـ أيضاً ـ على درجات، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ) وقد قال الله تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } الآية [ النساء : 95 ] ، فدرجة المؤمن القوي في الجنة أعلى، وإن كان كل منهما كمل ما وجب عليه، وقد يريد أبو طالب وغيره بقولهم : ليس هذا من خواص المؤمنين هذا المعنى؛ أي : ليس إيمانه كإيمان من حقق خاصة الإيمان، سواء كان من الأبرار أو من المقربين، وإن لم يكن ترك واجباً لعجزه عنه، أو لكونه لم يؤمر به، فلا يكون مذمومًا، ولا يمدح مدح أولئك، ولا يلزم أن يكون من أولئك المقربين .(1/307)
فيقال : وهذا ـ أيضاً ـ لا ينفي عنه الإيمان، فيقال : هو مسلم لا مؤمن، كما يقال : ليس بعالم ولا مفت، ولا من أهل الاجتهاد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . وهذا كثير، فليس كل ما فضل به الفاضل يكون مقدوراً لمن دونه، فكذلك من حقائق الإيمان ما لا يقدر عليه كثير من الناس، بل ولا أكثرهم، فهؤلاء يدخلون الجنة، وإن لم يكونوا ممن تحققوا بحقائق الإيمان التي فضل اللّه بها غيرهم، ولا تركوا واجباً عليهم وإن كان واجباً على غيرهم؛ ولهذا كان من الإيمان /ما هو من المواهب والفضل من اللّه فإنه من جنس العلم، والإسلام الظاهر من جنس العمل، وقد قال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17 ] ، وقال : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } [ مريم : 76 ] ،وقال : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] .(1/308)
ومثل هذه السكينة قد لا تكون مقدورة، ولكن اللّه يجعل ذلك في قلبه،فضلاً منه وجزاء على عمل سابق، كما قال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [ النساء : 66 : 68 ] ، كما قال : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] ، وكما قال : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] ؛ ولهذا قيل : من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم، وهذا الجنس غير مقدور للعباد، وإن كان ما يقدرون عليه من الأعمال الظاهرة والباطنة هو ـ أيضاً ـ بفضل اللّه وإعانته وإقداره لهم، لكن الأمور قسمان : منه ما جنسه مقدور لهم لإعانة اللّه لهم، كالقيام والقعود، ومنه ما جنسه غير مقدور لهم، إذا قيل : إن اللّه يعطي من أطاعه قوة في قلبه وبدنه يكون بها قادراً على ما لا يقدر عليه غيره، فهذا ـ أيضاً ـ حق وهو من جنس هذا المعنى، قال تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ الأنفال : 12 ] ، وقد قال : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ } [ الأنفال : 45 ] ، فأمرهم بالثبات وهذا الثبات، يوحى إلى الملائكة أنهم يفعلونه بالمؤمنين .(1/309)
/والمقصود أنه قد يكون من الإيمان ما يؤمر به بعض الناس ويذم على تركه، ولا يذم عليه بعض الناس ممن لا يقدر عليه،ويفضل اللّه ذاك بهذا الإيمان، وإن لم يكن المفضول ترك واجباً،فيقال : وكذلك في الأعمال الظاهرة يؤمر القادر على الفعل بما لا يؤمر به العاجز عنه، ويؤمر بعض الناس بما لا يؤمر به غيره، لكن الأعمال الظاهرة قد يعطي الإنسان مثل أجر العامل إذا كان يؤمن بها ويريدها جهده، ولكن بدنه عاجز كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إن بالمدينة لرجالاً ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم ) قالو : وهم بالمدينة ؟ قال : ( وهم بالمدينة حبسهم العذر ) ، وكما قال تعالي : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } [ النساء : 95 ] فاستثنى أولى الضرر .(1/310)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ) . وفي حديث أبي كَبْشَة الأنماري : ( هما في الأجر سواء، وهما في الوزر سواء ) ، رواه الترمذي وصححه ولفظه : ( إنما الدنيا لأربعة : رجل آتاه اللّه علماً ومالاً فهو يتقي في ذلك المال ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم للّه فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه اللّه علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية، يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد/ رزقه اللّه مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم،لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم للّه فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه اللّه مالاً ولا علماً فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته، فوزرهما سواء ) .
ولفظ ابن ماجه : ( مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر : رجل آتاه اللّه مالا وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه اللّه علماً ولم يؤته مالا فهو يقول : لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل ) . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه اللّه مالاً ولم يؤته علماً،فهو يتخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته علماً ولا مالا وهو يقول : لو كان لي مثل مال هذا عملت مثل الذي يعمل، فهما في الوزر سواء ) .(1/311)
كالشخصين إذا تماثلا في إيمان القلوب معرفة وتصديقاً، وحباً وقوة وحالاً ومقاماً، فقد يتماثلان، وإن كان لأحدهما من أعمال البدن ما يعجز عنه بدن الآخر، كما جاء في الأثر : ( إن المؤمن قوته في قلبه،وضعفه في جسمه، والمنافق قوته في جسمه، وضعفه في قلبه ) ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ليس الشديد ذو الصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) ،وقد قال : ( رأيت كأني أنزع على قَلِيبٍ، فأخذها ابن أبي قُحَافة، فنزع ذَنُوباً أو ذنوبين، وفي نَزْعِه ضعف، واللّه يغفر له، فأخذها ابن الخطاب فاستحالت في يده/ غَرْباً، فلم أر عبقريًا يَفْري فَرْيَه، حتى صَدَرَ الناس بعطن ) ، فذكر أن أبا بكر أضعف، وسواء أراد قصر مدته أو أراد ضعفه عن مثل قوة عمر، فلا ريب أن أبا بكر أقوى إيماناً من عمر، وعمر أقوي عملاً منه، كما قال ابن مسعود : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر . وقوة الإيمان أقوى وأكمل من قوة العمل، وصاحب الإيمان يكتب له أجر عمل غيره، وما فعله عمر في سيرته مكتوب مثله لأبي بكر فإنه هو الذي استخلفه .
وفي المسند من وجهين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي وزن بالأمة فرجح،ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح،ثم وزن عمر بالأمة فرجح،وكان في حياة النبي صلىالله عليه وسلم وبعد موته يحصل لعمر بسبب أبي بكر من الإيمان والعلم ما لم يكن عنده، فهو قد دعاه إلى ما فعله من خير وأعانه عليه بجهده،والمعين على الفعل إذا كان يريده إرادة جازمة كان كفاعله،كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من جَهَّز غازياً فقد غزاً، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا ) ،وقال : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) ، وقال : ( من فطر صائماً فله مثل أجره ) .(1/312)
وقد روى الترمذي : ( من عزى مصاباً فله مثل أجره ) وهذا وغيره مما يبين أن الشخصين قد يتماثلان في الأعمال الظاهرة، بل يتفاضلان ويكون المفضول فيها أفضل عند اللّه من الآخر؛ لأنه أفضل في الإيمان الذي في القلب، وأما إذا تفاضلا في إيمان القلوب فلا يكون المفضول فيها أفضل عند اللّه البتة،/ وإن كان المفضول لم يهبه اللّه من الإيمان ما وهبه للفاضل، ولا أعطى قلبه من الأسباب التي بها ينال ذلك الإيمان الفاضل ما أعطى المفضول؛ ولهذا فضل اللّه بعض النبيين على بعض، وإن كان الفاضل أقل عملاً من المفضول، كما فضل اللّه نبينا صلى الله عليه وسلم ـ ومدة نبوته بضع وعشرون سنة ـ على نوح وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفضل أمة محمد، وقد عملوا من صلاة العصر إلى المغرب، على من عمل من أول النهار إلى صلاة الظهر، وعلى من عمل من صلاة الظهر إلى العصر، فأعطى اللّه أمة محمد أجرين، وأعطى كلا من أولئك أجرًا أجرًا؛ لأن الإيمان الذي في قلوبهم كان أكمل وأفضل، وكان أولئك أكثر عملاً،وهؤلاء أعظم أجراً، وهو فضله يؤتيه من يشاء بالأسباب التي تفضل بها عليهم وخصهم بها .(1/313)
وهكذا سائر من يفضله اللّه ـ تعالى ـ فإنه يفضله بالأسباب التي يستحق بها التفضيل بالجزاء،كما يخص أحد الشخصين بقوة ينال بها العلم،وبقوة ينال بها اليقين والصبر والتوكل والإخلاص،وغير ذلك مما يفضله اللّه به،وإنما فضله في الجزاء بما فضل به من الإيمان، كما قال تعالى : { وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ } [ آل عمران : 72،73 ] ، وقال في الآية الأخرى : { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، وقال : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } [ الحج : 75 ] ، وقال : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } [ الفتح : 14 ]
/وقد بين في مواضع أسباب المغفرة وأسباب العذاب، وكذلك يرزق من يشاء بغير حساب، وقد عرف أنه قد يخص من يشاء بأسباب الرزق .(1/314)
وإذا كان من الإيمان ما يعجز عنه كثير من الناس، ويختص اللّه به من يشاء، فذلك مما يفضلهم اللّه به، وذلك الإيمان ينفي عن غيرهم، لكن لا على وجه الذم بل على وجه التفضيل، فإن الذم إنما يكون على ترك مأمور أو فعل محظور . لكن على ما ذكره أبو طالب، يقال : فمثل هؤلاء مسلمون لا مؤمنون باعتبار،ويقال : إنهم مؤمنون باعتبار آخر، وعلى هذا ينفي الإيمان عمن فاته الكمال المستحب، بل الكمال الذي يفضل به على من فاته، وإن كان غير مقدور للعباد بل ينفي عنه الكمال الذي وجب على غيره، وإن لم يكن في حقه لا واجباً ولا مستحباً، لكن هذا لا يعرف في كلام الشارع، ولم يعرف في كلامه إلا أن نفي الإيمان يقتضي الذم حيث كان، فلا ينفي إلا عمن له ذنب، فتبين أن قوله : ( أو مسلم ) توقف في أداء الواجبات الباطنة والظاهرة كما قال جماهير الناس .
ثم طائفة يقولون : قد يكون منافقاً ليس معه شيء من الإيمان، وهم الذين يقولون : الأعراب المذكورون منافقون ليس معهم من الإيمان شيء، وهذا هو القول الذي نصره طائفة، كمحمد بن نصر، والأكثرون يقولون : بل هؤلاء لم يكونوا من المنافقين الذين لا يقبل منهم شيء من أعمالهم، وإن كان فيهم شعبة نفاق، بل كان معهم تصديق يقبل معه منهم ما عملوه للّه؛ ولهذا جعلهم مسلمين؛ ولهذا قال : { أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 ] ، كما /قالوا مثل ذلك في الزاني والسارق وغيرهما ممن نفى عنه الإيمان، مع أن معه التصديق . وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم .(1/315)
وأبو طالب جعل من كان مذموماً، لترك واجب، من المؤلفة قلوبهم الذين لم يعطوا شيئًا، وجعل ذلك الشخص مؤمناً غيره أفضل منه، وأما الأكثرون فيقولون : إثبات الإسلام لهم دون الإيمان كإثباته لذلك الشخص كان مسلماً لا مؤمنًا كلاهما مذموم، لا لمجرد أن غيره أفضل منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) ولم يسلب عمن دونه الإيمان، وقال تعالى : { ِلَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [ الحديد : 10 ] .
فأثبت الإيمان للفاضل والمفضول، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ) ،وقال لسعد ابن معاذ لما حكم في بني قريظة : ( لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرْقٍعَة ) ،وكان يقول لمن يرسله في جيش أو سرية : ( إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم اللّه، فلا تنزلهم على حكم اللّه، فإنك لا تدري ما حكم اللّه فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ) . وهذه الأحاديث الثلاثة في الصحيح، وفي حديث سليمان ـ عليه السلام ـ : ( وأسألك حكمًا يوافق حكمك ) .
فهذه النصوص وغيرها تدل على ما اتفق عليه الصحابة والتابعون لهم/ بإحسان : أن أحد الشخصين قد يخصه اللّه باجتهاد يحصل له به من العلم ما يعجز عنه غيره فيكون له أجران، وذلك الآخر عاجز له أجر ولا إثم عليه، وذلك العلم الذي خص به هذا، والعمل به باطناً، وظاهراً زيادة في إيمانه، وهو إيمان يجب عليه، لأنه قادر عليه، وغيره عاجز عنه فلا يجب . فهذا قد فضل بإيمان واجب عليه وليس بواجب على من عجز عنه .(1/316)
وهذا حال جميع الأمة فيما تنازعت فيه من المسائل الخبرية والعملية، إذا خص أحدهما بمعرفة الحق في نفس الأمر مع اجتهاد الآخر وعجزه، كلاهما محمود مثاب مؤمن، وذلك خصه اللّه من الإيمان الذي وجب عليه بما فضله به على هذا . وذلك المخطئ لا يستحق ذماً ولا عقاباً، وإن كان ذاك لو فعل ما فعل ذم وعوقب، كما خص اللّه أمة نبينا بشريعة فضلها به، ولو تركنا مما أمرنا به فيها شيئًا، لكان ذلك سبباً للذم والعقاب، والأنبياء قبلنا لا يذمون بترك ذلك، لكن محمد صلى الله عليه وسلم فضله اللّه على الأنبياء، وفضل أمته على الأمم من غير ذم لأحد من الأنبياء، ولا لمن اتبعهم من الأمم .
وأيضاً، فإذا كان الإنسان لا يجب عليه شيء من الإيمان إلا ما يقدر عليه،وهو إذا فعل ذلك كان مستحقاً لما وعد اللّه به من الجنة،فلو كان مثل هذا يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً،لوجب أن يكون من أهل الوعد بالجنة من يسمى مسلماً لامؤمناً كالأعراب، وكالشخص الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( أو مسلم ) وكسائر من نفى عنه الإيمان مع أنه مسلم، كالزاني، والشارب،/والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وغير هؤلاء، وليس الأمر كذلك .(1/317)
فإن اللّه لم يعلق وعد الجنة إلا باسم الإيمان، لم يعلقه باسم الإسلام مع إيجابه الإسلام، وإخباره أنه دينه الذي ارتضاه، وأنه لا يقبل ديناً غيره، ومع هذا فما قال : إن الجنة أعدت للمسلمين، ولا قال : وعد اللّه المسلمين بالجنة، بل إنما ذكر ذلك باسم الإيمان، كقوله : { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ التوبة : 72 ] ، فهو يعلقها باسم الإيمان المطلق، أو المقيد بالعمل الصالح، كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } [ البينة : 7، 8 ] ، وقوله : { وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } [ البقرة : 25 ] ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 277 ] ،وقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] ،وقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [ النساء : 175 ] ،وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } [(1/318)
النساء : 57 ] ، وفي الآية الأخرى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } [ النساء : 122 ] ، وقال : { وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ آل عمران : 57 ] ، وقال : { وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] ، وقال : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ الأنعام : 48 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأعراف : 42 ] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .(1/319)
فالوعد بالجنة، والرحمة في الآخرة، وبالسلامة من العذاب،علق باسم الإيمان المطلق، والمقيد بالعمل الصالح، ونحو ذلك،وهذا ـ كما تقدم ـ أن المطلق يدخل فيه فعل ما أمر اللّه به ورسوله،ولم يعلق باسم الإسلام . فلو كان من أتى من الإيمان بما يقدر عليه وعجز عن معرفة تفاصيله قد يسمى مسلماً لا مؤمنًا،لكان من أهل الجنة، وكانت الجنة يستحقها من يسمى مسلماً وإن لم يسم مؤمناً، وليس الأمر كذلك، بل الجنة لم تعلق إلا باسم الإيمان، وهذا ـ أيضاً ـ مما استدل به من قال : إنه ليس كل مسلم من المؤمنين الموعودين بالجنة؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان وعد الجنة معلقاً باسم الإسلام، كما علق باسم الإيمان وكما علق باسم التقوى واسم البر، في مثل قوله : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } [ القمر : 54 ] ، وقوله : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [ الانفطار : 13 ] ، وباسم أولياء اللّّه، كقوله : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ يونس : 62 : 64 ] ، فلما لم يجر اسم الإسلام هذا المجرى، علم أن مسماه ليس ملازماً لمسمى الإيمان كما يلازمه اسم البر والتقوى وأولياء اللّه، وأن اسم الإسلام يتناول من هو من أهل الوعيد، وإن كان اللّه يثيبه على طاعته، مثل أن يكون في قلبه إيمان، ونفاق يستحق به العذاب، فهذا يعاقبه اللّه ولا يخلده في النار؛ لأن في قلبه مثقال ذرة أو أكثر من مثقال ذرة من إيمان .(1/320)
وهذه الشبهة التي أوقعتهم مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه؛ ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين؛ ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدًا من مرجئة الفقهاء بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببًا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء،حتى قال إبراهيم النَّخَعِيّ : لفتنتهم ـ يعني المرجئة ـ أخوف على هذه الأمة من فتنة/ الأزارقة . وقال الزهري : ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء،وقال الأوزاعي : كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء،وقال شريك القاضي ـ وذكر المرجئة فقال ـ : هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثًا،ولكن المرجئة يكذبون على الله . وقال سفيان الثوري : تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابِرِيّ وقال قتادة : إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث .(1/321)
وسئل مَيْمُون بن مِهْرَان عن كلام المرجئة، فقال : أنا أكبر من ذلك، وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني : ألا تستحي من رأى أنت أكبر منه ؟ ! وقال أيوب السِّخْتِيَاني : أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له : الحسن . وقال زاذان : أتينا الحسن بن محمد فقلنا : ما هذا الكتاب الذي وضعت ؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة، فقال لي : يا أبا عمر، لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو أضع هذا الكتاب، فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ولا كالخطأ في غيره من الأسماء، إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق .
وأحمد ـ رضي الله عنه ـ فرق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب، فإن تصديق اللسان هو الإقرار،وقد ذكر ثلاثة أشياء،وهذا يحتمل شيئين : يحتمل أن يفرق بين تصديق القلب ومعرفته،وهذا قول/ ابن كلاب والقلانسي،والأشعري وأصحابه يفرقون بين معرفة القلب وبين تصديق القلب،فإن تصديق القلب قوله . وقول القلب عندهم ليس هو العلم، بل نوعًا آخر؛ولهذا قال أحمد : هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار ؟ وهل يحتاج إلى أن يكون مصدقا بما عرف ؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال : لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد أتى عظيمًا ولا أحسب امرءًا يدفع المعرفة والتصديق .(1/322)
والذين قالوا : الإيمان هو الإقرار . فالإقرار باللسان يتضمن التصديق باللسان . والمرجئة لم تختلف أن الإقرار باللسان فيه التصديق، فعلم أنه أراد تصديق القلب ومعرفته مع الإقرار باللسان، إلا أن يقال : أراد تصديق القلب واللسان جميعًا مع المعرفة والإقرار، ومراده بالإقرار الالتزام لا التصديق، كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] ، فالميثاق المأخوذ على أنهم يؤمنون به وينصرونه، وقد أمروا بهذا، وليس هذا الإقرار تصديقًا، فإن الله ـ تعالى ـ لم يخبرهم بخبر، بل أوجب عليهم إذا جاءهم ذلك الرسول أن يؤمنوا به وينصروه . فصدقوا بهذا الإقرار والتزموه، فهذا هو إقرارهم . والإنسان قد يقر للرسول، بمعنى : أنه يلتزم ما يأمر به مع غير معرفة، ومن غير تصديق له بأنه رسول الله، لكن لم يقل أحد من المرجئة : إن هذا الإقرار يكون إيمانًا،/ بل لابد عندهم من الإقرار الخبري وهو أنه يقر له بأنه رسول الله كما يقر المقر بما يقر به من الحقوق، ولفظ الإقرار يتناول الالتزام والتصديق، ولابد منهما، وقد يراد بالإقرار مجرد التصديق بدون التزام الطاعة، والمرجئة تارة يجعلون هذا هو الإيمان وتارة يجعلون الإيمان التصديق والالتزام معًا، هذا هو الإقرار الذي يقوله فقهاء المرجئة : إنه إيمان، وإلا لو قال : أنا أطيعه ولا أصدق أنه رسول الله، أو أصدقه ولا ألتزم طاعته، لم يكن مسلمًا ولا مؤمنًا عندهم .(1/323)
وأحمد قال : لابد مع هذا الإقرار أن يكون مصدقًا، وأن يكون عارفًا، وأن يكون مصدقًا بما عرف . وفي رواية أخرى : مصدقًا بما أقر،وهذا يقتضي أنه لابد من تصديق باطن، ويحتمل أن يكون لفظ التصديق عنده يتضمن القول والعمل جميعًا،كما قد ذكرنا شواهده أنه يقال : صدق بالقول والعمل . فيكون تصديق القلب عنده يتضمن أنه مع معرفة قلبه أنه رسول الله قد خضع له وانقاد، فصدقه بقول قلبه وعمل قلبه محبة وتعظيمًا، وإلا فمجرد معرفة قلبه أنه رسول الله مع الإعراض عن الانقياد له ولما جاء به إما حسدًا وإما كبرًا، وإما لمحبة دينه الذي يخالفه وإما لغير ذلك، فلا يكون إيمانًا، ولابد في الإيمان من علم القلب وعمله،فأراد أحمد بالتصديق أنه مع المعرفة به صار القلب مصدقًا له،تابعًا له، محبا له، معظمًا له، فإن هذا لابد منه، ومن دفع هذا عن أن يكون من الإيمان، فهو من جنس من دفع المعرفة من أن تكون من الإيمان،وهذا أشبه بأن/يحمل عليه كلام أحمد؛ لأن وجوب انقياد القلب مع معرفته ظاهر ثابت بدلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن نازع من الجهمية في أن انقياد القلب من الإيمان فهو كمن نازع من الكرامية في أن معرفة القلب من الإيمان فكان حمل كلام أحمد على هذا هو المناسب لكلامه في هذا المقام .(1/324)
وأيضًا، فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يجعل قول القلب أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لايتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون : إن ما قاله ابن كلاب، والأشعري من الفرق، كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق، وعمدتهم من الحجة إنما هو خبر الكاذب، قالوا : ففي قلبه خبر بخلاف علمه، فدل على الفرق . فقال لهم الناس : ذاك بتقدير خبر وعلم ليس هو علمًا حقيقيًا ولا خبرًا حقيقيًا، ولما أثبتوه من قول القلب المخالف للعلم والإرادة، إنما يعود إلى تقدير علوم وإرادات لا إلى جنس آخر يخالفها .
ولهذا قالوا : إن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بقلبه خبر بخلاف علمه، وإنما يمكنه أن يقول ذلك بلسانه، وأما أنه يقوم بقلبه خبر بخلاف ما يعلمه، فهذا غير ممكن، وهذا مما استدلوا به على أن الرب ـ تعالى ـ لا يتصور قيام الكذب/بذاته؛ لأنه بكل شيء عليم، ويمتنع قيام معنى يضاد العلم بذات العالم، والخبر النفساني الكاذب يضاد العلم .(1/325)
فيقال لهم : الخبر النفساني لو كان خلافًا للعلم لجاز وجود العلم مع ضده كما يقولون مثل ذلك في مواضع كثيرة، وهي من أقوى الحجج التي يحتج بها القاضي أبو بكر وموافقوه في مسألة العقل وغيرها، كالقاضي أبي يعلى، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان،وأبي الطيب، وأبي الوليد الباجي، وأبي الخطاب، وابن عَقِيل وغيرهم، فيقولون : العقل نوع من العلم، فإنه ليس بضد له، فإن لم يكن نوعًا منه كان خلافًا له، ولو كان خلافًا لجاز وجوده مع ضد العقل، وهذه الحجة وإن كانت ضعيفة ـ كما ضعفها الجمهور، وأبو المعالي الجويني ممن ضعفها ـ فإن ما كان مستلزمًا لغيره لم يكن ضدا له، إذ قد اجتمعا، وليس هو من نوعه، بل هو خلاف له على هذا الاصطلاح الذي يقسمون فيه كل اثنين إلى أن يكونا مثلين، أو خلافين أو ضدين، فالملزوم كالإرادة مع العلم أو كالعلم مع الحياة، ونحو ذلك ليس ضدًا ولا مثلاً، بل هو خلاف، ومع هذا فلا يجوز وجوده مع ضد اللازم، فإن ضد اللازم ينافيه، ووجود الملزوم بدون اللازم محال، كوجود الإرادة بدون العلم، والعلم بدون الحياة، فهذان خلافان عندهم، ولا يجوز وجود أحدهما مع ضد الآخر .
كذلك العلم هو مستلزم للعقل، فكل عالم عاقل، والعقل شرط في العلم، فليس مثلاً له ولا ضدًا ولا نوعًا منه، ومع هذا لا يجوز وجوده مع ضد العقل،/ لكن هذه الحجة تقال لهم في العلم مع كلام النفس الذي هو الخبر، فإنه ليس ضدًا ولا مثلاً، بل خلافًا، فيجوز وجود العلم مع ضد الخبر الصادق وهو الكاذب، فبطلت تلك الحجة على امتناع الكذب النفساني من العالم، وبسط هذا له موضع آخر .(1/326)
والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقًا مجردًا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق . ثم احتج الإمام أحمد على أن الأعمال من الإيمان بحجج كثيرة، فقال : وقد سأل وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال : ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا خمسًا من المغنم ) ، فجعل ذلك كله من الإيمان . قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحياء شعبة من الإيمان ) ،وقال : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا ) ، وقال : ( إن البَذَاذَة من الإيمان ) . وقال : ( الإيمان بضع وستون شعبة، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا الله ) مع أشياء كثيرة،منها : ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ، وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المنافق : ( ثلاث من كن فيه فهو منافق ) مع حجج كثيرة .(1/327)
وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة وعن أصحابه من بعده، ثم ما وصف الله ـ تعالى ـ في كتابه/ من زيادة الإيمان في غير موضع، مثل قوله : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] ، وقال : { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } [ المدثر : 31 ] ، وقال : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [ الأنفال : 2 ] ، وقال تعالى : { فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] ، وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وقال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، وقال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 ] ، وقال : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] .
قال أحمد : ويلزمه أن يقول : هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة، أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول : إذا أقر ثم شد الزُّنَّار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيعَ وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله؛ فيلزمه أن يكون عنده مؤمنًا، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم .(1/328)
قلت : هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم، جمع في ذلك جملاً يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه . ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جَهْم ومن وافقه أنه لازم التزموه، وقالوا : لو فعل/ ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرًا في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرًا في الآخرة . قالوا : فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد، فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع .
وهذا القول مع فساده عقلاً وشرعًا، ومع كونه عند التحقيق لا يثبت إيمانًا، فإنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا لا حقيقة له . كما قالت الجهمية ومن وافقهم مثل ذلك في وحدة الرب : إنه ذات بلا صفات، وقالوا بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وما يقوله ابن كلاب من وحدة الكلام وغيره من الصفات .(1/329)
فقولهم في الرب وصفاته وكلامه والإيمان به يرجع إلى تعطيل محض، وهذا قد وقع فيه طوائف كثيرة من المتأخرين المنتسبين إلى السنة والفقه والحديث المتبعين للأئمة الأربعة، المتعصبين للجهمية والمعتزلة بل وللمرجئة أيضًا، لكن لعدم معرفتهم بالحقائق التي نشأت منها البدع يجمعون بين الضدين، ولكن من رحمة الله بعباده المسلمين أن الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق، مثل الأئمة الأربعة وغيرهم؛ كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد،وكالشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، كانوا ينكرون على أهل الكلام من الجهمية قولهم في القرآن والإيمان وصفات الرب، وكانوا متفقين على ما كان عليه السلف من أن الله يرى في الآخرة، وأن/ القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الإيمان لابد فيه من تصديق القلب واللسان، فلو شتم الله ورسوله كان كافرًا باطنًا وظاهرًا عندهم كلهم، ومن كان موافقًا لقول جهم في الإيمان بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان، يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة، وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم، حتى في مسألة سب الله ورسوله رأيت طائفة من الحنبليين،والشافعيين والمالكيين، إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا : إن هذا كفر باطنًا وظاهرًا .
وإذا تكلموا بكلام أولئك قالوا : هذا كفر في الظاهر، وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا تام الإيمان، فإن الإيمان عندهم لا يتبعض، ولهذا لما عرف القاضي عياض هذا من قول بعض أصحابه أنكره، ونصر قول مالك وأهل السنة، وأحسن في ذلك .
وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذا في كتاب [ الصارم المسلول على شاتم الرسول ] ، وكذلك تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف، ويبحثون بحثًا يناسب قول الجهمية؛ لأن البحث أخذوه من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان .(1/330)
والرازي لما صنف [ مناقب الشافعي ] ذكر قوله في الإيمان . وقول الشافعي قول الصحابة والتابعين، وقد ذكر الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين . ومن لقيه استشكل قول الشافعي جدًا؛ لأنه كان قد انعقد في نفسه شبهة أهل البدع في الإيمان؛ من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية/وسائر المرجئة،وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم . والجواب عما ذكروه هو سهل، فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء .
والشافعي مع الصحابة والتابعين وسائر السلف يقولون : إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء، فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعًا مع الذنوب، لكن يقولون بقى بعضه؛ إما أصله وإما أكثره وإما غير ذلك، فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه .
ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة؛ لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضًا متعددًا عند من يقول بذلك، وهم الخوارج والمعتزلة . وأما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد، فيثبتون واحدًا لا حقيقة له، كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب ووحدانية صفاته عند من أثبتها منهم .
ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا، اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع/السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة بل وصرح غير واحد منهم بكفر من قال بقول جهم في الإيمان .(1/331)
ولهذا نظائر متعددة، يقول الإنسان قولاً مخالفًا للنص والإجماع القديم حقيقة، ويكون معتقدا أنه متمسك بالنص والإجماع . وهذا إذا كان مبلغ علمه واجتهاده، فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده، ويغفر له ما عجز عن معرفته من الصواب الباطن، وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل . فقال لي مرة بعضهم : الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان . فقلت له : قولك من حيث هو، كما تقول : الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان والصفات، فتثبت لهذه المسميات وجودًا مطلقًا مجردًا عن جميع القيود والصفات وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنسانًا لا موجودًا ولا معدومًا، ويقول : الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كسائر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن .
/فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد . وتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدومًا، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، ليست هي هي . وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج، ويشتركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن .(1/332)
وكذلك إذا قيل : إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين ليس هو الإيمان من حيث هو هو، بل هو إيمان معين، وذلك الإيمان يقبل الزيادة، والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانًا مطلقًا أو إنسانًا مطلقًا، أو وجودًا مطلقا مجردًا عن جميع الصفات المعينة له ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس . وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد، إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره .
ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص والعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علمًا وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره، ولا يكون في الخارج .
/ وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعدادًا مجردة وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزمانًا مجردًا عن الحركة والمتحرك، وبعدًا مجردًا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج، وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين والاثنين واحدًا، فتارة يجيئون إلي الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين، والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاؤوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخري وجعلوا الصفة هي الموصوف .(1/333)
وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحدًا وفي كونه متماثلاً كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل [ التوحيد ] و [ الصفات ] و [ القرآن ] ونحو ذلك، فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته ـ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .
وكذلك السواد والبياض يقبل الاشتداد والضعف، بل عامة الصفات التي يتصف بها الموصوفون تقبل التفاضل؛ ولهذا كان العقل يقبل التفاضل، والإيجاب والتحريم يقبل التفاضل، فيكون إيجاب أقوى من إيجاب، وتحريم أقوى من تحريم، وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل/ على الصحيح عند أهل السنة، وفي هذا كله نزاع، فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل، وغيرهما .
وقد حكى عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان . وإنكار التفاضل في هذه الصفات هو من جنس أصل قول المرجئة،ولكن يقوله من يخالف المرجئة،وهؤلاء يقولون : التفاضل إنما هو في الأعمال، وأما الإيمان الذي في القلوب فلا يتفاضل،وليس الأمر كما قالوه، بل جميع ذلك يتفاضل، وقد يقولون : إن أعمال القلب تتفاضل، بخلاف معارف القلب،وليس الأمر كذلك، بل إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب علي هذا، ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد وإن وجب عليهم جميعهم الإيمان بعد استقرار الشرع، فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبرًا، وعلى أن يحتاج إلى العمل به إن كان أمرًا، وعلى العلم به إن كان علمًا، وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه، فإن هذا لا يقدر عليه أحد .(1/334)
فالوجوب يتنوع بتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة/، ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور، ومع الغفلة،فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول/ الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة،كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريبه فيها وذكرها في قلبه، ثم رغب إلى الله في كشف الريب، ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله، والتوكل عليه، والصبر على حكمه، والشكر له والإنابة إليه، وإخلاص العمل له مما يتفاضل الناس فيها تفاضلاً لا يعرف قدره إلا الله ـ عز وجل ـ ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره، وإما معاند .
قال الإمام أحمد : فإن زعموا أنهم لا يقبلون زيادة الإيمان، من أجل أنهم لا يدرون ما زيادته، وأنها غير محدودة، فما يقولون في أنبياء الله وكتبه ورسله ؟ هل يقرون بهم في الجملة ؟ ويزعمون أنه من الإيمان، فإذا قالوا : نعم، قيل لهم : هل تحدونهم وتعرفون عددهم ؟ أليس إنما يصيرون في ذلك إلى الإقرار بهم في الجملة، ثم يكفون عن عددهم ؟ فكذلك زيادة الإيمان . وبين أحمد أن كونهم لم يعرفوا منتهى زيادته، لا يمنعهم من الإقرار بها في الجملة، كما أنهم يؤمنون بالأنبياء والكتب وهم لا يعرفون عدد الكتب والرسل .(1/335)
وهذا الذي ذكره أحمد، وذكره محمد بن نصر، وغيرهما، يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل، وأن حديث أبي ذر في ذلك لم يثبت عندهم . وأما قول من سوى بين الإسلام والإيمان وقال : إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام، وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان، فليس كذلك، فإن الله/ ورسوله قد فسر الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .(1/336)
وبين ـ أيضًا ـ أن العمل بما أمر به يدخل في الإيمان، ولم يسم الله الإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت إسلامًا، بل إنما سمى الإسلام الاستسلام له بقلبه وقصده وإخلاص الدين والعمل بما أمر به؛ كالصلاة والزكاة خالصًا لوجهه، فهذا هو الذي سماه الله إسلاماً وجعله دينًا، وقال : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] ،ولم يدخل فيما خص به الإيمان، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، بل ولا أعمال القلوب، مثل حب الله ورسوله ونحو ذلك، فإن هذه جعلها من الإيمان، والمسلم المؤمن يتصف بها، وليس إذا اتصف بها المسلم المؤمن يلزم أن تكون من الإسلام،بل هي من الإيمان، والإسلام فرض، والإيمان فرض، والإسلام داخل فيه، فمن أتى بالإيمان الذي أمر به، فلابد أن يكون قد أتى بالإسلام المتناول لجميع الأعمال الواجبة، ومن أتى بما يسمى إسلامًا لم يلزم أن يكون قد أتى بالإيمان إلا بدليل منفصل، كما علم أن من أثنى الله عليه بالإسلام من الأنبياء وأتباعهم إلى الحواريين كلهم كانوا مؤمنين كما كانوا مسلمين، كما قال الحواريون : { آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] ، وقال : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] ؛ ولهذا أمرنا الله بهذا وبهذا في خطاب واحد، كما قال : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي(1/337)
شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة : 136، 137 ] ، وقال في الآية الأخرى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] .
وهذا يقتضي أن كل من دان بغير دين الإسلام فعمله مردود، وهو خاسر في الآخرة، فيقتضي وجوب دين الإسلام وبطلان ما سواه، لا يقتضي أن مسمي الدين هو مسمى الإيمان، بل أمرنا أن نقول : { آمَنَّا بِاللّهِ } ، وأمرنا أن نقول : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فأمرنا باثنين فكيف نجعلهما واحدًا ؟ !
وإذا جعلوا الإسلام والإيمان شيئًا واحدًا، فإما أن يقولوا : اللفظ مترادف، فيكون هذا تكريرًا محضًا ثم مدلول هذا اللفظ عين مدلول هذا اللفظ، وإما أن يقولوا : بل أحد اللفظين يدل على صفة غير الصفة الأخرى، كما في أسماء الله وأسماء كتابه، لكن هذا لا يقتضي الأمر بهما جميعًا، ولكن يقتضي أن يذكر تارة بهذا الوصف، وتارة بهذا الوصف، فلا يقول قائل : قد فرض الله عليك الصلوات الخمس، والصلاة المكتوبة، وهذا هو هذا، والعطف بالصفات يكون إذا قصد بيان الصفات لما فيها من المدح أو الذم، كقوله : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 : 3 ] لا يقال : صل لربك الأعلى، ولربك الذي خلق فسوى .(1/338)
وقال محمد بن نصر المروزي ـ رحمه الله ـ : فقد بين الله في كتابه وسنة رسوله أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، فمن صدق بالله فقد آمن به، ومن آمن بالله فقد خضع له، وقد أسلم له، ومن صام وصلى وقام بفرائض الله وانتهى عما /نهى الله عنه، فقد استكمل الإيمان والإسلام المفترض عليه، ومن ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسم الإيمان ولا الإسلام، إلا أنه أنقص من غيره في الإسلام والإيمان من غير نقصان من الإقرار بأن الله حق، وما قال حق لا باطل وصدق لا كذب، ولكن ينقص من الإيمان الذي هو تعظيم لله وخضوع للهيبة والجلال والطاعة للمصدق به، وهو الله، فمن ذلك يكون النقصان لا من إقرارهم بأن الله حق، وما قال صدق .
فيقال : ما ذكره يدل على أن من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام، وهذا حق، ولكن ليس فيه ما يدل عن أن من أتى بالإسلام الواجب فقد أتى بالإيمان، فقوله : من آمن بالله فقد خضع له وقد استسلم له حق، لكن أي شيء في هذا يدل على أن من أسلم لله وخضع له، فقد آمن به وبملائكته وبكتبه ورسله والبعث بعد الموت ؟ وقوله : إن الله ورسوله قد بين أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، إن أراد أن الله أوجبهما جميعًا ونهى عن التفريق بينهما، فهذا حق، وإن أراد أن الله جعل مسمي هذا مسمى هذا، فنصوص الكتاب والسنة تخالف ذلك، وما ذكر قط نصًا واحدًا يدل على اتفاق المسلمين .
و كذلك قوله : من فعل ما أمر به وانتهى عما نهى عنه فقد استكمل الإيمان والإسلام، فهذا صحيح إذا فعل ما أمر به باطنًا وظاهرًا، ويكون قد استكمل الإيمان والإسلام الواجب عليه، ولا يلزم أن يكون إيمانه وإسلامه مساويًا للإيمان والإسلام الذي فعله أولو العزم من الرسل؛ كالخليل إبراهيم، ومحمد خاتم /النبيين عليهما الصلاة والسلام، بل كان معه من الإيمان والإسلام ما لا يقدر عليه غيره ممن ليس كذلك ولم يؤمر به .(1/339)
وقوله : من ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسم الإسلام والإيمان إلا أنه أنقص من غيره في ذلك . فيقال : إن أريد بذلك أنه بقي معه شيء من الإسلام والإيمان، فهذا حق كما دلت عليه النصوص، خلافًا للخوارج والمعتزلة، وإن أراد أنه يطلق عليه بلا تقييد مؤمن ومسلم في سياق الثناء والوعد بالجنة، فهذا خلاف الكتاب والسنة، ولو كان كذلك لدخلوا في قوله : { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ التوبة : 72 ] وأمثال ذلك مما وعدوا فيه بالجنة بلا عذاب .
وأيضًا، فصاحب الشرع قد نفى عنهم الاسم في غير موضع، بل قال : ( قتال المؤمن كفر ) ،وقال : ( لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض ) . وإذا احتج بقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } [ الحجرات : 9 ] ونحو ذلك قيل : كل هؤلاء إنما سموا به مع التقييد بأنهم فعلوا هذه الأمور؛ ليذكر ما يؤمرون به هم وما يؤمر به غيرهم .
وكذلك قوله : لا يكون النقصان من إقرارهم بأن الله حق وما قاله صدق، فيقال : بل النقصان يكون في الإيمان الذي في القلوب من معرفتهم ومن علمهم فلا تكون معرفتهم وتصديقهم بالله وأسمائه وصفاته، وما قاله من أمر ونهي،ووعد ووعيد، كمعرفة غيرهم وتصديقه، لا من جهة الإجمال والتفصيل، ولا من/ جهة القوة والضعف، ولا من جهة الذكر والغفلة، وهذه الأمور كلها داخلة في الإيمان بالله وبما أرسل به رسوله، وكيف يكون الإيمان بالله وأسمائه وصفاته متماثلاً في القلوب ؟ ! أم كيف يكون الإيمان بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غفور رحيم، عزيز حكيم، شديد العقاب، ليس هو من الإيمان به ؟ ! فلا يمكن مسلمًا أن يقول : إن الإيمان بذلك ليس من الإيمان به ولا يدعي تماثل الناس فيه .(1/340)
وأما ما ذكره من أن الإسلام ينقص كما ينقص الإيمان، فهذا ـ أيضًا ـ حق كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن من نقص من الصلاة والزكاة أو الصوم أو الحج شيئًا، فقد نقص من إسلامه بحسب ذلك . ومن قال : إن الإسلام هو الكلمة فقط، وأراد بذلك أنه لا يزيد ولا ينقص، فقوله خطأ . ورد الذين جعلوا الإسلام والإيمان سواء إنما يتوجه إلى هؤلاء، فإن قولهم في الإسلام يشبه قول المرجئة في الإيمان .
سئل ـ رحمه الله : عن الإيمان بالله ورسوله : هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال أم لا ؟ وهل يدخل فيه جميع المقامات والأحوال المحمودة عند الله ورسوله أم لا ؟ وهل تكون صفة الإيمان نورًا يوقعه الله في قلب العبد، ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل أم لا ؟ وهل يكون لأول حصوله سبب من الأسباب ـ مثل رؤية أهل الخير أو مجالستهم وصحبتهم أو تعلم عمل من الأعمال أو غير ذلك ؟
فإن كان لأول حصوله سبب، فما هو ذلك السبب ؟ وما الأسباب ـ أيضًا ـ التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل، على ترتيبها ؟ هل يبدأ بالزهد حتى يصححه ؟ أم بالعلم حتى يرسخ فيه ؟ أم بالعبادة حتى يجهد نفسه، أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته ؟ أم كيف يتوصل إلى حقيقة الإيمان الذي مدحه الله ورسوله ؟ بينوا لنا الأسباب وأنواعها وشرحها، التي يتوصل بها إلى حقيقة الإيمان، وما وصف صاحبه ـ رضى الله عنكم ؟
/فأجاب :
الحمد لله رب العالمين . اسم الإيمان يستعمل مطلقًا، ويستعمل مقيدًا، وإذا استعمل مطلقًا، فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه، وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم .(1/341)
ويدخل في ذلك ما قد يسمى مقامًا وحالاً؛ مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والرضا والخشية والإنابة والإخلاص والتوحيد وغير ذلك .
ومن هذا ما خرج في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، أعلاها : قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) . فذكر أعلى شعب الإيمان، وهو قول لا إله إلا الله، فإنه لا شيء أفضل منها كما في الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الدعاء؛ دعاء يوم /عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) ،وفي الترمذي وغيره أنه قال : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وفي الصحيح عنه أنه قال لعمه عند الموت : ( يا عم، قل : لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ) .
وقد تظاهرت الدلائل على أن أحسن الحسنات هو التوحيد، كما أن أسوأ السيئات هو الشرك، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] وتلك الحسنة التي لابد من سعادة صاحبها كما ثبت في الصحيح عنه حديث الموجبتين : موجبة السعادة وموجبة الشقاوة، فمن مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، وأما من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار، وذكر في الحديث أنها أعلى شعب الإيمان .(1/342)
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس : ( آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس المغنم ) ، فجعل هذه الأعمال من الإيمان، وقد جعلها من الإسلام في حديث جبرائيل الصحيح ـ لما أتاه في صورة أعرابي ـ وسأله عن الإيمان، فقال : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، وسأله عن الإسلام فقال : ( أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله،/ وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) ،وفي حديث في المسند قال : ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب ) .
فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه؛ ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح، كما قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : إن القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ) .(1/343)
ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة، وما على الجوارح ليس داخلا في مسماه، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه، حتى آل الأمر بغلاتهم ـ كجهم وأتباعه ـ إلى أن قالوا : يمكن أن يصدق بقلبه، ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر، مع قدرته على إظهارها، فيكون الذي في القلب إيمانًا نافعًا له في الآخرة، وقالوا : حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب . وقولهم متناقض، فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزمًا لانتفاء الإيمان الذي في القلب، امتنع أن يكون الإيمان ثابتًا في/ القلب، مع الدليل المستلزم لنفيه، وإن لم يكن دليلاً لم يجز الاستدلال به على الكفر والباطن .
والله ـ سبحانه ـ في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة، كقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2 : 4 ] وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [ النور : 62 ] ، وقال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] .(1/344)
فإذا قال القائل : هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور، لا يدل على أنها من الإيمان، قيل : هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة، فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة، لا قول ولا عمل وهو المطلوب ـ وذلك تصديق ـ وذلك لأن القلب إذ تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتًا استلزم موالاة أوليائه/ ومعاداة أعدائه، { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 ] ، { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء } [ المائدة : 81 ] فهذا التلازم أمر ضروري .
ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة، مع القدرة التامة بدون الفعل، حتى تنازعوا : هل يعاقب على الإرادة بلا عمل ؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليست إرادة جازمة، وأن الإرادة الجازمة لابد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد، والعفو وقع عمن هم بسيئة ولم يفعلها؛ لا عمن أراد وفعل المقدور عليه، وعجز عن حصول مراده، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما، فإن هذا يعاقب؛ لأنه أراد وفعل المقدور من المراد، ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها .(1/345)
بقى أن يقال : فهل اسم الإيمان للأصل فقط، أو له ولفروعه ؟ والتحقيق : أن الاسم المطلق يتناولهما، وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران، وقد لا يتناول إلا الأصل، إذا لم يخص إلا هو، كاسم الشجرة، فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت، ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة يتناول الأصل وحده، وكذلك اسم الحج هو اسم لكل ما يشرع فيه من ركن، وواجب،/ ومستحب، وهو حج ـ أيضًا ـ تام بدون المستحبات، وهو حج ناقص بدون الواجبات التي يجبرها دم .
والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب، بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه، لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام قد يراد به الكمال الواجب، والكمال المستحب، كما يقول بعض الفقهاء : الغسل ينقسم إلى : كامل، ومجزئ، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) ،و ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ونحو ذلك، كان لانتفاء بعض ما يجب فيه، لا لانتفاء الكمال المستحب، والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه، كالحج، والصلاة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومثقال شعيرة من إيمان ) .(1/346)
وأما إذا استعمل اسم الإيمان مقيدًا، كما في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ البينة : 7 ] ، وقوله : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 63 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ) ونحو ذلك،فهناك قد يقال : إنه متناول لذلك، وإن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى : { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، وقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] .
/وقد يقال : إن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران، كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كانا صنفين، كما في آية الصدقة، ولا ريب أن فروع الإيمان مع أصوله كالمعطوفين، وهي مع جميعه كالبعض مع الكل، ومن هذا الموضع نشأ نزاع واشتباه، هل الأعمال داخلة في الإيمان أم لا ؟ لكونها عطفت عليه .
ومن هذا الباب قد يعطف على الإيمان بعض شعبه العالية، أو بعض أنواعه الرفيعة؛ كاليقين، والعلم، ونحو ذلك، فيشعر العطف بالمغايرة، فيقال : هذا أرفع الإيمان ـ أي اليقين والعلم أرفع من المؤمن الذي ليس معه هذا اليقين والعلم، كما قال الله تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] .(1/347)
ومعلوم أن الناس يتفاضلون في نفس الإيمان والتصديق في قوته وضعفه، وفي عمومه وخصوصه، وفي بقائه ودوامه، وفي موجبه ونقيضه، وغير ذلك من أموره، فيخص أحد نوعيه باسم يفضل به على النوع الآخر، ويبقى اسم الإيمان، في مثل ذلك متناولاً للقسم الآخر، وكذلك يفعل في نظائر ذلك، كما يقال : الإنسان خير من الحيوان، والإنسان خير من الدواب، وإن كان الإنسان يدخل في الدواب، في قوله : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الأنفال : 22 ] .
فإذا عرف هذا، فحيث وجد في كلام مقبول تفضيل شيء على الإيمان، فإنما هو تفضيل نوع خاص على عمومه، أو تفضيل بعض شعبه العالية على غيره،/واسم الإيمان قد يتناول النوعين جميعًا، وقد يخص أحدهما كما تقدم، وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة أسمائه .
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس عن الحديث الذي ورد : ( إن الله قبض قبضتين، فقال : هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي ) فهل هذا الحديث صحيح ؟ والله قبضها بنفسه، أو أمر أحدا من الملائكة بقبضها ؟ والحديث الآخر في : ( أن الله لما خلق آدم أراه ذريته عن اليمين والشمال، ثم قال : هؤلاء إلى النار ولا أبالي، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ) وهذا في الصحيح .
فأجاب ـ رضي الله عنه :(1/348)
نعم، هذا المعنى مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، مثل ما في موطأ مالك، وسنن أبي داود والنسائي، وغيره عن مسلم بن يَسَار، وفي لفظ عن نعيم بن ربيعة، أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ } الآية [ الأعراف : 172 ] فقال عمر : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال : خلقت/ هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) ، فقال رجل : يا رسول الله، ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا خلق الرجل للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق الرجل للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار ) .
وفي حديث الحَكَم بن سفيان، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قبض قبضة فقال : إلى الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال : إلى النار ولا أبالي ) . وهذا الحديث ونحوه فيه فصلان :(1/349)
أحدهما : القدر السابق، وهو أن الله ـ سبحانه ـ علم أهل الجنة من أهل النار من قبل أن يعملوا الأعمال، وهذا حق يجب الإيمان به، بل قد نص الأئمة؛ كمالك والشافعي وأحمد : أن من جحد هذا فقد كفر، بل يجب الإيمان أن الله علم ما سيكون كله قبل أن يكون،ويجب الإيمان بما أخبر به من أنه كتب ذلك، وأخبر به قبل أن يكون، كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء ) ، وفي صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كان الله ولا شىء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شىء، وخلق السموات والأرض وفي لفظ : ثم خلق السموات والأرض ) .
/وفي المسند عن العِرْبَاض بن سَارِية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إني عند الله مكتوب بخاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ) ، وفي حديث ميسرة الفجر : قلت : يا رسول الله، متى كتبت نبيًا ؟ وفي لفظ : متى كنت نبيًا ؟ قال : ( وآدم بين الروح والجسد ) .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : ( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نُطْفَةً، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَةً مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال : اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح " قال : " فوالذي نفسي بيده ـ أو قال : فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار ) .(1/350)
وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِبَقِيع الغَرْقَدِ في جنازة، فقال : ( ما منكم أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة ) . فقالوا : يا رسول الله، أفلا نَتِّكِل على الكتاب ونَدَع العمل ؟ قال : ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة /فسييسر لعمل أهل الشقاوة ) ، ثم قرأ قوله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 5-10 ] .
وفي الصحيح ـ أيضًا ـ أنه قيل له : يا رسول الله، أعْلم أهل الجنة من أهل النار، فقال : ( نعم ) ، فقيل له : ففيم العمل ؟ قال : ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله علم أهل الجنة من أهل النار، وأنه كتب ذلك ونهاهم أن يتكلوا على هذا الكتاب، ويدعوا العمل كما يفعله الملحدون . وقال : ( كل ميسر لما خلق له ) ، وأن أهل السعادة ميسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ميسرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا من أحسن ما يكون من البيان .(1/351)
وذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم الأمور على ما هي عليه، وهو قد جعل للأشياء أسبابًا تكون بها، فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب، كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها، فلو قال هذا : إذا علم الله أنه يولد لي، فلا حاجة إلى الوطء كان أحمق؛ لأن الله علم أن سيكون بما يقدره من الوطء، وكذلك إذا علم أنه هذا ينبت له الزرع بما يسقيه من الماء ويبذره من الحب، فلو قال : إذا علم أن سيكون فلا حاجة إلى البذر، كان جاهلا ضالاً؛ لأن الله علم أن سيكون بذلك، وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل، وهذا يروي بالشرب، وهذا يموت بالقتل، فلابد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها .
/وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدًا في الآخرة، وهذا شقيًا في الآخرة،قلنا ذلك؛ لأنه يعمل بعمل الأشقياء، فالله علم أنه يشقى بهذا العمل، فلو قيل : هو شقي، وإن لم يعمل كان باطلاً؛لأن الله لا يدخل النار أحدًا إلا بذنبه، كما قال تعالى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 58 ] ، فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه، ومن اتبع إبليس فقد عصى الله ـ تعالى ـ ولا يعاقب الله العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله .
ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين، قال : ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) يعنى : أن الله يعلم ما يعملون لو بلغوا، وقد روى أنهم في القيامة يبعث إليهم رسول، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية .(1/352)
وكذلك الجنة، خلقها الله لأهل الإيمان به وطاعته، فمن قدر أن يكون منهم يسره للإيمان والطاعة، فمن قال : أنا أدخل الجنة، سواء كنت مؤمنًا أو كافرًا، إذا علم أني من أهلها،كان مفتريًا على الله في ذلك، فإن الله إنما علم أنه يدخلها بالإيمان، فإذا لم يكن معه إيمان، لم يكن هذا هو الذي علم الله أنه يدخل الجنة، بل من لم يكن مؤمنًا بل كافرًا، فإن الله يعلم أنه من أهل النار، لا من أهل الجنة .
ولهذا أمر الناس بالدعاء والاستعانة بالله وغير ذلك من الأسباب . ومن قال : أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالاً على القدر،كان مخطئًا ـ أيضًا ـ لأن الله جعل الدعاء / والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه . وإذا قدر للعبد خيرًا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء، وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الله بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شىء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات .
ولهذا قال بعضهم : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيًا في حصول النبات، بل لابد من ريح مُرْبِيَة بإذن الله، ولابد من صرف الانتفاء عنه، فلابد من تمام الشروط، وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم من أنزل ولم يولد له، بل لابد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم، وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع .(1/353)
وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل هي سبب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ) . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا، إلا أن يتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه و فضل ) وقد قال : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] ، فهذه باء السبب، أي : بسبب أعمالكم، والذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم باء المقابلة، كما يقال : اشتريت هذا بهذا، أي ليس العمل عوضًا وثمنًا كافيا في دخول الجنة، بل لابد من عفو الله/ وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف البركات .
وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس :
فريق آمنوا بالقدر، وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود، فأعرضوا عن الأسباب الشرعية، والأعمال الصالحة، وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه .
وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله، كما يطلبه الأجير من المستأجر، مُتَّكِلِين على حَوْلِهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال، فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وهو ـ سبحانه ـ كما قال : ( ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) ، فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم، فيطالبون بجزاء ذلك، والله ـ تعالى ـ غني عن العالمين، فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤوا فلها، لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] .(1/354)
وفي الحديث الصحيح عن الله ـ تعالى ـ أنه قال : ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تَظَّالموا، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل /والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، كلكم ضال إلا ما هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك في ملكي شىئًا، إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوَفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .(1/355)
وهو ـ سبحانه ـ مع غناه عن العالمين، خلقهم وأرسل إليهم رسولا يبين لهم ما يسعدهم وما يشقيهم،ثم إنه هدى عباده المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فمَنَّ عليهم بالإيمان والعمل الصالح فخلقه بفضله، وإرساله الرسول بفضله، وهدايته لهم بفضله، وجميع ما ينالون به الخيرات من قواهم وغير قواهم هي بفضله، فكذلك الثواب والجزاء هو بفضله، وإن كان أوجب ذلك على نفسه، كما حرم على نفسه الظلم، ووعد بذلك كما قال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 54 ] ، وقال تعالى : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الروم : 47 ] ، فهو واقع لا محاله واجب بحكم إيجابه ووعده؛/ لأن الخلق لا يوجبون على الله شىئًا أو يحرمون عليه شيئًا، بل هم أعجز من ذلك وأقل من ذلك، وكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الحديث المتقدم : ( إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
وفي الحديث الصحيح : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) ، فقوله : ( أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي ) ، اعتراف بإنعام الرب وذنب العبد، كما قال بعض السلف : إني أصبح بين نعمة تنزل من الله عليَّ وبين ذنب يصعد مني إلى الله، فأريد أن أحدث للنعمة شكرًا، وللذنب استغفارًا .(1/356)
فمن أعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد ناظرًا إلى القدر، فقد ضل، ومن طلب القيام بالأمر والنهي معرضًا عن القدر، فقد ضل، بل المؤمن كما قال تعالي : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، فنعبده اتباعًا للأمر، ونستعينه إيمانًا بالقدر، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .
/فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بشيئين : أن يحرص على ما ينفعه، وهو امتثال الأمر، وهو العبادة، وهو طاعة الله ورسوله، وأن يستعين بالله، وهو يتضمن الإيمان بالقدر : أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن .
فمن ظن أنه يطيع الله بلا معونته، كما يزعم القدرية والمجوسية، فقد جحد قدرة الله التامة ومشيئته النافذة، وخلقه لكل شىء، ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد، ويسر له ذلك كان محمودًا، سواء وافق الأمر الشرعي أو خالفه، فقد جحد دين الله وكذب بكتبه ورسله ووعده ووعيده، واستحق من غضبه وعقابه أعظم ما يستحقه الأول .(1/357)
فإن العبد قد يريد ما يرضاه ويحبه ويأمر به ويقرب إليه، وقد يريد ما يبغضه الله ويكرهه ويسخطه، وينهى عنه ويعذب صاحبه، فكل من هذين قد يسر له ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ( كل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ) ، وقد قال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا . كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [ الإسراء : 18-20 ] ، وقال تعالى : { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا } [ الفجر : 15-17 ] .(1/358)
بين ـ سبحانه ـ أنه ليس كل من ابتلاه في الدنيا يكون قد أهانه، بل هو يبتلى عبده بالسَّرَّاء والضَّرَّاء، فالمؤمن يكون صبارًا شكورًا، فيكون هذا وهذا خيرًا له، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ) . والمنافق هَلُوعٌ جَزُوعٌ، كما قال تعالى : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا . إِلَّا الْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ . وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } إلى قوله : { جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ } [ المعارج : 19- 35 ] .(1/359)
ولما كان العبد ميسرًا لما لا ينفعه، بل يضره من معصية الله والبَطَر والطغيان، وقد يقصد عبادة الله وطاعته والعمل الصالح فلا يتأتى له ذلك؛ أمر في كل صلاة بأن يقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : نصفها لي، ونصفها لعبدي،ولعبدى ما سأل، فإذا قال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] قال : حمدني عبدي، فإذا قال : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [ الفاتحة : 3 ] قال : أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] قال : مجدني عبدي، فإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال : هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] قال : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ) . وقال بعض السلف : أنزل الله ـ عز وجل ـ مائة كتاب، وأربعة كتب، جمع علمها في الكتب الأربعة : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وجمع الأربعة في القرآن، وعلم القرآن في المفصل، وعلم المفصل في الفاتحة، وعلم الفاتحة في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .(1/360)
فكل عمل يعمله العبد، ولا يكون طاعة لله وعبادة، وعملاً صالحا فهو باطل، فإن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، وإن نال بذلك العمل رئاسة ومالاً، فغاية المترئس أن يكون كفرعون، وغاية المتمول أن يكون كقارون، وقد ذكر الله في سورة القصص من قصة فرعون وقارون ما فيه عبرة لأولى الألباب، وكل عمل لا يعين الله العبد عليه، فإنه لا يكون ولا ينفع، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم، فلذلك أمر العبد أن يقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .
والعبد له في المقدور حالان : حال قبل القدر وحال بعده، فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه، فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك، وإن كان ذنبًا استغفر إليه من ذلك .
وله في المأمور حالان : حال قبل الفعل وهو العزم على الامتثال / والاستعانة بالله على ذلك، وحال بعد الفعل وهو الاستغفار من التقصير وشكر الله على ما أنعم به من الخير، وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] ، أمره أن يصبر على المصائب المقدرة ويستغفر من الذنب،وإن كان استغفار كل عبد بحسبه، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقال تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، وقال يوسف : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] ، فذكر الصبر على المصائب والتقوى بترك المعائب،وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(1/361)
فأمره إذا أصابته المصائب أن ينظر إلى القدر، ولا يتحسر على الماضي، بل يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وإن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالنظر إلى القدر عند المصائب، والاستغفار عند المعائب، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 22، 23 ] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] ، قال عَلْقَمَة وغيره : هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم .
سئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه ـ عن قول علي ـ رضي الله عنه ـ : لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ما معنى ذلك ؟
فأجاب :
الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو من أحسن الكلام، وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشر، والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] ، وقال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا . مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 78، 79 ] .(1/362)
فإن كثيرًا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي .
/ثم المثبتة للقدر يحتجون بقوله : { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فيعارضهم قوله : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } ، ونفاة القدر يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم : أن العبد يخلق جميع أعماله، ويعارضهم قوله : { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } .
وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي، وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] ، وقوله تعالى : { فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ، وقوله تعالى : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } [ آل عمران : 120] ، وقوله تعالى : { وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ } [ غافر : 9 ] ونحو ذلك، وهذا كثير .
وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره، فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا : هذا من عند الله، وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا : هذا من عندك ـ يا محمد ـ بسبب الدين الذي أمرتنا به، كما قال قوم فرعون لموسى، وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى : { فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ،وكما قال الكفار لرسل عيسى : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [ يس : 18 ] .(1/363)
فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين،فبين/الله ـ سبحانه ـ أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم، وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] ، فأخبر أنه لا يعذب مستغفرًا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أكثر الاستغفار، جعل الله له من كل هم فَرَجًا، ومن كل ضِيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب ) ، وقد قال تعالى : { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [ هود : 2، 3 ] .
فبين : أن من وحده واستغفره متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، ومن عمل بعد ذلك خيرًا زاده من فضله، وفي الحديث : ( يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار ) ، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا .(1/364)
ولهذا قال تعالى : { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } [ الأنعام : 42، 43 ] ، أي : فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، فحقهم عند مجىء البأس التضرع، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [ المؤمنون : 76 ] . قال عمر بن عبد العزيز : ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة؛ ولهذا قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 173- 175 ] .
فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال علي رضي الله عنه : لا يخافن عبد إلا ذنبه، وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله، كما في الأثر : ( يقول الله : أنا الله، مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم ) .(1/365)
أما قوله : لا يرجون عبد إلا ربه . فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ، { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] ، والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 ] ، وقال : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ إبراهيم : 12 ] ، وقال تعالى : { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عمران : 160 ] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] .(1/366)
فهؤلاء قالوا : حسبنا الله، أي : كافينا الله في دفع البلاء، وأولئك أمروا أن يقولوا : حسبنا في جلب النعماء، فهو ـ سبحانه ـ كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير، أليس الله بكاف عبده، ومن توكل على غير الله ورجاه، خذل من جهته وحرم، { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } [ العنكبوت : 41 ] ، { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا . كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 81، 82 ] ، { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] ، { لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا } [ الإسراء : 22 ] ، وقال الخليل : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت : 17 ] .(1/367)
فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له، كانت صفقته خاسرة، قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ النور : 39 ] ، وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ } [ إبراهيم : 18 ] ، وقال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] ،وقال تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] كما قيل في تفسيرها : كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه، والراجي يكون راجيًا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله، فذاك نوع من العبادة له، وهذا نوع من الاستعانة به،، وقد قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وقال : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] .(1/368)
ومما يوضح ذلك : أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه، فإنما يمنعها الله، وإنما يكشفها الله، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه، فالله ـ سبحانه ـ هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك، فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر، ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن، وإن شاءه الناس .
وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب، فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب ـ وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره ـ لكان الواجب ألا/ يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى، وهو المستعان، وهو المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه، حتى يحصل المقصود .(1/369)
فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده، لم يحصل سببه، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات، والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك، فهو ـ مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل ـ فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه، ولو كان ملكًا مطاعًا، ولابد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضى وعدم المانع، وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضى، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتضيًا، وإن سمى مقتضيًا وسمى سائر ما يعينه شروطًا، فهذا نزاع لفظي . وحينئذ فيقال : لابد من وجود المقتضى الشروط، وانتفاء الموانع، وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها، فهذا باطل .
/ومن عرف هذا حق المعرفة، انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره، وهذا مبرهن بالشرع والعقل، ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية، وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب، فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له : هذا أيضًا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته، بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه، كما قال تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] .(1/370)
فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني، فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته، فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته، بل هو ـ سبحانه ـ خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات، ولا حول ولا قوة إلا به، والحول يتضمن التحول من حال إلى حال بحركة أو إرادة أو غير ذلك، فالشافع لا حول له في الشفاعة ولا غيرها إلا به، ثم أهل طاعته الذين تقبل شفاعتهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فلا يطلبون منه ما لا يحب أن يطلب منه، بل الملائكة الذين هم ملائكته كما قال فيهم : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26-28 ] .
/والصادر عنهم إما قول وإما عمل، فالقول لا يسبقونه به بل لا يقولون حتى يقول، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وعلينا أن نكون معه ومع رسله هكذا، فلا نقول في الدين حتى يقول، ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله ولا نعبده إلا بما أمر، وأعلى من هذا ألا نعمل إلا بما أمر، فلا تكون أعمالنا إلا واجبة أو مستحبة، وإذا كان هكذا في مثل هذه الأسباب فكيف بمن توكل أو رجا أسبابًا غير هذه من الكواكب أو غيرها، أو من أفعال الآدميين من الملوك والرؤساء والأصحاب والأصدقاء والمماليك والأتباع وغير ذلك ؟ !
ومما ينبغي أن يعلم : ما قاله طائفة من العلماء، قالوا : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب : أن تكون أسبابًا، نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع .(1/371)
وبيان ذلك : أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلا، ولابد له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر، وهذا مما يبين أن الله رب كل شيء ومليكه، وأن السموات والأرض وما بينهما والأفلاك وماحوته لها خالق مدبر غيرها، وذلك أن كل ما يصدر عن فلك أو كوكب أو ملك أو غير ذلك، فإنك تجده ليس مستقلا بإحداث شيء/ من الحوادث، بل لابد من مشارك ومعاون وهو مع ذلك له معارضات وممانعات .
ومن أعظم ذلك [ الفلك الأطلس التاسع ] الذي يظن كثير من المتفلسفة الإلهيين والمنجمين وغيرهم أن حركته هي السبب في حدوث الحوادث كلها، وإليها انتهى علمهم بأسباب الحوادث، ثم هم إما أن يجعلوه معلولاً لواجب الوجود بتوسط عقل أو نفس أو بغير توسط ذلك، وإما أن ينكروا أن يكون معلولا ويجعلونه واجب الوجود بنفسه، فقولهم هذا من أعظم الأقوال فسادًا، وإن كانوا مع ذكائهم لا يهتدون لذلك، ولا يهتدي كثير من الناس للرد عليهم في ذلك .
وكل من نظر إلى السماء علم أن حركته ليست هي السبب في جميع الحركات العلوية، فإن كثيرًا ما يقال : إنه بحركته المشرقية يتحرك كل ما فيه من الأفلاك من المشرق إلى المغرب، لكن مع هذا لكل فلك حركة أخرى تخصه تخالف هذه الحركة فلك الثوابت وفلك الشمس والقمر وغيرهما من الخنس الجواري الكنس، وهذه الحركات المختلفة ليست عن تلك الحركة تخالفها، ولا أفلاكها معلولة عن ذلك الفلك التاسع .(1/372)
فلو قدر أن الحوادث تكون بحركة الكواكب، وما يحدث من الأشكال المختلفة بالتثليث والتربيع والتسديس والقران وغير ذلك، فمن المعلوم أن تلك/ الأشكال المختلفة ليست معلولة عن حركة التاسع، بل حركة التاسع جزء السبب، كما أن حركة كل فلك جزء السبب، والشكل الفلكي حادث عن مجموع الحركتين، أو الحركات المختلفة، فإذا قدر أن التسعة اقترنت فلها سبع حركات بل أكثر من ذلك عندهم بحسب الأفلاك الأخر الزوائد المستدل عليها بالحركات المختلفة، كالأفلاك البدرية وغيرها مما تكون به استقامة الكواكب ورجوعها، وغير ذلك من حركاته، وإذا كان كذلك فمن جعل حركة التاسع هي السبب في جميع الحوادث، كان قوله مخالفًا لما هو معلوم عند هؤلاء الفلاسفة والمنجمين، وعند كل عاقل، ثم إذا قدر أنها سبب حركة جميع الأفلاك فليست مستقلة بإحداث شيء من السحب والرعود والبروق والأمطار والنبات وأحوال الحيوان والمعدن؛ لأن حركات هذه الأجسام ليست كلها عن حركات الأفلاك، بل فيها قوى وأسباب توجب لها حركات أخر، كما في كل فلك مبتدأ حركة ليست عن الفلك الآخر .(1/373)
والحركات كلها : إما [ طبيعية ] وإما [ إرادية ] وإما [ قسرية ] ، فالقسرية تابعة للقاسر، والطبيعية هي التي لا إحساس للمتحرك بها كحركة التراب إلى أسفل، والإرادية هي التي للمتحرك بها حس كحركة الحيوان، فما كان من هذه متحركًا بطبع فيه أو إرادة، فمبدأ حركته منه، وما كان مقسورًا فقاسره من المخلوقات إنما يقسره لما فيه من الاستعداد لقبول قسره، وذلك معنى ليس /من القاسر، فحركات الأفلاك إذا اجتمعت ليست مستقلة بتحريك هذه الأجسام، وإن جاز أن تكون جزءًا للسبب، كما نشهد أن الشمس جزء سبب في نمو بعض الأجسام ورطوبتها ويبسها ونحو ذلك، ثم بتقدير أن تكون أسبابًا فلها موانع ومعارضات؛ إذ ما من سبب يقدر إلا وله مانع إرادي أو طبيعي، أو غير ذلك كالدعاء والصدقة والأعمال الصالحة، فإنها من أعظم الأسباب في دفع البلاء النازل من السماء، ولهذا أمرنا بذلك عند الكسوف وغيره من الآيات السماوية التي تكون سببًا للعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة ) ، وأمر صلى الله عليه وسلم عند الكسوف، بالصلاة والذكر والاستغفار والصدقة والعتاقة .(1/374)
وإذا عرف أن كل واحد من الموجودات المشهودة، إذا نظرت إليها ـ واحدًا واحدًا ـ من الفلك التاسع وغيره، وجدته غير مستقل بإحداث شيء أصلا، بل لابد للحوادث من أسباب أخر، وإن كان هو جزء سبب، ولها معارضات أخر، علم بذلك أنه ليس في هذه الأمور ما يجوز أن يقال : هو المحدث للحوادث المشهودة، فضلاً عن أن يقال : هو المبدع للأجسام المتحركة حركة تخالف حركته، وتدفع موجبها، فإن الشيء لا يوجب ما يضاده ويخالفه، وإذا كان في الأجسام المتحركة، ما يخالف مقتضاه موجب الفلك التاسع ومقتضاه /ويضاده، امتنع أن يكون أحدهما علة الآخر، لأن المعلول لا يضاد علته، كما لا يجوز أن يكون فاعلا لها، كما أن الشيء لا يكون ضدًا لنفسه ولا فاعلاً لنفسه، فإن مضادته لنفسه توجب أن يكون وجوده تابعًا لوجوده، فيكون موجودًا معدومًا، وفعله لنفسه مع كون العلة متقدمة على المعلول يوجب أن تكون نفسه موجودة معدومة .
ومن المعلوم أن [ الفلك التاسع ] إذا لم تكن الحوادث والحركات التي عن قوى الأجسام منه، وإنما منه حركة عرضية لها، فألا تكون نفس الأجسام وقواها منه أولى وأحرى ! ويعلم بذلك أن المحرك للأفلاك وغيرها من الأجسام المشهودة والمبدع لهذه الأجسام بسبب آخر رب غيرها، هو الذي أبدعها على صورها المختلفة وحركها بالحركات المختلفة، وهو المطلوب .(1/375)
ثم هذه الكواكب إذا كانت جزء السبب من بعض الحوادث، فإنما تكون جزء السبب في حال دون حال،فإنها في حال ظهورها على وجه الأرض يظهر نورها وأثرها،فإذا أفلت انقطع نورها وأثرها،فلا تبقى حينئذ سببًا ولا جزءًا من السبب؛ولهذا قال الخليل صلى الله عليه وسلم : { لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } [ الأنعام : 67 ] فإنها في حال أفولها قد انقطع أثرها عنا بالكلية،فلم تبق شبهة يستند إليها المتعلق بها،والرب الذي يدعي ويسأل ويرجى ويتوكل عليه لابد أن يكون قيومًا يقيم العبد في جميع الأوقات والأحوال كما قال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] ، وقال : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255،آل عمران : 2 ] ، فهذا وغيره من أنواع/النظر والاعتبار يوجب أن العبد لا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه .
وأما كونه لا يخاف إلا ذنبه، فلما علم من أنه لا تصيبه مصيبة إلا بذنوبه، وهذا يعلم بآيات الآفاق والأنفس، وبما أخبر في كتابه كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، وبينا سر ذلك بما لا يحتمله هذا الموضع .
وهذا تحقيق ما ثبت في الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال : ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) . فبين أن كل ما يجده العبد من الخير فليحمد الله عليه، فإن الله هو الذي أنعم به، وإن ما يجده من الشر فلا يلومن فيه إلا نفسه .(1/376)
وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) ، فقوله : ( أبوء لك بنعمتك عليَّ ) اعتراف وإقرار بالنعمة، وقوله : ( وأبوء بذنبي ) إقرار بالذنب؛ ولهذا قال من قال من السلف : إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث بالنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، لكن الشكر يكون بعد النعمة والتوكل والرجاء يكون قبل النعمة، كما قال الخليل : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ العنكبوت : 17 ] ، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ) ، فجمع بين حمده والاستعانة به والاستغفار له، فقد تبين أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، وهو ظلم وجهل، وهذه حال من دعا غير الله وتوكل عليه .(1/377)
وأما قولهم : محو الأسباب أن تكون أسبابًا : نقص في العقل، فهو كذلك وهو طعن في الشرع أيضًا، فإن كثيرًا من أهل الكلام أنكروا الأسباب بالكلية وجعلوا وجودها كعدمها، كما أن أولئك الطبعيين جعلوها عللا مقتضية، وكما أن المعتزلة فرقوا بين أفعال الحيوان وغيرها، والأقوال الثلاثة باطلة؛ فإن الله يقول : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [ الأعراف : 57 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 164 ] ، وقال تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } [ المائدة : 16 ] ، وقال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } [ البقرة : 26 ] ، وأمثال ذلك، فمن قال : يفعل عندها لا بها، فقد خالف لفظ القرآن مع أن الحس والعقل يشهد أنها أسباب، ويعلم الفرق بين الجبهة وبين العين في اختصاص أحدهما بقوة ليست في الآخر، وبين الخبز والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر .
وأما قولهم : الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل هو أيضًا قدح في العقل، فإن أفعال العباد من أقوى الأسباب لما نيط بها، فمن جعل/ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أو يجعل المتقين كالفجار، فهو من أعظم الناس جهلا وأشدهم كفرًا، بل ما أمر الله به من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب، فيما نيط بها من العبادات، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علق بها من الشقاوات .(1/378)
ومع هذا، فقد قال خير الخلق : ( إنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ) ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) ، ولما قال لهم : ( ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة، ومقعده من النار ) قالوا : يا رسول الله، أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل ؟ قال : ( لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ) .
وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سببًا له، فمن قال : ما قدر لي فهو يحصل لي دعوت أو لم أدع، وتوكلت أو لم أتوكل، فهو بمنزلة من يقول : ما قسم لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي آمنت أو لم أؤمن، وأطعت أم عصيت، ومعلوم أن هذا ضلال وكفر، وإن كان الأول ليس مثل هذا في الضلال؛ إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، لكن لا ريب أن ما جعل الله الدعاء سببًا له، فهو بمنزلة ما جعل العمل/ الصالح سببًا له، وهو قادر على أن يفعله ـ سبحانه ـ بدون هذا السبب، وقد يفعله بسبب آخر .
وكذلك من ترك الأسباب المشروعة المأمور بها أمر إيجاب أو استحباب من جلب المنافع أو دفع المضار قادح في الشرع خارج عن العقل، ومن هنا غلطوا في ترك الأسباب المأمور بها، وظنوا أن هذا من تمام التوكل، والتوكل مقرون بالعبادة في قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، والعبادة فعل المأمور، فمن ترك العبادة المأمور بها وتوكل، لم يكن أحسن حالا ممن عبده ولم يتوكل عليه، بل كلاهما عاص لله تاركًا لبعض ما أمر به .(1/379)
والتوكل يتناول التوكل عليه ليعينه على فعل ما أمر، والتوكل عليه ليعطيه ما لا يقدر العبد عليه، فالاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك ويكون التوكل عليه لجلب المنفعة ودفع المضرة، قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] .
فمن لم يفعل ما أمر به، لم يكن مستعينًا بالله على ذلك، فيكون قد ترك العبادة والاستعانة عليها بترك التوكل في هذا الموضع أيضًا، وآخر يتوكل بلا فعل مأمور وهذا هو العجز المذموم، كما في سنن أبي داود : أن رجلين اختصما/ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال المقضي عليه : حسبى الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل : حسبى الله ونعم الوكيل ) ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(1/380)
فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم، اصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . قال بعض السلف ـ إما ابن مسعود وإما علقمة ـ : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
ولهذا قال آدم لموسى : ( أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة فحج آدم موسى ) ؛لأن موسى قال له : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبًا؛ ولهذا احتج عليه آدم بالقدر، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس، فليس مرادًا بالحديث؛ لأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب،/والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس .
وأيضًا، فإن آدم احتج بالقدر، وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولا، لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض ويحتج بالقدر، ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدى عليه واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول .(1/381)
ومن ظن أن الإيمان بالقدر، أن الله خالق أفعال العباد كما يظنه المباحية المشركية، الذين يقرون بالقدر دون الأمر، والقدرية المجوسية الذين يقرون بالأمر دون القدر، أو ظن أن التكليف مع ذلك غير معقول، ولكن الشارع أطيع فيه لمحض المشيئة الإلهية، وأن الله يفعل، وجعل ذلك حجة له في الأفعال لم يتضمن أسبابًا مناسبة للأمر والنهي، بل أنكر ما اشتملت عليه الشريعة من المصالح والمحاسن والمقاصد التي للعباد في المعاش والمعاد، وجعل ذلك الشرع مجرد إضافة من غير أن يكون من العلة والمعلول مناسبة وملائمة، وأنكر أن تكون الأفعال على وجوه لأجلها كانت حسنة مأمورًا بها، وكانت سيئة منهيًا عنها احتجاجًا على ذلك بالقدر، وأنه مع كون الرب هو الخالق يمتنع هذا كله /فهو مخطئ ضال يعلم فساد قوله بالضرورة، وبما اتفق عليه العقلاء مع دلالة الكتاب والسنة والإجماع على فساد قوله .
فإن عامة بني آدم يؤمنون بالقدر، ويقولون : إنه لابد من عقوبة المعتدين حتى المجانين والبهائم، يؤدبون لكف عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة، وبعفو كمل الآدميين عن عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة فالعبد عليه أن يصبر، وينبغي له أن يرضي بما قدر من المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب ولا يحتج لها بالقدر، ويشكر ما قدر الله له من النعم والمواهب، فيجمع بين الشكر والصبر والاستغفار والإيمان بالقدر والشرع، والله أعلم .(1/382)
ما تقول السادة أئمة المسلمين أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ في قوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، فإن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ وقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، فإن كانت اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك، وإن كانت اللام للغرض لزم ألا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته، وليس كذلك، فكيف التخلص من هذا المضيق ؟
وفيما ورد من الأخبار والآيات بالرضاء بقضاء الله تعالى، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( جف القلم بما هو كائن ) ، وفي معنى قوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] ، فإن كان الدعاء أيضًا بما هو كائن، فما فائدة الأمر به ولابد من وقوعه ؟ .
فأجاب شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رحمه الله :
الحمد لله رب العالمين .
/أما المسألة الأولى فهي مبنية على أصلين :
أحدهما : الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلاً من المخاطب، بل هو الذي يكون المخاطب به ويخلقه بدون فعل من المخاطب أو قدرة أو إرادة أو وجود له، وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلاً أو تركًا يفعله بقدرة وإرادة ـ وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ـ وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس، هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده ؟ ولا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده .
وكذلك تنازعوا في الأول، هل هو خطاب حقيقي ؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة ؟ والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة .(1/383)
والأصل الثاني : أن المعدوم في حال عدمه، هل هو شىء أم لا ؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شىء في الخارج، وذات وعين، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة، وأن وجودها زائد على حقيقتها، وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة .
/والذي عليه جماهير الناس، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة، أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشىء أصلاً ولا ذات ولا عين، وأنه ليس في الخارج شيئان : أحدهما حقيقته، والآخر وجوده الزائد على حقيقته، فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات، فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له ـ سبحانه وتعالى ـ لكن في هؤلاء من يقول : المعدوم ليس بشىء أصلا، وإنما سمى شيئًا باعتبار ثبوته في العلم فكان مجازًا .
ومنهم من يقول : لا ريب أن له ثبوتًا في العلم، ووجودًا فيه، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شىء وذات، وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت، كما فرق من قال : المعدوم شىء، ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشىء بين الممكن والممتنع، كما فرق أولئك؛ إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشىء، وإنما النزاع في الممكن .
وعمدة من جعله شيئًا إنما هو لأنه ثابت في العلم، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه، وغير ذلك قالوا : وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض، فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي زالت الشبهة في هذا الباب .(1/384)
/وقوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] . ذلك الشىء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه،وبذلك كان مقدرًا مقضيًا، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو : ( إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) ، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كان الله ولم يكن شىء معه وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شىء، ثم خلق السموات والأرض ) ، وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أول ما خلق الله القلم، فقال له : اكتب، فقال : ما أكتب ؟ قال : ما هو كائن إلى يوم القيامة ) .
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلومًا مخبرًا عنه مكتوبًا، فهو شىء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتًا في الخارج، بل هو عدم محض، ونفي صرف، وهذه المراتب الأربعة المشهورة للموجودات، وقد ذكرها الله ـ سبحانه وتعالى ـ في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1-5 ] ، وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع .(1/385)
وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة وتعلقت/ به القدرة وخلق وكون، كما قال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، فالذي يقال له : كن هو الذي يراد، وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز في العلم والتقدير، ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم .
فإن قول السائل : إن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال .
يقال له : هذا إذا كان موجودًا في الخارج وجوده الذي هو وجوده، ولا ريب أن المعدوم ليس موجودًا، ولا هو في نفسه ثابت، وأما ما علم وأريد وكان شيئًا في العلم والإرادة والتقدير، فليس وجوده في الخارج محالاً، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة .
وقول السائل : إن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ !
يقال له : أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم في الخطاب بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال؛ إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل، والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه، بمعنى أنه يطلب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل، وكذلك أيضًا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين، بمعنى أن يعتقد أنه شىء ثابت في الخارج، وأنه يخاطب بأن يكون .(1/386)
/وأما الشىء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه، فليس ذلك محالاً، بل هو أمر ممكن، بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه فيقدر أمرا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته، فإن كان قادرًا على حصوله، حصل مع الإرادة والطلب الجازم، وإن كان عاجزا لم يحصل، وقد يقول الإنسان : ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب، فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله ـ سبحانه ـ على كل شىء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون .
فصل
وأما المسألة الثالثة، فقوله : فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله،فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله فهو محال وقدح في التوحيد،وإن كانت بقضاء الله ـ تعالى ـ فكراهتها وبغضها كراهة وبغض لقضاء الله تعالى .(1/387)
فيقال : ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله آية، ولا حديث يأمر العباد أن يرضوا بكل مقضى مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها؛ فهذا أصل يجب أن يعتني به، ولكن على الناس أن يرضوا بما أمر الله به، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به، قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ النساء : 56 ] ، وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] ، وقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، وذكر الرسول هنا يبين أن الإيتاء هو الإيتاء الديني الشرعي، لا الكوني القدري، وقال صلى الله عليه وسلم في/ الحديث الصحيح : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ) .
وينبغي للإنسان أن يرضى مما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوبًا مثل أن يبتليه بفقر أو مرض أو ذل وأذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، وأما الرضا بها فهو مشروع، لكن هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين لأصحاب أحمد وغيرهم، أصحهما أنه مستحب ليس بواجب .(1/388)
ومن المعلوم أن أوثق عُرَي الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وقد أمرنا الله أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله، وننهي عن المنكر ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله ونجاهدهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، فكيف نتوهم أنه ليس في المخلوقات ما نبغضه ونكرهه ؟ ! وقد قال تعالى لما ذكر ما ذكر من المنهيات : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [ الإسراء : 38 ] ، فإذا كان الله يكرهها وهو المقدر لها، فكيف لا يكرهها من أمر الله أن يكرهها ويبغضها،وهو القائل : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ } [ الحجرات : 7 ] ؟ وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] ، وقد قال تعالى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ } [ الزخرف : 55 ] ، وقال تعالى : { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } [ الفتح : 6 ] ، وقال تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } [ النساء : 108 ] ، فأخبر أن من القول الواقع ما لا يرضاه .(1/389)
/وقال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } [ النور : 55 ] ، وقال : { وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } [ المائدة : 3 ] ، وقال : { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] ، فبين أنه يرضى الدين الذي أمر به، فلو كان يرضى كل شىء لما كان له خصيصة، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزني أمته ) ، وقال : " ( إن الله يغار والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه ) ، ولابد في الغيرة من كراهة ما يغار منه وبغضه وهذا باب واسع .
قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى :
في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس، وقوله : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] ، و قوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } إلى قوله : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] ، فإنه ينفي التحريم عن غيرها، ويثبته لها، لكن هل أثبتها للجنس أو لكل واحد من العلماء كما يقال : إنما يحج المسلمون، وذلك أن المستثنى هل هو مقتضى، أو شرط ؟
ففي الآية وأمثالها هو مقتضى فهو عام؛ فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف، فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات وترك السيئات، وكل عاص فهو جاهل ليس بتام العلم، تبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم .(1/390)
وإذا كان كذلك فعدم العلم ليس شيئًا موجودًا، بل هو مثل عدم القدرة وعدم السمع وعدم البصر، والعدم ليس شيئًا، وإنما الشىء الموجود ـ والله خالق كل شىء ـ فلا يضاف العدم المحض إلى الله تعالى، لكن قد /يقترن به موجود، فإذا لم يكن عالمًا، والنفس بطبعها تحركه فإنها حية، والحركة الإرادية من لوازم الحياة، ولهذا أصدق الأسماء : الحارث والهمام، وفي الحديث : ( مثل القلب مثل ريشة ملقاة ) إلخ، وفيه : ( القلب أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا ) ، فإذا كان كذلك، فإن هداها الله علمها ما ينفعها وما يضرها، فأرادت ما ينفعها وتركت ما يضرها، والله سبحانه تفضل على بني آدم بأمرين؛ هما أصل السعادة :
أحدهما : أن كل مولود يولد على الفطرة، كما في الصحيحين، ولمسلم عن عياض ابن حمار مرفوعًا : ( إني خلقت عبادي حنفاء ) الحديث، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت محبة لله تعبده لا تشرك به شيئًا، ولكن يفسدها من يزين لها من شياطين الإنس والجن، قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية [ الأعراف : 172 ] ، وتفسير هذه الآية مبسوط في غير هذا الموضع .(1/391)
الثاني : أن الله تعالى هدى الناس هداية عامة، بما جعل فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } إلى قوله : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1-5 ] ، وقال تعالى : { الرَّحْمنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن : 1-4 ] ، وقال تعالى : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1-3 ] ، وقال : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، ففي كل واحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الآخرة، وجعل في فطرته محبة لذلك .
/لكن قد يعرض الإنسان عن طلب علم ما ينفعه وذلك الإعراض أمر عدمي، لكن النفس من لوازمها الإرادة والحركة فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها أن تحيا الحياة النافعة فتعبد الله، ومتى لم تحى هذه الحياة كانت ميتة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبًا لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة،ولا ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى : { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } [ الأعلى : 13 ] ، فالجزاء من جنس العمل لما كان في الدنيا ليس بحي الحياة النافعة ولا ميتًا عديم الإحساس، كان في الآخرة كذلك، والنفس إن علمت الحق وأرادته، فذلك من تمام إنعام الله عليها، وإلا فهي بطبعها لابد لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة؛ فهذا تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده وهذا عدم .(1/392)
والقدرية يعترفون بهذا، وبأن الله خلق الإنسان مريدًا، لكن يجعلونه مريدًا بالقوة والقبول، أي قابلاً لأن يريد هذا وهذا، وأما كونه مريدًا لهذا المعين وهذا المعين، فهذا عندهم ليس مخلوقا لله، وغلطوا بل الله خالق هذا كله، وهو الذي ألهم النفس فجورها وتقواها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم آت نفسي تقواها ) إلخ، والله ـ سبحانه ـ جعل إبراهيم وأهل بيته أئمة يدعون بأمره، وجعل آل فرعون أئمة يدعون إلى النار، ولكن هذا إلى الله لوجهين من جهة علته الغائية، ومن جهة سببه :
/أما العلة الغائية، فإنه إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير، وإن كان شرًا إضافيًا، فإذا أضيف مفردًا توهم المتوهم مذهب جهم بن صفوان : أن الله خلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد، لا لحكمة ولا لرحمة، والكتاب والسنة والاعتبار يبطل هذا، كما إذا قيل : محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض؛ كان هذا ذما لهم، وكان باطلاً، وإذا قيل : يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ويقتلون من منعهم من ذلك؛ كان هذا مدحًا لهم وكان حقًا .
فإذا قيل : إن الرب ـ تعالى ـ حكيم رحيم أحسن كل شىء خلقه وهو أرحم الراحمين، والخير بيديه والشر ليس إليه، لا يفعل إلا خيرًا، وما خلقه من ألم لبعض الحيوان، ومن أعماله المذمومة، فله فيه حكمة عظيمة ونعمة جسيمة، كان هذا حقًا وهو مدح للرب .
وأما إذا قيل : يخلق الشر الذي لا خير فيه، ولا منفعة لأحد، ولا له فيه حكمة ولا رحمة، ويعذب الناس بلا ذنب، لم يكن مدحًا له بل العكس، وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة وما لم نعلم أعظم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقا .(1/393)
وقد ذكرنا في غير هذا أن ما خلقه فهو نعمة يستحق عليها الشكر، وهو من آلائه؛ ولهذا قال في آخر سورة النجم : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ النجم : 55 ] ،/ وفي سورة الرحمن يذكر : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ونحو ذلك، ويقول عقبه : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال طائفةـ واللفظ للبغوي ـ ثم ذكر قوله : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] قال : كل ما ذكر الله عز وجل من قوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ، فإنه مواعظ وهو نعمة؛ لأنه يزجر عن المعاصي، وقال آخرون منهم : الزجاج، وابن الجوزي، في الآيات، أي : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } بهذه الأشياء؛ لأنها كلها نعم في دلالتها إياكم على توحيده ورزقه إياكم ما به قوامكم، هذا قالوه في سورة الرحمن، وقالوا في قوله : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ النجم : 55 ] ، فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تشكك، وقيل : تشك وتجادل، وقال ابن عباس : تكذب .(1/394)
قلت : ضمن تتمارى معنى تكذِّب؛ ولهذا عداه بالتاء، فإنه تفاعل من المراء، يقال : تمارينا في الهلال، ومراء في القرآن كفر، وهو يكون لتكذيب وتشكيك، ويقال : لما كان الخطاب لهم، قال : تتمارى، أي يتمارون، ولم يقل : تمتري؛ لأن التفاعل يكون بين اثنين . قالوا : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [ النجم : 39 ] ، قيل : الوليد بن المغيرة، فإنه قال : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى . أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ النجم : 36-38 ] ، ثم التفت إليه فقال : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } كما قال : { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ . وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 14-16 ] .
ففي كل ما خلقه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه/ يستحق أن يحمد عليها لذاته، فجميع المخلوقات فيها إنعام إلى عباده كالثقلين المخاطبين بقوله : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } من جهة أنها آيات يحصل بها هدايتهم، وتدل على وحدانيته، وصدق أنبيائه؛ ولهذا قال عقيبه : { هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى } [ النجم : 56 ] قيل : محمد، وقيل : القرآن، وهما متلازمان، يقول : هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل، والكتب الأولى . وقوله : { مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى } ، أي : من جنسها، فأفضل النعم نعمة الإيمان، وكل مخلوق فهو من الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] ، وقال : { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ ق : 8 ] .(1/395)
وما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة؛ لأنه يكفر خطاياه ويثاب عليه بالصبر، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها العبد، { وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } الآية [ البقرة : 216 ] ، وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر، أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، كما قال بعض السلف : ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر؛ فلهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لكن لما كان في السراء اللذة، وفي الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء، قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } إلى قوله : { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الآية [ هود : 9-11 ] .
/وأيضًا، صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، وأما صبر السراء فقد يكون مستحبًا، وصاحب الضراء قد يكون الشكر في حقه مستحبًا، واجتماع الشكر والصبر يكون مع تألم النفس وتلذذها، وهذا حال يعسر على كثير وبسطه له موضع آخر .(1/396)
والمقصود أن الله ـ تعالى ـ منعم بهذا كله؛ وإن كان لا يظهر في الابتداء لأكثر الناس، فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون،وأما ذنوب الإنسان فهي من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة،وهي نعمة على غيره لما يحصل له بها من الاعتبار، ومن هذا قوله : " اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل غيري أسعد بما علمتني مني " ، وفي دعاء القرآن : { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ يونس : 85 ] ، وكما فيه : { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ] . واجعلنا أئمة لمن يقتدى بنا، ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا، والآلاء في اللغة هي النعم، وهي تتضمن القدرة .
والله ـ تعالى ـ في القرآن يذكر آياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر آياته التي فيها نعمه إلى عباده، ويذكر آياته المبينة لحكمته، وهي متلازمة، لكن نعمة الانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا استدل بها في [ سورة النحل ] ، وتسمى [ سورة النعم ] ، كما قاله قتادة وغيره . وعلى هذا فكثير من الناس يقول : الحمد أعم من الشكر من جهة أسبابه؛ فإنه يكون على نعمة وغيرها، والشكر أعم من جهة أنواعه، فإنه يكون /بالقلب واللسان واليد، فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة، لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال .
لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم، والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا، وكذلك القدرية الذين يقولون : لا تعود الحكمة إليه، بل ما ثم إلا نفع الخلق، فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة، والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، وحقيقة مذهبهم : أنه لا يستحق الحمد؛ فله ملك بلا حمد، كما أن عند المعتزلة له نوع من الحمد بلا ملك، وعند السلف له الملك والحمد تامين .(1/397)
قال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] ، فله الوحدانية في إلهيته، وله العدل وله العزة والحكمة، وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السنة نقص الرب بعض حقه .
والجهمي الجبري لا يثبت عدلاً ولا حكمة، ولا توحيد إلهيته، بل توحيد ربوبيته، والمعتزلي لا يثبت توحيد إلهيته، ولا عدلا ولا عزة ولا حكمة، وإن قال : إنه يثبت حكمة ما، معناها يعود إلى غيره، فتلك لا تكون حكمة، فمن فعل لا لأمر يرجع إليه بل لغيره، فهذا عند العقلاء قاطبة ليس بحكيم، وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر والحمد،/ وإن كان على نعمة وعلى حكمة، فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التي تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر .
ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجردًا إذ كان نوعًا من الشكر، وشرع الحمد الذي هوالشكر مقولا أمام كل خطاب مع التوحيد، ففي الفاتحة الشكر مع التوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد . والباقيات الصالحات نوعان : فسبحان الله وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا الله والله أكبر فيها التوحيد والتكبير، وقد قال تعالى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ غافر : 14 ] ، { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ، وهل الحمد على الأمور الاختيارية كما قيل في العزم، أم عام ؟ فيه نظر ليس هذا موضعه .(1/398)
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول : [ ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولامعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) هذا لفظ الحديث . و [ أحق ] أفعل التفضيل، وقد غلط فيه طائفة فقالوا : حق ما قال العبد، وهذا ليس بسديد، فإن العبد يقول الحق والباطل؛ بل حق ما يقوله الرب، كما قال : { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } [ ص : 84 ] ، ولكن أحق خبر مبتدأ محذوف، أي : الحمد أحق ما قال العبد، ففيه أن الحمد أحق ما قاله العبد، ولهذا وجب في كل صلاة .
/وإذا قيل : يخلق ما هو شر محض، لم يكن هذا موجبًا لمحبة العباد له، وحمدهم، بل العكس؛ ولهذا كثير من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم نظمًا ونثرًا، وكثير من شيوخهم وعلمائهم يذكر ذلك، وإن لم يقله بلسانه، فقلبه ممتلئ به، لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة، أو يخاف من المسلمين، وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا، ويقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله، وهو خلاف ما وصف به نفسه في قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، فقوله : أحق ما قال العبد، يقتضى أن حمده أحق ما قاله العبد؛ لأنه سبحانه لا يفعل إلا الخير وهو سبحانه .
ونفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر حكمة بالغة ونعمة سابغة .
فإذا قيل : فلم لا خلقها على غير هذا الوجه ؟(1/399)
قيل : كان يكون ذلك خلقًا غير الإنسان، وكانت الحكمة بخلقه لا تحصل، وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } إلى قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ، فعلم من الحكمة في خلق هذا مالم تعلمه الملائكة، فكيف يعلمه آحاد الناس، ونفس الإنسان خلقت، كما قال تعالى : / { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19-21 ] ، وقال : { خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] ، فقد خلق خلقة تستلزم وجود ما خلق منها، لحكمة عظيمة ورحمة عميمة فهذا من جهة الغاية مع أن الشر لا يضاف إليه سبحانه .
وأما الوجه الثاني : من جهة السبب فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التي تصلح النفس، فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته، وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك، وهذا كله من فضل الله وإحسانه؛ لكن النفس المدينة لما حصل لها من زين لها السيئات من شياطين الإنس والجن مالت إلى ذلك، وكان ذلك مركبًا من عدم ما ينفع، وهذا الأصل ووجود هذا العدم لا يضاف إلى الله ـ تعالى ـ وهؤلاء القول فيهم كالقول فيها، خلقهم لحكمة، فلما كان عدم ما تصلح به هو أحد السببين، والشر المحض هو العدم المحض، وهو ليس شيئًا، والله خالق كل شىء فكانت السيئات منها باعتبار أنها مستلزمة للحركة الإرادية .
والعبد إذا اعترف أن الله خالق أفعاله، فإن اعترف إقرارًا بخلق الله لكل شىء وبكلماته التامات، واعترافًا بفقره إليه، وأنه إن لم يهده فهو ضال، فخضع لعزته وحكمته، فهذا حال المؤمنين، وإن اعترف احتجاجًا بالقدر، فهذا الذنب أعظم من الأول، وهذا من أتباع الشيطان .
وهنا سؤال سأله طائفة : وهو أنه لا يقضي للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا /له، وقد قضى عليه السيئات، وعنه جوابان :(1/400)
أحدهما : أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث؛ ولكن ما يصيبه من النعم والمصائب؛ ولهذا قال : ( إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له ) إلخ . وهذا ظاهر اللفظ فلا إشكال .
والثاني : إن قدر دخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن ) ، فإذا قضى له بأن يحسن فهو مما يسره، فإذا قضى له بسيئة، فهو إما يستحق العقوبة إذا لم يتب،فإن تاب أبدلت حسنة فيشكر عليها،وإن لم يتب ابتلى بمصائب تكفرها فيصبرعليها فيكون ذلك خيرًا له وهو قال : لا يقضى الله للمؤمن، والمؤمن المطلق هو الذي لا يضره الذنب؛ بل يتوب منه فيكون حينئذ كما جاء في عدة آثار : إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة،يعمله فلا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه واستغفاره وشهوده لفقره، وفاقته إليه سبحانه .
وفي قوله : { فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] من الفوائد : أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، فإن الشر لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، ولكن يرجع إلى الذنوب فيتوب منها، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له الخير ويدفع عنه الشر؛ ولهذا كان أنفع/ الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] .(1/401)
فإنه إذا هداه هذا الصراط، أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذنوب من لوازم النفس، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب، ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه؛ ولهذا أمر به في كل صلاة لفرط الحاجة إليه، وإنما يعرف بعض قدره من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن المأمورين بهذا الدعاء، ورأى ما فيها من الجهل والظلم الذي يقتضى شقاءها في الدنيا، والآخرة، فيعلم أن الله تعالى بفضله ورحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر .
ومما يبين ذلك أن الله ـ تعالى ـ لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبرها، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول، وكانا مشتركين في المقتضى والحكم، فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل ـ فرعون ومن قبله ـ لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط؛ لكن الأمر كما قال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] ، وقال : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] ، وقال تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] ، وقال : { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } [ التوبة : 30 ] ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : / ( لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) ، قالوا : يارسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) ،وقال : ( لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرًا بشبر،وذراعًا بذراع ) . قالوا : يا رسول الله، فارس والروم ؟ قال : ( فمن ؟ ) ، وكلا الحديثين في الصحيحين .(1/402)
ولما كان في غزوة حنين، كان للمشركين سدرة يعلقون عليها أسلحتهم، فقال بعض الناس : يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قال أصحاب موسى : { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 38 ] ، إنها سنن لتركبن سنن من كان قبلكم ) .
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله فأعظمها جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة له سبحانه، أو إلها من دونه، وكل هذين وقع، فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يعبد ويطاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا، وهذا إن لم يعن الله العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه فرعون وإبليس بحسب الإمكان، قال بعض العارفين : ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، إلا أنه قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر .
/وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } [ الفرقان : 43 ] ، والناس عنده كما هم عند ملوك الكفار من الترك وغيرهم : [ يال، ياغي ] ، أي صديقي وعدوي، فمن وافق هواهم، كان وليًا وإن كان كافرًا، وإن لم يوافقه، كان عدوا وإن كان من المتقين، وهذه حال فرعون .(1/403)
والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية وجحود الصانع، وهؤلاء وإن أقروا بالصانع، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادة الله المتضمنة ترك طاعتهم عادوه، كما عادى فرعون موسى ـ عليه السلام ـ وكثير من الناس عنده عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد، بل تطلب نفسه ما هو عنده، فإذا كان مطاعًا مسلمًا طلب أن يطاع في أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل .
وإن كان عالمًا أو شيخًا أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض نظيره حسدًا وبغيًا، كما فعلت اليهود لما بعث الله تعالى من يدعو إلى مثل ما دعى إليه /موسى قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } الآية [ البقرة : 91 ] ، وقال : ّ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 4 ] ، وقال : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [ الشورى : 14 ] ؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم به منهم، فقال تعالى عن فرعون : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ } الآية [ القصص : 4 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 38 ] .(1/404)
والله ـ سبحانه ـ إنما خلق الخلق لعبادته ليذكروه ويشكروه ويعبدوه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقد أمر الرسل كلهم بهذا، وألا يتفرقوا فيه فقال : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } الآية [ المؤمنون : 51، 52 ] .
قال قتادة : أي : دينكم واحد، وربكم واحد، والشريعة مختلفة، وكذلك قال الضحاك . وعن ابن عباس : أي دينكم دين واحد، قال ابن أبي حاتم، وروى عن سعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن نحو ذلك . قال الحسن : بين لهم ما يتقون، وما يأتون، ثم قال : إن هذه سنتكم سنة واحدة، وهكذا قال/ جمهور المفسرين، والأمة : الملة والطريقة، كما قال : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] ، كما تسمى الطريق إمامًا، لأن السالك فيها يؤتم به، فكذلك السالك يؤمه ويقصده، والأمة أيضًا : معلم الخير الذي يأتم به الناس، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ جعله الله إمامًا، وأخبر أنه كان أمة .(1/405)
وأمر الله ـ تعالى ـ الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحدًا، لا يتفرقون فيه كما في الصحيحين : ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد ) ، وقال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } الآية [ الشورى : 13 ] ؛ ولهذا كان يصدق بعضهم بعضا لا يختلفون مع تنوع شرائعهم،فمن كان من المطاعين من الأمراء والعلماء والمشايخ متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم أمر بما أمر به ودعا إليه، وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه، فإن الله يحب ذلك، فيحب ما يحبه الله؛ لأن قصده عبادة الله وحده، وأن يكون الدين لله، ومن كره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك؛ فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، وله نصيب من حال فرعون وأشباهه، فمن طلب أن يطاع دون الله فهذا حال فرعون، ومن طلب أن يطاع مع الله فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، والله ـ سبحانه ـ أمر ألا يعبد إلا إياه ولا يكون الدين إلا له، وتكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان إلا به .
فالمتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل؛ ليكون الدين لله لا له، /فإذا أمر غيره بمثل ذلك، أحبه وأعانه وسر به؛ وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسنًا فيرى أن عمله لله وبالله، وهذا مذكور في الفاتحة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكورا، ولا يمن عليه بذلك، فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان، فعليه أن يشكر الله إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك أن يشكر الله إذ يسر له ما ينفعه، ومن الناس من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو ليجزيه بطاعته له وتعظيمه إياه أو نفع آخر، وقد يمن عليه فيقول : أنا فعلت وفعلت بفلان فلم يشكر ونحو ذلك، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، فلا عمل لله ولا عمل به، فهو كالمرائي .(1/406)
وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي، فقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 264، 265 ] . قال قتادة : تثبيتًا من أنفسهم : احتسابًا من عند أنفسهم . وقال الشعبي : يقينًا وتصديقًا من أنفسهم . وقيل : يخرجونها طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه . قلت : إذا كان المعطي محتسبًا للأجر من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه .(1/407)
/الفرق السادس : أن ما يبتلى به من الذنوب وإن كان خلقًا لله فهو عقوبة له على عدم فعل ما خلقه الله له وفطره عليه، فإنه خلقه لعبادته وحده، ودل عليه الفطرة، فلما لم يفعل ما خلق له وما فطر عليه، عوقب على ذلك، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، قال تعالى : { اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا } إلى قوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الإسراء : 63-65 ] ، وقال تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 99، 100 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ . وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } [ الأعراف : 201، 202 ] .(1/408)
فتبين أن الإخلاص يمنع من تسلط الشيطان، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، فكان إلهامه لفجوره عقوبة له وعدم فعل الحسنات ليس أمرًا موجودًا حتى يقال : إن الله خلقه، ومن تدبر القرآن، تبين له أن عامة ما يذكر الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل، كقوله تعالى : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الآية [ الأنعام : 125 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وقال : { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 8-10 ] ، وهذا وأمثاله يذكر فيه أعمالاً عاقبهم بها على فعل محظور وترك مأمور، ولابد لهم من حركة وإرادة، فلما لم يتحركوا بالحسنات، حركوا/ بالسيئات عدلاً من الله، كما قيل : نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل .
وهذا الوجه إذا حقق يقطع مادة كلام طائفتي القدرية المكذبة والمجبرة الذين يقولون : خلقها لذلك، والتعذيب لهم ظلم، يقال لهم : إنما أوقعهم فيها وطبع على قلوبهم عقوبة لهم، فما ظلمهم ولكن ظلموا أنفسهم، يقال : ظلمته، إذا نقصته حقه، قال تعالى : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } [ الكهف : 33 ] .(1/409)
وكثير منهم يسلمون أن الله خلق من الأعمال ما يكون جزاء على عمل متقدم، ويقولون : خلق طاعة المطيع لكن ما خلق شيئًا من الذنوب ابتداء، بل جزاءً ،فيقولون : أول ما يفعل العبد لم يحدثه الله، وما ذكرنا يوجب أن يكون الله خالق كل شىء، لكن أولها عقوبة على عدم فعله لما خلق له، والعدم لا يضاف إلى الله، فما أحدثه فأوله عقوبة على هذا العدم، وسائرها قد يكون عقوبة على ما وجد، وقد يكون عقوبة على استمراره على العدم، فما دام لا يخلص لله لا يزال مشركًا والشيطان مسلط عليه .
ثم تخصيصه ـ سبحانه ـ لمن هداه بأن استعمله ابتداء فيما خلق له تخصيص بفضله، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل؛ ولهذا يقول تعالى : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 105 ] ، وكذلك الفضل هو أعلم به، كما خص بعض الأبدان/ بقوى لا توجد في غيرها، وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية، وغير ذلك من حكمته، وتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب .
ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان قوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] هذا من تمام قوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] ، فذكر أن هذا التقليب يكون لمن لم يؤمنوا به أول مرة، وهذا عدم الإيمان، لكن يقال : هذا بعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وقد كذبوا وتركوا الإيمان، وهذه أمور وجودية؛ لكن الموجب هو عدم الإيمان، وما ذكر شرط في التعذيب، كإرسال الرسول، فإنه قد يشتغل عن الإيمان بما جنسه مباح لا يستحق به العقوبة، إلا لأنه شغله عن الإيمان، ومن الناس من يقول ضد الإيمان هو تركه، وهو أمر وجودي لا ضد له إلا ذلك .(1/410)
الفرق السابع : أن السيئات التي هي المصائب ليس لها سبب إلا ذنبه الذي من نفسه، وما يصير من الخير لا تنحصر أسبابه؛ لأنه من فضل الله يحصل بعمله وبغيره عمله، وعمله من إنعام الله عليه، وهو ـ سبحانه ـ لا يجزيه بقدر العمل، بل يضاعفه، فلا يتوكل إلا على الله ولا يرجع إلا إليه، فهو يستحق الشكر المطلق العام التام، وإنما يستحق غيره من الشكر ما يكون جزاء على ما يسره الله على يديه من الخير، كشكر الوالدين، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس؛ لكن لا يبلغ من قول أحد وإنعامه أن يشكر بمعصية الله أو يطاع بمعصيته، فإنه هو/ المنعم، قال تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] ، وقال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [ الجاثية : 31 ] ، وجزاؤه على الطاعة والشكر وعلى المعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله؛ فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق، وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } الآية [ العنكبوت : 8 ] ، وفي الآية الأخرى : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [ لقمان : 15 ] .
والمقصود أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله، صار توكله ورجاؤه له سبحانه، وإذا علم ما يستحقه من الشكر الذي لا يستحقه غيره .(1/411)
والشر انحصر سببه في النفس، فعلم من أين يأتي، فاستغفر واستعان بالله واستعاذ به مما لم يعمل بعد؛ كما قال من قال من السلف : لا يرجْوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وهذا خلاف قول الجهمية الذين يقولون : يعذب بلا ذنب، ويخافونه ولو لم يذنبوا، فإذا صدق بقوله : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، علم بطلان هذا القول، وقد تقدم قول ابن عباس وغيره : إن ما أصابهم يوم أحد كان بذنوبهم، لم يستثن من ذلك أحدا، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب لئلا يظن أنه عام مخصوص .
/الفرق الثامن : أن السيئة إذا كانت من النفس،والسيئة خبيثة مذمومة،ووصفها بالخبث في مثل قوله : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } [ النور : 26 ] ، قال جمهور السلف : الكلمات الخبيثة للخبيثين، وقال بعضهم : الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً } إلى قوله : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } [ إبراهيم : 24-26 ] ، وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل، فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث، لم يكن محلها إلا ما يناسبها، فمن أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير لم يصلح، ومن أراد أن يجعل الكذاب شاهدا لم يصلح، وكذلك من أراد أن يجعل الجاهل معلمًا، أو الأحمق سائسًا، فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة، بل إذا كان في النفس خبث طهرت، وهذبت، كما في الصحيح : ( إن المؤمنين إذا نجوا من النار وقفوا على قنطرة ) الحديث .(1/412)
وإذا علم أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، وقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } [ الزلزلة : 7، 8 ] ، وعلم أن الرب جارية أفعاله على قانون العدل والإحسان، وفي الصحيح : ( يمين الله ملأى ) الحديث، وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة، وهو ـ سبحانه ـ قد شهد أن لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط، وهم قصدوا مناقضة/المعتزلة في القدر والوعيد؛ فلهذا سلك مسلك جهم من ينتسب إلى السنة والحديث وأتباع السلف، وكذلك سلكوا في الإيمان والوعيد، مسلك المرجئة الغلاة،جهم وأتباعه، وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة :
نوع في الأسماء والصفات، فغلا في النفي، ووافقه على ذلك الباطنية والفلاسفة ونحوهم، والمعتزلة في الصفات دون الأسماء، والكلابية ومن وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث في نفي الصفات الاختيارية، والكَرَّامية ونحوهم وافقوه على أصل ذلك، وهو امتناع دوام ما لا يتناهى، وأنه يمتنع أن يكون لم يزل متكلمًا إذا شاء، وفعّالاً إذا يشاء لامتناع حوادث لا أول لها، وعن هذا الأصل نفي وجود ما لا يتناهي في المستقبل، وقال بفناء الجنة والنار، ووافقه أبو الهذيل إمام المعتزلة على هذا لكن قال تتناهى الحركات .(1/413)
فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات . وكذلك الأشعرية، ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصاري : الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة، ومن الناس من يقول : المعتزلة مخانيث الفلاسفة؛ لأنه لم يعلم أن جهما سبقهم إلى هذا الأصل، أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه، والشهرستاني يذكر أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة؛ لأنه إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية معهم بخلاف أئمة السنة، فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية، وهم المشهورون عند/ السلف بنفي الصفات، وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف .
وأما المعتزلة، فامتازوا بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدثه عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة، فيقول قتادة وغيره : أولئك المعتزلة، وكان ذلك بعد موت الحسن .
وبدعة القدرية حدثت قبل ذلك بعد موت معاوية؛ ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وابن عباس مات قبل ابن الزبير، وابن عمر مات عقب موته، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين، فبقى الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق والبصرة، وأقله كان بالحجاز فلما حدثت المعتزلة وتكلموا بالمنزلة بين المنزلتين، وقالوا : بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد، وأن النار لا يخرج منها من دخلها ضموا إلى ذلك القدر فإنه به يتم .
ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئًا من نفي الصفات، إلى أن ظهر الجعد بن درهم وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليما ـ تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ـ ثم نزل فذبحه، وهذا كان بالعراق .(1/414)
/ثم ظهر جهم من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر رأى جهم؛ ولهذا كان علماء السنة بالمشرق أكثر كلامًا في رد مذهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق، مثل إبراهيم بن طهمان، وخارجة بن مصعب، ومثل عبد الله بن المبارك، وأمثالهم ،وقد تكلم في ذمهم مالك وابن الماجشون وغيرهما، وكذلك الأوزاعي، وحماد بن زيد وغيرهم، وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه قد كان بخراسان مدة واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمانية عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ومائتين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم، فلما رد عليهم ما احتجوا به، وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه لئلا تنكسر حرمة الخلافة، فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة وخافوا فأطلقوه، وكان ابن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات من جميع الطوائف . وعلماء السنة : كابن المبارك وأحمد وإسحاق والبخاري يسمون هؤلاء جميعهم جهمية، وصار كثير من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن خصومه كانوا هم المعتزلة، وليس كذلك، بل المعتزلة نوع منهم .
والمقصود هنا أن جهما اشتهر عنه بدعتان : إحداهما : نفي الصفات . والثانية : الغلو في القدر والإرجاء . فجعل/ الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة، وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما، وأما الأشعري فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية .(1/415)
وجهم لا يثبت شيئًا من الصفات، لا الإرادة ولا غيرها، فإذا قال : إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي، فمعناه الثواب والعقاب، والأشعري يثبت الصفات كالإرادة فاحتاج إلى الكلام فيها هل هي المحبة أم لا ؟ فقال : المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها، وذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك، وأهل السنة قبله على أن الله لا يحب المعاصي .
وشاع هذا القول في كثير من الصوفية فوافقوا جهما في مسائل الأفعال والقدر، وخالفوه في الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام، فإنه من المبالغين في ذم الجهمية في نفي الصفات، وله كتاب في تكفير الجهمية، ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة، وربما كان يلعنهم، وقال بعض الناس بحضرة نظام الملك : أتلعن الأشعرية ؟ فقال : ألعن من يقول ليس في السموات إله، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وقام من عنده مغضبًا، وهو مع هذا في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال أبلغ من الأشعرية، لا يثبت سببًا ولا حكمة، بل يقول : إن مشاهدة العارف الحكم لا يبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، والحكم عنده هو المشيئة؛ لأن العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء، والحسنة والسيئة يفترقان في حظ العبد/ لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه، والالتفات إلى هذا من حظوظ النفس، ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق .
والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا من جهة المخلوق كان أعقل منهم، فإنهم يدعون أن العارف لا يفرق، وغلطوا في حق العبد وحق الرب، أما العبد فيلزمهم أن يستوى عنده جميع الحوادث، وهذا محال قطعًا، فعزلوا الفرق الرحماني، وفرقوا بالطبعي الهوائي الشيطاني، ومن هنا وقع خلق منهم في المعاصي، وآخرون في الفسوق، وآخرون في الكفر حتى جوزوا عبادة الأصنام، ثم كثير منهم ينتقل إلى الوحدة ويصرحون بعبادة كل موجود .(1/416)
والمقصود الكلام على من نفى الحكم والأسباب والعدل في القدر موافقة لجهم ـ وهي بدعته الثانية بخلاف الإرجاء، فإنه منسوب إلى طوائف غيره ـ فهؤلاء يقولون : إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه؛ ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي، والوعد والوعيد، بل ينحل عنه أو عن بعضه، ويتكلف لما يعتقده، فإنهم إذا وافقوا جهما والأشعري في أن الحسن والقبيح كونه مأمورًا أو محظورًا، وذلك فرق يعود إلى حظ العبد، وهم يدعون الفناء عن الحظوظ، فتارة يقولون في امتثال الأمر والنهي : إنه من مقام التلبيس، وتارة يقولون : يفعل هذا لأجل أهل المارستان، أي العامة، كما يقوله الشيخ المغربي، إلى أنواع أخر .
/ومن سلك مسلكهم إذا عظم الأمر والنهي غايته أن يقول كما نقل عن الشاذلي : يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي؛ مثل دعوى أن الله يعطيه على المعصية أعظم مما يعطيه على الطاعة، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات أو أفضل، ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي .(1/417)
وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات أكبر الأولياء من يكون فاجرًا، بل كافرًا، ويقولون : هذه موهبة وعطية، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء، وتكون من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان، قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 101-103 ] .
/وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضَبّ لدخلتموه ) الحديث .(1/418)
والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن عدل كثير ممن أضله الشيطان من المنتسبين إليهم إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره، واتبع ماتتلوه الشياطين، فلا يعظم من أمر القرآن بموالاته، ويعادى من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتي ببعض الخوارق التي تأتي بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين لهم، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين .
ثم منهم من يعرف أن هذا من الشياطين، ولكن يعظمه لهواه ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } [ النساء : 51، 52 ] ، وهؤلاء ضاهوا الذين قال الله تعالى فيهم : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } إلى قوله : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } [ البقرة : 101، 102 ]
ومنهم من لا يعرف أنه من الشياطين، وقد يقع في هذا طوائف من أهل الكلام والعلم، وأهل العبادة والتصوف، حتى جوزوا عبادة الكواكب والأصنام لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة التي تعينهم عليها الشياطين، لما يحصل بها بعض أغراضهم من الظلم والفواحش ،فلم يبالوا بشركهم بالله وبكفرهم به وبكتابه إذا/ نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس وتعظيمهم له لرئاسة أو مال ينالونه، وإن كانوا قد علموا الكفر والشرك ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ،واعتقاد أنه خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن للمصلحة، كما يقول ذلك من يقوله من الملاحدة الباطنية، ودخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم .(1/419)
فإن فارس كانت تعظم الأنوار، وتسجد للشمس وللنار، والروم كانوا قبل النصرانية مشركين، يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن هؤلاء ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له . وقال رحمه الله تعالى: فالنفوس مفطورة على علم ضروري موجود فيها بالخالق الذي خلق السماوات ، وأنه خلق السماوات والأرض ليس شيئ منها خلق الناس ، كما قال موسى لفرعون لما قال له :{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23، 24] وقال {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49،
قال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا .
فصل
في قوله صلى الله عليه وسلم : ( فحج آدم موسى ) لما احتج عليه بالقدر .
وبيان أن ذلك في المصائب لا في الذنوب، وأن الله أمر بالصبر والتقوى فهذا في الصبر لا في التقوى، وقال : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] ، فأمر بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب .
وذلك أن بني آدم اضطربوا في هذا المقام ـ مقام تعارض الأمر والقدر ـ وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع .(1/420)
والمقصود هنا أنه قد ثبت في الصحيحين حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : ( احتج آدم وموسى، فقال موسى : يا آدم ؟ أنت أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي كلمك الله تكليمًا وكتب لك التوراة . فبكم تجد فيها مكتوبًا : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] ، قبل أن أخلق، قال : بأربعين سنة، قال فحج آدم موسى ) .
وهو مروي ـ أيضًا ـ من طريق عمر بن الخطاب بإسناد حسن، وقد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاثة أحزاب :
فريق كذبوا بهذا الحديث : كأبي على الجبائي وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم بل وجميع الأنبياء وأتباع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله .
/ وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد : كقول بعضهم : إنما حجه لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه، وقول بعضهم : لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى، وقول بعضهم : لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم : لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة .
وفريق ثالث جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله، ثم لم يمكنهم طرد ذلك، فلا بد في نفس معاشهم في الدنيا أن يلام من فعل ما يضر نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتج بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره كما قيل في مثل هؤلاء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتج بالقدر، ولو أذنب غيره أو ظلمه لم يعذره، وهؤلاء ظالمون معتدون .(1/421)
ومنهم من يقول : هذا في حق أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبية وفنوا عما سوي الله، فيرون ألا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة، فإنهم لا يرون لمخلوق فعلاً، بل لا يرون فاعلاً إلا الله، بخلاف من شهد لنفسه فعلاً فإنه يذم ويعاقب، وهذا قول كثير من متأخري الصوفية المدعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم .
/قال أبو المظفر السمعاني : وأما الكلام فيما جرى بين آدم وموسى من المحاجة في هذا الشأن، فإنما ساغ لهما الحجاج في ذلك؛ لأنهما نبيان جليلان خصا بعلم الحقائق، وأذن لهما في استكشاف السرائر، وليس سبيل الخلق الذين أمروا بالوقوف عند ما حد لهم والسكوت عما طوي عنهم سبيلها، وليس قوله : ( فحج آدم موسى ) إبطال حكم الطاعة، ولا إسقاط العمل الواجب، ولكن معناه ترجيح أحد الأمرين، وتقديم رتبة العلة على السبب، فقد تقع الحكمة بترجيح معني أحد الأمرين، فسبيل قوله : ( فحج آدم موسى ) ، هذا السبيل، وقد ظهر هذا في قضية آدم، قال الله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] .
إلى أن قال : فجاء من هذا أن آدم لم يتهيأ له أن يستديم سكنى الجنة إلا بألا يقرب الشجرة؛ لسابق القضاء المكتوب عليه في الخروج منها، وبهذا صال على موسى عند المحاجة، وبهذا المعنى قضى له على موسى فقال : فحج آدم موسى .(1/422)
قلت : ولهذا يقول الشيخ عبد القادر ـ قدس الله روحه ـ : كثير من الرجال إذا وصلوا إلي القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعًا للقدر لا موافقًا له، وهو ـ رضي الله عنه ـ كان يعظم الأمر والنهي، ويوصي باتباع ذلك، وينهي عن الاحتجاج بالقدر، وكذلك شيخه حماد الدباس وذلك لما رأوه في/ كثير من السالكين من الوقوف عند القدر المعارض للأمر والنهي، والعبد مأمور بأن يجاهد في سبيل الله ويدفع ما قدر من المعاصي بما يقدر من الطاعة، فهو منازع للمقدور المحظور بالمقدور المأمور لله ـ تعالى ـ وهذا هو دين الله الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين .
وممن يشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة : كقول ابن سينا بأن يشهد سر القدر، والرازي يقرر ذلك؛ لأنه كان جبريًا محضًا .
وفي الجملة، فهذا المعني دائر في نفوس كثير من الخاصة من أهل العلم والعبادة فضلاً عن العامة، وهو مناقض لدين الإسلام .
ومن هؤلاء من يقول : الخضر إنما سقط عنه الملام؛ لأنه كان مشاهدًا لحقيقة القدر، ومن شيوخ هؤلاء من كان يقول : لو قتلت سبعين نبيًا لما كنت مخطئًا، ومنهم من يقول بطرد قوله بحسب الإمكان فيقول : كل من قدر على فعل شيء وفعله فلا ملام عليه، فإن قدر أنه خالف غرض غيره فذلك ينازعه، والأقوى منهما يقمر الآخر، فأيهما أعانه القدر فهو المصيب، باعتبار أنه غالب وإلا فما ثم خطأ .(1/423)
ومن هؤلاء الاتحادية الذين يقولون : الوجود واحد، ثم يقولون : / بعضه أفضل من بعض والأفضل يستحق أن يكون ربًا للمفضول، ويقولون : إن فرعون كان صادقًا في قوله : { أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وهذا قول طائفة من ملاحدة المتصوفة المتفلسفة الاتحادية، كالتلمساني، والقول بالاتحاد العام المسمى وحدة الوجود، هو قول ابن عربي الطائي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم، لكن لهم في المعاد والجزاء نزاع، كما أن لهم نزاعًا في أن الوجود هل هو شيء غير الذوات أم لا ؟ وهؤلاء ضلوا من وجوه : منها جهة عدم الفرق بين الوجود الخالق والمخلوق .
وأما شهود القدر فيقال : لا ريب أن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء ومليكه، والقدر هو قدرة الله، كما قال الإمام أحمد : وهو المقدر لكل ما هو كائن، لكن هذا لا ينفي حقيقة الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأن من الأفعال ما ينفع صاحبه،فيحصل له به نعيم، ومنها ما يضر صاحبه فيحصل له به عذاب، فنحن لا ننكر اشتراك الجميع من جهة المشيئة والربوبية وابتداء الأمور، لكن نثبت فرقًا آخر من جهة الحكمة والأوامر الإلهية ونهاية الأمور، فإن العاقبة للتقوى، لا لغير المتقين، وقد قال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] .(1/424)
وإذا كان كذلك فحقيقة الفرق : أن من الأمور ما هو ملائم للإنسان نافع له فيحصل له به اللذة، ومنها ما هو مضاد له ضار له يحصل به الألم، فرجع/ الفرق إلى الفرق بين اللذة والألم، وأسباب هذا وهذا، وهذا الفرق معلوم بالحس والعقل، والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم، بل هذا موجود في جميع المخلوقات، وإذا أثبتنا الفرق بين الحسنات والسيئات، وهو الفرق بين الحسن والقبيح، فالفرق يرجع إلى هذا .
والعقلاء متفقون على أن كون بعض الأفعال ملائمًا للإنسان، وبعضها منافيًا له، إذا قيل هذا حسن وهذا قبيح، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل باتفاق العقلاء . وتنازعوا في الحسن والقبح، بمعنى كون الفعل سببًا للذم والعقاب، هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، وكان من أسباب النزاع أنهم ظنوا أن هذا القسم مغاير للأول، وليس هذا خارجًا عنه، فليس في الوجود حسن إلا بمعنى الملائم، ولا قبيح إلا بمعنى المنافي، والمدح والثواب ملائم، والذم والعقاب مناف، فهذا نوع من الملائم والمنافي .
يبقى الكلام في بعض أنواع الحسن والقبيح لا في جميعه، ولا ريب أن من أنواعه ما لا يعلم إلا بالشرع، ولكن النزاع فيما قبحه معلوم لعموم الخلق، كالظلم والكذب ونحو ذلك .
والنزاع في أمور :
منها : هل للفعل صفة صار بها حسنًا وقبيحًا، وأن الحسن العقلي هو كونه موافقا لمصلحة العالم، والقبح العقلي بخلافه، فهل في الشرع زيادة على/ ذلك ؟ وفي أن العقاب في الدنيا والآخرة هل يعلم بمجرد العقل ؟ وبسط هذا له موضع آخر .
ومن الناس من أثبت قسمًا ثالثا للحسن والقبح، وادعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص، وهذا القسم لم يذكره عامة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين : كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة .(1/425)
والتحقيق : أن هذا القسم لا يخالف الأول، فإن الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال هو يعود إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة أو الألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص فيعود الكمال،والنقص إلى الملائم والمنافي، وهذا مبسوط في موضع آخر .
والمقصود هنا أن الفرق بين الأفعال الحسنة التي يحصل لصاحبها بها لذة، وبين السيئة التي يحصل له بها ألم أمر حسي يعرفه جميع الحيوان، فمن قال من المدعين للحقيقة القدرية، والفناء في توحيد الربوبية، والاصطلام : إنه يبقي في عين الجمع بحيث لا يفرق بين ما يؤلم أو ما يلذ،، كان هذا مما يعلم كذبه فيه، إن كان يفهم ما يقول، وإلا كان ضالا يتكلم بما لايعرف حقيقته، وهو الغالب على من يتكلم في هذا .
فإن القوم قد يحصل لأحدهم هذا المشهد ـ مشهد الفناء في توحيد/ الربوبية ـ فلا يشهد فرقًا ما دام فى هذا المشهد، وقد يغيب عنه الإحساس بما يوجب الفرق مدة من الزمان، فيظن هذا الفناء مقامًا محمودًا، ويجعله إما غاية، وإما لازمًا للسالكين، وهذا غلط، فإن عدم الفرق بين ما ينعم ويعذب أحيانًا هو مثل عدم الفرق بين النوم والنسيان، والغفلة والاشتغال بشيء عن آخر وهو لا يزيل الفرق الثابت في نفس الأمر، ولا يزيل الإحساس به إذا وجد سببه .
والواحد من هؤلاء لابد أن يجوع أو يعطش، فلا يسوى بين الخبز والشراب، وبين الملح الأجاج، والعذب الفرات، بل لابد أن يفرق بينهما ويقول : هذا طيب وهذا ليس بطيب، وهذا هو الفرق بين كل ما أمر الله ورسوله به ونهى عنه، فإنه أمر بالطيب من القول والعمل، ونهى عن الخبيث .(1/426)
وإذا عرف أن المراد بالفرق هو أن من الأمور ما ينفع، ويوجب اللذة والنعيم، ومنها ما يضر ويوجب الألم والعذاب، فبعض هذه الأمور تدرك بالحس، وبعضها يدركه الناس بعقولهم لأمور الدنيا، فيعرفون ما يجلب لهم منفعة في الدنيا وما يجلب لهم مضرة، وهذا من العقل الذي ميز به الإنسان، فإنه يدرك من عواقب الأفعال مالا يدركه الحس، ولفظ العقل في القرآن يتضمن ما يجلب به المنفعة وما يدفع به المضرة .
/والله ـ تعالى ـ بعث الرسل بتكميل الفطرة، فدلوهم على ما ينالون به النعيم في الآخرة وينجون من عذاب الآخرة، فالفرق بين المأمور والمحظور هو كالفرق بين الجنة والنار، واللذة والألم، والنعيم والعذاب، ومن لم يدرك هذا الفرق، فإن كان لسبب أزال عقله هو به معذور، وإلا كان مطالبًا بما فعله من الشر وتركه من الخير .
ولا ريب أن في الناس من قد يزول عقله في بعض الأحوال، ومن الناس من يتعاطى ما يزيل العقل؛ كالخمر وكسماع الأصوات المطربة، فإن ذلك قد يقوى حتى يسكر أصحابها، ويقترن بهم شياطين، فيقتل بعضهم بعضًا في السماع المسكر، كما يقتل شراب الخمر بعضهم بعضا إذا سكروا، وهذا مما يعرفه كثير من أهل الأحوال، لكن منهم من يقول : المقتول شهيد، والتحقيق : أن المقتول يشبه المقتول في شرب الخمر، فإنهم سكروا سكرًا غير مشروع، لكن غالبهم يظن أن هذا من أحوال أولياء الله المتقين، فيبقى القتيل فيهم كالقتيل في الفتنة، وليس هو كالذي تعمد قتله،ولا هو كالمقتول ظلمًا من كل وجه .
فإن قيل : فهل هذا الفناء يزول به التكليف ؟
قيل : إن حصل للإنسان سبب يعذر فيه، زال به عقله الذي يميز به، فكان بمنزلة النائم والمغمي عليه، والسكران سكرًا لا يأثم به، كمن سكر قبل التحريم أو أوجر الخمر، أو أكره على شربها عند الجمهور، وأما إن كان السكر لسبب محرم، فهذا فيه نزاع معروف بين العلماء .(1/427)
/والذين يذكرون عن أبي يزيد وغيره كلمات من الاتحاد الخاص، ونفي الفرق ويعذرونه في ذلك يقولون : إنه غاب عقله حتى قال : أنا الحق وسبحاني وما في الجبة إلا الله، ويقولون : إن الحب إذا قوى على صاحبه وكان قلبه ضعيفًا يغيب بمحبوبه عن حبه وبموجوده عن وجده، وبمذكوره عن ذكره حتي يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ويحكون أن شخصًا ألقى بنفسه في الماء فألقى محبة نفسه خلفه، فقال : أنا وقعت، فلم وقعت أنت ؟ فقال : غبت بك عني فظننت أنك أني . فمثل هذا الحال التي يزول فيها تمييزه بين الرب والعبد، وبين المأمور والمحظور ليست علمًا ولا حقًا، بل غايته أنه نقص عقله الذي يفرق به بين هذا وهذا، وغايته أن يعذر، لا أن يكون قوله تحقيقًا .
وطائفة من الصوفية المدعين للتحقيق يجعلون هذا تحقيقًا وتوحيدًا، كما فعله صاحب منازل السائرين، وابن العريف وغيرهما، كما أن الاتحاد العام جعله طائفة تحقيقًا وتوحيدًا، كابن عربي الطائي .
وقد ظن طائفة أن الحلاج كان من هؤلاء ثم صاروا حزبين :
حزب يقول : وقع في ذلك الفناء فكان معذورًا في الباطن، ولكن قتله واجب في الظاهر، ويقولون : القاتل مجاهد، والمقتول شهيد، ويحكون عن بعض الشيوخ أنه قال : عثر عثرة لو كنت في زمنه لأخذت بيده، ويجعلون حاله من جنس حال أهل الاصطلام والفناء .
/وحزب ثان : وهم الذين يصوبون حال أهل الفناء في توحيد الربوبية، ويقولون : هو الغاية، يقولون : بل الحلاج كان في غاية التحقيق والتوحيد .
ثم هؤلاء في قتله فريقان :(1/428)
فريق يقول : قتل مظلومًا وما كان يجوز قتله، ويعادون الشرع وأهل الشرع لقتلهم الحلاج، ومنهم من يعادي جنس الفقهاء وأهل العلم، ويقولون : هم قتلوا الحلاج، وهؤلاء من جنس الذين يقولون : لنا شريعة ولنا حقيقة تخالف الشريعة، والذين يتكلمون بهذا الكلام لا يميزون ما المراد بلفظ الشريعة في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، ولا المراد بلفظ الحقيقة أو الحق أو الذوق أو الوجد أو التوحيد في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، بل فيهم من يظن الشرع عبارة عما يحكم به القاضي .
ومن هؤلاء من لا يميز بين القاضي العالم العادل والقاضي الجاهل والقاضي الظالم، بل ما حكم به حاكم سماه شريعة، ولا ريب أنه قد تكون الحقيقة في نفس الأمر التي يحبها الله ورسوله خلاف ماحكم به الحاكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه/ شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) . فالحاكم يحكم بما يسمعه من البينة والإقرار، و قد يكون للآخر حجج لم يبينها، وأمثال هذا .
فالشريعة في نفس الأمر هي الأمر الباطن، وما قضى به القاضي ينفذ ظاهرًا، وكثير من الأمور قد يكون باطنها بخلاف ما يظهر لبعض الناس، ومن هذا قصة موسى والخضر فإنه كان الذي فعله مصلحة، وهو شريعة أمره الله بها، ولم يكن مخالفًا لشرع الله، لكن لما لم يعرف موسى الباطن، كان في الظاهر عنده أن هذا لا يجوز، فلما بين له الخضر الأمور وافقه، فلم يكن ذلك مخالفًا للشرع .
وهذا الباب يقال فيه : قد يكون الأمر في الباطن بخلاف ما يظهر، وهذا صحيح، لكن تسمية الباطن حقيقة، والظاهر شريعة، أمر اصطلاحي .
ومن الناس من يجعل الحقيقة هي الأمر الباطن مطلقا، والشريعة الأمور الظاهرة .(1/429)
وهذا كما أن لفظ الإسلام إذا قرن بالإيمان أريد به الأعمال الظاهرة، ولفظ الإيمان يراد به الإيمان الذي في القلب، كما في حديث جبريل، فإذا جمع بينهما فقيل : شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، كان هذا كلامًا صحيحًا، لكن متى/أفرد أحدهما تناول الآخر، فكل شريعة ليس لها حقيقة باطنة، فليس صاحبها من المؤمنين حقًا، وكل حقيقة لا توافق الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم فصاحبها ليس بمسلم، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين .
وقد يراد بلفظ الشريعة ما يقوله فقهاء الشريعة باجتهادهم، وبالحقيقة ما يذوقه ويجده الصوفية بقلوبهم، ولا ريب أن كلا من هؤلاء مجتهدون : تارة مصيبون، وتارة مخطئون، وليس لواحد منهما تعمد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن اتفق اجتهاد الطائفتين، وإلا فليس على واحدة أن تقلد الأخرى إلا أن تأتي بحجة شرعية توجب موافقتها .
فمن الناس من يظهر أن الحلاج قتل باجتهاد فقهى يخالف الحقيقة الذوقية التي عليها هؤلاء، وهذا ظن كثير من الناس، وليس كذلك، بل الذي قتل عليه إنما هو الكفر، وقتل باتفاق الطائفتين، مثل دعواه أنه يقدر أن يعارض القرآن بخير منه، ودعواه أنه من فاته الحج أنه يبني بيتًا يطوف به، ويتصدق بشيء قدره، وذلك يسقط الحج عنه، إلى أمور أخرى توجب الكفر باتفاق المسلمين الذين يشهدون أن محمدًا رسول الله، علماؤهم وعبادهم وفقهاؤهم وفقراؤهم وصوفيتهم .
وفريق يقولون : قتل لأنه باح بسر التوحيد والتحقيق الذي ما/ كان ينبغي أن يبوح به، فإن هذا من الأسرار التي لا يتكلم بها إلا مع خواص الناس، وهي مما تطوى ولا تروى وينشدون :
من باح بالسر كان القتل شيمته ** من الرجال ولم يأخذ له ثار
باحوا بالسر تباح دماؤهم ** وكذا دماء البائحين تباح(1/430)
وحقيقة قول هؤلاء يشبه قول قائل : إن ما قاله النصارى في المسيح حق، وهو موجود لغيره من الأنبياء والأولياء، لكن ما يمكن التصريح به؛ لأن صاحب الشرع لم يأذن في ذلك، وكلام صاحب منازل السائرين وأمثاله يشير إلى هذا، وتوحيده الذي قال فيه :
ما وحد الواحد من واحد ** إذ كل من وحده جاحد
توحيد من يخبر عن نعته ** عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ** ونعت من ينعته لا حد
فإن حقيقة قول هؤلاء : أن الموحد هو الموحد، وأن الناطق بالتوحيد على لسان العبد هو الحق، وأنه لا يوحده إلا نفسه فلا يكون الموحد إلا الموحد، ويفرقون بين قول فرعون : { أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وبين قول الحلاج : أنا الحق وسبحاني، فإن فرعون قال ذلك وهو يشهد نفسه، فقال عن نفسه، وأما أهل الفناء فغابوا عن نفوسهم، وكان الناطق على لسانهم غيرهم .
/وهذا مما وقع فيه كثير من المتصوفة المتأخرين، ولهذا رد الجنيد ـ رحمه الله ـ على هؤلاء لما سئل عن التوحيد فقال : هو الفرق بين القديم والمحدث، فبين الجنيد ـ سيد الطائفة ـ أن التوحيد لا يتم إلا بأن يفرق بين الرب القديم، والعبد المحدث، لا كما يقوله هؤلاء الذين يجعلون هذا هو هذا، وهؤلاء أهل الاتحاد والحلول الخاص والمقيد، وأما القائلون بالحلول والاتحاد العام المطلق، فأولئك هم الذين يقولون : إنه بذاته في كل مكان، أو أنه وجود المخلوقات، وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضوع .
والمقصود هنا أن الحلاج لم يكن مقيدًا بصنف من هذه الأصناف، بل كان قد قال من الأقوال التي توجب الكفر والقتل باتفاق طوائف المسلمين ما قد ذكر في غير هذا الموضع، وكذلك أنكره أكثر المشايخ، وذموه : كالجنيد، وعمر بن عثمان المكي، وأبي يعقوب النهرجوري .(1/431)
ومن التبس عليه حاله منهم فلم يعرف حقيقة ما قاله ـ إلا من كان يقول بالحلول والاتحاد مطلقًا أو معينًا ـ فإنه يظن أن هذا كان قول الحلاج وينصر ذلك؛ ولهذا كانت فرقة ابن سبعين فيها من رجال الظلم جماعة منهم الحلاج، وعند جماهير المشايخ الصوفية، وأهل العلم أن الحلاج لم يكن من المشايخ الصالحين،بل كان زنديقًا وزهده لأسباب متعددة يطول وصفها، ولم يكن من أهل الفناء في توحيد الربوبية، بل كان قد/ تعلم السحر وكان له شياطين تخدمه إلى أمور أخرى مبسوطة في غير هذا الموضع .
وبكل حال آدم لما أكل هو وحواء من الشجرة، لم يكن زائل العقل ولا فانيا في شهود القدر العام، ولا احتج على موسى بذلك، بل قال : لم تلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق ؟ فاحتج بالقدر السابق لا بعدم تمييزه بين المأمور والمحظور .
فصل
إذا عرف هذا، فنقول : الصواب في قصة آدم وموسى، أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص؛ ولهذا قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ لم يقل : لماذا خالفت الأمر ؟ ولماذا عصيت ؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . قال ابن مسعود أو غيره : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( احرص على/ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(1/432)
فأمره بالحرص على ما ينفعه وهو طاعة الله ورسوله، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله، وأمره إذا أصابته مصيبة مقدرة ألا ينظر إلى القدر ولا يتحسر بتقدير لا يفيد، ويقول : قدر الله وما شاء فعل، ولا يقول : لو أني فعلت لكان كذا، فيقدر ما لم يقع، يتمني أن لو كان وقع؛ فإن ذلك إنما يورث حسرة وحزنًا لا يفيد، والتسليم للقدر هو الذي ينفعه، كما قال بعضهم : الأمر أمران : أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه .
ومازال أئمة الهدى من الشيوخ وغيرهم يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت تلك المصيبة بسبب فعل آدمي .
فلو أن رجلاً أنفق ماله في المعاصي حتى مات، ولم يخلف لولده مالا، أو ظلم الناس بظلم صاروا لأجله يبغضون أولاده، ويحرمونهم ما يعطونه لأمثالهم، لكان هذا مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب فعل الأب، فإذا قال أحدهم لأبيه : أنت فعلت بنا هذا، قيل للابن : هذا كان مقدورًا /عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعله من الظلم والتبذير، ملوم علي ذلك، لا يرتفع عنه ذم الله وعقابه بالقدر السابق، فإن كان الأب قد تاب توبة نصوحًا وتاب الله عليه وغفر له، لم يجز ذمه ولا لومه بحال، لا من جهة حق الله، فإن الله قد غفر له، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله؛ إذ لم يكن هو ظالمًا لأولئك، فإن تلك كانت مقدرة عليهم .(1/433)
وهذا مثال قصة آدم : فإن آدم لم يظلم أولاده، بل إنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وإنما هبط آدم وحواء، ولم يكن معهما ولد حتى يقال : إن ذنبهما تعدي إلى ولدهما، ثم بعد هبوطهما إلى الأرض جاءت الأولاد، فلم يكن آدم قد ظلم أولاده ظلمًا يستحقون به ملامه، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر كان مقدرًا عليهم لا يستحقون به لوم آدم، وذنب آدم كان قد تاب منه، قال الله تعالى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } [ طه : 121، 122 ] ، وقال : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] ، فلم يبق مستحقًا لذم ولا عقاب .
وموسى كان أعلم من أن يلومه لحق الله على ذنب قد علم أنه تاب منه، فموسى أيضًا فد تاب من ذنب عمله، وقد قال موسى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [ الأعراف : 155 ] ، وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر على أن المذنب لا ملام عليه، فكيف وقد علم أن إبليس لعنه الله بسبب/ذنبه وهو ـ أيضًا ـ كان مقدرًا عليه،وآدم قد تاب من الذنب واستغفر، فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له عند ربه لاحتج ولم يتب ويستغفر .
وقد روى في الإسرائيليات أنه احتج به، وهذا مما لا يصدق به لو كان محتملا،فكيف إذا خالف أصول الإسلام، بل أصول الشرع والعقل، نعم إن كان ذكر القدر مع التوبة فهذا ممكن، لكن ليس فيما أخبر الله به عن آدم شيء من هذا، ولا يجوز الاحتجاج في الدين بالإسرائيليات إلا ما ثبت نقله بكتاب الله أو سنة رسوله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم ) .
وأيضًا فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له فلماذا أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض ؟ !
فإن قيل : وهو قد تاب، فلماذا بعد التوبة أهبط إلى الأرض ؟(1/434)
قيل : التوبة قد يكون من تمامها عمل صالح يعمله فيبتلى بعد التوبة لينظر دوام طاعته، قال الله تعالى : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ آل عمران : 89 ] في التائب من الردة، وقال في كاتم العلم : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 160 ] ، وقال : { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] ، وقال في القذف : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النور : 5 ] ، وقال : { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [ الفرقان : 70، 71 ] ، وقال : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [ طه : 82 ] .
ولما تاب كعب بن مالك وصاحباه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم حتى نسائهم ثمانين ليلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما رجمها : ( لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله ) . وقد أخبر الله عن توبته على بني إسرائيل حيث قال لهم موسى : { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] .(1/435)
وإذا كان الله ـ تعالى ـ قد يبتلى العبد من الحسنات والسيئات، والسراء والضراء بما يحصل معه شكره وصبره، أم كفره وجزعه وطاعته أم معصيته فالتائب أحق بالابتلاء، فآدم أهبط إلى الأرض ابتلاء له، ووفقه الله في هبوطه لطاعته فكان حاله بعد الهبوط،خيرًا من حاله قبل الهبوط، وهذا بخلاف ما لو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له، فإنه لا يكون عليه ملام البتة ولا هناك توبة تقتضي أن يبتلى صاحبها ببلاء .
وأيضًا فإن الله قد أخبر في كتابه بعقوبات الكفار : مثل قوم/ نوح وهود وصالح وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون وقومه ما يعرف بكل واحدة من هذه الوقائع ألا حجة لأحد في القدر، وأيضًا فقد شرع الله من عقوبة المحاربين من الكفار وأهل القبلة وقتل المرتد وعقوبة الزاني والسارق والشارب ما يبين ذلك .
فصل
فقد تبين أن آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببًا في مصيبتهم، وبهذا جاء الكتاب والسنة، قال الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] .(1/436)
وسواء في ذلك المصائب السمائية، والمصائب التي تحصل بأفعال الآدميين، قال تعالى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } [ المزمل : 10 ] ، { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [ الأنعام : 34 ] ، وقال في سورة الطور بعد قوله : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ . أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ . قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ } إلى قوله : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُونَ } وإلى قوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ، { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } [ الطور : 29-48 ] ، وقال تعالى : في سورة ن : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ . فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 46-48 ] .
وقد قيل في معناه : اصبر لما يحكم به عليك، وقيل : اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آت، والأول أصح .
وحكم الله نوعان : خلق، وأمر .
فالأول : ما يقدره من المصائب .
والثاني : ما يأمر به وينهى عنه، والعبد مأمور بالصبر على هذا وعلى هذا، فعليه أن يصبر لما أمر به، ولما نهى عنه، فيفعل المأمور، ويترك المحظور، وعليه أن يصبر لما قدره الله عليه .(1/437)
وبعض المفسرين يقول : هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهذا يتوجه إن كان في الآية النهى عن القتال، فيكون هذا النهي منسوخًا، ليس جميع أنواع الصبر منسوخة، كيف والآية لم تتعرض لذلك هنا لا بنفي ولا إثبات ؟ ! بل الصبر واجب لحكم الله ما زال واجبًا، وإذا أمر بالجهاد فعليه أيضًا أن يصبر لحكم الله، فإنه يبتلى من قتالهم بما هو أعظم من، كلامهم، كما ابتلى به يوم أحد والخندق، وعليه حينئذ أن يصبر ويفعل ما أمر به من الجهاد .
/والمقصود هنا قوله : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [ الطور : 48 ] ، فإن ما فعلوه من الأذى هو مما حكم به عليك قدرًا، فاصبر لحكمه وإن كانوا ظالمين في ذلك، وهذا الصبر أعظم من الصبرعلى ما جرى وفعل بالأنبياء، وقوله : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] ، وقال : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ } [ الأنبياء : 87 ] وسواء كان مغاضبًا لقومه أو لربه،فكانت مغاضبته من أمر قدر عليه،وبصبره صبر لحكم ربه الذى قدره وقضاه،وإن كان إنما تأذى من تكذيب الناس له .
وقالت الرسل لقومهم : {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ إبراهيم : 12 ] ، وقال موسى لقومه لما قال فرعون : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ . قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 127، 128 ] ، وقال : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] .(1/438)
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 41، 42 ] ، فهؤلاء ظلموا فصبروا على ظلم الظالم لهم، وسبب نزولها المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عامة في كل ما اتصف بهذه الصفة .
/و أصل المهاجر،من هجر ما نهى الله عنه كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من هجر السوء فظلمه الناس على ترك الكفر والفسوق والعصيان حتى أخرجوه ـ لا هجر بعض أمور في الدنيا ـ فصبر على ظلمهم،فإن الله يبوئه في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر، كيوسف الصديق فإنه هجر الفاحشة حتي ألجأه ذلك هجر منزله . واللبث في السجن بعد ما ظلم، فمكنه الله حتى تبوأ من الأرض حيث يشاء .(1/439)
وقال الذين لقوا الكفار : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } [ البقرة : 250، الأعراف : 126 ] ، وقال : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ . الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال : 65، 66 ] ، وقال : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] ، فهذا كله صبر على ما قدر من أفعال الخلق، والله سبحانه مدح في كتابه الصبار الشكور، قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5، لقمان : 31، سبأ : 19، الشورى : 33 ] في غير موضع .
فالصبر والشكر على ما يقدره الرب على عبده من السراء والضراء، من النعم والمصائب، من الحسنات التي يبلوه بها والسيئات، فعليه أن يتلقى المصائب بالصبر، والنعم بالشكر، ومن النعم ما ييسره له من أفعال الخير، ومنها ما هي خارجة عن أفعاله، فيشهد القدر عند فعله للطاعات، وعند إنعام الله عليه فيشكره /ويشهده عند المصائب فيصبر، وأما عند ذنوبه فيكون مستغفرا تائبًا، كما قال : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] .
وأما من عكس هذا فشهد القدر عند ذنوبه، وشهد فعله عند الحسنات فهو من أعظم المجرمين، ومن شهد فعله فيهما فهو قدري، ومن شهد القدر فيهما ولم يعترف بالذنب ويستغفره فهو من جنس المشركين .(1/440)
وأما المؤمن فيقول : أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، كما في الحديث الصحيح الإلهي : ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم متبعًا ما أمر به من الصبر على أذى الخلق، ففي الصحيحين عن عائشة قالت : ( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له، ولا دابة، ولا شيء قط؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله ) وقال أنس : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : لم لا فعلته ؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول : ( دعوه، دعوه، فلو قضى شيء لكان ) ، وفي السنن عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه ذكر للنبي/صلى الله عليه وسلم قول بعض من آذاه فقال : ( دعنا منك، فقد أوذي موسي بأكثر من هذا فصبر ) ، فكان يصبر على أذى الناس له من الكفار والمنافقين وأذى بعض المؤمنين، كما قال تعالى : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ } [ الأحزاب : 53 ] وكان يذكر : أن هذا مقدر .
والمؤمن مأمور بأن يصبر على المقدور، ولذلك قال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ، فالتقوى فعل المأمور وترك المحظور، والصبر على أذاهم، ثم إنه حيث أباح المعاقبة قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ . وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 126، 127 ] .(1/441)
فأخبر أن صبره بالله، فالله هو الذي يعينه عليه، فإن الصبر على المكاره بترك الانتقام من الظالم ثقيل على الأنفس، لكن صبره بالله كما أمره أن يكون لله في قوله : { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [ المدثر : 7 ] ، لكن هناك ذكره في الجملة الطلبية الأمرية؛ لأنه مأمور أن يصبر لله لا لغيره، وهنا ذكره في الخبرية فقال : { وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } [ النحل : 127 ] ، فإن الصبر وسائر الحوادث لا تقع إلا بالله، ثم قد يكون ذلك وقد لا يكون، فمالا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم، ولا يقال : واصبر بالله فإن الصبر لا يكون إلا بالله، لكن يقال : استعينوا بالله واصبروا فنستعين بالله على الصبر .
/وكما أن الإنسان مأمور بشهود القدر وتوحيد الربوبية عند المصائب، فهو مأمور بذلك عند ما ينعم الله عليه من فعل الطاعات، فيشهد قبل فعلها حاجته وفقره إلى إعانة الله له، وتحقق قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .
ويدعو بالأدعية التي فيها طلب إعانة الله له علي فعل الطاعات، كقوله : ( أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) . وقوله : ( يامقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك، ويا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك ) ، وقوله : { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] ، وقوله : { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } [ الكهف : 10 ] ، ومثل قوله : ( اللهم ألهمني رشدي واكفني شر نفسي ) .(1/442)
ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] ، فهذا الدعاء أفضل الأدعية وأوجبها على الخلق، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة، وكذلك الدعاء، بالتوبة فإنه يتضمن الدعاء بأن يلهم العبد التوبة، وكذلك دعاء الاستخارة ، فإنه طلب تعليم العبد ما لم يعلمه وتيسيره له، وكذلك الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به إذا قام من الليل وهو في الصحيح : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه /من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) .
وكذلك الدعاء الذي فيه : ( اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا ) ، وكذلك الدعاء باليقين والعافية كما في حديث أبي بكر، وكذلك قوله : ( اللهم أصلح لي قلبي ونيتي ) ، ومثل قول الخليل وإسماعيل : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً } [ البقرة : 128 ] .
وهذه أدعية كثيرة تتضمن افتقار العبد إلى الله في أن يعطيه الإيمان والعمل الصالح، فهذا افتقار واستعانة بالله قبل حصول المطلوب، فإذا حصل بدعاء أو بغير دعاء، شهد إنعام الله فيه، وكان في مقام الشكر والعبودية لله، وإن هذا حصل بفضله وإحسانه لا بحول العبد وقوته .(1/443)
فشهود القدر في الطاعات من أنفع الأمور للعبد، وغيبته عن ذلك من أضر الأمور به، فإنه يكون قدريا منكرًا لنعمة الله عليه بالإيمان والعمل الصالح، وإن لم يكن قدري الاعتقاد كان قدري الحال، وذلك يورث العجب والكبر، ودعوى القوة والمنة بعمله، واعتقاد استحقاق الجزاء على الله به، فيكون من يشهد العبودية مع الذنوب والاعتراف بهاـ لا مع الاحتجاج بالقدر ـ عليها خيرًا من هذا الذي يشهد الطاعة منه، لا من إحسان الله إليه، ويكون أولئك المذنبون بما معهم من الإيمان، أفضل من طاعة بدون هذا الإيمان .
/وأما من أذنب وشهد ألا ذنب له أصلا لكون الله هو الفاعل، وعند الطاعة يشهد أنه الفاعل، فهذا شر الخلق، وأما الذي يشهد نفسه فاعلا للأمرين، والذي يشهد ربه فاعلاً للأمرين، ولا يرى له ذنبًا؛ فهذا أسوأ عاقبة من القدري، والقدري أسوأ بداية منه، كما هو مبسوط في موضع آخر .
والناس في هذا المقام أربعة أقسام : من يغضب لربه لا لنفسه، وعكسه، ومن يغضب لهما، ومن لا يغضب لهما، كما أنهم في شهود القدر أربعة أقسام : من يشهد الحسنة من فعل الله والسيئة من فعل نفسه، وعكسه، ومن يشهد الثنتين من فعل ربه، ومن يشهد الثنتين من فعل نفسه، فهذه الأقسام الأربعة في شهود الربوبية، نظير تلك الأقسام الأربعة في شهود الإلهية، فهذا تقسيم العباد فيما لله ولهم، وذاك تقسيمهم فيما هو بالله وبهم، والقسم المحض أن يعمل لله بالله، فلا يعمل لنفسه ولا بنفسه .(1/444)
والمقصود هنا، تقسيمهم فيما لله، فأعلاهم حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه : أن يصبروا على أذى الناس لهم باليد واللسان، ويجاهدون في سبيل الله، فيعاقبون ويغضبون وينتقمون لله لا لنفوسهم يعاقبون؛ لأن الله يأمر بعقوبة ذلك الشخص، ويحب الانتقام منه، كما في جهاد الكفار وإقامة الحدود، وأدناهم عكس هؤلاء يغضبون وينتقمون ويعاقبون لنفوسهم، لا لربهم، فإذا أوذى أحدهم أو خولف هواه غضب وانتقم وعاقب، ولو انتهكت محارم الله أو ضيعت حقوقه؛ لم يهمه ذلك، وهذا حال الكفار والمنافقين .
/وبين هذين وهذين قسمان : قسم يغضبون لربهم ولنفوسهم، وقسم يميلون إلى العفو في حق الله وحقوقهم، فموسى في غضبه علي قومه لما عبدوا العجل كان غضبه لله، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم في حقوق الله أبا بكر وعمر بإبراهيم وعيسى ونوح وموسى، فقال : ( إن الله يلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجر، ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وعيسى، ومثلك يا عمر كمثل نوح وموسى ) .
وأما عفو الإنسان عن حقوقه، فهذا أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وكذلك غضبه لنفسه، تركه أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وأما ما كان من باب المصائب الحاصلة بقدر الله ولم يبق فيها مذنب يعاقب، فليس فيها إلا الصبر والتسليم للقدر .
وقصة آدم وموسى كانت من هذا الباب، فإن موسى لامه لأجل ما أصابه والذرية، وآدم كان قد تاب من الذنب وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فحج آدم موسى .
وهكذا قد يصيب الناس مصائب بفعل أقوام مذنبين تابوا، مثل كافر يقتل مسلمًا ثم يسلم ويتوب الله عليه، أو يكون متأولاً لبدعة ثم يتوب من المبدعة، أو يكون مجتهدًا، أو مقلدًا مخطئًا، فهؤلاء إذا أصاب العبد أذى بفعلهم، فهو من جنس المصائب السماوية التي لا يطلب فيها قصاص من آدمي .(1/445)
/ومن هذا الباب : القتال في الفتنة . قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، وكذلك، قتال البغاة المتأولين، حيث أمر الله بقتالهم إذا قاتلهم أهل العدل فأصابوا من أهل العدل نفوسًا وأموالاً لم تكن مضمونة عند جماهير العلماء : كأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه، وهذا ظاهر مذهب أحمد .
وكذلك المرتدون إذا صار لهم شوكة فقتلوا المسلمين، وأصابوا من دمائهم وأموالهم، كما اتفق الصحابة في قتال أهل الردة : أنهم لا يضمنون بعد إسلامهم ما أتلفوه من النفوس والأموال، فإنهم كانوا متأولين، وإن كان تأويلهم باطلاً، كما أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه مضت بأن الكفار إذا قتلوا بعض المسلمين وأتلفوا أموالهم ثم أسلموا، لم يضمنوا ما أصابوه من النفوس والأموال، وأصحاب تلك النفوس والأموال كانوا يجاهدون، قد اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فعوض ما أخذ منهم على الله لا على أولئك الظالمين الذين قاتلهم المؤمنون .(1/446)
وإذا كان هذا في الدماء والأموال فهو في الأعراض أولى، فمن كان مجاهدًا في سبيل الله باللسان : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الدين وتبليغ مافي الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير، وبيان الأقوال المخالفة لذلك، والرد على من خالف الكتاب والسنة، أو باليد كقتال الكفار، فإذا/ أوذي على جهاده بيد غيره أو لسانه فأجره في ذلك على الله لا يطلب من هذا الظالم عوض مظلمته، بل هذا الظالم إن تاب وقبل الحق الذي جوهد عليه فالتوبة تجب ما قبلها { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، وإن لم يتب بل أصر على مخالفة الكتاب والسنة، فهو مخالف لله ورسوله، والحق في ذنوبه لله ولرسوله، وإن كان أيضًا للمؤمنين حق تبعًا لحق الله، وهذا إذا عوقب عوقب لحق الله ولتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله لا لأجل القصاص فقط .
والكفار إذا اعتدوا على المسلمين مثل أن يمثلوا بهم، فللمسلمين أن يمثلوا بهم كما مثلوا، والصبر أفضل، وإذا مثلوا كان ذلك من تمام الجهاد، والدعاء على جنس الظالمين الكفار مشروع مأمور به، وشرع القنوت والدعاء للمؤمنين، والدعاء على الكافرين .(1/447)
وأما الدعاء على معينين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلعن فلانًا وفلانًا، فهذا قد روى أنه منسوخ بقوله : { لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، فيما كتبته في قلعة مصر؛ وذلك لأن المعين لا يعلم أن رضى الله عنه أن يهلك، بل قد يكون ممن يتوب الله عليه، بخلاف الجنس، فإنه إذا دعى عليهم بما فيه عز الدين وذل عدوه وقمعهم كان هذا دعاء بما يحبه الله ويرضاه، فإن الله يحب الإيمان وأهل الإيمان وعلو أهل الإيمان وذل الكفار، فهذا دعاء بما يحب الله، وأما الدعاء على المعين بما لا يعلم أن الله/ يرضاه فغير مأمور به، وقد كان يفعل ثم نهى عنه؛ لأن الله قد يتوب عليه أو يعذبه .
ودعاء نوح على أهل الأرض بالهلاك، كان بعد أن أعلمه الله أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ومع هذا فقد ثبت في حديث الشفاعة في الصحيح أنه يقول : ( إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها ) ، فإنه وإن لم ينه عنها فلم يؤمر بها، فكان الأولى أن لا يدعو إلا بدعاء مأمور به واجب أو مستحب، فإن الدعاء من العبادات، فلا يعبد الله إلا بمأمور به واجب أو مستحب، وهذا لو كان مأمورًا به لكان شرعًا لنوح، ثم ننظر في شرعنا هل نسخه أم لا ؟
وكذلك دعاء موسى بقوله : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ يونس : 88 ] إذا كان دعاء مأمورًا به، بقى النظر في موافقة شرعنا له، والقاعدة الكلية في شرعنا : أن الدعاء إن كان واجبًا أو مستحبًا فهو حسن يثاب عليه الداعي، وإن كان محرمًا كالعدوان في الدماء فهو ذنب ومعصية، وإن كان مكروها فهو ينقص مرتبة صاحبه، وإن كان مباحًا مستوى الطرفين فلا له ولا عليه، فهذا هذا، والله سبحانه أعلم .
فصل(1/448)
وكلا الطائفتين ، الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو والقرب منه من غير اعتبار بالأمر والنهي المنزلين من عند الله، الذين ينتهون إلى الفناء في توحيد الربوبية، يقولون بالجمع والاصطلام في توحيد الربوبية، ولا يصلون إلى الفرق الثاني، ويقولون : إن صاحب الفناء لا يستحسن حسنة، ولا يستقبح سيئة، ويجعلون هذا غاية السلوك .
والذين يفرقون بين ما يستحسنونه، ويستقبحونه ويحبونه ويكرهونه، ويأمرون به وينهون عنه، لكن بإرادتهم ومحبتهم وهواهم لا بالكتاب المنزل من عند الله، كلا الطائفتين متبع لهواه بغير هدى من الله، وكلا الطائفتين لم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن تحقيق الشهادة بالتوحيد يقتضي ألا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما أبغضه، ويأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى الله عنه، وإنك لا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تسأل إلا الله، هذا ملة إبراهيم، وهذا الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين .
/والفناء في هذا هو الفناء المأمور به، الذي جاءت به الرسل، وهو أن يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبرجائه وخوفه عن رجاء ما سواه وخوفه، فيكون مع الحق بلا خلق، كما قال الشيخ عبد القادر : كن مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس .(1/449)
وتحقيق الشهادة بأن محمدًا رسول الله، يوجب أن تكون طاعته طاعة الله وإرضاؤه إرضاء الله، ودين الله ما أمر به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ولهذا طالب الله المدعين لمحبته بمتابعته، فقال : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] وضمن لمن اتبعه أن الله يحبه بقوله : { يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } وصاحب هذه المتابعة لا يبقى مريدًا إلا ما أحبه الله ورسوله، ولا كارهًا إلا لما كرهه الله ورسوله، وهذا هو الذي يحبه الحق كما قال : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه ) .
/فهذا محبوب الحق، ومن اتبع الرسول فهو محبوب الحق وهو المتقرب إلى الله بما دعا إليه الرسول من فرض ونفل، ومعلوم أن من كان هكذا فهو يحب طاعة الله ورسوله، ويبغض معصية الله ورسوله، فإن الفرائض والنوافل كلها من العبادات التي يحبها الله ورسوله، ليس فيها كفر ولا فسوق، والرب تعالى أحبه لما قام بمحبوب الحق، فإن الجزاء من جنس العمل، فلما لم يزل متقربًا إلى الحق بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الحق فإنه استفرغ وسعه في محبوب الحق، فصار الحق يحبه المحبة التامة التي لا يصل إليها من هو دونه في التقرب إلى الحق بمحبوباته، حتى صار يعلم بالحق ويعمل بالحق، فصار به يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي .(1/450)
وأما الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، فهذا لم تبق عنده الأمور نوعان محبوب للحق، ومكروه، بل كل مخلوق فهو عنده محبوب للحق، كما أنه مراد، فإن هؤلاء أصل قولهم : هو قول جهم بن صفوان من القدرية، فهم من غلاة الجهمية الجبرية في القدر، وإن كانوا في الصفات يكفرون الجهمية نفاة الصفات، كحال أبي إسماعيل الأنصاري صاحب منازل السائرين، وذم الكلام، والفاروق وتكفير الجهمية وغير ذلك، فإنه في باب إثبات الصفات في غاية المقابلة للجهمية والنفاة، وفي باب الأفعال والقدر قوله يوافق الجهم ومن اتبعه من غلاة الجبرية، وهو قول الأشعري وأتباعه، وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ومن أهل الحديث والصوفية .
/فإن هؤلاء أقروا بالقدر موافقة للسلف وجمهور الأئمة، وهم مصيبون في ذلك، وخالفوا القدرية من المعتزلة وغيرهم في نفي القدر، ولكن سلكوا في ذلك مسلك الجهم ابن صفوان وأتباعه فزعموا : أن الأمور كلها لم تصدر إلا عن إرادة تخصيص أحد المتماثلين بلا سبب . وقالوا : الإرادة والمحبة والرضا سواء، فوافقوا في ذلك القدرية، فإن الجهمية والمعتزلة كلاهما يقول : إن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح، وكلاهما يقول : لا فرق بين الإرادة والمحبة والرضا .
ثم قالت القدرية : وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، قالوا : فيلزم من ذلك أن يكون كل ما في الوجود من المعاصي واقعًا بدون مشيئته وإرادته كما هو واقع على خلاف أمره، وخلاف محبته ورضاه وقالوا : إن محبته ورضاه لأعمال عباده هو بمعنى أمره بها، فكذلك إرادته لها بمعنى أمره بها، فلا يكون قط عندهم مريدًا لغير ما أمر به، وأخذ هؤلاء يتأولون ما في القرآن من إرادته لكل ما يحدث ومن خلقه لأفعال العباد بتأويلات محرفة .(1/451)
وقالت الجهمية ومن اتبعها من الأشعرية وأمثالهم : قد علم بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شىء وربه ومليكه، ولا يكون خالقًا إلا بقدرته ومشيئته؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما في الوجود فهو/بمشيئته وقدرته، وهو خالقه، سواء في ذلك أفعال العباد وغيرها، ثم قالوا : وإذا كان مريدًا لكل حادث والإرادة هي المحبة والرضا، فهو محب راض لكل حادث، وقالوا : كل مافي الوجود من كفر وفسوق وعصيان فإن الله راض به محب له، كما هو مريد له .
فقيل لهم : فقد قال تعالى : { لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] ، { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] . فقالوا : هذا بمنزلة أن يقال : لا يريد الفساد، ولا يريد لعباده الكفر، وهذا يصح علي وجهين :
وإما أن يكون خاصًا بمن لم يقع منه الكفر والفساد، ولا ريب أن الله لا يريد ولا يحب مالم يقع عندهم، فقالوا : معناه لا يحب الفساد لعباده المؤمنين، ولا يرضاه لهم .
وحقيقة قولهم : أن الله ـ أيضًا ـ لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار . فالمحبة والرضا عندهم كالإرادة عندهم متعلقة بما وقع دون مالم يقع، سواء كان مأمورًا به أو منهيًا عنه . وسواء كان من أسباب سعادة العباد أو شقاوتهم، وعندهم أن الله يحب ما وجد من الكفر والفسوق والعصيان، ولا يحب ما لم يوجد من الإيمان والطاعة، كما أراد هذا دون هذا .(1/452)
والوجه الثاني : قالوا : لا يحب الفساد دينا، ولا يرضاه دينا، وحقيقة هذا القول أنه لا يريده دينا، فإنه إذا أراد وقوع الشيء على صفة لم يكن مريدًا له علي خلاف تلك الصفة، وهو إذا أراد وقوع شىء مع شىء/ لم يرد وقوعه وحده فإنه إذا أراد أن يخلق زيدًا من عمرو لم يرد أن يخلقه من غيره . وإذا أراد أن ينزل مطرًا فتنبت الأرض به، فإنه أراد إنزاله على تلك الصفة، وإذا أراد أن يركب البحر قوم فيغرق بعضهم، ، ويسلم بعضهم، ويربح بعضهم، فإنما أراده على تلك الصفة، فكذلك الإيمان والكفر، قرن بالإيمان نعيم أصحابه، و بالكفر عذاب أصحابه، وإن لم يكن عندهم جعل شىء لشىء سببًا، ولا خلق شىء لحكمة، لكن جعل هذا مع هذا .
وعندهم جعل السعادة مع الإيمان، لا به كما يقولون : أنه خلق الشبع عند الأكل، لا به، فالدين الذي أمر به هو ما قرن به سعادة صاحبه في الآخرة، والكفر والفسوق والعصيان عندهم أحبه ورضيه كما أراده، لكن لم يحبه مع سعادة صاحبه، فلم يحبه دينا، كما أنه لم يرده مع سعادة صاحبه دينا .
وهذا المشهد الذي شهده أهل الفناء في توحيد الربوبية، فإنهم رأوا الرب تعالي خلق كل شىء بإرادته وعلم أن سيكون ما أراد، ولا سبب عندهم لشىء ولا حكمة، بل كل الحوادث تحدث بالإرادة .
ثم الجهم بن صفوان ونفاة الصفات من المعتزلة ونحوهم لا يثبتون إرادة قائمة بذاته، بل إما أن ينفوها، وإما أن يجعلوها بمعنى الخلق والأمر، وإما أن يقولوا : أحدث إرادة لا في محل .(1/453)
وأما مثبتة الصفات، كابن كلاب والأشعري وغيرهما ـ ممن يثبت/ الصفات، ولا يثبت إلا واحدًا معينًا ـ فلا يثبت إلا إرادة واحدة تتعلق بكل حادث، وسمعًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مسموع، وبصرًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مرئي، وكلامًا واحدًا بالعين يجمع جميع أنواع الكلام، كما قد عرف من مذهب هؤلاء، فهؤلاء يقولون : جميع الحادثات صادرة عن تلك الإرادة الواحدة العين المفردة التي ترجح أحد المتماثلين لا بمرجح، وهي المحبة والرضا وغير ذلك .
وهؤلاء إذا شهدوا هذا لم يبق عندهم فرق بين جميع الحوادث في الحسن والقبح إلا من حيث موافقتها للإنسان، ومخالفة بعضها له، فما وافق مراده ومحبوبه كان حسنًا عنده، وما خالف ذلك كان قبيحًا عنده، فلا يكون في نفس الأمر حسنة يحبها الله ولا سيئة يكرهها إلا بمعنى أن الحسنة هي ما قرن بها لذة صاحبها، والسيئة ما قرن بها ألم صاحبها من غير فرق يعود إليه . ولا إلى الأفعال أصلاً؛ ولهذا كان هؤلاء لا يثبتون حسنًا ولا قبيحًا . لا بمعنى الملائم للطبع والمنافى له، والحسن والقبح الشرعي هو ما دل صاحبه على أنه قد يحصل لمن فعله لذة، أو حصول ألم له .
ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شىء حتى الكفر والفسوق والعصيان، وينهى عن كل شىء حتى عن الإيمان والتوحيد، ويجوز نسخ كل ما أمر به بكل ما نهى عنه، ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شر، ولا حسن ولا قبيح، إلا بهذا الاعتبار، فما في الوجود ضر ولا نفع، والنفع والضر/أمران إضافيان، فربما نفع هذا ما ضر هذا . كما يقال : مصائب قوم عند قوم فوائد .
فلما كان هذا حقيقة قولهم الذي يعتقدونه ويشهدونه صاروا حزبين :
حزبًا من أهل الكلام والرأي أقروا بالفرق الطبيعي، وقالوا : ما ثم فرق إلا الفرق الطبيعي، ليس هنا فرق يرجع إلى الله بأنه يحب هذا ويبغض هذا .(1/454)
ثم منهم من يضعف عنده الوعد والوعيد، إما لقوله بالإرجاء، وإما لظنه أن ذلك لمصالح الناس في الدنيا إقامة للعدل، كما يقول : ذلك من يقوله من المتفلسفة، فلا يبقى عنده فرق بين فعل وفعل إلا ما يحبه هو ويبغضه، فما أحبه هو كان الحسن الذي ينبغي فعله، وما أبغضه كان القبيح الذي ينبغي تركه، وهذا حال كثير من أهل الكلام والرأي؛ الذين يرون رأي جهم والأشعري ونحوهما في القدر، تجدهم لا ينتهون في المحبة والبغضة والموالاة والمعاداة إلا إلى محض أهوائهم وإرادتهم، وهو الفرق الطبيعي .
ومن كان منهم مؤمنًا بالوعد فإنه قد يفعل الواجبات، ويترك المحرمات لكن لأجل ما قرن بهما من الأمور الطبيعية في الآخرة من أكل وشرب ، ونكاح، وهؤلاء ينكرون محبة الله، والتلذذ بالنظر إليه، وعندهم إذا قيل : إن/ العباد يتلذذون بالنظر إليه فمعناه أنهم عند النظر يخلق لهم من اللذات بالمخلوقات ما يتلذذون به، لا أن نفس النظر إلى الله يوجب لذة، وقد ذكر هذا غير واحد منهم أبو المعالي في الرسالة النظامية . وجعل هذا من أسرار التوحيد وهو من إشراك التوحيد، الذي يسميه هؤلاء النفاة توحيدًا، لا من أسرار التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فإن المحبة لا تكون إلا لمعنى في المحبوب يحبه المحب، وليس عندهم في الموجودات شىء يحبه الرب إلا بمعنى يريده، وهو مريد لكل الحوادث، ولا في الرب عندهم معني يحبه العبد، وإنما يحب العبد ما يشتهيه، وإنما يشتهي الأمور الطبعية الموافقة لطبعه، ولا يوافق طبعه عندهم إلا اللذات البدنية كالأكل والشرب والنكاح .(1/455)
والحزب الثاني : من الصوفية الذي كان هذا المشهد هو منتهي سلوكهم، عرفوا الفرق الطبيعي، وهم قد سلكوا على ترك هذا الفرق الطبيعي، وإنهم يزهدون في حظوظ النفس وأهوائها لا يريدون شيئًا لأنفسهم، وعندهم أن من طلب شيئًا للأكل والشرب في الجنة، فإنما طلب هواه وحظه، وهذا كله نقص عندهم ينافي حقيقة الفناء في توحيد الربوبية وهو بقاء مع النفس وحظوظها .
والمقامات كلها عندهم ـ التوكل والمحبة، وغير ذلك ـ إنما هي منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شهدوا توحيد الربوبية كان ذلك عندهم عللا في الحقيقة، إما لنقص المعرفة والشهود، وإما لأنه ذب عن /النفس وطلب حظوظها، فإنه من شهد أن كل مافي الوجود فالرب يحبه ويرضاه ويريده، لا فرق عنده بين شىء وشىء، إلا أن من الأمور ما معه حظ لبعض الناس من لذة يصيبها، ومنها ما معه ألم لبعض الناس، فمن كان هذا مشهده فإنه قطعًا يرى أن كل من فرق بين شىء وشىء لم يفرق إلا لنقص معرفته، وشهوده أن الله رب كل شىء ومريد لكل شىء ومحب ـ على قولهم ـ لكل شىء، وإنما لفرق يرجع إلى حظه وهواه، فيكون طالبًا لحظه ذابًا عن نفسه، وهذا علة وعيب عندهم .
فصار عندهم كل من فرق، إما ناقص المعرفة والشهادة، وإما ناقص القصد والإرادة . وكلاهما علة، لخلاف صاحب الفناء في مشهد الربوبية، فإنه يشهد كل مافي الوجود بإرادته ومحبته ورضاه عندهم، لا فرق بين شىء وشىء، فلا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، كما قاله صاحب منازل السائرين .(1/456)
ولهذا في الكلام المنقول عن الذبيلي، وأبي يزيد أنه قال : إذا رأيت أهل الجنة يتنعمون في الجنة، وأهل النار يعذبون في النار، فوقع في قلبك فرق، خرجت عن حقيقة التوكل، أو قال : عن التوحيد الذي هو أصل التوكل، ومعلوم أن هذا الفرق لا يعدم من الحيوان دائمًا بل لابد له منه يميل إلى ما لا بد له منه من أكل وشرب، لكنه في حال الفناء قد يكون مستغرقًا في ذلك المشهد، ولكن لابد أن يميل إلى أمور يحتاج إليها فيريدها، وأمور تضره فيكرهها وهذا فرق طبيعي لا يخلو منه بشر .
/لكن قد يقولون بالفرق في الأمور الضرورية التي لا يقوم الإنسان إلا بها من طعام ولباس ونحو ذلك، فيكتفون في الدنيا والآخرة بما لابد منه من طعام ولباس، ويرون هذا الزهد هو الغاية، فيزهدون في كل شىء، بمعنى أنهم لا يريدونه ولا يكرهونه، ولا يحبونه ولا يبغضونه، ويكون زهدهم في المساجد كزهدهم في الحانات، ولهذا إذا قدم الشيخ الكبير منهم بلدًا يبدأ بالبغايا في الحانات ويقول : كيف أنتم في قدر الله، فإنه لا فرق عنده في هذا المشهد بين المساجد والكنائس والحانات، وبين أهل الصلاة والإحرام وقراءة القرآن وأهل الكفر وقطاع الطريق والمشركين بالرحمن .
ولا ريب أن فناءهم وغيبتهم عن شهود الإلهية والنبوة، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وما تضمنه من الفرق يرجع إلى نقص العلم والشهود والإيمان والتوحيد، فشهدوا نعتًا من نعوت الرب، وغابوا عن آخر وهذا نقص .(1/457)
وقد يرون أن شهود الذات مجردة عن الصفات أكمل، ويقولون : شهود الأفعال، ثم شهود الصفات، ثم شهود الذات المجردة، وربما جعلوا الأول للنفس، والثاني للقلب، والثالث للروح، ويجعلون هذا النقص من إيمانهم ومعرفتهم وشهودهم هو الغاية، فيكونون مضاهين للجهمية نفاة الصفات، حيث أثبتوا ذاتًا مجردة عن الصفات، وقالوا : هذا هو الكمال، لكن أولئك يقولون : بانتفائها في الخارج، فيقولون : إنهم يشهدون أنها منتفية وهؤلاء يثبتونها في/ الخارج علمًا واعتقادًا، ولكن يقولون : الكمال في أن يغيب عن شهودها ولا يشهدون نفيها، لكن لا يشهدون ثبوتها، وهذا نقص عظيم وجهل عظيم .
أما أولاً، فلأنهم شهدوا الأمر على خلاف ما هو عليه، فذات مجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج .
وأما الثاني، فهو مطلوب الشيطان من التجهم ونفي الصفات، فإن عدم العلم والشهود لثبوتها يوافق فيه الجهمي المعتقد لانتفائها، ومن قال : أعتقد أن محمدا ليس برسول، وقال الآخر : وإن كنت أعلم رسالته فأنا أفنى عنها فلا أذكرها ولا أشهدها، فهذا كافر كالأول . فالكفر عدم تصديق الرسول، سواء كان معه اعتقاد تكذيب أم لا، بل وعدم الإقرار بما جاء به والمحبة له، فمن ألزم قلبه أن يغيب عن معرفة صفات الله كما يعرف ذاته، وألزم قلبه أن يشهد ذاتًا مجردة عن الصفات، فقد ألزم قلبه أن لا يحصل له مقصود الإيمان بالصفات وهذا من أعظم الضلال .
وأهل الفناء في توحيد الربوبية قد يظن أحدهم أنه إذا لم يشهد إلا فعل الرب فيه فلا إثم عليه، وهم في ذلك بمنزلة من أكل السموم القاتلة، وقال : أنا أشهد أن الله هو الذي أطعمني، فلا يضرني، وهذا جهل عظيم، فإن الذنوب والسيئات تضر الإنسان أعظم مما تضره السموم، وشهوده أن الله فاعل ذلك /لا يدفع ضررها، ولو كان هذا دافعًا لضررها لكان أنبياء الله، وأولياؤه المتقون أقدر على هذا الشهود الذي يدفعون به عن أنفسهم ضرر الذنوب .(1/458)
ومن هؤلاء من يظن أن الحق، إذا وهبه حالاً يتصرف به وكشفا لم يحاسبه على تصرفه به، وهذا بمنزلة من يظن أنه إذا أعطاه ملكًا لم يحاسبه على تصرفه فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) ، فبين أنه مع أنه المعطي المانع، فلا ينفع المجدود جده، إنما ينفعه الإيمان و العمل الصالح .
فهذا أصل عظيم ضل بالخطأ فيه خلق كثير، حتى آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى أن جعلوا أولياء الله المتقين يقاتلون أنبياءه، ويعاونون أعداءه، وأنهم مأمورون بذلك، وهو أمر شيطاني قدري، ولهذا يقول من يقول منهم : أن الكفار لهم خفراء من أولياء الله، كما للمسلمين خفراء من أولياء الله، ويظن كثير منهم أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي فقال : ( يا أصحابي، تخلوني وتذهبون عني ) ؟ ! فقالوا : نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه .
ويجوزون قتال الأنبياء وقتلهم ـ كما قال شيخ مشهور منهم ـ كان بالشام ـ : لو قتلت سبعين نبيًا ما كنت مخطئًا فإنه ليس في مشهدهم لله محبوب مرضى مراد إلا ما وقع، فما وقع فالله يحبه ويرضاه، ومالم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، / والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهم من غلب كانوا معه؛ لأن من غلب كان القدر معه، والمقدور عندهم هو محبوب الحق، فإذا غلب الكفار كانوا معهم، وإذا غلب المسلمون كانوا معهم، وإذا كان الرسول منصورًا كانوا معه، وإذا غلب أصحابه كانوا مع الكفار الذين غلبوهم .(1/459)
وهؤلاء الذين يصلون إلى هذا الحد غالبهم لا يعرف وعيد الآخرة، فإن من أقر بوعيد الآخرة وأنه للكفار لم يمكنه أن يكون معاونًا للكفار مواليا لهم على ما يوجب وعيد الآخرة، لكن قد يقولون بسقوطه مطلقًا، وقد يقولون : بسقوطه عمن شهد توحيد الربوبية، وكان في هذه الحقيقة القدرية، وهذا يقوله طائفة من شيوخهم، كالشيخ المذكور وغيره .
فلهذا يوجد هؤلاء الذين يشهدون القدر المحض، وليس عندهم غيره إلا ما هو قدر أيضًا ـ من نعيم أهل الطاعة، وعقوبة أهل المعصية ـ لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، ولا يجاهدون في سبيل الله، بل ولا يدعون الله بنصر المؤمنين على الكفار، بل إذا رأى أحدهم من يدعو، قال الفقير أو المحقق أو العارف : ما له ؟ ! يفعل الله ما يشاء، وينصر من يريد، فإن عنده أن الجميع واحد بالنسبة إلى الله، و بالنسبة إليه أيضًا، فإنه ليس له غرض في نصر إحدى الطائفتين لا من جهة ربه، فإنه لا فرق على رأيه عند الله ـ تعالى ـ بينهما، ولا من جهة نفسه، فإن حظوظه لا تنقص باستيلاء الكفار، بل كثير منهم تكون/ حظوظه الدنيوية مع استيلاء الكفار والمنافقين والظالمين أعظم، فيكون هواه أعظم .
وعامة من معهم من الخفراء هم من هذا الضرب، فإن لهم حظوظًا ينالونها باستيلائهم، لا تحصل لهم باستيلاء المؤمنين . وشياطينهم تحب تلك الحظوظ المذمومة، وتغريهم بطلبهم، وتخاطبهم الشياطين بأمر ونهي وكشف يظنونه من جهة الله، وإن الله هو أمرهم ونهاهم، وأنه حصل لهم من المكاشفة، ما حصل لأولياء الله المتقين، ويكون ذلك كله من الشياطين، وهم لا يفرقون بين الأحوال الرحمانية، والشيطانية؛ لأن الفرق مبني على شهود الفرق من جهة الرب ـ تعالى ـ وعندهم لا فرق بين الأمور الحادثة كلها من جهة الله ـ تعالى ـ إنما هو مشيئة محضة تناولت الأشياء تناولاً واحدًا، فلا يحب شيئًا ولا يبغض شيئًا .(1/460)
ولهذا يشترك هؤلاء في جنس السماع الذي يثير مافي النفوس، من الحب والوجد والذوق، فيثير من قلب كل أحد حبه وهواه، وأهواؤهم متفرقة، فإنهم لم يجتمعوا على محبة ما يحبه الله ورسوله، إذ كان محبوب الحق ـ على أصل قولهم ـ هو ما قدره فوقع، وإذا اختلفت أهواؤهم في الوجد، اختلفت أهواء شياطينهم، فقد يقتل بعضهم بعضا بشياطينه؛ لأنها أقوى من شياطين ذاك وقد يسلبه ما معه من الحال الذي هو التصرف والمكاشفة الحاصلة له بسبب شياطينهم، فتكون شياطينه هربت من شياطين ذلك . فيضعف أمره، ويسلب حاله، كمن كان ملكًا له أعوان فأخذت أعوانه، فيبقى ذليلاً لا ملك له،
/فكثير من هؤلاء كالملوك الظلمة الذين يعادي بعضهم بعضًا، إما مقتول وإما مأسور، وإما مهزوم . فإن منهم من يأسر غيره فيبقى تحت تصرفه، ومنهم من يسلبه غيره، فيبقى لا حال له، كالملك المهزوم، فهذا كله من تفريع أصل الجهمية الغلاة في الجبر في القدر .
وإنما يخلص من هذا كله من أثبت لله محبته لبعض الأمور وبغضه لبعضها، وغضبًا من بعضها، وفرحًا ببعضها، وسخطًا لبعضها، كما أخبرت به الرسل، ونطقت به الكتب، وهذا هو الذي يشهد، أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويعلم أن التوحيد الذي بعثت به الرسل أن يعبد الله وحده لا شريك له، فيعبد الله دون ما سواه .
وعبادته تجمع كمال محبته وكمال الذل له ، كما قال تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } [ الزمر : 54 ] ، فينيب قلبه إلى الله ويسلم له، ويتبع ملة إبراهيم حنيفًا { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [ النساء : 125 ] ، ويعلم أن ما أمر الله ورسوله به فإن الله يحبه ويرضاه، وما نهى عنه فإنه يبغضه وينهى عنه ويمقت عليه ويسخط على فاعله، فصار يشهد الفرق من جهة الحق تعالى .(1/461)
ويعلم أن الله ـ تعالى ـ يحب أن يعبد وحده لا شريك له، ويبغض من يجعل له أندادًا يحبونهم كحب الله، وإن كانوا مقرين بتوحيد الربوبية كمشركي/ العرب وغيرهم، وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية، حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] قال الله تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ . قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 148، 149 ] .
فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي، وأنكروا التوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهم يقرون بتوحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شىء، ما بقى عندهم من فرق من جهة الله ـ تعالى ـ بين مأمور ومحظور، فقالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، وهذا حق، فإن الله لو شاء ألا يكون هذا لم يكن، لكن أي فائدة لهم في هذا، هذا غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر، ولا يلزم إذا كان مقدورًا أن يكون محبوبًا مرضيًا لله، ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه بل ليسوا في ذلك إلا على ظن وخرص .
فإن احتجوا بالقدر، فالقدر عام لا يختص بحالهم .(1/462)
وإن قالوا : نحن نحب هذا، ونسخط هذا، فنحن نفرق الفرق الطبيعي؛ لانتفاء الفرق من جهة الحق، قال تعالى : لا علم عندكم بانتفاء الفرق من جهة الله تعالى، والجهمية المثبتة للشرع تقول : بأن الفرق الثابت هو أن التوحيد/ قرن به النعيم، والشرك قرن به العذاب وهو الفرق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عندهم يرجع إلي علم الله بما سيكون وإخباره، بل هؤلاء لا يرجع الفرق عندهم إلى محبة منه، لهذا وبغض لهذا .
وهؤلاء يوافقون المشركين في بعض قولهم لا في كله، كما أن القدرية من الأمة ـ الذين هم مجوس الأمة ـ يوافقون المجوس المحضة في بعض قولهم لا في كله، وإلا فالرسول قد دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى محبة الله دون ما سواه، وإلى أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والمحبة تتبع الحقيقة فإن لم يكن المحبوب في نفسه مستحقًا أن يحب لم يجز الأمر بمحبته فضلاً عن أن يكون أحب إلينا من كل ما سواه .
وإذا قيل : محبته، محبة عبادته وطاعته، قيل : محبة العبادة والطاعة فرع على محبة المعبود المطاع، وكل من لم يحب في نفسه لم تحب عبادته وطاعته؛ ولهذا كان الناس يبغضون طاعة الشخص الذي يبغضونه، ولا يمكنهم مع بغضه محبة طاعته، إلا لغرض آخر محبوب، مثل عوض يعطيهم على طاعته، فيكون المحبوب في الحقيقة هو ذلك العوض، فلا يكون الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، إلا بمعنى أن العوض الذي يحصل من المخلوقات أحب إليهم من كل شىء .(1/463)
ومحبة ذلك العوض مشروط بالشعور به، فما لا يشعر به تمتنع محبته، فإذا قيل : هم قد وعدوا على محبة الله ورسوله بأن يعطوا أفضل محبوباتهم المخلوقة، / قيل : لامعنى لمحبة الله ورسوله عندكم إلا محبة ذلك العوض، والعوض غير مشعور به حتي يحب، وإذا قيل : بل إذا قال : من قال : لا يحب غيره إلا لذاته . المعنى : أنك إذا أطعتني أعطيتك أعظم ما تحبه صار محبًا لذلك الآمر له، قيل : ليس الأمر كذلك بل يكون قلبه فارغًا من محبة ذلك الآمر، وإنما هو معلق بما وعده من العوض على عمله كالفعلة الذين يعملون من البناء والخياطة والنساجة وغير ذلك ما يطلبون به أجورهم، فهم قد لا يعرفون صاحب العمل أو لا يحبونه ولا لهم غرض فيه، إنما غرضهم في العوض الذي يحبونه .
وهذا أصل قول الجهمية القدرية والمعتزلة الذي ينكرون محبة الله ـ تعالى ـ ولهذا قالت المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة : إن معرفة الله وجبت لكونها لطفًا في أداء الواجبات العقلية فجعلوا أعظم المعارف تبعًا لما ظنوه واجبًا بالعقل، وهم ينكرون محبة الله والنظر إليه فضلاً عن لذة النظر .(1/464)
وابن عقيل لما كان في كثير من كلامه طائفة من كلام المعتزلة سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال : يا هذا ! هب أن له وجهًا أفتتلذذ بالنظر إليه ؟ ! وهذا اللفظ مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النسائي وغيره عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدعاء : ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك/ الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ) .
وقد روى هذا اللفظ من وجه آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أظنه من رواية زيد بن ثابت ـ ومعناه في الصحيح من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة ) يعني قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] .
فقد أخبر أنه ليس فيما أعطوه من النعيم أحب إليهم من النظر، وإذا كان النظر إليه أحب الأشياء إليهم علم أنه نفسه أحب الأشياء إليهم، وإلا لم يكن النظر أحب أنواع النعيم إليهم، فإن محبة الرؤية تتبع محبة المرئي، وما لا يحب ولا يبغض في نفسه لا تكون رؤيته أحب إلى الإنسان من جميع أنواع النعيم .(1/465)
وفي الجملة، فإنكار الرؤية والمحبة والكلام ـ أيضًا ـ معروف من كلام الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، والأشعرية ومن تابعهم يوافقونهم على/ نفي المحبة ويخالفونهم في إثبات الرؤية ولكن الرؤية التي يثبتونها لا حقيقة لها .
وأول من عرف عنه في الإسلام أنه أنكر أن الله يتكلم، وأن الله يحب عباده : الجعد ابن درهم، ولهذا أنكر أن يكون اتخذ الله إبراهيم خليلاً، أو كلم موسى تكليمًا، فضَحَّى به خالد بن عبد الله القسري، وقال : ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقوله الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه .
وأما الصوفية، فهم يثبتون المحبة بل هذا أظهر عندهم من جميع الأمور، وأصل طريقتهم إنما هي الإرادة والمحبة، وإثبات محبة الله مشهور في كلام أوليهم وآخريهم، كما هو ثابت بالكتاب والسنة واتفاق السلف .
والمحبة جنس تحته أنواع كثيرة فكل عابد محب لمعبوده، فالمشركون يحبون آلهتهم، كما قال الله تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وفيه قولان :
أحدهما : يحبونهم كحب المؤمنين لله، والثاني : يحبونهم كما/ يحبون الله؛ لأنه قد قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، فلم يمكن أن يقال : إن المشركين يعبدون آلهتهم كما يعبد الموحدون الله، بل كما يحبون ـ هم ـ الله، فإنهم يعدلون آلهتهم برب العالمين، كما قال : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، وقال : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97، 98 ] .(1/466)
وقد قال : بعض من نصر القول الأول في الجواب عن حجة القول الثاني قال المفسرون : قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ، أي : أشد حبًا لله من المشركين لآلهتهم . فيقال له : ما قاله هؤلاء المفسرون مناقض لقولك، فإنك تقول : إنهم يحبون الأنداد كحب المؤمنين لله، وهذا يناقض أن يكون المؤمنون أشد حبًا لله من المشركين لأربابهم، فتبين ضعف هذا القول وثبت أن المؤمنين يحبون الله أكثر من محبة المشركين لله ولآلهتهم، لأن أولئك أشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلها لله .
وأيضًا، فقوله : { كَحُبِّ اللَّهِ } أضيف فيه المصدر إلى المحبوب المفعول، وحذف فاعل الحب، فإما أن يراد كما يحب الله ـ من غير تعيين فاعل ـ فيبقى عامًا في حق الطائفتين، وهذا يناقض قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ، وإما أن يراد كحبهم لله، ولا يجوز أن يراد كما يحب غيرهم لله، إذ ليس في الكلام ما يدل على هذا بخلاف حبهم، فإنه قد دل عليه قوله : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، فأضاف الحب المشبه إليهم/ فكذلك الحب المشبه لهم إذ كان سياق الكلام يدل عليه إذا قال : يحب زيدًا كحب عمرو، أو يحب عليا كحب أبي بكر، أو يحب الصالحين من غير أهله كحب الصالحين من أهله، أو قيل : يحب الباطل كحب الحق، أو يحب سماع المكاء والتصدية كحب سماع القرآن، وأمثال ذلك لم يكن المفهوم إلا أنه هو المحب للمشبه والمشبه به، وأنه يحب هذا كما يحب هذا، لا يفهم منه أنه يحب هذا كما يحب غيره هذا . إذ ليس في الكلام ما يدل على محبة غيره أصلا .(1/467)
والمقصود أن المحبة تكون لما يتخذ إلها من دون الله، وقد قال تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [ الجاثية : 23 ] ، فمن كان يعبد ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، فما هويه هوية إلهه، فهو لا يتأله من يستحق التأله، بل يتأله ما يهواه وهذا المتخذ إلهه هواه له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، و محبة عباد العجل له، وهذه محبة مع الله لا محبة لله، وهذه محبة أهل الشرك .
والنفوس قد تدعي محبة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله، وقد يخفى الهوى على النفس فإن حبك الشىء يعمي ويصم .
وهكذا الأعمال التي يظن الإنسان ، أنه يعملها لله، وفي نفسه شرك قد خفى / عليه، وهو يعمله، إما لحب رياسة، وإما لحب مال، وإما لحب صورة، ولهذا قالوا : يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) .
فلما صار كثير من الصوفية النساك المتأخرين يدعون المحبة، ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسنة، دخل فيها نوع من الشرك، واتباع الأهواء والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله . فقال : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ؛ وهذا لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شىء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه، وليس شىء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه، فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات .(1/468)
فكل من ادعى أنه يحب الله، ولم يتبع الرسول فقد كذب، ليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوي اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب، فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين .
وهكذا أهل البدع، فمن قال : إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد/ اتباع الرسول والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى، بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر .(1/469)
وأيضًا، فمن تمام محبة الله ورسوله بغض من حاد الله ورسوله، والجهاد في سبيله، لقوله تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [ المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 80، 81 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] .
فأمر المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم، ومن معه، حيث أبدوا العداوة والبغضاء لمن أشرك حتى يؤمنوا بالله وحده، فأين هذا من حال من لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ؟ !(1/470)
/وهؤلاء سلكوا طريق الإرادة والمحبة، مجملا من غير اعتصام بالكتاب والسنة، كما سلك أهل الكلام والرأي طريق النظر والبحث، من غير اعتصام بالكتاب والسنة، فوقع هؤلاء في ضلالات وهؤلاء في ضلالات، كما قال تعالي : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [ طه : 123- 126 ] ، وقال : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقال : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، وقال : { قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [ يونس : 108 ] . ومثل هذا كثير في القرآن .
وقد بسط الكلام على هذا الأصل في غير هذا الموضع .(1/471)
فإن قيل : صاحب الفناء في توحيد الربوبية قد شهد أن الرب خلق كل شىء، وقد يكون ممن يثبت الحكمة، فيقول : إنما خلق المخلوقات لحكمة، وهو يحب تلك الحكمة ويرضاها، وإنما خلق ما يكرهه لما يحبه، والذين فرقوا بين المحبة والإرادة، قالوا : المريض يريد الدواء ولا يحبه، وإنما يحب ما يحصل به وهو العافية وزوال المرض، فالرب تعالي خلق الأشياء كلها بمشيئته فهو مريد لكل ما خلق، ولما أحبه من الحكمة، وإن كان لا يحب بعض المخلوقات من الأعيان والأفعال، لكنه يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فالعارف إذا شهد /هذا أحب أيضًا أن يخلق لتلك الحكمة وتكون الأشياء مرادة محبوبة له كما هي للحق فهو وإن كره الكفر والفسوق والعصيان، لكن ما خلقه الله منه خلقه لحكمة، وإرادة، فهو مراد محبوب باعتبار غايته لا باعتباره في نفسه .
قيل : من شهد هذا المشهد، فهو يستحسن ما حسنه الله وأحبه ورضيه، ويستقبح ما كرهه الله وسخطه، ولكن إذا كان الله خلق هذا المكروه لحكمة يحبها، فالعارف هو أيضًا يكرهه ويبغضه كما كرهه الله، ولكن يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فيكون حبه وعلمه موافقًا لعلم الله وحبه، لا مخالفًا . والله عليم حكيم، فهو يعلم الأشياء على ما هي عليه، وهو حكيم فيما يحبه ويريده، ويتكلم به وما يأمر به ويفعله، فإن كان يعلم أن الفعل الفلاني والشىء الفلاني متصف بما هو مذموم لأجله، مستحق للبغض والكراهة كان من حكمته أن يبغضه ويكرهه، وإذا كان يعلم أن في وجوده حصول حكمة محبوبة محمودة، كان من حكمته أنه يخلقه ويريده؛ لأجل تلك الحكمة المحبوبة التي هي وسيلة إلى حصوله .
وإذا قيل : إن هذا الوسط يحب باعتبار أنه وسيلة إلى محبوب لذاته، ويبغض باعتبار ما اتصف به من الصفات المذمومة كان هذا حسنا كما تقول : إن الإنسان قد يبغض الدواء من وجه ويحبه من وجه، وكذلك أمور كثيرة تحب من وجه وتبغض من وجه .(1/472)
/وأيضًا يجب الفرق بين أن يكون مضرًا بالشخص مكروهًا له بكل اعتبار، وبين أن يكون الله خلقه لحكمة في ذلك .
وإذا كان الله خلق كل شىء لحكمة له في ذلك، فإذا شهد العبد أن له حكمة ورأي هذا مع الجمع الذي يشترك فيه المخلوقات، فلا يمنعه ذلك أن يشهد ما بينهما من الفرق الذي فرق الله به بين أهل الجنة، وأهل النار، بل لابد من شهود هذا الفرق في ذلك الجمع وهذا الشهود مطابق لعلم الله وحكمته . والله أعلم .
وقد قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] ، فأخبر أن من كانت محبوباته أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله، فهو من أهل الوعيد، وقال في الذين يحبهم ويحبونه : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } [ المائدة : 54 ] .
فلابد لمحب الله من متابعة الرسول، والمجاهدة في سبيل الله، بل هذا لازم لكل مؤمن . قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، فهذا حب المؤمن لله .
وأما المحبة الشركية، فليس فيها متابعة للرسول، ولا بغض لعدوه ومجاهدة له، كما يوجد في اليهود والنصارى والمشركين يدعون محبة الله، ولا يتابعون الرسول، ولا يجاهدون عدوه .(1/473)
وكذلك أهل البدع المدعون للمحبة لهم، من الإعراض عن اتباع الرسول بحسب بدعتهم، وهذا من حبهم لغير الله، وتجدهم من أبعد الناس عن موالاة أولياء الرسول، ومعاداة أعدائه، والجهاد في سبيله لما فيهم من البدع التي هي شعبة من الشرك .
والذين ادعوا المحبة من الصوفية وكان قولهم في القدر من جنس قول الجهمية المجبرة هم في آخر الأمر، لا يشهدون للرب محبوبًا إلا ما وقع وقدر، وكل ما وقع من كفر وفسوق وعصيان فهو محبوبه عندهم، فلا يبقى في هذا الشهود فرق بين موسى، وفرعون، ولا بين محمد، وأبى جهل، ولا بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين عبادة الله وحده، وعبادة الأوثان، بل هذا كله عند الفاني في توحيد الربوبية سواء، ولا يفرق بين حادث وحادث إلا من جهة ما يهواه ويحبه، وهذا هو الذي اتخذ إلهه هواه، إنما يأله ويحب ما يهواه وهو وإن كان عنده محبة لله، فقد اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحب الله، وهم /من يهواه، هذا ما دام فيه محبة لله، وقد ينسلخ منها حتي يصير إلى التعطيل، كفرعون وأمثاله الذي هو أسوء حالاً من مشركي العرب ونحوهم .
ولهذا هؤلاء يحبون بلا علم، ويبغضون بلا علم، والعلم ما جاء به الرسول، كما قال : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ } [ آل عمران : 61 ] ، وهوالشرع المنزل؛ ولهذا كان الشيوخ العارفون كثيرًا ما يوصون المريدين باتباع العلم والشرع، كما قد ذكرنا قطعة من كلامهم في غير هذا الموضع، لأن الإرادة والمحبة إذا كانت بغير علم وشرع، كانت من جنس محبة الكفار وإرادتهم، فهؤلاء السالكون المريدون الصوفية والفقراء الزاهدون العابدون، الذين سلكوا طريق المحبة والإرادة إن لم يتبعوا الشرع المنزل، والعلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحبون ما أحب الله ورسوله، ويبغضون ما أبغض الله ورسوله، وإلا أفضى بهم الأمر إلى شعب من شعب الكفر والنفاق .(1/474)
ولا يتم الإيمان والمحبة لله، إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر .
ومن الإيمان بما أخبر، الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فمن نفى الصفات فقد كذب خبره .
ومن الإيمان بما أمر فعل ما أمر وترك ما حظر، ومحبة الحسنات وبغض/ السيئات، ولزوم هذا الفرق إلى الممات، فمن لم يستحسن الحسن المأمور به، ولم يستقبح السيئ المنهي عنه لم يكن معه من الإيمان شىء، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) . وكما قال في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) . رواه مسلم .
فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر الذي يبغضه الله ورسوله، لم يكن معه من الإيمان شىء؛ ولهذا يوجد المبتدعون الذين يدعون المحبة المجملة المشتركة التي تضاهى محبة المشركين، يكرهون من ينكر عليهم شيئًا من أحوالهم، ويقولون : فلان ينكر، وفلان ينكر، وقد يبتلون كثيرًا بمن ينكر ما معهم من حق وباطل، فيصير هذا يشبه النصراني الذي يصدق بالحق والباطل، ويحب الحق والباطل، كالمشرك الذي يحب الله ويحب الأنداد، وهذا كاليهودي الذي يكذب بالحق والباطل، ويبغض الحق والباطل، فلا يحب الله، ولا يحب الأنداد، بل يستكبر عن عبادة الله، كما استكبر فرعون وأمثاله .(1/475)
/وهذا موجود كثيرا في أهل البدع من أهل الإرادة، والبدع من أهل الكلام، هؤلاء يقرون بالحق والباطل مضاهاة للنصارى، وهؤلاء يكذبون بالحق والباطل مضاهاة لليهود، وإنما دين الإسلام وطريق أهل القرآن والإيمان إنكار ما يبغضه الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله والتصديق بالحق، والتكذيب بالباطل، فهم في تصديقهم ومحبتهم معتدلون يصدقون بالحق، ويكذبون بالباطل، ويحبون الحق ويبغضون الباطل، يصدقون بالحق الموجود ويكذبون بالباطل المفقود، ويحبون الحق الذي يحبه الله ورسوله، وهو المعروف الذي أمر الله ورسوله به، ويبغضون المنكر الذي نهى الله ورسوله عنه، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا طريق المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق، فلا يصدقون به ولا يحبونه، ولا الضالين الذين يعتقدون ويحبون مالم ينزل الله به سلطانًا .
والمقصود هنا : أن المحبة الشركية البدعية هي التي أوقعت هؤلاء في أن آل أمرهم إلى ألا يستحسنوا حسنة، ولا يستقبحوا سيئة؛ لظنهم أن الله لا يحب مأمورًا ولا يبغض محظورًا، فصاروا في هذا من جنس من أنكر أن الله يحب شيئا ويبغض شىئًا، كما هو قول الجهمية نفاة الصفات، وهؤلاء قد يكون أحدهم مثبتًا لمحبة الله ورضاه، وفي أصل اعتقاده إثبات الصفات، لكن إذا جاء إلى القدر لم يثبت شيئًا غير الإرادة الشاملة، وهذا وقع فيه /طوائف من مثبتة الصفات، تكلموا في القدر بما يوافق رأي جهم والأشعرية، فصاروا مناقضين لما أثبتوه من الصفات، كحال صحاب [ منازل السائرين ] وغيره .(1/476)
وأما أئمة الصوفية، والمشايخ المشهورون من القدماء مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزومًا للأمر والنهي، وتوصية باتباع ذلك، وتحذيرًا من المشي مع القدر، كما مشى أصحابهم أولئك، وهذا هو الفرق الثاني الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه، والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور، ولا يثبت طريقًا تخالف ذلك أصلا لا هو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين، ويحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون اتباع الأمر والنهي، كما أصاب أولئك الصوفية الذين شهدوا القدر وتوحيد الربوبية، وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي المحمدي، الذي يفرق بين محبوب الحق ومكروهه، ويثبت أنه لا إله إلا هو .
وهذا من أعظم ما تجب رعايته على أهل الإرادة والسلوك، فإن كثيرًا من المتأخرين زاغ عنه فضل سواء السبيل، وإنما يعرف هذا من توجه بقلبه وانكشفت له حقائق الأمور، وصار يشهد الربوبية العامة والقيومية الشاملة، فإن لم يكن معه نور الإيمان والقرآن الذي يحصل به الفرقان، حتى يشهد الإلهية التي تميز بين أهل التوحيد والشرك، وبين ما يحبه الله وما يبغضه، وبين /ما أمر به الرسول، وبين ما نهى عنه، وإلا خرج عن دين الإسلام بحسب خروجه عن هذا، فإن الربوبية العامة قد أقر بها المشركون الذين قال فيهم : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] .(1/477)
وإنما يصير الرجل مسلمًا حنيفًا موحدًا إذا شهد أن لا إله إلا الله . فعبد الله وحده بحيث لا يشرك معه أحدًا في تألهه، ومحبته له وعبوديته وإنابته إليه، وإسلامه له، ودعائه له، والتوكل عليه، وموالاته فيه، ومعاداته فيه، ومحبته ما يحب؛ وبغضه ما يبغض ويفنى بحق التوحيد عن باطل الشرك، وهذا فناء يقارنه البقاء فيفنى عن تأله ما سوى الله بتأله الله تحقيقًا لقوله : لا إله إلا الله، فينفي ويفنى من قلبه تأله ما سواه، ويثبت، ويبقى في قلبه تأله الله وحده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الصحيح ـ : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وفي الحديث الآخر : ( من كان آخر كلامه، لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وقال في الصحيح : " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) ، فإنها حقيقة دين الإسلام فمن مات عليها مات مسلمًا .
والله ـ تعالى ـ قد أمرنا ألا نموت إلا على الإسلام في غير موضع . كقوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] ، وقال الصديق : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] ، والصحيح من القولين أنه لم يسأل الموت، ولم يتمنه، وإنما سأل أنه إذا مات يموت على الإسلام، فسأل الصفة لا الموصوف كما أمر الله بذلك، وأمر به خليله إبراهيم وإسرائيل، وهكذا قال غير واحد من العلماء، منهم ابن عقيل وغيره، والله تعالى أعلم .
( أعمال القلوب )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
الحمد للّه نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ صلى اللّه عليه وآله وسلم .
أما بعد :(1/478)
فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب ـ التي قد تسمى [ المقامات والأحوال ] ـ وهي من أصول الإيمان، وقواعد الدين، مثل / محبة اللّه ورسوله، والتوكل على اللّه، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك . اقتضى ذلك بعض من أوجب اللّه حقه من أهل الإيمان، واستكتبها وكل منا عجلان .
فأقول : هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق ـ المأمورين في الأصل ـ باتفاق أئمة الدين، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات : ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات .
فالظالم لنفسه : العاصي بترك مأمور أو فعل محظور .
والمقتصد : المؤدي الواجبات والتارك المحرمات .
والسابق بالخيرات : المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، والتارك للمحرم والمكروه . وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه : إما بتوبة ـ واللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك . وكل من الصنفين : المقتصدين والسابقين من أولياء اللّه الذين ذكرهم في كتابه بقوله : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] . فحد أولياء اللّه : هم المؤمنون المتقون، ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم : المقتصدون، / وخاص وهم : السابقون، وإن كان السابقون هم أعلى درجات كالأنبياء والصديقين .(1/479)
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال : ( يقول اللّه : من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلىَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ) .
وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان، فمعه من ولاية اللّه بقدر إيمانه وتقواه، كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهذا قول جميع أصحاب رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون : إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان .
وأما القائلون بالتخليد، كالخوارج والمعتزلة القائلين : إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر، لا قبل دخول النار ولا بعده، فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب، وحسنات وسيئات، بل من أثيب لا يعاقب، ومن عوقب لم يثب . ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة كثير ليس هذا موضعه، وقد بسطناه في مواضعه .(1/480)
وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب، كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ أن رجلًا كان يسمى حمارًا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم . وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به مرة فقال رجل : لعنه اللّه ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه فإنه يحب اللّّه ورسوله ) .
فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا للّه ورسوله، وحب اللّه ورسوله أوثق عرى الإيمان، كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطًا عليه عند اللّه ورسوله من ذلك الوجه، كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه ذكر الخوارج فقال : ( يحقر / أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) .
وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح : ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ) .(1/481)
ولهذا قال أئمة الإسلام، كسفيان الثوري وغيره : إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها . ومعنى قولهم : إن البدعة لا يتاب منها : أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه اللّه ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله . فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب .(1/482)
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه اللّّه ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى ـ سبحانه وتعالى ـ من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل / البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا . وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا . وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [ النساء : 66ـ 68 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الحديد : 28 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 15، 16 ] . وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة .(1/483)
وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، كما قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ الصف : 5 ] ، وقال تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } [ البقرة : 10 ] ، وقال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 109، 110 ] . وهذا استفهام نفي وإنكار، أي : وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وإنا نقلب أفئدتَهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ [ إنها ] بالكسر تكون / جزمًا بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها .
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقًا . وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذَّابًا ) ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر، وأن الكذب يستلزم الفجور .(1/484)
وقد قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13، 14 ] ؛ ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة وأحب ألا ينفره ولا يشعب قلبه أمره بالصدق؛ ولهذا كان يكثر في كلام مشائخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولوا : قل لمن لا يصدق : لا يتبعني . ويقولون : الصدق سيف اللّه في الأَرْض، وما وضع على شيء إلا قطعه، ويقول يوسف بن أسباط وغيره : ما صدق اللّّه عبدٌ إلا صنع له . وأمثال هذا كثير .
والصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام، فإن / المظهرين للإسلام ينقسمون إلى : مؤمن ومنافق، والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر اللّه حقيقة الإيمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى : { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14، 15 ] ، وقال تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 8 ] .(1/485)
فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة، وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] ، قال ابن عباس : ما بعث اللّّه نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه .(1/486)
وقال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] ، فذكر ـ تعالى ـ أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم اللّه من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا . والكتاب والحديد وإن اشتركا في الإنزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر حيث نزل الكتاب من اللّه، كما قال تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر : 1 ] ، وقال تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] ، والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها .(1/487)
وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] ، وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] ، وقوله تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، وقوله تعالى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 77 ] . ونحو ذلك في القرآن كثير .(1/488)
ومما ينبغي أن يعرف : أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي / الأعمال، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . ويقال : حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة، ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك . ولهذا يريدون بالصادق : الصادق في إرادته وقصده وطلبه، وهو الصادق في عمله، ويريدون الصادق في خبره وكلامه، والمنافق ضد المؤمن الصادق، وهو الذي يكون كاذبًا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله . قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } الآيتين [ النساء : 142، 143 ] .
وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو : الاستسلام للّه لا لغيره، كما قال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ } الآية [ الزمر : 29 ] . فمن لم يستسلم للّه فقد استكبر، ومن استسلم للّّه ولغيرة فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك والكبر . ويستعمل لازمًا ومتعديًا كما قال تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] ، وقال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] . وأمثال ذلك في القرآن كثير .(1/489)
/ولهذا كان رأس الإسلام [ شهادة أن لا إله إلا اللّه ] ، وهي متضمنة عبادة اللّه وحده وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل اللّه من الأولين والآخرين دينا سواه، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] ، وقال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [ آل عمران : 18، 19 ] .
وهذا الذي ذكرناه، مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة : هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده : ( الإسلام عَلانية، والإيمان في القلب ) ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بَيِّن، والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعِرْضِه ودِينهِ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى اللّّه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ) ، وعن أبي هريرة قال : القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده .
فَصل ( الأعمال الباطنة المأمور بها )
وهذه الأعمال الباطنة، كمحبة اللّه والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودًا في حال أحد، وإن ارتقى مقامه .(1/490)
وأما [ الحزن ] فلم يأمر اللّه به ولا رسوله، بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين، كقوله تعالى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] ، وقوله : { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 127 ] ، وقوله : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، وقوله : { وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ } [ يونس : 56 ] ، وقوله : { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ] . وأمثال ذلك كثير .
وذلك ؛لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر اللّه به، نعم ! لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم، كما يحزن على المصائب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم ) وأشار بيده إلى لسانه، وقال صلى الله عليه وسلم : ( تدمع العين، ويحزن القلب، /ولا نقول إلا ما يرضى الرب ) ، ومنه قوله تعالى : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [ يوسف : 84 ] .
وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محمودًا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عمومًا . فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر، وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى عنه، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه من جهة الحزن .
وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر اللّه ورسوله به، كان مذمومًا عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودًا من جهة أخرى .(1/491)
وأما المحبة للّه، والتوكل عليه، والإخلاص له ونحو ذلك، فهذه كلها خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . ومن قال : إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط، وإنما يخرج عنها كافر أو منافق . وقد تكلم بعضهم في ذلك بكلام، بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلام مبسوط وليس هذا موضعه .
/ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى : خصوص وعموم، فللخاصة خاصها، وللعامة عامها . مثال ذلك أن هؤلاء قالوا : إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت، والخاص لا يناضل عن نفسه . وقالوا : المتوكل يطلب بتوكله أمرًا من الأمور، والعارف يشهد الأمور بفروعها منها فلا يطلب شيئًا . فيقال : أما الأول فإن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على اللّه في صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم الأمور إليه؛ ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، كما في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88، الشورى : 10 ] ، وقوله : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] .
فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف : إن اللّه جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .(1/492)
وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه سبحانه : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل ) قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( يقول العبد : الحمد للّه رب العالمين، يقول اللّه : حمدني عبدي . يقول العبد : الرحمن / الرحيم، يقول اللّه : أثنى على عبدي . يقول العبد : مالك يوم الدين، يقول اللّه : مجدني عبدي . يقول العبد : إياك نعبد وإياك نستعين، يقول اللّّه : فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل . يقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، يقول اللّه : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ) . فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير، والعبد له نصف الدعاء والطلب . وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه، وما للعبد، فإياك نعبد للرب، وإىاك نستعين للعبد .(1/493)
وفي الصحيحين عن معاذ ـ رضي اللّه عنه ـ قال : كنت رديفًا للنبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال : ( يا معاذ، أتدري ما حق اللّه على العباد ؟ ) قلت : اللّه ورسوله أعلم، قال : ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على اللهّ إذا فعلوا ذلك ؟ ) قلت : اللّه ورسوله أعلم، قال : ( حقهم عليه ألا يعذبهم ) . والعبادة هي الغاية التي خلق اللّه لها العباد من جهة أمر اللّه ومحبته ورضاه كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي } [ الذاريات : 56 ] ، وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهي اسم يجمع كمال الحب للّه ونهايته، وكمال الذل للّه ونهايته، فالحب الخلي عن ذل، والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين؛ولهذا كانت العبادة لاتصلح إلا للّه، وهي وإن كانت منفعتها للعبد واللّه غني عن العالمين، فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها؛ولهذا كان اللّه أشد فرحًا بتوبة العبد من / الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا نام آيسًا منها ثم استيقظ فوجدها، فاللّه أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته، وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في غير هذا الموضع .
والتوكل والاستعانة للعبد؛ لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة، فالاستعانة كالدعاء والمسألة . وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ يقول اللّه عز وجل : يا بن آدم، إنما هي أربع : واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي . فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلىَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك ) .(1/494)
وكون هذا للّه وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء، فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملائمًا له، واللّه ـ تعالى ـ يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه، ويحب الوسيلة تبعًا لذلك، وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد، وكل ذلك يحبه اللّه ويرضاه، وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط بل التوكل في الأمور الدينية أعظم .
/وأيضًا، التوكل من الأمور الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها، والزاهد فيها زاهد فيما يحبه اللّه ويأمر به ويرضاه .
والزهد المشروع هو : ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة اللّه، كما أن الورع المشروع هو : ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، وهو ترك المحرمات والشبهات التي لايستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها، كالواجبات . فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة، فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة : 87 ] ، كما أن الاشتغال بفضول المباحات، هو ضد الزهد المشروع، فإن اشتغل بها عن فعل واجب أو فعل محرم كان عاصيًا، وإلا كان منقوصًا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين .
وأيضًا، فإن التوكل هو محبوب للّه مرضي له مأمور به دائمًا، وما كان محبوبًا للّه مرضيًا له مأمورًا به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين، فهذه ثلاثة أجوبة عن قولهم : المتوكل يطلب حظوظه .(1/495)
وأما قولهم : إن الأمور قد فرغ منها، فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه لا حاجة إليه؛ لأن المطلوب إن كان مقدرًا فلا حاجة إليه، وإن لم يكن / مقدرًا لم ينفع الدعاء، وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلًا .
وكذلك قول من قال : التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة، وإن حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض، وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضًا، وكذلك قول من قال : إن الدعاء إنما هو عبادة محضة .
فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد : وهو أن هؤلاء ظنوا أن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة ـ أيضًا ـ تكون من العبد، ولم يعلموا أن اللّه سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التي جعلها معلقة بها من أفعال العباد، وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الأعمال بالكلية .(1/496)
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأصل مرات، فأجاب عنه كما أخرجا في الصحيحين عن عمران بن حصين قال : قيل لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يا رسول اللّه، أعُلِم أهل الجنة من أهل النار ؟ قال : ( نعم ) . قالوا : ففيم العمل ؟ قال : ( كل ميسر لما خلق له ) . وفي الصحيحين عن على بن أبي طالب قال : كنا في جنازة فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأسه وقال : ( ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من النار أو الجنة، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة ) . قال : / فقال رجل من القوم : يا نبي اللّه، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل ؟ فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة . قال : [ اعملوا فكل ميسر لما خلق له . أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة ] ، ثم قال نبي اللّه صلى الله عليه وسلم : [ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } ) [ الليل : 5 ـ10 ] ، أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد .
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل : يا رسول اللّه، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر اللّه شيئًا ؟ فقال : ( هي من قدر اللّه ) .
وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث .(1/497)
فبين صلى الله عليه وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافى أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة، وشقاوة هذا بالأعمال السيئة، فإنه سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة، والشقي يشقى بالأعمال السيئة، فمن كان سعيدًا ييسر للأعمال الصالحة التي تقتضي السعادة، ومن كان شقيًا ييسر للأعمال السيئة / التي تقتضى الشقاوة، وكلاهما ميسر لما خلق له، وهو ما يصير إليه من مشيئة اللّه العامة الكونية التي ذكرها اللّه ـ سبحانه ـ في كتابه في قوله تعالى : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [ هود : 118، 119 ] .
وأما ما خلقوا له من محبة اللّه ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
واللّه ـ سبحانه ـ قد بين في كتابه في كل واحدة : من [ الكلمات ] و [ الأمر ] و [ الإرادة ] و [ الإذن ] و [ الكتاب ] و [ الحكم ] و [ القضاء ] و [ التحريم ] ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة اللّه ورضاه وأمره الشرعي، وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية .
مثال ذلك أنه قال في الأمر الديني : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } [ النحل : 90 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] ، ونحو ذلك . وقال في الكوني : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، وكذلك قوله : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } [ الإسراء : 16 ] على إحدى الأقوال في هذه الآية .(1/498)
وقال فى الإرادة الدينية : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، / { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ النساء : 26 ] ، { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [ المائدة : 6 ] ، وقال في الإرادة الكونية : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [ البقرة : 253 ] ، وقال : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [ الأنعام : 125 ] ، وقال نوح عليه السلام : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 28 ] .
وقال تعالى في الإذن الديني : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [ الحشر : 5 ] ، وقال تعالى في الكوني : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] .
وقال تعالى في القضاء الديني : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] أي : أمر، وقال تعالى في الكوني : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ] .(1/499)
وقال تعالى في الحكم الديني : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [ المائدة : 1 ] ، وقال تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } [ الممتحنة : 10 ] ، وقال تعالى في الكوني عن ابن يعقوب : { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يوسف : 80 ] ، / وقال تعالى : { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 112 ] .
وقال تعالى في التحريم الديني : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ } [ المائدة : 3 ] ، { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الآية [ النساء : 23 ] . وقال تعالى في التحريم الكوني : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } [ المائدة : 26 ] .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [ المعارج : 24، 25 ] ، وقال تعالى في الكلمات الدينية : { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] ، وقال تعالى في الكونية : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } [ الأعراف : 137 ] ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه في الصحاح والسنن والمسانيد أنه كان يقول في استعاذته : ( أعوذ بكلمات اللّه التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر ) . ومن المعلوم أن هذا هو الكوني الذي لا يخرج منه شىء، عن مشيئته وتكوينه . وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته .(1/500)
والمقصود هنا أنه صلى الله عليه وسلم بين أن العواقب التي خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالأعمال التي يصيرون بها إلى ذلك، كما أن سائر المخلوقات كذلك، فهو ـ سبحانه ـ يخلق الولد وسائر الحيوان في الأرحام بما يقدره من اجتماع الأبوين على النكاح، واجتماع المائين في الرحم، فلو قال الإنسان : أنا أتوكل ولا أطأ زوجتي، فإن كان قد / قضى لي بولد وجد وإلا لم يوجد ولا حاجة إلى وطء، كان أحمق بخلاف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل الماء لا يمنع انعقاد الولد إذا شاء اللّه، إذ قد يسبق الماء بغير اختياره .
ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال : خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علىنا العزبة، وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( فقال ما علىكم ألا تفعلوا، فإن اللّه قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة ) ، وفي صحيح مسلم عن جابر : أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل، فقال : ( اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها ) .
وهذا مع أن اللّه ـ سبحانه ـ قادر على ما قد فعله من خلق الإنسان من غير أبوين كما خلق آدم، ومن خلقه من أب فقط كما خلق حواء من ضلع آدم القصير، ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح ابن مريم ـ عليه السلام، لكن خلق ذلك بأسباب أخرى غير معتادة .(2/1)
وهذا الموضع، وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع، فقد وقع في كثير من دقه كثير من المشائخ المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر / غير محقق لما أمر به ونهى عنه، ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل، والجري مع الحقيقة القدرية، ويحسب أن قول القائل : ينبغي للعبد أن يكون مع اللّه كالميت بين يدي الغاسل يتضمن ترك العمل بالأمر والنهي حتى يترك ما أمر به، ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذي يفرق به بين ما أمر اللّه به وأحبه ورضيه، وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوي بين ما فرق اللّه بينه كما قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ القلم : 35، 36 ] وقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [ فاطر : 19-22 ] ، وأمثال ذلك .(2/2)
حتى يفضي الأمر بغلاتهم إلى عدم التمييز بين الأمر بالمأمور النبوي الإلهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبين ما يكون في الوجود من الأحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار، فيشهدون وجه الجمع من جهة كون الجميع بقضاء اللّه وقدره وربوبيته وإرادته العامة، / وأنه داخل في ملكه، ولا يشهدون وجه الفرق الذي فرق اللّه به بين أوليائه وأعدائه، والأبرار والفجار، والمؤمنين والكافرين، وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني، وأهل المعصية الذين عصوا هذا الأمر، ويستشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الأشياخ، أو ببعض غلطات بعضهم .(2/3)
وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب الاعتناء به على أهل طريق اللّه، السالكين سبيل الإرادة ؛ إرادة الذين يريدون وجهه، فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان ما لا يعلمه إلا اللّه، حتى يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الأرض من أهل الظلم والعلو، كالذين يتوجهون بقلوبهم في معاونة من يهوونه من أهل العلو في الأرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها في ذلك كانوا بذلك من أولياء اللّه ـ فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحًا، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسدًا، فالأحوال يكون تأثيرها محبوبًا للّه تارة، ومكروهًا للّه أخرى، وقد تكلم الفقهاء على وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ـ ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم بكشف يكشف له أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من اللّه له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إهانة، وأن الكرامة لزوم الاستقامة، وأن /اللّه لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء اللّه الذين قال اللّه فيهم : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] .
فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين، وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين، مع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجبًا، وأما ما يبتلى اللّه به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها، أو بالضراء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه، بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه في ذلك، وقد يشقى بها قوم إذا عصوه في ذلك .(2/4)
قال اللّه تعالى : { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي . كَلَّا } [ الفجر : 15-17 ] ؛ ولهذا كان الناس في هذه الأمور على ثلاثة أقسام :
قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة إذا استعملوها في طاعة اللّه .
وقوم يتعرضون بها لعذاب اللّه إذا استعملوها في معصية اللّه كبلعام وغيره .
وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات .
/والقسم الأول : هم المؤمنون حقًا المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي إنما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين اللّه، أو لحاجة يستعين بها على طاعة اللّه . ولكثرة الغلط في هذا الأصل نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الاسترسال مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل : قدر اللّه وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(2/5)
وفي سنن أبي داود : إن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه : حسبي اللّه ونعم الوكيل . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن علىك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي اللّه ونعم الوكيل ) . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن يستعين باللّه، وهذا مطابق لقوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] . فإن الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة اللّه وعبادته؛ إذ النافع له هو طاعة اللّه ولا شىء أنفع له من ذلك، وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح .
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لسعد : ( إنك لن / تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها فى فيِّ امرأتك ) ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه يلوم على العجز الذي هو ضد الكيس، وهو التفريط فيما يؤمر بفعله، فإن ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل . وإن كان لا ينافى القدرة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي .
فإن الاستطاعة التي توجب الفعل تكون مقارنة له، ولا تصلح إلا لمقدورها، كما ذكرها اللّه تعالى في قوله : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } [ هود : 20 ] ، وفي قوله : { وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } [ الكهف : 101 ] . وأما الاستطاعة التي يتعلق بها الأمر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد لا يقترن كما في قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [ آل عمران : 97 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : ( صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب ) .
فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه إلى أربعة أقسام :(2/6)
قوم ينظرون إلى جانب الأمر والنهي والعبادة والطاعة شاهدين لإلهية الرب ـ سبحانه ـ الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة، وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات اللّه ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان؛ لأن الاستعانة باللّه والتوكل عليه واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه الأمور .
/ولهذا قال بعض السلف : من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه . وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة : ( إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميا وآذانًا صُمّا وقلوبًا غُلْفًا بأن يقولوا لا إله إلا اللّه ) .
ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم : لا حول ولا قوة إلا باللّه . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنها كنز من كنوز الجنة ) . قال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] ، وقال تعالى : الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } إلى قوله : { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 173-175 ] ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ في قوله : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم ) .(2/7)
وقسم ثان : يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به، لكن على أهوائهم وأذواقهم، غير ناظرين إلى حقيقة أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته، وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيرًا / ما يعملون على الأحوال التي يتصرفون بها في الوجود، ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه، وكثيرًا ما يغلطون، فيظنون أن معصيته هي مرضاته، فيعودون إلى تعطيل الأمر والنهي ويسمون هذا حقيقة، ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب الاسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرًا وباطنًا .
وهؤلاء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام؛ لأن العاقبة للتقوى، ومن لم يقف عند أمر اللّه ونهيه فليس من المتقين، فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه، تارة في بدعة يظنونها شرعة، وتارة في الاحتجاج بالقدر على الأمر، واللّه ـ تعالى ـ لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة الأنعام والأعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } [ الأعراف : 28 ] ، وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه اللّه، وأن شرعوا ما لم يشرعه اللّه، وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، ونظيرها في النحل ويس والزخرف . وهؤلاء يكون فيهم شبه من هذا وهذا .
وأما القسم الثالث : وهو من أعرض عن عبادة اللّه واستعانته به فهؤلاء شر الأقسام .(2/8)
/والقسم الرابع : هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] فاستعانوا به على طاعته . وشهدوا أنه إلههم الذي لايجوز أن يعبد إلا إياه بطاعته وطاعة رسوله، وإنه ربهم الذي { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] ، وأنه { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] ، { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ، { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } [ الزمر : 38 ] .
ولهذا قال طائفة من العلماء : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع .(2/9)
فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق، فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشائخ ـ كصاحب [ علل المقامات ] وهو من أجل المشائخ، وأخذ ذلك عنه صاحب [ محاسن المجالس ] ـ وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط، وظنه أنه لا فائدة له في تحصيل المقصود، وهذه حال من جعل الدعاء كذلك، وذلك بمنزلة من جعل الأعمال المأمور بها كذلك، كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من / الأسباب التي هي عبادة وطاعة مأمور بها، فإن غلط هذا في ترك الأسباب المأمور بها التي هي داخلة في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } كغلط الأول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] .
لكن يقال : من كان توكله على اللّه ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة، وإن كان في حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة، كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه، ومن أعرض عن التوكل فهو عاص للّه ورسوله، بل خارج عن حقيقة الإيمان، فكيف يكون هذا المقام للخاصة، قال اللّه تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] ، وقال تعالى : { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } [ آل عمران : 160 ] ، وقال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } [ إبراهيم : 11 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } إلى قوله : { قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] .(2/10)
وقد ذكر اللّه هذه الكلمة { حَسْبِي اللَّهُ } في جلب المنفعة تارة، وفي دفع المضرة أخرى . فالأولى في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } الآية [ التوبة : 59 ] . والثانية في قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، وفي قوله تعالى : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [ الأنفال : 26 ] ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } ، يتضمن بالرضا والتوكل .
والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة : ( اللّهم، بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللّهم، إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، اللّهم، إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللّهم، زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ) رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر .(2/11)
وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لاحقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء، فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [ آل عمران : 143 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 2-4 ] نزلت هذه الآية لما قالوا : لو علمنا أي الأعمال أحب إلى اللّه لعملناه، فأنزل اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ آية الجهاد، فكرهه من كرهه .(2/12)
ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلاء، بأن يوجب على نفسه ما لا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك، أو يطلب ولاية، أو يقدم على بلد فيه طاعون . كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال : ( إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل ) ، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد الرحمن بن سَمُرَة : ( لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكِلْتَ إلىها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعِنْت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك ) . وثبت عنه في الصحيحين أنه قال في الطاعون : ( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ) ، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ( لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا اللّه العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) وأمثال ذلك مما يقتضي أن الإنسان لا ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ويحرم عليه أشياء فيبخل بالوفاء، كما يفعل كثير ممن يعاهد اللّه عهودًا على أمور، وغالب هؤلاء يبتلون بنقض العهود .
ويقتضي أن الإنسان إذا ابتلى فعليه أن يصبر ويثبت ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات . ولابد في جميع ذلك من / الصبر؛ ولهذا كان الصبر واجبًا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات، وترك المحظورات . ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى اللّّه عنه .(2/13)
وقد ذكر اللّه الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] ، { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] ، وقوله : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ } إلى قوله : { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114، 115 ] { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] ، { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } الآية [ غافر : 55 ] .
وجَعلَ الإمَامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] ، فإن الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل به لابد فيه من الصبر، بل وطلب علمه يحتاج إلى الصبر . كما قال معاذ بن جبل ـ رضي اللّه عنه : علىكم بالعلم فإن طلبه للّه عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعلىمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف اللّه ويعبد، وبه يمجد اللّه ويوحد، يرفع اللّه بالعلم أقوامًا يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم، وينتهون إلى رأيهم .
فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولابد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا / قال تعالى : { وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة العصر ] ، وقال تعالى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [ ص : 45 ] .(2/14)
فالعلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي، فالضلال العمل بغير علم، والغي اتباع الهوى . قال تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [ النجم : 1، 2 ] ، فلا ينال الهدى إلا بالعلم، ولا ينال الرشاد إلا بالصبر، ولهذا قال على : ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ـ فإذا انقطع الرأس بان الجسد ـ ثم رفع صوته فقال : ألا لا إيمان لمن لا صبر له .
وأما الرضا، فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء : هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين : فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين . قال عمر بن عبد العزيز : الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن . وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس : " إن استطعت أن تعمل للّه بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا " .
/ولهذا لم يجئ في القرآن إلا مدح الراضين لا إيجاب ذلك وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب، كالمرض والفقر والزلزال، كما قال تعالى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } [ البقرة : 177 ] ، وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا } [ البقرة : 214 ] ، فالبأساء في الأموال، والضراء في الأبدان، والزلزال في القلوب .(2/15)
وأما الرضا بما أمر اللّه به، فأصله واجب، وهو من الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ذاق طعم الإيمان من رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ) ، وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء اللّه ـ تعالى ـ قال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } الآية [ التوبة : 59 ] ، وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] ، وقال تعالى : { مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] .
ومن النوع الأول : ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : _من سعادة ابن آدم استخارته / للّه، ورضاه بما قسم اللّه له، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته للّه، وسخطه بما يقسم اللّه له ) .(2/16)
وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان، فأكثر العلماء يقولون : لا يشرع الرضا بها، كما لا تشرع محبتها، فإن اللّه ـ سبحانه ـ لا يرضاها ولا يحبها، وإن كان قد قدرها وقضاها كما قال سبحانه : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] ، وقال تعالى : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } [ النساء : 108 ] ، بل يسخطها كما قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] .
وقالت طائفة : ترضى من جهة كونها مضافة إلى اللّه خلقًا، وتسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فعلًا وكسبًا . وهذا القول لا ينافي الذي قبله، بل هما يعودان إلى أصل واحد . وهو ـ سبحانه ـ إنما قدر الأشياء لحكمة، فهي باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية، وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة؛ إذ الشىء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من أحدهما ويكره من الآخر، كما في الحديث الصحيح : ( ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ) .
وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف اللّه وفعله لا بالمقضي الذي / هو مفعوله، فهو خروج منه عن مقصود الكلام، فإن الكلام ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب ـ تعالى ـ من صفاته وأفعاله، وإنما الكلام في الرضا بمفعولاته . والكلام فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع .(2/17)
والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد اللّه على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه، وفي الحديث : ( أول من يدعى إلى الجنة : الحمادون الذين يحمدون اللّه في السراء والضراء ) ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه الأمر يسره قال : ( الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات ) ، وإذا أتاه الأمر الذي يسوؤه قال : ( الحمد للّه على كل حال ) . وفي مسند الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قبض ولد العبد يقول اللّه لملائكته : أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم، فيقول : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم، فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع، فيقول : ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد ) ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد، وأمته هم الحمادون الذين يحمدون اللّه على السراء والضراء . والحمد على الضراء يوجبه مشهدان :
أحدهما : علم العبد بأن اللّه ـ سبحانه ـ مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه، فإنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وهو العلىم الحكيم، الخبير الرحيم .
/والثاني : علمه بأن اختيار اللّه لعبده المؤمن، خير من اختياره لنفسه، كما روى مسلم في صحيحه، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده لا يقضي اللّه للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ) .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه اللّه للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له . قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5، لقمان : 31، سبأ : 19، الشورى : 33 ] وذكرهما في أربعة مواضع من كتابه .(2/18)
فأما من لا يصبر على البلاء، ولا يشكر على الرخاء، فلا يلزم أن يكون القضاء خيرًا له؛ ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين :
أحدهما : أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد، كما في قوله تعالى : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ} أي : من سراء، { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] أي : من ضراء، وكقوله تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168] أي : بالسراء والضراء، كما قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، وقال تعالى : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } [ آل عمران : 120 ] ، فالحسنات والسيئات يراد بها المسار والمضار، ويراد بها الطاعات والمعاصي .
والجواب الثاني : أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور . والذنوب تنقص الإيمان، فإذا تاب العبد أحبه اللّه، وقد ترتفع درجته بالتوبة . قال بعض السلف : كان داود بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير : إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة . وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر اللّه ويتوب إلىه منها . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الأعمال بالخواتيم ) . والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب :(2/19)
أن يتوب فيتوب اللّه عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، أو يستغفر فيغفر له، أو يعمل حسنات تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات، أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًا وميتًا، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه اللّه به، أو يشفع فيه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أو يبتليه اللّه ـ تعالى ـ في الدنيا بمصائب تكفر عنه، أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه، أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه، أو يرحمه أرحم الراحمين .
/فمن أخطأته هذه العشرة، فلا يلومن إلا نفسه، كما قال ـ تعالى ـ فيما يروي عنه رسوله صلى الله عليه وسلم : ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له إذا كان صبارًا شكورًا، أو كان قد استخار اللّه وعلم أن من سعادة ابن آدم استخارته للّه ورضاه بما قسم اللّه له، كان قد رضى بما هو خيرله، وفي الحديث الصحيح عن على ـ رضي اللّه عنه ـ قال : ( إن اللّه يقضي بالقضاء، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط ) . ففي هذا الحديث الرضا والاستخارة، فالرضا بعد القضاء والاستخارة قبل القضاء، وهذا أكمل من الضراء والصبر؛ فلهذا ذكر في ذاك الرضا، وفي هذا الصبر .
ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيرًا له، فكيف مع الرضا ؟ ولهذا جاء في الحديث : ( المصاب من حرم الثواب ) في الأثر الذي رواه الشافعي في مسنده : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات سمعوا قائلًا يقول : يا آل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن في اللّه عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فباللّه فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط، مع أنه لا فائدة فيه، فقد يكون فيه مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه اللّه .(2/20)
/لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافى الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه، وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال : ( إن هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده، وإنما يرحم اللّه من عباده الرحماء ) ، فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه على فضحك وقال : رأيت أن اللّه قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى اللّه به، حاله حال حسن بالنسبة إلى أهل الجزع . وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد اللّه ـ تعالى ـ كحال النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل . كما قال تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] ، فذكر ـ سبحانه ـ التواصي بالصبر والمرحمة .
والناس أربعة أقسام : منهم من يكون فيه صبر بقسوة . ومنهم من يكون فيه رحمة بجزع . ومنهم من يكون فيه القسوة والجزع . والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس .
وقد ظن طائفة من المصنفين في هذا الباب أن الرضا عن اللّه من توابع المحبة له، وهذا إنما يتوجه على المأخذ الأول وهو الرضا عنه لاستحقاقه ذلك بنفسه، مع قطع العبد النظر عن حظه، بخلاف المأخذ الثاني وهو : الرضا لعلمه بأن المقضي خير له، ثم إن المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه، لكن قد يقال في تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه . إن المحبة لله نوعان : / محبة له نفسه، ومحبة له لما فيه من الإحسان، وكذلك الحمد له نوعان : حمد له على ما يستحقه نفسه، وحمد على إحسانه إلى عبده، فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة .(2/21)
وأما الرضا به وبدينه وبرسوله، فذلك من حظ المحبة، ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان، كما ذكر في المحبة وجود حلاوة الإيمان . وهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق الإيماني الشرعي، دون الضلالي البدعي . ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ذاق طعم الإيمان من رضي باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ) ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار ) .
فَصل (محبة الله ورسوله من أعظم الواجبات )
محبة اللّه؛ بل محبة اللّه ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن / التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة : إما عن محبة محمودة، أو عن محبة مذمومة، كما قد بسطنا ذلك في قاعدة المحبة من القواعد الكبار .
فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة . وأصل المحبة المحمودة هي محبة اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند اللّه لا يكون عملًا صالحًا، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة اللّه، فإن اللّه ـ تعالى ـ لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا فأشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك ) ، وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار : القارئ المرائي، والمجاهد المرائي، والمتصدق المرائي .(2/22)
بل إخلاص الدين للّه هو الدين الذي لا يقبل اللّه سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه .
قال تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [ الزمر : 1ـ3 ] ، والسورة كلها عامتها في هذا المعنى، كقوله : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } [ الزمر : 11، 12 ] إلى قوله : / { قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } [ الزمر : 14 ] ، إلى قوله : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } [ الزمر : 36 ] إلى قوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } الآية [ الزمر : 38 ] إلى قوله : { أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ . قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الزمر : 43 ـ 45 ] إلى قوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [ الزمر : 64 ] إلى قوله : { بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ } [ الزمر : 66 ] .(2/23)
وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وإبليس أنه قال : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، وقال : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99، 100 ] ، فبين أن سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين؛ ولهذا قال في قصة يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، وأتباع الشيطان هم أصحاب النار، كما قال تعالى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] .
وقد قال سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] وهذه الآية في حق من لم يتب؛ ولهذا خصص الشرك، وقيد ما / سواه بالمشيئة، فأخبر أنه لا يغفر الشرك لمن لم يتب منه، وما دونه يغفره لمن يشاء . وأما قوله : { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] فتلك في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق، وسياق الآية يبين ذلك مع سبب نزولها .(2/24)
وقد أخبر ـ سبحانه ـ أن الأولين والآخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أُبَيِّ لما أمره اللّه ـ تعالى ـ أن يقرأ عليه قراءة إبلاغ وإسماع بخصوصه فقال : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } الآية [ البينة : 4، 5 ] .
وهذا حقيقة قول لا إله إلا اللّه، وبذلك بعث جميع الرسل . قال اللّه تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .(2/25)
وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل كما قال نوح ـ عليه السلام : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 59 ] ، وكذلك هود وصالح وشعيب ـ عليهم السلام ـ وغيرهم كل يقول : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } لا سيما أفضل / الرسل الذين اتخذ اللّه كلاهما خليلًا : إبراهيم ومحمدًا ـ عليهما السلام ـ فإن هذا الأصل بينه اللّه بهما وأيدهما فيه ونشره بهما، فإبراهيم هو الإمام الذي قال اللّه فيه : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [ البقرة : 124 ] ، وفي ذريته جعل النبوة والكتاب والرسل، فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك اللّه عليهم، قال سبحانه : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الزخرف : 26 - 28 ] .(2/26)
فهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص للّه وهي البراءة من كل معبود إلا من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يس : { وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [ يس : 22ـ24 ] ، وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلال من اتخذ بعض الكواكب ربًا يعبده من دون اللّه، قال : { فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } [ الأنعام : 78-81 ] ، وقال إبراهيم الخليل ـ عليه السلام : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي . وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 75-81 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } الآية [ الممتحنة : 4 ] .(2/27)
ونبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أقام اللّه به الدين الخالص للّه دين التوحيد، وقمع به المشركين من كان مشركًا في الأصل، ومن الذين كفروا من أهل الكتب، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وغيره : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) ، وقد تقدم بعض ما أنزل اللّه عليه من الآيات المتضمنة للتوحيد .
وقال تعالى أيضًا : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } إلى قوله : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } إلى قوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ . وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ُ . بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ . فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ } إلى ما ذكره من قصص الأنبياء في التوحيد وإخلاص الدين للّه، إلى قوله : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ . إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 159 ـ160 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 145، 146 ] .(2/28)
وفي الجملة فهذا الأصل في سورة الأنعام، والأعراف، والنور، وآل طسم، / وآل حم، وآل الر، وسور المفصل وغير ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر، فهو أصل الأصول وقاعدة الدين حتى في سورتي الكافرون والإخلاص : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وهاتان السورتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاة التطوع كركعتي الطواف، وسنة الفجر، وهما متضمنتان للتوحيد .
فأما { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ } : فهي متضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وهو إخلاص الدين للّه بالقصد والإرادة، وهو الذي يتكلم به مشائخ التصوف غالبًا، وأما سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } : فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رجلًا كان يقرأ : قل هو اللّه أحد في صلاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سلوه لم يفعل ذلك ؟ ) فقال : لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال : ( أخبروه أن اللّه يحبه ) .
ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل، ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع . وذكرنا اعتماد الأئمة عليها مع ما تضمنته من تفسير الأحد الصمد، كما جاء تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وما دل على ذلك من الدلائل .(2/29)
لكن المقصود هنا هو : التوحيد العملي، وهو إخلاص الدين للّه وإن / كان أحد النوعين مرتبطًا بالآخر . فلا يوجد أحد من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إلا وفيه نوع من الشرك العملي؛ إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين اللّه وبين خلقه، أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي لا تستلزم مدحًا ولا ثبوت كمال، أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص، وكما يسوون إذا أثبتوا هم ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم، ويجعلون له أندادًا ويسوون المخلوقات برب العالمين .
واليهود كثيرًا ما يعدلون الخالق بالمخلوق، ويمثلونه به حتى يصفوا اللّه بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه، والنصارى كثيرًا ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا في المخلوقات من نعوت الربوبية، وصفات الإلهية، ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .
واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غيرالمغضوب عليهم ولا الضالين . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون ) . وفي هذه الأمة من فيه شبه من هؤلاء وهؤلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القُذَّة بالقذة، حتى لو / دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه ) ، قالوا : يا رسول اللّه، اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) والحديث في الصحيحين .(2/30)
فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين للّّه، وهو إرادة اللّّه وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقوله : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] وأمثال هذا، والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودًا، والمعظم الذي لا يحب، لا يكون معبودًا؛ ولهذا قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] فبين ـ سبحانه ـ أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون اللّّه أندادًا، وإن كانوا يحبونهم كما يحبون اللّه، فالذين آمنوا أشد حبًا للّه منهم للّه ولأوثانهم، لأن المؤمنين أعلم باللّه، والحب يتبع العلم؛ ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم للّّه وحده، وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل . قال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] .
واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب اللّه ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة اللّه، وإن كانت المحبة التي للّه / لا يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ مذكورة بما يختص به ـ سبحانه ـ من العبادة والإنابة إليه والتبتل له، ونحو ذلك . فكل هذه الأسماء تتضمن محبة اللّه ـ سبحانه وتعالى .(2/31)
ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين، فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل اللّه ) . فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه . وقد قال تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } إلى قوله : {أَجْرٌ عَظِيمٌٌ } [ التوبة : 19ـ22 ] ، والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة .
وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة . قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } الآية [ التوبة : 24 ] ، وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبين : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } [ المائدة : 54 ] فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وإنهم يجاهدون في سبيل اللّه، ولا يخافون لومة لائم .(2/32)
/فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك . وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلال : ( لعلك أغضبتهم لإن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ) . فقال لهم : يا إخوتي، هل أغضبتكم ؟ قالوا : لا، يغفر اللّه لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا : ما أخذت السيوف من عدو اللّه مأخذها، فقال لهم أبو بكر : أتقولون هذا لسيد قريش ؟ وذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما تقدم؛ لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضبًا للّه؛ لكمال ما عندهم من الموالاة للّه ورسوله، والمعاداة لأعداء اللّه ورسوله .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه : ( لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه ) فبين ـ سبحانه ـ أنه يتردد لأن التردد تعارض إرادتين، وهو ـ سبحانه ـ يحب ما يحب عبده / ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال : ( وأنا أكره مساءته ) ، وهو ـ سبحانه ـ قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت . فسمى ذلك ترددًا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك .(2/33)
وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه . وقد يقال له : اتحاد نوعي وصفي، وليس ذلك اتحاد الذاتين فإن ذلك محال ممتنع، والقائل به كافر، وهو قول النصارى والغالية من الرافضة والنساك كالحلاجية ونحوهم، وهو الاتحاد المقيد في شيء بعينه .
وأما الاتحاد المطلق ـ الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق ـ فهذا تعطيل للصانع وجحود له، وهو جامع لكل شرك، فكما أن الاتحاد نوعان، فكذلك الحلول نوعان : قوم يقولون : بالحلول المقيد في بعض الأشخاص، وقوم يقولون : بحلوله في كل شيء، وهم الجهمية الذين يقولون : إن ذات اللّه في كل مكان .
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه، ويغيب بمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، وبموجوده عن وجوده، حتى لا يشهد إلا محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره أنه هو محبوبه . كما قيل : إن محبوبًا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه، فقال : / أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك ؟ فقال، غبت بك عني، فظننت أنك أني، فلا ريب أن هذا خطأ وضلال .
لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورًا في زوال عقله، فلا يكون مؤاخذًا بما يصدر منه من الكلام في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور، كما قيل في عقلاء المجانين : إنهم قوم آتاهم اللّه عقولًا وأحوالًا، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب .
وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظورًا لم يكن السكران معذورًا، وإن كان لا يحكم بكفره في أصح القولين، كما لا يقع طلاقه في أصح القولين، وإن كان النزاع في الحكم مشهورًا . وقد بسطنا الكلام في هذا، وفيمن يسلم له حاله ومن لا يسلم في قاعدة ذلك .(2/34)
وبكل حال، فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص، وإن كان صاحبه غير مكلف؛ ولهذا لم يرد مثل هذا عن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الرسل، وإن كان لهؤلاء في صعق موسى نوع تعلق، وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الإلهية على بعض التابعين ومن بعدهم، وإن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته، فمن المعلوم أن من/ أحب اللّه المحبة الواجبة فلابد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] .
والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة، كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب اللّه ويرضاه من جهاد أعدائه، فإن الملام على ذلك كثير . وأما الملام على فعل ما يكرهه اللّه أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق، وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . وبهذا يحصل الفرق بين [ الملامية ] الذين يفعلون ما يحبه اللّه ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين [ الملامية ] الذين يفعلون ما يبغضه اللّه ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك .
فَصْل ( الحسد)
ومن أمراض القلوب الحسد، كما قال بعضهم في حده : إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأغنياء، فلا يجوز أن يكون الفاضل حسودًا؛ لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل، وقد قال طائفة من الناس : إنه تمنى زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، بخلاف الغبطة : فإنه تمنى مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط .
والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان :(2/35)
أحدهما : كراهة للنعمة عليه مطلقًا، فهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضًا في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه / زوال الألم الذي كان في نفسه، ولكن ذلك الألم لم يزل إلا بمباشرة منه، وهو راحة، وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه والمرض باق؛ فإن بغضه لنعمة اللّه على عبده مرض . فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها، وقد يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود .
والحاسد ليس له غرض في شيء معين، لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع؛ ولهذا قال من قال : إنه تمنى زوال النعمة، فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه .
والنوع الثاني : أن يكره فضل ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه، فهذا حسد وهو الذي سموه الغبطة، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حسدًا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ أنه قال : ( لا حسد إلا في اثنتين : رجل أتاه اللّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه اللّه مالا فسلطه على هلكته في الحق ) هذا لفظ ابن مسعود، ولفظ ابن عمر : ( رجل آتاه اللّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه اللّه مالًا فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار ) رواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه : ( لا حسد إلا في اثنين : رجل آتاه اللّه القرآن فهو يتلوه الليل والنهار، فسمعه رجل فقال : ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا، / فعملت فيه مثل ما يعمل هذا، ورجل آتاه اللّه مالا فهو يهلكه في الحق . فقال رجل : ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا ) . فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا في موضعين هو الذي سماه أولئك الغبطة، وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه .(2/36)
فإن قيل : إذًا لم سمي حسدًا وإنما أحب أن ينعم اللّه عليه ؟ قيل : مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته أن يتفضل عليه، ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك، فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسدًا؛ لأنه كراهة تتبعها محبة، وأما من أحب أن ينعم اللّه عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس، فهذا ليس عنده من الحسد شيء .
ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني، وقد تسمى المنافسة، فيتنافس الاثنان في الأمر المحبوب المطلوب، كلاهما يطلب أن يأخذه، وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر، كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الآخر، والتنافس ليس مذمومًا مطلقًا، بل هو محمود في الخير، قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ . تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ . يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ . خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 22ـ 26 ] .
فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم، لا ينافس في نعيم الدنيا / الزائل، وهذا موافق لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نهى عن الحسد إلا فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه، ومن أوتي المال فهو ينفقه، فأما من أوتي علمًا ولم يعمل به ولم يعلمه، أو أوتي مالا ولم ينفقه في طاعة اللّه فهذا لا يحسد ولا يتمنى مثل حاله، فإنه ليس في خير يرغب فيه، بل هو معرض للعذاب، ومن ولي ولاية فيأتيها بعلم وعدل، أدى الأمانات إلى أهلها، وحكم بين الناس بالكتاب والسنة، فهذا درجته عظيمة، لكن هذا في جهاد عظيم، كذلك المجاهد في سبيل اللّه .(2/37)
والنفوس لا تحسد من هو في تعب عظيم؛ فلهذا لم يذكره، وإن كان المجاهد في سبيل اللّه أفضل من الذي ينفق المال، بخلاف المنفق والمعلم فإن هذين ليس لهم في العادة عدو من خارج، فإن قدر أنهما لهما عدو يجاهدانه، فذلك أفضل لدرجتهما، وكذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم المصلي والصائم والحاج؛ لأن هذه الأعمال لا يحصل منها في العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص، ويسودونه ما يحصل بالتعليم والإنفاق .
والحسد في الأصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة، وإلا فالعامل لا يحسد في العادة، ولو كان تنعمه بالأكل والشرب والنكاح أكثر من غيره، بخلاف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيرًا؛ ولهذا يوجد بين أهل / العلم الذين لهم أتباع من الحسد ما لا يوجد فيمن ليس كذلك، وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله، فهذا ينفع الناس بقوت القلوب وهذا ينفعهم بقوت الأبدان، والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا .
ولهذا ضرب اللّه ـ سبحانه ـ مثلين : مثلًا بهذا، ومثلًا بهذا فقال : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ النحل : 75، 76 ] .(2/38)
والمثلان ضربهما اللّه ـ سبحانه ـ لنفسه المقدسة، ولما يعبد من دونه، فإن الأوثان لا تقدر لا على عمل ينفع، ولا على كلام ينفع، فإذا قدر عبد مملوك لا يقدر على شيء، وآخر قد رزقه اللّه رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سرًا وجهرًا هل يستوى هذا المملوك العاجز عن الإحسان وهذا القادر على الإحسان المحسن إلى الناس سرًا وجهرًا . وهو ـ سبحانه ـ قادر على الإحسان إلى عباده، وهو محسن إليهم دائما، فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي لا يقدر على شيء حتى يشرك به معه، وهذا مثل الذي أعطاه اللّه مالًا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار .
/والمثل الثاني إذا قدر شخصان أحدهما أبكم لا يعقل ولا يتكلم ولا يقدر على شىء، وهو مع هذا كَلُّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، فليس فيه من نفع قط، بل هو كَلّ على من يتولى أمره، وآخر عالم عادل يأمر بالعدل، ويعمل بالعدل، فهو على صراط مستقيم، وهذا نظير الذي أعطاه اللّه الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها الناس .
وقد ضرب ذلك مثلًا لنفسه، فإنه ـ سبحانه ـ عالم عادل قادر يأمر بالعدل، وهو قائم بالقسط على صراط مستقيم . كما قال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] ، وقال هود : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] .
ولهذا كان الناس يعظمون دار العباس، كان عبد اللّه يعلم الناس وأخوه يطعم الناس، فكانوا يعظمون على ذلك، ورأى معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وهو يفتيهم فقال : هذا واللّه الشرف، أو نحو ذلك .(2/39)
هذا وعمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ نافس أبا بكر ـ رضي اللّه عنه ـ الإنفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ قال : أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر أن سبقته يومًا . قال فجئت بنصف مالي، قال : فقال لي رسول / اللّه صلى الله عليه وسلم : ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قلت : مثله، وأتى أبو بكر ـ رضي اللّه عنه ـ بكل ما عنده، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قال : أبقيت لهم اللّه ورسوله فقلت : لا أسابقك إلى شيء أبدًا .
فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة، لكن حال الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ أفضل منه وهو أنه خال من المنافسة مطلقًا لا ينظر إلى حال غيره .
وكذلك موسى صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : ما يبكيك : فقال : ( أبكي، لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ) ، أخرجاه في الصحيحين، وروى في بعض الألفاظ المروية غير الصحيح : ( مررنا على رجل وهو يقول ويرفع صوته : أكرمته وفضلته، قال : فرفعناه إليه فسلمنا عليه فرد السلام، فقال : من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا أحمد، قال : مرحبًا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، قال : ثم اندفعنا فقلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا موسى بن عمران، قلت : ومن يعاتب ؟ قال : يعاتب ربه فيك، قلت : ويرفع صوته على ربه ؟ ! قال : إن اللّه ـ عز وجل ـ قد عرف صدقه ) .
/وعمر ـ رضي اللّه عنه ـ كان مشبهًا بموسى، ونبينا حاله أفضل من حال موسى، فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك .(2/40)
وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه، كانوا سالمين من جميع هذه الأمور، فكانوا أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة، وإن كان ذلك مباحًا؛ ولهذا استحق أبو عبيدة ـ رضي اللّه عنه ـ أن يكون أمين هذه الأمة، فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه، كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته؛ ولهذا يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان، ويؤتمن على الولاية الصغرى من يعرف أنه لا يزاحم على الكبرى، ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه، وإذا أؤتمن من في نفسه خيانة شبه بالذئب المؤتمن على الغنم، فلا يقدر أن يؤدي الأمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه .(2/41)
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ قال : كنا يومًا جلوسًا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : ( يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة ) ، قال : فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوء، قد علق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مقالته فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم : اتبعه عبد اللّه بن عمرو بن العاص ـ رضي /اللّه عنه ـ فقال : إني لاحيت أبى، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت . قال : نعم، قال أنس ـ رضي اللّه عنه ـ : فكان عبد اللّه يحدث أنه بات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه ذكر اللّه ـ عز وجل ـ وكبر حتى يقوم إلى صلاة الفجر، فقال عبد اللّه : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما فرغنا من الثلاث وكدت أن أحقر عمله قلت : يا عبد اللّه لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات : ( يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ) ، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوى إليك لأنظر ما عملك، فأقتدى بذلك، فلم أرَك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت، غير أنني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشًا ولا حسدًا على خير أعطاه اللّه إياه . قال عبد اللّه : هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق . فقول عبد اللّه ابن عمرو له : هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق، يشير إلى خلوه وسلامته من جميع أنواع الحسد .(2/42)
وبهذا أثنى اللّه ـ تعالى ـ على الأنصار فقال : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] ، أي : مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون : لا يجدون في صدورهم حاجة أي : حسدًا وغيظًا مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم : من مال الفيء، وقيل : من الفضل والتقدم، / فهم لا يجدون حاجة مما أتوا من المال ولا من الجاه، والحسد يقع على هذا .
وكان بين الأوس والخزرج منافسة على الدين، فكان هؤلاء إذا فعلوا ما يفضلون به عند اللّه ورسوله أحب الآخرون أن يفعلوا نظير ذلك، فهو منافسة فيما يقربهم إلى اللّه كما قال : { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 26 ] .
وأما الحسد المذموم كله، فقد قال تعالى في حق اليهود : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ } [ البقرة : 109 ] ، يودون : أي : يتمنون ارتدادكم حسدًا، فجعل الحسد هو الموجب لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق؛ لأنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل، بل ما لم يحصل لهم مثله حسدوكم، وكذلك في الآية الأخرى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } [ النساء : 54، 55 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ . مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ . وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ . وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ . وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [ سورة الفلق ] .(2/43)
وقد ذكر طائفة من المفسرين أنها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سحروه : سحره لبَيِد بن الأعصم اليهودي، فالحاسد / المبغض للنعمة على من أنعم اللّه عليه بها ظالم معتد، والكاره لتفضيله المحب لمماثلته منهى عن ذلك إلا فيما يقربه إلى اللّه، فإذا أحب أن يعطي مثل ما أعطى مما يقربه إلى اللّه فهذا لا بأس به، وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال الغير أفضل .
ثم هذا الحسد، إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالمًا معتديًا مستحقًا للعقوبة إلا أن يتوب، وكان المحسود مظلومًا مأمورًا بالصبر والتقوى، فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح عنه، كما قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ] ، وقد ابتلى يوسف بحسد إخوته له حيث قالوا : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ يوسف : 8 ] ، فحسدوهما على تفضيل الأب لهما؛ ولهذا قال يعقوب ليوسف : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يوسف : 5 ] .
ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيقًا لمن ذهب به إلى بلاد الكفر فصار مملوكًا لقوم كفار، ثم إن يوسف ابتلى بعد أن ظلم بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليها، ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك فاستعصم، واختار السجن على الفاحشة، وآثر عذاب / الدنيا على سخط اللّه، فكان مظلومًا من جهة من أحبه لهواه، وغرضه الفاسد .(2/44)
فهذه المحبة أحبته لهوي محبوبها شفاؤها وشفاؤه إن وافقها، وأولئك المبغضون أبغضوه بغضة أوجبت أن يصير ملقى في الجب، ثم أسيرًا مملوكًا بغير اختياره، فأولئك أخرجوه من إطلاق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير اختياره، وهذه ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوسًا مسجونًا باختياره، فكانت هذه أعظم في محنته، وكان صبره هنا صبرًا اختياريًا اقترن به التقوى، بخلاف صبره على ظلمهم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم يصبر عليها صبر الكرام سلا سلو البهائم، والصبر الثاني أفضل الصبرين؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينََ } [ يوسف : 90 ] .
وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه، وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان، وإن لم يفعل أوذي وعوقب، فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه : إما الحبس، وإما الخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين، حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون .
وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبرًا اختياريًا، فإنه إنما يؤذى لئلا يفعل ما يفعله / باختياره، وكان هذا أعظم من صبر يوسف؛ لأن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب إذا لم يفعل بالحبس، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طلب منهم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه . وأهون ما عوقب به الحبس، فإن المشركين حبسوه وبني هاشم بالشعب مدة، ثم لما مات أبو طالب اشتدوا عليه، فلما بايعت الأنصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه هو وأصحابه عن ذلك ولم يكن أحد يهاجر إلا سرًا، إلا عمر بن الخطاب ونحوه، فكانوا قد ألجؤوهم إلى الخروج من ديارهم ومع هذا منعوا من منعوه منهم عن ذلك وحبسوه .(2/45)
فكان ما حصل للمؤمنين من الأذى والمصائب هو باختيارهم طاعة للّه ورسوله، لم يكن من المصائب السماوية التي تجرى بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف، لا من جنس التفريق بينه وبين أبيه، وهذا أشرف النوعين، وأهلها أعظم درجة ـ وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه ـ فإن هذا أصيب وأوذي باختياره طاعة للّه يثاب على نفس المصائب ويكتب له بها عمل صالح، قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ التوبة : 120 ] .
/بخلاف المصائب التي تجرى بلا اختيار العبد، كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ اللصوص ماله، فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليها لا على نفس ما يحدث من المصيبة، لكن المصيبة يكفر بها خطاياه، فإن الثواب إنما يكون على الأعمال الاختيارية، وما يتولد عنها .
والذين يؤذون على الإيمان، وطاعة اللّه ورسوله، ويحدث لهم بسبب ذلك حرج، أو مرض، أو حبس، أو فراق وطن وذهاب مال وأهل، أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال هم في ذلك علي طريقة الأنبياء وأتباعهم كالمهاجرين الأولين، فهؤلاء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح، كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار، وإن كانت هذه الآثار ليست عملًا فعله يقوم به لكنها متسببة عن فعله الاختياري، وهي التي يقال لها متولدة .
وقد اختلف الناس : هل يقال : إنها فعل لفاعل السبب، أو للّه أو لا فاعل لها، والصحيح أنها مشتركة بين فاعل السبب، وسائر الأسباب؛ولهذا كتب له بها عمل صالح .(2/46)
والمقصود أن الحسد مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا قليل من الناس؛ ولهذا يقال : ما خلا / جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه، وقد قيل للحسن البصري : أيحسد المؤمن ؟ فقال : ما أنساك إخوة يوسف لا أبا لك ! ولكن عمه في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يدًا ولسانًا .
فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر، فيكره ذلك من نفسه، وكثير من الناس الذين عندهم دين لا يعتدون على المحسود، فلا يعينون من ظلمه، ولكنهم أيضًا لا يقومون بما يجب من حقه، بل إذا ذمه أحد لم يوافقوه على ذمه ولا يذكرون محامده، وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا، وهؤلاء مدينون في ترك المأمور في حقه مفرطون في ذلك، لا معتدون عليه، وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فلا ينصفون أيضًا في مواضع، ولا ينصرون على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود، وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب .
ومن اتقى اللّه وصبر فلم يدخل في الظالمين، نفعه اللّه بتقواه؛ كما جرى لزينب بنت جحش ـ رضي اللّه عنها ـ فإنها كانت هي التي تسامى عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب، لا سيما المتزوجات بزوج واحد، فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه، فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها .
/وهكذا الحسد يقع كثيرًا بين المتشاركين في رئاسة أو مال، إذا أخذ بعضهم قسطًا من ذلك وفات الآخر، ويكون بين النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الآخر عليه، كحسد إخوة يوسف، وكحسد ابني آدم أحدهما لأخيه، فإنه حسده لكون أن اللّه تقبل قربانه، ولم يتقبل قربان هذا، فحسده على ما فضله اللّه من الإيمان والتقوى ـ كحسد اليهود للمسلمين ـ وقتله على ذلك؛ ولهذا قيل : أول ذنب عصى اللّه به ثلاثة : الحرص، والكبر، والحسد، فالحرص من آدم، والكبر من إبليس، والحسد من قابيل حيث قتل هابيل .(2/47)
وفي الحديث : ( ثلاث لا ينجو منهن أحد : الحسد، والظن، والطِّيرة، وسأحدثكم بما يخرج من ذلك : إذا حسدت فلا تبغض، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض ) رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة .
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد، والبغضاء وهي الحالقة، لا أقول : تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين ) فسماه داء، كما سمى البخل داء في قوله : ( وأي داء أدوأ من البخل ؟ ! ) فعلم أن هذا مرض، وقد جاء في حديث آخر : ( أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء، والأدواء ) فعطف الأدواء على الأخلاق والأهواء .
/فإن الخلق ما صار عادة للنفس، وسَجِيَّة، قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] ، قال ابن عباس، وابن عيينة، وأحمد بن حنبل ـ رضي اللّه عنهم ـ على دين عظيم، وفي لفظ عن ابن عباس : على دين الإسلام، وكذلك قالت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ : كان خلقه القرآن . وكذلك قال الحسن البصري : أدب القرآن هو الخلق العظيم .
وأما الهوى، فقد يكون عارضًا، والداء هو المرض، وهو تألم القلب والفساد فيه، وقرن في الحديث الأول الحسد بالبغضاء؛ لأن الحاسد يكره أولًا فضل اللّه على ذلك الغير، ثم ينتقل إلى بغضه، فإن بغض اللازم يقتضى بغض الملزوم، فإن نعمة اللّه إذا كانت لازمة وهو يحب زوالها، وهي لا تزول إلا بزواله أبغضه وأحب عدمه، والحسد يوجب البغي، كما أخبر اللّه ـ تعالى ـ عمن قبلنا : أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، فلم يكن اختلافهم لعدم العلم، بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض، كما يبغى الحاسد على المحسود .(2/48)
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد اللّه إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصدّ هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس أيضًا : ( والذي /نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .
وقد قال تعالى : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا . وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ النساء : 72، 73 ] .
فهؤلاء المبطئون لم يحبوا لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم، بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم، وإن أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها، بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ، فهم لا يفرحون إلا بدنيا تحصل لهم، أو شر دنيوي ينصرف عنهم، إذا كانوا لا يحبون اللّه ورسوله والدار الآخرة، ولو كانوا كذلك لأحبوا إخوانهم، وأحبوا ما وصل إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة، ومن لم يسره ما يسر المؤمنين، ويسوؤه ما يسوء المؤمنين فليس منهم .
ففي الصحيحين عن عامر قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر ) ، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ـ رضي اللّه عنه ـ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) وشبك بين أصابعه .(2/49)
والشح مرض، والبخل مرض، والحسد شر من البخل، كما في الحديث / الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ) وذلك أن البخيل يمنع نفسه، والحسود يكره نعمة اللّه على عباده، وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد لنظرائه، وقد يكون فيه بخل بلا حسد لغيره والشح أصل ذلك .
وقال تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) ، وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول : اللّهم قني شح نفسي، فقال له رجل : ما أكثر ما تدعو بهذا . فقال : إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة . والحسد يوجب الظلم .
سُئلَ الشيخ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن قوله عز وجل : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [ البقرة : 21 ] ، فما العبادة وفروعها ؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا ؟ وما حقيقة العبودية ؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة أم فوقها شيء من المقامات ؟ وليبسطوا لنا القول في ذلك .
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، العبادة : هي اسم جامع لكل ما يحبه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة .(2/50)
وكذلك حب اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، / والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة للّه .
وذلك أن العبادة للّه هي الغاية المحبوبة له والمرضية له، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ المؤمنون : 23 ] ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم .
وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] ، كما قال في الآية الأخرى : { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] . وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] .(2/51)
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ . يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَّ } [ الأنبياء : 19، 20 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 206 ] ، وذم المستكبرين عنها بقوله : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .
ونعت صفوة خلقه بالعبودية له، فقال تعالى : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } [ الإنسان : 6 ] ، وقال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } الآيات [ الفرقان : 63 ] ، ولما قال الشيطان : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39، 40 ] ، قال اللّه تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] .(2/52)
وقال في وصف الملائكة بذلك : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26ـ 28 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 ـ 95 ] .
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي أدعيت فيه الأُلوهية والنبوة : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الزخرف : 59 ] ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى / ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا : عبد اللّه ورسوله ) .
وقد نعته اللّه بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } [ الإسراء : 1 ] ، وقال في الإيحاء : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] ، وقال في الدعوة : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن : 19 ] ، وقال في التحدي : { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، فالدين كله داخل في العبادة .(2/53)
وقد ثبت في الصحيح : أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : ( أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) . قال : فما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدرخيره وشره ) . قال : فما الإحسان ؟ قال ( أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( . ثم قال : في آخر الحديث : ) هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم ) فجعل هذا كله من الدين .
والدين يتضمن معنى الخضوع والذل . يقال : دنته فدان، أي : ذللته فذل، ويقال : يدين اللّه، ويدين للّه أي : يعبد اللّه ويطيعه ويخضع له، فدين اللّه عبادته وطاعته والخضوع له .
/والعبادة أصل معناها : الذل ـ أيضًا ـ يقال : طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام .
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل للّه بغاية المحبة له، فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب، ثم العشق وآخرها التتيم يقال : تيم اللّه، أي : عبد اللّه، فالمتيم المعبد لمحبوبه .
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحب ولده وصديقه؛ ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة اللّه ـ تعالى ـ بل يجب أن يكون اللّه أحب إلى العبد من كل شىء، وأن يكون اللّه أعظم عنده من كل شىء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا اللّه .(2/54)
وكل ما أحب لغير اللّه فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر اللّه كان تعظيمه باطلاً، قال اللّه تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] ، فجنس المحبة تكون للّه ورسوله، كالطاعة، فإن الطاعة للّه ورسوله / والإرضاء للّه ورسوله : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، والإيتاء للّه ورسوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 59 ] .(2/55)
وأما العبادة وما يناسبها من التوكل، والخوف، ونحو ذلك فلا يكون إلا للّه وحده، كما قال تعالى : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، فالإيتاء للّه والرسول كقوله : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ] ، وأما الحسب وهو الكافي فهو اللّه وحده، كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64 ] ، أي : حسبك وحسب من اتبعك اللّه .
ومن ظن أن المعنى حسبك اللّه والمؤمنون معه، فقد غلط غلطًا فاحشاً، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وقال تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] .(2/56)
وتحرير ذلك : أن العبد يراد به المعبد الذي عبده اللّه فذلله ودبره / وصرفه، وبهذا الاعتبار المخلوقون كلهم عباد اللّه، من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاؤوا . وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عمران : 83 ] .
فهو ـ سبحانه ـ رب العالمين وخالقهم، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق إلا هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به، بخلاف من كان جاهلاً بذلك، أو جاحداً له مستكبراً على ربه لا يقر ولا يخضع له، مع علمه بأن اللّه ربه وخالقه .
فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذاباً على صاحبه، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ] ، وقال تعالى : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] .(2/57)
/فإن اعترف العبد أن اللّه ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية اللّه، وهذا العبد يسأل ربه، فيتضرع إليه ويتوكل عليه، لكن قد يطيع أمره، وقد يعصيه، وقد يعبده مع ذلك، وقد يعبد الشيطان والأصنام .
ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة والنار، ولايصير بها الرجل مؤمناً . كما قال تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] ، فإن المشركين كانوا يقرون أن اللّه خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره، قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25، الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } إلى قوله : { قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84 ـ 89 ] .(2/58)
وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها، يشهد هذه الحقيقة وهي الحقيقة الكونية، التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، وإبليس معترف بهذه الحقيقة، وأهل النار . قال إبليس : { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الحجر : 36 ] ، وقال : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] ، وقال : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] ، وقال : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } [ الإسراء : 62 ] ، وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه بأن اللّه ربه وخالقه وخالق غيره، وكذلك أهل النار قالوا : { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } [ المؤمنون : 106 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } [ الأنعام : 30 ] .
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته، وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء اللّه، وأهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان، كان من أشر أهل الكفر والإلحاد .(2/59)
ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة، ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين باللّه ورسوله . حتى يدخل في النوع الثاني، من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابداً للّه لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمره وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين، ويعادي أعداءه، وهذه العبادة متعلقة بإلهيته؛ ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله إلا اللّه بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده، أو يعبد معه إلهًا آخر، فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك، وهذه العبادة هي التي يحبها اللّه ويرضاها، وبها وصف المصطفين من عباده، وبها بعث رسله .
وأما العبد، بمعنى المعبد، سواء أقر بذلك أو أنكره، فتلك يشترك / فيها المؤمن والكافر . وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة اللّه ودينه وأمره الشرعي، التي يحبها ويرضاها، ويوالى أهلها، ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر التي من اكتفى بها، ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته للّه، بحسب ما نقص من الحقائق الدينية .
وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق، والتوحيد، والعرفان ما لا يحصيهم إلا اللّه الذي يعلم السر والإعلان، وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر ـ رحمه اللّه ـ فيما ذكر عنه، فبين أن كثيراً من الرجال، إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر .(2/60)
والذي ذكره الشيخ ـ رحمه اللّه ـ هو الذي أمر اللّه به ورسوله، لكن كثيراً من الرجال غلطوا، فإنهم قد يشهدون ما يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جار بمشيئة اللّه، وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، / فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به، ونحو ذلك، ديناً وطريقاً وعبادة، فيضاهون المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، وقالوا : { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] ، وقالوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] .
ولو هدوا؛ لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب، التي تصيبنا، كالفقر والمرض والخوف، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . وقال بعض السلف : هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند اللّه فيرضى ويسلم، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 22، 23 ] .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( احتج آدم وموسى، فقال موسى : أنت آدم الذي خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك اللّه برسالته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً علي قبل أن أخلق ؟ قال : نعم . قال : فحج آدم موسى ) .(2/61)
/وآدم ـ عليه السلام ـ لم يحتج على موسى بالقدر، ظنًا أن المذنب يحتج بالقدر، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذراً لكان عذرا لإبليس، وقوم نوح، وقوم هود، وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضاً؛ لأجل الذنب، فإن آدم قد تاب إلى ربه، فاجتباه وهدى، ولكن لامه؛ لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة؛ ولهذا قال : فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوبًا قبل أن أخلق، فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً، وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا باللّه رباً .
وأما الذنوب، فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب، فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب . قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ، وقال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، وقال يوسف : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .(2/62)
وكذلك ذنوب العباد، يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ـ بحسب قدرته ـ ويجاهد في سبيل اللّه الكفار والمنافقين، ويوالى أولياء اللّه، ويعادي أعداء اللّه، ويحب في اللّه، ويبغض في اللّه . كما قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 1ـ 4 ] ، وقال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [ المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 53 ] ، وقال : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ .(2/63)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } [ فاطر : 19ـ22 ] ، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } [ الزمر : 29 ] ، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله : { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ النحل : 75، 76 ] ، وقال تعالى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ] .
ونظائر ذلك، مما يفرق اللّه فيه بين أهل الحق، والباطل، وأهل الطاعة، وأهل /المعصية، وأهل البر، وأهل الفجور، وأهل الهدى، والضلال، وأهل الغي، والرشاد، وأهل الصدق والكذب .
فمن شهد الحقيقة الكونية، دون الدينية سوى بين هذه الأجناس المختلفة التي فرق اللّه بينها غاية التفريق، حتى يؤول به الأمر إلى أن يسوى اللّه بالأصنام، كما قال تعالى عنهم : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97، 98 ] بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا اللّه بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقاً لكل موجود، إذ جعلوه هو وجود المخلوقات، وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد .(2/64)
وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد لا بمعنى أنهم معبدون، ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب ] الفصوص [ ، وأمثاله من الملحدين المفترين، كابن سبعين وأمثاله، ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود الحقيقة، لا كونية ولا دينية، بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم، وممدوح نعتًا للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا، هو وجود هذا عندهم .
/وأما المؤمنون باللّه ورسوله، عوامهم وخواصهم، الذين هم أهل الكتاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن للّه أهلين من الناس ) قيل : من هم يا رسول اللّه ؟ قال : ( أهل القرآن هم أهل اللّه، وخاصته ) . فهؤلاء يعلمون أن اللّّه رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأن الخالق ـ سبحانه ـ مباين للمخلوق، ليس هو حالاً فيه ولا متحداً به ولا وجوده وجوده .
والنصارى، كفرهم اللّه بأن قالوا بالحلول والاتحاد بالمسيح خاصة، فكيف من جعل ذلك عامًا في كل مخلوق ؟ .
ويعلمون مع ذلك أن اللّه أمر بطاعته، وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته، ومعصية رسوله، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن على الخلق أن يعبدوه، فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك، كما قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .(2/65)
ومن عبادته وطاعته : الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ـ بحسب الإمكان ـ والجهاد في سبيله، لأهل الكفر والنفاق . فيجتهدون في إقامة دينه، مستعينين به، دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يخاف من ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك، إذا آن أوان البرد / دفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه . كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول اللّه، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر اللّه شيئًا ؟ فقال : ( هي من قدر اللّه ) . وفي الحديث : ( إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض ) . فهذا حال المؤمنين باللّه ورسوله العابدين للّه وكل ذلك من العبادة .
وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية، وهي ربوبيته ـ تعالى ـ لكل شيء، ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال .
فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقًا عاماً، فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة، وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، وقالوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] .(2/66)
وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضاً، بل كل من احتج بالقدر، فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما فعل، فلابد إذا ظلمه ظالم، أو ظلم الناس ظالم، وسعى في الأرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من / أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر، وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوان أمثاله . فيقال له : إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك : حجة . وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لايطردون هذا القول ولا يلتزمونه، وإنما هم بحسب آرائهم وأهوائهم، كما قال فيهم بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به .
ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة، فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلاً، وأثبت له صنعاً، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن اللّّّه هو المتصرف فيه، كما تحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد .
وقد يقولون : من شهد الإرادة، سقط عنه التكليف، ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة، فهؤلاء لا يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن اللّه خالق أفعال العباد، وأنه يدبر جميع الكائنات، وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علماً، وبين من يراه شهوداً، فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط، ولكن عمن / يشهده، فلا يرى لنفسه فعلاً أصلاً، وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعاً من التكليف على هذا الوجه .
وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد .(2/67)
وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم، عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه، كما ضاق نطاق المعتزلة، ونحوهم من القدرية عن ذلك . ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة اللّه العامة وخلقه لأفعال العباد، وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر، ونفوا الأمر والنهي، في حق من شهد القدر، إذ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقًا . وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد، وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية؛ ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي، وصار من الخاصة .
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة، وقول هؤلاء كفر صريح . وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضراً إلى / أن يموت، لا يسقط عنه الأمر والنهي، لا بشهوده القدر، ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عرفه، وبين له فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل . وقد كثرت مثل هذه المقالات في المستأخرين .
وأما المستقدمون من هذه الأمة، فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم .
وهذه المقالات هي محادة للّه ورسوله، ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه، وإن كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول، وطريق أولياء اللّه المحققين، فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلاة لا تجب عليه؛ لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية، أو أن الخمر حلال له؛ لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر، أو أن الفاحشة حلال له؛ لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب، ونحو ذلك .(2/68)
ولا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع اللّه، وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر اللّه . فهؤلاء الأصناف / فيهم شبه من المشركين، إما أن يبتدعوا، وإما أن يحتجوا بالقدر، وإما أن يجمعوا بين الأمرين . كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] ، وكما قال تعالى عنهم : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] .(2/69)
وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام، والعبادة التي لم يشرعها اللّه بمثل قوله تعالى : { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ } إلى آخر السورة [ الأنعام : 138-165 ] ، وكذلك في سورة الأعراف في قوله : { يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } إلى قوله : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } إلى قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلى قوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ . قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } إلى قوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 27ـ33 ] .(2/70)
/وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة، كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة . وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويجده، ونحو ذلك . وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقًا، بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة، وأمرهم باتباعها، دون اتباع أمر اللّه ورسوله، نظير بدع أهل الكلام من الجهمية، وغيرهم، الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها، دون ما دلت عليه السمعيات . ثم الكتاب والسنة، إما أن يحرفوه عن مواضعه، وإما أن يعرضوا عنه بالكلية، فلا يتدبرونه ولا يعقلونه، بل يقولون : نفوض معناه إلى اللّه، مع اعتقادهم نقيض مدلوله . وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة، وجدت جهليات واعتقادات فاسدة .
وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء اللّه، المخالفة للكتاب والسنة، وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء اللّه لا أولياؤه .
وأصل ضلال من ضل، هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند اللّه، واختياره الهوي على اتباع أمر اللّه، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك، هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق، ووجد بحسب محبته . فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان اللّه ورسوله أحب إليه مما / سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار ) . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ذاق طعم الإيمان من رضى باللّه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ) .(2/71)
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات، فكل بحسبه، قيل لسفيان بن عيينة : ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم ؟ ! فقال : أنسيت قوله تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } [ البقرة : 93 ] ؟ ! ، أو نحو هذا من الكلام . فعباد الأصنام يحبون آلهتهم، كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، وقال : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } [ النجم : 23 ] ؛ ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة، التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان . وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم، ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة .(2/72)
فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته، وطاعة رسوله لا يكون متبعاً لدين، شرعه اللّه، كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } إلى قوله : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ الجاثية : 17، 18 ] ، بل يكون متبعاً لهواه بغير هدى من اللّه، قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه اللّه، وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة، كما أخبر اللّه به عن المشركين، كما تقدم .
ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم قدراً، وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة، واجتناب المحرمات المشهورة، لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة، ظانين أن العارف إذا شهد [ القدر ] أعرض عن ذلك، مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء، ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا غلط عظيم . فإن اللّه قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون ) ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بأن اللّه كتب المقادير فقالوا : يا رسول اللّّه، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال : ( لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة، فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسييسر لعمل أهل الشقاوة ) .(2/73)
/فما أمر اللّه به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وفي قوله : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] ، وقول شعيب ـ عليه السلام ـ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] .
ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات، فتنقص بقدر ذلك .
ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة، أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة، ونحو ذلك، فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة، والشكر، ونحو ذلك .
فهذه الأمور ونحوها كثيراً ما تعرض لأهل السلوك والتوجه، وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر اللّه الذي بعث به رسوله في كل وقت . كما قال الزهري : كان من مضى من سلفنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة . وذلك أن السنة ـ كما قال مالك رحمه اللّه ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق .
والعبادة، والطاعة، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد، ولها أصلان :
/أحدهما : ألا يعبد إلا اللّه .(2/74)
والثاني : أن يعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من البدع . قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، وقال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [ النساء : 125 ] ، فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات . والحسنات، هي ما أحبه اللّه ورسوله، وهو ما أمر به أمر إىجاب، أو استحباب، فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة، فإن اللّه لايحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات، ولا من العمل الصالح، كما أن من يعمل ما لايجوز كالفواحش، والظلم ليس من الحسنات، ولا من العمل الصالح .
وأما قوله : { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وقوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } ، فهو إخلاص الدين للّه وحده، وكان عمر بن الخطاب يقول : اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً .
وقال الفضيل بن عياض في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ هود : 7، الملك : 2 ] ، قال : أخلصه، وأصوبه . قالوا : يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : / إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة .(2/75)
فإن قيل : فإذا كان جميع ما يحبه اللّه داخلاً في اسم العبادة، فلماذا عطف عليها غيرها، كقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال نوح : { أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } [ نوح : 3 ] ، وكذلك قول غيره من الرسل . قيل : هذا له نظائر، كما في قوله : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] ، والفحشاء من المنكر، وكذلك قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [ النحل : 90 ] ، وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان، كما أن الفحشاء والبغي من المنكر، وكذلك قوله : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } [ الأعراف : 170 ] ، وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب، وكذلك قوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } [ الأنبياء : 90 ] ، ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات، وأمثال ذلك في القرآن كثير .
وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصًا له بالذكر ؛ لكونه مطلوباً بالمعنى العام، والمعنى الخاص، وتارة تكون دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران، فإذا أفرد عم، وإذا قرن بغيره خص، كاسم الفقير، والمسكين لما /أفرد أحدهما في مثل قوله : { لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 273 ] ، وقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ المائدة : 89 ] ، دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] صارا نوعين .(2/76)
وقد قيل : إن الخاص المعطوف على العام لايدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب . والتحقيق أن هذا ليس لازماً، قال تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] .
وذكر الخاص مع العام يكون، لأسباب متنوعة، تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وتارة؛ لكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم، كما في قوله : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } [ البقرة : 2ـ4 ] ، فقوله : يؤمنون بالغيب يتناول الغيب الذي يجب الإيمان به، لكن فيه إجمال، فليس فيه دلالة على أن من الغيب، ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك . وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب، وبالإخبار بالغيب، وهو ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك .(2/77)
/ومن هذا الباب قوله تعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ } [ العنكبوت : 45 ] ، وقوله : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } [ الأعراف : 170 ] ، وتلاوة الكتاب، هي اتباعه، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } [ البقرة : 121 ] ، قال : يحللون حلاله ويحرمون حرامه، ويؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه، فاتباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها، لكن خصها بالذكر لمزيتها . وكذلك قوله لموسى : { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] ، وإقامة الصلاة لذكره من أجل عبادته، وكذلك قوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [ الأحزاب : 70 ] ، وقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [ المائدة : 35 ] ، وقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 119 ] ، فإن هذه الأمور هي أيضاً من تمام تقوى اللّه، وكذلك قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، فإن التوكل والاستعانة هي من عبادة اللّه، لكن خصت بالذكر، ليقصدها المتعبد بخصوصها، فإنها هي العون على سائر أنواع العبادة إذ هو ـ سبحانه ـ لا يعبد إلا بمعونته .(2/78)
إذا تبين هذا، فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته للّه، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه . أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم . قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } / إلى قوله : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26ـ 28 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } إلى قوله : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 ـ 95 ] ، وقال تعالى في المسيح : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الزخرف : 59 ] ، وقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ .(2/79)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 19، 20 ] ، وقال تعالى : { لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } إلى قوله : { وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } [ النساء : 172، 173 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ . فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } [ فصلت : 37، 38 ] ، وقال تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } إلى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 205، 206 ] .(2/80)
وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة، وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن، وقد أخبر أنه أرسل جميع الرسل بذلك . / فقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى لبني إسرائيل : { يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِي } [ العنكبوت : 56 ] ، { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي } [ البقرة : 41 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] ، وقال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي } [ الذاريات : 56 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } [ الزمر : 11ـ 15 ] .
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة اللّه، كقول نوح ومن بعده عليهم السلام : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ المؤمنون : 23 ] ، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ) .(2/81)
وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات، قال الشيطان : { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ّ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39، 40 ] ، قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، وقال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وقال في حق يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، وقال : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ . إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 159، 160 ] ، وقال : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99، 100 ] ، وبها نعت كل من اصطفي من خلقه، كقوله : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ . إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ .(2/82)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } [ ص : 45ـ47 ] ، وقوله : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 17 ] ، وقال عن سليمان : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 30 ] ، وعن أيوب : { نِعْمَ الْعَبْدُ } [ ص : 44 ] ، وقال : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ } [ ص : 41 ] ، وقال عن نوح عليه السلام : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [ الإسراء : 3 ] ، وقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] ، وقال {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] ، وقال : { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] ، وقال : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] ، وقال : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } [ الإنسان : 6 ] ، وقال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } [ الفرقان : 63 ] ، ومثل هذا كثير متعدد في القرآن .
فَصْل
إذا تبين ذلك، فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلًا عظيمًا، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه، إلى عام، وخاص ؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ؛ ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تَعِسَ عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطى رضي، وإن منع سخط ) .(2/83)
فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة . وذكر ما فيه دعاء وخبر، وهو قوله : " تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش " ، والنقش : إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه ( إذا أعطى رضى، وإذا منع سخط ) ، كما قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [ التوبة : 58 ] ، فرضاهم لغير اللّه وسخطهم لغير اللّه، وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب، واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال :
العبد حر ما قنع ** والحر عبد ما طمع
وقال القائل :
أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو أنى قنعت لكنت حرًا
ويقال : الطمع غل في العنق، قيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل . ويروي عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال : الطمع فقر، واليأس غني، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه . وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه فقيرًا إليه، ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور، ورجاه تعلق قلبه به، فصار فقيرًا إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه، والصور وغير ذلك . قال الخليل صلى الله عليه وسلم : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت17 ] .(2/84)
/فالعبد لابد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من اللّه صار عبدًا للّه، فقيرًا إليه، وإن طلبه من مخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه .
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة . وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد . كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعَة لحم ) ، وقوله : ( من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خُدوشًا أو خُموشًا، أو كدوحًا في وجهه ) ، وقوله : ( لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع ) ، هذا المعنى في الصحيح . وفيه أيضًا : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه، أو منعوه ) ، وقال : ( ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل، ولا مشرف فخذه، وما لا فلاتتبعه نفسك ) فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب، وقال في الحديث الصحيح : ( من يستغن يغنه اللّه، ومن يستعفف يعفه اللّه، ومن يتصبر يصبره اللّه، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر ) وأوصى خواص أصحابه ألا يسألوا الناس شيئًا وفي المسند : إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد ناولني إياه، ويقول : إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا . وفي صحيح مسلم وغيره، عن عوف ابن مالك : أن /النبي صلى الله عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية : ( ألا تسألوا الناس شيئًا ) ، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم، ولا يقول لأحد : ناولني إياه .(2/85)
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق، في غير موضع . كقوله تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب } [ الشرح : 7، 8 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : ( إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه ) ، ومنه قول الخليل : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } [ العنكبوت : 17 ] ، ولم يقل : فابتغوا الرزق عند اللّه؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال : لا تبتغوا الرزق إلا عند اللّه . وقد قال تعالى : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] ، والإنسان لابد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه للّه، فله أن يسأل اللّه، وإليه يشتكي، كما قال يعقوب ـ عليه السلام ـ : { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [ يوسف : 86 ] .
واللّه ـ تعالى ـ ذكر في القرآن الهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل .
وقد قيل : إن الهجر الجميل، هو هجر بلا أذى . والصفح الجميل صفح بلا معاتبة . والصبر الجميل، صبر بغير شكوى إلى المخلوق؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوسًا كان يكره أنين / المريض، ويقول : إنه شكوى فما أنَّ أحمد حتى مات .(2/86)
وأما الشكوى إلى الخالق، فلا تنافى الصبر الجميل، فإن يعقوب قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 83 ] ، وقال : { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه } ، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقرأ في الفجر بسورة يونس، و يوسف، والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف، ومن دعاء موسى : ( اللّهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك ) . وفي الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا : ( اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي . اللّهم إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل على غضبك، لك العتبى حتى ترضى، فلا حول ولا قوة إلا بك ـ وفي بعض الروايات ـ ولا حول ولا قوة إلا بك ) .(2/87)
وكلما قوى طمع العبد في فضل اللّه ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في / المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه . كما قيل : استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره . فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير اللّه، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية للّه، لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه، وشيخه ومخدومه وغيرهم، ممن هو قد مات أو يموت . قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } [ الفرقان : 58 ] .(2/88)
وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا لهم مدبرًا لهم متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرًا لها، تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها . وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور، الذي لا يستطيع الخلاص / منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي، إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنه الاحتىال في الخلاص . وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقًا مستعبدًا، متيمًا لغير اللّه فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب .
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغيرحق لم يضره ذلك إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق، إذا أدى حق اللّه وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يضره ذلك، وأما من استعبد قلبه، فصار عبدًا لغير اللّه، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس .(2/89)
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس ) ، وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة، امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه . وهؤلاء من أعظم الناس عذابًا وأقلهم ثوابًا، فإن العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلقًا بها، مستعبدًا لها اجتمع له من / أنواع الشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضررًا عليه، ممن يفعل ذنبًا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين . كما قيل :
سكران سكر هوى وسكر مدامة ** ومتى إفاقة من به سكران
وقيل :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ** وإنما يصرع المجنون في الحين
ومن أعظم أسباب هذا البلاء : إعراض القلب عن اللّه، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة اللّه، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفًا من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر .
/قال ـ تعالى ـ في حق يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 42 ] . فاللّه يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه للّه .(2/90)
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية للّه والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوى في قلبه انقهر له هواه بلا علاج . قال تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] ، فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر اللّه، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه، فإن ذكر اللّه عبادة للّه، وعبادة القلب للّه مقصودة لذاتها . وأما اندفاع الشر عنه، فهو مقصود لغيره على سبيل التبع .
والقلب خلق يحب الحق، ويريده، ويطلبه . فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنه يفسد القلب، كما يفسد الزرع، بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9، 10 ] ، وقال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [ الأعلى : 14، 15 ] ، وقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } [ النور : 30 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [ النور : 21 ] ، فجعل ـ سبحانه ـ غض البصر، وحفظ الفرج هو أزكى / للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك .(2/91)
وكذلك طالب الرئاسة، والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه، ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم، والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة اللّه، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق، كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر .
وهكذا ـ أيضًا ـ طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان :
منها : ما يحتاج العبد إليه، كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه، ونحو ذلك . فهذا يطلبه من اللّه ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعًا / إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا .(2/92)
ومنها : ما لا يحتاج العبد إليه، فهذه لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدًا لها، وربما صار معتمدًا على غير اللّه، فلا يبقى معه حقيقة العبادة للّه، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير اللّه، وشعبة من التوكل على غير اللّه، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة ) ، وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من اللّه، فإن اللّه إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد اللّه من يرضيه ما يرضي اللّه، ويسخطه ما يسخط اللّه، ويحب ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله، ويوالي أولياء اللّه، ويعادي أعداء اللّه ـ تعالى ـ وهذا هو الذي استكمل الإيمان . كما في الحديث : ( من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّّه، ومنع للّه فقد استكمل الإيمان ) وقال : ( أوثق عُرَى الإيمان : الحب في اللّه، والبغض في اللّه ) .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار ) فهذا وافق ربه فيما يحبه وما / يكرهه فكان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق للّه لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه للّه، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء اللّه، وأولياء اللّه؛ لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر، فقد أحبهم للّه لا لغيره، وقد قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] .(2/93)
ولهذا قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، فإن الرسول يأمر بما يحب اللّه، وينهى عما يبغضه اللّه، ويفعل ما يحبه اللّه، ويخبر بما يحب اللّه التصديق به، فمن كان محبًا للّه لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا، فقد فعل ما يحبه اللّه . فيحبه اللّه، فجعل اللّه لأهل محبته علامتين : اتباع الرسول، والجهاد في سبيله .
وذلك؛ لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه اللّه من الإيمان، والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه اللّه من الكفر والفسوق والعصيان . وقد قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } إلى قوله : { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] ، فتوعد من كان أهله وماله، أحب إليه من اللّه ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد . بل قد ثبت عنه في الصحيح، أنه قال : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن / أحدكم حتى أكون أحب إليه، من ولده، ووالده، والناس أجمعين ) ، وفي الصحيح أن عمر ابن الخطاب قال له : يا رسول اللّه ! ، واللّه لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي، فقال : ( لا يا عمر ! حتى أكون أحب إليك من نفسك ) . فقال : فواللّه، لأنت أحب إلى من نفسي، فقال : ( الآن يا عمر ) .(2/94)
فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب، وبغض ما يبغض، واللّه يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان . ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات . فإذا كان العبد قادرًا عليها حصلها . وإن كان عاجزًا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا ) . وقال : ( إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم ) . قالوا : وهم بالمدينة . قال : ( وهم بالمدينة، حبسهم العذر ) .
والجهاد، هو بذل الوسع، وهو القدرة في حصول محبوب الحق، / ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد، كان دليلًا على ضعف محبة اللّه ورسوله في قلبه، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور، لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب للّه ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير اللّه مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم للّه إذا كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل .(2/95)
ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبًا للّه . كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، نعم ! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقًا لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة، والطريق غير موصل ! كما يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضررًا، ولا تحصل لهم مطلوبًا، وإنما المقصود الطرق التي يسلكها العقل؛ لحصول مطلوبه .
وإذا تبين هذا، فكلما ازداد القلب حبًا للّه إزداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات / إلى اللّه من وجهين : من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلىة، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يلتذ، ولايسر، ولا يطيب، ولايسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه . ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة .
وهذا لا يحصل له إلا بإعانة اللّه له، لايقدر على تحصيل ذلك له إلا اللّه، فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادته للّه بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئًا لذاته إلا اللّه، فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة، لا إله إلا اللّه، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة، وكان فيه من النقص والعيب، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك .(2/96)
ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعينًا باللّه متوكلًا عليه مفتقرًا إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى اللّه من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن / حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه .
ولا تتم عبوديته للّه إلا بهذين، فمتى كان يحب غير اللّه، لذاته، أو يلتفت إلى غير اللّه أنه يعينه كان عبدًا لما أحبه، وعبدًا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه . وإذا لم يحب لذاته إلا اللّه، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئًا إلا اللّّه، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها كان مشاهدًا أن اللّه هو الذي خلقها وقدرها، وأن كل ما في السموات والأرض فاللّه ربه ومليكه وخالقه، وهو مفتقر إليه كان قد حصل له من تمام عبوديته للّه بحسب ما قسم له من ذلك .
والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصى طرفيها إلا اللّه .
فأكمل الخلق، وأفضلهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى اللّه، وأقواهم، وأهداهم، أتمهم عبودية للّه من هذا الوجه .
وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد للّه لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الجنة لايدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر، كما أن / النار لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ، فجعل الكبر مقابلًا للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته ) فالعظمة، والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار .(2/97)
ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد، هو التكبير، وكان مستحبًا في الأمكنة العالية، كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفًا أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان . قال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .
وكل من استكبر عن عبادة اللّه لابد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أصدق الأسماء حارث وهمام ) فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائمًا، وكل إرادة، فلابد لها من مراد تنتهي إليه، فلابد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن اللّه معبوده ومنتهى حبه، وإرادته بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب / يستعبده غير اللّه، فيكون عبدًا لذلك المراد المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهًا من دون اللّه، كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء، والصالحين، أو من الملائكة، والأنبياء الذين يتخذهم أربابًا، أو غير ذلك مما عبد من دون اللّّه .(2/98)
وإذا كان عبدًا لغير اللّه يكون مشركًا، وكل مستكبر، فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارًا عن عبادة اللّه، وكان مشركًا . قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } ، إلى قوله : { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } إلى قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [ غافر : 23ـ35 ] ، وقال تعالى : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } [ العنكبوت : 39 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ } إلى قوله : { إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } [ القصص : 4 ] .
ومثل هذا في القرآن كثير .
وقد وصف فرعون بالشرك في قوله : { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] .
/بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارًا عن عبادة اللّه كان أعظم إشراكا باللّه؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة اللّه، ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود، مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركًا بما استعبده من ذلك .(2/99)
ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون اللّه هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه اللّه، ولا يعادي إلا من عاداه اللّه، ولا يحب إلا اللّه، ولايبغض شيئًا إلا للّه، ولا يعطي إلا للّه، ولا يمنع إلا للّه . فكلما قوى إخلاص دينه للّه كملت عبوديته، واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته للّه يبرئه من الكبر والشرك .
والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال ـ تعالى ـ في النصارى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، وقال في اليهود : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] ، وقال تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } [ الأعراف : 146 ] .(2/100)
ولما كان الكبر مستلزمًا للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره اللّه، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } [ النساء : 48 ] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } [ النساء : 116 ] ، كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل اللّه غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين . قال نوح : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 72 ] ، وقال في حق إبراهيم : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلى قوله : { فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 130-132 ] ، وقال يوسف : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] ، وقال موسى : { يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ .(2/101)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } [ يونس : 84، 85 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } [ المائدة : 44 ] ، وقالت بلقيس : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] ، وقال : / { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] ، وقال : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [ آل عمران : 19 ] ، وقال : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] .
وقال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [ آل عمران : 83 ] ، فذكر إسلام الكائنات طوعًا وكرهًا؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعًا وكرهًا، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين، ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب، مصنوع، مفطور، فقير، محتاج، معبد، مقهور، وهو الواحد القهار، الخالق البارئ المصور .
وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب، فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه، ويمانعه .(2/102)
وهو ـ سبحانه ـ وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه . قال تعالى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأنعام : 17 ] ، وقال تعالى عن الخليل : { يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا } إلى قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [ الأنعام : 78-82 ] .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ : إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول اللّه، أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال : ( إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ) [ لقمان : 13 ] .(2/103)
وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين، حيث بعث وقد طبق الأرض دين المشركين، قال اللّه تعالى : { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] ، فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم، فلم يأمر اللّه ـ سبحانه ـ أن يكون الظالم إمامًا، وأعظم الظلم الشرك .
/وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] ، والأمة : هو معلم الخير الذي يؤتم به، كما أن القدوة الذي يقتدى به .
واللّه ـ تعالى ـ جعل في ذريته النبوة والكتاب، وإنما بعث الأنبياء بعده بملته قال تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] ، وقال تعالى : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 68 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } [ آل عمران : 67 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } إلى قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 135، 136 ] .(2/104)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن إبراهيم خير البرية، فهو أفضل الأنبياء بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو خليل اللّه تعالى . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : ( إن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلاً ) ، وقال : ( لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل اللّه ) ـ يعني نفسه ـ وقال : ( لا يبقين / في المسجد خَوْخَة إلا سُدَّتْ إلا خَوْخَة أبي بكر ) ، وقال : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ) وكل هذا في الصحيح . وفيه أنه قال : ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته .
فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته للّه ، التي أصلها محبة اللّه ـ تعالى ـ للعبد، ومحبة العبد للّه خلافًا للجهمية .
وفي ذلك تحقيق توحيد اللّه، وأن لا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين .
وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر .
والخلة : هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية للّه، ومن الرب ـ سبحانه ـ كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه، ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل، وكمال الحب، فإنهم يقولون : قلب متيم إذا كان متعبدًا للمحبوب، والمتيم المتعبد، وتيم اللّه عبده، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ ولهذا لم يكن له من أهل الأرض خليل، إذ الخلة لا تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى :
/قد تخللت مسلك الروح مني ** و بذا سمى الخليل خليلًا(2/105)
بخلاف أصل الحب، فإنه صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة : ( اللّهم إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما ) ، وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك ؟ قال : ( عائشة ) . قال : فمن الرجال ؟ قال : ( أبوها ) ، وقال لعلى ـ رضي اللّه عنه ـ : ( لأعطين الراية رجلًا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله ) وأمثال ذلك كثير .
وقد أخبر ـ تعالى ـ أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، وقال : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين، و محبة المؤمنين له، حتى قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] .
وأما الخلة فخاصة . وقول بعض الناس : إن محمدًا حبيب اللّه، وإبراهيم خليل اللّه، وظنه أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف، فإن محمدًا أيضًا خليل اللّه كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وما يروي : ( إن العباس يحشر بين حبيب وخليل ) وأمثال ذلك، فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها .
/وقد قدمنا أن من محبة اللّه ـ تعالى ـ محبة ما أحب، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقي في النار . أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئًا أو اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى .(2/106)
ومن قال : إن اللذة إدراك الملائم، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء، فقد غلط في ذلك غلطًا بينًا، فإن الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة، فإن الإنسان مثلًا يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة، فاللذة تتبع النظر إلى الشيء، فإذا نظر إليه التذ، فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر، وليست هي رؤية الشيء ؛بل تحصل عقيب رؤيته، وقال تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] ، وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات، والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك، يحصل بالشعور بالمحبوب، أو الشعور بالمكروه، وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن . فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به / والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان، تتبع كمال محبة العبد للّه، وذلك بثلاثة أمور : تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها .
فتكميلها : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة اللّه ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم .
وتفريعها : أن يحب المرء لا يحبه إلا للّه .
ودفع ضدها : أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار، فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة اللّه، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم اللّه؛ لأنه أكمل الناس محبة للّه، وأحقهم بأن يحب ما يحبه اللّه، ويبغض ما يبغضه اللّه، والخلة ليس لغير اللّه فيها نصيب، بل قال : ( لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ) علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة .(2/107)
والمقصود هو أن الخلة والمحبة للّه تحقيق عبوديته؛ وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل / وخضوع فقط، لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء أو إدلال لا تحتمله الربوبية؛ ولهذا يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة . فقال : أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها . وكره من كره من أهل المعرفة، والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من السلف : من عبد اللّه بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد؛ ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة، والدعوى التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا للّه، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين أو يطلبون من اللّه، ما لا يصلح ـ بكل وجه ـ إلا للّه لا يصلح للأنبياء والمرسلين . وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ .
وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول : أنا محب فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا / عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } قال اللّه تعالى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } [ المائدة : 18 ] ، فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة البنوة، بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون .(2/108)
فمن كان اللّه يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه، لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر وأصر عليها، ولم يتب منها، فإن اللّه يبغض منه ذلك، كما يحب منه ما يفعله من الخير، إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، ومن ظن أن الذنوب ، لا تضره؛ لكون اللّه يحبه مع إصراره عليها، كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه، وعدم تداويه منه بصحة مزاجه .
ولو تدبر الأحمق ما قص اللّه في كتابه من قصص أنبيائه، وما جرى لهم من التوبة والاستغفار، وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم، وتطهير بحسب أحوالهم، علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها، ولو كان أرفع الناس مقامًا، فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفًا بمصلحته ولا مريدًا لها، بل يعمل بمقتضى الحب ـ وإن كان جهلًا وظلمًا ـ كان ذلك سببًا لبغض المحبوب له ونفوره عنه، بل لعقوبته .
سُئلَ شَيْخُ الإِسْلام ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
ما عمل أهل الجنة ؟ وما عمل أهل النار ؟
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، عمل أهل الجنة : الإيمان والتقوى، وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان، فأعمال أهل الجنة الإيمان باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، والشهادتان : شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت . وأن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
ومن أعمال أهل الجنة : صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين والبهائم .
/ومن أعمال أهل الجنة : الإخلاص للّه، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله، وخشية اللّه ورجاء رحمته، والإنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه .(2/109)
ومن أعمال أهل الجنة : قراءة القرآن، وذكر اللّه، ودعاؤه، ومسألته، والرغبة إليه .
ومن أعمال أهل الجنة : الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين .
ومن أعمال أهل الجنة : أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فإن اللّه أعد الجنة للمتقين، الذين ينفقون في السراء، والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه يحب المحسنين .
ومن أعمال أهل الجنة : العدل في جميع الأمور، وعلى جميع الخلق حتى الكفار، وأمثال هذه الأعمال .
وأما عمل أهل النار، فمثل : الإشراك باللّه، والتكذيب بالرسل، والكفر والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من / روح اللّه، والأمن من مكر اللّه، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض اللّه، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوق دون الخالق، والعمل رياء وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب بالباطل، والاستهزاء بآيات اللّه، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة .
ومن عمل أهل النار : السحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم اللّه بغير الحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .(2/110)
وتفصيل الجملتين لا يمكن، لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة اللّه ورسوله، وأعمال أهل النار كلها تدخل في معصية اللّه ورسوله، { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ النساء : 13، 14 ] واللّه أعلم .
قَالَ شَيخ الإِسْلام عَلاَّمة الزَّمَان أبو العباس أحمد بن تيمية ـ قدس اللّه روحه ونور ضريحه :
الحمد للّه، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وسلم تسليما كثيرًا .
قال الشيخ أبو محمد عبد القادر في كتاب ] فتوح الغيب [ : لابد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء :
أمر يمتثله .
ونهي يجتنبه .
وقدر يرضي به .
/فأقل حالة لا يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة، فينبغي له أن يلزم بها قلبه، ويحدث بها نفسه، ويأخذ بها الجوارح في كل أحواله .(2/111)
قلت : هذا كلام شريف، جامع يحتاج إليه كل أحد، وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد، وهي مطابقة لقوله تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] ، ولقوله تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ولقوله تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ؛ فإن [ التقوى ] تتضمن : فعل المأمور، وترك المحظور، و [ الصبر ] يتضمن : الصبر على المقدور . فالثلاثة ترجع إلى هذين الأصلين، والثلاثة في الحقيقة ترجع إلى امتثال الأمر، وهو طاعة اللّه ورسوله .
فحقيقة الأمر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة اللّه ورسوله، وهو : أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في ذلك الوقت وطاعة اللّه ورسوله هي : عبادة اللّه التي خلق لها الجن والإنس، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقال تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] .
والرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا اللّه، ولا يشركوا به شيئًا، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] .(2/112)
وإنما كانت الثلاثة ترجع إلى امتثال الأمر؛ لأنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض، كالصلوات الخمس والحج ونحو ذلك، يحتاج إلى فعل ذلك المأمور، وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى الامتناع والكراهة والإمساك عن ذلك، وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت، وأما من لم تخطر له المعصية ببال، فهذا لم يفعل شيئًا يؤجر عليه، ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلامته من عقوبة الذنب، والعدم المحض المستمر لا يؤمر به، وإنما يؤمر بأمر يقدر عليه العبد، وذاك لا يكون إلا حادثًا، سواء كان إحداث إيجاد أمر، أو إعدام أمر .
وأما القدر الذي يرضى به، فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف، فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب، ومأمور بالرضا، إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولان، ونفس الصبر والرضا بالمصائب هو طاعة للّه ورسوله، هو من امتثال الأمر وهو عبادة للّه .
/لكن هذه الثلاثة وإن دخلت في امتثال الأمر عند الإطلاق، فعند التفصيل والاقتران : إما أن تخص بالذكر، وإما أن يقال : يراد بهذا مالا يراد بهذا، كما في قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] ، فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة، وعند الاقتران إما أن يقال : ذكره عمومًا وخصوصًا، وإما أن يقال : ذكره خصوصًا يغني عن دخوله في العام .(2/113)
ومثل هذا قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا . وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } [ المزَّمل : 8-10 ] . وقد يقال : لفظ [ التبتيل ] لا يتناول هذه الأمور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة .
وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به الإنسان ابتداء، وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة، أو عند حب الشيء وبغضه .
وكلام الشيخ ـ قدس اللّه روحه ـ يدور على هذا القطب، وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويخلوا فيما سواهما عن إرادة؛/ لئلا يكون له مراد غير فعل ما أمر اللّه به، وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بلا واسطة العبد، أو فعله بالعبد بلا هوى من العبد . فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به .
وسيأتي في كلام الشيخ ما يبين مراده، وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به، ويترك ما نهي عنه . وأما إذا لم يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله، وهذه هي [ الحقيقة ] في كلام الشيخ وأمثاله . وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان :
أحدهما : أن يكون العبد مأمورًا فيما فعله الرب . إما بحب له وإعانة عليه . وإما ببغض له ودفع له .
والثاني : ألا يكون العبد مأمورًا بواحد منهما .
فالأول : مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره، فهو مأمور بحبه وإعانته عليه، كإعانة المجاهدين في سبيل اللّه على الجهاد، وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب الإمكان، وبمحبة ذلك والرضا به، وكذلك هو مأمور عند مصيبة الغير : إما بنصر مظلوم، وإما بتعزية مصاب، وإما بإغناء فقير ونحو ذلك .(2/114)
/وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه، فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان، فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه، وإنكاره بحسب الإمكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) .
وأما ما لا يؤمر العبد فيه بواحد منهما، فمثل ما يظهر له من فعل الإنسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها على طاعة ولا معصية . فهذه لا يؤمر بحبها، ولا ببغضها، وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الاستعانة بها على طاعة ولا معصية .
مع أن هذا نقص منه، فإن الذي ينبغي أنه لا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة، فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى اللّه تعالى بالنوافل بعد الفرائض، ولم يزل أحدهم يتقرب إليه بذلك حتى أحبه، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وأما من فعل المباحات مع الغفلة، أو فعل فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب المحارم باطنًا وظاهرًا، فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين .
/وبالجملة الأفعال التي يمكن دخولها تحت الأمر والنهي لا تكون مستوية من كل وجه، بل إن فعلت على الوجه المحبوب كان وجودها خيرًا للعبد، وإلا كان تركها خيرًا له وإن لم يعاقب عليها، ففضول المباح التي لا تعين على الطاعة عدمها خير من وجودها، إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة اللّه، فإنها تكون شاغلة له عن ذلك، وأما إذا قدر أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها، وإن شغلته عن معصية اللّه كانت رحمة في حقه، وإن كان اشتغاله بطاعة اللّه خيرًا له من هذا وهذا .(2/115)
وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الاستعانة بها على الطاعة، كالنوم الذي يقصد به الاستعانة على العبادة؛ والأكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الاستعانة به على العبادة، إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نقصًا من العبد وفوات حسنة، وخير يحبه الله، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك ) ، وقال في الصحيح : ( نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة ) .
فما لا يحتاج إليه من المباحات، أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة، فعدمه خير من وجوده، إذا كان مع عدمه يشتغل بما هو / خير منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( في بضع أحدكم صدقة ) . قالوا : يارسول اللّه، يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر . قال : ( أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر ؟ ) قالوا : بلى ! قال : ( فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر، فلم تعتدون بالحرام ولا تعتدون بالحلال ؟ ) .
وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه اللّه إلى ما أباحه اللّه، يقصد فعل المباح معتقدًا أن اللّه أباحه، ( واللّه يحب أن يأخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته ) كما رواه الإمام أحمد في المسند ورواه غيره؛ ولهذا أحب القصر والفطر، فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي لا يحبه اللّه إلى ما يحبه اللّه من الرخصة، هو من الحسنات التي يثيبه اللّه عليها، وإن فعل مباحًا لما اقترن به من الاعتقاد والقصد اللذين كلاهما طاعة للّه ورسوله . فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى .(2/116)
وأيضًا، فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات، هو مأمور بالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش؛ ولهذا يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها، ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبًا للوعيد، كما هو قول جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه، بل وهو مأمور / بنفس عقد النكاح إذا احتاج إليه وقدر عليه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( في بضع أحدكم صدقة ) فإن المباضعة مأمور بها لحاجته ولحاجة المرأة إلى ذلك، فإن قضاء حاجتها التي لا تنقضي إلا به بالوجه المباح صدقة .
والسلوك سلوكان :
سلوك الأبرار أهل اليمين، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهرًا .
والثاني : سلوك المقربين السابقين، وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان، وترك المكروه والمحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
وكلام الشيوخ الكبارـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب وينهون عما هو مكروه غير محرم، فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة، وبالعامة مسلك العامة، وطريق الخاصة طريق المقربين ألا يفعل العبد إلا ما أمر به، ولا يريد إلا ما أمر اللّه ورسوله بإرادته، وهو ما يحبه / اللّه ويرضاه، ويريده إرادة دينية شرعية، وإلا فالحوادث كلها مرادة له خلقًا وتكوينًا .
والوقوف مع الإرادة الخلقية القدرية مطلقًا غير مقدور عقلًا، ولا مأمور شرعًا؛ وذلك لأن من الحواث ما يجب دفعه ولا تجوز إرادته، كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله، أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على دفعه، أو أراد إضلال الخلق وإفساد دينهم ودنياهم، فهذه الأمور يجب دفعها وكراهتها؛ لا تجوز إرادتها .(2/117)
وأما الامتناع عقلا، فلأن الإنسان مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافره، فهو عند الجوع يحب ما يغنيه كالطعام، ولا يحب ما لا يغنيه كالتراب فلا يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء .
وكذلك يحب الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعه، ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره، بل ويحب اللّه وعبادته وحده، ويبغض عبادة ما دونه، كما قال الخليل : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75 - 77 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] .
فقد أمرنا اللّه أن نتأسى بإبراهيم والذين معه، إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون اللّه، وقال الخليل : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي } [ الزخرف : 26، 27 ] ، والبراءة ضد الولاية، وأصل البراءة البغض وأصل الولاية الحب، وهذا لأن حقيقة التوحيد ألا يحب إلا اللّه، ويحب ما يحبه اللّه للّه، فلا يحب إلا للّه، ولا يبغض إلا للّه، قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] .
والفرق ثابت بين الحب للّه والحب مع اللّه، فأهل التوحيد والإخلاص يحبون غير اللّه للّه، والمشركون يحبون غير اللّه مع اللّه، كحب المشركين لآلهتهم، وحب النصارى للمسيح، وحب أهل الأهواء رؤوسهم .(2/118)
فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه، وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة وخلقًا، ولا هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريدًا لجميع الحوادث، بل قد أمره اللّه بإرادة أمور وكراهة أخرى .
فَصْل
قال الشيخ عبد القادر ـ قدس اللّه روحه ـ : ( افن عن الخلق بحكم اللّه، وعن هواك بأمره، وعن إرادتك بفعله، فحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم اللّه ) .
قلت : فحكمه يتناول خلقه وأمره، أي : افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة اللّه والتوكل عليه، فلا تطعهم في معصية اللّه تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعه ولا دفع مضرة . وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقًا للأمر الشرعي لا لهواه، وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل اللّه لا لإرادة نفسه، فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات .
فالأول : يكون بالأمر، والثاني : لا تكون له إرادة . ولا بد في هذا أن يقيد بألا تكون له إرادة لم يؤمر بها، وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئًا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته، سواء كان موافقًا للقدر أم لا . وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين . /والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور .
قال الشيخ : ( فعلامة فنائك عن خلق اللّه انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في أيديهم ) .
وهو كما قال .(2/119)
فإذا كان القلب لا يرجوهم، ولا يخافهم، لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورًا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر اللّه به، ونهيهم عما نهاهم اللّه عنه، كذهاب الرسل، واتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات اللّه، فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد . ليكون عابدًا للّه متوكلًا عليه، وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به؛ فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل، أو مثله أو دونه، كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب، بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه .
قال الشيخ : ( وعلامة فنائك عنك وعن هواك : ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر، فلا تتحرك فيك بك ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك، ولا تذب عنك، لكن تكل ذلك كله / إلى من تولاه أولًا فيتولاه آخرًا . كما كان ذلك موكولًا إليه في حال كونك مغيبًا في الرحم، وكونك رضيعًا طفلا في مهدك ) .
قلت : وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ودفع ما تبغضه ويضرها، فإذا فنى عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه اللّه وترك ما يبغضه اللّه فاعتاض بفعل محبوب اللّه عن محبوبه وبترك ما يبغضه اللّه عما يبغضه وحينئذ فالنفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فيكون في ذلك متوكلًا على اللّه .(2/120)
والشيخ ـ رحمه اللّه ـ ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لأن النفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فإن لم تكن متوكلة على اللّه في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقًا، بل لابد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة للّه وطاعة أمره بدون التوكل عليه، كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته، قال تعالى : javascript:openquran(10,123,123){ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(64,2,2){ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 2، 3 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(72,8,8){ وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [ المزمل : 8، 9 ] .
والمقصود أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون / التوكل والاستعانة، ومن كان واثقًا باللّه أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره، وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول : إنه محتاج فيه إلى غيره .
قال الشيخ ـ رضي اللّه عنه ـ : وعلامة فناء إرادتك بفعل اللّه أنك لا تريد مرادًا قط، فلا يكن لك غرض، ولا تقف لك حاجة ولا مرام؛ لأنك لا تريد مع إرادة اللّه سواها، بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة اللّه تعالي وفعله، ساكن الجوارح مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر الباطن، غنيا عن الأشياء بخالقها، تقلبك يد القدرة ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورًا منه والحلل، وينزلك منازل من سلف من أولى العلم الأول، فتكون منكسرًا أبدًا .(2/121)
فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة : كالإناء المتثلم الذي لا يثبت فيه مائع ولا كدر فتفنوا عن أخلاق البشرية، فلن يقبل باطنك ساكنًا غير إرادة اللّه، فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم وهو فعل اللّه تبارك وتعالى حقًا في العلم فتدخل حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية، وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانية وشهوات إضافية . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حبب إلى من / دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقًا لما أشرت إليه وتقدم، قال اللّه تعالى : ( أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ) وساق كلامه . وفيه : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل ) الحديث .
قلت : هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر ـ رضي اللّه عنه ـ وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورًا بإرادته . فقوله : علامة فناء إرادتك بفعل اللّه أنك لا تريد مرادًا قط . أي لا تريد مرادًا لم تؤمر بإرادته، فأما ما أمرك اللّه ورسوله بإرادتك إياه، فإرادته إما واجب وإما مستحب، وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص .
وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين، فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلًا، وإن قول أبي يزيد : أريد ألا أريد ـ لما قيل له : ماذا تريد ؟ ـ نقص وتناقض؛ لأنه قد أراد، ويحملون كلام المشائخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقًا، وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين، وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقًا، فإن هذا غلط ممن قاله، فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور .(2/122)
/فإن الحي لابد له من إرادة، فلا يمكن حيًا ألا تكون له إرادة، فإن الإرادة التي يحبها اللّه ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة، وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركًا لما هو خير له .
واللّه ـ تعالى ـ قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه الإرادة، فقال تعالى : javascript:openquran(5,52,52){ وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(91,19,19){ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } [ الليل : 19، 20 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(75,9,9){ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } [ الإنسان : 9 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(32,29,29){ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } [ الأحزاب : 29 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(16,19,19){ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(38,2,2){ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ّ . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [ الزمر : 2، 3 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(38,14,14){ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } [ الزمر : 14 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(3,36,36){ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ النساء : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .(2/123)
ولا عبادة إلا بإرادة اللّه، ولما أمر به، وقال تعالى : javascript:openquran(1,112,112){ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } [ البقرة : 112 ] ، أي أخلص قصده للّه . وقال تعالى : javascript:openquran(97,5,5){ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ البينة : 5 ] ، وإخلاص الدين له / هو إرادته وحده بالعبادة . وقال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(1,165,165){ ِوَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(2,31,31){ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، وكل محب فهو مريد، وقال الخليل ـ عليه السلام ـ : javascript:openquran(5,76,76){ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينََ } [ الأنعام : 76 ] ، ثم قال : javascript:openquran(5,79,79){ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [ الأنعام : 79 ] .
ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر اللّه بإرادته، وإرادة ما يأمر به، وينهى عن إرادة غيره، وإرادة ما نهى عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، فهما إرادتان : إرادة يحبها اللّه ويرضاها، وإرادة لا يحبها اللّه ولا يرضاها، بل إما نهي عنها، وإما لم يأمر بها، ولا ينهي عنها والناس في الإرادة ثلاثة أقسام :
قوم يريدون ما يهوونه، فهؤلاء عبيد أنفسهم والشيطان .(2/124)
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الإرادة مطلقًا، ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدره الرب، وإن هذا المقام هو أكمل المقامات، ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة، وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه / شهد القيومية العامة، ويجعلون الفناء في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا الجمع والفناء والاصطلام، ونحو ذلك . وكثير من الشيوخ زلقوا في هذا الموضع .
وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد الربوبية، وأن اللّه خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو شهود القدر، وسموا هذا مقام الجمع؛ فإنه خرج به عن الفرق الأول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا، ورؤية فعل هذا وترك هذا، فإن الإنسان قبل أن يشهد هذا التوحيد يرى للخلق فعلًا يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبعًا لهواه فيما يريده، فإذا أراد الحق خرج بإرادته عن إرادة الهوى والطبع، ثم شهد أنه خالق كل شيء، فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق، فلما اتفقوا على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد الفرق الثاني، وهو بعد هذا الجمع، وهو الفرق الشرعي . ألا تري أنك تريد ما أمرت به، ولا تريد ما نهيت عنه ؟ ! وتشهد أن اللّه يستحق العبادة دون ما سواه، وأن عبادته هي بطاعة رسله، فتفرق بين المأمور والمحظور، وبين أوليائه وأعدائه، وتشهد توحيد الألوهية، فنازعوه في هذا الفرق .
منهم من أنكره .
/ومنهم من لم يفهمه .
ومنهم من ادعي أن المتكلم فيه لم يصل إليه .
ثم إنك تجد كثيرًا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع، وهو : توحيد الربوبية، والفناء فيه . كما في كلام صاحب [ منازل السائرين ] مع جلالة قدره، مع أنه قطعًا كان قائمًا بالأمر والنهي المعروفين، لكن قد يدعون أن هذا لأجل العامة .
ومنهم من يتناقض .
ومنهم من يقول : الوقوف مع الأمر لأجل مصلحة العامة، وقد يعبر عنهم بأهل المارستان .(2/125)
ومنهم من يسمى ذلك مقام التلبيس .
ومنهم من يقول : التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، فيشهد بقلبه استواء المأمور والمحظور مع تفريقه بينهما .
ومنهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك / العارفين، وغاية منازل الأولياء الصديقين .
و منهم من يظن أن الوقوف مع إرادة الأمر والنهي يكون في السلوك والبداية، وأما في النهاية فلاتبقى إلا إرادة القدر . وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة، فإن العبادة للّه والطاعة له ولرسوله إنما تكون في امتثال الأمر الشرعي لا في الجري مع المقدور، وإن كان كفرًا أو فسوقًا أو عصيانًا، ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان الكفار والفجار وخفرائهم، حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا الأمر والنهي الشرعيين .
ومن هؤلاء من يقول : من شهد القدر سقط عنه الملام، ويقولون إن الخضر إنما سقط عنه الملام لما شهد القدر .
وأصحاب شهود القدر قد يؤتي أحدهم ملكًا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف، فيظن ذلك كمالا في الولاية، وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية، وأهواء نفسانية، وإنما الكمال في الولاية أن يستعمل خرق العادات في إقامة الأمر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور، فإذاحصلت بغير الأسباب الشرعية فهي مذمومة، وإن حصلت بالأسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة، وإن توصل بها إلى مباح / لا يستعان بها على طاعة كانت للأبرار دون المقربين .
وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل الأمر الشرعي، فهذه خوارق المقربين السابقين .(2/126)
فلابد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها : من أين حصلت، وإلى ماذا أوصلت ـ كما ينظر في الأموال في مستخرجها ومصروفها ـ ومن استعملها ـ أعني الخوارق ـ في إرادته الطبيعية كان مذمومًا، ومن كان خاليًا عن الإرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفي عنه، لكونه لم يعرف الإرادة الشرعية .
وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذمومًا مستحقًا للعقاب إن لم يعف عنه، وهو يمدح بكون إرادته ليست بهواه، لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لأمر اللّه تعالى ورسوله، لا يكفيه أن تكون لا من هذا ولامن هذا، مع أنه لا يمكن خلوه عن الإرادة مطلقًا؛ بل لابد له من إرادة، فإن لم يرد ما يحبه اللّه ورسوله، أراد مالا يحبه اللّه ورسوله، لكن إذا جاهد نفسه على ترك ما تهواه بقى مريدًا لما يظن أنه مأمور به، فيكون ضالًا .
فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى . وقد قال تعالى : javascript:openquran(0,6,6){ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ) .
فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها . كما أخبر عنهم بأنهم عصوا وكانوا يعتدون . وهم يعرفون الحق ولا يعملون به، فلهم علم، لكن ليس لهم عمل بالعلم، وهم في الإرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الإرادة المحمودة المأمور بها، وهي إرادة ما يحبه اللّه ورسوله .(2/127)
والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلال، يعملون بغير علم، فلا يعرفون الإرادة التي يحبها اللّه ورسوله، بل غاية أحدهم تجريد نفسه عن الإرادات، فلا يبقى مريدًا لما أمر اللّه به ورسوله، كما لا يريد كثيرًا مما نهى اللّه عنه ورسوله، وهؤلاء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة اللّه ورسوله، ولهذا كانوا ملعونين : أي بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة اللّه عز وجل .
والعالم الفاجر يشبه اليهود . والعابد الجاهل يشبه النصارى . ومن أهل العلم من فيه شيء من الأول، ومن أهل العبادة من فيه شيء من الثاني .
/وهذا الموضع تفرق فيه بنو آدم، وتباينوا تباينًا عظيمًا، لا يحيط به إلا اللّه . ففيهم من لم يخلق اللّه خلقًا أكرم عليه منه، وهو خير البرية . ومنهم من هو شر البرية، وأفضل الأحوال فيه حال الخليلين : إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين وإمامهم إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، وهو المعروج به إلى ما فوق الأنبياء كلهم ـ إبراهيم و موسى وغيرهما .
وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم، كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن إبراهيم خير البرية ) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول في خطبة الجمعة : ( خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم ) . وكذلك كان عبد اللّه بن مسعود يخطب بذلك يوم الخميس، كما رواه البخاري في صحيحه .
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أنها قالت : ما ضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خادمًا له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل اللّه، وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم اللّه، فإذا انتهكت محارم اللّه لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم للّه .(2/128)
/وقال أنس : خدمت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي : أف قط، وما قال لي لشىء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته ؟ . وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال : ( دعوه، فلو قضى شيء لكان ) .
ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلائق، وسيد ولد آدم، وله الوسيلة في المقامات كلها، ولم يكن حاله أنه لا يريد شيئًا، ولاأنه يريد كل واقع، كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى، بل هو منزه عن هذا وهذا، قال اللّه تعالى : javascript:openquran(52,3,3){ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 3، 4 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(71,19,19){ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] وقال تعالى : javascript:openquran(1,23,23){ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] ، وقال : javascript:openquran(16,1,1){ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } [ الإسراء : 1 ] . والمراد بعبده عابده المطيع لأمره، وإلا فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبودون مخلوقون مدبرون .(2/129)
وقد قال اللّه لنبيه : javascript:openquran(14,99,99){ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] . قال الحسن البصري : لم يجعل اللّه لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، وقد قال اللّه تعالى له : javascript:openquran(67,4,4){ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] . قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن حنبل : على دين عظيم . والدين : فعل ما أمر به . وقالت عائشة : كان خلقه القرآن . رواه مسلم . وقد أخبرت أنه لم يكن يعاقب لنفسه، ولا ينتقم لنفسه، لكن يعاقب للّه / وينتقم للّه، وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه، وأما حدود اللّه فقد قال : ( والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) أخرجاه في الصحيحين .
وهذا هو كمال الإرادة؛ فإنه أراد ما يحبه اللّه ويرضاه من الإيمان و العمل الصالح، وأمر بذلك وكره ما يبغضه اللّه من الكفر والفسوق والعصيان، ونهى عن ذلك، كما وصفه اللّه تعالى بقوله : javascript:openquran(6,156,156){ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 156، 157 ] .(2/130)
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ولا ينتقم، بل يستوفى حق ربه، ويعفو عن حظ نفسه، وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر، فيقول : ( لو قضى شيء لكان ) ، وفي حق اللّه يقوم بالأمر فيفعل ما أمر اللّه به، ويجاهد في سبيل اللّه أكمل الجهاد الممكن، فجاهدهم أولًا بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه، كما قال تعالى : javascript:openquran(24,51,51){ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا . فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [ الفرقان : 51، 52 ] . ثم لما / هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال، جاهدهم بيده .
وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة، وهو معروف أيضًا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث احتجاج آدم وموسى، لما لام موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب الذي فعله، فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوبًا علىَّ قبل أن أخلق بمدة طويلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فحج آدم موسى ) .
وذلك لأن ملام موسى لآدم لم يكن لحق اللّه، وإنما كان لما لحقه وغيره من الآدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل، فذكر له آدم أن هذا كان أمرًا مقدرًا لابد من كونه، والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو الذي ينفعهم، وأما لومهم لمن كان سببًا فيها فلا فائدة لهم في ذلك، وكذلك ما فاتهم من الأمور التي تنفعهم يؤمرون في ذلك بالنظر إلى القدر، وأما التأسف والحزن فلا فائدة فيه، فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم، أو حصول مضرة لهم، فلينظروا في ذلك إلى القدر، وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي، والإصلاح في المستقبل . فإن هذا الأمر ينفعهم، وهو مقدور لهم بمعونة اللّه لهم .(2/131)
/وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجزن . وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل : قدر اللّه وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحرص العبد على ما ينفعه، والاستعانة باللّه، ونهاه عن العجز، وأنفع ما للعبد طاعة اللّه ورسوله، وهي عبادة اللّه تعالى . وهذان الأصلان هما حقيقة قوله تعالى : javascript:openquran(0,5,5){ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . ونهاه عن العجز وهو الإضاعة والتفريط والتواني . كما قال في الحديث الآخر : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على اللّه الأماني ) رواه الترمذي .
وفي سنن أبي داود : أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه : حسبي اللّه ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي اللّه ونعم الوكيل ) فالكيس ضد العجز . وفي الحديث : ( كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ) رواه مسلم . وليس المراد بالعجز في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يضاد / القدرة؛ فإن من لا قدرة له بحال لا يلام، ولا يؤمر بما لا يقدر عليه بحال .
ثم لما أمره بالاجتهاد والاستعانة باللّه ونهاه عن العجز، أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ويقول : قدر اللّه وما شاء فعل، ولا يتحسر ويتلهف ويحزن . ويقول : ( لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(2/132)
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى : الأمر أمران : أمر فيه حيلة وأمر لا حيلة فيه؛ فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه . وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين . كما ذكر الشيخ عبد القادر وغيره . فإنه لابد من فعل المأمور وترك المحظور، والرضا والصبر على المقدور . وقد قال تعالى حكاية عن يوسف : javascript:openquran(11,90,90){ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .
فالتقوى : تتضمن فعل المأمور وترك المحظور . والصبر : يتضمن الصبر على المقدور . وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } إلى قوله : javascript:openquran(2,120,120){ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 118-120 ] ، فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر لا يضر / المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين، وقال تعالى : javascript:openquran(2,125,125){ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، فبين أنه مع الصبر والتقوى يمدهم بالملائكة، وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم .(2/133)
وقال تعالى : javascript:openquran(2,186,186){ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين وأهل الكتاب لابد أن يؤذوهم بألسنتهم، وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم الأمور . فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة، المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم، وشر العدو المبطن للعداوة، وهم المنافقون . وهذا الذي كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه هو أكمل الأمور .
فأما من أراد ما يحبه اللّه تارة وما لا يحبه تارة، أو لم يرد لا هذا ولا هذا، فكلاهما دون خلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ وإن لم يكن على واحد منهما إثم، كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والانتقام المباح كما هو خلق بعض الأنبياء والصالحين، فهو وإن كان جائزًا لا إثم فيه، فخلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكمل منه .
/وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب، ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا جاز العفو وإن كان الانتقام للّه أرضى للّه . كما هو أيضًا خلق بعض الأنبياء والصالحين فهذا وإن كان جائزًا لا إثم فيه فخلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكمل منه .
وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فلا عيب على نبي فيما شرع اللّه له .(2/134)
لكن قد فضل اللّه بعض النبيين على بعض، وفضل بعض الرسل على بعض، والشريعة التي بعث اللّه بها محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، وأمته خير أمة أخرجت للناس . قال أبو هريرة في قوله تعالى : javascript:openquran(2,110,110){ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] : كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة، يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس، فهم خير الأمم للخلق . والخلق عيال اللّه، فأحبهم إلى اللّه أنفعهم لعياله، وأما غير الأنبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لاتباعه لذلك النبي، وأما من كان من أهل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه فإن كان ما تركه واجبًا عليه وما فعله محرمًا عليه كان مستحقًا للذم والعقاب، إلا أن يكون متأولًا مخطئًا فاللّه قد وضع عن هذه الأمة / الخطأ والنسيان وذنب أحدهم قد يعفو اللّه عنه بأسباب متعددة .
ومن أسباب هذا الانحراف : أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه، فيزهد في موجب الشهوة والغضب، كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين، وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم، وهؤلاء يرون الجهاد نقصًا لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، ويرون أن اللّه لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود؛ لأنه جرى علي يديه سفك الدماء .
ومنهم من لا يري ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة، ومنهم من لا يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى اللّه بأنه لا يذبح حيوانًا ولا يأكل لحمه ولا ينكح النساء، ويقول مادحه : فلان ما نكح، ولا ذبح .(2/135)
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء كما في الصحيحين عن أنس : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم : لا أتزوج النساء، وقال بعضهم : لا آكل اللحم، وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه وأثني عليه وقال : ( ما بال أقوام قالوا : كذا وكذا ؟ ! لكني أصلي وأنام، / وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] نزلت في عثمان ابن مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل، ونوع من الترهب . وفي الصحيحين عن سعد قال : رد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا .
والزهد النافع المشروع الذي يحبه اللّه ورسوله هو الزهد فيما لا ينفع في الآخرة، فأما ما ينفع في الآخرة وما يستعان به على ذلك، فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة اللّه وطاعته، والزهد إنما يراد لأنه زهد فيما يضر، أو زهد فيما لا ينفع، فأما الزهد في النافع فجهل وضلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك، واستعن باللّه ولا تعجزن ) .
والنافع للعبد هو عبادة اللّه وطاعته وطاعة رسوله، وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار لا نافع، ثم الأنفع له أن تكون كل أعماله عبادة للّه وطاعة له، وإن أدى الفرائض وفعل مباحًا لا يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما لا ينفعه ولا يضره .(2/136)
وكذلك الورع المشروع، هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو / ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله ـ مثل محرم معين ـ مثل من يترك أخذ الشبهة ورعًا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينًا تحريمه، أو يترك واجبًا تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشبهة، كمن يكون على أبية أو عليه ديون هو مطالب بها، وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها، ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة .
وكذلك من الورع الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه .
وتمام الورع أن يعم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع .
/وكذلك الزهد والرغبة، من لم يراع مايحبه اللّه ورسوله من الرغبة والزهد ومايكرهه من ذلك، وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل، أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق اللّه تعالى أو حقوق عباده، أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللّه، لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم، حتى يستولى الكفار والفجار على الصالحين الأبرار فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك .(2/137)
وقد قال تعالى : javascript:openquran(1,217,217){ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ } [ البقرة : 217 ] .
يقول ـ سبحانه وتعالى ـ : وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما .
وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلمًا له هو جاهل، فإن هذا الحيوان لابد أن يموت، فإذا قتل لمنفعة الآدميين / وحاجتهم كان خيرًا من أن يموت موتًا لا ينتفع به أحد، والآدمي أكمل منه، ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك، لكن مالا يحتاج إليه من تعذيبه نهي اللّه عنه كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك، وأوجب اللّه الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح . كما في صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه كتب الإحسان على كل شيء : فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته ) .
وهؤلاء الذين زهدوا في الإرادات حتى فيما يحبه اللّه ورسوله من الإرادات بإزائهم طائفتان :
طائفة رغبت فيما كره اللّه ورسوله الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان .(2/138)
وطائفة رغبت فيما أمر اللّه ورسوله، لكن لهواء أنفسهم لا لعبادة اللّه تعالى، وهؤلاء الذين يأتون بصور الطاعات مع فساد النيات، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : يا رسول اللّه، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل اللّه ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا، / فهو في سبيل اللّه ) . قال تعالى : javascript:openquran(3,142,142){ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [ النساء : 142 ] .(2/139)
وهؤلاء أهل إرادات فاسدة مذمومة، فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم، وهم يشبهون اليهود، كما يشبه أولئك النصارى . قال تعالى : javascript:openquran(2,112,112){ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [ آل عمران : 112 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(6,146,146){ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } [ الأعراف : 146 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(6,175,175){ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } إلى قوله : javascript:openquran(6,176,176){ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 175، 176 ] .
فهؤلاء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق، وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلال والجهل بالحق . كما قال تعالى : javascript:openquran(4,77,77){ ِوَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 77 ] .(2/140)
/وكلا الطائفتين تاركة ما أمر اللّه ورسوله به من الإرادات، والأعمال الصالحة، مرتكبة لما نهى اللّه ورسوله عنه من الإرادات والأعمال الفاسدة .
سُئِلَ عن [ إحياء علوم الدين ] و [ قوت القلوب ] . . . إلخ .
فأجاب :
أما [ كتاب قوت القلوب ] و [ كتاب الإحياء ] تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب : مثل الصبر والشكر، والحب والتوكل، والتوحيد ونحو ذلك . وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر، وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم، من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقًا، وأبعد عن البدعة مع أن في [ قوت القلوب ] أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة .
وأما ما في [ الإحياء ] من الكلام في [ المهلكات ] مثل الكلام على الكبر، والعجب والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ماهو مقبول ومنه ماهو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه .
و [ الإحياء ] فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا / ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين .
وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه . وقالوا : مرضه [ الشفاء ] يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة .
وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة .
وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم .
وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه .
فَصل(2/141)
في الصراط المستقيم، في الزهد والعبادة والورع، في ترك المحرمات والشهوات، والاقتصاد، في العبادة . وإن لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة، فإن أصحابها لابد أن يقعوا في الآصار والأغلال، وإن كانوا متأولين، فلابد لهم من اتباع الهوى، ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الأهواء، فإن طريق السنة علم وعدل وهدي، وفي البدعة جهل وظلم، وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس .
والرسول، ما ضل وما غوى، والضلال : مقرون بالغي، فكل غاو ضال، والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلال، وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع، كما كان السلف ينهون عنهما، قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ مريم : 59 ] .
/والغي في الأصل : مصدر غوي يغوي غيًا، كما يقال : لوى يلوي ليًا . وهو ضد الرشد، كما قال تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } [ الأعراف : 146 ] .
والرشد : العمل الذي ينفع صاحبه، والغي : العمل الذي يضر صاحبه، فعمل الخير رشد، وعمل الشر غي، ولهذا قالت الجن : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [ الجن : 10 ] ، فقابلوا بين الشر وبين الرشد، وقال في آخر السورة : { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } [ الجن : 21 ] ، ومنه الرشيد، الذي يسلم إليه ماله . وهو الذي يصرف ماله فيما ينفع لا فيما يضر .(2/142)
وقال الشيطان : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم فيطيعونه، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } [ إبراهيم : 22 ] ، وقال : { وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } إلى أن قال : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ . وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } [ الشعراء : 91ـ95 ] ، وقال : { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [ القصص : 63 ] ، وقال : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [ النجم : 2 ] .
ثم إن الغي، إذا كان اسمًا لعمل الشر الذي يضر صاحبه، فإن عاقبة العمل أيضًا تسمى غيًا، كما أن عاقبة الخير تسمى رشدًا، كما / يسمى عاقبة الشر شرًا، وعاقبة الخير خيرًا، وعاقبة الحسنات حسنات، وعاقبة السيئات سيئات .
فالحسنات والسيئات، في كتاب اللّه يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من جنس العمل، فمن عمل خيرًا وحسنات لقي خيرًا وحسنات، ومن عمل شرًا وسيئات لقي شرًا وسيئات . كذلك من عمل غيًا لقى غيًا، وترك الصلاة واتباع الشهوات غي يلقي صاحبه غيًا . فلهذا قال الزمخشري : كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد . كما قيل :
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائمًا(2/143)
وقال الزجاج : جزاؤه غي، لقوله : { يَلْقَ أَثَامًا } [ الفرقان : 68 ] ، أي مجازات آثام . وفي الحديث المأثور : إن غيا واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها، وهذا تعبير عن ملاقات الشر، وقال سبحانه : { أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] ، فإن الصلاة فيها إرادة وجه اللّه . كما قال تعالى : { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] ، أي يصلون صلاة الفجر والعصر . والداعي يقصد ربه ويريده، فتكون القلوب في هذه الأشياء مريدة لربها محبة له .
/واتباع الشهوات : هو اتباع ما تشتهيه النفس، فإن الشهوات، جمع شهوة، والشهوة هي في الأصل مصدر، ويسمي المشتهي شهوة . تسمية للمفعول باسم المصدر . قال تعالى : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [ النساء : 27 ] فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات، فإنه يريد أن يتوب علينا، أي فاللّه يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به، { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } وهم الغاوون { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عدولًا عظيمًا، فإن أصل الميل العدول، فلابد منه للذين يتبعون الشهوات، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) رواه أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان .(2/144)
فأخبر أنا لا نطيق الاستقامة أو ثوابها إذا استقمنا، وقال : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } [ النساء : 129 ] ، فقوله : كل الميل أي : يريد نهاية الميل، يريد الزيغ عن الطريق، والعدول عن سواء الصراط إلى نهاية الشر، بل إذا بليت بذلك فتوسط، وعد إلى الطريق بالتوبة .
كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته . كذلك المؤمن يحول ثم يرجع / إلى ربه ) ، قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } إلى قوله : { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [ آل عمران : 133ـ 136 ] ، فلم يقل : لا يظلمون ولا يذنبون، بل قال : { إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ آل عمران : 135 ] ، أي بذنب آخر غير الفاحشة، فعطف العام على الخاص . كما قال موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } [ القصص : 16 ] ، وقالت بلقيس : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } [ النمل : 44 ] ، وقال تعالي عمومًا عن أهل القرى المهلكة : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه، وبعصيانهم لأنبيائهم، وبتركهم التوبة إلى ربهم .(2/145)
وقوله تعالى : { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 27 ] ، ثم قال : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا } [ النساء : 28 ] . قال مجاهد وغيره : يتبعون الشهوات الزنا، وقال ابن زيد : هم أهل الباطل . وقال السدي : هم اليهود والنصارى والجميع حق، فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر، وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية .
ثم ذكر أنه خلق الإنسان ضعيفًا، وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات . فلابد له من شهوة مباحة يستغنى بها عن المحرمة، ولهذا قال طاوس ومقاتل : ضعيف في قلة الصبر عن النساء، وقال الزجاج وابن كيسان : ضعيف العزم عن قهر الهوى . وقيل : ضعيف في أصل الخلقة، لأنه خلق من ماء مهين، يروي ذلك / عن الحسن، لكن لابد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الآية، فإنه قال : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه . كما أباح نكاح الفتيات، وقد قال قبل ذلك : { لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النساء : 25 ] .
فهو ـ سبحانه ـ مع إباحته نكاح الإماء عند عدم الطول، وخشية العنت، قال : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [ النساء : 25 ] ، فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت، وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة، فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه .
وكذلك من أباح الاستمناء، عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل، فقد روى عن ابن عباس : أن نكاح الإماء خير منه، وهو خير من الزنا، فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل .(2/146)
لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقًا، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد . واختاره ابن عقيل في المفردات والمشهور عنه ـ يعني عن أحمد ـ أنه محرم إلا إذا خشي العنت . والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت . فإذا كان اللّه قد قال في نكاح الإماء : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ففيه أولى . وذلك يدل على أن الصبر عن كلاهما ممكن .
فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه، فذلك لتسهيل التكليف، كما قال تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا } .
و الاستمناء لا يباح عند أكثر العلماء سلفًا وخلفًا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك . وكلام ابن عباس وما روى عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت، وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك لتكسير شدة عنته وشهوته .
وأما من فعل ذلك تلذذًا أو تذكرًا أو عادة، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها . فهذا كله محرم لا يقول به أحمد، ولا غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات .
وأما الصبر عن المحرمات فواجب، وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها . قال تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [ النور : 33 ] ، و الاستعفاف : هو ترك المنهي عنه . كما في الحديث / الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من يستعفف يعفه اللّه، ومن يستغن يغنه اللّه، ومن يتصبر يصبره اللّه، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر ) .(2/147)
فالمستغني، لا يستشرف بقلبه . و المستعف : هو الذي لا يسأل الناس بلسانه، والمتصبر : هو الذي لا يتكلف الصبر . فأخبر أنه من يتصبر يصبره اللّه . وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة، بأن يصبر على مرارة الحاجة، لا يجزع مما ابتلى به من الفقر، وهو الصبر في البأساء والضراء . قال تعالى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } [ البقرة : 177 ] .
والضراء : المرض . وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف . والصبر على ما ابتلى به باختياره، كالجهاد، فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره، ولذلك إذا ابتلى بالعنت في الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لأن هذا الصبر من تمام الجهاد . وكذلك لو ابتلى في الجهاد بفاقة، أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل . كما قد بسط هذا في مواضع .
وكذلك ما يؤذي الإنسان به في فعله للطاعات، كالصلاة، والأمر بالمعروف، / والنهي عن المنكر، وطلب العلم من المصائب، فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك، وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات : من رئاسة، وأخذ مال، وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ماهو دون ذلك، فإن أعمال البر، كلما عظمت كان الصبر عليها أعظم مما دونهما .
فإن في العلم، والإمارة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة، والحج، والصوم، والزكاة، من الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها . ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور . فإذا كانت النفس غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه، كما تطمع مع القدرة، فإنها مع القدرة تطلب تلك الأمور المحرمة، بخلاف حالها بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد، بل هو من أفضل الجهاد . وأكمل من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الصبر عن المحرمات، أفضل من الصبر على المصائب .(2/148)
الثاني : أن ترك المحرمات مع القدرة عليها، وطلب النفس لها، أفضل من تركها بدون ذلك .
الثالث : أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني ـ كمن / خرج لصلاة، أو طلب علم، أو جهاد، فابتلى بما يميل إليه من ذلك فإن صبره عن ذلك ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور، بخلاف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل صالح، ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلاث يقول : لا تدخل على سلطان، وإن قلت : آمره بطاعة اللّه . ولا تدخل علي امرأة : وإن قلت : أعلمها كتاب اللّه، ولا تصغ أذنك إلى صاحب بدعة، وإن قلت أرد عليه .
فأمره بالاحتراز من أسباب الفتنة، فإن الإنسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ولا يسلم .
فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره، وابتلى، فعليه أن يتقى اللّه ويصبر ويخلص ويجاهد . وصبره على ذلك وسلامته مع قيامه بالواجب، من أفضل الأعمال، كمن تولى ولاية وعدل فيها، أو رد على أصحاب البدع بالسنة المحضة، ولم يفتنوه، أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة .
لكن اللّه إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه، وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء وكله اللّه إلى نفسه . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : ( لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها . وإن أعطيتها عن غير مسألة، أعنت عليها ) وكذلك /قال في الطاعون : ( إذا وقع ببلد وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ) فمن فعل ما أمره اللّه به فعرضت له فتنة من غير اختياره، فإن اللّه يعينه عليها بخلاف من تعرض لها .(2/149)
لكن باب التوبة مفتوح، فإن الرجل قد يسأل الإمارة فيوكل إليها، ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب اللّه عليه ويعينه، إما على إقامة الواجب، وإما على الخلاص منها، وكذلك سائر الفتن . كماقال : { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] ، وهذه الأمور تحتاج إلى بسط لا يتسع له هذا الموضع .
والمقصود أن اللّه سبحانه يريد أن يبين لنا، ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } [ الأنعام : 90 ] ، وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 6، 7 ] فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلاء، وهو سبيل من أناب إليه، فذكر هنا ثلاثة أمور : البيان، والهداية، والتوبة .
وقيل : المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل، أي : يريد أن يبين لنا سنن هؤلاء وهؤلاء، فيهدي عباده المؤمنين إلى الحق، / ويضل آخرين، فإن الهدى والضلال إنما يكون بعد البيان . كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ إبراهيم : 4 ] ، وقال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } [ التوبة : 115 ] .(2/150)
فتكون { سُنَنَ } [ النساء : 26 ] ، متعلقًا بيبين يعني سنن أهل الباطل لا بيهدي، وأهل الحق متعلق بقوله : ويهديكم . وقال الزجاج : السنن الطرق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم . وهذا أولى، لأنه قد يقدم فعلين فلا يجعل الأول هوالعامل وحده، بل العامل إما الثاني وحده . وإما الاثنان، كقوله : { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } [ الكهف : 96 ] .
أو إذا أريد هذا التقدير : يبين لكم سنن الذين من قبلكم، ويهديكم سننًا . فدل علي أنه يهدينا سننهم . والمراد بذلك سنن أهل الحق، بخلاف قوله : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } فإنه قال بعدها : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ آل عمران : 137 ] ، فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان ، وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين من قبلنا، وهم الذين أنعم اللّه عليهم . وذكر ثلاثة أمور : التبيين، والهدى، والتوبة .
لأن الإنسان أولا يحتاج إلى معرفة الخير والشر، وما أمر به وما نهى عنه، ثم يحتاج بعد ذلك / إلى أن يهدي، فيقصد الحق ويعمل به دون الباطل . وهو سنن الأنبياء والصالحين . ثم لابد له بعد ذلك من الذنوب، فيريد أن يتطهر منها بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به . وإلى التوبة مع ذلك . فلابد له من التقصير، أو الغفلة في سلوك تلك السنن التي هداه اللّه إليها . فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن . وهذه السنن : تدخل فيها الواجبات والمستحبات، فلابد للسالك فيها من تقصير وغفلة، فيستغفر اللّه، ويتوب إليه . فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد لا يستطيع أن يقوم للّه بالحق الذي أوجبه عليه، فما يسعه إلا الاستغفار والتوبة عقيب كل طاعة .(2/151)
وقد يقال : الهداية، هنا البيان والتعريف، أي : يعرفكم سنن الذين من قبلكم، من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، كما قال تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، قال علي وابن مسعود : سبيل الخير والشر . وعن ابن عباس : سبيل الهدى والضلال . وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة، أي فطرناه على ذلك، وعرفناه إياه، والجميع واحد . والنجدان الطريقان الواضحان، والنجد المرتفع من الأرض، فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له، كتبيين الطريقين العاليين، لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الآية يشترك / فيه بنو آدم، ويعرفونه بعقولهم .
وأما طريق من تقدم من الأنبياء، فلا بد من إخبار اللّه تعالى عنها، كما قال : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } [ هود : 49 ] ، لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى، لقال : يريد اللّه ليبين لكم سنن الذين من قبلكم، ولم يحتج أن يذكر الهدى، إذا كان المعنى واحدًا، فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي، علم أن هذا غير هذا، فالتبيين : التعريف والتعليم، والهدى : هو الأمر والنهي، وهو الدعاء إلى الخير . كما قال تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، أي داع يدعوهم إلى الخير . كما قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، أي تدعوهم إليه دعاء تعليم .(2/152)
وهداه هنا يتعدى بنفسه، لأن التقدير : ويلزمكم سنن الذين من قبلكم، فلا تعدلوا عنها، وليس المراد هنا بالهدى الإلهام . كما في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لكونه لو أراد ذلك لوقع، ولم يكن فينا ضال، بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، ولهذا قال الزجاج : يريد أن يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم، فعلق الإرادة بفعل نفسه . فإن الزجاج ظن الإرادة في القرآن ليست إلا كذلك، وليس كما ظن، بل الإرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك، فإنه / ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وأما الإرادة الموجودة في أمره وشرعه، فهو كقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } الآية [ المائدة : 6 ] ، وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } [ الأحزاب : 33 ] ، ونحو ذلك .
فهذه إرادته لما أمر به، بمعنى أنه يحبه ويرضاه، ويثيب فاعله، لا بمعنى أنه أراد أن يخلقه، فيكون كما قال : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الآية [ الأنعام : 125 ] .
وكما قال نوح : { وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ هود : 34 ] .
فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه . كما يقول المسلمون : ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة متعلقة بكل حادث، والإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات، كما يقول الناس لمن يفعل القبيح : يفعل شيئًا ما يريده اللّه، مع قولهم : ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن . فإن هذه الإرادة نوعان . كما قد بسط في موضع آخر .(2/153)
وقد يراد بالهدى الإلهام، ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين / هداهم اللّه إلى طاعته، فإن اللّه تعالى أراد أن يتوب عليهم ويهديهم، فاهتدوا، ولولا إرادته لهم ذلك لم يهتدوا، كما قالوا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 43 ] .
لكن الخطاب في الآية لجميع المسلمين، كالخطاب بآية الوضوء . والخطاب لأهل البيت بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ } [ الأحزاب : 33 ] ؛ ولهذا يهدد من لم يطعه . وكما في الصيام : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، لا إرادة الخلق المستلزمة للمراد، لأنه لو كان كذلك لم تكن الآية خطابًا، إلا لمن أخذ باليسر، ولمن فعل ما أمر به، وكان من تخلف عن ذلك لا يدخل تحت الأمر والنهي الذي في الآية، وليس كذلك . بل الحكم الشرعي لازم لجميع المسلمين، فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب، والذين أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم، هدي الإلهام، والإعانة بأن جعلهم مهتدين . كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليًا، والمسلم مسلمًا .
ولو كانت الإرادة هنا من الإنسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [ النساء : 27 ] ، فإنه حينئذ لا تأثير لإرادة هؤلاء، بل وجودها وعدمها سواء . كما في قول نوح : { وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] ، فإن ما شاء اللّه كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس .(2/154)
والمقصود بالآية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات . والمعنى : إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم، وهؤلاء يريدون لكم الشر الذي يضركم، كالشيطان الذي يريد أن يغويكم، وأتباعه هم أهل الشهوات فلا تتخذوه وذريته أولياء من دوني، بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد، وإياكم وطرق الغي والفساد . كما قال تعالى : { فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } الآيات [ طه : 123 ] .
وقوله : { يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } [ النساء : 27 ] ، في الموضعين، فاتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى، كما قال تعالى : { أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، وقال : { وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] ، وقال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } [ محمد : 14 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الجاثية : 18 ] ، وهذا في القرآن كثير .(2/155)
والهوى : مصدر هوى يهوي هوى، ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى، فاتباعه كاتباع السبيل . كما قال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } وكما في لفظ الشهوة، فاتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر، أي اتباع إرادته ومحبته التي هي هواه واتباع الإرادة : هو فعل ما تهواه النفس، كقوله تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [ لقمان : 15 ] ، وقوله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقال : { وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [ الأعراف : 3 ] ، فلفظ الاتباع يكون للآمر الناهي، وللأمر والنهي، وللمأمور به والمنهي عنه، وهو الصراط المستقيم .
كذلك يكون للهوى أمر ونهي، وهو أمر النفس ونهيها، كما قال تعالى : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ يوسف : 53 ] ، ولكن ما يأمر به من الأفعال المذمومة، فأحدها مستلزم للآخر، فاتباع الأمر هو فعل المأمور، واتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه، فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات، واتباع الأهواء هو اتباع شهوة النفس، وهواها، وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه .
بل قد يقال : هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والأهواء، لأن الذي يشتهي ويهوى، إنما يصير موجودًا بعد أن يشتهي ويهوى، وإنما يذم الإنسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده، / فهو حينئذ قد فعل، ولا ينهى عنه بعد وجوده، ولا يقال لصاحبه : لا تتبع هواك .(2/156)
وأيضًا فالفعل المراد المشتهى، الذي يهواه الإنسان : هو تابع لشهوته وهواه، فليست الشهوة والهوي تابعة له، فاتباع الشهوات هو اتباع شهوة النفس، وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الأصل يحتاج إلى أن يجعل في الخارج ما يشتهي، والإنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة، أو الطعام المطلوب، وإن سميت المرأة شهوة والطعام أيضًا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) أي : يترك شهوته، وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام، لا أنه يدع طعامه بترك الشهوة الموجودة في نفسه، فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها، وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة .
وحقيقة الأمر، أنهما متلازمان، فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه، وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه اتبع ما يهواه، فإن ذلك من آثار الإرادة، واتباع الإرادة هو امتثال أمرها، وفعل ما تطلبه، كالمأمور الذي يتبع أمر أميره، ولابد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله . فيبقى ذلك المثال كالإمام مع المأموم يتبعه حيث كان، وفعله في الظاهر / تبع لاتباع الباطن، فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي المحركة للإنسان الآمرة له .(2/157)
ولهذا يقال : العلة الغائية علة فاعلية، فإن الإنسان للعلة الغائية ـ بهذا التصور والإرادة ـ صار فاعلًا للفعل، وهذه الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاعلًا، فيكون الإنسان متبعًا لها، والشيطان يمده في الغي، فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس اتباعها، وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة ـ كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ـ ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب، والشيطان والنفس تحب ذلك، وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج، فإن أول الفكر آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك .
ولهذا يبقى الإنسان عند شهوته، وهواه أسيرًا لذلك، مقهورًا تحت سلطان الهوى، أعظم من قهر كل قاهر، فإن هذا القاهر الهوائي، القاهر للعبد، هو صفة قائمة بنفسه، لايمكنه مفارقته البتة، والصورة الذهنية تطلبها النفس، فإن المحبوب تطلب النفس أن تدركه، وتمثله لها في نفسها، فهو متبع للإرادة . وإن كانت الذهنية والتزين من الزين والمراد التصور في نفسه . والمشتهى الموجود في الخارج له محركان : التصور والمشتهى، هذا يحركه تحريك طلب وأمر، وهذا يأمره أن يتبع / طلبه وأمره، فاتباع الشهوات والأهواء يتناول هذا كله، بخلاف كل قاهر ينفصل عن الإنسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها، وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث مهلكات : شح مطاع، وهوي متبع، وإعجاب المرء بنفسه . وثلاث منجيات : خشية اللّه في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا ) .(2/158)
وقوله في الحديث : هوي متبع، فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس . كقوله : في الشح المطاع، وجعل الشح مطاعًا، لأنه هو الآمر، وجعل الهوى متبعًا، لأن المتبع قد يكون إمامًا يقتدى به ولا يكون آمرًا . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إياكم والشح . فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) . فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة، فالبخل، منع منفعة الناس بنفسه وماله، والظلم، هو الاعتداء عليهم .
فالأول هو التفريط فيما يجب، فيكون قد فرط فيما يجب، واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر إعظامًا لها؛ لأنها تدخل / في الأمرين المتقدمين قبلها .
وقال المفسرون في قوله تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [ الحشر : 9 ] ، هو ألا يأخذ شيئًا مما نهاه اللّه عنه، ولا يمنع شيئًا أمره اللّه بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمراللّه ورسوله . فإن اللّه ينهى عن الظلم، ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم، وينهى عن الإحسان .
وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت، وبالوقوف بعرفة أن يقول : اللّهم قني شح نفسي، فسئل عن ذلك، فقال : إذا وقيت شح نفسي، وقيت الظلم والبخل والقطيعة . وفي رواية عنه قال : إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال : وماذاك ؟ قال : أسمع اللّه يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } ، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال : ليس ذاك بالشح الذي ذكره اللّه في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا، وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل .(2/159)
وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد والإيثار في قوله : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ، ثم قال : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] ، فمن وقى شح نفسه لم يكن حسودًا باغيًا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود .
/والشح يكون في الرجل مع الحرص، وقوة الرغبة في المال، وبغض للغير وظلم له، كما قال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا . أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } الآيات ـ إلى قوله : { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } [ الأحزاب : 18، 19 ] ، فشحهم على المؤمنين، وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه، وقطيعته كالحسد، فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود وقطيعته، كابني آدم وإخوة يوسف .
فالحسد والشح، يتضمنان بغضًا وكراهية، فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص، فإن الفعل صدر فيه عن بغض، بخلاف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيئًا فاتبعه ففعله، وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم لا ينفع . ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي، فأطيع أمره .
وابن مسعود جعل البخل خارجًا عن الشح والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل .(2/160)
ومن الناس من يقول : الشح، والبخل سواء . كما قال ابن جرير : الشح في كلام العرب هو البخل، ومنع الفضل من المال . وليس / كما قال : بل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع ، فإن البخيل قد يبخل بالمال محبة لما يحصل له به من اللذة والتنعم، وقد لا يكون متلذذًا به ولا متنعمًا بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتي يكون يكره، أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله، وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته . وقد لا يكون هناك لذة أصلا، بل يكره أن يفعل إحسانًا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغضًا للخير لا للمعطي ولا للمعطي، بل بغضًا منه للخير وقد يكون بغضًا وحسدًا للمعطي، أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخل قطعًا، ولكن كل بخل يكون عن شح، فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحيحًا .
قال الخطابي : الشح أبلغ في المنع من البخل، والبخل إنما هو من أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة .
وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال : البخل : أن يظن الإنسان بماله، والشح : أن يضن بماله ومعروفه، وقيل : الشح : أن يشح بمعروف غيره على غيره، و البخل : أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات، ويتبعون أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه، فاتبعوا /محبتهم وإرادتهم من غير علم، فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو ضار .(2/161)
ولهذا قال : { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } ثم قال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِِ } [ القصص : 50 ] ، واتباع الهوى درجات : فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون اللّه ما يستحسنون بلا علم، ولا برهان، كما قال : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] ، أي يتخذ إلهه الذي يعبده وهو ما يهواه من آلهة، ولم يقل : إن هواه نفس إلهه فليس كل من يهوي شيئًا يعبده، فإن الهوى أقسام بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه، فكانت عبادته تابعة لهوى نفسه في العبادة، فإنه لم يعبد ما يحب أن يعبد، ولا عبد العبادة التي أمر بها .
وهذه حال أهل البدع، فإنهم عبدوا غير اللّه، وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون اللّه بها، فهم إنما اتبعوا أهواءهم، فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير .
فلو اتبع العلم والكتاب المنير، لم يعبد إلا اللّه بما شاء، لا بالحوادث والبدع .
/والمقصود أن الآلهة كثيرة، والعبادات لها متنوعة، وبالجملة فكل ما يريده الإنسان ويحبه لابد أن يتصوره في نفسه، فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب، فمن عبده عبد غير اللّه، وتمثلت له الشياطين في صورة من يعبده، وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيئًا غير اللّه، فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها، واستوائها ليكون سجود من يعبدها له .(2/162)
وقد كانت الشياطين، تتمثل في صورة من يعبد، كما كانت تكلمهم من الأصنام التي يعبدونها، وكذلك في وقتنا خلق كثير من المنتسبين إلى الإسلام، والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الأحياء والأموات من المشايخ وغيرهم، فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته، فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ليغوى هذا المشرك .
والمبتلون بالعشق، لا يزال الشيطان يمثل لأحدهم صورة المعشوق، أو يتصور بصورته، فلا يزال يرى صورته، مع مغيبه عنه بعد موته، فإنما جلاه الشيطان على قلبه، ولهذا إذا ذكر العبد اللّه الذكر الذي يخنس منه الوسواس الخناس خنس هذا المثال الشيطاني، وصورة المحبوب تستولى على المحب أحيانًا حتى لا يرى غيرها، ولا يسمع غير كلامها، فتبقى / نفسه مشتغلة بها .
والذين يسلكون في محبة اللّه مسلكا ناقصًا، يحصل لأحدهم نوع من ذلك يسمى الاصطلام والفناء، يغيب بمحبوبه عن محبته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، حتى لا يشعر بشيء من أسماء اللّه وصفاته وكلامه وأمره ونهيه .
ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى الاتحاد . فيقول : أنا هو، وهو أنا، وأنا اللّه، ويظن كثير من المسالكين، أن هذا هو غاية السالكين، وأن هذا هو التوحيد، الذي هو نهاية كل سالك، وهم غالطون في هذا، بل هذا من جنس قول النصارى، ولكن ضلوا لأنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر اللّه وأمره .
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس، يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسيرًا ما يهواه، يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف : ما أنا على الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه .(2/163)
/وذلك أن النفس الصافية التي فيها رقة الرياضة، ولم تنجذب إلى محبة اللّه وعبادته انجذابًا تامًا، ولا قام بها من خشية اللّه التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها . كما يستولى السبع على ما يفترسه، فالسبع يأخذ فريسته بالقهر، ولا تقدر الفريسة على الامتناع منه . كذلك ما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة، تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه، فيبقى قلبه مستغرقًا في تلك الصورة أعظم من استغراق الفريسة في جوف الأسد؛ لأن المحبوب المراد هو غاية النفس، له عليها سلطان قاهر .
والقلب يغرق فيما يستولى عليه، إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور، والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقًا فيه، كما يغرق الغريق في الماء، فلابد أن يستولى عليها مايحيط بها من الأجسام، والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف، والمحبوبات والمكروهات، فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه، والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه، ولا يأتي بالحسنات إلا اللّه، ولا يذهب السيئات إلا اللّه { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 107 ] { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] .(2/164)
/وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب، ودفع المرهوب، جعل له من الإيمان باللّه، ومحبته، ومعرفته، وتوحيده، ورجائه، وحياة قلبه، واستنارته بنور الإيمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضًا من الدنيا، وأما إذا طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته ومايتبع ذلك، فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب . وهو الدعاء والمطلوب الذكر والشكر، وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك . وهذا لبسطه موضع آخر .
والمقصود أن القلب قد يغمره، فيستولى عليه ما يريده العبد، ويحبه، ومايخافه ويحذره، كائنا من كان؛ ولهذا قال تعالى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } [ المؤمنون : 36 ] ، فهي فيما يغمرها عما أنذرت به، فيغمرها ذلك عن ذكر اللّه والدار الآخرة وما فيها من النعيم، والعذاب الأليم . قال اللّه تعالى : { فّذّرًهٍمً فٌي غّمًرّتٌهٌمً حّتَّى " حٌينُ } [ المؤمنون : 54 ] ، أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في الخيرات، والأعمال الصالحة . وقال تعالى : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } الآيات [ الذاريات : 10، 11 ] ، أي ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها، أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة، وما خلقوا له .
وهذا يشبه قوله : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [ الكهف : 28 ] ، فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال : السهو : الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه، وهذا جماع الشر الغفلة، والشهوة .
فالغفلة عن اللّه والدار الآخرة تسد باب الخير، الذي هو الذكر واليقظة .(2/165)
والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغمورًا فيما يهواه ويخشاه، غافلًا عن اللّه، رائدًا غير اللّه، ساهيًا عن ذكره، قد اشتغل بغير اللّه، قد انفرط أمره، قد ران حب الدنيا على قلبه، كما روى في صحيح البخاري، وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطى رضى، وإن منع سخط ) .
جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده، حتى يكون عبد الدرهم، وعبد ما وصف في هذا الحديث، والقطيفة : هي التي يجلس عليها، فهو خادمها، كما قال بعض السلف : البس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه، وهي كالبساط الذي تجلس عليه، والخميصة : هي التي يرتدي بها، وهذا من أقل المال . وإنما / نبه به النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو أعلي منه، فهو عبد لذلك، فيه أرباب متفرقون، وشركاء متشاكسون .
ولهذا قال : ( إن أعطى رضي، وإن منع سخط ) . فما كان يرضى الإنسان حصوله ويسخطه فقده، فهو عبده، إذ العبد يرضى باتصاله بهما، ويسخط لفقدهما . والمعبود الحق الذي لا إله إلا هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان، وتوحيد ومحبة، وذكر، وعبادة، فيرضى بذلك، وإذا منع من ذلك غضب .
وكذلك من أحب شيئًا، فلا بد أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان .
قال الجنيد : لا يكون العبد عبدًا حتى يكون مما سوى اللّه تعالى حرًا . وهذا مطابق لهذا الحديث، فإنه لا يكون عبدًا للّه خالصًا مخلصًا دينه للّه كله، حتى لا يكون عبدًا لما سواه، ولا فيه شعبة، ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى اللّه، فإذا كان يرضيه، ويسخطه غير اللّه فهو عبد لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدر محبته، وعبادته لذلك الغير زيادة .(2/166)
قال الفضيل بن عياض : واللّه ما صدق اللّه في عبوديته، من / لأحد من المخلوقين عليه ربانية، وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
أربا ًواحدًا، أم ألف رب ** أدين إذا انقسمت الأمور ؟ !
روى الإمام أحمد والترمذي، والطبراني، من حديث أسماء بنت عميس، قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( بئس العبد عبد تخيل، واختال، ونسى الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار الأعلى، بئس العبد عبد سها ولها، ونسى المقابر والبلى، بئس العبد عبد بغى واعتدى، ونسى المبدأ والمنتهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله ) قال الترمذي : غريب . وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه . واللّه أعلم .
وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك . كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] .
وطالب الرئاسة ـ ولو بالباطل ـ ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلًا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقًا . / والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن اللّه تعالى يحب الحق، والصدق، والعدل، ويبغض الكذب، والظلم .
فإذا قيل : الحق والصدق والعدل الذي يحبه اللّه أحبه، وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لأن هواه قد صار تبعًا لماجاء به الرسول . وإذا قيل : الظلم والكذب، فاللّه يبغضه، والمؤمن يبغضه، ولو وافق هواه .(2/167)
وكذلك طالب المال ـ ولو بالباطل ـ كما قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [ التوبة : 58 ] وهؤلاء هم الذين قال فيهم : ( تعس عبد الدينار ) الحديث . فكيف إذا استولى على القلب ما هو أعظم استعبادًا من الدرهم والدينار، من الشهوات والأهواء، والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال محبته للّه وعبادته ؟ ! لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات، كيف تدفع القلب، وتزيغه عن كمال محبته لربه وعبادته وخشيته؛ لأن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه، ويزيغه عن محبة غير محبوبه، وكذلك المكروه يدفعه، ويزيله، ويشغله عن عبادة اللّه تعالى .
ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم / قال لأصحابه : ( الفقر تخافون ؟ ! لا أخاف عليكم الفقر، إنما أخاف عليكم الدنيا، حتى إن قلب أحدكم إذا زاغ لا يزيغه إلا هي ) .
وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه، والذين يبغضونه كأعدائه، فالذين يحبونه يجذبونه إليهم . فإذا لم تكن المحبة منهم له للّه، كان ذلك مما يقطعه عن اللّه، والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن اللّه، ولو أحسن إليه أصدقاؤه الذين يحبونه، لغير اللّه أوجب إحسانهم إليه محبته لهم، وإنجذاب قلبه إليهم . ولو كان على غير الاستقامة، وأوجب مكافأته لهم، فيقطعونه عن اللّه وعبادته .(2/168)
فلا تزول الفتنة عن القلب، إلا إذا كان دين العبد كله للّه عز وجل، فيكون حبه للّه ولما يحبه اللّه، ويبغضه للّه، ولما يبغضه اللّه، وكذلك موالاته ومعاداته، وإلا فمحبة المخلوق تجذبه، وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه، ثم قد يكون هذا أقوى، وقد يكون هذا أقوى، فإذا كان هو غالبًا لهواه لم يجذبه مغلوب مع هواه، ولا محبوباته إليها؛ لكونه غلبًا لهواه ناهيًا لنفسه عن الهوى، لما في قلبه من خشية اللّه، ومحبته التى تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات .
وأما حب الناس له، فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة اللّه، وخشيته / وإلا جذبوه وأخذوه إليهم، كحب امرأة العزيز ليوسف، فإن قوة ىوسف ومحبته للّه وإخلاصه وخشيته، كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها، هذا إذا أحب أحدهم صورته، مع أن هنا الداعي قوي منه ومنهم، فهنا المعصوم من عصمه اللّه، وإلا فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين، أنه يقع بعض الشر بينهم .
ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ) .
وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم، إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون . وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم، إن لم يفعلها وإلا نقص الحب، أو حصل نوع بغض، وربما زاد أو أدى إلى الانسلاخ من حبه، فصار مبغوضًا بعد أن كان محبوبا، فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم، حتى يكون كالعبد لهم، وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره، وأولئك يطلبون منه انتفاعهم، وإن كان مضرًا له مفسدًا لدينه لا يفكرون في ذلك . وقليل منهم الشكور .(2/169)
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه ولا دفع ضرره، وإنما / يقصدون أغراضهم به، فإن لم يكن الإنسان عابدًا اللّه، متوكلًا عليه مواليًا له ومواليًا فيه ومعاديًا، وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة .
وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم، وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والاختلاف والفتن . قوم يوالون زيدًا، ويعادون عمرًا . وآخرون بالعكس؛ لأجل أغراضهم، فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه من زيد انقلبوا إلى عمرو، وكذلك أصحاب عمرو، كما هو الواقع بين أصناف الناس .
وكذلك الرأس، من الجانبين، يميل إلى هؤلاء الذين يوالونه، وهم إذا لم تكن الموالاة للّه أضر عليه من أولئك، فإن أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله، أو بأخذ ماله، وإما بإزالة منصبه، وهذا كله ضرر دنيوي، لا يعتد به إذا سلم العبد، وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين لايعتدون بفساد دينهم مع سلامة دنياهم . فهم لا يبالون بذلك . وأما " دين العبد " الذي بينه وبين اللّه فهم لا يقدرون عليه .
وأما أولياءه الذين يوالونه للأغراض، فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك، فإن لم يفعل انقلبوا أعداء، فدخل بذلك عليه الأذى من جهتين :
/من جهة مفارقتهم، ومن جهة عداوتهم .
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لأنهم قد شاهدوا منه . وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه . فاستجلبوا بذلك عداوة غيرهم، فتتضاعف العداوة .
وإن لم يحب مفارقتهم، احتاج إلى مداهنتهم، ومساعدتهم على ما يريدونه، وإن كان فيه فساد دينه . فإن ساعدهم على نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيبًا وافرًا وحظًا تامًا من ظلمهم وجورهم، وطلبوا منه أيضًا أن يعاونهم على أغراضهم، ولو فاتت أغراضه الدنيوية . فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده ! ! فإن الإنسان ظالم جاهل، لا يطلب إلا هواه .(2/170)
فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم . ويصبر على أذاهم . ويقضى حوائجهم للّه، وتكون استعانته عليهم باللّه تامة، وتوكله على اللّه تام . وإلا أفسدوا دينه ودنياه، كما هو الواقع المشاهد من الناس، ممن يطلب الرئاسة الدنيوية، فإنه يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة، ويحسن له هذا الرأي، ويعاديه إن لم يقم معه، كما قد /جرى ذلك مع غير واحد .
وذلك يجري فيمن يحب شخصًا لصورته، فإنه يخدمه، ويعظمه، ويعطيه ما يقدر عليه، ويطلب منه من المحرم ما يفسد دينه .
وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة، يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل، وإلا عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار، وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لأجل الأتباع والمحبين، ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم .
فمن أحب غير اللّه، ووالى غيره، كره محب اللّه ووليه، ومن أحب أحدًا لغير اللّه كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه، فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة، وذهابها عنه، فأي صداقة هذه ؟ ! ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه في أغراضهم، وفيما يحبونه، وكلاهما ضرر عليه .(2/171)
قال تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ } [ البقرة : 166 ] ، قال الفضيل بن عياض عن ليث / عن مجاهد : هي المودات التي كانت لغير اللّه، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } [ البقرة : 167 ] . فالأعمال التي أراهم اللّه حسرات عليهم : هي الأعمال التي يفعلها بعضهم، مع بعض في الدنيا كانت، لغير اللّه، ومنها الموالاة، والصحبة، والمحبة، لغير اللّه . فالخير كله في أن يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئًا، ولا حول ولا قوة إلا باللّه .
فَصْل
قول بعض الناس : الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما قد يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات، والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها اللّه ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل اللّه من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال : ( هلك المتنطعون ) ، وقال : ( لو مد لي الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم ) ، مثل الجوع أو العطش المفرط، الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم، وأن يقوم قائما ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم / صومه ) رواه البخاري، وهذا باب واسع .(2/172)
وأما الأجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة للّه ورسوله في عمل ميسر، كما يسر اللّه على أهل الإسلام : الكلمتين، وهما أفضل الأعمال؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان اللّه وبحمده، سبحان اللّه العظيم ) أخرجاه في الصحيحين .
ولو قيل : الأجر على قدر منفعة العمل، وفائدته ؛لكان صحيحًا اتصاف الأول باعتبار تعلقه بالأمر والثاني باعتبار صفته في نفسه . والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة الأمر فقط، وتارة من جهة صفته في نفسه، وتارة من كلا الأمرين . فبالاعتبار الأول ينقسم إلى طاعة ومعصية، وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة، والطاعة والمعصية اسم له من جهة الأمر، والحسنة والسيئة اسم له من جهة نفسه . . . وإن كان كثير من الناس لا يثبت إلا الأول، كما تقوله الأشعرية وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم .
ومن الناس من لايثبت إلا الثاني، كما تقوله المعتزلة وطائفة / من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، والصواب إثبات الاعتبارين، كما تدل عليه نصوص الأئمة وكلام السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهم .
فأما كونه مشقًا، فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا، ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة، كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر، يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة : ( أجرك على قدر نصبك ) لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة، وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر، وكذلك الجهاد، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران ) .(2/173)
فكثيرًا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، لكن ؛لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا، فقد تكون المشقة مطلوبة منهم . وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبًا مقربًا إلى اللّه؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون / إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم .
ولهذا تجد هؤلاء مع من شابههم من الرهبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات، مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها، ولا منفعة إلا أن يكون شيئًا يسيرًا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه .
ونظير هذا الأصل الفاسد، مدح بعض الجهال بأن يقول : فلان ما نكح ولا ذبح . وهذا مدح الرهبان الذين لا ينكحون ولا يذبحون، وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
وهذه الأشياء هي من الدين الفاسد، وهو مذموم، كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم .
والناس أقسام :
أصحاب دنيا محضة : وهم المعرضون عن الآخرة .
وأصحاب دين فاسد : وهم الكفار، والمبتدعة الذين يتدينون بما لم / يشرعه اللّه من أنواع العبادات، والزهادات .
والقسم الثالث وهم : أهل الدين الصحيح، أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب، والسنة والجماعة، والحمد للّه الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربنا بالحق .
وَقَالَ شَيخُ الإِسْلام أحمَد بن تيمية ـ رَحِمَهُ اللَّهُ :
فَصْل
في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات، قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، و { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] .(2/174)
قال قتادة وابن عيينة وغيرهما : قد أفلح من زكى نفسه بطاعة اللّه، وصالح الأعمال . وقال الفراء والزجاج : قد أفلحت نفس زكاها اللّه، وقد خابت نفس دساها اللّه . وكذلك ذكره الوالبي، عن ابن عباس وهو منقطع . وليس هو مراد من الآية؛ بل المراد بها الأول قطعًا لفظًا ومعنى .
أما اللفظ فقوله : من زكاها اسم موصول ولابد فيه من عائد/ على { مّن } فإذا قيل : قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان ضمير الشخص في زكاها يعود على { مّن } ، هذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال : قد أفلح من اتقى الله وقد أفلح من أطاع ربه .
وأما إذا كان المعنى : قد أفلح من زكاه اللّه، لم يبق في الجملة ضمير يعود على { مّن } فإن الضميرعلى هذا يعود على اللّه، وليس هو { مّن } وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فلا يعود على { مّن } لا ضمير الفاعل، ولا المفعول . فتخلوا الصلة من عائد وهذا لا يجوز .
نعم، لو قيل : قد أفلح من زكى اللّه نفسه، أو من زكاها اللّه له، ونحو ذلك صح الكلام، وخفاء هذا على من قال به من النحاة عجب . وهو لم يقل : قد أفلحت نفس زكاها . فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس لا صلة، بل قال : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، فالجملة صلة لـ { مّن } لا صفة لها .(2/175)
ولا قال أيضًا : قد أفلحت النفس التي زكاها، فإنه لو قيل ذلك، وجعل في { زّكَّاهّا } ضمير يعود على اسم اللّه صح، فإذا تكلفوا، وقالوا : التقدير { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } هي النفس التي زكاها، وقالوا : في زكى ضمير المفعول يعود على { مَنْ } وهي تصلح للمذكر والمؤنث / والواحد والعدد، فالضمير عائد على معناها المؤنث، وتأنيثها غير حقيقي؛ ولهذا قيل : { قّدً أّفًلّح } ولم يقل : قد أفلحت، قيل لهم : هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة، فإنما يصح إذا دل الكلام على ذلك في مثل ومن . . . على أن المراد لنا، وكذا قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، ونحو ذلك .
وأما هنا فليس في لفظ { مَنْ } ، وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة، فلا يجوز أن يراد بالكلام ما ليس فيه دليل على إرادته، فإن مثل هذا مما يصان كلام اللّه عز وجل عنه، فلو قدر احتمال عود ضمير { زَكَّاهَا } إلى نفس وإلى { مَنْ } ، مع أن لفظ { مَنْ } لا دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل التذكير والتأنيث، وهو في التذكير أظهر، لعدم دلالته على التأنيث، فإن الكلام إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما، ومن تكلف غير ذلك، فقد خرج عن كلام العرب المعروف، والقرآن منزه عن ذلك، والعدول عما يدل عليه ظاهر الكلام إلى مالا يدل عليه بلا دليل لا يجوز البتة فكيف إذا كان نصًا من جهة المعني ؟ ! فقد أخبر اللّه أنه يلهم التقوى والفجور . ولبسط هذا موضع آخر .(2/176)
/والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم، والتحذير من تدسيتها، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى اللّه نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهي، ولا ترغيب ولا ترهيب . والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول : من جعله اللّه مؤمنًا، بل يقول : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 1 ] ، { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود، ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام اللّه ؟ ! ألا ترى أنه في مقام الأمر، والنهي، والترغيب، والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد، والوعيد، والمدح، والذم، وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم، إما بما ليس من أفعالهم، وإما بإنعامه بالإيمان، والعمل الصالح، ويذكره في سياق قدرته ومشيئته، وأما في معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم . كقوله : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى } الآية [ النور : 21 ] ، فهذا مناسب . وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى .
والمقصود ذكر التزكية قال تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الآية [ النور : 30 ] ، وقال : { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } [ النور : 28 ] ، وقال : { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 7 ] ، وقال : { وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } [ عبس : 7 ] .(2/177)
وأصل الزكاة الزيادة في الخير . ومنه يقال : زكا الزرع، وزكا /المال إذا نما . ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكوا حتي يزال عنها ما يناقضها ولا يكون الرجل متزكيًا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها . قال الزجاج : { دّسَّاهّا } جعلها ذليلة حقيرة خسيسة، وقال الفراء : دساها؛ لأن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله، قال ابن قتيبة : أي أخفاها بالفجور والمعصية، فالفاجر دس نفسه، أي قمعها وخباها، وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها، واللئام تنزل الأطراف والوديان .
فالبر والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر، بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعًا وبسطًا عما كان عليه قبل ذلك، فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه اللّه وشرح صدره، والفجور، والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها، بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح، فقال : ( مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما . فجعل المتصدق كلما هم بصدقة اتسعت وانبسطت عنه، حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة، قلصت، وأخذت كل حلقة بمكانها، وأنا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه، فلو رأيتها يوسعها فلا تتسع ) أخرجاه .(2/178)
/وإخفاء المنزل وإظهاره تبعًا لذلك، قال تعالى : { يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } الآية [ النحل : 59 ] . فهكذا النفس البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض؛ ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من الصوف المبتل، والنفس البرة التقية النقية، التي قد زكاها صاحبها فارتفعت، واتسعت، ومجدت، ونبلت فوقت الموت تخرج من البدن تسيل، كالقطرة من في السقاء، وكالشعرة من العجين . قال ابن عباس : إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق . وإن للسيئة لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنا في البدن، وضيقًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق . قال تعالى : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } الآية [ الأعراف : 58 ] . وهذا مثل البخيل والمنفق . قال : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ } الآية [ الأنعام : 521 ] . وقال : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } الآية [ البقرة : 257 ] .
وقال له في سياق الرمي بالفاحشة، وذم من أحب إظهارها في المؤمنين، والمتكلم بما لا يعلم : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } الآية [ النور : 21 ] . فبين أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الآية [ النور : 30 ] . وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس، فإنها تعلم أن السيئات مذمومة ومكروه فعلها، ويجاهد نفسه إذا دعته إليها، إن كان مصدقًا لكتاب / ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا التصديق والإيمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة ، فتزكو بذلك أيضًا، بخلاف ما إذا عملت السيئات فإنها تتدنس وتندس، وتنقمع، كالزرع إذا نبت معه الدغل .(2/179)
والثواب إنما يكون على عمل موجود، وكذلك العقاب . فأما العدم المحض، فلا ثواب فيه ولا عقاب، لكن فيه عدم الثواب والعقاب، واللّه سبحانه أمر بالخير، ونهى عن الشر، واتفق الناس على أن المطلوب بالأمر فعل موجود، واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي، أم عدمي ؟ فقيل : وجودي، وهو الترك، وهذا قول الأكثر . وقيل : المطلوب عدم الشر، وهو ألا يفعله .
والتحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر، فلا بد ألا يقربه ويعزم على تركه، ويكره فعله، وهذا أمر وجودي بلا ريب، فلايتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه . . . وجودي، لكن قد لا يكون مريدًا له كما يكره أكل الميتة طبعًا، ومع ذلك، فلابد له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع، وهذا قدر زائد على كراهة الطبع، وهو أمر وجودي يثاب عليه، ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب / المحرم، ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة إيمان . وقد غمر إيمانه حكم طبعه، فهذا أعلى الأقسام الثلاثة، وهذا صاحب النفس المطمئنة، وهو أرفع من صاحب اللوامة التي تفعل الذنب، وتلوم صاحبها عليه، وتتلوم وتتردد، هل تفعله أم لا ؟ !
وأما من لم يخطر بباله أن اللّه حرمه، ولا هو مريد له، بل لم يفعله، فهذا لايعاقب ولا يثاب، إذ لم يحصل منه أمر وجودي يثاب عليه، أو يعاقب فمن قال : المطلوب ألا يفعل، إن أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب، فقد صدق، وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم، فليس كذلك، والكافر إذا لم يؤمن باللّه ورسوله، فلا بد لنفسه من أعمال يشتغل بها عن الإيمان، وترك الأعمال كفر يعاقب عليها .(2/180)
ولهذا لما ذكر اللّه عقوبة الكفار في النار، ذكر أمورًا وجودية وتلك تدس النفس؛ ولهذا كان التوحيد والإيمان أعظم ما تزكو به النفس، وكان الشرك أعظم ما يدسيها، وتتزكى بالأعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف . قالوا : في { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، تطهر من الشرك، ومن المعصية بالتوبة، وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة : صدقة الفطر . ولم يريدوا أن الآية لم تتناول إلا هي، بل مقصودهم : أن من أعطى صدقة الفطر، وصلى صلاة العيد فقد تناولته وما بعدها، ولهذا / كان يزيد بن حبيب، كلما خرج إلى الصلاة خرج بصدقة، ويتصدق بها، قبل الصلاة، ولو لم يجد إلا بصلًا . قال الحسن : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } من كان عمله زاكيًا، وقال أبو الأحوص : زكاة الأمور كلها، وقال الزجاج : تزكى بطاعة اللّه عز وجل، ومعنى الزاكي : النامي الكثير .
وكذلك قالوا في قوله : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6، 7 ] قال ابن عباس : لايشهدون أن لا إله إلا اللّه، وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم أي ليست زاكية، وقيل لا يطهرونها بالإخلاص، كأنه أراد ـ واللّه أعلم ـ أهل الرياء، فإنه شرك . وعن الحسن : لا يؤمنون بالزكاة، ولا يقرون بها . وعن الضحاك : لا يتصدقون، ولا ينفقون في الطاعة، وعن ابن السائب : لا يعطون زكاة أموالهم . قال : كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون .
والتحقيق أن الآية تتناول كل ما يتزكى به الإنسان من التوحيد والأعمال الصالحة . كقوله : { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } [ النازعات : 18 ] ، وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها .
فإن قيل : { يؤتي } فعل متعد .(2/181)
قيل : هذا كقوله : { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا } [ الأحزاب : 14 ] ، وتقدم قبلها أن / الرسول دعاهم، وهو طلب منه، فكان هذا اللفظ متضمنًا قيام الحجة عليهم بالرسل، والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم .
ومما يليق : أن الزكاة تستلزم الطهارة؛ لأن معناها معنى الطهارة . قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } من الشر { وَتُزَكِّيهِمْ } [ التوبة : 103 ] بالخير قال صلى الله عليه وسلم : ( اللَّهم طهرني بالماء والبرد والثلج ) كان يدعو به في الاستفتاح وفي الاعتدال من الركوع، والغسل .
فهذه الأمور توجب تبريد المغسول بها، و [ البرد ] يعطي قوة وصلابة، ومايسر يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان دمع السرور باردًا، ودمع الحزن حارًا؛ لأن مايسوء النفس يوجب حزنها وغمها، وما يسرها يوجب فرحها وسرورها وذلك مما يبرد الباطن .
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب .
وقوله : بالثلج والبرد والماء البارد : تمثيل بما فيه من هذا الجنس، وإلا فنفس الذنوب لا تغسل بذلك، كما يقال : أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك . ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال صلى الله عليه وسلم : ( الآن / برّدت جلدته ) ، ويقال : برد اليقين، وحرارة الشك، ويقال : هذا الأمر يثلج له الصدر، إذا كان حقًا يعرفه القلب ويفرح به، حتى يصير في مثل برد الثلج، ومرض النفس : إما شبهة وإما شهوة أو غضب، والثلاثة توجب السخونة، ويقال لمن نال مطلوبه : برد قلبه، فإن الطالب فيه حرارة الطلب .(2/182)
وقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } : دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة، فإنه قاله بعد قوله : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا } الآية [ التوبة : 102 ] . فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق قوله : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الآيات [ النور : 30 ] { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ } الآية [ النور : 31 ] . فأمرهم جميعًا بالتوبة في سياق ما ذكره؛ لأنه لا يسلم أحد من هذا الجنس . كما في الصحيح : ( إن اللّه كتب على ابن آدم حظه من الزنا ) الحديث . وكذلك في الصحيح : إن قوله : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إلا الجماع، ثم ندم فنزلت .
ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف اللّه، وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة للّه، وعملًا صالحًا، وثبت عنه أنه قال : ( المجاهد من جاهد نفسه في ذات اللّه ) ، فيؤمر بجهادها / كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلي جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد، فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد . كما قال : ( والمهاجر من هجر السيئات ) .
ثم هذا لا يكون محمودًا فيه، إلا إذا غلب، بخلاف الأول فإنه من { فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 74 ] ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة . . . ) إلخ؛ وذلك لأن اللّه أمر الإنسان أن ينهي النفس عن الهوى، وأن يخاف مقام ربه، فحصل له من الإيمان ما يعينه على الجهاد، فإذا غلب كان لضعف إيمانه، فيكون مفرطًا بترك المأمور، بخلاف العدو الكافر فإنه قد يكون بدنه أقوى .(2/183)
فالذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به، ومع امتثال المأمور لا تفعل المحظور، فإنهما ضدان . قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ } الآية [ يوسف : 24 ] . وقال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42، الإسراء : 65 ] فعباد اللّه المخلصون لا يغويهم الشيطان، والغي خلاف الرشد، وهو اتباع الهوى، فمن مالت نفسه إلى محرم، فليأت بعبادة اللّه كما أمر اللّه مخلصًا له الدين، فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء . . . . خشية ومحبة، والعبادة له / وحده، وهذا يمنع من السيئات .
فإذا كان تائبًا، فإن كان ناقصًا، فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع، فهو كالترياق الذي يدفع أثر السم، ويرفعه بعد حصوله، وكالغذاء من الطعام والشراب، وكالاستمتاع بالحلال الذي يمنع النفس عن طلب الحرام، فإذا حصل له طلب إزالته، وكالعلم الذي يمنع من الشك، ويرفعه بعد وقوعه، وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع المرض، وكذلك ما في القلب من الإيمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به .(2/184)
وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه، ولا يحصل المرض إلا لنقص أسباب الصحة، كذلك القلب لا يمرض إلا لنقص إيمانه . وكذلك الإيمان والكفران متضادان، فكل ضدين : فأحدهما يمنع الآخر تارة، ويرفعه أخرى، كالسواد والبياض . . . حصل موضعه ويرفعه إذا كان حاصلًا، كذلك الحسنات والسيئات والإحباط . . . والمعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى الإيمان، وإن من مات عليها لم يكن . . . الجبائي وابنه بالموازنة . لكن قالوا : من رجحت سيئاته خلد في النار، والموازنة بلا تخليد قول . . . الإحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر كما قال : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } الآية [ البقرة : 217 ] ، وقوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } الآية [ المائدة : 5 ] ، وقال : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] ، وقال : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الآية [ الزمر : 65 ] .
وما ادعته المعتزلة مخالف لأقوال السلف، فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره، ولم يجعلهم كفارًا حابطي الأعمال، ولا أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين، والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم . والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على الغال، وعلى قاتل نفسه، ولو كانوا كفارًا ومنافقين لم تجز الصلاة عليهم . فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله . وقال عمن شرب الخمر : ( لا تلعنه فإنه يحب اللّه ورسوله ) وذلك الحب من أعظم شعب الإيمان . فعلم أن إدمانه لا يذهب الشعب كلها، وثبت من وجوه كثيرة : ( يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ولو حبط لم يكن في قلوبهم شيء منه . وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } الآية [ فاطر : 32 ] . فجعل من المصطفين .(2/185)
فإذا كانت السيئات لا تحبط جميع الحسنات، فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر ؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة . منهم من ينكره، ومنهم من يثبته، كما دلت عليه النصوص، مثل قوله : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } الآية [ البقرة : 264 ] . دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة، وضرب مثله بالمرائي، وقالت عائشة : ابلغي زيدًا أن جهاده بطل . الحديث .
/وأما قوله : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } [ الحجرات : 2 ] ، وحديث صلاة العصر ففي ذلك نزاع . وقال تعالى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] قال الحسن : بالمعاصي والكبائر، وعن عطاء : بالشرك والنفاق، وعن ابن السائب : بالرياء والسمعة، وعن مقاتل : بالمن . وذلك أن قومًا منوا بإسلامهم، فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر تحبط الأعمال .
فإن قيل : لم يرد إلا إبطالها بالكفر .
قيل : ذلك منهي عنه في نفسه، وموجب للخلود الدائم، فالنهي عنه لا يعبر عنه بهذا، بل يذكره على وجه التغليظ . كقوله : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] ونحوها . واللّه سبحانه في هذه وفي آية المن سماها إبطالا، ولم يسمه إحباطًا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } الآية [ محمد : 34 ] .
فإن قيل : المراد إذا دخلتم فيها فأتموها، وبها احتج من قال : يلزم التطوع بالشروع فيه .
قيل : لو قدر أن الآية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل، فإبطاله كله أولى، بدخوله فيها فكيف وذلك قبل فراغه لا يسمى صلاة ولا صومًا ؟ !(2/186)
ثم يقال : الإبطال يوجد قبل الفراغ أو بعده، وما ذكروه أمر بالإتمام، والإبطال هو إبطال الثواب، ولا نسلم أن من لم يتم العبادة يبطل جميع ثوابه، بل يقال : إنه يثاب على ما فعل من ذلك . وفي الصحيح حديث المفلس ( الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال ) .
وَسُئل الشَّيخُ الإمَامُ، العَالِمُ العَامل الحبر الكامل، شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية ـ أيده اللّه وزاده من فضله العظيم ـ عن ( الصبرالجميل ) و ( الصفح الجميل ) و ( الهجر الجميل ) وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس ؟
فأجاب ـ رحمه اللّه :
الحمد للّه، أما بعد : فإن اللّه أمر نبيه بالهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، فالهجر الجميل : هجر بلا أذى، والصفح الجميل : صفح بلا عتاب، والصبر الجميل : صبر بلا شكوى قال يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [ يوسف : 86 ] مع قوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] فالشكوى إلى اللّه لا تنافي الصبر الجميل، ويروي عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه كان يقول : ( اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك / المستغاث وعليك التكلان ) ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللّهم إلي من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبي حتى ترضى ) .(2/187)
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقرأ في صلاة الفجر : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [ يوسف : 86 ] ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف؛ بخلاف الشكوي إلى المخلوق . قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طاووسًا كره أنين المريض، وقال : إنه شكوى . فما أن حتى مات . وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال، إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس : ( إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه ) .
ولابد للإنسان من شيئين : طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور . فالأول هو التقوى، والثاني هو الصبر . قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } إلى قوله : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ، وقال تعالى : { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 118-125 ] ، وقال تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] وقد قال يوسف : { أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .(2/188)
ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين : المسارعة إلى فعل المأمور، والتقاعد عن فعل المحظور، والصبر والرضا بالأمر المقدور، وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة؛ بل ومن السالكين، فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن اللّه خالق كل شيء وربه، ولا يفرق بين ما يحبه اللّه ويرضاه، وبين ما يسخطه ويبغضه، وإن قدره وقضاه ولا يميز بين توحيد الألوهية، وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات ـ سعيدها وشقيها ـ مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبئ الكاذب، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء اللّه وأعداؤه، والملائكة المقربون والمردة الشياطين .
/فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية، وهو أن اللّه ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره . ولا يشهد الفرق الذي فرق اللّه به بين أوليائه وأعدائه . وبين المؤمنين والكافرين، والأبرار والفجار، وأهل الجنة والنار وهو توحيد الألوهية، وهو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، وفعل ما يحبه ويرضاه، وهو ما أمر اللّه به ورسوله أمر إيجاب، أو أمر استحباب، وترك ما نهى اللّه عنه ورسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان، فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء، ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإلا فهو من جنس المشركين، وهو شر من اليهود والنصارى .(2/189)
فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية . إذ هم يقرون بأن اللّه رب كل شيء كما قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84-89 ]
ولهذا قال سبحانه : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] قال بعض السلف : تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون اللّه وهم مع هذا يعبدون غيره .
فمن أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاؤوا بالأمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض . كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا } [ النساء : 150، 151 ] .(2/190)
وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية، وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ويسلك هذه الحقيقة، فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر اللّه الذي بعث به رسله، وبين من عصى اللّه ورسوله من الكفار والفجار، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى . لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار، وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين اللّه تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه .
/ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس .
ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا، فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب ـ سبحانه ـ وخاصمه كما نقل ذلك عنه .
فهذا التقسيم في القول والاعتقاد .
وكذلك هم في الأحوال والأفعال . فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي اللّه فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على مايصيبه من المقدور، فهو عند الأمر والنهي والدين والشريعة ويستعين باللّه على ذلك . كما قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .(2/191)
وإذا أذنب استغفر وتاب : لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات، بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به، كما في الحديث الصحيح الذي فيه : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) ، فيقر بنعمة / اللّه عليه في الحسنات، ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها، كما قال بعضهم : أطعتك بفضلك، والمنة لك وعصيتك بعلمك، والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي، إلا غفرت لي . وفي الحديث الصحيح الإلهي : ( ياعبادي إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غيرذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع .
وآخرون قد يشهدون الأمر فقط : فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة؛ لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر . وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر، ماليس عند أولئك؛ لكنهم لا يلتزمون أمر اللّه ورسوله واتباع شريعته، وملازمة ماجاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون اللّه ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه؛ والمؤمن يعبده ويستعينه .
والقسم الرابع شر الأقسام، وهو من لا يعبده ولا يستعينه، فلا هو مع الشريعة الأمرية؛ ولا مع القدر الكوني . وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو/ذلك؛ وما يكون بعده من صبر ورضا ونحوذلك، فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام .
أحدها : أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم اللّه عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة .(2/192)
والثاني : الذين لهم نوع من التقوى بلاصبر، مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات، لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه، أو ابتلى بعدو يخيفه عظم جزعه، وظهر هلعه .
والثالث : قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل الفجار الذين يصبرون علي مايصيبهم في مثل أهوائهم، كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها . وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس، وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام . وهؤلاء هم الذين يريدون علوًا في الأرض / أو فسادًا من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان، والاستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب : كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر .(2/193)
وأما القسم الرابع، فهو شر الأقسام : لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19-21 ] فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا . إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك، وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبًا . وأقلهم رحمة وإحسانًا وعفوًا، كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد : مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم . وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم، فالاعتبار بالحقائق : ( فإن اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .
/فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهًا لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو مايظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية، وأبعد عن الأخلاق الإسلامية، من التتار .(2/194)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته : ( خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) ، وإذا كان خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف، كان عن الكمال أبعد، وبالباطل أحق . والكامل هو من كان للّه أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر اللّه به ورسوله وأعظم موافقة للّه فيما يحبه ويرضاه، وصبرًا على ماقدره وقضاه، كان أكمل وأفضل . وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك .(2/195)
وقد ذكر اللّه ـ تعالى ـ الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاندين والمنافقين، وعلى من ظلمه من المسلمين، ولصاحبه تكون العاقبة، / قال الله تعالى : { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، وقال اللّه تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . هَاأَنْتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الْأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ آل عمران : 118-120 ] ، وقال إخوة يوسف له : { أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .(2/196)
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يونس : 109 ] .
وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها تصديقًا لخبر اللّه وطاعة لأمره وقال تعالى : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ . وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114، 115 ] ، وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ غافر : 55 ] ، وقال تعالى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ } [ طه : 130 ] ، وقال تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] ، وقال تعالى : { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر .(2/197)
وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] . وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها؛ فإن القسمة أيضًا رباعية، إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء، ومن يشبههن، ومنهم من لايصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع . والمحمود هو الذي يصبر ويرحم، كما قال الفقهاء في المتولي : ينبغي أن يكون قويًا من غير عنف، لينا من غير ضعف فبصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر ينصر العبد؛ فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه اللّه تعالى . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما يرحم اللّه من عباده الرحماء ) ، وقال : ( من لا يرحم لا يرحم ) ، وقال : ( لا تنزع الرحمة إلا من شقي ) ، وقال : ( الراحمون يرحمهم الرحمن، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) . واللّه أعلم . انتهى .
وَسُئلَ شَيْخُ الإسلام ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عما ذكر الأستاذ القشيري في ( باب الرضا ) عن الشيخ أبي سليمان أنه قال : الرضا ألاّ يسأل اللّه الجنة، ولا يستعيذ من النار، فهل هذا الكلام صحيح ؟
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، الكلام على هذا القول من وجهين :
أحدهما : من جهة ثبوته عن الشيخ .
والثاني : من جهة صحته في نفسه وفساده .(2/198)
أما المقام الأول : فينبغي أن يعلم أن الأستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد، وإنما ذكره مرسلًا عنه، وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم، تارة يذكره بإسناد، وتارة يذكره مرسلًا، وكثيرًا ما يقول : وقيل كذا ثم الذي يذكره بإسناد تارة يكون إسناده / صحيحًا، وتارة يكون ضعيفًا، بل موضوعًا . وما يذكره مرسلًا، ومحذوف القائل أولى، وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء، فإن فيها من الأحاديث والآثار ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو موضوع .
فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الآثار المنقولة، فيها الصحيح، وفيها الضعيف، وفيها الموضوع . وهذا الأمر متفق عليه بين جميع المسلمين لا يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا، بل نفس الكتب المصنفة في [ التفسير ] فيها هذا وهذا، مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولات وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم ؟ !
والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث، ويروون هذا تارة؛ لأنهم لم يعلموا أنه كذب، وهو الغالب على أهل الدين، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب، وتارة يذكرونه وإن علموا أنه كذب؛ إذ قصدهم رواية ما روي في ذلك الباب، ورواية
الأحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذبًا جائز . وأما روايتها مع الإمساك عن ذلك رواية عمل فإنه حرام عند العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) ـ . وقد فعل كثير من العلماء / متأولين أنهم لم يكذبوا، وإنما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل إذ رووه لتعريف أنه روى؛ لا لأجل العمل به ولا الاعتماد عليه .(2/199)
والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها : من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولات عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع . فالصحيح : الذي قامت الدلالة على صدقه، والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبه، والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه، إما لسوء حفظه وإما لاتهامه، ولكن يمكن أن يكون صادقًا فيه؛ فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ .
وغالب أبواب الرسالة فيها الأقسام الثلاثة . ومن ذلك : باب الرضا، فإنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ذاق طعم الإيمان من رضي باللّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ) . وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وإن كان الأستاذ لم يذكر أن مسلمًا رواه لكنه رواه، بإسناد صحيح .
وذكر في أول هذا الباب حديثًا ضعيفًا ـ بل موضوعا ـ وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر، فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب / فإن أحاديث الفضل بن عيسى من أوهى الأحاديث وأسقطها، ولا نزاع بين الأئمة أنه لا يعتمد عليها ولا يحتج بها؛ فإن الضعف ظاهر عليها وإن كان هو لا يتعمد الكذب، فإن كثيرًا من الفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب، وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن؛ حتى قال أيوب السختياني : لو ولد أخرس لكان خيرًا له، وقال سفيان بن عيينة : لا شيء، وقال الإمام أحمد والنسائي : هو ضعيف . وقال يحيى بن معين : رجل سوء . وقال أبو حاتم وأبو زرعة : منكر الحديث .(2/200)
وكذلك ما ذكره من الآثار؛ فإنه قد ذكر آثارًا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال : إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض، فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده، والشيخ أبو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشائخ وحكاياتهم، وصنف في الأسماء كتاب [ طبقات الصوفية ] وكتاب [ زهاد السلف ] وغير ذلك، وصنف في الأبواب كتاب [ مقامات الأولياء ] وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على الأقسام الثلاثة .
وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال : سمعت النصر آبادي يقول : من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ماجعل اللّه رضاه فيه، فإن هذا الكلام في غاية الحسن، فإنه من لزم مايرضى اللّه من امتثال / أوامره واجتناب نواهيه لا سيما إذا قام بواجبها ومستحبها فإن اللّه يرضى عنه، كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه اللّه، كما قال في الحديث الصحيح الذي في البخاري : ( من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته ) الحديث . وذلك أن الرضا نوعان :(2/201)
أحدهما : الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه . ويتناول ما أباحه اللّه من غيرتعد إلى المحظور، كما قال : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذم من تركه بقوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 58، 59 ] .
والنوع الثاني : الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء . وليس بواجب، وقد قيل : إنه واجب، والصحيح أن الواجب هو الصبر . كما قال الحسن : الرضا غريزة، ولكن الصبر معول المؤمن . وقد روى في حديث ابن عباس / أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا ) .(2/202)
وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان : فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فإن اللّه لا يرضاه كما قال : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] وقال : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] ، وقال تعالى : { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 96 ] ، وقال تعالى : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [ النساء : 93 ] ، وقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] ، وقال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ } [ التوبة : 68 ] ، وقال تعالى : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } [ المائدة : 80 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] فإذا كان اللّه ـ سبحانه ـ لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك، وهو يسخط عليهم، ويغضب عليهم، فكيف يشرع للمؤمن أن يرضى ذلك وألا يسخط ويغضب لما يسخط اللّه ويغضبه ؟ ! .
وإنما ضل هنا فريقان من الناس :(2/203)
قوم : من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى إرادته، وقد / علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلافًا للقدرية . وقالوا : هو أيضا محب لها مريد لها، ثم أخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقالوا : لا يحب الفساد، بمعنى لا يريد الفساد : أي لا يريده للمؤمنين، ولا يرضى لعباده الكفر : أي لا يريده لعباده المؤمنين . وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال : لا يحب الإيمان ولا يرضى لعباده الإيمان : أي لا يريده للكافرين، ولا يرضاه للكافرين، وقد اتفق أهل الإسلام على أن ما أمر اللّه به فإنه يكون مستحبًا يحبه . ثم قد يكون مع ذلك واجبًا، وقد يكون مستحبًا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل . والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والفريق الثاني : من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين : فشهدوا أن اللّه رب الكائنات جميعها، وعلموا أنه قدر على كل شيء وشاءه، وظنوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى قال بعضهم : المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب . قالوا : والكون كله مراد المحبوب . وضل هؤلاء ضلالًا عظيمًا، حيث لم يفرقوا بين الإرادة الدينية والكونية، والإذن الكوني والديني، والأمر الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني . كما بسطناه في غير هذا الموضع .(2/204)
/وهؤلاء يؤول الأمر بهم إلى ألا يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء اللّه وأعدائه، والأنبياء والمتقين . ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ويجعلون المتقين كالفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويعطلون الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والشرائع وربما سموا هذا : حقيقة، ولعمري إنه حقيقة كونية، لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الأصنام، كما قال : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } الآيات [ المؤمنون : 84، 85 ] .
فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرين بأن اللّه خالق كل شيء وربه ومليكه، فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان أقرب أن يكون كعباد الأصنام .
والمؤمن إنما فارق الكفر بالإيمان باللّه وبرسله، وبتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، واتباع ما يرضاه اللّه، ويحبه دون ما يقدر ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، ولكن يرضى بما أصابه من المصائب، لا بما فعله من المعائب . فهو من الذنوب يستغفر . وعلى المصائب يصبر، فهو كما قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب . كما / قال تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، وقال يوسف : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .(2/205)
والمقصود هنا : أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلام حيث قال : من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل اللّه رضاه فيه، وكذلك قول الشيخ أبي سليمان : إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض؛ وذلك أن العبد إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها، فإذا لم يحصل سخط، فإذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم اللّه له من الرزق، وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي : الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته، كلام حسن . لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل .
وكذلك ما ذكره معلقًا قال : قال الشبلي بين يدي الجنيد : لاحول ولا قوة إلا باللّه . فقال الجنيد : قولك ذا ضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء . فإن هذا من أحسن الكلام . وكان الجنيد ـ رضي اللّه عنه ـ سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا ـ وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ لا كلمة استرجاع، وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعًا لا صبرًا . فالجنيد / أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها، إذ كانت حالًا ينافى الرضا، ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه .(2/206)
وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقًا . قال : وقيل : قال موسى : ( إلهي، دلني على عمل إذا عملته رضيت عني . فقال : إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى ساجدًا متضرعًا . فأوحى اللّه إليه : يابن عمران، رضائي في رضاك عني ) ، فهذه الحكاية الإسرائيلية فيها نظر؛ فإنه قد يقال : لا يصلح أن يحكي مثلها عن موسى بن عمران . ومعلوم أن هذه الإسرائيليات ليس لها إسناد، ولا يقوم بها حجة في شيء من الدين، إلا إذا كانت منقولة لنا نقلًا صحيحًا، مثل ما ثبت عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل، ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه؛ فإن موسى من أعظم أولي العزم، وأكابر المسلمين؛ فكيف يقال : إنه لا يطيق أن يعمل ما يرضى اللّه به عنه ؟ ! واللّه تعالى راض عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان . أفلا يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن ؟ ! وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ . جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [ البينة : 7، 8 ] ومعلوم أن موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ من أفضل الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
/ثم إن اللّه خص موسى بمزية فوق الرضا، حيث قال : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [ طه : 39 ] . ثم إن قوله له في الخطاب : يابن عمران، مخالف لماذكره اللّه من خطابه في القرآن حيث قال : يا موسى، وذلك الخطاب فيه نوع غض منه كما يظهر . ومثل ما ذكر أنه قيل : كتب عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ إلى أبي موسى الأشعري أما بعد : فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر . فهذا الكلام كلام حسن . وإن لم يعلم إسناده .(2/207)
وإذا تبين أن فيما ذكره مسندًا ومرسلًا ومعلقًا ما هو صحيح وغيره، فهذه الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان إلا مرسلة . وبمثل ذلك لا تثبت عن أبي سليمان باتفاق الناس؛ فإنه وإن قال بعض الناس : إن المرسل حجة، فهذا لم يعلم أن المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف . فأما إذا عرف ذلك فلا يبقى حجة باتفاق العلماء . كمن علم أنه تارة يحفظ الإسناد وتارة يغلط فيه .
والكتب المسندة في أخبار هؤلاء المشائخ وكلامهم مثل كتاب " حلية الأولياء " لأبي نعيم، و " طبقات الصوفية " لأبي عبد الرحمن، و [ صفوة الصفوة ] لابن الجوزي . وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان . ألا ترى الذي رواه عنه مسندًا حيث قال : قال لأحمد بن أبي الحواري : يا أحمد، لقد أوتيت من الرضا / نصيبًا لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا . فهذا الكلام مأثور عن أبي سليمان بالإسناد؛ ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه أبي عبد الرحمن، بخلاف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه . فلا أصل لها عن الشيخ أبي سليمان .
ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال : وسئل أبو عثمان الحيري النيسابوري عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أسألك الرضا بعد القضاء ) ، فقال : لأن الرضا بعد القضاء هوالرضا . فهذا الذي قاله الشيخ أبوعثمان كلام حسن سديد . ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال : أرجو أن أكون قد عرفت طرفًا من الرضا . لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا .(2/208)
فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا . وإنما هو عزم على الرضا، وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء، وإن كان هذا عزمًا فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ، وما أكثر انفساخ العزائم خصوصًا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم : بماذا عرفت ربك ؟ قال : بفسخ العزائم ونقض الهمم . وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشائخ : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [ آل عمران : 143 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 2-4 ] وفي الترمذي أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لو علمنا أي العمل أحب إلى اللّه لعملناه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } الآية [ النساء : 77 ] . فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه، وأين ألم الجهاد من ألم النار ؟ وعذاب اللّه الذي لا طاقة لأحد به، ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول :
وليس لي في سواك حظ ** فكيفما شئت فاختبرني
فأخذه العسر من ساعته : أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول : ادعوا لعمكم الكذاب .(2/209)
وحكى أبو نعيم الأصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون : يارب، قد رضيت بكل ما تقضيه عليّ، فاحتبس بوله أربعة عشر يومًا، فكان يتلوى كما تتلوى الحية، يتلوى يمينًا وشمالًا، فلما / أطلق بوله، قال : ربي قد تبت إليك . قال أبو نعيم : فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدني بلوي، مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل، وله في المحبة مقام مشهور، حتى روى عن إبراهيم بن فاتك أنه قال : رأيت سمنونًا يتكلم على الناس في المسجد الحرام، فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده، ثم لم يزل يضرب بمنقاره الأرض حتى سقط منه دم؛ ومات الطائر . وقال : رأيته يومًا يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضًا .
وقد ذكر القشيري في ( باب الرضا ) عن رويم المقري ـ رفيق سمنون ـ حكاية تناسب هذا حيث قال : قال رويم : إن الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل اللّه أن يحولها عن يساره، فهذا يشبه قول سمنون : فكيف ما شئت فامتحني . وإذا لم يطق الصبر على عسر البول، أفيطيق أن تكون النار عن يمينه ؟
والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلاء وابتلى بعسر البول فغلبه الألم حتى قال : بحبي لك ألا فرجت عني؛ ففرج عنه .
ورويم ـ وإن كان من رفقاء الجنيد ـ فليس هو عندهم من هذه الطبقة، بل الصوفية يقولون : إنه رجع إلى الدنيا وترك التصوف؛ حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال : من أراد أن يستكتم سرًا / فليفعل . كما فعل رويم . كتم حب الدنيا أربعين سنة فقيل : وكيف يتصور ذلك ؟ قال : ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما مودة أكيدة، فجذبه إليه، وجعله وكيلًا على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات، وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حب الدنيا مالم يجدها، فلما وجدها أظهر ماكان يكتم من حبها . هذا مع أنه ـ رحمه اللّه ـ كان له من العبادات ما هو معروف وكان على مذهب داود .(2/210)
وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها لا تجعل طريقة ولا تتخذ سبيلًا؛ ولكن قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة، ونحو ذلك، وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق، وما يقدر عليه من التقوى والصبر وما لا يقدر عليه من التقوى والصبر، والرسل ـ صلوات اللّه عليهم ـ أعلم بطريق سبيل اللّه وأهدى وأنصح، فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصًا مخطئًا محرومًا، وإن لم يكن عاصيًا أو فاسقًا أو كافرًا .
ويشبه هذا الأعرابي الذي دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض كالفرخ فقال : ( هل كنت تدعو اللّه بشيء، قال : كنت أقول : اللّهم ما كنت معذبني به في الآخرة فاجعله في الدنيا، فقال : سبحان اللّه لا تستطيعه ولا تطيقه، هلا قلت : ربنا آتنا في / الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار ) فهذا أيضًا حمله خوفه من عذاب النار، ومحبته لسلامة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا، وكان مخطئا في ذلك غالطًا، والخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله ودينه وزهده وورعه وكراماته كثير جدًا، فليس من شرط ولي اللّه أن يكون معصومًا من الخطأ والغلط؛ بل ولا من الذنوب، وأفضل أولياء اللّه بعد الرسل أبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له لما عبر الرؤيا : ( أصبت بعضًا وأخطأت بعضا ) .(2/211)
ويشبه ـ واللّه أعلم ـ أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة ـ : لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا ـ أن يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال : الرضا ألا تسأل اللّه الجنة، ولا تستعيذه من النار . وتلك الكلمة التي قالها أبو سليمان، مع أنها لا تدل على رضاه بذلك، ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك، فنحن نعلم أن هذا العزم لا يستمر بل ينفسخ، وإن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها؛ وأنها مستدركة، كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك؛ فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقًا عظيمًا . فإن تلك الكلمة مضمونها : أن من سأل اللّه الجنة، واستعاذ من النار، لا يكون راضيًا .
وفرق بين من يقول : أنا إذا فعل كذا كنت راضيًا، وبين / من يقول : لا يكون راضيًا إلا من لا يطلب خيرًا، ولا يهرب من شر؛ وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلام، فإن الشيخ أبا سليمان من أجلاء المشائخ، وساداتهم ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه قال : إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة . فمن لا يقبل نكت قلبه إلا بشاهدين، يقول هذا مثل الكلام ؟ ! وقال الشيخ أبو سليمان أيضًا : ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورًا على نور؛ بل صاحبه أحمد بن أبي الحواري كان من أتبع المشائخ للسنة، فكيف أبو سليمان ؟ ! .
وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلام تظهر بالكلام في المقام الثاني وهو قول القائل كائنًا من كان : الرضا ألا تسأل اللّه الجنة، ولا تستعيذه من النار .(2/212)
ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب، وذلك أن قومًا كثيرًا من الناس، من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة، وغيرهم، ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس، وسماع أصوات طيبة، وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيمًا غير ذلك . ثم صاروا ضربين :
/ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم . كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم .
ومنهم من أقر بالرؤية، إما الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وإما برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم، أو جعلها بحاسة سادسة، ونحو ذلك
ًاالتي ذهب إليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلام المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية، وإن كان ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية . والنزاع بينهم لفظي، ونزاعهم مع أهل السنة معنوي؛ ولهذا كان بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلاء .
والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه، قالوا : لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم، كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالى الجويني في [ الرسالة النظامية ] ، وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه، ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلا ً يقول : أسألك لذة النظر إلى وجهك . فقال : يا هذا، هب أن له وجهًا، أله وجه يتلذذ بالنظر إليه ؟ ! وذكر أبو المعالي أن اللّه يخلق لهم نعيمًا ببعض المخلوقات مقارنًا للرؤية، فأما النعيم بنفس الرؤية فأنكره، وجعل هذا من أسرار التوحيد .(2/213)
/وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم، وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها، ومشائخ الطريق، كما في الحديث الذي في النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللّهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللّهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ) . وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد، يا أهل الجنة، إن لكم عند اللّه موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ؟ ويثقل موازيننا ؟ ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ) .
وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم، وهذا متفق عليه بين السلف والأئمة ومشائخ الطريق، كما روي عن الحسن البصري أنه قال : لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في / الدنيا شوقًا إليه، وكلامهم في ذلك كثير .(2/214)
ثم هؤلاء الذين وافقوا السلف والأئمة والمشائخ على التنعم بالنظر إلى اللّه تعالى، تنازعوا في مسألة المحبة التي هي أصل ذلك؛ فذهب طوائف من . . . والفقهاء إلى أن اللّه لا يُحَبُّ نَفْسُهُ، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا : هو أيضًا لا يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته للإحسان إليهم وولايتهم . ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد : كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء .
وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم، أستاذ الجهم بن صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري . وقال : أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا ثم نزل فذبحه .
والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق : أن اللّه يحب ويحب . ولهذا وافقهم على ذلك من تصوف من / أهل الكلام : كأبي القاسم القشيري؛ وأبي حامد الغزالي، وأمثالهما . ونصر ذلك أبو حامد في ( الإحياء ) وغيره . وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في ( الرسالة ) على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى بـ ( قوت القلوب ) وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية، استند في ذلك لما وجده من كتب الفلاسفة من إثبات نحو ذلك حيث قالوا : يعشق ويعشق .(2/215)
وقد بسط الكلام على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه . وقد قال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 24 ] ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان اللهّّ ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقى في النار ) .
والمقصود هنا أن هؤلاء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم ـ الذين ينكرون حقيقة المحبة ـ يلزمهم أن ينكروا التلذذ بالنظر إليه؛ ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إلا التنعم بالأكل والشرب، ونحو ذلك . وهذا القول باطل بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ومشائخها، فهذا أحد الحزبين الغالطين .
والضرب الثاني : طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة : / وافقوا هؤلاء على أن الجنة ليست إلا هذه الأمور التي يتنعم بها المخلوق؛ ولكن وافقوا السلف والأئمة على إثبات رؤية اللّه والتنعم بالنظر إليه، وأصابوا في ذلك وجعلوا يطلبون هذا النعيم، وتسمو إليه همتهم، ويخافون فوته، وصار أحدهم يقول : ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، أو خوفًا من نارك، ولكن لأنظر إليك وإجلالًا لك، وأمثال هذه الكلمات . مقصودهم بذلك : هو أعلى من الأكل والشرب والتمتع بالمخلوق، لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة . وقد يغلطون أيضًا في ظنهم أنهم يعبدون اللّه بلا حظ ولا إرادة، وإن كل ما يطلب منه فهو حظ النفس، وتوهموا أن البشر يعمل بلا إرادة ولا مطلوب ولا محبوب، وهو سوء معرفة بحقيقة الإيمان والدين والآخرة .(2/216)
وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه، حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها، فيظن أنه يفعل لغير مراده، والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه، وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات يكون لأحدهم وجد صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين كلامه، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب، مع صحة مقصوده؛ وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده .
فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام، إذا عنوا به طلب رؤية اللّه / تعالى أصابوا في ذلك، لكن أخطؤوا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجًا عن الجنة، فأسقطوا حرمة اسم الجنة، ولزم من ذلك أمور منكرة؛ نظير ما ذكر عن الشبلي ـ رحمه اللّه ـ أنه سمع قارئًا يقرأ : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } [ آل عمران : 152 ] . فصرخ وقال : أين مريد اللّه ؟ فيحمد منه كونه أراد اللّه؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا اللّه؛ وهذه الآية في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه بأحد، وهم أفضل الخلق، فإن لم يريدوا اللّه، أفيريد اللّه من هو دونهم . كالشبلي، وأمثاله ؟ !
ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] قال : فإذا كانت الأنفس والأموال في ثمن الجنة، فالرؤية بم تنال ؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال .(2/217)
والواجب أن يعلم أن كل ما أعده اللّه للأولياء من نعيم، بالنظر إليه وما سوى ذلك، هو في الجنة، كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار . وقد قال تعالى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول اللّه أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر بَلْهُ ما أطلعتهم عليه ) وإذا علم أن / جميع ذلك داخل في الجنة، فالناس في الجنة على درجات متفاوتة، كما قال : { انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } [ الإسراء : 21 ] وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غيرذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة .
وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء اللّه ورسله، وجميع أوليائه السابقين المقربين، وأصحاب اليمين . كما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض أصحابه : ( كيف تقول في دعائك ؟ ) قال : أقول : اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ أما إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ . فقال : ( حولهما ندندن ) فقد أخبر أنه هو صلى الله عليه وسلم ومعاذ ـ وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ـ إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومعاذ، ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار ؟ ! ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة .(2/218)
وأهل الجنة نوعان : سابقون مقربون، وأبرار أصحاب يمين . قال تعالى : { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ . كِتَابٌ مَرْقُومٌ . يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ . إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ . تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ . يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ . خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ . وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ . عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 18-28 ] قال ابن عباس : تمزج لأصحاب اليمين مزجًا ويشربها المقربون صرفًا .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى اللّه عليه عشرًا، ثم سلوا اللّه لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل اللّه لي الوسيلة، حلت عليه شفاعتي يوم القيامة ) ، فقد أخبر أن الوسيلة ـ التي لا تصلح إلا لعبد واحد من عباد اللّه ورجاء أن يكون هو ذلك العبد ـ هي درجة في الجنة، فهل بقى بعد الوسيلة شيء أعلي منها يكون خارجًا عن الجنة يصلح للمخلوقين ؟ !(2/219)
وثبت في الصحيح ـ أيضًا ـ في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال : ( فيقولون للرب تبارك وتعالى : وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ) . قال : ( فيقول : وما يطلبون ؟ قالوا : يطلبون الجنة ) . قال : ( فيقول : وهل رأوها ؟ ) قال : ( فيقولون : لا ) ، قال : ( فيقول : فكيف لو رأوها ؟ ! ) قال : ( فيقولون : لو رأوها لكانوا أشد لها طلبًا ) . قال : ( ومم يستعيذون ؟ ! ) قالوا : ( يستعيذون من النار ) . قال : ( فيقول : وهل رأوها ؟ ! ) قال : ( فيقولون : لا ) . قال : ( فيقول : / فكيف لو رأوها ؟ ) قالوا : ( لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة ) . قال : ( فيقول : أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون، وأعذتهم مما يستعيذون ) ـ أو كما قال ـ قال : ( فيقولون : فيهم فلان الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم ) ، قال : ( فيقول : هم القوم لايشقى بهم جليسهم ) . فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء اللّه كان مطلوبهم الجنة، ومهربهم من النار .
والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا بايع الأنصار ليلة العقبة، وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء المشائخ كلهم، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك قال : ( أشترط لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم، وأشترط لأصحابي أن تواسوهم ) . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : ( لكم الجنة ) . قالوا : مد يدك فواللّه لا نقيلك، ولا نستقيلك . وقد قالوا له في أثناء البيعة : إن بيننا وبين القوم حبالًا وعهودًا وإنا ناقضوها .(2/220)
فهؤلاء الذين بايعوه من أعظم خلق اللّه محبة للّه ورسوله، وبذلًا لنفوسهم وأموالهم في رضا اللّه ورسوله، على وجه لا يلحقهم فيه أحد من هؤلاء المتأخرين، قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة، فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه، ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه، فإن / الطلب والحب والإرادة فرع عن الشعور والإحساس والتصور، فما لا يتصوره الإنسان ولا يحسه ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا . كما قال تعالى : { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ ق : 35 ] ، وقال : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] ففيها ما يشتهون، وفيها مزيد على ذلك، وهو مالم يبلغه علمهم ليشتهوه . كماقال صلى الله عليه وسلم : ( مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) وهذا باب واسع .(2/221)
فإذا عرفت هذه المقدمة، فقول القائل : الرضا ألا تسأل اللّه الجنة، ولا تستعيذه من النار، إن أراد بذلك ألا تسأل اللّه ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية، فلا تسأله النظر إليه، ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء، وإنك لا تستعيذ به من احتجابه عنك، ولا من تعذيبك في النار . فهذا الكلام مع كونه مخالفًا لجميع الأنبياء والمرسلين، وسائر المؤمنين، فهو متناقض في نفسه، فاسد في صريح العقول، وذلك أن الرضا الذي لا يسأل، إنما لا يسأله لرضاه عن اللّه . ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به، ومحبته له، وإذا لم يبق معه رضا عن اللّه ولا محبة للّه فكأنه قال : يرضى ألا يرضى وهذا جمع بين النقيضين . ولا ريب أنه كلام من لم يتصور ما يقول، ولا عقله، يوضح ذلك أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره والآلام / ما يجده من لذة الرضا وحلاوته، فإذا فقد تلك الحلاوة واللذة امتنع أن يتحمل ألمًا ومرارة، فكيف يتصور أن يكون راضيًا، وليس معه من حلاوة الرضا ما يحمل به مرارة المكاره ؟ وإنما هذا من جنس كلام السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلاوة الرضا، فظن أن هذا يبقى معه على أي حال كان، وهذا غلط عظيم منه : كغلط سمنون كما تقدم .
وإن أراد بذلك ألا يسأل التمتع بالمخلوق، بل يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين :
من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة .(2/222)
ومن جهة أنه ـ أيضًا ـ أثبت أنه طالب مع كونه راضيًا، فإذا كان الرضا لا ينافى هذا الطلب، فلا ينافي طلبًا آخر إذا كان محتاجًا إلى مطلوبه؛ ومعلوم أن تمتعه بالنظر لا يتم إلا بسلامته من النار، وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر، وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب؛ فيكون طلبه للنظر طلبًا للوازمه التي منها النجاة من النار، فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه . ولا طلب حصول الجنة ودفع النار ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر، فتبين تناقض قوله .
/وأيضًا فإذا لم يسأل اللّه الجنة، ولم يستعذ به من النار، فإما أن يطلب من اللّه ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب منفعة ودفع مضرة . وإما ألا يطلبه، فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى، واستعاذته من النار أولى . وإن كان الرضا ألا يطلب شيئًا قط، ولو كان مضطرًا إليه، ولا يستعيذ من شيء قط وإن كان مضرًا، فلا يخلو : إما أن يكون ملتفتًا بقلبه إلى اللّه في أن يفعل به ذلك، وإما أن يكون معرضًا عن ذلك، فإن التفت بقلبه إلى اللّه فهو طالب مستعيذ بحاله، ولا فرق بين الطلب بالحال والقال، وهو بهما أكمل وأتم فلا يعدل عنه .
وإن كان معرضًا عن جميع ذلك، فمن المعلوم أنه لا يحيا ويبقى إلا بما يقيم حياته، ويدفع مضاره بذلك، والذي به يحيا من المنافع ودفع المضار، إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد، أو لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده . فإن أحبه وطلبه وأراده من غير اللّه كان مشركًا مذمومًا، فضلا عن أن يكون محمودًا . وإن قال : لا أحبه وأطلبه وأريده لا من اللّه ولا من خلقه . قيل : هذا ممتنع في الحي، فإن الحي ممتنع عليه ألا يحب ما به يبقى، وهذا أمر معلوم بالحس، ومن كان بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا، فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة، إذ الرضا مستلزم لذلك . فكيف يسلب عنه ذلك كله ؟ / فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلام .(2/223)
وأما في سبيل اللّه وطريقه ودينه فمن وجوه :
أحدها أن يقال : الراضي لابد أن يفعل ما يرضاه اللّه، وإلا فكيف يكون راضيًا عن اللّه من لا يفعل ما يرضاه اللّه ؟ وكيف يسوغ رضا ما يكرهه اللّه ويسخطه ويذمه، وينهي عنه .
وبيان هذا : أن الرضا المحمود إما أن يكون اللّه يحبه ويرضاه، وإما ألا يحبه ويرضاه، فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم يكن هذا الرضا مأمورًا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب؛ فإن من الرضا ما هو كفر، كرضا الكفار بالشرك، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، ورضاهم بما يسخطه اللّه ويكرهه . قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] ، فمن اتبع ما أسخط اللّه برضاه وعمله فقد أسخط اللّه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الخطيئة إذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها، ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم ولكن من رضى وتابع هلك ) . وقال تعالى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 96 ] فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه اللّه ويرضاه، وهو لا يرضى عنهم . وقال تعالى : { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] فهذا رضا قد ذمه اللّه . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } [ يونس : 7 ] فهذا أيضًا رضا مذموم، وسوى هذا، وهذا كثير .(2/224)
فمن رضى بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبعًا لرضا اللّه ولا هو مؤمن باللّه . بل هو مسخط لربه، وربه غضبان عليه، لاعن له، ذام له، متوعد له بالعقاب .
وطريق اللّه التي يأمر بها المشائخ المهتدون : إنما هي الأمر بطاعة اللّه والنهي عن معصيته . فمن أمر أو استحب أو مدح الرضا الذي يكرهه اللّه ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو للّه لا ولى للّه وهو يصد عن سبيل اللّه وطريقه، ليس بسالك لطريقه وسبيله . وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه اللّه، ومنه ما يكرهه ويسخطه، ومنه ما هو مباح لا من هذا ولا من هذا، كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك، كلها تنقسم إلى محبوب للّه ومكروه للّه مباح .
/فإذا كان الأمر كذلك فالراضي الذي لا يسأل اللّه الجنة ولا يستعيذه من النار يقال له : سؤال اللّه الجنة واستعاذته من النار إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون مستحبة، وإما أن تكون مباحة، وإما أن تكون مكروهة، ولا يقول مسلم : إنها محرمة ولامكروهة، وليست أيضًا مباحة مستوية الطرفين . ولو قيل : إنها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين لا ينافي الرضا؛ إذ ليس من شرط الراضي ألا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يفعل أمثال هذه الأمور، فإذا كان ما يفعله من هذه الأمور لا ينافي رضاه، أينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح ؟ ! وإذا كان السؤال والدعاء كذلك واجبا أو مستحبا فمعلوم أن اللّه يرضى بفعل الواجبات والمستحبات، فكيف يكون الراضي الذي من أولياء اللّه لا يفعل ما يرضاه ويحبه؛ بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة أعداء اللّه لا أولياء اللّه .(2/225)
والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال : اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء اللّه الذي أمر بالرضا به، إذ ليس كل ماهو بقضائه يجوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به . كالمعاصي وفنون محن المسلمين . وهذا الذي قاله، قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء : كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى وأمثالهما، لما احتج عليهم القدرية بأن الرضا بقضاء اللّه مأمور به، فلو كانت المعاصي / بقضاء اللّه لكنا مأمورين بالرضا بها، والرضا بما نهى اللّه عنه لا يجوز فأجابهم أهل السنة عن ذلك بثلاثة أجوبة :
أحدها ـ وهو جواب هؤلاء وجماهير الأئمة ـ : أن هذا العموم ليس بصحيح، فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى وقدر، ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك، ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به، كطاعة اللّه ورسوله . وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم .
والجواب الثاني : أنهم قالوا : إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة اللّه أو فعله لا بالمقضي الذي هو مفعوله . وفي هذا الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع .
الثالث : أنهم قالوا : هذه المعاصي لها وجهان : وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه، ووجه إلى الرب من حيث هو خلقها وقضاها وقدرها، فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى اللّه، ولا يرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد، إذ كونها شرًا وقبيحة ومحرمًا وسببًا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد . وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والأسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع، ولا يحتمله هذا المكان . فإن / هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر، وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الأولين والآخرين وأدقها على عقول أكثر العالمين .(2/226)
والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائزًا، ومنه مالا يكون جائزًا فضلا عن كونه مستحبًا أو من صفات المقربين، وإن أبا القاسم ذكر ذلك في [ الرسالة ] أيضًا .
فإن قيل : هذا الذي ذكرتموه أمر بين واضح، فمن أين غلط من قال : الرضا ألا تسأل اللّه الجنة ولا تستعيذه من النار ؟ وغلط من يستحسن مثل هذا الكلام كائنا من كان ؟ .
قيل : غلطوا في ذلك لأنهم رأوا أن الراضي بأمر لا يطلب غير ذلك الأمر، فالعبد إذا كان في حال من الأحوال فمن رضاه ألا يطلب غير تلك الحال، ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة، وأقصى المكاره النار . فقالوا : ينبغي ألايطلب شيئًا ولو أنه الجنة ولا يكره ما يناله، ولو أنه النار، وهذا وجه غلطهم، ودخل عليهم الضلال من وجهين :
أحدهما : ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه اللّه ويرضاه / وأن هذا من أعظم طرق أولياء اللّه، فجعلوا الرضا بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريقًا إلى اللّه، فضلوا ضلالًا مبينًا والطريق إلى اللّه إنما هي أن ترضيه بأن تفعل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل ما يحدث ويكون، فإنه هو لم يأمرك بذلك، ولا رضيه لك ولا أحبه؛ بل هو ـ سبحانه ـ يكره ويسخط ويبغض على أعيان أفعال موجودة لا يحصيها إلا هو، وولاية اللّه موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض، وتكره ما يكره، وتسخط ما يسخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي، فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنت عدوه لا وليّه، وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط اللّه قد نالك .
فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من لا يحصيهم إلا اللّه .
الوجه الثاني : أنهم لا يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب، وأمر استحباب، وبين الدعاء الذي نهوا عنه، أو لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه، فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلاثة أنواع :(2/227)
نوع أمر العبد به إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب : مثل / قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] ، ومثل دعائه في آخر الصلاة كالدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر به أصحابه فقال : ( إذا قعد أحدكم في الصلاة فليستعذ باللّه من أربع : من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال ) . فهذا دعاء أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوا به في آخر صلاتهم . وقد اتفقت الأمة على أنه مشروع يحبه اللّه ورسوله ويرضاه، وتنازعوا في وجوبه . فأوجبه طاووس وطائفة، وهو قول في مذهب أحمد رضي اللّه عنه، والأكثرون قالوا : هذا مستحب، والأدعية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها : لا تخرج عن أن تكون واجبة، أو مستحبة، وكل واحد من الواجب والمستحب يحبه اللّه ويرضاه، ومن فعله ـ رضي اللّه عنه وأرضاه ـ فهل يكون من الرضا ترك ما يحبه ويرضاه ؟ !(2/228)
ونوع من الدعاء ينهي عنه : كالاعتداء مثل أن يسأل الرجل مالا يصلح من خصائص الأنبياء، وليس هو بنبي، وربما هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى . مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي لا تصلح إلا لعبد من عباده، أو يسأل اللّه تعالى أن يجعله بكل شيء عليمًا، أو على كل شيء قدير، وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب . وأمثال ذلك، أو مثل من يدعوه ظانًا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل، ويذكر أنه إذا لم يفعله / حصل له من الخلق ضير . وهذا ونحوه جهل بالله واعتداء في الدعاء . وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ . ومثل أن يقولوا : اللهم اغفر لي إن شئت، فيظن أن الله قد يفعل الشىء مكرها، وقد يفعل مختارًا، كالملوك، فيقول : اغفر لي إن شئت، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : ( لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له ) ، ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق، وأمثال ذلك فهذه الأدعية ونحوها منهي عنها .
ومن الدعاء ما هو مباح كطلب الفضول التي لامعصية فيها .
والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق الله لا يتضمن ترك واجب ولا ترك مستحب، فالدعاء الذي هو واجب أو مستحب لا يكون تركه من الرضا، كما أن ترك سائر الواجبات لا يكون من الرضا المشروع، ولا فعل المحرمات من المشروع . فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور، ومن جهة أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع إيجابا، واستحبابا، والدعاء غير المشروع .(2/229)
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن طلب الجنة من الله، والاستعاذة به من النار، هو من أعظم الأدعية المشروعة لجميع المرسلين / والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجبًا أو مستحبا، وطريق أولياء الله التي يسلكونها لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو مباح لا منفعة فيه في الدين .
ثم إنه لما أوقع هؤلاء في هذا الغلط أنهم وجدوا كثيرًا من الناس لا يسألون الله جلب المنافع، ودفع المضار، حتى طلب الجنة، والاستعاذة من النار، من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيرًا، بل من جهة كون النفس تطلب ذلك، فرأوا أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريده، وألا يكون لأحدهم إرادة أصلا، بل يكون مطلوبه الجريان تحت القدر ـ كائنًا من كان ـ وهذا هو الذي أدخل كثيرًا منهم في الرهبانية، والخروج عن الشرعية، حتى تركوا من الأكل والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه، وما لا تتم مصلحة دينهم إلا به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه الأمور بحكم الطبع والهوى والعادة، ومعلوم أن الأفعال التي على هذا الوجه لا تكون عبادة ولا طاعة ولا قربة، فرأي أولئك الطريق إلي الله ترك هذه العبادات، والأفعال الطبعيات، فلازموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق، ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات، وفعل مكروهات ومحرمات .(2/230)
/وكلا الأمرين غير محمود، ولا مأمور به، ولا طريق إلى اللّه : طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الأفعال المحتاج إليها على غير وجه العبادة، والتقرب إلى اللّه، وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الأفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية التقرب إلى اللّه، وأن يشكر اللّه . قال اللّه تعالى : { كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [ المؤمنون : 51 ] ، وقال تعالى : { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } [ البقرة : 172 ] ، فأمر بالأكل والشرب، فمن أكل ولم يشكر كان مذمومًا، ومن لم يأكل ولم يشكر كان مذمومًا، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك ) ، وفي الصحيح أيضًا أنه قال : ( نفقة المؤمن على أهله يحتسبها صدقة ) . فكذلك الأدعية هنا من الناس من يسأل اللّه جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه طبعًا وعادة لا شرعًا وعبادة، فليس من المشروع أن أدع الدعاء مطلقًا لتقصيرهذا وتفريطه؛ بل أفعله أنا شرعًا وعبادة .(2/231)
ثم اعلم أن الذي يفعله شرعًا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه وآخرته؛ بخلاف / الذي يفعله طبعًا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط، كما قال تعالى : { فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ البقرة : 200-202 ] وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار إنما يطلب حسنة الآخرة فهو محمود .
ومما يبين الأمر في ذلك أن يرد قول هؤلاء : بأن العبد لا يفعل مأمورًا ولا يترك محظورًا . فلا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق، ولا يحج ولا يجاهد ولا يفعل شيئًا من القربات، فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب . فإذا كان هو لا يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة، ولا دفع العقاب الذي هو النار، فلا يفعل مأمورًا، ولا يترك محظورًا، ويقول : أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول : أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه، وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم .
أما جهله وحمقه؛ فلأن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لأن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين .
/وأما كفره؛ فلأنه مستلزم لتعطيل دين اللّه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه .
ولا ريب أن ملاحظة القضاء والقدر، أوقعت كثيرًا من أهل الإرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين، وإما عاصين فاسقين، وإما كافرين، وقد رأيت من ذلك ألوانا . { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [ النور : 40 ] .(2/232)
وهؤلاء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض ـ هؤلاء يلاحظون القدر ويعرضون عن الأمر . وأولئك يلاحظون الأمر ويعرضون عن القدر ـ والطائفتان تظن أن ملاحظة الأمر والقدر متعذر . كما أن طائفة تجعل ذلك مخالفًا للحكمة والعدل . وهذه الأصناف الثلاثة هي : القدرية المجوسية، والقدرية المشركية؛ والقدرية الإبليسية؛ وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع .
وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الإرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية، فيشهدون القدر ويعرضون عن الأمر، كما قال فيهم بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به . وإنما المشروع العكس، وهو أن يكون عند الطاعة يستعين اللّه عليها قبل الفعل، ويشكره عليها بعد الفعل / ويجتهد ألا يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والاستغفار، كما في حديث سيد الاستغفار : ( أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي ) ، وكما في الحديث الصحيح الإلهي : ( ياعبادي، إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الإرادة في ترك الدعاء، وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة، وأمثال هذه الأغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلام هؤلاء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة، حتى قال سهل بن عبد اللّه التستري : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل . وقال الجنيد بن محمد : علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصح أن يتكلم في علمنا، واللّه أعلم .
معنى الفقر )
وسئل :(2/233)
ما تقول الفقهاء - رضي اللّه عنهم- في رجل يقول : إن الفقر لم نتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى، وأنه غير سبيل موصل إلى رضا اللّه تعالى وإلى رضا رسوله، وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب نهيه من كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،وإن أصل كل شيء العلم والتعبد به والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، [ والفقر ] المسمى على لسان الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي فيكون الزهد في الدنيا العمل بالعلم، وهذا هو الفقر، فإذا الفقر فرع من فروع العلم،والأمر على هذا . وما ثم طريق أوصل من العلم والعمل بالعلم، على ما صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويقول : إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاحات المعتادة غير مرضى للّه ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك ؟ أفتونا مأجورين .
/ فأجاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية ـ رضي اللّه عنه ـ :
الحمد للّه . أصل هذه [ المسألة ] أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه، مثل لفظ الإيمان، والبر، والتقوى، والصدق، والعدل، والإحسان، والصبر، والشكر، والتوكل، والخوف والرجاء، والحب للّه، والطاعة للّه وللرسول، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه اللّه ورسوله من القلب والبدن . فهذه الأمور التي يحبها اللّه ورسوله هي الطريق الموصل إلى اللّه، مع ترك ما نهى اللّه عنه ورسوله : كالكفر، والنفاق والكذب، والإثم والعدوان، والظلم والجزع والهلع، والشرك والبخل والجبن، وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك . فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر اللّه به ورسوله فيفعله، وما نهى اللّه عنه ورسوله فيتركه . هذا هو طريق اللّه وسبيله ودينه الصراط المستقيم . صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .(2/234)
وهذا [ الصراط المستقيم ] يشتمل على علم وعمل : علم شرعي، وعمل شرعي، فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرا، ومن عمل بغيرعلم كان ضال ًا، وقد أمرنا اللّه ــ سبحانه ــ أن نقول : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ سورة الفاتحة ] . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم، والنصارى /ضالون ) وذلك إن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا اللّه بغير علم .
ولهذا كان السلف يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون . وكانوا يقولون : من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود؛ ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى . فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضل ًا، ومن دعا إلى العمل دون العلم كان مضلًا، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع؛ فيتبع أمورا تخالف الكتاب والسنة يظنها علوما وهي جهالات . وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع . فيعمل أعمالًا تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات . فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر . يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل، والعمل دون العلم، ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة . وطريق اللّه لا تتم إلا بعلم وعمل، يكون كلاهما موافقا الشريعة .
فالسالك طريق [ الفقر والتصوف والزهد والعبادة ] إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالًا عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه . والسالك من [ الفقه والعلم والنظر والكلام ] إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق . فهذا هو /الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم .
وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من اللّه فهو من عمل الجاهلية : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] .(2/235)
ولا ريب أن لفظ [ الفقر ] في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق اللّه، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك؛ بل الفقر عندهم ضد الغنى . والفقراء هم الذين ذكرهم اللّه في قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] وفي قوله : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } [ البقرة : 273 ] وفي قوله : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } [ الحشر : 8 ] والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي تجب عليه الزكاة، أو ما يشبه ذلك؛ لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعا أو كرها؛ إذ من العصمة ألا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى، وقد يكون مع الفقر . ففي الأنبياء والسابقين والأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير .
و [ الزهد ] المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة اللّه فليس تركه من الزهد المشروع/ بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة اللّه ورسوله هو المشروع . وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو الصفا أو الصف الأول، أو صوفة بن بشر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى؛ لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين اللّه تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه .(2/236)
ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وكان من القدرية كالمعتزلة ونحوهم،الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب ــ سبحانه ــ وخاصمه، كما نقل ذلك عنه . فهذا التقسيم في القول والاعتقاد .
وكذلك هم في [ الأحوال، والأفعال ] فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي اللّه فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر علي ما يصيبه / من المقدور، فهو عند الأمر والدين والشريعة، ويستعين باللّه علي ذلك، كما قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات؛ بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به، كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد : ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك مااستطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) فيقر بنعمة اللّه عليه في الحسنات . ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى . ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها . كما قال بعضهم : أطعتك بفضلك، والمنة لك . وعصيتك بعلمك، والحجة لك . فأسألك بوجوب حجتك علي، وانقطاع حجتي إلا غفرت لي .
وفي الحديث الصحيح الإلهي : ( يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها،فمن وجد خيرا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع .(2/237)
وآخرون قد يشهدون [ الأمر ] فقط، فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة، لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب/ لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر . وآخرون يشهدون [ القدر ] فقط، فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر اللّه ورسوله، واتباع شريعته، وملازمته ما جاء به الكتاب والسنة من الدين . فهؤلاء يستعينون اللّه ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه، والمؤمن يعبده ويستعينه .
والقسم الرابع : شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه،فلا هو مع الشريعة الأمرية، ولا مع القدر الكوني . وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل المقدور من توكل واستعانة، ونحو ذلك . وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك، فهم في التقوى هي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام :
أحدها : أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم اللّه عليهم أهل السعادة في الدنيا والآخرة .
والثاني : الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات؛ لكن إذا أصيب أحدهم/ في بدنه بمرض ونحوه أو ماله أو في عرضه، أو ابتلى بعدو يخيفه، عظم جزعه، وظهر هلعه .
والثالث : قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى : مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص، والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب، وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس .(2/238)
وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام، وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرياسة، والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك، يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب : كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر .
/وأما القسم الرابع : فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19- 21 ] . فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم ذلوا لك، ونافقوك، وحبوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل، وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس، وأقساهم قلبا، وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا . كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد : مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، ومن يشبههم في كثير من أمورهم، وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق . فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .(2/239)
فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم، كان شبيها لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبه : ( خير الكلام كلام اللّه، و خير/ الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) .
وإذ كان خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب، وهو به أشبه، كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف، كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق . والكامل هو من كان للّه أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر اللّه به ورسوله، وأعظم موافقة للّه فيما يحبه ويرضاه، وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك .(2/240)
وقد ذكر اللّه تعالى الصبر والتقوى جميعا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين والمعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة، قال اللّه تعالى : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] وقال اللّه تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } آل عمران : 186 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌِ } [ آل عمران : 118 : 120 ] وقال إخوة يوسف له : { أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ّ } [ يوسف : 90 ] .(2/241)
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يونس : 109 ] . وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها : تصديقًا لخبر اللّه، وطاعة لأمره، وقال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114، 115 ] .
وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ غافر : 55 ] . وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ طه : 130 ] وقال تعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ َ } [ البقرة : 45 ] وقال تعالى : { اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر .(2/242)
/وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها، فإن القسمة أيضا رباعية . إذ من الناس من يصبر ولا يرحمك كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر : كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع،والمحمود هو الذي يصبر ويرحم؛ كما قال الفقهاء في صفة المتولي : ينبغي أن يكون قويا من غير عنف، لينا من غير ضعف، فبصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر ينصرالعبد، فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه اللّه تعالى . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما يرحم اللّه من عباده الرحماء ) ، وقال : ( من لم يرحم لا يرحم ) ، وقال : ( لا تنزع الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) . واللّه أعلم، انتهى .
فصل
وأما قوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } [ الكهف : 28 ] فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف؛ مثل الذين يصلون الفجر والعصر في جماعة، فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، سواء كانوا من [ أهل الصفة ] أو غيرهم، أمر اللّه نبيه بالصبر مع عباده الصالحين؛ الذين يريدون وجهه، وإلا تعد عيناه عنهم، تريد زينة الحياة الدنيا . وهذه الآية في الكهف وهي سورة مكية . وكذلك الآية التي في سورة الأنعام : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 52 ] .(2/243)
/وقد روى أن هاتين الآيتين نزلنا في المؤمنين المستضعفين لما طلب المتكبرون أن يبعدهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه فنهاه الله عن طرد من يريد وجه الله وإن كان مستضعفا ثم أمره بالصبر معهم، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة وقبل وجود الصفة؛ لكن هي متناولة لكل من كان بهذا الوصف من أهل الصفة وغيرهم .
والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذين هم أولياء الله وإن كانوا فقراء ضعفاء، ولا يتقدم أحد عند الله بسلطانه وماله ولا بذله وفقره، وإنما يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح، فنهى اللّه نبيه أن يطيع أهل الرياسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفًا أو فقيرًا وأمره ألا يطرد من كان منهم يريد وجهه، وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر فيها بالاجتماع بهم، كصلاة الفجر والعصر، ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر اللّه المتبعين لأهوائهم .
وسئل عمن قال : إن [ الفقير، والغنى ] لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى . فمن كان أتقى لله كان أفضل وأحب إلى الله تعالى . وإن الحديث الصحيح الذى قال فيه صلى الله عليه وسلم : ( يدخل فقراء أمتى الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ) هذا في حق ضعفاء المسلمين، وصعاليكهم القائمين بفرائض الله تعالى، وليس مختصًا بمجرد ما عرف واشتهر في هذه الأعصار المتأخرة، من السجاد والمرقعة والعكاز، والألفاظ المنمقة، بل هذه الهيئات المعتادة في هذه الأزمنة مخترعة مبتدعة، فهل الأمر على ما ذكر أم لا؟
فأجاب ـ رضى الله عنه :(2/244)
الحمد لله رب العالمين، قد تنازع كثير من متأخرى المسلمين في [ الغنى الشاكر، والفقير الصابر ] أيهما أفضل؟ فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد، ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد، وقد حكى في ذلك عن الإمام أحمد روايتان . وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين/ على الآخر . وقال طائفة ثالثة : ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، وإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة، وهذا أصح الأقوال؛ لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى . وقد قال الله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] .
وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام . كحال نبينا صلى الله عليه وسلم، وحال أبي بكر وعمر ــ رضى الله عنهما ــ ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع لآخرين، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، كما في الحديث الذى رواه البغوى وغيره ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى . ولو أفقرته لأفسده ذلك . وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر . ولو أغنيته لأفسده ذلك . وإن من عبادى من لا يصلحه إلا السقم . ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادي إني بهم خبير بصير ) .(2/245)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ) وفي الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلوات سمع بذلك الأغنياء فقالوا مثل /ما قالوا . فذكر ذلك الفقراء للنبيصلى الله عليه وسلم، فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه، وإن تأخر في الدخول، كما أن السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، وقد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم . وصلى الله وسلم على محمد .
فصل
قد كثر تنازع الناس : أيهما أفضل [ الفقير الصابر،أو الغنى الشاكر ] ؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعرفة، والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية، والعامة والرؤساء وغيرهم . وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب [ التمام لكتاب الروايتين والوجهين ] لأبيه فيها عن أحمد روايتين :
إحداهما : أن الفقير الصابر أفضل . وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحق بن شاقلا، ووالده القاضي أبو يعلى، ونصرها هو .(2/246)
والثانية : أن الغني الشاكر أفضل، اختاره جماعة منهم ابن قتيبة . و [ القول الأول ] يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه / والصلاح، من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره و [ القول الثاني ] يرجحه طائفة منهم، كأبي العباس بن عطاء [ أبو العباس بن عطاء : هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمىّ البغدادى، الزاهد العابد المتأله، حدث عن : يوسف بن موسى القطان، وعنه محمد بن على بن حُبيش، وقال : كان له في كل يوم ختمة، وكان ينام في اليوم والليلة ساعتين، وقيل عنه : إنه فقد عقله ثمانية عشر عاما، ثم ثاب إليه عقله، وتوفي سنة تسع وثلاثمائة من ذى القعدة، [ سير أعلام النبلاء 14/255، 256 ] . وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعًا، وهو غلط .
وفي المسألة [ قول ثالث ] وهو الصواب أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقًا، ولا هذا أفضل من هذا مطلقًا بل أفضلهما أتقاهما . كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، وقال عمر بن الخطاب : الغنى والفقر مطيتان، لا أبالى أيتهما ركبت، وقد قال تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] وهذا القول اختيار طائفة منهم الشيخ ابن حفص السهروردي، وقد يكون هذا أفضل لقوم، في بعض الأحوال . وهذا أفضل لقوم في بعض الأحوال، فإن استويا في سبب الكرامة استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما الآخر في سببها ترجح عليه، هذا هو الحكم العام .(2/247)
والفقر والغنى حالان يعرضان للعبد باختياره تارة وبغير اختياره أخرى كالمقام والسفر، والصحة والمرض، والإمارة والائتمار، والإمامة والائتمام . وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر، بل قد يكون هذا أفضل في حال، وهذا في حال، وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في [ شرح السنة ] للبغوى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى : ( وإن من عبادي من / لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادى، إنى بهم خبير بصير ) .
وفي هذا المعنى ما يروى : ( إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب ) ، ويروى في مناجاة موسى نحو هذا . ذكره أحمد في الزهد . فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) .
وكما أن الأقوال في المسألة [ ثلاثة ] فالناس [ ثلاثة أصناف ] : غنى، وهو من ملك ما يفضل عن حاجته، وفقير، وهو من لا يقدر على تمام كفايته، وقسم ثالث : وهو من يملك وفق كفايته، ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيًا : كإبراهيم الخليل وأيوب، وداود وسليمان، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين .(2/248)
/وفيهم من كان فقيرًا : كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا وعلى بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسي ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق، من النبيين والصديقين، وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران : الغنى تارة والفقر أخرى؛ وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء : كنبينا صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر .
والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط؛ فإن الله في القرآن لم يفضل أحدا بفقر، ولا غنى، كما لم يفضل أحدًا بصحة ولا مرض، ولا إقامة ولا سفر، ولا إمارة ولا ائتمار، ولا إمامة ولا ائتمام، بل قال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وفضلهم بالأعمال الصالحة : من الإيمان ودعائمه، وشعبه كاليقين والمعرفة، ومحبة الله والإنابة إليه، والتوكل عليه ورجائه، وخشيته وشكره والصبر له . وقال في آية العدل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } [ النساء : 135 ] .
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يعدلون بين المسلمين . غنيهم وفقيرهم في أمورهم . ولما طلب بعض الأغنياء من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الفقراء نهاه الله عن ذلك . وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } الآية [ الأنعام : 52 ] ، /وقال : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف : 28 ] . ولما طلب بعض الفقراء من النبي صلى الله عليه وسلم مالا يصلح له نهاه عن ذلك، وقال : ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا . وإني أحب لك ما أحب لنفسي . لا تأمرن على اثنين . ولا تولين مال يتيم ) .(2/249)
وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغير ذلك . و من اختص منهم بفضل عرف النبيصلى الله عليه وسلم له ذلك الفضل، كما قنت للقراء السبعين، وكان يجلس مع أهل الصفة، وكان أيضًا لعثمان وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد ابن بشر ونحوهم، من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء، وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء . وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد، وابن المبارك ومالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، في معاملتهم للأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء .
وفي الأئمة كالثوري ونحوه من كان يميل إلى الفقراء، ويميل على الأغنياء مجتهدًا في ذلك طالبًا به رضا الله، حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره، ورجع عنه .
/وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء : كالزهري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزناد، وأبي يوسف ومحمد وأناس آخرين، وتكلم فيهم من تكلم بسبب ذلك . ولهم في ذلك تأويل واجتهاد، والأول هوالعدل والقسط، الذي دل عليه الكتاب والسنة .
ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم معتدلة فإنه قد روى : أن الفقراء قالوا له : يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها ولا نتصدق فقال : ( ألا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم، ولم يلحقكم من بعدكم إلا من عمل مثل عملكم ؟ ) فعلمهم التسبيح المائة في دبر كل صلاة . فجاؤوا إليه فقالوا : إن إخواننا من الأغنياء سمعوا ذلك ففعلوه، فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) وهذه الزيادة في صحيح مسلم من مراسيل أبي صالح، فهذا فيه تفضيل للأغنياء الذين عملوا مثل عمل الفقراء من العبادات البدنية بالقلب والبدن، وزادوا عليهم بالإنفاق في سبيل الله ونحوه من العبادات المالية .(2/250)
وثبت عنه أيضًا في الصحيح أنه قال : ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ـ خمسمائة عام ) ، وفي رواية : ( بأربعين خريفًا ) فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين، وكلاهما حق، فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على /قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب، فيسبق في الدخول، وهو أحوج إلى سرعة الثواب، لما فاته في الدنيا من الطيبات . والغني يحاسب، فإن كان محسنًا في غناه غير مسىء وهو فوقه، رفعت درجته عليه بعد الدخول . وإن كان مثله ساواه، وإن كان دونه نزل عنه . وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير .
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم في [ حوضه ] : الذي طوله شهر وعرضه شهر : ( ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أول الناس، علي وردا فقراء المهاجرين : الدنسين ثيابا، الشُّعث رؤوسًا، الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم وحاجته تختلج في صدره لا يجد لها قضاء ) فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا من اللأواء والشدة، وهذا موضع ضيافة عامة فإنه يقدم الأشد جوعًا في الإطعام، وإن كان لبعض المستأخرين نوع إطعام ليس لبعض المتقدمين لاستحقاقه ذلك ببذله عنده أو غير ذلك، وليس في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح من هذين الحديثين وفيها الحكم الفصل : إن الفقراء لهم السبق والأغنياء لهم الفضل، وهذا قد يترجح تارة، وهذا كالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغيرحساب ومع كل ألف سبعين ألفًا، وقد يحاسب بعدهم من إذا دخل رفعت درجته عليهم .(2/251)