مفهوم الشكر عند ابن تيمية رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى الدين
أما بعد :
فهذا كتاب عن مفهوم الشكر وأبعاده عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله استخرجته من مجموع الفتاوى وهو متناثر في جميع أجزاء الكتاب فقمت بجمعها وضمها لبعضها البعض حتى نأخذ تصورا كاملا عن مفهوم الشكر عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
******************
وقد حث الله تعالى الشكر في كتابه الكريم قال تعالى :
( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً) (النساء:147) ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان:12)
**************** وقال عن الابتلاء بالشكر :
( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40) **************** وقال عن زيادة النعم بالشكر : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (ابراهيم:7)
إن شكر النعمة دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية . فالخير يشكر لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة . .
هذه واحدة . . والأخرى أن النفس التي تشكر الله على نعمته , تراقبه في التصرف بهذه النعمة . بلا بطر , وبلا استعلاء على الخلق , وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والدنس والفساد .(1/1)
وهذه وتلك مما يزكي النفس , ويدفعها للعمل الصالح , وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها ويبارك فيها ; ويرضي الناس عنها وعن صاحبها , فيكونون له عونا ; ويصلح روابط المجتمع فتنمو فيه الثروات في أمان . إلى آخر الأسباب الطبيعية الظاهرة لنا في الحياة . وإن كان وعد الله بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن , أدرك الأسباب أو لم يدركها , فهو حق واقع لأنه وعد الله .
والكفر بنعمة الله قد يكون بعدم شكرها . أو بإنكار أن الله واهبها , ونسبتها إلى العلم والخبرة والكد الشخصي والسعي ! كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم الله ! وقد يكون بسوء استخدامها بالبطر والكبر على الناس واستغلالها للشهوات والفساد . . وكله كفر بنعمة الله . .
والعذاب الشديد قد يتضمن محق النعمة . عينا بذهابها . أو سحق آثارها في الشعور . فكم من نعمة تكون بذاتها نقمة يشقى بها صاحبها ويحسد الخالين ! وقد يكون عذابا مؤجلا إلى أجله في الدنيا أو في الآخرة كما يشاء الله . ولكنه واقع لأن الكفر بنعمة الله لا يمضي بلا جزاء .
ذلك الشكر لا تعود على الله عائدته . وهذا الكفر لا يرجع على الله أثره . فالله غني بذاته محمود بذاته , لا بحمد الناس وشكرهم على عطاياه .
**************** وبين قلة الشاكرين بقوله تعالى :( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ:13) وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء الله وهي غير محدودة ? . . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . . وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه , وعن أيمانه وعن شمائله , وتكمن فيه هو ذاته وتفيض منه . وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام !(1/2)
كنا نجلس جماعة نتحدث وتتجاوب أفكارنا وتتجاذب , وتنطلق ألسنتنا بكل ما يخطر لنا على بال . ذلك حينما جاء قطنا الصغير "سوسو" يدور هنا وهناك من حولنا , يبحث عن شيء ; وكأنما يريد أن يطلب إلينا شيئاً , ولكنه لا يملك أن يقول ; ولا نملك نحن أن ندرك . حتى ألهمنا الله أنه يطلب الماء وكان هذا . وكان في شدة العطش . وهو لا يملك أن يقول ولا أن يشير . . وأدركنا في هذه اللحظة شيئاً من نعمة الله علينا بالنطق واللسان , والإدراك والتدبير . وفاضت نفوسنا بالشكر لحظة . . وأين الشكر من ذلك الفيض الجزيل .
وكنا فترة طويلة محرومين من رؤية الشمس . وكان شعاع منها لا يتجاوز حجمه حجم القرش ينفذ إلينا أحياناً . وإن أحدنا ليقف أمام هذا الشعاع يمرره على وجهه ويديه وصدره وظهره وبطنه وقدميه ما استطاع . ثم يخلي مكانه لأخيه ينال من هذه النعمة ما نال ! ولست أنسى أول يوم بعد ذلك وجدنا فيه الشمس . لست أنسى الفرحة الغامرة والنشوة الظاهرة على وجه أحدنا , وفي جوارحه كلها , وهو يقول في نغمة عميقة مديدة . . الله ! هذه هي الشمس . شمس ربنا وما تزال تطلع . . الحمد لله !
فكم نبعثر في كل يوم من هذه الأشعة المحيية , ونحن نستحم في الضوء والدفء . ونسبح ونغرق في نعمة الله ? وكم نشكر هذا الفيض الغامر المتاح المباح من غير ثمن ولا كد ولا معاناة ?!
*****************
وفي الموسوعة الفقهية :
شُكْرٌ التَّعْرِيفُ :(1/3)
1 - الشُّكْرُ : مَصْدَرُ شَكَرْته وَشَكَرْت لَهُ أَشْكُرُ شُكْرًا وَشُكُورًا وَشُكْرَانًا . وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ : الِاعْتِرَافُ بِالْمَعْرُوفِ الْمُسْدَى إلَيْك وَنَشْرُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَى فَاعِلِهِ . وَلَا يَكُونُ إلَّا فِي مُقَابَلَةِ مَعْرُوفٍ وَنِعْمَةٍ . وَشُكْرُ النِّعْمَةِ مُقَابِلُ كُفْرِهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ قَوْلِ لُقْمَانَ : { وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } . وَالشُّكْرُ : هُوَ ظُهُورُ أَثَرِ النِّعْمَةِ عَلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ بِأَنْ يَكُونَ اللِّسَانُ مُقِرًّا بِالْمَعْرُوفِ مُثْنِيًا بِهِ , وَيَكُونَ الْقَلْبُ مُعْتَرِفًا بِالنِّعْمَةِ , وَتَكُونَ الْجَوَارِحُ مُسْتَعْمَلَةً فِيمَا يَرْضَاهُ الْمَشْكُورُ . عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ : أَفَادَتْكُمْ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا وَالشُّكْرُ لِلَّهِ فِي الِاصْطِلَاحِ : صَرْفُ الْعَبْدِ النِّعَمَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ فِي طَاعَتِهِ . أَوْ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ . وَشُكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَزْكُو عِنْدَهُ الْقَلِيلُ مِنْ الْعَمَلِ فَيُضَاعِفُ لِعَامِلِهِ الْجَزَاءَ . وَفِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ , فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ , فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ , فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ } , وَلِذَا كَانَ مِنْ أَوْصَافِهِ تَعَالَى : " الشَّكُورَ " كَمَا فِي قوله تعالى : { وَاَللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - الْمَدْحُ : 2 - الْمَدْحُ لُغَةً : حُسْنُ الثَّنَاءِ .(1/4)
وَالْمَدْحُ يَكُونُ لِلْحَيِّ وَغَيْرِهِ حَتَّى إنَّ مَنْ رَأَى لُؤْلُؤَةً ذَاتَ حُسْنٍ فَوَصَفَهَا بِالْحُسْنِ فَقَدْ مَدَحَهَا , وَالْمَدْحُ عَلَى الْإِحْسَانِ يَكُونُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ , وَلَا يَكُونُ الشُّكْرُ إلَّا بَعْدَهُ . ب - الْحَمْدُ : 3 - الْحَمْدُ : هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَحْمُودِ بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ , وَنَقِيضُ الْحَمْدِ الذَّمُّ . فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشُّكْرَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ أَسْدَاهَا الْمَشْكُورُ إلَى الشَّاكِرِ خَاصَّةً , وَالْحَمْدُ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ عَلَى الشَّاكِرِ أَوْ غَيْرِهِ , وَيَكُونُ فِي غَيْرِ مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ أَصْلًا بَلْ لِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ وَالْفَضَائِلِ . فَلَا يُقَالُ : شَكَرْنَا اللَّهَ عَلَى حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ , وَيُقَالُ : حَمِدْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ , كَمَا هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى إحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ , وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ الْحَمْدِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ , وَالْحَمْدَ لَيْسَ إلَّا بِاللِّسَانِ , فَيَجْتَمِعُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ فِي الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ عَلَى النِّعْمَةِ , وَيَنْفَرِدُ الْحَمْدُ فِي الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ عَلَى الْأَوْصَافِ الذَّاتِيَّةِ وَنَحْوِهَا , وَيَنْفَرِدُ الشُّكْرُ فِيمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : { الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ فَمَنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ لَمْ يَشْكُرْهُ } .
( أَحْكَامُ الشُّكْرِ ) :(1/5)
4 - الشُّكْرُ نَوْعَانِ , شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى , وَشُكْرٌ لِعِبَادِ اللَّهِ . أَوَّلًا : شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى : ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : 5 - شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ , فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْحَلِيمِيُّ لِذَلِكَ بِالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ , نَحْوِ قوله تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . ثُمَّ قَالَ الْحَلِيمِيُّ : فَثَبَتَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا وُجُوبُ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ لِنِعَمِهِ السَّابِغَةِ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ احْتَجَّ لِلْوُجُوبِ أَيْضًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ } قَالَ : وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَنْ النَّعِيمِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ عَنْ شُكْرِهِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ هَلْ وَجَبَ بِالْعَقْلِ ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ مُقَرِّرًا لِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَجِبْ إلَّا بِالشَّرْعِ . ؟ . فَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ مُعْظَمُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَنَصَّ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا . وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مَجَالَ لَهُ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ مِنْ إثْبَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَتُنْظَرُ الْمَسْأَلَةُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ .(1/6)
وَقَالَ الرَّازِيُّ عِنْدَ قوله تعالى : { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } الْمُرَادُ مِنْ الشَّاكِرِ الَّذِي يَكُونُ مُقِرًّا مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ , وَمِنْ الْكَفُورِ الَّذِي لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ إمَّا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْخَالِقَ أَوْ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ شُكْرِهِ . وَالْإِكْثَارُ مِنْ الشُّكْرِ مُسْتَحَبٌّ . وَلِلشُّكْرِ مَوَاضِعُ يُنْدَبُ فِيهَا كَحَمْدِ اللَّهِ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَلْبَسِ . ( وَانْظُرْ : تَحْمِيدٌ ) .
( فَضْلُ الشُّكْرِ ) :(1/7)
6 - وَرَدَتْ الشَّرِيعَةُ بِإِثْبَاتِ فَضْلِ الشُّكْرِ مِنْ أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ , مِنْهَا : أ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى فِي كِتَابِهِ عَلَى أَهْلِ الشُّكْرِ وَوَصَفَ بِذَلِكَ بَعْضَ خَوَاصِّ خَلْقِهِ , فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ } وَقَالَ عَنْ نُوحٍ عليه السلام : { إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } . ب - إنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ الْهَدَفَ مِنْ تَفَضُّلِهِ بِالنِّعَمِ , قَالَ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وَقَالَ فِي شَأْنِ تَسْخِيرِهِ الْأَنْعَامَ : { كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . ج - أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الشَّاكِرِينَ بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ فَقَالَ : { وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نَفْعِ شُكْرِهِمْ بَلْ نَفْعُهُ لَهُمْ , قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } . د - أَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ مِنْ النِّعَمِ , فَقَالَ : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } هـ - أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ شَاكِرًا شَكُورًا , بِأَنْ يَقْبَلَ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ وَيُثْنِيَ عَلَى فَاعِلِهِ , قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } .(1/8)
وَقَالَ : { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } . و - قِلَّةُ الْمُتَّصِفِينَ بِكَثْرَةِ الشُّكْرِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : قِلَّةُ أَهْلِ الشُّكْرِ فِي الْعَالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَاصُّ اللَّهِ تَعَالَى . ز - مَا وَرَدَ مِنْ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ أَنْ يُلْهِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى شُكْرَ نِعَمِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا كَقَوْلِ سُلَيْمَانَ : { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { رَبِّ اجْعَلْنِي لَك شَكَّارًا } وَأَوْصَى مَنْ يُحِبُّهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ عَلَى شُكْرِهِ فَقَالَ : { يَا مُعَاذُ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّك . . أُوصِيك يَا مُعَاذُ , لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك } . ح - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ الشُّكْرَ بِالصَّبْرِ فَقَالَ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ , فَالشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ أَوْ زَوَالِ النِّقَمِ , وَالصَّبْرُ عِنْدَ زَوَالِ النِّعَمِ أَوْ حُلُولِ الْبَلَاءِ . وَلِأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ عَيْنُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا . وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { الْإِيمَانُ نِصْفَانِ فَنِصْفٌ فِي الصَّبْرِ وَنِصْفٌ فِي الشُّكْرِ } وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ مَوْقُوفًا .
مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ :(1/9)
وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : 7 - الْأَوَّلُ : الشُّكْرُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى الشَّاكِرِ , وَالْعَبْدُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ إنَّمَا هُوَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَقَدْ نَبَّهَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } وَكَثِيرٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَارِدَةٌ فِي تَعْدَادِ تِلْكَ النِّعَمِ بِالتَّفْصِيلِ , وَفِي لَفْتِ الْأَنْظَارِ إلَى وُجُوهِ اللُّطْفِ فِيهَا , وَإِلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا , وَبَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا وَضَعَهَا لِيَبْتَلِيَ بِهَا الْإِنْسَانَ هَلْ يَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ . فَمِنْ ذَلِكَ نِعْمَةُ خَلْقِ الْأَرْضِ فِرَاشًا وَالسَّمَاءِ بِنَاءً وَالشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا وَتَقْدِيرِ الْأَقْوَاتِ فِي الْأَرْضِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ مِنْ السَّمَاءِ شَرَابًا وَإِنْبَاتِ الزَّرْعِ فِيهَا وَسَائِرِ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ بَدَنُ الْإِنْسَانِ , وَخَلْقِ الْأَنْعَامِ وَمَا جَعَلَهُ فِيهَا لِلنَّاسِ مِنْ مَنَافِعَ مِنْ لَحْمِهَا وَلَبَنِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَرُكُوبِهَا وَالتَّجَمُّلِ بِهَا . وَمِنْ ذَلِكَ نِعْمَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَخَلْقِ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ لِتَكُونَ وَسَائِلَ لِلْإِدْرَاكِ , وَتَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ الْبَيَانَ . وَمِنْ ذَلِكَ نِعْمَةُ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى طُرُقِ الْإِيمَانِ . وَهَذِهِ كُلُّهَا نِعَمٌ عَامَّةٌ لَمْ يُخَصَّ بِهَا مُؤْمِنٌ مِنْ كَافِرٍ .(1/10)
وَمِنْهَا نِعَمٌ خَاصَّةٌ وَأَعْظَمُهَا التَّوْفِيقُ لِلْإِيمَانِ وَالِاهْتِدَاءُ لِلْحَقِّ وَالتَّيْسِيرُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ , لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْخَلَاصِ مِنْ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالتَّحْصِيلِ لِنِعَمِ اللَّهِ فِيهَا . قَالَ الْحَلِيمِيُّ : وَأَوْلَى النِّعَمِ بِالشُّكْرِ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ بِالْإِيمَانِ وَالْإِرْشَادِ إلَى الْحَقِّ , وَالتَّوْفِيقِ لِقَبُولِهِ , لِأَنَّهُ هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي لَيْسَ بِتَابِعٍ لِمَا سِوَاهُ , وَكُلُّ غَرَضٍ سِوَاهُ فَهُوَ تَابِعٌ لَهُ , وَالتَّيْسِيرُ لَهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَقْتَضِي الشُّكْرَ لَهَا بِالِانْتِهَاءِ عَنْ الْمَعَاصِي وَإِتْبَاعِ الْإِيمَانِ حُقُوقَهُ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ عَهْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَلِكُلِّ عَهْدٍ وَفَاءٌ . وَكُلُّ عِبَادَةٍ تَتْلُو الْإِيمَانَ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ فَهُوَ شُكْرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَالتَّيْسِيرُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةٌ يَجِبُ شُكْرُهَا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ . 8 - النَّوْعُ الثَّانِي : الشُّكْرُ عَلَى دَفْعِ النِّقَمِ سَوَاءٌ انْدَفَعَتْ عَنْهُ أَوْ عَنْ نَحْوِ وَلَدِهِ أَوْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ كَذَهَابِ مَرَضٍ أَوْ انْحِسَارِ طَاعُونٍ أَوْ عَدُوٍّ , وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُخْشَى ضَرَرُهُ كَغَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ وَمِنْهُ قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .(1/11)
وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ أُتِيَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إلَيْهِمَا , فَأَخَذَ اللَّبَنَ , فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاك لِلْفِطْرَةِ , لَوْ أَخَذْت الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُك } . وَإِذَا رَأَى السَّلِيمُ مُبْتَلًى فِي عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ , سُنَّ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَافِيَةِ , لِمَا وَرَدَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ لِرُؤْيَةِ زَمِنٍ } . وَوَرَدَ أَنَّ السَّلِيمَ يَقُولُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاك بِهِ } . النَّوْعُ الثَّالِثُ : الشُّكْرُ عِنْدَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنْ الْبَلْوَى وَالْمَصَائِبِ وَالْآلَامِ : 9 - وَهُوَ مَشْرُوعٌ , لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ , فَيَقُولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَك وَاسْتَرْجَعَ , فَيَقُولُ اللَّهُ : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ , وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ } . وَوَجْهُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا مَا فِيهَا مِنْ تَكْفِيرِ الْخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ , وَمَا فِي الصَّبْرِ عَلَيْهَا مِنْ الْأَجْرِ . وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ : يَكُونُ الشُّكْرُ كَظْمًا لِلْغَيْظِ الَّذِي أَصَابَهُ , وَسَتْرًا لِلشَّكْوَى , وَرِعَايَةً لِلْأَدَبِ , وَسُلُوكًا لِمَسْلَكِ الْعِلْمِ , لِأَنَّهُ شَاكِرٌ لِلَّهِ شُكْرَ مَنْ رَضِيَ بِقَضَائِهِ .(1/12)
وَلِذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمَرِيضِ إنْ سُئِلَ عَنْ حَالِهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ الشَّكْوَى إلَى طَبِيبٍ . قَالُوا : لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا : { إذَا كَانَ الشُّكْرُ قَبْلَ الشَّكْوَى فَلَيْسَ بِشَاكٍ } قَالَ الْبُهُوتِيُّ : وَكَانَ أَحْمَدُ أَوَّلًا يَحْمَدُ اللَّهَ فَقَطْ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ طَبِيبُ السُّنَّةِ وَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ صَارَ إذَا سَأَلَهُ قَالَ : أَحْمَدُ اللَّهَ إلَيْك , أَجِدُ كَذَا وَكَذَا .
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى :(1/13)
10 - يَتَحَقَّقُ شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النِّعْمَةِ بِأُمُورٍ : أَوَّلُهَا : مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ , بِأَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ , وَيَعْرِفَ قَدْرَهَا وَيَعْرِفَ وَجْهَ كَوْنِهَا نِعْمَةً وَيَسْتَحْضِرَهَا فِي الذِّهْنِ وَيُمَيِّزَهَا , إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ تُحْسِنُ إلَيْهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي . وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ : { اُنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } . وَالثَّانِي : مَعْرِفَةُ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِاَللَّهِ , أَوْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ النِّعَمَ مِنْهُ , لَمْ يُتَصَوَّرْ شُكْرُهُ لَهُ , وَإِذَا عَرَفَ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ أَحَبَّهُ عَلَيْهَا . وَالثَّالِثُ : قَبُولُ النِّعْمَةِ بِإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ إلَيْهَا , وَمَعْرِفَةِ أَنَّ وُصُولَهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا بَذْلِ ثَمَنٍ بَلْ بِمَحْضِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالرَّابِعُ : الثَّنَاءُ عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا , وَعَدَمُ كِتْمَانِهَا فَإِنَّ كِتْمَانَهَا كُفْرَانٌ لَهَا , وَالثَّنَاءُ إمَّا عَامٌّ كَوَصْفِهِ تَعَالَى بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ , وَإِمَّا خَاصٌّ وَهُوَ التَّحَدُّثُ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَإِسْنَادُ التَّفَضُّلِ بِهَا إلَى الْمُنْعِمِ بِهَا , وَحَمْدُهُ عَلَيْهَا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ } .(1/14)
وَالْخَامِسُ : تَرْكُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَكْرَهُهُ الْمُنْعِمُ بِهَا , وَالْعَمَلُ بِمَا يُرْضِيهِ فِيهَا . وَالسَّادِسُ : فِعْلُ الطَّاعَاتِ شُكْرًا عَلَى النِّعَمِ , كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً . . . } الْآيَةَ وَوَرَدَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ . فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَك ؟ قَالَ : أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا } ؟ . 11 - وَضِدُّ شُكْرِ النِّعَمِ الْكُفْرَانُ بِهَا , وَهُوَ غَيْرُ الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ عَنْ الْمِلَّةِ , وَيُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ " كُفْرُ النِّعْمَةِ " . فَمِنْ وُجُوهِ الْكُفْرِ بِهَا أَنْ لَا يَعْرِفَ النِّعْمَةَ , أَوْ أَنْ يَبْخَسَهَا حَقَّهَا مِنْ التَّقْدِيرِ . وَمِنْهَا أَنْ يُنْكِرَ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ يَنْسِبَهَا إلَى غَيْرِ الْمُتَفَضِّلِ بِهَا كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ إذْ يَشْكُرُونَ أَنْدَادَهُمْ وَأَصْنَامَهُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ , وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ : { مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ } . وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ حَصَّلَ مَا حَصَّلَ مِنْ النِّعَمِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ , أَوْ كَمَا قَالَ قَارُونُ { إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } . وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ النِّعَمِ حَصَلَ بِاسْتِحْقَاقٍ لَهُ عَلَى اللَّهِ , لَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ .(1/15)
وَمِنْهَا : تَرْكُ الثَّنَاءِ بِهَا عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا وَتَرْكُ التَّحَدُّثِ بِهَا , وَكَذَلِكَ كِتْمَانُهَا بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا النَّاسُ لِحَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ } . وَقَيَّدَ الْحَلِيمِيُّ هَذَا بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ احْتِيَاطٌ لِنَفْسِهِ . وَمِنْهَا : التَّعَالِي بِهَا عَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ وَالزَّهْوُ وَالْمُكَاثَرَةُ وَالْبَغْيُ وَالْمُفَاخَرَةُ . وَمِنْهَا : اسْتِعْمَالُهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى , وَمَنْعُ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا .
الشُّكْرُ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ :(1/16)
12 - يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ الشُّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ لَفْظًا بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ , لِمَا فِي الْحَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا , أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا } وَفِيهِ { الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ } . وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ اسْتِحْبَابُ أَذْكَارٍ بِصِيَغٍ مُعَيَّنَةٍ فِيهَا التَّحْمِيدُ عِنْدَ حُصُولِ نِعَمٍ مُعَيَّنَةٍ وَلِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ ( تَحْمِيدٌ ) ( وَذِكْرٌ ) . وَيَكُونُ الشُّكْرُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِفِعْلِ قُرْبَةٍ مِنْ الْقُرَبِ , وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ يَتَصَدَّقَ مَعَ سُجُودِ الشُّكْرِ أَوْ دُونَهُ . وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ لَا يَجُوزُ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِصَلَاةٍ بِنِيَّةِ الشُّكْرِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً أَوْ يَصْنَعَ دَعْوَةً , وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الدَّعَوَاتِ الَّتِي تُصْنَعُ لِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ النِّعَمِ كَالْوَكِيرَةِ الَّتِي تُصْنَعُ لِلْمَسْكَنِ الْمُتَجَدِّدِ , وَالنَّقِيعَةِ الَّتِي تُصْنَعُ لِقُدُومِ الْغَائِبِ , وَالْحُذَّاقِ وَهُوَ مَا يُصْنَعُ عِنْدَ خَتْمِ الصَّبِيِّ الْقُرْآنَ . وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ , أَنَّ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ مُسْتَحَبَّةٌ .(1/17)
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَلَيْسَ لِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ - يَعْنِي مَا عَدَا وَلِيمَةَ الْعُرْسِ وَالْعَقِيقَةَ - فَضِيلَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا , وَلَكِنْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ لِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ , فَإِذَا قَصَدَ بِهَا فَاعِلُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ , وَإِطْعَامَ إخْوَانِهِ , وَبَذْلَ طَعَامِهِ , فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ ( دَعْوَةٌ ) . وَإِذَا نَذَرَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَصْنَعَ الْقُرْبَةَ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعْمَةِ وَانْدِفَاعِ النِّقْمَةِ فَذَلِكَ نَذْرُ تَبَرُّرٍ , وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ ( نَذْرٌ ) . وَمِمَّا يُسَنُّ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ مِمَّا لَهُ وَقْعٌ أَنْ يَسْجُدَ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ الْإِنْسَانُ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( سُجُودُ الشُّكْرِ ) .
ثَانِيًا : شُكْرُ الْعِبَادِ عَلَى الْمَعْرُوفِ :(1/18)
13 - شُكْرُ الْمُنْعِمِ أَمْرٌ لَمْ يَخْتَلِفْ الْعُقَلَاءُ فِي اسْتِحْسَانِهِ . وَكُلُّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ الشُّكْرُ لِمَنْ أَوْلَاهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً لِحَدِيثِ : { مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ } وَحَدِيثِ : { إنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ لِلَّهِ أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ } وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى شَكَرَ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ فَالْعَبْدُ أَوْلَى بِأَنْ يَشْكُرَ لِمَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ , وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالشُّكْرِ لِلْوَالِدَيْنِ وَقَرَنَ ذَلِكَ بِالشُّكْرِ لَهُ لِعِظَمِ فَضْلِهِمَا فَقَالَ : { أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك } وَالشُّكْرُ بِالْفِعْلِ هُوَ الْأَصْلُ , بِأَنْ يَجْزِيَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفًا , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أُولِيَ نِعْمَةً فَلْيَشْكُرْهَا , فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُظْهِرْ ثَنَاءً حَسَنًا } . قَالَ الْحَلِيمِيُّ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أُرِيدَ بِهِ الشُّكْرُ بِالْفِعْلِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ { فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُظْهِرْ ثَنَاءً حَسَنًا } فَإِذَا كَانَتْ النِّعْمَةُ فِعْلًا كَانَ الشُّكْرُ إحْسَانًا مَكَانَ إحْسَانٍ , فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ قَامَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ وَالثَّنَاءُ وَالْبِشْرُ مَقَامَهُ .(1/19)
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ : { إنَّ نَاسًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ , لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ , وَأَشْرَكُونَا فِي الْمِهْنَةِ , لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ , فَقَالَ : أَمَا مَا دَعَوْتهمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ مُكَافَأَةً أَوْ شِبْهَ الْمُكَافَأَةِ } . وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ صُنِعَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ : جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ } . وَمِثْلُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا : { مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ , فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجْزِ بِهِ , وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَ , وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ } .
اسْتِدْعَاءُ الشُّكْرِ مِنْ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ :(1/20)
14 - إنَّهُ وَإِنْ كَانَ الشُّكْرُ عَلَى الْمَعْرُوفِ مُسْتَحَبًّا إلَّا أَنَّ طَلَبَ مُسْدِي الْمَعْرُوفِ أَنْ يُشْكَرَ عَلَيْهِ خِلَافُ الْأَوْلَى , وَخَاصَّةً فِيمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْمَلَ لِلَّهِ , وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إلَى الضُّعَفَاءِ دُونَ أَنْ يَنْتَظِرَ مِنْهُمْ شُكْرًا أَوْ جَزَاءً قَالَ تَعَالَى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : أَمَا وَاَللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ وَلَوْ أَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى الْمَعْرُوفِ لَمْ يَحْرُمْ . وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ , فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ : أَوَلَا تَحْمَدُنِي عَلَى مَا شَهِدْت الْحَقَّ ؟ قَالَ الرَّازِيُّ : الْإِحْسَانُ إلَى الْغَيْرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى , إمَّا طَلَبًا لِمُكَافَأَةٍ , أَوْ طَلَبًا لِحَمْدٍ أَوْ ثَنَاءٍ . وَتَارَةً يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِغَيْرِهِ . وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَالْأَخِيرُ هُوَ الشِّرْكُ . أ هـ . وَلَيْسَ هُوَ الشِّرْكَ الْمُخْرِجَ عَنْ الْمِلَّةِ بَلْ هُوَ الشِّرْكُ فِي الْقَصْدِ وَهُوَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ , دُونَ غَيْرِهِ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا .(1/21)
وَأَمَّا إذَا عَمِلَهُ طَلَبًا لِلْمُكَافَأَةِ أَوْ الْحَمْدِ فَلَهُ مَا طَلَبَ , وَلَيْسَ ذَلِكَ حَرَامًا إلَّا أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ لِلَّهِ وَيُبْطِنَ خِلَافَ ذَلِكَ , لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ رِيَاءً . فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُشْكَرَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ الْخَيْرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَرَامًا خِلَافًا لِمَا يَتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَقَدْ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ
*****************
وفي مدارج السالكين للإمام ابن القيم رحمه الله :
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الشكر(1/22)
وهي من أعلى المنازل وهي فوق منزلة الرضى وزيادة فالرضى مندرج في الشكر إذ يستحيل وجود الشكر بدونه وهو نصف الإيمان كما تقدم والإيمان نصفان : نصف شكر ونصف صبر وقد أمر الله به ونهى عن ضده وأثنى على أهله ووصف به خواص خلقه وجعله غاية خلقه وأمره ووعد أهله بأحسن جزائه وجعله سببا للمزيد من فضله وحارسا وحافظا لنعمته وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته واشتق لهم اسما من أسمائه فإنه سبحانه هو الشكور وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكورا وهو غاية الرب من عبده وأهله هم القليل من عباده قال الله تعالى : ^ واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ^ [ البقرة : 172 ] وقال : ^ واشكروا لي ولا تكفرون ^ [ البقرة : 152 ] وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ^ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه ^ [ النحل : 120121 ] وقال عن نوح عليه السلام : إنه كان عبداشكورا [ الإسراء : 3 ] وقال تعالى ^ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ^ [ النحل : 78 ] وقال تعالى : ^ واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ^ [ العنكبوت : 17 ] وقال تعالى : ^ وسيجزي الله الشاكرين ^ [ آل عمران : 144 ] وقال تعالى : ^ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ^ [ إبراهيم : وقال تعالى : ^ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ^ [ لقمان : 31 ] وسمى نفسه شاكرا وشكورا وسمى الشاكرين بهذين الاسمين فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلا وإعادته للشاكر مشكورا كقوله : ^ إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ^ [ الإنسان : 22 ] ورضى الرب عن عبده به كقوله : ^ وإن تشكروا يرضه لكم ^ [ الزمر : 7 ] وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه كقوله : ^ وقليل من عبادي الشكور ^ [ سبأ : 13 ] وفي الصحيحين عن النبي( صلى الله عليه وسلم ) :(1/23)
أنه قام حتى تورمت قدماه فقيل له : تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : أفلا أكون عبدا شكورا وقال لمعاذ : والله يا معاذ إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وفي المسند و الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : كان يدعو بهؤلاء الكلمات : اللهم أعني ولا تعن علي وانصرنى ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر بي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني على من بغى علي رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لكرهابا لك مطاوعا لك مخبتا إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري(1/24)
فصل وأصل الشكر في وضع اللسان : ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهورا بينا يقال : شكرت الدابة تشكر شكرا على وزن سمنت تسمن سمنا : إذا ظهر عليها أثر العلف ودابة شكور : إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكل وتعطى من العلف وفي صحيح مسلم : حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم أي لتسمن من كثرة ما تأكل منها وكذلك حقيقته في العبودية وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده : ثناء واعترافا وعلى قلبه : شهودا ومحبة وعلى جوارحه : انقيادا وطاعة و الشكر مبني على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور وحبه له واعترافه بنعمته وثناؤه عليه بها وأن لا يستعملها فيما يكره فهذه الخمس : هي أساس الشكر وبناؤه عليها فمتى عدم منها واحدة : اختل من قواعد الشكر قاعدة وكل من تكلم في الشكر وحده فكلامه إليها يرجع وعليها يدور فقيل : حده الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع وقيل : الثناء على المحسن بذكر إحسانه وقيل : هو عكوف القلب على محبة المنعم والجوارح على طاعته وجريان اللسان بذكره والثناء عليه وقيل : هو مشاهدة المنة وحفظ الحرمة وما ألطف ما قال حمدون القصار : شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا وقال أبو عثمان : الشكر معرفة العجز عن الشكر وقيل : الشكر إضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له وقال الجنيد : الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة هذا معنى قول حمدون : أن يرى نفسه فيها طفيليا وقال رويم : الشكر استفراغ الطاقة وقال الشبلي : الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة قلت : يحتمل كلامه أمرين أحدهما : أن يفنى برؤية المنعم لا رؤية نعمه والثاني : أن لا تحجبه رؤية نعمه ومشاهدتها عن رؤية المنعم بها وهذا أكمل والأول أقوى عندهم والكمال : أن تشهد النعمة والمنعم لأن شكره بحسب شهود النعمة فكلما كان أتم كان الشكر أكمل والله يحب من عبده : أن يشهد نعمه ويعترف له بها ويثني عليه بها ويحبه عليها لا أن يفنى عنها ويغيب عن شهودها وقيل : الشكر قيد النعم(1/25)
الموجوده وصيد النعم المفقودة وشكر العامة : على المطعم والمشرب والملبس وقوت الأبدان وشكر الخاصة : على التوحيد والإيمان وقوت القلوب وقال داود عليه السلام : يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة على من عندك تستوجب بها شكرا فقال : الآن شكرتني يا داود وفي أثر آخر إسرائيلي : أن موسى قال : يارب خلقت آدم بيدك ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك وعلمته أسماء كل شيء وفعلت وفعلت فكيف أطاق شكرك قال الله عز وجل : علم أن ذلك مني فكانت معرفته بذلك شكرا لي وقيل : الشكر التلذذ بثنائه على ما لم تستوجب من عطائه وقال الجنيد وقد سأله سري عن الشكر وهو صبي الشكر : أن لا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه فقال : من أين لك هذا قال : من مجالستك وقيل : من قصرت يداه عن المكافآت فليطل لسانه بالشكر والشكر معه المزيد أبدا لقوله تعالى : ^ لئن شكرتم لأزيدنكم ^ [ إبراهيم : 7 ] فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر وفي أثر إلهي : يقول الله عز وجل : أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب وقيل : من كتم النعمة فقد كفرها ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها وهذا مأخوذ من قوله : إن الله إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده وفي هذا قيل :
ومن الرزية : أن شكري صامت ***** عما فعلت وأن برك ناطق
وأرى الصنيعة منك ثم أسرها ***** إني إذا لندى الكريم لسارق
فصل وتكلم الناس في الفرق بين الحمد و الشكر أيهما أعلى وأفضل وفي(1/26)
الحديث : الحمد رأس الشكر فمن لم يحمد الله لم يشكره والفرق بينهما : أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه وأخص من جهة متعلقاته و الحمد أعم من جهة المتعلقات وأخص من جهة الأسباب ومعنى هذا : أن الشكر يكون : بالقلب خضوعا واستكانة وباللسان ثناء واعترافا وبالجوارح طاعة وانقيادا ومتعلقه : النعم دون الأوصاف الذاتية فلا يقال : شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه وهو المحمود عليها كما هو محمود على إحسانه وعدله والشكر يكون على الإحسان والنعم فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس فإن الشكر يقع بالجوارح والحمد يقع بالقلب واللسان
فصل قال صاحب المنازل : الشكر : اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى(1/27)
معرفة المنعم ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن : شكرا فمعرفة النعمة : ركن من أركان الشكر لا أنها جملة الشكر كما تقدم : أنه الاعتراف بها والثناء عليه بها والخضوع له ومحبته والعمل بما يرضيه فيها لكن لما كان معرفتها ركن الشكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه : جعل أحدهما اسما للآخر قوله : لأنه السبيل إلى معرفة المنعم يعني أنه إذا عرف النعمة توصل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها وهذا من جهة معرفة كونها نعمة لا من أي جهة عرفها بها ومتى عرف المنعم أحبه وجد في طلبه فإن من عرف الله أحبه لا محالة ومن عرف الدنيا أبغضها لا محالة وعلى هذا : يكون قوله : الشكر اسم لمعرفة النعمة مستلزما لمعرفة المنعم ومعرفته تستلزم محبته ومحبته تستلزم شكره فيكون قد ذكر بعض أقسام الشكر باللفظ ونبه على سائرها باللزوم وهذا من أحسن اختصاره وكمال معرفته وتصوره قدس الله روحه قال : ومعاني الشكر ثلاثة أشياء : معرفة النعمة ثم قبول النعمة ثم الثناء بها وهو أيضا من سبل العامة أما معرفتها : فهو إحضارها في الذهن ومشاهدتها وتمييزها فمعرفتها : تحصيلها ذهنا كما حصلت له خارجا إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري فلا يصح من هذا الشكر قوله : ثم قبول النعمة قبولها : هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه ولا بذل ثمن بل يرى نفسه فيها كالطفيلي فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة قوله : ثم الثناء بها الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان : عام وخاص فالعام : وصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك والخاص : التحدث بنعمته والإخبار بوصولها إليه من جهته كما قال تعالى : ^ وأما بنعمة ربك فحدث ^ [ الضحى : 11 ] وفي هذا التحديث المأمور به قولان أحدهما : أنه ذكر النعمة والإخبار بها وقوله : أنعم الله علي بكذا وكذا قال مقاتل : يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة : من(1/28)
جبر اليتيموالهدى بعد الضلال والإغناء بعد العيلة والتحدث بنعمة الله شكر كما في حديث جابر مرفوعا : من صنع إليه معروف فليجز به فإن لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور فذكر أقسام الخلق الثلاثة : شاكر النعمة المثني بها والجاحد لها والكاتم لها والمظهر أنه من أهلها وليس من أهلها فهو متحل بما لم يعطه وفي أثر آخر مرفوع : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب والقول الثاني : أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية : هو الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته وتعليم الأمة قال مجاهد : هي النبوة قال الزجاج : أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي آتاك الله وقال الكلبي : هو القرآن أمره أن يقرأه والصواب : أنه يعم النوعين إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها وإظهارها من شكرها قوله : وهو أيضا من سبل العامة يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل إذ جعل نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبل بل الشكر سبيل رسل الله وأنبيائه صلى الله عليهم وسلم أجمعين أخص خلقه وأقربهم إليه ويا عجبا ! أي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان حتى المحبة والرضى والتوكل وغيرها فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى ولكن الشيخ وأصحاب الفناء كلهم يرون أن فوق هذا مقاما أجل منه وأعلى لأن الشكر عندهم يتضمن نوع دعوى وأنه شكر الحق على إنعامه ففي الشاكر بقية من بقايا رسمه لم يتخلص عنها ويفرغ منها فلو فني عنها بتحققه أن الحق سبحانه هو الذي شكر نفسه بنفسه وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل علم أن الشكر من منازل العامة ولو أن السلطان كسا عبدا من عبيده ثوبا من ثيابه فأخذ يشكر السلطان على ذلك : لعد(1/29)
مخطئا مسيئا للأدب فإنه مدع بذلك مكافأة السلطان بشكره فإن الشكر مكافأة والعبد أصغر قدرا من المكافأة والشهود للحقيقة يقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء ورجوعها إلى وصف المعطي وقوته فالخاصة يسقط عندهم الشكر بالشهود وفي حقهم ما هو أعلى منه هذا غاية تقرير كلامهم وكسوته أحسن عبارة لئلا يتعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير ونحن معنا العصمة النافعة : أن كل أحد غير المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك وكل سبيل لا يوافق سبيله فمهجور غير مسلوك فأما تضمن الشكر لنوع دعوى فإن أريد بهذه الدعوى إضافة البعد الفعل إلى نفسه وأنه كان به وغاب بذلك عن كونه بحول الله وقوته ومنته على عبده : فلعمر الله هذه علة مؤثرة ودعوى باطلة كاذبة وإن أريد : أن شهوده لشكره شهوده لنعمة الله عليه به وتوفيقه له فيه وإذنه له به ومشيئته عليه ومنته فشهد عبوديته وقيامه بها وكونها بالله فأي دعوى في هذا وأي علة نعم غايته : أنه لا يجامع الفناء ولا يخوض تياره فكان ماذا فأنتم جعلتم الفناء غاية فأوجب لكم ما أوجب وقدمتموه على ما قدمه الله ورسوله فتضمن ذلك تقديم ما أخر وتأخير ما قدم وإلغاء ما اعتبر واعتبار ما ألغى ولولا منة الله على الصادقين منكم بتحكيم الرسالة والتقيد بالشرع لكان أمرا غير هذا كما جرى لغير واحد من السالكين على هذه الطريق الخطرة فلا إله إلا الله كم فيها من قتيل وسليب وجريح وأسير وطريد وأما قولكم : إن الشاكر فيه بقية من بقايا رسمه فيقال : إذا كانت هذه البقية محض العبودية ومركبها والحاملة لها : فأي نقص في هذا فإن العبودية لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بهذا الرسم فلا نقص في حمل العبودية عليه والسير به إلى الله عز وجل نعم النقص كل النقص : في حمل النفس والشهوة والحظ المخالف لمراد الرب تعالى الديني بني على هذا الرسم والسير به إلى النفس ولعل العامل على الفناء بهذه المثابة وهو ملبوس عليه فالعارف يستقصى التفتيش عن كمائن النفس وأما(1/30)
قولكم : من لم يكن كيف يشكر من لم يزل فهذا بالشطح أليق منه بالمعرفة فإن من لم يزل إذا أمر من لم يكن بالشكر ورضيه منه وأحبه وأثنى عليه به واستدعاه واقتضاه منه وأوجب له به المزيد وأضافه إليه واشتق منه له الاسم وأوقع عليه به الحكم وأخبر أنه غاية رضاه منه وأمره مع ذلك أن يشهد أن شكره به وبإذنه ومشيئته وتوفيقه : فهذا شكر من لم يكن لمن يزل وهو محض العبودية وأما ضربكم مثل كسوة السلطان لعبده وأخذه في الشكر له مكافأة : فهذا من أبطل الأمثلة عقلا ونقلا وفطرة وهو الحجاب الذي أوجب لمن قال : إن شكر المنعم لا يجب عقلا ما قال ذلك حتى زعم أن شكره قبيح عقلا ولولا الشرع لما حسن الإقدام عليه وضرب هذا المثل الذي ضربتموه بعينه وهذا من القياس الفاسد المتضمن قياس الخالق على المخلوق وبمثله عبدت الشمس والقمر والأوثان إذ قال المشركون : جناب العظيم لا يهجم عليه بغير وسائل ووسائط وسرت هاتان الرقيقتان فيمن فسد من أهل التعبد وأهل النظر والبحث والمعصوم من عصمه الله فيقال : الفرق من وجوه كثيرة جدا تفوت الحصر منها : أن الملك محتاج فقير إلى من أنعم عليه لا يقوم ملكه إلا به فهو محتاج إلى معاوضة بتلك الكسوة مثلا خدمة له وحفظا له وذبا عنه وسعيا في تحصيل مصالحه فكسوته له من باب المعاوضة والمعاونة فإذا أخذ في شكره فكأنه جعل ذلك ثمنا لنعمته وليس بثمن لها وأما إنعام الرب تعالى على عبده : فإحسان إليه وتفضل عليه ومجرد امتنان لا لحاجة منه إليه ولا لمعاوضة ولا لاستعانة به ولا ليتكثر به من قلة ولا ليتعزر به من ذلة ولا ليقوى به من ضعف سبحانه وبحمده وأمره له بالشكر أيضا : إنعام آخر عليه وإحسان منه إليه إذ منفعة الشكر ترجع إلى العبد دنيا وآخرة لا إلى الله والعبد هو الذي ينتفع بشكره كما قال تعالى : ^ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ^ [ لقمان : 12 ] فشكر العبد إحسان منه إلى نفسه دنيا وأخرى فلا يذم ما أتى به من ذلك وإن كان لا يحسن(1/31)
مقابلة المنعم به ولا يستطيع شكره فإنه إنما هو محسن إلى نفسه بالشكر لا أنه مكافىء به لنعم الرب فالرب تعالى لا يستطيع أحد أن يكافىء نعمه أبدا ولا أقلها ولا أدنى نعمة من نعمه فإنه تعالى هو المنعم المتفضل الخالق للشكر والشاكر وما يشكر عليه فلا يستطيع أحد أن يحصى ثناء عليه فإنه هو المحسن إلى عبده بنعمه وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها فشكره نعمة من الله أنعم بها عليه تحتاج إلى شكر آخر وهلم جرا ومن تمام نعمته سبحانه وعظيم بره وكرمه وجوده : محبته له على هذا الشكر ورضاه منه به وثناؤه عليه به ومنفعته وفائدته مختصة بالعبد لا تعود منفعته على اللهوهذا غاية الكرم الذى لا كرم فوقه ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة ويرضى عنك بذلك ثم يعيد إليك منفعة شكرك ويجعله سببا لتوالي نعمه واتصالها إليك والزيادة على ذلك منها وهذا الوجه وحده يكفي اللبيب ليتنبه به على ما بعده وأما كون الشهود يسقط الشكر : فلعمر الله إنه إسقاط لحق المشكور بحظ الشاهد نعم بحظ عظيم متعلق بالحق عز وجل لا حظ سفلي متعلق بالكائنات ولكن صاحبه قد سار من حرم إلى حرم وكان يقع لي هذا القدر منذ أزمان ولا أتجرأ على التصريح به لأن أصحابه يرون من ذكرهم به بعين الفرق الأول فلا يصغون إليهم ألبتة لا سيما وقد ذاقوا حلاوته ولذته ورأوا تخبيط أهل الفرق الأول وتلوثهم بنفوسهم وعوالمها وانضاف إلى ذلك : أن جعلوه غاية فتركب من هذه الأمور ما تركب وإذا لاحت الحقائق فليقل القائل ما شاء
فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الشكر على المحاب(1/32)
وهذا شكر تشاركت فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ومن سعة رحمة الباري سبحانه : أن عده شكرا ووعد عليه الزيادة وأوجب فيه المثوبة إذا علمت حقيقة الشكر وأن جزء حقيقته : الاستعانة بنعم المنعم على طاعته ومرضاته : علمت اختصاص أهل الإسلام بهذه الدرجة وأن حقيقة الشكر على المحاب ليست لغيرهم نعم لغيرهم منها بعض أركانها وأجزائها كالاعتراف بالنعمة والثناء على المنعم بها فإن جميع الخلق في نعم الله وكل من أقر بالله ربا وتفرده بالخلق والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر وهو الاستعانة بها على مرضاته وقد كتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه : أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلا إلى معصيته وقد عرف مراد الشيخ وهو أن هذا الشكر مشترك وهو الاعتراف بنعمه سبحانه والثناء عليه بها والإحسان إلى خلقه منها وهذا بلا شك يوجب حفظها عليهم والمزيد منها فهذا الجزء من الشكر مشترك وقد تكون ثمرته في الدنيا بعاجل الثواب وفي الآخرة : بتخفيف العقاب فإن النار دركات في العقوبة مختلفة
فصل قال : الدرجة الثانية : الشكر في المكاره وهذا ممن تستوى عنده(1/33)
الحالات : إظهارا للرضى وممن يميز بين الأحوال : لكظم الغيظ وستر الشكوى ورعاية الأدب وسلوك مسلك العلم وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة يعني أن الشكر على المكاره : أشد وأصعب من الشكر على المحاب ولهذا كان فوقه في الدرجة ولا يكون إلا من أحد رجلين : إما رجل لا يميز بين الحالات بل يستوي عنده المكروه والمحبوب فشكر هذا : إظهار منه للرضى بما نزل به وهذا مقام الرضى الرجل الثانى : من يميز بين الأحوال فهو لا يحب المكروه ولا يرضى بنزوله به فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه فكان شكره كظما للغيظ الذي أصابه وسترا للشكوى ورعاية منه للأدب وسلوكا لمسلك العلم فإن العلم والأدب يأمران بشكر الله على السراء والضراء فهو يسلك بهذا الشكر مسلك العلم لأنه شاكر لله شكر من رضي بقضائه كحال الذي قبله فالذي قبله أرفع منه وإنما كان هذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة : لأنه قابل المكاره التي يقابلها أكثر الناس بالجزع والسخط وأوساطهم بالصبر وخاصتهم بالرضى فقابلها هو بأعلى من ذلك كله وهو الشكر فكان أسبقهم دخولا إلى الجنة وأول من يدعى منهم إليها وقسم أهل هذه الدرجة إلى قسمين : سابقين ومقربين بحسب انقسامهم إلى من يستوي عنده الحالات من المكروه والمحبوب فلا يؤثر أحدهما على الآخر بل قد فني بإيثاره ما يرضى له به ربه عما يرضاه هو لنفسه وإلى من يؤثر المحبوب ولكن إذا نزل به المكروه قابله بالشكر
فصل قال : الدرجة الثالثة : أن لا يشهد العبد إلا المنعم فإذا شهد(1/34)
المنعم عبودية : استعظم منه النعمة وإذا شهده حبا : استحلى منه الشدة وإذا شهده تفريدا : لم يشهد منه نعمة ولا شدة هذه الدرجة يستغرق صاحبها بشهود المنعم عن النعمة فلا يتسع شهوده للمنعم ولغيره وقسم أصحابها إلى ثلاثة أقسام : أصحاب شهود العبودية وأصحاب شهود الحب وأصحاب شهود التفريد وجعل لكل منهم حكما هو أولى به فأما شهوده عبودية : فهو مشاهدة العبد للسيد بحقيقة العبودية والملك له فإن العبيد إذا حضروا بين يدي سيدهم فإنهم ينسون ما هم فيه من الجاه والقرب الذي اختصوا به عن غيرهم باستغراقهم في أدب العبودية وحقها وملاحظتهم لسيدهم خوفا أن يشير إليهم بأمر فيجدهم غافلين عن ملاحظته وهذا أمر يعرفه من شاهد أحوال الملوك وخواصهم فهذا هو شهود العبد للمنعم بوصف عبوديته له واستغراقه عن الإحسان بما حصل له منه من القرب الذي تميز به عن غيره فصاحب هذا المشهد : إذا أنعم عليه سيده في هذه الحال مع قيامه فى مقام العبودية يوجب عليه أن يستصغر نفسه في حضرة سيده غاية الاستصغار مع امتلاء قلبه من محبته فأي إحسان ناله منه في هذه الحالة رآه عظيما والواقع شاهد بهذا في حال المحب الكامل المحبة المستغرق في مشاهدة محبوبه إذا ناوله شيئا يسيرا فإنه يراه في ذلك المقام عظيما جدا ولا يراه غيره كذلك القسم الثاني : يشهد الحق شهود محبة غالبة قاهرة له مستغرق في شهوده كذلك فإنه يستحلي في هذه الحال الشدة منه لأن المحب يستحلي فعل المحبوب به وأقل ما في هذا المشهد : أن يخف عليه حمل الشدائد إن لم تسمح نفسه باستحلائها وفي هذا من الحكايات المعروفة عند الناس ما يغني عن ذكرها كحال الذي كان يضرب بالسياط ولا يتحرك حتى ضرب آخر سوط فصاح صياحا شديدا فقيل له في ذلك فقال : العين التي كانت تنظر إلي وقت الضرب كانت تمنعني من الإحساس بالألم فلما فقدتها وجدت ألم الضرب وهذه الحال عارضة ليست بلازمة فإن الطبيعة تأبى استحلاء المنافي كاستحلاء الموافق(1/35)
نعم قد يقوى سلطان المحبة حتى يستحلى المحب ما يستمره غيره ويستخف ما يستثقله غيره ويأنس بما يستوحش منه الخلي ويستوحش مما يأنس به ويستلين ما يستوعره وقوة هذا وضعفه بحسب قهر سلطان المحبة وغلبته على قلب المحب القسم الثالث : أن يشهده تفريدا فإنه لا يشهد معه نعمة ولا شدة يقول : إن شهود التفريد : يفني الرسم وهذه حال الفناء المستغرق فيه الذي لا يشهد نعمة ولا بلية فإنه يغيب بمشهوده عن شهوده له ويفنى به عنه فكيف يشهد معه نعمة أو بلية كما قال بعضهم في هذا : من كانت مواهبه لا تتعدى يديه فلا واهب ولا موهوب وذلك مقام الجمع عندهم وبعضهم يحرم العبارة عنه وحقيقته : اصطلام يرفع إحساس صاحبه برسمه فضلا عن رسم غيره لاستغراقه في مشهوده وغيبته به عما سواه وهذا هو مطلوب القوم وقد عرفت أن فوقه مقاما أعلى منه وأرفع وأجل وهو أن يصطلم بمراده عن غيره فيكون في حال مشاهدته واستغراقه : منفذا لمراسيمه ومراده ملاحظا لما يلاحظ محبوبه من المرادات والأوامر فتأمل الآن عبدين بين يدي ملك من ملوك الدنيا وهما على موقف واحد بين يديه أحدهما مشغول بمشاهدته فإن استغراقه في ملاحظة الملك ليس فيه متسع إلى ملاحظة شيء من أمور الملك ألبتة وآخر مشغول بملاحظة حركات الملك وكلماته وإيشأمره ولحظاته وخواطره ليرتب على كل من ذلك ما هو مراد للملك وتأمل قصة بعض الملوك : الذي كان له غلام يخصه بإقباله عليه وإكرامه والحظوة عنده من بين سائر غلمانه ولم يكن الغلام أكثرهم قيمة ولا أحسنهم صورة فقالوا له في ذلك فأراد السلطان أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فيوما من الأيام كان راكبا في بعض شئونه ومعه الحشم وبالبعد منه جبل عليه ثلج فنظر السلطان إلى ذلك الثلج وأطرق فركض الغلام فرسه ولم يعلم القوم لماذا ركض فلم يلبث أن جاء ومعه شيء من الثلج فقال السلطان : ما أدراك أني أريد الثلج فقال الغلام : لأنك نظرت إليه ونظر الملوك إلى شيء لا يكون عن(1/36)
غير قصد فقال السلطان : إنما أخصه بإكرامي وإقبالي لأن لكل واحد منكم شغلا وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي يعني في تحصيل مرادي وسمعت بعض الشيوخ يقول : لو قال ملك لغلامين له بين يديه مستغرقين في مشاهدته والإقبال عليه : اذهبا إلى بلاد عدوي فأوصلا إليهم هذه الكتب وطالعاني بأحوالهم وافعلا كيت وكيت فأحدهما : مضى من ساعته لوجهه وبادر ما أمره به والآخر قال : أنا لا أدع مشاهدتك والاستغراق فيك ودوام النظر إليك ولا أشتغل بغيرك : لكان هذا جديرا بمقت الملك له وبغضه إياه وسقوطه من عينه إذ هو واقف مع مجرد حظه من الملك لا مع مراد الملك منه بخلاف صاحبه الأول وسمعته أيضا يقول : لو أن شخصين ادعيا محبة محبوب فحضرا بين يديه فأقبل أحدهما على مشاهدته والنظر إليه فقط وأقبل الآخر على استقراء مراداته ومراضيه وأوامره ليمتثلها فقال لهما : ما تريدان فقال أحدهما : أريد دوام مشاهدتك والاستغراق في جمالك وقال الآخر : أريد تنفيذ أوامرك وتحصيل مراضيك فمرادي منك ما تريده أنت مني لا ما أريده أنا منك والآخر قال : مرادي منك تمتعي بمشاهدتك أكانا عنده سواء فمن هو الآن صاحب المحبة المعلولة المدخولة الناقصة النفسانية وصاحب المحبة الصحيحة الصادقة الكاملة أهذا أم هذا وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكى عن بعض العارفين أنه قال : الناس يعبدون الله والصوفية يعبدون أنفسهم أراد هذا المعنى المتقدم وأنهم واقفون مع مرادهم من الله لا مع مراد الله منهم وهذا عين عبادة النفس فليتأمل اللبيب هذا الموضع حق التأمل فإنه محك وميزان والله المستعان
*****************
وفي مختصر منهاج القاصدين
الشطر الثاني من الكتاب
4ـ في الشكر وفضله وذكر النعم وأقسامها ونحو ذلك(1/37)
قال الله تعالى : { وسنجزى الشَّاكريَن } ( آل عمران : 145 ) وقال الله تعالى : { ما يفعل اللَّه بِعَذَابكُم إِن شَكَرُتم َوآمنْتُم } ( النساء : 147 ) وقال : { وقَلَيلّ من عبادي الشكُّور } ( سبأ : 13 ) وقطع بالمزيد مع الشكر فقال : { لَئن شكرتم لأزيدَّنكُم } [ إبراهيم : 7 ] مع كونه وقف أشياء كثيرة غيره على المشيئة كقوله : { فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } [ التوبة : 28 ] وقوله : { والله يرزق من يشاء } [ البقرة : 212 ] { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، { ويتوب الله على من يشاء } [ التوبة : 15 ] . ولما عرف إبليس قدر الشكر في الطعن على بنى آدم : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } [ الأعراف : 17 ] .
وروى أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم قام حتى تفطرت قدماه، فقالت عائشة رضى الله عنها : أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ ! قال : " أفلا أكون عبداً شاكراً " .
وعن معاذ رضى الله عنه قال : قال لى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم : " إنى أحبك فقل : اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " .
5ـ فصل [ في كون الشكر بالقلب واللسان والجوارح ]
والشكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح .
أما بالقلب، فهو إظهار الشكر لله بالتحميد .
وأما بالجوارح، فهو استعمال نعم الله في طاعته، والتوقى من الاستعانة بها على معصيته، فمن شكر العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم، ومن شكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه، فهذا يدخل في جملة شكر هذه الأعضاء .
والشكر باللسان : إظهار الرضى عن الله تعالى، وهو مأمور به . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " التحدث بالنعم شكر، وتركها كفر " .
وروى أن رجلين من الأنصار التقيا، فقال أحدهما لصاحبه : كيف أصبحت ؟ فقال : الحمد لله . فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم : " قولوا هكذا " .(1/38)
وروى أن رجلاً سلم على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فرد عليه، ثم قال له عمر : كيف أصبحت ؟ قال : أحمد الله، فقال عمر : ذاك الذي أرادت .
وقد كان السلف يتساءلون، ومرادهم استخراج الشكر لله، فيكون الشاكر مطيعاً، والمستنطق مطيعاً .
وقال أبو عبد الرحمن الحبلى : إن الرجل إذا سلم على الرجل، وسأله كيف أصبحت ؟ فقال له الآخر : أحمد الله إليك، قال : يقول الملك الذي عن يساره للذي عن يمينه : كيف تكتبها ؟ قال : أكتبه من الحامدين . فكان أبو عبد الرحمن إذا سئل : كيف أصبحت ؟ يقول : أحمد الله إليك والى جميع خلقه .
6ـ فصل [ في فعل الشكر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله ]
اعلم : أن فعل الشكر وترك الكفران، لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله تعالى، إذ معنى الشكر استعمال نعمة في محابه، ومعنى الكفران نقيض ذلك، إما بترك الاستعمال، أو استعماله فيما يكرهه .
ولتمييز ما يحبه الله فيما يكرهه مدركان :
أحدهما : السمع، ومستنده الآيات .
والثاني : بصيرة القلب، وهو النظر بعين الاعتبار،وهذا الأخير عسير عزيز، ولذلك أرسل الله تعالى الرسل، وسهل بهم الطرق على الخلق، ومعرفة ذلك تبنى على معرفة جميع أحكام الشرع في . أفعال العباد، فمن لا يطلع على حكم الشرع في جميع أفعاله، لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلاً .
وأما الثاني : وهو النظر بعين الاعتبار، فهو إدراك حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه : إذ ما خلق الله تعالى شيئاً في العالم إلا وفيه حكمة، وتحت الحكمة مقصود، وذلك المقصود هو المحبوب . وتلك الحكمة منقسمة إلى جلية وخفية .
أما الجلية، فكالعلم بأن الحكمة في خلق الشمس أن يحصل الليل والنهار، فيكون النهار معاشاً، والليل سباتاً، فتتيسر الحركة عند الأبصار، والسكون عند الاستتار، فهذا من جملة حكم الشمس، لا كل الحكمة فيها، كذلك معرفة الحكمة في الغيم ونزول الأمطار .(1/39)
وأما الحكمة في خلق الكواكب، فخفية لا يطلع عليها كل الخلق، وقد يطلعون على بعض ما فيها من الحكم، نحو كونها زينه للسماء، وجميع أجزاء العالم لا تخلو منه ذرة عن حكمة، وكذلك أعضاء الحيوان، منها ما تبين حكمته بياناً ظاهراً، كالعلم ،بأن العين للإبصار، واليد للبطش، والرجل للمشى . فأما الأعضاء الباطنة، كالمرارة، والكلية والكبد، وآحاد العروق، والأعصاب وما فيها من التجاويف والرقة والغلظة، فلا يعرف الحكمة فيها كل الناس، والذين يعرفونها إنما يعرفون منها قدراً يسيراً بالنسبة إلي علم الله تعالى، فكل من استعمل شيئاً في جهة غير الجهة التي خلق لها ذلك الشيء على غير الوجه الذي أريد به، فقد كفر نعمة الله تعالى فيه، فمن ضرب غيره بيده بغير حق، فقد كفر نعمة الله تعالى في اليد لأنها خلقت ليدفع بها عن نفسه ما يؤذيه، ويتناول ما ينفعه، لا ليؤذى بها غيره، وكذلك العين إذا نظر بها إلى محرم، فقد كفر نعمتها، ونعمة الشمس أيضاً، إذا الإبصار يتم بها، فالعين والشمس خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه، ويبقى بهما ما يضره فيهما .
واعلم : أن المراد من خلق الخلق وخلق الدنيا وأسبابها، أن يستعين بها الخلق على الوصول إلى الله تعالى، ولا أنس إلا بدوام الذكر، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن، ولا يبقى البدن إلا بالأرض والماء والهواء، ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق جميع الأعضاء الباطنة والظاهرة، وكل ذلك لأجل البدن، والبدن مطية النفس، والراجع إلى الله هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة، ولذلك قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة الله، فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها، لإقدامه على تلك المعصية .(1/40)
ولنذكر مثالاً واحداً للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء، حتى يعتبر بها، ويعلم طريق الشكر والكفران على النعم، فيقول : من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير اللذين بهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعينهما، ولكن يضطر الخلق إليهما، من حيث كل إنسان يحتاج إلى أعيان كثيرة، في مطعمه، ومشربه، وملبسه، ومركبه، وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه، ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك قدراً من الزعفران مثلاً وهو يحتاج إلى جمل يركبه، وآخر يملك الجمل، وربما استغنى عنه، ويحتاج إلى الزعفران، فلا بد بينهما من معاوضة، ولابد في مقدار العوض من تقدير، إذا لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل، حتى يعطى مثله في الوزن والصورة . وكذا من يشترى داراً بثياب، أو عبداً بخف، أو دقيقاً بحمار ، فهذه الأشياء لا تناسب بينهما ، فخلق الله تعالى الدراهم والدنانير، حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال، حتى تقدر بهما، فيقال : هذا الجمل يساوى مائة ، وهذا القدر من الزعفران يساوى مائة، فحصل التساوي بينهما حينئذ، وإنما أمكن التعديل بينهما بالنقدين ، إذ لا غرض في أعيانهما ، فإنه لو كان في أعيانهما فرض لم ينتظم الأمر، فخلقهما الله لتداولها الأيدي ، ويكون حاكمين بين الأموال بالعدل ، وجعلهما عزيزين في أنفسهما، ونسبتهما الى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما ، فكأنه ملك كل شئ .(1/41)
إذا عرفت حكمتهما، فكل من عمل فيهما عملاً يخالف المقصود منهما، ولا يليق بحكمتهما، فقد كفر نعمة الله فيهما، فمن كنزهما فقد أبطلهما وأبطل الحكمة فيهما، ومنع الأيدى من تداولهما . ولما كان كثير من الخلق عاجزين عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة على صفحات الموجودات بخط إلهي لا يدرك بعين البصر، بل بعين البصيرة، أخبرهم الله تعالى بكلام سمعوه بواسطة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم، فقال : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } [ التوبة : 34 ] .
وكل من اتخذ الدراهم والدنانير آنية، فقد كفر نعمة الله فيهما ،لأنه أسوأ حالاً ممن كنزهما .
ومثال ذلك من استعمل حاكم البلد في الحياكة والكنس والأعمال التي يقوم بها أخس الناس، وذلك أن الحديد والنحاس والخزف وغيرها يقوم مقام الذهب والفضة من كونهما قيم الأشياء، فمن لم تنكشف له هذه الحكمة بالرحمة الإلهية قيل له : " من شرب في إناء ذهب أوفضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم " وكذلك كل من عامل بالربا في الدراهم والدنانير، فقد أخرجهما عن مقصودهما، فهذا مثال لحكمة خفية من حكم النقدين .
فينبغي أن تعتبر شكر النعمة وكفرها بهذا المثال في غيره من جميع أمورك، في حركتك، وسكونك، ونطقك، وسكوتك في كل فصل صادر منك، إما شكراً أوعكسه، وهو الكفر وبعض ذلك تصفه بالكراهة، وبعضه بالحظر .
ومن ذلك أن الله تعالى خلق لك يدين، جعل إحداهما أقوى من الأخرى، فاستحقت بمزيد القوة رجحاناً وشرفاً على الأخرى، وقد أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال، بعضها شريفة، كأخذ المصحف، وبعضها خسيسة، كإزالة النجاسة، فإذا أخذت المصحف باليسار، وأزلت النجاسة باليمين، فقد عكست المقصود، وخصصت الشريف بما هو خسيس، فظلمته، وكذلك في الرجلين، إذا ابتدأت باليسرى في لبس الخف، فقد ظلمت اليمنى، لأن الخف وقاية الرجل، وقس على ذلك .(1/42)
وكذلك نقول : من كسر غصناً من شجرة لغير حاجة مهمة وغرض صحيح، فقد خالف الحكمة في خلق الأشجار، لأنها خلقت للمنفعة بها، فإن كان كسره لغرض صحيح، فلا بأس، وإن فعل ذلك في ملك غيره، فهو ظالم، وإن كان محتاجاً، إلا أن يأذن صاحبه .
7ـ فص في بيان النعم وحقيقتها وأقسامها
واعلم : أن كل مطلوب يسمى نعمة، ولكن النعمة في الحقيقة هي السعادة الأخروية، وتسمية ما عداها نعمة تجوز، والأمور كلها بالإضافة إلينا تنقسم أربعة أقسام :
أحدهما : ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً، كالعلم، وحسن الخلق، وهو النعمة الحقيقية .
الثاني : ما هو ضار فيهما جميعاً، وهو البلاء حقيقة .
القسم الثالث : ما ينفع في الحال، ويضر في المآل، كالتلذذ، واتباع الشهوات، فهو بلاء عند ذوى الأبصار، والجاهل يظنه نعمة .
ومثاله : الجائع إذا وجد عسلاً فيه سم، فأنه يعده نعمة إن كان جاهلاً، فإذا علم ذلك عدة بلاًء .
القسم الربع : الضار فىالحال، النافع في المآل،وهو نعمة عند ذوى الألباب، بلاء عند الجهال .
ومثاله : الدواء الشنيع مذاقه في الحال، الشافي في المآل من الأسقام، فالصبىالجاهل، إذا كلف شربه ظنه بلاء، والعاقل يعده نعمه، وكذلك إذا احتاج الصبي الى الحجامة، فإن الأب يدعوه إليها ويأمره بها، لما يلحظ في عاقبتها من الشفاء، والأم تمنعه من ذلك لفرط حبها وشفقتها، لكونها جاهلة بالمصلحة في ذلك، فالصبي يتقلد من أمه بجهله ، ويأنس إليها دون أبيه، ويقدر أباه عدواً، ولو عقل لعلم أن الأم هي العدو الباطن في صورة صديق، لأن من منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض أشد من ألم الحجامة، فالصديق الجاهل شر من العدو العاقل، وكل إنسان صديق نفسه، ولكن النفس صديق جاهل، فلذلك تعمل بما لا يعمل العدو .
8ـ فصل في بيان كثرة نعم الله وتسلسلها وخروجها عن الحصر والإحصاء
اعلم : أن النعم تنقسم إلى ما هو غاية مطلوبة لذاتها، وإلى ما هو مطلوب لأجل الغاية .(1/43)
أما الغاية فهي سعادة الآخرة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور : بقاء لا فناء له، وسرور لا غم فيه، وعلم لاجهل معه، وغنى لا فقر بعده، وهى السعادة الحقيقية .
وأما القسم الثاني : فهو الوسائل إلى السعادة المذكورة، وهى أربعة أقسام :
أعلاها : فضائل النفس، كالإيمان وحسن الخلق .
الثاني : فضائل البدن، من القوة والصحة ونحوهما .
الثالث : النعم المطيفة للبدن، من المال والجاه والأهل .
الرابع : الأسباب التي جمع بينها وبين ما يناسب الفضائل، من الهداية والإرشاد، والتسديد، والتأييد، وكل هذه نعم عظيمة .
فإن قيل : ما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة في المال والجاه ونحوهما ؟
قلنا : هذه الأشياء جارية مجرى الجناح المباح، والآلة المستعملة للمقصود .
أما المال، فإن طالب العلم إذا لم تكن معه كفاية، كان كساع إلى الهيجاء بغير سلاح، ولأنه يبقى مستغرق الأوقات في طلب القوت، فيشغله عن تحصيل العلم، وعن الذكر، والفكر، ونحو ذلك .
وأما الجاه فيه يدفع عن نفسه الذل والضيم، ولا ينفك عن عدو يؤذيه، وظالم يهوش عليه، فيشغل قلبه، وقلبه رأس ماله، وإنما تدفع هذه الشواغل بالعز والجاه .
وأما الصحة والقوة وطول العمر ونحوها، فهي نعم، إذ لا يتم علم ولا عمل إلا بذلك .
وقد قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم : " نعمتان مغبون فيهما كثر من الناس : الصحة، والفراغ " .
ولما سئل : من خير الناس ؟ قال : " من طال عمره وحسن عمله " .
وأمال المال والجاه، وإن كانا نعمتين، فقد ذكرنا ما فيهما من الآفات فيما تقدم، وأنهما ليسا بمذمومين على الإطلاق .
وأما الهداية والرشد والتسديد والتأييد، فلا خفاء في كونهما من أعظم النعم، فلا يستغني أحد عن الحاجة إلى التوفيق، ولذلك قيل :
إذا لم يكن عون الله للفتى فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
9ـ فصل [ من نعم الله الأسباب التي يتم بها الأكل ](1/44)
واعلم : أنا قد ذكرنا جملة من النعم، وجعلنا صحة البدن نعمة واحدة من النعم الواقعة في الرتبة الثانية، فلو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة، لم نقدر عليها، ولكن الأكل أحد أسباب الصحة، فلنذكر شيئاً من جملة الأسباب التي يتم بها الأكل على سبيل التلويح، لا على سبيل الاستقصاء، فنقول : من جملة نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس، وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في الحواس الخمس، التي هي آلة للإدراك .(1/45)
فأولهما : حاسة اللمس، وهو أول حس يخلق للحيوان، وأنقص درجات الحس أن يحس بما يلاصقه، فإن الإحساس بما يبعد منه أتم لا محالة، فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك، فخلق لك الشم تدرك الرائحة من بعيد، ولكن لا تدرى من أي ناحية جاءت الرائحة، فتحتاج أن تطوف كثيراً حتى تعثر على الذي شممت رائحته، وربما لم تعثر، فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك، وتدرك جهته فتقصدها بعينها، إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصاً، إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب، فربما قصدك عدو بينك وبينه حجاب، وقرب منك قبل أن يكشف الحجاب، فتعجز عن الهرب، فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الحجرات عند جريان الحركات، ولا يكفى ذلك، لو لم يكن لك حسن الذوق، إذ به تعلم ما يوافقك وما يضرك، بخلاف الشجرة، فإنه يصب في أصلها كل مائع، ولا ذوق له فتجذبه، وربما يكون ذلك سبب جفافها، ثم أكرمك الله تعالى بصفة أخرى، هي أشرف من الكل، وهو العقل، فبه تدرك الأطعمة ومنفعتها، وما يضر في المآل، وبه تدرك طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها، فتنتفع به في الأكل الذي هو سبب صحتك، وهو أدنى فوائد العقل، والحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى، وما ذكرنا من الحواس الخمس الظاهرة فهي بعض الحركات، ولا تظن أننا استوفينا شيئاً من ذلك، فإن البصر واحد من الحواس، والعين آلة له، وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة، بعضها رطوبات، وبعضها أغشية مختلفة، لكل واحد من الطبقات العشر صفة، وصورة، وشكل، وهيئة، وتدبير، وتركيب، لو اختلت طبقة واحدة أو صفة واحدة لاختل البصر، وعجز عنه الأطباء كلهم، فهذا في حس واحد، وقس حاسة السمع وسائر الحواس، ولا يمكن أن يستوفى ذلك في مجلدات، فكيف ظنك بجميع البدن ؟ !(1/46)
ثم انظر بعد ذلك في خلق الإرادة والقدرة، وآلات الحركة في أصناف النعم، وذلك أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الطعام، ولم يخلق لك في الطبع شوق إليه وشهوة تستحثك على الحركة، كان البصر معطلاً، فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له، ولا يقدر على تناوله لسقوط شهوته، فخلق الله لك شهوة الطعام وسلطها عليك، كالمتقاضى الذي يضطرك إلى تناول الغذاء .
ثم إن الشهوة لو لم تسكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام، لأسرفت وأهلكت نفسك، فخلق لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها، وكذلك القول في شهوة الوقاع لحكمة بقاء النسل .
ثم خلق لك الأعضاء التي هي آلات الحركة في تناول الغذاء وغيره، منها اليدان،وهما مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات وتمتد وتنثني، ولا تكون كخشبة منصوبة .
ثم جعل رأس اليد عريضاً، وهو الكلف، وقسمه خمسة أقسام، وهى الأصابع وجعلها مختلفة في الطول والقصر، ووضعها في صفين، بحيث يكون الإبهام في جانب، ويدور على الأصابع البواقى، ولو كانت مجتمعة متراكمة، لم يحصل تمام الغرض، ثم خلق لها أظافر، وأسند إليها رؤوس الأصابع، لتقوى بها، ولتلتقط بها بعض الأشياء الدقيقة التي لا تحويها الأصابع، ثم هب أنك أخذت الطعام باليد، فلا يكفيك حتى يصل إلى باطنك، فجعل لك الفم واللحيين، خلقهما من عظمين، وركب فيهما الأسنان، وقسمها بحسب ما يحتاج إليه الطعام، فبعضها قواطع كالرباعيات، وبعضها يصلح للكسر كالأنياب، وبعضها طواحن كالأضراس، وجعل اللحى الأسفل متحركاً حركة دورية، واللحى الأعلى ثابتاً لا يتحرك، فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى، وإن كل رحى صنعها الخلق يثبت منها الحجر الأسفل ويدور الأعلى، إلا هذه الرحى التي هي من صنع الله سبحانه وتعالى، فإنه يدور منها الأسفل على الأعلى، إذ لو دار الأعلى خوطر بالأعضاء، الشريفة التي يحتوى عليها .(1/47)
ثم انظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان، فإنه يطوف في جوانب الفم، ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة، كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى، هذا مع ما فيه من عجائب قوة النطق . ثم هب أنك قطعت الطعام وعجنته وهو يابس، فلا تقدر على الابتلاع إلا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة . انظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عيناً يفيض منها اللعاب، وينصب بقدر الحاجة حتى ينعجن به الطعام . ثم هذا الطعام المطحون المعجون من يوصله إلى المعدة وهو في الفم، فإنه لا يمكن إيصاله باليد، فهيأ الله تعالى المريء والحنجرة، وجعل رأسها طبقات ينفتح لأخذ الطعام، ثم ينطبق وينضغط حتى يقلب الطعام، فيهوى في دهليز المريء إلى المعدة، فإذا ورد الطعام إلى المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة، فلا يصلح أن يصير لحماً وعظماً ودماً على هذه الهيئة حتى يطبخ طبخاً تاماً، فجعل الله المعدة على هيئة قدر يقع فيه الطعام، فتحتوى عليه وتغلق عليه الأبواب، وينضج بالحرارة التي تتعدى إليها من الأعضاء الأربعة، وهى الكبد من جانبها الأيمن، والطحال من جانبها الأيسر، والثرب (3) من أمامها، ولحم الصلب من خلفها، فينضج الطعام ويصير مائعاً متشابهاً يصلح للنفوذ في تجاويف العروق، ثم ينصب الطعام من العروق إلى الكبد، فيستقر فيها ريثما يصلح له نضج آخر، ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه ثقل ثم يندفع . ولو استوفينا الكلام في ذلك لطال .
وفى الآدمي من العضلات والعروق ما لا يحصى، مختلف بالصغر والكبر والدقة والغلظ، ولا شئ منها إلا وفيه حكمة، وكل ذلك من الله سبحانه، ولو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن، لهلكت يا مسكين .(1/48)
فانظر إلى نعم الله تعالى عليك، لتقوى على الشكر، فإنك لا تعرف من نعمة الله تعالى إلا نعمة الأكل، وهى أخسها، ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع وتأكل، والبهيمة أيضاً تعرف أنها تجوع وتأكل، وتتعب فتنام، وتشتهى فتجامع، وإذ لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار، فكيف تقوم بشكر الله ؟ وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر نعم الله تعالى ، فقس على ذلك .
وجملة ما عرفنا وعرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه، أقل من قطرة في بحر . قال الله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 والنحل : 17 ] .
10ـ فصل [ في عجائب الأغذية والأدوية ]
واعلم : أن الأطعمة كثيرة مختلفة، والله تعالى في خلقها عجائب لا تحصى، وهى تنقسم إلى أغذية وأدوية وفواكه وغيرها .(1/49)
فنتكلم عن بعض الأغذية، فنقول : إذا كان عندك شئ من الحنطة، فلو أكلتها لفنيت وبقيت جائعاً، فما أحوجك إلى عمل ينمى به حب الحنطة ويتضاعف حتى يفي بتمام حاجتك، وهو زرعها، وهو أن تجعلها في أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طيناً،ثم لا يكفى الماء والتراب، إذ لو تركت في الأرض ندية صلبة، لم تنبت لفقد الهواء، فيحتاج إلى تركها إلى أرض متخلخلة يتغلغل الهواء فيها،ثم الهواء لا يتحرك إليه بنفسه، فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء، وتصرفه بقهر على الأرض، حتى ينفذ فيها، ثم كل ذلك لا يغنى، فيحتاج إلى حرارة الربيع والصيف، فإنه لو كان في البرد المفرط لم ينبت . ثم انظر إلى الماء الذي يحتاج إليها هذه الزراعة كيف خلقه الله تعالى ؟ فجر العيون وأجرى منها الأنهار، ولما كان بعض الأرض مرتفعاً لا يناله الماء، أرسل إليها الغيوم، وسلط عليها الرياح لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم، وهى سحب ثقال، ثم يرسله على الأرض مدراراً في وقت الحاجة . وانظر كيف خلق الله الجبال حافظة للماء، تنفجر منها العيون تدريجاً، فلو خرجت دفعة واحدة لغرقت البلاد وهلك الزرع وغيره .
وانظر كيف سخر الشمس وخلقها، مع بعدها عن الأرض، مسخنة لها في وقت دون وقت، ليحصل البرد عند الحاجة إليه، والحر عند الحاجة إليه،
وخلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، كما جعل من خاصية الشمس التسخين فهو ينضج الفواكه بتقدير الحكيم الخبير، وكل كوكب خلق في السماء، فهو مسخر لنوع فائدة، كما سخرت الشمس والقمر، ولا يخلو كل واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها، وكذلك الشمس والقمر، فيهما حكم آخر غير ما ذكرنا لا تحصى .(1/50)
ولما كانت كل الأطعمة لا توجد في كل مكان، سخر الله تعالى التجار، وسلط عليهم الحرص على جمع المال، مع أنه لا يغنيهم في غالب الأمر شئ، بل يجمعون الأموال، فإما أن تغرق بها السفن أو تنهبها قطاع الطرق، أو يموتون في بعض البلاد، فتأخذها السلاطين، وأحسن أحوالها أن يأخذها ورثتهم، وهم أشد أعدائهم لو عرفوا، فانظر كيف سلط الله عليهم الأمل والغفلة، حتى يقاسوا الشدائد في طلب الريح في ركوب البحار، وركوب الأخطار، فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك .
واعلم : أن الخلق لم يقصروا عن شكر النعمة إلا للجهل والغفلة، فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها، ثم إن عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه : الحمد لله، والشكر لله،ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وهى طاعة الله تعالى .
أما الغفلة عن النعم فلها أسباب :(1/51)
أحدها : أن الناس لجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق في جميع أحوالهم نعمة، فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكرناه،من النعم، لأنها عامة للخلق، فلا يعده نعمة، فلا تراهم يشكرون الله على روح الهواء، ولو أخذ بمخنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا، ولو حبسوا في حمام أو بئر ماتوا غماً، فإن ابتلى أحدهم بشيء من ذلك ثم نجا، قدر ذلك نعمة يشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل، إذ صار شكرهم موقوفاً على أن تسلب عنهم النعمة، ثم ترد إليهم في بعض الأحوال، فالنعم في جميع الأحوال أولى بالشكر، فلا ترى البصير يشكر صحة البصر إلا أن يعمى، فإذا أعيد بصره أحس بالنعمة وشكرها حينئذ وعدها نعمة، وهو مثل عبد السوء يضرب دائماً، فإذا ترك ضربه ساعة، شكر وتقلد ذلك منة ، وإن ترك ضربه أصلا، غلبه البطر وترك الشكر، فصار الناس لا يشكرون إلا على المآل الذي يتطرق الاختصاص إليه م حيث الكثرة والقلة، وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم . كما روى أن بعضهم شكا فقره إلى بعض أرباب البصيرة، وأظهر شدة اغتمامه بذلك، فقال له : أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم ؟ قال لا، قال : أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم ؟ قال : لا، قال : أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفاً ؟ قال : لا، قال : أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف ؟ قال : لا، قال : أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً .
وحكى عن بعض الفقراء أنه اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعاً، فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له : أتود أن أنسيناك سورة الأنعام ولك ألف دينار ؟ قال : لا، قال : فسورة هود ؟ قال : لا، قال : فسورة يوسف ؟ قال : لا، قال فمعك قيمة مائة ألف دينار وأنت تشكو ؟ فأصبح وقد سرى عنه .(1/52)
ودخل ابن السماك على الرشيد في عظة . فبكى ثم دعا بماء في قدح فقال : يا أمبر المؤمنين، لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفديها بها، قال : نعم، قال فاشرب رياً، بارك الله فيك . فلما شرب، قال له : يا أمير المؤمنين، أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتدى ذلك ؟ قال : نعم قال فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه !
وهذا يبين أن نعمة الله على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها، ثم تسهيل خروج الحدث من أعظم النعم، وهذه إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة .
اعلم : أن ما من عبد إلا إذا أمعن النظر رأى من نعم الله نعماً كثيرة لا يشاركه فيها عموم الناس، بل قد يشاركه في ذلك كثير منهم، من ذلك العقل، فما من عبد إلا وهو راضٍ عن الله سبحانه في عقله، يعتقد أنه أعقل الناس، وقلما يسأل الله العقل، وإذا كان ذلك اعتقاده، فيجب عليه أن يشكر الله تعالى على ذلك .
ومن ذلك الخلق، فإنه ما من عبد إلا ويرى من غيره عيوباً يكرهها، وأخلاقاً يذمها، ويرى نفسه بريئاً منها، فينبغي أن يشكر الله تعالى على ذلك، حيث أحسن خلقه وابتلى غيره .
ومن ذلك أن ما من أحد إلا وهو يعرف من بواطن أمور نفسه وخفايا أركانها ما هو منفرد به، ولو كشف الغطاء عنه حتى أطلع عليه أحد من الخلق لافتضح، فكيف لو اطلع الناس كافة ؟ فلم لا يشكر الله بستره الجميل على مساويه، حيث أظهر الجميل وستر القبيح .
ولننزل إلى طبقة أعم من هذا القبيل، فنقول : ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته، أو أخلاقه أو صفاته، أو أهله، أو ولده، أو مسكنه أو بلده، أو رفيقه أو أقاربه، أو جاهه، أو سائر محابه، أموراً، لو سلب ذلك وأعطى ما خصص به من ذلك غيره، لكان لا يرضى به، وذلك مثل أن جعله مؤمناً لا كافراً، وحياً لا جماداً، وإنساناً لا بهيمة، وذكراً لا أنثى، وصحيحاً لا مريضاً، وسليماً لا معيباً، فإن كل هذه خصائص .(1/53)
فإن كان لا يرى أن يبدل حاله بحال غيره، مثل أن يعرف شخصاً يرتضى لنفسه حاله بدلاً عن حال نفسه، إما على الجملة، أو في أمر خاص، فإن الله عليه نعماً ليست له على أحد من عباده سواه، وإن كان يرى انه يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون بعض، فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده، فإنه يراه عنده لا محالة أقل من غيرهم، فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير ممن فوقه، فما باله ينظر فوقه ولا ينظر إلى من دونه ؟ !
وفى " الصحيحين " عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه " وقد رواه الترمذى بلفظ آخر : " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم " فإن من اعتبر حال نفسه، وفتش على ما خص به، وجد لله تعالى نعماً كثيرة، لا سيما من خص الإيمان، والقرآن، والعلم، والسنة، ثم الفراغ، والصحة والأمن وغير ذلك .
وقد روى في بعض الأحاديث " من قرأ القرآن فهو غنى " وفى لفظ " القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى دونه " (4) .
وفى حديث آخر : " من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " .
وقال بعضهم :
إذا ما القوت يأتى لـ ك والصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن
فإن قيل : فما علاج القلوب الغافلة عن شكر نعم الله تعالى ؟(1/54)
فالجواب : أما القلوب المبصرة، فتتأمل ما رمز إليه من أصناف نعم الله عز وجل، وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا نزل بها البلاء، فسبيل صاحبها أن ينظر أبداً إلى من دونه، ويفعل ما كان يفعله بعض القدماء، فإنه كان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع البلاء عليهم، ثم يتأمل صحته وسلامته، ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أيديهم وأرجلهم ويعذبون، فيشكر الله على سلامته من تلك العقوبات، ويحضر المقابر، فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا، ليتدارك من عصا عصيانه، وليزيد في الطاعة من أطاع، فإن يوم القيامة يوم التغابن، فإذا شاهد المقابر، وعلم أحب الأشياء إليهم، فليصرف بقية عمره في طاعة الله تعالى وشكره في الإمهال، بأن يصرف العمر إلى ما خلق لأجله، وهو التزود للآخرة .
ومما ينبغي أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر أن يعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت .
كان الفضيل رحمه الله تعالى يقول : عليكم بمداومة الشكر على النعم، فقل نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم .
11ـ فصل في بيان اجتماع الصبر والشكر على وجه واحد
لعلك تقول : قد ذكرت أن لله تعالى في كل موجود نعمة، وهذا يشير إلى أن البلاء لا وجود له أصلاً، فما معنى الصبر، وإن كان البلاء موجوداً، فما معنى الشكر على البلاء ؟ وكيف يجتمع الصبر والشكر ؟ فإن الصبر يستدعى ألماً والشكر يستدعى فرحاً، وهما متضادان .(1/55)
فاعلم أن البلاء موجود، كما أن النعمة موجودة، وأنه ليس كل بلاء يأمر بالصبر عليه، مثل الكفر، فإنه بلاء، ولا معنى للصبر عليه، وكذا المعاصي، إلا أن الكافر لا يعلم أن كفره بلاء، فيكون كمن به علة، وهو لا يتألم بها، بسبب غشيته، والعاصي يعرف عصيانه، فعليه ترك المعصية، وكل بلاء يقدر الإنسان على دفعه لا يأمن الصبر عليه، فلو ترك شرب الماء مع العطش حتى عظم ألمه، لم يأمر بالصبر على ذلك، بل يأمر بإزالة الألم، وإنما يكون الصبر على ألم ليس إلى العبد إزالته، فإذن يرجع الصبر في الدنيا إلى ما ليس ببلاء مطلق، بل يجوز أن يكون نعمة من وجهه، فلذلك يتصور أن يجتمع عليه وظيفة الشكر ووظيفة الصبر، فإن الغنى مثلاً يجوز أن يصير سبب هلاك الإنسان، حتى يقصد قتله بسبب ماله، والصحة أيضاً كذلك، فما من نعمة من نعم الدنيا إلا ويجوز أن تصير بلاء وقد يكون على العبد في بعض الأمور بلاء وفيه نعمة .
مثال ذلك . جهل الإنسان بأجله، فإنه نعمة عليه، إذ لو عرفه تنغص عليه العيش، وطال بذلك غمه، وكذلك جهله بما يضمره بعض الناس له، إذ لو اطلع عليه لطال ألمه وحقده وحسده واشتغاله بالانتقام، وكذلك جهله بالصفات المذمومة من غيره، إذ لو عرف منه ذلك، أبغضه وآذاه، فكان ذلك وبالاً عليه .
ومن ذلك إبهام القيامة، وليلة القدر، وساعة الجمعة، وكل ذلك نعمة، لأن الجهل يوفر الدواعي على الطلب والاجتهاد، فهذه وجوه نعم الله تعالى في الجهل، فكيف في العلم ؟ !(1/56)
وقد قلنا : إن لله سبحانه في كل موجود نعمة، حتى إن الآلام قد تكون نعمة في حق المتألم، وقد تكون نعمة في حق غيره، كألم الكفار في النار في الآخرة، فإنه نعمة في حق أهل الجنة، إذ لو لم يعذب قوم، ما عرف المتنعمون قدر نعيمهم، وإنما يتضاعف فرح أهل الجنة إذا ذكروا ألم أهل النار، ألا ترى أن أهل الدنيا لا يشتد فرحهم بنور الشمس، مع شدة حاجتهم إليها مع أنها عامة ومبذولة، ولا بالنظر إلى زينة السماء، وهى أحسن من كل نبت، لأنها عامة، فلذلك لم يشعروا بها، ولم يفرحوا بسببها، فإذا صح قولنا : إن الله تعالى لم يخلق شيئاً إلا وفيه حكمة ونعمة، إما على جميع العباد، أو على بعضهم، ففى خلق الله تعالى البلاء نعمة أيضاً، إما على المبتلى، أو على غيره، فيجتمع على العبد وظيفة الشكر والصبر في كل حالة لا توصف بأنها بلاء مطلق، ولا نعمة مطلقة، فإن الإنسان قد يفرح بالشيء الواحد من وجه، ويغتم به من وجه آخر، فيكون الصبر من حيث الاغتمام، والشكر من حيث الفرح .
واعلم : أن في كل فقر، ومرض، وخوف، وبلاء في الدنيا، خمسة أشياء ينبغي أن يفرح العاقل بها، ويشكر عليها :
أحدها : أن كل مصيبة ومرض يتصور أن يكون عليها أكثر منها، لأن مقدورات الله تعالى لا تتناهى، فلو أضعفها الله عز وجل على العبد، فما كان يمنعه ؟ فليشكر إذ لم يكن أعظم .
الثاني : أن المصيبة لم تكن في الدين .
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علىّ فيه أربع
نعم، إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه .
قال رجل لسهل بن عبد الله : دخل اللص بيتي وأخذ متاعي، فقال : اشكر الله تعالى، لو دخل الشيطان قلبك فأفسد إيمانك، ماذا كنت تصنع ؟ ومن استحق أن يضربك مائة سوط، فاقتصر على عشرة فهو مسحق للشكر .(1/57)
الثالث : أن ما من عقوبة إلا كان يتصور أن تؤخره إلى الآخرة، ومصائب الدنيا يتسلى عنها فتخفف، ومصيبة الآخرة دائمة، وإن لم تدم، فلا سبيل إلى تخفيفها، ومن عجلت عقوبته في الدنيا لم يعاقب ثانياً، كذا ورد في الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم .
وفى " صحيح مسلم " : " إن كل ما يصاب به المسلم يكون كفارة له، حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها " .
الرابع : أن هذه المصيبة كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب، ولم يكن بد من وصولها إليه، فقد وصلت واستراح منها، فهي نعمة .
الخامس : أن ثوابها أكثر منها، فإن مصائب الدنيا طرق إلى الآخرة، كما يكون المنع من أسباب اللعب نعمة في حق الصبى، فإنه لو خلى واللعب، لكان يمنعه، ذلك من العلم والأدب، فكان يخسر طول عمره، وكذلك المال والأهل والأقارب والأعضاء، قد تكون سبباً لهلاكه، فالملحدون غداً يتمنون أن لو كانوا مجانين وصبياناً، ولم يتصرفوا بعقولهم في دين الله تعالى، فما من شئ من هذه الأسباب يوجد من العبد، إلا ويتصور أن يكون له في ذلك خبرة دينية، فعليه أن يحسن الظن بالله عز وجل، ويقدر الخيرة فيما أصابه، ويشكر الله تعالى عليه، فإن حكمة الله تعالى واسعة، وهو أعلم بمصالح العباد منهم، وغداً يشكره العباد على البلاء إذا رأوا ثوابه، كما يشكر الصبي بعد البلوغ أستاذه وأباه على ضربه وتأديبه، إذ رأى ثمرة ما استفاد من التأديب .
والبلاء تأديب من الله تعالى، ولطفه بعباده أتم وأوفى من عناية الآباء بالأولاد .
وفى الحديث : " لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له " .
وأيضاً، فاعلم أن رأس الخطايا المهلكة حب الدنيا، ورأس أسباب النجاة التجافي بالقلب عنها، ومواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا والأنس بها، فإذا كثرت المصائب انزعج القلب عن الدنيا ولم يسكن إليها، فصارت سجناً له، فكانت نجاته منها غاية المراد كخلاص المسجون من السجن .(1/58)
وأما التألم فهو ضروري وذلك يضاهى فرحك بمن يحجمك أو يسقيك دواء نافعاً بلا أجر فإنك تتألم وتفرح، فتصبر على الألم، وتشكر على سبب الفرح، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلاء، ومن لا يؤمن أن ثواب المصيبة أكثر منها لم يتصور منه الشكر على المصيبة .
وقد روى أن أعرابياً عزى ابن عباس رضى الله عنه بأبيه فقال :
اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس
خير من العباس صبرك بعده والله خير منك للعباس
فقال ابن عباس رضى الله عنهما : ما عزاني أحد أحسن من تعزيته .
وقد سبق ذكر أنواع البلاء، وثواب الصبر عليها .
فإن قال قائل : الأخبار الواردة في فضل الصبر تدل على أن البلاء في الدنيا خير من النعيم، فهل لنا أن نسأل الله عز وجل البلاء ؟
فالجواب : أنه لا وجه لذلك، فإن في الحديث من رواية أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد رجلاً من المسلمين صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " هل كنت تدعو بشيء أو تسأله ؟ " قال : نعم، كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة،فعجله لى في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، فهلا قلت : اللهم آتتا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " .
ومن حديث أنس رضى الله عنه أيضاً، أن رجلاً قال : يا نبى الله : أي الدعاء أفضل ؟ قال : " سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة " ثم أتاه الغد، فقال يا رسول الله، أي الدعاء أفضل ؟ قال : " سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة " ثم أتاه اليوم الثالث، فقال : " سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، فإن أعطيت العفو والعافية في الدنيا والآخرة فقد أفلحت " .
وفى " الصحيحين " انه صلى الله عليه وآله وسلم قال : " تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشفاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء " .(1/59)
وقال مطرف : لأن أعافى فأشكر، أحب إلىّ من أن ابتلى فأصبر .
12ـ فصل في بيان أيهما أفضل الصبر أم الشكر
واختلف الناس : هل الصبر أفضل من الشكر، أو بالعكس ؟ وفى ذلك كلام طويل، ذكره المصنف رحمه الله، وتلخيص القول فيه : أن لكل واحد من الصبر والشكر درجات .
فأقل درجات الصبر، ترك الشكوى مع الكراهة، ووراءها المرضى، وهو مقام وراء الصبر، ووراء ذلك الشكر على البلاء وهو وراء الرضى .
ودرجات الشكر كثيرة، فإن حياء العبد مع تتابع نعم الله عليه شكر، ومعرفته بالصبر عن الشكر شكر، والمعرفة بعظيم حلم الله وستره شكر، والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله بغير استحقاق شكر، والعلم بأن الشكر نعمة من نعم الله شكر، وحسن التواضع في النعم والتذلل فيها شكر، وشكر الوسائط شكر، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ” لا يشكر الله من لا يشكر الناس” وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر، وتلقى النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر، فما يندرج من الأعمال والأقوال تحت اسم الشكر والصبر لا ينحصر، وهى درجات مختلفة، فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدهما على الآخر ؟
لكن نقول : إذا أضيف إلى الشكر الذي هو صرف المال إلى الطاعة، فالشكر أفضل، لأنه تضمن الصبر أيضاً، وفيه فرح بنعمة الله عز وجل، وفيه احتمال ألم في صرفه إلى الفقراء، وترك صرفه إلى التنعيم المباح، فهو أفضل من الصبر بهذا الاعتبار .(1/60)
وأما إذا كان شكر المال ألا يستعين به على معصية، بل يصرفه إلى التنعيم المباح، فالصبر هنا أفضل من الشكر، والفقير الصابر أفضل من الممسك ماله الصارف له في المباحات، لأن الفقير قد جاهد نفسه وأحسن الصبر على بلاء الله تعالى، وجميع ما ورد من تفضيل أجزاء الصبر على الشكر، إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص، لأن السابق إلى إفهام الناس، من نعمة الأموال، والغنى بها، والسابق من الإفهام من الشكر أن يقول الإنسان : الحمد لله، فإذن الصبر الذي يعتمده العامة أفضل من هذا الشكر الذي يفهمونه، ومتى لحظت المعنى الذي ذكرناه، علمت بأن لكل واحد من القولين وجهاً في بعض الأحوال، فرب فقير صابر أفضل من غنى شاكر كما ذكر، ورب غنى شاكر أفضل من فقير صابر، وذلك هو الغنى الذي يرى نفسه مثل الفقير الذي لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة، ويصرف الباقي في الخيرات، أو يمسكه على اعتقاده أنه خازن للمحتاجين، وإنما ينتظر حاجة تسنح حتى يصرف إليها، وإذا صرفه لم يصرفه لطلب جاه ولا تقليد منه، فهذا أفضل من الفقير الصابر، والله سبحانه وتعالى أعلم .
**********************
وأخيرا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الشاكرين الذين قال فيهم :
( بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر:66) أبو حمزة الشامي
16 رجب 1425 هـ الموافق 1/9/2004 م
*********************
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى :
قاعدة جليلة في توحيد الله
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما .(1/61)
وبعد : فهذه قاعدة جليلة في توحيد الله، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، قال الله تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} الآية [ آل عمران : 26 ] ، وقال تعالى : {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [ النحل : 53 ] ، وقال تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [ الأنعام : 17 ] ، وقال تعالى فى الآية الأخرى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهٌِ} [ يونس : 107 ] ، وقال تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة : 5 ] ، وقال تعالى : {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [ هود : 123 ] ، وقال تعالى : {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [ هود : 88 ] ، وقال تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ التغابن : 1 ] ، وقال تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [ محمد : 19 ] ، وقال تعالى : {ٍقُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} الآية [ الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا(1/62)
تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [ سبأ : 22، 23 ] ، وقال تعالى : {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [ الإسراء : 56، 57 ] ،وقال تعالى : {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [ القصص : 88 ] ، وقال تعالى : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} الآية [ الفرقان : 58 : 59 ] ، وقال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} الآية [ البينة : 5 ] . ونظائر هذا فى القرآن كثير، وكذلك فى الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة، ولاسيما أهل العلم والإيمان منهم، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع .
ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة :
وذلك أن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق سوى الله، هو فقير محتاج إلى جَلْب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرَّة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلابد له من أمرين :
? أحدهما : هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به .(1/63)
? والثاني : هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه . وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء :
o أحدها : أمر محبوب مطلوب الوجود .
o الثاني : أمر مكروه مبغض مطلوب العدم .
o والثالث : الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب .
o والرابع : الوسيلة إلى دفع المكروه .
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر .
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه :
أحدها : أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة : 5 ] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب؛ فالأول : من معنى الألوهية . والثاني : من معنى الربوبية؛ إذ الإله : هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكرامًا . والرب : هو الذى يربى عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها .
وكذلك قوله تعالى : {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [ هود : 88 ] ، وقوله : {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِِ} [ هود : 123 ] ، وقوله : {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [ الممتحنة : 4 ] ، وقوله تعالى : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [ الفرقان : 58 ] ، وقوله تعالى : {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [ الرعد : 30 ] ، وقوله : {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [ المزمل : 8، 9 ] .(1/64)
فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين .
الوجه الثإني : أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته فى الآخرة تَقَرُّ عُيونهم ولا شىء يعطيهم فى الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شىء يعطيهم فى الدنيا أعظم من الإيمان به .
وحاجتهم إليه فى عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم فى خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة، بدون ذلك بحال . بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .
ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول : لا إله إلا الله، رأس الأمر .
فأما توحيد الربوبية الذى أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفى وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى : ( يابن آدم، خلقت كل شىء لك، وخلقتك لى، فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له ) .
واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، كما فى الحديث الصحيح، الذى رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتدرى ما حق الله على عباده ؟ " قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا . أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ) قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( حقهم ألا يعذبهم )
وهو يحب ذلك، ويرضي به، ويرضي عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه؛ كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه، وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع .(1/65)
فليس فى الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة فى الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التلذاذ أكل الطعام المسموم،{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [ الأنبياء : 22 ] ، فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقّا؛ إذ الله لا سَمِيَّ له ولا مثل له؛ فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية .
وأما من جهة الربوبية فشىء آخر؛ كما نقرره فى موضعه .
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة .
فإن حقيقة العبد قلبه، وروحه، وهى لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذى لا إله إلا هو، فلا تطمئن فى الدنيا إلا بذكره، وهى كادحة إليه كَدْحًا فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه .
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا فى وقت وفى بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذى يتنعم به والْتَذَّ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك .
وأما إلهه فلابد له منه فى كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا [ إبراهيم ] الخليل صلى الله عليه وسلم : {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [ الأنعام : 76 ] . وكان أعظم آية فى القرآن الكريم : {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [ البقرة : 255 ] ، وقد بسطت الكلام فى معنى [ القيوم ] فى موضع آخر، وبينا أنه الدائم الباقى الذى لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه .
واعلم أن هذا الوجه مبنى على أصلين :(1/66)
أحدهما : على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم : إن عبادته تكليف ومشقة وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان فى الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس، والله ـ سبحانه ـ يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ} الآية [ التوبة : 120 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( أجرك على قدر نصبك ) ـ فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعى، وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر فى موضعه .
ولهذا لم يجئ فى الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح : أنه تكليف، كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف فى موضع النفى، كقوله :{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [ البقرة : 286 ] ، {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [ النساء : 84 ] ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [ الطلاق : 7 ] أى : وإن وقع فى الأمر تكليف، فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمى جميع الشريعة تكليفًا، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب؛ ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذى تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه فى ذلك أبدًا . قال الله تعالى : {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [ مريم : 65 ] فهذا أصل .(1/67)
الأصل الثإني : النعيم فى الدار الآخرة أيضًا مثل النظر إليه، لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم، أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق : من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام فى حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما فى الدعاء المأثور : ( اللهم إني أسألك لذة النَّظرِ إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك فى غير ضراء مضرة، ولا فتنة مُضلة ) . رواه النسائى، وغيره . وفى صحيح مسلم وغيره، عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة نادى مناد : يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ؟ ! ألم يُبَيِّضْ وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنْا من النار ؟ ! ـ قال ـ فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه ـ سبحانه ـ فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ) ، وهو الزيادة .
فبين النبي صلى الله عليه وسلم : أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره . فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشىء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم . وروى أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفى الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى فى حق الكفار : {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ } [ المطففين : 15، 16 ] . فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه ـ تعالى .
وهذان الأصلان ثابتان فى الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية والعارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التى فطر الناس عليها .(1/68)
وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة؛ وبالذوق والوجد أخرى ـ إذا أنكر اللذة ـ فإن ذوقها ووجدها ينفى إنكارها . وقد يحتجون بالقياس فى الأمثال تارة؛ وهى الأقيسة العقلية .
الوجه الثالث : أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذى خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن، وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول .
فهذا الوجه يقتضى : التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاه، ومسألته، دون ما سواه . ويقتضى أيضا : محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه فى هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه، وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا فى الوجه الأول . ونظيره فى الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه .
والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم فى الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شىء من هذا، فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه .(1/69)
الوجه الرابع : أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته فى عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته، ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئا حبًا تامًا بحيث يخالله فلابد أن يسأمه، أو يفارقه . وفى الأثر المأثور : ( أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان ) ( واعلم أن كل من أحب شيئا لغير الله فلابد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سببا لعذابه؛ ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته . يقول : أنا كنزك، أنا مالك .
وكذلك نظائر هذا فى الحديث : ( يقول الله يوم القيامة : يابن آدم، أليس عدلا منى أن أولى كل رجل منكم ما كان يتولاه فى الدنيا ؟ ) . وأصل التَّولِّىالحب؛ فكل من أحب شيئًا دون الله ولاه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، فمن أحب شيئًا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء . وكل من أحب شيئًا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه، إلا ما كان لله وفى الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه ) . رواه الترمذى، وغيره .(1/70)
الوجه الخامس : أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضًا معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل . وقد قال الله تعالى : {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [ مريم : 81 : 82 ] .
وهذان الوجهان فى المخلوقات نظير العبادة والاستعانة فى المخلوق، فلما قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة : 5 ] كان صلاح العبد فى عبادة الله واستعانته . وكان فى عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه، مضرته وهلاكه وفساده .
الوجه السادس : أن الله ـ سبحانه ـ غنى، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو ـ سبحانه ـ محسن إلى عبده مع غناه عنه؛ يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانا والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضًا من تيسير الله تعالى، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله . فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك .(1/71)
وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ـ ولو بالدعاء أو الثناء ـ فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجَرَاءُ الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون فى نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد عُلِمَ وأدِّب من جهة أخرى، فيدخل ذلك فى الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه . وهذا من حكمة الله التى أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا.
إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته؛ فقد دعوت مَنْ ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ .(1/72)
والرب ـ سبحانه ـ يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة . فتدير هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه . ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تَخَفْهُمْ فَلا تَرْجُهُمْ، وخَف الله فى الناس ولا تخف الناس فى الله، وارج الله فى الناس ولا ترج الناس فى الله، وكن ممن قال الله فيه : {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [ الليل : 17-20 ] وقال فيه : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا} [ الإنسان : 9 ] .
الوجه السابع : أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها .
الوجه الثامن : أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لِغَرَضٍ لهم فى ذلك .
الوجه التاسع : أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تُعَلِّقْ بهم رجاءك .(1/73)
قال الله تعالى : {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [ الملك : 20-21 ] . والنصر يتضمن دفع الضرر، والرزق يتضمن حصول المنفعة قال الله تعالى : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3، 4 ] ، وقال تعالى : {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا } [ القصص : 57 ] ، وقال الخليل ـ عليه السلام ـ : {رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الآية [ البقرة : 126 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ) : بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ؟
فصل
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة . ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء، أبرارًا كانوا أو فجارًا، ويحافظون على الجماعات .
ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا ) ، وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .
ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) .(1/74)
ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخُيَلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالى الأخلاق، وينهون عن سفسافها وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره، فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة .
وطريقتهم هي دين الإسلام، الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) ، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم . وهم الطائفة المنصورة، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ) .
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب . والله أعلم .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
قال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة :
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وآله وسلم تسليما أما بعد :(1/75)
قد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الأخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعلهم ممن ينصر به السلطان سلطان العلم والحجة والبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصر بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وجنده الغالبين لمن ناواهم من الأقران ومن أئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والأيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والأعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان الذي يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من الداعي إلى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان قال الله تعالى { الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 1 : 4 ] . فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب؛ وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكإذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14، 15 ] .(1/76)
وأخبر في كتابه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] ، وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد 31 ]
وأخبر ـ سبحانه ـ أنه عند وجود المرتدين؛ فلابد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 45 ] .(1/77)
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 144-148 ] .
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر، والشكر، كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لايقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له . إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فَصَبر كان خيرًا له ) . والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه .
ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان .(1/78)
فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
والله هو المسؤول أن يثبتكم، وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه الباطنة والظاهرة، وينصر دينه وكتابه، وعباده المؤمنين على الكافرين، والمنافقين الذي أمرنا بجهادهم والأغلاظ عليهم في كتابه المبين .
وأنتم فأبشروا من أنواع الخير والسرور بما لم يخطر في الصدور . وشأن هذه [ القضية ] وما يتعلق بها أكبر مما يظنه من لا يراعى إلا جزئيات الأمور؛ ولهذا كان فيما خاطبت به أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي إن قلت : هذه [ القضية ] ليس الحق فيها لي بل لله ولرسوله وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين، ولا أنكس راية المسلمين . ولا أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، وفلان .
نعم يمكنني ألا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إليَّ وافترى عليَّ، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا كله مبذول مني ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك، وكنت قد قلت له : الضرر في هذه [ القضية ] ليس عليَّ، بل عليكم، فإن الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه، ويبغضون أولياءه والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من التتار ونحوهم .
وهم دبَّروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار، وبعضهم مقيم بالشام وغيره، ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن إذكرها، ولا أسمِّي من دخل في ذلك حتى تشاوروا نائب السلطان، فإن إذن في ذلك ذكرت لك ذلك، وإلا فلا يقال ذلك له، وما أقوله فاكشفوه أنتم، فاستعجب من ذلك وقال : يا مولانا، إلا تسمى لي أنت أحدًا ؟ فقلت : وأنا لا أفعل ذلك، فإن هذا لا يصلح .
لكن تعرفون من حيث الجملة أنهم قصدوا فساد دينكم، ودنياكم، وجعلوني إمامًا تسترًا، لعلمهم بأني أواليكم، وأسعى في صلاح دينكم ودنياكم، وسوف ـ إن شاء الله ـ ينكشف الأمر .(1/79)
قلت له : وإلا فأنا على أي شيء أخاف ! إن قتلت كنت من أفضل الشهداء ! وكان عليَّ الرحمة والرضوان إلى يوم القيامة ! وكان على من قتلني اللعنة الدائمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة ! ليعلم كل من يؤمن بالله ورسوله أني إن قتلت لأجل دين الله، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله عليَّ، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله على في هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه ! لا أقطاعي ! ولا مدرستي ! ولا مالي ! ولا رياستي وجاهي .
وإنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا والآخرة، وهذا كان مقصود العدو الذي أثار هذه الفتنة .
وقلت : هؤلاء الذين بمصر من الأمراء ، والقضاة، والمشائخ ، إخواني وأصحابي ، أنا ما أسأت إلى أحد منهم قط، وما زلت محسنًا إليهم، فأي شيء بيني وبينهم ؟ ! ولكن لَبَّس عليهم المنافقون أعداء الإسلام . وأنا أقول لكم - لكن لم يتفق أني قلت هذا له : إن في المؤمنين من يسمع كلام المنافقين ويطيعهم، وإن لم يكن منافقًا، كما قال تعالى : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [ التوبة : 74 ] ، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { ولا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ إذاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ]
والنفاق له شعب ودعائم، كما أن للإيمان شعبًا ودعائم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ) . وفيهما أيضا أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر، وإذا اؤتمن خان ) .(1/80)
وقلت له : هذه القضية أكبر مما في نفوسكم، فإن طائفة من هؤلاء الأعداء ذهبوا إلى بلاد التتر . فقال : إلى بلاد التتر ؟ فقلت : نعم . هم من أحرص الناس على تحريك الشر عليكم إلى أمور أخرى لا يصلح أن إذكرها لك .
وكان قد قال لي : فأنت تخالف المذاهب الأربعة، وذكر حكم القضاة الأربعة، فقلت له : بل الذي قلته عليه الأئمة الأربعة المذاهب، وقد أحضرت في الشام أكثر من خمسين كتابًا، من كتب الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأهل الحديث . والمتكلمين، والصوفية، كلها توافق ما قلته بألفاظه، وفي ذلك نصوص سلف الأمة وأئمتها .
ولم يستطع المنازعون ـ مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه ـ أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه، وكان لما أعطاني الدرج . فتأملته فقلت له : هذا كله كذب؛ إلا كلمة واحدة، وهي أنه استوى على العرش حقيقة، لكن بلا تكييف، ولا تشبيه . قلت : وهذا هو في [ العقيدة ] بهذا اللفظ : بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل . فقال : فاكتب خطك بهذا . قلت : هذا مكتوب قبل ذلك في [ العقيدة ] ولم أقل بما يناقضه فأي فائدة في تجديد الخط ؟ ! .
وقلت : هذا اللفظ قد حكى إجماع أهل السنة والجماعة عليه غير واحد من العلماء، المالكية، والشافعية، وأهل الحديث، وغيرهم، وما في علماء الإسلام من ينكر ذلك، إلا هؤلاء الخصوم .
قلت : فإن هؤلاء يقولون : ما فوق العرش رب يُدْعى، ولا فوق السماء إله يُعْبَد، وما هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، ولكن صعد إلى السماء، ونزل . وأن الداعي لا يرفع يديه إلى الله . ومنهم من يقول : إن الله هو هذا الوجود، وأنا الله، وأنت الله، والكلب والخنزير والعذرة ! ويقول : إن الله حالٌّ في ذلك .(1/81)
فاستعظم ذلك، وهاله أن أحدًا يقول هذا . فقال : هؤلاء يعني ؟ ابن مخلوف وذويه . ففلت : هؤلاء ما سمعت كلامهم، ولا خاطبوني بشيء؛ فما يحل لي أن أقول عنهم ما لم أعلمه، ولكن هذا قول الذين نازعوني بالشام، وناظروني وصرحوا لي بذلك، وصرح أحدهم بأنه لا يقبل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في هذا الباب مما يخالفهم .
وجعل الرجل في أثناء الكلام يصغى لما أقوله، ويعيه، لما رأى غضبي؛ ولهذا بلغني من غير وجه أنه خرج فرحًا مسرورًا بما سمعه مني . وقال : هذا على الحق، وهؤلاء قد ضيعوا الله، وإلا فأين هو الله ؟ ! وهكذا يقول كل ذي فطرة سليمة . كما قاله جمال الدين الأخرم للملك الكامل لما خاطبه الملك الكامل في أمر هؤلاء ، فقال له الأخرم : هؤلاء قد ضيعوا إلهك، فاطلب لك إلهًا تعبده .
ومن المعلوم باتفاق المسلمين أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصيرحقيقة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، وإنما ينكر ذلك الفلاسفة الباطنية . فيقولون : نطلق عليه هذه الأسماء، ولا نقول : إنها حقيقة . وغرضهم بذلك جواز نفيها، فإنهم يقولون : لا حي حقيقة، ولا ميت حقيقة، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا سميع ولا أصم .
فإذا قالوا : إن هذه الأسماء مجاز، أمكنهم نفي ذلك؛ لأن علامة المجاز صحة نفيه . فكل من أنكر أن يكون اللفظ حقيقة لزمه جواز إطلاق نفيه، فمن أنكر أن يكون استوى على العرش حقيقة، فإنه يقول : ليس الرحمن على العرش استوى، كما أن من قال : إن لفظ الأسد للرجل الشجاع، والحمار للبليد ليس بحقيقة، فإنه يلزمه صحة نفيه . فيقول : هذا ليس بأسد، ولا بحمار، ولكنه آدمي .(1/82)
وهؤلاء يقولون لهم : لا يستوى الله على العرش . كقول إخوانهم : ليس هو بسميع ولا بصير، ولا متكلم؛ لأن هذه الألفاظ عندهم مجاز . فيأتون إلى محض ما أخبرت به الرسل عن الله ـ سبحانه ـ يقابلونه بالنفي والرد، كما يقابله المشركون بالتكذيب، لكن هؤلاء لا ينفون اللفظ مطلقًا .
وقال الطلمنكي [ هو أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى المعافري الأندلسي، صنف كتبًا كثيرة في السنة، وكان سيفًا مجردًا على أهل الأهواء والبدع ، توفي سنة 924هـ ] ـ أحد أئمة المالكية ـ قبل ابن عبد البر، والباجي، وطبقتهما ـ في [ كتاب الوصول إلى معرفة الأصول ] : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] ، ونحو ذلك من القرآن : أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته مستو على العرش كيف شاء .
وقال ـ أيضًا : قال أهل السنة في قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] : إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة، لا على المجاز . وقال ابن عبد البر في [ التمهيد ] ـ شرح الموطأ، وهو أشرف كتاب صنف في فنه ـ لما تكلم على حديث النزول قال : هذا حديث ثابت لا يختلف أهل الحديث في صحته . وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم : إنه في كل مكان، وليس على العرش .
قال : والدليل على صحة ما قاله أهل الحق، قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] .
وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، وقال : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [ المعارج : 4 ] ، وقال : { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55 ] وذكر آيات .(1/83)
إلى أن قال : وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا خالفهم فيه مسلم .
وهذا مثل ما ذكر محمد بن طاهر عن أبي جعفر الهمداني : أنه حضر مجلس بعض المتكلمين فقال : [ كان الله ولا عرش ] فقال : يا أستاذ ، دعنا من ذكر العرش . أخبرنا عن هذه الضرورات التي نجدها في قلوبنا : ما قال عارف قط يا الله ، إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يُمْنة ولا يسْرَةً . فضرب بيده على رأسه وقال : حيرني الهمداني، حيرني الهمداني . أراد الشيخ أن إقرار الفطر بأن معبودها ، ومدعوها فوق، هو أمر ضروري ، عقلي ، فطري، لم تستفده من مجرد السمع، بخلاف الاستواء على العرش ـ بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام ـ فإن هذا علم من جهة السمع .
ولهذا لا تعرف أيام الأسبوع إلا من جهة المقرين بالنبوات، فأما من لا يعرف ذلك كالترك المشركين ، فليس في لغتهم أسماء أيام الأسبوع . وهذا من حكمة اجتماع أهل كل ملة في يوم واحد في الأسبوع ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليوم لنا، وغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى ) . وبسط ابن عبد البر الكلام في ذلك .
إلى أن قال : وأما احتجاجهم بقوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ، فلا حجة فيه لهم؛ لأن علماء الصحابة، والتابعين قالوا في تأويل هذه الأية : هو على العرش ، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله .(1/84)
قال أبو عمر : أهل السنة مجمعون على الأقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا، ولا يحدون فيه صفة محصورة . وأما أهل البدع ـ الجهمية والمعتزلة والخوارج ـ فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه، وهم ـ عند من أقرَّ بها ـ نافون للمعبود، والحق ما نطق به كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة .
وقال ـ أيضًا : الذي عليه أهل السنة، وأئمة الفقه، والأثر، في هذه المسألة وما أشبهها : الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتصديق بذلك، وترك التحديد، والكيفية في شيء منه .
وقال السجزي في [ الإبانة ] : وأئمتنا كالثوري، ومالك ، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد ، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله ـ سبحانه ـ بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه برءاء .
وقال الشيخ عبد القادر في [ الغنية ] : أما معرفة الصانع بالآيات، والدلالات ـ على وجه الأختصار ـ فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد صمد، إلى أن قال : وهو بجهة العلو، مستو على العرش ، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء . قال : ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال : إنه في السماء على العرش، إلى أن قال : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش . قال : وكونه على العرش في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا تكييف .(1/85)
وذكر الشيخ نصر المقدسي في [ كتاب الحجة ] عن ابن أبي حاتم قال : سألت أبي وأبا زُرْعَةَ عن مذاهب أهل السنة ؟ فقالأ : أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازًا، وعراقًا، ومصر، وشامًا ويمنًا؛ فكان من مذاهبهم : أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص والقرآن كلام الله منزل، غير مخلوق، بجميع جهاته، إلى أن قال : وإن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا .
وقال الشيخ نصر في أثناء الكتاب : إن قال قائل : قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء فإذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه .
فالجواب : أن الذي أدركنا عليه أهل العلم، ومن بلغني قوله من غيرهم . . . فذكر جمل [ اعتقاد أهل السنة ] وفيه : وأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه . كما قال في كتابه .
وقال أبو الحسن الكجي الشافعي في [ قصيدته المشهورة في السنة ] :
عقيدتهم أن الإله بذاته ** على عرشه مع علمه بالغوائب
وقال القرطبي - صاحب التفسير الكبير ـ في قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 59 ] . قال : هذه [ مسألة الاستواء ] وللعلماء فيها كلام . فذكر قول المتكلمين . ثم قال : كان السلف الأول لا يقولون : بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك . بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله؛ كما نطق به كتابه، وأخبرت به رسله . قال : ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة؛ وإنما جهلوا كيفية الاستواء . فإنه لا تعلم حقيقته .
ثم قال ـ بعد أن حكى أربعة عشر قولاً : وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي، والأخبار، والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه ، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه . هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله الثقات عنهم .(1/86)
ولما اجتمعنا بدمشق، وأحضر فيمن أحضر كتب أبي الحسن الأشعري : مثل [ المقالات ] ، و [ الإبانة ] وأئمة أصحابه كالقاضي أبي بكر، وابن فُورَك، والبيهقي، وغيرهم . وأحضر كتاب [ الإبانة ] ، وما ذكر ابن عساكر في كتاب [ تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري ] وقد نقله بخطه أبو زكريا النووي .
وقال فيه : فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة : فعرفونا قولكم الذي به تقولون .
قيل له : قولنا : التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث . ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أحمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين .
وذكر الاعتقاد الذي ذكره في [ المقالات ] عن أهل السنة ثم احتج على أبواب الأصول مثل : [ مسألة القرآن ] ، و [ الرؤية ] و [ الصفات ] ثم قال :
سئل شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
قال السائل : المسؤول من علماء الإسلام، والسادة الأعلام ـ أحسن الله ثوابهم، وأكرم نزلهم ومآبهم ـ أن يرفعوا حجاب الإجمال، ويكشفوا قناع الإشكال عن مقدمة، جميع أرباب الملل والنحل متفقون عليها، ومستندون في آرائهم إليها، حاشا مكابرا منهم معاندا، وكافرا بربوبية الله جاحدا .
وهي أن يقال : هذه صفة كمال، فيجب لله إثباتها، وهذه صفة نقص، فيتعين انتفاؤها، لكنهم في تحقيق مناطها في إفراد الصفات متنازعون، وفي تعيين الصفات لأجل القسمين مختلفون .
فأهل السنة يقولون : إثبات السمع والبصر، والحياة والقدرة، والعلم والكلام وغيرها من الصفات الخبرية كالوجه واليدين، والعينين، والغضب والرضا، والصفات الفعلية ـ كالضحك والنزول والاستواء ـ صفات كمال، وأضدادها صفات نقصان .(1/87)
والفلاسفة تقول : اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره، فيكون ناقصاً بذاته، وإن أوجب له نقصاً لم يجز اتصافه بها .
والمعتزلة يقولون : لو قامت بذاته صفات وجودية لكان مفتقرًا إليها وهي مفتقرة إليه، فيكون الرب مفتقرا إلى غيره؛ ولأنها أعراض لا تقوم إلا بجسم، والجسم مركب، والمركب ممكن محتاج، وذلك عين النقص .
ويقولون أيضًا : لو قدر على العباد أعمالهم وعاقبهم عليها، كان ظالمًا، وذلك نقص . وخصومهم يقولون : لو كان في ملكه ما لا يريده لكان ناقصًا .
والكُلابِيَّة ومن تبعهم ينفون صفات أفعاله، ويقولون : لو قامت به لكان مَحَلا للحوادث . والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله، وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به .
وطائفة منهم ينفون صفاته الخبرية؛ لاستلزامها التركيب المستلزم للحاجة والافتقار . وهكذا نفيهم ـ أيضًا ـ لمحبته؛ لأنها مناسبة بين المحب والمحبوب، ومناسبة الرب للخلق نقص، وكذا رحمته؛ لأن الرحمة رقة تكون في الراحم، وهي ضعف وخَوَر في الطبيعة، وتألم على المرحوم، وهو نقص، وكذا غضبه؛ لأن الغضب غليان دم القلب طلبًا للانتقام، وكذا نفيهم لضحكه وتعجبه . لأن الضحك خفة روح تكون لتجدد ما يسر، واندفاع ما يضر . والتعجب استعظام للمتعجب منه .
ومنكرو النبوات يقولون : ليس الخلق بمنزلة أن يرسل إليهم رسولاً كما أن أطراف الناس ليسوا أهلا أن يرسل السلطان إليهم رسولاً .
والمشركون يقولون : عظمة الرب وجلاله يقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة وحجاب، فالتقرب إليه ابتداء من غير شفعاء ووسائط، غض من جنابه الرفيع .
هذا وإن القائلين بهذه المقدمة، لا يقولون بمقتضاها، و لا يطردونها، فلو قيل لهم : أيما أكمل ؟ ذات توصف بسائر أنواع الإدراكات، من الشم والذوق واللمس، أم ذات لا توصف بها كلها ؟ لقالوا : الأولى أكمل، ولم يصفوا بها كلها الخالق .(1/88)
وبالجملة، فالكمال والنقص من الأمور النسبية، والمعاني الإضافية، فقد تكون الصفة كمالاً لذات ونقصًا لأخرى، وهذا نحو الأكل والشرب والنكاح، كمال للمخلوق، نقص للخالق، وكذا التعاظم والتكبر والثناء على النفس، كمال للخالق، نقص للمخلوق، وإذا كان الأمر كذلك فلعل ما تذكرونه من صفات الكمال، إنما يكون كمالاً بالنسبة إلى الشاهد، ولا يلزم أن يكون كمالاً للغائب كما بين؛ لا سيما مع تباين الذاتين .
وإن قلتم : نحن نقطع النظر عن متعلق الصفة وننظر فيها، هل هي كمال أو نقص ؟ فلذلك نحيل الحكم عليها بأحدهما؛ لأنها قد تكون كمالاً لذات، نقصًا لأخرى، على ما ذكر . وهذا من العجب أن مقدمة وقع عليها الإجماع، هي منشأ الاختلاف والنزاع ! ! فرضى الله عمن بين لنا بيانًا يشفى العليل، ويجمع بين معرفة الحكم وإيضاح الدليل، إنه ـ تعالى ـ سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
فأجاب ـ رضي الله عنه :
الحمد لله، الجواب عن السؤال مبني على مقدمتين :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=109 - TOP#TOPإحداهما : أن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب ـ تعالى ـ يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه؛ فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك .
ودلالة القرآن على الأمور نوعان :
أحدهما : خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به .(1/89)
والثاني : دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب . فهذه دلالة شرعية عقلية؛ فهي [ شرعية ] لأن الشرع دل عليها، وأرشد إليها؛ و [ عقلية ] لأنها تعلم صحتها بالعقل . ولا يقال : إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر .
وإذا أخبر الله بالشىء، ودل عليه بالدلالات العقلية، صار مدلولاً عليه بخبره، ومدلولاً عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتًا بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى [ الدلالة الشرعية ] .
وثبوت [ معنى الكمال ] قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد له، وتفصيل محامده، وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك، كله دال على هذا المعنى .
وقد ثبت لفظ [ الكامل ] فيما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } [ الإخلاص : 1، 2 ] : أن [ الصمد ] هو المستحق للكمال، وهو السيد الذي كمل في سُؤْدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكم الذي قد كمل في حكمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الشريف الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله ـ سبحانه وتعالى .
وهذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ ولا كمثله شىء . وهكذا سائر صفات الكمال، ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى، بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس، بل هم مفطورون عليه، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق، فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر، وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شىء .(1/90)
وقد بينا في غير هذا الموضع : أن الإقرار بالخالق وكماله، يكون فطريًا ضروريًا في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها .
وأما لفظ [ الكامل ] فقد نقل الأشعري عن الجبائي أنه كان يمنع أن يسمى الله كاملاً، ويقول : الكامل الذي له أبعاض مجتمعة .
وهذا النزاع إن كان في المعنى فهو باطل، وإن كان في اللفظ فهو نزاع لفظي .
والمقصود هنا أن ثبوت الكمال له، ونفي النقائص عنه، مما يعلم بالعقل .
وزعمت طائفة من أهل الكلام ـ كأبي المعالي والرازي، والآمدي وغيرهم ـ أن ذلك لا يعلم إلا بالسمع الذي هو الإجماع، وإن نفي الآفات والنقائص عنه لم يعلم إلا بالإجماع، وجعلوا الطريق التي بها نفوا عنه ما نفوه، إنما هو نفي مسمى الجسم ونحو ذلك، وخالفوا ما كان عليه شيوخ متكلمة الصفاتية، كالأشعري، والقاضي، وأبى بكر وأبي إسحاق، ومن قبلهم من السلف والأئمة، في إثبات السمع والبصر والكلام له بالأدلة العقلية، وتنزيهه عن النقائص بالأدلة العقلية .
ولهذا صار هؤلاء يعتمدون في إثبات هذه الصفات على مجرد السمع، ويقولون : إذا كنا نثبت هذه الصفات بناء على نفي الآفات، ونفي الآفات إنما يكون بالإجماع الذي هو دليل سمعي، والإجماع إنما يثبت بأدلة سمعية من الكتاب والسنة، قالوا : والنصوص المثبتة للسمع والبصر والكلام : أعظم من الآيات الدالة على كون الإجماع حجة، فالاعتماد في إثباتها ابتداء على الدليل السمعي ـ الذي هو القرآن ـ أولى وأحْرَى .(1/91)
والذي اعتمدوا عليه في النفي، من نفي مسمى التحيز ونحوه ـ مع أنه بدعة في الشرع لم يأت به كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين ـ هو متناقض في العقل، لا يستقيم في العقل؛ فإنه ما من أحد ينفي شيئًا خوفًا من كون ذلك يستلزم أن يكون الموصوف به جسمًا، إلا قيل له فيما أثبته نظير ما قاله فيما نفاه، وقيل له فيما نفاه نظير ما يقوله فيما أثبته، كالمعتزلة لما أثبتوا أنه حي عليم قدير؛ وقالوا : إنه لا يوصف بالحياة، والعلم، والقدرة، والصفات؛ لأن هذه أعراض لا يوصف بها إلا ما هو جسم، ولا يعقل موصوف إلا جسم .
فقيل لهم : فأنتم وصفتموه بأنه حي عليم قدير، ولا يوصف شىء بأنه عليم حي قدير إلا ما هو جسم، ولا يعقل موصوف بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فما كان جوابكم عن الأسماء كان جوابنا عن الصفات، فإن جاز أن يقال : بل يسمى بهذه الأسماء ما ليس بجسم، جاز أن يقال : فكذلك يوصف بهذه الصفات ما ليس بجسم، وأن يقال : هذه الصفات ليست أعراضًا، وإن قيل : لفظ الجسم [ مجمل ] أو مشترك وأن المسمى بهذه الأسماء لا يجب أن يماثله غيره، ولا أن يثبت له خصائص غيره، جاز أن يقال : الموصوف بهذه الصفات لا يجب أن يماثله غيره، ولا أن يثبت له خصائص غيره .
وكذلك إذا قال نفاة الصفات المعلومة بالشرع، أو بالعقل مع الشرع، كالرضا والغضب، والحب، والفرح، ونحو ذلك : هذه الصفات لا تعقل إلا لجسم . قيل لهم : هذه بمنزلة الإرادة والسمع، والبصر والكلام، فما لزم في أحدهما لزم في الآخر مثله .
وهكذا نفاة الصفات من الفلاسفة ونحوهم، إذا قالوا : ثبوت هذه الصفات يستلزم كثرة المعاني فيه، وذلك يستلزم كونه جسمًا أو مركبًا . قيل لهم : هذا كما أثبتم أنه موجود واجب قائم بنفسه وأنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق، ونحو ذلك .(1/92)
فإن قالوا : هذه ترجع إلى معنى واحد، قيل لهم : إن كان هذا ممتنعا بطل الفرق، وإن كان ممكنًا أمكن أن يقال في تلك مثل هذه، فلا فرق بين صفة وصفة . والكلام على ثبوت الصفات وبطلان أقوال النفاة مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا : أن نبين أن ثبوت الكمال لله معلوم بالعقل، وأن نقيض ذلك مُنْتَفٍ عنه، فإن الاعتماد في الإثبات والنفي على هذه الطريق مستقيم في العقل والشرع، دون تلك، خلاف ما قاله هؤلاء المتكلمون .
وجمهور أهل الفلسفة والكلام يوافقون على أن الكمال لله ثابت بالعقل، والفلاسفة تسميه التمام، وبيان ذلك من وجوه :
منها : أن يقال : قد ثبت أن الله قديم بنفسه، واجب الوجود بنفسه، قيوم بنفسه، خالق بنفسه، إلى غير ذلك من خصائصه . والطريقة المعروفة في وجوب الوجود تقال في جميع هذه المعاني .
فإذا قيل : الوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين، فهو مثل أن يقال : الموجود إما قديم وإما حادث، والحادث لابد له من قديم، فيلزم ثبوت القديم على التقديرين . والموجود إما غني وإما فقير، والفقير لابد له من الغنى، فلزم وجود الغنى على التقديرين . والموجود إما قيوم بنفسه وإما غير قيوم، وغير القيوم لابد له من القيوم، فلزم ثبوت القيوم على التقديرين، والموجود إما مخلوق وإما غير مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق غير مخلوق، فلزم ثبوت الخالق غير المخلوق على التقديرين ونظائر ذلك متعددة .
ثم يقال : هذا الواجب القديم الخالق، إما أن يكون ثبوت الكمال الذي لا نقص فيه الممكن الوجود ممكنًا له، وإما ألا يكون . والثاني ممتنع؛ لأن هذا ممكن للموجود المحدث الفقير للممكن، فلأن يمكن للواجب الغني القديم بطريق الأولى والأحرى؛ فإن كلاهما موجود . والكلام في الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه .(1/93)
فإذا كان الكمال الممكن الوجود ممكنًا للمفضول، فلأن يمكن للفاضل بطريق الأولى؛ لأن ما كان ممكنًا لما هو في وجوده ناقص، فلأن يمكن لما هو في وجوده أكمل منه بطريق الأولى، لاسيما وذلك أفضل من كل وجه فيمتنع اختصاص المفضول من كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه، بل ما قد ثبت من ذلك للمفضول فالفاضل أحق به، فلأن يثبت للفاضل بطريق الأولى .
ولأن ذلك الكمال إنما استفاده المخلوق من الخالق، والذي جعل غيره كاملا هو أحق بالكمال منه، فالذي جعل غيره قادرًا أولى بالقدرة، والذي علم غيره أولى بالعلم، والذي أحيا غيره أولى بالحياة، والفلاسفة توافق على هذا، ويقولون : كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة، والعلة أولى به .
وإذا ثبت إمكان ذلك له، فما جاز له من ذلك الكمال الممكن الوجود، فإنه واجب له لا يتوقف على غيره، فإنه لو توقف على غيره لم يكن موجودًا له إلا بذلك الغير، وذلك الغير إن كان مخلوقًا له لزم الدور القبلي الممتنع، فإن ما في ذلك الغير من الأمور الوجودية فهي منه، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً للآخر، وهذا هو الدور القبلي فإن الشىء يمتنع أن يكون فاعلاً لنفسه، فلأن يمتنع أن يكون فاعلاً لفاعله بطريق الأولى والأحرى .
وكذلك يمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً لما به يصير الآخر فاعلاً، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين معطيًا للآخر كماله، فإن معطي الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون كل منهما أكمل من الآخر، وهذا ممتنع لذاته، فإن كون هذا أكمل يقتضي أن هذا أفضل من هذا، وهذا أفضل من هذا، وفضل أحدهما يمنع مساواة الآخر له، فلأن يمنع كون الآخر أفضل بطريق الأولى .(1/94)
وأيضا، فلو كان كماله موقوفًا على ذلك الغير، للزم أن يكون كماله موقوفًا على فعله لذلك الغير، وعلى معاونة ذلك الغير في كماله، ومعاونة ذلك الغير في كماله موقوف عليه؛ إذ فعل ذلك الغير، وأفعاله موقوفة على فعل المبدع لا تفتقر إلى غيره، فيلزم ألا يكون كماله موقوفًا على غيره .
فإذا قيل : كماله موقوفًا على مخلوقه، لزم ألا يتوقف على مخلوقه، وما كان ثبوته مستلزمًا لعدمه كان باطلاً من نفسه . وأيضًا، فذلك الغير كل كمال له فمنه وهو أحق بالكمال منه، ولو قيل يتوقف كماله عليه لم يكن متوقفًا إلا على ما هو من نفسه، وذلك متوقف عليه لا على غيره .
وإن قيل : ذلك الغير ليس مخلوقًا بل واجبًا آخر قديمًا بنفسه . فيقال : إن كان أحد هذين هو المعطي دون العكس، فهو الرب، والآخر عبده .
وإن قيل : بل كل منهما يعطي للآخر الكمال، لزم الدور في التأثير وهو باطل، وهو من الدور القبلي، لا من الدور المعي الاقتراني فلا يكون هذا كاملا حتى يجعله الآخر كاملاً، والآخر لا يجعله كاملاً حتى يكون في نفسه كاملاً، لأن جاعل الكامل كاملاً أحق بالكمال ولا يكون الآخر كاملاً حتى يجعله كاملاً، فلا يكون واحدًا منهما كاملاً بالضرورة، فإنه لو قيل : لا يكون كاملاً حتى يجعل نفسه كاملاً، ولا يجعل نفسه كاملاً حتى يكون كاملاً لكان ممتنعا، فكيف إذا قيل : حتى يجعل ما يجعله كاملاً كاملاً ؟ !
وإن قيل : كل واحد له آخر يكمله إلى غير نهاية لزم التسلسل في المؤثرات، وهو باطل بالضرورة واتفاق العقلاء . فإن تقدير مؤثرات لا تتناهي : ليس فيها مؤثر بنفسه لا يقتضي وجود شىء منها، ولا وجود جميعها، ولا وجود اجتماعها، والمبدع للموجودات لابد أن يكون موجودًا بالضرورة .(1/95)
فلو قدر أن هذا كامل فكماله ليس من نفسه بل من آخر، وهلم جرا، للزم ألا يكون لشىء من هذه الأمور كمال، ولو قدر أن الأول كامل لزم الجمع بين النقيضين، وإذا كان كماله بنفسه لا يتوقف على غيره، كان الكمال له واجبًا بنفسه، و امتنع تخلف شىء من الكمال الممكن عنه، بل ما جاز له من الكمال وجب له، كما أقر بذلك الجمهور من أهل الفقه والحديث، والتصوف والكلام والفلسفة وغيرهم، بل هذا ثابت في مفعولاته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وكان ممتنعًا بنفسه أو ممتنعًا لغيره، فما ثم إلا موجود واجب إما بنفسه وإما بغيره، أو معدوم إما لنفسه وإما لغيره، والممكن أن حصل مقتضيه التام : وجب بغيره، وإلا كان ممتنعًا لغيره، والممكن بنفسه : إما واجب لغيره، وإما ممتنع لغيره .
وقد بين الله ـ سبحانه ـ أنه أحق بالكمال من غيره، وأن غيره لا يساويه في الكمال، في مثل قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 17 ] وقد بين أن الخلق صفة كمال، وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق، وأن من عَدَل هذا بهذا فقد ظلم .
وقال تعالى : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 75 ] ، فبين أن كونه مملوكًا عاجزًا صفة نقص، وأن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وأنه ليس هذا مثل هذا، وهذا لله، وذاك لما يعبد من دونه .(1/96)
وقال تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 76 ] ، وهذا مثل آخر . فالأول مثل العاجز عن الكلام، وعن الفعل الذي لا يقدر على شىء . والآخر المتكلم الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم، فهو عادل في أمره مستقيم في فعله .
فبين أن التفضيل بالكلام المتضمن للعدل والعمل المستقيم، فإن مجرد الكلام والعمل قد يكون محمودًا، وقد يكون مذمومًا، فالمحمود هو الذي يستحق صاحبه الحمد، فلا يستوى هذا والعاجز عن الكلام والفعل .
وقال تعالى : { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الروم : 28 ] .
يقول تعالى : إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك يشارك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم، فكيف ترضون ذلك لي، وأنا أحق بالكمال والغنى منكم ؟(1/97)
وهذا يبين أنه ـ تعالى ـ أحق بكل كمال من كل أحد، وهذا كقوله : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } [ النحل : 58ـ62 ] حيث كانوا يقولون : الملائكة بنات الله، وهم يكرهون أن يكون لأحدهم بنت فيعدون هذا نقصًا وعيبًا .
والرب ـ تعالى ـ أحق بتنزيهه عن كل عيب ونقص منكم، فإن له المثل الأعلى، فكل كمال ثبت للمخلوق، فالخالق أحق بثبوته منه إذا كان مجردًا عن النقص، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص وعيب، فالخالق أولى بتنزيهه عنه .
وقال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ، وهذا يبين أن العالم أكمل ممن لا يعلم،وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } [ فاطر : 19ـ 22 ] فبين أن البصير أكمل، والنور أكمل، والظل أكمل، وحينئذ فالمتصف به أولى { وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ } [ النحل : 60 ] .(1/98)
وقال تعالى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } [ الأعراف : 148 ] ، فدل ذلك على أن عدم التكلم والهداية نقص، وأن الذي يتكلم ويهدي أكمل ممن لا يتكلم ولا يهدي، والرب أحق بالكمال .
وقال تعالى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ يونس : 35 ] فبين ـ سبحانه ـ بما هو مستقر في الفطر أن الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع ممن لا يهتدي إلا أن يهديه غيره، فلزم أن يكون الهادي بنفسه هو الكامل، دون الذي لا يهتدي إلا بغيره .
وإذا كان لابد من وجود الهادي لغير المهتدي بنفسه فهو الأكمل، وقال تعالى في الآية الأخرى : { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } [ طه : 89 ] فدل على أن الذي يرجع إليه القول، ويملك الضر والنفع، أكمل منه .
وقال إبراهيم لأبيه : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا } [ مريم : 42 ] ، فدل على أن السميع البصير الغني أكمل، وأن المعبود يجب أن يكون كذلك .
ومثل هذا في القرآن متعدد من وصف الأصنام بسلب صفات الكمال، كعدم التكلم والفعل، وعدم الحياة، ونحو ذلك مما يبين أن المتصف بذلك منتقص معيب كسائر الجمادات، وإن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب .
وأما رب الخلق ـ الذي هو أكمل من كل موجود ـ فهو أحق الموجودات بصفات الكمال، وأنه لا يستوى المتصف بصفات الكمال والذي لا يتصف بها، وهو يذكر أن الجمادات في العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات .(1/99)
فمن جعل الواجب الوجود لا يقبل الاتصاف، فقد جعله من جنس الأصنام الجامدة، التي عابها الله ـ تعالى ـ وعاب عابديها .
ولهذا كانت القرامطة الباطنية من أعظم الناس شركًا، وعبادة لغير الله، إذ كانوا لا يعتقدون في إلههم أنه يسمع أو يبصر، أو يغني عنهم شيئًا .
والله ـ سبحانه ـ لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير صفات الكمال له، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فأفاد الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد وهما : إثبات صفات الكمال، ردًا على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو، ردًا على المشركين .
والشرك في العالم أكثر من التعطيل، ولا يلزم من إثبات [ التوحيد ] المنافي للإشراك إبطال قول أهل التعطيل، ولا يلزم من مجرد الإثبات المبطل لقول المعطلة الرد على المشركين إلا ببيان آخر .
والقرآن يذكر فيه الرد على المعطلة تارة، كالرد على فرعون وأمثاله، ويذكر فيه الرد على المشركين وهذا أكثر؛ لأن القرآن شفاء لما في الصدور . ومرض الإشراك أكثر في الناس من مرض التعطيل، وأيضًا فإن الله ـ سبحانه ـ أخبر أن له الحمد، وأنه حميد مجيد، وأن له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم، ونحو ذلك من أنواع المحامد .
والحمد نوعان : حمد على إحسانه إلى عباده، وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد، وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال، وهي أمور وجودية فإن الأمور العدمية المحضة لا حمد فيها، ولا خير ولا كمال .
ومعلوم أن كل ما يحمد، فإنما يحمد على ماله من صفات الكمال، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد، فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة، وهو أحق من كل محمود بالحمد والكمال من كل كامل وهو المطلوب .(1/100)
وإن كان أصل مقصوده عبادة غير اللّه، لم تكن الطيبات مباحة له؛ فإن اللّه أباحها للمؤمنين من عباده، بل الكفار وأهل الجرائم والذنوب وأهل الشهوات، يحاسبون يوم القيامة على النعم التي تنعموا بها، فلم يذكروه ولم يعبدوه بها، ويقال لهم : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } [ الأحقاف : 20 ] ،وقال تعالى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [ التكاثر : 8 ] أي : عن شكره، والكافر لم يشكر على النعيم الذي أنعم اللّه عليه به فيعاقبه على ذلك، واللّه إنما أباحها للمؤمنين، وأمرهم معها بالشكر، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ } [ البقرة : 172 ] . وفي صحيح مسلم عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه ليرضى عن العبد يأكل الأكْلَةَ فيحمده عليها، ويشرب الشَّرْبَةَ فيحمده عليها ) . وفي سنن ابن ماجه وغيره : ( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ) .(1/101)
وكذلك قال للرسل : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [ المؤمنون : 51 ] ، وقال تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] ، وقال الخليل : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } قال الله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 126 ] . فالخليل إنما دعا بالطيبات للمؤمنين خاصة، واللّه إنما أباح بهيمة الأنعام لمن حرم ما حرمه اللّه من الصيد وهو محرم، والمؤمنون أمرهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروه ولهذا ميز _ سبحانه وتعالى _ بين خطاب الناس مطلقاً وخطاب المؤمنين فقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 168 : 170 ] ، فإنما أذن للناس أن يأكلوا مما في الأرض بشرطين : أن يكون طيباً، وأن يكون حلالاً، ثم قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } [ البقرة : 172، 173 ] .(1/102)
فأذن للمؤمنين في الأكل من الطيبات ولم يشترط الحل، وأخبر أنه لم يحرم عليهم إلا ما ذكره، فما سواه لم يكن محرمًا على المؤمنين، و مع هذا فلم يكن أحله بخطابه، بل كان عفواً، كما في الحديث عن سلمان موقوفًا ومرفوعاً : ( الحلال ما أحله اللّه في كتابه، والحرام ما حرمه اللّه في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه ) .
/وفي حديث أبي ثعلبة عن النبي صلىالله عليه وسلم ( إن اللّه فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) .
وكذلك قوله تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } [ الأنعام : 145 ] . نفى التحريم عن غير المذكور،فيكون الباقي مسكوتًا عن تحريمه عفواً، والتحليل إنما يكون بخطاب؛ولهذا قال في سورة المائدة ـ التي أنزلت بعد هذا ـ : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } إلى قوله : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } [ المائدة : 4،5 ] ، ففي ذلك اليوم أحل لهم الطيبات،وقبل هذا لم يكن محرمًا عليهم إلا ما استثناه .(1/103)
وقد حرم النبي صلىالله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مِخْلَب من الطير، ولم يكن هذا نسخاً للكتاب؛ لأن الكتاب لم يحل ذلك، ولكن سكت عن تحريمه، فكان تحريمه ابتداء شرع . ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم في الحديث المروي من طرق من حديث أبي رافع، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة، وغيرهم : ( لا أَلْفيَنَّ أحدكم متكئا على أريكته؛ يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول : بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ) . وفي لفظ : ( ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر، ألا وإني/ حرمت كل ذي ناب من السباع ) . فبين أنه أنزل عليه وحي آخر وهو الحكمة غير الكتاب، وأن اللّه حرم عليه في هذا الوحي ما أخبر بتحريمه ولم يكن ذلك نسخًا للكتاب؛ فإن الكتاب لم يحل هذه قط، إنما أحل الطيبات، وهذه ليست من الطيبات، وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] . فلم تدخل هذه الآية في العموم؛ لكنه لم يكن حرمها؛ فكانت معفوا عن تحريمها، لا مأذونا في أكلها .(1/104)
وأما الكفار، فلم يأذن اللّه لهم في أكل شيء، ولا أحل لهم شيئًا، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } [ البقرة : 168 ] . فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالاً، وهو المأذون فيه من جهة اللّه ورسوله، و اللّه لم يأذن في الأكل إلا للمؤمن به؛ فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا؛ ولهذا لم تكن أموالهم مملوكة لهم ملكاً شرعياً؛ لأن الملك الشرعي هو المقدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلىالله عليه وسلم، والشارع لم يبح لهم تصرفاً في الأموال، إلا بشرط الإيمان، فكانت أموالهم على الإباحة، فإذا قهر طائفة منهم طائفة قهراً يستحلونه في دينهم، وأخذوها منهم، صار هؤلاء فيها كما كان أولئك .
والمسلمون إذا استولوا عليها، فغنموها،ملكوها شرعاً؛ لأن اللّه أباح لهم الغنائم، ولم يبحها لغيرهم . ويجوز لهم أن يعاملوا الكفار فيما أخذه بعضهم من بعض بالقهر الذي يستحلونه في دينهم، ويجوز أن يشتري من بعضهم ما /سباه من غيره؛ لأن هذا بمنزلة استيلائه على المباحات، ولهذا سمى اللّه ما عاد من أموالهم إلى المسلمين [ فيئًا ] ؛ لأن اللّه أفاءه إلى مستحقه؛ أي : رده إلى المؤمنين به الذين يعبدونه، ويستعينون برزقه على عبادته؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه؛ وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته .
ولفظ الفيء قد يتناول الغنيمة، كقول النبي صلىالله عليه وسلم في غنائم حنين : ( ليس لي مما أفاء اللّه عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم ) ، لكنه لما قال تعالى : { وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } [ الحشر : 6 ] ، صار لفظ [ الفيء ] إذا أطلق في عرف الفقهاء، فهو : ما أخذ من مال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب، والإيجاف نوع من التحريك .(1/105)
وأما إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصداً للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه، فإنه يثاب على ذلك كما قال النبي صلىالله عليه وسلم : ( وفي بُضْع أحدكم صدقة ) . قالوا : يا رسول اللّه، يأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر ؟ قال : ( أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) . وهذا كقوله في حديث ابن عمر عن النبي صلىالله عليه وسلم قال : ( إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته ) . رواه أحمد، وابن خزيمة في صحيحه وغيرهما .
فأخبر أن اللّه يحب إتيان رخصه، كما يكره فعل معصيته . وبعض الفقهاء يرويه : ( كما يحب أن تؤتى عزائمه ) . وليس هذا لفظ الحديث؛ وذلك لأن الرخص إنما أباحها اللّه لحاجة العباد إليها، والمؤمنون يستعينون بها على عبادته؛/ فهو يحب الأخذ بها، لأن الكريم يحب قبول إحسانه وفضله؛ كما قال في حديث القصر : ( صدقة تصدق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته ) . ولأنه بها تتم عبادته وطاعته، وما لا يحتاج إليه الإنسان من قول وعمل، بل يفعله عبثًا، فهذا عليه لا له، كما في الحديث : ( كل كلام ابن ادم عليه لا له، إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر أو ذكر اللّّه ) .
وفي الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : ( من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيراً أو لِيَصْمُت ) . فأمر المؤمن بأحد أمرين : إما قول الخير أو الصُّمَات؛ ولهذا كان قول الخير خيراً من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خيراً من قوله؛ ولهذا قال اللّه تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] .(1/106)
وقد اختلف أهل التفسير : هل يكتب جميع أقواله ؟ فقال مجاهد وغيره : يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر . والقرآن يدل على أنهما يكتبان الجميع؛ فإنه قال : { مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًل } نكرة في الشرط مؤكدة بحرف [ من ] ؛ فهذا يعم كل قوله . وأيضاً، فكونه يؤجر على قول معين أو يؤزر، يحتاج إلى أن يعرف الكاتب ما أمر به وما نهى عنه، فلابد في إثبات معرفة الكاتب به إلى نقل . وأيضاً فهو مأمور، إما بقول الخير، وإما بالصُّمات . فإذا عدل عما أمر به من الصُّمَات إلى فضول القول الذي ليس بخير، كان هذا عليه، فإنه يكون مكروهاً، والمكروه ينقصه؛ ولهذا قال /النبي صلىالله عليه وسلم : ( من حُسْنِ إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعنِيه ) . فإذا خاض فيما لا يعنيه، نقص من حسن إسلامه، فكان هذا عليه، إذ ليس من شرط ما هو عليه، أن يكونه مستحقاً لعذاب جهنم وغضب اللّه، بل نقص قدره ودرجته عليه .
ولهذا قال تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] . فما يعمل أحد إلا عليه أو له، فإن كان مما أمر به، كان له . وإلا كان عليه ولو أنه ينقص قدره . والنفس طبعها الحركة لا تسكن قط، لكن قد عفا اللّه عما حدث به المؤمنون أنفسهم ما لم يتكلموا به أو يعملوا به، فإذا عملوا به دخل في الأمر والنهي . فإذا كان اللّه قد كره إلى المؤمنين جميع المعاصي، وهو قد حبب إليهم الإيمان الذي يقتضي جميع الطاعات، إذا لم يعارضه ضد باتفاق الناس، فإن المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة ويقتضي ذلك، والطاعة من ثمراته ونتائجه، لكنها تنازع، هل يستلزم الطاعة ؟ فإنه وإن كان يدعو إلى الطاعة، فله معارض من النفس والشيطان، فإذا كان قد كره إلى المؤمنين المعارض، كان المقتضى للطاعة سالماً عن هذا المعارض .(1/107)
وأيضًا،فإذا كرهوا جميع السيئات لم يبق إلا حسنات أو مباحات، والمباحات لم تبح إلا لأهل الإيمان الذين يستعينون بها على الطاعات، وإلا فاللّه لم يبح قط لأحد شيئًا أن يستعين به على كفر، ولا فسوق، ولا عصيان؛ ولهذا لعن النبي صلىالله عليه وسلم عاصر الخمر ومعتصرها، كما لعن شاربها . والعاصر/ يعصر عنبًا يصير عصيراً يمكن أن ينتفع به في المباح، لكن لما علم أن قصد العاصر أن يجعلها خمراً، لم يكن له أن يعينه بما جنسه مباح على معصية اللّه، بل لعنه النبي صلىالله عليه وسلم على ذلك؛ لأن اللّه لم يبح إعانة العاصي على معصيته، ولا أباح له ما يستعين به في المعصية . فلا تكون مباحات لهم إلا إذا استعانوا بها على الطاعات . فيلزم من انتفاء السيئات أنهم لا يفعلون إلا الحسنات؛ ولهذا كان من ترك المعاصي كلها، فلابد أن يشتغل بطاعة اللّه . وفي الحديث الصحيح : ( كُلُّ الناس يَغْدُوا، فبائع نَفْسَه فمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا ) فالمؤمن لابد أن يحب الحسنات، ولابد أن يبغض السيئات، ولابد أن يسره فعل الحسنة، ويسوؤه فعل السيئة، و متى قدر أن في بعض الأمور ليس كذلك كان ناقص الإيمان،
والمؤمن قد تصدر منه السيئة فيتوب منها، أو يأتي بحسنات تمحوها، أو يبتلى ببلاء يكفرها عنه ولكن لابد أن يكون كارهاً لها؛ فإن اللّه أخبر أنه حَبَّبَ إلى المؤمنين الإيمان، وكَرَّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فمن لم يكره الثلاثة لم يكن منهم . ولكن محمد ابن نصر يقول : الفاسق يكرهها تديناً، فيقال : إن أريد بذلك أنه يعتقد أن دينه حرمها، وهو يحب دينه، وهذه من جملته، فهو يكرهها . وإن كان يحب دينه مجملاً، وليس في قلبه كراهة لها، كان قد عدم من الإيمان بقدر ذلك، كما في الحديث الصحيح : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) .
فَصْل(1/108)
وقد أثبت اللّه في القرآن إسلامًا بلا إيمان في قوله تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [ الحجرات : 14 ] . وقد ثبت في الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص، قال : أعطى النبي صلىالله عليه وسلم رهطاً ـ وفي رواية قسم قسماً ـ وترك فيهم من لم يعطه، وهو أعجبهم إلى، فقلت : يا رسول اللّه، مالك عن فلان ؟ فواللّه إني لأراه مؤمناً، فقال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( أو مسلمًا ) . أقولها ثلاثا، ويرددها على رسول اللّه صلىالله عليه وسلم ثلاثاً، ثم قال : ( إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يَكُبَّهُ اللّه على وجهه في النار ) ، وفي رواية : فضرب بين عنقي وكتفي، وقال : ( أقتال أي سعد ؟ ! ) .
فهذا الإسلام الذي نفى اللّه عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم، هل هو إسلام يثابون عليه ؟ أم هو من جنس إسلام المنافقين ؟ فيه قولان مشهوران للسلف والخلف :
أحدهما : أنه إسلام يثابون عليه، ويخرجهم من الكفر والنفاق . وهذا مروي عن الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النَّخَعِي، /وأبي جعفر الباقر، وهو قول حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد اللّه التَّسْتُرِي، وأبي طالب المكي، وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق .
قال أحمد بن حنبل : حدثنا مُؤَمَّل بن إسحاق عن عمار بن زيد قال : سمعت هشاماً يقول : كان الحسن ومحمد يقولان : مسلم، ويهابان : مؤمن، وقال أحمد بن حنبل : حدثنا أبو سلمة الخُزَاعِي، قال : قال مالك، وشريك، وأبو بكر بن عياش، وعبد العزيز ابن أبي سلمة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد : الإيمان : المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان، يجعل الإيمان خاصاً، والإسلام عاماً .(1/109)
والقول الثاني : أن هذا الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين، قالوا : وهؤلاء كفار، فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر . وهذا اختيار البخاري، ومحمد بن نصر المروزي، والسلف مختلفون في ذلك .
قال محمد بن نصر : حدثنا إسحاق، أنبأنا جَرِير، عن مُغِيرة، قال : أتيت إبراهيم النَّخَعِي، فقلت : إن رجلاً خاصمني يقال له : سعيد العَنْبَرِيّ، فقال إبراهيم : ليس بالعنبري ولكنه زُبٍيْدِيّ . قوله : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] فقال : هو الاستسلام، فقال إبراهيم : لا، هو الإسلام .
وقال : حدثنا محمد بن يحيي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن /مجاهد : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } ، قال : استسلمنا خوف السبي والقتل، ولكن هذا منقطع، سفيان لم يدرك مجاهداً، والذين قالوا : إن هذا الإسلام هو كإسلام المنافقين، لا يثابون عليه، قالوا : لأن اللّه نفى عنهم الإيمان، ومن نفى عنه الإيمان فهو كافر، وقال هؤلاء : الإسلام هو الإيمان، وكل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، ومن جعل الفساق مسلمين غير مؤمنين، لزمه ألاّ يجعلهم داخلين في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } [ المائدة : 6 ] ، وفي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [ الجمعة : 9 ] وأمثال ذلك، فإنهم إنما دعوا باسم الإيمان، لا باسم الإسلام، فمن لم يكن مؤمناً لم يدخل في ذلك .(1/110)
وجواب هذا أن يقال : الذين قالوا من السلف : إنهم خرجوا من الإيمان إلى الإسلام، لم يقولوا : إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج، والمعتزلة . وأهل السنة الذين قالوا هذا يقولون : الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيماناً يخرجون به من النار . لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب، ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله،وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان؛ لأن الخطاب بذلك هو لمن دخل في الإيمان وإن لم يستكمله، فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان، فكيف يكون قد أتمه قبل الخطاب ؟ ! وإلا كنا قد تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل الخطاب، وإنما صار من الإيمان بعد أن أمروا به، فالخطاب بـ { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا } ، غير قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } [ الحجرات : 15 ] ونظائرها،فإن الخطاب بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أولاً : يدخل فيه من أظهر الإيمان، وإن كان منافقاً في الباطن يدخل فيه في الظاهر، فكيف لا يدخل فيه من لم يكن منافقاً، وإن لم يكن من المؤمنين حقاً .
وحقيقته أن من لم يكن من المؤمنين حقاً، يقال فيه : إنه مسلم، ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان ؟ هذا هو الذي تنازعوا فيه . فقيل : يقال : مسلم، ولا يقال : مؤمن . وقيل : بل يقال : مؤمن .(1/111)
والتحقيق أن يقال : إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطي اسم الإيمان المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر اللّه به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره، وإنما الكلام في اسم المدح المطلق، وعلى هذا فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث طوائف : يدخل فيه المؤمن حقاً . ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة، وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن ينفي عنه الإسلام والإيمان، وفي الظاهر يثبت له الإسلام والإيمان الظاهر . ويدخل فيه الذين أسلموا وإن لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن معهم جزء من الإيمان والإسلام يثابون عليه .
/ثم قد يكونون مفرطين فيما فرض عليهم، وليس معهم من الكبائر ما يعاقبون عليه كأهل الكبائر، لكن يعاقبون على ترك المفروضات، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم، فإنهم قالوا : آمنا، من غير قيام منهم بما أمروا به باطناً وظاهراً . فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل اللّه، وقد كان دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد وقد يكونون من أهل الكبائر المعرضين للوعيد، كالذين يصلون ويزكون ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون ولكن بينهم نزاع لفظي : هل يقال : إنهم مؤمنون، كما سنذكره إن شاء اللّه ؟(1/112)
وأما الخوارج والمعتزلة، فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام؛ فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد، فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام، لكن الخوارج تقول : هم كفار، والمعتزلة تقول : لا مسلمون ولا كفار، ينزلونهم منزلة بين المنزلتين، والدليل على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين، أنه قال : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } ثم قال : { وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [ الحجرات : 14 ] ، فدل على أنهم إذا أطاعوا اللّه ورسوله مع هذا الإسلام، آجرهم اللّه على الطاعة، والمنافق عمله حابط في الآخرة .(1/113)
وأيضاً، فإنه وصفهم بخلاف صفات المنافقين، فإن المنافقين وصفهم بكفر في قلوبهم، وإنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، كما قال تعالي : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } الآيات [ البقرة : 8 : 10 ] ، وقال : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، فالمنافقون يصفهم في القرآن بالكذب، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وبأن في قلوبهم من الكفر ما يعاقبون عليه، وهؤلاء لم يصفهم بشيء من ذلك، لكن لما ادعوا الإيمان قال للرسول : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } .(1/114)
ونفى الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين، كما في قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 ] ثم قال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2 : 4 ] ، ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك، يكون منافقاً من أهل الدرك الأسفل من النار، بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب، فنفى عنه كما ينفي سائر الأسماء عمن ترك بعض ما يجب عليه، فكذلك الأعراب لم يأتوا بالإيمان الواجب، فنفى عنهم لذلك وإن كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يثابون عليه .(1/115)
وهذا حال أكثر الداخلين في الإسلام ابتداء، بل حال أكثر من لم يعرف /حقائق الإيمان، فإن الرجل إذا قوتل حتى أسلم، كما كان الكفار يقاتلون حتى يسلموا، أو أسلم بعد الأسْرِ، أو سمع بالإسلام فجاء فأسلم، فإنه مسلم ملتزم طاعة الرسول، ولم تدخل إلى قلبه المعرفة بحقائق الإيمان، فإن هذا إنما يحصل لمن تيسرت له أسباب ذلك، إما بفهم القرآن وإما بمباشرة أهل الإيمان والاقتداء بما يصدر عنهم من الأقوال والأعمال، وإما بهداية خاصة من اللّه يهديه بها . والإنسان قد يظهر له من محاسن الإسلام ما يدعوه إلى الدخول فيه، وإن كان قد ولد عليه وتربى بين أهله فإنه يحبه، فقد ظهر له بعض محاسنه وبعض مساوئ الكفار . وكثير من هؤلاء قد يرتاب إذا سمع الشبه القادحة فيه، ولا يجاهد في سبيل اللّه، فليس هو داخلاً في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ الحجرات : 15 ] ، وليس هو منافقاً في الباطن مضمراً للكفر، فلا هو من المؤمنين حقاً ولا هو من المنافقين، ولا هو ـ أيضاً ـ من أصحاب الكبائر، بل يأتي بالطاعات الظاهرة ولا يأتي بحقائق الإيمان التي يكون بها من المؤمنين حقاً، فهذا معه إيمان وليس هو من المؤمنين حقاً، ويثاب على ما فعل من الطاعات؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } ؛ولهذا قال : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 ] يعني : في قولكم : { آمنا } .(1/116)
يقول : إن كنتم صادقين فاللّه يمن عليكم أن هداكم للإيمان، وهذا/ يقتضي أنهم قد يكونون صادقين في قولهم : { آمنا } . ثم صدقهم، إما أن يراد به اتصافهم بأنهم آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه أولئك هم الصادقون . وإما أن يراد به أنهم لم يكونوا كالمنافقين، بل معهم إيمان وإن لم يكن لهم أن يدعوا مطلق الإيمان، وهذا أشبه ـ واللّه أعلم ـ لأن النسوة الممتحنات قال فيهن : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } [ الممتحنة : 10 ] ، ولا يمكن نفي الرِّيبِ عنهن في المستقبل، ولأن اللّه إنما كذب المنافقين ولم يكذب غيرهم، وهؤلاء لم يكذبهم ولكن قال : { لَّمْ تُؤْمِنُوا } كما قال : ( لا يؤمن أحدُكُمْ حتى يحب لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه ) ، وقوله : ( لا يزني الزاني حين يزني وهومؤمن ) ،و ( لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَهُ ) وهؤلاء ليسوا منافقين .
وسياق الآية يدل على أن اللّه ذمهم؛ لكونهم مَنُّوا بإسلامهم لجهلهم وجفائهم، وأظهروا ما في أنفسهم مع علم اللّه به، فإن اللّه تعالى قال : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [ الحجرات : 16 ] ، فلو لم يكن في قلوبهم شيء من الدين لم يكونوا يعلمون اللّه بدينهم، فإن الإسلام الظاهر يعرفه كل أحد، ودخلت الباء في قوله : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } لأنه ضُمِّن معنى : يخبرون ويحدثون، كأنه قال : أتخبرونه وتحدثونه بدينكم وهو يعلم ما في السموات وما في الأرض . وسياق الآية يدل على أن الذي أخبروا به اللّه هو ما ذكره اللّه عنهم من قولهم : { آمنا } فإنهم أخبروا عما في قلوبهم .(1/117)
/وقد ذكر المفسرون أنه لما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،ويحلفون أنهم مؤمنون صادقون، فنزل قوله تعالى : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } [ الحجرات : 16 ] ، وهذا يدل على أنهم كانوا صادقين أولاً في دخولهم في الدين؛ لأنه لم يتجدد لهم بعد نزول الآية جهاد حتى يدخلوا به في الآية، إنما هوكلام قالوه، وهو سبحانه قال : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] ، ولفظ : { لما } ينفي به ما يقرب حصوله ويحصل غالباً كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } [ آل عمران : 142 ] ، وقد قال السُّدِّيّ : نزلت هذه الآية في أعراب مُزَيْنَة وجُهيْنَة وأسْلَمَ، وأشْجَع وغِفَار، وهم الذين ذكرهم اللّه في سورة الفتح وكانوا يقولون : آمنا باللّه؛ ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى الحُدَيْبِيَةِ تخلّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية .(1/118)
وعن مقاتل : كانت منازلهم بين مكة والمدينة، وكانوا إذا مرت بهم سَرِيَّةٌ من سرايا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا : آمنا؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم،فلما سار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية استنفرهم،فلم ينفروا معه . وقال مجاهد : نزلت في أعراب بني أسد بن خُزَيْمة، ووصف غيره حالهم فقال : قدموا المدينة في سنة مُجْدِبَةٍ، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارهم، وكانوا يمنون على رسول اللّه/ صلى الله عليه وسلم يقولون : أتيناك بالأثقال والعيال، فنزلت فيهم هذه الآية . وقد قال قتادة في قوله : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 ] قال : منوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين جاؤوا فقالوا : إنا أسلمنا بغير قتال، لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال اللّه لنبيه : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ } .
وقال مُقاتِل بن حَيَّان : هم أعراب بني أسد بن خزيمة، قالوا : يا رسول اللّه، أتيناك بغير قتال، وتركنا العشائر والأموال، وكل قبيلة من العرب قاتلتك حتى دخلوا كرها في الإسلام، فلنا بذلك عليك حق، فأنزل اللّه تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فله بذلك المن عليكم، وفيهم أنزل اللّه : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] ، ويقال : من الكبائر التي ختمت بنار، كل موجبة من ركبها ومات عليها لم يتب منها .(1/119)
وهذا كله يبين أنهم لم يكونوا كفاراً في الباطن، ولا كانوا قد دخلوا فيما يجب من الإيمان، وسورة الحجرات قد ذكرت هذه الأصناف، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] ، ولم يصفهم بكفر ولا نفاق، لكن هؤلاء يخشى عليهم الكفر والنفاق؛ ولهذا ارتد بعضهم لأنهم لم يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، وقال بعد ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } الآية [ الحجرات : 6 ] وهذه الآية نزلت في الوليد بن عُقْبَة، وكان قد كذب فيما أخبر .
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطَلِق ليقبض صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فسار بعض الطريق ثم رجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : إنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم البعث إليهم، فنزلت هذه الآية . وهذه القصة معروفة من وجوه كثيرة، ثم قال تعالى في تمامها : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [ الحجرات : 7 ] ، وقال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } الآية [ الحجرات : 9 ] ، ثم نهاهم عن أن يسخر بعضهم ببعض، وعن اللَّمْزِ والتَّنَابُزِ بالألقاب وقال : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } [ الحجرات : 11 ] ، وقد قيل : معناه : لا تسميه فاسقاً ولا كافراً بعد إيمانه، وهذا ضعيف، بل المراد : بئس الاسم أن تكونوا فساقا بعد إيمانكم، كما قال تعالى في الذي كذب : { إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فسماه فاسقاً .(1/120)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سِبَابُ المسلم فُسُوقٌ وقتاله كُفْر ) ، يقول : فإذا ساببتم المسلم وسخرتم منه ولمزتموه، استحققتم أن تسموا فساقاً، وقد قال في آية القَذْف : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ النور : 4 ] . يقول : فإذا أتيتم بهذه الأمور التي تستحقون بها أن تسموا /فساقاً كنتم قد استحققتم اسم الفسوق بعد الإيمان، وإلا فهم في تنابزهم ما كانوا يقولون : فاسق، كافر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبعضهم يُلَقِّب بعضاً .
وقد قال طائفة من المفسرين في هذه الآية : لا تسميه بعد الإسلام بدينه قبل الإسلام، كقوله لليهودي إذا أسلم : يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس وطائفة من التابعين، كالحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، والقُرَظِيّ . وقال عِكْرِمَة : هو قول الرجل : يا كافر، يا منافق . وقال عبد الرحمن بن زيد : هو تسمية الرجل بالأعمال، كقوله : يا زاني، يا سارق، يا فاسق . وفي تفسير العَوْفِيّ عن ابن عباس قال : هو تعيير التائب بسيئات كان قد عملها، ومعلوم أن اسم الكفر، واليهودية، والزاني، والسارق وغير ذلك من السيئات ليست هي اسم الفاسق، فعلم أن قوله : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ } لم يرد به تسمية المسبوب باسم الفاسق، فإن تسميته كافرًا أعظم، بل إن الساب يصير فاسقًا لقوله : ( سِبَابُ المسلم فُسُوق وقتاله كُفْر ) ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ الحجرات : 11 ] ،فجعلهم ظالمين إذا لم يتوبوا من ذلك وإن كانوا يدخلون في اسم المؤمنين، ثم ذكر النهي عن الغيبة، ثم ذكر النهي عن التفاخر بالأحساب، وقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، ثم ذكر قول الأعراب : { آمنا } .(1/121)
فالسورة تنهى عن هذه المعاصى والذنوب التي فيها تَعَدٍّ على الرسول وعلى/ المؤمنين، فالأعراب المذكورون فيها من جنس المنافقين . وأهل السباب والفسوق والمنادين من وراء الحجرات وأمثالهم، ليسوا من المنافقين؛ ولهذا قال المفسرون : إنهم الذين استنفروا عام الحديبية، وأولئك وإن كانوا من أهل الكبائر فلم يكونوا في الباطن كفاراً منافقين .
قال ابن إسحاق : لما أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العمرة ـ عمرة الحديبية ـ استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه خوفاً من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عني اللّه بقوله : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } [ الفتح : 11 ] أي : ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك { يّقٍولٍونّ بٌأّلًسٌنّتٌهٌم مَّا لّيًسّ فٌي قٍلٍوبٌهٌمً } أي : ما يبالون، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وهذا حال الفاسق الذي لا يبالي بالذنب، والمنافقون قال فيهم : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ المنافقون : 5، 6 ] ، ولم يقل مثل هذا في هؤلاء الأعراب . بل الآية دليل على أنهم لو صدقوا في طلب الاستغفار نفعهم استغفار الرسول لهم ثم قال : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 16 ] ، فوعدهم الله بالثواب على طاعة الداعي إلى الجهاد، وتوعدهم بالتولي عن طاعته .(1/122)
وهذا كخطاب أمثالهم من أهل الذنوب والكبائر، بخلاف من هو كافر/ في الباطن، فإنه لا يستحق الثواب بمجرد طاعة الأمر حتى يؤمن أولاً، ووعيده ليس على مجرد توليه عن الطاعة في الجهاد، فإن كفره أعظم من هذا .
فهذا كله يدل على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك الفرائض، وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض الله عليهم من الجهاد وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم، لم يكونوا من الصادقين الذين وصفهم، وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام .
وقول المفسرين : لم يكونوا مؤمنين، نفى لما نفاه الله عنهم من الإيمان كما نفاه عن الزاني، والسارق، والشارب، وعمن لا يأمن جاره بَوَائِقَه، وعمن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وعمن لا يجيب إلى حكم الله ورسوله، وأمثال هؤلاء . وقد يحتج على ذلك بقوله : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } [ الحجرات : 11 ] كما قال : ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ) ،فذم من استبدل اسم الفسوق بعد الإيمان؛ فدل على أن الفاسق لا يسمى مؤمناً،فدل ذلك على أن هؤلاء الأعراب من جنس أهل الكبائر لا من جنس المنافقين .(1/123)
وأما ما نقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي، فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار، أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإسلام المؤلفة قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نَجْد وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل/من النار،بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في قلوبهم تكذيب ومعاداة للرسول،ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان ولا استبصروا فيه،وهؤلاء قد يحسن إسلام أحدهم فيصير من المؤمنين كأكثر الطُّلَقَاء، وقد يبقى من فساق الملة، ومنهم من يصير منافقاً مرتاباً إذا قال له منكر ونكير : ( ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول : هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتهَ )
وقد تقدم قول من قال : إنهم أسلموا بغير قتال، فهؤلاء كانوا أحسن إسلاماً من غيرهم، وأن اللّه إنما ذمهم لكونهم منوا بالإسلام وأنزل فيهم : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] وإنهم من جنس أهل الكبائر .(1/124)
وأيضًا، قوله : { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] و { لما } إنما ينفي بها ما ينتظر ويكون حصوله مترقباً، كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] ، وقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [ البقرة : 214 ] ، فقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم، فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء لا يكون قد حصل في قلبه الإيمان، لكنه يحصل فيما بعد كما في الحديث : ( كان الرجل يسلم أول النهار رَغْبَةً في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس ) ؛ ولهذا كان عامة الذين أسلموا رغبة ورهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك، وقوله : { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } / أمر لهم بأن يقولوا ذلك، والمنافق لا يؤمر بشيء، ثم قال : { وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [ الحجرات : 14 ] والمنافق لا تنفعه طاعة اللّه ورسوله حتى يؤمن أولاً .(1/125)
وهذه الآية مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره، على أنه يستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام . قال الميموني : سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في : أنا مؤمن إن شاء اللّه ؟ فقال : أقول : مؤمن إن شاء اللّّه، وأقول : مسلم ولا أستثني، قال : قلت لأحمد : تفرق بين الإسلام والإيمان ؟ فقال لي : نعم، فقلت له : بأي شيء تحتج ؟ قال لي : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] ، وذكر أشياء . وقال الشَّالَنْجِيّ : سألت أحمد عمن قال : أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث، ولا أعلم ما أنا عند اللّّه ؟ قال : ليس بمرجئ .
وقال أبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي : الاستثناء جائز، ومن قال : أنا مؤمن حقاً، ولم يقل : عند اللّه، ولم يستثن، فذلك عندي جائز وليس بمرجئ، وبه قال أبو خَيْثَمَة وابن أبي شيبة، وذكر الشالنجي أنه سأل أحمد بن حنبل عن المُصِرِّ على الكبائر يطلبها بجهده، أي : يطلب الذنب بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم؛ هل يكون مصراً من كانت هذه حاله ؟ قال : هو مصر مثل قوله : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام، ومن نحو قوله : ( ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا/ يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ) ومن نحو قول ابن عباس في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ، فقلت له : ما هذا الكفر ؟ قال : كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه . وقال ابن أبي شيبة : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصاً من إيمانه .(1/126)
قال الشالنجي : وسألت أحمد عن الإيمان والإسلام . فقال : الإيمان قول وعمل، والإسلام إقرار، قال : وبه قال أبو خيثمة . وقال ابن أبي شيبة : لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام، وإذا كان على المخاطبة فقال : قد قبلت الإيمان، فهو داخل في الإسلام، وإذا قال : قد قبلت الإسلام فهو داخل في الإيمان . وقال محمد بن نصر المروزي : وحكي غير هؤلاء أنه سأل أحمد بن حنبل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) فقال : من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمنا، ومن أتى دون ذلك، يريد دون الكبائر، أسميه مؤمناً ناقص الإيمان .
قلت : أحمد بن حنبل كان يقول تارة بهذا الفرق، وتارة كان يذكر الاختلاف ويتوقف، وهو المتأخر عنه، قال أبو بكر الأثرم في [ السنة ] : سمعت أبا عبد اللّه يسأل عن الاستثناء في الإيمان : ما تقول فيه ؟ فقال : أما أنا فلا أعيبه، أي من الناس من يعيبه . قال أبو عبد الله : إذا كان يقول : إن الإيمان قول /وعمل يزيد وينقص، فاستثنى مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثنى للعمل . قال أبو عبد اللّه : قال اللّه تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] أي : أن هذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل القبور : ( وإنَّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ) أي : لم يكن يشك في هذا، وقد استثناه وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وعليها نُبْعَثُ إن شاء الله ) : يعني : من القبر، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه ) قال : هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان .(1/127)
قلت لأبي عبد اللّه : وكأنك لا ترى بأساً ألا يستثنى . فقال : إذا كان ممن يقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله : إن قوماً تضعف قلوبهم عن الاستثناء، كالتعجب منهم، وسمعت أبا عبد اللّّه وقيل له : شَبَابَة أي شيء تقول فيه ؟ فقال : شبابة كان يدعى الإرجاء، قال : وحكى عن شبابة قول أخبث من هذه الأقاويل، ما سمعت عن أحد بمثله، قال أبو عبد اللّه : قال شبابة : إذا قال فقد عمل بلسانه كما يقولون، فإذا قال فقد عمل بجارحته، أي : بلسانه حين تكلم به، ثم قال أبو عبد اللّه : هذا قول خبيث، ما سمعت أحداً يقول به ولا بلغني، قيل لأبي عبد اللّه : كنت كتبت عن شبابة شيئًا ؟ فقال : نعم، كنت كتبت عنه قديمًا يسيراً قبل أن نعلم أنه يقول بهذا، قلت لأبي عبد اللّه : كتبت عنه بعد ؟ قال : لا ولا حرف . قيل لأبي عبد اللّه : يزعمون أن سفيان كان يذهب إلى الاستثناء في الإيمان . فقال : هذا مذهب سفيان، المعروف به الاستثناء، قلت لأبي عبد اللّه : من يرويه عن /سفيان ؟ فقال : كل من حكى عن سفيان في هذا حكاية كان يستثنى، قال : وقال وَكِيع عن سفيان : الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ؟ ولا ندري ما هم عند اللّه . قلت لأبي عبد اللّّه : فأنت بأي شيء تقول ؟ فقال : نحن نذهب إلى الاستثناء .(1/128)
قلت لأبي عبد اللّه : فأما إذا قال : أنا مسلم فلا يستثنى ؟ فقال : نعم، لا يستثنى إذا قال : أنا مسلم، قلت لأبي عبد اللّّه : أقول : هذا مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ، وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه، فذكر حديث مَعْمَر عن الزهري، فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، قال أبو عبد اللّّه : حدثناه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، قيل لأبي عبد الله : فنقول : الإيمان يزيد وينقص ؟ فقال : حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك، فذكر قوله : ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال كذا، أخرجوا من كان في قلبه مثقال كذا ) فهو يدل على ذلك وذكر عند أبي عبد اللّه عيسى الأحمر، وقوله في الإرجاء فقال : نعم، وذلك خبيث القول، وقال أبو عبد الله : حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا حماد بن زيد، سمعت هشاماً يقول : كان الحسن ومحمد يقولان : مسلم . ويهابان : مؤمن .
قلت لأبي عبد اللّّه : رواه غير سُوَيْد ؟ قال : ما علمت بذلك، وسمعت أبا عبد اللّّه يقول : الإيمان قول وعمل . قلت لأبي عبد اللّّه : فالحديث الذي يروى : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) قال : ليس كل أحد يقول : إنها مؤمنة، يقولون : أعتقها . قال : ومالك سمعه من هذا الشيخ هلال بن علي لا يقول : ( فإنها مؤمنة ) / وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذاك فحكمها حكم المؤمنة، وهذا معناه . قلت لأبي عبد اللّّه : تفرق بين الإيمان والإسلام ؟ فقال : قد اختلف الناس فيه، وكان حماد بن زيد ـ زعموا ـ يفرق بين الإيمان والإسلام، قيل له : من المرجئة ؟ قال : الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل .(1/129)
قلت : فأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سلب جميع الإيمان فلم يبق معه منه شيء، كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فإنه قد صرح في غير موضع بأن أهل الكبائر معهم إيمان يخرجون به من النار، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ، وليس هذا قوله ولا قول أحد من أئمة أهل السنة، بل كلهم متفقون على أن الفُسَّاق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار، هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين، لكن إذا كان معه بعض الإيمان لم يلزم أن يدخل في الاسم المطلق الممدوح، وصاحب الشرع قد نفى الاسم عن هؤلاء فقال : ( لا يرني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ، وقال : ( لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه ) وقال : ( لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَه ) وأقسم على ذلك مرات وقال : ( المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم )
والمعتزلة ينفون عنه اسم الإيمان بالكلية، واسم الإسلام ـ أيضاً ـ ويقولون : ليس معه شيء من الإيمان والإسلام، ويقولون : ننزله منزلة بين منزلتين، فهم يقولون : إنه يخلد في النار لا يخرج منها بالشفاعة، وهذا هو الذي أنكر عليهم،/ وإلا لو نفوا مطلق الاسم وأثبتوا معه شيئًا من الإيمان يخرج به من النار لم يكونوا مبتدعة، وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب، لكنه من أهل الوعيد، وإنما ينازع في ذلك من يقول : الإيمان لا يتبعض من الجهمية والمرجئة، فيقولون : إنه كامل الإيمان، فالذي ينفى إطلاق الاسم يقول : الاسم المطلق مقرون بالمدح واستحقاق الثواب، كقولنا : مُتَّقٍ، وبَرٌّ، وعلى الصراط المستقيم، فإذا كان الفاسق لا تطلق عليه هذه الأسماء، فكذلك اسم الإيمان، وأما دخوله في الخطاب، فلأن المخاطب باسم الإيمان كل من معه شيء منه؛ لأنه أمر لهم، فمعاصيهم لا تسقط عنهم الأمر .(1/130)
وأما ما ذكره أحمد في الإسلام، فاتبع فيه الزهري حيث قال : فكانوا يرون الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، في حديث سعد بن أبي وقاص، وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة،وتصوم رمضان، وتحج البيت ) . وقد يراد به الكلمة فقط من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام . لكن قد يقال : إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال : الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا ـ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ ألزموا بالأعمال الظاهرة : الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة، بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها .
/وأحمد إن كان أراد في هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتان فقط، فكل من قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه، والرواية الأخرى : لا يكون مسلماً حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصل كان كافراً . والثالثة : أنه كافر بترك الزكاة ـ أيضاً . والرابعة : أنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ما إذا لم يقاتله، وعنه أنه لو قال : أنا أؤديها ولا أدفعها إلى الإمام، لم يكن للإمام أن يقتله، وكذلك عنه رواية أنه يكفر بترك الصيام والحج، وإذا عزم أنه لا يحج أبداً . ومعلوم أنه على القول بكفر تارك المباني يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام، وهذا صحيح، فإنه يشهد له بالإسلام ولا يشهد له بالإيمان الذي في القلب، ولا يستثنى في هذا الإسلام، لأنه أمر مشهور، لكن الإسلام ـ الذي هو أداء الخمس كما أمر به ـ يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها .(1/131)
وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال : قيل : هو الإيمان، وهما اسمان لمسمى واحد . وقيل : هو الكلمة، وهذان القولان لهما وجه سنذكره، لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام، فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا / هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له : مؤمن ؟ قد تقدم الكلام فيه . وكذلك هل يستلزم الإسلام للإيمان ؟ هذا فيه النزاع المذكور وسنبينه، والوعد الذي في القرآن بالجنة وبالنجاة من العذاب، إنما هو معلق باسم الإيمان وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه .(1/132)
وبالإسلام بعث اللّه جميع النبيين، قال تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] ،وقال : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } [ آل عمران : 19 ] ، وقال نوح : { يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 71، 72 ] ، وقد أخبر أنه لم ينج من العذاب إلا المؤمنين فقال : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] ، وقال : { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] وقال نوح : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ هود : 29 ] .(1/133)
وكذلك أخبر عن إبراهيم أن دينه الإسلام فقال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 130 : 132 ] ،/وقال : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] ، وبمجموع هذين الوصفين علق السعادة فقال : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] ، كما علقه بالإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] .(1/134)
وهذا يدل على أن الإسلام الذي هو إخلاص الدين للّه، مع الإحسان وهو العمل الصالح الذي أمر اللّه به، هو والإيمان المقرون بالعمل الصالح متلازمان، فإن الوعد على الوصفين وعد واحد وهو الثواب، وانتفاء العقاب، فإن انتفاء الخوف علة تقتضي انتفاء ما يخافه؛ ولهذا قال : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لم يقل : لا يخافون، فهم لا خوف عليهم وإن كانوا يخافون اللّه، ونفى عنهم أن يحزنوا؛ لأن الحزن إنما يكون على ماض، فهم لا يحزنون بحال لا في القبر ولا في عَرَصَات القيامة، بخلاف الخوف فإنه قد يحصل لهم قبل دخول الجنة ولا خوف عليهم في الباطن، كما قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] .(1/135)
وأما الإسلام المطلق المجرد، فليس في كتاب اللّه تعليق دخول الجنة به، كما في كتاب اللّه تعليق دخول الجنة بالإيمان المطلق المجرد، كقوله : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ِ } [ الحديد : 12 ] ، وقال : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [ يونس : 2 ] . وقد وصف الخليل ومن اتبعه بالإيمان كقوله : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] ، ووصفه بذلك فقال : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } [ الأنعام : 81 : 83 ] ، ووصفه بأعلى طبقات الإيمان، وهو أفضل البرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم .(1/136)
والخليل إنما دعا بالرزق للمؤمنين خاصة فقال : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ البقرة : 126 ] ، وقال : { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] بعد قوله : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ْ } [ يونس : 83 ] ، وقال : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 87 ] ، وقد ذكرنا البشرى المطلقة للمسلمين في قوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] .(1/137)
وقد وصف اللّه السحرة بالإسلام والإيمان معاً، فقالوا : { آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [ الأعراف : 121،122 ] ، وقالوا : { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } [ الأعراف : 126 ] ، وقالوا : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 51 ] وقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الأعراف : 126 ] ، ووصف اللّه أنبياء بني إسرائيل بالإسلام في قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } [ المائدة : 44 ] ، والأنبياء كلهم مؤمنون، ووصف الحواريين بالإيمان والإسلام فقال تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] و { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] .
وحقيقة الفرق : أن الإسلام دين . والدين مصدر دان يدين ديناً : إذا خضع وذل، و [ دين الإسلام ] الذي ارتضاه اللّه وبعث به رسله هو الاستسلام للّه وحده، فأصله في القلب هو الخضوع للّه وحده بعبادته وحده دون ما سواه . فمن عبده، وعبد معه إلهاً آخر، لم يكن مسلماً، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، والإسلام هو الاستسلام للّه، وهو الخضوع له، والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة : أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب العمل، عمل القلب والجوارح .(1/138)
وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له؛ فلهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم [ الإيمان ] بإيمان القلب وبخضوعه، وهو الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، وفسر [ الإسلام ] باستسلام مخصوص، هو المباني الخمس . وهكذا في سائر كلامه صلى الله عليه وسلم يفسر الإيمان بذلك النوع ويفسر الإسلام بهذا، وذلك النوع أعلى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب ) فإن الأعمال الظاهرة يراها الناس، وأما / ما في القلب من تصديق ومعرفة وحب وخشية ورجاء فهذا باطن، لكن له لوازم قد تدل عليه، واللازم لا يدل إلا إذا كان ملزومًا؛ فلهذا كان من لوازمه ما يفعله المؤمن والمنافق، فلا يدل . . [ بياض بالأصل ] ففي حديث عبد اللّه بن عمرو وأبي هريرة جميعاً أن النبي صلىالله عليه وسلم قال : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَهُ الناس على دمائهم وأموالهم ) ، ففسر المسلم بأمر ظاهر وهو سلامة الناس منه؛ وفسر المؤمن بأمر باطن، وهو أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وهذه الصفة أعلى من تلك، فإن من كان مأمونًا سلم الناس منه، وليس كل من سلموا منه يكون مأمونًا . فقد يترك أذاهم وهم لا يأمنون إليه، خوفًا أن يكون ترك أذاهم لرغبة ورهبة؛ لا لإيمان في قلبه .(1/139)
وفي حديث عبيد بن عمير عن عمرو بن عَبَسَة عن النبي صلىالله عليه وسلم؛ أن رجلاً قال للنبي صلىالله عليه وسلم : ما الإسلام ؟ قال : ( إطعام الطعام، ولينُ الكلام ) قال : فما الإيمان ؟ قال : ( السَّمَاحَة والصبر ) فإطعام الطعام عمل ظاهر يفعله الإنسان لمقاصد متعددة، وكذلك لين الكلام، وأما السماحة والصبر فخُلُقَانِ في النفس، قال تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] ، وهذا أعلى من ذاك، وهو أن يكون صباراً شكوراً فيه سماحة بالرحمة للإنسان وصبر على المكاره، وهذا ضد الذي خُلِقَ هَلُوعاً إذا مسه الشر جَزُوعاً، وإذا مسه الخير منوعا، فإن ذاك ليس فيه سماحة عند النعمة، ولا صبر عند المصيبة .
/وتمام الحديث : فأي الإسلام أفضل ؟ قال : ( من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ) قال : يا رسول اللّّه، أي المؤمنين أكمل إيماناً ؟ قال : ( أحسنهم خُلُقاً ) قال : يا رسول اللّّه، أي القتل أشرف ؟ قال : ( من أرِيقَ دَمُهُ، وعُقِرَ جَوَادُهُ ) قال : يا رسول اللّه، فأي الجهاد أفضل ؟ قال : ( الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّّه ) . قال : يا رسول اللّه، فأي الصدقة أفضل ؟ قال : ( جُهْدِ المُقِلِّ ) . قال : يا رسول اللّه، فأي الصلاة أفضل ؟ قال : ( طول القُنُوت ) . قال : يا رسول اللّه، فأي الهجرة أفضل ؟ قال : ( من هَجَرَ السُّوءَ ) . وهذا محفوظ عن عبيد بن عمير، تارة يروى مرسلاً، وتارة يروى مسنداً، وفي رواية : أي الساعات أفضل ؟ قال : ( جَوْفَ الليل الغَابِر ) وقوله : ( أفضل الإيمان السماحة والصبر ) يروى من وجه آخر عن جابر عن النبي صلىالله عليه وسلم .(1/140)
وهكذا في سائر الأحاديث، إنما يفسر الإسلام بالاستسلام للّه بالقلب مع الأعمال الظاهرة، كما في الحديث المعروف الذي رواه أحمد عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ أنه قال : واللّه يا رسول اللّه، ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به ؟ قال : ( الإسلام ) . قال : وما الإسلام ؟ قال : ( أن تسلم قلبك للّه وأن توجه وجهك إلى اللّه، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل اللّه من عبد أشرك بعد إسلامه ) . وفي رواية قال : ( أن تقول : أسلمت وجهي للّه وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكل مسلم على مسلم مُحَرَّم ) وفي لفظ تقول : ( أسلمت نفسي للّه، وخليت وجهي إليه ) . وروى محمد بن نصر من حديث خالد/ بن معدان عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( إن للإسلام صُوًى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد اللّه ولا تشرك به شيئًا، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسلم على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك، ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم إن سَكَتَّ عنهم،وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئًا فهو سهم في الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نَبَذَ الإسلام وراء ظهره ) .(1/141)
وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] قال مجاهد وقتادة : نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، وهذا لا ينافي قول من قال : نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب أو فيمن لم يسلم؛لأن هؤلاء كلهم مأمورون ـ أيضًا ـ بذلك، والجمهور يقولون : { فٌي بسٌَلًم } أي : في الإسلام . وقالت طائفة : هو الطاعة، وكلاهما مأثور عن ابن عباس، وكلاهما حق، فإن الإسلام هو الطاعة كما تقدم أنه من باب الأعمال . وأما قوله : { كَآفَّةً } فقد قيل : المراد ادخلوا كلكم . وقيل : المراد به ادخلوا في الإسلام جميعه، وهذا هو الصحيح، فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره، وإنما يؤمر بما يقدر عليه، وقوله : { ادْخُلُوا } خطاب لهم كلهم فقوله : { كَآفَّةً } إن أريد به مجتمعين لزم أن يترك الإنسان الإسلام حتى يسلم غيره فلا يكون الإسلام مأموراً به إلا بشرط موافقة الغير له كالجمعة، وهذا لا يقوله مسلم، وإن أريد بكافة : أي : ادخلوا جميعكم، فكل أوامر القرآن كقوله : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الحديد : 7 ] ، { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } [ النور : 56 ] كلها من هذا الباب، وما قيل فيها كافة، وقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] أي : قاتلوهم كلهم لا تدعوا مشركاً حتى تقاتلوه، فإنها أنزلت بعد نبذ العهود، ليس المراد : قاتلوهم مجتمعين أو جميعكم، فإن هذا لا يجب، بل يقاتلون بحسب المصلحة، والجهاد فرض على الكفاية، فإذا كانت فرائض الأعيان لم يؤكد المأمورين فيها بكافة، فكيف يؤكد بذلك في فروض الكفاية ؟ ! وإنما المقصود تعميم المقاتلين . وقوله : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] فيه احتمالان .(1/142)
والمقصود أن اللّّه أمر بالدخول في جميع الإسلام كما دل عليه هذا الحديث، فكل ما كان من الإسلام وجب الدخول فيه، فإن كان واجباً على الأعيان لزمه فعله، وإن كان واجباً على الكفاية اعتقد وجوبه، وعزم عليه إذا تعين، أو أخذ بالفضل ففعله، وإن كان مستحباً اعتقد حسنه وأحب فعله، وفي حديث جرير : أن رجلاً قال : يا رسول اللّه، صِفْ لي الإسلام . قال : ( تشهد أن لا إله إلا اللّه، وتُقِرُّ بما جاء من عند اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) قال : أقررت، في قصة طويلة فيها : أنه وقع في أخَاقِيقَ جُرْذَان، وأنه قتل وكان جائعا، وملكان يَدُسَّان في شِدْقِه من ثمار الجنة، فقوله : ( وتقر بما جاء من عند اللّه ) . هو الإقرار بأن محمداً رسول اللّه فإنه هو الذي جاء بذلك .(1/143)
وفي الحديث الذي يرويه أبو سليمان الداراني : حديث الوفد الذين قالوا : نحن المؤمنون، قال : ( فما علامة إيمانكم ؟ ) قالوا : خمس عشرة خَصْلة : خمس أمرتنا رسلك أن نعمل بهن، وخمس أمرتنا رسلك أن/نؤمن بهن، وخمس تَخَلَّقْنَا بها في الجاهلية، ونحن عليها في الإسلام إلا أن تكره منها شيئًا . قال : ( فما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها ؟ ) قالوا : أن نشهد أن لا إله إلا اللّه،وأن محمداً رسول اللّه، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت . قال : ( وما الخمس التي أمرتكم أن تؤمنوا بها ؟ ) قالوا : أمرتنا أن نؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، قال : ( وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية، وثَبَتُّمْ عليها في الإسلام ؟ ) قالوا : الصبر عند البَلاء،والشكر عند الرَّخَاء والرِّضَي بِمُرِّ القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء، فقال النبي صلىالله عليه وسلم : ( علماء حكماء، كادوا من صِدْقِهم أن يكونوا أنبياء ) . فقال صلىالله عليه وسلم : ( وأنا أزيدكم خمسًا فتتم لكم عشرون خصلة : إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غداً تزولون وعنه منتقلون، واتقوا اللّه الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون ) .
فقد فرقوا بين الخمس التي يعمل بها فجعلوها الإسلام، والخمس التي يؤمن بها فجعلوها الإيمان، وجميع الأحاديث المأثورة عن النبي صلىالله عليه وسلم تدل على مثل هذا .(1/144)
وفي الحديث الذي رواه أحمد، من حديث أيوب، عن أبي قِلابة، عن رجل من أهل الشام عن أبيه أن النبي صلىالله عليه وسلم قال له : ( أسْلِمْ تَسْلَمْ ) قال : / وما الإسلام ؟ قال : ( أن تُسْلِم قلبك للّه، ويَسْلَم المسلمون من لسانك ويدك ) قال : فأي الإسلام أفضل ؟ قال : ( الإيمان ) قال : وما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت ) قال : فأي الإيمان أفضل ؟ قال : ( الهجرة ) قال : وما الهجرة ؟ قال : ( أن تهجر السوء ) قال : فأي الهجرة أفضل ؟ قال : ( الجهاد ) قال : وما الجهاد ؟ قال : ( أن تجاهد الكفار إذا لقيتهم ولا تُغَلُّ ولا تَجْبنُ ) ثم قال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما ) قالها ثلاثاً ( حجة مبرورة؛ أو عمرة ) وقوله : ( هما أفضل الأعمال ) أي بعد الجهاد؛ لقوله : ( ثم عملان ) ، ففي هذا الحديث جعل الإيمان خصوصاً في الإسلام، والإسلام أعم منه، كما جعل الهجرة خصوصًا في الإيمان والإيمان أعم منه، وجعل الجهاد خصوصًا من الهجرة والهجرة أعم منه . فالإسلام أن تعبد اللّه وحده لا شريك له مخلصًا له الدين .
وهذا دين اللّه الذي لا يقبل من أحد دينًا غيره،لا من الأولين ولا من الآخرين، ولا تكون عبادته مع إرسال الرسل إلينا إلا بما أمرت به رسله، لا بما يضاد ذلك؛ فإن ضد ذلك معصية، وقد ختم اللّه الرسل بمحمد صلىالله عليه وسلم فلا يكون مسلماً إلا من شهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإنسان في الإسلام . فمن قال : الإسلام الكلمة وأراد هذا، فقد صدق، ثم لابد من التزام ما أمر به الرسول من الأعمال الظاهرة،كالمباني الخمس،ومن ترك من ذلك شيئًا نقص إسلامه/ بقدر ما نقص من ذلك، كما في الحديث : ( من انتقص منهن شيئًا فهو سَهْمٌ من الإسلام تَرَكَهُ ) .(1/145)
وهذه الأعمال إذا عملها الإنسان مخلصاً للّه ـ تعالى ـ فإنه يثيبه عليها، ولا يكون ذلك إلا مع إقراره بقلبه أنه لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فيكون معه من الإيمان هذا الإقرار، وهذا الإقرار لا يستلزم أن يكون صاحبه معه من اليقين ما لا يقبل الرَّيْب، ولا أن يكون مجاهداً ولا سائر ما يتميز به المؤمن عن المسلم الذي ليس بمؤمن، وخلق كثير من المسلمين باطناً وظاهراً معهم هذا الإسلام بلوازمه من الإيمان، ولم يصلوا إلى اليقين والجهاد، فهؤلاء يثابون على إسلامهم وإقرارهم بالرسول مجملاً، وقد لا يعرفون أنه جاء بكتاب، وقد لا يعرفون أنه جاءه ملك، ولا أنه أخبر بكذا، وإذا لم يبلغهم أن الرسول أخبر بذلك لم يكن عليهم الإقرار المفصل به، لكن لابد من الإقرار بأنه رسول اللّه، وأنه صادق في كل ما يخبر به عن اللّه .
ثم الإيمان الذي يمتاز به فيه تفصيل، وفيه طمأنينة ويقين، فهذا متميز بصفته وقدره في الكمية والكيفية، فإن أولئك معهم من الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله وتفصيل المعاد والقدر ما لا يعرفه هؤلاء .(1/146)
وأيضاً، ففي قلوبهم من اليقين والثبات ولزوم التصديق لقلوبهم ما ليس مع هؤلاء، وأولئك هم المؤمنون حقاً، وكل مؤمن لابد أن يكون مسلماً، فإن الإيمان يستلزم الأعمال، وليس كل مسلم مؤمناً هذا الإيمان المطلق؛ لأن/ الاستسلام للّه والعمل له لا يتوقف على هذا الإيمان الخاص، وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة للّه ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم اللّه ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شُكِّكوا لشَكُّوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفاراً ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الرَّيْبَ، ولا عندهم من قوة الحب للّه ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم اللّه عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق .(1/147)
وكذلك إذا تعين عليهم الجهاد ولم يجاهدوا، كانوا من أهل الوعيد؛ ولهذا لما قدم النبي صلىالله عليه وسلم المدينة أسلم عامة أهلها، فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق . فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة، ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين ابتلوا فظهر صدقهم، قال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 : 3 ] ، وقال تعالى : { مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [ آل عمران : 179 ] ، وقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [ الحج : 11 ] ؛ ولهَذا ذم اللَّه المنافقين بأنهم دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه بقوله تعالى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } إلى قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 1،3 ] ، وقال في الآية الأخرى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } إلى قوله : { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ التوبة : 64 : 66 ] ، فقد أمره أن يقول لهم : قد كفرتم بعد(1/148)
إيمانكم .
وقول من يقول عن مثل هذه الآيات : إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم، لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال : قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق، وتكلموا بالاستهزاء، صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين، وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [ التوبة : 73، 74 ] فهنا قال : { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } .(1/149)
فهذا الإسلام قد يكون من جنس إسلام الأعراب فيكون قوله : { بعد إيمانكم } و { بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } سواء، وقد يكونون ما زالوا منافقين، فلم يكن لهم حال كان معهم فيها من الإيمان شيء، لكونهم أظهروا الكفر والردة؛ ولهذا دعاهم إلى التوبة فقال : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا } بعد التوبة عن التوبة { يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } وهذا إنما هو لمن أظهر الكفر، فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة؛ ولهذا ذكر هذا في سياق قوله : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ؛ ولهذا قال في تمامها : { وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ التوبة : 47 ] .(1/150)
وهؤلاء الصنف الذين كفروا بعد إسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم فإن هؤلاء حلفوا باللّه ما قالوا، وقد قالوا كلمة الكفر التي كفروا بها بعد إسلامهم وهَمُّوا بما لم ينالوا، وهو يدل على أنهم سعوا في ذلك، فلم يصلوا إلى مقصودهم؛ فإنه لم يقل : هموا بما لم يفعلوا، لكن { بٌمّا لّمً يّنّالٍوا } فصدر منهم قول وفعل، قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [ التوبة : 65 ] فاعترفوا واعتذروا؛ ولهذا قيل : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ التوبة : 66 ] فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفراً، وكان كفراً كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه، وهكذا قال غير واحد من السلف /في صفة المنافقين، الذين ضرب لهم المثل في سورة البقرة : أنهم أبصروا ثم عموا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا . وكذلك قال قتادة ومجاهد : ضرب المثل لإقبالهم على المؤمنين، وسماعهم ما جاء به الرسول، وذهاب نورهم، قال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 17، 18 ] إلى ما كانوا عليه .(1/151)
وأما قول من قال : المراد بالنور : ما حصل في الدنيا من حقن دمائهم وأموالهم، فإذا ماتوا سلبوا ذلك الضوء كما سلب صاحب النار ضوءه، فلفظ الآية يدل على خلاف ذلك، فإنه قال : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } ويوم القيامة يكونون في العذاب كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } الآية [ الحديد : 13، 14 ] ، وقد قال غير واحد من السلف : إن المنافق يعطي يوم القيامة نوراً ثم يطفأ؛ ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا } [ التحريم : 8 ] . قال المفسرون : إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ، سألوا اللّه أن يتم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة .(1/152)
/قال ابن عباس : ليس أحد من المسلمين إلا يعطي نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، وأما المؤمن فيشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهو يقول : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } ، وهو كما قال : فقد ثبت في [ الصحيحين ] من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ـ وهو ثابت من وجوه أخرـ عن النبي صلىالله عليه وسلم . ورواه مسلم من حديث جابر، وهو معروف من حديث ابن مسعود ـ وهو أطولها ـ ومن حديث أبي موسى في الحديث الطويل الذي يذكر فيه أنه ينادى يوم القيامة : ( لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم اللّه في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول : أنا ربكم، فيقولون : نعوذ باللّه منك، وهذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم اللّه في صورته التي يعرفون، فيقول أنا ربكم، فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ) . وفي رواية : ( فيكشف عن ساقه ) . وفي رواية فيقول : ( هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها، فيقولون : نعم . فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياء إلا جعل اللّه ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خَرَّ على قفاه . فتبقى ظهورهم مثل صَيَاصِي البقر فيرفعون رؤوسهم فإذا نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويطفأ نور المنافقين فيقولون : ذرونا نقتبس من نوركم ) .(1/153)
فبين أن المنافقين يحشرون مع المؤمنين في الظاهر، كما كانوا معهم في الدنيا ثم وقت الحقيقة، هؤلاء يسجدون لربهم، وأولئك لا يتمكنون من السجود،/فإنهم لم يسجدوا في الدنيا له، بل قصدوا الرياء للناس، والجزاء في الآخرة هو من جنس العمل في الدنيا، فلهذا أعطوا نوراً ثم طفئ؛ لأنهم في الدنيا دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه؛ ولهذا ضرب اللّه لهم المثل بذلك، وهذا المثل، هو لمن كان فيهم آمن ثم كفر، وهؤلاء الذين يعطون في الآخرة نوراً ثم يطفأ .
ولهذا قال : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] إلى الإسلام في الباطن . وقال قتادة ومقاتل : لا يرجعون عن ضلالهم . وقال السدي : لا يرجعون إلى الإسلام، يعني في الباطن، وإلا فهم يظهرونه، وهذا المثل إنما يكون في الدنيا، وهذا المثل مضروب لبعضهم وهم الذين آمنوا ثم كفروا . وأما الذين لم يزالوا منافقين فضرب لهم المثل الآخر، وهو قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [ البقرة : 19 ] ، وهذا أصح القولين، فإن المفسرين اختلفوا : هل المثلان مضروبان لهم كلهم، أو هذا المثل لبعضهم ؟ على قولين . والثاني هو الصواب؛ لأنه قال : { أَوْ كَصَيِّبٍ } وإنما يثبت بها أحد الأمرين، فدل ذلك على أنهم مثلهم هذا وهذا، فإنهم لا يخرجون عن المثلين بل بعضهم يشبه هذا وبعضهم يشبه هذا، ولو كانوا كلهم يشبهون المثلين لم يذكر [ أو ] بل يذكر الواو العاطفة .
وقول من قال : [ أو ] هاهنا للتخييرـ كقولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ـ ليس بشيء، لأن التخيير يكون في الأمر والطلب لا يكون في الخبر، وكذلك قول من قال : { أّوً } بمعنى الواو أو لتشكيك المخاطبين،/ أو الإبهام عليهم ليس بشيء، فإن اللّه يريد بالأمثال البيان والتفهيم، لا يريد التشكيك والإبهام .(1/154)
والمقصود تفهيم المؤمنين حالهم، ويدل على ذلك أنه قال في المثل الأول : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } وقال في الثاني : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 19، 20 ] فبين في المثل الثاني أنهم يسمعون ويبصرون ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم، وفي الأول كانوا يبصرون ثم صاروا في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمي . وفي الثاني إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فلهم حالان : حال ضياء، وحال ظلام، والأولون بقوا في الظلمة . فالأول حال من كان في ضوء فصار في ظلمة، والثاني حال من لم يستقر لا في ضوء ولا في ظلمة، بل تختلف عليه الأحوال التي توجب مقامه واسترابته .(1/155)
يبين هذا أنه ـ سبحانه ـ ضرب للكفار ـ أيضاً ـ مثلين بحرف [ أو ] فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [ النور : 39، 40 ] . فالأول/ مثل الكفر الذي يحسب صاحبه أنه على حق وهو على باطل، كمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فإنه لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم؛ فلهذا مثل بسراب بقيعة، والثاني مثل الكفر الذي لا يعتقد صاحبه شيئاً، بل هو في ظلمات بعضها فوق بعض، من عظم جهله لم يكن معه اعتقاد أنه على حق، بل لم يزل جاهلاً ضالاً في ظلمات متراكمة .
وأيضاً، فقد يكون المنافق والكافر تارة متصفاً بهذا الوصف وتارة متصفًا بهذا الوصف، فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم، وبكل حال فليس ما ضرب له هذا المثل هو مماثل لما ضرب له هذا المثل؛ لاختلاف المثلين صورة ومعنى؛ ولهذا لم يضرب للإيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد فضرب مثله بالنور، وأولئك ضرب لهم المثل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة أو بالظلمات المتراكمة، وكذلك المنافق يضرب له المثل بمن أبصر ثم عمى، أو هو مضطرب يسمع ويبصر ما لا ينتفع به . فتبين أن من المنافقين من كان آمن ثم كفر باطناً، وهذا مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسير، أنه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب :(1/156)
منها : أمر القبلة، لما حولت ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن اللّه بها الناس، قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } [ البقرة : 143 ] /قال : أي : إذا حولت، والمعنى : أن الكعبة هي القبلة التي كان في علمنا أن نجعلها قبلتكم؛ فإن الكعبة ومسجدها وحرمها أفضل بكثير من بيت المقدس وهي البيت العتيق، وقبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء، ولم يأمر اللّه قط أحداً أن يصلي إلى بيت المقدس، لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما؛ فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة، ولكن جعلناها أولاً قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس،فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فكان في شرعها هذه الحكمة .(1/157)
وكذلك ـ أيضاً ـ لما انهزم المسلمون يوم أحد وشُجَّ وجه النبي صلىالله عليه وسلم وكسرت رَبََِاعِيَتُهُ، ارتد طائفة نافقوا، قال تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 139 : 141 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [ آل عمران : 166، 167 ] فقوله : { وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } ظاهر فيمن أحدث نفاقاً وهو يتناول من لم ينافق قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقاً ثانياً، وقوله : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم بل إما أن يتساويا، وإما أن يكونوا للإيمان أقرب، وكذلك كان، فإن ابن أبيّ لما /انخزل عن النبي صلىالله عليه وسلم يوم أحد، انخزل معه ثلث الناس، قيل : كانوا نحو ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق .(1/158)
فإن ابن أبي كان مظهراً لطاعة النبي صلىالله عليه وسلم والإيمان به؛ وكان كل يوم جمعة يقوم خطيباً في المسجد يأمر باتباع النبي صلىالله عليه وسلم ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس إن ظهر، وكان معظماً في قومه، كانوا قد عزموا على أن يتوجوه ويجعلوه مثل الملك عليهم، فلما جاءت النبوة بطل ذلك، فحمله الحسد على النفاق، وإلا فلم يكن له قبل ذلك دين يدعو إليه؛ وإنما كان هذا في اليهود، فلما جاء النبي صلىالله عليه وسلم بدينه وقد أظهر اللّه حسنه ونوره، مالت إليه القلوب لا سيما لما نصره اللّه يوم بدر، ونصره على يهود بني قينقاع، صار معه الدين والدنيا، فكان المقتضى للإيمان في عامة الأنصار قائماً، وكان كثير منهم يعظم ابن أبي تعظيماً كثيراً ويواليه، ولم يكن ابن أبي أظهر مخالفة توجب الامتياز، فلما انخزل يوم أحد وقال : يدع رأيي ورأيه، ويأخذ برأي الصبيان ـ أو كما قال ـ انخزل معه خلق كثير، منهم من لم ينافق قبل ذلك .(1/159)
وفي الجملة، ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب اللّه به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من /المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان، ينقص إيمانهم كثيراً وينافق أكثرهم أو كثير منهم . ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة . وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسول باطناً وظاهراً لكن إيماناً لا يثبت على المحنة . ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم .(1/160)
وهؤلاء من الذين قالوا : { آمنا } فقيل لهم : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] أي : الإيمان المطلق، الذي أهله هم المؤمنون حقًا، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب اللّه ـ تعالى ـ كما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب، والريب يكون في علم القلب وفي عمل القلب، بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم؛ ولهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علماً وعملاً، وإلا فإذا كان عالماً بالحق، ولكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعًا عظيماً، لم يكن صاحب يقين قال تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] .
/وكثيراً ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوب اللّه عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، ويدفعه اللّه عنه . والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قالت الصحابة : يا رسول اللّه، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يَخرَّ من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به . فقال : ( ذاك صريح الإيمان ) ، وفي رواية : ما يتعاظم أن يتكلم به . قال : ( الحمد للّه الذي رد كيده إلى الوسوسة ) أي : حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب، هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو، فدافعه حتى غلبه، فهذا أعظم الجهاد، والصريح الخالص، كاللبن الصريح . وإنما صار صريحاً، لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية، ودفعوها فخلص الإيمان فصار صريحاً .(1/161)
ولابد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فصير كافراً أو منافقاً، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمناً وإما أن يصير منافقاً؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع اللّه ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة؛/فإنه عدوهم يطلب صدهم عن اللّه، قال تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } [ فاطر : 6 ] ؛ ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم، فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقيناً وطمأنينة وشفاء، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : { هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 138 ] ، وقال تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، وقال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] .(1/162)
وهذا مما يجده كل مؤمن من نفسه، فالشيطان يريد بوساوسه أن يشغل القلب عن الانتفاع بالقرآن، فأمر اللّه القارئ، إذا قرأ القرآن، أن يستعيذ منه، قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 98 : 100 ] ، فإن المستعيذ باللّه مستجير به، لاجئ إليه، مستغيث به من الشيطان، فالعائذ بغيره مستجير به؛ فإذا عاذ العبد بربه كان مستجيراً به متوكلاً عليه فيعيذه اللّه من الشيطان ويجيره منه، ولذلك قال اللّه تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فصلت : 34 : 36 ] .
وفي الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : ( إني لأعلم كلمة لو/ قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ) . فأمر ـ سبحانه ـ بالاستعاذة عند طلب العبد الخير؛ لئلاً يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه من الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات، وعند ما يأمره الشيطان بالسيئات؛ ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم : ( لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق اللّه ؟ فمن وجد ذلك فليستعذ باللّه ولينته ) ، فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شر أو يمنعه من خير، كما يفعل العدو مع عدوه .(1/163)
وكلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك من غيره بحيث تكون قوته على ذلك أقوى، ورغبته وإرادته في ذلك أتم، كان ما يحصل له ـ إن سلمه اللّه من الشيطان ـ أعظم، وكان ما يفتتن به ـ إن تمكن منه الشيطان ـ أعظم؛ ولهذا قال الشعبي : كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم .
وأهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل، وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم، وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب، ولهذا أمر النبي صلىالله عليه وسلم بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة؛ وأولئك لهم/نهمة في العلم والعبادة، فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم ـ وهم يظنونها هدي، فيطيعونها ـ ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم؛ كما قال ابن مسعود لأصحابه : كونوا ينابيع العلم،مصابيح الحكمة، سُرُج الليل،جُدَد القلوب، أحْلاس البيوت، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض .(1/164)
وهذه الشبهة التي أوقعتهم مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه؛ ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين؛ ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدًا من مرجئة الفقهاء بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببًا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء،حتى قال إبراهيم النَّخَعِيّ : لفتنتهم ـ يعني المرجئة ـ أخوف على هذه الأمة من فتنة/ الأزارقة . وقال الزهري : ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء،وقال الأوزاعي : كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء،وقال شريك القاضي ـ وذكر المرجئة فقال ـ : هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثًا،ولكن المرجئة يكذبون على الله . وقال سفيان الثوري : تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابِرِيّ وقال قتادة : إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث .(1/165)
وسئل مَيْمُون بن مِهْرَان عن كلام المرجئة، فقال : أنا أكبر من ذلك، وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني : ألا تستحي من رأى أنت أكبر منه ؟ ! وقال أيوب السِّخْتِيَاني : أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له : الحسن . وقال زاذان : أتينا الحسن بن محمد فقلنا : ما هذا الكتاب الذي وضعت ؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة، فقال لي : يا أبا عمر، لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو أضع هذا الكتاب، فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ولا كالخطأ في غيره من الأسماء، إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق .
وأحمد ـ رضي الله عنه ـ فرق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب، فإن تصديق اللسان هو الإقرار،وقد ذكر ثلاثة أشياء،وهذا يحتمل شيئين : يحتمل أن يفرق بين تصديق القلب ومعرفته،وهذا قول/ ابن كلاب والقلانسي،والأشعري وأصحابه يفرقون بين معرفة القلب وبين تصديق القلب،فإن تصديق القلب قوله . وقول القلب عندهم ليس هو العلم، بل نوعًا آخر؛ولهذا قال أحمد : هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار ؟ وهل يحتاج إلى أن يكون مصدقا بما عرف ؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال : لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد أتى عظيمًا ولا أحسب امرءًا يدفع المعرفة والتصديق .(1/166)
والذين قالوا : الإيمان هو الإقرار . فالإقرار باللسان يتضمن التصديق باللسان . والمرجئة لم تختلف أن الإقرار باللسان فيه التصديق، فعلم أنه أراد تصديق القلب ومعرفته مع الإقرار باللسان، إلا أن يقال : أراد تصديق القلب واللسان جميعًا مع المعرفة والإقرار، ومراده بالإقرار الالتزام لا التصديق، كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] ، فالميثاق المأخوذ على أنهم يؤمنون به وينصرونه، وقد أمروا بهذا، وليس هذا الإقرار تصديقًا، فإن الله ـ تعالى ـ لم يخبرهم بخبر، بل أوجب عليهم إذا جاءهم ذلك الرسول أن يؤمنوا به وينصروه . فصدقوا بهذا الإقرار والتزموه، فهذا هو إقرارهم . والإنسان قد يقر للرسول، بمعنى : أنه يلتزم ما يأمر به مع غير معرفة، ومن غير تصديق له بأنه رسول الله، لكن لم يقل أحد من المرجئة : إن هذا الإقرار يكون إيمانًا،/ بل لابد عندهم من الإقرار الخبري وهو أنه يقر له بأنه رسول الله كما يقر المقر بما يقر به من الحقوق، ولفظ الإقرار يتناول الالتزام والتصديق، ولابد منهما، وقد يراد بالإقرار مجرد التصديق بدون التزام الطاعة، والمرجئة تارة يجعلون هذا هو الإيمان وتارة يجعلون الإيمان التصديق والالتزام معًا، هذا هو الإقرار الذي يقوله فقهاء المرجئة : إنه إيمان، وإلا لو قال : أنا أطيعه ولا أصدق أنه رسول الله، أو أصدقه ولا ألتزم طاعته، لم يكن مسلمًا ولا مؤمنًا عندهم .(1/167)
وأحمد قال : لابد مع هذا الإقرار أن يكون مصدقًا، وأن يكون عارفًا، وأن يكون مصدقًا بما عرف . وفي رواية أخرى : مصدقًا بما أقر،وهذا يقتضي أنه لابد من تصديق باطن، ويحتمل أن يكون لفظ التصديق عنده يتضمن القول والعمل جميعًا،كما قد ذكرنا شواهده أنه يقال : صدق بالقول والعمل . فيكون تصديق القلب عنده يتضمن أنه مع معرفة قلبه أنه رسول الله قد خضع له وانقاد، فصدقه بقول قلبه وعمل قلبه محبة وتعظيمًا، وإلا فمجرد معرفة قلبه أنه رسول الله مع الإعراض عن الانقياد له ولما جاء به إما حسدًا وإما كبرًا، وإما لمحبة دينه الذي يخالفه وإما لغير ذلك، فلا يكون إيمانًا، ولابد في الإيمان من علم القلب وعمله،فأراد أحمد بالتصديق أنه مع المعرفة به صار القلب مصدقًا له،تابعًا له، محبا له، معظمًا له، فإن هذا لابد منه، ومن دفع هذا عن أن يكون من الإيمان، فهو من جنس من دفع المعرفة من أن تكون من الإيمان،وهذا أشبه بأن/يحمل عليه كلام أحمد؛ لأن وجوب انقياد القلب مع معرفته ظاهر ثابت بدلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن نازع من الجهمية في أن انقياد القلب من الإيمان فهو كمن نازع من الكرامية في أن معرفة القلب من الإيمان فكان حمل كلام أحمد على هذا هو المناسب لكلامه في هذا المقام .(1/168)
وأيضًا، فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يجعل قول القلب أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لايتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون : إن ما قاله ابن كلاب، والأشعري من الفرق، كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق، وعمدتهم من الحجة إنما هو خبر الكاذب، قالوا : ففي قلبه خبر بخلاف علمه، فدل على الفرق . فقال لهم الناس : ذاك بتقدير خبر وعلم ليس هو علمًا حقيقيًا ولا خبرًا حقيقيًا، ولما أثبتوه من قول القلب المخالف للعلم والإرادة، إنما يعود إلى تقدير علوم وإرادات لا إلى جنس آخر يخالفها .
ولهذا قالوا : إن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بقلبه خبر بخلاف علمه، وإنما يمكنه أن يقول ذلك بلسانه، وأما أنه يقوم بقلبه خبر بخلاف ما يعلمه، فهذا غير ممكن، وهذا مما استدلوا به على أن الرب ـ تعالى ـ لا يتصور قيام الكذب/بذاته؛ لأنه بكل شيء عليم، ويمتنع قيام معنى يضاد العلم بذات العالم، والخبر النفساني الكاذب يضاد العلم .(1/169)
فيقال لهم : الخبر النفساني لو كان خلافًا للعلم لجاز وجود العلم مع ضده كما يقولون مثل ذلك في مواضع كثيرة، وهي من أقوى الحجج التي يحتج بها القاضي أبو بكر وموافقوه في مسألة العقل وغيرها، كالقاضي أبي يعلى، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان،وأبي الطيب، وأبي الوليد الباجي، وأبي الخطاب، وابن عَقِيل وغيرهم، فيقولون : العقل نوع من العلم، فإنه ليس بضد له، فإن لم يكن نوعًا منه كان خلافًا له، ولو كان خلافًا لجاز وجوده مع ضد العقل، وهذه الحجة وإن كانت ضعيفة ـ كما ضعفها الجمهور، وأبو المعالي الجويني ممن ضعفها ـ فإن ما كان مستلزمًا لغيره لم يكن ضدا له، إذ قد اجتمعا، وليس هو من نوعه، بل هو خلاف له على هذا الاصطلاح الذي يقسمون فيه كل اثنين إلى أن يكونا مثلين، أو خلافين أو ضدين، فالملزوم كالإرادة مع العلم أو كالعلم مع الحياة، ونحو ذلك ليس ضدًا ولا مثلاً، بل هو خلاف، ومع هذا فلا يجوز وجوده مع ضد اللازم، فإن ضد اللازم ينافيه، ووجود الملزوم بدون اللازم محال، كوجود الإرادة بدون العلم، والعلم بدون الحياة، فهذان خلافان عندهم، ولا يجوز وجود أحدهما مع ضد الآخر .
كذلك العلم هو مستلزم للعقل، فكل عالم عاقل، والعقل شرط في العلم، فليس مثلاً له ولا ضدًا ولا نوعًا منه، ومع هذا لا يجوز وجوده مع ضد العقل،/ لكن هذه الحجة تقال لهم في العلم مع كلام النفس الذي هو الخبر، فإنه ليس ضدًا ولا مثلاً، بل خلافًا، فيجوز وجود العلم مع ضد الخبر الصادق وهو الكاذب، فبطلت تلك الحجة على امتناع الكذب النفساني من العالم، وبسط هذا له موضع آخر .(1/170)
والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقًا مجردًا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق . ثم احتج الإمام أحمد على أن الأعمال من الإيمان بحجج كثيرة، فقال : وقد سأل وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال : ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا خمسًا من المغنم ) ، فجعل ذلك كله من الإيمان . قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحياء شعبة من الإيمان ) ،وقال : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا ) ، وقال : ( إن البَذَاذَة من الإيمان ) . وقال : ( الإيمان بضع وستون شعبة، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا الله ) مع أشياء كثيرة،منها : ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ، وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المنافق : ( ثلاث من كن فيه فهو منافق ) مع حجج كثيرة .(1/171)
وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة وعن أصحابه من بعده، ثم ما وصف الله ـ تعالى ـ في كتابه/ من زيادة الإيمان في غير موضع، مثل قوله : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] ، وقال : { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } [ المدثر : 31 ] ، وقال : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [ الأنفال : 2 ] ، وقال تعالى : { فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] ، وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وقال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، وقال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 ] ، وقال : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] .
قال أحمد : ويلزمه أن يقول : هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة، أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول : إذا أقر ثم شد الزُّنَّار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيعَ وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله؛ فيلزمه أن يكون عنده مؤمنًا، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم .(1/172)
قلت : هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم، جمع في ذلك جملاً يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه . ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جَهْم ومن وافقه أنه لازم التزموه، وقالوا : لو فعل/ ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرًا في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرًا في الآخرة . قالوا : فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد، فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع .
وهذا القول مع فساده عقلاً وشرعًا، ومع كونه عند التحقيق لا يثبت إيمانًا، فإنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا لا حقيقة له . كما قالت الجهمية ومن وافقهم مثل ذلك في وحدة الرب : إنه ذات بلا صفات، وقالوا بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وما يقوله ابن كلاب من وحدة الكلام وغيره من الصفات .(1/173)
فقولهم في الرب وصفاته وكلامه والإيمان به يرجع إلى تعطيل محض، وهذا قد وقع فيه طوائف كثيرة من المتأخرين المنتسبين إلى السنة والفقه والحديث المتبعين للأئمة الأربعة، المتعصبين للجهمية والمعتزلة بل وللمرجئة أيضًا، لكن لعدم معرفتهم بالحقائق التي نشأت منها البدع يجمعون بين الضدين، ولكن من رحمة الله بعباده المسلمين أن الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق، مثل الأئمة الأربعة وغيرهم؛ كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد،وكالشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، كانوا ينكرون على أهل الكلام من الجهمية قولهم في القرآن والإيمان وصفات الرب، وكانوا متفقين على ما كان عليه السلف من أن الله يرى في الآخرة، وأن/ القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الإيمان لابد فيه من تصديق القلب واللسان، فلو شتم الله ورسوله كان كافرًا باطنًا وظاهرًا عندهم كلهم، ومن كان موافقًا لقول جهم في الإيمان بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان، يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة، وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم، حتى في مسألة سب الله ورسوله رأيت طائفة من الحنبليين،والشافعيين والمالكيين، إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا : إن هذا كفر باطنًا وظاهرًا .
وإذا تكلموا بكلام أولئك قالوا : هذا كفر في الظاهر، وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا تام الإيمان، فإن الإيمان عندهم لا يتبعض، ولهذا لما عرف القاضي عياض هذا من قول بعض أصحابه أنكره، ونصر قول مالك وأهل السنة، وأحسن في ذلك .
وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذا في كتاب [ الصارم المسلول على شاتم الرسول ] ، وكذلك تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف، ويبحثون بحثًا يناسب قول الجهمية؛ لأن البحث أخذوه من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان .(1/174)
والرازي لما صنف [ مناقب الشافعي ] ذكر قوله في الإيمان . وقول الشافعي قول الصحابة والتابعين، وقد ذكر الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين . ومن لقيه استشكل قول الشافعي جدًا؛ لأنه كان قد انعقد في نفسه شبهة أهل البدع في الإيمان؛ من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية/وسائر المرجئة،وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم . والجواب عما ذكروه هو سهل، فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء .
والشافعي مع الصحابة والتابعين وسائر السلف يقولون : إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء، فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعًا مع الذنوب، لكن يقولون بقى بعضه؛ إما أصله وإما أكثره وإما غير ذلك، فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه .
ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة؛ لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضًا متعددًا عند من يقول بذلك، وهم الخوارج والمعتزلة . وأما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد، فيثبتون واحدًا لا حقيقة له، كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب ووحدانية صفاته عند من أثبتها منهم .
ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا، اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع/السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة بل وصرح غير واحد منهم بكفر من قال بقول جهم في الإيمان .(1/175)
ولهذا نظائر متعددة، يقول الإنسان قولاً مخالفًا للنص والإجماع القديم حقيقة، ويكون معتقدا أنه متمسك بالنص والإجماع . وهذا إذا كان مبلغ علمه واجتهاده، فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده، ويغفر له ما عجز عن معرفته من الصواب الباطن، وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل . فقال لي مرة بعضهم : الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان . فقلت له : قولك من حيث هو، كما تقول : الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان والصفات، فتثبت لهذه المسميات وجودًا مطلقًا مجردًا عن جميع القيود والصفات وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنسانًا لا موجودًا ولا معدومًا، ويقول : الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كسائر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن .
/فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد . وتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدومًا، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، ليست هي هي . وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج، ويشتركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن .(1/176)
وكذلك إذا قيل : إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين ليس هو الإيمان من حيث هو هو، بل هو إيمان معين، وذلك الإيمان يقبل الزيادة، والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانًا مطلقًا أو إنسانًا مطلقًا، أو وجودًا مطلقا مجردًا عن جميع الصفات المعينة له ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس . وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد، إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره .
ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص والعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علمًا وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره، ولا يكون في الخارج .
/ وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعدادًا مجردة وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزمانًا مجردًا عن الحركة والمتحرك، وبعدًا مجردًا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج، وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين والاثنين واحدًا، فتارة يجيئون إلي الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين، والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاؤوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخري وجعلوا الصفة هي الموصوف .(1/177)
وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحدًا وفي كونه متماثلاً كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل [ التوحيد ] و [ الصفات ] و [ القرآن ] ونحو ذلك، فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته ـ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .
وكذلك السواد والبياض يقبل الاشتداد والضعف، بل عامة الصفات التي يتصف بها الموصوفون تقبل التفاضل؛ ولهذا كان العقل يقبل التفاضل، والإيجاب والتحريم يقبل التفاضل، فيكون إيجاب أقوى من إيجاب، وتحريم أقوى من تحريم، وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل/ على الصحيح عند أهل السنة، وفي هذا كله نزاع، فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل، وغيرهما .
وقد حكى عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان . وإنكار التفاضل في هذه الصفات هو من جنس أصل قول المرجئة،ولكن يقوله من يخالف المرجئة،وهؤلاء يقولون : التفاضل إنما هو في الأعمال، وأما الإيمان الذي في القلوب فلا يتفاضل،وليس الأمر كما قالوه، بل جميع ذلك يتفاضل، وقد يقولون : إن أعمال القلب تتفاضل، بخلاف معارف القلب،وليس الأمر كذلك، بل إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب علي هذا، ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد وإن وجب عليهم جميعهم الإيمان بعد استقرار الشرع، فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبرًا، وعلى أن يحتاج إلى العمل به إن كان أمرًا، وعلى العلم به إن كان علمًا، وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه، فإن هذا لا يقدر عليه أحد .(1/178)
فالوجوب يتنوع بتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة/، ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور، ومع الغفلة،فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول/ الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة،كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريبه فيها وذكرها في قلبه، ثم رغب إلى الله في كشف الريب، ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله، والتوكل عليه، والصبر على حكمه، والشكر له والإنابة إليه، وإخلاص العمل له مما يتفاضل الناس فيها تفاضلاً لا يعرف قدره إلا الله ـ عز وجل ـ ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره، وإما معاند .
قال الإمام أحمد : فإن زعموا أنهم لا يقبلون زيادة الإيمان، من أجل أنهم لا يدرون ما زيادته، وأنها غير محدودة، فما يقولون في أنبياء الله وكتبه ورسله ؟ هل يقرون بهم في الجملة ؟ ويزعمون أنه من الإيمان، فإذا قالوا : نعم، قيل لهم : هل تحدونهم وتعرفون عددهم ؟ أليس إنما يصيرون في ذلك إلى الإقرار بهم في الجملة، ثم يكفون عن عددهم ؟ فكذلك زيادة الإيمان . وبين أحمد أن كونهم لم يعرفوا منتهى زيادته، لا يمنعهم من الإقرار بها في الجملة، كما أنهم يؤمنون بالأنبياء والكتب وهم لا يعرفون عدد الكتب والرسل .(1/179)
وهذا الذي ذكره أحمد، وذكره محمد بن نصر، وغيرهما، يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل، وأن حديث أبي ذر في ذلك لم يثبت عندهم . وأما قول من سوى بين الإسلام والإيمان وقال : إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام، وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان، فليس كذلك، فإن الله/ ورسوله قد فسر الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .(1/180)
وبين ـ أيضًا ـ أن العمل بما أمر به يدخل في الإيمان، ولم يسم الله الإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت إسلامًا، بل إنما سمى الإسلام الاستسلام له بقلبه وقصده وإخلاص الدين والعمل بما أمر به؛ كالصلاة والزكاة خالصًا لوجهه، فهذا هو الذي سماه الله إسلاماً وجعله دينًا، وقال : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] ،ولم يدخل فيما خص به الإيمان، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، بل ولا أعمال القلوب، مثل حب الله ورسوله ونحو ذلك، فإن هذه جعلها من الإيمان، والمسلم المؤمن يتصف بها، وليس إذا اتصف بها المسلم المؤمن يلزم أن تكون من الإسلام،بل هي من الإيمان، والإسلام فرض، والإيمان فرض، والإسلام داخل فيه، فمن أتى بالإيمان الذي أمر به، فلابد أن يكون قد أتى بالإسلام المتناول لجميع الأعمال الواجبة، ومن أتى بما يسمى إسلامًا لم يلزم أن يكون قد أتى بالإيمان إلا بدليل منفصل، كما علم أن من أثنى الله عليه بالإسلام من الأنبياء وأتباعهم إلى الحواريين كلهم كانوا مؤمنين كما كانوا مسلمين، كما قال الحواريون : { آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] ، وقال : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] ؛ ولهذا أمرنا الله بهذا وبهذا في خطاب واحد، كما قال : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي(1/181)
شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة : 136، 137 ] ، وقال في الآية الأخرى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] .
وهذا يقتضي أن كل من دان بغير دين الإسلام فعمله مردود، وهو خاسر في الآخرة، فيقتضي وجوب دين الإسلام وبطلان ما سواه، لا يقتضي أن مسمي الدين هو مسمى الإيمان، بل أمرنا أن نقول : { آمَنَّا بِاللّهِ } ، وأمرنا أن نقول : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فأمرنا باثنين فكيف نجعلهما واحدًا ؟ !
وإذا جعلوا الإسلام والإيمان شيئًا واحدًا، فإما أن يقولوا : اللفظ مترادف، فيكون هذا تكريرًا محضًا ثم مدلول هذا اللفظ عين مدلول هذا اللفظ، وإما أن يقولوا : بل أحد اللفظين يدل على صفة غير الصفة الأخرى، كما في أسماء الله وأسماء كتابه، لكن هذا لا يقتضي الأمر بهما جميعًا، ولكن يقتضي أن يذكر تارة بهذا الوصف، وتارة بهذا الوصف، فلا يقول قائل : قد فرض الله عليك الصلوات الخمس، والصلاة المكتوبة، وهذا هو هذا، والعطف بالصفات يكون إذا قصد بيان الصفات لما فيها من المدح أو الذم، كقوله : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 : 3 ] لا يقال : صل لربك الأعلى، ولربك الذي خلق فسوى .(1/182)
وقال محمد بن نصر المروزي ـ رحمه الله ـ : فقد بين الله في كتابه وسنة رسوله أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، فمن صدق بالله فقد آمن به، ومن آمن بالله فقد خضع له، وقد أسلم له، ومن صام وصلى وقام بفرائض الله وانتهى عما /نهى الله عنه، فقد استكمل الإيمان والإسلام المفترض عليه، ومن ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسم الإيمان ولا الإسلام، إلا أنه أنقص من غيره في الإسلام والإيمان من غير نقصان من الإقرار بأن الله حق، وما قال حق لا باطل وصدق لا كذب، ولكن ينقص من الإيمان الذي هو تعظيم لله وخضوع للهيبة والجلال والطاعة للمصدق به، وهو الله، فمن ذلك يكون النقصان لا من إقرارهم بأن الله حق، وما قال صدق .
فيقال : ما ذكره يدل على أن من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام، وهذا حق، ولكن ليس فيه ما يدل عن أن من أتى بالإسلام الواجب فقد أتى بالإيمان، فقوله : من آمن بالله فقد خضع له وقد استسلم له حق، لكن أي شيء في هذا يدل على أن من أسلم لله وخضع له، فقد آمن به وبملائكته وبكتبه ورسله والبعث بعد الموت ؟ وقوله : إن الله ورسوله قد بين أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، إن أراد أن الله أوجبهما جميعًا ونهى عن التفريق بينهما، فهذا حق، وإن أراد أن الله جعل مسمي هذا مسمى هذا، فنصوص الكتاب والسنة تخالف ذلك، وما ذكر قط نصًا واحدًا يدل على اتفاق المسلمين .
و كذلك قوله : من فعل ما أمر به وانتهى عما نهى عنه فقد استكمل الإيمان والإسلام، فهذا صحيح إذا فعل ما أمر به باطنًا وظاهرًا، ويكون قد استكمل الإيمان والإسلام الواجب عليه، ولا يلزم أن يكون إيمانه وإسلامه مساويًا للإيمان والإسلام الذي فعله أولو العزم من الرسل؛ كالخليل إبراهيم، ومحمد خاتم /النبيين عليهما الصلاة والسلام، بل كان معه من الإيمان والإسلام ما لا يقدر عليه غيره ممن ليس كذلك ولم يؤمر به .(1/183)
وقوله : من ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسم الإسلام والإيمان إلا أنه أنقص من غيره في ذلك . فيقال : إن أريد بذلك أنه بقي معه شيء من الإسلام والإيمان، فهذا حق كما دلت عليه النصوص، خلافًا للخوارج والمعتزلة، وإن أراد أنه يطلق عليه بلا تقييد مؤمن ومسلم في سياق الثناء والوعد بالجنة، فهذا خلاف الكتاب والسنة، ولو كان كذلك لدخلوا في قوله : { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ التوبة : 72 ] وأمثال ذلك مما وعدوا فيه بالجنة بلا عذاب .
وأيضًا، فصاحب الشرع قد نفى عنهم الاسم في غير موضع، بل قال : ( قتال المؤمن كفر ) ،وقال : ( لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض ) . وإذا احتج بقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } [ الحجرات : 9 ] ونحو ذلك قيل : كل هؤلاء إنما سموا به مع التقييد بأنهم فعلوا هذه الأمور؛ ليذكر ما يؤمرون به هم وما يؤمر به غيرهم .
وكذلك قوله : لا يكون النقصان من إقرارهم بأن الله حق وما قاله صدق، فيقال : بل النقصان يكون في الإيمان الذي في القلوب من معرفتهم ومن علمهم فلا تكون معرفتهم وتصديقهم بالله وأسمائه وصفاته، وما قاله من أمر ونهي،ووعد ووعيد، كمعرفة غيرهم وتصديقه، لا من جهة الإجمال والتفصيل، ولا من/ جهة القوة والضعف، ولا من جهة الذكر والغفلة، وهذه الأمور كلها داخلة في الإيمان بالله وبما أرسل به رسوله، وكيف يكون الإيمان بالله وأسمائه وصفاته متماثلاً في القلوب ؟ ! أم كيف يكون الإيمان بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غفور رحيم، عزيز حكيم، شديد العقاب، ليس هو من الإيمان به ؟ ! فلا يمكن مسلمًا أن يقول : إن الإيمان بذلك ليس من الإيمان به ولا يدعي تماثل الناس فيه .(1/184)
وأما ما ذكره من أن الإسلام ينقص كما ينقص الإيمان، فهذا ـ أيضًا ـ حق كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن من نقص من الصلاة والزكاة أو الصوم أو الحج شيئًا، فقد نقص من إسلامه بحسب ذلك . ومن قال : إن الإسلام هو الكلمة فقط، وأراد بذلك أنه لا يزيد ولا ينقص، فقوله خطأ . ورد الذين جعلوا الإسلام والإيمان سواء إنما يتوجه إلى هؤلاء، فإن قولهم في الإسلام يشبه قول المرجئة في الإيمان .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=144 - TOP#TOPولهذا صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال : فالمرجئة يقولون : الإسلام أفضل؛ فإنه يدخل فيه الإيمان . وآخرون يقولون : الإيمان والإسلام سواء،وهم المعتزلة والخوارج، وطائفة من أهل الحديث والسنة وحكاه محمد بن نصر عن جمهورهم، وليس كذلك، والقول الثالث : أن الإيمان أكمل وأفضل، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة في غير موضع، وهو المأثور عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان .
/ثم هؤلاء منهم من يقول : الإسلام مجرد القول . والأعمال ليست من الإسلام، والصحيح أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة كلها، وأحمد إنما منع الاستثناء فيه على قول الزهري : هو الكلمة . هكذا نقل الأثرم،والميموني وغيرهما عنه، وأما على جوابه الآخر الذي لم يختر فيه قول من قال : الإسلام الكلمة، فيستثنى في الإسلام كما يستثنى في الإيمان، فإن الإنسان لا يجزم بأنه قد فعل كل ما أمر به من الإسلام، وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ) ،و ( بني الإسلام على خمس ) ، فجزمه بأنه فعل الخمس بلا نقص كما أمر كجزمه بإيمانه، فقد قال تعالى : { ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] أي الإسلام كافة، أي في جميع شرائع الإسلام .(1/185)
سئل ـ رحمه الله : عن الإيمان بالله ورسوله : هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال أم لا ؟ وهل يدخل فيه جميع المقامات والأحوال المحمودة عند الله ورسوله أم لا ؟ وهل تكون صفة الإيمان نورًا يوقعه الله في قلب العبد، ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل أم لا ؟ وهل يكون لأول حصوله سبب من الأسباب ـ مثل رؤية أهل الخير أو مجالستهم وصحبتهم أو تعلم عمل من الأعمال أو غير ذلك ؟
فإن كان لأول حصوله سبب، فما هو ذلك السبب ؟ وما الأسباب ـ أيضًا ـ التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل، على ترتيبها ؟ هل يبدأ بالزهد حتى يصححه ؟ أم بالعلم حتى يرسخ فيه ؟ أم بالعبادة حتى يجهد نفسه، أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته ؟ أم كيف يتوصل إلى حقيقة الإيمان الذي مدحه الله ورسوله ؟ بينوا لنا الأسباب وأنواعها وشرحها، التي يتوصل بها إلى حقيقة الإيمان، وما وصف صاحبه ـ رضى الله عنكم ؟
/فأجاب :
الحمد لله رب العالمين . اسم الإيمان يستعمل مطلقًا، ويستعمل مقيدًا، وإذا استعمل مطلقًا، فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه، وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم .
ويدخل في ذلك ما قد يسمى مقامًا وحالاً؛ مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والرضا والخشية والإنابة والإخلاص والتوحيد وغير ذلك .(1/186)
ومن هذا ما خرج في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، أعلاها : قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) . فذكر أعلى شعب الإيمان، وهو قول لا إله إلا الله، فإنه لا شيء أفضل منها كما في الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الدعاء؛ دعاء يوم /عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) ،وفي الترمذي وغيره أنه قال : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وفي الصحيح عنه أنه قال لعمه عند الموت : ( يا عم، قل : لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ) .
وقد تظاهرت الدلائل على أن أحسن الحسنات هو التوحيد، كما أن أسوأ السيئات هو الشرك، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] وتلك الحسنة التي لابد من سعادة صاحبها كما ثبت في الصحيح عنه حديث الموجبتين : موجبة السعادة وموجبة الشقاوة، فمن مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، وأما من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار، وذكر في الحديث أنها أعلى شعب الإيمان .(1/187)
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس : ( آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس المغنم ) ، فجعل هذه الأعمال من الإيمان، وقد جعلها من الإسلام في حديث جبرائيل الصحيح ـ لما أتاه في صورة أعرابي ـ وسأله عن الإيمان، فقال : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، وسأله عن الإسلام فقال : ( أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله،/ وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) ،وفي حديث في المسند قال : ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب ) .
فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه؛ ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح، كما قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : إن القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ) .(1/188)
ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة، وما على الجوارح ليس داخلا في مسماه، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه، حتى آل الأمر بغلاتهم ـ كجهم وأتباعه ـ إلى أن قالوا : يمكن أن يصدق بقلبه، ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر، مع قدرته على إظهارها، فيكون الذي في القلب إيمانًا نافعًا له في الآخرة، وقالوا : حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب . وقولهم متناقض، فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزمًا لانتفاء الإيمان الذي في القلب، امتنع أن يكون الإيمان ثابتًا في/ القلب، مع الدليل المستلزم لنفيه، وإن لم يكن دليلاً لم يجز الاستدلال به على الكفر والباطن .
والله ـ سبحانه ـ في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة، كقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2 : 4 ] وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [ النور : 62 ] ، وقال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] .(1/189)
فإذا قال القائل : هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور، لا يدل على أنها من الإيمان، قيل : هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة، فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة، لا قول ولا عمل وهو المطلوب ـ وذلك تصديق ـ وذلك لأن القلب إذ تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتًا استلزم موالاة أوليائه/ ومعاداة أعدائه، { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 ] ، { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء } [ المائدة : 81 ] فهذا التلازم أمر ضروري .
ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة، مع القدرة التامة بدون الفعل، حتى تنازعوا : هل يعاقب على الإرادة بلا عمل ؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليست إرادة جازمة، وأن الإرادة الجازمة لابد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد، والعفو وقع عمن هم بسيئة ولم يفعلها؛ لا عمن أراد وفعل المقدور عليه، وعجز عن حصول مراده، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما، فإن هذا يعاقب؛ لأنه أراد وفعل المقدور من المراد، ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها .(1/190)
بقى أن يقال : فهل اسم الإيمان للأصل فقط، أو له ولفروعه ؟ والتحقيق : أن الاسم المطلق يتناولهما، وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران، وقد لا يتناول إلا الأصل، إذا لم يخص إلا هو، كاسم الشجرة، فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت، ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة يتناول الأصل وحده، وكذلك اسم الحج هو اسم لكل ما يشرع فيه من ركن، وواجب،/ ومستحب، وهو حج ـ أيضًا ـ تام بدون المستحبات، وهو حج ناقص بدون الواجبات التي يجبرها دم .
والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب، بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه، لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام قد يراد به الكمال الواجب، والكمال المستحب، كما يقول بعض الفقهاء : الغسل ينقسم إلى : كامل، ومجزئ، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) ،و ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ونحو ذلك، كان لانتفاء بعض ما يجب فيه، لا لانتفاء الكمال المستحب، والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه، كالحج، والصلاة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومثقال شعيرة من إيمان ) .(1/191)
وأما إذا استعمل اسم الإيمان مقيدًا، كما في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ البينة : 7 ] ، وقوله : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 63 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ) ونحو ذلك،فهناك قد يقال : إنه متناول لذلك، وإن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى : { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، وقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] .
/وقد يقال : إن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران، كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كانا صنفين، كما في آية الصدقة، ولا ريب أن فروع الإيمان مع أصوله كالمعطوفين، وهي مع جميعه كالبعض مع الكل، ومن هذا الموضع نشأ نزاع واشتباه، هل الأعمال داخلة في الإيمان أم لا ؟ لكونها عطفت عليه .
ومن هذا الباب قد يعطف على الإيمان بعض شعبه العالية، أو بعض أنواعه الرفيعة؛ كاليقين، والعلم، ونحو ذلك، فيشعر العطف بالمغايرة، فيقال : هذا أرفع الإيمان ـ أي اليقين والعلم أرفع من المؤمن الذي ليس معه هذا اليقين والعلم، كما قال الله تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] .(1/192)
ومعلوم أن الناس يتفاضلون في نفس الإيمان والتصديق في قوته وضعفه، وفي عمومه وخصوصه، وفي بقائه ودوامه، وفي موجبه ونقيضه، وغير ذلك من أموره، فيخص أحد نوعيه باسم يفضل به على النوع الآخر، ويبقى اسم الإيمان، في مثل ذلك متناولاً للقسم الآخر، وكذلك يفعل في نظائر ذلك، كما يقال : الإنسان خير من الحيوان، والإنسان خير من الدواب، وإن كان الإنسان يدخل في الدواب، في قوله : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الأنفال : 22 ] .
فإذا عرف هذا، فحيث وجد في كلام مقبول تفضيل شيء على الإيمان، فإنما هو تفضيل نوع خاص على عمومه، أو تفضيل بعض شعبه العالية على غيره،/واسم الإيمان قد يتناول النوعين جميعًا، وقد يخص أحدهما كما تقدم، وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة أسمائه .
فصل
في قدرة الرب عز وجل
اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله على كل شىء قدير، كما نطق بذلك القرآن في مواضع كثيرة جدًا . وقد بسطت الكلام في الرد على من أنكر قدرة الرب في غير موضع، كما قد كتبناه على [ الأربعين ] ، و [ المحصل ] وفي شرح [ الأصبهانية ] وغير ذلك، وتكلمنا على ما ذكره الرازي وغيره /في [ مسألة كون الرب قادرًا مختارًا ] ، وما وقع فيها من التقصير الكثير مما ليس هذا موضعه0
والمقصود هنا : الكلام بين أهل الملل الذين يصدقون الرسل فنقول : هنا مسائل :
المسألة الأولى : قد أخبر الله أنه على كل شىء قدير، والناس في هذا على ثلاثة أقوال :
طائفة تقول : هذا عام يدخل فيه الممتنع لذاته من الجمع بين الضدين، وكذلك يدخل في المقدور، كما قال ذلك طائفة منهم ابن حزم0
وطائفة تقول : هذا عام مخصوص يخص منه الممتنع لذاته، فإنه وإن كان شيئًا، فإنه لا يدخل في المقدور، كما ذكر ذلك ابن عطية وغيره، وكلا القولين خطأ0(1/193)
والصواب : هو القول الثالث الذي عليه عامة النظار، وهو : أن الممتنع لذاته ليس شيئًا البتة، و إن كانوا متنازعين في المعدوم، فإن الممتنع لذاته لا يمكن تحققه في الخارج، ولا يتصوره الذهن ثابتًا في الخارج، ولكن يقدر اجتماعهما في الذهن، ثم يحكم على ذلك بأنه ممتنع في الخارج؛ إذ كان يمتنع تحققه في الأعيان، وتصوره في الأذهان، إلا على وجه التمثيل بأن يقال : قد تجتمع/ الحركة والسكون في الشىء، فهل يمكن في الخارج أن يجتمع السواد والبياض في محل واحد، كما تجتمع الحركة والسكون ؟ فيقال : هذا غير ممكن، فيقدر اجتماع نظير الممكن ثم يحكم بامتناعه، وأما نفس اجتماع البياض والسواد في محل واحد، فلا يمكن ولا يعقل، فليس بشىء لا في الأعيان ولا في الأذهان، فلم يدخل في قوله : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الحديد : 2 ] 0
المسألة الثانية : أن المعدوم ليس بشىء في الخارج عند الجمهور وهو الصواب0
وقد يطلقون أن الشىء هو الموجود، فيقال على هذا : فيلزم ألا يكون قادرًا إلا على موجود، وما لم يخلقه لا يكون قادرًا عليه، وهذا قول بعض أهل البدع، قالوا : لا يكون قادرًا إلا على ما أراده، دون ما لم يرده، ويحكى هذا عن تلميذ النظام . والذين قالوا : إن الشىء هو الموجود ـ من نظار المثبتة كالأشعري، ومن وافقه من أتباع الأئمة؛ أحمد وغير أحمد، كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وغيرهما ـ يقولون : إنه قادر على الموجود، فيقال : إن هؤلاء أثبتوا ما لم تثبته الآية، فالآية أثبتت قدرته على الموجود، وهؤلاء قالوا : هو قادر على الموجود والمعدوم0(1/194)
والتحقيق : أن الشىء اسم لما يوجد في الأعيان، ولما يتصور في الأذهان، فما قدَّره الله وعلم أنه سيكون هو شىء في التقدير والعلم والكتاب، وإن لم يكن/شيئًا في الخارج . ومنه قوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، ولفظ الشىء في الآية يتناول هذا وهذا، فهو على كل شىء ما وجد وكل ما تصوره الذهن موجودًا، إن تصور أن يكون موجودًا قديرًا، لا يستثنى من ذلك شىء، ولا يزاد عليه شىء، كما قال تعالى : { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } [ القيامة : 4 ] ، وقال : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } [ الأنعام : 65 ] ، وقد ثبت في الصحيحين : أنها لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أعوذ بوجهك ) . فلما نزل : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } الآية قال : [ هاتان أهون ] . فهو قادر على الأولتين وإن لم يفعلهما، وقال : { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ المؤمنون : 18 ] 0(1/195)
قال المفسرون : لقادرون على أن نذهب به حتى تموتوا عطشًا، وتهلك مواشيكم، وتخرب أراضيكم . ومعلوم أنه لم يذهب به، وهذا كقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ } إلى قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 68-82 ] ، وهذا يدل على أنه قادر على ما لا يفعله . فإنه أخبر أنه لو شاء جعل الماء أجاجًا وهو لم يفعله، ومثل هذا : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ السجدة : 13 ] 0 { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ } [ يونس : 99 ] ، { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ } [ البقرة : 253 ] ، فإنه أخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أشياء وهو لم يفعلها، فلو لم يكن قادرًا عليها؛ لكان إذا شاءها لم يمكن فعلها0
المسألة الثالثة : أنه على كل شىء قدير، فيدخل في ذلك /أفعال العباد وغير أفعال العباد . وأكثر المعتزلة يقولون : إن أفعال العبد غير مقدورة0
المسألة الرابعة : أنه يدخل في ذلك أفعال نفسه، وقد نطقت النصوص بهذا، وهذا كقوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } [ يس : 81 ] ، { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [ القيامة : 40 ] ، { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } [ القيامة : 4 ] ونظائره كثيرة0(1/196)
والقدرة على الأعيان جاءت في مثل قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ } [ ق : 16 ] ، { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } [ البلد : 5 ] ، وجاءت منصوصًا عليها في الكتاب والسنة0 أما الكتاب فقوله : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ } [ الزخرف : 41 ] ، فبين أنه ـ سبحانه ـ يقدر عليهم أنفسهم، وهذا نص في قدرته على الأعيان المفعولة، وقوله : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] ، و { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] ونحو ذلك . وهو يدل بمفهومه على أن الرب هو الجبار عليهم المسيطر، وذلك يستلزم قدرته عليهم، وقوله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [ الأنبياء : 87 ] ـ على قول الحسن وغيره من السلف ممن جعله من القدرة ـ دليل على أن الله قادر عليه وعلى أمثاله، وكذلك قول الموصى لأهله : لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين . فلما حرقوه أعاده الله ـ تعالى ـ وقال له : ( ما حملك على ما صنعت ؟ ) ـ قال : خشيتك يا رب ! فغفر له، وهو كان مخطئًا في قوله : لئن قدر الله علي ليعذبني كما يدل عليه الحديث، وإن الله/ قدر عليه، لكن لخشيته وإيمانه غفر الله له هذا الجهل والخطأ الذي وقع منه0
وقد يستدل بقوله : { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } إلى قوله : { فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [ المرسلات : 20ـ 23 ] على قول من جعله من القدرة، فإنه يتناول القدرة على المخلوقين وإن كان ـ سبحانه ـ قادرًا ـ أيضًا ـ على خلقه، فالقدرة على خلقه قدرة عليه، والقدرة عليه قدرة على خلقه، وجاء ـ أيضًا ـ الحديث منصوصًا في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود لما رآه يضرب عبده : ( لله أقدر عليك منك على هذا ) 0 فهذا فيه بيان قدرة الرب على عين العبد، وأنه أقدر عليه منه على عبده، وفيه إثبات قدرة العبد0(1/197)
وقد تنازع الناس في قدرة الرب والعبد، فقالت طائفة : كلا النوعين يتناول الفعل القائم بالفاعل، ويتناول مقدوره وهذا أصح الأقوال، وبه نطق الكتاب والسنة، وهو أن كل نوع من القدرتين يتناول الفعل القائم بالقادر ومقدوره المباين له، وقد تبين بعض ما دل على ذلك في قدرة الرب . وأما قدرة العبد، فذكر قدرته على الأفعال القائمة به كثيرة، وهذا متفق عليه بين الناس الذين يثبتون للعبد قدرة، مثل قوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } [ المجادلة : 4 ] ، { وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } الآية [ التوبة : 24 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْبِكَ ) ( 2 ) 0
/وأما المباين لمحل القدرة، فمثل قوله : { وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } إلى قوله : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } إلى { قَدِيرًا } [ الفتح : . 20ـ21 ] ، فدل على أنهم قدروا على الأول، وهذه يمكن أن يقدروا عليها وقتًا آخر . وهذه قدرة على الأعيان، وقوله : { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } إلى قوله : { عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا } الآية [ القلم : 25ـ32 ] 0
قال أبو الفرج : وفي قوله : { قّادٌرٌينّ } ثلاثة أقوال :(1/198)
أحدها : قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله قتادة . قلت : وهو قول مجاهد وقتادة، رواه ابن أبي حاتم عنهما . قال مجاهد : قادرين في أنفسهم، وهذا الذي ذكره البغوي : قادرين عند أنفسهم على جنتهم، وثمارها، لا يحول بينهم وبينها أحد، وعن قتادة قال : غدا القوم وهم يحدون إلى جنتهم، قادرين على ذلك في أنفسهم0
قال أبو الفرج : والثاني : قادرين على المساكين، قاله الشعبي، أي : على منعهم . وقيل : على إعطائهم لكن البخل منعهم من الإعطاء، والله أعلم0
والثالث : غدوا وهم قادرين، أى : واجدون، قاله ابن قتيبة0
قلت : الآية وصفتهم بأنهم غدوا على حرد قادرين، فالحرد يرجع إلى القصد، فغدوا بإرادة جازمة وقدرة، ولكن الله أعجزهم . وقول من قال : قادرين عند أنفسهم، أى : ظنوا أن الأمر يبقى كما كان، ولو كان كذلك، لتمت قدرتهم، لكن سلبوا القدرة بإهلاك جنتهم0
/قال البغوي : الحرد في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب . قال الحسن وقتادة وأبو العالية : على جد وجهد . وقال القرطبي ومجاهد وعكرمة : على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم . قال : وهذا على معنى القصد؛ لأن القاصد إلى الشىء جاد مجمع على الأمر . وقال أبو عبيدة والقُتَيبي : غدوا من أنفسهم على حرد : على منع المساكين، يقول : حاردت السَّنَةُ : إذا لم يكن لها مطر، وحاردت الناقة علىّ : إذا لم يكن لها لبن . وقال الشعبي وسفيان : على حنق وغضب من المساكين . وفي تفسير الوالبي : عن ابن عباس : على قدرة0
قلت : الحرد فيه معنى العزم الشديد، فإن هذا اللفظ يقتضى هذا، وحرد السنة والناقة لما فيه من معنى الشدة، وكذلك الحنق والغضب فيه شدة؛ فكان لهم عزم شديد على أخذها، وعلى حرمان المساكين، وغدوا بهذا العزم قادرين ليس هناك ما يعجزهم وما يمنعهم، لكن جاءها أمر من السماء فأبطل ذلك كله، وقيل : الحرد : هو الغيظ والغضب، والله أعلم0(1/199)
ونظير هذا ـ وهو صريح في المطلوب ـ أن القدرة تكون على الأعيان، قوله تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ } إلى قوله : { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ } الآية : [ يونس : 24 ] ، وقوله : { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } [ يونس : 24 ] ، يبين أنه لولا الجائحة لكان ظنهم صادقًا، وكانوا قادرين عليها، لكن لما أتاها أمر الله تبين خطأ الظن، ولو لم يكونوا قادرين عليها لا في حال سلامتها ولا في حال عطبها، لم يكن الله أبطل ظنهم بما أحدثه /من الإهلاك، وهؤلاء لم يكونوا ذهبوا ليحصدوا، بل سلبوا القدرة عليها ـ وهي القدرة التامة ـ فانتفت لانتفاء المحل القابل؛ لا لضعف من الفاعل، وفي تلك قال : { عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } [ القلم : 25 ] ، ولم يقل : قادرين عند أنفسهم، فإن كان كما قاله من قال : عند أنفسهم فالمعنى واحد، وإن أريد بكونهم قادرين، أي : ليس في أنفسهم ما ينافى القدرة؛ كالمرض والضعف، ولكن بطل محل القدرة كالذي يقدر على النقد والرزق ولا شىء عنده0
وقوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } [ إبراهيم : 18 ] ، فهم في هذه الحال لا يقدرون مما كسبوا على شىء، فدل على أنهم في غير هذا يقدرون على ما كسبوا، وكذلك غيرهم يقدر على ما كسب، فالمراد بالمكسوب المال المكسوب0(1/200)
وقوله تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا } [ النحل : 75 ] ، فلما ذكر في المملوك أنه لا يقدر على شىء، ومقصوده أن الآخر ليس كذلك، بل هو قادر على ما لا يقدر عليه هذا، وهو إثبات الرزق الحسن مقدورًا لصاحبه، وصاحبه قادر عليه، و بهذا ينطق عامة العقلاء يقولون : فلان يقدر على كذا وكذا، وفلان يقدر على كذا وكذا، ومقدرة هذا دون مقدرة هذا0
/ومما يبين ذلك : أن الملك نائب للعباد على ما ملكهم الله إياه، والملك مستلزم للقدرة فلا يكون مالكًا إلا من هو قادر على التصرف بنفسه، أو بوليه أو وكيله، والعقد والمنقول مملوك لمالكه، فدل على أنه مقدور له، وقد قال موسى : { رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي } [ المائدة : 25 ] ، لما كان قادرًا على التصرف في أخيه؛ لطاعته له جعل ذلك ملكا له، وقال تعالى : { فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } [ يس : 71 ] ، وقال تعالى : { وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [ الزخرف : 31 ] أي : مطيقين، فدل على أنهم صاروا مقرنين مطيقين لما سخرها لهم، فهو معنى قوله : { فّهٍمً لّهّا مّالٌكٍونّ } ، وقد قال تعالى : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } [ الكهف : 97 ] ، فدل على أنهم لو نقبوا ذلك لكانوا قد استطاعوا النقب، والنقب ليس هو حركة أيديهم، بل هو جعل الشىء منقوبًا، فدل على أن ذلك النقب مقدور للعباد0(1/201)
وأيضًا، فالقرآن دل على أن المفعولات الخارجة مصنوعة لهم، وما كان مصنوعًا لهم فهو مقدور بالضرورة والاتفاق، والمنازع يقول : ليس شىء خارجًا عن محل قدرتهم مصنوعًا لهم، و هذا خلاف القرآن، قال تعالى لنوح : { وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } ، وقال : { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } [ هود : 37، 38 ] ، وقد أخبر أن الفلك مخلوقة مع كونها مصنوعة لبني آدم، وجعلها من آياته، فقال : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] ، { سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } [ الحج : 65 ] ، { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } [ الزخرف : 12 ] ، وقال : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95، 96 ] 0
/فجعل الأصنام منحوتة معمولة لهم، وأخبر أنه خالقهم، وخالق معمولهم فإن [ ما ] هاهنا بمعنى الذي، والمراد خلق ما تعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقًا للمعمول وفيه أثر الفعل، دل على أنه خالق لأفعال العباد . وأما قول من قال : [ ما ] مصدرية، فضعيف جدًا0(1/202)
وقال تعالى : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] ، وإنما دمر ما بنوه وعرشوه، فأما الأعراض التي قامت بهم، فتلك فنيت قبل أن يغرقوا، وقوله : { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } دليل على أن العروش مفعول لهم، هم فعلوا العرش الذي فيه، وهو التأليف، ومثل قوله : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } [ الشعراء : 128 ] ، يدل على أن المبني هم بنوه، حيث قال : { أَتَبْنُونَ } ؟ وكذلك قوله : { وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا } [ الشعراء : 149 ] ، هو كقوله : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [ الصافات : 95 ] ، وقوله : { جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } [ الفجر : 9 ] ، دل على أنهم جابوا الصخر، أي : قطعوه0
ومنه قوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] ، فأمر بقتلهم، والأمر إنما يكون بمقدور العبد، فدل على أن القتل مقدور له، وهو الفعل الذي يفعله في الشخص فيموت، وهو مثل الذبح، ومنه قوله : { إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } [ المائدة : 3 ] ، وقوله : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } [ المائدة : 95 ] ، وقوله : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } [ المائدة : 95 ] ، يدل على أن الصيد مقتول للآدمي الذي قتله، بخلاف قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] ، فإنه مثل قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ } [ الأنفال : 17 ] ، فإن قتلهم حصل بأمور خارجة عن قدرتهم، مثل إنزال الملائكة، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وكذلك الرمي، لم يكن في قدرته أن التراب يصيب أعينهم كلهم، ويرعب قلوبهم، فالرمي الذي جعله الله خارجًا عن قدرة العبد المعتاد، هو الرمي الذي نفاه الله عنه0(1/203)
قال أبو عبيد : ما ظفرت أنت ولا أصبت، ولكن الله ظفرك وأيدك . وقال الزجاج : ما بلغ رميك كفًا من تراب، أو حصًا أن يملأ عيون ذلك الجيش الكثير، إنما الله تولى ذلك . وذكر ابن الأنباري : ما رميت قلوبهم بالرعب، إذ رميت وجوههم بالتراب . ولهذا كان هذا أمرًا خارجًا عن مقدوره، فكان من آيات نبوته0
وقيل : بل الرب ـ تعالى ـ لا يقدر إلا على المخلوق المنفصل لا يقوم به فعل يقدر عليه، والعبد لا يقدر إلا على ما يقوم بذاته، لا يقدر على شىء منفصل عنه، وهذا قول الأشعري ومن وافقه من أتباع الأئمة : كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم0
وقيل : إن العبد يقدر على هذا وهذا، والرب لا يقدر إلا على المنفصل وهو قول المعتزلة، وقيل : إن كليهما يقدر على ما يقوم به دون المنفصل، وما علمت أحدًا قال : كلاهما يقدر على المنفصل دون المتصل0
المسألة الخامسة : أن القدرة هي قدرته على الفعل، والفعل نوعان : / لازم، و متعد، والنوعان في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الحديد : 4 ] ، فالاستواء والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك أفعال لازمة، لا تتعدى إلى مفعول؛ بل هي قائمة بالفاعل، والخلق والرزق والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع، والهدى والنصر، والتنزيل ونحو ذلك، تتعدى إلى مفعول0
والناس في هذين النوعين على ثلاثة أقوال :
منهم من لا يثبت فعلا قائما بالفاعل، لا لازمًا ولا متعديًا، أما اللازم فهو عنده منتفٍ، وأما المتعدى ـ كالخلق ـ فيقول : الخلق هو المخلوق، أو معنى غير المخلوق، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم كالأشعري ومتبعيه، وهذا أول قولي القاضي أبي يعلى، وقول ابن عقيل .(1/204)
وكثير من المعتزلة يقولون : الخلق هو المخلوق . وآخرون يقولون : هو غيره، لكن يقولون : بأن الخلق له خلق آخر، كما يقوله مَعْمَر بن عَبَّاد، ويسمون أصحاب المعاني المتسلسلة . ومنهم من يقول : الخلق هو نفس الإرادة، كما يقوله من يقوله من بعض المعتزلة من أهل البصرة0
والقول الثاني : أن الفعل المتعدي قائم بنفسه دون اللازم . فيقولون : الخلق قائم بنفسه ليس هو المخلوق . وهم على قولين :
/منهم من جعل ذلك الفعل حادثًا0
ومنهم من يجعله قديمًا، فيقول : التخليق والتكوين قديم أزلي . وهؤلاء منهم من يجعل عين التخليق شيئًا واحدًا هو قديم، والمخلوقين مادته؛ ولكنه قديم أزلي، ولا يثبتون نزولا قائمًا بنفسه، ولا استواء؛ لأن هذه حوادث وهذا قول الكُلابِيَّة الذين يقولون : فعله قديم مثل كلامه، كما قال أصحاب ابن خُزَيْمَة، وهو قول كثير من الحنفية والحنبلية والمالكية والشافعية، ومنهم من يجعل القديم هو النوع وأفراده حادثة، فعلى هذا القول يكون الفعل نفسه مقدورًا، وأما على قول من يجعله شيئًا معينًا، فهؤلاء إن قالوا : قديم، تناقضوا ولزمهم أن يكون القديم المعين مقدورًا، وإن قالوا : هو غير مقدور، تناقضوا؛ لأن الفعل يجب أن يكون مقدورًا، والله أعلم0
والقول الثالث : إثبات الفعلين : اللازم والمتعدي كما دل عليه القرآن، فنقول : إنه كما أخبر عن نفسه : إنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وهو قول السلف وأئمة السنة، وهو قول من يقول : إنه تقوم به الصفات الاختيارية كأصحاب أبي معاذ وزهير البابي وداود بن علي والكَرَّامِيَّة وغيرهم من الطوائف، وإن كانت الكرامية يقولون : بأن النزول والإتيان أفعال تقوم به، وهؤلاء يقولون : يقدر على أن يأتي ويجيء وينزل ويستوي، ونحو ذلك من الأفعال، كما أخبر عن نفسه، وهذا هو الكمال0(1/205)
/وقد صرح أئمة هذا القول بأنه يتحرك، كما ذكر ذلك حرب الكَرْماني عن أهل السنة والجماعة، وسمى منهم : أحمد بن حنبل، وسعيد بن منصور، وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم . وكذلك ذكره عثمان بن سعيد الدارمي عن أهل السنة، وجعل نفي الحركة عن الله ـ عز وجل ـ من أقوال الجهمية التي أنكرها السلف، وقال : كل حي متحرك، وما لا يتحرك فليس بحي . وقال بعضهم : إذا قال لك الجهمي : أنا كافر برب يتحرك، فقل : أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء0
وهؤلاء يقولون : من جعل هذه الأفعال غير ممكنة ولا مقدورة له، فقد جعله دون الجماد، فإن الجماد وإن كان لا يتحرك بنفسه فهو يقبل الحركة في الجملة . وهؤلاء يقولون : إنه ـ تعالى ـ لا يقبل ذلك بوجه ولا تمكنه الحركة، والحركة والفعل صفة كمال، كالعلم والقدرة والإرادة، فالذين ينفون تلك الصفات سلبوه صفات الكمال، فكذلك هؤلاء الكلابية0
وأولئك ـ نفاة الصفات ـ إذا قيل لهم : لو لم يكن حيًا، عليمًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا؛ للزم أن يكون ميتًا، جاهلاً، أصم، أعمى، أخرس، وهذه نقائص يجب تنزيهه عنها، فإنه ـ سبحانه ـ قد خلق من هو حي سميع بصير متكلم عالم، قادر متحرك، فهو أولى بأن يكون كذلك، فإن كل كمال في المخلوق المعلول فهو من كمال الخالق الذي يسمونه علة فاعلية .
/وأيضًا، فالقديم الواجب بنفسه أكمل من المحدث، فيمتنع أن يختص الناقص بالكمال . قالوا : وأما الجماد فلا يسمي حيًا ولا ميتًا . وقد ذكرنا في غير موضع الجواب عن هذه بأجوبة :(1/206)
أحدها : أن قولهم : إن الجماد لا يسمى حيًا، وإنما يسمى ميتًا ما كان قابلاً للحياة : هو اصطلاح، وإلا فالقرآن قد سمى الجماد ميتًا في غير موضع، كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ . أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } الآية [ النحل : 20، 21 ] ، فسمى الأصنام أمواتًا وهي حجارة، وقال : { وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } [ يس : 33 ] 0
الوجه الثاني : لا نسلم امتناع قبول هذه الحياة، بل الرب ـ تعالى ـ قد جعل الجمادات قابلة للحياة، ولا يمتنع قبولها لها، فإن الله تعالى قد جعل عصى موسى حية تسعى، فدل على أن الخشب يمكن أن يكون حيوانًا، وموسى لما اغتسل جعل ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، وقد أحيا الله الحوت المشوي الذي كان معه ومع فتاه، وقد سبح الحصا والطعام ـ سبح وهو يؤكل ـ وكان حجر يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع، والجبال سبحت مع داود، ونظائر هذا كثيرة، وقد قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] 0
الوجه الثالث : أن يقال : هب أنه لا يوصف بالموت إلا ما قبل الحياة، فمعلوم أن ما قبل الحياة أكمل ممن لا يقبلها، فالجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ/ فيه الروح أكمل من الحجر، وقد قال تعالى : { وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، فالجنين يمكن أن يصير حيًا في العادة، ناطقًا نطقًا يسمعه الإنسان السماع المعتاد، فهو أكمل من الحجر والتراب0(1/207)
وأيضًا، فيقال لهم : رب العالمين إما أن يقبل الاتصاف بالحياة والعلم ونحو ذلك، وإما ألا يقبل، فإن لم يقبل ذلك ولم يتصف به، كان دون الأعمى الأصم الأبكم، وإن قبلها ولم يتصف بها، كان ما يتصف بها أكمل منه، فجعلوه دون الإنسان والبهائم، وهكذا يقال لهم في أنواع الفعل القائم به ـ كالإتيان، والمجىء، والنزول، وجنس الحركةـ : إما أن يقبل ذلك وإما ألا يقبله، فإن لم يقبله، كانت الأجسام التي تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه، وإن قبل ذلك ولم يفعله، كان ما يتحرك أكمل منه، فإن الحركة كمال للمتحرك، ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك، وما يقبل الحركة أكمل ممن لا يقبلها0
والنفاة عمدتهم أنه لو قبل الحركة لم يخل منها، ويلزم وجود حوادث لا تتناهى، ثم ادعوا نفي ذلك وفي نفيه نقائص لا تتناهى، والمثبتون لذلك يقولون : هذا هو الكمال، كما قال السلف : لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، كما قال ذلك ابن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما . وذكر البخاري عن نعيم بن حماد أنه قال : الحي هو الفعال، وما ليس بفعال فليس بحي . وقد عرف/ بطلان قول الجهمية وغيرهم بامتناع دوام الفعل والحوادث، كما قد بسط في غير هذا الموضع0
والمقصود هاهنا، أن هؤلاء لا يجعلونه قادرًا على هذه الأفعال، وهي أصل الفعل، فلا يكون على شىء قدير على قولهم، بل ولا على شىء، وقد قال : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهٌِ } [ الزمر : 67 ] . قال ابن عباس ـ في رواية الوالبي عنه ـ : هذه في الكفار، فأما من آمن أن الله على كل شىء قدير، فقد قدر الله حق قدره0(1/208)
وذكروا في قوله : { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الحج : 74 ] ، ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق عظمته، وما وصفوه حق صفته، وهذه الكلمة ذكرها الله في ثلاثة مواضع : في الرد على المعطلة، وعلى المشركين، وعلى من أنكر إنزال شىء على البشر، فقال في الأنعام : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 91 ] ، وقال في الحج : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } إلى قوله تعالى : { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الآيتان : 73، 74 ] ، وقال في الزمر : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الآية : 67 ] 0(1/209)
وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود : أن حبرًا من اليهود قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد، إن الله يوم القيامة يجعل السموات على/ إصبع، والأرض على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثَّرَى وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن، ويقول : أنا الملك . قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } الآية . وفي الصحيحين ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول : أنا الملك، أين ملوك الأرض ؟ ثم يقول : أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ) ، وكذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر : ) يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ( ، وفي لفظ لمسلم قال : ( يأخذ الجبار تبارك وتعالى سمواته وأرضه بيديه جميعًا، فجعل يقبضهما ويبسطهما، ثم يقول : أنا الملك، أنا الجبار، وأنا الملك، أين الجبارون ؟ وأين المتكبرون ؟ ! ) ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شىء منه حتى إني لأقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم0(1/210)
وفي السنن : عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قال : ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه : ( سبحان ذي الجبروت و الملكوت والكبرياء والعظمة ) ، ثم يسجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة . رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل . فقال في هذا الحديث : ( سبحان ذي/ الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ) . وهذه الأربعة نوزع الرب فيها، كما قال : ( أين الملوك ؟ ! أين الجبارون ؟ ! أين المتكبرون ؟ ! ) ، وقال عز وجل : ( العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته ) 0
ونفاة الصفات ما قدروا الله حق قدره، فإنه عندهم لا يمسك شيئًا ولا يقبضه ولا يطويه، بل كل ذلك ممتنع عليه، ولا يقدر على شىء من ذلك، وهم ـ أيضًا ـ في الحقيقة يقولون : ما أنزل الله على بشر من شىء لوجهين :
أحدهما : أن الإنزال إنما يكون من علو، والله ـ تعالى ـ عندهم ليس في العلو، فلم ينزل منه شىء، وقد قال تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [ الأنعام : 114 ] ، { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر : 1، الجاثية : 2، الأحقاف : 2 ] إلى غير ذلك، وقولهم : إنه خلقه في مخلوق، ونزل منه باطل؛ لأنه قال : { مٍنّزَّلِ مٌَن رَّبٌَكّ } ولم يجئ هذا في غير القرآن، والحديد ذكر أنه أنزله مطلقًا، ولم يقل : منه، وهو منزل من الجبال، والمطر أنزل من السماء، والمراد : أنه أنزله من السحاب، وهو المزْن، كما ذكر ذلك في قوله : { أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ } [ الواقعة : 69 ] 0(1/211)
والثاني : أنه لو كان من مخلوق لكان صفة له وكلاماً له، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل؛ ولأن الله لا يتصف بالمخلوقات، ولو اتصف بذلك لاتصف بأنه مصوت إذا خلق الأصوات، ومتحرك إذا خلق الحركات في غيره، إلى غير ذلك، إلى أن قال : فقد تبين أن الجهمية ما قدروا /الله حق قدره، وإنهم داخلون في هذه الآية، وإنهم لم يثبتوا قدرته لا على فعل ولا على الكلام بمشيئته، ولا علي نزوله، ولا على إنزاله منه شيئًا، فهم من أبعد الناس عن التصديق بقدرة الله، وأنه على كل شىء قدير، وإذا لم يكن قديرًا لم يكن قويًا، ويلزمهم أنه لم يخلق شيئًا، فيلزمهم الدخول في قوله : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ . مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 73، 74 ] 0
فهم ينفون حقيقة قدرته في الأزل، وحقيقة قولهم : إنه صار قادرًا بعد أن لم يكن، والقدرة التي يثبتونها لا حقيقة لها0
وهذا أصل مهم، من تصوره عرف حقيقة الأقوال الباطلة، وما يلزمها من اللوازم، وعرف الحق الذي دل عليه صحيح المنقول، وصريح المعقول، لا سيما في هذه الأصول التي هي أصول كل الأصول، والضالون فيها لما ضيعوا الأصول حرموا الوصول، وقد تبين أنه كلما تحققت الحقائق، وأعطى النظر والاستدلال حقه من التمام؛ كان ما دل عليه القرآن هو الحق، وهو الموافق للمعقول الصريح الذي لم يشتبه بغيره مما يسمى معقولاً، وهو مشتبه مختلط، كما قال مجاهد في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا } [ الأنعام : 159 ] ، قال : هم أهل البدع والشبهات، فهم في أمور مبتدعة في الشرع، مشتبهة في العقل0(1/212)
والصواب : هو ما كان موافقًا للشرع مبينًا في العقل، فإن الله ـ سبحانه ـ أخبر أن القرآن منزل منه، وأنه تنزيل منه، وأنه كلامه، وأنه قوله، وأنه كفر من قال : إنه قول البشر، وأخبر أنه قول رسول كريم من الملائكة ورسول كريم/من البشر، والرسول يتضمن المرسل، فبين أن كلا من الرسولين بلغه، لم يحدث هو منه شيئًا، وأخبر أنه جعله قرآنًا عربيًا، وقال عما ينزل منه جديدًا بعد نزول غيره قديمًا : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } [ الأنبياء : 2 ] ، وأخبر أن للكلام المعين وقتًا معينًا، كما قال تعالى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى } [ طه : 11 ] ، وقال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } [ الأعراف : 11 ] 0
والذين قالوا : إنه مخلوق، ليس معهم حجة إلا ما يدل على أنه تكلم بمشيئته وقدرته، وهذا حق، لكن ضموا إلى ذلك أن ما كان بمشيئته لا يقوم بذاته، فغلطوا ولبسوا الحق بالباطل، فضموا ما نطق به القرآن الموافق للشرع والعقل إلى ما أحدثوه من البدع والشبهات0(1/213)
وكذلك الذين قالوا : إنه قديم، ليس معهم إلا ما يدل على أنه قائم بذاته، لكن ضموا إلى ذلك أن ما يقوم بذاته لا يكون بمشيئته وقدرته، فأخطؤوا في ذلك ولبسوا الحق بالباطل، وأولئك فسروا قوله : { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } [ الزخرف : 3 ] ، بأنه جعله بائنًا عنه مخلوقًا، وقالوا : جعل بمعنى : خلق، وهؤلاء قالوا : جعلناه : سميناه، كما في قوله : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا } [ الزخرف : 19 ] ، وهذا إنما يقال فيمن اعتقد في الشىء صفة حقًا أو باطلا إذا كانت الصفة خفية، فيقال : أخبرعنه بكذا، وكون القرآن عربيًا أمر ظاهر لا يحتاج إلى الإخبار، ثم كل من أخبر بأنه عربي فقد جعله عربيًا بهذا الاعتبار، والرب ـ تعالى ـ اختص بجعله عربيًا، فإنه/ هو الذي تكلم به وأنزله، فجعله قرآنًا عربيًا بفعل قام بنفسه وهو تكلم به، واختاره لأن يتكلم به عربيًا ـ عن غير ذلك من الألسنة ـ باللسان العربي وأنزله به0
ولهذا قال أحمد : الجعل من الله قد يكون خلقًا وقد يكون غير خلق، فالجعل فعل، والفعل قد يكون متعديًا إلى مفعول مباين له؛ كالخلق، وقد يكون الفعل لازمًا وإن كان له مفعول في اللغة كان مفعوله قائمًا بالفعل؛ مثل التكلم، فإن التكلم فعل يقوم بالمتكلم والكلام نفسه قائم بالمتكلم، فهو ـ سبحانه ـ جعله قرآنًا عربيًا، فالجعل قائم به والقرآن العربي قائم به، فإن الكلام يتضمن شيئين : يتضمن فعلا؛ هو التكلم، والحروف المنظومة والأصوات الحاصلة بذلك الفعل؛ ولهذا يجعل القول تارة نوعًا من الفعل، وتارة قسيمًا للفعل، كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، والله أعلم0(1/214)
وقد ذكرت في غير هذا الموضع : أنه ما احتج أحد بدليل سمعي أو عقلي على باطل، إلا وذلك الدليل إذا أعطى حقه وميز ما يدل عليه مما لا يدل؛ تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به، وأنه دليل لأهل الحق، وأن الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقا، والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا، والله أعلم0
المسألة السادسة : دوام كونه قادرًا في الأزل والأبد، فإنه قادر ولا /يزال قادرًا على ما يشاؤه بمشيئته، فلم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء، وهذا قول السلف والأئمة كابن المبارك وأحمد0
إلى أن قال : وفي صحيح البخاري ـ تعليقًا ـ عن سعيد بن جبير؛ أن رجلاً سأل ابن عباس عن قوله : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الأحزاب : 73 ] ، { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [ الفتح : 7 ] ، { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ النساء : 134 ] ، فكأنه كان فمضى، فقال ابن عباس : قوله : { وَكَانَ اللَّهُ } ، { وَكَانَ اللَّهُ } فإنه يجل نفسه عن ذلك، وسمى نفسه بذلك لم يجله أحد غيره، وكان أي : لم يزل كذلك . رواه عبد بن حميد في تفسيره مسندًا موصولا، ورواه ابن المنذر ـ أيضًا ـ في تفسيره، وهذا لفظ رواية عبد 0
والمقصود هنا التنبيه على تنازع الناس في مسألة القدرة . وفي الحقيقة أنه من لم يقل بقول السلف فإنه لا يثبت لله قدرة، ولا يثبته قادرًا، فالجهمية ومن اتبعهم، والمعتزلة والقدرية المجبرة والنافية، حقيقة قولهم : إنه ليس قادرًا وليس له الملك، فإن الملك إما أن يكون هو القدرة، أو المقدور، أو كلاهما، وعلى كل تقدير فلابد من القدرة، فمن لم يثبت له القدرة حقيقة لم يثبت له ملكًا، كما لا يثبتون له حمدًا0(1/215)
إلى أن قال : وأيضًا فالقديم الأزلي : القيوم الصمد الواجب الوجود بنفسه، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، أحق بالكمال من الممكن المحدث المفتقر، فيمتنع أن يكون هذا قادرًا على الكلام والفعل، والقيوم/ الصمد ليس قادرًا على الفعل والكلام، إلى أن قال :
والمقصود هنا أنه ـ سبحانه ـ عدل لا يظلم وعدله إحسان إلى خلقه، فكل ما خلقه فهو إحسان إلى عباده؛ ولهذا كان مستحقًا للحمد على كل حال؛ ولهذا ذكر في سورة النجم أنواعًا من مقدوراته، ثم قال : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ النجم : 55 ] ، فدل على أن هذه الأنعم مثل إهلاك الأمم المكذبة للرسل، فإن في ذلك من الدلالة على قدرته وحكمته ونعمته على المؤمنين ونصره للرسل، وتحقيق ما جاؤوا به، وأن السعادة في متابعتهم والشقاوة في مخالفتهم ما هو من أعظم النعم0
وكذلك ما ذكره في سورة الرحمن، وكل مخلوق هو من آلائه من وجوه : منها أنه يستدل به عليه وعلى توحيده وقدرته وغير ذلك، وأنه يحصل به الإيمان والعلم وذكر الرب . وهذه النعمة أفضل ما أنعم الله به على عباده في الدنيا، وكل مخلوق يعين عليها ويدل عليها، هذا مع ما في المخلوقات من المنافع لعباده غير الاستدلال بها، فإنه ـ سبحانه ـ يقول : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] ؛ لما يذكر ما يذكره من الآية، وقال : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى } ، والآلاء : هي النعم، والنعم كلها من آياته الدالة على نفسه المقدسة ووحدانيته ونعوته ومعاني أسمائه، فهي آلاء آيات، وكل ما كان من آلائه فهو من آياته، وهذا ظاهر، وكذلك كل ما كان من آياته فهو من آلائه، فإنه يتضمن التعريف والهداية والدلالة على الرب ـ تعالى ـ وقدرته وحكمته ورحمته ودينه، والهدى أفضل النعم .(1/216)
/وأيضًا، ففيها نعم ومنافع لعباده غير الاستدلال، كما في خلق الشمس والقمر والسحاب والمطر والحيوان والنبات، فإن هذه كلها من آياته، وفيها نعم عظيمة على عباده غير الاستدلال، فهي توجب الشكر لما فيها من النعم، وتوجب التذكر لما فيها من الدلالة، قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [ الفرقان : 62 ] ، وقال : { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ ق : 8 ] ، فإن العبد يدعوه إلى عبادة الله داعي الشكر وداعي العلم، فإنه يشهد نعم الله عليه، وذاك داع إلى شكرها، وقد جبلت النفوس علي حب من أحسن إليها، والله ـ تعالى ـ هو المنعم المحسن الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده، كما في الحديث : ( من قال إذا أصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قال ذلك إذا أمسى فقد أدى شكر تلك الليلة ) 0 رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، وفي حديث آخر : ( من قال : الحمد لله ربي لا أشرك به شيئًا أشهد أن لا إله إلا الله ) 0(1/217)
وقد ذم ـ سبحانه ـ من كفر بعد إيمانه كما قال : { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } الآية [ الأنعام : 63 ] ، فهذا في كشف الضر، وفي النعم قال : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] ، أي : شكركم، وشكر ما رزقكم الله، ونصيبكم تجعلونه تكذيبًا وهو الاستسقاء بالأنواء، كما ثبت في حديث ابن عباس الصحيح قال : مطر /الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم : ( أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ) ، قالوا : هذه رحمة الله، وقال بعضهم : لقد صدق نَوْء كذا وكذا، قال : فنزلت هذه الآية : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } حتى بلغ : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 75 ـ 82 ] رواه مسلم0
وفي صحيح مسلم ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أنزل من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغَيْث فيقول : الكوكب كذا وكذا ) ، وفي لفظ له : ( بكوكب كذا وكذا ) ، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجُهَنِيّ قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح على إثر سَمَاء كانت من الليل، قال : ( أتدرون ماذا قال ربكم ؟ ) . قالوا : الله ورسوله أعلم ! قال : ( قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال : مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال : مطرنا بِنَوْءِ كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب ) ، وهذا كثير جدًا في الكتاب والسنة، يذم ـ سبحانه ـ من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشركه به، قال بعض السلف : هو كقولهم : كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا0(1/218)
ولهذا قرن الشكر بالتوحيد في الفاتحة وغيرها؛ أولها شكر، وأوسطها توحيد، وفي الخطب المشروعة لابد فيها من تحميد وتوحيد، وهذان هما ركن في كل خطاب، ثم بعد ذلك يذكر المتكلم من مقصوده ما يناسب من الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وغير ذلك0
/وقوله : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد ) ، يتضمن التوحيد والتحميد، وكذلك كان يقول عقب الصلاة : ( لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) ، وهو ـ سبحانه ـ يفتتح خطابه بالحمد ويختم الأمور بالحمد، وأول ما خلق آدم كان أول شىء أنطقه به الحمد، فإنه عطس فأنطقه بقوله : الحمد لله، فقال له : يرحمك ربك يا آدم ! وكان أول ما تكلم به الحمد، وأول ما سمعه الرحمة0
وهو يختم الأمور بالحمد كقوله : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الزمر : 75 ] ، { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ] ، { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] ، وهو سبحانه : { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] 0(1/219)
والتوحيد أول الدين وآخره، فأول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله، وقال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ) ، وقال لمعاذ : ( إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ) ، وختم الأمر بالتوحيد فقال في الصحيح ـ من رواية مسلم ـ عن عثمان : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وفي الحديث الصحيح من رواية مسلم عن أبي هريرة : ( لَقِّنُوا موتاكم لا إله إلا الله ) ، وفي السنن من حديث معاذ : ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وفي المسند ( إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد /حين الموت إلا وجد روحه لها روحًا ) ، وهي الكلمة التي عرضها على عمه عند الموت0
فهو ـ سبحانه ـ جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، فيتذكر الآيات المثبتة للعلم والإيمان، فإذا عرف آلاء الله شكره على آلائه، وكلاهما متلازمان، فالآيات والآلاء متلازمان، ما كان من الآلاء فهو من الآيات، وما كان من الآيات فهو من الآلاء، وكذلك الشكر والتذكر متلازمان، فإن الشاكر إنما يشكر بحمده، وطاعته، وفعل ما أمر به، وذلك إنما يكون بتذكر ما تدل عليه آياته من أسمائه وممادحه، ومن أمره ونهيه، فيثنى عليه بالخير، ويطاع في الأمر هذا هو الشكر، ولابد فيهما من التذكر، والمتذكر إذا تذكر آياته عرف ما فيها من النعمة والإحسان، فآياته تعم المخلوقات كلها، وهي خير ونعم وإحسان .
فكل ما خلقه ـ سبحانه ـ فهو نعمة على عباده، وهو خير، وهو ـ سبحانه ـ بيده الخير، والخير بيديه، وفي دعاء القنوت ( ونثني عليك الخير كله ) ، وفي دعاء الاستفتاح : ( والخير بيديك، والشر ليس إليك ) 0(1/220)
وكل ما خلقه الله فله فيه حكمة، كما قال : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] ، وقال : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] ، وهو ـ سبحانه ـ غني عن العالمين، فالحكمة تتضمن شيئين :
أحدهما : حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها0
/والثاني : إلى عباده، هي نعمة عليهم يفرحون بها و يلتذون بها، وهذا في المأمورات وفي المخلوقات0
أما في المأمورات، فإن الطاعة هو يحبها ويرضاها، ويفرح بتوبة التائب أعظم فرح يعرفه الناس، فهو يفرح أعظم مما يفرح الفاقد لزاده وراحلته في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، كما أنه يغار أعظم من غيرة العباد، وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه، فهو يغار إذا فعل العبد ما نهاه، ويفرح إذا تاب ورجع إلى ما أمره به، والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة، وذلك مما يفرح به العبد المطيع، فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له ورحمة لعباده، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍُ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ } [ الصف : 10-13 ] 0(1/221)
ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها، وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار، وقد قال في أول السورة : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] ، فهو يحب ذلك، ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى، وفيه رحمة للعباد، وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا/ والآخرة، هكذا سائر ما أمر به، وكذلك ما خلقه خلقه لحكمة تعود إليه يحبها، وخلقه لرحمة بالعباد ينتفعون بها0
والناس لما تكلموا في علة الخلق وحكمته؛ تكلم كل قوم بحسب علمهم، فأصابوا وجهًا من الحق، وخفى عليهم وجوه أخرى0
وهكذا عامة ما تنازع فيه الناس، يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لابد أن يشاب بشىء من الحق؛ فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق، فهم جاؤوا بالصدق وصدقوا به فلا يختلفون0
ولأهل الكلام هنا ثلاثة أقوال لثلاث طوائف مشهورة، وقد وافق كل طائفة ناس من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد :
القول الأول : قول من نفى الحكمة وقالوا : هذا يفضي إلى الحاجة، فقالوا : يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا له القدرة والمشيئة، وإنه يفعل ما يشاء . وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة، وهذا قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يَعْلَى وابن الزاغوني والجُوَيْني/والباجي ونحوهم، وهذا القول في الأصل قول جَهْم ابن صفوان ومن اتبعه من المجبرة0(1/222)
والفلاسفة لهم قول أبعد من هذا، وهو : أن ما يقع من عذاب النفوس وغير ذلك من الضرر لا يمكن دفعه، فإنهم يقولون : إنه موجب بذاته، وكل ما يقع هو من لوازم ذاته . ولو قالوا : إنه موجب بمشيئته وقدرته لما يفعله لكانوا قد أصابوا، وقد قالوا ـ أيضًا ـ : الشر يقع في العالم مغلوبًا مع الخير في الوجود، وهذا صحيح؛ لكن هذا يستلزم أن يكون الخالق قد خلق لحكمة معلومة تسلم ولا تعد، وإلا فمع انتفاء هذين يبقى الكلام ضائعًا، ففي قول كل طائفة نوع من الحق ونوع من الباطل، فهذه أربعة أقوال0
والقول الخامس، قول الأئمة، وهو أن له حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة 0
والقول الثاني ـ أي : من الثلاثة التي لأهل الكلام ـ : أنه يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد، وهو نفعهم والإحسان إليهم، فلم يخلق، ولم يأمر إلا لذلك، وهذا قول المعتزلة وغيرهم، ثم من هؤلاء من تكلم في تفصيل الحكمة، فأنكر القدر، ووضع لربه شرعًا بالتعديل والتجويز، وهذا قول القدرية . ومنهم من أقر بالقدر وقال : لله حكمة خفيت علينا . وهذا قول ابن عقيل/ وغيره من المثبتين للقدر، فهم يوافقون المعتزلة على إثبات حكمة ترجع إلى المخلوق لكن يقرون مع ذلك بالقدر0
والقول الثالث : قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقالوا : خلقهم ليعبدوه ويحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، وهم من خلقه لذلك، وهم من وجد منه ذلك فهو مخلوق لذلك، وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقًا له . قالوا : وهذه حكمة مقصودة وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد، ثم قالوا : خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق بل يتضرر به، فتناقضوا، ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع فوقعت، وهي معرفة عباده المؤمنين به، وحمدهم له، وثناؤهم عليه، وتمجيدهم له، وهذا واقع من المؤمنين .(1/223)
قالوا : وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد وإن تضمن ضررًا لبعض الناس . قالوا : وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهاد ومصالح . وهذا القول اختيار القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى، ذكره في كتابه [ أصول الدين ] الذي صنفه على كتاب محمد بن الهَيْصَم الكَرّامِيّ .
قالوا : وقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف . قالوا : والمراد /بذلك من وجدت منه العبادة، فهو مخلوق لها، ومن لم توجد منه فليس مخلوقًا لها . وعن سعيد بن المسَيَّب قال : ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، وكذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة ـ وهذا قول خاص بأهل طاعته ـ قال الضحاك : هي للمؤمنين، وهذا قول الكَرَّامِيَّة، كما ذكره محمد بن الهيصم، قال : ويدل عليه قوله قبل ذلك : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } [ الذاريات : 54 ] ، ثم قال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] أي : هؤلاء المؤمنين الذين تنفعهم الذكرى .
قالوا : وهي غاية مقصودة واقعة، فإن العبادة وقعت من المؤمنين، وهذا القول اختيار أبي بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى وغيرهما ممن يقول : إنه لا يفعل لعلة، قالوا ـ واللفظ للقاضي أبي يعلى ـ : هذا بمعنى الخصوص لا العموم؛ لأن البُلْه والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس ،وكذلك الكفار يخرجون من هذا بدليل قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ } الآية [ الأعراف : 179 ] ، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة .(1/224)
قلت : قول هؤلاء الكرامية ومن وافقهم،وإن كان أرجح من قول الجهمية والمعتزلة، فيما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور، ولما تدل عليه الآية، فإن قصد العموم ظاهر في الآية، وبين بيانًا لا يحتمل النقيض ؛ إذ لو كان المراد المؤمنين فقط لم يكن فرق بينهم وبين الملائكة، فإن الجميع قد فعلوا ما خلقوا له،/ ولم يذكر الإنس والجن عمومًا، ولم تذكر الملائكة، مع أن الطاعة والعبادة وقعت من الملائكة دون كثير من الإنس والجن .
وأيضًا، فإن سياق الآية يقتضي أن هذا ذم وتوبيخ لمن لم يعبد الله منهم؛ لأن الله خلقه لشىء فلم يفعل ما خلق له؛ ولهذا عقبها بقوله : { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 57 ] ، فإثبات العبادة ونفي هذا يبين أنه خلقهم للعبادة، ولم يرد منهم ما يريده السادة من عبيدهم من الإعانة لهم بالرزق والإطعام، ولهذا قال بعد ذلك : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا } أي : نصيباً { مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } [ الذاريات : 59 ] أى : المتقدمين من الكفار، أي : نصيبًا من العذاب، وهذا وعيد لمن لم يعبده من الإنس والجن، فذكر هذا الوعيد عقيب هذه الآية ـ من أولها إلى آخرها ـ يتضمن وعيد من لم يعبده .(1/225)
وذكر عقابه لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى في أولها : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } إلى قوله : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ . وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 1، 6 ] ،ثم ذكر قوله : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ . يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 8، 9 ] ، ثم ذكر وعيد الآخرة بقوله : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ . يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ . يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 10، 13 ] ، ثم ذكر وعده للمؤمنين فقال : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } إلى قوله : { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ . وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ . وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ . فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 15-23 ] ، ثم ذكر قصص من آمن فنفعه إيمانه، ومن كفر فعذبه بكفره، فذكر قصة إبراهيم ولوط وقومه وعذابهم،/ ثم قال : { وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [ الذاريات : 37، 38 ] ، أي : في قصة موسى آية ـ أيضًا ـ هذا قول الأكثرين، ومنهم من لم يذكر غيره كأبي الفرج، وقيل : هو عطف على قوله : { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ } ، { وَفِي مُوسَى } وهو ضعيف؛ لأن قصة فرعون وعاد هي من جنس قوم لوط، فيها ذكر الأنبياء ومن اتبعهم ومن خالفهم، يدل بها على إثبات النبوة، وعاقبة المطيعين والعصاة .(1/226)
وأما قوله : { وَفِي الْأَرْضِ } ، { وَفِي أَنفُسِكُمْ } ، فتلك آيات على الصانع جل جلاله، وقد تقدمت؛ ولأنه لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمثل هذا الكلام الكثير، مع أن قبله لا يصلح العطف عليه، وهو قوله : { وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } ثم قال : { وَفِي عَادٍ } ، { وَفِي ثَمُودَ ّ } ، ثم ذكر أنه بني السماء بأيد، وفرش الأرض، وخلق من كل شىء زوجين لعلكم تذكرون، فلما بين الآيات الدالة على ما يجب من الإيمان وعبادته، أمر بذلك، فقال : { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ . وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } الآية [ الذاريات : 50، 51 ] ، ثم بين أن هؤلاء المكذبين من جنس من قبلهم ليتأسى الرسول والمؤمنون ويصبروا على ما ينالهم من أذى الكفار، فقال : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ . أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [ الذاريات : 52، 53 ] .
فهذا كله يتضمن أمر الإنس والجن بعبادته وطاعته وطاعة رسله، واستحقاق من يفعل العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا قال بعد ذلك : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 56، 57 ] ؛ كان هذا مناسبًا لما تقدم، مؤتلفًا معه، أي : هؤلاء الذين أمرتهم، إنما خلقتهم لعبادتي ما أريد منهم غير ذلك، لا رزقًا ولا طعامًا .(1/227)
فإذا قيل : لم يرد بذلك إلا المؤمنين، كان هذا مناقضًا لما تقدم ـ يعني في السورة ـ وصار هذا كالعذر لمن لا يعبده ممن ذمه الله ووبخه، وغايته يقول : أنت لم تخلقني لعبادتك وطاعتك، ولو خلقتني لها لكنت عابدًا، وإنما خلقت هؤلاء فقط لعبادتك، وأنا خلقتني لأكفر بك وأشرك بك، وأكذب رسلك، وأعبد الشيطان وأطيعه، وقد فعلت ما خلقتني له كما فعل أولئك المؤمنون ما خلقتهم له، فلا ذنب لي، ولا أستحق العقوبة، فهذا وأمثاله مما يلزم أصحاب هذا القول، وكلام الله منزه عن هذا، وهم إنما قالوا هذا؛ لأن الله ـ تعالى ـ فعال لما يريد، قالوا : فلو كان أراد منهم أن يطيعوه؛ لجعلهم مطيعين، كما جعل المؤمنين .
والقدرية يقولون : لم يرد من هؤلاء ولا هؤلاء إلا الطاعة، لكن هو لم يجعل لا هؤلاء ولا هؤلاء مطيعين، بل الإرادة بمعنى الأمر يأمر بها الطائفتين، فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم .
وأولئك علموا فساد قول القدرية من جهة أن الله خالق كل شىء، وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه إلا ما شاءه، ولا يكون في ملكه شىء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما دل على ذلك السمع/ والعقل، وهذا مذهب الصحابة قاطبة، وأئمة المسلمين وجمهورهم، وهو مذهب أهل السنة؛ فلأجل هذا عدل أولئك في تفسير الآية إلى الخصوص، فإنهم لم يمكنهم الجمع بين الإيمان بالقدر، وبين أن يكون خلقهم لعبادته، فلم تقع منهم العبادة له، وقالوا : من ذرأه لجهنم لم يخلقه لعبادته، فمن قال : خلق الخلق ليعبده المؤمنون منهم، سلك هذا المسلك .(1/228)
وأما نفاة الحكمة، كالأشعري وأتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي يعلي وغيرهم، فهؤلاء أصلهم : أن الله لا يخلق شيئًا لشىء، فلم يخلق أحدًا لا لعبادة ولا لغيرها، وعندهم ليس في القرآن لام كي، لكن قد يقولون : في القرآن لام العاقبة، كقوله : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } [ القصص : 8 ] ، وكذلك يقولون في قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ } [ الأعراف : 179 ] يعنون : كان عاقبة هؤلاء جهنم، وعاقبة المؤمنين العبادة، من غير أن يكون الخالق قصد أن يخلقهم لا لهذا ولا لهذا، ولكن أراد خلق كل ما خلقه، لا لشىء آخر، فهذا قولهم، وهو ضعيف لوجوه :
أحدها : أن لام العاقبة التي لم يقصد فيها الفعل لأجل العاقبة، إنما تكون من جاهل أو عاجز، فالجاهل كقوله : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } لم يعلم فرعون بهذه العاقبة، والعاجز كقولهم : لِدُوا للموت، وابنوا للخراب، فإنهم يعلمون هذه العاقبة، لكنهم عاجزون عن دفعها، والله ـ تعالى ـ عليم قدير، فلا يقال : إن فعله كفعل الجاهل العاجز .
/الثاني : أن الله أراد هذه الغاية بالاتفاق، فالعبادة التي خلق الخلق لأجلها هي مرادة له بالاتفاق،وهم يسلمون أن الله أرادها، وحيث تكون اللام للعاقبة لا يكون الفاعل أراد العاقبة، وهؤلاء يقولون : خلقهم وأراد أفعالهم، وأراد عقابهم عليها، فكل ما وقع فهو مراد له ولكنه عندهم لا يفعل مرادًا لمراد أصلاً؛ لأن الفعل للعلة يستلزم الحاجة، وهذا ضعيف بين الضعف، وأهل الخصوص قالوا مثل هذا الجواب .
وطائفة أخرى قالوا : هي على العموم لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهره لهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقهم له، من السعادة والشقاوة، هذا جواب زيد بن أسلم وطائفة، وهذا القول الثاني في تفسير الآية .(1/229)
وروى ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، عن زيد بن أسلم في قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] قال : جَبَلَهُم على الشقاوة والسعادة، وقال وَهْبُ بن مُنَبه : جبلهم على الطاعة، وجبلهم على المعصية، وهذا يشبه قول من قال في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة ) ، أي : على ما كتب له من سعادة وشقاوة، كما قال ذلك طائفة؛ منهم : ابن المبارك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وقد قيل لمالك : أهل القدر يحتجون علينا بهذا الحديث، فقال : احتجوا عليهم بآخره، وهو قوله : ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) ، وهذا الجواب يصلح أن يجاب به من أنكر العلم، كما كان على ذلك طائفة من القدماء وهم المعروفون بالقدرية في لغة مالك .
/إلى أن قال : ومن فسر هذه الآية بأن المراد بـ { يَعْبُدُونِ } : هو ما جبلهم عليه، وما قدره عليهم من السعادة والشقاوة، وإن ذلك هو معنى الحديث، فإن هؤلاء جعلوا معني { يَعْبُدُونِ } بمعنى : يستسلمون لمشيئتي وقدرتي، فيكونون مُعَبَّدِينَ مُذَلَّلِين؛كي يجرى عليهم حكمي ومشيئتي لا يخرجون عن قضائي وقدري، فهذا معنى صحيح في نفسه، وإن كانت القدرية تنكره، فبإنكارهم لذلك صاروا من أهل البدع، بل الله خالق كل شىء، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم : ( أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها برٌ ولا فاجرٌ من شر ما ذرأ وبرأ، وأعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ) .(1/230)
فكلماته التامة هي التي كون بها الأشياء كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، لا يجاوزها بر ولا فاجر، ولا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، وهذا المعنى قد دل عليه القرآن في غير موضع، كقوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } الآية [ الأعراف : 179 ] ، وقوله : { مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [ الأنعام : 111 ] ، { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحج : 70 ] ، وقوله في السحر : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] ، { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } [ الأنعام : 125 ] ونحو ذلك .(1/231)
ولكن قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، لم يرد به هذا المعنى الذي ذهبوا إليه وحاموا حوله،من أن المخلوقات كلها تحت مشيئته وقهره /وحكمه، فالمخلوقات كلها داخلة في هذا، لا يشذ منها شىء عن هذا، وقد قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَأَنْ اعْبُدُونِي } الآية [ يس : 60، 61 ] ، وقوله : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ النساء : 36 ] ، { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهٌِ } [ الزمر : 17 ] ، { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] وقال : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ } [ يونس : 18 ] .
فهذا ـ ونحوه ـ كثير في القرآن . لم يرد بعبادة الله إلا العبادة التي أمرت بها الرسل، وهي عبادته وحده لا شريك له، والمشركون لا يعبدون الله، بل يعبدون الشيطان وما يدعونه من دون الله، سواء عبدوا الملائكة أو الأنبياء والصالحين، أو التماثيل والأصنام المصنوعة، فهؤلاء المشركون قد عبدوا غير الله ـ تعالي ـ كما أخبر الله بذلك . فكيف يقال : إن جميع الإنس والجن عبدوا الله لكون قدر الله جاريًا عليهم ؟ والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم واختيارهم وإخلاصهم الدين له وطاعة رسوله، وبين أن يعبدهم هو وينفذ فيهم مشيئته، وتكون عبادتهم لغيره : للشيطان وللأصنام من المقدور .(1/232)
وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين : أنا كافر برب يعصى، فيجعل كل ما يقع طاعة، كما جعله هؤلاء عبادة لله ـ تعالى ـ لكونهم تحت المشيئة، وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس : إن كان عصى الأمر، فقد أطاع المشيئة ،لكن هؤلاء مباحية، يسقطون الأمر .
/وأما زيد بن أسلم، ووهب بن منبه، ونحوهم، فحاشاهم من مثل هذا، فإنهم كانوا من أعظم الناس تعظيمًا للأمر والنهي، والوعد والوعيد ،ولكن قصدوا الرد على المكذبين بالقدر، القائلين : بأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وهؤلاء حقيقة قولهم : أنه لا يقدر على تعبيدهم، وتصريفهم تحت مشيئته، فأرادوا إبطال قول هؤلاء، ونعم ما أرادوا ! لكن الكلام فيما أريد بالآية .
وقول أولئك الإباحية يشبه قول من قال : إن العارف إذا شهد المشيئة سقط عنه الملام، وأنه إذا شهد الحكم ـ يعني المشيئة ـ لم يستحسن ولم يستقبح سببه، ونحو هذا من أقوال هؤلاء الذين تشبه أقوالهم أقوال المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، كما قد بسط الكلام عليه، وبين أن إثبات القدر السابق حق، لكن ذلك هو الذي يصير العبد إليه، ليس هو الذي فطر عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِهِ أو يُنصرَانِه أو يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتِجُ البهيمة بهيمة جَمْعَاء، هل تحسون فيها من جَدْعَاء ؟ ) . فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ضربه : أن البهيمة تولد سليمة ثم تُجْدَع، والجَدْع كان مقدرًا عليها، كذلك العبد يولد على الفطرة سليمًا، ثم يفسد بالتَّهَوّدِ والتنصير، وذلك كان مكتوبًا أن يكون .(1/233)
وصاحب هذا القول إنما قاله ليبين ما خلقوا له، وقد قصد هذا طائفة/ فسروا العبادة بأمر واقع عام، وليست هي العبادة المأمور بها على ألسن الرسل، ففي تفسير ابن أبي طلحة المضاف إلى ابن عباس : إلا ليقروا بالعبودية طوعًا وكرهًا، وهذه العبودية كقوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [ آل عمران : 83 ] ، وقوله : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [ الرعد : 15 ] ، وفسرت طائفة الكره بأنه جريان حكم القدر، فيكون كالقول قبله، والصحيح أنه انقيادهم لحكمه القدري بغير اختيارهم، كاستسلامهم عند المصائب، وانقيادهم لما يكرهون من أحكامه الشرعية، فكل أحد لابد له من انقياده لحكمه القدري والشرعي، فهذا معنى صحيح، قد بسط في غير هذا الموضع، لكن ليس هو العبادة .
وكذلك قال بعضهم : إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، قالوا : ومعنى العبادة في اللغة : التذلل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ـ تعالى ـ متذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق .
وقد ذكر أبو الفرج قول ابن عباس هذا، قال : وبيان هذا قوله : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزخرف : 87 ] ، وهذه الآية توافق من قال : إلا ليعرفون ـ كما سيأتي ـ وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم لم يقروا بذلك كرهًا، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له فإنه يكون كرهًا، وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه، وبذلوه طوعًا .(1/234)
/وقيل : قول رابع : روى ابن أبي حاتم عن زائدة عن السُّدِّي : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] قال : خلقهم للعبادة، فمن العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزمر : 38 ] هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع شركهم، وهذا المعنى صحيح، لكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله لا يعبد، ولا يسمى مجرد الإقرار بالصانع عبادة لله مع الشرك بالله، ولكن يقال كما قال : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] فإيمانهم بالخالق مقرون بشركهم به، وأما العبادة ففي الحديث : ( يقول الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برىء، وهو كله للذي أشرك ) ، فعبادة المشركين وإن جعلوا بعضها لله لا يقبل منها شيئًا، بل كلها لمن أشركوه، فلا يكونون قد عبدوا الله ـ سبحانه ـ ومثل هذا قول من قال : إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء، دون النعمة والرخاء، بيانه في قوله : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ العنكبوت : 65 ] .(1/235)
وقيل : قول خامس : ذكره ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، قال : ليعرفون، قال : وروى عن قتادة، وذكره البغوي عن مجاهد . قال : وقال مجاهد : إلا ليعرفون . قال : وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، ودليله قوله : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزمر : 38 ] ، فيقال : هذا المعنى صحيح، وكونه إنما عرف بخلقهم يقتضى أن/ خلقهم شرط في معرفتهم، لا يقتضى أن يكون ما حصل لهم من المعرفة هو الغاية التي خلقوا لها، و هذا من جنس قول السدى، فإن هذا الإقرار العام هم مشركون فيه، كما قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ } [ الأعراف : 172 ] ، لكن ليس هذا هو العبادة .
فهذه الأقوال الأربعة، قول من عرف أن الآية عامة، فأراد أن يفسرها بعبادة تعم الإنس والجن، واعتقد أنه إن فسرها بالعبادة المعروفة، وهي الطاعة لله والطاعة لرسله، لزم أن تكون واقعة منهم، ولم تقع، فأراد أن يفسرها بعبادة واقعة، وظن أنه إذا فسرها بعبادة لم تقع لزمه قول القدرية، وأنه خلقهم لعبادته فعصوه بغير مشيئته وغير قدرته، ففروا من قول القدرية وهم معذورون في هذا الفرار، لكن فسرها بما لم يرد بها، كما يصيب كثير من الناس في الآيات التي يحتج أهل البدع بظاهرها، كاحتجاج الرافضة بقوله : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [ المائدة : 6 ] على مسح ظهر القدمين، فترى المخالفين لهم يذكرون أقوالاً ضعيفة، هذا يقول : مجرورًا بالمجاورة، كقوله : جُحْر ضَبّ خَرِب، ونحو هذا من الأقوال الضعيفة، وكذلك ما قالوه في قوله : ( فحج آدم موسى ) وأمثال ذلك .(1/236)
والقول السادس ـ وإن كان أبو الفرج لم يذكر فيها إلا أربعة أقوال ـ وهو الذي عليه جمهور المسلمين : أن الله خلقهم لعبادته وهو فعل ما أمروا به؛ ولهذا يوجد المسلمون قديمًا وحديثًا يحتجون بهذه الآية على هذا/المعنى، حتى في وعظهم وتذكيرهم وحكاياتهم، كما في حكاية إبراهيم بن أدهم : ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت؛ وفي حديث إسرائيلي : يابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكَفَّلتُ برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شىء، وإن فُتَّكَ فاتك كل شىء وأنا أحب إليك من كل شىء . وهذا هو المأثور عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب، وغيره من السلف، فذكروا عن علي بن أبي طالب أنه قال : إلا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي .
قالوا : ويؤيده قوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ } [ البينة : 5 ] ، وقوله : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ } [ التوبة : 31 ] ، وهذا اختيار الزجاج وغيره، وهذا هو المعروف عن مجاهد بالإسناد الثابت، قال ابن أبي حاتم : ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو أسامة عن شِبْل، عن ابن أبي نجِيح، عن مجاهد : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] : لآمرهم وأنهاهم، كذلك روى عن الرَّبِيع بن أنس قال : ما خلقتهما إلا للعبادة .(1/237)
ويدل على هذا مثل قوله : { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] ، يعنى : لا يؤمر ولا ينهى، وقوله : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } [ الفرقان : 77 ] ، أي : لولا عبادتكم، وقوله : { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [ النساء : 147 ] ، وقوله : { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } إلى قوله : { وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [ الأنعام : 130، 131 ] ، وقوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } الآيات [ يس : 60، 61 ] /وما بعدها، وقالت الجن لما سمعوا القرآن : { يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ . يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } الآية [ الأحقاف : 30، 31 ] ، وما بعدها، وقالت الجن : { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } الآية [ الجن : 14 ] وما بعدها .(1/238)
وقد قال في القرآن في غير موضع : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [ البقرة : 21 ] ، { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ } [ الحج : 1 ] ، فقد أمرهم بما خلقهم له وأرسل الرسل إلى الإنس والجن، ومحمد أرسل إلى الثقلين، وقرأ القرآن على الجن، وقد روى أنه لما قرأ عليهم سورة الرحمن وجعل يقرأ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] يقولون : ولا بشىء من آلائك ربنا نُكَذِّب فلك الحمد . فهذا هو المعنى الذي قصد بالآية قطعًا، وهو الذي تفهمه جماهير المسلمين، ويحتجون بالآية عليه، ويعترفون بأنه الله خلقهم ليعبدوه، لا ليضيعوا حقه، وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده ؟ ) . قال : الله ورسوله أعلم، قال : ( فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ) . قلت : الله ورسوله أعلم،قال : ( فإن حقهم عليه ألا يعذبهم ) ، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .
/ثم للناس على هذا القول قولان :
قول أهل السنة المثبتة للقدر، وقول نفاته، فصارت الأقوال في الآية سبعة، وفي الحكمة خمسة .(1/239)
فأما أهل السنة المثبتون للقدر فيقولون : قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونٍِِِِ} [ الذاريات : 56 ] ، لا يستلزم وقوع العبادة منهم، كما قال أصحاب هذه الأقوال المتقدمة، ولا يستلزم نفي المقدور أن يكون في ملكه ما لا يشاء أو يشاء مالا يكون، كما قالت القدرية، فهؤلاء يقولون : لم يقع ما خلقهم له لكونه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، أولئك قالوا : إذا كان ما يشاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فما لم يقع لم يشأه، فما لم يقع من العبادة لم يشأها، وهذا معنى صحيح، ثم قالوا : وما خلقهم له فلابد أن يشاء أن يخلقه، فلما لم يشأه أن يخلق هذا لم يخلقهم له .
فالطائفتان أصل غلطهم ظنهم أن ما خلقهم له يشاء وقوعه، وأولئك يقولون : يشاء أن يخلقه، وهؤلاء يقولون : يشاء وقوعه منهم، بمعنى : يأمرهم به، وما عندهم أن له مشيئة في أفعال العباد غير الأمر، وهم يعصون أمره؛ فلهذا قالوا : يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، كما يقولون : يفعلون ما نهاهم عنه، ويتركون ما أمرهم به، وهذا المعنى صحيح إذا أريد الأمر الشرعي؛ لكن القدرية النفاة لا يقولون : إنه شاء إلا بمعنى أمر، فعندهم ما ليس طاعة من أفعال العباد ما لا/ يشاؤه فإنه لا يخلقه عندهم، وإذا لم يخلقه لم يشأه، فإنه ما شاء أن يخلقه خلقه باتفاق المسلمين .
والقدرية لا تنازع في هذا، لا ينازعون في أنه ما شاء أن يفعله هو فعله، وأنه قادر على أن يفعل ما يشاء أن يفعله، لكن عندهم أن أفعال العباد لا تدخل في خلقه، ولا في قدرته، ولا في مشيئته، ولا في مشيئته أن يفعل، لكن المشيئة المتعلقة بها بمعنى الأمر فقط، فيقولون : خلقهم لعبادته أن يفعلوها هم، وقد أمرهم بها، فإذا لم يفعلوها كان ذلك بمنزلة عصيان أمره .(1/240)
وأما المثبتون للقدر فيقولون : إنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، و هو ـ سبحانه ـ خالق كل شىء { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [ هود : 118 ] ، { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } [ البقرة : 253 ] ، { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } [ الأنعام : 112 ] وأمثال ذلك، فإذا خلقهم للعبادة المأمور بها ولم يفعلوها لم يكن قد شاء أن تكون ؛ إذ لو شاء أن تكون لكونها، لكن أمرهم بها، وأحب أن يفعلوها، ورضى أن يفعلوها، وأراد أن يفعلوها، إرادة شرعية تضمنها أمره بالعبادة .
ومن هنا يتبين معنى الآية، فإن قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، يشبه قوله : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ، وقوله : { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ الحج : 37 ] ، وقوله : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } [ الحشر : 7 ] ، وقوله : { ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ المائدة : 97 ] ، وقوله : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } الآية [ الطلاق : 12 ] ، وكذلك قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهٌِ } [ النساء : 64 ] فهو لم يرسله إلا ليطاع، ثم قد يطاع وقد يعصى .(1/241)
وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، ومثل هذا كثير في القرآن، يبين أنه فعل ما فعل ليكبروه وليعدلوا، ولا يظلموا، وليعلموا ما هو متصف به، وغيره مما أمر الله به العباد، وأحبه لهم ورضيه منهم، وفيه سعادتهم وكمالهم وصلاحهم وفلاحهم إذا فعلوه، ثم منهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعله .
وهو ـ سبحانه ـ لم يقل : إنه فعل الأول ليفعل هو الثاني، ولا ليفعل بهم الثاني، فلم يذكر أنه خلقهم ليجعلهم هم عابدين، فإن ما فعله من الأسباب لما يفعله هو من الغايات يجب أن يفعله لا محالة، ويمتنع أن يفعل أمرًا ليفعل أمرًا ثانيًا ولا يفعل الأمر الثاني، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونون هم الفاعلين له فيحصل بفعلهم سعادتهم، وما يحبه ويرضاه لهم، فيحصل ما يحبه هو وما يحبونه هم، كما تقدم أن كل ما خلقه وأمر به غايته محبوبة لله ولعباده، وفيه حكمة له، وفيه رحمة لعباده .
فهذا الذي خلقهم له لو فعلوه لكان فيه ما يحبه وما يحبونه، ولكن لم يفعلوه فاستحقوا ما يستحقه العاصي المخالف لأمره، التارك فعل ما خلق لأجله من/ عذاب الدنيا والآخرة، وهو ـ سبحانه ـ قد شاء أن تكون العبادة ممن فعلها، فجعلهم عابدين مسلمين بمشيئته وهداه لهم، وتحبيبه إليهم الإيمان، كما قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ } [ الحجرات : 7 ] ، فهؤلاء أراد العبادة منهم خلقًا وأمرًا أمرهم بها، وخلقًا جعلهم فاعلين .
والصنف الثاني لم يشأ هو أن يخلقهم عابدين، وإن كان قد أمرهم بالعبادة، والله سبحانه أعلم .(1/242)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=158 - TOP#TOPسئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه ـ عن قول علي ـ رضي الله عنه ـ : لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ما معنى ذلك ؟
فأجاب :
الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو من أحسن الكلام، وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشر، والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] ، وقال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا . مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 78، 79 ] .
فإن كثيرًا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي .
/ثم المثبتة للقدر يحتجون بقوله : { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فيعارضهم قوله : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } ، ونفاة القدر يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم : أن العبد يخلق جميع أعماله، ويعارضهم قوله : { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } .(1/243)
وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي، وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] ، وقوله تعالى : { فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ، وقوله تعالى : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } [ آل عمران : 120] ، وقوله تعالى : { وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ } [ غافر : 9 ] ونحو ذلك، وهذا كثير .
وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره، فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا : هذا من عند الله، وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا : هذا من عندك ـ يا محمد ـ بسبب الدين الذي أمرتنا به، كما قال قوم فرعون لموسى، وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى : { فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ،وكما قال الكفار لرسل عيسى : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [ يس : 18 ] .(1/244)
فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين،فبين/الله ـ سبحانه ـ أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم، وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] ، فأخبر أنه لا يعذب مستغفرًا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أكثر الاستغفار، جعل الله له من كل هم فَرَجًا، ومن كل ضِيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب ) ، وقد قال تعالى : { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [ هود : 2، 3 ] .
فبين : أن من وحده واستغفره متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، ومن عمل بعد ذلك خيرًا زاده من فضله، وفي الحديث : ( يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار ) ، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا .(1/245)
ولهذا قال تعالى : { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } [ الأنعام : 42، 43 ] ، أي : فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، فحقهم عند مجىء البأس التضرع، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [ المؤمنون : 76 ] . قال عمر بن عبد العزيز : ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة؛ ولهذا قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 173- 175 ] .
فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال علي رضي الله عنه : لا يخافن عبد إلا ذنبه، وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله، كما في الأثر : ( يقول الله : أنا الله، مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم ) .(1/246)
أما قوله : لا يرجون عبد إلا ربه . فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ، { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] ، والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 ] ، وقال : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ إبراهيم : 12 ] ، وقال تعالى : { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عمران : 160 ] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] .(1/247)
فهؤلاء قالوا : حسبنا الله، أي : كافينا الله في دفع البلاء، وأولئك أمروا أن يقولوا : حسبنا في جلب النعماء، فهو ـ سبحانه ـ كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير، أليس الله بكاف عبده، ومن توكل على غير الله ورجاه، خذل من جهته وحرم، { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } [ العنكبوت : 41 ] ، { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا . كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 81، 82 ] ، { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] ، { لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا } [ الإسراء : 22 ] ، وقال الخليل : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت : 17 ] .(1/248)
فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له، كانت صفقته خاسرة، قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ النور : 39 ] ، وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ } [ إبراهيم : 18 ] ، وقال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] ،وقال تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] كما قيل في تفسيرها : كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه، والراجي يكون راجيًا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله، فذاك نوع من العبادة له، وهذا نوع من الاستعانة به،، وقد قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وقال : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] .(1/249)
ومما يوضح ذلك : أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه، فإنما يمنعها الله، وإنما يكشفها الله، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه، فالله ـ سبحانه ـ هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك، فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر، ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن، وإن شاءه الناس .
وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب، فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب ـ وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره ـ لكان الواجب ألا/ يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى، وهو المستعان، وهو المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه، حتى يحصل المقصود .(1/250)
فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده، لم يحصل سببه، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات، والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك، فهو ـ مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل ـ فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه، ولو كان ملكًا مطاعًا، ولابد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضى وعدم المانع، وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضى، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتضيًا، وإن سمى مقتضيًا وسمى سائر ما يعينه شروطًا، فهذا نزاع لفظي . وحينئذ فيقال : لابد من وجود المقتضى الشروط، وانتفاء الموانع، وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها، فهذا باطل .
/ومن عرف هذا حق المعرفة، انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره، وهذا مبرهن بالشرع والعقل، ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية، وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب، فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له : هذا أيضًا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته، بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه، كما قال تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] .(1/251)
فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني، فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته، فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته، بل هو ـ سبحانه ـ خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات، ولا حول ولا قوة إلا به، والحول يتضمن التحول من حال إلى حال بحركة أو إرادة أو غير ذلك، فالشافع لا حول له في الشفاعة ولا غيرها إلا به، ثم أهل طاعته الذين تقبل شفاعتهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فلا يطلبون منه ما لا يحب أن يطلب منه، بل الملائكة الذين هم ملائكته كما قال فيهم : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26-28 ] .
/والصادر عنهم إما قول وإما عمل، فالقول لا يسبقونه به بل لا يقولون حتى يقول، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وعلينا أن نكون معه ومع رسله هكذا، فلا نقول في الدين حتى يقول، ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله ولا نعبده إلا بما أمر، وأعلى من هذا ألا نعمل إلا بما أمر، فلا تكون أعمالنا إلا واجبة أو مستحبة، وإذا كان هكذا في مثل هذه الأسباب فكيف بمن توكل أو رجا أسبابًا غير هذه من الكواكب أو غيرها، أو من أفعال الآدميين من الملوك والرؤساء والأصحاب والأصدقاء والمماليك والأتباع وغير ذلك ؟ !
ومما ينبغي أن يعلم : ما قاله طائفة من العلماء، قالوا : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب : أن تكون أسبابًا، نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع .(1/252)
وبيان ذلك : أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلا، ولابد له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر، وهذا مما يبين أن الله رب كل شيء ومليكه، وأن السموات والأرض وما بينهما والأفلاك وماحوته لها خالق مدبر غيرها، وذلك أن كل ما يصدر عن فلك أو كوكب أو ملك أو غير ذلك، فإنك تجده ليس مستقلا بإحداث شيء/ من الحوادث، بل لابد من مشارك ومعاون وهو مع ذلك له معارضات وممانعات .
ومن أعظم ذلك [ الفلك الأطلس التاسع ] الذي يظن كثير من المتفلسفة الإلهيين والمنجمين وغيرهم أن حركته هي السبب في حدوث الحوادث كلها، وإليها انتهى علمهم بأسباب الحوادث، ثم هم إما أن يجعلوه معلولاً لواجب الوجود بتوسط عقل أو نفس أو بغير توسط ذلك، وإما أن ينكروا أن يكون معلولا ويجعلونه واجب الوجود بنفسه، فقولهم هذا من أعظم الأقوال فسادًا، وإن كانوا مع ذكائهم لا يهتدون لذلك، ولا يهتدي كثير من الناس للرد عليهم في ذلك .
وكل من نظر إلى السماء علم أن حركته ليست هي السبب في جميع الحركات العلوية، فإن كثيرًا ما يقال : إنه بحركته المشرقية يتحرك كل ما فيه من الأفلاك من المشرق إلى المغرب، لكن مع هذا لكل فلك حركة أخرى تخصه تخالف هذه الحركة فلك الثوابت وفلك الشمس والقمر وغيرهما من الخنس الجواري الكنس، وهذه الحركات المختلفة ليست عن تلك الحركة تخالفها، ولا أفلاكها معلولة عن ذلك الفلك التاسع .(1/253)
فلو قدر أن الحوادث تكون بحركة الكواكب، وما يحدث من الأشكال المختلفة بالتثليث والتربيع والتسديس والقران وغير ذلك، فمن المعلوم أن تلك/ الأشكال المختلفة ليست معلولة عن حركة التاسع، بل حركة التاسع جزء السبب، كما أن حركة كل فلك جزء السبب، والشكل الفلكي حادث عن مجموع الحركتين، أو الحركات المختلفة، فإذا قدر أن التسعة اقترنت فلها سبع حركات بل أكثر من ذلك عندهم بحسب الأفلاك الأخر الزوائد المستدل عليها بالحركات المختلفة، كالأفلاك البدرية وغيرها مما تكون به استقامة الكواكب ورجوعها، وغير ذلك من حركاته، وإذا كان كذلك فمن جعل حركة التاسع هي السبب في جميع الحوادث، كان قوله مخالفًا لما هو معلوم عند هؤلاء الفلاسفة والمنجمين، وعند كل عاقل، ثم إذا قدر أنها سبب حركة جميع الأفلاك فليست مستقلة بإحداث شيء من السحب والرعود والبروق والأمطار والنبات وأحوال الحيوان والمعدن؛ لأن حركات هذه الأجسام ليست كلها عن حركات الأفلاك، بل فيها قوى وأسباب توجب لها حركات أخر، كما في كل فلك مبتدأ حركة ليست عن الفلك الآخر .(1/254)
والحركات كلها : إما [ طبيعية ] وإما [ إرادية ] وإما [ قسرية ] ، فالقسرية تابعة للقاسر، والطبيعية هي التي لا إحساس للمتحرك بها كحركة التراب إلى أسفل، والإرادية هي التي للمتحرك بها حس كحركة الحيوان، فما كان من هذه متحركًا بطبع فيه أو إرادة، فمبدأ حركته منه، وما كان مقسورًا فقاسره من المخلوقات إنما يقسره لما فيه من الاستعداد لقبول قسره، وذلك معنى ليس /من القاسر، فحركات الأفلاك إذا اجتمعت ليست مستقلة بتحريك هذه الأجسام، وإن جاز أن تكون جزءًا للسبب، كما نشهد أن الشمس جزء سبب في نمو بعض الأجسام ورطوبتها ويبسها ونحو ذلك، ثم بتقدير أن تكون أسبابًا فلها موانع ومعارضات؛ إذ ما من سبب يقدر إلا وله مانع إرادي أو طبيعي، أو غير ذلك كالدعاء والصدقة والأعمال الصالحة، فإنها من أعظم الأسباب في دفع البلاء النازل من السماء، ولهذا أمرنا بذلك عند الكسوف وغيره من الآيات السماوية التي تكون سببًا للعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة ) ، وأمر صلى الله عليه وسلم عند الكسوف، بالصلاة والذكر والاستغفار والصدقة والعتاقة .(1/255)
وإذا عرف أن كل واحد من الموجودات المشهودة، إذا نظرت إليها ـ واحدًا واحدًا ـ من الفلك التاسع وغيره، وجدته غير مستقل بإحداث شيء أصلا، بل لابد للحوادث من أسباب أخر، وإن كان هو جزء سبب، ولها معارضات أخر، علم بذلك أنه ليس في هذه الأمور ما يجوز أن يقال : هو المحدث للحوادث المشهودة، فضلاً عن أن يقال : هو المبدع للأجسام المتحركة حركة تخالف حركته، وتدفع موجبها، فإن الشيء لا يوجب ما يضاده ويخالفه، وإذا كان في الأجسام المتحركة، ما يخالف مقتضاه موجب الفلك التاسع ومقتضاه /ويضاده، امتنع أن يكون أحدهما علة الآخر، لأن المعلول لا يضاد علته، كما لا يجوز أن يكون فاعلا لها، كما أن الشيء لا يكون ضدًا لنفسه ولا فاعلاً لنفسه، فإن مضادته لنفسه توجب أن يكون وجوده تابعًا لوجوده، فيكون موجودًا معدومًا، وفعله لنفسه مع كون العلة متقدمة على المعلول يوجب أن تكون نفسه موجودة معدومة .
ومن المعلوم أن [ الفلك التاسع ] إذا لم تكن الحوادث والحركات التي عن قوى الأجسام منه، وإنما منه حركة عرضية لها، فألا تكون نفس الأجسام وقواها منه أولى وأحرى ! ويعلم بذلك أن المحرك للأفلاك وغيرها من الأجسام المشهودة والمبدع لهذه الأجسام بسبب آخر رب غيرها، هو الذي أبدعها على صورها المختلفة وحركها بالحركات المختلفة، وهو المطلوب .(1/256)
ثم هذه الكواكب إذا كانت جزء السبب من بعض الحوادث، فإنما تكون جزء السبب في حال دون حال،فإنها في حال ظهورها على وجه الأرض يظهر نورها وأثرها،فإذا أفلت انقطع نورها وأثرها،فلا تبقى حينئذ سببًا ولا جزءًا من السبب؛ولهذا قال الخليل صلى الله عليه وسلم : { لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } [ الأنعام : 67 ] فإنها في حال أفولها قد انقطع أثرها عنا بالكلية،فلم تبق شبهة يستند إليها المتعلق بها،والرب الذي يدعي ويسأل ويرجى ويتوكل عليه لابد أن يكون قيومًا يقيم العبد في جميع الأوقات والأحوال كما قال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] ، وقال : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255،آل عمران : 2 ] ، فهذا وغيره من أنواع/النظر والاعتبار يوجب أن العبد لا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه .
وأما كونه لا يخاف إلا ذنبه، فلما علم من أنه لا تصيبه مصيبة إلا بذنوبه، وهذا يعلم بآيات الآفاق والأنفس، وبما أخبر في كتابه كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، وبينا سر ذلك بما لا يحتمله هذا الموضع .
وهذا تحقيق ما ثبت في الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال : ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) . فبين أن كل ما يجده العبد من الخير فليحمد الله عليه، فإن الله هو الذي أنعم به، وإن ما يجده من الشر فلا يلومن فيه إلا نفسه .(1/257)
وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) ، فقوله : ( أبوء لك بنعمتك عليَّ ) اعتراف وإقرار بالنعمة، وقوله : ( وأبوء بذنبي ) إقرار بالذنب؛ ولهذا قال من قال من السلف : إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث بالنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، لكن الشكر يكون بعد النعمة والتوكل والرجاء يكون قبل النعمة، كما قال الخليل : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ العنكبوت : 17 ] ، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ) ، فجمع بين حمده والاستعانة به والاستغفار له، فقد تبين أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، وهو ظلم وجهل، وهذه حال من دعا غير الله وتوكل عليه .(1/258)
وأما قولهم : محو الأسباب أن تكون أسبابًا : نقص في العقل، فهو كذلك وهو طعن في الشرع أيضًا، فإن كثيرًا من أهل الكلام أنكروا الأسباب بالكلية وجعلوا وجودها كعدمها، كما أن أولئك الطبعيين جعلوها عللا مقتضية، وكما أن المعتزلة فرقوا بين أفعال الحيوان وغيرها، والأقوال الثلاثة باطلة؛ فإن الله يقول : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [ الأعراف : 57 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 164 ] ، وقال تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } [ المائدة : 16 ] ، وقال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } [ البقرة : 26 ] ، وأمثال ذلك، فمن قال : يفعل عندها لا بها، فقد خالف لفظ القرآن مع أن الحس والعقل يشهد أنها أسباب، ويعلم الفرق بين الجبهة وبين العين في اختصاص أحدهما بقوة ليست في الآخر، وبين الخبز والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر .
وأما قولهم : الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل هو أيضًا قدح في العقل، فإن أفعال العباد من أقوى الأسباب لما نيط بها، فمن جعل/ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أو يجعل المتقين كالفجار، فهو من أعظم الناس جهلا وأشدهم كفرًا، بل ما أمر الله به من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب، فيما نيط بها من العبادات، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علق بها من الشقاوات .(1/259)
ومع هذا، فقد قال خير الخلق : ( إنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ) ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) ، ولما قال لهم : ( ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة، ومقعده من النار ) قالوا : يا رسول الله، أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل ؟ قال : ( لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ) .
وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سببًا له، فمن قال : ما قدر لي فهو يحصل لي دعوت أو لم أدع، وتوكلت أو لم أتوكل، فهو بمنزلة من يقول : ما قسم لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي آمنت أو لم أؤمن، وأطعت أم عصيت، ومعلوم أن هذا ضلال وكفر، وإن كان الأول ليس مثل هذا في الضلال؛ إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، لكن لا ريب أن ما جعل الله الدعاء سببًا له، فهو بمنزلة ما جعل العمل/ الصالح سببًا له، وهو قادر على أن يفعله ـ سبحانه ـ بدون هذا السبب، وقد يفعله بسبب آخر .
وكذلك من ترك الأسباب المشروعة المأمور بها أمر إيجاب أو استحباب من جلب المنافع أو دفع المضار قادح في الشرع خارج عن العقل، ومن هنا غلطوا في ترك الأسباب المأمور بها، وظنوا أن هذا من تمام التوكل، والتوكل مقرون بالعبادة في قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، والعبادة فعل المأمور، فمن ترك العبادة المأمور بها وتوكل، لم يكن أحسن حالا ممن عبده ولم يتوكل عليه، بل كلاهما عاص لله تاركًا لبعض ما أمر به .(1/260)
والتوكل يتناول التوكل عليه ليعينه على فعل ما أمر، والتوكل عليه ليعطيه ما لا يقدر العبد عليه، فالاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك ويكون التوكل عليه لجلب المنفعة ودفع المضرة، قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] .
فمن لم يفعل ما أمر به، لم يكن مستعينًا بالله على ذلك، فيكون قد ترك العبادة والاستعانة عليها بترك التوكل في هذا الموضع أيضًا، وآخر يتوكل بلا فعل مأمور وهذا هو العجز المذموم، كما في سنن أبي داود : أن رجلين اختصما/ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال المقضي عليه : حسبى الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل : حسبى الله ونعم الوكيل ) ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(1/261)
فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم، اصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . قال بعض السلف ـ إما ابن مسعود وإما علقمة ـ : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
ولهذا قال آدم لموسى : ( أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة فحج آدم موسى ) ؛لأن موسى قال له : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبًا؛ ولهذا احتج عليه آدم بالقدر، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس، فليس مرادًا بالحديث؛ لأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب،/والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس .
وأيضًا، فإن آدم احتج بالقدر، وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولا، لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض ويحتج بالقدر، ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدى عليه واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول .(1/262)
ومن ظن أن الإيمان بالقدر، أن الله خالق أفعال العباد كما يظنه المباحية المشركية، الذين يقرون بالقدر دون الأمر، والقدرية المجوسية الذين يقرون بالأمر دون القدر، أو ظن أن التكليف مع ذلك غير معقول، ولكن الشارع أطيع فيه لمحض المشيئة الإلهية، وأن الله يفعل، وجعل ذلك حجة له في الأفعال لم يتضمن أسبابًا مناسبة للأمر والنهي، بل أنكر ما اشتملت عليه الشريعة من المصالح والمحاسن والمقاصد التي للعباد في المعاش والمعاد، وجعل ذلك الشرع مجرد إضافة من غير أن يكون من العلة والمعلول مناسبة وملائمة، وأنكر أن تكون الأفعال على وجوه لأجلها كانت حسنة مأمورًا بها، وكانت سيئة منهيًا عنها احتجاجًا على ذلك بالقدر، وأنه مع كون الرب هو الخالق يمتنع هذا كله /فهو مخطئ ضال يعلم فساد قوله بالضرورة، وبما اتفق عليه العقلاء مع دلالة الكتاب والسنة والإجماع على فساد قوله .
فإن عامة بني آدم يؤمنون بالقدر، ويقولون : إنه لابد من عقوبة المعتدين حتى المجانين والبهائم، يؤدبون لكف عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة، وبعفو كمل الآدميين عن عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة فالعبد عليه أن يصبر، وينبغي له أن يرضي بما قدر من المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب ولا يحتج لها بالقدر، ويشكر ما قدر الله له من النعم والمواهب، فيجمع بين الشكر والصبر والاستغفار والإيمان بالقدر والشرع، والله أعلم .(1/263)
ما تقول السادة أئمة المسلمين أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ في قوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، فإن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ وقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، فإن كانت اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك، وإن كانت اللام للغرض لزم ألا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته، وليس كذلك، فكيف التخلص من هذا المضيق ؟
وفيما ورد من الأخبار والآيات بالرضاء بقضاء الله تعالى، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( جف القلم بما هو كائن ) ، وفي معنى قوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] ، فإن كان الدعاء أيضًا بما هو كائن، فما فائدة الأمر به ولابد من وقوعه ؟ .
فأجاب شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رحمه الله :
الحمد لله رب العالمين .
/أما المسألة الأولى فهي مبنية على أصلين :
أحدهما : الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلاً من المخاطب، بل هو الذي يكون المخاطب به ويخلقه بدون فعل من المخاطب أو قدرة أو إرادة أو وجود له، وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلاً أو تركًا يفعله بقدرة وإرادة ـ وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ـ وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس، هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده ؟ ولا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده .
وكذلك تنازعوا في الأول، هل هو خطاب حقيقي ؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة ؟ والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة .(1/264)
والأصل الثاني : أن المعدوم في حال عدمه، هل هو شىء أم لا ؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شىء في الخارج، وذات وعين، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة، وأن وجودها زائد على حقيقتها، وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة .
/والذي عليه جماهير الناس، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة، أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشىء أصلاً ولا ذات ولا عين، وأنه ليس في الخارج شيئان : أحدهما حقيقته، والآخر وجوده الزائد على حقيقته، فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات، فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له ـ سبحانه وتعالى ـ لكن في هؤلاء من يقول : المعدوم ليس بشىء أصلا، وإنما سمى شيئًا باعتبار ثبوته في العلم فكان مجازًا .
ومنهم من يقول : لا ريب أن له ثبوتًا في العلم، ووجودًا فيه، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شىء وذات، وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت، كما فرق من قال : المعدوم شىء، ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشىء بين الممكن والممتنع، كما فرق أولئك؛ إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشىء، وإنما النزاع في الممكن .
وعمدة من جعله شيئًا إنما هو لأنه ثابت في العلم، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه، وغير ذلك قالوا : وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض، فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي زالت الشبهة في هذا الباب .(1/265)
/وقوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] . ذلك الشىء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه،وبذلك كان مقدرًا مقضيًا، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو : ( إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) ، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كان الله ولم يكن شىء معه وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شىء، ثم خلق السموات والأرض ) ، وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أول ما خلق الله القلم، فقال له : اكتب، فقال : ما أكتب ؟ قال : ما هو كائن إلى يوم القيامة ) .
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلومًا مخبرًا عنه مكتوبًا، فهو شىء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتًا في الخارج، بل هو عدم محض، ونفي صرف، وهذه المراتب الأربعة المشهورة للموجودات، وقد ذكرها الله ـ سبحانه وتعالى ـ في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1-5 ] ، وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع .(1/266)
وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة وتعلقت/ به القدرة وخلق وكون، كما قال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، فالذي يقال له : كن هو الذي يراد، وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز في العلم والتقدير، ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم .
فإن قول السائل : إن كان المخاطب موجودًا، فتحصيل الحاصل محال .
يقال له : هذا إذا كان موجودًا في الخارج وجوده الذي هو وجوده، ولا ريب أن المعدوم ليس موجودًا، ولا هو في نفسه ثابت، وأما ما علم وأريد وكان شيئًا في العلم والإرادة والتقدير، فليس وجوده في الخارج محالاً، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة .
وقول السائل : إن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ !
يقال له : أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم في الخطاب بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال؛ إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل، والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه، بمعنى أنه يطلب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل، وكذلك أيضًا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين، بمعنى أن يعتقد أنه شىء ثابت في الخارج، وأنه يخاطب بأن يكون .(1/267)
/وأما الشىء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه، فليس ذلك محالاً، بل هو أمر ممكن، بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه فيقدر أمرا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته، فإن كان قادرًا على حصوله، حصل مع الإرادة والطلب الجازم، وإن كان عاجزا لم يحصل، وقد يقول الإنسان : ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب، فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله ـ سبحانه ـ على كل شىء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون .
قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى :
في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس، وقوله : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] ، و قوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } إلى قوله : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] ، فإنه ينفي التحريم عن غيرها، ويثبته لها، لكن هل أثبتها للجنس أو لكل واحد من العلماء كما يقال : إنما يحج المسلمون، وذلك أن المستثنى هل هو مقتضى، أو شرط ؟
ففي الآية وأمثالها هو مقتضى فهو عام؛ فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف، فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات وترك السيئات، وكل عاص فهو جاهل ليس بتام العلم، تبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم .(1/268)
وإذا كان كذلك فعدم العلم ليس شيئًا موجودًا، بل هو مثل عدم القدرة وعدم السمع وعدم البصر، والعدم ليس شيئًا، وإنما الشىء الموجود ـ والله خالق كل شىء ـ فلا يضاف العدم المحض إلى الله تعالى، لكن قد /يقترن به موجود، فإذا لم يكن عالمًا، والنفس بطبعها تحركه فإنها حية، والحركة الإرادية من لوازم الحياة، ولهذا أصدق الأسماء : الحارث والهمام، وفي الحديث : ( مثل القلب مثل ريشة ملقاة ) إلخ، وفيه : ( القلب أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا ) ، فإذا كان كذلك، فإن هداها الله علمها ما ينفعها وما يضرها، فأرادت ما ينفعها وتركت ما يضرها، والله سبحانه تفضل على بني آدم بأمرين؛ هما أصل السعادة :
أحدهما : أن كل مولود يولد على الفطرة، كما في الصحيحين، ولمسلم عن عياض ابن حمار مرفوعًا : ( إني خلقت عبادي حنفاء ) الحديث، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت محبة لله تعبده لا تشرك به شيئًا، ولكن يفسدها من يزين لها من شياطين الإنس والجن، قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية [ الأعراف : 172 ] ، وتفسير هذه الآية مبسوط في غير هذا الموضع .(1/269)
الثاني : أن الله تعالى هدى الناس هداية عامة، بما جعل فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } إلى قوله : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1-5 ] ، وقال تعالى : { الرَّحْمنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن : 1-4 ] ، وقال تعالى : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1-3 ] ، وقال : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، ففي كل واحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الآخرة، وجعل في فطرته محبة لذلك .
/لكن قد يعرض الإنسان عن طلب علم ما ينفعه وذلك الإعراض أمر عدمي، لكن النفس من لوازمها الإرادة والحركة فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها أن تحيا الحياة النافعة فتعبد الله، ومتى لم تحى هذه الحياة كانت ميتة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبًا لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة،ولا ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى : { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } [ الأعلى : 13 ] ، فالجزاء من جنس العمل لما كان في الدنيا ليس بحي الحياة النافعة ولا ميتًا عديم الإحساس، كان في الآخرة كذلك، والنفس إن علمت الحق وأرادته، فذلك من تمام إنعام الله عليها، وإلا فهي بطبعها لابد لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة؛ فهذا تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده وهذا عدم .(1/270)
والقدرية يعترفون بهذا، وبأن الله خلق الإنسان مريدًا، لكن يجعلونه مريدًا بالقوة والقبول، أي قابلاً لأن يريد هذا وهذا، وأما كونه مريدًا لهذا المعين وهذا المعين، فهذا عندهم ليس مخلوقا لله، وغلطوا بل الله خالق هذا كله، وهو الذي ألهم النفس فجورها وتقواها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم آت نفسي تقواها ) إلخ، والله ـ سبحانه ـ جعل إبراهيم وأهل بيته أئمة يدعون بأمره، وجعل آل فرعون أئمة يدعون إلى النار، ولكن هذا إلى الله لوجهين من جهة علته الغائية، ومن جهة سببه :
/أما العلة الغائية، فإنه إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير، وإن كان شرًا إضافيًا، فإذا أضيف مفردًا توهم المتوهم مذهب جهم بن صفوان : أن الله خلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد، لا لحكمة ولا لرحمة، والكتاب والسنة والاعتبار يبطل هذا، كما إذا قيل : محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض؛ كان هذا ذما لهم، وكان باطلاً، وإذا قيل : يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ويقتلون من منعهم من ذلك؛ كان هذا مدحًا لهم وكان حقًا .
فإذا قيل : إن الرب ـ تعالى ـ حكيم رحيم أحسن كل شىء خلقه وهو أرحم الراحمين، والخير بيديه والشر ليس إليه، لا يفعل إلا خيرًا، وما خلقه من ألم لبعض الحيوان، ومن أعماله المذمومة، فله فيه حكمة عظيمة ونعمة جسيمة، كان هذا حقًا وهو مدح للرب .
وأما إذا قيل : يخلق الشر الذي لا خير فيه، ولا منفعة لأحد، ولا له فيه حكمة ولا رحمة، ويعذب الناس بلا ذنب، لم يكن مدحًا له بل العكس، وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة وما لم نعلم أعظم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقا .(1/271)
وقد ذكرنا في غير هذا أن ما خلقه فهو نعمة يستحق عليها الشكر، وهو من آلائه؛ ولهذا قال في آخر سورة النجم : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ النجم : 55 ] ،/ وفي سورة الرحمن يذكر : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ونحو ذلك، ويقول عقبه : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال طائفةـ واللفظ للبغوي ـ ثم ذكر قوله : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] قال : كل ما ذكر الله عز وجل من قوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ، فإنه مواعظ وهو نعمة؛ لأنه يزجر عن المعاصي، وقال آخرون منهم : الزجاج، وابن الجوزي، في الآيات، أي : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } بهذه الأشياء؛ لأنها كلها نعم في دلالتها إياكم على توحيده ورزقه إياكم ما به قوامكم، هذا قالوه في سورة الرحمن، وقالوا في قوله : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ النجم : 55 ] ، فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تشكك، وقيل : تشك وتجادل، وقال ابن عباس : تكذب .(1/272)
قلت : ضمن تتمارى معنى تكذِّب؛ ولهذا عداه بالتاء، فإنه تفاعل من المراء، يقال : تمارينا في الهلال، ومراء في القرآن كفر، وهو يكون لتكذيب وتشكيك، ويقال : لما كان الخطاب لهم، قال : تتمارى، أي يتمارون، ولم يقل : تمتري؛ لأن التفاعل يكون بين اثنين . قالوا : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [ النجم : 39 ] ، قيل : الوليد بن المغيرة، فإنه قال : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى . أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ النجم : 36-38 ] ، ثم التفت إليه فقال : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } كما قال : { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ . وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 14-16 ] .
ففي كل ما خلقه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه/ يستحق أن يحمد عليها لذاته، فجميع المخلوقات فيها إنعام إلى عباده كالثقلين المخاطبين بقوله : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } من جهة أنها آيات يحصل بها هدايتهم، وتدل على وحدانيته، وصدق أنبيائه؛ ولهذا قال عقيبه : { هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى } [ النجم : 56 ] قيل : محمد، وقيل : القرآن، وهما متلازمان، يقول : هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل، والكتب الأولى . وقوله : { مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى } ، أي : من جنسها، فأفضل النعم نعمة الإيمان، وكل مخلوق فهو من الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] ، وقال : { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ ق : 8 ] .(1/273)
وما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة؛ لأنه يكفر خطاياه ويثاب عليه بالصبر، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها العبد، { وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } الآية [ البقرة : 216 ] ، وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر، أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، كما قال بعض السلف : ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر؛ فلهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لكن لما كان في السراء اللذة، وفي الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء، قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } إلى قوله : { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الآية [ هود : 9-11 ] .
/وأيضًا، صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، وأما صبر السراء فقد يكون مستحبًا، وصاحب الضراء قد يكون الشكر في حقه مستحبًا، واجتماع الشكر والصبر يكون مع تألم النفس وتلذذها، وهذا حال يعسر على كثير وبسطه له موضع آخر .(1/274)
والمقصود أن الله ـ تعالى ـ منعم بهذا كله؛ وإن كان لا يظهر في الابتداء لأكثر الناس، فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون،وأما ذنوب الإنسان فهي من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة،وهي نعمة على غيره لما يحصل له بها من الاعتبار، ومن هذا قوله : " اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل غيري أسعد بما علمتني مني " ، وفي دعاء القرآن : { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ يونس : 85 ] ، وكما فيه : { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ] . واجعلنا أئمة لمن يقتدى بنا، ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا، والآلاء في اللغة هي النعم، وهي تتضمن القدرة .
والله ـ تعالى ـ في القرآن يذكر آياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر آياته التي فيها نعمه إلى عباده، ويذكر آياته المبينة لحكمته، وهي متلازمة، لكن نعمة الانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا استدل بها في [ سورة النحل ] ، وتسمى [ سورة النعم ] ، كما قاله قتادة وغيره . وعلى هذا فكثير من الناس يقول : الحمد أعم من الشكر من جهة أسبابه؛ فإنه يكون على نعمة وغيرها، والشكر أعم من جهة أنواعه، فإنه يكون /بالقلب واللسان واليد، فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة، لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال .
لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم، والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا، وكذلك القدرية الذين يقولون : لا تعود الحكمة إليه، بل ما ثم إلا نفع الخلق، فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة، والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، وحقيقة مذهبهم : أنه لا يستحق الحمد؛ فله ملك بلا حمد، كما أن عند المعتزلة له نوع من الحمد بلا ملك، وعند السلف له الملك والحمد تامين .(1/275)
قال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] ، فله الوحدانية في إلهيته، وله العدل وله العزة والحكمة، وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السنة نقص الرب بعض حقه .
والجهمي الجبري لا يثبت عدلاً ولا حكمة، ولا توحيد إلهيته، بل توحيد ربوبيته، والمعتزلي لا يثبت توحيد إلهيته، ولا عدلا ولا عزة ولا حكمة، وإن قال : إنه يثبت حكمة ما، معناها يعود إلى غيره، فتلك لا تكون حكمة، فمن فعل لا لأمر يرجع إليه بل لغيره، فهذا عند العقلاء قاطبة ليس بحكيم، وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر والحمد،/ وإن كان على نعمة وعلى حكمة، فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التي تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر .
ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجردًا إذ كان نوعًا من الشكر، وشرع الحمد الذي هوالشكر مقولا أمام كل خطاب مع التوحيد، ففي الفاتحة الشكر مع التوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد . والباقيات الصالحات نوعان : فسبحان الله وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا الله والله أكبر فيها التوحيد والتكبير، وقد قال تعالى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ غافر : 14 ] ، { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ، وهل الحمد على الأمور الاختيارية كما قيل في العزم، أم عام ؟ فيه نظر ليس هذا موضعه .(1/276)
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول : [ ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولامعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) هذا لفظ الحديث . و [ أحق ] أفعل التفضيل، وقد غلط فيه طائفة فقالوا : حق ما قال العبد، وهذا ليس بسديد، فإن العبد يقول الحق والباطل؛ بل حق ما يقوله الرب، كما قال : { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } [ ص : 84 ] ، ولكن أحق خبر مبتدأ محذوف، أي : الحمد أحق ما قال العبد، ففيه أن الحمد أحق ما قاله العبد، ولهذا وجب في كل صلاة .
/وإذا قيل : يخلق ما هو شر محض، لم يكن هذا موجبًا لمحبة العباد له، وحمدهم، بل العكس؛ ولهذا كثير من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم نظمًا ونثرًا، وكثير من شيوخهم وعلمائهم يذكر ذلك، وإن لم يقله بلسانه، فقلبه ممتلئ به، لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة، أو يخاف من المسلمين، وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا، ويقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله، وهو خلاف ما وصف به نفسه في قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، فقوله : أحق ما قال العبد، يقتضى أن حمده أحق ما قاله العبد؛ لأنه سبحانه لا يفعل إلا الخير وهو سبحانه .
ونفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر حكمة بالغة ونعمة سابغة .
فإذا قيل : فلم لا خلقها على غير هذا الوجه ؟(1/277)
قيل : كان يكون ذلك خلقًا غير الإنسان، وكانت الحكمة بخلقه لا تحصل، وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } إلى قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ، فعلم من الحكمة في خلق هذا مالم تعلمه الملائكة، فكيف يعلمه آحاد الناس، ونفس الإنسان خلقت، كما قال تعالى : / { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19-21 ] ، وقال : { خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] ، فقد خلق خلقة تستلزم وجود ما خلق منها، لحكمة عظيمة ورحمة عميمة فهذا من جهة الغاية مع أن الشر لا يضاف إليه سبحانه .
وأما الوجه الثاني : من جهة السبب فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التي تصلح النفس، فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته، وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك، وهذا كله من فضل الله وإحسانه؛ لكن النفس المدينة لما حصل لها من زين لها السيئات من شياطين الإنس والجن مالت إلى ذلك، وكان ذلك مركبًا من عدم ما ينفع، وهذا الأصل ووجود هذا العدم لا يضاف إلى الله ـ تعالى ـ وهؤلاء القول فيهم كالقول فيها، خلقهم لحكمة، فلما كان عدم ما تصلح به هو أحد السببين، والشر المحض هو العدم المحض، وهو ليس شيئًا، والله خالق كل شىء فكانت السيئات منها باعتبار أنها مستلزمة للحركة الإرادية .
والعبد إذا اعترف أن الله خالق أفعاله، فإن اعترف إقرارًا بخلق الله لكل شىء وبكلماته التامات، واعترافًا بفقره إليه، وأنه إن لم يهده فهو ضال، فخضع لعزته وحكمته، فهذا حال المؤمنين، وإن اعترف احتجاجًا بالقدر، فهذا الذنب أعظم من الأول، وهذا من أتباع الشيطان .
وهنا سؤال سأله طائفة : وهو أنه لا يقضي للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا /له، وقد قضى عليه السيئات، وعنه جوابان :(1/278)
أحدهما : أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث؛ ولكن ما يصيبه من النعم والمصائب؛ ولهذا قال : ( إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له ) إلخ . وهذا ظاهر اللفظ فلا إشكال .
والثاني : إن قدر دخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن ) ، فإذا قضى له بأن يحسن فهو مما يسره، فإذا قضى له بسيئة، فهو إما يستحق العقوبة إذا لم يتب،فإن تاب أبدلت حسنة فيشكر عليها،وإن لم يتب ابتلى بمصائب تكفرها فيصبرعليها فيكون ذلك خيرًا له وهو قال : لا يقضى الله للمؤمن، والمؤمن المطلق هو الذي لا يضره الذنب؛ بل يتوب منه فيكون حينئذ كما جاء في عدة آثار : إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة،يعمله فلا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه واستغفاره وشهوده لفقره، وفاقته إليه سبحانه .
وفي قوله : { فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] من الفوائد : أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، فإن الشر لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، ولكن يرجع إلى الذنوب فيتوب منها، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له الخير ويدفع عنه الشر؛ ولهذا كان أنفع/ الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] .(1/279)
فإنه إذا هداه هذا الصراط، أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذنوب من لوازم النفس، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب، ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه؛ ولهذا أمر به في كل صلاة لفرط الحاجة إليه، وإنما يعرف بعض قدره من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن المأمورين بهذا الدعاء، ورأى ما فيها من الجهل والظلم الذي يقتضى شقاءها في الدنيا، والآخرة، فيعلم أن الله تعالى بفضله ورحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر .
ومما يبين ذلك أن الله ـ تعالى ـ لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبرها، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول، وكانا مشتركين في المقتضى والحكم، فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل ـ فرعون ومن قبله ـ لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط؛ لكن الأمر كما قال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] ، وقال : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] ، وقال تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] ، وقال : { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } [ التوبة : 30 ] ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : / ( لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) ، قالوا : يارسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) ،وقال : ( لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرًا بشبر،وذراعًا بذراع ) . قالوا : يا رسول الله، فارس والروم ؟ قال : ( فمن ؟ ) ، وكلا الحديثين في الصحيحين .(1/280)
ولما كان في غزوة حنين، كان للمشركين سدرة يعلقون عليها أسلحتهم، فقال بعض الناس : يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قال أصحاب موسى : { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 38 ] ، إنها سنن لتركبن سنن من كان قبلكم ) .
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله فأعظمها جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة له سبحانه، أو إلها من دونه، وكل هذين وقع، فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يعبد ويطاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا، وهذا إن لم يعن الله العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه فرعون وإبليس بحسب الإمكان، قال بعض العارفين : ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، إلا أنه قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر .
/وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } [ الفرقان : 43 ] ، والناس عنده كما هم عند ملوك الكفار من الترك وغيرهم : [ يال، ياغي ] ، أي صديقي وعدوي، فمن وافق هواهم، كان وليًا وإن كان كافرًا، وإن لم يوافقه، كان عدوا وإن كان من المتقين، وهذه حال فرعون .(1/281)
والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية وجحود الصانع، وهؤلاء وإن أقروا بالصانع، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادة الله المتضمنة ترك طاعتهم عادوه، كما عادى فرعون موسى ـ عليه السلام ـ وكثير من الناس عنده عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد، بل تطلب نفسه ما هو عنده، فإذا كان مطاعًا مسلمًا طلب أن يطاع في أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل .
وإن كان عالمًا أو شيخًا أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض نظيره حسدًا وبغيًا، كما فعلت اليهود لما بعث الله تعالى من يدعو إلى مثل ما دعى إليه /موسى قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } الآية [ البقرة : 91 ] ، وقال : ّ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 4 ] ، وقال : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [ الشورى : 14 ] ؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم به منهم، فقال تعالى عن فرعون : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ } الآية [ القصص : 4 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 38 ] .(1/282)
والله ـ سبحانه ـ إنما خلق الخلق لعبادته ليذكروه ويشكروه ويعبدوه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقد أمر الرسل كلهم بهذا، وألا يتفرقوا فيه فقال : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } الآية [ المؤمنون : 51، 52 ] .
قال قتادة : أي : دينكم واحد، وربكم واحد، والشريعة مختلفة، وكذلك قال الضحاك . وعن ابن عباس : أي دينكم دين واحد، قال ابن أبي حاتم، وروى عن سعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن نحو ذلك . قال الحسن : بين لهم ما يتقون، وما يأتون، ثم قال : إن هذه سنتكم سنة واحدة، وهكذا قال/ جمهور المفسرين، والأمة : الملة والطريقة، كما قال : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] ، كما تسمى الطريق إمامًا، لأن السالك فيها يؤتم به، فكذلك السالك يؤمه ويقصده، والأمة أيضًا : معلم الخير الذي يأتم به الناس، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ جعله الله إمامًا، وأخبر أنه كان أمة .(1/283)
وأمر الله ـ تعالى ـ الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحدًا، لا يتفرقون فيه كما في الصحيحين : ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد ) ، وقال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } الآية [ الشورى : 13 ] ؛ ولهذا كان يصدق بعضهم بعضا لا يختلفون مع تنوع شرائعهم،فمن كان من المطاعين من الأمراء والعلماء والمشايخ متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم أمر بما أمر به ودعا إليه، وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه، فإن الله يحب ذلك، فيحب ما يحبه الله؛ لأن قصده عبادة الله وحده، وأن يكون الدين لله، ومن كره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك؛ فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، وله نصيب من حال فرعون وأشباهه، فمن طلب أن يطاع دون الله فهذا حال فرعون، ومن طلب أن يطاع مع الله فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، والله ـ سبحانه ـ أمر ألا يعبد إلا إياه ولا يكون الدين إلا له، وتكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان إلا به .
فالمتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل؛ ليكون الدين لله لا له، /فإذا أمر غيره بمثل ذلك، أحبه وأعانه وسر به؛ وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسنًا فيرى أن عمله لله وبالله، وهذا مذكور في الفاتحة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكورا، ولا يمن عليه بذلك، فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان، فعليه أن يشكر الله إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك أن يشكر الله إذ يسر له ما ينفعه، ومن الناس من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو ليجزيه بطاعته له وتعظيمه إياه أو نفع آخر، وقد يمن عليه فيقول : أنا فعلت وفعلت بفلان فلم يشكر ونحو ذلك، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، فلا عمل لله ولا عمل به، فهو كالمرائي .(1/284)
وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي، فقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 264، 265 ] . قال قتادة : تثبيتًا من أنفسهم : احتسابًا من عند أنفسهم . وقال الشعبي : يقينًا وتصديقًا من أنفسهم . وقيل : يخرجونها طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه . قلت : إذا كان المعطي محتسبًا للأجر من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه .(1/285)
/الفرق السادس : أن ما يبتلى به من الذنوب وإن كان خلقًا لله فهو عقوبة له على عدم فعل ما خلقه الله له وفطره عليه، فإنه خلقه لعبادته وحده، ودل عليه الفطرة، فلما لم يفعل ما خلق له وما فطر عليه، عوقب على ذلك، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، قال تعالى : { اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا } إلى قوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الإسراء : 63-65 ] ، وقال تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 99، 100 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ . وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } [ الأعراف : 201، 202 ] .(1/286)
فتبين أن الإخلاص يمنع من تسلط الشيطان، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، فكان إلهامه لفجوره عقوبة له وعدم فعل الحسنات ليس أمرًا موجودًا حتى يقال : إن الله خلقه، ومن تدبر القرآن، تبين له أن عامة ما يذكر الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل، كقوله تعالى : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الآية [ الأنعام : 125 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وقال : { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 8-10 ] ، وهذا وأمثاله يذكر فيه أعمالاً عاقبهم بها على فعل محظور وترك مأمور، ولابد لهم من حركة وإرادة، فلما لم يتحركوا بالحسنات، حركوا/ بالسيئات عدلاً من الله، كما قيل : نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل .
وهذا الوجه إذا حقق يقطع مادة كلام طائفتي القدرية المكذبة والمجبرة الذين يقولون : خلقها لذلك، والتعذيب لهم ظلم، يقال لهم : إنما أوقعهم فيها وطبع على قلوبهم عقوبة لهم، فما ظلمهم ولكن ظلموا أنفسهم، يقال : ظلمته، إذا نقصته حقه، قال تعالى : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } [ الكهف : 33 ] .(1/287)
وكثير منهم يسلمون أن الله خلق من الأعمال ما يكون جزاء على عمل متقدم، ويقولون : خلق طاعة المطيع لكن ما خلق شيئًا من الذنوب ابتداء، بل جزاءً ،فيقولون : أول ما يفعل العبد لم يحدثه الله، وما ذكرنا يوجب أن يكون الله خالق كل شىء، لكن أولها عقوبة على عدم فعله لما خلق له، والعدم لا يضاف إلى الله، فما أحدثه فأوله عقوبة على هذا العدم، وسائرها قد يكون عقوبة على ما وجد، وقد يكون عقوبة على استمراره على العدم، فما دام لا يخلص لله لا يزال مشركًا والشيطان مسلط عليه .
ثم تخصيصه ـ سبحانه ـ لمن هداه بأن استعمله ابتداء فيما خلق له تخصيص بفضله، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل؛ ولهذا يقول تعالى : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 105 ] ، وكذلك الفضل هو أعلم به، كما خص بعض الأبدان/ بقوى لا توجد في غيرها، وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية، وغير ذلك من حكمته، وتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب .
ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان قوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] هذا من تمام قوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] ، فذكر أن هذا التقليب يكون لمن لم يؤمنوا به أول مرة، وهذا عدم الإيمان، لكن يقال : هذا بعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وقد كذبوا وتركوا الإيمان، وهذه أمور وجودية؛ لكن الموجب هو عدم الإيمان، وما ذكر شرط في التعذيب، كإرسال الرسول، فإنه قد يشتغل عن الإيمان بما جنسه مباح لا يستحق به العقوبة، إلا لأنه شغله عن الإيمان، ومن الناس من يقول ضد الإيمان هو تركه، وهو أمر وجودي لا ضد له إلا ذلك .(1/288)
الفرق السابع : أن السيئات التي هي المصائب ليس لها سبب إلا ذنبه الذي من نفسه، وما يصير من الخير لا تنحصر أسبابه؛ لأنه من فضل الله يحصل بعمله وبغيره عمله، وعمله من إنعام الله عليه، وهو ـ سبحانه ـ لا يجزيه بقدر العمل، بل يضاعفه، فلا يتوكل إلا على الله ولا يرجع إلا إليه، فهو يستحق الشكر المطلق العام التام، وإنما يستحق غيره من الشكر ما يكون جزاء على ما يسره الله على يديه من الخير، كشكر الوالدين، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس؛ لكن لا يبلغ من قول أحد وإنعامه أن يشكر بمعصية الله أو يطاع بمعصيته، فإنه هو/ المنعم، قال تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] ، وقال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [ الجاثية : 31 ] ، وجزاؤه على الطاعة والشكر وعلى المعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله؛ فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق، وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } الآية [ العنكبوت : 8 ] ، وفي الآية الأخرى : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [ لقمان : 15 ] .
والمقصود أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله، صار توكله ورجاؤه له سبحانه، وإذا علم ما يستحقه من الشكر الذي لا يستحقه غيره .(1/289)
والشر انحصر سببه في النفس، فعلم من أين يأتي، فاستغفر واستعان بالله واستعاذ به مما لم يعمل بعد؛ كما قال من قال من السلف : لا يرجْوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وهذا خلاف قول الجهمية الذين يقولون : يعذب بلا ذنب، ويخافونه ولو لم يذنبوا، فإذا صدق بقوله : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، علم بطلان هذا القول، وقد تقدم قول ابن عباس وغيره : إن ما أصابهم يوم أحد كان بذنوبهم، لم يستثن من ذلك أحدا، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب لئلا يظن أنه عام مخصوص .
/الفرق الثامن : أن السيئة إذا كانت من النفس،والسيئة خبيثة مذمومة،ووصفها بالخبث في مثل قوله : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } [ النور : 26 ] ، قال جمهور السلف : الكلمات الخبيثة للخبيثين، وقال بعضهم : الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً } إلى قوله : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } [ إبراهيم : 24-26 ] ، وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل، فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث، لم يكن محلها إلا ما يناسبها، فمن أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير لم يصلح، ومن أراد أن يجعل الكذاب شاهدا لم يصلح، وكذلك من أراد أن يجعل الجاهل معلمًا، أو الأحمق سائسًا، فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة، بل إذا كان في النفس خبث طهرت، وهذبت، كما في الصحيح : ( إن المؤمنين إذا نجوا من النار وقفوا على قنطرة ) الحديث .(1/290)
وإذا علم أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، وقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } [ الزلزلة : 7، 8 ] ، وعلم أن الرب جارية أفعاله على قانون العدل والإحسان، وفي الصحيح : ( يمين الله ملأى ) الحديث، وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة، وهو ـ سبحانه ـ قد شهد أن لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط، وهم قصدوا مناقضة/المعتزلة في القدر والوعيد؛ فلهذا سلك مسلك جهم من ينتسب إلى السنة والحديث وأتباع السلف، وكذلك سلكوا في الإيمان والوعيد، مسلك المرجئة الغلاة،جهم وأتباعه، وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة :
نوع في الأسماء والصفات، فغلا في النفي، ووافقه على ذلك الباطنية والفلاسفة ونحوهم، والمعتزلة في الصفات دون الأسماء، والكلابية ومن وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث في نفي الصفات الاختيارية، والكَرَّامية ونحوهم وافقوه على أصل ذلك، وهو امتناع دوام ما لا يتناهى، وأنه يمتنع أن يكون لم يزل متكلمًا إذا شاء، وفعّالاً إذا يشاء لامتناع حوادث لا أول لها، وعن هذا الأصل نفي وجود ما لا يتناهي في المستقبل، وقال بفناء الجنة والنار، ووافقه أبو الهذيل إمام المعتزلة على هذا لكن قال تتناهى الحركات .(1/291)
فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات . وكذلك الأشعرية، ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصاري : الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة، ومن الناس من يقول : المعتزلة مخانيث الفلاسفة؛ لأنه لم يعلم أن جهما سبقهم إلى هذا الأصل، أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه، والشهرستاني يذكر أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة؛ لأنه إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية معهم بخلاف أئمة السنة، فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية، وهم المشهورون عند/ السلف بنفي الصفات، وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف .
وأما المعتزلة، فامتازوا بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدثه عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة، فيقول قتادة وغيره : أولئك المعتزلة، وكان ذلك بعد موت الحسن .
وبدعة القدرية حدثت قبل ذلك بعد موت معاوية؛ ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وابن عباس مات قبل ابن الزبير، وابن عمر مات عقب موته، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين، فبقى الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق والبصرة، وأقله كان بالحجاز فلما حدثت المعتزلة وتكلموا بالمنزلة بين المنزلتين، وقالوا : بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد، وأن النار لا يخرج منها من دخلها ضموا إلى ذلك القدر فإنه به يتم .
ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئًا من نفي الصفات، إلى أن ظهر الجعد بن درهم وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليما ـ تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ـ ثم نزل فذبحه، وهذا كان بالعراق .(1/292)
/ثم ظهر جهم من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر رأى جهم؛ ولهذا كان علماء السنة بالمشرق أكثر كلامًا في رد مذهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق، مثل إبراهيم بن طهمان، وخارجة بن مصعب، ومثل عبد الله بن المبارك، وأمثالهم ،وقد تكلم في ذمهم مالك وابن الماجشون وغيرهما، وكذلك الأوزاعي، وحماد بن زيد وغيرهم، وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه قد كان بخراسان مدة واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمانية عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ومائتين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم، فلما رد عليهم ما احتجوا به، وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه لئلا تنكسر حرمة الخلافة، فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة وخافوا فأطلقوه، وكان ابن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات من جميع الطوائف . وعلماء السنة : كابن المبارك وأحمد وإسحاق والبخاري يسمون هؤلاء جميعهم جهمية، وصار كثير من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن خصومه كانوا هم المعتزلة، وليس كذلك، بل المعتزلة نوع منهم .
والمقصود هنا أن جهما اشتهر عنه بدعتان : إحداهما : نفي الصفات . والثانية : الغلو في القدر والإرجاء . فجعل/ الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة، وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما، وأما الأشعري فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية .(1/293)
وجهم لا يثبت شيئًا من الصفات، لا الإرادة ولا غيرها، فإذا قال : إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي، فمعناه الثواب والعقاب، والأشعري يثبت الصفات كالإرادة فاحتاج إلى الكلام فيها هل هي المحبة أم لا ؟ فقال : المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها، وذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك، وأهل السنة قبله على أن الله لا يحب المعاصي .
وشاع هذا القول في كثير من الصوفية فوافقوا جهما في مسائل الأفعال والقدر، وخالفوه في الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام، فإنه من المبالغين في ذم الجهمية في نفي الصفات، وله كتاب في تكفير الجهمية، ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة، وربما كان يلعنهم، وقال بعض الناس بحضرة نظام الملك : أتلعن الأشعرية ؟ فقال : ألعن من يقول ليس في السموات إله، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وقام من عنده مغضبًا، وهو مع هذا في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال أبلغ من الأشعرية، لا يثبت سببًا ولا حكمة، بل يقول : إن مشاهدة العارف الحكم لا يبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، والحكم عنده هو المشيئة؛ لأن العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء، والحسنة والسيئة يفترقان في حظ العبد/ لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه، والالتفات إلى هذا من حظوظ النفس، ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق .
والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا من جهة المخلوق كان أعقل منهم، فإنهم يدعون أن العارف لا يفرق، وغلطوا في حق العبد وحق الرب، أما العبد فيلزمهم أن يستوى عنده جميع الحوادث، وهذا محال قطعًا، فعزلوا الفرق الرحماني، وفرقوا بالطبعي الهوائي الشيطاني، ومن هنا وقع خلق منهم في المعاصي، وآخرون في الفسوق، وآخرون في الكفر حتى جوزوا عبادة الأصنام، ثم كثير منهم ينتقل إلى الوحدة ويصرحون بعبادة كل موجود .(1/294)
والمقصود الكلام على من نفى الحكم والأسباب والعدل في القدر موافقة لجهم ـ وهي بدعته الثانية بخلاف الإرجاء، فإنه منسوب إلى طوائف غيره ـ فهؤلاء يقولون : إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه؛ ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي، والوعد والوعيد، بل ينحل عنه أو عن بعضه، ويتكلف لما يعتقده، فإنهم إذا وافقوا جهما والأشعري في أن الحسن والقبيح كونه مأمورًا أو محظورًا، وذلك فرق يعود إلى حظ العبد، وهم يدعون الفناء عن الحظوظ، فتارة يقولون في امتثال الأمر والنهي : إنه من مقام التلبيس، وتارة يقولون : يفعل هذا لأجل أهل المارستان، أي العامة، كما يقوله الشيخ المغربي، إلى أنواع أخر .
/ومن سلك مسلكهم إذا عظم الأمر والنهي غايته أن يقول كما نقل عن الشاذلي : يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي؛ مثل دعوى أن الله يعطيه على المعصية أعظم مما يعطيه على الطاعة، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات أو أفضل، ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي .(1/295)
وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات أكبر الأولياء من يكون فاجرًا، بل كافرًا، ويقولون : هذه موهبة وعطية، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء، وتكون من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان، قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 101-103 ] .
/وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضَبّ لدخلتموه ) الحديث .(1/296)
والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن عدل كثير ممن أضله الشيطان من المنتسبين إليهم إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره، واتبع ماتتلوه الشياطين، فلا يعظم من أمر القرآن بموالاته، ويعادى من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتي ببعض الخوارق التي تأتي بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين لهم، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين .
ثم منهم من يعرف أن هذا من الشياطين، ولكن يعظمه لهواه ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } [ النساء : 51، 52 ] ، وهؤلاء ضاهوا الذين قال الله تعالى فيهم : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } إلى قوله : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } [ البقرة : 101، 102 ]
ومنهم من لا يعرف أنه من الشياطين، وقد يقع في هذا طوائف من أهل الكلام والعلم، وأهل العبادة والتصوف، حتى جوزوا عبادة الكواكب والأصنام لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة التي تعينهم عليها الشياطين، لما يحصل بها بعض أغراضهم من الظلم والفواحش ،فلم يبالوا بشركهم بالله وبكفرهم به وبكتابه إذا/ نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس وتعظيمهم له لرئاسة أو مال ينالونه، وإن كانوا قد علموا الكفر والشرك ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ،واعتقاد أنه خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن للمصلحة، كما يقول ذلك من يقوله من الملاحدة الباطنية، ودخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم .(1/297)
فإن فارس كانت تعظم الأنوار، وتسجد للشمس وللنار، والروم كانوا قبل النصرانية مشركين، يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن هؤلاء ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له . وقال رحمه الله تعالى: فالنفوس مفطورة على علم ضروري موجود فيها بالخالق الذي خلق السماوات ، وأنه خلق السماوات والأرض ليس شيئ منها خلق الناس ، كما قال موسى لفرعون لما قال له :{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23، 24] وقال {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49، 50].
فصل
فقد تبين أن آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببًا في مصيبتهم، وبهذا جاء الكتاب والسنة، قال الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] .(1/298)
وسواء في ذلك المصائب السمائية، والمصائب التي تحصل بأفعال الآدميين، قال تعالى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } [ المزمل : 10 ] ، { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [ الأنعام : 34 ] ، وقال في سورة الطور بعد قوله : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ . أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ . قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ } إلى قوله : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُونَ } وإلى قوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ، { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } [ الطور : 29-48 ] ، وقال تعالى : في سورة ن : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ . فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 46-48 ] .
وقد قيل في معناه : اصبر لما يحكم به عليك، وقيل : اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آت، والأول أصح .
وحكم الله نوعان : خلق، وأمر .
فالأول : ما يقدره من المصائب .
والثاني : ما يأمر به وينهى عنه، والعبد مأمور بالصبر على هذا وعلى هذا، فعليه أن يصبر لما أمر به، ولما نهى عنه، فيفعل المأمور، ويترك المحظور، وعليه أن يصبر لما قدره الله عليه .(1/299)
وبعض المفسرين يقول : هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهذا يتوجه إن كان في الآية النهى عن القتال، فيكون هذا النهي منسوخًا، ليس جميع أنواع الصبر منسوخة، كيف والآية لم تتعرض لذلك هنا لا بنفي ولا إثبات ؟ ! بل الصبر واجب لحكم الله ما زال واجبًا، وإذا أمر بالجهاد فعليه أيضًا أن يصبر لحكم الله، فإنه يبتلى من قتالهم بما هو أعظم من، كلامهم، كما ابتلى به يوم أحد والخندق، وعليه حينئذ أن يصبر ويفعل ما أمر به من الجهاد .
/والمقصود هنا قوله : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [ الطور : 48 ] ، فإن ما فعلوه من الأذى هو مما حكم به عليك قدرًا، فاصبر لحكمه وإن كانوا ظالمين في ذلك، وهذا الصبر أعظم من الصبرعلى ما جرى وفعل بالأنبياء، وقوله : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] ، وقال : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ } [ الأنبياء : 87 ] وسواء كان مغاضبًا لقومه أو لربه،فكانت مغاضبته من أمر قدر عليه،وبصبره صبر لحكم ربه الذى قدره وقضاه،وإن كان إنما تأذى من تكذيب الناس له .
وقالت الرسل لقومهم : {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ إبراهيم : 12 ] ، وقال موسى لقومه لما قال فرعون : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ . قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 127، 128 ] ، وقال : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] .(1/300)
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 41، 42 ] ، فهؤلاء ظلموا فصبروا على ظلم الظالم لهم، وسبب نزولها المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عامة في كل ما اتصف بهذه الصفة .
/و أصل المهاجر،من هجر ما نهى الله عنه كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من هجر السوء فظلمه الناس على ترك الكفر والفسوق والعصيان حتى أخرجوه ـ لا هجر بعض أمور في الدنيا ـ فصبر على ظلمهم،فإن الله يبوئه في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر، كيوسف الصديق فإنه هجر الفاحشة حتي ألجأه ذلك هجر منزله . واللبث في السجن بعد ما ظلم، فمكنه الله حتى تبوأ من الأرض حيث يشاء .(1/301)
وقال الذين لقوا الكفار : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } [ البقرة : 250، الأعراف : 126 ] ، وقال : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ . الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال : 65، 66 ] ، وقال : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] ، فهذا كله صبر على ما قدر من أفعال الخلق، والله سبحانه مدح في كتابه الصبار الشكور، قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5، لقمان : 31، سبأ : 19، الشورى : 33 ] في غير موضع .
فالصبر والشكر على ما يقدره الرب على عبده من السراء والضراء، من النعم والمصائب، من الحسنات التي يبلوه بها والسيئات، فعليه أن يتلقى المصائب بالصبر، والنعم بالشكر، ومن النعم ما ييسره له من أفعال الخير، ومنها ما هي خارجة عن أفعاله، فيشهد القدر عند فعله للطاعات، وعند إنعام الله عليه فيشكره /ويشهده عند المصائب فيصبر، وأما عند ذنوبه فيكون مستغفرا تائبًا، كما قال : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] .
وأما من عكس هذا فشهد القدر عند ذنوبه، وشهد فعله عند الحسنات فهو من أعظم المجرمين، ومن شهد فعله فيهما فهو قدري، ومن شهد القدر فيهما ولم يعترف بالذنب ويستغفره فهو من جنس المشركين .(1/302)
وأما المؤمن فيقول : أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، كما في الحديث الصحيح الإلهي : ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم متبعًا ما أمر به من الصبر على أذى الخلق، ففي الصحيحين عن عائشة قالت : ( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له، ولا دابة، ولا شيء قط؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله ) وقال أنس : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : لم لا فعلته ؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول : ( دعوه، دعوه، فلو قضى شيء لكان ) ، وفي السنن عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه ذكر للنبي/صلى الله عليه وسلم قول بعض من آذاه فقال : ( دعنا منك، فقد أوذي موسي بأكثر من هذا فصبر ) ، فكان يصبر على أذى الناس له من الكفار والمنافقين وأذى بعض المؤمنين، كما قال تعالى : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ } [ الأحزاب : 53 ] وكان يذكر : أن هذا مقدر .
والمؤمن مأمور بأن يصبر على المقدور، ولذلك قال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ، فالتقوى فعل المأمور وترك المحظور، والصبر على أذاهم، ثم إنه حيث أباح المعاقبة قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ . وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 126، 127 ] .(1/303)
فأخبر أن صبره بالله، فالله هو الذي يعينه عليه، فإن الصبر على المكاره بترك الانتقام من الظالم ثقيل على الأنفس، لكن صبره بالله كما أمره أن يكون لله في قوله : { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [ المدثر : 7 ] ، لكن هناك ذكره في الجملة الطلبية الأمرية؛ لأنه مأمور أن يصبر لله لا لغيره، وهنا ذكره في الخبرية فقال : { وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } [ النحل : 127 ] ، فإن الصبر وسائر الحوادث لا تقع إلا بالله، ثم قد يكون ذلك وقد لا يكون، فمالا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم، ولا يقال : واصبر بالله فإن الصبر لا يكون إلا بالله، لكن يقال : استعينوا بالله واصبروا فنستعين بالله على الصبر .
/وكما أن الإنسان مأمور بشهود القدر وتوحيد الربوبية عند المصائب، فهو مأمور بذلك عند ما ينعم الله عليه من فعل الطاعات، فيشهد قبل فعلها حاجته وفقره إلى إعانة الله له، وتحقق قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .
ويدعو بالأدعية التي فيها طلب إعانة الله له علي فعل الطاعات، كقوله : ( أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) . وقوله : ( يامقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك، ويا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك ) ، وقوله : { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] ، وقوله : { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } [ الكهف : 10 ] ، ومثل قوله : ( اللهم ألهمني رشدي واكفني شر نفسي ) .(1/304)
ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] ، فهذا الدعاء أفضل الأدعية وأوجبها على الخلق، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة، وكذلك الدعاء، بالتوبة فإنه يتضمن الدعاء بأن يلهم العبد التوبة، وكذلك دعاء الاستخارة ، فإنه طلب تعليم العبد ما لم يعلمه وتيسيره له، وكذلك الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به إذا قام من الليل وهو في الصحيح : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه /من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) .
وكذلك الدعاء الذي فيه : ( اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا ) ، وكذلك الدعاء باليقين والعافية كما في حديث أبي بكر، وكذلك قوله : ( اللهم أصلح لي قلبي ونيتي ) ، ومثل قول الخليل وإسماعيل : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً } [ البقرة : 128 ] .
وهذه أدعية كثيرة تتضمن افتقار العبد إلى الله في أن يعطيه الإيمان والعمل الصالح، فهذا افتقار واستعانة بالله قبل حصول المطلوب، فإذا حصل بدعاء أو بغير دعاء، شهد إنعام الله فيه، وكان في مقام الشكر والعبودية لله، وإن هذا حصل بفضله وإحسانه لا بحول العبد وقوته .(1/305)
فشهود القدر في الطاعات من أنفع الأمور للعبد، وغيبته عن ذلك من أضر الأمور به، فإنه يكون قدريا منكرًا لنعمة الله عليه بالإيمان والعمل الصالح، وإن لم يكن قدري الاعتقاد كان قدري الحال، وذلك يورث العجب والكبر، ودعوى القوة والمنة بعمله، واعتقاد استحقاق الجزاء على الله به، فيكون من يشهد العبودية مع الذنوب والاعتراف بهاـ لا مع الاحتجاج بالقدر ـ عليها خيرًا من هذا الذي يشهد الطاعة منه، لا من إحسان الله إليه، ويكون أولئك المذنبون بما معهم من الإيمان، أفضل من طاعة بدون هذا الإيمان .
/وأما من أذنب وشهد ألا ذنب له أصلا لكون الله هو الفاعل، وعند الطاعة يشهد أنه الفاعل، فهذا شر الخلق، وأما الذي يشهد نفسه فاعلا للأمرين، والذي يشهد ربه فاعلاً للأمرين، ولا يرى له ذنبًا؛ فهذا أسوأ عاقبة من القدري، والقدري أسوأ بداية منه، كما هو مبسوط في موضع آخر .
والناس في هذا المقام أربعة أقسام : من يغضب لربه لا لنفسه، وعكسه، ومن يغضب لهما، ومن لا يغضب لهما، كما أنهم في شهود القدر أربعة أقسام : من يشهد الحسنة من فعل الله والسيئة من فعل نفسه، وعكسه، ومن يشهد الثنتين من فعل ربه، ومن يشهد الثنتين من فعل نفسه، فهذه الأقسام الأربعة في شهود الربوبية، نظير تلك الأقسام الأربعة في شهود الإلهية، فهذا تقسيم العباد فيما لله ولهم، وذاك تقسيمهم فيما هو بالله وبهم، والقسم المحض أن يعمل لله بالله، فلا يعمل لنفسه ولا بنفسه .(1/306)
والمقصود هنا، تقسيمهم فيما لله، فأعلاهم حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه : أن يصبروا على أذى الناس لهم باليد واللسان، ويجاهدون في سبيل الله، فيعاقبون ويغضبون وينتقمون لله لا لنفوسهم يعاقبون؛ لأن الله يأمر بعقوبة ذلك الشخص، ويحب الانتقام منه، كما في جهاد الكفار وإقامة الحدود، وأدناهم عكس هؤلاء يغضبون وينتقمون ويعاقبون لنفوسهم، لا لربهم، فإذا أوذى أحدهم أو خولف هواه غضب وانتقم وعاقب، ولو انتهكت محارم الله أو ضيعت حقوقه؛ لم يهمه ذلك، وهذا حال الكفار والمنافقين .
/وبين هذين وهذين قسمان : قسم يغضبون لربهم ولنفوسهم، وقسم يميلون إلى العفو في حق الله وحقوقهم، فموسى في غضبه علي قومه لما عبدوا العجل كان غضبه لله، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم في حقوق الله أبا بكر وعمر بإبراهيم وعيسى ونوح وموسى، فقال : ( إن الله يلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجر، ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وعيسى، ومثلك يا عمر كمثل نوح وموسى ) .
وأما عفو الإنسان عن حقوقه، فهذا أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وكذلك غضبه لنفسه، تركه أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وأما ما كان من باب المصائب الحاصلة بقدر الله ولم يبق فيها مذنب يعاقب، فليس فيها إلا الصبر والتسليم للقدر .
وقصة آدم وموسى كانت من هذا الباب، فإن موسى لامه لأجل ما أصابه والذرية، وآدم كان قد تاب من الذنب وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فحج آدم موسى .
وهكذا قد يصيب الناس مصائب بفعل أقوام مذنبين تابوا، مثل كافر يقتل مسلمًا ثم يسلم ويتوب الله عليه، أو يكون متأولاً لبدعة ثم يتوب من المبدعة، أو يكون مجتهدًا، أو مقلدًا مخطئًا، فهؤلاء إذا أصاب العبد أذى بفعلهم، فهو من جنس المصائب السماوية التي لا يطلب فيها قصاص من آدمي .(1/307)
/ومن هذا الباب : القتال في الفتنة . قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، وكذلك، قتال البغاة المتأولين، حيث أمر الله بقتالهم إذا قاتلهم أهل العدل فأصابوا من أهل العدل نفوسًا وأموالاً لم تكن مضمونة عند جماهير العلماء : كأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه، وهذا ظاهر مذهب أحمد .
وكذلك المرتدون إذا صار لهم شوكة فقتلوا المسلمين، وأصابوا من دمائهم وأموالهم، كما اتفق الصحابة في قتال أهل الردة : أنهم لا يضمنون بعد إسلامهم ما أتلفوه من النفوس والأموال، فإنهم كانوا متأولين، وإن كان تأويلهم باطلاً، كما أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه مضت بأن الكفار إذا قتلوا بعض المسلمين وأتلفوا أموالهم ثم أسلموا، لم يضمنوا ما أصابوه من النفوس والأموال، وأصحاب تلك النفوس والأموال كانوا يجاهدون، قد اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فعوض ما أخذ منهم على الله لا على أولئك الظالمين الذين قاتلهم المؤمنون .(1/308)
وإذا كان هذا في الدماء والأموال فهو في الأعراض أولى، فمن كان مجاهدًا في سبيل الله باللسان : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الدين وتبليغ مافي الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير، وبيان الأقوال المخالفة لذلك، والرد على من خالف الكتاب والسنة، أو باليد كقتال الكفار، فإذا/ أوذي على جهاده بيد غيره أو لسانه فأجره في ذلك على الله لا يطلب من هذا الظالم عوض مظلمته، بل هذا الظالم إن تاب وقبل الحق الذي جوهد عليه فالتوبة تجب ما قبلها { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، وإن لم يتب بل أصر على مخالفة الكتاب والسنة، فهو مخالف لله ورسوله، والحق في ذنوبه لله ولرسوله، وإن كان أيضًا للمؤمنين حق تبعًا لحق الله، وهذا إذا عوقب عوقب لحق الله ولتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله لا لأجل القصاص فقط .
والكفار إذا اعتدوا على المسلمين مثل أن يمثلوا بهم، فللمسلمين أن يمثلوا بهم كما مثلوا، والصبر أفضل، وإذا مثلوا كان ذلك من تمام الجهاد، والدعاء على جنس الظالمين الكفار مشروع مأمور به، وشرع القنوت والدعاء للمؤمنين، والدعاء على الكافرين .(1/309)
وأما الدعاء على معينين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلعن فلانًا وفلانًا، فهذا قد روى أنه منسوخ بقوله : { لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، فيما كتبته في قلعة مصر؛ وذلك لأن المعين لا يعلم أن رضى الله عنه أن يهلك، بل قد يكون ممن يتوب الله عليه، بخلاف الجنس، فإنه إذا دعى عليهم بما فيه عز الدين وذل عدوه وقمعهم كان هذا دعاء بما يحبه الله ويرضاه، فإن الله يحب الإيمان وأهل الإيمان وعلو أهل الإيمان وذل الكفار، فهذا دعاء بما يحب الله، وأما الدعاء على المعين بما لا يعلم أن الله/ يرضاه فغير مأمور به، وقد كان يفعل ثم نهى عنه؛ لأن الله قد يتوب عليه أو يعذبه .
ودعاء نوح على أهل الأرض بالهلاك، كان بعد أن أعلمه الله أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ومع هذا فقد ثبت في حديث الشفاعة في الصحيح أنه يقول : ( إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها ) ، فإنه وإن لم ينه عنها فلم يؤمر بها، فكان الأولى أن لا يدعو إلا بدعاء مأمور به واجب أو مستحب، فإن الدعاء من العبادات، فلا يعبد الله إلا بمأمور به واجب أو مستحب، وهذا لو كان مأمورًا به لكان شرعًا لنوح، ثم ننظر في شرعنا هل نسخه أم لا ؟
وكذلك دعاء موسى بقوله : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ يونس : 88 ] إذا كان دعاء مأمورًا به، بقى النظر في موافقة شرعنا له، والقاعدة الكلية في شرعنا : أن الدعاء إن كان واجبًا أو مستحبًا فهو حسن يثاب عليه الداعي، وإن كان محرمًا كالعدوان في الدماء فهو ذنب ومعصية، وإن كان مكروها فهو ينقص مرتبة صاحبه، وإن كان مباحًا مستوى الطرفين فلا له ولا عليه، فهذا هذا، والله سبحانه أعلم .
قَالَ شَيخ ُ الإِسْلام أَحْمَدُ بنُ تَيمية ـ قدس الله روحه :
( أعمال القلوب )(1/310)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
الحمد للّه نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ صلى اللّه عليه وآله وسلم .
أما بعد :
فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب ـ التي قد تسمى [ المقامات والأحوال ] ـ وهي من أصول الإيمان، وقواعد الدين، مثل / محبة اللّه ورسوله، والتوكل على اللّه، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك . اقتضى ذلك بعض من أوجب اللّه حقه من أهل الإيمان، واستكتبها وكل منا عجلان .
فأقول : هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق ـ المأمورين في الأصل ـ باتفاق أئمة الدين، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات : ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات .
فالظالم لنفسه : العاصي بترك مأمور أو فعل محظور .
والمقتصد : المؤدي الواجبات والتارك المحرمات .
والسابق بالخيرات : المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، والتارك للمحرم والمكروه . وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه : إما بتوبة ـ واللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك . وكل من الصنفين : المقتصدين والسابقين من أولياء اللّه الذين ذكرهم في كتابه بقوله : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] . فحد أولياء اللّه : هم المؤمنون المتقون، ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم : المقتصدون، / وخاص وهم : السابقون، وإن كان السابقون هم أعلى درجات كالأنبياء والصديقين .(1/311)
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال : ( يقول اللّه : من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلىَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ) .
وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان، فمعه من ولاية اللّه بقدر إيمانه وتقواه، كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهذا قول جميع أصحاب رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون : إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان .
وأما القائلون بالتخليد، كالخوارج والمعتزلة القائلين : إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر، لا قبل دخول النار ولا بعده، فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب، وحسنات وسيئات، بل من أثيب لا يعاقب، ومن عوقب لم يثب . ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة كثير ليس هذا موضعه، وقد بسطناه في مواضعه .(1/312)
وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب، كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ أن رجلًا كان يسمى حمارًا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم . وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به مرة فقال رجل : لعنه اللّه ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه فإنه يحب اللّّه ورسوله ) .
فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا للّه ورسوله، وحب اللّه ورسوله أوثق عرى الإيمان، كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطًا عليه عند اللّه ورسوله من ذلك الوجه، كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه ذكر الخوارج فقال : ( يحقر / أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) .
وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح : ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ) .(1/313)
ولهذا قال أئمة الإسلام، كسفيان الثوري وغيره : إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها . ومعنى قولهم : إن البدعة لا يتاب منها : أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه اللّه ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله . فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب .(1/314)
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه اللّّه ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى ـ سبحانه وتعالى ـ من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل / البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا . وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا . وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [ النساء : 66ـ 68 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الحديد : 28 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 15، 16 ] . وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة .(1/315)
وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، كما قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ الصف : 5 ] ، وقال تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } [ البقرة : 10 ] ، وقال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 109، 110 ] . وهذا استفهام نفي وإنكار، أي : وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وإنا نقلب أفئدتَهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ [ إنها ] بالكسر تكون / جزمًا بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها .
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقًا . وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذَّابًا ) ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر، وأن الكذب يستلزم الفجور .(1/316)
وقد قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13، 14 ] ؛ ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة وأحب ألا ينفره ولا يشعب قلبه أمره بالصدق؛ ولهذا كان يكثر في كلام مشائخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولوا : قل لمن لا يصدق : لا يتبعني . ويقولون : الصدق سيف اللّه في الأَرْض، وما وضع على شيء إلا قطعه، ويقول يوسف بن أسباط وغيره : ما صدق اللّّه عبدٌ إلا صنع له . وأمثال هذا كثير .
والصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام، فإن / المظهرين للإسلام ينقسمون إلى : مؤمن ومنافق، والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر اللّه حقيقة الإيمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى : { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14، 15 ] ، وقال تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 8 ] .(1/317)
فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة، وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] ، قال ابن عباس : ما بعث اللّّه نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه .(1/318)
وقال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] ، فذكر ـ تعالى ـ أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم اللّه من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا . والكتاب والحديد وإن اشتركا في الإنزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر حيث نزل الكتاب من اللّه، كما قال تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر : 1 ] ، وقال تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] ، والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها .(1/319)
وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] ، وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] ، وقوله تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، وقوله تعالى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 77 ] . ونحو ذلك في القرآن كثير .(1/320)
ومما ينبغي أن يعرف : أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي / الأعمال، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . ويقال : حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة، ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك . ولهذا يريدون بالصادق : الصادق في إرادته وقصده وطلبه، وهو الصادق في عمله، ويريدون الصادق في خبره وكلامه، والمنافق ضد المؤمن الصادق، وهو الذي يكون كاذبًا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله . قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } الآيتين [ النساء : 142، 143 ] .
وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو : الاستسلام للّه لا لغيره، كما قال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ } الآية [ الزمر : 29 ] . فمن لم يستسلم للّه فقد استكبر، ومن استسلم للّّه ولغيرة فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك والكبر . ويستعمل لازمًا ومتعديًا كما قال تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] ، وقال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] . وأمثال ذلك في القرآن كثير .(1/321)
/ولهذا كان رأس الإسلام [ شهادة أن لا إله إلا اللّه ] ، وهي متضمنة عبادة اللّه وحده وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل اللّه من الأولين والآخرين دينا سواه، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] ، وقال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [ آل عمران : 18، 19 ] .
وهذا الذي ذكرناه، مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة : هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده : ( الإسلام عَلانية، والإيمان في القلب ) ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بَيِّن، والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعِرْضِه ودِينهِ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى اللّّه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ) ، وعن أبي هريرة قال : القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده .(1/322)
سُئلَ الشيخ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن قوله عز وجل : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [ البقرة : 21 ] ، فما العبادة وفروعها ؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا ؟ وما حقيقة العبودية ؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة أم فوقها شيء من المقامات ؟ وليبسطوا لنا القول في ذلك .
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، العبادة : هي اسم جامع لكل ما يحبه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة .
وكذلك حب اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، / والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة للّه .
وذلك أن العبادة للّه هي الغاية المحبوبة له والمرضية له، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ المؤمنون : 23 ] ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم .(1/323)
وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] ، كما قال في الآية الأخرى : { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] . وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] .
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ . يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَّ } [ الأنبياء : 19، 20 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 206 ] ، وذم المستكبرين عنها بقوله : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .(1/324)
ونعت صفوة خلقه بالعبودية له، فقال تعالى : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } [ الإنسان : 6 ] ، وقال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } الآيات [ الفرقان : 63 ] ، ولما قال الشيطان : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39، 40 ] ، قال اللّه تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] .
وقال في وصف الملائكة بذلك : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26ـ 28 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 ـ 95 ] .
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي أدعيت فيه الأُلوهية والنبوة : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الزخرف : 59 ] ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى / ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا : عبد اللّه ورسوله ) .(1/325)
وقد نعته اللّه بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } [ الإسراء : 1 ] ، وقال في الإيحاء : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] ، وقال في الدعوة : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن : 19 ] ، وقال في التحدي : { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، فالدين كله داخل في العبادة .
وقد ثبت في الصحيح : أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : ( أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) . قال : فما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدرخيره وشره ) . قال : فما الإحسان ؟ قال ( أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( . ثم قال : في آخر الحديث : ) هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم ) فجعل هذا كله من الدين .
والدين يتضمن معنى الخضوع والذل . يقال : دنته فدان، أي : ذللته فذل، ويقال : يدين اللّه، ويدين للّه أي : يعبد اللّه ويطيعه ويخضع له، فدين اللّه عبادته وطاعته والخضوع له .
/والعبادة أصل معناها : الذل ـ أيضًا ـ يقال : طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام .
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل للّه بغاية المحبة له، فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب، ثم العشق وآخرها التتيم يقال : تيم اللّه، أي : عبد اللّه، فالمتيم المعبد لمحبوبه .(1/326)
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحب ولده وصديقه؛ ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة اللّه ـ تعالى ـ بل يجب أن يكون اللّه أحب إلى العبد من كل شىء، وأن يكون اللّه أعظم عنده من كل شىء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا اللّه .
وكل ما أحب لغير اللّه فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر اللّه كان تعظيمه باطلاً، قال اللّه تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] ، فجنس المحبة تكون للّه ورسوله، كالطاعة، فإن الطاعة للّه ورسوله / والإرضاء للّه ورسوله : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، والإيتاء للّه ورسوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 59 ] .(1/327)
وأما العبادة وما يناسبها من التوكل، والخوف، ونحو ذلك فلا يكون إلا للّه وحده، كما قال تعالى : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، فالإيتاء للّه والرسول كقوله : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ] ، وأما الحسب وهو الكافي فهو اللّه وحده، كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64 ] ، أي : حسبك وحسب من اتبعك اللّه .
ومن ظن أن المعنى حسبك اللّه والمؤمنون معه، فقد غلط غلطًا فاحشاً، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وقال تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] .(1/328)
وتحرير ذلك : أن العبد يراد به المعبد الذي عبده اللّه فذلله ودبره / وصرفه، وبهذا الاعتبار المخلوقون كلهم عباد اللّه، من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاؤوا . وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عمران : 83 ] .
فهو ـ سبحانه ـ رب العالمين وخالقهم، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق إلا هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به، بخلاف من كان جاهلاً بذلك، أو جاحداً له مستكبراً على ربه لا يقر ولا يخضع له، مع علمه بأن اللّه ربه وخالقه .
فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذاباً على صاحبه، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ] ، وقال تعالى : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] .(1/329)
/فإن اعترف العبد أن اللّه ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية اللّه، وهذا العبد يسأل ربه، فيتضرع إليه ويتوكل عليه، لكن قد يطيع أمره، وقد يعصيه، وقد يعبده مع ذلك، وقد يعبد الشيطان والأصنام .
ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة والنار، ولايصير بها الرجل مؤمناً . كما قال تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] ، فإن المشركين كانوا يقرون أن اللّه خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره، قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25، الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } إلى قوله : { قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84 ـ 89 ] .(1/330)
وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها، يشهد هذه الحقيقة وهي الحقيقة الكونية، التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، وإبليس معترف بهذه الحقيقة، وأهل النار . قال إبليس : { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الحجر : 36 ] ، وقال : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] ، وقال : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] ، وقال : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } [ الإسراء : 62 ] ، وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه بأن اللّه ربه وخالقه وخالق غيره، وكذلك أهل النار قالوا : { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } [ المؤمنون : 106 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } [ الأنعام : 30 ] .
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته، وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء اللّه، وأهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان، كان من أشر أهل الكفر والإلحاد .(1/331)
ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة، ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين باللّه ورسوله . حتى يدخل في النوع الثاني، من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابداً للّه لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمره وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين، ويعادي أعداءه، وهذه العبادة متعلقة بإلهيته؛ ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله إلا اللّه بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده، أو يعبد معه إلهًا آخر، فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك، وهذه العبادة هي التي يحبها اللّه ويرضاها، وبها وصف المصطفين من عباده، وبها بعث رسله .
وأما العبد، بمعنى المعبد، سواء أقر بذلك أو أنكره، فتلك يشترك / فيها المؤمن والكافر . وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة اللّه ودينه وأمره الشرعي، التي يحبها ويرضاها، ويوالى أهلها، ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر التي من اكتفى بها، ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته للّه، بحسب ما نقص من الحقائق الدينية .
وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق، والتوحيد، والعرفان ما لا يحصيهم إلا اللّه الذي يعلم السر والإعلان، وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر ـ رحمه اللّه ـ فيما ذكر عنه، فبين أن كثيراً من الرجال، إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر .(1/332)
والذي ذكره الشيخ ـ رحمه اللّه ـ هو الذي أمر اللّه به ورسوله، لكن كثيراً من الرجال غلطوا، فإنهم قد يشهدون ما يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جار بمشيئة اللّه، وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، / فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به، ونحو ذلك، ديناً وطريقاً وعبادة، فيضاهون المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، وقالوا : { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] ، وقالوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] .
ولو هدوا؛ لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب، التي تصيبنا، كالفقر والمرض والخوف، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . وقال بعض السلف : هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند اللّه فيرضى ويسلم، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 22، 23 ] .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( احتج آدم وموسى، فقال موسى : أنت آدم الذي خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك اللّه برسالته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً علي قبل أن أخلق ؟ قال : نعم . قال : فحج آدم موسى ) .(1/333)
/وآدم ـ عليه السلام ـ لم يحتج على موسى بالقدر، ظنًا أن المذنب يحتج بالقدر، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذراً لكان عذرا لإبليس، وقوم نوح، وقوم هود، وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضاً؛ لأجل الذنب، فإن آدم قد تاب إلى ربه، فاجتباه وهدى، ولكن لامه؛ لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة؛ ولهذا قال : فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوبًا قبل أن أخلق، فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً، وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا باللّه رباً .
وأما الذنوب، فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب، فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب . قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ، وقال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، وقال يوسف : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .(1/334)
وكذلك ذنوب العباد، يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ـ بحسب قدرته ـ ويجاهد في سبيل اللّه الكفار والمنافقين، ويوالى أولياء اللّه، ويعادي أعداء اللّه، ويحب في اللّه، ويبغض في اللّه . كما قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 1ـ 4 ] ، وقال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [ المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 53 ] ، وقال : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ .(1/335)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } [ فاطر : 19ـ22 ] ، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } [ الزمر : 29 ] ، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله : { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ النحل : 75، 76 ] ، وقال تعالى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ] .
ونظائر ذلك، مما يفرق اللّه فيه بين أهل الحق، والباطل، وأهل الطاعة، وأهل /المعصية، وأهل البر، وأهل الفجور، وأهل الهدى، والضلال، وأهل الغي، والرشاد، وأهل الصدق والكذب .
فمن شهد الحقيقة الكونية، دون الدينية سوى بين هذه الأجناس المختلفة التي فرق اللّه بينها غاية التفريق، حتى يؤول به الأمر إلى أن يسوى اللّه بالأصنام، كما قال تعالى عنهم : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97، 98 ] بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا اللّه بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقاً لكل موجود، إذ جعلوه هو وجود المخلوقات، وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد .(1/336)
وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد لا بمعنى أنهم معبدون، ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب ] الفصوص [ ، وأمثاله من الملحدين المفترين، كابن سبعين وأمثاله، ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود الحقيقة، لا كونية ولا دينية، بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم، وممدوح نعتًا للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا، هو وجود هذا عندهم .
/وأما المؤمنون باللّه ورسوله، عوامهم وخواصهم، الذين هم أهل الكتاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن للّه أهلين من الناس ) قيل : من هم يا رسول اللّه ؟ قال : ( أهل القرآن هم أهل اللّه، وخاصته ) . فهؤلاء يعلمون أن اللّّه رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأن الخالق ـ سبحانه ـ مباين للمخلوق، ليس هو حالاً فيه ولا متحداً به ولا وجوده وجوده .
والنصارى، كفرهم اللّه بأن قالوا بالحلول والاتحاد بالمسيح خاصة، فكيف من جعل ذلك عامًا في كل مخلوق ؟ .
ويعلمون مع ذلك أن اللّه أمر بطاعته، وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته، ومعصية رسوله، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن على الخلق أن يعبدوه، فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك، كما قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .(1/337)
ومن عبادته وطاعته : الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ـ بحسب الإمكان ـ والجهاد في سبيله، لأهل الكفر والنفاق . فيجتهدون في إقامة دينه، مستعينين به، دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يخاف من ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك، إذا آن أوان البرد / دفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه . كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول اللّه، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر اللّه شيئًا ؟ فقال : ( هي من قدر اللّه ) . وفي الحديث : ( إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض ) . فهذا حال المؤمنين باللّه ورسوله العابدين للّه وكل ذلك من العبادة .
وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية، وهي ربوبيته ـ تعالى ـ لكل شيء، ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال .
فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقًا عاماً، فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة، وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، وقالوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] .(1/338)
وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضاً، بل كل من احتج بالقدر، فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما فعل، فلابد إذا ظلمه ظالم، أو ظلم الناس ظالم، وسعى في الأرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من / أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر، وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوان أمثاله . فيقال له : إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك : حجة . وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لايطردون هذا القول ولا يلتزمونه، وإنما هم بحسب آرائهم وأهوائهم، كما قال فيهم بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به .
ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة، فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلاً، وأثبت له صنعاً، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن اللّّّه هو المتصرف فيه، كما تحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد .
وقد يقولون : من شهد الإرادة، سقط عنه التكليف، ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة، فهؤلاء لا يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن اللّه خالق أفعال العباد، وأنه يدبر جميع الكائنات، وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علماً، وبين من يراه شهوداً، فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط، ولكن عمن / يشهده، فلا يرى لنفسه فعلاً أصلاً، وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعاً من التكليف على هذا الوجه .
وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد .(1/339)
وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم، عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه، كما ضاق نطاق المعتزلة، ونحوهم من القدرية عن ذلك . ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة اللّه العامة وخلقه لأفعال العباد، وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر، ونفوا الأمر والنهي، في حق من شهد القدر، إذ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقًا . وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد، وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية؛ ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي، وصار من الخاصة .
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة، وقول هؤلاء كفر صريح . وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضراً إلى / أن يموت، لا يسقط عنه الأمر والنهي، لا بشهوده القدر، ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عرفه، وبين له فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل . وقد كثرت مثل هذه المقالات في المستأخرين .
وأما المستقدمون من هذه الأمة، فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم .
وهذه المقالات هي محادة للّه ورسوله، ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه، وإن كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول، وطريق أولياء اللّه المحققين، فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلاة لا تجب عليه؛ لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية، أو أن الخمر حلال له؛ لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر، أو أن الفاحشة حلال له؛ لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب، ونحو ذلك .(1/340)
ولا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع اللّه، وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر اللّه . فهؤلاء الأصناف / فيهم شبه من المشركين، إما أن يبتدعوا، وإما أن يحتجوا بالقدر، وإما أن يجمعوا بين الأمرين . كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] ، وكما قال تعالى عنهم : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] .(1/341)
وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام، والعبادة التي لم يشرعها اللّه بمثل قوله تعالى : { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ } إلى آخر السورة [ الأنعام : 138-165 ] ، وكذلك في سورة الأعراف في قوله : { يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } إلى قوله : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } إلى قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلى قوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ . قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } إلى قوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 27ـ33 ] .(1/342)
/وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة، كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة . وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويجده، ونحو ذلك . وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقًا، بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة، وأمرهم باتباعها، دون اتباع أمر اللّه ورسوله، نظير بدع أهل الكلام من الجهمية، وغيرهم، الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها، دون ما دلت عليه السمعيات . ثم الكتاب والسنة، إما أن يحرفوه عن مواضعه، وإما أن يعرضوا عنه بالكلية، فلا يتدبرونه ولا يعقلونه، بل يقولون : نفوض معناه إلى اللّه، مع اعتقادهم نقيض مدلوله . وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة، وجدت جهليات واعتقادات فاسدة .
وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء اللّه، المخالفة للكتاب والسنة، وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء اللّه لا أولياؤه .
وأصل ضلال من ضل، هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند اللّه، واختياره الهوي على اتباع أمر اللّه، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك، هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق، ووجد بحسب محبته . فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان اللّه ورسوله أحب إليه مما / سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار ) . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ذاق طعم الإيمان من رضى باللّه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ) .(1/343)
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات، فكل بحسبه، قيل لسفيان بن عيينة : ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم ؟ ! فقال : أنسيت قوله تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } [ البقرة : 93 ] ؟ ! ، أو نحو هذا من الكلام . فعباد الأصنام يحبون آلهتهم، كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، وقال : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } [ النجم : 23 ] ؛ ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة، التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان . وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم، ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة .(1/344)
فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته، وطاعة رسوله لا يكون متبعاً لدين، شرعه اللّه، كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } إلى قوله : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ الجاثية : 17، 18 ] ، بل يكون متبعاً لهواه بغير هدى من اللّه، قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه اللّه، وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة، كما أخبر اللّه به عن المشركين، كما تقدم .
ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم قدراً، وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة، واجتناب المحرمات المشهورة، لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة، ظانين أن العارف إذا شهد [ القدر ] أعرض عن ذلك، مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء، ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا غلط عظيم . فإن اللّه قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون ) ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بأن اللّه كتب المقادير فقالوا : يا رسول اللّّه، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال : ( لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة، فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسييسر لعمل أهل الشقاوة ) .(1/345)
/فما أمر اللّه به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وفي قوله : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] ، وقول شعيب ـ عليه السلام ـ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] .
ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات، فتنقص بقدر ذلك .
ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة، أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة، ونحو ذلك، فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة، والشكر، ونحو ذلك .
فهذه الأمور ونحوها كثيراً ما تعرض لأهل السلوك والتوجه، وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر اللّه الذي بعث به رسوله في كل وقت . كما قال الزهري : كان من مضى من سلفنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة . وذلك أن السنة ـ كما قال مالك رحمه اللّه ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق .
والعبادة، والطاعة، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد، ولها أصلان :
/أحدهما : ألا يعبد إلا اللّه .(1/346)
والثاني : أن يعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من البدع . قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، وقال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [ النساء : 125 ] ، فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات . والحسنات، هي ما أحبه اللّه ورسوله، وهو ما أمر به أمر إىجاب، أو استحباب، فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة، فإن اللّه لايحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات، ولا من العمل الصالح، كما أن من يعمل ما لايجوز كالفواحش، والظلم ليس من الحسنات، ولا من العمل الصالح .
وأما قوله : { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وقوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } ، فهو إخلاص الدين للّه وحده، وكان عمر بن الخطاب يقول : اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً .
وقال الفضيل بن عياض في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ هود : 7، الملك : 2 ] ، قال : أخلصه، وأصوبه . قالوا : يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : / إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة .(1/347)
فإن قيل : فإذا كان جميع ما يحبه اللّه داخلاً في اسم العبادة، فلماذا عطف عليها غيرها، كقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال نوح : { أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } [ نوح : 3 ] ، وكذلك قول غيره من الرسل . قيل : هذا له نظائر، كما في قوله : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] ، والفحشاء من المنكر، وكذلك قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [ النحل : 90 ] ، وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان، كما أن الفحشاء والبغي من المنكر، وكذلك قوله : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } [ الأعراف : 170 ] ، وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب، وكذلك قوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } [ الأنبياء : 90 ] ، ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات، وأمثال ذلك في القرآن كثير .
وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصًا له بالذكر ؛ لكونه مطلوباً بالمعنى العام، والمعنى الخاص، وتارة تكون دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران، فإذا أفرد عم، وإذا قرن بغيره خص، كاسم الفقير، والمسكين لما /أفرد أحدهما في مثل قوله : { لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 273 ] ، وقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ المائدة : 89 ] ، دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] صارا نوعين .(1/348)
وقد قيل : إن الخاص المعطوف على العام لايدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب . والتحقيق أن هذا ليس لازماً، قال تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] .
وذكر الخاص مع العام يكون، لأسباب متنوعة، تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وتارة؛ لكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم، كما في قوله : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } [ البقرة : 2ـ4 ] ، فقوله : يؤمنون بالغيب يتناول الغيب الذي يجب الإيمان به، لكن فيه إجمال، فليس فيه دلالة على أن من الغيب، ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك . وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب، وبالإخبار بالغيب، وهو ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك .(1/349)
/ومن هذا الباب قوله تعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ } [ العنكبوت : 45 ] ، وقوله : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } [ الأعراف : 170 ] ، وتلاوة الكتاب، هي اتباعه، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } [ البقرة : 121 ] ، قال : يحللون حلاله ويحرمون حرامه، ويؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه، فاتباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها، لكن خصها بالذكر لمزيتها . وكذلك قوله لموسى : { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] ، وإقامة الصلاة لذكره من أجل عبادته، وكذلك قوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [ الأحزاب : 70 ] ، وقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [ المائدة : 35 ] ، وقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 119 ] ، فإن هذه الأمور هي أيضاً من تمام تقوى اللّه، وكذلك قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، فإن التوكل والاستعانة هي من عبادة اللّه، لكن خصت بالذكر، ليقصدها المتعبد بخصوصها، فإنها هي العون على سائر أنواع العبادة إذ هو ـ سبحانه ـ لا يعبد إلا بمعونته .(1/350)
إذا تبين هذا، فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته للّه، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه . أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم . قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } / إلى قوله : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26ـ 28 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } إلى قوله : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 ـ 95 ] ، وقال تعالى في المسيح : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الزخرف : 59 ] ، وقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ .(1/351)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 19، 20 ] ، وقال تعالى : { لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } إلى قوله : { وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } [ النساء : 172، 173 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ . فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } [ فصلت : 37، 38 ] ، وقال تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } إلى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 205، 206 ] .(1/352)
وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة، وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن، وقد أخبر أنه أرسل جميع الرسل بذلك . / فقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى لبني إسرائيل : { يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِي } [ العنكبوت : 56 ] ، { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي } [ البقرة : 41 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] ، وقال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي } [ الذاريات : 56 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } [ الزمر : 11ـ 15 ] .
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة اللّه، كقول نوح ومن بعده عليهم السلام : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ المؤمنون : 23 ] ، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ) .(1/353)
وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات، قال الشيطان : { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ّ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39، 40 ] ، قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، وقال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وقال في حق يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، وقال : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ . إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 159، 160 ] ، وقال : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99، 100 ] ، وبها نعت كل من اصطفي من خلقه، كقوله : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ . إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ .(1/354)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } [ ص : 45ـ47 ] ، وقوله : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 17 ] ، وقال عن سليمان : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 30 ] ، وعن أيوب : { نِعْمَ الْعَبْدُ } [ ص : 44 ] ، وقال : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ } [ ص : 41 ] ، وقال عن نوح عليه السلام : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [ الإسراء : 3 ] ، وقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] ، وقال {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] ، وقال : { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] ، وقال : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] ، وقال : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } [ الإنسان : 6 ] ، وقال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } [ الفرقان : 63 ] ، ومثل هذا كثير متعدد في القرآن .
سُئلَ شَيْخُ الإِسْلام ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
ما عمل أهل الجنة ؟ وما عمل أهل النار ؟
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، عمل أهل الجنة : الإيمان والتقوى، وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان، فأعمال أهل الجنة الإيمان باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، والشهادتان : شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت . وأن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .(1/355)
ومن أعمال أهل الجنة : صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين والبهائم .
/ومن أعمال أهل الجنة : الإخلاص للّه، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله، وخشية اللّه ورجاء رحمته، والإنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه .
ومن أعمال أهل الجنة : قراءة القرآن، وذكر اللّه، ودعاؤه، ومسألته، والرغبة إليه .
ومن أعمال أهل الجنة : الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين .
ومن أعمال أهل الجنة : أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فإن اللّه أعد الجنة للمتقين، الذين ينفقون في السراء، والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه يحب المحسنين .
ومن أعمال أهل الجنة : العدل في جميع الأمور، وعلى جميع الخلق حتى الكفار، وأمثال هذه الأعمال .
وأما عمل أهل النار، فمثل : الإشراك باللّه، والتكذيب بالرسل، والكفر والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من / روح اللّه، والأمن من مكر اللّه، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض اللّه، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوق دون الخالق، والعمل رياء وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب بالباطل، والاستهزاء بآيات اللّه، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة .
ومن عمل أهل النار : السحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم اللّه بغير الحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .(1/356)
وتفصيل الجملتين لا يمكن، لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة اللّه ورسوله، وأعمال أهل النار كلها تدخل في معصية اللّه ورسوله، { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ النساء : 13، 14 ] واللّه أعلم .
سُئِلَ عن [ إحياء علوم الدين ] و [ قوت القلوب ] . . . إلخ .
فأجاب :
أما [ كتاب قوت القلوب ] و [ كتاب الإحياء ] تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب : مثل الصبر والشكر، والحب والتوكل، والتوحيد ونحو ذلك . وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر، وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم، من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقًا، وأبعد عن البدعة مع أن في [ قوت القلوب ] أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة .
وأما ما في [ الإحياء ] من الكلام في [ المهلكات ] مثل الكلام على الكبر، والعجب والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ماهو مقبول ومنه ماهو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه .
و [ الإحياء ] فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا / ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين .
وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه . وقالوا : مرضه [ الشفاء ] يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة .
وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة .
وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم .(1/357)
وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه .
فَصل
في الصراط المستقيم، في الزهد والعبادة والورع، في ترك المحرمات والشهوات، والاقتصاد، في العبادة . وإن لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة، فإن أصحابها لابد أن يقعوا في الآصار والأغلال، وإن كانوا متأولين، فلابد لهم من اتباع الهوى، ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الأهواء، فإن طريق السنة علم وعدل وهدي، وفي البدعة جهل وظلم، وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس .
والرسول، ما ضل وما غوى، والضلال : مقرون بالغي، فكل غاو ضال، والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلال، وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع، كما كان السلف ينهون عنهما، قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ مريم : 59 ] .
/والغي في الأصل : مصدر غوي يغوي غيًا، كما يقال : لوى يلوي ليًا . وهو ضد الرشد، كما قال تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } [ الأعراف : 146 ] .
والرشد : العمل الذي ينفع صاحبه، والغي : العمل الذي يضر صاحبه، فعمل الخير رشد، وعمل الشر غي، ولهذا قالت الجن : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [ الجن : 10 ] ، فقابلوا بين الشر وبين الرشد، وقال في آخر السورة : { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } [ الجن : 21 ] ، ومنه الرشيد، الذي يسلم إليه ماله . وهو الذي يصرف ماله فيما ينفع لا فيما يضر .(1/358)
وقال الشيطان : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم فيطيعونه، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } [ إبراهيم : 22 ] ، وقال : { وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } إلى أن قال : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ . وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } [ الشعراء : 91ـ95 ] ، وقال : { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [ القصص : 63 ] ، وقال : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [ النجم : 2 ] .
ثم إن الغي، إذا كان اسمًا لعمل الشر الذي يضر صاحبه، فإن عاقبة العمل أيضًا تسمى غيًا، كما أن عاقبة الخير تسمى رشدًا، كما / يسمى عاقبة الشر شرًا، وعاقبة الخير خيرًا، وعاقبة الحسنات حسنات، وعاقبة السيئات سيئات .
فالحسنات والسيئات، في كتاب اللّه يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من جنس العمل، فمن عمل خيرًا وحسنات لقي خيرًا وحسنات، ومن عمل شرًا وسيئات لقي شرًا وسيئات . كذلك من عمل غيًا لقى غيًا، وترك الصلاة واتباع الشهوات غي يلقي صاحبه غيًا . فلهذا قال الزمخشري : كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد . كما قيل :
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائمًا(1/359)
وقال الزجاج : جزاؤه غي، لقوله : { يَلْقَ أَثَامًا } [ الفرقان : 68 ] ، أي مجازات آثام . وفي الحديث المأثور : إن غيا واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها، وهذا تعبير عن ملاقات الشر، وقال سبحانه : { أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] ، فإن الصلاة فيها إرادة وجه اللّه . كما قال تعالى : { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] ، أي يصلون صلاة الفجر والعصر . والداعي يقصد ربه ويريده، فتكون القلوب في هذه الأشياء مريدة لربها محبة له .
/واتباع الشهوات : هو اتباع ما تشتهيه النفس، فإن الشهوات، جمع شهوة، والشهوة هي في الأصل مصدر، ويسمي المشتهي شهوة . تسمية للمفعول باسم المصدر . قال تعالى : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [ النساء : 27 ] فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات، فإنه يريد أن يتوب علينا، أي فاللّه يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به، { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } وهم الغاوون { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عدولًا عظيمًا، فإن أصل الميل العدول، فلابد منه للذين يتبعون الشهوات، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) رواه أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان .(1/360)
فأخبر أنا لا نطيق الاستقامة أو ثوابها إذا استقمنا، وقال : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } [ النساء : 129 ] ، فقوله : كل الميل أي : يريد نهاية الميل، يريد الزيغ عن الطريق، والعدول عن سواء الصراط إلى نهاية الشر، بل إذا بليت بذلك فتوسط، وعد إلى الطريق بالتوبة .
كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته . كذلك المؤمن يحول ثم يرجع / إلى ربه ) ، قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } إلى قوله : { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [ آل عمران : 133ـ 136 ] ، فلم يقل : لا يظلمون ولا يذنبون، بل قال : { إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ آل عمران : 135 ] ، أي بذنب آخر غير الفاحشة، فعطف العام على الخاص . كما قال موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } [ القصص : 16 ] ، وقالت بلقيس : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } [ النمل : 44 ] ، وقال تعالي عمومًا عن أهل القرى المهلكة : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه، وبعصيانهم لأنبيائهم، وبتركهم التوبة إلى ربهم .(1/361)
وقوله تعالى : { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 27 ] ، ثم قال : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا } [ النساء : 28 ] . قال مجاهد وغيره : يتبعون الشهوات الزنا، وقال ابن زيد : هم أهل الباطل . وقال السدي : هم اليهود والنصارى والجميع حق، فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر، وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية .
ثم ذكر أنه خلق الإنسان ضعيفًا، وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات . فلابد له من شهوة مباحة يستغنى بها عن المحرمة، ولهذا قال طاوس ومقاتل : ضعيف في قلة الصبر عن النساء، وقال الزجاج وابن كيسان : ضعيف العزم عن قهر الهوى . وقيل : ضعيف في أصل الخلقة، لأنه خلق من ماء مهين، يروي ذلك / عن الحسن، لكن لابد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الآية، فإنه قال : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه . كما أباح نكاح الفتيات، وقد قال قبل ذلك : { لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النساء : 25 ] .
فهو ـ سبحانه ـ مع إباحته نكاح الإماء عند عدم الطول، وخشية العنت، قال : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [ النساء : 25 ] ، فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت، وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة، فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه .
وكذلك من أباح الاستمناء، عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل، فقد روى عن ابن عباس : أن نكاح الإماء خير منه، وهو خير من الزنا، فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل .(1/362)
لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقًا، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد . واختاره ابن عقيل في المفردات والمشهور عنه ـ يعني عن أحمد ـ أنه محرم إلا إذا خشي العنت . والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت . فإذا كان اللّه قد قال في نكاح الإماء : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ففيه أولى . وذلك يدل على أن الصبر عن كلاهما ممكن .
فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه، فذلك لتسهيل التكليف، كما قال تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا } .
و الاستمناء لا يباح عند أكثر العلماء سلفًا وخلفًا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك . وكلام ابن عباس وما روى عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت، وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك لتكسير شدة عنته وشهوته .
وأما من فعل ذلك تلذذًا أو تذكرًا أو عادة، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها . فهذا كله محرم لا يقول به أحمد، ولا غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات .
وأما الصبر عن المحرمات فواجب، وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها . قال تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [ النور : 33 ] ، و الاستعفاف : هو ترك المنهي عنه . كما في الحديث / الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من يستعفف يعفه اللّه، ومن يستغن يغنه اللّه، ومن يتصبر يصبره اللّه، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر ) .(1/363)
فالمستغني، لا يستشرف بقلبه . و المستعف : هو الذي لا يسأل الناس بلسانه، والمتصبر : هو الذي لا يتكلف الصبر . فأخبر أنه من يتصبر يصبره اللّه . وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة، بأن يصبر على مرارة الحاجة، لا يجزع مما ابتلى به من الفقر، وهو الصبر في البأساء والضراء . قال تعالى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } [ البقرة : 177 ] .
والضراء : المرض . وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف . والصبر على ما ابتلى به باختياره، كالجهاد، فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره، ولذلك إذا ابتلى بالعنت في الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لأن هذا الصبر من تمام الجهاد . وكذلك لو ابتلى في الجهاد بفاقة، أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل . كما قد بسط هذا في مواضع .
وكذلك ما يؤذي الإنسان به في فعله للطاعات، كالصلاة، والأمر بالمعروف، / والنهي عن المنكر، وطلب العلم من المصائب، فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك، وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات : من رئاسة، وأخذ مال، وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ماهو دون ذلك، فإن أعمال البر، كلما عظمت كان الصبر عليها أعظم مما دونهما .
فإن في العلم، والإمارة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة، والحج، والصوم، والزكاة، من الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها . ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور . فإذا كانت النفس غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه، كما تطمع مع القدرة، فإنها مع القدرة تطلب تلك الأمور المحرمة، بخلاف حالها بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد، بل هو من أفضل الجهاد . وأكمل من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الصبر عن المحرمات، أفضل من الصبر على المصائب .(1/364)
الثاني : أن ترك المحرمات مع القدرة عليها، وطلب النفس لها، أفضل من تركها بدون ذلك .
الثالث : أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني ـ كمن / خرج لصلاة، أو طلب علم، أو جهاد، فابتلى بما يميل إليه من ذلك فإن صبره عن ذلك ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور، بخلاف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل صالح، ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلاث يقول : لا تدخل على سلطان، وإن قلت : آمره بطاعة اللّه . ولا تدخل علي امرأة : وإن قلت : أعلمها كتاب اللّه، ولا تصغ أذنك إلى صاحب بدعة، وإن قلت أرد عليه .
فأمره بالاحتراز من أسباب الفتنة، فإن الإنسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ولا يسلم .
فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره، وابتلى، فعليه أن يتقى اللّه ويصبر ويخلص ويجاهد . وصبره على ذلك وسلامته مع قيامه بالواجب، من أفضل الأعمال، كمن تولى ولاية وعدل فيها، أو رد على أصحاب البدع بالسنة المحضة، ولم يفتنوه، أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة .
لكن اللّه إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه، وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء وكله اللّه إلى نفسه . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : ( لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها . وإن أعطيتها عن غير مسألة، أعنت عليها ) وكذلك /قال في الطاعون : ( إذا وقع ببلد وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ) فمن فعل ما أمره اللّه به فعرضت له فتنة من غير اختياره، فإن اللّه يعينه عليها بخلاف من تعرض لها .(1/365)
لكن باب التوبة مفتوح، فإن الرجل قد يسأل الإمارة فيوكل إليها، ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب اللّه عليه ويعينه، إما على إقامة الواجب، وإما على الخلاص منها، وكذلك سائر الفتن . كماقال : { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] ، وهذه الأمور تحتاج إلى بسط لا يتسع له هذا الموضع .
والمقصود أن اللّه سبحانه يريد أن يبين لنا، ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } [ الأنعام : 90 ] ، وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 6، 7 ] فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلاء، وهو سبيل من أناب إليه، فذكر هنا ثلاثة أمور : البيان، والهداية، والتوبة .
وقيل : المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل، أي : يريد أن يبين لنا سنن هؤلاء وهؤلاء، فيهدي عباده المؤمنين إلى الحق، / ويضل آخرين، فإن الهدى والضلال إنما يكون بعد البيان . كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ إبراهيم : 4 ] ، وقال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } [ التوبة : 115 ] .(1/366)
فتكون { سُنَنَ } [ النساء : 26 ] ، متعلقًا بيبين يعني سنن أهل الباطل لا بيهدي، وأهل الحق متعلق بقوله : ويهديكم . وقال الزجاج : السنن الطرق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم . وهذا أولى، لأنه قد يقدم فعلين فلا يجعل الأول هوالعامل وحده، بل العامل إما الثاني وحده . وإما الاثنان، كقوله : { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } [ الكهف : 96 ] .
أو إذا أريد هذا التقدير : يبين لكم سنن الذين من قبلكم، ويهديكم سننًا . فدل علي أنه يهدينا سننهم . والمراد بذلك سنن أهل الحق، بخلاف قوله : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } فإنه قال بعدها : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ آل عمران : 137 ] ، فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان ، وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين من قبلنا، وهم الذين أنعم اللّه عليهم . وذكر ثلاثة أمور : التبيين، والهدى، والتوبة .
لأن الإنسان أولا يحتاج إلى معرفة الخير والشر، وما أمر به وما نهى عنه، ثم يحتاج بعد ذلك / إلى أن يهدي، فيقصد الحق ويعمل به دون الباطل . وهو سنن الأنبياء والصالحين . ثم لابد له بعد ذلك من الذنوب، فيريد أن يتطهر منها بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به . وإلى التوبة مع ذلك . فلابد له من التقصير، أو الغفلة في سلوك تلك السنن التي هداه اللّه إليها . فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن . وهذه السنن : تدخل فيها الواجبات والمستحبات، فلابد للسالك فيها من تقصير وغفلة، فيستغفر اللّه، ويتوب إليه . فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد لا يستطيع أن يقوم للّه بالحق الذي أوجبه عليه، فما يسعه إلا الاستغفار والتوبة عقيب كل طاعة .(1/367)
وقد يقال : الهداية، هنا البيان والتعريف، أي : يعرفكم سنن الذين من قبلكم، من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، كما قال تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، قال علي وابن مسعود : سبيل الخير والشر . وعن ابن عباس : سبيل الهدى والضلال . وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة، أي فطرناه على ذلك، وعرفناه إياه، والجميع واحد . والنجدان الطريقان الواضحان، والنجد المرتفع من الأرض، فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له، كتبيين الطريقين العاليين، لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الآية يشترك / فيه بنو آدم، ويعرفونه بعقولهم .
وأما طريق من تقدم من الأنبياء، فلا بد من إخبار اللّه تعالى عنها، كما قال : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } [ هود : 49 ] ، لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى، لقال : يريد اللّه ليبين لكم سنن الذين من قبلكم، ولم يحتج أن يذكر الهدى، إذا كان المعنى واحدًا، فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي، علم أن هذا غير هذا، فالتبيين : التعريف والتعليم، والهدى : هو الأمر والنهي، وهو الدعاء إلى الخير . كما قال تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، أي داع يدعوهم إلى الخير . كما قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، أي تدعوهم إليه دعاء تعليم .(1/368)
وهداه هنا يتعدى بنفسه، لأن التقدير : ويلزمكم سنن الذين من قبلكم، فلا تعدلوا عنها، وليس المراد هنا بالهدى الإلهام . كما في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لكونه لو أراد ذلك لوقع، ولم يكن فينا ضال، بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، ولهذا قال الزجاج : يريد أن يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم، فعلق الإرادة بفعل نفسه . فإن الزجاج ظن الإرادة في القرآن ليست إلا كذلك، وليس كما ظن، بل الإرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك، فإنه / ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وأما الإرادة الموجودة في أمره وشرعه، فهو كقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } الآية [ المائدة : 6 ] ، وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } [ الأحزاب : 33 ] ، ونحو ذلك .
فهذه إرادته لما أمر به، بمعنى أنه يحبه ويرضاه، ويثيب فاعله، لا بمعنى أنه أراد أن يخلقه، فيكون كما قال : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الآية [ الأنعام : 125 ] .
وكما قال نوح : { وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ هود : 34 ] .
فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه . كما يقول المسلمون : ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة متعلقة بكل حادث، والإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات، كما يقول الناس لمن يفعل القبيح : يفعل شيئًا ما يريده اللّه، مع قولهم : ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن . فإن هذه الإرادة نوعان . كما قد بسط في موضع آخر .(1/369)
وقد يراد بالهدى الإلهام، ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين / هداهم اللّه إلى طاعته، فإن اللّه تعالى أراد أن يتوب عليهم ويهديهم، فاهتدوا، ولولا إرادته لهم ذلك لم يهتدوا، كما قالوا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 43 ] .
لكن الخطاب في الآية لجميع المسلمين، كالخطاب بآية الوضوء . والخطاب لأهل البيت بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ } [ الأحزاب : 33 ] ؛ ولهذا يهدد من لم يطعه . وكما في الصيام : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، لا إرادة الخلق المستلزمة للمراد، لأنه لو كان كذلك لم تكن الآية خطابًا، إلا لمن أخذ باليسر، ولمن فعل ما أمر به، وكان من تخلف عن ذلك لا يدخل تحت الأمر والنهي الذي في الآية، وليس كذلك . بل الحكم الشرعي لازم لجميع المسلمين، فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب، والذين أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم، هدي الإلهام، والإعانة بأن جعلهم مهتدين . كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليًا، والمسلم مسلمًا .
ولو كانت الإرادة هنا من الإنسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [ النساء : 27 ] ، فإنه حينئذ لا تأثير لإرادة هؤلاء، بل وجودها وعدمها سواء . كما في قول نوح : { وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] ، فإن ما شاء اللّه كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس .(1/370)
والمقصود بالآية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات . والمعنى : إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم، وهؤلاء يريدون لكم الشر الذي يضركم، كالشيطان الذي يريد أن يغويكم، وأتباعه هم أهل الشهوات فلا تتخذوه وذريته أولياء من دوني، بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد، وإياكم وطرق الغي والفساد . كما قال تعالى : { فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } الآيات [ طه : 123 ] .
وقوله : { يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } [ النساء : 27 ] ، في الموضعين، فاتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى، كما قال تعالى : { أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، وقال : { وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] ، وقال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } [ محمد : 14 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الجاثية : 18 ] ، وهذا في القرآن كثير .(1/371)
والهوى : مصدر هوى يهوي هوى، ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى، فاتباعه كاتباع السبيل . كما قال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } وكما في لفظ الشهوة، فاتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر، أي اتباع إرادته ومحبته التي هي هواه واتباع الإرادة : هو فعل ما تهواه النفس، كقوله تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [ لقمان : 15 ] ، وقوله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقال : { وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [ الأعراف : 3 ] ، فلفظ الاتباع يكون للآمر الناهي، وللأمر والنهي، وللمأمور به والمنهي عنه، وهو الصراط المستقيم .
كذلك يكون للهوى أمر ونهي، وهو أمر النفس ونهيها، كما قال تعالى : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ يوسف : 53 ] ، ولكن ما يأمر به من الأفعال المذمومة، فأحدها مستلزم للآخر، فاتباع الأمر هو فعل المأمور، واتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه، فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات، واتباع الأهواء هو اتباع شهوة النفس، وهواها، وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه .
بل قد يقال : هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والأهواء، لأن الذي يشتهي ويهوى، إنما يصير موجودًا بعد أن يشتهي ويهوى، وإنما يذم الإنسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده، / فهو حينئذ قد فعل، ولا ينهى عنه بعد وجوده، ولا يقال لصاحبه : لا تتبع هواك .(1/372)
وأيضًا فالفعل المراد المشتهى، الذي يهواه الإنسان : هو تابع لشهوته وهواه، فليست الشهوة والهوي تابعة له، فاتباع الشهوات هو اتباع شهوة النفس، وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الأصل يحتاج إلى أن يجعل في الخارج ما يشتهي، والإنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة، أو الطعام المطلوب، وإن سميت المرأة شهوة والطعام أيضًا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) أي : يترك شهوته، وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام، لا أنه يدع طعامه بترك الشهوة الموجودة في نفسه، فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها، وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة .
وحقيقة الأمر، أنهما متلازمان، فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه، وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه اتبع ما يهواه، فإن ذلك من آثار الإرادة، واتباع الإرادة هو امتثال أمرها، وفعل ما تطلبه، كالمأمور الذي يتبع أمر أميره، ولابد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله . فيبقى ذلك المثال كالإمام مع المأموم يتبعه حيث كان، وفعله في الظاهر / تبع لاتباع الباطن، فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي المحركة للإنسان الآمرة له .(1/373)
ولهذا يقال : العلة الغائية علة فاعلية، فإن الإنسان للعلة الغائية ـ بهذا التصور والإرادة ـ صار فاعلًا للفعل، وهذه الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاعلًا، فيكون الإنسان متبعًا لها، والشيطان يمده في الغي، فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس اتباعها، وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة ـ كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ـ ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب، والشيطان والنفس تحب ذلك، وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج، فإن أول الفكر آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك .
ولهذا يبقى الإنسان عند شهوته، وهواه أسيرًا لذلك، مقهورًا تحت سلطان الهوى، أعظم من قهر كل قاهر، فإن هذا القاهر الهوائي، القاهر للعبد، هو صفة قائمة بنفسه، لايمكنه مفارقته البتة، والصورة الذهنية تطلبها النفس، فإن المحبوب تطلب النفس أن تدركه، وتمثله لها في نفسها، فهو متبع للإرادة . وإن كانت الذهنية والتزين من الزين والمراد التصور في نفسه . والمشتهى الموجود في الخارج له محركان : التصور والمشتهى، هذا يحركه تحريك طلب وأمر، وهذا يأمره أن يتبع / طلبه وأمره، فاتباع الشهوات والأهواء يتناول هذا كله، بخلاف كل قاهر ينفصل عن الإنسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها، وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث مهلكات : شح مطاع، وهوي متبع، وإعجاب المرء بنفسه . وثلاث منجيات : خشية اللّه في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا ) .(1/374)
وقوله في الحديث : هوي متبع، فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس . كقوله : في الشح المطاع، وجعل الشح مطاعًا، لأنه هو الآمر، وجعل الهوى متبعًا، لأن المتبع قد يكون إمامًا يقتدى به ولا يكون آمرًا . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إياكم والشح . فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) . فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة، فالبخل، منع منفعة الناس بنفسه وماله، والظلم، هو الاعتداء عليهم .
فالأول هو التفريط فيما يجب، فيكون قد فرط فيما يجب، واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر إعظامًا لها؛ لأنها تدخل / في الأمرين المتقدمين قبلها .
وقال المفسرون في قوله تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [ الحشر : 9 ] ، هو ألا يأخذ شيئًا مما نهاه اللّه عنه، ولا يمنع شيئًا أمره اللّه بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمراللّه ورسوله . فإن اللّه ينهى عن الظلم، ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم، وينهى عن الإحسان .
وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت، وبالوقوف بعرفة أن يقول : اللّهم قني شح نفسي، فسئل عن ذلك، فقال : إذا وقيت شح نفسي، وقيت الظلم والبخل والقطيعة . وفي رواية عنه قال : إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال : وماذاك ؟ قال : أسمع اللّه يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } ، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال : ليس ذاك بالشح الذي ذكره اللّه في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا، وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل .(1/375)
وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد والإيثار في قوله : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ، ثم قال : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] ، فمن وقى شح نفسه لم يكن حسودًا باغيًا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود .
/والشح يكون في الرجل مع الحرص، وقوة الرغبة في المال، وبغض للغير وظلم له، كما قال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا . أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } الآيات ـ إلى قوله : { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } [ الأحزاب : 18، 19 ] ، فشحهم على المؤمنين، وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه، وقطيعته كالحسد، فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود وقطيعته، كابني آدم وإخوة يوسف .
فالحسد والشح، يتضمنان بغضًا وكراهية، فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص، فإن الفعل صدر فيه عن بغض، بخلاف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيئًا فاتبعه ففعله، وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم لا ينفع . ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي، فأطيع أمره .
وابن مسعود جعل البخل خارجًا عن الشح والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل .(1/376)
ومن الناس من يقول : الشح، والبخل سواء . كما قال ابن جرير : الشح في كلام العرب هو البخل، ومنع الفضل من المال . وليس / كما قال : بل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع ، فإن البخيل قد يبخل بالمال محبة لما يحصل له به من اللذة والتنعم، وقد لا يكون متلذذًا به ولا متنعمًا بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتي يكون يكره، أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله، وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته . وقد لا يكون هناك لذة أصلا، بل يكره أن يفعل إحسانًا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغضًا للخير لا للمعطي ولا للمعطي، بل بغضًا منه للخير وقد يكون بغضًا وحسدًا للمعطي، أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخل قطعًا، ولكن كل بخل يكون عن شح، فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحيحًا .
قال الخطابي : الشح أبلغ في المنع من البخل، والبخل إنما هو من أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة .
وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال : البخل : أن يظن الإنسان بماله، والشح : أن يضن بماله ومعروفه، وقيل : الشح : أن يشح بمعروف غيره على غيره، و البخل : أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات، ويتبعون أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه، فاتبعوا /محبتهم وإرادتهم من غير علم، فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو ضار .(1/377)
ولهذا قال : { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } ثم قال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِِ } [ القصص : 50 ] ، واتباع الهوى درجات : فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون اللّه ما يستحسنون بلا علم، ولا برهان، كما قال : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] ، أي يتخذ إلهه الذي يعبده وهو ما يهواه من آلهة، ولم يقل : إن هواه نفس إلهه فليس كل من يهوي شيئًا يعبده، فإن الهوى أقسام بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه، فكانت عبادته تابعة لهوى نفسه في العبادة، فإنه لم يعبد ما يحب أن يعبد، ولا عبد العبادة التي أمر بها .
وهذه حال أهل البدع، فإنهم عبدوا غير اللّه، وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون اللّه بها، فهم إنما اتبعوا أهواءهم، فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير .
فلو اتبع العلم والكتاب المنير، لم يعبد إلا اللّه بما شاء، لا بالحوادث والبدع .
/والمقصود أن الآلهة كثيرة، والعبادات لها متنوعة، وبالجملة فكل ما يريده الإنسان ويحبه لابد أن يتصوره في نفسه، فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب، فمن عبده عبد غير اللّه، وتمثلت له الشياطين في صورة من يعبده، وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيئًا غير اللّه، فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها، واستوائها ليكون سجود من يعبدها له .(1/378)
وقد كانت الشياطين، تتمثل في صورة من يعبد، كما كانت تكلمهم من الأصنام التي يعبدونها، وكذلك في وقتنا خلق كثير من المنتسبين إلى الإسلام، والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الأحياء والأموات من المشايخ وغيرهم، فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته، فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ليغوى هذا المشرك .
والمبتلون بالعشق، لا يزال الشيطان يمثل لأحدهم صورة المعشوق، أو يتصور بصورته، فلا يزال يرى صورته، مع مغيبه عنه بعد موته، فإنما جلاه الشيطان على قلبه، ولهذا إذا ذكر العبد اللّه الذكر الذي يخنس منه الوسواس الخناس خنس هذا المثال الشيطاني، وصورة المحبوب تستولى على المحب أحيانًا حتى لا يرى غيرها، ولا يسمع غير كلامها، فتبقى / نفسه مشتغلة بها .
والذين يسلكون في محبة اللّه مسلكا ناقصًا، يحصل لأحدهم نوع من ذلك يسمى الاصطلام والفناء، يغيب بمحبوبه عن محبته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، حتى لا يشعر بشيء من أسماء اللّه وصفاته وكلامه وأمره ونهيه .
ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى الاتحاد . فيقول : أنا هو، وهو أنا، وأنا اللّه، ويظن كثير من المسالكين، أن هذا هو غاية السالكين، وأن هذا هو التوحيد، الذي هو نهاية كل سالك، وهم غالطون في هذا، بل هذا من جنس قول النصارى، ولكن ضلوا لأنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر اللّه وأمره .
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس، يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسيرًا ما يهواه، يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف : ما أنا على الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه .(1/379)
/وذلك أن النفس الصافية التي فيها رقة الرياضة، ولم تنجذب إلى محبة اللّه وعبادته انجذابًا تامًا، ولا قام بها من خشية اللّه التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها . كما يستولى السبع على ما يفترسه، فالسبع يأخذ فريسته بالقهر، ولا تقدر الفريسة على الامتناع منه . كذلك ما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة، تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه، فيبقى قلبه مستغرقًا في تلك الصورة أعظم من استغراق الفريسة في جوف الأسد؛ لأن المحبوب المراد هو غاية النفس، له عليها سلطان قاهر .
والقلب يغرق فيما يستولى عليه، إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور، والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقًا فيه، كما يغرق الغريق في الماء، فلابد أن يستولى عليها مايحيط بها من الأجسام، والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف، والمحبوبات والمكروهات، فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه، والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه، ولا يأتي بالحسنات إلا اللّه، ولا يذهب السيئات إلا اللّه { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 107 ] { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] .(1/380)
/وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب، ودفع المرهوب، جعل له من الإيمان باللّه، ومحبته، ومعرفته، وتوحيده، ورجائه، وحياة قلبه، واستنارته بنور الإيمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضًا من الدنيا، وأما إذا طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته ومايتبع ذلك، فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب . وهو الدعاء والمطلوب الذكر والشكر، وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك . وهذا لبسطه موضع آخر .
والمقصود أن القلب قد يغمره، فيستولى عليه ما يريده العبد، ويحبه، ومايخافه ويحذره، كائنا من كان؛ ولهذا قال تعالى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } [ المؤمنون : 36 ] ، فهي فيما يغمرها عما أنذرت به، فيغمرها ذلك عن ذكر اللّه والدار الآخرة وما فيها من النعيم، والعذاب الأليم . قال اللّه تعالى : { فّذّرًهٍمً فٌي غّمًرّتٌهٌمً حّتَّى " حٌينُ } [ المؤمنون : 54 ] ، أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في الخيرات، والأعمال الصالحة . وقال تعالى : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } الآيات [ الذاريات : 10، 11 ] ، أي ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها، أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة، وما خلقوا له .
وهذا يشبه قوله : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [ الكهف : 28 ] ، فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال : السهو : الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه، وهذا جماع الشر الغفلة، والشهوة .
فالغفلة عن اللّه والدار الآخرة تسد باب الخير، الذي هو الذكر واليقظة .(1/381)
والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغمورًا فيما يهواه ويخشاه، غافلًا عن اللّه، رائدًا غير اللّه، ساهيًا عن ذكره، قد اشتغل بغير اللّه، قد انفرط أمره، قد ران حب الدنيا على قلبه، كما روى في صحيح البخاري، وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطى رضى، وإن منع سخط ) .
جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده، حتى يكون عبد الدرهم، وعبد ما وصف في هذا الحديث، والقطيفة : هي التي يجلس عليها، فهو خادمها، كما قال بعض السلف : البس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه، وهي كالبساط الذي تجلس عليه، والخميصة : هي التي يرتدي بها، وهذا من أقل المال . وإنما / نبه به النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو أعلي منه، فهو عبد لذلك، فيه أرباب متفرقون، وشركاء متشاكسون .
ولهذا قال : ( إن أعطى رضي، وإن منع سخط ) . فما كان يرضى الإنسان حصوله ويسخطه فقده، فهو عبده، إذ العبد يرضى باتصاله بهما، ويسخط لفقدهما . والمعبود الحق الذي لا إله إلا هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان، وتوحيد ومحبة، وذكر، وعبادة، فيرضى بذلك، وإذا منع من ذلك غضب .
وكذلك من أحب شيئًا، فلا بد أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان .
قال الجنيد : لا يكون العبد عبدًا حتى يكون مما سوى اللّه تعالى حرًا . وهذا مطابق لهذا الحديث، فإنه لا يكون عبدًا للّه خالصًا مخلصًا دينه للّه كله، حتى لا يكون عبدًا لما سواه، ولا فيه شعبة، ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى اللّه، فإذا كان يرضيه، ويسخطه غير اللّه فهو عبد لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدر محبته، وعبادته لذلك الغير زيادة .(1/382)
قال الفضيل بن عياض : واللّه ما صدق اللّه في عبوديته، من / لأحد من المخلوقين عليه ربانية، وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
أربا ًواحدًا، أم ألف رب ** أدين إذا انقسمت الأمور ؟ !
روى الإمام أحمد والترمذي، والطبراني، من حديث أسماء بنت عميس، قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( بئس العبد عبد تخيل، واختال، ونسى الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار الأعلى، بئس العبد عبد سها ولها، ونسى المقابر والبلى، بئس العبد عبد بغى واعتدى، ونسى المبدأ والمنتهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله ) قال الترمذي : غريب . وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه . واللّه أعلم .
وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك . كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] .
وطالب الرئاسة ـ ولو بالباطل ـ ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلًا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقًا . / والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن اللّه تعالى يحب الحق، والصدق، والعدل، ويبغض الكذب، والظلم .
فإذا قيل : الحق والصدق والعدل الذي يحبه اللّه أحبه، وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لأن هواه قد صار تبعًا لماجاء به الرسول . وإذا قيل : الظلم والكذب، فاللّه يبغضه، والمؤمن يبغضه، ولو وافق هواه .(1/383)
وكذلك طالب المال ـ ولو بالباطل ـ كما قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [ التوبة : 58 ] وهؤلاء هم الذين قال فيهم : ( تعس عبد الدينار ) الحديث . فكيف إذا استولى على القلب ما هو أعظم استعبادًا من الدرهم والدينار، من الشهوات والأهواء، والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال محبته للّه وعبادته ؟ ! لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات، كيف تدفع القلب، وتزيغه عن كمال محبته لربه وعبادته وخشيته؛ لأن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه، ويزيغه عن محبة غير محبوبه، وكذلك المكروه يدفعه، ويزيله، ويشغله عن عبادة اللّه تعالى .
ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم / قال لأصحابه : ( الفقر تخافون ؟ ! لا أخاف عليكم الفقر، إنما أخاف عليكم الدنيا، حتى إن قلب أحدكم إذا زاغ لا يزيغه إلا هي ) .
وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه، والذين يبغضونه كأعدائه، فالذين يحبونه يجذبونه إليهم . فإذا لم تكن المحبة منهم له للّه، كان ذلك مما يقطعه عن اللّه، والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن اللّه، ولو أحسن إليه أصدقاؤه الذين يحبونه، لغير اللّه أوجب إحسانهم إليه محبته لهم، وإنجذاب قلبه إليهم . ولو كان على غير الاستقامة، وأوجب مكافأته لهم، فيقطعونه عن اللّه وعبادته .(1/384)
فلا تزول الفتنة عن القلب، إلا إذا كان دين العبد كله للّه عز وجل، فيكون حبه للّه ولما يحبه اللّه، ويبغضه للّه، ولما يبغضه اللّه، وكذلك موالاته ومعاداته، وإلا فمحبة المخلوق تجذبه، وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه، ثم قد يكون هذا أقوى، وقد يكون هذا أقوى، فإذا كان هو غالبًا لهواه لم يجذبه مغلوب مع هواه، ولا محبوباته إليها؛ لكونه غلبًا لهواه ناهيًا لنفسه عن الهوى، لما في قلبه من خشية اللّه، ومحبته التى تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات .
وأما حب الناس له، فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة اللّه، وخشيته / وإلا جذبوه وأخذوه إليهم، كحب امرأة العزيز ليوسف، فإن قوة ىوسف ومحبته للّه وإخلاصه وخشيته، كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها، هذا إذا أحب أحدهم صورته، مع أن هنا الداعي قوي منه ومنهم، فهنا المعصوم من عصمه اللّه، وإلا فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين، أنه يقع بعض الشر بينهم .
ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ) .
وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم، إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون . وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم، إن لم يفعلها وإلا نقص الحب، أو حصل نوع بغض، وربما زاد أو أدى إلى الانسلاخ من حبه، فصار مبغوضًا بعد أن كان محبوبا، فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم، حتى يكون كالعبد لهم، وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره، وأولئك يطلبون منه انتفاعهم، وإن كان مضرًا له مفسدًا لدينه لا يفكرون في ذلك . وقليل منهم الشكور .(1/385)
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه ولا دفع ضرره، وإنما / يقصدون أغراضهم به، فإن لم يكن الإنسان عابدًا اللّه، متوكلًا عليه مواليًا له ومواليًا فيه ومعاديًا، وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة .
وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم، وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والاختلاف والفتن . قوم يوالون زيدًا، ويعادون عمرًا . وآخرون بالعكس؛ لأجل أغراضهم، فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه من زيد انقلبوا إلى عمرو، وكذلك أصحاب عمرو، كما هو الواقع بين أصناف الناس .
وكذلك الرأس، من الجانبين، يميل إلى هؤلاء الذين يوالونه، وهم إذا لم تكن الموالاة للّه أضر عليه من أولئك، فإن أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله، أو بأخذ ماله، وإما بإزالة منصبه، وهذا كله ضرر دنيوي، لا يعتد به إذا سلم العبد، وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين لايعتدون بفساد دينهم مع سلامة دنياهم . فهم لا يبالون بذلك . وأما " دين العبد " الذي بينه وبين اللّه فهم لا يقدرون عليه .
وأما أولياءه الذين يوالونه للأغراض، فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك، فإن لم يفعل انقلبوا أعداء، فدخل بذلك عليه الأذى من جهتين :
/من جهة مفارقتهم، ومن جهة عداوتهم .
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لأنهم قد شاهدوا منه . وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه . فاستجلبوا بذلك عداوة غيرهم، فتتضاعف العداوة .
وإن لم يحب مفارقتهم، احتاج إلى مداهنتهم، ومساعدتهم على ما يريدونه، وإن كان فيه فساد دينه . فإن ساعدهم على نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيبًا وافرًا وحظًا تامًا من ظلمهم وجورهم، وطلبوا منه أيضًا أن يعاونهم على أغراضهم، ولو فاتت أغراضه الدنيوية . فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده ! ! فإن الإنسان ظالم جاهل، لا يطلب إلا هواه .(1/386)
فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم . ويصبر على أذاهم . ويقضى حوائجهم للّه، وتكون استعانته عليهم باللّه تامة، وتوكله على اللّه تام . وإلا أفسدوا دينه ودنياه، كما هو الواقع المشاهد من الناس، ممن يطلب الرئاسة الدنيوية، فإنه يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة، ويحسن له هذا الرأي، ويعاديه إن لم يقم معه، كما قد /جرى ذلك مع غير واحد .
وذلك يجري فيمن يحب شخصًا لصورته، فإنه يخدمه، ويعظمه، ويعطيه ما يقدر عليه، ويطلب منه من المحرم ما يفسد دينه .
وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة، يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل، وإلا عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار، وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لأجل الأتباع والمحبين، ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم .
فمن أحب غير اللّه، ووالى غيره، كره محب اللّه ووليه، ومن أحب أحدًا لغير اللّه كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه، فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة، وذهابها عنه، فأي صداقة هذه ؟ ! ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه في أغراضهم، وفيما يحبونه، وكلاهما ضرر عليه .(1/387)
قال تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ } [ البقرة : 166 ] ، قال الفضيل بن عياض عن ليث / عن مجاهد : هي المودات التي كانت لغير اللّه، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } [ البقرة : 167 ] . فالأعمال التي أراهم اللّه حسرات عليهم : هي الأعمال التي يفعلها بعضهم، مع بعض في الدنيا كانت، لغير اللّه، ومنها الموالاة، والصحبة، والمحبة، لغير اللّه . فالخير كله في أن يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئًا، ولا حول ولا قوة إلا باللّه .
(معنى الفقر )
وسئل :
ما تقول الفقهاء - رضي اللّه عنهم- في رجل يقول : إن الفقر لم نتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى، وأنه غير سبيل موصل إلى رضا اللّه تعالى وإلى رضا رسوله، وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب نهيه من كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،وإن أصل كل شيء العلم والتعبد به والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، [ والفقر ] المسمى على لسان الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي فيكون الزهد في الدنيا العمل بالعلم، وهذا هو الفقر، فإذا الفقر فرع من فروع العلم،والأمر على هذا . وما ثم طريق أوصل من العلم والعمل بالعلم، على ما صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويقول : إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاحات المعتادة غير مرضى للّه ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك ؟ أفتونا مأجورين .
/ فأجاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية ـ رضي اللّه عنه ـ :(1/388)
الحمد للّه . أصل هذه [ المسألة ] أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه، مثل لفظ الإيمان، والبر، والتقوى، والصدق، والعدل، والإحسان، والصبر، والشكر، والتوكل، والخوف والرجاء، والحب للّه، والطاعة للّه وللرسول، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه اللّه ورسوله من القلب والبدن . فهذه الأمور التي يحبها اللّه ورسوله هي الطريق الموصل إلى اللّه، مع ترك ما نهى اللّه عنه ورسوله : كالكفر، والنفاق والكذب، والإثم والعدوان، والظلم والجزع والهلع، والشرك والبخل والجبن، وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك . فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر اللّه به ورسوله فيفعله، وما نهى اللّه عنه ورسوله فيتركه . هذا هو طريق اللّه وسبيله ودينه الصراط المستقيم . صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
وهذا [ الصراط المستقيم ] يشتمل على علم وعمل : علم شرعي، وعمل شرعي، فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرا، ومن عمل بغيرعلم كان ضال ًا، وقد أمرنا اللّه ــ سبحانه ــ أن نقول : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ سورة الفاتحة ] . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم، والنصارى /ضالون ) وذلك إن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا اللّه بغير علم .(1/389)
ولهذا كان السلف يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون . وكانوا يقولون : من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود؛ ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى . فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضل ًا، ومن دعا إلى العمل دون العلم كان مضلًا، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع؛ فيتبع أمورا تخالف الكتاب والسنة يظنها علوما وهي جهالات . وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع . فيعمل أعمالًا تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات . فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر . يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل، والعمل دون العلم، ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة . وطريق اللّه لا تتم إلا بعلم وعمل، يكون كلاهما موافقا الشريعة .
فالسالك طريق [ الفقر والتصوف والزهد والعبادة ] إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالًا عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه . والسالك من [ الفقه والعلم والنظر والكلام ] إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق . فهذا هو /الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم .
وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من اللّه فهو من عمل الجاهلية : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] .(1/390)
ولا ريب أن لفظ [ الفقر ] في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق اللّه، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك؛ بل الفقر عندهم ضد الغنى . والفقراء هم الذين ذكرهم اللّه في قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] وفي قوله : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } [ البقرة : 273 ] وفي قوله : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } [ الحشر : 8 ] والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي تجب عليه الزكاة، أو ما يشبه ذلك؛ لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعا أو كرها؛ إذ من العصمة ألا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى، وقد يكون مع الفقر . ففي الأنبياء والسابقين والأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير .
و [ الزهد ] المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة اللّه فليس تركه من الزهد المشروع/ بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة اللّه ورسوله هو المشروع . وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو الصفا أو الصف الأول، أو صوفة بن بشر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى؛ لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين اللّه تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه .(1/391)
ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وكان من القدرية كالمعتزلة ونحوهم،الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب ــ سبحانه ــ وخاصمه، كما نقل ذلك عنه . فهذا التقسيم في القول والاعتقاد .
وكذلك هم في [ الأحوال، والأفعال ] فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي اللّه فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر علي ما يصيبه / من المقدور، فهو عند الأمر والدين والشريعة، ويستعين باللّه علي ذلك، كما قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات؛ بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به، كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد : ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك مااستطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) فيقر بنعمة اللّه عليه في الحسنات . ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى . ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها . كما قال بعضهم : أطعتك بفضلك، والمنة لك . وعصيتك بعلمك، والحجة لك . فأسألك بوجوب حجتك علي، وانقطاع حجتي إلا غفرت لي .
وفي الحديث الصحيح الإلهي : ( يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها،فمن وجد خيرا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع .(1/392)
وآخرون قد يشهدون [ الأمر ] فقط، فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة، لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب/ لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر . وآخرون يشهدون [ القدر ] فقط، فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر اللّه ورسوله، واتباع شريعته، وملازمته ما جاء به الكتاب والسنة من الدين . فهؤلاء يستعينون اللّه ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه، والمؤمن يعبده ويستعينه .
والقسم الرابع : شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه،فلا هو مع الشريعة الأمرية، ولا مع القدر الكوني . وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل المقدور من توكل واستعانة، ونحو ذلك . وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك، فهم في التقوى هي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام :
أحدها : أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم اللّه عليهم أهل السعادة في الدنيا والآخرة .
والثاني : الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات؛ لكن إذا أصيب أحدهم/ في بدنه بمرض ونحوه أو ماله أو في عرضه، أو ابتلى بعدو يخيفه، عظم جزعه، وظهر هلعه .
والثالث : قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى : مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص، والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب، وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس .(1/393)
وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام، وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرياسة، والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك، يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب : كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر .
/وأما القسم الرابع : فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19- 21 ] . فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم ذلوا لك، ونافقوك، وحبوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل، وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس، وأقساهم قلبا، وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا . كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد : مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، ومن يشبههم في كثير من أمورهم، وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق . فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .(1/394)
فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم، كان شبيها لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبه : ( خير الكلام كلام اللّه، و خير/ الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) .
وإذ كان خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب، وهو به أشبه، كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف، كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق . والكامل هو من كان للّه أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر اللّه به ورسوله، وأعظم موافقة للّه فيما يحبه ويرضاه، وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك .(1/395)
وقد ذكر اللّه تعالى الصبر والتقوى جميعا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين والمعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة، قال اللّه تعالى : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] وقال اللّه تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } آل عمران : 186 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌِ } [ آل عمران : 118 : 120 ] وقال إخوة يوسف له : { أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ّ } [ يوسف : 90 ] .(1/396)
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يونس : 109 ] . وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها : تصديقًا لخبر اللّه، وطاعة لأمره، وقال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114، 115 ] .
وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ غافر : 55 ] . وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ طه : 130 ] وقال تعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ َ } [ البقرة : 45 ] وقال تعالى : { اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر .(1/397)
/وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها، فإن القسمة أيضا رباعية . إذ من الناس من يصبر ولا يرحمك كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر : كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع،والمحمود هو الذي يصبر ويرحم؛ كما قال الفقهاء في صفة المتولي : ينبغي أن يكون قويا من غير عنف، لينا من غير ضعف، فبصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر ينصرالعبد، فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه اللّه تعالى . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما يرحم اللّه من عباده الرحماء ) ، وقال : ( من لم يرحم لا يرحم ) ، وقال : ( لا تنزع الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) . واللّه أعلم، انتهى .
وسئل عمن قال : إن [ الفقير، والغنى ] لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى . فمن كان أتقى لله كان أفضل وأحب إلى الله تعالى . وإن الحديث الصحيح الذى قال فيه صلى الله عليه وسلم : ( يدخل فقراء أمتى الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ) هذا في حق ضعفاء المسلمين، وصعاليكهم القائمين بفرائض الله تعالى، وليس مختصًا بمجرد ما عرف واشتهر في هذه الأعصار المتأخرة، من السجاد والمرقعة والعكاز، والألفاظ المنمقة، بل هذه الهيئات المعتادة في هذه الأزمنة مخترعة مبتدعة، فهل الأمر على ما ذكر أم لا؟
فأجاب ـ رضى الله عنه :(1/398)
الحمد لله رب العالمين، قد تنازع كثير من متأخرى المسلمين في [ الغنى الشاكر، والفقير الصابر ] أيهما أفضل؟ فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد، ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد، وقد حكى في ذلك عن الإمام أحمد روايتان . وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين/ على الآخر . وقال طائفة ثالثة : ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، وإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة، وهذا أصح الأقوال؛ لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى . وقد قال الله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] .
وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام . كحال نبينا صلى الله عليه وسلم، وحال أبي بكر وعمر ــ رضى الله عنهما ــ ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع لآخرين، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، كما في الحديث الذى رواه البغوى وغيره ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى . ولو أفقرته لأفسده ذلك . وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر . ولو أغنيته لأفسده ذلك . وإن من عبادى من لا يصلحه إلا السقم . ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادي إني بهم خبير بصير ) .(1/399)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ) وفي الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلوات سمع بذلك الأغنياء فقالوا مثل /ما قالوا . فذكر ذلك الفقراء للنبيصلى الله عليه وسلم، فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه، وإن تأخر في الدخول، كما أن السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، وقد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم . وصلى الله وسلم على محمد .
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=222 - TOP#TOPفصل
قد كثر تنازع الناس : أيهما أفضل [ الفقير الصابر،أو الغنى الشاكر ] ؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعرفة، والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية، والعامة والرؤساء وغيرهم . وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب [ التمام لكتاب الروايتين والوجهين ] لأبيه فيها عن أحمد روايتين :
إحداهما : أن الفقير الصابر أفضل . وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحق بن شاقلا، ووالده القاضي أبو يعلى، ونصرها هو .(1/400)
والثانية : أن الغني الشاكر أفضل، اختاره جماعة منهم ابن قتيبة . و [ القول الأول ] يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه / والصلاح، من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره و [ القول الثاني ] يرجحه طائفة منهم، كأبي العباس بن عطاء [ أبو العباس بن عطاء : هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمىّ البغدادى، الزاهد العابد المتأله، حدث عن : يوسف بن موسى القطان، وعنه محمد بن على بن حُبيش، وقال : كان له في كل يوم ختمة، وكان ينام في اليوم والليلة ساعتين، وقيل عنه : إنه فقد عقله ثمانية عشر عاما، ثم ثاب إليه عقله، وتوفي سنة تسع وثلاثمائة من ذى القعدة، [ سير أعلام النبلاء 14/255، 256 ] . وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعًا، وهو غلط .
وفي المسألة [ قول ثالث ] وهو الصواب أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقًا، ولا هذا أفضل من هذا مطلقًا بل أفضلهما أتقاهما . كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، وقال عمر بن الخطاب : الغنى والفقر مطيتان، لا أبالى أيتهما ركبت، وقد قال تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] وهذا القول اختيار طائفة منهم الشيخ ابن حفص السهروردي، وقد يكون هذا أفضل لقوم، في بعض الأحوال . وهذا أفضل لقوم في بعض الأحوال، فإن استويا في سبب الكرامة استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما الآخر في سببها ترجح عليه، هذا هو الحكم العام .(1/401)
والفقر والغنى حالان يعرضان للعبد باختياره تارة وبغير اختياره أخرى كالمقام والسفر، والصحة والمرض، والإمارة والائتمار، والإمامة والائتمام . وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر، بل قد يكون هذا أفضل في حال، وهذا في حال، وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في [ شرح السنة ] للبغوى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى : ( وإن من عبادي من / لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادى، إنى بهم خبير بصير ) .
وفي هذا المعنى ما يروى : ( إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب ) ، ويروى في مناجاة موسى نحو هذا . ذكره أحمد في الزهد . فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) .
وكما أن الأقوال في المسألة [ ثلاثة ] فالناس [ ثلاثة أصناف ] : غنى، وهو من ملك ما يفضل عن حاجته، وفقير، وهو من لا يقدر على تمام كفايته، وقسم ثالث : وهو من يملك وفق كفايته، ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيًا : كإبراهيم الخليل وأيوب، وداود وسليمان، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين .(1/402)
/وفيهم من كان فقيرًا : كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا وعلى بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسي ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق، من النبيين والصديقين، وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران : الغنى تارة والفقر أخرى؛ وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء : كنبينا صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر .
والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط؛ فإن الله في القرآن لم يفضل أحدا بفقر، ولا غنى، كما لم يفضل أحدًا بصحة ولا مرض، ولا إقامة ولا سفر، ولا إمارة ولا ائتمار، ولا إمامة ولا ائتمام، بل قال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وفضلهم بالأعمال الصالحة : من الإيمان ودعائمه، وشعبه كاليقين والمعرفة، ومحبة الله والإنابة إليه، والتوكل عليه ورجائه، وخشيته وشكره والصبر له . وقال في آية العدل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } [ النساء : 135 ] .
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يعدلون بين المسلمين . غنيهم وفقيرهم في أمورهم . ولما طلب بعض الأغنياء من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الفقراء نهاه الله عن ذلك . وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } الآية [ الأنعام : 52 ] ، /وقال : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف : 28 ] . ولما طلب بعض الفقراء من النبي صلى الله عليه وسلم مالا يصلح له نهاه عن ذلك، وقال : ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا . وإني أحب لك ما أحب لنفسي . لا تأمرن على اثنين . ولا تولين مال يتيم ) .(1/403)
وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغير ذلك . و من اختص منهم بفضل عرف النبيصلى الله عليه وسلم له ذلك الفضل، كما قنت للقراء السبعين، وكان يجلس مع أهل الصفة، وكان أيضًا لعثمان وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد ابن بشر ونحوهم، من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء، وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء . وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد، وابن المبارك ومالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، في معاملتهم للأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء .
وفي الأئمة كالثوري ونحوه من كان يميل إلى الفقراء، ويميل على الأغنياء مجتهدًا في ذلك طالبًا به رضا الله، حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره، ورجع عنه .
/وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء : كالزهري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزناد، وأبي يوسف ومحمد وأناس آخرين، وتكلم فيهم من تكلم بسبب ذلك . ولهم في ذلك تأويل واجتهاد، والأول هوالعدل والقسط، الذي دل عليه الكتاب والسنة .
ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم معتدلة فإنه قد روى : أن الفقراء قالوا له : يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها ولا نتصدق فقال : ( ألا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم، ولم يلحقكم من بعدكم إلا من عمل مثل عملكم ؟ ) فعلمهم التسبيح المائة في دبر كل صلاة . فجاؤوا إليه فقالوا : إن إخواننا من الأغنياء سمعوا ذلك ففعلوه، فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) وهذه الزيادة في صحيح مسلم من مراسيل أبي صالح، فهذا فيه تفضيل للأغنياء الذين عملوا مثل عمل الفقراء من العبادات البدنية بالقلب والبدن، وزادوا عليهم بالإنفاق في سبيل الله ونحوه من العبادات المالية .(1/404)
وثبت عنه أيضًا في الصحيح أنه قال : ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ـ خمسمائة عام ) ، وفي رواية : ( بأربعين خريفًا ) فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين، وكلاهما حق، فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على /قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب، فيسبق في الدخول، وهو أحوج إلى سرعة الثواب، لما فاته في الدنيا من الطيبات . والغني يحاسب، فإن كان محسنًا في غناه غير مسىء وهو فوقه، رفعت درجته عليه بعد الدخول . وإن كان مثله ساواه، وإن كان دونه نزل عنه . وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير .
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم في [ حوضه ] : الذي طوله شهر وعرضه شهر : ( ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أول الناس، علي وردا فقراء المهاجرين : الدنسين ثيابا، الشُّعث رؤوسًا، الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم وحاجته تختلج في صدره لا يجد لها قضاء ) فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا من اللأواء والشدة، وهذا موضع ضيافة عامة فإنه يقدم الأشد جوعًا في الإطعام، وإن كان لبعض المستأخرين نوع إطعام ليس لبعض المتقدمين لاستحقاقه ذلك ببذله عنده أو غير ذلك، وليس في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح من هذين الحديثين وفيها الحكم الفصل : إن الفقراء لهم السبق والأغنياء لهم الفضل، وهذا قد يترجح تارة، وهذا كالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغيرحساب ومع كل ألف سبعين ألفًا، وقد يحاسب بعدهم من إذا دخل رفعت درجته عليهم .(1/405)
وما روي : ( إن ابن عوف يدخل الجنة حبوًا ) كلام موضوع / لا أصل له، فإنه قد ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن أفضل الأمة أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم والخلفاء الأربعة أفضل الأمة . وقد ثبت في الصحاح أنه قال : ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ) وثبت في الصحاح أيضًا أنه قال : ( احتجت الجنة والنار فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار : مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون ) وقوله : ( وقفت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون، إلا أهل النار فقد أمر بهم إلى النار ) ، هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) .(1/406)
فهذه الأحاديث فيها معنيان : أحدهما : أن الجنة دار المتواضعين الخاشعين، لا دار المتكبرين الجبارين سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فإنه قد ثبت في الصحيح : أنه ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) ، و ( لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) . فقيل : يارسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك ؟ فقال : ( لا، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس ) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يحب التجمل في اللباس /الذي لا يحصل إلا بالغنى، وأن ذلك ليس من الكبر، وفي الحديث الصحيح : ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : فقير مختال، وشيخ زان، وملك كذاب ) وكذلك الحديث المروي : ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، حتى يكتب عند الله جبارًا . وما يملك إلا أهله ) . فعلم بهذين الحديثين : أن من الفقراء من يكون مختالًا؛ لا يدخل الجنة . وأن من الأغنياء من يكون متجملا غير متكبر؛ يحب الله جماله، مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) . ومن هذا الباب : قول هرقل لأبي سفيان : أفضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . قال : وهم أتباع الأنبياء . وقد قالوا لنوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] فهذا فيه أن أهل الرئاسة والشرف يكونون أبعد عن الانقياد إلى عبادة الله وطاعته؛ لأن حبهم للرئاسة يمنعهم ذلك، بخلاف المستضعفين . وفي هذا المعنى الحديث المأثور ـ إن كان محفوظًا : ( اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين ) فالمساكين ضد المتكبرين، وهم الخاشعون لله، المتواضعون لعظمته، الذين لا يريدون علوًا في الأرض . سواء كانوا أغنياء أو فقراء .(1/407)
/ومن هذا الباب : أن الله خيره : بين أن يكون عبدًا رسولًا وبين أن يكون نبيًا ملكا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا؛ لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده؛ لا لأجل حظه، وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه، وإن كان مباحًا . كما قيل لسليمان : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] ففي هذه الأحاديث : أنه اختار العبودية والتواضع . وإن كان هو الأعلى هو ومن اتبعه . كما قال : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } [ آل عمران : 139 ] ، وقال : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ولم يرد العلو وإن كان قد حصل له .
وقد أعطى مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره، وإنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا ينفع، بل قد يضر وقد صبر مع هذا من اللأواء والشدة على مالم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين وأفضل مقامات الصابرين، وكان سابقًا في حالي الفقر والغنى، لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما، كبعض أصحابه وأمته . المعنى الثاني : أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء . كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء، فهذا في هؤلاء أكثر وفي هؤلاء أكثر، لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر، فالسالم منها أقل . ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط؛ ولهذا/صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء، لأن المظنة فيهم أكثر . فهذا هذا والله أعلم .(1/408)
فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته، وكذلك لما رأوا المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر، اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر وليس كذلك، بل الفقر هنا عدم المال، والمسكنة خضوع القلب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم : يستعيذ من فتنة الفقر، وشر فتنة الغني، وقال بعض الصحابة : ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها ) ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وكان في المهاجرين أغنياء، هم من أفضل المهاجرين، مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ماصاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه .
/وhttp://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=222 - TOP#TOPسئل عن [ الحمد والشكر ] ما حقيقتهما ؟ هل هما معنى واحد، أو معنيان ؟ وعلى أي شيء يكون الحمد ؟ وعلى أي شيء يكون الشكر ؟ .
فأجاب :(1/409)
الحمد لله رب العالمين، الحمد : يتضمن المدح، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد، أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان، فإن الله تعالى يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] ، وقال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ } [ سبأ : 1 ] ، وقال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } [ فاطر : 1 ] .
/وأما [ الشكر ] فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة**يدي، ولساني، والضمير المحجبا
ولهذا قال تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } [ سبأ : 13 ] .
والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه، ومن هذا الحديث ( الحمد لله رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره ) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ) والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=222 - TOP#TOPتلخيص مناظرة في [ الحمد والشكر ]
بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وبين ابن المرحل .
كان الكلام في الحمد والشكر، وإن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، والحمد لا يكون إلا باللسان .(1/410)
فقال ابن المرحل : قد نقل بعض المصنفين ـ وسماه ـ : إن مذهب أهل السنة والجماعة : إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد . ومذهب الخوارج : أنه يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وبنوا على هذا : إن من ترك الأعمال يكون كافرًا؛ لأن الكفر نقيض الشكر، فإذا لم يكن شاكرًا كان كافرًا .
قال الشيخ تقي الدين : هذا المذهب المحكى عن أهل السنة خطأ والنقل عن أهل السنة خطأ . فإن مذهب أهل السنة : أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل . قال الله تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } [ سبأ : 13 ] . وقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له : أتفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : ( أفلا أكون عبدًا شكورًا ) .
قال ابن المرحل : أنا لا أتكلم في الدليل، وأسلم ضعف هذا القول، لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة .
قال الشيخ تقي الدين : نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ، فإن القول إذا ثبت ضعفه، كيف ينسب إلى أهل الحق ؟
ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة .
قلت : وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سجدة سورة [ ص ] ( سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا ) . ثم من الذي قال من أئمة السنة : إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد ؟
قال ابن المرحل : هذا قد نقل، والنقل لا يمنع، لكن يستشكل . ويقال : هذا مذهب مشكل .
/قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية : النقل نوعان . أحدهما : أن ينقل ما سمع أو رأى . والثاني : ما ينقل باجتهاد واستنباط . وقول القائل : مذهب فلان كذا، أو مذهب أهل السنة كذا، قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله، وإن لم يكن فلان قال ذلك .(1/411)
ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرًا . ألا ترى أن كثيرًا من المصنفين يقولون : مذهب الشافعي أو غيره كذا، ويكون منصوصه بخلافه ؟ وعذرهم في ذلك : أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول، فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط، لا من جهة النص ؟ . وكذلك هذا . لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي، والخوارج يكفرون بالمعاصي، ثم رأى المصنف الكفر ضد الشكر، أعتقد أنا إذا جعلنا الأعمال شكرًا لزم انتفاء الشكر بانتفائها، ومتى انتفي الشكر خلفه الكفر، ولهذا قال : إنهم بنوا على ذلك : التكفير بالذنوب . فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر .
قلت : كما أن كثيرًا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة .
قال : وهذا خطأ، لأن التكفير نوعان : أحدهما : كفر النعمة . والثاني : الكفر بالله . والكفر الذي هو ضد الشكر : إنما هو كفر/ النعمة لا الكفر بالله . فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة، لا الكفر بالله .
قلت : على أنه لو كان ضد الكفر بالله، فمن ترك الأعمال شاكرًا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله . والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية . كما قال أهل السنة : إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرًا، حتى يترك أصل الإيمان . وهو الاعتقاد . ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة ـ التي هي ذات شعب وأجزاء ـ زوال اسمها، كالإنسان، إذا قطعت يده، أو الشجرة، إذا قطع بعض فروعها .
قال الصدر بن المرحل : فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة، كما خالفوا الخوارج في جعله كافرًا بالله .
قال الشيخ تقي الدين : أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا، فعمن تنقل من أصحابي هذا ؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة، حيث أطلقته الشريعة .
قال ابن المرحل : إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا، لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا .(1/412)
قال الشيخ تقي الدين : ولا أصحابك خالفوه . فإن أصحابك /قد تأولوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق ـ مثل ترك الصلاة، وقتال المسلمين ـ على أن المراد به كفر النعمة . فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة . فعلم أنهم موافقو الحسن، لا مخالفوه .
ثم عاد ابن المرحل، فقال : أنا أنقل هذا عن المصنف . والنقل ما يمنع، لكن يستشكل .
قال الشيخ تقي الدين : إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل، أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق، مع أنهم صرحوا في غير موضع : أن الشكر يكون بالقول، والعمل، والاعتقاد . وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه .
ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق إخراج الأعمال أن تكون شكرًا لله . بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال . وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل .
وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ [ الحمد ] و [ الشكر ] مثل كتب التفسير واللغة، / وشروح الحديث، يعرفه آحاد الناس، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك .
فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا، فقال : الحسن البصري يسمى الفاسق منافقًا، وأصحابك لا يسمونه منافقًا .
قال الشيخ تقي الدين له : بل يسمى منافقًا النفاق الأصغر، لا النفاق الأكبر . والنفاق يطلق على النفاق الأكبر، الذي هو إضمار الكفر . وعلى النفاق الأصغر، الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات .
قال له ابن المرحل : ومن أين قلت : إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا ؟
قال الشيخ تقي الدين : هذا مشهور عند العلماء . وبذلك فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) وقد ذكر ذلك الترمذي وغيره . وحكوه عن العلماء .(1/413)
وقال غير واحد من السلف ( كفر دون كفر، و نفاق دون نفاق، وشرك دون شرك ) .
/وإذا كان النفاق جنسًا تحته نوعان، فالفاسق داخل في أحد نوعيه .
قال ابن المرحل : كيف تجعل النفاق اسم جنس، وقد جعلته لفظًا مشتركًا، وإذا كان اسم جنس كان متواطئًا، والأسماء المتواطئة غير المشتركة، فكيف تجعله مشتركًا متواطئًا .
قال الشيخ تقي الدين : أنا لم أذكر أنه مشترك . وإنما قلت : يطلق على هذا وعلى هذا، والإطلاق أعم .
ثم لو قلت : إنه مشترك لكان الكلام صحيحًا . فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئىن بطريق التواطؤ، وبطريق الاشتراك . فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر، وإبطان المعصية، تارة بطريق الاشتراك وتارة بطريق التواطؤ، كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، عند قوم باعتبار الاشتراك، وعند قوم باعتبار التواطؤ . ولهذا سمى مشككا .
قال ابن المرحل : كيف يكون هذا ؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره .
قال له الشيخ تقي الدين : المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر . وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما، فقد يطلق عليهما باعتبار ما به/ تمتاز كل ماهية عن الأخرى . فيكون مشتركًا كالاشتراك اللفظي . وقد يكون مطلقًا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين، فيكون لفظًا متواطئًا .
قلت : ثم إنه في اللغة يكون موضوعًا للقدر المشترك، ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله : في هذا تارة، وفي هذا تارة . فيبقى دالا بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز . وقد يكون قرينة، مثل لام التعريف، أو الإضافة، تكون هي الدالة على ما به الامتياز .(1/414)
مثال ذلك : [ اسم الجنس ] إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة، إذا غلب على الفرس، قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينهما وبين سائر الدواب . فيكون متواطئًا . وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس، فيكون مشتركا بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب، ويصير استعماله في الفرس : تارة بطريق التواطؤ، وتارة بطريق الاشتراك .
وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علمًا بالغلبة : مثل ابن عمرو، والنجم، فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو . فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ . وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم، ومن بني عمرو، فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي . وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده، يصح /استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام، فيكون بطريق التواطؤ، بالوضع الثاني، فيصير بطريق الاشتراك .
ولفظ [ النفاق ] من هذا الباب . فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه . وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة، فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين .
ثم إبطان ما يخالف الدين، إما أن يكون كفرًا أو فسقًا . فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب، فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار . وإن أظهر أنه صادق أو موف، أو أمين، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك . فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقًا .
فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ .(1/415)
وعلى هذا، فالنفاق اسم جنس تحته نوعان . ثم إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين، مثل قوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] و { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] والمنافق هنا : الكافر .
وقد يراد به النفاق في فروعه . مثل قوله صلى الله عليه وسلم : / ( آية المنافق ثلاث ) وقوله : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ) وقول ابن عمر : فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث . ثم يخرج فيقول بخلافه : كنا نعد هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفاقًا .
فإذا أردت به أحد النوعين، فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد، والإضافة . فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئًا، كما إذا قال الرجل : جاء القاضي . وعني به قاضي بلده، لكون اللام للعهد .
كما قال سبحانه : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [ المزمل : 16 ] أن اللام هي أوجبت قصر الرسول على موسى، لا نفس لفظ ( رسول ) . وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه، فيصير مشتركًا بين اللفظ العام والمعنى الخاص . فكذلك قوله : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد، والمنافق المعهود : هو الكافر .
أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه كان منافقًا ) يعني به منافقًا بالمعنى العام، وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن .(1/416)
فإطلاق لفظ [ النفاق ] على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق، كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك . وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة . ويكون متواطئًا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ [ منافق ] بل لام التعريف .
/وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه، إما لغلبة الاستعمال، أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع، مثل تعريف الإضافة، أو تعريف اللام . فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال : إن اللفظ مشترك . وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيًا على مواطأته .
فلهذا صح أن يقال : [ النفاق ] اسم جنس تحته نوعان . لكون اللفظ في الأصل عاما متواطئًا .
وصح أن يقال : هو مشترك بين النفاق في أصل الدين، وبين مطلق النفاق في الدين . لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر .
/بحث ثان http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=222 - TOP#TOP
وهو : أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص .
فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها؛ فإنه يكون على جميع الصفات، والشكر لا يكون إلا على الإحسان . والشكر أعم من جهة ما به يقع، فإنه يكون بالاعتقاد، والقول، والفعل . والحمد يكون بالفعل أو بالقول، أو بالاعتقاد .(1/417)
أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجى الحنبلي [ زين الدين ابن المنجى الحنبلي : هو أسعد بن المنجَّى بن أبي المنجي بركات بن المؤمل التنوخي المعري الدمشقي الحنبلي، الشيخ الإمام العلامة شيخ الحنابلة وجيه الدين أبو المعالي . ولد سنة تسع عشرة وخمسمائة . ارتحل إلى بغداد بعد أن تفقه على شرف الإسلام عبد الوهاب بن الحنبلي سمع من أبي الفضل الأرموي وغيره وروى عنه الشيخ موفق الدين بن قدامة وغيره، ولى قضاء حران في دولة الملك نور الدين، ألف كتاب [ النهاية في شرح الهداية ] . في عدة مجلدات، توفي في جمادي الآخرة سنة ست وستمائة، وله سبع وثمانون سنة . [ سير أعلام النبلاء 12/436، 437 - شذرات الذهب 5/18، 19 ] : إن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر؛ لأن كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته، فلا يكون فرقًا في الحقيقة، والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات، لا لما خرج عنها .
فقال شيخ الإسلام ـ تقي الدين ابن تيمية : ـ
المعاني على قسمين : مفردة، ومضافة . فالمعاني المفردة : حدودها لا توجد فيها بتعلقاتها . وأما المعاني الإضافية فلابد أن يوجد في /حدودها تلك الإضافات . فإنها داخلة في حقيقتها . ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلقات، فتكون المتعلقات جزءًا من حقيقتها فتعين ذكرها في الحدود .
والحمد والشكر معلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه . فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلقهما . فيكون متعلقهما داخلًا في حقيقتهما .
فاعترض الصدر ابن المرحل : بأنه ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية . فلا يكون الحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية . فإن المتعلق صفة نسبية . والنسب أمور عدمية . وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة؛لأن العدم لا يكون جزءًا من الوجود .(1/418)
فقال الشيخ تقي الدين : قولك : ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، ليس على العموم . بل قد يكون للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، وقد لا يكون . وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين : ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية .
ثم الصفات المتعلقة نوعان : أحدهما : إضافة محضة . مثل الأبوة والبنوة، والفوقية والتحتية ونحوها . فهذه الصفة هي التي يقال فيها : هي مجرد نسبة وإضافة . والنسب أمور عدمية . والثاني : صفة ثبوتية مضافة / إلى غيرها، كالحب والبغض . والإرادة والكراهة، والقدرة، وغير ذلك من الصفات، فإن الحب صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب . فالحب معروض للإضافة، بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له؛ لا أن نفس الحب هو الإضافة . ففرق بين ما هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة . فالإضافة يقال فيها : إنها عدمية . قال : وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية، كالحب .
قال ابن المرحل : الحب أمر عدمي؛ لأن الحب نسبة، والنسب عدمية .
قال الشيخ تقي الدين : كون الحب، والبغض، والإرادة، والكراهة أمرًا عدميًا باطل بالضرورة . وهو خلاف إجماع العقلاء .
ثم هو مذهب بعض المعتزلة في إرادة الله . فإنه زعم أنها صفة سلبية . بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره . وأطبق الناس على بطلان هذا القول . وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحدًا من العقلاء قال : إنه عدمي .
فأصر ابن المرحل على أن الحب ـ الذي هو ميل القلب إلى المحبوب ـ أمر عدمي . وقال : المحبة : أمر وجودي .
/قال الشيخ تقي الدين : المحبة هي الحب، فإنه يقال : أحبه، وحبه حبًا ومحبة . ولا فرق . وكلاهما مصدر .
قال ابن المرحل : وأنا أقول : إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي .(1/419)
قال له الشيخ تقي الدين : الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم . وكون الحب والبغض أمرًا وجوديًا معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خاليًا عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية . فإذا صار محبا، فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب . ومن يحس ذلك من نفسه يجده، كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه .
ودليل ذلك : أنك تقول : أحب يحب محبة، ونقيض أحب : لم يحب . ولم يحب صفة عدمية، ونقيض العدم الإثبات .
قال ابن المرحل : هذا ينتقض بقولهم : امتنع يمتنع، فإن نقيض الامتناع : لا امتناع . وامتناع صفة عدمية .
قال الشيخ تقي الدين : الامتناع أمر اعتباري عقلي؛ فإن الممتنع ليس له وجود خارجي، حتى تقوم به صفة . وإنما هو معلوم بالعقل، / وباعتبار كونه معلومًا له ثبوت علمي، وسلب هذا الثبوت العلمي : عدم هذا الثبوت؛ فلم ينقض هذا قولنا : نقيض العدم ثبوت . وأما الحب فإنه صفة قائمة بالمحب . فإنك تشير إلى عين خارجة، وتقول : هذا الحي صار محبًا بعد أن لم يكن محبًا . فتخبر عن الوجود الخارجي . فإذا كان نقيضها عدمًا خارجيًا، كانت وجودًا خارجيًا .
وفي الجملة، فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة . فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية .(1/420)
قلت : وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير : صفات وجودية، ظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة، وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة . فالحمد والشكر من القسم الثاني؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه . وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه . فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير . وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما . فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر، وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما، وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكرحقيقتهما .
والدليل على هذا : أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر /فعلم أن تصور متعلق الشكر داخل في تصور الشكر .
قلت : ولو قيل : إنه ليس هذا إلا أمرًا عدميًا . فالحقيقة إن كانت مركبة من وجود وعدم، وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة . كما أن من عرف الأب ـ من حيث هو أب ـ فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة، التي هي نسبة وإضافة . وإن كان الأب أمرًا وجوديًا . فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه .
وإن لم يكن هذا المتعلق عارضًا لصفة ثبوتية . فلا يفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا المتعلق . كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة، الذي هو التعلق . وكذلك الحمد والشكر أمران متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه .
وهذا التعلق جزء من هذا المسمى . بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد . ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر .
فإذا كان فهمها موقوفًا على فهم متعلقهما، فوقوفه على فهم التعلق أولى . فإن التعلق فرع على المتعلق، وتبع له . فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلق الذي هو أبعد عنهما من التعلق، فتوقفه على فهم التعلق أولى . وإن كان التعلق أمرًا عدميًا . والله أعلم .(1/421)
/قال له الشيخ تقي الدين ابن تيمية : قوله : { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ } [ البقرة : 275 ] قد اتبع بقوله : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } وعامة أنواع الربا يسمى بيعًا . والربا ـ وإن كان اسمًا مجملاً ـ فهو مجهول . واستثناء المجهول من المعلوم يوجب جهالة المستثنى فيبقى المراد إحلال البيع الذي ليس بربا . فما لم يثبت أن الفرد المعين ليس بربا لم يصح إدخاله في البيع الحلال . وهذا يمنع دعوى العموم . وإن كان الربا اسمًا عامًا فهو مستثنى من البيع أيضًا . فيبقى البيع لفظًا مخصوصًا . فلا يصح ادعاء العموم على الإطلاق .
قال ابن المرحل : هذا من باب التخصيص . وهنا عمومان تعارضا، وليس من باب الاستثناء . فإن صيغ الاستثناء معلومة . وإذا كان هذا تخصيصًا لم يمنع ادعاء العموم فيه .
قال الشيخ تقي الدين : هذا كلام متصل بعضه ببعض، وهو من باب التخصيص المتصل . وتسميه الفقهاء استثناءً، كقوله : له هذه الدار ولي منها هذا البيت . فإن هذا بمنزلة قوله : إلا هذا البيت . وكذلك لو قال : أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانًا وهو منهم . كان بمنزلة قوله : إلا فلانًا . وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله : أحل الله البيع إلا ما كان منه ربًا .
/فمن ادعى بعد هذا أنه عام في كل ما يسمى بيعًا فهو مخطئ .
قال ابن المرحل : أنا أسلم أنه إنما هو عام في كل بيع لا يسمى ربا .
قال له الشيخ تقي الدين : وهذا كان المقصود . ولكن بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق؛ فإن دعوى العموم على الإطلاق ينافي دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض . وهذا كلام بين .
وادعى مدعٍ أن فيه قولين : أحدهما : أنه عام مخصوص . والثاني : أنه عموم مراد .
فقال الشيخ تقي الدين : فإن دعوى أنه عموم مراد، باطل قطعًا، فإنا نعلم أن كثيرًا من أفراد البيع حرام .
فاعترض ابن المرحل بأن تلك الأفراد حرمت بعد ما أحلت فيكون نسخًا .(1/422)
قال الشيخ تقي الدين : فيلزم من هذا ألا نحرم شيئًا من البيوع بخبر واحد، ولا بقياس، فإن نسخ القرآن لا يجوز بذلك، وإنما يجوز تخصيصه به . وقد اتفق الفقهاء على التحريم بهذه الطريقة .
/قال ابن المرحل : رجعت عن هذا السؤال؛ لكن أقول : هو عموم مراد في كل ما يسمى بيعًا في الشرع . فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي .
قال الشيخ تقي الدين : البيع ليس من الأسماء المنقولة؛ فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي، لكن الشارع اشترط لحله وصحته شروطًا . كما قد كان أهل الجاهلية لهم شروط أيضًا بحسب اصطلاحهم . وهكذا سائر أسماء العقود، مثل الإجارة والرهن، والهبة والقرض والنكاح، إذا أريد به العقد وغير ذلك، هي باقية على مسمياتها . والنقل إنما يحتاج إليه إذا أحدث الشارع معاني لم تكن العرب تعرفها، مثل الصلاة والزكاة، والتيمم . فحينئذ يحتاج إلى النقل . ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة .
قال ابن المرحل : أصحابي قد قالوا : إنها منقولة .
قال الشيخ تقي الدين : لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير : أحل الله البيع الصحيح الشرعي . أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال . وهذا ـ مع أنه مكرر ـ فإنه يمنع الاستدلال بالآية . فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي . ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية .
/قال ابن المرحل : متى ثبت أن هذا الفرد يسمى بيعًا في اللغة قلت : هو بيع في الشرع؛ لأن الأصل عدم النقل، وإذا كان بيعًا في الشرع دخل في الآية .(1/423)
قال الشيخ تقي الدين : هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول أما إذا ثبت أنه منقول لم يصح إدخال فرد فيه . حتى يثبت أن الاسم المنقول واقع عليه . وإلا فيلزم من هذا أن كل ما سمى في اللغة صلاة وزكاة، وتيممًا، وصومًا وبيعًا، وإجارة، ورهنا : أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار وعلى هذا التقدير، فلا يبقى فرق بين الأسماء المنقولة وغيرها . وإنما يقال : الأصل عدم النقل، إذا لم يثبت، بل متى ثبت النقل فالأصل عدم دخول هذا الفرد في الاسم المنقول، حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل .
فصل
وأما قول القائل لمن أنكر عليه : أنت شرعي، فكلام صحيح، فإن أراد بذلك أن الشرع لا يتبعه، أو لا يجب عليه اتباعه، وأنا خارج عن اتباعه، فلفظ الشرع قد صار له في عرف الناس ( ثلاث معان ) : الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل .
/فأما الشرع المنزل : فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة، وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه، وأفضل أولياء الله أكملهم اتباعًا له، ومن لم يلتزم هذا الشرع، أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل .
وأما المؤول فهو ما اجتهد فيه العلماء من الأحكام، فهذا من قلد فيه إمامًا من الأئمة ساغ ذلك له، ولا يجب على الناس التزام قول إمام معين .
وأما الشرع المبدل فهو الأحاديث المكذوبة،والتفاسير المقلوبة،والبدع المضلة التي أدخلت في الشرع وليست منه، والحكم بغير ما أنزل الله . فهذا ونحوه لا يحل لأحد اتباعه .
وإنما حكم الحكام بالظاهر . والله تعالى يتولى السرائر، وحكم الحاكم لا يحيل الأشياء عن حقائقها . فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) فهذا قول إمام الحكام،وسيد ولد آدم .(1/424)
/وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم : فإن أصاب فله أجران،وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) . وقال : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة . رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس بجهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ) .
ومن خرج عن الشرع الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم ظانًا أنه متبع للحقيقة . فإنه مضاه للمشركين المكذبين للرسل، ولفظ [ الحقيقة ] يقال : على [ حقيقة كونية ] و [ حقيقة بدعية ] و [ حقيقة شرعية ] .
فـ [ الحقيقة الكونية ] مضمونها الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شىء وربه ومليكه . وهذا مما يجب أن يؤمن به، ولا يجوز أن يحتج به، بل لله علينا الحجة البالغة . فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر عن المعاصي فعذره غير مقبول .(1/425)
وأما [ الحقيقة البدعية ] فهي سلوك طريق الله سبحانه وتعالى، مما يقع في قلب العبد من الذوق والوجد، والمحبة والهوى، من غير اتباع الكتاب والسنة، كطريق النصارى، فهم تارة يعبدون غير الله، وتارة يعبدون بغير أمر الله . كالنصارى المشركين الذين اتخذوا أحبارهم / ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وابتدعوا الرهبانية فأشركوا بالله مالم ينزل به سلطانًا، وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله . وأما دين المسلمين فكما قال الله تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، وقال تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الملك : 2 ] ، قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه، قالوا : وما أخلصه وأصوبه ؟ . قال : إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل . وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه : ( اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا ) .
وأما [ الحقيقة الدينية ] وهي تحقيق ما شرعه الله ورسوله، مثل الإخلاص لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والشكرلله، والصبر لحكم الله، والحب لله ورسوله، والبغض في الله ورسوله، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فهذا حقائق أهل الإيمان، وطريق أهل العرفان .(1/426)
سئل شيخ الإسلام الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه الله ـ عما أحدثه الفقراء المجردون، والمطوعون من صحبة الشباب، ومؤاخاة النسوان والماجريات، وحط رؤوسهم بين يدى بعضهم بعضًا، وأكلهم مال بعضهم بعضا بغير حق، ومن جنى يشال تحت رجليه، ويضرب بغير حق، ووقوفهم مكشوفو الرؤس، منحنين كالراكعين، ووضع النعال على رؤوسهم، ولباسهم الصوف، والرقع، والسجادة والسبحة، وأكل الحشيشة . وإذا جاءهم أمرد فرضوا عليه أن يصحبه واحد منهم، ويطلبوا منه الصحبة، هل يجوز ذلك ؟ أو نقل عن الصحابة ؟
فأجاب :
الحمد لله، أما صحبة المردان، على وجه الاختصاص بأحدهم ـ كما يفعلونه ـ مع ما ينضم إلى ذلك من الخلوة بالأمرد الحسن، ومبيته مع الرجل، ونحو ذلك، فهذا من أفحش المنكرات عند المسلمين، وعند اليهود، والنصارى، وغيرهم، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ودين سائر الأمم، بعد قوم لوط : تحريم الفاحشة اللوطية، ولهذا بين الله فى كتابه أنه لم يفعلها قبل قوم لوط أحد من العالمين، وقد عذب الله /المستحلين لها بعذاب ما عذبه أحدًا من الأمم، حيث طمس أبصارهم وقلب مدائنهم، فجعل عليها سافلها، وأتبعهم بالحجارة من السماء .
ولهذا جاءت الشريعة بأن الفاحشة التى فيها القتل : يقتل صاحبها بالرجم بالحجارة، كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين وماعز بن مالك الأسلمى والغامدية وغيرهم، ورجم بعده خلفاؤه الراشدون .(1/427)
والرجم شرعه الله لأهل التوراة والقرآن، وفى السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) . ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعًا، لكن تنوعوا فى صفة القتل : فبعضهم قال : يرجموا : وبعضهم قال : يرمى من أعلى جدار فى القرية ويتبع بالحجارة، وبعضهم قال : يحرق بالنار، ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكا للآخر، وقد اتفق المسلمون على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد .
وكذلك مقدمات الفاحشة عند التذاذ بقبلة الأمرد، ولمسه والنظر إليه، هو حرام باتفاق المسلمين . كما هو كذلك فى المرأة الأجنبية . كما ثبت فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( العينان / تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزنى وزناها السمع، واليد تزنى وزناها البطش، والرجل تزنى وزناها المشى، والقلب يتمنى ويشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) .
فإذا كان المستحل لما حرم الله كافرًا، فكيف بمن يجعله قربة وطريقًا إلى الله تعالى ؟ ! قال الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] ، وسبب نزول الآية أن غير الحمس من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، فجعل الله كشف عوراتهم فاحشة، وبين أن الله لا يأمر بالفحشاء، ولها لما حج أبو بكر الصديق قبل حجة الوداع، نادى ـ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحج المسلم والمشرك ـ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان . فكيف بمن يستحل إتيان الفاحشة الكبرى ؟ أو ما دونها ؟ ويجعل ذلك عبادة وطريقًا .(1/428)
وإن كان طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم من ضلال المتنسكة جعلوا عشق الصور الجميلة من جملة الطريق التى تزكى بها النفوس،فليس هذا من دين المسلمين،ولا اليهود ولا النصارى، وإنما هو دين أهل الشرك الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله .
/وإن كان أتباع هؤلاء زادوا على ما شرعه سادتهم وكبراؤهم، زيادات من الفواحش التى لا ترضاها القرود، فإنه قد ثبت فى صحيح البخارى ( أن أبا عمران رأى فى الجاهلية قردًا زنا بقردة، فاجتمعت عليه القرود فرجمته ) . ومثل ذلك قد شاهده الناس فى زماننا فى غير القرود، حتى الطيور .
فلو كانت صحبة [ المردان ] المذكورة خالية عن الفعل المحرم، فهى مظنة لذلك، وسبب له، ولهذا كان المشائخ العارفون بطريق الله يحذرون من ذلك . كما قال فتح الموصلى : أدركت ثلاثين من الأبدال كل ينهانى عند مفارقتى إياه عن صحبة الأحداث، وقال معروف الكرخى : كانوا ينهون عن ذلك . وقال بعض التابعين : ما أنا على الشاب الناسك من سبع يجلس إليه، بأخوف منى عليه من حدث يجلس إليه . وقال سفيان الثورى، وبشر الحافى : أن مع المرأة شيطانًا، ومع الحدث شيطانين، وقال بعضهم : ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه الله بصحبة هؤلاء الأحداث . وقد دخل من فتنة الصور والأصوات على النساك ما لا يعلمه إلا الله، حتى اعترف أكابر الشيوخ بذلك . وتاب منهم من تداركه الله برحمته .
ومعلوم أن هذا من باب اتباع الهوى بغير هدى من الله . { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] . ومن استحل ذلك، أو / اتخذه دينًا،كان ضالًا مضاهيًا للمشركين والنصارى، ومن فعله مع اعترافه بأنه ذنب أو معصية كان عاصيًا أو فاسقًا .(1/429)
وكذلك مؤاخاة [ المرأة الأجنبية ] بحيث يخلو بها، وينظر منها ما ليس للأجنبى أن ينظره حرام باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا كفر وضلال . والمال الذى يؤخذ لأجل إقرارهم، ومعونة على محادثة الرجل الأمرد، هى من جنس جعل القوادة، ومطالبتهم له بالصحبة من جنس العرس على البغى . والله سبحانه أباح النكاح غير مسافحين، ولا متخذى أخدان، فالمرأة المسافحة تزنى بمن اتفق لها . وكذلك الرجل المسافح؛ الذى يزنى مع من اتفق له، وأما المتخذ الخدن فهو الرجل يكون له صديقة، والمرأة يكون لها صديق، فالأمرد المخادن للواحد من هؤلاء من جنس المرأة المتخذة خدنًا، وكذلك الجعل والمال الذى يؤخذ على هذا من جنس مهر البغى، وجعل القوادة ونحو ذلك .
وأما [ الماجريات ] فإذا اختصم رجلان بقول أو فعل وجب أن يقام فى أمرهما بالقسط . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } [ النساء : 135 ] . وقال { كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } [ المائدة : 8 ] ، وقال : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } الآية [ الحجرات : 9 ] ، / وقد روى : أن اقتتالهما كان بالجريد والنعال .(1/430)
وقد قال تعالى : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } الآية [ النساء : 114 ] . وقال : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ النساء : 58 ] . وقال : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] . وقال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } الآية [ النحل : 126 ] .
فإن كان الشخصان قد اختصما، نظر أمرهما، فإن تبين ظلم أحدهما، كان المظلوم بالخيار بين الاستفاء والعفو، والعفو أفضل، فإن كان ظلمه بضرب أو لطم فله أن يضربه، أو يلطمه، كما فعل به عند جماهير السلف، وكثير من الأئمة، وبذلك جاءت السنة، وقد قيل : إنه يؤدب . ولا قصاص فى ذلك .
وإن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه، إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله، أو على غير الظالم . فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه، فله أن يقول له مثل ذلك، فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه، لأنه لم يظلمه، وإن افترى عليه كذبًا لم يكن له أن يفترى عليه كذبًا، لأن الكذب حرام، لحق الله، كما قال كثير من / العلماء فى القصاص فى البدن : إنه إذا جرحه أو خنقه أو ضربه ونحو ذلك يفعل به كما فعل . فهذا أصح قولى العلماء، إلا أن يكون الفعل محرمًا لحق الله، كفعل الفاحشة، أو تجريعه الخمر، فقد نهى عن مثل هذا أكثرهم، وإن كان بعضهم سوغه بنظير ذلك .(1/431)
وإذا اعترف الظالم بظلمه، وطلب من المظلوم أن يعفو عنه، ويستغفر الله له، فهذا حسن مشروع . كما ثبت فى الصحيح عن أبى الدرداء : أنه كان بين أبى بكر وعمر كلام، وإن أبا بكر طلب من عمر أن يستغفر له فأبى عمر، ثم ندم . فطلب أبا بكر فوجده قد سبقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له ذلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يغفر الله لك يا أبا بكر ) ، ثم قال : ( أيها الناس، إنى قد جئت إليكم فقلت : إنى رسول الله، فقلتم : كذبت، وقال أبو بكر : صدقت، فهل أنتم تاركوا لى صاحبى ؟ ) .
وإذا طلب من المظلوم العفو بعد اعتراف الظالم فأجاب، كان من المحسنين الذين أجرهم على الله، وإن أبى إلا طلب حقه لم يكن ظالمًا . لكن يكون قد ترك الأفضل الأحسن، فليس لأحد أن يخرجه عن أهل الطريق بمجرد ذلك، كما قد يفعله كثير من الناس . قال الله تعالى : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الشورى : 41، 42 ] فإنه لو كان من ترك الإحسان الذى لا يجب عليه يحسب خارجًا عن الطريق خرج عنه جمهور أهله .
و [ أولياء الله ] على صنفين : مقربين سابقين، وأصحاب يمين مقتصدين . كما روى البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله تعالى : من عادى لى وليًا فقد بارزني بالمحاربة .
وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) .(1/432)
ثم أكثر هؤلاء الذين يذمون تارك العفو إنما يذمونه لأهوائهم لكون الظالم صديق أحدهم أو وريثه، أو قرينه ونحو ذلك .
والله سبحانه أوجب على عباده العدل فى الصلح، كما أو جبه فى الحكم . فقال تعالى : { ٌفَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] . وقيد الإصلاح الذى يثيب عليه بالإخلاص، فقال / تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 114 ] . إذ كثير من الناس يقصدون الإصلاح، إما لسمعة وإما لرياء .
ومن العدل أن يمكن المظلوم من الانتصاف، ثم بعد ذلك الشفاعة إلى المظلوم فى العفو، ويصالحه الظالم، وترغيبه فى ذلك . فإن الله تعالى إذا ذكر فى القرآن حقوق العباد التى فيها وزر الظالم ندب فيها إلى العفو، كقوله سبحانه : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ } [ المائدة : 45 ] ، وقوله : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ الشورى : 40 ] .
وعن أنس قال : ( ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء فى القصاص إلا أمر فيه بالعفو ) وليس من شرط طلب العفو من المظلوم أن الظالم يقوم على قدميه، ولا يضع نعليه على رأسه، ونحو ذلك مما قد يلتزمه بعض الناس . وإنما شرطه التمكين من نفسه حتى يستوفى منه الحق . فإذا أمكن المظلوم من استيفاء حقه فقد فعل ما وجب عليه . ثم المستحق بالخيار إن شاء عفى، وإن شاء استوفى .
وللمظلوم أن يهجره ثلاثًا، وأما بعد الثلاث فليس له أن يهجره على ظلمه إياه، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن / يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام ) .(1/433)
وأما إذا كان الذنب لحق الله كالكذب، والفواحش، والبدع المخالفة للكتاب والسنة، أو إضاعة الصلاة بالتفريط، وواجباتها، ونحو ذلك، فهذا لا بد فيه من التوبة، وهل يشترط مع التوبة إظهار الإصلاح فى العمل ؟ على قولين للعلماء، وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصى بحسب ذنبه تعزيرًا يليق بمثله أن يفعله بمثله، مثل هجره مدة . كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة المخلفين .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس فى دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس فى أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين .
وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التى هم أولو أمرها . وهو كذلك فسر أولى الأمر فى قوله : { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [ النساء : 59 ] بأمراء الحرب : من الملوك ونوابهم، وبأهل العلم والدين الذين يعلمون الناس دينهم، ويأمرونهم بطاعة الله، فإن قوام الدين بالكتاب والحديد، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] .
وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق، كان تقويمهم على رؤسائهم وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه، إذا لم يقم به غيرهم . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان ) .(1/434)
وقد يكون تعزيره بنفيه عن وطنه مدة، كما كان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ينفى من شرب الخمر . وكما نفى نصر بن حجاج إلى البصرة، لخوف فتنة النساء به، وقد مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفى فى الزنا، ونفى المخنث، وأمر بعض المشائخ للمسىء بالسفر هذا أصله . وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل طويل ببيان الذنوب، والتوبة منها، وشروط التوبة، وهو حال مستصحب للعبد من أول أمره إلى آخر عمره، كما قال تعالى : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } الآية [ النصر : 1، 2 ] .
وإذا تاب العبد، وأخرج من ماله صدقة للتطهر من ذنبه، كان ذلك حسنًا مشروعًا قال تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } [ التوبة : 104 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فتنة الرجل فى أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) وقال كعب بن مالك : إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك ) .
لكن لا يجوز إلزامه بصدقة، ولا تجب عليه لا بإخراج ثيابه، ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يقصد مطالبته بالتوبة أن يؤكل ماله، لا سيما إذا أعنت فجعل له ذنب من غير ذنب، فإن هذا يبقى كذبا وظلمًا، وأكلًا للمال بالباطل، ولا يجب أن يكون ما يخرجه صدقة مصروفًا فى طعام يأكلونه، بل الخيرة إليه بوضعه حيث يكون أصلح وأطوع لله ولرسوله .(1/435)
والذى ينبغى أن ينظر أحق الناس بتلك الصدقة فتدفع إليه . وأما أن يجعل من جملة التوبة صنعة طعام، ودعوة، فهذا بدعة . فما زال الناس يتوبون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غير هذه البدعة .
/وأما الشكر الذى فيه إخراج شىء من ماله : كملبوس، أو غيره شكرًا لله على ما أنعم به، إما من توبة، وإما إصلاح، ونحو ذلك، فهو حسن مشروع، فإن كعب بن مالك لما جاءه المبشر بتوبة الله عليه، أعطاه ثوبه الذى كان عليه، واستعار ثوبًا ذهب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . لكن تعيين اللباس وغيره فى الشكر بدعة أيضًا . فإن فعل ذلك أحيانًا فهو حسن، فلا يجعل واجبًا أو مستحبًا، إلا ما جعله الله ورسوله واجبًا أو مستحبًا، ولا ينكر إلا ما كرهه الله ورسوله . فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرم الله .
وضرب الرجل تحت رجليه هو من التعزير، فإن كان له ذنب يستحق به مثل ذلك من دين الله، والمؤدب له ممن له أهلية ذلك، فهو حق . وأما كشف الرؤوس، والانحناء فليس من السنة، وإنما هو مأخوذ عن عادات بعض الملوك، والجاهلية، والمخلوق لا يسأل كشف رأس، ولا ركوع له . وإنما يركع لله فى الصلاة، وكشف الرؤوس لله فى الإحرام .
وأما [ لباس الصوف ] فقد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة الصوف فى السفر، ولهذا قال الأوزاعى : لباس الصوف فى السفر سنة، وفى الحضر بدعة .
/ومعنى هذا أن المداومة عليه فى الحضر بدعة . كما روينا عن محمد بن سيرين : أنه بلغه أن أقوامًا يتحرون لباس الصوف . قال : أظن هؤلاء بلغهم أن المسيح كان يلبس الصوف، فلبسوه لذلك، وهدى نبينا أحب إلينا من هدى غيره . وفى السنن : ( أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدون الجمعة، ولباسهم الصوف . وفي الحديث الآخر : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم مجتابي النمار ) . والنمار من الصوف، وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم القطن، وغيره .(1/436)
ومعنى هذا أن اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقِا إلى الله بدعة . وأما لبسه للحاجة والانتفاع به للفقير لعدم غيره، أو لعدم لبس غيره، ونحو ذلك فهو حسن مشروع . والامتناع من لبسه مطلقًا مذموم، لاسيما من يدع لبسه كبرًا وخيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : ( من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) ، وقال : ( بينما رجل يجر إزاره خيلاء إذ خسفت به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ) وقد كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب : المرتفع، والمنخفض .
وليس لأحد أن يجعل من الدين، ومن طريق الله إلا ما شرعه الله ورسوله، لاسيما إذا كان التقييد فيه فساد الدين والدنيا، فإن / لبس الصوف، وترقيع الثوب عند الحاجة حسن، من أفعال السلف . والامتناع من ذلك مطلقًا مذموم .
فأما من عمد إلى ثوب صحيح فمزقه ثم يرقعه بفضلات، ويلبس الصوف الرفيع الذي هو أعلى من القطن، والكتان، فهذا جمع فسادين :
أما من جهة الدين فإنه يظن التقييد بلبس المرقع والصوف من الدين، ثم يريد أن يظهر صورة ذلك دون حقيقته، فيكون ما ينفقه على ذلك أعظم مما ينفق على القطن الصحيح، وهذا مخالف للزهد .
وفساد المال بإتلافه وإنفاقه فيما لا ينفع لا في الدين، ولا في الدنيا .
فصل(1/437)
وأيضا أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه، فلو كان كالمباح المستوى الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة . وهذا كقوله تعالى : { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [ هود : 1ـ3 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6، 7 ] ، وقال : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 1ـ4 ] . فدل على أنها كانت ذنوبًا قبل إنذاره إياهم .(1/438)
وقال عن هود : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ } [ هود : 50- 52 ] ، فأخبر في أول خطابه أنهم مفترون بأكثر الذي كانوا عليه، كما قال لهم في الآية الأخرى : { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [ الأعراف : 71 ] .
وكذلك قال صالح : { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [ هود : 61 ] .
وكذلك قال لوط لقومه : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 80 ] . فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم، بخلاف قول من يقول : ما كانت فاحشة، ولا قبيحة، ولا سيئة حتى نهاهم عنها، ولهذا قال لهم : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ } [ العنكبوت : 29 ] . وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون، ولكن أنذرهم بالعذاب .(1/439)
وكذلك قول شعيب : { أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ هود : 85 ] . بين أن ما فعلوه / كان بخسا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم، بخلاف قول [ المجبرة ] : إن ظلمهم ما كان سيئة، إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب، وغير ذلك . كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش .
وهكذا إبراهيم الخليل قال : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا } [ مريم : 41، 42 ] ،فهذا توبيخ على فعله قبل النهي، وقال أيضًا : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } [ العنكبوت : 16، 17 ] . فأخبر أنهم يخلقون إفكًا قبل النهي .
وكذلك قول الخليل لقومه أيضًا : { مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلى قوله : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 85- 96 ] فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه، قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر، فقال : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ، أي : وخلق ما تنحتون . فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم ؟ وتدعون رب العالمين .(1/440)
/فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحًا بالنهي، ومعني قبحه كونه منهيًا عنه، لا لمعنى فيه، كما تقوله المجبرة .
وأيضًا، ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية، ويضرب لهم الأمثال، كقوله تعالى : { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } وقوله : { أَفَلَا تَتَّقُونَ } وقوله : { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84-89 ] . فهذا يقتضي أن اعترافهم بأن الله هو الخالق يوجب انتهاءهم عن عبادتها، وأن عبادتها من القبائح المذمومة، ولكن هؤلاء يظنون أن الشرك هو اعتقاد أن ثم خالق آخر، وهذا باطل، بل الشرك عبادة غير الله، وإن اعترف المشرك بأنه مخلوق .
وقوله : إنه كله لله، كذب مفترى وإن قال : إنه مخلوق . ومثل هذا كثير في القرآن . كقوله : { أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } ، وهذا في جملة بعد جملة يقول : { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } [ النمل : 60 : 61 ] ، إنكار عليهم أن يعبدوا غير الله، ويتخذوه إلهًا مع اعترافهم بأن هذا لم يفعله إله غير الله، وإنما فعله هو وحده .(1/441)
وقوله : { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } جواب الاستفهام ،أي : إله مع الله موجود وهذا غلط، فإنهم يجعلون مع الله آلهة ويشهدون بذلك، لكن ما كانوا يقولون : إنهم فعلوا ذلك، والتقرير إنما يكون لما يقرون به، وهم مقرون بأنهم لم يفعلوا، لا يقرون بأنه لم يكن معه إله . قال تعالى : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 19 ]
وقد قال سبحانه : { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] . وقال : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 17 ] . وقال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 119 ] .
/فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون : إن كل عاص فهو جاهل ـ كما قد بسط في موضع آخرـ فهو متناول لمن يكون علم التحريم أيضًا .
فدل على أنه يكون عاملا سوءًا، وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي عنه، وأنه يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب، وقيام الحجة .(1/442)
وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار، فإن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة : كالفاحشة، والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب، إلا من علم أنه باطل؛ كدين المشركين، وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى . وكذلك البدع كلها .(1/443)
ولهذا قال طائفة من السلف ـ منهم الثوري : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها . وهذا معنى ما روى عن طائفة أنهم قالوا : إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر . ومن قال : إنه لا يقبل / توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال : ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه : ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة، فإنه يتوب منها كما يرى الكافر إنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة، تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله، والخوارج لما أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، ورجع منهم نصفهم أو نحوه، وتابوا وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز، وغيره ومنهم من سمع العلم، فتاب وهذا كثير، فهذا القسم الذى لا يعلم فاعلوه قبحه قسم كثير من أهل القبلة، وهو في غيرهم عام، وكذلك ما يترك الإنسان من واجبات لا يعلم وجوبها كثيرة جدا، ثم إذا علم ما كان قد تركه من الحسنات من التوحيد والايمان وما كان مأمورًا بالتوبة منه والاستغفار مما كان سيئة، والتائب يتوب مما تركه وضيعه وفرط فيه من حقوق الله تعالى، كما يتوب مما فعله من السيئات وإن كان قد فعل هذا وترك هذا قبل الرسالة؛ فبالرسالة يستحق العقاب على ترك هذا فعل هذا، وإلا فكونه كان فاعلًا للسيئات المذمومة وتاركًا للحسنات التى يذم تاركها كان تائبًا قبل ذلك كما تقدم وذكرنا القولين قول من نفى الذم والعقاب وقول من أثبت الذم والعقاب . فإن قيل إذا لم يكن معاقبا عليها فلا معنى لقبحها قيل بل فيه معنيان : -(1/444)
أحدهما : إنه سبب للعقاب، لكن هو متوقف على الشرط، وهو الحجة قال تعالى : { وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } [ آل عمران 103 ] . فلولا إنقاذه لسقطوا ومن كان واقفًا على شفير فهلك، فهلاكه موقوف على سقوطه، بخلاف ما إذا بان، وبعد عن ذلك؛ فقد بعد عن الهلاك، فأصحابها كانوا قريبين إلى الهلاك والعذاب الثاني أنهم مذمومون منقوصون معيبون، فدرجتهم منخفضة بذلك، ولابد ولو قدر أنهم لم يعذبوا لا يستحقون ما يستحقه السليم، من ذلك من كرامته أيضًا وثوابه فهذه عقوبة بحرمان خير، وهى أحد نوعي العقوبة وهذا وإن كان حاصلًا لكل من ترك مستحبًا، فإنه يفوته خيره، ففرق بين ما يفوته مالم يحصل له، وبين ما ينقص ما عنده، وهذا كلام عام فيما لم يعاقب عليه من الذنوب، وأما من لم يرسل إليه رسول في الدنيا، فقد رويت آثار أنهم يرسل إليهم رسول في عرصامات القيامة كما قد بسط في مواضع .
وقد تنازع الناس في الوجوب والتحريم؛ هل يتحقق بدون العقاب على الترك على قولين، قيل لا يتحقق، فإنه إذا لم يعاقب كان كالمباح، وقيل يتحقق؛ فإنه لابد أن يذم وإن لم يعاقب، وتحقيق الأمر أن العقاب نوعان :
نوع بالآلام، فهذا قد يسقط بكثرة الحسنات، ونوع بنقص الدرجة، وحرمان ما كان يستحقه، فهذا يحصل إذا لم يحصل الأول، والله تعالى يكفر سيئات المسيء، كما قال تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا } [ النساء 31 ] . فيكفرها تارة بالمصائب، فتبقى درجة صاحبها كما كانت، وقد تصير درجته أعلى، ويكفرها بالطاعات، ومن لم يأت بتلك السيئات أعلى درجة، فيحرم صاحب السيئات، ما يسقط بازائها من طاعته، وهذا مما يتوب منه من أراد أن لا يخسر ومن فرط في مستحبات؛ فإنه يتوب أيضًا ليحصل له موجبها، فالتوبة تتناول هؤلاء كلهم .
وتوبة الإنسان من حسناته على أوجه :(1/445)
أحدهما : أن يتوب ويستغفر من تقصيره فيها .
والثاني : أن يتوب مما كان يظنه حسنات ولم يكن كحال أهل البدع .
والثالث : يتوب من إعجابه ورؤيته أنه فعلها، وأنها حصلت بقوته، وينسى فضل الله، وإحسانه، وأنه هو المنعم بها، وهذه توبة من فعل مذموم وترك مأمور؛ ولهذا قيل تخليص الأعمال مما يفسدها، أشد على العالمين من طول الاجتهاد، وهذا مما يبين احتياج الناس إلى التوبة دائما، ولهذا قيل هى مقام يستصحبه العبد من أول ما يدخل فيه؛ إلى آخر عمره، ولابد منه لجميع الخلق، فجميع الخلق عليهم أن يتوبوا وأن يستديموا التوبة .(1/446)
قال تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا . لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب 72 , 73 ] فغاية كل مؤمن التوبة، وقد قال الله لأفضل الأنبياء، وأفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم السابقون الأولون { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة 117 ] . ومن آواخر ما أنزل الله قوله { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ النصر 1 : 3 ] وقد ثبت في الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه، وسجوده : ( سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن ) وفى لفظ لمسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت : ( سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ) قالت : فقلت : يا رسول الله أراك تكثر من قولك سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، فقال : ( أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فقد رأيتها { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فتح مكة { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } ) .(1/447)
وأمره سبحانه له بالتسبيح بحمده والاستغفار في هذه الحال، لا يقتضي أنه لا يشرع في غيرها أو لا يؤمر به غيره بل يقتضي أن هذا سبب لما أمر به وإن كان مأمورًا به في مواضع أخر، كما يؤمر الإنسان بالحمد والشكر على نعمه، وإن كان مأمورًا بالشكر عليها وكما يؤمر بالتوبة من ذنب؛ وإن كان مأمورًا بالتوبة من غيره، لكن هو أمر أن يختم عمله بهذا، فغيره أحوج إلى هذا منه . وقد يحتاج العبد إلى هذا في غير هذه الحال، كما يحتاج إلى التوبة، فهو محتاج إلى التوبة والاستغفار مطلقا، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر عقب الصلاة ثلاثا قال تعالى { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [ آل عمران 17 ] قاموا الليل ثم جلسوا وقت السحر يستغفرون . وقد ختم الله سورة المزمل وفيها قيام الليل بقوله { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المزمل 20 ] ، كما ختم بذلك سورة المدثر بقوله { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [ المدثر 56 ] ، فهو سبحانه أهل التقوى، ولم يقل سبحانه أهل للتقوى بل قال : أهل التقوى فهو وحده أهل أن يتقى فيعبد دون ما سواه، ولا يستحق غيره أن يتقى، كما قال { وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ } [ النحل 52 ] ، وقال { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ النور 52 ] ، وهو أهل المغفرة، ولا يغفر الذنوب غيره، كما قال تعالى { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ } [ آل عمران 135 ] ، وفى غير حديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) .(1/448)
فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله سبحانه ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) فالمؤمنون يستغفرون مما كانوا تاركيه قبل الاسلام من توحيد الله وعبادته، وإن كان ذلك لم يأتهم به رسول بعد، كما تقدم، والرسول يستغفر من ترك ما كان تاركه، كما قال فيه { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] . وإن كان ذلك لم يكن عليه عقاب، والمؤمن إذا تبين له أنه ضيع حق قرابته، أو غيره استغفر الله من ذلك وتاب، وكذلك إذا تبين له أن بعض ما يفعله هو مذموم .
فصل(1/449)
فى قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] ، قد ثبت فى صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة، قال : لما أنزل اللّه : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } اشتد ذلك على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بَرَكُوا على الركب، وقالوا : أى رسول الله ! كُلِّفْنَا من العمل ما نُطِيق : الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة؛ وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ، فلما قرأها القوم وذَلَّتْ بها ألسنتهم أنزل الله فى أثرها : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل اللّه : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال : ( نعم ) ، { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال : ( نعم ) ، { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : ( نعم ) ، { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 286 ] ،(1/450)
قال : ( نعم ) .
وروى سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس معناه،وقال : ( قد فَعَلْتُ، قد فَعَلْتُ ) ، بدل ( نعم ) .
ولهذا قال كثير من السلف والخلف : إنها منسوخة بقوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } ، كما نقل ذلك عن ابن مسعود، وأبى هريرة، وابن عمر، وابن عباس فى رواية عنه، والحسن، والشَّعْبِى، وابن سِيرِين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراسانى، والسُّدِّىّ، ومحمد بن كعب، ومقاتل، والكلبى، وابن زيد، ونقل عن آخرين أنها ليست منسوخة، بل هى ثابتة فى المحاسبة على العموم، فيأخذ من يشاء ويغفر لمن يشاء، كما نقل ذلك عن ابن عمر، والحسن، واختاره أبو سليمان الدمشقى والقاضى أبو يعلى، وقالوا : هذا خبر، والأخبار لا تنسخ .
وفصل الخطاب : أن لفظ ( النسخ ) مجمل، فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه، من عموم أو إطلاق أو غير ذلك، كما قال من قال : إن قوله : { اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] ، { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] ، نسخ بقوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، وليس بين الآيتين تناقض، لكن قد يفهم بعض الناس من قوله : { حَقَّ تُقَاتِهِ } و { حَقَّ جِهَادِهِ } الأمر بما لا يستطيعه العبد فينسخ ما فهمه هذا، كما ينسخ اللّه ما يلقى الشيطان ويحكم اللّه آياته . وإن لم يكن نسخ ذلك نسخ ما أنزله، بل نسخ ما ألقاه الشيطان، إما من الأنفس أو من الأسماع أو من اللسان .
وكذلك ينسخ اللّه ما يقع فى النفوس من فهم معنى، وإن كانت الآية لم تدل عليه لكنه محتمل وهذه الآية من هذا الباب؛ فإن قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } الآية إنما تدل على أن اللّه يحاسب بما فى النفوس لا على أنه يعاقب على كل ما فى النفوس، وقوله : { لِمَن يَشَاء } يقتضى أن الأمر إليه فى المغفرة والعذاب لا إلى غيره .(1/451)
ولا يقتضى أنه يغفر ويعذب بلا حكمة ولا عدل، كما قد يظنه من يظنه من الناس، حتى يجوزوا أنه يعذب على الأمر اليسير من السيئات مع كثرة الحسنات وعظمها، وأن الرجلين اللذين لهما حسنات وسيئات يغفر لأحدهما مع كثرة سيئاته وقلة حسناته، ويعاقب الآخر على السيئة الواحدة مع كثرة حسناته، ويجعل درجة ذاك فى الجنة فوق درجة الثانى .
وهؤلاء يجوزون أن يعذب اللّه الناس بلا ذنب، وأن يكلفهم ما لا يطيقون ويعذبهم على تركه، والصحابة إنما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس، فقالوا : لا طاقة لنا بهذا؛ فإنه إن كلفنا ما لا نطيق عذبنا، فنسخ اللّه هذا الظن، وبين أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبين بطلان قول هؤلاء الذين يقولون : إنه يكلف العبد ما لا يطيقه، ويعذبه عليه، وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف والأئمة، بل أقوالهم تناقض ذلك،حتى إن سفيان بن عيينة سئل عن قوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، قال : إلا يسرها، ولم يكلفها طاقتها . قال البغوى : وهذا قول حسن؛لأن الوسع ما دون الطاقة،وإنما قاله طائفة من المتأخرين لما ناظروا المعتزلة فى ( مسائل القدر ) وسلك هؤلاء مسلك الجبر، جَهْم وأتباعه،فقالوا هذا القول وصاروا فيه على مراتب،وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع .
قال ابن الأنبارى فى قوله : { وَلاَتُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] أى : لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تَجشُّم وتحمل مكروه، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل؛ فإن الرجل منهم يقول للرجل : ما أطيق النظر إليك،وهومطيق لذلك،لكنه ثقيل عليه النظر إليه قال : ومثله قوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } [ هود : 20 ] .(1/452)
قلت : ليست هذه لغة العرب وحدهم، بل هذا مما اتفق عليه العقلاء . والاستطاعة فى الشرع هى ما لا يحصل معه للمكلف ضرر راجح، كاستطاعة الصيام والقيام، فمتى كان يزيد فى المرض أو يؤخر البرء لم يكن مستطيعاً؛ لأن فى ذلك مضرة راجحة، بخلاف هؤلاء فإنهم كانوا لا يستطيعون السمع لبغض الحق وثقله عليهم؛إما حسداً لقائله، وإما اتباعاً للهوى ورين الكفر والمعاصى على القلوب، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ومن فيهن .
والمقصود أن السلف لم يكن فيهم من يقول : إن العبد لا يكون مستطيعاً إلا فى حال فعله، وأنه قبل الفعل لم يكن مستطيعاً، فهذا لم يأت الشرع به قط، ولا اللغة، ولا دل عليه عقل، بل العقل يدل على نقيضه، كما قد بسط فى غير هذا الموضع .
والرب ـ تعالى ـ يعلم أن العبد لا يفعل الفعل مع أنه مستطيع له، والمعلوم أنه لا يفعله، ولا يريده لا أنه لا يقدر عليه، والعلم يطابق المعلوم، فاللّه يعلم ممن استطاع الحج والقيام والصيام أنه مستطيع، ويعلم أن هذا مستطيع يفعل مستطاعه، فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد، لا لعدم استطاعته، كالمقدورات له التى يعلم أنه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها، والعبد قادر على أن يفعل، وقد علم اللّه أنه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذبه لأنه إنما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع، ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه .
وإذا قيل : فيلزم أن يكون قادراً على تغيير علم اللّه؛ لأن اللّه علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم اللّه .(1/453)
قيل : هذه مغلطة؛ وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا يلزم فيها تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه، لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم اللّه بعدم وقوعه، بل إن وقع كان اللّه قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان اللّه قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعرف علم اللّه إلا بما يظهر،و علم اللّه مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شىء يستلزم تغيير العلم، بل أى شىء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذى لم يفعل لم يأت بشىء يغير العلم، بل هو قادر على فعل ما لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع .
وإذا قيل : فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم .
قيل : ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه، وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فإذا وقع كان اللّه عالماً أنه سيقع، وإذا لم يقع كان اللّه عالماً بأنه لا يقع البَتةَ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هى محال .
ومما يلزم هؤلاء ألاّ يبقى أحد قادراً على شىء إلا الرب؛ فإن الأمور نوعان : نوع علم اللّه أنه سيكون، ونوع علم الله أنه لا يكون .
فالأول لابد من وقوعه، والثانى لا يقع البتة . فما علم الله أنه سيقع يعلم أنه يقع بمشيئته وقدرته، وما علم أنه لا يقع يعلم أنه لا يشاؤه، وهو ـ سبحانه ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
وأما ( المعتزلة ) فعندهم أنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأولئك ( المجبرة ) فى جانب، وهؤلاء فى جانب، وأهل السنة وَسَط .(1/454)
وما يفعله العباد باختيارهم يعلم ـ سبحانه ـ أنهم فعلوه بقدرتهم ومشيئتهم وما لم يفعلوه مع قدرتهم عليه يعلم أنهم لم يفعلوه لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه، وهوـ سبحانه ـ الخالق للعباد ولقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، وكل ذلك مقدور للرب، وليس هذا مقدوراً بين قادرين، بل القادر المخلوق هو وقدرته ومقدوره مقدور للخالق مخلوق له .
والمقصود هنا أن قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } [ البقرة : 284 ] حق، والنسخ فيها هو رَفْع فَهْم من فَهِم من الآية ما لم تدل عليه، فمن فهم أن الله يكلف نفساً ما لا تسعه فقد نسخ فهمه وظنه، ومن فهم منها أن المغفرة والعذاب بلا حكمة وعدل فقد نسخ فهمه وظنه،فقوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] رد للأول، وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } رد للثانى، وقوله : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } كقوله فى آل عمران : { وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 129 ] ،وقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 40 ] ، ونحو ذلك .
وقد علمنا أنه لا يغفر أن يشرك به، وأنه لا يعذب المؤمنين، وأنه يغفر لمن تاب، كذلك قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } الآية .
ودلت هذه الآية على أنه ـ سبحانه ـ يحاسب بما فى النفوس، وقد قال عمر : زِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا . والمحاسبة تقتضى أن ذلك يحسب ويحصى .(1/455)
وأما المغفرة والعذاب،فقد دل الكتاب والسنة على أن من فى قلبه الكفر وبغض الرسول وبغض ما جاء به أنه كافر بالله ورسوله، وقد عفى الله لهذه الأمة ـ وهم المؤمنون حقاً، الذين لم يرتابوا ـ عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل، كما هو فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وابن عباس، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم : أن الذى يهم بالحسنة تكتب له، والذى يهم بالسيئة لا تكتب عليه حتى يعملها إذا كان مؤمناً من عادته عمل الحسنات وترك السيئات، فإن ترك السيئة للّه كتبت له حسنة، فإذا أبدى العبد ما فى نفسه من الشر بقول أو فعل صار من الأعمال التى يستحق عليها الذم والعقاب، وإن أخفى ذلك وكان ما أخفاه متضمناً لترك الإيمان بالله والرسول مثل الشك فيما جاء به الرسول أو بغضه كان معاقباً على ما أخفاه فى نفسه من ذلك؛ لأنه ترك الإيمان الذى لا نجاة ولا سعادة إلا به، وأما إن كان وسواسا والعبد يكرهه فهذا صريح الإيمان، كما هو مصرح به فى الصحيح .
وهذه ( الوسوسة ) هى مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان، وقد خاف من خاف من الصحابة من العقوبة على ذلك، فقال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .(1/456)
و ( الوُسْع ) فعل بمعنى المفعول، أى : ما يسعه، لا يكلفها ما تضيق عنه فلا تسعه، وهو المقدور عليه المستطاع، وقال بعض الناس : إن ( الوسع ) اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه . وليس كذلك، بل ما يسع الإنسان هو مباح له، وما لم يسعه ليس مأموراً به فما يسعه قد يؤمر به وأما ما لا يسعه فهو المباح يقال : يسعنى أن أفعل كذا، ولا يسعنى أن أفعل كذا، والمباح هو الواسع، ومنه باحة الدار، فالمباح لك أن تفعله هو يسعك ولا تخرج عنه،ومنه يقال : رحم الله من وسعته السُّنَّة فلم يتعدها إلى البدعة،أى : فيما أمر اللّه به وما أباحه ما يكفى المؤمن المتبع فى دينه ودنياه لا يحتاج أن يخرج عنه إلى ما نهى عنه .
وأما ما كلفت به فهو ما أمرت بفعله، وذلك يكون مما تسعه أنت لا مما يسعك هو، وقد يقال : لا يسعنى تركه، بل تركه محرم، وقد قال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] ، وهو أول الحرام، وقال : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] ، وهى آخر الحلال، وقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } [ الأنفال : 53 ] . وهذا التغيير نوعان :
أحدهما : أن يبدو ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب .
والثانى : أن يغيروا الإيمان الذى فى قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر اللّه به ورسوله، فيستحقون العذاب هنا على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور .
وكذلك ما فى النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة . فإذا خلى القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات .(1/457)
وبهذا التفصيل تزول شبه كثيرة، ويحصل الجمع بين النصوص، فإنها كلها متفقة على ذلك، فالمنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يعاقبون على أنهم لم تؤمن قلوبهم، بل أضمرت الكفر، قال تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح : 11 ] ، وقال : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ البقرة : 10 ] ،وقال : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } [ المائدة : 41 ] ، فالمنافق لابد أن يظهر فى قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره، كما قال عثمان بن عفان : ما أسَرّ أحد سريرة إلا أظهرها اللّه على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه،وقد قال تعالى عن المنافقين : { وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } ثم قال : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] ، وهو جواب قسم محذوف، أي : واللّه لتعرفهم فى لحن القول، فمعرفة المنافق في لحن القول لابد منها، وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة .
ولما كانت هذه الآية : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } خبرا من اللّه؛ ليس فيها إثبات إيمان للعبد، بخلاف الآيتين بعدها، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما فى ليلة كفتاه ) متفق عليه، وهما قوله : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلى آخرها [ البقرة : 285 ] .(1/458)
وكلام السلف يوافق ما ذكرناه، قال ابن عباس : هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يقول : إنى أخبركم بما أخفيتم فى أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتى، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله : { يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } يقول : يخبركم به اللّه، وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، وهو قوله : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } [ البقرة : 284 ] .
وقد روى عن ابن عباس : أنها نزلت فى كتمان الشهادة، وروى ذلك عن عكرمة والشعبى، وكتمان الشهادة من باب ترك الواجب، وذلك ككتمان العيب الذى يجب إظهاره، وكتمان العلم الذى يحب إظهاره، وعن مجاهد : أنه الشك واليقين، وهذا أيضاً من باب ترك الواجب؛ لأن اليقين واجب . وروى عن عائشة : ما أعلنت فإن الله يحاسبك به، وأما ما أخفيتَ فما عجلتْ لك به العقوبة فى الدنيا . وهذا قد يكون مما يعاقب فيه العبد بالغم، كما سئل سفيان بن عيينة عن غم لا يعرف سببه قال : هو ذنب هممت به فى سرك ولم تفعله، فجزيت هَمًّا به .
فالذنوب لها عقوبات؛ السر بالسر، والعلانية بالعلانية، وروى عنها مرفوعا قالت : سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } فقال : ( يا عائشة، هذه معاتبة الله العبد مما يصيبه من النَّكْبَةِ والحمى، حتى الشوكة والبِضَاعَة يضعها فى كمِّه فيفقدها فَيُرَوعُ لها فيجدها فى جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير ) .
قلت : هذا المرفوع هو ـ والله أعلم ـ بيان ما يعاقب به المؤمن فى الدنيا؛ وليس فيه أن كل ما أخفاه يعاقب به، بل فيه أنه إذا عوقب على ما أخفاه عوقب بمثل ذلك، وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة .(1/459)
وقد روى الرويانى [ أبو بكر محمد بن هارون الرويانى، من حفاظ الحديث، له مسند، وتصانيف فى الفقه . نسبته إلى رويان بنواحى طبرستان، وتوفى سنة 703هـ ] فى مسنده من طريق الليث عن يزيد بن أبى حبيب، عن سعيد ابن سِنان، عن أنس، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أراد اللّه بعبده الخير عَجَّل له العقوبة فى الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه العقوبة بذنبه حتى يوافيه بها يوم القيامة ) ، وقد قال تعالى : { فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ آل عمران : 153، 154 ] .
فهؤلاء كانوا فى ظنهم ـ ظن الجاهلية ـ ظنا ينافى اليقين بالقدر، وظنا ينافى بأن اللّه ينصر رسوله، فكان عقابهم على ترك اليقين ووجود الشك، وظن الجاهلية، ومثل هذا كثير .(1/460)
ومما يدخل فى ذلك نيات الأعمال، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى . والنية : هى مما يخفيه الإنسان فى نفسه، فإن كان قصده ابتغاء وجه ربه الأعلى استحق الثواب، وإن كان قصده رياء الناس استحق العقاب، كما قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } [ الماعون : 4 ـ 6 ] وقال : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ } [ النساء : 142 ] .
وفى حديث أبى هريرة الصحيح فى الثلاثة الذين أول من تُسَعَّر بهم النار : فى الذى تَعَلَّم وعَلَّم ليقال : عالم وقارئ، والذى قاتل ليقال : جرىء وشجاع، والذى تصدق ليقال : جواد وكريم . فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم، وتعظيمهم لهم وطلب الجاه عندهم، لم يقصدوا بذلك وجه اللّه، وإن كانت صور أعمالهم صوراً حسنة، فهؤلاء إذا حوسبوا كانوا ممن يستحق العذاب، كما فى الحديث : ( من طلب العلم ليُبَاهِى به العلماء، أو ليُمَارِى به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار ) ، وفى الحديث الآخر : ( من طلب علما مما يبتغى به وجه اللّه لا يطلبه إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يُرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ) .
وفى الجملة، القلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة : القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده، وهذا كما فى حديث النعمان بن بشير ـ المتفق عليه ـ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهى القلب فصلاحه وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده، فيكون هذا مما أبداه لا مما أخفاه .(1/461)
وكل ما أوجبه اللّه على العباد لابد أن يجب على القلب فإنه الأصل، وإن وجب على غيره تبعا،فالعبد المأمور المنهى إنما يعلم بالأمر والنهى قلبه، وإنما يقصد الطاعة والامتثال القلب، والعلم بالمأمور والامتثال يكون قبل وجود الفعل المأمور به، كالصلاة، والزكاة، والصيام . وإذا كان العبد قد أعرض عن معرفة الأمر وقصد الامتثال، كان أول المعصية منه، بل كان هو العاصى وغيره تبع له فى ذلك؛ ولهذا قال فى حق الشقى : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ القيامة : 31، 32 ] الآيات،وقال فى حق السعداء : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الكهف : 30 ] فى غير موضع . والمأمور نوعان :
نوع هو عمل ظاهر على الجوارح، وهذا لا يكون إلا بعلم القلب وإرادته . فالقلب هو الأصل فيه، كالوضوء والاغتسال، وكأفعال الصلاة؛ من القيام، والركوع، والسجود، وأفعال الحج؛ من الوقوف، والطواف،وإن كانت أقوالا فالقلب أخص بها، فلابد أن يعلم القلب وجود ما يقوله، أو بما يقول ويقصده .
ولهذا كانت الأقوال فى الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصده، فأما المجنون والطفل الذى لا يميز فأقواله كلها لغو فى الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود،ولاشىء من الأقوال باتفاق المسلمين، وكذلك النائم إذا تكلم فى منامه، فأقواله كلها لغو، سواء تكلم المجنون والنائم بطلاق أو كفر أوغيره، وهذا بخلاف الطفل؛ فإن المجنون والنائم إذا أتلف مالا ضمنه، ولو قتل نفساً وجبت ديتها كما تجب دية الخطأ .
وتنازع العلماء فى السكران،مع اتفاقهم أنه لا تصح صلاته؛لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مروهم بالصلاة لسبع،واضربوهم عليها لعشر،وفَرِّقوا بينهم فى المضاجع ) وهو معروف فى السنن .(1/462)
وتنازعوا فى عقود السكران كطلاقه، و فى أفعاله المحرمة، كالقتل والزنا، هل يجرى مجرى العاقل، أو مجرى المجنون، أو يفرق بين أقواله وأفعاله وبين بعض ذلك وبعض ؟ على عدة أقوال معروفة .
والذى تدل عليه النصوص والأصول وأقوال الصحابة : أن أقواله هدر ـ كالمجنون ـ لا يقع بها طلاق ولا غيره؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد قال : { حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] ، فدل على أنه لا يعلم ما يقول، والقلب هو الملك الذى تصدر الأقوال والأفعال عنه، فإذا لم يعلم ما يقول لم يكن ذلك صادراً عن القلب، بل يجرى مجرى اللغو، والشارع لم يرتب المؤاخذة إلا على ما يكسبه القلب من الأقوال والأفعال الظاهرة، كما قال : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] ، ولم يؤاخذ على أقوال وأفعال لم يعلم بها القلب ولم يتعمدها، وكذلك ما يحدث به المرء نفسه لم يؤاخذ منه إلا بما قاله أو فعله، وقال قوم : إن اللّه قد أثبت للقلب كسباً فقال : { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } فليس للّه عبد أسَرّ عملاً أو أعلنه من حركة فى جوارحه، أو هَمٍّ فى قلبه، إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه، ثم يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء .
واحتجوا بقوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] ، وهذا القول ضعيف شاذ؛فإن قوله : { يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } إنما ذكره لبيان أنه يؤاخذ فى الأعمال بما كسب القلب،لا يؤاخذ بلغو الأيمان، كما قال : { بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } [ المائدة : 89 ] ، فالمؤاخذة لم تقع إلا بما اجتمع فيه كسب القلب مع عمل الجوارح، فأما ما وقع فى النفس، فإن الله تجاوز عنه ما لم يتكلم به أو يعمل، وما وقع من لفظ أو حركة بغير قصد القلب وعلمه فإنه لا يؤاخذ به .(1/463)
وأيضا، فإذا كان السكران لا يصح طلاقه والصبى المميز تصح صلاته، ثم الصبى لا يقع طلاقه، فالسكران أولى، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لماعز لما اعترف بالحد : ( أبك جنون ؟ ) قال : لا، ثم أمر باستنكاهه لئلا يكون سكران، فدل على أن إقرار السكران باطل، وقضية ماعز متأخرة بعد تحريم الخمر؛ فإن الخمر حرمت سنة ثلاث بعد أُحُد باتفاق الناس، وقد ثبت عن عثمان وغيره من الصحابة ـ كعبد اللّه بن عباس ـ أن طلاق السكران لا يقع، ولم يثبت عن صحابى خلافه .
والذين أوقعوا طلاقه لم يذكروا إلا مأخذاً ضعيفا، وعمدتهم أنه عاص بإزالة عقله، وهذا صحيح يوجب عقوبته على المعصية التى هى الشرب فيحد على ذلك، وأما الطلاق فلا يعاقب به مسلم على المعصية، ولو كان كذلك لكان كل من شرب الخمر أو سكر طلقت امرأته، وإنما قال من قال : إذا تكلم به طلقت، فهم اعتبروا كلامه لا معصيته، ثم إنه فى حال سكره قد يعتق، والعتق قربة، فإن صححوا عتقه بطل الفرق، وإن ألغوه فإلغاء الطلاق أولى؛ فإن الله يحب العتق ولا يحب الطلاق .
ثم من علل ذلك بالمعصية، لزمه طرد ذلك فيمن زال عقله بغير مسكر كالبنج، وهو قول من يسوى بين البنج والسكران من أصحاب الشافعى وموافقيه كأبى الخطاب، والأكثرون على الفرق، وهو منصوص أحمد وأبى حنيفة وغيرهما؛ لأن الخمر تشتهيها النفس وفيها الحد، بخلاف البنج فإنه لا حد فيه، بل فيه التعزير؛ لأنه لا يشتهى كالميتة، والدم ولحم الخنزير فيها التعزير، وعامة العلماء على أنه لا حد فيها إلا قولاً نقل عن الحسن، فهذا فيمن زال عقله .
وأما إذا كان يعلم ما يقول، فإن كان مختاراً قاصداً لما يقوله، فهذا هو الذى يعتبر قوله، وإن كان مكرها، فإن أكره على ذلك بغير حق فهذا عند جمهور العلماء أقواله كلها لَغْو، مثل كفره، وإيمانه، وطلاقه وغيره، وهذا مذهب مالك والشافعى وأحمد وغيرهم .(1/464)
وأبو حنيفة وطائفة يفرقون بين ما يقبل الفسخ وما لا يقبله، قالوا : فما يقبل الفسخ لا يلزم من المكره كالبيع، بل يقف على إجازته له، وما لا يقبل الفسخ كالنكاح والطلاق واليمين فإنه يلزم من المكره .
والجمهور ينازعون فى هذا الفرق؛ فى ثبوت الوصف، وفى تعلق الحكم به؛ فإنهم يقولون : النكاح ونحوه يقبل الفسخ، وكذلك العتق يقبل الفسخ عند الشافعى وأحد القولين فى مذهب أحمد، حتى إن المكاتب قد يحكمون بعتقه ثم يفسخون العتق ويعيدونه عبداً، والأيمان المنعقدة تقبل التحلة، كما قال تعالى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] ، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا أن القلب هو الأصل فى جميع الأفعال والأقوال، فما أمر اللّه به من الأفعال الظاهرة فلابد فيه من معرفة القلب وقصده وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم، والمنهى عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب، وأما ثبوت بعض الأحكام، كضمان النفوس والأموال إذا أتلفها مجنون أو نائم أو مخطئ أو ناس، فهذا من باب العدل فى حقوق العباد، ليس هو من باب العقوبة .
فالمأمور به ـ كما ذكرنا ـ نوعان : نوع ظاهر على الجوارح، ونوع باطن فى القلب .(1/465)
النوع الثانى : ما يكون باطنا فى القلب كالإخلاص وحب اللّه ورسوله والتوكل عليه والخوف منه، وكنفس إيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرسول، فهذا النوع تعلقه بالقلب ظاهر فإنه محله، وهذا النوع هو أصل النوع الأول، وهو أبلغ فى الخير والشر من الأول، فنفس إيمان القلب وحبه وتعظيمه للّه وخوفه ورجائه والتوكل عليه وإخلاص الدين له لا يتم شىء من المأمور به ظاهراً إلا بها، وإلا فلو عمل أعمالا ظاهرة بدون هذه كان منافقاً، وهى فى أنفسها توجب لصاحبها أعمالا ظاهرة توافقها، وهى أشرف من فروعها، كما قال تعالى : { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] .
وكذلك تكذيب الرسول بالقلب وبغضه وحسده والاستكبار عن متابعته،أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل والزنا والشرب والسرقة، وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة؛ كالسجود للأوثان، وسب الرسول ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن، وإلا فلو قدر أنه سجد قُدّام وَثَنٍ ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود للّّه بقلبه لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم فى الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود للّه، كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين، حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه، ولم يظهر منافرتهم فى أول الأمر .
وهنا أصول تنازع الناس فيها، منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شىء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر من غير خوف ؟ فالذى عليه السلف والأئمة وجمهور الناس : أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال : إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف، فهذا لا يكون مؤمناً فى الباطن، وإنما هو كافر .(1/466)
وزعم جَهْم ومن وافقه أنه يكون مؤمناً فى الباطن . . . [ بياض الأصل ] وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيماناً يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر، وهذا باطل شرعا وعقلا ـ كما قد بسط فى غير هذا الموضع . وقد كَفَّر السلف ـ كوَكِيع وأحمد وغيرهما ـ من يقول بهذا القول، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلُحَتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب ) ، فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد . فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمناً، حتى إن المكره إذا كان فى إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه وفى السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه، كما قال عثمان . وأما إذا لم يظهر أثر ذلك ـ لا بقوله ولا بفعله قط ـ فإنه يدل على أنه ليس فى القلب إيمان .
وذلك أن الجسد تابع للقلب،فلا يستقر شىء فى القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه، وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض فالمقتضى لظهور موجبه قائم؛ والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له، وإنما يكون فى بعض الأحوال متعذراً إذا كتم ما فى قلبه كمؤمن آل فرعون، مع أنه قد دعى إلى الايمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه، وهذا فى معرفة القلب وتصديقه .
ومنها قصد القلب وعزمه إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده، هل يمكن ألا يوجد شىء مما قصده وعزم عليه ؟ فيه قولان، أصحهما أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور، وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم،وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور لكن يحصل معه مقدمات المقدور، وقيل : بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر .(1/467)
وهذا نظير قول من قال ذلك فى المعرفة والتصديق، وهما من أقوال أتباع جَهْم الذين نصروا قوله فى الإيمان، كالقاضى أبى بكر وأمثاله، فإنهم نصروا قوله، وخالفوا السلف والأئمة وعامة طوائف المسلمين .
وبهذا ينفصل النزاع فى مؤاخذة العبد بالْهَمَّة، فمن الناس من قال : يؤاخذ بها إذا كانت عَزْما، ومنهم من قال : لا يؤاخذ بها . والتحقيق : أن الهمة إذا صارت عزما فلابد أن يقترن بها قول أو فعل؛ فإن الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور .
والذين قالوا : يؤاخذ بها احتجوا بقوله : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار ) الحديث، وهذا لا حجة فيه؛ فإنه ذكر ذلك فى رجلين اقتتلا، كل منهما يريد قتل الآخر، وهذا ليس عزماً مجرداً، بل هو عزم مع فعل المقدور، لكنه عاجز عن إتمام مراده، وهذا يؤاخذ باتفاق المسلمين، فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى فى ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين، وهو كالشارب وإن لم يقع منه شرب، وكذلك من اجتهد على الزنا والسرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثم عجز فهو آثم كالفاعل، ومثل ذلك فى قتل النفس وغيره، كما جعل الداعى إلى الخير له مثل أجر المدعو ووزره لأنه أراد فعل المدعو، وفعل ما يقدر عليه، فالإرادة الجازمة، مع فعل المقدور من ذلك، فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره، وقد قال تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } الآية [ النساء : 95 ] .
وفصل الخطاب فى الآية : أن { أٍوًلٌي بضَّرّر } نوعان :(1/468)
نوع لهم عزم تام على الجهاد ولو تمكنوا لما قعدوا ولا تخلفوا، وإنما أقعدهم العذر، فهم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إنبالمدينة رجالا ما سِرْتُم مَسِيٍرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ) قالوا : وهم بالمدينة ؟ ! قال : ( وهم بالمدينة، حَبَسَهُمُ العُذْرُ ) وهم ـ أيضاً ـ كما قال فى حديث أبى كَبْشَة الأنمارى : ( هما فى الأجر سواء ) ، وكما فى حديث أبى موسى : ( إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له من العمل ما كان يعمل صحيحاً مقيما ) ، فأثبت له مثل ذلك العمل؛ لأن عزمه تام، وإنما منعه العذر .
والنوع الثانى من { أُوْلِي الضَّرَرِ } : الذين ليس لهم عزم على الخروج، فهؤلاء يفضل عليهم الخارجون المجاهدون وأولو الضرر العازمون عزما جازماً على الخروج . وقوله تعالى : { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } سواء كان استثناء أو صفة دل على أنهم لا يدخلون مع القاعدين فى نفى الاستواء، فإذا فصل الأمر فيهم بين العازم وغير العازم بقيت الآية على ظاهرها . ولو جعل قوله : { فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } [ النساء : 95 ] عاما فى أهل الضرر وغيرهم لكان ذلك مناقضاً لقوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } ؛ فإن قوله : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ } ، { وَالْمُجَاهِدُونَ } إنما فيها نفى الاستواء، فإن كان أهل الضرر كلهم كذلك لزم بطلان قوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } ، ولزم أنه لا يساوى المجاهدين قاعد ولو كان من أولى الضرر، وهذا خلاف مقصود الآية .
وأيضاً، فالقاعدون إذا كانوا من غير أولى الضرر، والجهاد ليس بفرض عين فقد حصلت الكفاية بغيرهم؛ فإنه لا حرج عليهم فى القعود، بل هم موعودون بالحسنى كأولى الضرر، وهذا مثل قوله : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } الآية [ الحديد : 10 ] ، فالوعد بالحسنى شامل لأولى الضرر وغيرهم .(1/469)
فإن قيل : قد قال فى الأولى فى فضلهم : { دَرَجَةً } ثم قال فى فضلهم : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } [ النساء : 96 ] ، كما قال : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } [ التوبة : 19ـ 21 ] .(1/470)
فقوله : { أَعْظَمُ دَرَجَةً } كما قال فى السابقين : { أَعْظَمُ دَرَجَةً } وهذا نصب على التمييز؛ أى : درجتهم أعظم درجة، وهذا يقتضى تفضيلا مجملا، يقال : منزلة هذا أعظم وأكبر، كذلك قوله : { وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 95 ] الآيات . ليس المراد به أنهم لم يفضلوا عليهم إلا بدرجة؛ فإن فى الحديث الصحيح الذى يرويه أبو سعيد وأبو هريرة : ( إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ) الحديث، وفى حديث أبى سعيد : ( من رَضِىَ بالله ربا وبالإسلام دِينا، وبمحمد نبياً، وَجَبَتْ له الجنة ) . فعجب لها أبو سعيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة فى الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ) ، فقال : وما هى يا رسول الله ؟ قال : ( الجهاد فى سبيل الله ) ، فهذا الحديث الصحيح بين أن المجاهد يفضل على القاعد الموعود بالحسنى من غير أولى الضرر مائة درجة، وهو يبطل قول من يقول : إن الوعد بالحسنى والتفضيل بالدرجة مختص بأولى الضرر، فهذا القول مخالف للكتاب والسنة .(1/471)
وقد يقال : إن { دَرَجَةً } منصوب على التمييز، كما قال : { أَعْظَمُ دَرَجَةً } أى فضل درجتهم على درجتهم أفضل، كما يقال : فضل هذا على هذا منزلا ومقاماً، وقد يراد بالدرجة جنس الدرج، وهى المنزلة والمستقر،ولا يراد به درجة واحدة من العدد، وقوله : { وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ } ، منصوب بـ { فَضَّلَ } ؛ لأن التفضيل زيادة للمفضل، فالتقدير : زادهم عليهم أجراً عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة، فهذا النزاع فى العازم الجازم إذا فعل مقدوره هل يكون كالفاعل فى الأجر والوزر أم لا ؟ وأما فى استحقاق الأجر والوزر فلا نزاع فى ذلك، وقوله : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما ) فيه حرص كل واحد منهما على قتل صاحبه وفعل مقدوره، فكلاهما مستحق للنار، ويبقى الكلام فى تساوى القعودين بشىء آخر .
وهكذا حال المقتتلين من المسلمين فى الفتن الواقعة بينهم، فلا تكون عاقبتهما إلا عاقبة سوء،الغالب والمغلوب، فإنه لم يحصل له دنيا ولا آخرة، كما قال الشعبى : أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أشقياء، وأما الغالب فإنه يحصل له حظ عاجل ثم ينتقم منه فى الآخرة، وقد يعجل الله له الانتقام فى الدنيا، كما جرى لعامة الغالبين فى الفتن . فإنهم أصيبوا فى الدنيا، كالغالبين فى الحرة، وفتنة أبى مسلم الخراسانى ونحو ذلك .(1/472)
وأما من قال : إنه لا يؤاخذ بالعزم القلبى، فاحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها ) ، وهذا ليس فيه أنه عافٍ لهم عن العزم، بل فيه أنه عَفَى عن حديث النَّفْس إلى أن يتكلم أو يعمل، فدل على أنه ما لم يتكلم أو يعمل لا يؤاخذ، ولكن ظن من ظن أن ذلك عزم وليس كذلك، بل ما لم يتكلم أو يعمل لا يكون عزماً؛ فإن العزم لابد أن يقترن به المقدور وإن لم يصل العازم إلى المقصود، فالذى يعزم على القتل أو الزنا أو نحوه عزما جازما لابد أن يتحرك ولو برأسه، أو يمشى، أو يأخذ آلة، أو يتكلم كلمة، أو يقول أو يفعل شيئا، فهذا كله ما يؤاخذ به كزنا العين واللسان والرِّجل فإن هذا يؤاخذ به، وهو من مقدمات الزنا التام بالفرج، وإنما وقع العفو عما ما لم يبرز خارجا بقول أو فعل ولم يقترن به أمر ظاهر قط، فهذا يعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به، سواء كان المأمور به فى القلب وموجبه فى الجسد، أوكان المأمور به ظاهراً فى الجسد وفى القلب معرفته وقصده، فهؤلاء إذا حدثوا أنفسهم بشىء كان عفواً مثل هَمّ ثابت بلا فعل، ومثل الوسواس الذى يكرهونه وهم يثابون على كراهته، وعلى ترك ما هموا به وعزموا عليه للّه ـ تعالى ـ وخوفاً منه .
وَقَالَ شيخ الإسلام :
قوله : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ } الآية بعد قوله : { كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ } [ النساء : 78، 79 ] ، لو اقتصر على الجمع أعرض العاصى عن ذم نفسه، والتوبة من الذنب، والاستعاذة من شره، وقام بقلبه حجة إبليس، فلم تزده إلا طرداً، كما زادت المشركين ضلالا حين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [ الأنعام : 148 ] .(1/473)
ولو اقتصر على الفرق لغابوا عن التوحيد والإيمان بالقدر، واللجاء إلى اللّه فى الهداية، كما فى خطبته صلى الله عليه وسلم : ( الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره ) فيشكره ويستعينه على طاعته، ويستغفره من معصيته، ويحمده على إحسانه . ثم قال : ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ) إلى آخره، لما استغفر من المعاصى استعاذه من الذنوب التى لم تقع ثم قال : ( ومن سيئات أعمالنا ) ،أى : ومن عقوباتها،ثم قال : ( من يهد الله فلا مضل له ) إلخ . شهادة بأنه المتصرف فى خلقه، ففيه إثبات القضاء الذى هو نظام التوحيد، هذا كله مقدمة بين يدى الشهادتين، فإنما يتحققان بحمد الله وإعانته، واستغفاره واللجاء إليه، والإيمان بأقداره . فهذه الخطبة عقد نظام الإسلام والإيمان .
وقال : كون الحسنات من الله والسيئات من النفس له وجوه :
الأول : أن النعم تقع بلا كسب .
الثانى : أن عمل الحسنات من إحسان الله إلى عبده، فخلق الحياة، وأرسل الرسل، وحبب إليهم الإيمان . وإذا تدبرت هذا شكرت الله فزادك، وإذا علمت أن الشر لا يحصل إلا من نفسك تبت فزال .
الثالث : أن الحسنة تضاعف .
الرابع : أن الحسنة يحبها ويرضاها، فيحب أن ينعم، ويحب أن يطاع؛ ولهذا تأدب العارفون فأضافوا النعم إليه والشر إلى محله، كما قال إمام الحنفاء : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } إلى قوله : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 78ـ80 ] .
الخامس : أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها بكل اعتبار، وأما السيئة فما قدرها إلا لحكمة .
السادس : أن الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة؛ لأنها إما فعل مأمور أو ترك محظور، والترك أمر وجودى، فتركه لما عرف أنه ذنب،وكراهته له ومنع نفسه منه أمور وجودية، وإنما يثاب على الترك على هذا الوجه .(1/474)
وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم البغض فى الله من أوثق عُرَى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك . وكذلك براءة الخليل من قومه المشركين ومعبوديهم ليست تركا محضاً، بل صادراً عن بغض وعداوة . وأما السيئات فمنشؤها من الظلم والجهل . وفى الحقيقة كلها ترجع إلى الجهل، وإلا فلو تم العلم بها لم يفعلها؛ فإن هذا خاصة العقل،وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة، والغفلة، والشهوة أصل الشر، كما قال تعالى : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } الآية [ الكهف : 28 ] .
السابع : أن ابتلاءه له بالذنوب عقوبة له على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه .
الثامن : أن ما يصيبه من الخير والنعم لا تنحصر أسبابه من إنعام الله عليه، فيرجع فى ذلك إلى الله، ولا يرجو إلا هو؛ فهو يستحق الشكر التام الذى لا يستحقه غيره، وإنما يستحق من الشكر جزاء على ما يسره الله على يديه،ولكن لا يبلغ أن يشكر بمعصية الله، فإنه المنعم بما لا يقدر عليه مخلوق، ونعم المخلوق منه أيضاً، وجزاؤه على الشكر والكفر لا يقدر أحد على مثله .
فإذا عرف أن { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] صار توكله ورجاؤه إلى الله وحده، وإذا عرف ما يستحقه من الشكر الذى يستحقه صار له . . . [ بياض بالأصل ] ، والشر انحصر سببه فى النفس؛ فعلم من أين يؤتى فتاب واستعان بالله، كما قال بعض السلف : لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه،وقد تقدم قول السلف ـ ابن عباس وغيره ـ أن ما أصابهم يوم أحد مطلقاً كان بذنوبهم لم يستثن أحد، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص .(1/475)
التاسع : أن السيئة إذا كانت من النفس والسيئة خبيثة، كما قال تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } الآية [ النور : 26 ] ،قال جمهور السلف : الكلمات الخبيثات للخبيثين،وقال : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } [ إبراهيم : 26 ] ،وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] والأقوال والأفعال صفات للقائل الفاعل، فإذا اتصفت النفس بالخبث فمحلها ما يناسبها،فمن أراد أن يجعل الحيات يعاشرن الناس كالسنانير لم يصلح،بل إذا كان فى النفس خبث طهرت حتى تصلح للجنة، كما فى حديث أبى سعيد ـ الذى فى الصحيح ـ وفيه : ( حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم فى دخول الجنة ) .
فإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه لم يطمع فى السعادة التامة، مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا } [ الزلزلة : 7 ] إلخ . وعلم أن الرب عليم حكيم، رحيم عدل، وأفعاله على قانون العدل والإحسان، كما فى الصحيح : ( يمين الله ملأى ) إلى قوله : ( والقسط بيده الأخرى ) وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل .(1/476)
إلى أن قال : ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهى أن يقول ـ كما نقل عن الشاذلى [ هو أبو الحسن على بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف بن هرمز الشاذلى المغربى، رأس الطائفة الشاذلية، من المتصوفة، وصاحب الأوراد المسماة ـ حزب الشاذلى ـ ولد سنة 591 هـ، سكن شاذلة قرب تونس، فنسب إليها، وتوفى سنة 656 هـ ] ـ يكون الجمع فى قلبك مشهوداً، والفرق على لسانك موجودا، كما يوجد فى كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهى، مما يوجب أن يجوز عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض، ويدعون بأدعية فيها اعتداء، كما فى حزب الشاذلي . وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر وكافر، ويقولون : هذه موهبة، ويظنونها من الكرامات وهى من الأحوال الشيطانية التى يكون مثلها للسحرة والكهان، كما قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } إلى قوله : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [ البقرة : 101، 102 ] ، وصح قوله : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ) .
فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن نبذ القرآن وراء ظهره، واتبع ما تتلو الشياطين فلا يعظم أمر القرآن ونهيه ولا يوالى من أمر القرآن بموالاته، ولا يعادى من أمر القرآن بمعاداته بل يعظم من يأتى ببعض الخوارق .
ثم منهم من يعرف أنه من الشياطين لكن يعظمه لهواه، ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، قال الله ـ تعالى ـ فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } إلخ [ النساء : 51 ] .(1/477)
قال : وفى قوله تعالى : { فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] من الفوائد : أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، بل يسأل اللّه أن يعينه على طاعته؛ ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه دعاء الفاتحة، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، ويدخل فيه من أنواع الحاجات ما لا يمكن حصره، ويبينه أن الله ـ سبحانه ـ لم يقص علينا قصة فى القرآن إلا لنعتبر، وإنما يكون الاعتبار إذا قِسْنَا الثانى بالأول، فلولا أن في النفوس ما فى نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] وقوله : { أَتَوَاصَوْا بِهِ } [ الذاريات : 53 ] وقوله : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] ولهذا فى الحديث : ( لتسلكن سنن من كان قبلكم ) .
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وأعظم السيئات جحود الخالق والشرك به، وطلب أن يكون شريكا له، وكلا هذين وقع .
وقال بعضهم : ما من نفس إلا وفيها ما فى نفس فرعون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف أحوال الناس رأى ما يبغض نظيره وأتباعه حسداً، كما فعلت اليهود لما بعث الله من يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون .
وَقَالَ الشّيخ الإمَام العَالم العَلاّمة شيخ الإسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرانى ـ تغمده الله تعالى برحمته :
الحمد للّه نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره . ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له .
وأشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فصل
والله ـ سبحانه ـ قد تفضل على بنى آدم بأمرين، هما أصل السعادة :(1/478)
أحدهما : أن كل مولود يولد على الفطرة، كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جَمْعَاء، هل تحسون فيها من جَدْعاء ؟ ) ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ الروم : 30 ] .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول اللّه تعالى : خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطاناً ) .
فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة للّه بالإلهية، محبة له، تعبده لا تشرك به شيئاً، ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحى بعضهم إلى بعض من الباطل، قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } [ الأعراف : 172، 173 ] .
وتفسير هذه الآية مبسوط فى غير هذا الموضع .(1/479)
الثانى : أن الله ـ تعالى ـ قد هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1ـ 5 ] ، وقال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن : 1ـ 4 ] وقال تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1ـ 3 ] ، وقال تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] .
ففي كل أحد ما يقتضى معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه ربه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الأولى والآخرة . وجعل فى فطرته محبة لذلك، لكن قد يعرض الإنسان ـ بجاهليته وغفلته ـ عن طلب علم ما ينفعه .
وكونه لا يطلب ذلك، ولا يريده، أمر عدمي، لا يضاف إلى اللّه ـ تعالى ـ فلا يضاف إلى الله لا عدم علمه بالحق، ولا عدم إرادته للخير .(1/480)
لكن النفس ـ كما تقدم ـ الإرادة والحركة من لوازمها، فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحيا الحياة النافعة الكاملة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجباً لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة، ولا هي ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى } [ الأعلى : 9-13 ] ، فالجزاء من جنس العمل، لما كان فى الدنيا ليس بحي الحياة النافعة التى خلق لأجلها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتا عديم الإحساس، كان فى الآخرة كذلك، فإن مقصود الحياة هو حصول ما ينتفع به الحي ويستلذ به، والحي لابد له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة؛ فإن الألم ليس مقصوداً .
كمن هو حي فى الدنيا، وبه أمراض عظيمة لا تدعه يتنعم بشيء مما يتنعم به الأحياء، فهذا يبقى طول حياته يختار الموت، ولا يحصل له .
فلما كان من طبع النفس الملازم لها وجود الإرادة والعمل، إذ هو حارث همام، فإن عرفت الحق وأرادته، وأحبته وعبدته، فذلك من تمام إنعام الله عليها . وإلا فهي بطبعها لابد لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة تضرها، فهذا الشر قد تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده، وهذا عدم لا يضاف إلى فاعل، ومن كونها بطبعها لابد لها من مراد معبود، فعبدت غيره . وهذا هو الشر الذي تعذب عليه، وهو من مقتضى طبعها مع عدم هداها .
والقدرية يعترفون بهذا جميعه، وبأن الله خلق الإنسان مريداً، لكن يجعلون المخلوق كونه مريداً بالقوة والقبول، أي قابلا لأن يريد هذا وهذا .
وأما كونه مريداً لهذا المعين، وهذا المعين، فهذا عندهم ليس مخلوقاً لله وغلطوا فى ذلك غلطاً فاحشاً؛ فإن اللّه خالق هذا كله .(1/481)
وإرادة النفس لما يريده من الذنوب وفعلها، هو من جملة مخلوقات الله تعالى؛ فإن الله خالق كل شىء، وهو الذي ألهم النفس ـ التى سواها ـ فجورها وتقواها .
وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى دعائه : ( اللهم آت نفسي تقواها، وزَكِّها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ) .
وهو ـ سبحانه ـ جعل إبراهيم وآله أئمة يهدون بأمره، وجعل فرعون وآله أئمة يدعون إلى النار، ويوم القيامة لا يُنْصَرون .
لكن هذا لا يضاف مفرداً إلى الله ـ تعالى ـ لوجهين : من جهة علته الغائية، ومن جهة سببه وعلته الفاعلية .
أما الغائية، فإن اللّه إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير لا شر، وإن كان شراً إضافياً، فإذا أضيف مفرداً توهم المتوهم مذهب جَهم : أن الله يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد لا لحكمة ولا رحمة، والأخبار والسنة والاعتبار تبطل هذا المذهب .
كما أنه إذا قيل : محمد وأمته يسفكون الدماء، ويفسدون فى الأرض، كان هذا ذماً لهم، وكان باطلا . وإذا قيل : يجاهدون في سبيل الله لتكون كلمة اللّه هي العليا، ويكون الدين كله لله، ويقتلون من منعهم من ذلك، كان هذا مدحاً لهم، وكان حقاً .
فإذا قيل : إن الرب ـ تبارك وتعالى ـ حكيم رحيم، أحسن كل شىء خلقه، وأتقن ما صنع، وهو أرحم الراحمين، أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل لا يفعل إلا خيراً، وما خلقه من ألم لبعض الحيوانات أو من أعمالهم المذمومة، فله فيها حكمة عظيمة، ونعمة جسيمة ـ كان هذا حقاً، وهو مدح للرب وثناء عليه .
وأما إذا قيل : إنه يخلق الشر الذي لا خير فيه ولا منفعة لأحد، ولا له فيها حكمة ولا رحمة، ويعذب الناس بلا ذنب ـ لم يكن هذا مدحا للرب، ولا ثناء عليه، بل كان بالعكس .
ومن هؤلاء من يقول : إن اللّه تعالى أضر على خلقه من إبليس .
وبسط القول فى بيان فساد قول هؤلاء له موضع آخر .(1/482)
وقد بينا بعض ما فى خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة، وما لم نعلم أعظم مما علمناه .
فتبارك اللّه أحسن الخالقين، وأرحم الراحمين، وخير الغافرين، ومالك يوم الدين، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، الذي لا يحصى العباد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، الذي له الحمد فى الأولى والآخر، وله الحكم وإليه ترجعون، الذي يستحق الحمد والحب والرضا لذاته،ولإحسانه إلى عباده ـ سبحانه وتعالى ـ يستحق أن يحمد لما له فى نفسه من المحامد والإحسان إلى عباده . هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقاً .
وقد ذكرنا ـ فى غير هذا الموضع ـ ما قيل : من أن كل ما خلقه اللّه فهو نعمة على عباده المؤمنين، يستحق أن يحمدوه ويشكروه عليه، وهو من آلائه؛ ولهذا قال فى آخر سورة النجم : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ النجم : 55 ] ، وفى سورة الرحمن يذكر : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ونحو ذلك، ثم يقول عقب ذلك : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 28 ] .
وقال آخرون ـ منهم الزجاج، وأبو الفرج ابن الجوزي ـ : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها ينعم بها عليكم فى دلالتها إياكم على وحدانيته، وفي رزقه إياكم ما به قوامكم .
وهذا قالوه فى سورة الرحمن .
وقالوا فى قوله : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ النجم : 55 ] ؟ : فبأي نِعَم ربك التى تدل على وحدانيته تتشكك ؟ وقيل : تشك وتجادل ؟ قال ابن عباس : تكذب ؟
قلت : قد ضمن { تَتَمَارَى } معنى تكذب؛ ولهذا عداه بالتاء؛ فإن التماري تفاعل من المراء . يقال : تمارينا فى الهلال . والمراء فى القرآن كفر، وهو يكون تكذيب وتشكيك .(1/483)
وقد يقال : لما كان الخطاب لهم، قال : { تَتَمَارَى } أي يتمارون، ولم يقل : تميرا؛ فإن التفاعل يكون بين اثنين تماريا . قالوا : والخطاب للإنسان . قيل : للوليد بن المغيرة؛ فإنه قال : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ النجم 36-38 ] ، ثم التفت إليه فقال : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى } تكذب، كما قال : { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 14-16 ] .
ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده، يحمد عليه حمد شكر،وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمداً يستحقه لذاته .
فجميع المخلوقات فيها إنعام على العباد، كالثقلين المخاطبين بقوله : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } من جهة أنها آيات للرب، يحصل بها هدايتهم وإيمانهم الذى يسعدون به فى الدنيا والآخرة، فيدلهم عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته .
والآيات التى بعث بها الأنبياء وأيدهم بها ونصرهم، وإهلاك عدوهم ـ كما ذكره في سورة النجم : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } [ النجم : 50 ـ 54 ] ، تدلهم على صدق الأنبياء فيما أخبروا به من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ما بشروا به وأنذروا به .(1/484)
ولهذا قال عقيب ذلك : { هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى } [ النجم : 56 ] ، قيل : هو محمد . وقيل : هو القرآن؛ فإن الله سمى كلا منهما بشيراً ونذيراً، فقال فى رسول الله : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 188 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } [ الأحزاب : 45 ] ، وقال ـ تعالى ـ فى القرآن : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [ فصلت : 3، 4 ] ، وهما متلازمان .
وكل من هذين المعنيين مراد، يقال : هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل والكتب الأولى .
وقوله : { مِّنَ النُّذُرِ } أي : من جنسها، أي رسول من الرسل المرسلين .
ففي المخلوقات نعم من جهة حصول الهدى والإيمان، والاعتبار والموعظة بها . وهذه أفضل النعم .
فأفضل النعم نعمة الإيمان وكل مخلوق من المخلوقات فهو الآيات التى يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] ، وقال تعالى : { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [ ق : 8 ] .
وما يصيب الإنسان، إن كان يَسُرُّه فهو نعمة بينة، وإن كان يسؤوه فهو نعمة من جهة أنه يُكَفِّر خطاياه، ويثاب بالصبر عليه . ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ] .
وقد قال فى الحديث : ( واللَّهِ، لا يَقْضِى اللَّهُ للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سَرَّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرَّاء صبر، فكان خيراً له ) . وإذا كان هذا وهذا، فكلاهما من نعم اللّه عليه .
وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر .(1/485)
أما نعمة الضراء، فاحتياجها إلى الصبر ظاهر، وأما نعمة السراء، فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها؛ فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، كما قال بعض السلف : ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر .
وفى الحديث : ( أعوذ بك من فتنة الفقر، وشر فتنة الغنى ) .
والفقر يصلح عليه خَلْق كثير، والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم .
ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين؛ لأن فتنة الفقر أهون وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لما كان في السراء اللذة، وفى الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر فى السراء، والصبر في الضراء، قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ هود : 9ـ 11 ] ، ولأن صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر؛ فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، إذا تركه استحق العقاب .
وأما صبر صاحب السراء، فقد يكون مستحباً إذا كان عن فضول الشهوات، وقد يكون واجباً، ولكن لإتيانه بالشكر ـ الذي هو حسنات ـ يغفر له ما يغفر من سيئاته .
وكذلك صاحب الضراء، لا يكون الشكر فى حقه مستحباً إذا كان شكراً يصير به من السابقين المقربين . وقد يكون تقصيره فى الشكر مما يغفر له، لما يأتي به من الصبر؛ فإن اجتماع الشكر والصبر ـ جميعاً ـ يكون مع تألم النفس وتلذذها، يصبر على الألم، ويشكر على النعم . وهذا حال يعسر على كثير من الناس، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود هنا أن الله ـ تعالى ـ منعم بهذا كله، وإن كان لا يظهر الإنعام به فى الابتداء لأكثر الناس، فإن اللّه يعلم وأنتم لا تعلمون، فكل ما يفعله اللّه فهو نعمة منه .(1/486)
وأما ذنوب الإنسان، فهي من نفسه، ومع هذا فهي ـ مع حسن العاقبة ـ نعمة، وهي نعمة على غيره بما يحصل له بها من الاعتبار والهدى والإيمان؛ ولهذا كان من أحسن الدعاء قوله : ( اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل أحداً أسعد بما علمتني منى ) .
وفي دعاء القرآن : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ يونس : 85 ] ، و { لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } [ الممتحنة : 5 ] ، كما فيه : { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ] أي : فاجعلنا أئمة لمن يقتدي بنا ويأتم، ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا ويشقى .
و ( الآلاء ) فى اللغة : هي النعم، وهي تتضمن القدرة .
قال ابن قتيبة : لما عدد الله في هذه السورة ـ سورة الرحمن ـ نعماءه، وذَكَّر عباده آلاءه ونبههم على قدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين نعمتين، ليفهم النعم ويقررهم بها .
وقد روى الحاكم ـ فى صحيحه ـ والترمذي، عن جابر، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : قرأ علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى ختمها، ثم قال : ( مالي أراكم سكوتا ؟ لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم رَدّا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة ـ { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ـ إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد ) .
واللّه ـ تعالى ـ يذكر فى القرآن بآياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر بآياته التى فيها نعمه وإحسانه إلى عباده، ويذكر بآياته المبينة لحكمته تعالى، وهي كلها متلازمة .
فكل ما خلق فهو نعمة، ودليل على قدرته وعلى حكمته .
لكن نعمة الرزق، والانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا يستدل بها ـ كما فى سورة النحل ـ وتسمى سورة النعم، كما قاله قتادة وغيره .(1/487)
وعلى هذا، فكثير من الناس يقول : الحمد أعم من الشكر، من جهة أسبابه، فإنه يكون على نعمة وعلى غير نعمة، والشكر أعم من جهة أنواعه؛ فإنه يكون بالقلب واللسان واليد .
فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة،لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال؛ لأنه ما من حال يقضيها إلا وهي نعمة على عباده .
لكن هذا فَهْم من عرف ما فى المخلوقات من النعم . والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا .
وكذلك كل ما يخلقه، ففيه له حكمة،فهو محمود عليه باعتبار تلك الحكمة والجهميةـ أيضاً ـ بمعزل عن هذا .
وكذلك القدرية ـ الذين يقولون : لا تعود الحكمة إليه، بل ما ثم إلا نفع الخلق ـ فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة .
والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، كالقادر الذي يفعل ما لا ينتفع به، ولا ينفع به أحداً، فهذا لا يحمد .
فحقيقة قول الجهمية ـ أتباع جَهْم ـ أنه لا يستحق الحمد، فله عندهم ملك بلا حمد، مع تقصيرهم فى معرفة ملكه .
كما أن المعتزلة له عندهم من الحمد بلا ملك تام؛ إذ كان عندهم يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وتحدث حوادث بلا قدرته .
وعلى مذهب السلف، له الملك وله الحمد تامين، وهو محمود على حكمته، كما هو محمود على قدرته ورحمته .
وقد قال : { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] ، فله الوحدانية في إلهيته، وله العدل، وله العزة والحكمة .
وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السنة، فقد نقص الرب بعض حقه .
والجهمي الجبري لا يثبت عدلا ولا حكمة، ولا توحيد إلهية، بل توحيد ربوبيته .(1/488)
والمعتزلي ـ أيضاً ـ لا يثبت فى الحقيقة توحيد إلهية ولا عدلا فى الحسنات والسيئات، ولا عزة ولا حكمة فى الحقيقة، وإن قال : إنه يثبت الحكمة بما معناها يعود إلى غيره . وتلك لا يصلح أن تكون حكمة، من فعل لا لأمر يرجع إليه، بل لغيره هو عند العقلاء قاطبة بها ليس بحكيم، بل سفيه .
وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر .
والحمد ـ وإن كان على نعمته وعلى حكمته، فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التى تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا فى الشكر .
ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجرداً؛ إذ كان نوعاً من الشكر .
وشرع الحمد ـ الذي هو الشكر المقول ـ أمام كل خطاب مع التوحيد .
ففي الفاتحة الشكرُ والتوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد . والباقيات الصالحات نوعان؛ فسبحان اللّه وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر فيها التوحيد والتكبير .
وقد قال تعالى : { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ غافر : 65 ] .
وهل الحمد على كل ما يحمد به الممدوح، وإن لم يكن باختياره، أو لا يكون الحمد إلا على الأمور الاختيارية، كما قيل فى الذم ؟ فيه نظر ليس هذا موضعه .
وفى الصحيح : أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : ( ربنا ولك الحمد، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بَعْدُ، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعْطِيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدُّ منك الجد ) . هذا لفظ الحديث . ( أحق ) : أفعل التفضيل .(1/489)
وقد غلط فيه طائفة من المصنفين، فقالوا : ( حق ما قال العبد ) ، وهذا ليس لفظ الرسول . وليس هو بقول سديد؛ فإن العبد يقول الحق والباطل، بل حق ما يقوله الرب، كما قال تعالى : { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } [ ص : 84 ] .
ولكن لفظه : ( أحق ما قال العبد ) خبر مبتدأ محذوف، أي الحمد أحق ما قال العبد، أو هذا ـ وهو الحمد ـ أحق ما قال العبد .
ففيه بيان : أن الحمد للّه أحق ما قاله العباد؛ ولهذا أوجب قوله في كل صلاة، وأن تفتتح به الفاتحة، وأوجب قوله في كل خطبة، وفى كل أمر ذي بال .
والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود، مع المحبة له، كما أن الذم يكون على مساويه، مع البغض له .
فإذا قيل : إنه ـ سبحانه ـ يفعل الخير والحسنات، وهو حكيم رحيم بعباده، أرحم بعباده من الوالدة بولدها ـ أوجب ذلك أن يحبه عباده ويحمدوه .
وأما إذا قيل : بل يخلق ما هو شر محض، لا نفع فيه، ولا رحمة، ولا حكمة لأحد، وإنما يتصف بإرادة ترجح مثلا على مثل، لا فرق عنده بين أن يرحم أو يعذب، وليست نفسه ولا إرادته مرجحة للإحسان إلى الخلق، بل تعذيبهم وتنعيمهم سواء عنده، وهو ـ مع هذا ـ يخلق ما يخلق لمجرد العذاب والشر، ويفعل ما يفعل لا لحكمة ـ ونحو ذلك، مما يقوله الجهمية ـ لم يكن هذا موجباً لأن يحبه العباد ويحمدوه، بل هو موجب للعكس .
ولهذا فإن كثيراً من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم والطعن، ويذكرون ذلك نظماً ونثراً .
وكثير من شيوخ هؤلاء وعلمائهم من يذكر فى كلامه ما يقتضي هذا، ومن لم يقله بلسانه فقلبه ممتلئ به، لكن يرى أن ليس فى ذكره منفعة، أو يخاف من عموم المسلمين .
وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا .
وهؤلاء يقيمون حجج إبليس وأتباعه على اللّه، ويجعلون الرب ظالماً لهم .(1/490)
وهو خلاف ما وصف اللّه به نفسه، في قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [ الزخرف : 76 ] ،وقوله : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، وقوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] .
كيف يكون ظالماً وهم فيما بينهم لو أساء بعضهم إلى بعض، أو قصر فى حقه لكان يؤاخذه، ويعاقبه وينتقم منه، ويكون ذلك عدلا إذا لم يعتد عليه ؟ !
ولو قال : إن الذي فعلته قدر علي فلا ذنب لي فيه، لم يكن هذا عذراً له عندهم باتفاق العقلاء .
فإذا كان العقلاء متفقين على أن حق المخلوق لا يجوز إسقاطه احتجاجاً بالقدر،فكيف يجوز إسقاط حق الخالق احتجاجاً بالقدر وهو ـ سبحانه ـ الحكم العدل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً ؟ وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع .
فقوله : ( أحق ما قال العبد ) : يقتضي أن حمد الله أحق ما قاله العبد، فله الحمد على كل حال؛ لأنه لا يفعل إلا الخير والإحسان، الذي يستحق الحمد عليه ـ سبحانه وتعالى ـ وإن كان العباد لا يعلمون .
وهو ـ سبحانه ـ خلق الإنسان، وخلق نفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر لحكمة بالغة، ورحمة سابغة .
فإذا قيل : فلم لم يخلقها على غير هذا الوجه ؟
قيل : كان يكون ذلك خلقاً غير الإنسان، وكانت الحكمة التى خلقها بخلق الإنسان لا تحصل، وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } [ البقرة : 30 ] ، وما لم تعلمه الملائكة، فكيف يعلمه آحاد الناس .
ونفس الإنسان خلقت كما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19ـ21 ] ، وقال تعالى : { خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] .(1/491)
فقد خلقت خلقة تستلزم وجود ما وجد منها لحكمة عظيمة، ورحمة عميمة، فكان ذلك خيراً ورحمة، وإن كان فيه شر إضافي ـ كما تقدم ـ فهذا من جهة الغاية، مع أنه لا يضاف الشر إلى الله .
وأما الوجه الثاني من جهة السبب : فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التى تصلح النفس، فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة اللّه ومحبته . وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك، وهذا كله من فضل الله وإحسانه، لكن النفس المذنبة لما لم يحصل لها من يكملها، بل حصل لها من زين لها السيئات ـ من شياطين الإنس والجن ـ مالت إلى ذلك، وفعلت السيئات، فكان فعلها للسيئات مركباً من عدم ما ينفع وهو الأفضل، ووجود هؤلاء الذين حيروها، والعدم لا يضاف إلى اللّه . وهؤلاء القول فيهم كالقول فيها؛ خلقهم لحكمة .
فلما كان عدم ما تعمل به وتصلح هو أحد السببين، وكان الشر المحض الذي لا خير فيه هو العدم المحض، والعدم لا يضاف إلى الله؛ فإنه ليس شيئاً، واللّه خالق كل شيء ـ كانت السيئات منها بأعتبار [ أن ] ذاتها فى نفسها مستلزمة للحركة الإرادية التى تحصل منهاـ مع عدم ما يصلحها ـ تلك السيئات .
والعبد إذا اعترف وأقر بأن اللّه خالق أفعاله كلها، فهو على وجهين : إن اعترف به إقراراً بخلق الله كل شيء، بقدرته ونفوذ مشيئته، وإقراراً بكلماته التامات التى لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، واعترافا بفقره وحاجته إلى اللّه، وأنه إن لم يهده فهو ضال، وإن لم يتب عليه فهو مصر، وإن لم يغفر له فهو هالك ـ خضع لعزته وحكمته ـ فهذا حال المؤمنين الذين يرحمهم اللّه، ويهديهم ويوفقهم لطاعته .(1/492)
وإن قال ذلك احتجاجاً على الرب، ودفعاً للأمر والنهي عنه، وإقامة لعذر نفسه - فهذا ذنب أعظم من الأول . وهذا من أتباع الشيطان، ولا يزيده ذلك إلا شراً، وقد ذكرنا أن الرب ـ سبحانه ـ محمود لنفسه ولإحسانه إلى خلقه؛ ولذلك هو يستحق المحبة لنفسه ولإحسانه إلى عباده، ويستحق أن يرضى العبد بقضائه؛ لأن حكمه عدل لا يفعل إلا خيراً وعدلا، ولأنه لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له ( إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) .
فالمؤمن يرضى بقضائه لما يستحقه الرب لنفسه ـ من الحمد والثناء ـ ولأنه محسن إلى المؤمن .
وما تسأله طائفة من الناس، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقضي اللّه للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له ) . وقد قضى عليه بالسيئات الموجبة للعقاب، فكيف يكون ذلك خيراً ؟
وعنه جوابان :
أحدهما : أن أعمال العباد لم تدخل فى الحديث، وإنما دخل فيه ما يصيب الإنسان من النعم والمصائب، كما فى قوله : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ؛ ولهذا قال : ( إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) ، فجعل القضاء ما يصيبه من سراء وضراء . هذا ظاهر لفظ الحديث، فلا إشكال عليه .
الوجه الثانى : أنه إذا قدر أن الأعمال دخلت فى هذا، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن ) .
فإذا قضى له بأن يحسن، فهذا مما يسره، فيشكر اللّه عليه .(1/493)
وإذا قضى عليه بسيئة، فهي إنما تكون سيئة يستحق العقوبة عليها إذا لم يتب منها، فإن تاب أبدلت بحسنة، فيشكر اللّه عليها، وإن لم يتب ابتلى بمصائب تكفرها فصبر عليها، فيكون ذلك خيراً له . والرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقضي الله للمؤمن ) ، والمؤمن هو الذي لا يصر على ذنب، بل يتوب منه، فيكون حسنة، كما قد جاء في عدة آيات : أن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة بعمله، لا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة .
والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه، ودعاء اللّه واستغفاره إياه، وشهوده بفقره وحاجته إليه، وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو .
فيحصل للمؤمن ـ بسبب الذنب ـ من الحسنات ما لم يكن يحصل بدون ذلك، فيكون هذا القضاء خيراً له .
فهو فى ذنوبه بين أمرين : إما أن يتوب فيتوب اللّه عليه، فيكون من التوابين الذين يحبهم الله .
وإما أن يكفر عنه بمصائب؛ تصيبه ضراء فيصبر عليها، فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب، وبالصبر عليها ترتفع درجاته .
وقد جاء فى بعض الأحاديث : يقول الله تعالى : ( أهْلُ ذِكْرِى أهل مجالستى، وأهل شكرى أهل زيادتى، وأهل طاعتى أهل كرامتى، وأهل معصيتى لا أؤيسهم من رحمتى، إن تابوا فأنا حبيبهم ـ أي محبهم؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأكَفِّرَ عنهم المعائب ) .
وفى قوله تعالى : ( من نفسك ( من الفوائد : أن العبد لا يركن إلى نفسه، ولا يسكن إليها؛ فإن الشر لا يجىء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساؤوا إليه؛ فإن ذلك من السيئات التى أصابته، وهي إنما أصابته بذنوبه، فيرجع إلى الذنوب فيستغفر منها، ويستعيذ باللّه من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل اللّه أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له كل خير، ويندفع عنه كل شر .(1/494)
ولهذا كان أنفع الدعاء، وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] ، فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر، لا في الدنيا ولا في الآخرة .
لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب .
ليس كما يقوله طائفة من المفسرين : إنه قد هداه، فلماذا يسأل الهدى ؟
وأن المراد بسؤال الهدى : الثبات، أو مزيد الهداية .
بل العبد محتاج إلى أن يعلمه ربه ما يفعله من تفاصيل أحواله . وإلى ما يتولد من تفاصيل الأمور فى كل يوم، وإلى أن يلهم أن يعمل ذلك .
فإنه لا يكفى مجرد علمه إن لم يجعله الله مريداً للعمل بعلمه، وإلا كان العلم حجة عليه، ولم يكن مهتدياً، والعبد محتاج إلى أن يجعله اللّه قادراً على العمل بتلك الإرادة الصالحة .
فإنه لا يكون مهتدياً إلى الصراط المستقيم ـ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ إلا بهذه العلوم والإرادات، والقدرة على ذلك .
ويدخل فى ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه .
ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة؛ لفرط حاجتهم إليه، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء .
وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن، والمأمورين بهذا الدعاء، ورأى ما فى النفوس من الجهل والظلم الذي يقتضي شقاءها فى الدنيا والآخرة، فيعلم أن الله ـ بفضله ورحمته ـ جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير، المانعة من الشر .
ومما يبين ذلك أن اللّه ـ تعالى ـ لم يقص علينا فى القرآن قصة أحد إلا لنعتبر بها، لما فى الاعتبار بها من حاجتنا إليه ومصلحتنا .
وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثانى بالأول، وكانا مشتركين في المقتضى للحكم .(1/495)
فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان فى نفوس المكذبين للرسل ـ فرعون ومن قبله ـ لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] ، وكما قال تعالى : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] ، وقال تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] ، وقال تعالى : { يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } [ التوبة : 30 ] .
ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( لتسلكن سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه ) . قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) .
وقال : ( لتأخذن أمتى مأخذ الأمم قبلها، شِبْراً بشبر، وذراعاً بذراع ) . قيل : يا رسول اللّه، فارس والروم ؟ قال : ( فمن ؟ ) وكلا الحديثين فى الصحيحين .
ولما كان فى غزوة حُنَيْن كان للمشركين شجرة، يقال لها : ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، وينوطونها بها، ويستظلون بها متبركين فقال بعض الناس : يا رسول اللّه، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال : ( الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنها السَّنَنَ، لتركبن سَنَن من كان قبلكم ) .
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وإن كانت بقدر اللّه .(1/496)
فأعظم السيئات جحود الخالق، والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة ونِدا له، أو أن تكون إلها من دونه، وكلا هذين وقع؛ فإن فرعون طلب أن يكون إلها معبوداً دون الله تعالى، وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] ، وقال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وقال لموسى : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29 ] ، و { اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [ الزخرف : 54 ] .
وإبليس يطلب أن يعبد ويطاع من دون اللّه، فيريد أن يعبد ويطاع هو، ولا يعبد اللّه ولا يطاع . وهذا الذى فى فرعون وإبليس هو غاية الظلم والجهل .
وفى نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا وهذا، إن لم يعن اللّه العبد ويهديه، وإلا وقع فى بعض ما وقع فيه إبليس وفرعون بحسب الإمكان .
قال بعض العارفين : ما من نفس إلا وفيها ما فى نفس فرعون، غير أن فرعون قَدَر فأظهر، وغيره عجز فأضمر .
وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس، وسمع أخبارهم، رأى الواحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلو بحسب قدرته .
فالنفس مشحونة بحب العلو والرياسة، بحسب إمكانها، فتجد أحدهم يوالى من يوافقه على هواه، ويعادى من يخالفه فى هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } [ الفرقان : 43 ] ؟ والناس عنده فى هذا الباب كما هم عند ملوك الكفار من المشركين من الترك وغيرهم، يقولون : ( يا رباعى ) أي : صديق وعدو . فمن وافق هواهم كان ولياً، وإن كان كافراً مشركاً، ومن لم يوافق هواهم كان عدوا، وإن كان من أولياء اللّه المتقين، وهذه هى حال فرعون .
والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية، وجحود الصانع .(1/497)
وهؤلاء - وإن كانوا يقرون بالصانع ـ لكنهم إذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادته وطاعته المتضمنة ترك طاعتهم، فقد يعادونه، كما عادى فرعون موسى .
وكثير من الناس ممن عنده بعض عقل وإيمان، لا يطلب هذا الحد، بل يطلب لنفسه ما هو عنده، فإن كان مطاعاً مسلماً طلب أن يطاع فى أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية الله، ويكون من أطاعه في هواه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع اللّه وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون، وسائر المكذبين للرسل .
وإن كان عالماً أو شيخاً، أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، حتى لو كانا يقرآن كتابا واحداً كالقرآن، أو يعبدان عبادة واحدة متماثلان فيها، كالصلوات الخمس؛ فإنه يحب من يعظمه بقبول قوله والاقتداء به أكثر من غيره، وربما أبغض نظيره وأتباعه حسداً وبغياً، كما فعلت اليهود لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى، قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } [ البقرة : 91 ] ، وقال تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 4 ] ، وقال تعالى : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [ الشورى : 14 ] .(1/498)
ولهذا أخبر اللّه ـ تعالى ـ عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم به منهم، فقال تعالى عن فرعون : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [ القصص : 4 ] ،وقال تعالى عنهم : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } [ الإسراء : 4 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } [ القصص : 83 ] .
واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ إنما خلق الخلق لعبادته، ليذكروه ويشكروه ويعبدوه، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبدوا اللّه وحده، وليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة اللّه هي العليا، كما أرسل كل رسول بمثل ذلك، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] .
وقد أمر اللّه الرسل كلهم بهذا، وألا يتفرقوا فيه، فقال : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 51 ـ 53 ] .(1/499)
قال قتادة : أي دينكم دين واحد، وربكم رب واحد، والشريعة مختلفة . وكذلك قال الضحاك عن ابن عباس : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : دينكم دين واحد . قال ابن أبي حاتم : وروى عن سعيد بن جبير، وقتادة وعبد الرحمن بن زيد نحو ذلك . وقال الحسن : بين لهم ما يتقون وما يأتون، ثم قال : إن هذه سنتكم سنة واحدة .
وهكذا قال جمهور المفسرين .
والأمة : الملة والطريقة، كما قال تعالى : { قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون } [ الزخرف : 22 ] ، { مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، كما يسمى الطريق : إماماً؛ لأن السالك فيه يأتم به، فكذلك السالك يؤمه ويقصده .
والأمة ـ أيضاً ـ : معلم الخير، الذي يأتم به الناس، كما أن الإمام : هو الذي يأتم به الناس . وإبراهيم ـ عليه السلام ـ جعله الله إماماً، وأخبر أنه { كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] .
وأمر اللّه الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحداً، لا يتفرقون فيه، كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ) ، وقد قال اللّه تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] ؛ ولهذا كان جميع رسل الله وأنبيائه يصدق بعضهم بعضاً، لا يختلفون، مع تنوع شرائعهم .
فمن كان من المطاعين ـ من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك ـ متبعاً للرسل : أمر بما أمروا به،ودعا إلى ما دعوا إليه،وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه،فإن اللّه يحب ذلك، فيحب ما يحبه اللّه تعالى،وهذا قصده فى نفس الأمر أن تكون العبادة للّه ـ تعالى ـ وحده، وأن يكون الدين كله للّه .(1/500)
وأما من كان يكره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك، فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، فله نصيب من حال فرعون وأشباهه .
فمن طلب أن يطاع دون اللّه،فهذا حال فرعون،ومن طلب أن يطاع مع اللّه،فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون اللّه أنداداً يحبونهم كحب الله . والله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر ألا يعبد إلا إياه،وألا يكون الدين إلا له، وأن تكون الموالاة فيه، والمعاداة فيه، وألا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان إلا به .
فالمؤمن المتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل، ليكون الدين كله لله، لا له، وإذا أمر أحد غيره بمثل ذلك أحبه وأعانه، وسر بوجود مطلوبه .
وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد مَنَّ عليه بأن جعله محسناً، ولم يجعله مسيئاً، فيرى أن عمله لله، وأنه باللّه .
وهذا مذكور فى فاتحة الكتاب، التى ذكرنا أن جميع الخلق محتاجون إليها أعظم من حاجتهم إلى أي شيء .
ولهذا فرضت عليهم قراءتها فى كل صلاة دون غيرها من السور ولم ينزل فى التوراة، ولا في الإنجيل، ولا فى الزبور، ولا في القرآن مثلها، فإن فيها : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ]
فالمؤمن يرى أن عمله لله؛ لأنه إياه يعبد، وأنه بالله؛لأنه إياه يستعين، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكوراً؛ لأنه إنما عمل له ما عمل لله، كما قال الأبرار : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا } [ الإنسان : 9 ] ، ولا يمن عليه بذلك ولا يؤذيه؛ فإنه قد علم أن اللّه هو المانّ عليه، إذ استعمله فى الإحسان، وأن المنة لله عليه، وعلى ذلك الشخص، فعليه هو أن يشكر الله، إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك أن يشكر اللّه، إذ يسر له من يقدم له ما ينفعه من رزق أو علم أو نصر، أو غير ذلك .(2/1)
ومن الناس من يحسن إلى غيره ليَمُنّ عليه، أو يرد الإحسان له بطاعته إليه وتعظيمه، أو نفع آخر، وقد يمن عليه، فيقول : أنا فعلت بك كذا، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، ولا عمل لله، ولا عمل بالله، فهو المرائى .
وقد أبطل الله صدقة المنَّان، وصدقة المرائي، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } [ البقرة : 264، 265 ] .
قال قتادة : { تَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } : احتساباً من أنفسهم . وقال الشعبى : يقيناً، وتصديقاً من أنفسهم . وكذلك قال الكلبى . قيل : يخرجون الصدقة طيبة بها أنفسهم، على يقين بالثواب، وتصديق بوعد اللّه، يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه .
قلت : إذا كان المعطى محتسباً للأجر عند الله، مصدقاً بوعد اللّه له، طالباً من اللّه، لا من الذي أعطاه، فلا يمن عليه . كما لو قال رجل لآخر : أعط مماليكك هذا الطعام، وأنا أعطيك ثمنه، لم يمن على المماليك، لاسيما إذا كان يعلم أن الله قد أنعم عليه بالإعطاء .
فصل(2/2)
الفرق السابع ـ من الحسنات والسيئات التى تتناول الأعمال والجزاء في كون هذه تضاف إلى النفس، وتلك تضاف إلى اللّه ـ : أن السيئات التى تصيب الإنسان ـ وهي مصائب الدنيا والآخرة ـ ليس لها سبب إلا ذنبه الذي هو من نفسه، فانحصرت فى نفسه .
وأما ما يصيبه من الخير والنعم فإنه لا تنحصر أسبابه؛ لأن ذلك من فضل اللّه وإحسانه، يحصل بعمله وبغير عمله، وعمله نفسه من إنعام الله عليه . وهو ـ سبحانه ـ لا يجزي بقدر العمل، بل يضاعفه له، ولا يقدر العبد على ضبط أسبابها، لكن يعلم أنها من فضل الله وإنعامه، فيرجع فيها إلى الله، فلا يرجو إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ويعلم أن النعم كلها من اللّه، وأن كل ما خلقه فهو نعمة ـ كما تقدم ـ فهو يستحق الشكر المطلق العام التام، الذي لا يستحقه غيره .
ومن الشكر : ما يكون جزاء على ما يسره على يديه من الخير،كشكر الوالدين وشكر من أحسن إليك من غيرهما؛ فإنه من لا يشكر الناس لا يشكر اللّه، لكن لا يبلغ من حق أحد وإنعامه أن يشكر بمعصية اللّه، أو أن يطاع بمعصية الله؛ فإن اللّه هو المنعم بالنعم العظيمة، التى لا يقدر عليها مخلوق . ونعمة المخلوق إنما هي منه أيضاً، قال تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } [ النحل : 53 ] ، وقال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ، وجزاؤه ـ سبحانه ـ على الطاعة والمعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله .(2/3)
فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق، كما قال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } [ العنكبوت : 8 ] ، وقال في الآية الأخرى : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [ لقمان : 15 ] .
وقال النبى صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث الصحيح ـ : ( على المرء المسلم السمع والطاعة فى عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) . وفى الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنما الطاعة فى المعروف ) ، وقال : ( من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه ) ، وقال : ( لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ) .
وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله، وأنه لا يقدر أن يأتي بها إلا اللّه، فلا يأتى بالحسنات إلا هو،ولا يذهب السيئات إلا هو، وأنه { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا
وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] ـ صار توكله ورجاؤه ودعاؤه للخالق وحده .
وكذلك إذا علم ما يستحقه اللّه من الشكر ـ الذي لا يستحقه غيره ـ صار علمه بأن الحسنات من اللّه يوجب له الصدق في شكر الله، والتوكل عليه .
ولو قيل : إنها من نفسه لكان غلطاً؛ لأن منها ما ليس لعمله فيه مدخل، وما كان لعمله فيه مدخل فإن اللّه هو المنعم به، فإنه لا حول ولا قوة إلا باللّه، ولا مَلْجَأ ولا مَنْجَى منه إلا إليه .(2/4)
وعلم أن الشر قد انحصر سببه فى النفس، فضبط ذلك وعلم من أين يؤتى، فاستغفر ربه مما فعل وتاب، واستعان اللّه واستعاذ به مما لم يعمل بعد، كما قال من قال من السلف : لا يَرْجُوَنّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يَخافنَّ عبد إلا ذَنبه .
وهذا يخالف قول الجهمية ومن اتبعهم، الذين يقولون : إن اللّه يعذب بلا ذنب، ويعذب أطفال الكفار وغيرهم عذابا دائماً أبداً بلا ذنب .
فإن هؤلاء يقولون : يخاف اللّه خوفاً مطلقاً، سواء كان له ذنب أو لم يكن له ذنب، ويشبهون خوفه بالخوف من الأسد، ومن الملك القاهر الذي لا ينضبط فعله ولا سطوته، بل قد يقهر ويعذب من لا ذنب له من رعيته .
فإذا صَدَّقَ العبد بقوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، علم بطلان هذا القول، وأن اللّه لا يعذبه ويعاقبه إلا بذنوبه، حتى المصائب التى تصيب العبد كلها بذنوبه .
وقد تقدم قول السلف ـ ابن عباس وغيره ـ أن ما أصابهم يوم أُحُد من الغم والفشل إنما كان بذنوبهم، لم يستثن من ذلك أحد .
وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص .
وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب، ولا هَمٍّ ولا حزن ولا غَمٍّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كَفَّر اللّه بها من خطاياه ) .
فصل
ولما كان الأمر كما أخبر اللّه به فى قوله : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، أوجب هذا ألا يطلب العبد الحسنات ـ والحسنات تدخل فيها كل نعمة ـ إلا من اللّه، وأن يعلم أنها من اللّه وحده، فيستحق اللّه عليها الشكر الذي لا يستحقه غيره، ويعلم أنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } [ النحل : 53 ] .(2/5)
فهذا يوجب على العبد شكره وعبادته وحده، ثم قال : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] ، وهذا إخبار عن حالهم، والجؤار : يتضمن رفع الصوت .
والإنسان إنما يجأر إذا أصابه الضر، وأما في حال النعمة فهو ساكن، إما شاكراً وإما كفوراً : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [ النحل : 53، 54 ] .
وهذا المعنى قد ذكره الله في غير موضع، يذم من يشرك به بعد كشف البلاء عنه، وإسباغ النعماء عليه، فيضيف العبد ـ بعد ذلك ـ الإنعام إلى غيره، ويعبد غيره تعالى، ويجعل المشكور غيره على النعم، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم
مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الروم : 33، 43 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 63، 64 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } [ الزمر : 8 ] .(2/6)
وقوله : { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ } أي : نسى الضر الذي كان يدعو اللّه لدفعه عنه، كما قال : فى سورة الأنعام : { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [ الآيتان : 40،41 ] .
فذم اللّه ـ سبحانه ـ حزبين : حزباً لا يدعونه فى الضراء، ولا يتوبون إليه، وحزباً يدعونه ويتضرعون إليه ويتوبون إليه . فإذا كشف الضر عنهم أعرضوا عنه، وأشركوا به ما اتخذوهم من الأنداد من دونه .(2/7)
فهذا الحزب نوعان ـ كالمعطلة، والمشركة ـ حزب إذا نزل بهم الضر لم يدعو الله ولم يتضرعوا إليه، ولم يتوبوا إليه، كما قال : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 42، 43 ] ،وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [ المؤمنون : 76 ] ، وقال تعالى : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ التوبة : 126 ] ، وقال تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ السجدة : 21 ] .(2/8)
وحزب يتضرعون إليه فى حال الضراء، ويتوبون إليه ، فإذا كشفها عنهم أعرضوا عنه، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ يونس : 12 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَان أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا } [ الإسراء : 67 ] ، وقال فى المشركين ما تقدم : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [ النحل : 53، 54 ] .
والممدوح هو القسم الثالث، وهم الذين يدعونه، ويتوبون إليه ويثبتون على عبادته، والتوبة إليه فى حال السراء، فيعبدونه ويطيعونه فى السراء والضراء، وهم أهل الصبر والشكر، كما ذكر ذلك عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ فقال تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ(2/9)
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء : 87، 88 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } [ ص : 34،35 ] ،وقال تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب } [ ص : 21ـ 25 ] ، وقال تعالى عن آدم وحواء : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [(2/10)
الأعراف : 22،23 ] وقال : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 37 ] .
وقال تعالى عن المؤمنين الذين قتل نبيهم : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 146ـ 148 ] .
وقوله { قُتِل } أى : النبى قُتِل . وهذا أصح القولين . وقوله : { مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } جملة فى موضع الخبر،صفة للنبى ـ صفة بعد صفة ـ أى كم من نبى معه ربيون كثير قُتل،ولم يقتلوا معه،فإنه كان يكون المعنى : أنه قتل وهم معه،والمقصود : أنه كان معه ربيون كثير، وقُتِل فى الجملة، وأولئك الربيون { مَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ } .
والربيون : الجموع الكثيرة، وهم الألوف الكثيرة .(2/11)
وهذا المعنى هو الذى يناسب سبب النزول، وهو ما أصابهم يوم أُحُد، لما قيل : ( إن محمداً قد قتل ) ، وقد قال قبل ذلك : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } [ آل عمران : 144 ] وهى التى تلاها أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ يوم مات النبى صلى الله عليه وسلم، وقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت .
فإنه عند قتل النبى وموته، تحصل فتنة عظيمة للناس ـ المؤمنين والكافرين ـ وتحصل رِدَّة ونفاق؛ لضعف قلوب أتباعه لموته، ولما يلقيه الشيطان فى قلوب الكافرين : إن هذا قد انقضى أمره، وما بقى يقوم دينه، وإنه لو كان نبىا لما قتل وغلب، ونحو ذلك . فأخبر الله تعالى؛ أنه كم من نبى قتل .(2/12)
فإن بنى إسرائيل قتلوا كثيراً من الأنبياء، والنبى معه ربيون كثير أتباع له، وقد يكون قتله فى غير حرب ولا قتال، بل يقتل وقد اتبعه ربيون كثير، فما وهن المؤمنون لما أصابهم بقتله، وما ضعفوا وما استكانوا، واللّه يحب الصابرين، ولكن استغفروا لذنوبهم التى بها تحصل المصائب ـ فما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم ـ وسألوا اللّه أن يغفر لهم، وأن يثبت أقدامهم، فيثبتهم على الإيمان والجهاد لئلا يرتابوا، ولا ينكلوا عن الجهاد، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وسألوه أن ينصرهم على القوم الكافرين . سألوا ربهم ما يفعل لهم فى أنفسهم من التثبيت، وما يعطيهم من عنده من النصر؛ فإنه هو الناصر وحده، وما النصر إلا من عند اللّه . وكذا أنزل الملائكة عوناً لهم، قال تعالى ـ لما أنزل الملائكة ـ : { وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] وقال تعالى : { فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 148 ] ، وهذا مبسوط فى موضع آخر .
والمقصود هنا أنه لما كانت الحسنة من إحسانه ـ تعالى ـ والمصائب من نفس الإنسان ـ وإن كانت بقضاء الله وقدره ـ وجب على العبد أن يشكر ربه سبحانه وأن يستغفره من ذنوبه، وألا يتوكل إلا عليه وحده، فلا يأتى بالحسنات إلا هو، فأوجب ذلك للعبد توحيده، والتوكل عليه وحده، والشكر له وحده والاستغفار من الذنوب .(2/13)
وهذه الأمور كان النبى صلى الله عليه وسلم يجمعها فى الصلاة، كما ثبت عنه فى الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع، يقول : ( ربنا ولك الحمد، ملء السماء وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد ) . فهذا حمد، وهو شكر لله ـ تعالى ـ وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد، ثم يقول بعد ذلك : ( اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) .
وهذا تحقيق لوحدانيته، لتوحيد الربوبية ـ خلقاً وقدراً وبداية وهداية ـ هو المعطى المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع، ولتوحيد الإلهية ـ شرعا وأمراً ونهياً ـ وهو أن العباد، وإن كانوا يعطون ملكا وعظمة، وبختا ورياسة فى الظاهر أو فى الباطن، كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة، فلا ينفع ذا الجد منك الجد، أى : لا ينجيه ولا يخلصه من سؤلك وحسابك حظه وعظمته وغناه .
ولهذا قال : ( لا ينفعه منك ) ولم يقل : ( لا ينفعه عندك ) ، فإنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك، لكن قد لا يضره . فيقول صاحب الجد : إذا سلمت من العذاب فى الآخرة فما أبالى، كالذين أوتوا النبوة والملك، لهم ملك فى الدنيا وهم من السعداء، فقد يظن ذو الجد ـ الذى لم يعمل بطاعة الله من بعده ـ أنه كان كذلك، فقال : ( ولا ينفع ذا الجد منك ) ، ضمن ( ينفع ) معنى ( ينجى ويخلص ) ، فبين أن جده لا ينجيه من العذاب، بل يستحق بذنوبه ما يستحقه أمثاله ولا ينفعه جده منك، فلا ينجيه ولا يخلصه .(2/14)
فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد، وتحقيق قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] وقوله : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [ المزمل : 8، 9 ] .
فقوله : ( لا مانع لما أعطيت، ولامعطى لما منعت ) : توحيد الربوبية الذى يقتضى أنه ـ سبحانه ـ هو الذى يسأل ويدعى، ويتوكل عليه .
وهو سبب لتوحيد الإلهية، ودليل عليه، كما يحتج به فى القرآن على المشركين؛ فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد ـ توحيد الربوبية ـ ومع هذا يشركون بالله، فيجعلون له أنداداً، يحبونهم كحب الله، ويقولون : إنهم شفعاؤنا عنده، وإنهم يتقربون بهم إليه . فيتخذونهم شفعاء وقرباناً، كما قال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } [ يونس : 18 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُون } [ الأحقاف : 27، 28 ] .(2/15)
وهذا التوحيد هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، وألا نعبده إلا بما أحبه وما رضيه، وهو ما أمر به وشرعه على ألسن رسله ـ صلوات الله عليهم ـ فهو متضمن لطاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وأن يكون اللّه ورسوله أحب إلى العبد من كل ما سواهما .
وهو يتضمن أن يحب الله حباً لا يماثله ولا يساويه فيه غيره، بل يقتضى أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه .
فإذا كان الرسول ـ لأجل أنه رسول اللّه ـ يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه، فكيف بربه ـ سبحانه وتعالى ؟
وفى صحيح البخارى أن عمرقال : يا رسول اللّه، واللّه إنك لأحب إلى من كل شىء، إلا من نفسى . فقال : ( لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك ) . قال : فوالذى بعثك بالحق، إنك لأحب إلي من نفسى . قال : ( الآن يا عمر ) .
وقد قال تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] ،وقال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] .
فإن لم يكن الله ورسوله، والجهاد فى سبيله، أحب إلى العبد من الأهل والمال ـ على اختلاف أنواعه ـ فإنه داخل تحت هذا الوعيد .
فهذا التوحيد ـ توحيد الإلهية ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور .(2/16)
ومن ذلك : الصبر على المقدور، كما أن الأول يتضمن الإقرار بأنه لا خالق ولا رازق، ولا معطى ولا مانع، إلا الله وحده، فيقتضى ألا يسأل العبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، كما قال تعالى فى النوعين : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقال : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] .
وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب فى الأولى والآخرة، فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين، فإن اللّه لا يغفر أن يشرك به،ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
أما توحيد الربوبية، فقد أقر به المشركون، وكانوا يعبدون مع اللّه غيره، ويحبونهم كما يحبونه، فكان ذلك التوحيد ـ الذى هو توحيد الربوبية ـ حجة عليهم . فإذا كان اللّه هو رب كل شىء ومليكه، ولا خالق ولا رازق إلا هو، فلماذا يعبدون غيره معه، وليس له عليهم خلق ولا رزق، ولا بيده لهم منع ولا عطاء، بل هو عبد مثلهم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ؟ !
فإن قالوا : ليشفع فقد قال اللّه : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] فلا يشفع من له شفاعة ـ من الملائكة والنبيين ـ إلا بإذنه . وأما قبورهم ـ وما نصب عليها من قباب وأنصاب ـ أو تماثيلهم ـ التى مثلت على صورهم، مجسدة أو مرقومة ـ فجعل الاستشفاع بها استشفاعا بهم، فهذا باطل عقلا وشرعا؛ فإنها لا شفاعة لها بحال، ولا لسائر الأصنام التى عملت للكواكب والجن والصالحين، وغيرهم .(2/17)
وإذا كان اللّه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فما بقى الشفعاء شركاء، كشفاعة المخلوق عند المخلوق؛ فإن المخلوق يشفع عنده نظيره ـ أو من هو أعلى منه، أو دونه ـ بدون إذن المشفوع إليه، ويقبل المشفوع إليه ولا بد شفاعته إما لرغبته إليه، أو فيما عنده من قوة أو سبب ينفعه به أو يدفع عنه ما يخشاه، وإما لرهبته منه، وإما لمحبته إياه، وإما للمعاوضة بينهما والمعاونة، وإما لغير ذلك من الأسباب .
وتكون شفاعة الشفيع هى التى حَرَّكَت إرادة المشفوع إليه، وجعلته مريداً للشفاعة، بعد أن لم يكن مريداً لها، كأمر الآمر الذى يؤثر في المأمور،فيفعل ما أمره به بعد أن لم يكن مريداً لفعله .
وكذلك سؤال المخلوق للمخلوق، فإنه قد يكون محركا له إلى فعل ما سأله .
فالشفيع كما أنه شافع للطالب شفاعته فى الطلب، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، فبشفاعته صار المشفوع إليه فاعلا للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب .
واللّه تعالى وِتْر، لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه وحده، فلا شريك له بوجه، ولهذا ذكر ـ سبحانه ـ نفى ذلك فى آية الكرسى، التى فيها تقرير التوحيد، فقال : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] .
وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، إذا سجد وحمد ربه، يقال له : ( ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيحد له حداً، فيدخلهم الجنة ) . فالأمر كله للّه، كما قال : { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [ آل عمران : 154 ] ،وقال لرسوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، وقال : { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } [ الأعراف : 54 ] .(2/18)
فإذا كان لا يشفع عند اللّه أحد إلا بإذنه، فهو يأذن لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول الشفاعة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح : ( اشفعوا تؤجروا، ويقضى اللّه على لسان نبيه ما شاء ) .
وإذا دعاه الداعى، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء، وقبل الشفاعة لم يكن هذا مؤثراً فيه، كما يؤثر المخلوق فى المخلوق؛ فإنه ـ سبحانه ـ هو الذى جعل هذا يدعو وهذا يشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذى وفق العبد للتوبة ثم قبلها وهو الذى وفقه للعمل ثم أثابه عليه، وهو الذى وفقه للدعاء ثم أجابه، فما يؤثر فيه شىء من المخلوقات، بل هو ـ سبحانه ـ الذى جعل ما يفعله سبباً لما يفعله .
وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن اللّه خالق كل شىء و أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون شىء إلا بمشيئته، وهو خالق أفعال العباد، كما هو خالق سائر المخلوقات . قال يحيى بن سعيد القطان : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : إن اللّه خالق أفعال العباد .
ولكن هذا يناقض قول القَدَريِة، فإنهم إذا جعلوا العبد هو الذى يحدث، ويخلق أفعاله بدون مشيئة اللّه وخلقه، لزمهم أن يكون العبد قد جعل ربه فاعلاً لما لم يكن فاعلاً له، فبدعائه جعله مجيباً له وبتوبته جعله قابلا للتوبة، وبشفاعته جعله قابلا للشفاعة .
وهذا يشبه قول من جعل المخلوق يشفع عند الله بغير إذنه .
فإن ( الإذن ) نوعان : إذن بمعنى المشيئة والخلق، وإذن بمعنى الإباحة والإجازة .
فمن الأول : قوله فى السحر : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة : 102 ] فإن ذلك بمشيئة الله تعالى وقدرته، وإلا فهو لم يبح السحر .
والقدرية تنكر هذا ( الإذن ) . وحقيقة قولهم : إن السحر يضر بدون إذن اللّه .(2/19)
وكذلك قوله : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ } [ آل عمران : 166 ] ،فإن الذى أصابهم من القتل والجراح والتمثيل والهزيمة، إذا كان بإذنه فهو خالق لأفعال الكفار ولأفعال المؤمنين .
والنوع الثانى : قوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } [ الأحزاب : 45، 46 ] ،وقوله : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } [ الحشر : 5 ] ، فإن هذا يتضمن إباحته لذلك، وإجازته له، ورفع الجُنَاح والحَرَج عن فاعله، مع كونه بمشيئته وقضائه .
فقوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، هو هذا الإذن الكائن بقدره وشرعه، ولم يرد بمجرد المشيئة والقدر؛ فإن السحر وانتصار الكفار على المؤمنين كان بذلك الإذن .
فمن جعل العباد يفعلون أفعالهم بدون أن يكون اللّه خالقاً لها، وقادراً عليها، ومشيئاً لها، فعنده كل شافع وداع قد فعل ما فعل بدون خلق الله وقدرته، وإن كان قد أباح الشفاعة .
وأما الكفر، والسحر، وقتال الكفار، فهو عندهم بغير إذنه، لا هذا الإذن ولا هذا الإذن؛ فإنه لم يبح ذلك باتفاق المسلمين . وعندهم : أنه لم يشأه ولم يخلقه، بل كان بدون مشيئته وخلقه .
والمشركون المقرون بالقدر يقولون : إن الشفعاء يشفعون بالإذن القَدَرِى، وإن لم يإذن لهم إباحة وجوازاً .
ومن كان مكذباً بالقدر ـ مثل كثير من النصارى ـ يقولون : إن شفاعة الشفعاء بغير إذن، لا قَدَرِى ولا شرعى .
والقدرية من المسلمين يقولون : يشفعون بغير إذن قدرى .
ومن سأل اللّه بغير إذنه الشرعى، فقد شفع عنده بغير إذن قدرى ولا شرعي .
فالداعى المأذون له فى الدعاء مؤثر فى الله عندهم، لكن بإباحته .(2/20)
والداعى غير المأذون له، إذا أجاب دعاءه، فقد أثر فيه عندهم لا بهذا الإذن ولا بهذا الإذن،كدعاء بلعام بن باعوراء وغيره، والله تعالى يقول : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] .
فإن قيل : فمن الشفعاء من يشفع بدون إذن اللّّه الشرعى، وإن كان خالقاً لفعله ـ كشفاعة نوح لابنه، وشفاعة إبراهيم لأبيه، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن أبّى بن سلول، حين صلى عليه بعد موته . وقوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } قد قلتم : إنه يعم النوعين، فإنه لو أراد الإذن القدرى لكان كل شفاعة داخلة فى ذلك كما يدخل فى ذلك كل كفر وسحر . ولم يكن فرق بين ما يكون بإذنه، وما لا يكون بإذنه، ولو أراد الإذن الشرعى فقط، لزم قول القدرية، وهؤلاء قد شفعوا بغير إذن شرعى ؟
قيل : المنفى من الشفاعة بلا إذن هى الشفاعة التامة، وهى المقبولة، كما فى قول المصلى : ( سمع اللّه لمن حمده ) أى : استجاب له، وكما فى قوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، وقوله { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] ، وقوله : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] ، ونحو ذلك .
فإن الهدى، والإنذار، والتذكير، والتعليم، لابد فيه من قبول المتعلم، فإذا تعلم حصل له التعليم المقصود، وإلا قيل : علمته فلم يتعلم، كما قيل : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] ، فكذلك الشفاعة .(2/21)
فالشفاعة مقصودها قبول المشفوع إليه، وهى الشفاعة التامة، فهذه هى التى لا تكون إلا بإذنه، وأما إذا شفع شفيع فلم تقبل شفاعته كانت كعدمها، وكان على صاحبها التوبة والاستغفار منها، كما قال نوح : { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } [ هود : 47 ] ، وكما نهى الله تعالى النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وقال له : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 84 ] ، وقال له : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ المنافقون : 6 ] ، ولهذا قال على لسان المشركين : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100، 101 ] .
فالشفاعة المطلوبة هى شفاعة المطاع الذى تقبل شفاعته، وهذه ليست لأحد عند الله تعالى إلا بإذنه قدراً وشرعا، فلابد أن يأذن فيها، ولابد أن يجعل العبد شافعا، فهو الخالق لفعله،والمبيح له، كما فى الداعى هو الذى أمره بالدعاء، وهو الذى يجعل الداعى داعياً، فالأمر كله للّه، خلقاً وأمراً، كما قال : { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } [ الأعراف : 54 ] .
وقد روى فى حديث ـ ذكره ابن أبى حاتم وغيره ـ أنه قال : ( فمن يثق به، فليدعه ) أى : فلم يبق لغيره لا خلق ولا أمر .(2/22)
ولما كان المراد الشفاعة المثبتة هى الشفاعة المطلقة، وهى المقصود بالشفاعة وهى المقبولة، بخلاف المردودة، فإن أحداً لا يريدها، لا الشافع ولا المشفوع له، ولا المشفوع إليه، ولو علم الشافع والمشفوع له أنها ترد لم يفعلوها . والشفاعة المقبولة هى النافعة، بين ذلك فى مثل قوله : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] وقوله : { يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [ طه : 109 ] ، فنفى الشفاعة المطلقة وبين أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا لمن أذن له، وهو الإذن الشرعى، بمعنى : أباح له ذلك وأجازه، كما قال تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } [ الحج : 39 ] ، وقوله : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } [ الأحزاب : 53 ] ، وقوله : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النور : 58 ] ، ونحو ذلك .
وقوله : { إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } هو إذن للمشفوع له فلا يأذن فى شفاعة مطلقة لأحد، بل إنما يأذن فى أن يشفعوا لمن أذن لهم فى الشفاعة فيه، قال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [ طه : 108، 109 ] ، وفيه قولان :
قيل : إلا شفاعة من أذن له الرحمن .
وقيل : لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن، فهو الذى تنفعه الشفاعة .(2/23)
وهذا هو الذى يذكره طائفة من المفسرين، لا يذكرون غيره؛ لأنه لم يقل : ( لا تنفع إلا من أذن له ) ولا قال : ( لا تنفع الشفاعة إلا فيمن أذن له ) ، بل قال : { لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ } فهى لا تنفع ولا ينتفع بها، ولا تكون نافعة إلا للمأذون لهم، كما قال تعالى فى الآية الأخرى : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] .
ولا يقال : لا تنفع إلا لشفيع مأذون له، بل لو أريد هذا، لقيل : لا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له، وإنما قال : { لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وهو المشفوع له، الذى تنفعه الشفاعة .
وقوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } لم يعد إلى ( الشفعاء ) بل عاد إلى المذكورين فى قوله : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } ثم قال : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ } ثم بين أن هذا منتف { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } [ سبأ : 22، 23 ] ، فلا يعلمون ماذا قال، حتى يفزع عن قلوبهم فكيف يشفعون بلا إذنه ؟
وهو ـ سبحانه ـ إذا أذن للمشفوع له فقد أذن للشافع .
فهذا الإذن هو الإذن المطلق، بخلاف ما إذا أذن للشافع فقط؛ فإنه لا يلزم أن يكون قد أذن للمشفوع له، إذ قد يأذن له إذناً خاصاً .
وهكذا قال غير واحد من المفسرين . قالوا : وهذا يدل على أن الشفاعة لا تنفع إلا المؤمنين، وكذلك قال السلف فى هذه الآية .(2/24)
قال قتادة فى قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [ طه : 109 ] قال : كان أهل العلم يقولون : إن المقام المحمود الذى قال اللّه تعالى : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] ، هو شفاعته يوم القيامة، وقوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } إن الله تعالى يشفع المؤمنين بعضهم فى بعض .
قال البغوى : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } أذن اللّه له أن يشفع له، { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } أى : ورضى قوله . قال ابن عباس : يعنى قال : ( لا إله إلا اللّه ) . قال البغوى : فهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن .
وقد ذكروا القولين فى قوله تعالى : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وقدم طائفة هناك : أن المستثنى هو الشافع، دون المشفوع له، بخلاف ما قدموه هنا .
منهم البغوى، فإنه لم يذكر هنا فى الاستثناء إلا المشفوع له، وقال هناك : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ، فى الشفاعة، قاله تكذيباً لهم،حيث قالوا : { هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } [ يونس : 18 ] ، قال : ويجوز أن يكون المعنى : إلا لمن أذن له أن يشفع له .
وكذلك ذكروا القولين فى قوله : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ } [ الزخرف : 86 ] ، وسنتكلم على هذه الآية إن شاء الله تعالى، ونبين أن الاستثناء فيها يعم الطائفتين، وأنه منقطع .(2/25)
ومعنى هاتين الآيتين مثل معنى تلك الآية، وهو يعم النوعين . وذلك أنه ـ سبحانه قال : { يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [ طه : 109 ] ،والشفاعة : مصدر شفع شفاعة . والمصدر يضاف إلى الفاعل تارة، وإلى محل الفعل تارة، ويماثله الذي يسمى لفظه ( المفعول به ) تارة، كما يقال : أعجبنى دق الثوب ودق القَصَّار وذلك مثل لفظ ( العلم ) ، يضاف تارة إلى العلم، وتارة إلى المعلوم، فالأول كقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] ، وقوله : { أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ } [ هود : 14 ] ،ونحو ذلك .
والثانى كقوله : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } [ لقمان : 34 ] ، فالساعة هنا : معلومة، لا عالمة، وقوله حين قال فرعون : { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } . قال موسى : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى } [ طه : 51، 52 ] ، ومثل هذا كثير .
فالشفاعة مصدر، لابد لها من شافع ومشفوع له .
والشفاعة : تعم شفاعة كل شافع، وكل شفاعة لمشفوع له .
فإذا قال : { يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ } نفى النوعين؛ شفاعة الشفعاء والشفاعة للمذنبين . فقوله : { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } يتناول النوعين؛ من أذن له الرحمن ورضى له قولا من الشفعاء، ومن أذن له الرحمن ورضى له قولا من المشفوع له، وهى تنفع المشفوع له، فتخلصه من العذاب، وتنفع الشافع، فتقبل منه، ويكرم بقبولها، ويثاب عليه .
والشفاعة يومئذ لا تنفع لا شافعاً ولا مشفوعاً له { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] ، فهذا الصنف المأذون لهم، المرضى قولهم، هم الذين يحصل لهم نفع الشفاعة، وهذا موافق لسائر الآيات .(2/26)
فإنه تارة يشترط فى الشفاعة إذنه، كقوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] .
وتارة يشترط فيها الشهادة بالحق، كقوله : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } ثم قال : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 86 ]
وهنا اشترط الأمرين : أن يأذن له الرحمن، وأن يقول صواباً، والمستثنى يتناول مصدر الفاعل والمفعول، كما تقول : لا ينفع الزرع إلا فى وقته، فهو يتناول زرع الحارث، وزرع الأرض، لكن هنا قال : { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } والاستثناء مفرغ فإنه لم يتقدم قبل هذا من يستثنى منه هذا، وإنما قال : { لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } ، فإذا لم يكن فى الكلام حذف، كان المعنى : لا تنفع الشفاعة إلا هذا النوع؛ فإنهم تنفعهم الشفاعة، ويكون المعنى : أنها تنفع الشافع والمشفوع له .
وإن جعل فيه حذف ــ تقديره : لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن ــ كان المصدر مضافاً إلى النوعين، كل واحد بحسبه، يضاف إلى بعضهم، لكونه شافعاً، وإلى بعضهم لكونه مشفوعاً له، ويكون هذا كقوله : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } [ البقرة : 177 ] ، أى من يؤمن، و { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } [ البقرة : 171 ] ، أى مثل داعى الذين كفروا كمثل الناعق، أو مثل الذين كفروا كمثل منعوق به، أى الذى ينعق به، والمعنى في ذلك كله ظاهر معلوم .
فلهذا كان من أفصح الكلام إيجازه، دون الإطناب فيه . وقوله : { يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ } [ طه : 109 ] ، إذا كان من هذا الباب، لم يحتج أن الشافع تنفعه الشفاعة، وإن لم يكرمه، كان الشافع ممن تنفعه الشفاعة .
وفى الآية الأخرى : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ، من هؤلاء، وهؤلاء .(2/27)
لكن قد يقال : التقدير : لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع فيه فيؤذن لغيره أن يشفع فيه، فيكون الإذن للطائفتين . والنفع للمشفوع له، كأحد الوجهين، أو : ولا تنفع إلا لمن أذن له من هؤلاء وهؤلاء، فكما أن الإذن للطائفتين، فالنفع أيضا للطائفتين . فالشافع ينتفع بالشفاعة، وقد يكون انتفاعه بها أعظم من انتفاع المشفوع له، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث الصحيح : ( اشفعوا تؤجروا، ويقضى الله تعالى على لسان نبيه ما شاء ) .
ولهذا كان من أعظم ما يكرم به اللّه عبده محمداً صلى الله عليه وسلم : هو الشفاعة التى يختص بها، وهى المقام المحمود، الذى يحمده به الأولون والآخرون .
وعلى هذا، لا تحتاج الآية إلى حذف، بل يكون معناها : يومئذ لا تنفع الشفاعة لا شافعاً ولا مشفوعاً { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] .
ولذلك جاء فى الصحيح : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( يا بنى عبد مناف، لا أملك لكم من الله من شىء، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أملك لك من الله من شىء، يا عباس عم رسول الله، لا أملك لك من الله من شىء ) .
وفى الصحيح أيضاً : ( لا ألفين أحدكم يأتى يوم القيامة على رقبته بعير له رُغَاء أو شاة لها يُعَار أو رِقَاع تَخْفِق، فيقول : أغثنى، أغثنى، فأقول : قد أبلغتك، لا أملك لك من الله تعالى من شيء ) .
فيعلم من هذا : أن قوله : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } [ الزخرف : 86 ] ، و { لَا يَمْلِكُونَ
مِنْهُ خِطَابًا } [ النبأ : 37 ] ، على مقتضاه، وأن قوله فى الآية : { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ } كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا أملك لكم من الله من شىء ) وهو كقول إبراهيم لأبيه : { $ّمّا أّمًلٌكٍ لّكّ مٌنّ بلَّهٌ مٌن شّيًءُ } [ الممتحنة : 4 ] .(2/28)
وهذه الآية تشبه قوله تعالى : { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 37، 38 ] ، فإن هذا مثل قوله : { يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [ طه : 109 ] ، ففى الموضعين اشترط إذنه . فهناك ذكر ( القول الصواب ) وهنا ذكر ( أن يرضى قوله ) . ومن قال : الصواب رضى اللّه قوله، فإن الله إنما يرضى بالصواب .
وقد ذكروا فى تلك الآية قولين :
أحدهما : أنه الشفاعة ـ أيضاً ـ كما قال ابن السائب : لا يملكون شفاعة إلا بإذنه .
والثانى : لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه . قال مقاتل : كذلك قال مجاهد : { لا يّمًلٌكٍونّ مٌنًهٍ خٌطّابْا } قال : كلاماً . هذا من تفسيره الثابت عنه،وهو مِن أعلم ـ أو أعلم ـ التابعين بالتفسير .
قال الثورى : إذا جاءك التفسير عن مجاهد، فحسبك به . وقال : عرضت المصحف على ابن عباس : أقفه عند كل آية وأسأله عنها . وعليه اعتمد الشافعى وأحمد والبخارى فى صحيحه .
وهذا يتناول الشفاعة أيضاً .
وفى قوله : { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } لم يذكر استثناء؛ فإن أحداً لا يملك من اللّه خطاباً مطلقاً؛ إذ المخلوق لا يملك شيئاً يشارك فيه الخالق، كما قد ذكرناه فى قوله : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } [ الزخرف : 86 ] ، أن هذا عام مطلق، فإن أحداً ـ ممن يدعى من دونه ـ لا يملك الشفاعة بحال، ولكن اللّه إذا أذن لهم شفعوا من غير أن يكون ذلك مملوكاً لهم، وكذلك قوله : { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } هذا قول السلف وجمهور المفسرين .(2/29)
وقال بعضهم : هؤلاء هم الكفار، لا يملكون مخاطبة اللّه في ذلك اليوم، قال ابن عطية : قوله : { لَا يَمْلِكُونَ } الضمير للكفار، أي : لا يملكون ـ من إفضاله وإكماله ـ أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها .
وهذا مبتدع، وهو خطأ محض .
والصحيح : قول الجمهور والسلف أن هذا عام، كما قال في آية أخرى : { وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا } [ طه : 108 ] ، وفي حديث التجلي الذى فى الصحيح ـ لما ذكر مرورهم على الصراط ـ قال صلى الله عليه وسلم : ( ولا يتكلم أحد إلا الرسل، ودعوى الرسل : اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ ) ، فهذا في وقت المرور على الصراط، وهو بعد الحساب والميزان، فكيف بما قبل ذلك ؟
وقد طلبت الشفاعة من أكابر الرسل، وأولى العزم، وكل يقول : ( إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني فعلت كذا وكذا، نفسي، نفسي، نفسي ) . فإذا كان هؤلاء لا يتقدمون إلى مخاطبة الله تعالى ـ تعالى ـ بالشفاعة، فكيف بغيرهم ؟
وأيضاً، فإن هذه الآية مذكورة بعد ذكر المتقين وأهل الجنة، وبعد أن ذكر الكافرين، فقال : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 31 ـ 38 ] ،فقد أخبر أن الروح والملائكة يقومون صفاً، لا يتكلمون . وهذا هو تحقيق قوله : { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } والعرب تقول : ما أملك من أمر فلان، أو من فلان شيئاً،أي : لا أقدر من أمره على شيء، وغاية ما يقدر عليه الإنسان من أمر غيره خطابة،ولو بالسؤال .(2/30)
فهم فى ذلك الموطن لا يملكون من الله تعالى شيئاً، ولا الخطاب؛فإنه لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا يتكلم إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، قال تعالى : { إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ } [ الممتحنة : 4 ] ، فقد أخبر الخليل أنه لا يملك لأبيه من اللّه من شيء، فكيف غيره ؟
وقال مجاهد ـ أيضاً ـ : { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } قال : حقاً في الدنيا، وعملا به . رواه ـ والذى قبله ـ عبد بن حميد . وروى عن عكرمة : { وَقَالَ صَوَابًا } قال : الصواب قول لا إله إلا اللّه .
فعلى قول مجاهد : يكون المستثنى من أتى بالكلم الطيب والعمل الصالح .
وقوله فى سوره طه : { لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [ الآية : 109 ] ، فإذا جعلت هذا مثل تلك، فتكون الشفاعة هي الشفاعة المطلقة، وهي الشفاعة فى الحسنات وفى دخول الجنة، كما فى الصحيحين : ( أن الناس يهتمون يوم القيامة، فيقولون : لو استشفعنا على ربنا حتى يرحنا من مقامنا هذا ؟ ) ، فهذا طلب الشفاعة للفصل بينهم .
وفى حديث الشفاعة : ( أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن ) فهذه شفاعة في أهل الجنة؛ ولهذا قيل : إن هاتين الشفاعتين مختصتان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويشفع غيره فى العصاة .(2/31)
فقوله : { يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [ طه : 109 ] ، يدخل فيها الشفاعة في أهل الموقف عموماً، وفى أهل الجنة، وفي المستحقين للعذاب . وهو ـ سبحانه ـ فى هذه وتلك لم يذكر العمل،إنما قال : { وَقَالَ صَوَابًا } وقال : { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } ، ولكن قد دل الدليل على أن القول الصواب المرضي لا يكون صاحبه محموداً إلا مع العمل الصالح، لكن نفس القول مَرْضِى، فقد قال اللّه : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] .
وقد ذكر البغوي وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 86 ] قولين : أحدهما : أن المستثنى هو الشافع، ومحل [ من] الرفع . والثاني : هو المشفوع له .
قال أبو الفرج : في معنى الآية قولان : أحدهما : أنه أراد بـ { الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } آلهتهم، ثم استثنى عيسى وعزيزاً والملائكة، فقال : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ } وهو شهادة أن لا إله إلا اللّه { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم . قال : وهذا مذهب الأكثرين، منهم قتادة .
والثانى : أن المراد بـ { الَّذِينَ يَدْعُونَ } عيسى و عزيراً والملائكة، الذين عبدهم المشركون،لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ } وهي كلمة الإخلاص { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن الله تعالى خلق عيسى وعزيراً والملائكة . وهذا مذهب قوم، منهم مجاهد .(2/32)
وقال البغوي : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ } [ الزخرف : 86 ] ، هم عيسى وعزير والملائكة؛ فإنهم عبدوا من دون الله تعالى، ولهم الشفاعة . وعلى هذا تكون ( من ) فى محل رفع . وقيل : ( من ) فى محل خفض، وأراد بـ { الَّذِينَ يَدْعُونَ } : عيسى وعزيراً والملائكة، يعنى : أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق . قال : والأول أصح .
قلت : قد ذكر جماعة قول مجاهد وقتادة، منهم ابن أبى حاتم . روى بإسناده المعروف ـ على شرط الصحيح ـ عن مجاهد قوله : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } عيسى وعزير والملائكة، يقول : لا يشفع عيسى وعزير والملائكة { إلا مّن شّهٌدّ بٌالًحّقٌَ } يعلم الحق . هذا لفظه . جعل ( شفع ) متعديا بنفسه وكذلك لفظ . . . [ بياض بالأصل ] .
وعلى هذا، فيكون منصوبا، لا يكون مخفوضاً، كما قاله البغوي ؛ فإن الحرف الخافض إذا حذف انتصب الاسم، ويكون على هذا يقال : شفعته، وشفعت له، كما يقال : نصحته، ونصحت له . و ( شفع ) أي صار شفيعاً للطالب، أي لا يشفعون طالباً ولا يعينون طالباً { إلا مّن شّهٌدّ بٌالًحّقٌَ $ّهٍمً يّعًلّمٍونّ } أن الله ربهم .
وروى بإسناده عن قتادة { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . الملائكة وعيسى وعزير، أي أنهم قد عبدوا من دون اللّه، ولهم شفاعة عند اللّه ومنزلة .
قلت : كلا القولين معناه صحيح، لكن التحقيق في تفسير الآية : أن الاستثناء منقطع، ولا يملك أحد من دون اللّه الشفاعة مطلقاً، لا يستثنى من ذلك أحد عند اللّه؛ فإنه لم يقل : ولا يشفع أحد، ولا قال : لا يشفع لأحد، بل قال : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } وكل من دعى من دون الله لا يملك الشفاعة البتة .
والشفاعة بإذن ليست مختصة بمن عبد من دون الله .(2/33)
وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم لم يعبد كما عبد المسيح، وهو ـ مع هذا ـ له شفاعة، ليست لغيره، فلا يحسن أن تثبت الشفاعة لمن دعى من دون اللّه دون من لم يدع .
فمن جعل الاستثناء متصلا، فإن معنى كلامه : أن من دعى من دون الله تعالى لا يملك الشفاعة، إلا أن يشهد بالحق وهو يعلم، أو لا يشفع إلا لمن شهد بالحق وهو يعلم، ويبقى الذين لم يدعوا من دون اللّه، لم تذكر شفاعتهم لأحد، وهذا المعنى لا يليق بالقرآن ولا يناسبه، وسبب نزول الآية يبطله أيضاً .
وأيضاً، فقوله : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } يتناول كل معبود من دونه، ويدخل فى ذلك الأصنام؛ فإنهم كانوا يقولون : هم يشفعون لنا .
قال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } [ يونس : 18 ] .
فإذا قيل : إنه استثنى الملائكة والأنبياء، كان فى هذا إطماع لمن عندهم أن معبوديهم من دون الله تعالى يشفعون لهم، وهذا مما يبين فساد القول المذكور عن قتادة .(2/34)
فإنه إذا كان المعنى : أن المعبودين لا يشفعون إلا إذا كانوا ملائكة أو أنبياء، كان فى هذا إثبات شفاعة المعبودين لمن عبدوهم، إذا كانوا صالحين، والقرآن كله يبطل هذا المعنى؛ ولهذا قال تعالى : { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26ـ 28 ] ، فبين أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الرب، فعلم أنه لابد أن يؤذن لهم في من يشفعون فيه، وأنهم لا يؤذن لهم إذن مطلق .
وأيضاً،فإن في القرآن : إذا نفى الشفاعة من دونه نفاها مطلقاً؛ فإن قوله : { مِن دُونِهِ } إما أن يكون متصلا بقوله : { يملكون } أو بقوله : { يَدْعُونَ } أو بهما . فالتقدير : لا يملك الذين يدعونهم الشفاعة من دونه، أو لا يملك الذين يدعونهم من دونه أن يشفعوا . وهذا أظهر ؛ لأنه قال : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } فأخر { الشَّفَاعَةَ } وقدم { مِن دُونِهِ } .
ومثل هذا كثير فى القرآن : ( يدعون من دون اللّه ) و ( يعبدون من دون اللّه ) ، كقوله : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } [ يونس : 18 ] ، وقوله : { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَّ } [ يونس : 106 ] .(2/35)
بخلاف ما إذا قيل : لا يملك الذين يدعون الشفاعة من دونه؛ فإن هذا لا نظير له في القرآن، واللفظ المستعمل فى مثل هذا أن يقال : لا يملك الذين يدعون الشفاعة إلا بإذنه، أو لمن ارتضى، ونحو ذلك . لا يقال فى هذا المعنى : ( من دونه ) ؛ فإن الشفاعة هي من عنده، فكيف تكون من دونه ؟ لكن قد تكون بإذنه، وقد تكون بغير إذنه .
وأيضاً، فإذا قيل : { بَّذٌينّ يّدًعٍونّ } مطلقاً، دخل فيه الرب تعالى؛ فإنهم كانوا يدعون اللّه، ويدعون معه غيره؛ ولهذا قال : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] .
والتقدير الثالث : لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة من دونه، وهذا أجود من الذي قبله، لكن يَرِدُ عليه ما يَرِدُ على الأول .
ومما يضعفهما أن الشفاعة لم تذكر بعدها صلة لها، بل قال : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } فنفى ملكهم الشفاعة مطلقاً . وهذا هو الصواب . وإن كل من دعى من دون اللّه لا يملك الشفاعة؛ فإن المالك للشيء هو الذي يتصرف فيه بمشيئته وقدرته،والرب ـ تعالى ـ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فلا يملك أحد من المخلوقين الشفاعة بحال، ولا يقال فى هذا : { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } إنما يقال ذلك فى الفعل، فيقال : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] .(2/36)
وأما فى الملك، فلا يمكن أن يكون غيره مالكا لها، فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال، ولا يتصور أن يكون نبى فمن دونه مالكا لها، بل هذا ممتنع، كما يمتنع أن يكون خالقاً وربا، وهذا كما قال : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } فنفى الملك مطلقا،ثم قال : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22، 23 ] ، فنفى نفع الشفاعة إلا لمن استثناه، لم يثبت أن مخلوقا يملك الشفاعة، بل هو ـ سبحانه ـ له الملك وله الحمد، لا شريك له في الملك، قال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [ الفرقان : 1، 2 ] .(2/37)
ولهذا ـ لما نفى الشفعاء من دونه ـ نفاهم نفياً مطلقاً بغير استثناء،وإنما يقع الاستثناء إذا لم يقيدهم بأنهم من دونه، كما قال تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] ، وكما قال تعالى : { وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } [ الأنعام : 70 ] ، وكما قال تعالى : { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } [ السجدة : 4 ] ، فلما قال : { مِّن دُونِهِ } نفى الشفاعة مطلقاً، وإذا ذكر { بِإِذْنِهِ } لم يقل : ( من دونه ) كقوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } [ يونس : 3 ] .
فمن تدبر القرآن تبين له أنه كما قال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] ، يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً، ليس بمختلف ولا بمتناقض { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
وهو ( مثانى ) يثنى الله تعالى فيه الأقسام، ويستوفيها .
والحقائق إما متماثلة، وهي ( المتشابه ) وإما مماثلة، وهي : الأصناف والأقسام والأنواع . وهي ( المثاني ) .(2/38)
و ( التثنية ) يراد بها : جنس التعديد، من غير اقتصار على اثنين فقط، كما فى قوله تعالى : { ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] ، يراد به : مطلق العدد، كما تقول : قلت له مرة بعد مرة، تريد : جنس العدد . وتقول : هو يقول كذا، ويقول كذا، وإن كان قد قال مرات، كقول حذيفة بن اليمان ـ رضى اللّه عنهما ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم : أنه جعل يقول بين السجدتين : ( رب اغفر لي، رب اغفر لي ) لم يرد : أن هذا قاله مرتين فقط،كما يظنه بعض الناس الغالطين، بل يريد : أنه جعل يثنى هذا القول، ويردده، ويكرره، كما كان يثنى لفظ التسبيح .
وقد قال حذيفة ـ رضي اللّه عنه ـ فى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم إنه ركع نحواً من قيامه، يقول فى ركوعه : ( سبحان ربى العظيم، سبحان ربي العظيم ) . وذكر أنه سجد نحواً من قيامه، يقول فى سجوده : ( رب اغفر لي، رب اغفر لي ) .
وقد صرح في الحديث الصحيح ـ أنه أطال الركوع والسجود بقدر البقرة والنساء وآل عمران فإنه قام بهذه السور كلها،وذكر أنه كان يقول : ( سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى ) .
فعلم أنه أراد بتثنية اللفظ : جنس التعداد والتكرار، لا الاقتصار على مرتين، فإن [ الاثنين ] أول العدد الكثير . فذكر أول الأعداد يعنى أنه عدد هذا اللفظ، لم يقتصر على مرة واحدة، فالتثنية التعديد، والتعديد يكون للأقسام المختلفة .
وليس في القرآن تكرار محض، بل لابد من فوائد في كل خطاب .
فـ [ المتشابه ] فى النظائر المتماثلة، و [ المثاني ] في الأنواع . وتكون التثنية في المتشابه، أي هذا المعنى قد ثنى في القرآن لفوائد أخر .
فـ [ المثاني ] تعم هذا وهذا . وفاتحة الكتاب : هي [ السبع المثاني] لتضمنها هذا وهذا، وبسط هذا له موضع آخر .(2/39)
والمقصود هنا أن قوله : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } قد تم الكلام هنا، فلا يملك أحد من المعبودين من دون الله الشفاعة البتة، ثم استثنى : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 86 ] ، فهذا استثناء منقطع . والمنقطع يكون في المعنى المشترك بين المذكورين . فلما نفى ملكهم الشفاعة، بقيت الشفاعة بلا مالك لها .
كأنه قد قيل : فإذا لم يملكوها، هل يشفعون في أحد ؟ فقال : نعم { مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
وهذا يتناول الشافع والمشفوع له،فلا يشفع إلا من شهد بالحق وهم يعلمون، فالملائكة والأنبياء والصالحون ـ وإن كانوا لا يملكون الشفاعة ـ لكن إذا أذن الرب لهم شفعوا، وهم لا يؤذن لهم إلا في الشفاعة للمؤمنين، الذين يشهدون أن لا إله إلا اللّه، فيشهدون بالحق وهم يعلمون، لا يشفعون لمن قال هذه الكلمة تقليداً للآباء والشيوخ، كما جاء الحديث الصحيح : ( إن الرجل يسأل فى قبره : ما تقول في هذا الرجل ؟ فأما المؤمن، فيقول : هو عبد اللّه ورسوله، جاءنا بالبينات والهدى . وأما المرتاب، فيقول : هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ) فلهذا قال : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وقد تقدم قول ابن عباس؛ يعني من قال : ( لا إله إلا الله تعالى ) يعنى : خالصا من قلبه .
والأحاديث الصحيحة الواردة في الشفاعة، كلها تبين أن الشفاعة إنما تكون فى أهل ( لا إله إلا اللّه ) .
وقد ثبت فى صحيح البخاري : أن أبا هريرة قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال : ( يا أبا هريرة، لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله تعالى، خالصا من قبل نفسه ) .(2/40)
فبين أن المخلص لها من قبل نفسه، هو أسعد بشفاعته صلى الله عليه وسلم من غيره ممن يقولها بلسانه، وتكذبها أقواله وأعماله .
فهؤلاء هم الذين شهدوا بالحق، شهدوا ( أن لا إله إلا الله تعالى ) ، كما شهد الله تعالى لنفسه بذلك وملائكته وأولو العلم { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] .
فإذا شهدوا ـ وهم يعلمون ـ كانوا من أهل الشفاعة، شافعين، ومشفوعا لهم .
فإن المؤمنين أهل التوحيد يشفع بعضهم فى بعض، كما ثبت ذلك فى الأحاديث الصحيحة، كما ثبت فى الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ـ في الحديث الطويل، حديث التجلي والشفاعة ـ : ( حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله تعالى فى استيفاء الحق من المؤمنين للّه يوم القيامة لإخوانهم الذين فى النار، يقولون : ربنا، كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون . فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار ) وذكر تمام الحديث .
وسبب نزول الآية ـ على ما ذكروه ـ مؤيد لما ذكره .
قال أبو الفرج ابن الجوزى : سبب نزولها : أن النضر بن الحارث ونفراً معه قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا، فنحن نتولى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فنزلت هذه الآية . قاله مقاتل .
وعلى هذا، فيقصد أن الملائكة وغيرهم لا يملكون الشفاعة، فليس توليكم إياهم، واستشفاعكم بهم بالذي يوجب أن يشفعوا لكم؛ فإن أحداً ممن يدعى من دون اللّه لا يملك الشفاعة، ولكن { مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فإن اللّه يشفع فيه .
فالذي تنال به الشفاعة هى الشهادة بالحق، وهي شهادة أن لا إله إلا اللّه، لا تنال بتولى غير اللّه؛ لا الملائكة، ولا الأنبياء ولا الصالحين .(2/41)
فمن والى أحداً من هؤلاء ودعاه، وحج إلى قبره، أو موضعه، ونذر له، وحلف به، وقرب له القرابين ليشفع له، لم يغن ذلك عنه من اللّه شيئاً، وكان من أبعد الناس عن شفاعته وشفاعة غيره؛ فإن الشفاعة إنما تكون لأهل توحيد اللّه، وإخلاص القلب والدين له، ومن تولى أحدا من دون الله فهو مشرك .
فهذا القول والعبادة ـ الذي يقصد به المشركون الشفاعة ـ يحرم عليهم الشفاعة، فالذين عبدوا الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين،ليشفعوا لهم،كانت عبادتهم إياهم وإشراكهم بربهم، الذي به طلبوا شفاعتهم، به حرموا شفاعتهم، وعوقبوا بنقيض قصدهم؛ لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا .
وكثير من أهل الضلال يظن أن الشفاعة تنال بهذه الأمور التى فيها شرك، أو هي شرك خالص، كما ظن ذلك المشركون الأولون، وكما يظنه النصارى، ومن ضل من المنتسبين إلى الإسلام، الذين يدعون غير اللّه، ويحجون إلى قبره أو مكانه، وينذرون له، ويحلفون به، ويظنون أنه بهذا يصير شفيعاً لهم، قال تعالى : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 56،57 ] .(2/42)
قال طائفة من السلف : كان أقوام يعبدون المسيح والعزير والملائكة، فبين الله أنهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، كما بين أنهم لا يملكون الشفاعة، وهذا لا استثناء فيه، وإن كان الله يجيب دعاءهم، ثم قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } ، فبين أن هؤلاء المزعومين، الذين يدعونهم من دون اللّه كانوا يرجون رحمة الله تعالى ويخافون عذابه، ويتقربون إليه بالأعمال الصالحة، كسائر عباده المؤمنين وقد قال تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون } [ آل عمران : 80 ] .
وللناس فى الشفاعة أنواع من الضلال، قد بسطت في غير هذا الموضع .
فكثير منهم يظن أن الشفاعة هى بسبب اتصال روح الشافع بروح المشفوع له، كما ذكر ذلك أبو حامد الغزالى وغيره، ويقولون : من كان أكثر صلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، كان أحق بالشفاعة من غيره،وكذلك من كان أحسن ظناً بشخص، وأكثر تعظيماً له، كان أحق بشفاعته .
وهذا غلط، بل هذا هو قول المشركين الذين قالوا : نتولى الملائكة ليشفعوا لنا، يظنون أن من أحب أحدا، من الملائكة والأنبياء والصالحين وتولاه، كان ذلك سبباً لشفاعته له . وليس الأمر كذلك بل الشفاعة سببها توحيد اللّه وإخلاص الدين والعبادة بجميع أنواعها له، فكل من كان أعظم إخلاصا كان أحق بالشفاعة، كما أنه أحق بسائر أنواع الرحمة؛ فإن الشفاعة من اللّه مبدؤها، وعلى الله تعالى تمامها، فلا يشفع أحد إلا بإذنه، وهو الذى يأذن للشافع، وهو الذى يقبل شفاعته فى المشفوع له .(2/43)
وإنما الشفاعة سبب من الأسباب التى بها يرحم اللّه من يرحم من عباده، وأحق الناس برحمته هم أهل التوحيد والإخلاص له، فكل من كان أكمل فى تحقيق إخلاص ( لا إله إلا اللّه ) علماً وعقيدة، وعملاً وبراءة، وموالاة ومعاداة، كان أحق بالرحمة .
والمذنبون ـ الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم فخَفَّت موازينهم فاستحقوا النارـ من كان منهم من أهل ( لا إله إلا اللّه ) فإن النار تصيبه بذنوبه، ويميته اللّه فى النار إماتة، فتحرقه النار إلا موضع السجود، ثم يخرجه اللّه من النار بالشفاعة، ويدخله الجنة، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة .
فبين أن مدار الأمر كله على تحقيق كلمة الإخلاص، وهى ( لا إله إلا اللّه ) لا على الشرك بالتعلق بالموتى وعبادتهم، كما ظنه الجاهليون، وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين ( الحمد ) الذى هو رأس الشكر، وبين ( التوحيد والاستغفار ) إذا رفع رأسه من الركوع فيقول : ( ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد ) ثم يقول : ( اللهم طهرنى بالثلج والبرد، والماء البارد، اللهم طهرنى من الذنوب والخطايا كما يُنَقى الثوب الأبيض من الدَّنَس ) كما رواه مسلم فى الصحيح عن أبى سعيد الخدرى ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال : كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسهمن الركوع قال : ( اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) .(2/44)
وروى مسلم ـ أيضا ـ عن عبد الله بن أبى أوفى ـ رضى الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال : ( سمع الله لمن حمده،اللهم ربنا لك الحمد،ملء السموات وملء الأرض،وملء ما شئت من شىء بعد،اللهم طهرنى بالثلج والبرد،والماء البارد، اللهم طهرنى من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوَسَخ ) .
وقد روى مسلم فى صحيحه أيضاً عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( اللهم لك الحمد ) ، وقال : ( وملء الأرض، وملء ما بينهما ) ، ولم يذْكَر فى بعض الروايات؛ لأن ( السموات والأرض ) . قد يراد بهما العلو والسفل مطلقاً، فيدخل فى ذلك الهواء وغيره؛ فإنه عال بالنسبة إلى ما تحته، وسافل بالنسبة إلى ما فوقه، فقد يجعل من السماء، كما يجعل السحاب سماء، والسقف سماء،وكذا قال فى القرآن : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الحديد : 4 ] ،ولم يقل : ( وما بينهما ) كما يقول : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } [ السجدة : 4 ] .
فتارة يذكر قوله : ( وما بينهما ) فيما خلقه فى ستة أيام، وتارة لا يذكره، وهو مراد؛ فإن ذكره كان إيضاحاً وبياناً، وإن لم يذكره دخل فى لفظ ( السموات والأرض ) . ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم تارة يقول : ( ملء السموات وملء الأرض ) ولا يقول : ( وما بينهما ) ، وتارة يقول : ( وما بينهما ) وفيها كلها : ( وملء ما شئت من شىء بعد ) ، وفى رواية أبى سعيد : ( أحق ما قال العبد ) إلى آخره، وفى رواية ابن أبى أوْفَى : ( الدعاء بالطهارة من الذنوب ) .
ففى هذا، الحمد رأس الشكر والاستغفار، فإن ربنا غفور وشكور، فالحمد بإزاء النعمة، والاستغفار بإزاء الذنوب .(2/45)
وذلك تصديق قوله تعالى : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك } [ النساء : 79 ] .
ففى سيد الاستغفار : ( أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبى ) ، وفى حديث أبي سعيد : ( الحمد رأس الشكر والتوحيد ) ، كما جمع بينهما في أم القرآن؛ فأولها تحميد، وأوسطها توحيد، وآخرها دعاء، وكما في قوله : { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ غافر : 65 ] .
وفى حديث الموطأ : ( أفضل ما قلتُ أنا والنبيون من قبلى : لا إله إلا الله تعالى، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهوعلى كل شىء قدير من قالها كتب الله تعالى له ألف حسنة، وحط عنه ألف سيئة وكانت له حِرْزًا من الشيطان يومه ذلك، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثلها، أو زاد عليه، ومن قال فى يوم مائة مرة : سبحان اللّه وبحمده، حطت خطاياه، ولو كانت مثل زَبَد البحر ) .
وفضائل هذه الكلمات فى أحاديث كثيرة، وفيها : التوحيد والتحميد .
فقوله : ( لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له ) توحيد، وقوله : ( له الملك وله الحمد ) تحميد، وفيها معان أخرى شريفة .
وقد جاء الجمع بين التوحيد، والتحميد، والاستغفار، فى مواضع؛ مثل حديث كفارة المجلس : ( سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ) فيه : التسبيح، والتحميد، والتوحيد، والاستغفار . من قالها فى مجلس؛ إن كان مجلس لغط كانت كفارة له، وإن كان مجلس ذكر كانت كالطابع له، وفى حديث أيضا : ( إن هذا يقال عقب الوضوء ) .(2/46)
ففى الحديث الصحيح ـ فى مسلم وغيره ـ من حديث عقبة عن عمر بن الخطاب ـ رضى اللّه عنه ـ أنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد يتوضأ فيَسْبغ الوضوء، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فُتحِِت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء ) . وفى حديث آخر أنه يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ) .
وقد روى عن طائفة من السلف، فى الكلمات التى تلقاها آدم من ربه، ونحو هذه الكلمات .
روى ابن جرير عن مجاهد أنه قال : ( اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسى،فاغفر لى، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك،رب إنى ظلمت نفسى فارحمنى، فأنت خير الراحمين،لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك،رب إنى ظلمت نفسى، فتب على، إنك أنت التواب الرحيم ) . فهذه الكلمات من جنس خاتمة الوضوء،وخاتمة الوضوء فيها التسبيح،والتحميد،والتوحيد، والاستغفار .
فالتسبيح، والتحميد، والتوحيد لله تعالى؛ فإنه لا يأتى بالحسنات إلا هو .
والاستغفار من ذنوب النفس، التى منها تأتى السيئات .
وقد قرن اللّه فى كتابه بين التوحيد، والاستغفار فى غيرموضع، كقوله : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] ، وفى قوله : { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } [ هود : 2، 3 ] وفى قوله : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } [ فصلت : 6 ] .(2/47)
وفى حديث رواه ابن أبى عاصم وغيره : ( يقول الشيطان : أهلكتُ الناس بالذنوب، وأهلكونى بالاستغفار، وبلا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك بَثَثْت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يستغفرون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صُنُعًا ) .
و ( لا إله إلا اللّه ) تقتضى الإخلاص والتوكل والإخلاص [ يقتضى ] الشكر، فهى أفضل الكلام، وهى أعلى شعب الإيمان، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه قال : ( الإيمان بضْعُ وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شُعْبَة، أعلاها قول لا إلا إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) .
فـ ( لا إله إلا اللّه ) هى قطب رحَى الإيمان، وإليها يرجع الأمر كله .
والكتب المنزلة مجموعة فى قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وهي معنى ( لا إله إلا الله ) و ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) هى من معنى ( لا إله إلا الله ) و ( الحمد للّه ) فى معناها، و ( سبحان الله والله أكبر ) من معناها، لكن فيها تفصيل بعد إجمال .
فَصل
وأما قوله ـ في قصة فرعون ـ : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 ] ، وقوله : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } [ عبس : 3، 4 ] ، فلا يناقض هذه الآية؛ لأنه لم يقل في هذه الآية [ سيخشى من يذكر ] ، بل ذَكَرَ أن كل من خشى فإنه يتذكر؛ إما أن يتذكر فيخشى ـ وإن كان غيره يتذكر فلا يخشى، وإما أن تدعوه الخشية إلى التذكر . فالخشية مستلزمة للتذكر . فكل خاش متذكر .
كما قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [ فاطر : 28 ] ، فلا يخشاه إلا / عالم . فكل خاش للّه فهو عالم . هذا منطوق الآية .
وقال السلف وأكثر العلماء : إنها تدل على أن كل عالم فإنه يخشى اللّه، كما دل غيرها على أن كل من عصى اللّه فهو جاهل .(2/48)
كما قال أبو العالية : سألت أصحاب محمد عن قوله : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍُ } [ النساء : 17 ] ، فقالوا لي : [ كل من عصى اللّه فهو جاهل ] . وكذلك قال مجاهد، والحسن البَصْري، وغيرهم من العلماء التابعين ومن بعدهم .
وذلك أن الحصر في معنى الاستثناء، والاستثناء من النفي إثبات عند جمهور العلماء . فنفي الخشية عمن ليس من العلماء؛ وهم العلماء به الذين يؤمنون بما جاءت به الرسل، يخافونه .
قال تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] . وأثبتها للعلماء . فكل عالم يخشاه . فمن لم يخش اللّه فليس من العلماء، بل من الجهال، كما قال عبد اللّه بن مسعود : [ كفي بخشية اللّه علمًا، وكفي / بالاغترار باللّه جهلًا ] . وقال رجل للشَّعبي : [ أيها العالم ! ] فقال : [ إنما العالم من يخشى اللّه ! ] .
فكذلك قوله : { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } [ الأعلى : 10 ] ، يقتضى أن كل من يخشاه فلابد أن يكون ممن تذكر . وقد ذكر أن الأشقى يتجنب الذكرى، فصار الذي يخشى ضد الأشقى . فلذلك يقال : ( كل من تذكر خشى ) .
والتحقيق أن التذكر سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية؛ كما أن العلم سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية .
وعلى هذا، فقوله في قصة فرعون : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 ] ، جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد :
أحدها : أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن اللّه خالقه، وليس هو إلهًا وربّا كما ذكر، وذكر إحسان اللّه إليه . فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية اللّه وتوحيده وإنعامه عليه . فيقتضى الإيمان والشكر، وإن قدر أن اللّه لا يعذبه .(2/49)
فإن مجرد كون الشيء حقًا ونافعًا يقتضى طلبه وإن لم يخف ضررًا / بعدمه . كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع ـ وإن كان لا عقوبة في تركها ـ كما يحب الإنسان علوما نافعة ـ وإن لم يتضرر بتركها ـ وكما قد يحب محاسن الأخلاق ومعالى الأمور لما فيها من المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة ـ وإن لم يخف ضررًا بتركها .
فهو إذا تذكر آلاء اللّه وتذكر إحسانه إليه فهذا قد يوجب اعترافه بحق اللّه وتوحيده وإحسانه إليه، ويقتضى شكره للّه وتسليم قوم موسى إليه ـ وإن لم يخف عذابًا ـ فهذا قد حصل بمجرد التذكر .
قال : { أَوْ يَخْشَى } . ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده اللّه به من عذاب الدنيا والآخرة، فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد ولو لم يتذكر .
وقد يحصل تذكر بلا خشية، وقد يحصل خشية بلا تذكر، وقد يحصلان جميعا ـ وهو الأغلب ـ قال تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } .
وأيضًا، فَذِكْر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا، فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد . فبالأول يكون ممن له قلب يعقل به، والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها .
/ وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا، كما قال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌِ } [ ق : 36، 37 ] .(2/50)
الفائدة الثانية : أن التذكر سبب الخشية، والخشية حاصلة عن التذكر . فَذَكَرَ التذكر الذي هو السبب، وذَكَرَ الخشية التي هى النتيجة ـ وإن كان أحدهما مستلزما للآخر ـ كما قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ ق : 37 ] ، وكما قال أهل النار : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] ، وقال : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فكل من النوعين يحصل به النجاة لأنه مستلزم للآخر .
فالذي يسمع ما جاءت به الرسل ـ سمعًا يعقل به ما قالوه ـ ينجو . وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه، كما قال : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [ محمد : 16 ] ، وقال : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ يونس : 42 ] ، وقال : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 2 ] .
/ وكذلك العقل بلا سمع لما جاءت به الرسل لا ينفع . وقد اعترف أهل النار بمجيء الرسل فقالوا : { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } [ الملك : 9 ] .(2/51)
وكذلك المْعَتبِرين بآثار المعَذَّبين الذين قال فيهم : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ } [ الحج : 46 ] . إنما ينتفعون إذا سمعوا أخبار المعذبين المكذبين للرسل والناجين الذين صدقوهم، فسمعوا قول الرسل وصدقوهم .
الفائدة الثالثة : أن الخشية ـ أيضًا ـ سبب للتذكر كما تقدم . فكل منهما قد يكون سببًا للآخر . فقد يخاف الإنسان فيتذكر، وقد يتذكر الأمور المخوفة فيطلب النجاة منها، ويتذكر ما يرجو به النجاة منها فيفعله .
فإن قيل : مجرد ظن المخوف قد يوجب الخوف، فكيف قال : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [ فاطر : 28 ] ؟
قيل : النفس لها هوى غالب قاهر لا يصرفه مجرد الظن، وإنما يصرفه العلم بأن العذاب واقع لا محالة . وأما من كان يظن أن العذاب يقع ولا يوقن بذلك فلا يترك هواه؛ ولهذا قال : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } [ النازعات : 40 ] .
/ وقال تعالى في ذم الكفار : { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ الجاثية : 32 ] ، ووصف المتقين بأنهم بالآخرة يوقنون .
ولهذا أقسم الرب على وقوع العذاب والساعة، وأمر نبيه أن يقسم على وقوع الساعة وعلى أن القرآن حق، فقال : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } [ التغابن : 7 ] ، وقال : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] ، وقال : { وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ } [ يونس : 53 ] .
فصل(2/52)
وأما قوله تعالى : { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ } [ غافر : 13 ] ، فهو حق كما قال . فإن المتذكر إما أن يتذكر ما يدعو إلى الرحمة والنعمة والثواب كما يتذكر الإنسان ما يدعوه إلى السؤال فينيب، وإما أن يتذكر ما يقتضى الخوف والخشية فلابد له من الإنابة حينئذ لينجو مما يخاف .
ولهذا قيل في فرعون : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } فينيب، { أَوْ يَخْشَى } . / وكذلك قال له موسى { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [ النازعات : 18، 19 ] ، فجمع موسى بين الأمرين لتلازمهما .
وقال في حق الأعمى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } [ عبس : 3، 4 ] . فذكر الانتفاع بالذكرى، كما قال : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] .
والنفع نوعان : حصول النعمة، واندفاع النقمة . ونفس اندفاع النقمة نفع وإن لم يحصل معه نفع آخر، ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع، وكلاهما نفع . فالنفع تدخل فيه الثلاثة، والثلاثة تحصل بالذكرى، كما قال تعالى { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ، وقال : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } .(2/53)
وأما ذكر التزكي مع التذكر فهو كما ذكر في قصة فرعون الخشية مع التذكر . وذلك أن التزكي هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية، كما قال في هذه السورة : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [ الأعلى : 14، 15 ] ، وقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9، 10 ] ، وقال / : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } [ الجمعة : 2 ] ، وقال : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6، 7 ] ،وقال موسى لفرعون : { هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [ النازعات : 18، 19 ] .
وعطف عليه : { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } ، لوجوه :
أحدها : أن التزكي يحصل بامتثال أمر الرسول ـ وإن كان صاحبه لا يتذكر علومًا عنه ـ كما قال : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ، ثم قال : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } . فالتلاوة عليهم والتزكية عام لجميع المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعضهم . وكذلك التزكي عام لكل من آمن بالرسول، وأما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها، فعرف بتذكره ما لم يعلمه غيره من تلقاء نفسه .
الوجه الثاني : أن قوله : { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } [ عبس : 4 ] يدخل فيه النفع، قليله وكثيره، والتزكي أخص من ذلك .
الثالث : أن التذكر سبب التزكي، فإنه إذا تذكر خاف ورجا، فتزكى . فذكر الحكم وذكر سببه . ذكر العمل وذكر العلم، وكل منهما مستلزم للآخر .
/ فإنه لا يتزكى حتى يتذكر ما يسمعه من الرسول، كما قال : { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } [ الأعلى : 10 ] . فلابد لكل مؤمن من خشية وتذكر .(2/54)
وهو إذا تذكر فإنه ينتفع، وقد تتم المنفعة، فيتزكى .
وقوله : { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [ الفرقان : 62 ] ، فيه ـ أيضًا ـ نحو هذه الوجوه .
فإن الشاكر قد يشكر اللّه على نعمه وإن لم يخف، والتذكر قد يقتضى الخشية .
وأيضًا، فإن التذكر يقتضي الخوف من العقاب وطلب الثواب فيعمل للمستقبل، والشكر على النعم الماضية .
وأيضًا، فالتذكر تذكر علوم سابقة، ومنها تذكر نعم اللّه عليه، فهو سبب للشكر . تذكر السبب والمسبب .
وأيضًا، فإن الشكر يقتضى المزيد من النعم، والتذكر قد يكون لهذا، وقد يكون خوفا من العذاب .
وقد يكون الأمر بالعكس، فالشاكر قد يشكر الشكر الواجب لئلا يكون كفورًا فيعاقب على ترك الشكر بسلب النعمة وعقوبات أخر، / والمتذكر قد يتذكر ما أعده اللّه لمن أطاعه فيطيعه طلبًا لرحمته .
وأيضًا، فالتذكر قد يكون لفعل الواجبات التي يدفع بها العقاب، والشكور يكون للمزيد من فضله، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه . فقيل له : أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : ( أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟ ) .
وقال صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدُكُم الموت : إما محسن فيزداد إحسانا، وإما مسيئًا فلعله أن يُسْتَعْتَب ) . فالمؤمن دائمًا في نعمة من ربه تقتضى شكرًا، وفي ذنب يحتاج إلى استغفار .
وهو في سيد الاستغفار يقول : ( أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) .
وقد علم تحقيق قوله : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، فما أصابه من الحسنات هى نعم اللّه فتقتضى شكرًا، وما أصابه من المصائب فبذنوبه تقتضى تذكرًا لذنوبه يوجب توبة واستغفارًا .(2/55)
وقد جعل اللّه { اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [ الفرقان : 62 ] ، فيتوب/ ويستغفر من ذنوبه، { أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [ الفرقان : 62 ] ، لربه على نعمه . وكل ما يفعله الله بالعبد من نعمة، وكل ما يخلفه اللّه، فهو نعمة اللّه عليه . فكلما نظر إلى ما فعله ربه شكر، وإذا نظر إلى نفسه استغفر .
والتذكر قد يكون تذكر ذنوبه وعقاب ربه . وقد يدخل فيه تذكر آلائه ونعمه، فإن ذلك يدعو إلى الشكر . قال تعالى : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } [ آل عمران : 103 ] ، في غير موضع، فقد أمر بذكر نعمه . فالمتذكر يتذكر نعم ربه، ويتذكر ذنوبه .
وأيضًا، فهو ذكر الشكور؛ لأنه مقصود لنفسه، فإن الشكر ثابت في الدنيا والآخرة . وذكر التذكر؛ لأنه أصل للاستغفار، والشكر، وغير ذلك . فذكر المبدأ وذكر النهاية . وهذا المعنى يجمع ما قيل . واللّه ـ سبحانه ـ أعلم .
فصل
والتذكر اسم جامع لكل ما أمر اللّه بتذكره، كما قال : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ } [ فاطر : 37 ] ، أى قامت الحجة عليكم بالنذير الذي جاءكم، وبتعميركم عمرًا يتسع للتذكر .
/ وقد أمر ـ سبحانه ـ بذكر نعمه في غير موضع، كقوله : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } [ البقرة : 231 ] .(2/56)
والمطلوب بذكرها شكرها، كما قال : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 150 - 152 ] .
وقوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ } يتناول كل من خوطب بالقرآن . وكذلك قوله : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] . فالرسول من أنفس من خوطب بهذا الكلام، إذ هى كاف الخطاب .
ولما خوطب به ـ أولا ـ قريش، ثم العرب، ثم سائر الأمم، صار يخص ويعم بحسب ذلك .
وفيه ما يخص قريشًا كقوله : { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ } [ قريش : 1، 2 ] . وقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] .
وفيه ما يعم العرب ويخصهم، كقوله : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } [ الجمعة : 2 ] ، والأميون يتناول العرب قاطبة دون أهل الكتاب .(2/57)
ثم قال : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } [ الجمعة : 3 ] . فهذا يتناول كل من دخل في الإسلام ـ بعد دخول العرب فيه ـ إلى يوم القيامة، كما قال ذلك مقاتل بن حيان [ هو أبو بسطام مقاتل بن حيان النبطى البلخى الخراز، مولى بكر بن وائل، وثقه ابن معين وأبو داود، وقال النسائى : ليس به بأس، مات قبل الخمسين ومائة تقريبًا ] ، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهما .
فإن قوله : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } ؛ أى : في الدين دون النسب، إذ لو كانوا منهم في النسب لكانوا من الأميين .
وهذا كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } [ الأنفال : 75 ] .
وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : ( لو كان الإيمان معلقًا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس ) . فهذا يدل على دخول هؤلاء ـ لا يمنع دخول غيرهم من الأمم .
وإذا كانوا هم منهم فقد دخلوا في قوله : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [ آل عمران : 164 ] ، فالمنة على جميع المؤمنين ـ عربهم وعجمهم، سابقهم ولاحقهم ـ والرسول منهم؛ لأنه إنسى مؤمن . وهو من العرب أخص؛ لكونه عربيا جاء بلسانهم، وهو من قريش أخص .
والخصوص يوجب قيام الحجة، لا يوجب الفضل، إلا بالإيمان والتقوى لقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] .
ولهذا كان الأنصار أفضل من الطلقاء من قريش، وهم ليسوا من ربيعة ولا مضر، بل من قحطان .
وأكثر الناس على أنهم من ولد هود، ليسوا من ولد إبراهيم .
وقيل : إنهم من ولد إسماعيل؛ لحديث أسلم لما قال : ( ارموا، فإن أباكم كان راميًا ) ، وأسلم من خزاعة، وخزاعة من ولد إبراهيم .(2/58)
وفي هذا كلام ليس هذا موضعه؛ إذ المقصود أن الأنصار أبعد نسبا من كل ربيعة ومضر مع كثرة هذه القبائل . ومع هذا هم أفضل من جمهور قريش، إلا من السابقين الأولين من المهاجرين ـ وفيهم قرشي وغير قرشي .
ومجموع السابقين ألف وأربعمائة غير مهاجرى الحبشة .
/ فقوله : { لَقَدْ جَاءكُمْ } [ التوبة : 128 ] يخص قريشًا، والعرب، ثم يعم سائر البشر؛ لأن القرآن خطاب لهم . والرسول من أنفسهم، والمعنى ليس بملك لا يطيقون الأخذ منه، ولا جني .
ثم يعم الجن؛ لأن الرسول أرسل إلى الإنس والجن، والقرآن خطاب للثقلين، والرسول منهم جميعًا، كما قال : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } [ الأنعام : 130 ] ، فجعل الرسل التي أرسلها من النوعين مع أنهم من الإنس .
فإن الإنس والجن مشتركون ـ مع كونهم أحياء ناطقين مأمورين منهيين ـ فإنهم يأكلون ويشربون، وينكحون وينسلون، ويغتذون وينمون بالأكل والشرب . وهذه الأمور مشتركة بينهم . وهم يتميزون بها عن الملائكة، فإن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، ولا تنكح ولا تنسل .
فصار الرسول مع أنفس الثقلين، باعتبار القدر المشترك بينهم الذي تميزوا به عن الملائكة، حتى كان الرسول مبعوثًا إلى الثقلين دون الملائكة .
وكذلك قوله : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [ آل عمران : 164 ] ، هو كقوله : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } [ البقرة : 231 ] ، وقوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 151 ] .(2/59)
ثم قال : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] ، والمقصود أنه أمر بذكر النعم وشكرها .
وقال : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] ـ في غير موضع ـ وقال للمؤمنين : { وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ } [ الأعراف : 86 ] ، فذكر النعم من الذكر الذي أمروا به .
ومما أمروا به تذكرة قصص الأنبياء المتقدمين، كما قال : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ } [ مريم : 41 ] ، { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ موسى } [ مريم : 51 ] ، { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ } [ مريم : 54 ] ، { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ } [ مريم : 56 ] ، وقال : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ } [ ص : 17 ] ، { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ } [ ص : 45 ] ، { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَّ } [ ص : 48 ] .
ومما أمروا به تذكرة ما وعدوا به من الثواب والعقاب . قال تعالى : { إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } [ ص : 46 ] .
/ ومما أمروا بتذكره آيات اللّه التي يستدلون بها على قدرته وعلى المعاد، كقوله : { وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } [ مريم : 66، 67 ] .
وقد قال لموسى : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ } [ إبراهيم : 5 ] ، وهى تتناول أيام نعمه وأيام نقمه ليشكروا ويعتبروا .
ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5 ] . فإن ذكر النعم يدعو إلى الشكر، وذكر النقم يقتضى الصبر على فعل المأمور وإن كرهته النفس، وعن المحظور وإن أحبته النفس؛ لئلا يصيبه ما أصاب غيره من النقمة .
سُورَة العَلَق(2/60)
وقَال الشيخ ـ رحمه الله :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=321 - TOP#TOPفَصْل
في بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين وهي الأدلة العقلية الدالة على ثبوت الصانع وتوحيده، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى المعاد إمكانًا ووقوعًا .
وقد ذكرنا ـ فيما تقدم ـ هذا الأصل غير مرة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأدلة العقلية والسمعية التي يهتدى بها الناس إلى دينهم، وما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وأن الذين ابتدعوا أصولًا تخالف بعض ما جاء به هي أصول دينهم، لا أصول دينه . وهي باطلة عقلًا وسمعًا، كما قد بسط في غير موضع . وبين أن كثيرًا من المنتسبين إلى العلم والدين قاصرون أو مقصرون في معرفة ما جاء به من الدلائل / السمعية والعقلية .
فطائفة قد ابتدعت أصولًا تخالف ما جاء به من هذا وهذا .
وطائفة رأت أن ذلك بدعة فأعرضت عنه،وصاروا ينتسبون إلى السنة لسلامتهم من بدعة أولئك . ولكن هم ـ مع ذلك ـ لم يتبعوا السنة على وجهها، ولا قاموا بما جاء به من الدلائل السمعية والعقلية . بل الذي يخبر به من السمعيات مما يخبر به عن ربه وعن اليوم الآخر، غايتهم أن يؤمنوا بلفظه من غير تصور لما أخبر به . بل قد يقولون مع هذا إنه نفسه لم يكن يعلم معنى ما أخبر به؛ لأن ذلك عندهم هو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله .
وأما الأدلة العقلية فقد لا يتصورون أنه أتى بالأصول العقلية الدالة على ما يخبر به، كالأدلة الدالة على التوحيد والصفات . ومنهم من يقر بأنه جاء بهذا مجملًا، ولا يعرف أدلته . بل قد يظن أن ما يستدل به ـ كالاستدلال بخلق الإنسان على حدوث جواهره ـ هو دليل الرسول .(2/61)
وكثير من هؤلاء يعتقدون : أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل كالمعاد،وحسن التوحيد والعدل والصدق، وقبح الشرك والظلم/والكذب . والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك . وينكر على من لم يستدل بها . ويبين أنه بالعقل يعرف المعاد، وحسن عبادته وحده وحسن شكره . وقبح الشرك، وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع .
وكثير من الناس يكون هذا في فطرته وهو ينكر تحسين العقل وتقبيحه إذا صنف في أصول الدين على طريقة النفاة الجبرية ـ أتباع جهم . وهذا موجود في عامة ما يقوله المبطلون ـ يقولون بفطرتهم ما يناقض ما يقولونه في اعتقادهم البِدْعِى .
وقد ذكر أبو عبد الله ـ ابن الجد الأعلى ـ أنه سمع أبا الفرج ابن الجوزي ينشد في مجلس وعظه البيتين المعروفين :
هب البعثُ لم تأتنا رُسْله ** وجاحمة النار لم تُضرم
أليس من الواجب المستَحَقِ ** حياءُ العباد من المنْعِم ؟
فقد صرح في هذا بأنه من الواجب المستحق حياء الخلق من الخالق المنعم .
وهذا تصريح بأن شكره واجب مستحق ولو لم يكن وعيد، ولا / رسالة أخبرت بجزاء . وهو يبين ثبوت الوجوب والاستحقاق وإن قدر أنه لا عذاب .
وهذا فيه نزاع قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا هو الصحيح . ونتيجة فعل المنهي انخفاض المنزلة وسلب كثير من النعم التي كان فيها وإن كان لا يعاقب بالضرر .
ويبين أن الوجوب والاستحقاق يُعْلم بالبديهة . فتارك الواجد وفاعل القبيح وإن لم يُعَذَّب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه . وهذا جزاء من لم يشكر النعمة بل كفرها ـ أن يسلبها . فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد . والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك يُنْقص النعمة ولا يزيد .(2/62)
مع أنه لابد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار . قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ التين : 4 - 6 ] ،وهذا مبسوط في مواضع .
والمقصود ـ هنا ـ أن بيان هذه الأصول وقع في أول ما أنزل من القرآن . فإن أول ما أنزل من القرآن : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، عند جماهير / العلماء . وقد قيل : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 ] ، روى ذلك عن جابر . والأول أصح . فإن ما في حديث عائشة الذي في الصحيحين يبين أن أول ما نزل : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } نزلت عليه وهو في غار حراء، وأن [ المدثر ] نزلت بعد .
وهذا هو الذي ينبغى . فإن قوله : { اقْرَأْ } أمر بالقراءة، لا بتبليغ الرسالة، وبذلك صار نبيًا . وقوله : { قُمْ فَأَنذِرْ } [ المدثر : 2 ] ، أمر بالإنذار، وبذلك صار رسولًا منذرًا .
ففي الصحيحين من حديث الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم . فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يأتى غار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء .
فجاءه الملك فقال : ( اقرأ )
قال : ( ما أنا بقارئ )
قال : ( فأخذني فغطني حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال : اقرأ )
فقلت : ( ما أنا بقارئ )
( فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ ) .
فقلت : ( ما أنا بقارئ )
((2/63)
فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ) [ العلق : 1 - 5 ] .
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده . فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : ( زملوني . زملوني ) فزملوه حتى ذهب عنه الروع .
فقال لخديجة ـ وأخبرها الخبر : ( لقد خشيت على نفسي )
فقالت له خديجة : كلا، والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق .
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد / العزى ـ ابن عم خديجة . وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرى، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي .
فقالت له خديجة : يا بن عم، اسمع من ابن أخيك .
فقال له ورقة : يا بن أخى، ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى .
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى . يا ليتنى فيها جذعًا ! ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أو مخرجي هم ؟ )
قال : نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودى . وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا .
ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفَتَر الوحي .(2/64)
قال ابن شهاب الزهرى، سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، قال : أخبرنى جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث / عن فَتْرَة الوحي : ( فبينما أنا أمشى سمعت صوتًا فرفعت بصرى قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض، فجُئِثْت [ جُئِثْتُ : أى ذعرت ] حتى هويت إلى الأرض . فجئت أهلى فقلت : زملونى، زملونى، فزملونى . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ } إلى قوله : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } ) [ المدثر : 1 - 5 ] .
فهذا يبين أن [ المدثر ] نزلت بعد تلك الفَتْرَة، وأن ذلك كان بعد أن عاين الملك الذي جاءه بحراء ـ أولا ـ فكان قد رأى الملك مرتين .
وهذا يفسر حديث جابر الذي روى من طريق آخر كما أخرجاه من حديث يحيى بن أبي كثير، قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن . قال : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 ] . قلت : يقولون : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] . فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت،فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( جاورت بحراء، فلما قضيت جوارى هبطت فنوديت، فنظرت عن يمينى فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئًا،ونظرت أمامى فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا . فرفعت رأسى فرأيت شيئًا . فأتيت خديجة فقلت : دثرونى وصبوا علىّ ماءً باردًا، فدثروني وصبوا علي ماءً باردًا ) . / قال : ( فنزلت : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } ) [ المدثر : 1 - 3 ] .(2/65)
فهذا الحديث يوافق المتقدم، وإن [ المدثر ] نزلت بعد أن هبط من الجبل وهو يمشى، وبعد أن ناداه الملك ـ حينئذ . وقد بين في الرواية الأخرى أن هذا الملك هو الذي جاءه بحراء، وقد بينت عائشة أن { اقْرَأْ } نزلت حينئذ في غار حراء . لكن كأنه لم يكن علم أن { اقًرأ } نزلت ـ حينئذ، بل علم أنه رأى الملك قبل ذلك، وقد يراه ولا يسمع منه . لكن في حديث عائشة زيادة علم، وهو أمره بقراءة { اقْرَأْ } .
وفي حديث الزهرى أنه سمى هذا [ فَتْرَة الوحي ] ، وكذلك في حديث عائشة [ فَتْرَة الوحي ] . فقد يكون الزهري روى حديث جابر بالمعنى، وسمى ما بين الرؤيتين [ فترة الوحي ] كما بينته عائشة، وإلا فإن كان جابر سماه [ فترة الوحي ] فكيف يقول : إن الوحي لم يكن نزل ؟
وبكل حال، فالزهري عنده حديث عروة، عن عائشة، وحديث أبي سلمة، عن جابر وهو أوسع علمًا وأحفظ من يحيى بن أبي كثير لو اختلفا . لكن يحيى ذكر أنه سأل أبا سلمة عن الأولى، فأخبر جابر بعلمه، ولم يكن علم ما نزل قبل ذلك، وعائشة أثبتت وبينت .
/ والآيات ـ آيات [ اقرأ ] و [ المدثر ] ـ تبين ذلك، والحديثان متصادقان مع القرآن ومع دلالة العقل على أن هذا الترتيب هو المناسب .
وإذا كان أول ما أنزل { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1 ـ 5 ] ، ففي الآية الأولى إثبات الخالق ـ تعالى، وكذلك في الثانية .
وفيها وفي الثانية الدلالة على إمكان النبوة، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .(2/66)
أما الأولى؛ فإنه قال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ، ثم قال : { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . فذكر الخلق مطلقًا، ثم خص خلق الإنسان أنه خلقه من علق . وهذا أمر معلوم لجميع الناس،كلهم يعلمون أن الإنسان يحدث في بطن أمه،وأنه يكون من علق . وهؤلاء بنو آدم .
وقوله : { الْإِنسَانَ } هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين . فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق ـ تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات / يعلمها المستدل . والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق .
فأما خلق آدم من طين، فذاك إنما علم بخبر الأنبياء، أو بدلائل أُخر . ولهذا ينكره طائفة من الكفار ـ الدهرية وغيرهم ـ الذين لا يقرون بالنبوات .
وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة . فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة، وهذه السورة أول ما نزل، وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر، بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة، والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق .
وذكر ـ سبحانه ـ خلق الإنسان من العلق ـ وهو جمع [ عَلَقَة ] ، وهي القطعة الصغيرة من الدم؛ لأن ما قبل ذلك كان نطفة، والنطفة قد تسقط في غير الرحم كما يحتلم الإنسان، وقد تسقط في الرحم ثم يرميها الرحم قبل أن تصير عَلَقَة . فقد صار مبدأ لخلق الإنسان، وعُلِم أنها صارت علقة ليخلق منها الإنسان .(2/67)
وقد قال في سورة القيامة : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [ القيامة : 37 - 40 ] ، فهنا ذكرهذا على إمكان النشأة الثانية التي تكون من التراب؛ ولهذا قال في موضع آخر : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } [ الحج : 5 ] ، ففي القيامة استدل بخلقه من نطفة، فإنه معلوم لجميع الخلق . وفي الحج ذكر خلقه من تراب، فإنه قد علم بالأدلة القطعية . وذكر أول الخلق أدل على إمكان الإعادة .
وأما هنا، فالمقصود ذكر ما يدل على الخالق تعالى ابتداء فذكر أنه خلق الإنسان من علق، وهو من العلقة ـ الدم، يصير مضغة، وهو قطعة لحم كاللحم الذي يمضغ بالفم، ثم تخلق فتصور، كما قال ـ تعالى ـ { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } [ الحج : 5 ] ـ فإن الرحم قد يقذفها غير مخلقة . فبين للناس مبدأ خلقهم، ويرون ذلك بأعينهم .
وهذا الدليل ـ وهو خلق الإنسان من علق ـ يشترك فيه جميع الناس . فإن الناس هم المستدلون، وهم أنفسهم الدليل والبرهان والآية . فالإنسان هوالدليل وهو المستدل، كما قال تعالى : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] ، وقال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] . وهذا كما قال في آية أخرى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } [ الطور : 35 ] .(2/68)
/ وهو دليل يعلمه الإنسان من نفسه، ويذكره كلما تذكر في نفسه وفيمن يراه من بنى جنسه . فيستدل به على المبدأ والمعاد، كما قال تعالى : { وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } [ مريم : 66، 67 ] ، وقال تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 78، 79 ] .
وكذلك قال زكريا لما تعجب من حصول ولد ـ على الكبر ـ فقال : { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } [ مريم : 8، 9 ] ، ولم يقل : ( إنه أهون عليه ) كما قال في المبدأ والمعاد : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
وقال ـ سبحانه ـ { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [ العلق : 2 ] ، بعد أن قال : { الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] ، فأطلق الخلق الذي يتناول كل مخلوق، ثم عين خلق الإنسان فكان كلما يعلم حدوثه داخلًا في قوله : { الَّذِي خَلَق } . َ
وذكر بعد الخلق التعليم ـ الذي هو التعليم بالقلم، وتعليم الإنسان ما لم يعلم . فخص هذا التعليم الذي يستدل به على إمكان النبوة .(2/69)
ولم يقل ـ هنا : [ هدى ] ، فيذكر الهدى العام المتناول للإنسان / وسائر الحيوان، كما قال في موضع آخر : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 ـ 3 ] ، وكما قال موسى { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] ؛ لأن هذا التعليم الخاص يستلزم الهدى العام، ولا ينعكس . وهذا أقرب إلى إثبات النبوة، فإن النبوة نوع من التعليم .
وليس جعل الإنسان نبيًا بأعظم من جعله العَلَقَة إنسانًا، حيًا، عالمًا، ناطقًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، قد علم أنواع المعارف، كما أنه ليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته . والقادر على المبدأ كيف لا يقدر على المعاد ؟ والقادر على هذا التعليم كيف لا يقدر على ذاك التعليم وهو بكل شيء عليم، ولا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء ؟
وقال ـ سبحانه ـ أولا : { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } ،فأطلق التعليم والمعلم، فلم يخص نوعًا من المعلمين . فيتناول تعليم الملائكة وغيرهم من الإنس والجن، كما تناول الخلق لهم كلهم .
وذكر التعليم بالقلم؛ لأنه يقتضى تعليم الخط،والخط يطابق اللفظ وهو البيان والكلام . ثم اللفظ يدل على المعانى المعقولة التي في القلب فيدخل فيه كل علم في القلوب .
وكل شيء له حقيقة في نفسه ثابتة في الخارج عن الذهن، ثم / يتصوره الذهن والقلب، ثم يعبر عنه اللسان، ثم يخطه القلم . فله وجود عينى، وذهنى، ولفظى، ورسمى . وجود في الأعيان، والأذهان، واللسان، والبنان . لكن الأول هو هو، وأما الثلاث، فإنها مثال مطابق له . فالأول هو المخلوق، والثلاثة معلمة . فذكر الخلق والتعليم ليتناوب المراتب الأربع، فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1 ـ 5 ] .(2/70)
وقد تنازع الناس في الماهيات هل هي مجعولة أم لا ؟ وهل ماهية كل شيء زائدة على وجوده ؟ كما قد بُسِطَ هذا في غير هذا الموضع وبين الصواب في ذلك، وأنه ليس إلا ما يتصور في الذهن، ويوجد في الخارج .
فإن أريد الماهية ما يتصور في الذهن . وبالوجود ما في الخارج، أو بالعكس، فالماهية غير الوجود إذا كان ما في الأعيان مغايرًا لما في الأذهان .
وإن أريد بالماهية ما في الذهن، أو الخارج، أو كلاهما، وكذلك بالوجود، فالذي في الخارج من الوجود هو الماهية الموجودة في الخارج وكذلك ما في الذهن من هذا هو هذا، ليس في الخارج شيئان :
/ وهو ـ سبحانه ـ علم ما في الأذهان وخلق ما في الأعيان، وكلاهما مجعول له . لكن الذي في الخارج جعله جعلا خلقيًا . والذي في الذهن جعله جعلا تعليميًا . فهو الذي { خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } ، وهو { الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } .
وقوله : { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } يدخل فيه تعليم الملائكة الكاتبين، ويدخل فيه تعليم كتب الكتب المنزلة . فعلم بالقلم أن يكتب كلامه الذي أنزله كالتوراة والقرآن،بل هو كتب التوراة لموسى .
وكون محمد كان نبيًا أميًا هو من تمام كون ما أتى به معجزًا خارقًا للعادة، ومن تمام بيان أن تعليمه أعظم من كل تعليم، كما قال تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [ العنكبوت : 48 ] ، فغيره يعلم ما كتبه غيره، وهو علم الناس ما يكتبونه، وعلمه الله ذلك بما أوحاه إليه .(2/71)
وهذا الكلام الذي أنزل عليه هو آية وبرهان على نبوته، فإنه لا يقدر عليه الإنس والجن . { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : 88 ] ، { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 38 ] ، وفي الآية الأخرى : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ هود : 13، 14 ] .
فصل
وأما السؤال عن معنى هذه المعادلة مع الاشتراك في كون الجميع كلام الله، فهذا السؤال يتضمن شيئن :
أحدهما : أن كلام الله هل بعضه أفضل من بعض أم لا ؟
والثاني : ما معنى كون { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن ؟ وما سبب ذلك ؟
/فنقول :(2/72)
أما الأول، فهو مسألة كبيرة، والناس متنازعون فيها نزاعا منتشرًا، فطوائف يقولون : بعض كلام الله أفضل من بعض، كما نطقت به النصوص النبوية، حيث أخبر عن [ الفاتحة ] أنه لم ينزل في الكتب الثلاثة مثلها . وأخبر عن سورة [ الإخلاص ] أنها تعدل ثلث القرآن وعدلها لثلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف . وجعل [ آية الكرسي ] أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح أيضًا، وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ابن كعب : ( يا أبا المنذر، أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم ؟ ) قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله أعظم ؟ ) . قال : فقلت : { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قال : فضرب في صدري وقال : ( لِيَهْنِك العلمُ أبا المنذر ) . ورواه ابن أبي شيبة في مسنده بإسناد مسلم، وزاد فيه : ( والذي نفسي بيده، إن لهذه الآية لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ) . وروي أنها سيدة آي القرآن . وقال في المعوذتين : ( لم ير مثلهن قط ) .(2/73)
وقد قال تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] ، فأخبر أنه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيانٌ من الله لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارة أو خير منها أخري، فدل ذلك على أن/الآيات تتماثل تارة وتتفاضل أخرى . وأيضًا فالتوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام الله مع علم المسلمين بأن القرآن أفضل الكتب الثلاثة . قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه } [ المائدة : 48 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، وقال تعالى : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : 88 ] وقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ، فأخبر أنه أحسن الحديث، فدل على أنه أحسن من سائر الأحاديث المنزلة من عند الله وغير المنزلة . وقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] . وسواء كان المراد بذلك الفاتحة أو القرآن كله، فإنه يدل على أن القرآن العظيم له اختصاص بهذا الوصف على ما ليس كذلك .(2/74)
وقد سمى الله القرآن كله مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدي الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشر سور منه، أو بمثل سورة منه فقال : { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } [ الطور : 34 ] ، وقال : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] ، وقال : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] .
وخصه بأنه لا يقرأ في الصلاة إلا هو، فليس لأحد أن يقرأ غيره مع قراءته ولا بدون قراءته، ولا يصلي بلا قرآن، فلا يقوم غيره /مقامه مع القدرة عليه، وكذلك لا يقوم غير الفاتحة مقامها من كل وجه باتفاق المسلمين، سواء قيل بأنها فرض تعاد الصلاة بتركها، أو قيل بأنها واجبة يأثم تاركها ولا إعادة عليه، أو قيل : إنها سنة، فلم يقل أحد : إن قراءة غيرها مساوٍ لقراءتها من كل وجه .
وخص القرآن بأنه لا يمس مصحفه إلا طاهر، كما ثبت ذلك عن الصحابة ـ مثل سعد وسلمان وابن عمر ـ وجماهير السلف والخلف ـ الفقهاء الأربعة ـ وغيرهم . ومضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم الذي لا ريب في أنه كتبه له، ودل على ذلك كتاب الله . وكذلك لا يقرأ الجنب القرآن عند جماهير العلماء ـ الفقهاء الأربعة وغيرهم ـ كما دلت على ذلك السنة .(2/75)
وتفضيل أحد الكلامين بأحكام توجب تشريفه يدل على أنه أفضل في نفسه، وإن كان ذلك ترجيحًا لأحد المتماثلين بلا مرجح، وهذا خلاف ما علم من سنة الرب تعالى في شرعه بل وفي خلقه، وخلاف ما تدل عليه الدلائل العقلية مع الشرعية . وأيضًا، فقد قال تعالى : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إليكُم مِّن رَّبِّكُم } [ الزمر : 55 ] ، وقال تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر 17، 18 ] ، وقال تعالى : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } [ الأعراف : 145 ] . فدل على/أن فيما أنزل حسن وأحسن، سواء كان الأحسن هو الناسخ الذي يجب الأخذ به دون المنسوخ؛ إذ كان لا ينسخ آية إلا يأتي بخير منها أو مثلها، أو كان غير ذلك .
والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة، مثل ما سيأتي ذكره عن أبي العباس بن سُرَيْج في تفسيره لهذا الحديث بأن الله أنزل القرآن على ثلاثة أقسام : ثلث منه أحكام، وثلث منه وعد ووعيد، وثلث منه الأسماء والصفات . وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات .(2/76)
ومثل ما ذكره أصحاب الشافعي وأحمد في مسألة تعيين الفاتحة في الصلاة . قال أبو المظفر ـ منصور بن محمد السمعاني الشافعي في كتاب [ الاصطلام ] ـ : وأما قولهم : إن سائر الأحكام المتعلقة بالقرآن لا تختص بالفاتحة . قلت : سائر الأحكام قد تعلقت بالقرآن على العموم، وهذا على الخصوص؛ بدليل أن عندنا قراءة الفاتحة على التعيين مشروعة على الوجوب وعندكم على السنة . قال : وقد قال أصحابنا : إن قراءة الفاتحة لما وجبت في الصلاة وجب أن تتعين الفاتحة؛ لأن القرآن امتاز عن غيره بالإعجاز، وأقل ما يحصل به الإعجاز سورة، وهذه السورة أشرف السور؛ لأنها السبع المثاني، ولأنها تصلح عوضا عن جميع السور ولا /تصلح جميع السور عوضاً عنها؛ ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل سورة ما على قدرها من الآيات، وذلك من الثناء والتحميد للرب والاستعانة والاستعاذة والدعاء من العبد، فإذا صارت هذه السورة أشرف السور، وكانت الصلاة أشرف الحالات، فتعينت أشرف السور في أشرف الحالات . هذا لفظه، فقد نقل عن أصحاب الشافعي أن هذه السورة أشرف السور، كما أن الصلاة أشرف الحالات، وبينوا من شرفها على غيرها ما ذكروه .
وكذلك ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أحمد، كالقاضي أبي يعلى ابن القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى ابن الفراء، قال في تعليقه ـ ومن خطه نقلت ـ قال في مسألة كون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة : أما الطريق المعتمد في المسألة فهو أنا نقول : الصلاة أشرف العبادات وجبت فيها القراءة، فوجب أن يتعين لها أشرف السور، والفاتحة أشرف السور، فوجب أن تتعين . قال : واعلم أنا نحتاج في تمهيد هذه الطريقة إلى شيئن : أحدهما : أن الصلاة أشرف العبادات، والثاني : أن الحمد أشرف السور . واستدل على ذلك بما ذكره قال : وأما الدليل على أن فاتحة الكتاب أشرف، فالنص، والمعنى، والحكم .(2/77)
أما النص، فما تقدم من أنها عوض من غيرها . وعن أبي سعيد/الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( فاتحة الكتاب شفاء من السم ) . وقال الحسن البصري : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب من السماء، أودع علومها أربعة منها : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان، ثم أودع علوم القرآن المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، ومن قرأها، فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن . وأما المعنى، فهو أن الله قابلها بجميع القرآن فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] وهذه حقيقة لا يدانيها غيرها فيها . قلت : هذا على قول من جعلها هي السبع المثاني وجعل القرآن العظيم جميع القرآن . قال : ولأنها تسمى [ أم القرآن ] وأم الشيء أصله ومادته ـ ولهذا سمى الله مكة : أم القري؛ لشرفها عليهن ـ ولأنها السبع المثاني؛ ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل عليه سورة من الثناء والتحميد للرب تعالى، والاستعانة به والاستعاذة والدعاء من العبد على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ) الحديث المشهور . قال : ولأنه لم ينزل مثلها في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في شيء من الكتب، يدل عليه أنها تيسر قراءتها على كل أحد ما لا يتيسر غيرها من القرآن . / وتضرب بها الأمثال؛ ولهذا يقال : فلان يحفظ الشيء مثل الفاتحة . وإذا كانت بهذه المثابة، فغيرها لا يساويها في هذا، فاختصت بالشرف، ولأنها السبع المثاني . قال أهل التفسير : معنى ذلك أنها تثني قراءتها في كل ركعة . قال بعضهم : ثني نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم . قلت : وفيه أقوال أخر .(2/78)
قال : وأما الحكم؛ فلأنه تستحب قراءتها في كل ركعة، ويكره الإخلال بها، ولولا أنها أشرف، لما اختصت بهذا المعنى، يدل عليه أن عند المنازعين ـ يعني أصحاب أبي حنيفة ـ أن من أخل بقراءتها، وجب عليه سجود السهو . فنقول : لا يخلو إما أن تكون ركنًا أو ليست بركن، فإن كانت ركنًا، وجب ألا تجبر بالسجود، وإن لم تكن ركنًا، وجب ألا يجب عليه سجود . قلت : يعني بذلك أن السجود لا يجب إلا بترك واجب في حال العمد، فإذا سها عنه، وجب له السجود، وما كان واجبًا، فإذا تعمد تركه، وجب أن تبطل صلاته، لأنه لم يفعل ما أمر به، بخلاف من سها عن بعض الواجبات، فإن هذا يمكن أن يجبر ما تركه بسجود السهو . ومذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة أن سجود السهو واجب؛ لأن من الواجبات عندهم ما إذا تركه سهوًا لم تبطل الصلاة، كما لا تبطل بالزيادة سهوًا باتفاق العلماء، ولو زاد عمدًا لبطلت الصلاة . لكن مالكًا وأحمد في المشهور عنهما يقولان : /ماكان واجبًا إذا تركه عمدًا، بطلت صلاته، وإذا تركه سهوًا؛ فمنه ما يبطل الصلاة، ومنه ما ينجبر بسجود السهو، فترك الركوع والسجود والقراءة يبطل الصلاة مطلقًا، وترك التشهد الأول عندهما يبطل الصلاة عمده، ويجب السجود لسهوه . وأما أبو حنيفة فيقول : الواجب الذي ليس بفرض ـ كالفاتحة ـ إذا تركه كان مسيئًا ولا يبطل الصلاة . والشافعي لا يفرق في الصلاة بين الركن والواجب، ولكن فرق بينهما في الحج هو وسائر الأئمة . والمقصود هنا ذكر بعض من قال : إن الفاتحة أشرف من غيرها .(2/79)
وقال أبو عمر ابن عبد البر : وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لأُبَي : ( هل تعلم سورة ما أنزل الله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟ ) فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير؛ لأن فيها الثناء على الله ـ عز وجل ـ بما هو أهله، وما يستحقه من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره؛ لأن كل نعمة وخير منه لا من سواه، فهو الخالق الرازق لا مانع لما أعطي ولا معطي لما منع، وهو محمود على ذلك، وإن حَمِد غيره فإليه يعود الحمد . وفيها التعظيم له وأنه الرب للعالم أجمع ومالك الدنيا والآخرة، وهو المعبود والمستعان . وفيها تعليم الدعاء والهدي، ومجانبة طريق من ضل وغوي . والدعاء لباب العبادة . فهي أجمع سورة للخير، ليس في الكتب مثلها على هذه/ الوجوه . قال : وقد قيل : إن معنى ذلك أنها تجزئ الصلاة بها دون غيرها ولا يجزئ غيرها عنها . وليس هذا بتأويل مجتمع عليه . قلت : يعني بذلك أن في هذا نزاعًا بين العلماء، وهو كون الصلاة لا تجزئ إلا بها، وهذا يدل على أن الوصف الأول متفق عليه بين العلماء وهو أنها أفضل السور .(2/80)
ومن هذا الباب ما في الكتاب والسنة من تفضيل القرآن على غيره من كلام الله : التوراة والإنجيل وسائر الكتب، وأن السلف كلهم كانوا مقرين بذلك ليس فيهم من يقول : الجميع كلام الله، فلا يفضل القرآن على غيره . قال الله تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] ، فأخبر أنه أحسن الحديث . وقال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [ يوسف : 3 ] . و { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } قيل : إنه مصدر، وقيل : إنه مفعول به . قيل المعنى : نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص، كما يقال : نكلمك أحسن التكليم ونبين لك أحسن البيان . قال الزجاج : نحن نبين لك أحسن البيان . والقَاصُّ : الذي يأتي بالقصة على حقيقتها . قال : وقوله : { بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ } أي : بوحينا إليك هذا القرآن، ومن قال هذا قال : { بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ } ، وعلى هذا القول فهو كقوله : نقرأ /عليك أحسن القراءة، ونتلو عليك أحسن التلاوة . والثاني : أن المعنى : نقص عليك أحسن ما يقص، أي : أحسن الأخبار المقصوصات، كما قال في السورة الأخري : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [ الزمر : 23 ] ، وقال : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } [ النساء : 122 ] ، ويدل على ذلك قوله في قصة موسى : { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عليه الْقَصَصَ } [ القصص : 25 ] ، وقوله : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأولى الأَلْباب } [ يوسف : 111 ] ، المراد : خبرهم ونبأهم وحديثهم، ليس المراد مجرد المصدر .(2/81)
والقولان متلازمان في المعنى ـ كما سنبينه ـ ولهذا يجوز أن يكون هذا المنصوب قد جمع معنى المصدر ومعنى المفعول به؛ لأن فيه كلا المعنيين، بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به، فإنه إذا انتصب بهذا المعنى، امتنع المعنى الآخر .
ومن رجح الأول من النحاة ـ كالزجاج وغيره ـ قالوا : القصص مصدر، يقال : قص أثره يقصه قَصَصًا، ومنه قوله تعالى : { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } [ الكهف : 64 ] . وكذلك اقتص أثره وتقصص، وقد اقتصصت الحديث : رويته على وجهه، وقد اقتص عليه الخبر قصصًا . وليس القَصَصُ ـ بالفتح ـ جمع قصة كما يظنه بعض العامة، فإن ذلك يقال في قِصَصٍ ـ بالكسر ـ واحده قصة، والقصة : هي الأمر والحديث الذي يقص، فعلة بمعنى مفعول، وجمعه قِصَصٍ بالكسر . وقوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] بالفتح لم يقل : أحسن القِصَصُ بالكسر، ولكن/بعض الناس ظنوا أن المراد : أحسن القِصَص بالكسر، وأن تلك القصة قصة يوسف، وذكر هذا طائفة من المفسرين .
ثم ذكروا : لم سميت أحسن القصص ؟ فقيل : لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة . وقيل : لامتداد الأوقات بين مبتداها ومنتهاها . وقيل : لحسن محاورة يوسف وإخوته، وصبره على أذاهم، وإِغْضَائِهِ عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء، وكرمه في العفو . وقيل : لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والإنس والجن، والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار، والعلماء والجهال، والرجال والنساء ومكرهن وحيلهن، وفيها أيضًا ذكر التوحيد والفقه والسير، وتعبير الرؤيا والسياسة، والمعاشرة وتدبير المعاش، فصارت أحسن القصص؛ لما فيها من المعاني والفوائد التي تصلح للدين والدنيا . وقيل فيها : ذكر الحبيب والمحبوب . وقيل : [ أحسن ] بمعنى : أعجب .(2/82)
والذين يجعلون قصة يوسف أحسن القصص منهم من يعلم أن [ القَصَصَ ] ـ بالفتح ـ هو النبأ والخبر، ويقولون : هي أحسن الأخبار والأنباء، وكثير منهم يظن أن المراد : أحسن القِصَص ـ بالكسر ـ وهؤلاء جهال بالعربية، وكلا القولين خطأ، وليس المراد بقوله : { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] ، قصة يوسف وحدها، بل هي مما قصه الله، ومما يدخل في أحسن القصص؛/ولهذا قال تعالى في آخر السورة { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إليهم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأولى الأَلْباب مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 109 : 111 ] فبين أن العبرة في قصص المرسلين، وأمر بالنظر في عاقبة من كذبهم، وعاقبتهم بالنصر .(2/83)
ومن المعلوم أن قصة موسى وما جري له مع فرعون وغيره، أعظم وأشرف من قصة يوسف بكثير كثير؛ ولهذا هي أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن، ثناها الله أكثر من غيرها، وبسطها وطولها أكثر من غيرها، بل قصص سائر الأنبياء ـ كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم من المرسلين ـ أعظم من قصة يوسف؛ ولهذا ثني الله تلك القصص في القرآن ولم يثن قصة يوسف؛ وذلك لأن الذين عادوا يوسف لما يعادوه على الدين، بل عادوه عداوة دنيوية، وحسدوه على محبة أبيه له وظلموه، فصبر واتقي الله، وابتلي ـ صلوات الله عليه ـ بمن ظلمه وبمن دعاه إلى الفاحشة، فصبر واتقي الله في هذا وفي هذا، وابتلي أيضًا بالملك، فابتلي بالسراء والضراء فصبر واتقي الله في هذا وهذا، فكانت قصته من أحسن القصص، وهي/أحسن من القصص التي لم تقص في القرآن، فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك، لكن ليس من لم يذكر في القرآن ممن اتقي الله وصبر مثل يوسف، ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف .
وهذا كما أن قصة أهل الكهف وقصة ذي القرنين كل منهما هي في جنسها أحسن من غيرها . فقصة ذي القرنين أحسن قصص الملوك، وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الْفِتْرَةِ .(2/84)
فقوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] يتناول كل ما قصه في كتابه، فهو أحسن مما لم يقصه، ليس المراد أن قصة يوسف أحسن ما قص في القرآن . وأين ما جري ليوسف مما جري لموسى ونوح وإبراهيم وغيرهم من الرسل ؟ ! وأين ما عودي أولئك مما عودي فيه يوسف ؟ ! وأين فضل أولئك عند الله وعلو درجتهم من يوسف ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ؟ وأين نصر أولئك من نصر يوسف ؟ فإن يوسف كما قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 56 ] ، وأذل الله الذين ظلموه ثم تابوا، فكان فيها من العبرة أن المظلوم المحسود إذا صبر واتقي الله، كانت له العاقبة، وأن الظالم الحاسد قد/ يتوب الله عليه ويعفو عنه، وأن المظلوم ينبغي له العفو عن ظالمه إذا قدر عليه .
وبهذا اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لما قام على باب الكعبة وقد أذل الله له الذين عادوه وحاربوه من الطلقاء ـ فقال : ( ماذا أنتم قائلون ؟ ) فقالوا : نقول : أخ كريم، وابن عم كريم . فقال : ( إني قائل لكم كما قال يوسف لإخوته : { لاَ تَثْرَيبَ عليكُمُ اليوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ يوسف : 92 ] ) . وكذلك عائشة لما ظُلِمَتْ وافْتُري عليها وقيل لها : إن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت في كلامها : أقول كما قال أبو يوسف : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] . ففي قصة يوسف أنواع من العبرة للمظلوم والمحسود والمبتلي بدواعي الفواحش والذنوب وغير ذلك .(2/85)
لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به ؟ ! فإن هؤلاء أوذوا اختيارًا منهم لعبادة الله فعودوا، وأوذوا في محبة الله وعبادته باختيارهم، فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا، وهذا بخلاف من أوذي بغير اختياره، كما أُخِذ يوسف من أبيه بغير اختياره؛ ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وامرأة العزيز، واختياره السجن على معصية الله، /أعظم من إيمانه، ودرجته عند الله وأجره من صبره على ظلم إخوته له؛ ولهذا يعظم يوسف بهذا أعظم مما يعظم بذلك؛ ولهذا قال تعالى فيه : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] .
وهذا كالصبر عن المعاصي مع الصبر على المصائب، فالأول أعظم وهو صبر المتقين أولياء الله . قال سهل بن عبد الله التُّسْتَري : أفعال البر يفعلها البر والفاجر، ولن يصبر عن المعاصي إلا صِدِّيق، ويوسف ـ صلوات الله عليه ـ كان صديقًا نبيًا . وأما من يظلم بغير اختياره ويصبر فهذا كثير، ومن لم يصبر صَبْر الكرام سَلا سَلْوَ البهائم، وكذلك إذا مكن المظلوم وقهر ظالمه فتاب الظالم وخضع له، فعفوه عنه من المحاسن والفضائل، لكن هذا يفعله خلق كثير من أهل الدين وعقلاء الدنيا، فإن حلم الملوك والولاة أجمع لأمرهم وطاعة الناس لهم وتاليفهم لقلوب الناس، وكان معاوية من أحلم الناس، وكان المأمون حليمًا حتى كان يقول : لو علم الناس محبتي في العفو تقربوا إلى بالذنوب؛ ولهذا لما قدر على من نازعه في الملك ـ وهو عمه إبراهيم بن المهدي ـ عفا عنه .(2/86)
وأما الصبر عن الشهوات والهوى الغالب لله، لا رجاء لمخلوق ولا خوفًا منه، مع كثرة الدواعي إلى فعل الفاحشة . واختياره الحبس الطويل على ذلك كما قال يوسف : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلى مِمَّا يَدْعُونَنِي إليه } [ يوسف : 33 ] ، فهذا لا يوجد نظيره إلا في خيار عباد الله الصالحين، وأوليائه/المتقين، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، فهذا من عباد الله المخلصين الذين قال الله تعالى فيهم : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عليهمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] ؛ ولهذا لم يصدر من يوسف ـ الصديق ـ ذنب أصلاً، بل الهم الذي هَمَّ به لما تركه لله كتب له به حسنة؛ ولهذا لم يذكر عنه سبحانه توبة واستغفارًا، كما ذكر توبة الأنبياء كآدم وداود ونوح وغيرهم، وإن لم يذكر عن أولئك الأنبياء فاحشة ولله الحمد، وإنما كانت توباتهم من أمور أخر هي حسنات بالنسبة إلى غيرهم؛ ولهذا لا يعرف ليوسف نظير فيما ابتلي به من دواعي الفاحشة وتقواه وصبره في ذلك، وإنما يعرف لغيره ما هو دون ذلك، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل مُعَلَّق قلبه بالمسجد إذا خرج حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) .(2/87)
وإذا كان الصبر على الأذي لئلا يفعل الفاحشة أعظم من صبره على ظلم إخوته، فكيف بصبر الرسل على أذي المكذبين لئلا يتركوا ما أمروا به من دعوتهم إلى عبادة الله وحده، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن/ المنكر ؟ ! فهذا الصبر هو من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ كان الجهاد مقصودًا به : أن تكون كلمة الله هي العليا وأن الدين كله لله، فالجهاد والصبر فيه أفضل الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، وهو من حديث معاذ بن جبل الطويل، وهو أحب الأعمال إلى الله . فالصبر على تلك المعصية صبر المهاجر الذي هجر ما نهي عنه، وصبر المجاهد الذي جاهد نفسه في الله وجاهد عدو الله الظاهر والباطن، والمهاجر الصابر على ترك الذنب إنما جاهد نفسه وشيطانه، ثم يجاهد عدو الله الظاهر؛ لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، صبر المظلوم وصبر المصاب .(2/88)
لكن المصاب بمصيبة سماوية تصبر نفسه ما لا تصبر نفس من ظلمه الناس، فإن ذاك يستشعر أن الله هو الذي فعل به هذا، فتيأس نفسه من الدفع والمعاقبة وأخذ الثأر، بخلاف المظلوم الذي ظلمه الناس، فإن نفسه تستشعر أن ظالمه يمكن دفعه وعقوبته وأخذ ثأره منه، فالصبر على هذه المصيبة أفضل وأعظم كصبر يوسف ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ وهذا يكون لأن صاحبه يعلم أن الله قدر ذلك فيصبر على ذلك كالمصائب السماوية، ويكون أيضًا لينال ثواب الكاظمين الغيظ والعافين عن/الناس والله يحب المحسنين، وليسلم قلبه من الغل للناس، وكلا النوعين يشترك في أن صاحبه يستشعر أن ذلك بذنوبه، وهو مما يكفر الله به سيئاته ويستغفر ويتوب، وأيضًا فيري أن ذلك الصبر واجب عليه، وأن الجزع مما يعاقب عليه، وإن ارتقي إلى الرضا، رأي أن الرضا جنة الدنيا، ومستراح العابدين، وباب الله الأعظم، وإن رأي ذلك نعمة لما فيه من صلاح قلبه ودينه وقربه إلى الله، وتكفير سيئاته وصونه عن ذنوب تدعوه إليها شياطين الإنس والجن شكر الله على هذه النعم .(2/89)
فالمصائب السماوية والآدمية تشترك في هذه الأمور، ومعرفة الناس بهذه الأمور وعلمهم بها، هو من فضل الله يمن به على من يشاء من عباده؛ ولهذا كانت أحوال الناس في المصائب وغيرها متباينة تباينًا عظيمًا، ثم إذا شهد العبد القدر وأن هذا أمرًا قدره الله وقضاه وهو الخالق له، فهو مع الصبر يسلم للرب القادر المالك الذي يفعل ما يشاء وهذا حال الصابر، وقد يسلم تسليمه للرب المحسن المدبر له بحسن اختياره الذي : ( لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له : إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له ) كما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا تسليم راض لعلمه بحسن اختيار الله له، وهذا يورث الشكر . وقد يسلم تسليمه للرب المحسن إليه المتفضل عليه بنعم عظيمة، وإن لم/ ير هذا نعمة، فيكون تسليمه تسليم راض غير شاكر، وقد يسلم تسليمه لله الذي لا إله إلا هو المستحق لأن يعبد لذاته، وهو محمود على كل ما يفعله، فإنه عليم حكيم رحيم، لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، وهو مستحق لمحبته وعبادته وحمده على كل ما خلقه، فهذا تسليمُ عبدٍ عابدٍ حامدٍ، وهذا من الحمادين الذين هم أول من يُدْعَى إلى الجنة، ومن بينهم صاحب لواء الحمد، وآدم فمن دونه تحت لوائه، وهذا يكون القضاء خيرًا له ونعمة من الله عليه .(2/90)
لكن يكون حمده لله ورضاه بقضائه من حيث عرف الله وأحبه وعبده، لاستحقاقه الألوهية وحده لا شريك له، فيكون صبره ورضاه وحمده من عبادته الصادرة عن هذه المعرفة والشهادة، وهذا يشهد بقلبه أنه لا إله إلا الله، والإله عنده هو المستحق للعبادة، بخلاف من لم يشهد إلا مجرد ربوبيته ومشيئته وقدرته، أو مجرد إحسانه ونعمته، فإنهما مشهدان ناقصان قاصران، وإنما يقتصر عليهما من نقص علمه بالله وبدينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه؛ كأهل البدع من الجهمية والقدرية الجبرية والقدرية المعتزلة، فإن الأول مشهد أولئك، والثاني مشهد هؤلاء، وشهود ربوبيته وقدرته ومشيئته مع شهود رحمته وإحسانه وفضله مع شهود إلهيته ومحبته ورضاه وحمده والثناء عليه ومجده، هو مشهد أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة التابعين بإحسان/ للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . وهذه الأمور لبسطها موضع آخر .(2/91)
والمقصود هنا أن هذا يكون للمؤمن في عموم المصائب، وما يكون بأفعال المؤمنين فله فيه كظم الغيظ والعفو عن الناس . ويوسف ـ الصديق صلوات الله عليه ـ كان له هذا، وأعلى من ذلك الصبر عن الفاحشة مع قوة الداعي إليها، فهذا الصبر أعظم من ذلك الصبر، بل وأعظم من الصبر على الطاعة؛ ولهذا قال سبحانه في وصف المتقين الذين أعد لهم الجنة : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [ آل عمران 133 : 136 ] .(2/92)
فوصفهم بالكرم والحلم وبالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس، ثم لما جاءت الشهوات المحرمات وصفهم بالتوبة منها فقال : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران : 135 ] ، فوصفهم بالتوبة منها وترك الإصرار عليها لا بترك ذلك بالكلية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح : ( كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واللسان يزني وزناه المنطق، واليد تزني وزناها البطش، والرِّجْلُ تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . وفي الحديث : ( كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون ) . فلابد للإنسان من مقدمات الكبيرة، وكثير منهم يقع في الكبيرة فيؤمر بالتوبة، ويؤمرون ألا يصروا على صغيرة، فإنه [ لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار ] .(2/93)
ويوسف صلى الله عليه وسلم صبر على الذنب مطلقًا، ولم يوجد منه إلا هَمٌّ تركه لله كتب له به حسنة . وقد ذكر طائفة من المفسرين أنه وجد منه بعض المقدمات، مثل حل السراويل والجلوس مجلس الخاتن ونحو ذلك، لكن ليس هذا منقولاً نقلاً يصدق به، فإن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومثل هذه الإسرائيليات إذا لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف صدقها؛ ولهذا لا يجوز تصديقها ولا تكذيبها إلا بدليل، والله تعالى يقول في القرآن : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء } [ يوسف : 24 ] ، فدل القرآن على أنه صرف عنه السوء /والفحشاء مطلقًا، ولو كان قد فعل صغيرة لتاب منها . والقرآن ليس فيه ذكر توبته . ومن وقع منه بعض أنواع السوء والفحشاء لم يكن ذلك قد صرف عنه، بل يكون قد وقع وتاب الله عليه منه، والقرآن يدل على خلاف هذا . وقد شهدت النسوة له أنهن ما علمن عليه من سوء، ولو كان قد بدت منه هذه المقدمات، لكانت المرأة قد رأت ذلك، وهي من النسوة اللاتي شهدن وقلن : { مَا عَلِمْنَا عليه مِن سُوءٍ } [ يوسف : 51 ] ، وقالت مع ذلك : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } [ يوسف : 32 ] ، وقالت { أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ يوسف : 51 ] ، وقوله : [ سوء ] نكرة في سياق النفي، فدل ذلك على أن المرأة لم تر منه سوءًا، فإن الهم في القلب لم تطلع عليه، ولو اطلعت عليه، فإنه إذا تركه لله كان حسنة، ولو تركه مطلقًا لم يكن حسنة ولا سيئة، فإنه لا إثم فيه إلا مع القول أو العمل .(2/94)
وأما قصة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ فتلك أعظم، والواقع فيها من الجانبين، فما فعلته الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه وإظهار آياته وأمره ونهيه ووعده ووعيده ومجاهدة المكذبين لهم والصبر على أذاهم هو أعظم عند الله؛ ولهذا كانوا أفضل من يوسف ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وما صبروا عليه وعنه أعظم من الذي صبر يوسف عليه وعنه، وعبادتهم لله/وطاعتهم وتقواهم وصبرهم بما فعلوه، أعظم من طاعة يوسف وعبادته وتقواه، أولئك أولو العزم الذين خصهم الله بالذكر في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] ، وقال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى: 13 ] ، وهم يوم القيامة الذين تطلب منهم الأمم الشفاعة، وبهم أمر خاتم الرسل أن يقتدي في الصبر، فقيل له : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [ الأحقاف : 35 ] ، فقصصهم أحسن من قصة يوسف؛ ولهذا ثناها الله في القرآن، لا سيما قصة موسى . قال الإمام أحمد بن حنبل : أحسن أحاديث الأنبياء حديث تكليم الله لموسى .(2/95)
والمقصود هنا أن قوله : { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] ، قد قيل : إنه مصدر . وقيل : إنه مفعول به، والقولان متلازمان، لكن الصحيح أن القصص مفعول به وإن كان أصله مصدرًا، فقد غلب استعماله في المقصوص كما في لفظ الخبر والنبأ، والاستعمال يدل على ذلك كما تقدم ذكره، وقد اعترف بذلك أهل اللغة . قال الجوهري : وقد قص عليه الخبر قصصًا، والاسم أيضًا : القَصَصُ ـ بالفتح ـ وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه . فقوله : { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } كقوله : نخبرك أحسن الخبر، وننبئك أحسن النبأ، / ونحدثك أحسن الحديث . ولفظ [ الكلام ] يراد به مصدر كَلَّمَهُ تَكْليما، ويراد به نفس القول، فإن القول فيه فعل من القائل هو مسمى المصدر، والقول ينشأ عن ذلك الفعل؛ ولهذا تارة يجعل القول نوعا من العمل لأنه حاصل بعمل، وتارة يجعل قسيما له يقال : القول والعمل وكذلك قد يقال في لفظ [ القصص ] ، و [ البيان ] ، و [ الحديث ] و [ الخبر ] ونحو ذلك .(2/96)
فإذا أريد بالقصص ونحوه المصدر الذي مسماه الفعل؛ فهو مستلزم للقول والقول تابع، وإذا أريد به نفس الكلام والقول، فهو مستلزم للفعل تابع للفعل، فالمصادر الجارية على سَنَنِ الأفعال يراد بها الفعل، كقولك : كلمته تكليما وأخبرته إخباراً، وأما ما لم يجر على سَنَنِ الفعل ـ مثل الكلام والخبر ونحو ذلك ـ فإن هذا إذا أطلق أريد به القول، وكذلك قد يقال في لفظ القصص، فإن مصدره القياسي قصًا مثل عده عدًا، ومده مدًا، وكذلك قصه قصاً، وأما قَصَصَ، فليس هو قياس مصدر المضعف ولم يذكروا على كونه مصدرًا إلا قوله : { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } [ الكهف : 64 ] ، وهذا لا يدل على أنه مصدر، بل قد يكون اسم مصدر أقيم مقامه كقوله : { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } [ نوح : 17 ] ، وإن جعل مصدر قص الأثر، لم يلزم أن يكون مصدر قص الحديث؛ لأن الحديث خبر ونبأ، فكان لفظ قصص كلفظ خبر ونبأ وكلام .
والمقصود هنا أن الذين قالوا : كلام الله غير مخلوق، تنازعوا / بعد ذلك على هذه الأقوال، مع أن أكثر الذين قالوا بعض هذه الأقوال لا يعلمون ما قال غيرهم، بل غاية ما عند أئمتهم المصنفين في هذا الباب معرفة قولين أو ثلاثة أو أربعة من هذه الأقوال ـ كقول المعتزلة والكُلاَّبية والسالمية والكرامية ـ ولا يعرفون أن في الإسلام من قال سوى ذلك، ويصنف أحدهم كتابًا كبيرًا في [ مقالات الإسلاميين ] وفي [ الملل والنحل ] ، ويذكر عامة الأقوال المبتدعة في هذا الباب، والقول المأثور عن السلف والأئمة لا يعرفه ولا ينقله، مع أن الكتاب والسنة مع المعقول الصريح لا يدل إلا عليه، وكل ما سواه أقوال متناقضة كما بسط في موضعه .(2/97)
والقصد هنا أن من كان عنده أن قول المعتزلة مثلًا، أو قول المعتزلة والكرامية، أو قول هؤلاء وقول الكلابية، أو قول هؤلاء وقول السالمية، هو باطل من أقوال أهل البدع، لم يبق عنده قول أهل السنة إلا القول الآخر الذي هو ـ أيضًا ـ من الأقوال المبتدعة المخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، فيفرع على ذلك القول ما يضيفه إلى السنة، ثم إذا تدبر نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، وجدها تخالف ذلك القول أصلًا وفرعًا، كما وقع لمن أنكر فضل [ فاتحة الكتاب ] و [ آية الكرسي ] و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } على غيرها من القرآن، فإن عمدتهم ما قدمته من الأصل الفاسد . أما كون الكلام واحدًا، فلا يتصور فيه/تفاضل ولا تماثل ولا تعدد . وأما كون صفات الرب لا تتفاضل ـ وربما قالوا : القديم لا يتفاضل، وهو من جنس قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم : القديم لا يتعدد، فهذا لفظ مجمل، فإن القديم إذا أريد به رب العالمين، فرب العالمين إله واحد لا شريك له، وإذا أريد به صفاته، فمن قال : إن صفات الرب لا تتعدد، فهو يقول : العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، والسمع والبصر هو العلم . وقد يقول بعضهم أيضا : العلم هو الكلام . ويقول آخرون : العلم والقدرة هو الإرادة، ثم قد يقولون : إن الصفة هي الموصوف، فالعلم هو العالم، والقدرة هي القادر . وهذه الأقوال صرح بها نفاة الصفات من الفلاسفة والجهمية ونحوهم كما حكيت ألفاظهم في غير هذا الموضع . ومعلوم أن في هذه الأقوال من مخالفة المعقول الصريح والمنقول الصحيح ـ بل مخالفة المعلوم بالاضطرار للعقلاء . والمعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ودين الرسل ـ ما يبين أنها في غاية الفساد شرعًا وعقلًا .(2/98)
ثم إن هؤلاء تأولوا نصوص الكتاب والسنة بتأويلات باطلة، منهم من قال : المراد بكونه أعظم وأفضل وخيرًا كونه عظيما في نفسه، وامتنع هؤلاء من إجراء التفضيل عليه . وحكي هذا عن الأشعري وابن الباقلاني وجماعة غيرهما . ومعلوم أن من تدبر ألفاظ الكتاب والسنة، تبين له أنها لا تحتمل هذا المعنى، بل هو من نوع القرمطة، فإن الله/ـ تعالى ـ يقول : { نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [ الزمر : 23 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبي : ( أتدري أي آية معك في كتاب الله أعظم ؟ ) ، وقال : ( لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ) ، إلى غير ذلك مما تقدم ذكره .
ومنهم من قال : بل المراد بقوله : { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } [ البقرة : 106 ] ، أي : خير منها لكم، أي : أكثر ثوابًا أو أقل تعبًا، وقال : ما دل على أن بعضه أفضل من بعض، فليس هو تفضيلًا لنفس الكلام، بل لمتعلقه . وهو أن تلاوة هذا والعمل به يحصل به من الأجر أكثر مما يحصل بالآخر . فيقال لهؤلاء : ما ذكرتموه حجة عليكم، مع ما فيه من مخالفة النص . وذلك أن كون الثواب على أحد القولين أو الفعلين أكثر منه على الثاني، إنما كان لأنه في نفسه أفضل؛ ولهذا إنما تنطق النصوص بفضل القول والعمل في نفسه، كما قد سئل النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة : أي العمل أفضل ؟ فيجيب بتفضيل عمل على عمل، وذلك مستلزم لرجحان ثوابه . وأما رجحان الثواب مع تماثل العملين، فهذا مخالف للشرع والعقل .(2/99)
وكذلك الكلام، ففي صحيح مسلم، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ) ، /فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن مع كونها من القرآن، ففضل نفس هذه الأقوال بعد القرآن على سواها . وكذلك في صحيح مسلم أنه سئل : أي الكلام أفضل ؟ فقال : ( ما اصطفى الله لملائكته : سبحان الله وبحمده ) . وفي الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) ، فأخبر أن هذا الكلام أفضل ما قاله هو والنبيون من قبله . وفي سنن ابن ماجة عنه أنه قال : ( أفضل الذكر : لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء : الحمد لله ) ، وقد رواه ابن أبي الدنيا . وفي الصحيحين أنه قال : ( الإيمان بضع وستون ـ أو وسبعون ـ شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله ) . ومثل هذا كثير في النصوص يفضل العمل على العمل، والقول على القول، ويعلم من ذلك فضل ثواب أحدهما على الآخر .
أما تفضيل الثواب بدون تفضيل نفس القول والعمل، فلم يرد به نقل ولا يقتضيه عقل، فإنه إذا كان القولان متماثلين من كل وجه، أو العملان متماثلين من كل وجه، كان جعل ثواب أحدهما أعظم من ثواب الآخر ترجيحًا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح . وهذا أصل قول القدرية والجهمية الذين يقولون : إن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، وظنوا أنهم بهذا الأصل ينصرون الإسلام، فلا للإسلام/نصروا، ولا لعدوه كسروا، بل تسلط عليهم سلف الأمة وأئمتها بالتبديع والتضليل والتكفير والتجهيل، وتسلط عليهم خصومهم الدهرية وغيرهم بإلزامهم مخالفة المعقول، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزيادة في مخالفة المشروع والمعقول كما جرى للملحدين مع المبتدعين .(2/100)
وأيضًا، فقول القائل : إنه ليس بعض ذلك خيرًا من بعض بل بعضه أكثر ثوابًا، رد لخبر الله الصريح، فإن الله يقول : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] ، فكيف يقال : ليس بعضه خيرًا من بعض ؟ وإذا كان الجميع متماثلًا في نفسه، امتنع أن يكون فيه شيء خيرًا من شيء . وكون معنى الخير أكثر ثوابا مع كونه متماثلا في نفسه، أمر لا يدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازًا، فلا يجوز حمله عليه، فإنه لا يعرف قط أن يقال : هذا خير من هذا وأفضل من هذا مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه، بل لابد ـ مع إطلاق هذه العبارة ـ من التفاضل ولو ببعض الصفات، فأما إذا قدر أن مختارًا جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه، فهذا لا يعقل وجوده، ولو عقل لم يقل : إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لا يتصف به أحدهما البتة .
وأيضا، ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة : ( لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ) ، فقد صرح الرسول/ بأن الله لم ينزل لها مثلًا، فمن قال : إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثل لها من كل وجه، فقد ناقض الرسول في خبره .
وأيضا، فقد تقدم قوله : { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [ الزمر : 23 ] ، ومع تماثل كل حديث لله، فليس القرآن أحسن من التوراة والإنجيل . وكذلك تقدم ما خص الله به القرآن من الأحكام .(2/101)
فإن قيل : نحن نسلم لكم أن الله خص بعض كلامه من الثواب والأحكام بما لا يشركه فيه غيره، لكن هذا عندنا بمحض مشيئته، لا لاختصاص ذلك الكلام بوصف امتاز به عن الآخر، قيل : أولًا : هذا مخالف لصريح نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مع مخالفته الصريح المعقول، ثم هذا مبني على أصل الجهمية والقدرية، وهو أن القادر المختار يرجح أحد يتكلم ولا أن يفعل، ثم صار الكلام والفعل ممكنًا من المتماثلين على الآخر بلا مرجح . وهؤلاء لما جوزوا هذا قالوا : إن الرب لم يزل معطلًا، وما كان يمكن في الأزل أن غير حدوث شيء، اقتضى انتقالهما من الامتناع إلى الإمكان، وقالوا : إن القادر المرجح يرجح بلا مرجح .
ثم قالت الجهمية : والعبد ليس بقادر في الحقيقة، فلا يرجح شيئا، بل الله هو الفاعل لفعله، وفعله هو نفس فعل الرب . وقالت/القدرية : العبد قادر تام القدرة يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا سبب حادث، ولا حاجة إلى أن يحدث اللّه ما به يختص به فعل أحدهما، بل هو ـ مع أن نسبته إلى الضدين : الإيمان والكفر سواء ـ يرجح أحدهما بلا مرجح لا من اللّه ولا من العبد، ولا يفتقر إلى إعانة اللّه ولا إلى أن يجعله شائيًا، ولا يجعله يقيم الصلاة، ولا يجعله مسلمًا . ومعلوم بالعقول خلاف هذا، واللّه ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لكن المدح في هذا الكلام معناه أنه مطلق المشيء ة لا معوق له إذا أراد شيئًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقولن أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن اللّه لا مُكْرِه له ) . فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يفعل إلا بمشيئته، ليس له مكره حتى يقال له : افعل إن شئت، ولا يفعل إن لم يشأ .(2/102)
فهو ـ سبحانه ـ إذا أراد شيئًا؛ كان قادرًا عليه لا يمنعه منه مانع . لا يعني بذلك أنه يفعل لمجرد مشيء ة ليس معها حكمة، بل يفعل عندهم ما وجود فعله وعدمه بالنسبة إليه سواء من كل وجه، فإن هذا ليس بمدح، بل المعقول من هذا أنه صفة ذم، فمن فعل لمجرد إرادته الفعل من غير حكمة لفعله ولا تضمن غاية مجردة كان ألا يفعل خيرًا له . وقد ذم اللّه ـ سبحانه ـ في كتابه من نسبه إلى هذا فقال تعالى : / { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27 ] ، وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }
[ المؤمنون : 115، 116 ] ، قال المفسرون : العبث : أن يعمل عملًا لا لحكمة، وهو جنس من اللعب . وقال : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 16، ، 17 ] ، وقال : { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] . قال المفسرون وأهل اللغة : السدي : المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى، كالذي يترك الإبل سدى مهملة . وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } [ الأنعام : 73 ] ، وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ }
[ الحجر 85،86 ] .(2/103)
وقد بين ـ سبحانه ـ الفرق بين ما أمر به وما نهى عنه، وبين من يحمده ويكرمه من أوليائه، ومن يذمه ويعاقبه من أعدائه، وأنهم مختلفون لا يجوز التسوية بينهما، وجعل خلاف ذلك من المنكر الذي لا مساغ له، فقال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ } [ الحجر: 85 ،86] ، وقال : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 82 ] ، وقال تعالى : { ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، فبين أن هذا الحكم سيئ في نفسه ليس الحكم به مساويًا للحكم بالتفاضل . ثم قال : { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
[ الجاثية : 22 ] ، فأخبر أنه خلق الخلق ليجزي كل نفس بما كسبت، وأنه لا يظلم أحدًا فينقص من حسناته شيئا، بل كما قال : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] .(2/104)
وقد نزه نفسه في غير موضع من القرآن أن يظلم أحدًا من خلقه، فلا يؤتيه أجره أو يحمل عليه ذنب غيره، فقال تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } [ طه : 112 ] ، وقال تعالى : { لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 28، ، 29 ] ، وقال تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ }
[(2/105)
هود 100،101 ] ، وفي الحديث الصحيح الإلهي : ( ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا ) . وما تزعمه القدرية من أن تفضيل بعض عباده على بعض بفضله وإحسانه من باب الظلم جهل منهم، وكذلك جزاؤهم بأعمالهم التي جري/ بها القدر ليس بظلم، فإن الواحد من الناس إذا عاقبه غيره بسيئاته وانتصف للمظلوم من الظالم، لم يكن ذلك ظلمًا منه باتفاق العقلاء، بل ذلك أمر محمود منه، ولا يقول أحد : إن الظالم معذور لأجل القدر . فرب العالمين إذا أنصف بعض عباده من بعض وأخذ للمظلومين حقهم من الظالمين، كيف يكون ذلك ظلمًا منه لأجل القدر ؟ ! وكذلك الواحد من العباد إذا وضع كل شيء موضعه، فجعل الطيب مع الطيب في المكان المناسب له، وجعل الخبيث مع الخبيث في المكان المناسب له، كان ذلك عدلا منه وحكمة، فرب العالمين إذا وضع كل شيء موضعه ولم يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ولم يجعل المتقين كالفجار، ولا المسلمين كالمجرمين، والجنة طيبة لا يصلح أن يدخلها إلا طيب؛ ولهذا لا يدخلها أحد إلا بعد القصاص الذي ينظفهم من الخبث، كما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن المؤمنين إذا عبروا الجسر - وهو الصراط المنصوب على متن جهنم ـ فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هذبوا ونقوا؛ أذن لهم في دخول الجنة ) ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .(2/106)
والمقصود هنا أن ما يقوله القدرية من الظلم والعدل الذي يقيسون به الرب على عباده من بدعهم التي ضلوا بها وخالفوا بها الكتاب والسنة/وإجماع سلف الأمة ـ وكذلك من قابلهم ـ فنفي حكمة الرب الثابتة في خلقه وأمره وما كتبه على نفسه من الرحمة، وما حرمه على نفسه من الظلم، وما جعله للمخلوقات والمشروعات من الأسباب التي شهد بها النص مع العقل والحس، واتفق عليها سلف الأمة وأئمة الدين، كقوله تعالى : { وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 164 ] ، وقوله تعالى : { فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [ الأعراف : 57 ] ، ونحو ذلك، فإن هذه الأقاويل أصلها مأخوذ من الجهم بن صفوان ـ إمام غلاة المجبرة ـ وكان ينكر رحمة الرب، ويخرج إلى الجذمي فيقول : أرحم الراحمين يفعل مثل هذا ؟ ! يريد بذلك أنه ما ثم إلا إرادة رجح بها أحد المتماثلين بلا مرجح، لا لحكمة ولا رحمة .(2/107)
ولهذا كان الذين وافقوه على قوله من المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة يتناقضون؛ لأنهم إذا خاضوا في الشرع احتاجوا أن يسلكوا مسالك أئمة الدين في إثبات محاسن الشريعة وما فيها من الأمر بمصالح العباد، وما ينفعهم من النهي عن مفاسدهم وما يضرهم، وأن الرسول الذي بعث بها بعث رحمة، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، وقد وصفه اللّه - تعالى ـ بقوله : { وَرَحْمتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ }
[ الأعراف : 156، 157 ] ، فأخبر أنه يأمر بما هو معروف وينهى عما هو منكر، ويحل ما هو طيب ويحرم ما هو خبيث .(2/108)
ولو كان المعروف لا معنى له إلا المأمور به، والمنكر لا معنى له إلا ما حرم، لكان هذا كقول القائل : يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم، ويحل لهم ما أحل لهم ويحرم عليهم ما حرم عليهم . وهذا كلام لا فائدة فيه، فضلًا عن أن يكون فيه تفضيل له على غيره . ومعلوم أن كل من أمر بأمر يوصف بذلك، وكل نبي بعث فهذه حاله . وقد قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، فَعُلِم أن الطيب وصف للعين، وأن اللّه قد يحرمها مع ذلك عقوبة للعباد، كما قال ـ تعالى ـ لما ذكر ما حرمه على بني إسرائيل : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ] ، وقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [ المائدة : 4 ] فلو كان معنى الطيب هو ما أحل، كان الكلام لا فائدة فيه، فعلم أن الطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان .(2/109)
وليس المراد به مجرد التِذَاذ الأكل، فإن الإنسان قد يلتذ بما يضره من السموم وما يحميه الطبيب منه، ولا المراد به التِذَاذ طائفة من الأمم كالعرب، ولا كون العرب تعودته، فإن مجرد كون أمة من الأمم تعودت أكله وطاب لها، أو كرهته لكونه ليس في بلادها لا/ يوجب أن يحرم اللّه على جميع المؤمنين ما لم تعتده طباع هؤلاء، ولا أن يحل لجميع المؤمنين ما تعودوه . كيف وقد كانت العرب قد اعتادت أكل الدم والميتة وغير ذلك وقد حرمه اللّه ـ تعالى ؟ ! وقد قيل لبعض العرب : ما تأكلون ؟ قال : ما دب ودرج، إلا أم حبين . فقال : ليهن أم حبين العافية . ونفس قريش كانوا يأكلون خبائث حرمها اللّه، وكانوا يُعَافُون مطاعم لم يحرمها اللّه . وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم له لحم ضَبٍّ فرفع يده ولم يأكل، فقيل : أحرام هو يارسول اللّه ؟ قال : ( لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ) . فعلم أن كراهة قريش وغيرها لطعام من الأطعمة لا يكون موجبًا لتحريمه على المؤمنين من سائر العرب والعجم .
وأيضًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحرم أحد منهم ما كرهته العرب، ولم يبح كل ما أكلته العرب، وقوله تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [ الأعراف : 157 ] ، إخبار عنه أنه سيفعل ذلك، فأحل النبي صلى الله عليه وسلم الطيبات وحرم الخبائث مثل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فإنها عادية باغية، فإذا أكلها الناس ـ والغاذي شبيه بالمغتذي ـ صار في أخلاقهم شوب من أخلاق هذه البهائم وهو البغي والعدوان، كما حرم الدم المسفوح؛ لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، وزيادته توجب طغيان هذه القوى وهو/مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) . ولهذا كان شهر رمضان إذا دخل صفدت الشياطين؛ لأن الصوم جنة .(2/110)
فالطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة للعقول والأخلاق، كما أن الخمر أم الخبائث؛ لأنها تفسد العقول والأخلاق، فأباح اللّه للمتقين الطيبات التي يستعينون بها على عبادة ربهم التي خلقوا لها، وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم في المقصود الذي خلقوا له، وأمرهم مع أكلها بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر اللّه به واستحق العقوبة . ومن حرمها ـ كالرهبان ـ فقد تعدى حدود اللّه فاستحق العقوبة، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 172 ] ، وفي الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ) ، وفي حديث آخر : ( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ) ، وقال تعالى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [ التكاثر : 8 ] أي : عن شكره، فإنه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه وعما حرمه عليه : هل فرط بترك مأمور أو فعل محظور، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }
[(2/111)
المائدة : 87 ] ، فنهاهم عن تحريم الطيبات . كما كان طائفة من الصحابة قد عزموا على الترهب، فأنزل اللّه هذه الآية . وفي الصحيحين أن رجالًا من الصحابة قال أحدهم : أما أنا فأصوم لا أفطر . وقال آخر : أما أنا فأقوم لا أنام . وقال آخر : أما أنا فلا أقرب النساء . وقال آخر : أما أنا فلا آكل اللحم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا . . لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . ولبسط هذه الأمور موضع آخر .
والمقصود هنا أن اللّه بين في كتابه وعلى لسان رسوله حكمته في خلقه وأمره كقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلًا }
[ الإسراء : 32 ] ، فعلل التحريم بأنها فاحشة بدون النهي، وأن ذلك علة للنهي عنها، وقوله : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } [ الأعراف : 28 ] ، فذكر براءته من هذا على وجه المدح له بذلك وتنزيهه عن ذلك، فدل على أن من الأمور ما لا يجوز أن يضاف إلى اللّه الأمر به، ليست الأشياء كلها مستوية في أنفسها ولا عنده، وأنه لا يخصص المأمور على المحظور لمجرد التحكم، بل يخصص المأمور بالأمر والمحظور بالحظر لما اقتضته حكمته .(2/112)
/وقد تدبرت عامة ما رأيته من كلام السلف ـ مع كثرة البحث عنه، وكثرة ما رأيته من ذلك ـ هل كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أو أحد منهم على ما ذكرته من هذه الأقوال التي وجدتها في كتب أهل الكلام ـ من الجهمية والقدرية ومن تلقى ذلك عنهم ـ مثل دعوى الجهمية أن الأمور المتماثلة يأمر اللّه بأحدها وينهى عن الآخر لا لسبب ولا لحكمة، أو أن الأقوال المتماثلة والأعمال المتماثلة من كل وجه يجعل اللّه ثواب بعضها أكثر من الآخر بلا سبب ولا حكمة، ونحو ذلك مما يقولونه، كقولهم : إن كلام اللّه كله متماثل، وإن كان الأجر في بعضه أعظم، فما وجدت في كلام السلف ما يوافق ذلك، بل يصرحون بالحكم والأسباب، وبيان ما في المأمور به من الصفات الحسنة المناسبة للأمر به، وما في المنهي عنه من الصفات السيئة المناسبة للنهي عنه، ومن تفضيل بعض الأقوال والأعمال في نفسها على بعض، ولم أر عن أحد منهم قط أنه خالف النصوص الدالة على ذلك، ولا استشكل ذلك، ولا تأوله على مفهومه، مع أنه يوجد عنهم في كثير من الآيات والأحاديث استشكال واشتباه، وتفسيرها على أقوال مختلفة قد يكون بعضها خطأ . والصواب هو القول الآخر، وما وجدتهم في مثل قوله تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأُبي : ( أي آية في كتاب اللّه أعظم ؟ ) ، وقوله في الفاتحة : ( لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ) ، /ونحو ذلك إلا مقرين لذلك قائلين بموجبه .(2/113)
والنبي صلى الله عليه وسلم سأل أبيًا : ( أي آية في كتاب اللّه أعظم ؟ ) فأجابه أبي بأنها آية الكرسي، فضرب بيده في صدره وقال : ( ليَهَنك العلم أبا المنذر ) . ولم يستشكل أُبي ولا غيره السؤال عن كون بعض القرآن أعظم من بعض، بل شهد النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم لمن عرف فضل بعضه على بعض وعرف أفضل الآيات، وكذلك قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] .
وما رأيتهم تنازعوا في تفسير { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } ، فإن هذه الآية فيها قراءتان مشهورتان : قراءة الأكثرين : { أَوْ نُنسِهَا } من أنساه ينسيه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : [ أو ننسأها ] بالهمز من نسأه ينسأه . فالأول من النسيان، والثاني من نسأ إذا أخر . قال أهل اللغة : نَسَأْتُةُ نَسأ : إذا أَخَّرْتُهُ . وكذلك أنسأته، يقال : نسأته البيع وأنسأته . قال الأصمعي : أنسأ اللّه في أجله ونسأ في أجله بمعنى . ومن هذه المادة بيع النسيئة . ومن كلام العرب : من أراد النَّسَاء ولا نَسَاء، فليبكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقلل من غشيان النِّساء .
فأما القراءة الأولى فمعناها ظاهر عند أكثر المفسرين، قالوا : المراد به ما أنساه اللّه من القرآن كما جاءت الآثار بذلك، فإن ما يرفع/من القرآن إما أن يكون رفعًا شرعيًا بإزالته من القلوب وهو الإنساء، فأخبر ـ تعالى ـ أن ما ينسخه أو ينسيه، فإنه يأتي بخير منه أو مثله، بين ذلك فضله ورحمته لعباده المؤمنين، فإنه قال قبل ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
[(2/114)
البقرة : 104، 105 ] ، فنهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في سوء أدبهم على الرسول وعلى ما جاء به، وأخبر أنهم لحسدهم ما يودون أن اللّه ينزل عليه شيئا من الكتاب والحكمة، ثم أخبر بنعمته على المؤمنين، فإنه قد كان بعض القرآن ينسخ وبعضه ينسى ـ كما جاءت الآثار بذلك ـ وما أنساه ـ سبحانه ـ هو مما نسخ حكمه وتلاوته، بخلاف المنسوخ الذي يتلى وقد نسخ ما نسخ من حكمه أو نسخ تلاوته ولم ينس، وفي النسخ والإنساء نقص ما أنزله على عباده .
فبين ـ سبحانه ـ أنه لا نقص في ذلك، بل كل ما نسخ أو ينسى فإن اللّه يأتي بخير منه أو مثله، فلا يزال المؤمنون في نعمة من اللّه لا تنقص بل تزيد، فإنه إذا أتي بخير منها زادت النعمة، وإن أتي بمثلها، كانت النعمة باقية، وقال تعالى : { أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] ، فأضاف الإنساء إليه، فإن هذا الإنساء ليس مذمومًا، بخلاف نسيان ما يجب حفظه، فإنه مذموم/ فإن هذا إنساء لما رفعه اللّه، وأما نسيان ما أمر بحفظه فمذموم، قال تعالى : { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى }
[ طه : 162 ] ، وهذا النسيان وإن كان متضمنًا لترك العمل بها مع حفظها فإذا نسيت الآيات بالكلية حتى لا يعرف ما فيها، كان ذلك أبلغ في ترك العمل بها فكان هذا مذموما . قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن : ( من قرأ القرآن ثم نسيه، لقي اللّه وهو أجذم ) ، ولهذا كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يضيف الإنسان النسيان إلى نفسه، فقال في الحديث المتفق عليه : ( بئس ما لأحدهم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت، بل هو أنسي . استذكروا القرآن فلهو أشد تفلتًا من صدور الرجال من النعم من عقلها ) .(2/115)
ثم منهم من جعل { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] هو ما ترك تلاوته ورسمه ونسخ حكمه، وما أنسي هو ما رفع فلا يتلي . ومنهم من أدخل في الأول ما نسخت تلاوته وإن كان محفوظًا . فالأول قول مجاهد وأصحاب عبد اللّه بن مسعود، وروى الناس بالأسانيد الثابتة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } قال : نثبت خطها ونبدل حكمها، قال : وهو قول عبد اللّه بن مسعود { أَوْ نُنسِهَا } أي : نمحوها فإن ما نسي لم يترك . وروى ابن أبي حاتم بإسناده، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل/وينساه بالنهار، فأنزل اللّه : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] . وكذلك روي عن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن كعب وقتادة وعكرمة . وكان سعد بن أبي وقاص يقرأها [ أَوْ نُنسِهَا ] بالخطاب، أي : تنسها أنت يامحمد، وتلا قوله : { سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى } [ الأعلى : 6 ] ، وقوله : { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] .
وقد جاءت الآثار بأن أحدهم كان يحفظ قرآنًا ثم ينساه، ويذكرون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول : [ إنه رفع ] ، مثل ما صح من حديث الزهري، حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف ـ في مجلس سعيد بن المسيب ـ أن رجلًا كان معه سورة فقام يقرأها من الليل فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم : ذهبت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها . وقال الآخر : ما جئت إلا لذلك . وقال الآخر : ما جئت إلا لذلك، وقال الآخر : وأنا يا رسول اللّه . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( إنها نسخت البارحة ) .(2/116)
وقوله : [ أو ننسأها ] النسأ بمعنى التأخير، وفيه قولان للسلف : القول الأول يروى عن طائفة، قال السدي : [ ما ننسخ من آية ] قال : نسخها : قبضها [ أو ننسأها ] فنتركها لا ننسخها [ نأت بخير ] من / الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه . وكذلك في تفسير الوالبي عن ابن عباس : [ ما ننسخ من آية أو ننسأها ] يقول : ما نبدل من آية أو نتركها فلا نرفعها من عندكم { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] ، روي ذلك عن الربيع بن أنس . ومن الناس من فسر بهذا المعنى القراءة الأولى فقالوا : معنى ننسها : نتركها عندكم، فإن النسيان هو الترك . وقال الأزهري ننسها : نأمر بتركها . يقال : أنسيت الشيء، وأنشد :
إني علي عقبة أقضيها ** لست بناسيها ولا منسيها
أي : ولا آمر بتركها .
والقول الثالث : نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها .
والصواب القول الأوسط، روى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس قال : خطبنا عمر ـ رضي اللّه عنه ـ فقال : يقول اللّه : [ ما ننسخ من آية أو ننسأها ] ، أي : نؤخرها . وبإسناده المعروف عن أبي العالية { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } فلا يعمل بها [ أو ننسأها ] ، أي : نرجئها عندنا، وفي لفظ عن أبي العالية : نؤخرها عندنا . وعن عطاء : نؤخرها . وقد ذكر قول ثالث عن السلف وهو قول رابع أن المعنى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } وهو ما أنزلناه إليكم ولا نرفعه [ أو ننسأها ] ، أي : نؤخر تنزيله فلا ننزله . ونقل هذا بعضهم عن سعيد بن المسيب وعطاء . أما / { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } فهو ما قد نزل في القرآن، جعلاه من النسخة [ أو ننسأها ] ، أي : نؤخرها فلا يكون، وهو ما لم ينزل .(2/117)
وهذا فيه نظر؛ فإن ابن أبي حاتم روى بالإسناد الثابت عن عطاء { مّا نّنًسّخً مٌنً آيّةُ } : أما ما نسخ فهو ما ترك من القرآن [ بالكاف ] وكأنه تَصَحَّف على من ظنه نزل من النزول، فإن لفظ ترك فيه إبهام . ولذلك قال ابن أبي حاتم : يعني ترك لم ينزل على محمد، وليس مراد عطاء هذا، وإنما مراده أنه ترك مكتوبًا متلوًا ونسخ حكمه كما تقدم عن غيره، وما أنسأه هو ما أخره لم ينزله : وسعيد وعطاء من أعلم التابعين لا يخفى عليهما هذا . وقد قرأ ابن عامر : [ ما ننسخ من آية ] وزعم أبو حاتم أنه غلط، وليس كما قال، بل فسرها بعضهم بهذا المعنى فقال : ما ننسخ : نجعلكم تنسخونها كما يقال : أكتبته هذا . وقيل : أنسخ جعله منسوخًا، كما يقال : قبره إذا أراد دفنه، وأقبره، أي : جعل له قبرًا . وطرده : إذا نفاه، وأطرده : إذا جعله طريدًا . وهذا أشبه بقراءة الجمهور .
والصواب : قول من فسر [ أو ننسأها ] ، أي : نؤخرها عندنا فلا ننزلها . والمعنى : أن ما ننسخه من الآيات التي أنزلناها . أو نؤخر نزوله من الآيات التي لم ننزلها بعد { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ، فكما أنه يعوضهم من المرفوع يعوضهم من المنتظر الذي لم ينزله بعد إلى أن ينزله، /فإن الحكمة اقتضت تأخير نزوله فيعوضهم بمثله أو خير منه في ذلك الوقت إلى أن يجيء وقت نزوله فينزله ـ أيضًا ـ مع ما تقدم ويكون ما عوضه مثله أو خيرًا منه قبل نزوله . وأما ما أنزله إليهم ولم ينسخه، فهذا لا يحتاج إلى بدل، ولو كان كل ما لم ينسخه اللّه يأت بخير منه أو مثله، لزم إنزال مالا نهاية له .(2/118)
وكذلك إن قدر أن المراد يؤخر نسخه إلى وقت ثم ينسخه، فإنه ما دام عندهم لم يحتج إلى بدل يكون مثله أو خيرًا منه، وإنما البدل لما ليس عندهم مما أنسوه أو أخر نزوله فلم ينزله بعد؛ ولهذا لم يجعل البدل لكل ما لم ينزله، بل لما نسأه فأخر نزوله؛ إذ لو كان كل ما لم ينزل يكون له بدل، لزم إنزال ما لا نهاية له، بل ما كان يعلم أنه سينزله وقد أخر نزوله يكونون فاقديه إلى حين ينزل، كما يفقدون ما نزل ثم نسخ، فيجعل ـ سبحانه ـ لهذا بدلًا ولهذا بدلًا . وأما ما أنزله وأقره عندهم وأخر نسخه إلى وقت، فهذا لا يحتاج إلى بدل، فإنه نفسه باق، ولو كان هذا مرادًا؛ لكان كل قرآن قد نسخه يجب أن ينزل قبل نسخه ما هو مثله أو خير منه، ثم إذا نسخه يأتي بخير منه أو مثله، فيكون لكل منسوخ بدلان : بدل قبل نسخه، وبدل بعد نسخه . والبدل الذي قبل نسخه لا ابتداء لنزوله، فيجب أن ينزل من أول الأمر، فيلزم نزول ذلك كله في أول الوحي، وهذا باطل قطعًا .
/فإن قيل : فهذا يلزم فيما أخره فلم ينزله، فإن له بدلًا ولا وقت لنزول ذلك البدل، قيل : ما أخر نزوله وهو يريد إنزاله معلوم، والبدل الذي هو مثله أو خير منه يؤتى به في كل وقت، فإن القرآن ما زال ينزل، وقد تضمن هذا أن كل ما أخر نزوله فلابد أن ينزل قبله ما هو مثله أو خير منه، وهذا هو الواقع، فإن الذي تقدم من القرآن نزوله لم ينسخ كثير منه خير مما تأخر نزوله، كالآيات المكية، فإن فيها من بيان التوحيد والنبوة والمعاد وأصول الشرائع ما هو أفضل من تفاصيل الشرائع، كمسائل الربا، والنكاح، والطلاق، وغير ذلك . فهذا الذي أخره اللّه مثل آية الربا فإنها من أواخر ما نزل من القرآن، وقد روي أنها آخر ما نزل، وكذلك آية الدَّينِ والعِدَّةِ والحيض ونحو ذلك، قد أنزل اللّه قبله ما هو خير منه من الآيات التي فيها من الشرائع ما هو أهم من هذا، وفيها من الأصول ما هو أهم من هذا .(2/119)
ولهذا كانت سورة الأنعام أفضل من غيرها، وكذلك سورة يس ونحوها من السور التي فيها أصول الدين التي اتفق عليها الرسل كلهم - صلوات اللّه عليهم - ولهذا كانت { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
ـ مع قلة حروفها ـ تعدل ثلث القرآن؛ لأن فيها التوحيد، فعلم أن آيات التوحيد أفضل من غيرها، وفاتحة الكتاب نزلت بمكة بلا ريب، كما دل عليه قوله/ تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) ، وسورة الحجر مكية بلا ريب، وفيها كلام مشركي مكة وحاله معهم، فدل ذلك على أن ما كان اللّه ينسأه فيؤخر نزوله من القرآن، كان ينزل قبله ما هو أفضل منه، و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }
مكية بلا ريب، وهو قول الجمهور . وقد قيل : إنها مدنية، وهو غلط ظاهر .
وكذلك قول من قال : الفاتحة لم تنزل إلا بالمدينة غلط بلا ريب . ولو لم تكن معنا أدلة صحيحة تدلنا على ذلك لكان من قال : إنها مكية معه زيادة علم . وسورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
، أكثرهم على أنها مكية . وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة، ولا منافاة، فإن اللّه أنزلها بمكة أولًا، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخري . وهذا مما ذكره طائفة من العلماء وقالوا : إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك .
فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقًا . والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها، نزل جبريل فقرأها عليه ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك . /والواحد منا قد يسأل عن مسألة فيذكر له الآية أو الحديث، ليبين له دلالة النص على تلك المسألة وهو حافظ لذلك، لكن يتلى عليه ذلك النص ليتبين وجه دلالته على المطلوب .(2/120)
فقد تبين أن البدل لما أخر نزوله بخلاف ما كان عندهم لم ينسخ، فإن هذا لا بدل له، ولو قدر أنه سينسخ فإنه ما دام محكما، لم يكن بدله خيرًا منه . وكذلك البدل عن المنسوخ يكون خيرًا منه . وأكثر السلف أطلقوا لفظ { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } [ البقرة : 106 ] كما في القرآن، ولم يستشكل ذلك أحد منهم . وفي تفسير الوالبي : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وعن قتادة : { نأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهى . وهذان لم يستشكلا كونها خيرًا من الأولى، بل بينا وجه الفضيلة، كما تقدم من أن الكلام الأمري يتفاضل بحسب المطلوب، فإذا كان المطلوب أنفع للمأمور، كان طلبه أفضل، كما أن رحمة اللّه التي سبقت غضبه هي أفضل من غضبه . فما قالاه تقرير للخيرية لا نفي لها .
فإن قيل : فآية الكرسي قد ثبت أنها أعظم آية في كتاب اللّه، وإنما نزلت في سورة البقرة ـ وهي مدنية بالاتفاق ـ فقد أخر نزولها ولم ينزل قبلها ما هو خير منها ولا مثلها ؟ قيل : عن هذا أجوبة :(2/121)
/أحدها : أن اللّه قال : { نأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] ، ولم يقل : بآية خير منها، بل يأتي بقرآن خير منها أو مثلها . وآية الكرسي وإن كانت أفضل الآيات فقد يكون مجموع آيات أفضل منها . والبقرة وإن كانت مدنية بالاتفاق، وقد قيل : إنها أول ما نزل بالمدينة، فلا ريب أن هذا في بعض ما نزل، وإلا فتحريم الربا إنما نزل متأخرًا . وقوله : { وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ } [ البقرة : 218 ] من آخر ما نزل . وقوله : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [ البقرة : 196 ] ، نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق العلماء، وقد كانت سورة الحشر قبل ذلك، فإنها نزلت في بني النضير باتفاق الناس، وقصة بني النضير كانت متقدمة على الحديبية، بل على الخندق باتفاق الناس، وإنما تأخر عن الخندق أمر بني قريظة، فهم الذين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم عقب الخندق، وأما بنو النضير، فكان أجلاهم قبل ذلك باتفاق العلماء . وكذلك سورة الحديد مدنية عند الجمهور، وقد قيل : إنها مكية وهو ضعيف؛ لأن فيها ذكر المنافقين وذكر أهل الكتاب، وهذا إنما نزل بالمدينة، لكن يمكن أنها نزلت قبل كثير من البقرة .
ففي الجملة، نزول أول الحديد وآخر الحشر قبل آية الكرسي ممكن، والأنعام ويس وغيرها نزل قبل آية الكرسي بالاتفاق .(2/122)
الجواب الثاني : أنه ـ تعالى ـ إنما وعد أنه إذا نسخ آية أو نسأها، أتي/بخير منها أو مثلها لما أنزل هذه الآية قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] ، فإن هذه الآية جملة شرطية تضمنت وعده أنه لابد أن يأتي بذلك وهو الصادق الميعاد، فما نسخه بعد هذه الآية، أو أنسأ نزوله مما يريد إنزاله، يأت بخير منه أو مثله . وأما ما نسخه قبل هذه أو أنسأه، فلم يكن قد وعد حينئذ أنه يأتي بخير منه أو مثله . وبهذا ـ أيضًا ـ يندفع الجواب عن الفاتحة، فإنه لا ريب أنه تأخر نزولها عن سورة { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [ سورة العلق ] وهي أفضل منها . فعلم أنه قد يتأخر إنزال الفاضل، وأنه ليس كل ما تأخر نزوله نزل قبله مثله أو خير منه . لكن إذا كان الموعود به بعد الوعد، لم يرد هذا السؤال .
يدل على ذلك قوله : { مَا نَنسَخْ } ، فإن هذا الفعل المضارع المجزوم إنما يتناول المستقبل، وجوازم الفعل [ إنْ ] وأخواتها ونواصبه تخلصه للاستقبال .
وقد يجاب بجواب ثالث : وهو أن يقال : ما نزل في وقته كان خيرًا لهم وإن كان غيره خيرًا لهم في وقت آخر، وحينئذ فيكون فضل بعضه على بعض على وجهين : لازم كفضل آية الكرسي وفاتحة الكتاب و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .
وفضل عارض بحيث تكون هذه أفضل في وقت وهذه أفضل في وقت آخر، كما قد يقال في آية التخيير للمقيم بين الصوم والفطر مع الفدية ومع آية إيجاب الصوم عزما، وهذا كما أن/الأفعال المأمور بها كل منها في وقته أفضل، فالصلاة إلى القدس قبل النسخ كانت أفضل، وبعد النسخ الصلاة إلى الكعبة أفضل .(2/123)
وعلى ما ذكر فيتوجه الاحتجاج بهذه الآية على أنه لا ينسخ القرآن إلا قرآن كما هو مذهب الشافعي، وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد، بل هي المنصوصة عنه صريحًا ألا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، وعليها عامة أصحابه؛ وذلك لأن اللّه قد وعد أنه لابد للمنسوخ من بدل مماثل أو خير، ووعد بأن ما أنساه المؤمنين فهو كذلك، وأن ما أخره فلم يأت وقت نزوله فهو كذلك، وهذا كله يدل على أنه لا يزال عند المؤمن القرآن الذي رفع، أو آخر مثله، أو خير منه، ولو نسخ بالسنة، فإن لم يأت قرآن مثله أو خير منه، فهو خلاف ما وعد اللّه . وإن قيل : بل يأتي بعد نسخه بالسنة كان بين نسخه وبين الإتيان بالبدل مدة خالية عن ذلك وهو خلاف مقصود الآية، فإن مقصودها أنه لابد من المرفوع أو مثله أو خير منه .
وأيضًا، فقوله : { نَأْتِ } [ البقرة : 106 ] لم يرد به بعد مدة، فإن الذي نسأه وهو يريد إنزاله قد علم أنه ينزله بعد مدة، فلما أخبر أن ما أخره يأتي بمثله أو خير منه قبل نزوله، علم أنه لا يؤخر الأمر بلا بدل، فلو جاز أن يبقى مدة بلا بدل، لكان ما لم ينزل أحق بألا يكون له بدل من المنسوخ، فلما كان ذاك قد حصل له بدل قبل وقت نزوله لتكميل الأنعام، فلأن يكون البدل لما نسخ من /حين نسخ بَعْدُ أولى وأحرى؛ ولأنه قد علم أن القرآن نزل شيئا بعد شيء، فلو كان ما ينزله بدلًا عن المنسوخ يؤخره لم يعرف أنه بدل، ولم يتميز البدل من غيره، ولم يكن لقوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فائدة إلا كالفائدة المعلومة لو لم ينسخ شيء .(2/124)
غاية ما يقال : إنه لو لم ينسخ شيء، لجاز ألا ينزل بعد ذلك شيء، وإذا نسخ شيء، فلابد من بدله ولو بعد حين . وهذا مما يعتقدونه، فإنهم قد اعتادوا نزول القرآن عند الحوادث والمسائل والحاجة، فما كانوا يظنونه ـ إذا نسخت آية ـ ألا ينزل بعدها شيء، فإنها لو لم تنسخ، لم يظنوا ذلك، فكيف يظنون إذا نسخت ؟ ! الثاني : أنه إذا كان قد ضمن لهم الإتيان بالبدل عن المنسوخ، علم أن مقصوده أنه لا ينقصهم شيء مما أنزله، بل لابد من مثل المرفوع أو خير منه، ولو بقوا مدة بلا بدل لنقصوا .
وأيضًا، فإن هذا وعد معلق بشرط، والوعد المعلق بشرط يلزم عقبه، فإنه من جنس المعاوضة وذلك مما يلزم فيه أداء العوض على الفور إذا قبض المعوض، كما إذا قال : ما ألقيت من متاعك في البحر فعلى بدله، وليس هذا وعدًا مطلقًا كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } [ الفتح : 27 ] ؛ ولهذا يفرق بين قوله : واللّه لأعطينك مائة، وبين قوله : واللّه لا آخذ منك شيئا إلا أعطيتك بدله، فإن هذا واجب على الفور .
/ومما يدل على المسألة أن الصحابة والتابعين الذين أخذ عنهم علم الناسخ والمنسوخ إنما يذكرون نسخ القرآن بقرآن، لا يذكرون نسخه بلا قرآن بل بسنة، وهذه كتب الناسخ والمنسوخ المأخوذة عنهم إنما تتضمن هذا . وكذلك قول على ـ رضي الله عنه ـ للقاص : هل تعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن ؟ فلو كان ناسخ القرآن غير القرآن، لوجب أن يذكر ذلك أيضًا .
وأيضًا الذين جوزوا نسخ القرآن بلا قرآن من أهل الكلام والرأي، إنما عمدتهم أنه ليس في العقل ما يحيل ذلك، وعدم المانع الذي يعلم بالعقل لا يقتضي الجواز الشرعي، فإن الشرع قد يعلم بخبره ما لا علم للعقل به، وقد يعلم من حكمة الشارع التي علمت بالشرع ما لا يعلم بمجرد العقل؛ ولهذا كان الذين جوزوا ذلك عقلًا مختلفين في وقوعه شرعًا، وإذا كان كذلك، فهذا الخبر الذي في الآية دليل على امتناعها شرعًا .(2/125)
وأيضًا، فإن الناسخ مهيمن على المنسوخ، قاض عليه، مقدم عليه، فينبغي أن يكون مثله أو خيرًا منه كما أخبر بذلك القرآن؛ ولهذا لما كان القرآن مهيمنًا على ما بين يديه من الكتاب بتصديق ما فيه من حق، وإقرار ما أقره، ونسخ ما نسخه، كان أفضل منه، فلو كانت السنة ناسخة للكتاب، لزم أن تكون مثله أو أفضل منه .
/وأيضًا، فلا يعرف في شيء من آيات القرآن أنه نسخه إلا قرآن، والوصية للوالدين والأقربين منسوخة بآية المواريث، كما اتفق على ذلك السلف، قال تعالي : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء : 13، 14 ] . والفرائض المقدرة من حدوده؛ ولهذا ذكر ذلك عقب ذكر الفرائض، فمن أعطي صاحب الفرائض أكثر من فرضه، فقد تعدى حدود الله، بأن نقص هذا حقه، وزاد هذا على حقه، فدل القرآن على تحريم ذلك وهو الناسخ .
فصل
وأما قوله : ( يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم ) فيقتضي أصلين عظيمين :(2/126)
/أحدهما : وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جَلْب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس، وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة . وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك؛ ولهذا قال : { وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف } [ البقرة : 233 ] ، وقال : { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } [ النساء : 5 ] ، فالمأمور به هو المقدور للعباد، وكذلك قوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 14 : 16 ] ، وقوله : { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } [ الحج : 36 ] ، وقوله : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [ الحج : 28 ] ، وقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر .
ومن هنا، يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب، بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب؛ ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن .(2/127)
فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخَلَّ بواجب التوحيد؛ ولهذا يخذل أمثال هؤلاء/ إذا اعتمدوا على الأسباب . فمن رجا نصرًا أو رزقًا من غير الله خذله الله، كما قال على - رضي الله عنه - : لا يرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه . وقد قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ فاطر : 2 ] ، وقال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } [ يونس : 107 ] ، وقال : { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] .(2/128)
وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركًا لما أمر به من الأسباب فهو ـ أيضًا ـ جاهل ظالم، عاص لله بترك ما أمره، فإن فعل المأمور به عبادة لله . وقد قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه } [ هود : 123 ] ، وقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقال : { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] ، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ : { عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ } [ هود : 88 ] ، وقال : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ } [ الشوري : 10 ] . وقال : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عليكَ تَوَكَّلْنَا وَإليكَ أَنَبْنَا وَإليكَ الْمَصِيرُ } [ الممتحنة : 4 ] ، فليس من فعل شيئًا أمر به وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبًا ممن فعل توكلًا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب؛ إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه، وهما، مع اشتراكهما في جنس الذنب، فقد يكون هذا أَلْوَم، وقد يكون الآخر، مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب .
وقد روي أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بين رجلين . فقال المقضي عليه : حسبي الله ونعم الوكيل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس، فإن غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل ) .(2/129)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل : قَدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) ، ففي قوله صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) أمر بالتسبب المأمور به، وهو الحرص على المنافع . وأمر مع/ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله، فمن اكتفي بأحدهما فقد عصي أحد الأمرين، ونهي عن العجز الذي هو ضد الكيس . كما قال في الحديث الآخر : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس ) ، وكما في الحديث الشامي : ( الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أَتْبَع نفسه هواها وتمني على الله ) ، فالعاجز في الحديث مقابل الكيس، ومن قال : العاجز هو مقابل البر فقد حرف الحديث ولم يفهم معناه . ومنه الحديث : ( كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ) .
ومن ذلك ما روي البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، يقولون : نحن المتوكلون . فإذا قدموا سألوا الناس فقال الله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَي } [ البقرة : 197 ] ، فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجًا كان مطيعًا لله في هذين الأمرين، بخلاف من ترك ذلك ملتفتًا إلى أزْواد الحجيج، كَلًا على الناس، وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين، فهو ملتفت إلى الجملة، لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج، فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به .(2/130)
/وفي هذه النصوص بيان غلط طوائف؛طائفة تضعف أمر السبب المأمور به فتعده نقصًا، أو قدحًا في التوحيد والتوكل، وأن تركه من كمال التوكل والتوحيد، وهم في ذلك ملبوس عليهم، وقد يقترن بالغلط اتباع الهوي في إخلاد النفس إلى البطالة؛ ولهذا تجد عامة هذا الضرب - التاركين لما أمروا به من الأسباب ـ يتعلقون بأسباب دون ذلك، فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة، وإما أن يتركوا لأجل ما تبتلوا له من الغلو في التوكل واجبات أو مستحبات أنفع لهم من ذلك، كمن يصرف همته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء أو نيل رزقه بلا سعي فقد يحصل ذلك، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف، والسعي اليسير، وصرف تلك الهمة، والتوجه في عمل صالح ، أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه من تبتله لهذا الأمر اليسير الذي قدره درهم، أو نحوه .
وفوق هؤلاء من يجعل التوكل والدعاء ـ أيضًا ـ نقصًا وانقطاعًا عن الخاصة؛ ظنًا أن ملاحظة ما فرغ منه في القدر هو حال الخاصة .(2/131)
وقد قال في هذا الحديث : ( كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم ) وقال : ( فاستكسوني أكسكم ) وفي الطبراني ـ أو غيره ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لِيَسْأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسْعُ نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر ) . وهذا قد يلزمه أن يجعل ـ أيضًا ـ استهداء الله وعمله بطاعته من ذلك/ وقولهم يوجب دفع المأمور به مطلقًا، بل دفع المخلوق والمأمور، وإنما غلطوا من حيث ظنوا أن سبق التقدير يمنع أن يكون بالسبب المأمور به، كمن يتزندق فيترك الأعمال الواجبة، بناء على أن القدر قد سبق بأهل السعادة وأهل الشقاوة، ولم يعلم أن القدر سبق بالأمور على ما هي عليه، فمن قدره الله من أهل السعادة كان مما قدره الله تيسيره لعمل أهل السعادة، ومن قدره من أهل الشقاء كان مما قدره أنه ييسره لعمل أهل الشقاء، كما قد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال في حديث على بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وسراقة بن جُعْشُم، وغيرهم .
ومنه حديث الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه . قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوي بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا ؟ فقال : ( هي من قدر الله ) .(2/132)
وطائفة تظن أن التوكل إنما هو من مقامات الخاصة المتقربين إلى الله بالنوافل، وكذلك قولهم في أعمال القلوب وتوابعها، كالحب والرجاء والخوف والشكر، ونحو ذلك . وهذا ضلال مبين، بل جميع هذه الأمور فروض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، ومن تركها بالكلية/فهو إما كافر، وإما منافق، لكن الناس هم فيها كما هم في الأعمال الظاهرة؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، ونصوص الكتاب والسنة طَافِحَة بذلك، وليس هؤلاء المعرضون عن هذه الأمور ـ علمًا وعملًا ـ بأقل لوما من التاركين لما أمروا به من أعمال ظاهرة مع تلبسهم ببعض هذه الأعمال، بل استحقاق الذم والعقاب يتوجه إلى من ترك المأمور من الأمور الباطنة والظاهرة، وإن كانت الأمور الباطنة مبتدأ الأمور الظاهرة وأصولها، والأمور الظاهرة كمالها وفروعها التي لا تتم إلا بها .
فصل
الأذكار الثلاثة التي اشتملت عليها خطبة ابن مسعود وغيره، وهي الحمد لله، نستعينه، ونستغفره : هي التي يروى عن الشيخ عبد القادر ثم أبي الحسن الشاذلي، أنها جوامع الكلام النافع . وهي : الحمد لله وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك أن العبد بين أمرين : أمر يفعله الله به، فهي نعم الله التي تنزل عليه، فتحتاج إلى الشكر . وأمر يفعله هو؛ إما خير، وإما شر، فالخير يفتقر إلى معونة الله له، فيحتاج إلى الاستعانة، والشر يفتقر إلى الاستغفار؛ ليمحو أثره .(2/133)
وجاء في حديث ضماد الأَزْدِي : ( الحمد لله، نحمده ونستعينه ) فقط،وهذا موافق لفاتحة الكتاب، حيث قسمت نصفين : نصفًا للرب، ونصفًا للعبد، فنصف الرب مفتتح بالحمد لله، ونصف العبد مفتتح بالاستعانة به، فقال نحمده ونستعينه، وقد يقرن بين الحمد والاستغفار،كما في الأثر الذي رواه أحمد في الزهد : ( أن رجلًا كان على عهد/الحسن فقيل له : تلقينا هذه الخطبة عن الوالد عن والده، كما يقولها كثير من الناس : الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ) فأما ( نحمده ونستعينه ) ففي حديث ضماد، ( ونستعينه ونستغفره ) في حديث ابن مسعود . وأما ( نستهديه ) ففي فاتحة الكتاب؛ لأن نصفها للرب وهو الحمد، ونصفها للعبد، وهو الاستعانة والاستهداء، وليس فيها الاستغفار؛ لأنه لا يكون إلا مع الذنب، والسورة أصل الإيمان، والفاتحة باب السعادة، المانعة من الذنوب . كما قال تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَي عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] .(2/134)
وعن ابن عباس أن ضمادًا قدم مكة وكان من أَزْدِشنوءة . وكان يُرْقِي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون : إن محمدًا مجنون، فقال : لو أني رأيت هذا هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال : فلقيه، فقال : يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء الله، فهل لك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الحمد الله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد ) قال : فقال : أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال : فقال : /لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغت قَاعُوسَ البحر، قال : فقال هات يدك أبايعك على الإسلام، قال : فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وعلى قومك ؟ ) فقال : وعلى قومي . رواه مسلم في صحيحه .
ولهذا استحبت، وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عمومًا وخصوصًا؛ من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك، وموعظة الناس، ومجادلتهم أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية، وكان الذي عليه شيوخ زماننا، الذين أدركناهم، وأخذنا عنهم، وغيرهم يفتتحون مجلس التفسير، أو الفقه في الجوامع والمدارس، وغيرها بخطبة أخري .(2/135)
مثل : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عنا وعنكم، وعن مشائخنا، وعن جميع المسلمين، أو وعن السادة الحاضرين، وجميع المسلمين، كما رأيت قوما يخطبون للنكاح بغير الخطبة المشروعة، وكل قوم لهم نوع غير نوع الآخرين، فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح، وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضًا، والنكاح من جملة ذلك، فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات، هو كمال الصراط المستقيم، وما سوي ذلك ـ إن لم يكن/ منهيا عنه ـ فإنه منقوص مرجوح؛ إذْ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
والتحقيق أن قوله : [ الحمد لله نستعينه ونستغفره ] هي الجوامع، كما في الحديث النبوي، حديث ابن مسعود ذكر ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه، كما في سورتي [ أبي ] فإن الاستهداء يدخل في الاستعانة، وتكرير نحمده قد استغني به بقوله : [ الحمد لله ] ، فإذا فصلت جاز، كما في دعاء القنوت : ( اللهم إنا نستعينك، ونستهديك ، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك، ولا نكفرك، ونخلع، ونترك من يَفْجُرُك ) . فهذه إحدى سورتي أبي، وهي مفتتحة بالاستعانة التي هي نصف العبد، مع ما بعدها من فاتحة الكتاب، وفي السورة الثانية : ( اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعي ونَحْفِد، نرجو رحمتك، ونخشي عذابك، إن عذابك الجِد بالكفار مُلْحِق ) . فهذا مفتتح بالعبادة التي هي نصف الرب، مع ما قبلها من الفاتحة، ففي سورتي القنوت مناسبة لفاتحة الكتاب، وفيهما جميعًا مناسبة لخطبة الحاجة وذلك جميعه من فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه .(2/136)
وأما قوله : ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ) فإن المستعاذ منه نوعان : فنوع موجود، يستعاذ من ضرره الذي لم/ يوجد بعد، ونوع مفقود يستعاذ من وجوده؛ فإن نفس وجوده ضرر، مثال الأول : [ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ] ، ومثال الثاني : { رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 97، 98 ] ، و ( اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو ُأضل أو أزل أو ُأزل ) . وأما قوله : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [ سورة الفلق ] . فيشترك فيه النوعان، فإنه يستعاذ من الشر الموجود ألا يضر، ويستعاذ من الشر الضار المفقود ألا يوجد، فقوله في الحديث : ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ) يحتمل القسمين : يحتمل نعوذ بالله أن يكون منها شر، ونعوذ بالله أن يصيبنا شرها، وهذا أشبه، والله أعلم .
وقوله : ( ومن سيئات أعمالنا ) السيئات هي عقوبات الأعمال، كقوله : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [ غافر : 45 ] ، فإن الحسنات والسيئات يراد بها النعم والنقم كثيرًا، كما يراد بها الطاعات والمعاصي، وإن حملت على السيئات التي هي المعاصي، فيكون قد استعاذ أن يعمل السيئات، أو أن تضره . وعلى الأول ـ وهو أشبه ـ فقد استعاذ من عقوبة أعماله أن تصيبه، وهذا أشبه .(2/137)
/فيكون الحديث قد اشتمل على الاستعاذة من الضرر الفاعلي، والضرر الغائي، فإن سبب الضرر هو شر النفس، وغايته عقوبة الذنب، وعلى هذا فيكون قد استعاذ من الضرر المفقود الذي انعقد سببه ألا يكون؛ فإن النفس مقتضية للشر، والأعمال مقتضية للعقوبة، فاستعاذ أن يكون شر نفسه، أو أن تكون عقوبة عمله، وقد يقال : بل الشر هو الصفة القائمة بالنفس الموجبة للذنوب، وتلك موجودة كوجود الشيطان، فاستعاذ منها أن تضره أو تصيبه، كما يقال : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، وإن حمل على الشرور الواقعة، وهي الذنوب من النفس، فهذا قسم ثالث
وَسُئِلَ شيخُ الإِسلاَم عما تجب له الطهارتان : الغسل، والوضوء ؟
فأجاب :
ذلك واجب للصلاة بالكتاب والسنة والإجماع، فرضها ونفلها، واختلف في الطواف ومس المصحف . واختلف ـ أيضاً ـ في سجود التلاوة، وصلاة الجنازة، هل تدخل في مسمى الصلاة التي تجب لها الطهارة ؟
وأما الاعتكاف فما علمت أحدا قال إنه يجب له الوضوء، وكذلك الذكر والدعاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحائض بذلك .
وأما القراءة ففيها خلاف شاذ :
فمذهب الأربعة تجب الطهارتان لهذا كله إلا الطواف مع الحدث الأصغر، فقد قيل : فيه نزاع . والأربعة ـ أيضًا ـ لا يجوزون للجنب قراءة القرآن، ولا اللبث في المسجد، إذا لم يكن على وضوء، وتنازعوا في قراءة الحائض، وفي قراءة الشيء اليسير . وفي هذا نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره، كما قد ذكر في غير هذا الموضع .
ومذهب أهل الظاهر : يجوز للجنب أن يقرأ القرآن، واللبث في المسجد، هذا مذهب داود وأصحابه، وابن حزم . وهذا منقول عن بعض السلف .(2/138)
وأما مذهبهم فيما تجب له الطهارتان ؟ فالذي ذكره ابن حزم أنها لا تجب إلا لصلاة : هى ركعتان، أو ركعة الوتر، أو ركعة في الخوف، أو صلاة الجنازة، ولا تجب عنده الطهارة لسجدتى السهو، فيجوز عنده للجنب والمحدث والحائض قراءة القرآن، والسجود فيه، ومس المصحف قال : لأن هذه الأفعال خير مندوب إليها، فمن ادعى منع هؤلاء منها فعليه الدليل .
وأما الطواف فلا يجوز للحائض بالنص، والإجماع .
وأما الحدث ففيه نزاع بين السلف، وقد ذكر عبد الله بن الإمام أحمد في المناسك بإسناده عن النخعى، وحماد بن أبي سليمان : أنه يجوز الطواف مع الحدث الأصغر، وقد قيل إن هذا قول الحنفية، أو بعضهم . وأما مع الجنابة والحيض فلا يجوز عند الأربعة، لكن مذهب أبي حنيفة أن ذلك واجب فيه لا فرض، وهو قول في مذهب أحمد . وظاهر مذهبه كمذهب مالك والشافعي أنه ركن فيه . والصحيح في هذا الباب ما ثبت عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو أن مس المصحف لا يجوز للمحدث، ولا يجوز له صلاة جنازة، ويجوز له سجود التلاوة . فهذه الثلاثة ثابتة عن الصحابة .(2/139)
وأما الطواف فلا أعرف الساعة فيه نقلا خاصًا عن الصحابة، لكن إذا جاز سجود التلاوة مع الحدث، فالطواف أولى، كما قاله من قاله من التابعين . قال البخاري في باب سجدة المسلمين مع المشركين : والمشرك نجس ليس له وضوء، وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء ووقع في بعض نسخ البخاري يسجد على وضوء . قال ابن بطال في شرح البخاري : الصواب إثبات غير؛ لأن المعروف عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير وضوء . ذكر ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، حدثنا أبو الحسن - يعنى عبيد ابن الحسن ـ عن رجل زعم أنه نسيه عن سعيد بن جبير قال : كان عبد الله بن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب، فيقرأ السجدة فيسجد، وما يتوضأ . وذكر عن وكيع عن زكريا عن الشعبي في الرجل يقرأ السجدة على غير وضوء، قال : يسجد حيث كان وجهه .
قال ابن المنذر : واختلفوا في الحائض تسمع السجدة فقال عطاء وأبو قِلابة، والزهري، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم وقتادة : ليس عليها أن تسجد، وبه قال مالك والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي . وقد روينا عن عثمان بن عفان قال تومئ برأسها . وبه قال سعيد بن المسيب قال تومئ، وتقول : لك سجدت .
وقال ابن المنذر في ذكر من سمع السجدة وهو على غير وضوء : قال أبو بكر، واختلفوا في ذلك . فقالت طائفة يتوضأ ويسجد، هكذا قال النخعي وسفيان الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي . وقد روينا عن النخعي قولا ثالثًا أنه يتيمم ويسجد، وروينا عن الشعبي قولا ثالثًا أنه يسجد حيث كان وجهه . وقال ابن حزم ـ وقد روي عن عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب ـ تومئ الحائض بالسجود، وقال سعيد : وتقول : رب لك سجدت . وعن الشعبي جواز سجود التلاوة إلى غير القبلة .(2/140)
وأما صلاة الجنازة، فقد قال البخاري : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من صلى على الجنازة ) . وقال : ( صلوا على صاحبكم ) ، وقال : ( صلوا على النجاشي ) سماها صلاة وليس فيها ركوع ولا سجود، ولا يتكلم فيها، وفيها تكبير، وتسليم . قال : وكان ابن عمر لا يصلى إلا طاهرًا، ولا يصلى عند طلوع الشمس، ولا غروبها، ويرفع يديه .
قال ابن بطال : عرض البخاري للرد على الشعبي، فإنه أجاز الصلاة على الجنازة بغير طهارة، قال : لأنها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود . والفقهاء مجمعون من السلف والخلف على خلاف قوله، فلا يلتفت إلى شذوذه، وأجمعوا أنها لا تصلى إلا إلى القبلة، ولو كانت دعاء كما زعم الشعبي لجازت إلى غير القبلة . قال : واحتجاج البخاري في هذا الباب حسن .
قلت : فالنزاع في سجود التلاوة، وفي صلاة الجنازة . قيل : هما جميعًا ليسا صلاة، كما قال الشعبي ومن وافقه، وقيل : هما جميعاً صلاة تجب لهما الطهارة . والمأثور عن الصحابة وهو الذي تدل عليه النصوص والقياس : الفرق بين الجنازة، والسجود المجرد سجود التلاوة والشكر . وذلك لأنه قد ثبت بالنص لا صلاة إلا بطهور، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) . وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول ) .
وهذا قد دل عليه القرآن بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الآية [ المائدة : 6 ] ، وقد حرم الصلاة مع الجنابة والسكر في قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ} [ النساء : 43 ] .(2/141)
وثبت ـ أيضًا ـ أن الطهارة لا تجب لغير الصلاة، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن جريج : ثنا سعيد بن الحارث، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته من الخلاء، فقرب له طعام فأكل، ولم يمس ماء ) . قال ابن جريج وزادنى عمرو بن دينار عن سعيد بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : إنك لم تتوضأ . قال : ( ما أردت صلاة فأتوضأ ) قال عمرو : سمعته من سعيد بن الحارث .
والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلا، فإنه لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف، أنه أمر بالوضوء للطواف، مع العلم بأنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر عُمَرَا متعددة، والناس يعتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضًا للطواف لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًا، ولو بينه لنقل ذلك المسلمون عنه ولم يهملوه، ولكن ثبت في الصحيح أنه لما طاف توضأ . وهذا وحده لا يدل على الوجوب، فإنه قد كان يتوضأ لكل صلاة، وقد قال : ( إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ) فيتيمم لرد السلام .
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه لما خرج من الخلاء وأكل وهو محدث قيل له : ألا تتوضأ ؟ قال : ( ما أردت صلاة فأتوضأ ) . يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة، وأن وضوءه لما سوى ذلك مستحب ليس بواجب . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما أردت صلاة فأتوضأ ) ليس إنكارًا للوضوء لغير الصلاة، لكن إنكار لإيجاب الوضوء لغير الصلاة؛ فإن بعض الحاضرين قال له : ألا تتوضأ ؟ فكأن هذا القائل ظن وجوب الوضوء للأكل، فقال صلى الله عليه وسلم : ( ما أردت صلاة فأتوضأ ) فبين له أنه إنما فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة .(2/142)
والحديث الذي يروى : ( الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ) ، قد رواه النسائي، وهو يروى موقوفًا ومرفوعًا، وأهل المعرفة بالحديث لا يصححونه إلا موقوفًا ويجعلونه من كلام ابن عباس لا يثبتون رفعه، وبكل حال فلا حجة فيه؛ لأنه ليس المراد به أن الطواف نوع من الصلاة كصلاة العيد، والجنائز؛ ولا أنه مثل الصلاة مطلقًا، فإن الطواف يباح فيه الكلام بالنص والإجماع، ولا تسليم فيه، ولا يبطله الضحك والقهقهة، ولا تجب فيه القراءة باتفاق المسلمين، فليس هو مثل الجنازة، فإن الجنازة فيها تكبير وتسليم، فتفتح بالتكبير، وتختم بالتسليم .
وهذا حد الصلاة التي أمر فيها بالوضوء، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ) ، والطواف ليس له تحريم، ولا تحليل، وإن كبر في أوله، فكما يكبر على الصفا والمروة، وعند رمى الجمار، من غير أن يكون ذلك تحريمًا، ولهذا يكبر كلما حاذى الركن، والصلاة لها تحريم؛ لأنه بتكبيرها يحرم على المصلي ما كان حلالا له من الكلام، أو الأكل، أو الضحك، أو الشرب، أو غير ذلك، والطواف لا يحرم شيئًا، بل كل ما كان مباحًا قبل الطواف في المسجد، فهو مباح في الطواف، وإن كان قد يكره ذلك لأنه يشغل عن مقصود الطواف، كما يكره في عرفة، وعند رمي الجمار، ولا يعرف نزاعًا بين العلماء أن الطواف لا يبطل بالكلام والأكل والشرب والقهقهة، كما لا يبطل غيره من مناسك الحج بذلك . وكما لا يبطل الاعتكاف بذلك .(2/143)
والاعتكاف يستحب له طهارة الحدث، ولا يجب، فلو قعد المعتكف وهو محدث في المسجد لم يحرم، بخلاف ما إذا كان جنبًا أو حائضًا، فإن هذا يمنعه منه الجمهور، كمنعهم الجنب والحائض من اللبث في المسجد لا لأن ذلك يبطل الاعتكاف؛ ولهذا إذا خرج المعتكف للاغتسال كان حكم اعتكاف عليه في حال خروجه، فيحرم عليه مباشرة النساء في غير المسجد . ومن جوز له اللبث مع الوضوء، جوز للمعتكف أن يتوضأ ويلبث في المسجد، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره .
والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى الحائض عن الطواف، وبعث أبا بكر أميرًا على الموسم، فأمر أن ينادى : ( ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ) . وكان المشركون يحجون وكانوا يطوفون بالبيت عراة، فيقولون : ثياب عصينا الله فيها فلا نطوف فيها، إلا الحمس، ومن دان دينها . وفي ذلك أنزل الله : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [ الأعراف : 13 ] ، وقوله : {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} مثل طوافهم بالبيت عراة {قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [ الأعراف : 28 ] .
ومعلوم أن ستر العورة يجب مطلقا، خصوصًا إذا كان في المسجد الحرام والناس يرونه، فلم يجب ذلك لخصوص الطواف، لكن الاستتار في حال الطواف أوكد لكثرة من يراه وقت الطواف، فينبغى النظر في معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وهو أن يعرف مسمى الصلاة التي لا يقبلها الله إلا بطهور، التي أمر بالوضوء عند القيام إليها . وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي في السنن عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ) . ففي هذا الحديث دلالتان :(2/144)
إحداهما : أن الصلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فما لم يكن تحريمه التكبير، وتحليله التسليم لم يكن من الصلاة .
والثانية : أن هذه هي الصلاة التي مفتاحها الطهور، فكل صلاة مفتاحها الطهور، فتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فما لم يكن تحريمه التكبير، وتحليله التسليم، فليس مفتاحه الطهور، فدخلت صلاة الجنازة في هذا، فإن مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم .
وأما سجود التلاوة والشكر، فلم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه أن فيه تسليما، ولا أنهم كانوا يسلمون منه؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل وغيره من العلماء لا يعرفون فيه التسليم . وأحمد في إحدى الروايتين عنه لا يسلم فيه؛ لعدم ورود الأثر بذلك . وفي الرواية الأخرى يسلم واحدة أو اثنتين، ولم يثبت ذلك بنص، بل بالقياس، وكذلك من رأي فيه تسليما من الفقهاء ليس معه نص، بل القياس، أو قول بعض التابعين .
وقد تكلم الخطابي على حديث نافع عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد، وسجدنا معه . قال : فيه بيان أن السنة أن يكبر للسجود، وعلى هذا مذاهب أكثر أهل العلم، وكذلك يكبر إذا رفع رأسه من السجود، قال : وكان الشافعي وأحمد يقولان يرفع يديه إذا أراد أن يسجد . وعن ابن سيرين وعطاء : إذا رفع رأسه من السجود يسلم . وبه قال إسحاق بن راهويه .
قال : واحتج لهم في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم . وكان أحمد لا يعرف ـ وفي لفظ ـ لا يرى التسليم في هذا .(2/145)
قلت : وهذه الحجة إنما تستقيم لهم أن ذلك داخل في مسمى الصلاة، لكن قد يحتجون بهذا على من يسلم أنها صلاة، فيتناقض قوله . وحديث ابن عمر رواه البخاري في صحيحه وليس فيه التكبير . قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته . وفي لفظ : حتى ما يجد أحدنا مكانا لجبهته .
فابن عمر قد أخبر أنهم كانوا يسجدون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر تسليما، وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء، ومن المعلوم أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه أن السجود لا يكون إلى على وضوء، لكان هذا مما يعلمه عامتهم؛ لأنهم كلهم كانوا يسجدون معه، وكان هذا شائعا في الصحابة، فإذا لم يعرف عن أحد منهم أنه أوجب الطهارة لسجود التلاوة، وكان ابن عمر من أعلمهم وأفقههم وأتبعهم للسنة، وقد بقى إلى آخر الأمر ويسجد للتلاوة على غير طهارة، كان هو مما يبين أنه لم يكن معروفا بينهم أن الطهارة واجبة لها . ولو كان هذا مما أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم لكان ذلك شائعًا بينهم، كشياع وجوب الطهارة للصلاة، وصلاة الجنازة، وابن عمر لم يعرف أن غيره من الصحابة أوجب الطهارة فيها، ولكن سجودها على الطهارة أفضل باتفاق المسلمين .(2/146)
وقد يقال : إنه يكره سجودها على غير طهارة مع القدرة على الطهارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه مسلم لم يرد عليه حتى تيمم، وقال : كرهت أن أذكر الله إلاَّ على طهر، فالسجود أوكد من رد السلام . لكن كون الإنسان إذا قرأ وهو محدث يحرم عليه السجود، ولا يحل له أن يسجد للَّه إلا بطهارة، قول لا دليل عليه . وما ذكر أيضاً يدل : على أن الطواف ليس من الصلاة، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب ) والطواف والسجود لا يقرأ فيهما بأم الكتاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة ) والكلام يجوز في الطواف، والطواف ـ أيضًا ـ ليس فيه تسليم، لكن يفتتح بالتكبير، كما يسجد للتلاوة بالتكبير، ومجرد الافتتاح بالتكبير لا يوجب أن يكون المفتتح صلاة . فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه بشيء بيده، وكبر . وكذلك ثبت عنه : أنه كبر على الصفا والمروة، وعند رمى الجمار؛ ولأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه .(2/147)
وأما الحائض : فقد قيل : إنما منعت من الطواف لأجل المسجد، كما تمنع من الاعتكاف لأجل المسجد، والمسجد الحرام أفضل المساجد، وقد قال تعالى لإبراهيم : {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [ البقرة : 125 ] ، فأمر بتطهيره، فتمنع منه الحائض من الطواف، وغير الطواف وهذا من سر قول من يجعل الطهارة واجبة فيه، ويقول : إذا طافت وهى حائض عصت بدخول المسجد مع الحيض، ولا يجعل طهارتها للطواف كطهارتها للصلاة، بل يجعله من جنس منعها أن تعتكف في المسجد وهى حائض؛ ولهذا لم تمنع الحائض من سائر المناسك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحائض تقضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ) ، وقال لعائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ) . ولما قيل له عن صفية : إنها حائض قال : ( أحابستنا هي ؟ ) قيل له : إنها قد أفاضت، قال : ( فلا إذًا ) متفق عليه .
وقد اعترض ابن بطَّال على احتجاج البخاري بجواز السجود على غير وضوء بحديث ابن عباس : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ [ النجم ] فسجد، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ) وهذا السجود متواتر عند أهل العلم، وفي الصحيح ـ أيضًا ـ من حديث ابن مسعود قال : ( قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة النجم فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفًا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال : يكفينى هذا، قال : فرأيته بعدُ قُتِل كافرًا ) .(2/148)
قال ابن بطَّال : هذا لا حجة فيه؛ لأن سجود المشركين لم يكن على وجه العبادة للَّه، والتعظيم له، وإنما كان لما ألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر آلهتهم في قوله : {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [ النجم : 19، 20 ] ، فقال : تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن قد ترتجى، فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم . فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ما ألقى الشيطان على لسانه من ذلك أشفق وحزن له، فأنزل الله ـ تعالى ـ تأنيساً له وتسلية عما عرض له : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى قوله : {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [ الحج : 52 ] ، أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته .
فلا يستنبط من سجود المشركين جواز السجود على غير وضوء؛ لأن المشرك نجس لا يصح له وضوء، ولا سجود إلا بعد عقد الإسلام .
فيقال : هذا ضعيف، فإن القوم إنما سجدوا لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}
[ النجم : 59-62 ] ، فسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه امتثالا لهذا الأمر، وهو السجود للَّه والمشركون تابعوه في السجود الله .
وما ذكر من التمني إذا كان صحيحًا فإنه هو كان سبب موافقتهم له في السجود للَّه، ولهذا لما جرى هذا، بلغ المسلمين بالحبشة ذلك، فرجع منهم طائفة إلى مكة، والمشركون ما كانوا ينكرون عبادة الله وتعظيمه، ولكن كانوا يعبدون معه آلهة أخرى، كما أخبر الله عنهم بذلك، فكان هذا السجود من عبادتهم للَّه، وقد قال : سجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس .(2/149)
وأما قوله : لا سجود إلا بعد عقد الإسلام، فسجود الكافر بمنزلة دعائه للَّه . وذكره له، وبمنزلة صدقته . وبمنزلة حجهم للَّه، وهم مشركون فالكفار قد يعبدون الله وما فعلوه من خير أثيبوا عليه في الدنيا، فإن ماتوا على الكفر حبطت أعمالهم في الآخرة، وإن ماتوا على الإيمان فهل يثابون على ما فعلوه في الكفر ؟ فيه قولان مشهوران، والصحيح أنهم يثابون على ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) وغير ذلك من النصوص، ومعلوم أن اليهود والنصارى لهم صلاة وسجود . وإن كان ذلك لا ينفعهم في الآخرة إذا ماتوا على الكفر .
وأيضًا، فقد أخبر الله في غير موضع من القرآن عن سجود سحرة فرعون كما قال تعالى : {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [ الشعراء : 46-48 ] ، وذلك سجود مع إيمانهم . وهو مما قبله اللّه منهم، وأدخلهم به الجنة، ولم يكونوا على طهارة . وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه . ولو قرئ القرآن على كفار فسجدوا للَّه سجود إيمان باللَّه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أو رأوا آية من آيات الإيمان فسجدوا للَّه مؤمنين باللّه ورسوله، لنفعهم ذلك .
ومما يبين هذا أن السجود يشرع منفردًا عن الصلاة كسجود التلاوة، وسجود الشكر، وكالسجود عند الآيات، فإن ابن عباس لما بلغه موت بعض أمهات المؤمنين سجد، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا رأينا آية أن نسجد .(2/150)
وقد تنازع الفقهاء في السجود المطلق لغير سبب . هل هو عبادة، أم لا ؟ ومن سوغه يقول : هو خضوع للَّه، والسجود هو الخضوع قال تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [ البقرة : 58 ] ، قال أهل اللغة : السجود في اللغة هو الخضوع، وقال غير واحد من المفسرين : أمروا أن يدخلوا ركعا منحنين، فإن الدخول مع وضع الجبهة على الأرض لا يمكن، وقد قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} [ الحج : 18 ] ، وقال تعالى : {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [ الرعد : 15 ] ، ومعلوم أن سجود كل شيء بحسبه، ليس سجود هذه المخلوقات وضع جباهها على الأرض . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما غربت الشمس : ( إنها تذهب فتسجد تحت العرش ) . رواه البخاري ومسلم .
فَعُلِم أن السجود اسم جنس، وهو كمال الخضوع للَّه، وأعز ما في الإنسان وجهه، فَوَضْعُه على الأرض للَّه غاية خضوعه ببدنه، وهو غاية ما يقدر عليه من ذلك . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) وقال تعالى : {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [ العلق : 19 ] فصار من جنس أذكار الصلاة التي تشرع خارج الصلاة، كالتسبيح؛ والتحميد، والتكبير، والتهليل، وقراءة القرآن، وكل ذلك يستحب له الطهارة .(2/151)
ويجوز للمحدث فعل ذلك، بخلاف ما لا يفعل إلا في الصلاة كالركوع، فإن هذا لا يكون إلا جزءًا من الصلاة . وأفضل أفعال الصلاة السجود، وأفضل أقوالها القراءة، وكلاهما مشروع في غير الصلاة، فيسرت العبادة للَّه، لكن الصلاة أفضل الأعمال، فاشترط لها أفضل الأحوال .
واشترط للفرض ما لم يشترط للنفل، من القيام والاستقبال مع القدرة، وجاز التطوع على الراحلة في السفر، كما مضت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ثبت في الصحاح أنه كان يتطوع على راحلته في السفر قِبَل أي وجه توجهت به . وهذا مما اتفق العلماء على جوازه، وهو صلاة بلا قيام ولا استقبال للقبلة، فإنه لا يمكن المتطوع على الراحلة أن يصلى إلا كذلك، فلو نهى عن التطوع أفضى إلى تفويت عبادة الله التي لا يقدر عليها إلا كذلك، بخلاف الفرض . فإنه شيء مقدر يمكنه أن ينزل له ولا يقطعه ذلك عن سفره . ومن لم يمكنه النزول لقتال أو مرض أو وحل صلى على الدابة ـ أيضًا .
ورخص في التطوع جالساً؛ لكن يستقبل القبلة، فإن الاستقبال يمكنه مع الجلوس، فلم يسقط عنه، بخلاف تكليفه القيام فإنه قد يشق عليه ترك التطوع، وكان ذلك تيسيرًا للصلاة بحسب الإمكان، فأوجب الله في الفرض ما لا يجب في النفل .
وكذلك السجود دون صلاة النفل، فإنه يجوز فعله قاعدًا، وإن كان القيام أفضل، وصلاة الجنازة أكمل من النفل من وجه، فاشترط لها القيام بحسب الإمكان؛ لأن ذلك لا يتعذر، وصلاة النافلة فيها ركوع وسجود فهي أكمل من هذا الوجه . والمقصود الأكبر من صلاة الجنازة هو الدعاء للميت، ولهذا كان عامة ما فيها من الذكر دعاء .(2/152)
واختلف السلف والعلماء : هل فيها قراءة ؟ على قولين مشهورين، ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيها دعاء بعينه، فعلم أنه لا يتوقت فيها وجوب شيء من الأذكار، وإن كانت قراءة الفاتحة فيها سنة، كما ثبت ذلك عن ابن عباس . فالناس في قراءة الفاتحة فيها على أقوال : قيل : تكره . وقيل : تجب . والأشبه أنها مستحبة لا تكره ولا تجب، فإنه ليس فيها قرآن غير الفاتحة، فلو كانت الفاتحة واجبة فيها كما تجب في الصلاة التامة لشرع فيها قراءة زائدة على الفاتحة . ولأن الفاتحة نصفها ثناء على الله، ونصفها دعاء للمصلى نفسه، لا دعاء للميت، والواجب فيها الدعاء للميت، وما كان تتمة كذلك .
والمشهور عن الصحابة أنه إذا سلم فيها سلم تسليمة واحدة، لنقصها عن الصلاة التامة .
وقوله : ( من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاج ) . يقال : الصلاة المطلقة هي التي فيها ركوع وسجود . بدليل ما لو نذر أن يصلى صلاة . وهذه صلاة تدخل في قوله : ( مفتاح الصلاة الطُّهور . وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ) لكنها تقيد . يقال : صلاة الجنازة، ويقال : صلوا على الميت . كما قال تعالى : {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} [ التوبة : 84 ] .(2/153)
والصلاة على الميت قد بينها الشارع أنها دعاء مخصوص، بخلاف قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [ التوبة : 103 ] تلك قد بين أنها الدعاء المطلق الذي ليس له تحريم وتحليل، ولا يشترط له استقبال القبلة، ولا يمنع فيه من الكلام . والسجود المجرد لا يسمى صلاة، لا مطلقا ولا مقيدًا؛ ولهذا لا يقال : صلاة التلاوة، ولا صلاة الشكر؛ فلهذا لم تدخل في قوله : ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ) وقوله : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) ، فإن السجود مقصوده الخضوع، والذل له . وقيل لسهل بن عبد الله التسترى : أيسجد القلب ؟ قال : نعم . سجدة لا يرفع رأسه منها أبدًا .
ومسمى الصلاة لابد فيه من الدعاء فلا يكون مصليًا إلا بدعاء بحسب إمكانه، والصلاة التي يقصد بها التقرب إلى الله لابد فيها من قرآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجدًا ) فالسجود لا يكون فيه قرآن، وصلاة التقرب لابد فيها من قرآن، بخلاف الصلاة التي مقصودها الدعاء للميت فإنها بقرآن أكمل، ولكن مقصودها يحصل بغير قرآن .
وأما مس المصحف، فالصحيح أنه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة : سعد، وسلمان، وابن عمر . وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم، وقد أقر المشركين على السجود للَّه، ولم ينكره عليهم، فإن السجود للَّه خضوع : {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [ الرعد : 15 ] .(2/154)
وأما كلامه فله حرمة عظيمة؛ ولهذا ينهى أن يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود، فإذا نهى أن يقرأ في السجود، لم يجز أن يجعل المصحف مثل السجود، وحرمة المصحف أعظم من حرمة المسجد، والمسجد يجوز أن يدخله المحدث، ويدخله الكافر للحاجة، وقد كان الكفار يدخلونه . واختلف في نسخ ذلك، بخلاف المصحف فلا يلزم إذا جاز الطواف مع الحدث أن يجوز للمحدث مس المصحف؛ لأن حرمة المصحف أعظم . وعلى هذا فما روى عن عثمان وسعيد من أن الحائض تومئ بالسجود، هو لأن حدث الحائض أغلظ، والركوع هو سجود خفيف . كما قال تعالى : {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [ البقرة : 58 ] ، قالوا : ركعًا فرخص لها في دون كمال السجود .
وأما احتجاج ابن حزم على أن ما دون ركعتين ليس بصلاة بقوله : ( صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ) فهذا يرويه الأزدى عن على بن عبد الله البارقي عن ابن عمر، وهو خلاف ما رواه الثقات المعروفون عن ابن عمر، فإنهم رووا ما في الصحيحين أنه سئل عن صلاة الليل فقال : ( صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خِفْتَ الفجر فأوتر بواحدة ) ولهذا ضعف الإمام أحمد وغيره من العلماء حديث البارقي . ولا يقال هذه زيادة من الثقة، فتكون مقبولة لوجوه :
أحدها : أن هذا متكلم فيه .
الثاني : أن ذلك إذا لم يخالف الجمهور، وإلا فإذا انفرد عن الجمهور ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره .(2/155)
الثالث : أن هذا إذا لم يخالف المزيد عليه، وهذا الحديث قد ذكر ابن عمر : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال : ( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ) ومعلوم أنه لو قال : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة لم يجز ذلك، وإنما يجوز إذا ذكر صلاة الليل منفردة كما ثبت في الصحيحين، والسائل إنما سأله عن صلاة الليل، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد يجيب عن أعم مما سئل عنه ـ كما في حديث البحر لما قيل له : إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر، فقال : ( هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ) ، لكن يكون الجواب منتظما، كما في هذا الحديث .
وهناك إذا ذكر النهار لم يكن الجواب منتظما؛ لأنه ذكر فيه قوله : ( فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ) وهذا ثابت في الحديث لا ريب فيه .
فإن قيل : يحتمل أن يكون هذا قد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس آخر، كلاما مبتدأ لآخر : إما لهذا السائل، وإما لغيره .
قيل : كل من روى عن ابن عمر إنما رواه هكذا فذكروا في أوله السؤال، وفي آخره الوتر، وليس فيه إلا صلاة الليل، وهذا خالفهم، فلم يذكر ما في أوله ولا ما في آخره، وزاد في وسطه، وليس هو من المعروفين بالحفظ والاتقان؛ ولهذا لم يخرج حديثه أهل الصحيح ـ البخاري ومسلم .
وهذه الأمور وما أشبهها متى تأملها اللبيب، علم أنه غلط في الحديث وإن لم يعلم ذلك، أوجب ريبة قوية تمنع الاحتجاج به، على إثبات مثل هذا الأصل العظيم .
ومما يبين ذلك أن الوتر ركعة وهو صلاة، وكذلك صلاة الجنازة وغيرها، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بذلك بيان مسمى الصلاة وتحديدها، فإن الحد يطرد وينعكس .
فإن قيل : قصد بيان ما يجوز من الصلاة .(2/156)
قيل : ما ذكرتم جائز، وسجود التلاوة والشكر ـ أيضًا ـ جائز، فلا يمكن الاستدلال به، لا على الاسم، ولا على الحكم . وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ كما قال الإمام أحمد بن حنبل : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .
وأما سجود السهو : فقد جوزه ابن حزم أيضًا على غير طهارة، وإلى غير القبلة كسجود التلاوة بناء على أصله الضعيف؛ ولهذا لا يعرف عن أحد من السلف، وليس هو مثل سجود التلاوة والشكر؛ لأن هذا سجدتان يقومان مقام ركعة من الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ حديث الشك ـ : ( إذا شك أحدكم فلم يدر ثلاثًا صلى أم أربعًا فليطرح الشك وْليَبْنِ على ما استيقن، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإلا كانتا ترغيما للشيطان ) . وفي لفظ : ( وإن كانت صلاته تمامًا كانتا ترغيما ) . فجعلهما كالركعة السادسة التي تشفع الخامسة المزيدة سهوًا .
ودل ذلك على أنه يؤجر عليها؛ لأنه اعتقد أنها من تمام المكتوبة وفعلها تقربا إلى الله، وإن كان مخطئًا في هذا الاعتقاد . وفي هذا ما يدل على أن من فعل ما يعتقده قربة بحسب اجتهاده . إن كان مخطئًا في ذلك أنه يثاب على ذلك، وإن كان له علم أنه ليس بقربة يحرم عليه فعله .
وأيضا، فإن سجدتى السهو يفعلان : إما قبل السلام، وإما قريبًا من السلام فهما متصلان بالصلاة، داخلان فيها، فهما منها .
وأيضًا، فإنهما جبران للصلاة فكانتا كالجزء من الصلاة .
وأيضًا، فإن لهما تحليلاً وتحريمًا، فإنه يسلم منهما، ويتشهد، فصارتا أوكد من صلاة الجنازة .(2/157)
وفي الجملة، سجدتا السهو من جنس سجدتى الصلاة . لا من جنس سجود التلاوة والشكر؛ ولهذا يفعلان إلى الكعبة، وهذا عمل المسلمين من عهد نبيهم، ولم ينقل عن أحد أنه فعلها إلى غير القبلة، ولا بغير وضوء . كما يفعل ذلك في سجود التلاوة . وإذا كان السهو في الفريضة كان عليه أن يسجدهما بالأرض كالفريضة، ليس له أن يفعلهما على الراحلة .
وأيضا فإنهما واجبتان كما دل عليه نصوص كثيرة، وهو قول أكثر الفقهاء، بخلاف سجود الشكر، فإنه لا يجب بالإجماع، وفي استحبابه نزاع، وسجود التلاوة في وجوبه نزاع، وإن كان مشروعًا بالإجماع، فسجود التلاوة سببه القراءة فيتبعها .
ولما كان المحدث له أن يقرأ، فله أن يسجد بطريق الأولى، فإن القراءة أعظم من مجرد سجود التلاوة .
والمشركون قد سجدوا، وما كانوا يقرؤون القرآن، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود، فَعُلِم أن القرآن أفضل من هذه الحال .
وقوله : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) أي من الأفعال، فلم تدخل الأقوال في ذلك . ويفرق بين الأقرب والأفضل . فقد يكون بعض الأعمال أفضل من السجود، وإن كان في السجود أقرب : كالجهاد فإنه سنام العمل . إلا أن يراد السجود العام، وهو الخضوع . فهذا يحصل له في حال القراءة وغيرها، وقد يحصل للرجل في حال القراءة من الخشوع والخضوع ما لا يحصل له في حال السجود .
وهذا كقوله : ( أقرب ما يكون الرب ـ تعالى ـ من عبده في جوف الليل ) وقوله : ( ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل ) وقوله : ( إنه يدنو عشية عرفة ) .(2/158)
ومعلوم أن من الأعمال ما هو أفضل من الوقوف بعرفة، ومن قيام الليل، كالصلوات الخمس، والجهاد في سبيل الله . وقد قال تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [ البقرة : 186 ] ، فهو قريب ممن دعاه، وقد يكون غير الداعي أفضل من الداعي . كما قال : ( من شغله القرآن عن ذكرى ومسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين ) . والله أعلم .
وَسُئلَ عن المتنزه عن الأقمشة الثمينة مثل الحرير والكتان المتغالي في تحسينه وما ناسبها : هل في ترك ذلك أجر أم لا ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، أما ما حرمه اللّه ورسوله كالحرير، فإنه يثاب على تركه، كما يعاقب على فعله . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من يلبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة ) . وقال عن الحرير والذهب : ( هذا حرام على ذكور أمتي حل لإناثها ) .
وأما المباحات : فيثاب على ترك فضولها، وهو ما لا يحتاج إليه لمصلحة دينه، كما أن الإسراف في المباحات منهى عنه، كما قال تعالي : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [ الفرقان : 67 ] ، وقال تعالي عن أصحاب النار : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 45، 46 ] ، وقال ـ تعالي ـ : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا } [ الإسراء : 29 ] ، وقال ـ تعالي ـ : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } [ الإسراء : 26، 27 ] .(2/159)
والإسراف في المباحات هو مجاوزة الحد، وهو من العدوان المحرم، وترك فضولها هو من الزهد المباح . وأما الامتناع من فعل المباحات مطلقًا كالذي يمتنع من أكل اللحم، وأكل الخبز، أو شرب الماء، أو لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب، فهذا جاهل ضال من جنس زهاد النصاري . قال اللّه ـ تعالي ـ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 87، 88 ] ، نزلت هذه الآية بسبب أن جماعة من الصحابة كانوا قد عزموا على ترك أكل الطيبات، كاللحم ونحوه، وترك النكاح .
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما بال رجال يقول أحدهم : أمَّا أنا فأصوم ولا أفطر، ويقول الآخر : أما أنا فأقوم ولا أنام، ويقول الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم . لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
/وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا قائمًا في الشمس . فقال : ( ماهذا ؟ ) قالوا : هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه أن يستظل، وأن يتكلم، وأن يجلس، ويتم صومه ) . وقد قال تعالي : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 172 ](2/160)
فأمر بالأكل من الطيبات، والشكر له، والطيب هو ما ينفع الإنسان . وحرم الخبائث، وهو ما يضره، وأمر بشكره، وهو العمل بطاعته بفعل المأمور، وترك المحذور . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه ليرضي على العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ) . وقال تعالي : { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [ المؤمنون : 51 ] ، فمن أكل من الطيبات ولم يشكر، ولم يعمل صالحًا، كان معاقبًا على ما تركه من الواجبات، ولم تحل له الطيبات .
فإنه إنما أحلها لمن يستعين بها على طاعته، لا لمن يستعين بها على معصيته، كما قال تعالي : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ المائدة : 93 ] ، وقال الخليل : / { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 126 ] .
ولهذا لا يجوز أن يعان الإنسان بالمباحات على المعاصي، مثل من يعطي الخبز واللحم لمن يشرب عليه الخمر، ويستعين به على الفواحش .
ومن حرم الطيبات التي أحلها اللّه من الطعام واللباس والنكاح وغير ذلك، واعتقد أن ترك ذلك مطلقًا هو أفضل من فعله لمن يستعين به على طاعة اللّه، كان معتديا معاقبا على تحريمه ما أحل اللّه ورسوله، وعلى تعبده للّه ـ تعالي ـ بالرهبانية، ورغبته عن سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وعلى ما فرط فيه من الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب .(2/161)
وكذلك من أسرف في بعض العبادات : كسرد الصوم، ومداومة قيام الليل، حتى يضعفه ذلك عن بعض الواجبات، كان مستحقا للعقاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن عمرو : ( إن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه ) .
فأصل الدين، فعل الواجبات، وترك المحرمات . فما تقرب العبد/ إلى اللّه بأفضل من أداء ما افترض عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلى اللّه بالنوافل حتى يحبه . فالنوافل المستحبة التي لا تمنع الواجبات : مما يرفع اللّه بها الدرجات، وترك فضول المباحات، وهو ما لا يحتاج إليها لفعل واجب ولا مستحب مع الإيثار بها مما يثيب اللّه فاعله عليه، ومن تركها لمجرد البخل، لا للتقرب إلى اللّه لم يكن محمودًا .
ومن امتنع عن نوع من الأنواع التي أباحها اللّه على وجه التقرب بتركها، فهو مخطئ ضال، ومن تناول ما أباحه اللّه من الطعام واللباس مظهرًا لنعمة اللّه، مستعينا على طاعة اللّه، كان مثابا على ذلك، وقوله تعالي : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [ التكاثر : 8 ] أي : عن شكر النعيم، فيطالب العبد بأداء شكر نعمة اللّه على النعيم، فإن اللّه ـ سبحانه ـ لا يعاقب على ما أباح، وإنما يعاقب على ترك مأمور، وفعل محذور .
وهذه القواعد الجامعة تبين المسائل المذكورة وغيرها .
وأما الحرير : فهو حرام على الرجال، إلا في مواضع مستثناة ، فمن لبس ما حرم اللّه ورسوله فهو آثم .(2/162)
وأما الكتان والقطن ونحوهما فمن تركه مع الحاجة فهو جاهل ضال، ومن أسرف فيه فهو مذموم . ومن تجمل بلبسه إظهارًا لنعمة اللّه عليه، فهو مشكور على ذلك،/ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن اللّه إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يري أثر نعمه عليه ) ، وقال : ( إن اللّه جميل يحب الجمال ) . ومن ترك لبس الرفيع من الثياب تواضعا للّه ـ لا بخلا، ولا التزاما للترك مطلقا ـ فإن اللّه يثيبه على ذلك، ويكسوه من حلل الكرامة .
وتكره الشهرة من الثياب، وهو المترفع الخارج عن العادة . والمتخفض الخارج عن العادة؛ فإن السلف كانوا يكرهون الشهرتين، المترفع والمتخفض ، وفي الحديث : ( من لبس ثوب شهرة ألبسه اللّه ثوب مذلة ) . وخيار الأمور أوساطها .
والفعل الواحد في الظاهر يثاب الإنسان على فعله مع النية الصالحة ويعاقب على فعله مع النية الفاسدة، فمن حج ماشيا لقوته على المشي، وآثر بالنفقة كان مأجورًا أجرين : أجر المشي، وأجر الإيثار . ومن حج ماشيا؛ بخلا بالمال، إضرارًا بنفسه، كان آثما إثمين : إثم البخل، وإثم الإضرار . ومن حج راكبا؛ لضعفه عن المشي، وللاستعانة بذلك على راحته، ليتقوي بذلك على العبادة، كان مأجورًا أجرين . ومن حج راكبا يظلم الجمال، والحمال، كان آثما إثمين .
وكذلك اللباس : فمن ترك جميل الثياب؛ بخلا بالمال، لم يكن له أجر . ومن تركه متعبدًا بتحريم المباحات، كان آثما . ومن لبس/ جميل الثياب إظهارًا لنعمة اللّه، واستعانة على طاعة اللّه ، كان مأجورًا . ومن لبسه فخرًا وخيلاء، كان آثما . فإن اللّه لا يحب كل مختال فخور .(2/163)
ولهذا حرم إطالة الثوب بهذه النية، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من جر إزاره خيلاء لم ينظر اللّه يوم القيامة إليه ) ، فقال أبو بكر : يارسول اللّه، إن طرف إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال : ( يا أبا بكر، إنك لست ممن يفعله خيلا ) . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بينما رجل يجر إزاره خيلاء، إذ خسف اللّه به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ) .
فهذه المسائل ونحوها، تتنوع بتنوع علمهم واعتقادهم . والعبد مأمور أن يقول في كل صلاة : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] . واللّه ـ سبحانه وتعالي ـ أعلم .
فصل
وأما الأكل واللباس، فخير الهدي هدي محمدصلي الله عليه وسلم . وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه، ولا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، فكان إن حضر خبز ولحم، أكله . وإن حضر فاكهة وخبز ولحم، أكله . وإن حضر تمر وحده أو خبز وحده، أكله . وإن حضر حلو أو عسل طَعِمَه ـ أيضًا ـ وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان يأكل القِثَّاء بالرطب . فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول : لا آكل لونين، ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة .
وكان ـ أحيانا ـ يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، ولا يأكلون إلا التمر والماء . وأحيانا، يربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان لا يعيب طعامًا، فإن اشتهاه أكله، وإلا تركه . وأكل على /مائدته لحم ضب فامتنع من أكله، وقال : ( إنه ليس بحرام، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ) .
وكذلك اللباس، كان يلبس القميص والعمامة، ويلبس الإزار والرداء ويلبس الجبة(2/164)
والفَرُوج، وكان يلبس من القطن والصوف، وغير ذلك . لبس في السفر جبة صوف، وكان يلبس مما يجلب من اليمن وغيرها، وغالب ذلك مصنوع من القطن، وكانوا يلبسون من قباطي مصر، وهي منسوجة من الكتان . فسنته في ذلك تقتضي أن يلبس الرجل ويطعم مما يسره الله ببلده، من الطعام واللباس . وهذا يتنوع بتنوع الأمصار .
وقد كان اجتمع طائفة من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه، وعلي الامتناع من تزوج النساء، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 87، 88 ] ،
وفي الصحيحين عنه أنه بلغه أن رجالاً قال أحدهم : أما أنا، فأصوم لا أفطر . وقال الآخر : أما أنا، فأقوم لا أنام . وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء . وقال الآخر : أما أنا، فلا آكل اللحم . فقال : ( لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ، وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 172 ] فأمر بأكل الطيبات، والشكر صلى الله عليه وسلم، فمن حرم الطيبات كان معتدياً، ومن لم يشكر كان مفرطًا مضيعًا لحق الله . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ) . وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الطاعم الشاكر، بمنزلة الصائم الصابر ) .
فهذه الطريقة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعدل الطرق وأقومها . والانحراف عنها إلى وجهين :(2/165)
قوم يسرفون في تناول الشهوات، مع إعراضهم عن القيام بالواجبات، وقد قال تعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [ الأعراف : 31 ] ، وقال تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ مريم : 59 ] .
وقوم يحرمون الطيبات، ويبتدعون رهبانية، لم يشرعها الله ـ تعالي ـ ولا رهبانية في الإسلام . وقد قال تعالى : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة : 87 ] ،
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله أمر المؤمنين/بما أمر به المرسلين، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأني يستجاب لذلك . وكل حلال طيب، وكل طيب حلال . فإن الله أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، لكن جهة طيبه، كونه نافعًا لذيذًا .(2/166)
و الله حرم علينا كل ما يضرنا، وأباح لنا كل ما ينفعنا، بخلاف أهل الكتاب فإنه ـ بظلم منهم ـ حرم عليهم طيبات أحلت لهم، فحرم عليهم طيبات عقوبة لهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يحرم علينا شيئًا من الطيبات، والناس تتنوع أحوالهم في الطعام واللباس والجوع والشبع، والشخص الواحد يتنوع حاله، ولكن خير الأعمال ما كان صلى الله عليه وسلم أطوع، ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين، وقد يكون أشدهما . فليس كل شديد فاضلا، ولا كل يسير مفضولا، بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد، فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة، لا لمجرد تعذيب النفس . كالجهاد الذي قال فيه تعالي : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] .
/والحج هو الجهاد الصغير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة ـ رضي الله عنها ـ في العمرة : ( أجرك على قدر نَصَبِك ) وقال تعالى في الجهاد : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ التوبة : 210 ] .(2/167)
وأما مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة، فليس هذا مشروعًا لنا، بل أمرنا الله بما ينفعنا، ونهانا عما يضرنا . وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن : ( يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا ) ،وقال : ( هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا ) وروي عنه أنه قال : ( أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ) .
فالإنسان إذا أصابه في الجهاد والحج أو غير ذلك حر أو برد أو جوع، ونحو ذلك . فهو مما يحمد عليه، قال الله تعالى : { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [ التوبة : 81 ] .
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( الكفارات : إسباغ الوضوء / على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ) .
وأما مجرد بروز الإنسان للحر والبرد بلا منفعة شرعية، واحتفاؤه وكشف رأسه، ونحو ذلك مما يظن بعض الناس أنه من مجاهدة النفس، فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للإنسان، وطاعة صلى الله عليه وسلم، فلا خير فيه . بل قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً قائمًا في الشمس، فقال : ( ما هذا ؟ ) قالوا : هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم . فقال : ( مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه ) .
ولهذا نهي عن الصمت الدائم، بل المشروع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان يؤمن ب الله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت ) . فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خير من التكلم به .
وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولا ينفع ذا الجِدِّ منك الجِدُّ ) وهل هو بالخفض أو بالضم ؟ أفتونا مأجورين .(2/168)
/فأجاب :
الحمد لله، أما الأولي : فبالخفض . وأما الثانية : فبالضم . والمعني : أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده : أي لا ينجيه ويخلصه منك جده، وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح . و [ الجد ] هو الغني، وهو العظمة، وهو المال . بيَّن صلى الله عليه وسلم : أنه من كان له في الدنيا رئاسة ومال لم ينجه ذلك، ولم يخلصه من الله وإنما ينجيه من عذابه إيمانه وتقواه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين :
أحدهما : توحيد الربوبية، وهو ألا معطي لما منع الله، ولا مانع لما أعطه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو .
والثاني : توحيد الإلهية، وهو بيان ما ينفع، وما لا ينفع، وأنه ليس كل من أُعْطِي مالًا أو دنيا أو رئاسة، كان ذلك نافعًا له عند الله منجيًا له من عذابه، فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب . قال تعالي : { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ . كَلَّا } [ الفجر : 15 - 17 ] ، يقول : ما كل من وسعت عليه أكرمته، ولا كل من قدرت عليه أكون قد أهنته، بل هذا ابتلاء ليشكر العبد على السراء، ويصبر على الضراء، فمن رزق الشكر/والصبر، كان كل قضاء يقضيه الله خيرًا له، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء، شكر فكان خيرًا له . وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له ) .
وتوحيد الإلهية : أن يعبد الله، ولا يشرك به شيئًا، فيطيعه، ويطيع رسله، ويفعل ما يحبه ويرضاه .(2/169)
وأما توحيد الربوبية : فيدخل ما قدره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه وأرضاه، والعبد مأمور بأن يعبد الله، ويفعل ما أمر به، وهو توحيد الإلهية ويستعين الله على ذلك، وهو توحيد له، فيقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . والله أعلم .
فصل
قال الله تعالى : { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 185 ] . و [ اللام ] إما متعلقة بمذكور : أي { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ } . كما قال : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] . أو بمحذوف : أي ولتكملوا العدة [ ومن أجل ذلك ] شرع ذلك .
وهذا أشهر لأنه قال : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . فيجب على الأول أن يقال : ويريد لعلكم تشكرون، وفيه وَهَن .
لكن يحتج للأول بقوله تعالى : في آية الوضوء : { مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عليكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ المائدة : 6 ] . فإن آية الصيام وآية الطهارة متناسبتان في اللفظ والمعني، فقوله : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } بمنزلة قوله : / { مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عليكُم مِّنْ حَرَجٍ } . وقوله : { وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكُمْ } ، كقوله : { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .(2/170)
والمقصود هنا أن الله ـ سبحانه ـ أراد شرعًا : التكبير على ما هدانا . ولهذا قال من قال من السلف ـ كزيد بن أسلم ـ : هو التكبير ـ تكبير العيد، واتفقت الأمة على أن صلاة العيد مخصوصة بتكبير زائد، ولعله يدخل في التكبير صلاة العيد، كما سميت الصلاة تسبيحًا، وقيامًا، وسجودًا وقرآنا، وكما أدخلت صلاتا الجمع في ذكر الله في قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } [ البقرة : 189 ] . وأريد الخطبة والصلاة بقوله : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [ الجمعة : 9 ] . ويكون لأجل أن الصلاة لما سميت تكبيرًا، خصت بتكبير زائد، كما أن صلاة الفجر لما سميت قرآنا، خصت بقرآن زائد، وجعل طول القراءة فيها عوضًا عن الركعتين في الصلاة الرباعية . وكذلك [ صلاة الليل ] ، لما سميت قيامًا بقوله : { قُمِ اللَّيْلَ } [ المزمل : 2 ] خصت بطول القيام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القيام والركوع والسجود بالليل ما لا يطيله بالنهار . ولهذا قال بعض السلف : إن التطويل بالليل أفضل، وإن تكثير الركوع والسجود بالنهار أفضل .
/وكان التكبير ـ أيضًا ـ مشروعًا في خطبة العيد زيادة على الخطب الجمعية، وكان التكبير? ـ أيضًا ـ مشروعًا عندنا، وعند أكثر العلماء من حين إهلال العيد إلى انقضاء العيد، إلى آخر الصلاة والخطبة؛ لكن هل يقطعه المؤتم إذا شهد المصلى لكونه مشغولاً بعد ذلك بانتظار الصلاة ؟ أو يقطعه بالشروع في الصلاة للاشتغال عنه بعد ذلك بالصلاة والخطبة ؟ أو لا يقطعه إلى انقضاء الخطبة ؟ فيه خلاف عن أحمد وغيره . والصحيح أنه إلى آخر العيد .(2/171)
وقد قال تعالى في الحج : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } [ الحج : 28 ] . فقيل : الأيام المعلومات هي أيام الذبح، وذكر اسم الله التسمية على الأضحية والهدي، وهو قول مالك في رواية .
وقيل : هي أيام العشر، وهو المشهور عن أحمد، وقول الشافعي وغيره . ثم ذكر اسم الله فيها هو ذكره في العشر بالتكبير عندنا، وقيل : هو ذكره عند رؤية الهدي، وأظنه مأثورًا عن الشافعي . وفي صحيح البخاري أن ابن عمر وابن عباس كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما . وفي الصحيح عن أنس أنهم كانوا غداة عرفة، وهم ذاهبون من مني إلى عرفة يكبر منهم المكبر فلا ينكر عليه، ويلبي الملبي فلا ينكر عليه . وفي / أمثلة الأحاديث المرفوعة مثل قوله : ( فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) .
وعلى قول أصحابنا يكون [ ذكر اسم الله على ما رزقهم ] ، كقوله : { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] . وكقوله : { لَيْسَ عليكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] وكقوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عليكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ } إلى قوله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 151،152 ] .(2/172)
وعلى القول الآخر، يكون مثل قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عليكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عليه } [ المائدة : 4 ] ، وقوله : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها صَوَافَّ } [ الحج : 36 ] . ويدل عليه قوله : { مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } [ الحج : 34 ] ، فيدل على أن [ ما ] موصولة لا مصدرية، بمعني على الذي رزقهم من بهيمة الأنعام . وكذلك قوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } [ الحج : 34 ] . وعلى قولنا : يكون ذكر اسم الله عليها وقت الذبح، ووقت السوق بالتلبية عندها، وبالتكبير . يدل عليه أنه لو أراد مجرد التسمية لم يكن للأضحية بذلك اختصاص، فإن اسمه مذكور عند كل ذبح، لا فرق في ذلك بين الأضحية وغيرها، فما وجب فيها، وجب في غيرها، وما لم يجب، لم يجب .
/وأيضًا، فإنه لا يكون لقوله : { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } إلى قوله : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } [ الحج : 27،28 ] . فجعل إتيانهم إلى المشاعر ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات . ولو أراد الأضحية فقط، لم يكن للمشاعر بهذا اختصاص . فإن الأضحية مشروعة في جميع الأرض، إلا أن هذا الوجه يرد على قولنا بذكر اسم الله في جميع العشر في الأمصار . فيقال : لم خص ذلك بالإتيان إلى المشاعر ؟ وقد يحتج به من يري ذكر الله عند رؤية الهدي؛ لأن الهدي يساق إلى مكة، لكن عنده يجوز ذبح الهدي متى وصل . فأي فائدة لتوقيته بالأيام المعلومات ؟ ويجاب عن هذا بوجهين .
أحدهما : أن الذبح بالمشاعر أصل، وبقية الأمصار تبع لمكة، ولهذا كان عيد النحر العيد الأكبر، ويوم النحر يوم الحج الأكبر؛ لأنه يجتمع فيه عيد المكان والزمان .(2/173)
الثاني : أن ذكر الله هناك على ما رزقهم من الأضحية، والهدي جميعًا بخلاف غير مكة، فإنه ليس فيها إلا الأضحية، وهي مختصة بالأيام المعلومات . فإن الهدي عندنا مؤقت، فإذا ساق الهدي، لم ينحره إلا عند الإحلال، ولا يجوز له أن يحل حتى ينحر هديه، كما قال تعالى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [ البقرة : 196 ] ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في / حجة الوداع أن يحلوا إلا من ساق الهدي، فلا يحل حتى ينحره، وهذا إذا قدم به في العشر بلا نزاع . وأما إذا قدم به قبل العشر، ففيه روايتان :
فإن قيل : فإذا كان الكتاب والسنة قد أمرا بذكره في الأيام المعلومات، فهلا شرع التكبير فيها في أدبار الصلوات، كما شرع في أيام العيد ؟
قيل : كما شرع التكبير في ليلة الفطر إلى حين انقضاء العيد، ولم يشرع عقب الصلاة، لأن التكبير عقب الصلاة أوكد . فاختص به العيد الكبير، وأيام العيد خمسة، هي أيام الاجتماع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام مني عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب ) . وقد قال تعالى : { وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] وهي أيام التشريق في المشهور عندنا، وقول الشافعي، وغيره . وفيه قول آخر : أنها أيام الذبح . فعلى الأول يكون من ذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات، والتكبير عند رمي الجمار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ) فالذكر في هذه الآيات مطلق، وإن كانت السنة قد جاءت بالتكبير في عيد النحر في صلاته وخطبته ودبر صلواته ورمي جمراته والذكر في آية الصيام يعني بالتكبير على الهداية، فهذا / ذكر لله، وتكبير له على الهداية، وهناك على الرزق .(2/174)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أشرف على خيبر قال : ( الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) . وكان يكبر على الأشراف مثل التكبير إذا ركب دابة، وإذا علا نشزا من الأرض، وإذا صعد على الصفا والمروة . وقال جابر : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك . رواه أبو داود . وجاء التكبير مكررًا في الأذان في أوله وفي آخره، والأذان هو الذكر الرفيع، وفي أثناء الصلاة، وهو حال الرفع والخفض والقيام إليها، كما قال : ( تحريمها التكبير ) . وروي : ( أن التكبير يطفئ الحريق ) .
فالتكبير شرع ـ أيضًا ـ لدفع العدو من شياطين الإنس والجن، والنار التي هي عدو لنا، وهذا كله يبين أن التكبير مشروع في المواضع الكبار، لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال، أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة؛ ليبين أن الله أكبر، وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار، فيكون الدين كله لله، ويكون العباد له مكبرون، فيحصل لهم مقصودان : مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه،ولهذا شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر؛ لأن هذه الثلاث / أكبر ما يطلبه العبد، وهي جماع مصالحه . والهدي أعظم من الرزق والنصر، لأن الرزق والنصر قد لا ينتفع بهما إلا في الدنيا، وأما الهدي، فمنفعته في الآخرة قطعًا، وهو المقصود بالرزق والنصر، فخص بصريح التكبير؛ لأنه أكبر نعمة الحق . وذانك دونه، فوسع الأمر فيهما بعموم ذكر اسم الله .
فجماع هذا : أن التكبير مشروع عند كل أمر كبير من مكان وزمان وحال ورجال، فتبين أن الله أكبر لتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء ما سواه، ويكون له الشرف على كل شرف . قال تعالى فيما روي عنه رسوله صلى الله عليه وسلم : ( العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته ) .(2/175)
ولما قال سبحانه : { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 185 ] ذكر التكبير والشكر، كما في قوله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] . والشكر يكون بالقول، وهو الحمد . ويكون بالعمل كما قال تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } [ سبأ : 13 ] . فقرن بتكبير الأعياد الحمد . فقيل : الله أكبر، الله أكبر،لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد؛ لأنه قد طلب فيه التكبير والشكر . ولهذا روي في الأثر أنه يقال فيه : ( الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا ) ؛ ليجمع بين التكبير والحمد حمد الشكر، كما جمع بين / التحميد تحميد الثناء، والتكبير في قوله : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } [ الإسراء : 111 ] . فأمر بتحميده وتكبيره .
ومعلوم أن الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن أربع : ( سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ) ، وهي شِطرْان : فالتسبيح قرين التحميد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ) . أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة .
وقال صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم عن أبي ذر ـ : ( أفضل الكلام ما اصطفي الله لملائكته : سبحان الله وبحمده ) .(2/176)
وفي القرآن : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] ، { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ النصر : 3 ] . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ) ـ يتأول القرآن . هكذا في الصحاح عن عائشة فجعل قوله : ( سبحانك اللهم وبحمدك ) تأويل { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } . وقد قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ غافر : 55 ] . وقال : / { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الروم : 17،18 ] . والآثار في اقترانهما كثيرة .
وأما التهليل : فهو قرين التكبير، كما في كلمات الأذان : الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم بعد دعاء العباد إلى الصلاة : الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، فهو مشتمل على التكبير والتشهد أوله وآخره . وهو ذكر لله ـ تعالى ـ وفي وسطه دعاء الخلق إلى الصلاة، والفلاح . فالصلاة هي العمل . والفلاح هو ثواب العمل لكن جعل التكبير شفعًا، والتشهد وترًا، فمع كل تكبيرتين شهادة . وجعل أوله مضاعفًا على آخره، ففي أول الأذان يكبر أربعًا، ويتشهد مرتين والشهادتان جميعًا باسم الشهادة، وفي آخره التكبير مرتان فقط مع التهليل الذي لم يقترن به لفظ الشهادة، ولا الشهادة الأخرى .(2/177)
وهذا ـ والله أعلم ـ بمنزلة الركعتين الأولتين، من الصلاة، مع الركعتين الأخرىين، فإن الأولتان فضلتا بقراءة السورة، وبالجهر في القراءة، فحصل الفضل في قدر القراءة، ووصفها، كما أن الشطر الأول من الأذان، فضل في قدر الذكر، وفي وصفه، لكن الوصف هنا كون التوحيد قرن به لفظ أشهد، ولهذا حذف في الإقامة عند من يختار إيتارها? ـ وهي إقامة بلال ـ ما فضل به من القدر، كما يخفض / من صوت الإقامة؛ لأن هذا المزيد من جنس الأصل فأشبه حذف الركعتين الأخرىين في صلاة المسافر . وأما الكلمات الأصول، فلم يحذف منها شيء .
وهكذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، وصلاة الكسوف، وغيرهما تطويل أول العبادة على آخرها؛ لأسباب تقتضي ذلك .
وكما جمع بين التكبير والتهليل في الأذان، جمع بينهما في تكبير الإشراف، فكان على الصفا والمروة، وإذا علا شرفًا في غزوة أو حجة أو عمرة، يكبر ثلاثًا . ويقول : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده ) يفعل ذلك ثلاثًا . وهذا في الصحاح . وكذلك على الدابة كبر ثلاثًا، وهلل ثلاثًا، فجمع بين التكبير والتهليل . وكذلك حديث عدي بن حاتم الذي رواه أحمد والترمذي، فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( يا عدي ما يفرك ؟ أيفرك أن يقال : لا إله إلا الله، فهل تعلم مِنْ إله إلا الله ؟ يا عدي، ما يفرك ؟ أيفرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل من شيء أكبر مِن الله ) فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين التهليل والتكبير .(2/178)
/وفي صحيح مسلم حديث أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله، والحمد لله تملآن ـ أو قال : تملأ ـ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو : فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها ) . فأخبر أنه يملأ ما بين السماء والأرض، وهذا أعظم من مَلْئِه للميزان .
وفي الحديث الذي في الموطأ ـ حديث طلحة بن عبد الله بن كريز : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) . فجمع في هذا الحديث بين ( أفضل الدعاء وأفضل الثناء، فإن الذكر نوعان : دعاء، وثناء، فقال : أفضل الدعاء، دعاء يوم عرفة . وأفضل ما قلت : هذا الكلام ) . ولم يقل : أفضل ما قلت يوم عرفة : هذا الكلام . وإنما هو أفضل ما قلت مطلقًا . وكذلك في حديث رواه ابن أبي الدنيا : ( أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله ) .
وأيضًا، ففي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة : أعلاها قول لا إله إلا الله،وأدناها إماطة الأذي عن الطريق ) . فقد صرح بأن أعلى شعب / الإيمان هي هذه الكلمة .
وأيضًا، ففي صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يا أبي، أتدري أي آية في كتاب الله أعظم ؟ ) قال : { اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليهنك العلم أبا المنذر ) . فأخبر في هذا الحديث الصحيح أنها أعظم آية في القرآن وفي ذاك أنها أعلى شعب الإيمان، وهذا غاية الفضل . فإن الأمر كله مجتمع في القرآن والإيمان، فإذا كانت أعظم القرآن، وأعلى الإيمان، ثبت لها غاية الرجحان .(2/179)
وأيضًا، فإن التوحيد أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، وهو ثمن الجنة، ولا يصح إسلام أحد إلا به . ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة، وكل خطبة ليس فيها تشهد، فهي كاليد الجذماء، فمنزلته منزلة الأصل، ومنزلة التحميد والتسبيح منزلة الفرع .
وأيضًا، فإنه مشروع على وجه التعظيم، والجهر، وعند الأمور العظيمة مثل الأذان الذي ترفع به الأصوات، وعند الصعود على الأماكن العالية لما في ذلك من العلو والرفعة، ويجهر بالتكبير في الصلوات، وهو المشروع في الأعياد .
/وقال جابر : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك . رواه أبو داود وغيره . فبين أن التكبير مشروع عند العلو من الأمكنة، والأفعال، كما في الصلاة والأذان، والتسبيح مشروع عند الانخفاض في الأمكنة والأفعال، كما في السجود والركوع . ولهذا كانت السنة في التسبيح الإخفاء حين شرع، فلم يشرع من الجهر به والإعلان ما شرع من ذلك في التكبير والتهليل، ومعلوم أن الزيادة في وصف الذكر إنما هو للزيادة في أمره .
وأما حديث أبي ذر : ( أفضل الكلام ما اصطفي الله لملائكته : سبحان الله وبحمده ) . فيشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا في الكلام الذي لا يسن فيه الجهر، كما في الركوع والسجود، ونحوه، ولا يلزم أن يكون أفضل مطلقًا، بدليل أن قراءة القرآن أفضل من الذكر . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها في الركوع والسجود . وقال : ( إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، أما الركوع : فعظموا فيه الرب، وأما السجود : فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم ) .(2/180)
وهنا أصل ينبغي أن نعرفه . وهو أن الشيء إذا كان أفضل من حيث الجملة لم يجب أن يكون أفضل في كل حال، ولا لكل أحد، / بل المفضول في موضعه الذي شرع فيه أفضل من الفاضل المطلق، كما أن التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن، ومن التهليل والتكبير، والتشهد في آخر الصلاة والدعاء بعده أفضل من قراءة القرآن . وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله . فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة . فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة . فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًا أو إسلامًا ) ثم أتبع ذلك بقوله : ( ولا يؤمَّنَّ الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ) . فذكر الأفضل فالأفضل في الإمامة، ثم بين أن صاحب المرتبة ذو السلطان مثل الإمام الراتب كأمير الحرب في العهد القديم، وكأئمة المساجد ونحوهم مقدمون على غيرهم، وإن كان غيرهم أفضل منهم، وهذا كما أن الذهب أفضل من الحديد، والنَّورَة، وقد تكون هذه المعادن مقدمة على الذهب عند الحاجة إليها دونه، وهذا ظاهر .(2/181)
وكذلك ـ أيضًا ـ أكثر الناس يعجزون عن أفضل الأعمال . فلو أمروا بها لفعلوها على وجه لا ينتفعون به، أو ينتفعون انتفاعًا مرجوحًا، فيكون في حق أحد هؤلاء العمل الذي يناسبه به أفضل له مما ليس كذلك . ولهذا يكون الذكر لكثير من الناس أفضل من قراءة القرآن؛ لأن الذكر يورثه الإيمان، والقرآن يورثه العلم، والعلم بعد الإيمان . قال الله تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ } [ المجادلة : 11 ] . والقرآن يحتاج إلى فهم وتدبر، وقد يكون عاجزًا عن ذلك، لكن هؤلاء يغلطون فيعتقد أحدهم أن الذكر أفضل مطلقًا، وليس كذلك، بل قراءة القرآن في نفس الأمر أفضل من الذكر بإجماع المسلمين . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ) . رواه مسلم . وقال له رجل : إني لا أستطيع أن أحمل من القرآن شيئًا، فعلمني ما يجزئني في صلاتي . فقال : ( قل : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ) . ولهذا كان العلماء على أن الذكر في الصلاة بدل عن القراءة لا يجوز الانتقال إليه إلا عند العجز عن القراءة، بمنزلة التيمم مع الوضوء، وبمنزلة صيام الشهرين مع العتق، والصيام مع الهدي .
وفي الحديث الذي في الترمذي : ( ما تقرب العباد إلى الله بأفضل مما خرج منه ) . يعني القرآن . وفي حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن لله أهلين من الناس ) . قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : ( أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ) . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم أهل القرآن في المواطن، كما قدمهم يوم أحد في القبور، فأذن لهم أن يدفنوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، وقال : قدموا إلى القبلة أكثرهم قرآنا .(2/182)
/فقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما سئل : أي الكلام أفضل ؟ فقال : ( سبحان الله وبحمده ) . هذا خرج على سؤال سائل . فربما علم من حال السائل حالا مخصوصة، كما أنه لما قال : ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله ) . . إلى آخره . أراد بذلك من الذكر لا من القراءة، فإن قراءة القرآن أفضل من جنس الذكر من حيث الجملة، وإن كان هذا الكلام قد يكون أفضل من القراءة . كما أن الشهادتين في وقت الدخول في الإسلام، أو تجديده، أو عندما يقتضي ذكرهما مثل عقب الوضوء، ودبر الصلاة والأذان، وغير ذلك أفضل من القراءة . وكذلك في موافقة المؤذن، فإنه إذا كان يقرأ وسمع المؤذن، فإن موافقته في ذكر الأذان أفضل له ـ حينئذ ـ من القراءة حتى يستحب له قطع القراءة لأجل ذلك؛ لأن هذا وقت هذه العبادة يفوت بفوتها، والقراءة لا تفوت .
فنقول : الأحوال ثلاثة : حال يستحب فيها الإسرار، ويكره فيها الجهر؛ لأنها حال انخفاض كالركوع والسجود . فهنا التسبيح أفضل من التهليل والتكبير، وكذلك في بطون الأودية، وأمَّا ما السنة فيه الجهر والإعلان ـ كالإشراف والأذان ـ فالسنة فيه التهليل والتكبير، وأما ما يشرع فيه الأمران، فقد يكون هذا .
فصل(2/183)
وإذا عرف أن التحميد قرين التسبيح، وأن التهليل قرين التكبير، ففي تكبير الأعياد جمع بين القرينين، فجمع بين التكبير والتهليل، وبين التكبير والتحميد لقوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 185 ] ، فإن الهداية اقتضت التكبير عليها، فضم إليه قرينه، وهو التهليل . والنعمة اقتضت الشكر عليها، فضم إليه ـ أيضا ـ التحميد . وهذا كما أن ركوب الدابة لما اجتمع فيه أنه شرف من الأشراف، وأنه موضع نعمة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع عليها بين الأمرين، فإنه قال ـ سبحانه ـ : { لِتَسْتَوُوا على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عليه وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [ الزخرف : 13،14 ] ، فأمر بذكر نعمة الله عليه، وذكرها بحمدها، وأمر بالتسبيح الذي هو قرين الحمد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بالدابة فوضع رجله في الغرز قال : ( بسم الله ) . فلما استوي على ظهرها قال : ( الحمد لله ) . ثم قال : { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ، ثم حمد ثلاثا، وكبر ثلاثا، ثم قال : ( لا إله إلا أنت /سبحانك، ظلمت نفسي فاغفر لي ) ، ثم ضحك وقال : ( ضحكت من ضحك الرب إذا قال العبد ذلك يقول الله : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ) .(2/184)
فذكر بعد ذلك ذكر الإشراف وهو التكبير مع التهليل، وختمه بالاستغفار؛ لأنه مقرون بالتوحيد، كما قد رتب اقتران الاستغفار بالتوحيد في غير موضع، كقوله : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [ محمد : 19 ] ، وقوله : { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } [ هود : 2،3 ] ، وقوله : { فَاسْتَقِيمُوا إليه وَاسْتَغْفِرُوهُ } [ فصلت : 6 ] . فكان ذكره على الدابة مشتملا على الكلمات الأربع الباقيات الصالحات مع الاستغفار . فهكذا ذكر الأعياد اجتمع فيه التعظيم، والنعمة، فجمع بين التكبير والحمد . فالله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا .
وقد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثًا، ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير . فيشبهه بذكر الإشراف في تثليثه، وضم التهليل إليه، وهذا اختيار الشافعي .
وأما أحمد وأبو حنيفة وغيرهما، فاختاروا فيه ما رووه عن طائفة /من الصحابة . ورواه الدارقطني من حديث جابر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد ) ، فيشفعونه مرتين، ويقرنون به في إحداهما التهليل، وفي الأخري الحمد، تشبيهاً له بذكر الأذان . فإن هذا به أشبه؛ لأنه متعلق بالصلاة، ولأنه في الأعياد التي يجتمع فيها اجتماعا عاما، كما أن الأذان لاجتماع الناس، فشابه الأذان، في أنه تكبير اجتماع لا تكبير مكان، وأنه متعلق بالصلاة لا بالشرف، فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان، وهو في كل مرة مشفوع، وكل المأثور حسن .
ومن الناس من يثلثه أول مرة، ويشفعه ثاني مرة، وطائفة من الناس تعمل بهذا .(2/185)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=478 - TOP#TOPوقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد، أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف،وفي نوعي الأذان الترجيع وتركه، ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها، وكما قلنا في أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاحات، وأنواع الاستعاذات وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد، وأنواع صلاة الجنازة، وسجود السهو، والقنوت قبل الركوع وبعده، والتحميد بإثبات الواو / وحذفها، وغير ذلك . لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات، ويفضل على بعض إذا قام دليل يوجب التفضيل، ولا يكره الآخر .
ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد، لا يمكنه أن يأتي بتشهدين معا، ولا بقراءتين معا، ولا بصلاتي خوف معا، وإن فعل ذلك مرتين، كان ذلك منهيا عنه، فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة، ومكروه أخري، ولا تنظر إلى من قد يستحب الجمع في بعض ذلك، مثل ما رأيت بعضهم قد لفق ألفاظ الصلوات على النبي المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واستحب فعل ذلك الدعاء الملفق، وقال في حديث أبي بكر الصديق المتفق عليه ـ لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم : علمني دعاءً أدعو به في صلاتي ـ فقال : ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا ) ، وفي رواية : ( كثيرا ) ، ( وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) . فقال : يستحب أن يقول : كثيرا، كبيرا، وكذلك يقول في أشباه هذا : فإن هذا ضعيف، فإن هذا أولا ليس سنة، بل خلاف المسنون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك جميعه جميعا . وإنما كان يقول هذا تارة، وهذا تارة، إن كان الأمران ثابتين عنه، فالجمع بينهما ليس سنة، بل بدعة وإن كان جائزاً .(2/186)
/الثاني : أن جمع ألفاظ الدعاء، والذكر الواحد، على وجه التعبد مثل جمع حروف القراء كلهم لا على سبيل الدرس والحفظ، لكن على سبيل التلاوة والتدبر، مع تنوع المعاني، مثل أن يقرأ في الصلاة { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ اليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] . { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } . { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [ سبأ : 19 ] . { بَعِّد بين أسفارنا } . { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 74 ] ( عَمَّا تَعْمَلُونَ ) . { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } [ الأعراف : 157 ] . { آصارهم } . { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } [ المائدة : 6 ] . { وأَرجُلِكُم } . { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } [ البقرة : 222 ] . { حتى يَطْهُرْنَ } . { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا } [ البقرة : 229 ] . { إِلاَّ أَن يَخَافَا } . { أّ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } [ المائدة : 6 ] . { أو لَمَسْتُم } . ومعلوم أن هذا بدعة مكروهة قبيحة .
الثالث : أن الأذكار المشروعة ـ أيضاً ـ لو لفق الرجل له تشهدا من التشهدات المأثورة فجمع بين حديث ابن مسعود، و . . . وصلواته، وبين زاكيات تشهد عمر، ومباركات ابن عباس، بحيث يقول : التحيات لله، والصلوات والطيبات، والمباركات، والزاكيات، لم يشرع له ذلك، ولم يستحب، فغيره أولى بعدم الاستحباب .
/الرابع : أن هذا إنما يفعله من ذهب إلى كثرة الحروف والألفاظ . وقد ينقص المعنى، أو يتغير بذلك، ولو تدبر القول لعلم أن كل واحد من المأثور يحصل المقصود، وإن كان بعضها يحصله أكمل، فإنه إذا قال : ظلما كثيرا، فمتى كثر فهو كبير في المعنى، ومتى كبر، فهو كثير في المعنى .(2/187)
وإذا قال : ( اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد ) ، أو قال : ( اللهم صل على محمد، وأزواجه وذريته ) ، فأزواجه وذريته من آله بلا شك، أو هم آله . فإذا جمع بينهما وقال : ( على آل محمد، وعلى أزواجه وذريته ) ، لم يكن قد تدبر المشروع . فالحاصل أن أحد الذكرين إن وافق الآخر في أصل المعنى، كان كالقراءتين اللتين معناهما واحد، وإن كان المعنى متنوعا، كان كالقراءتين المتنوعتي المعنى . وعلى التقديرين، فالجمع بينهما في وقت واحد لا يشرع .
وأما الجمع في صلوات الخوف، أو التشهدات، أو الإقامة أو نحو ذلك بين نوعين، فمنهي عنه باتفاق المسلمين، وإذا كانت هذه العبادات القولية أو الفعلية لابد من فعلها على بعض الوجوه، كما لابد من قراءة القرآن على بعض القراءات، لم يجب أن يكون كل من فعل ذلك على بعض الوجوه إنما يفعله على الوجه الأفضل عنده، أو قد لا يكون / فيها أفضل . وإنما ذلك بمنزلة الطرق إلى مكة، فكل أهل ناحية يحجون من طريقهم، وليس اختيارهم لطريقهم؛ لأنها أفضل، بحيث يكون حجهم أفضل من حج غيرهم، بل لأنه لابد من طريق يسلكونها، فسلكوا هذه إما ليسرها عليهم، وإما لغير ذلك، وإن كان الجميع سواء، فينبغي أن يفرق بين اختيار بعض الوجوه المشروعة لفضله في نفسه عند مختاره، وبين كون اختيار واحد منها ضروري . والمرجح له عنده سهولته عليه، أو غير ذلك .(2/188)
والسلف كان كل منهم يقرأ ويصلي ويدعو ويذكر على وجه مشروع، وأخذ ذلك الوجه عنه أصحابه، وأهل بقعته، وقد تكون تلك الوجوه سواء، وقد يكون بعضها أفضل، فجاء في الخلف من يريد أن يجعل اختياره لما اختاره لفضله، فجاء الآخر فعارضه في ذلك، ونشأ من ذلك أهواء مردية مضلة،فقد يكون النوعان سواء عند الله ورسوله فتري كل طائفة طريقها أفضل،وتحب من يوافقها على ذلك، وتعرض عمن يفعل ذلك الآخر، فيفضلون ما سوي الله بينه، ويسوون ما فضل الله بينه، وهذا باب من أبواب التفرق والاختلاف الذي دخل على الأمة . وقد نهى عنه الكتاب والسنة،وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عين هذا الاختلاف في الحديث الصحيح،كما قررت مثل ذلك في [ الصراط المستقيم ] ،حيث قال : ( اقرؤوا كما علمتم ) . /فالواجب أن هذه الأنواع لا يفضل بعضها على بعض إلا بدليل شرعي،لا يجعل نفس تعيين واحد منها لضرورة أداء العبادة موجبا لرجحانه؛فإن الله إذا أوجب على عتق رقبة، أو صلاة جماعة، كان من ضرورة ذلك، أن أعتق رقبة وأصلى جماعة،ولا يجب أن تكون أفضل من غيرها،بل قد لا تكون أفضل بحال،فلابد من نظر في الفضل، ثم إذا فرض أن الدليل الشرعي يوجب الرجحان، لم يعب على من فعل الجائز، ولا ينفر عنه لأجل ذلك، ولا يزاد الفضل على مقدار ما فضلته الشريعة، فقد يكون الرجحان يسيرا .
لكن هنا مسألة تابعة، وهو أنه مع التساوي أو الفضل، أيما أفضل للإنسان : المداومة على نوع واحد من ذلك، أو أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ؟ فمن الناس من يداوم على نوع من ذلك مختارا له، أو معتقدا أنه أفضل، ويري أن مداومته على ذلك النوع أفضل . وأما أكثرهم فمداومته عادة، ومراعاة لعادة أصحابه وأهل طريقته، لا لاعتقاد الفضل .(2/189)
والصواب أن يقال : التنوع في ذلك متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم . فإن في هذا اتباعا للسنة والجماعة، وإحياء لسنته، وجمعا بين قلوب الأمة، وأخذاً بما في كل واحد من الخاصة، أفضل من المداومة على نوع معين، لم يداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم لوجوه :
/أحدها : أن هذا هو اتباع السنة والشريعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قد فعل هذا تارة، وهذا تارة، ولم يداوم على أحدهما، كان موافقته في ذلك هو التأسي والاتباع المشروع، وهو أن يفعل ما فعل على الوجه الذي فعل؛ لأنه فعله .
الثاني : أن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها، وزوال كثرة التفرق والاختلاف والأهواء بينها، وهذه مصلحة عظيمة، ودفع مفسدة عظيمة، ندب الكتاب والسنة إلى جلب هذه، ودرء هذه، قال الله تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ } [ آل عمران : 105 ] . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 ] .
الثالث : أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن أن يشبه بالواجب، فإن المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب . ولهذا أكثر هؤلاء المداومين على بعض الأنواع الجائزة أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه، وقلب غيره أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات؛ لأجل العادة التي جعلت الجائز كالواجب .
الرابع : أن في ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع، فإن كل نوع لابد له من خاصة، وإن كان مرجوحا، فكيف إذا كان / مساوياً، وقد قدمنا أن المرجوح يكون راجحاً في مواضع ؟ !(2/190)
الخامس : أن في ذلك وضعا لكثير من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله، ولا أثارة من علم، فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحاً له على غيره، ترجيحاً يحب من يوافقه عليه، ولا يحب من لم يوافقه عليه، بل ربما أبغضه، بحيث ينكر عليه تركه له، ويكون ذلك سبباً لترك حقوق له وعليه، يوجب أن ذلك يصير إصراً عليه، لا يمكنه تركه، وغلا في عنقه يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به، وقد يوقعه في بعض ما نهي عنه .
وهذا القدر الذي قد ذكرته واقع كثيراً، فإن مبدأ المداومة على ذلك يورث اعتقادا ومحبة غير مشروعين، ثم يخرج إلى المدح والذم، والأمر والنهي، بغير حق، ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة والمعاداة غير المشروعين، من جنس أخلاق الجاهلية كأخلاق الأوس والخزرج في الجاهلية، وأخلاق . . .
ثم يخرج من ذلك إلى العطاء والمنع، فيبذل ماله على ذلك عطية ودفعاً، وغير ذلك من غير استحقاق شرعي، ويمنع من أمر الشارع / بإعطائه إيجابا أو استحبابا، ثم يخرج من ذلك إلى الحرب والقتال، كما وقع في بعض أرض المشرق، ومبدأ ذلك تفضيل ما لم تفضله الشريعة والمداومة عليه، وإن لم يعتقد فضله سبب لاتخاذه فاضلا اعتقاداً وإرادة فتكون المداومة على ذلك إما منهيا عنها، وإما مفضولة . والتنوع في المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل .(2/191)
السادس : أن في المداومة على نوع دون غيره، هجران لبعض المشروع وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه، حتى يعتقد أنه ليس من الدين، بحيث يصير في نفوس كثير من العامة أنه ليس من الدين، وفي نفوس خاصة هذه العامة عملهم مخالف علمهم، فإن علماءهم يعلمون أنه من الدين ثم يتركون بيان ذلك إما خشية من الخلق، وإما اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا من الرئاسة والمال، كما كان عليه أهل الكتاب، كما قد رأينا من تعود ألا يسمع إقامة إلا موترة، أو مشفوعة، فإذا سمع الإقامة الأخري، نفر عنها وأنكرها، ويصير كأنه سمع أذاناً ليس أذان المسلمين، وكذلك من اعتاد القنوت قبل الركوع أو بعده .
وهجران بعض المشروع سبب لوقوع العداوة والبغضاء بين الأمة . قال الله تعالى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَي أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ المائدة : 14 ] . / فأخبر ـ سبحانه ـ أن نسيانهم حظا مما ذكروا به سبب لإغراء العداوة والبغضاء بينهم . فإذا اتبع الرجل جميع المشروع المسنون، واستعمل الأنواع المشروعة، هذا تارة، وهذا تارة، كان قد حفظت السنة علما وعملاً، وزالت المفسدة المخوفة من ترك ذلك .
ونكتة هذا الوجه : أنه وإن جاز الاقتصار على فعل نوع، لكن حفظ النوع الآخر من الدين ليعلم أنه جائز مشروع، وفي العمل به تارة حفظ للشريعة، وترك ذلك قد يكون سببا لإضاعته ونسيانه .
السابع : أن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل : التسوية بين المتماثلين، وحرم الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده، ومن أعظم العدل العدل في الأمور الدينية، فإن العدل في أمر الدنيا من الدماء والأموال كالقصاص والمواريث، وإن كان واجباً وتركه ظلم، فالعدل في أمر الدين أعظم منه، وهو العدل بين شرائع الدين، وبين أهله .(2/192)
فإذا كان الشارع قد سوي بين عملين أو عاملين، كان تفضيل أحدهما من الظلم العظيم، وإذا فضل بينهما، كانت التسوية كذلك، والتفضيل أو التسوية بالظن وهوي النفوس من جنس دين الكفار، فإن جميع أهل الملل والنحل يفضل أحدهم دينه إما ظنا، وإما هوي، إما اعتقاداً، وإما اقتصاداً، وهو سبب التمسك به وذم غيره .
/فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شرع تلك الأنواع إما بقوله، وإما بعمله، وكثير منها لم يفضل بعضها على بعض، كانت التسوية بينها من العدل والتفضيل من الظلم، وكثير مما تتنازع الطوائف من الأمة في تفاضل أنواعه، لا يكون بينها تفاضل، بل هي متساوية . وقد يكون ما يختص به أحدهما مقاوماً لما يختص به الآخر، ثم تجد أحدهم يسأل : أيما أفضل هذا أو هذا ؟ وهي مسألة فاسدة، فإن السؤال عن التعيين فرع ثبوت الأصل، فمن قال إن بينهما تفاضلا حتى نطلب عين الفاضل ؟ !
والواجب أن يقال : هذان متماثلان، أو متفاضلان، وإن كانا متفاضلين : فهل التفاضل مطلقا، أو فيه تفصيل بحيث يكون هذا أفضل في وقت، وهذا أفضل في وقت ؟ ثم إذا كانت المسألة كما تري، فغالب الأجوبة صادرة عن هوي وظنون كاذبة خاطئة، ومن أكبر أسباب ذلك المداومة على ما لم تشرع المداومة عليه . والله أعلم .
وكتب رحمه الله، وهو في السجن :
ونحن - ولله الحمد والشكر - في نعم عظيمة، تتزايد كل يوم، ويجدد الله تعالى من نعمه نعمًا أخرى، وخروج الكتب كان من أعظم النعم فإني كنت حريصًا على خروج شيء منها؛ لتقفوا عليه وهم كرهوا خروج [ الإخنائية ] فاستعملهم الله في إخراج الجميع؛ وإلزام المنازعين بالوقوف عليه، وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى، ودين الحق، فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس .(2/193)
فإذا ظهرت فمن كان قصده الحق هداه الله، ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله، واستحق أن يذله الله ويخزيه، وما كتبت شيئا من هذا، ليكتم عن أحد، ولو كان مبغضًا . والأوراق التي فيها جواباتكم وصلت، وأنا طيب، وعيناي طيبتان، أطيب ما كانتا . ونحن في نعم عظيمة لا تُحصى ولا تُعد . والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه . ثم ذكر كلامًا وقال : كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير، والرحمة، والحكمة، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو القوي العزيز العليم الحكيم، ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] .
فالعبد عليه أن يشكر الله، ويحمده دائمًا على كل حال . ويستغفر من ذنوبه . فالشكر يوجب المزيد من النعم، والاستغفار يدفع النقم . ولا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له : إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=527 - TOP#TOPكتاب الشيخ إلى والدته يقول فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد بن تيمية إلى الوالدة السعيدة، أقر الله عينيها بنعمه، وأسبغ عليها جزيل كرمه، وجعلها من خيار إمائه وخدمه . سلام الله عليكم . ورحمة الله وبركاته . فإنا نحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير .
ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين، وإمام المتقين، محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا . كتابي إليكم عن نعم من الله عظيمة، ومنن كريمة، وآلاء جسيمة نشكر الله عليها، ونسأله المزيد من فضله . ونعم الله كلما جاءت في نمو، وازدياد، وأياديه جلت عن التعداد . وتعلمون أن مقامنا الساعة في هذه البلاد، إنما هو لأمور ضرورية، متى أهملناها؛ فسد علينا أمر الدين والدنيا .(2/194)
ولسنا والله مختارين للبعد عنكم، ولو حملتنا الطيور؛ لسرنا إليكم . ولكن الغائب عذره معه، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور فإنكم - ولله الحمد - ما تختارون الساعة إلا ذلك، ولم نعزم على المقام، والاستيطان شهرًا واحدًا، بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم . وادعوا لنا بالخيرة فنسأل الله العظيم أن يخير لنا ولكم وللمسلمين، ما فيه الخيرة، في خير وعافية .
ومع هذا فقد فتح الله من أبواب الخير، والرحمة والهداية، والبركة ما لم يكن يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، ونحن في كل وقت مهمومون بالسفر، مستخيرون الله سبحانه وتعالى . فلا يظن الظان أنا نؤثر على قربكم شيئًا من أمور الدنيا قط . بل ولا نؤثر من أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه . ولكن ثم أمور كبار، نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها . والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .
والمطلوب كثرة الدعاء بالخيرة فإن الله يعلم ولا نعلم ويقدر ولا نقدر وهو علام الغيوب . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سعادة ابن آدم استخارته الله ورضاه بما يقسم الله له ومن شقاوة ابن آدم : ترك استخارته الله وسخطه بما يقسم الله له ) .
والتاجر يكون مسافرًا؛ فيخاف ضياع بعض ماله، فيحتاج أن يقيم؛ حتى يستوفيه، وما نحن فيه أمر يجل عن الوصف ولا حول ولا قوة إلا بالله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كثيرًا كثيرًا، وعلى سائر من في البيت، من الكبار، والصغار، وسائر الجيران، والأهل والأصحاب واحدًا واحدًا، والحمد لله رب العالمين . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا .
وقال الشيخ بعد حمد الله تعالى، والصلاة على نبيه، صلى الله عليه وسلم . أما بعد . فإن الله - وله الحمد - قد أنعم على من نعمه العظيمة، ومننه الجسيمة، وآلائه الكريمة، ما هو مستوجب لعظيم الشكر، والثبات على الطاعة، واعتياد حسن الصبر على فعل المأمور .(2/195)
والعبد مأمور بالصبر في السراء، أعظم من الصبر في الضراء قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ هود : 9 ] ، { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ هود : 10 ] ، { إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ هود : 11 ] .
وتعلمون أن الله سبحانه من في هذه القضية من المنن التي فيها من أسباب نصر دينه . وعلو كلمته ونصر جنده وعزة أوليائه وقوة أهل السنة والجماعة وذل أهل البدعة والفرقة . وتقرير ما قرر عندكم من السنة، وزيادات على ذلك بانفتاح أبواب من الهدى، والنصر، والدلائل، وظهور الحق لأمم، لا يُحصي عددهم إلا الله تعالى، وإقبال الخلائق إلى سبيل السنة والجماعة، وغير ذلك من المنن، ما لا بد معه من عظيم الشكر، ومن الصبر وإن كان صبرًا في سراء . وتعلمون أن من القواعد العظيمة، التي هي من جماع الدين : تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين فإن الله تعالى يقول : { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [ الأنفال : 1 ] ويقول : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] ويقول : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 ] .(2/196)
وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف . وأهل هذا الأصل : هم أهل الجماعة كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة . وجماع السنة : طاعة الرسول . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة : ( إن الله يرضى لكم ثلاثًا : أن تعبدوه، ولا تُشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم ) .
وفي السنن من حديث زيد بن ثابت، وابن مسعود - فَقِيهَيْ الصحابة - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( نضر الله امرأً، سمع منا حديثًا فبلغه، إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه . ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر . ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم ) . وقوله [ لا يغل ] أي لا يحقد عليهن . فلا يبغض هذه الخصال قلب المسلم بل يحبهن ويرضاهن . وأول ما أبدأ به من هذا الأصل : ما يتعلق بي فتعلمون - رضي الله عنكم - أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين - فضلًا عن أصحابنا - بشيء أصلًا لا باطنًا ولا ظاهرًا ولا عندي عتب على أحد منهم . ولا لوم أصلًا، بل لهم عندي من الكرامة، والإجلال، والمحبة، والتعظيم، أضعاف أضعاف ما كان كل بحسبه، ولا يخلو الرجل . إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا، أو مخطئًا، أو مذنبًا . فالأول : مأجور مشكور . والثاني مع أجره على الاجتهاد : فمعفو عنه مغفور له . والثالث : فالله يغفر لنا، وله ولسائر المؤمنين . فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا، الأصل . كقول القائل : فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي، الشيخ بسببه فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان . ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان . فإني لا أسامح من أذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله .(2/197)
بل مثل هذا يعود على قائله بالملام، إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله، له إن شاء . وقد عفا الله عما سلف . وتعلمون أيضًا : أن ما يجري من نوع تغليظ، أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان : ما كان يجري بدمشق، ومما جرى الآن بمصر فليس ذلك غضاضة، ولا نقصًا، في حق صاحبه ولا حصل بسبب ذلك تغير منا، ولا بغض . بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين أرفع قدرًا وأنبه ذكرًا وأحب وأعظم، وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين التي يصلح الله بها بعضهم ببعض فإن المؤمن للمؤمن كاليدين، تغسل إحداهما الأخرى .
وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين . وتعلمون : أنا جميعًا متعاونون على البر والتقوى . واجب علينا نصر بعضنا بعضًا أعظم مما كان وأشد . فمن رام أن يؤذي بعض الأصحاب أو الإخوان لما قد يظنه من نوع تخشين - عومل به بدمشق أو بمصر الساعة أو غير ذلك - فهو الغالط .
وكذلك من ظن أن المؤمنين يبخلون عما أمروا به، من التعاون والتناصر، فقد ظن ظن سوء وإن الظن لا يُغني من الحق شيئا، وما غاب عنا أحد من الجماعة أو قدم إلينا الساعة، أو قبل الساعة، إلا ومنزلته عندنا اليوم أعظم مما كانت وأجل وأرفع . وتعلمون - رضي الله عنكم - : أن ما دون هذه القصية من الحوادث يقع فيها من اجتهاد الآراء، واختلاف الأهواء، وتنوع أحوال أهل الإيمان، وما لا بد منه - من نزغات الشيطان - ما لا يتصور أن يُعرى عنه نوع الإنسان .
وقد قال تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [ الأحزاب : 72 ] ، { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 73 ] .(2/198)
بل أنا أقول ما هو أبلغ من ذلك - تنبيهًا بالأدنى على الأعلى، وبالأقصى على الأدنى - فأقول : تعلمون كثرة ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب المفتراة، والأغاليط المظنونة، والأهواء الفاسدة، وأن ذلك أمر يجل عن الوصف . وكل ما قيل : من كذب وزور فهو في حقنا خير ونعمة . قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 11 ] .
وقد أظهر الله من نور الحق وبرهانه، ما رد به إفك الكاذب وبهتانه . فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه عليّ، أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم . وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي . والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي . وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذ فيهم . فلو كان الرجل مشكورًا على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سببًا في هذه القضية؛ لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة، لكن الله هو المشكور على حسن نعمه، وآلائه وأياديه، التي لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له .
وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم، وأهل العمل الصالح يشكرون على عملهم وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم . وأنتم تعلمون هذا من خلقي . والأمر أزيد مما كان وأوكد، لكن حقوق الناس بعضهم مع بعض وحقوق الله عليهم هم فيها تحت حكم الله .(2/199)
وأنتم تعلمون أن الصديق الأكبر في قضية الإفك التي أنزل الله فيها القرآن، حلف لا يصل مسطح بن أثاثة؛ لأنه كان من الخائضين في الإفك . فأنزل الله تعالى : { وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أولى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 22 ] ، فلما نزلت قال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي . فأعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق . ومع ما ذكر من العفو والإحسان وأمثاله وأضعافه والجهاد على ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة أمر لا بد منه { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ المائدة : 54 ] ، { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] { وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 56 ] . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وسلم تسليمًا .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=527 - TOP#TOPوكتب أيضًا :(2/200)
بسم الله الرحمن الرحيم، سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، ونحن لله الحمد والشكر في نعم متزايدة، متوافرة، وجميع ما يفعله الله فيه نصر الإسلام، وهو من نعم الله العظام . { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفي بِاللَّهِ شَهِيدًا } [ الفتح : 28 ] ، فإن الشيطان استعمل حزبه في إفساد دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه . ومن سنة الله : أنه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه؛ فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل؛ فيدمغه فإذا هو زاهق . والذي سعى فيه حزب الشيطان لم يكن مخالفة لشرع محمد صلى الله عليه وسلم وحده، بل مخالفة لدين جميع المرسلين : إبراهيم وموسى، والمسيح، ومحمد خاتم النبيين، صلى الله عليهم أجمعين . وكانوا قد سعوا في أن لا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطاب، ولا كتاب وجزعوا من ظهور الإخنائية فاستعملهم الله تعالى . حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم، وألزمهم بتفتيشه ومطالعته ومقصودهم إظهار، عيوبه وما يحتجون به فلم يجدوا فيه إلا ما هو حجة عليهم وظهر لهم جهلهم وكذبهم وعجزهم وشاع هذا في الأرض وأن هذا مما لا يقدر عليه إلا الله، ولم يمكنهم أن يظهروا علينا فيه عيبًا في الشرع، والدين بل غاية ما عندهم : أنه خولف مرسوم بعض المخلوقين، والمخلوق كائنًا من كان، إذا خالف أمر الله تعالى ورسوله لم يُجب، بل ولا يجوز طاعته في مخالفة أمر الله ورسوله، باتفاق المسلمين .(2/201)
وقول القائل : إنه يظهر البدع كلام يظهر فساده لكل مستبصر ويعلم أن الأمر بالعكس فإن الذي يظهر البدعة إما أن يكون لعدم علمه بسنة الرسول، أو لكونه له غرض وهوى يخالف ذلك، وهو أولى بالجهل بسنة الرسول واتباع هواهم بغير هدى من الله { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ممن هو أعلم بسنة الرسول منهم وأبعد عن الهوى والغرض في مخالفتها { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الجاثية : 18 ] ، { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شيئا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ الجاثية : 19 ] . وهذه قضية كبيرة لها شأن عظيم . ولتعلمن نبأه بعد حين .
ثم قال بعده : وكانوا يطلبون تمام الإخنائية فعندهم ما يطمهم أضعافها، وأقوى فقها منها وأشد مخالفة لأغراضهم . فإن الزملكانية قد بين فيها من نحو خمسين وجها : أن ما حكم به ورسم به مخالف لإجماع المسلمين وما فعلوه لو كان ممن يعرف ما جاء به الرسول ويتعمد مخالفته لكان كفرًا وردة عن الإسلام لكنهم جهال دخلوا في شيء، ما كانوا يعرفونه، ولا ظنوا أنه يظهر منه أن السلطنة تخالف مرادهم والأمر أعظم مما ظهر لكم ونحن ولله الحمد على عظيم الجهاد في سبيله . ثم ذكر كلامًا وقال : بل جهادنا في هذا مثل جهادنا يوم قازان، والجبلية، والجهمية، والاتحادية وأمثال ذلك . وذلك من أعظم نعم الله علينا، وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم ما أكل بطيخًا أصفر عمره، وقال الآخر : إن النبي صلى الله عليه وسلم أكل العنب دو، دو ؟
فأجاب :(2/202)
الحمد لله، قوله : أكل العنب : دو، دو كذب؛ لا أصل له، وأما البطيخ فقد كانوا يأكلون البطيخ، لكن المشهور عندهم كان البطيخ / الأخضر، وما ينقل عن الإمام أحمد : أنه امتنع عن أكل البطيخ؛ لعدم علمه بكيفية أكل النبي صلى الله عليه وسلم، كذب على الإمام أحمد . كان صلى الله عليه وسلم يأكل فاكهة بلده ما قدمت له فاكهة فترك أكلها لا على سبيل الزهد الفاسد، ولا على سبيل الورع الفاسد، بل كان لا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، ويتبع قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 271 ] . فأمر بالأكل والشكر . فمن حرم الطيبات عليه، وامتنع من أكلها بدون سبب شرعي، فهو مذموم مبتدع، داخل في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ المائدة : 87 ] . ومن أكلها بدون الشكر الواجب فيها فهو مذموم، قال الله تعالى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [ التكاثر : 8 ] . أي : شكر النعيم . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ) ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله ليرضي عن العبد بأن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها ) . وكذلك الإسراف في الأكل مذموم، وهو مجاوزة الحد . ومن أكل بنية الاستعانة على عبادة كان مأجورًا على ذلك وكذلك ما ينفقه على أهل بيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة ) ، وقال لسعد : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في في امرأتك ) .(2/203)