مفهوم الابتلاء عند ابن تيمية رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فهذا كتاب عن مفهوم الابتلاء عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الذي أمضى سيرته الحياتية في ابتلاءات متعددة ومنها السجن في أمكنة متعددة من مصر إلى الشام حتى وافته المنية في السجن مظلوما
ومن ثم فأمثال هؤلاء العظماء عندما يتكلمون عن هذا الجانب فإنهم يحلقون في سماء عالية لأنهم يحسون ويشعرون ويتذوقون معنى الابتلاء والحكمة منه ولذلك تجدهم يرتقون إلى مدارج الصفاء والرفعة
اسمعوا إليه عندما يقول عليه شآبيب الرحمة والرضوان :(1/1)
قد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الأخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعلهم ممن ينصر به السلطان سلطان العلم والحجة والبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصر بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وجنده الغالبين لمن ناواهم من الأقران ومن أئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والأيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والأعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان الذي يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من الداعي إلى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان قال الله تعالى { الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 1 : 4 ] . فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب؛ وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكإذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14، 15 ] .(1/2)
وأخبر في كتابه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] ، وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد 31 ]
وأخبر ـ سبحانه ـ أنه عند وجود المرتدين؛ فلابد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 45 ] .(1/3)
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 144-148 ] .
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر، والشكر، كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له . إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فَصَبر كان خيرًا له ) . والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه .
ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان .(1/4)
فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
والله هو المسؤول أن يثبتكم، وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه الباطنة والظاهرة، وينصر دينه وكتابه، وعباده المؤمنين على الكافرين، والمنافقين الذي أمرنا بجهادهم والأغلاظ عليهم في كتابه المبين .
وأنتم فأبشروا من أنواع الخير والسرور بما لم يخطر في الصدور . وشأن هذه [ القضية ] وما يتعلق بها أكبر مما يظنه من لا يراعى إلا جزئيات الأمور؛ ولهذا كان فيما خاطبت به أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي إن قلت : هذه [ القضية ] ليس الحق فيها لي بل لله ولرسوله وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين، ولا أنكس راية المسلمين . ولا أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، وفلان .
نعم يمكنني ألا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إليَّ وافترى عليَّ، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا كله مبذول مني ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك، وكنت قد قلت له : الضرر في هذه [ القضية ] ليس عليَّ، بل عليكم، فإن الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه، ويبغضون أولياءه والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من التتار ونحوهم .
وهم دبَّروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار، وبعضهم مقيم بالشام وغيره، ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن إذكرها، ولا أسمِّي من دخل في ذلك حتى تشاوروا نائب السلطان، فإن إذن في ذلك ذكرت لك ذلك، وإلا فلا يقال ذلك له، وما أقوله فاكشفوه أنتم، فاستعجب من ذلك وقال : يا مولانا، إلا تسمى لي أنت أحدًا ؟ فقلت : وأنا لا أفعل ذلك، فإن هذا لا يصلح .
لكن تعرفون من حيث الجملة أنهم قصدوا فساد دينكم، ودنياكم، وجعلوني إمامًا تسترًا، لعلمهم بأني أواليكم، وأسعى في صلاح دينكم ودنياكم، وسوف ـ إن شاء الله ـ ينكشف الأمر .(1/5)
قلت له : وإلا فأنا على أي شيء أخاف ! إن قتلت كنت من أفضل الشهداء ! وكان عليَّ الرحمة والرضوان إلى يوم القيامة ! وكان على من قتلني اللعنة الدائمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة ! ليعلم كل من يؤمن بالله ورسوله أني إن قتلت لأجل دين الله، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله عليَّ، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله على في هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه ! لا أقطاعي ! ولا مدرستي ! ولا مالي ! ولا رياستي وجاهي .
وإنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا والآخرة، وهذا كان مقصود العدو الذي أثار هذه الفتنة .
****************
قال تعالى مبينا أن الابتلاء أمر مبرم لا مفر للمؤمن منه :
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } (155) سورة البقرة
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (186) سورة آل عمران
لا بد من تربية النفوس بالبلاء , ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد , وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . .(1/6)
لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة , كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف . والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى . فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين . وكلما تألموا في سبيلها , وكلما بذلوا من أجلها . . كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها . كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها . . إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم:لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء , ولا صبروا عليه . . وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها , مقدرين لها , مندفعين إليها . . وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا . .
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى . فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ; وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد . والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون , والران عن القلوب .
وأهم من هذا كله , أو القاعدة لهذا كله . . الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها , وتتوارى الأوهام وهي شتى , ويخلو القلب إلى الله وحده . لا يجد سندا إلا سنده . وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات , وتتفتح البصيرة , وينجلي الأفق على مد البصر . . لا شيء إلا الله . . لا قوة إلا قوته . . لا حول إلا حوله . . لا إرادة إلا إرادته . . لا ملجأ إلا إليه . . وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح . .
*************
وقال تعالى مبينا أن الجنة لها ثمن لا بد من دفعه :
{(1/7)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (214) سورة البقرة
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (142) سورة آل عمران
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) سورة العنكبوت
إن الإيمان أمانة الله في الأرض , لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة , وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص . وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة , وعلى الأمن والسلامة , وعلى المتاع والإغراء . وإنها لأمانة الخلافة في الأرض , وقيادة الناس إلى طريق الله , وتحقيق كلمته في عالم الحياة . فهي أمانة كريمة ; وهي أمانة ثقيلة ; وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ; ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء .
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ; ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه , ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ; ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان . وهذه هي الصورة البارزة للفتنة , المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة . ولكنها ليست أعنف صور الفتنة . فهناك فتن كثيرة في صور شتى , ربما كانت أمر وأدهى .(1/8)
هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه , وهو لا يملك عنهم دفعا . وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ; وينادونه باسم الحب والقرابة , واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك . وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير .
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين , ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين , تهتف لهم الدنيا , وتصفق لهم الجماهير , وتتحطم في طريقهم العوائق , وتصاغ لهم الأمجاد , وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد , ولا يحامي عنه أحد , ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا .
وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة , حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة ; وهو وحده موحش غريب طريد .
وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام . فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة , وهي مع ذلك راقية في مجتمعها , متحضرة في حياتها , يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان . ويجدها غنية قوية , وهي مشاقة لله !
وهنالك الفتنة الكبرى . أكبر من هذا كله وأعنف . فتنة النفس والشهوة . وجاذبية الأرض , وثقلة اللحم والدم , والرغبة في المتاع والسلطان , أو في الدعة والاطمئنان . وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه , مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس , وفي ملابسات الحياة , وفي منطق البيئة , وفي تصورات أهل الزمان !
فإذا طال الأمد , وأبطأ نصر الله , كانت الفتنة أشد وأقسى . وكان الابتلاء أشد وأعنف . ولم يثبت إلا من عصم الله . وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان , ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى , أمانة السماء في الأرض , وأمانة الله في ضمير الإنسان .(1/9)
وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء , وأن يؤذيهم بالفتنة . ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة . فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ; وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات , وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام , وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه , وعلى الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .
والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ; وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع . وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل . وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات , فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا ; وأقواها طبيعة , وأشدها اتصالا بالله , وثقة فيما عنده من الحسنيين:النصر أو الأجر , وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية . مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار .
وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن ; وبما بذلوا لها من الصبر على المحن ; وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات . والذي يبذل من دمه وأعصابه , ومن راحته واطمئنانه , ومن رغائبه ولذاته . ثم يصبر على الأذى والحرمان ; يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل ; فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله . وما يشك مؤمن في وعد الله . فإن أبطأ فلحكمة مقدرة , فيها الخير للإيمان وأهله . وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله . وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة , ويقع عليهم البلاء , أن يكونوا هم المختارين من الله , ليكونوا أمناء على حق الله . وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء:
جاء في الصحيح:" أشد الناس بلاء الأنبياء , ثم الصالحون , ثم الأمثل فالأمثل , يبتلى الرجل على حسب دينه , فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء " . .
***************(1/10)
نسال الله تعالى أن يعيننا على محن وفتن هذه الدنيا وأن يتوفنا وهو راض عنا فكم من أناس عندما ابتلوا سقطوا على الطريق
أبو حمزة الشامي
21 جمادى الآخرة 1425 هـ الموافق 7/8/2004 م
**********************
قال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة :
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وآله وسلم تسليما أما بعد :(1/11)
قد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الأخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعلهم ممن ينصر به السلطان سلطان العلم والحجة والبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصر بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وجنده الغالبين لمن ناواهم من الأقران ومن أئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والأيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والأعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان الذي يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من الداعي إلى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان قال الله تعالى { الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 1 : 4 ] . فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب؛ وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكإذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14، 15 ] .(1/12)
وأخبر في كتابه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] ، وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد 31 ]
وأخبر ـ سبحانه ـ أنه عند وجود المرتدين؛ فلابد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 45 ] .(1/13)
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 144-148 ] .
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر، والشكر، كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لايقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له . إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فَصَبر كان خيرًا له ) . والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه .
ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان .(1/14)
فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
والله هو المسؤول أن يثبتكم، وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه الباطنة والظاهرة، وينصر دينه وكتابه، وعباده المؤمنين على الكافرين، والمنافقين الذي أمرنا بجهادهم والأغلاظ عليهم في كتابه المبين .
وأنتم فأبشروا من أنواع الخير والسرور بما لم يخطر في الصدور . وشأن هذه [ القضية ] وما يتعلق بها أكبر مما يظنه من لا يراعى إلا جزئيات الأمور؛ ولهذا كان فيما خاطبت به أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي إن قلت : هذه [ القضية ] ليس الحق فيها لي بل لله ولرسوله وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين، ولا أنكس راية المسلمين . ولا أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، وفلان .
نعم يمكنني ألا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إليَّ وافترى عليَّ، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا كله مبذول مني ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك، وكنت قد قلت له : الضرر في هذه [ القضية ] ليس عليَّ، بل عليكم، فإن الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه، ويبغضون أولياءه والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من التتار ونحوهم .
وهم دبَّروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار، وبعضهم مقيم بالشام وغيره، ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن إذكرها، ولا أسمِّي من دخل في ذلك حتى تشاوروا نائب السلطان، فإن إذن في ذلك ذكرت لك ذلك، وإلا فلا يقال ذلك له، وما أقوله فاكشفوه أنتم، فاستعجب من ذلك وقال : يا مولانا، إلا تسمى لي أنت أحدًا ؟ فقلت : وأنا لا أفعل ذلك، فإن هذا لا يصلح .
لكن تعرفون من حيث الجملة أنهم قصدوا فساد دينكم، ودنياكم، وجعلوني إمامًا تسترًا، لعلمهم بأني أواليكم، وأسعى في صلاح دينكم ودنياكم، وسوف ـ إن شاء الله ـ ينكشف الأمر .(1/15)
قلت له : وإلا فأنا على أي شيء أخاف ! إن قتلت كنت من أفضل الشهداء ! وكان عليَّ الرحمة والرضوان إلى يوم القيامة ! وكان على من قتلني اللعنة الدائمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة ! ليعلم كل من يؤمن بالله ورسوله أني إن قتلت لأجل دين الله، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله عليَّ، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله على في هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه ! لا أقطاعي ! ولا مدرستي ! ولا مالي ! ولا رياستي وجاهي .
وإنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا والآخرة، وهذا كان مقصود العدو الذي أثار هذه الفتنة .
وقلت : هؤلاء الذين بمصر من الأمراء ، والقضاة، والمشائخ ، إخواني وأصحابي ، أنا ما أسأت إلى أحد منهم قط، وما زلت محسنًا إليهم، فأي شيء بيني وبينهم ؟ ! ولكن لَبَّس عليهم المنافقون أعداء الإسلام . وأنا أقول لكم - لكن لم يتفق أني قلت هذا له : إن في المؤمنين من يسمع كلام المنافقين ويطيعهم، وإن لم يكن منافقًا، كما قال تعالى : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [ التوبة : 74 ] ، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { ولا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ إذاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ]
والنفاق له شعب ودعائم، كما أن للإيمان شعبًا ودعائم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ) . وفيهما أيضا أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر، وإذا اؤتمن خان ) .(1/16)
وقلت له : هذه القضية أكبر مما في نفوسكم، فإن طائفة من هؤلاء الأعداء ذهبوا إلى بلاد التتر . فقال : إلى بلاد التتر ؟ فقلت : نعم . هم من أحرص الناس على تحريك الشر عليكم إلى أمور أخرى لا يصلح أن إذكرها لك .
وكان قد قال لي : فأنت تخالف المذاهب الأربعة، وذكر حكم القضاة الأربعة، فقلت له : بل الذي قلته عليه الأئمة الأربعة المذاهب، وقد أحضرت في الشام أكثر من خمسين كتابًا، من كتب الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأهل الحديث . والمتكلمين، والصوفية، كلها توافق ما قلته بألفاظه، وفي ذلك نصوص سلف الأمة وأئمتها .
ولم يستطع المنازعون ـ مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه ـ أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه، وكان لما أعطاني الدرج . فتأملته فقلت له : هذا كله كذب؛ إلا كلمة واحدة، وهي أنه استوى على العرش حقيقة، لكن بلا تكييف، ولا تشبيه . قلت : وهذا هو في [ العقيدة ] بهذا اللفظ : بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل . فقال : فاكتب خطك بهذا . قلت : هذا مكتوب قبل ذلك في [ العقيدة ] ولم أقل بما يناقضه فأي فائدة في تجديد الخط ؟ ! .
وقلت : هذا اللفظ قد حكى إجماع أهل السنة والجماعة عليه غير واحد من العلماء، المالكية، والشافعية، وأهل الحديث، وغيرهم، وما في علماء الإسلام من ينكر ذلك، إلا هؤلاء الخصوم .
قلت : فإن هؤلاء يقولون : ما فوق العرش رب يُدْعى، ولا فوق السماء إله يُعْبَد، وما هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، ولكن صعد إلى السماء، ونزل . وأن الداعي لا يرفع يديه إلى الله . ومنهم من يقول : إن الله هو هذا الوجود، وأنا الله، وأنت الله، والكلب والخنزير والعذرة ! ويقول : إن الله حالٌّ في ذلك .(1/17)
فاستعظم ذلك، وهاله أن أحدًا يقول هذا . فقال : هؤلاء يعني ؟ ابن مخلوف وذويه . ففلت : هؤلاء ما سمعت كلامهم، ولا خاطبوني بشيء؛ فما يحل لي أن أقول عنهم ما لم أعلمه، ولكن هذا قول الذين نازعوني بالشام، وناظروني وصرحوا لي بذلك، وصرح أحدهم بأنه لا يقبل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في هذا الباب مما يخالفهم .
وجعل الرجل في أثناء الكلام يصغى لما أقوله، ويعيه، لما رأى غضبي؛ ولهذا بلغني من غير وجه أنه خرج فرحًا مسرورًا بما سمعه مني . وقال : هذا على الحق، وهؤلاء قد ضيعوا الله، وإلا فأين هو الله ؟ ! وهكذا يقول كل ذي فطرة سليمة . كما قاله جمال الدين الأخرم للملك الكامل لما خاطبه الملك الكامل في أمر هؤلاء ، فقال له الأخرم : هؤلاء قد ضيعوا إلهك، فاطلب لك إلهًا تعبده .
ومن المعلوم باتفاق المسلمين أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصيرحقيقة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، وإنما ينكر ذلك الفلاسفة الباطنية . فيقولون : نطلق عليه هذه الأسماء، ولا نقول : إنها حقيقة . وغرضهم بذلك جواز نفيها، فإنهم يقولون : لا حي حقيقة، ولا ميت حقيقة، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا سميع ولا أصم .
فإذا قالوا : إن هذه الأسماء مجاز، أمكنهم نفي ذلك؛ لأن علامة المجاز صحة نفيه . فكل من أنكر أن يكون اللفظ حقيقة لزمه جواز إطلاق نفيه، فمن أنكر أن يكون استوى على العرش حقيقة، فإنه يقول : ليس الرحمن على العرش استوى، كما أن من قال : إن لفظ الأسد للرجل الشجاع، والحمار للبليد ليس بحقيقة، فإنه يلزمه صحة نفيه . فيقول : هذا ليس بأسد، ولا بحمار، ولكنه آدمي .(1/18)
وهؤلاء يقولون لهم : لا يستوى الله على العرش . كقول إخوانهم : ليس هو بسميع ولا بصير، ولا متكلم؛ لأن هذه الألفاظ عندهم مجاز . فيأتون إلى محض ما أخبرت به الرسل عن الله ـ سبحانه ـ يقابلونه بالنفي والرد، كما يقابله المشركون بالتكذيب، لكن هؤلاء لا ينفون اللفظ مطلقًا .
وقال الطلمنكي [ هو أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى المعافري الأندلسي، صنف كتبًا كثيرة في السنة، وكان سيفًا مجردًا على أهل الأهواء والبدع ، توفي سنة 924هـ ] ـ أحد أئمة المالكية ـ قبل ابن عبد البر، والباجي، وطبقتهما ـ في [ كتاب الوصول إلى معرفة الأصول ] : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] ، ونحو ذلك من القرآن : أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته مستو على العرش كيف شاء .
وقال ـ أيضًا : قال أهل السنة في قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] : إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة، لا على المجاز . وقال ابن عبد البر في [ التمهيد ] ـ شرح الموطأ، وهو أشرف كتاب صنف في فنه ـ لما تكلم على حديث النزول قال : هذا حديث ثابت لا يختلف أهل الحديث في صحته . وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم : إنه في كل مكان، وليس على العرش .
قال : والدليل على صحة ما قاله أهل الحق، قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] .
وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، وقال : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [ المعارج : 4 ] ، وقال : { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55 ] وذكر آيات .(1/19)
إلى أن قال : وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا خالفهم فيه مسلم .
وهذا مثل ما ذكر محمد بن طاهر عن أبي جعفر الهمداني : أنه حضر مجلس بعض المتكلمين فقال : [ كان الله ولا عرش ] فقال : يا أستاذ ، دعنا من ذكر العرش . أخبرنا عن هذه الضرورات التي نجدها في قلوبنا : ما قال عارف قط يا الله ، إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يُمْنة ولا يسْرَةً . فضرب بيده على رأسه وقال : حيرني الهمداني، حيرني الهمداني . أراد الشيخ أن إقرار الفطر بأن معبودها ، ومدعوها فوق، هو أمر ضروري ، عقلي ، فطري، لم تستفده من مجرد السمع، بخلاف الاستواء على العرش ـ بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام ـ فإن هذا علم من جهة السمع .
ولهذا لا تعرف أيام الأسبوع إلا من جهة المقرين بالنبوات، فأما من لا يعرف ذلك كالترك المشركين ، فليس في لغتهم أسماء أيام الأسبوع . وهذا من حكمة اجتماع أهل كل ملة في يوم واحد في الأسبوع ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليوم لنا، وغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى ) . وبسط ابن عبد البر الكلام في ذلك .
إلى أن قال : وأما احتجاجهم بقوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ، فلا حجة فيه لهم؛ لأن علماء الصحابة، والتابعين قالوا في تأويل هذه الأية : هو على العرش ، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله .(1/20)
قال أبو عمر : أهل السنة مجمعون على الأقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا، ولا يحدون فيه صفة محصورة . وأما أهل البدع ـ الجهمية والمعتزلة والخوارج ـ فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه، وهم ـ عند من أقرَّ بها ـ نافون للمعبود، والحق ما نطق به كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة .
وقال ـ أيضًا : الذي عليه أهل السنة، وأئمة الفقه، والأثر، في هذه المسألة وما أشبهها : الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتصديق بذلك، وترك التحديد، والكيفية في شيء منه .
وقال السجزي في [ الإبانة ] : وأئمتنا كالثوري، ومالك ، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد ، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله ـ سبحانه ـ بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه برءاء .
وقال الشيخ عبد القادر في [ الغنية ] : أما معرفة الصانع بالآيات، والدلالات ـ على وجه الأختصار ـ فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد صمد، إلى أن قال : وهو بجهة العلو، مستو على العرش ، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء . قال : ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال : إنه في السماء على العرش، إلى أن قال : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش . قال : وكونه على العرش في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا تكييف .(1/21)
وذكر الشيخ نصر المقدسي في [ كتاب الحجة ] عن ابن أبي حاتم قال : سألت أبي وأبا زُرْعَةَ عن مذاهب أهل السنة ؟ فقالأ : أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازًا، وعراقًا، ومصر، وشامًا ويمنًا؛ فكان من مذاهبهم : أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص والقرآن كلام الله منزل، غير مخلوق، بجميع جهاته، إلى أن قال : وإن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا .
وقال الشيخ نصر في أثناء الكتاب : إن قال قائل : قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء فإذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه .
فالجواب : أن الذي أدركنا عليه أهل العلم، ومن بلغني قوله من غيرهم . . . فذكر جمل [ اعتقاد أهل السنة ] وفيه : وأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه . كما قال في كتابه .
وقال أبو الحسن الكجي الشافعي في [ قصيدته المشهورة في السنة ] :
عقيدتهم أن الإله بذاته ** على عرشه مع علمه بالغوائب
وقال القرطبي - صاحب التفسير الكبير ـ في قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 59 ] . قال : هذه [ مسألة الاستواء ] وللعلماء فيها كلام . فذكر قول المتكلمين . ثم قال : كان السلف الأول لا يقولون : بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك . بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله؛ كما نطق به كتابه، وأخبرت به رسله . قال : ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة؛ وإنما جهلوا كيفية الاستواء . فإنه لا تعلم حقيقته .
ثم قال ـ بعد أن حكى أربعة عشر قولاً : وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي، والأخبار، والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه ، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه . هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله الثقات عنهم .(1/22)
ولما اجتمعنا بدمشق، وأحضر فيمن أحضر كتب أبي الحسن الأشعري : مثل [ المقالات ] ، و [ الإبانة ] وأئمة أصحابه كالقاضي أبي بكر، وابن فُورَك، والبيهقي، وغيرهم . وأحضر كتاب [ الإبانة ] ، وما ذكر ابن عساكر في كتاب [ تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري ] وقد نقله بخطه أبو زكريا النووي .
وقال فيه : فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة : فعرفونا قولكم الذي به تقولون .
قيل له : قولنا : التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث . ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أحمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين .
سئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى :
ما الذي يجب على المكلف اعتقاده ؟ وما الذي يجب عليه علمه ؟ وما هو العلم المرغب فيه ؟ وما هو اليقين ؟ وكيف يحصل ؟ وما العلم بالله ؟
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين، أما قوله : ما الذي يجب على المكلف اعتقاده . فهذا فيه إجمال وتفصيل .
أما الإجمال، فإنه يجب على المكلف أن يؤمن بالله ورسوله، ويقر بجميع ما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما أمر به الرسول ونهى، بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به . فلا بد من تصديقه فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر .(1/23)
وأما التفصيل، فعلى كل مكلف أن يقر بما ثبت عنده من أن الرسول أخبر به وأمر به، وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به، ولم يمكنه العلم بذلك، فهو لا يعاقب على ترك الإقرار به مفصلًا، وهو داخل في إقراره بالمجمل العام، ثم إن قال خلاف ذلك متأولًا كان مخطئًا يغفر له خطؤه، إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان؛ ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد ما لا يجب على آحاد العامة، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل، وأما ما علم ثبوته بمجرد القياس العقلي دون الرسالة، فهذا لا يعاقب إن لم يعتقده .
وأما قول طائفة من أهل الكلام : إن الصفات الثابتة بالعقل هي التي يجب الإقرار بها، ويكفر تاركها بخلاف ما ثبت بالسمع، فإنهم تارة ينفونه، وتارة يتأولونه، أو يفوضون معناه، وتارة يثبتونه، لكن يجعلون الإيمان والكفر متعلقًا بالصفات العقلية، فهذا لا أصل له عن سلف الأمة وأئمتها؛ إذ الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الأدلة العقلية .
وأما قوله : ما الذي يجب عليه علمه ؟ فهذا أيضا يتنوع، فإنه يجب على كل مكلف أن يعلم ما أمر الله به، فيعلم ما أمر بالإيمان به، وما أمر بعلمه، بحيث لو كان له ما تجب فيه الزكاة لوجب عليه تعلم علم الزكاة، ولو كان له ما يحج به لوجب عليه تعلم علم الحج، وكذلك أمثال ذلك ! .
ويجب على عموم الأمة علم جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يضيع من العلم الذي بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته شيء، وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، لكن القدر الزائد على ما يحتاج إليه المعين فرض على الكفاية؛ إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين .(1/24)
وأما [ العلم المرغب فيه جملة ] فهو العلم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، لكن يرغب كل شخص في العلم الذي هو إليه أحوج، وهو له أنفع، وهذا يتنوع، فرغبة عموم الناس في معرفة الواجبات والمستحبات من الأعمال والوعد والوعيد أنفع لهم، وكل شخص منهم يرغب في كل ما يحتاج إليه من ذلك، ومن وقعت في قلبه شبهة، فقد تكون رغبته في عمل ينافيها أنفع من غير ذلك .
وأما اليقين فهو طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه، وهو معنى ما يقولون : [ ماء يقن ] إذا استقر عن الحركة . وضد اليقين الريب، وهو نوع من الحركة والاضطراب، يقال : رابني يريبني، ومنه في الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف، فقال : [ لا يريبه أحد ] .
ثم اليقين ينتظم منه أمران : علم القلب، وعمل القلب . فإن العبد قد يعلم علمًا جازمًا بأمر، ومع هذا فيكون في قلبه حركة واختلاج من العمل الذي يقتضيه ذلك العلم كعلم العبد أن الله رب كل شيء ومليكه، ولا خالق غيره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله والتوكل عليه، وقد لا يصحبه العمل بذلك؛ إما لغفلة القلب عن هذا العلم، والغفلة هي ضد العلم التام، وإن لم يكن ضدًا لأصل العلم، وإما للخواطر التي تسنح في القلب من الالتفات إلى الأسباب، وإما لغير ذلك .(1/25)
وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سلوا الله اليقين والعافية، فما أعطى أحد بعد اليقين شيئًا خيرًا من العافية، فسلوهما الله ) فأهل اليقين إذا ابتلوا ثبتوا، بخلاف غيرهم، فإن الابتلاء قد يذهب إيمانه أو ينقصه . قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } [ السجدة : 24 ] ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، فهذه حال هؤلاء .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } إلى قوله : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [ الأحزاب : 9-12 ] . وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } الآيتين [ المدثر : 31، 32 ] .
وأما كيف يحصل اليقين ؟ فبثلاثة أشياء :
أحدها : تدبر القرآن .
والثاني : تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق، التي تبين أنه حق .(1/26)
والثالث : العمل بموجب العلم، قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] ، والضمير عائد على القرآن، كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } الآية [ فصلت : 52، 53 ] .
وأما قول طائفة من المتفلسفة ـ ومن تبعهم من المتكلمة والمتصوفة ـ : أن الضمير عائد إلى الله، وأن المراد ذكر طريق من عرفه بالاستدلال بالعقل، فتفسير الآية بذلك خطأ من وجوه كثيرة، وهو مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها .
فبين ـ سبحانه ـ أنه يرى الآيات المشهودة ليبين صدق الآيات المسموعة، مع أن شهادته بالآيات المسموعة كافية؛ لأنه ـ سبحانه ـ لم يدل عباده بالقرآن بمجرد الخبر، كما يظنه طوائف من أهل الكلام، يظنون أن دلالة القرآن إنما هو بطريق الخبر، والخبر موقوف على العلم بصدق المخبر الذي هو الرسول، والعلم بصدقه موقوف على إثبات الصانع، والعلم بما يجب ويجوز ويمتنع عليه، والعلم بجواز بعثة الرسل، والعلم بالآيات الدالة على صدقهم، ويسمون هذه الأصول العقليات؛ لأن السمع عندهم موقوف عليها، وهذا غلط عظيم، وهو من أعظم ضلال طوائف من أهل الكلام والبدع .
فإن الله ـ سبحانه ـ بين في كتابه كل ما يحتاج إليه في أصول الدين، قرر فيه التوحيد، والنبوة، والمعاد بالبراهين التي لا ينتهي إلى تحقيقها نظر، خلاف المتكلمين من المسلمين والفلاسفة وأتباعهم، واحتج فيه بالأمثال الصمدية، التي هي المقاييس العقلية المفيدة لليقين، وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع .(1/27)
وأما الآيات المشهودة، فإن ما يشهد، وما يعلم بالتواتر من عقوبات مكذبي الرسل ومن عصاهم، ومن نصر الرسل وأتباعهم على الوجه الذي وقع، وما علم من إكرام الله تعالى لأهل طاعته وجعل العاقبة له، وانتقامه من أهل معصيته وجعل الدائرة عليهم فيه عبرة تبين أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وغير ذلك، مما يوافق القرآن .
ولهذا قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا } إلى قوله : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] .
فهذا بين الاعتبار في أصول الدين، وإن كان قد تناول الاعتبار في فروعه، وكذلك قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } إلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ } [ آل عمران: 13 ] .
وأما العمل، فإن العمل بموجب العلم يثبته ويقرره ومخالفته تضعفه، بل قد تذهبه، قال الله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وقال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } الآيات [ النساء : 66 ] ، وقال : { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } الآية [ المائدة : 15، 16 ] وقال تعالى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } الآية [ الحديد : 28 ] .(1/28)
وأما العلم فيراد به في الأصل نوعان :
أحدهما : العلم به نفسه، وبما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام وما دلت عليه أسماؤه الحسنى . وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة؛ فإنه لابد أن يعلم أن الله يثيب على طاعته، ويعاقب على معصيته، كما شهد به القرآن والعيان . وهذا معنى قول أبي حبان التيمي ـ أحد أتباع التابعين ـ العلماء ثلاثة :
عالم بالله ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وعالم بالله وبأمر الله . فالعالم بالله الذي يخشى الله، والعالم بأمر الله الذي يعرف الحلال والحرام .
وقال رجل للشعبي : أيها العالم، فقال : إنما العالم من يخشى الله . وقال ـ عبد الله ابن مسعود : كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلًا .
والنوع الثاني : يراد بالعلم بالله : العلم بالأحكام الشرعية، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترخص في شيء، فبلغه أن أقوامًا تنزهوا عنه، فقال : ( ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها ! والله إني لأعلمكم بالله، وأخشاكم له ) وفي رواية : ( والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده ) فجعل العلم به هو العلم بحدوده .
وقريب من ذلك قول بعض التابعين في صفة أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ حيث قال : إن كان الله في صدري لعظيمًا، وإن كنت بذات الله لعليمًا، أراد بذلك أحكام الله .
فإن لفظ الذات في لغتهم لم يكن كلفظ الذات في اصطلاح المتأخرين، بل يراد به ما يضاف إلى الله، كما قال خبيب ـ رضي الله عنه :
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع
ومنه الحديث : ( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، كلها في ذات الله ) .(1/29)
ومنه قوله تعالى : { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [ الأنفال : 1 ] ، { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ الحديد : 6 ] ونحو ذلك . فإن ذات تأنيث ذو، وهو يستعمل مضافًا يتوصل به إلى الوصف بالأجناس، فإذا كان الموصوف مذكرًا قيل : ذو كذا؛ وإن كان مؤنثًا قيل : ذات كذا، كما يقال : ذات سوار . فإن قيل : أصيب فلان في ذات الله فالمعنى في جهته ووجهته، أي فيما أمر به وأحبه، ولأجله .
ثم إن الصفات لما كانت مضافة إلى النفس فيقال في النفس أيضًا : إنها ذات علم وقدرة وكلام ونحو ذلك،حذفوا الإضافة وعرفوها فقالوا : الذات الموصوفة، أي النفس الموصوفة، فإذا قال هؤلاء المؤكدون : [ الذات ] ، فإنما يعنون به النفس الحقيقية، التي لها وصف ولها صفات .
والصفة والوصف تارة يراد به الكلام الذي يوصف به الموصوف، كقول الصحابي في { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] أحبها؛ لأنها صفة الرحمن، وتارة يراد به المعاني التي دل عليها الكلام، كالعلم والقدرة، والجهمية والمعتزلة وغيرهم تنكر هذه، وتقول : إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف . والكلابية ومن اتبعهم من الصفاتية قد يفرقون بين الصفة والوصف، فيجعلون الوصف هو القول، والصفة المعنى القائم بالموصوف .
وأما جماهير الناس فيعلمون أن كل واحد من لفظ الصفة والوصف مصدر في الأصل كالوعد والعدة، والوزن والزنة، وأنه يراد به تارة هذا، وتارة هذا .(1/30)
ولما كان أولئك الجهمية ينفون أن يكون الله وصف قائم به علم أو قدرة، أو إرادة أو كلام ـ وقد أثبتها المسلمون ـ صاروا يقولون : هؤلاء أثبتوا صفات زائدة على الذات . وقد صار طائفة من مناظريهم الصفاتية يوافقونهم على هذا الإطلاق، ويقولون : الصفات زائدة على الذات التي وصفوا ـ لها صفات ووصف ـ فيشعرون الناس أن هناك ذاتًا متميزة عن الصفات، وأن لها صفات متميزة عن الذات، ويشنع نفاة الصفات بشناعات ليس هذا موضعها، وقد بينا فسادها في غير هذا الموضع .
والتحقيق أن الذات الموصوفة لا تنفك عن الصفات أصلا، ولا يمكن وجود ذات خالية عن الصفات . فدعوى المدعي وجود حي عليم قدير بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة، كدعوى قدرة وعلم وحياة لا يكون الموصوف بها حيًا عليمًا قديرًا . بل دعوى شيء موجود قائم بنفسه قديم أو محدث، عرى عن جميع الصفات، ممتنع في صريح العقل .
ولكن الجهمية المعتزلة وغيرهم؛ لما أثبتوا ذاتًا مجردة عن الصفات صار مناظرهم يقول : أنا أثبت الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات، أي لا أقتصر على مجرد إثبات ذات بلا صفات . ولم يعن بذلك أنه في الخارج ذات ثابتة بنفسها، ولا مع ذلك صفات هي زائدة على هذه الذات متميزة عن الذات؛ ولهذا كان من الناس من يقول : الصفات غير الذات، كما يقوله المعتزلة، والكرامية، ثم المعتزلة تنفيها، والكرامية تثبتها .
ومنهم من يقول : الصفة لا هي الموصوف ولا هي غيره، كما يقوله طوائف من الصفاتية، كأبي الحسن الأشعري وغيره .
ومنهم من يقول كما قالت الأئمة : لا نقول الصفة هي الموصوف، ولا نقول : هي غيره؛ لأنا لا نقول : لا هي هو، ولا هي غيره؛ فإن لفظ الغير فيه إجمال، قد يراد به المباين للشيء أو ما قارن أحدهما الآخر، وما قاربه بوجود أو زمان أو مكان، ويراد بالغيران : ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر .
وعلى الأول : فليست الصفة غير الموصوف، ولا بعض الجملة غيرها .(1/31)
وعلى الثاني : فالصفة غير الموصوف، وبعض الجملة غيرها .
فامتنع السلف والأئمة من إطلاق لفظ الغير على الصفة نفيًا أو إثباتًا؛ لما في ذلك من الإجمال والتلبيس، حيث صار الجهمي يقول : القرآن هو الله أو غير الله، فتارة يعارضونه بعلمه فيقولون : علم الله هو الله أو غيره، إن كان ممن يثبت العلم، أو لا يمكنه نفيه .
وتارة يحلون الشبهة ويثبتون خطأ الإطلاقين : النفي والإثبات، لما فيه من التلبيس، بل يستفصل السائل فيقال له : إن أردت بالغير ما يباين الموصوف فالصفة لا تباينه، فليست غيره، وإن أردت بالغير ما يمكن فهم الموصوف على سبيل الإجمال، وإن لم يكن هو، فهو غير بهذا الاعتبار، والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد .
فَصْل
وقد أثبت اللّه في القرآن إسلامًا بلا إيمان في قوله تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [ الحجرات : 14 ] . وقد ثبت في الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص، قال : أعطى النبي صلىالله عليه وسلم رهطاً ـ وفي رواية قسم قسماً ـ وترك فيهم من لم يعطه، وهو أعجبهم إلى، فقلت : يا رسول اللّه، مالك عن فلان ؟ فواللّه إني لأراه مؤمناً، فقال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( أو مسلمًا ) . أقولها ثلاثا، ويرددها على رسول اللّه صلىالله عليه وسلم ثلاثاً، ثم قال : ( إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يَكُبَّهُ اللّه على وجهه في النار ) ، وفي رواية : فضرب بين عنقي وكتفي، وقال : ( أقتال أي سعد ؟ ! ) .
فهذا الإسلام الذي نفى اللّه عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم، هل هو إسلام يثابون عليه ؟ أم هو من جنس إسلام المنافقين ؟ فيه قولان مشهوران للسلف والخلف :(1/32)
أحدهما : أنه إسلام يثابون عليه، ويخرجهم من الكفر والنفاق . وهذا مروي عن الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النَّخَعِي، /وأبي جعفر الباقر، وهو قول حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد اللّه التَّسْتُرِي، وأبي طالب المكي، وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق .
قال أحمد بن حنبل : حدثنا مُؤَمَّل بن إسحاق عن عمار بن زيد قال : سمعت هشاماً يقول : كان الحسن ومحمد يقولان : مسلم، ويهابان : مؤمن، وقال أحمد بن حنبل : حدثنا أبو سلمة الخُزَاعِي، قال : قال مالك، وشريك، وأبو بكر بن عياش، وعبد العزيز ابن أبي سلمة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد : الإيمان : المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان، يجعل الإيمان خاصاً، والإسلام عاماً .
والقول الثاني : أن هذا الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين، قالوا : وهؤلاء كفار، فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر . وهذا اختيار البخاري، ومحمد بن نصر المروزي، والسلف مختلفون في ذلك .
قال محمد بن نصر : حدثنا إسحاق، أنبأنا جَرِير، عن مُغِيرة، قال : أتيت إبراهيم النَّخَعِي، فقلت : إن رجلاً خاصمني يقال له : سعيد العَنْبَرِيّ، فقال إبراهيم : ليس بالعنبري ولكنه زُبٍيْدِيّ . قوله : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] فقال : هو الاستسلام، فقال إبراهيم : لا، هو الإسلام .(1/33)
وقال : حدثنا محمد بن يحيي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن /مجاهد : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } ، قال : استسلمنا خوف السبي والقتل، ولكن هذا منقطع، سفيان لم يدرك مجاهداً، والذين قالوا : إن هذا الإسلام هو كإسلام المنافقين، لا يثابون عليه، قالوا : لأن اللّه نفى عنهم الإيمان، ومن نفى عنه الإيمان فهو كافر، وقال هؤلاء : الإسلام هو الإيمان، وكل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، ومن جعل الفساق مسلمين غير مؤمنين، لزمه ألاّ يجعلهم داخلين في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } [ المائدة : 6 ] ، وفي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [ الجمعة : 9 ] وأمثال ذلك، فإنهم إنما دعوا باسم الإيمان، لا باسم الإسلام، فمن لم يكن مؤمناً لم يدخل في ذلك .(1/34)
وجواب هذا أن يقال : الذين قالوا من السلف : إنهم خرجوا من الإيمان إلى الإسلام، لم يقولوا : إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج، والمعتزلة . وأهل السنة الذين قالوا هذا يقولون : الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيماناً يخرجون به من النار . لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب، ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله،وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان؛ لأن الخطاب بذلك هو لمن دخل في الإيمان وإن لم يستكمله، فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان، فكيف يكون قد أتمه قبل الخطاب ؟ ! وإلا كنا قد تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل الخطاب، وإنما صار من الإيمان بعد أن أمروا به، فالخطاب بـ { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا } ، غير قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } [ الحجرات : 15 ] ونظائرها،فإن الخطاب بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أولاً : يدخل فيه من أظهر الإيمان، وإن كان منافقاً في الباطن يدخل فيه في الظاهر، فكيف لا يدخل فيه من لم يكن منافقاً، وإن لم يكن من المؤمنين حقاً .
وحقيقته أن من لم يكن من المؤمنين حقاً، يقال فيه : إنه مسلم، ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان ؟ هذا هو الذي تنازعوا فيه . فقيل : يقال : مسلم، ولا يقال : مؤمن . وقيل : بل يقال : مؤمن .(1/35)
والتحقيق أن يقال : إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطي اسم الإيمان المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر اللّه به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره، وإنما الكلام في اسم المدح المطلق، وعلى هذا فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث طوائف : يدخل فيه المؤمن حقاً . ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة، وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن ينفي عنه الإسلام والإيمان، وفي الظاهر يثبت له الإسلام والإيمان الظاهر . ويدخل فيه الذين أسلموا وإن لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن معهم جزء من الإيمان والإسلام يثابون عليه .
/ثم قد يكونون مفرطين فيما فرض عليهم، وليس معهم من الكبائر ما يعاقبون عليه كأهل الكبائر، لكن يعاقبون على ترك المفروضات، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم، فإنهم قالوا : آمنا، من غير قيام منهم بما أمروا به باطناً وظاهراً . فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل اللّه، وقد كان دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد وقد يكونون من أهل الكبائر المعرضين للوعيد، كالذين يصلون ويزكون ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون ولكن بينهم نزاع لفظي : هل يقال : إنهم مؤمنون، كما سنذكره إن شاء اللّه ؟(1/36)
وأما الخوارج والمعتزلة، فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام؛ فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد، فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام، لكن الخوارج تقول : هم كفار، والمعتزلة تقول : لا مسلمون ولا كفار، ينزلونهم منزلة بين المنزلتين، والدليل على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين، أنه قال : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } ثم قال : { وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [ الحجرات : 14 ] ، فدل على أنهم إذا أطاعوا اللّه ورسوله مع هذا الإسلام، آجرهم اللّه على الطاعة، والمنافق عمله حابط في الآخرة .(1/37)
وأيضاً، فإنه وصفهم بخلاف صفات المنافقين، فإن المنافقين وصفهم بكفر في قلوبهم، وإنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، كما قال تعالي : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } الآيات [ البقرة : 8 : 10 ] ، وقال : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، فالمنافقون يصفهم في القرآن بالكذب، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وبأن في قلوبهم من الكفر ما يعاقبون عليه، وهؤلاء لم يصفهم بشيء من ذلك، لكن لما ادعوا الإيمان قال للرسول : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } .(1/38)
ونفى الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين، كما في قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 ] ثم قال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2 : 4 ] ، ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك، يكون منافقاً من أهل الدرك الأسفل من النار، بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب، فنفى عنه كما ينفي سائر الأسماء عمن ترك بعض ما يجب عليه، فكذلك الأعراب لم يأتوا بالإيمان الواجب، فنفى عنهم لذلك وإن كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يثابون عليه .(1/39)
وهذا حال أكثر الداخلين في الإسلام ابتداء، بل حال أكثر من لم يعرف /حقائق الإيمان، فإن الرجل إذا قوتل حتى أسلم، كما كان الكفار يقاتلون حتى يسلموا، أو أسلم بعد الأسْرِ، أو سمع بالإسلام فجاء فأسلم، فإنه مسلم ملتزم طاعة الرسول، ولم تدخل إلى قلبه المعرفة بحقائق الإيمان، فإن هذا إنما يحصل لمن تيسرت له أسباب ذلك، إما بفهم القرآن وإما بمباشرة أهل الإيمان والاقتداء بما يصدر عنهم من الأقوال والأعمال، وإما بهداية خاصة من اللّه يهديه بها . والإنسان قد يظهر له من محاسن الإسلام ما يدعوه إلى الدخول فيه، وإن كان قد ولد عليه وتربى بين أهله فإنه يحبه، فقد ظهر له بعض محاسنه وبعض مساوئ الكفار . وكثير من هؤلاء قد يرتاب إذا سمع الشبه القادحة فيه، ولا يجاهد في سبيل اللّه، فليس هو داخلاً في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ الحجرات : 15 ] ، وليس هو منافقاً في الباطن مضمراً للكفر، فلا هو من المؤمنين حقاً ولا هو من المنافقين، ولا هو ـ أيضاً ـ من أصحاب الكبائر، بل يأتي بالطاعات الظاهرة ولا يأتي بحقائق الإيمان التي يكون بها من المؤمنين حقاً، فهذا معه إيمان وليس هو من المؤمنين حقاً، ويثاب على ما فعل من الطاعات؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } ؛ولهذا قال : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 ] يعني : في قولكم : { آمنا } .(1/40)
يقول : إن كنتم صادقين فاللّه يمن عليكم أن هداكم للإيمان، وهذا/ يقتضي أنهم قد يكونون صادقين في قولهم : { آمنا } . ثم صدقهم، إما أن يراد به اتصافهم بأنهم آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه أولئك هم الصادقون . وإما أن يراد به أنهم لم يكونوا كالمنافقين، بل معهم إيمان وإن لم يكن لهم أن يدعوا مطلق الإيمان، وهذا أشبه ـ واللّه أعلم ـ لأن النسوة الممتحنات قال فيهن : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } [ الممتحنة : 10 ] ، ولا يمكن نفي الرِّيبِ عنهن في المستقبل، ولأن اللّه إنما كذب المنافقين ولم يكذب غيرهم، وهؤلاء لم يكذبهم ولكن قال : { لَّمْ تُؤْمِنُوا } كما قال : ( لا يؤمن أحدُكُمْ حتى يحب لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه ) ، وقوله : ( لا يزني الزاني حين يزني وهومؤمن ) ،و ( لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَهُ ) وهؤلاء ليسوا منافقين .
وسياق الآية يدل على أن اللّه ذمهم؛ لكونهم مَنُّوا بإسلامهم لجهلهم وجفائهم، وأظهروا ما في أنفسهم مع علم اللّه به، فإن اللّه تعالى قال : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [ الحجرات : 16 ] ، فلو لم يكن في قلوبهم شيء من الدين لم يكونوا يعلمون اللّه بدينهم، فإن الإسلام الظاهر يعرفه كل أحد، ودخلت الباء في قوله : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } لأنه ضُمِّن معنى : يخبرون ويحدثون، كأنه قال : أتخبرونه وتحدثونه بدينكم وهو يعلم ما في السموات وما في الأرض . وسياق الآية يدل على أن الذي أخبروا به اللّه هو ما ذكره اللّه عنهم من قولهم : { آمنا } فإنهم أخبروا عما في قلوبهم .(1/41)
/وقد ذكر المفسرون أنه لما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،ويحلفون أنهم مؤمنون صادقون، فنزل قوله تعالى : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } [ الحجرات : 16 ] ، وهذا يدل على أنهم كانوا صادقين أولاً في دخولهم في الدين؛ لأنه لم يتجدد لهم بعد نزول الآية جهاد حتى يدخلوا به في الآية، إنما هوكلام قالوه، وهو سبحانه قال : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] ، ولفظ : { لما } ينفي به ما يقرب حصوله ويحصل غالباً كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } [ آل عمران : 142 ] ، وقد قال السُّدِّيّ : نزلت هذه الآية في أعراب مُزَيْنَة وجُهيْنَة وأسْلَمَ، وأشْجَع وغِفَار، وهم الذين ذكرهم اللّه في سورة الفتح وكانوا يقولون : آمنا باللّه؛ ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى الحُدَيْبِيَةِ تخلّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية .(1/42)
وعن مقاتل : كانت منازلهم بين مكة والمدينة، وكانوا إذا مرت بهم سَرِيَّةٌ من سرايا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا : آمنا؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم،فلما سار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية استنفرهم،فلم ينفروا معه . وقال مجاهد : نزلت في أعراب بني أسد بن خُزَيْمة، ووصف غيره حالهم فقال : قدموا المدينة في سنة مُجْدِبَةٍ، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارهم، وكانوا يمنون على رسول اللّه/ صلى الله عليه وسلم يقولون : أتيناك بالأثقال والعيال، فنزلت فيهم هذه الآية . وقد قال قتادة في قوله : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 ] قال : منوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين جاؤوا فقالوا : إنا أسلمنا بغير قتال، لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال اللّه لنبيه : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ } .
وقال مُقاتِل بن حَيَّان : هم أعراب بني أسد بن خزيمة، قالوا : يا رسول اللّه، أتيناك بغير قتال، وتركنا العشائر والأموال، وكل قبيلة من العرب قاتلتك حتى دخلوا كرها في الإسلام، فلنا بذلك عليك حق، فأنزل اللّه تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فله بذلك المن عليكم، وفيهم أنزل اللّه : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] ، ويقال : من الكبائر التي ختمت بنار، كل موجبة من ركبها ومات عليها لم يتب منها .(1/43)
وهذا كله يبين أنهم لم يكونوا كفاراً في الباطن، ولا كانوا قد دخلوا فيما يجب من الإيمان، وسورة الحجرات قد ذكرت هذه الأصناف، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] ، ولم يصفهم بكفر ولا نفاق، لكن هؤلاء يخشى عليهم الكفر والنفاق؛ ولهذا ارتد بعضهم لأنهم لم يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، وقال بعد ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } الآية [ الحجرات : 6 ] وهذه الآية نزلت في الوليد بن عُقْبَة، وكان قد كذب فيما أخبر .
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطَلِق ليقبض صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فسار بعض الطريق ثم رجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : إنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم البعث إليهم، فنزلت هذه الآية . وهذه القصة معروفة من وجوه كثيرة، ثم قال تعالى في تمامها : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [ الحجرات : 7 ] ، وقال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } الآية [ الحجرات : 9 ] ، ثم نهاهم عن أن يسخر بعضهم ببعض، وعن اللَّمْزِ والتَّنَابُزِ بالألقاب وقال : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } [ الحجرات : 11 ] ، وقد قيل : معناه : لا تسميه فاسقاً ولا كافراً بعد إيمانه، وهذا ضعيف، بل المراد : بئس الاسم أن تكونوا فساقا بعد إيمانكم، كما قال تعالى في الذي كذب : { إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فسماه فاسقاً .(1/44)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سِبَابُ المسلم فُسُوقٌ وقتاله كُفْر ) ، يقول : فإذا ساببتم المسلم وسخرتم منه ولمزتموه، استحققتم أن تسموا فساقاً، وقد قال في آية القَذْف : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ النور : 4 ] . يقول : فإذا أتيتم بهذه الأمور التي تستحقون بها أن تسموا /فساقاً كنتم قد استحققتم اسم الفسوق بعد الإيمان، وإلا فهم في تنابزهم ما كانوا يقولون : فاسق، كافر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبعضهم يُلَقِّب بعضاً .
وقد قال طائفة من المفسرين في هذه الآية : لا تسميه بعد الإسلام بدينه قبل الإسلام، كقوله لليهودي إذا أسلم : يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس وطائفة من التابعين، كالحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، والقُرَظِيّ . وقال عِكْرِمَة : هو قول الرجل : يا كافر، يا منافق . وقال عبد الرحمن بن زيد : هو تسمية الرجل بالأعمال، كقوله : يا زاني، يا سارق، يا فاسق . وفي تفسير العَوْفِيّ عن ابن عباس قال : هو تعيير التائب بسيئات كان قد عملها، ومعلوم أن اسم الكفر، واليهودية، والزاني، والسارق وغير ذلك من السيئات ليست هي اسم الفاسق، فعلم أن قوله : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ } لم يرد به تسمية المسبوب باسم الفاسق، فإن تسميته كافرًا أعظم، بل إن الساب يصير فاسقًا لقوله : ( سِبَابُ المسلم فُسُوق وقتاله كُفْر ) ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ الحجرات : 11 ] ،فجعلهم ظالمين إذا لم يتوبوا من ذلك وإن كانوا يدخلون في اسم المؤمنين، ثم ذكر النهي عن الغيبة، ثم ذكر النهي عن التفاخر بالأحساب، وقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، ثم ذكر قول الأعراب : { آمنا } .(1/45)
فالسورة تنهى عن هذه المعاصى والذنوب التي فيها تَعَدٍّ على الرسول وعلى/ المؤمنين، فالأعراب المذكورون فيها من جنس المنافقين . وأهل السباب والفسوق والمنادين من وراء الحجرات وأمثالهم، ليسوا من المنافقين؛ ولهذا قال المفسرون : إنهم الذين استنفروا عام الحديبية، وأولئك وإن كانوا من أهل الكبائر فلم يكونوا في الباطن كفاراً منافقين .
قال ابن إسحاق : لما أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العمرة ـ عمرة الحديبية ـ استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه خوفاً من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عني اللّه بقوله : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } [ الفتح : 11 ] أي : ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك { يّقٍولٍونّ بٌأّلًسٌنّتٌهٌم مَّا لّيًسّ فٌي قٍلٍوبٌهٌمً } أي : ما يبالون، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وهذا حال الفاسق الذي لا يبالي بالذنب، والمنافقون قال فيهم : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ المنافقون : 5، 6 ] ، ولم يقل مثل هذا في هؤلاء الأعراب . بل الآية دليل على أنهم لو صدقوا في طلب الاستغفار نفعهم استغفار الرسول لهم ثم قال : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 16 ] ، فوعدهم الله بالثواب على طاعة الداعي إلى الجهاد، وتوعدهم بالتولي عن طاعته .(1/46)
وهذا كخطاب أمثالهم من أهل الذنوب والكبائر، بخلاف من هو كافر/ في الباطن، فإنه لا يستحق الثواب بمجرد طاعة الأمر حتى يؤمن أولاً، ووعيده ليس على مجرد توليه عن الطاعة في الجهاد، فإن كفره أعظم من هذا .
فهذا كله يدل على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك الفرائض، وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض الله عليهم من الجهاد وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم، لم يكونوا من الصادقين الذين وصفهم، وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام .
وقول المفسرين : لم يكونوا مؤمنين، نفى لما نفاه الله عنهم من الإيمان كما نفاه عن الزاني، والسارق، والشارب، وعمن لا يأمن جاره بَوَائِقَه، وعمن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وعمن لا يجيب إلى حكم الله ورسوله، وأمثال هؤلاء . وقد يحتج على ذلك بقوله : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } [ الحجرات : 11 ] كما قال : ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ) ،فذم من استبدل اسم الفسوق بعد الإيمان؛ فدل على أن الفاسق لا يسمى مؤمناً،فدل ذلك على أن هؤلاء الأعراب من جنس أهل الكبائر لا من جنس المنافقين .(1/47)
وأما ما نقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي، فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار، أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإسلام المؤلفة قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نَجْد وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل/من النار،بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في قلوبهم تكذيب ومعاداة للرسول،ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان ولا استبصروا فيه،وهؤلاء قد يحسن إسلام أحدهم فيصير من المؤمنين كأكثر الطُّلَقَاء، وقد يبقى من فساق الملة، ومنهم من يصير منافقاً مرتاباً إذا قال له منكر ونكير : ( ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول : هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتهَ )
وقد تقدم قول من قال : إنهم أسلموا بغير قتال، فهؤلاء كانوا أحسن إسلاماً من غيرهم، وأن اللّه إنما ذمهم لكونهم منوا بالإسلام وأنزل فيهم : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] وإنهم من جنس أهل الكبائر .(1/48)
وأيضًا، قوله : { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] و { لما } إنما ينفي بها ما ينتظر ويكون حصوله مترقباً، كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] ، وقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [ البقرة : 214 ] ، فقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم، فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء لا يكون قد حصل في قلبه الإيمان، لكنه يحصل فيما بعد كما في الحديث : ( كان الرجل يسلم أول النهار رَغْبَةً في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس ) ؛ ولهذا كان عامة الذين أسلموا رغبة ورهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك، وقوله : { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } / أمر لهم بأن يقولوا ذلك، والمنافق لا يؤمر بشيء، ثم قال : { وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } [ الحجرات : 14 ] والمنافق لا تنفعه طاعة اللّه ورسوله حتى يؤمن أولاً .(1/49)
وهذه الآية مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره، على أنه يستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام . قال الميموني : سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في : أنا مؤمن إن شاء اللّه ؟ فقال : أقول : مؤمن إن شاء اللّّه، وأقول : مسلم ولا أستثني، قال : قلت لأحمد : تفرق بين الإسلام والإيمان ؟ فقال لي : نعم، فقلت له : بأي شيء تحتج ؟ قال لي : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] ، وذكر أشياء . وقال الشَّالَنْجِيّ : سألت أحمد عمن قال : أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث، ولا أعلم ما أنا عند اللّّه ؟ قال : ليس بمرجئ .
وقال أبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي : الاستثناء جائز، ومن قال : أنا مؤمن حقاً، ولم يقل : عند اللّه، ولم يستثن، فذلك عندي جائز وليس بمرجئ، وبه قال أبو خَيْثَمَة وابن أبي شيبة، وذكر الشالنجي أنه سأل أحمد بن حنبل عن المُصِرِّ على الكبائر يطلبها بجهده، أي : يطلب الذنب بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم؛ هل يكون مصراً من كانت هذه حاله ؟ قال : هو مصر مثل قوله : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام، ومن نحو قوله : ( ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا/ يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ) ومن نحو قول ابن عباس في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ، فقلت له : ما هذا الكفر ؟ قال : كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه . وقال ابن أبي شيبة : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصاً من إيمانه .(1/50)
قال الشالنجي : وسألت أحمد عن الإيمان والإسلام . فقال : الإيمان قول وعمل، والإسلام إقرار، قال : وبه قال أبو خيثمة . وقال ابن أبي شيبة : لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام، وإذا كان على المخاطبة فقال : قد قبلت الإيمان، فهو داخل في الإسلام، وإذا قال : قد قبلت الإسلام فهو داخل في الإيمان . وقال محمد بن نصر المروزي : وحكي غير هؤلاء أنه سأل أحمد بن حنبل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) فقال : من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمنا، ومن أتى دون ذلك، يريد دون الكبائر، أسميه مؤمناً ناقص الإيمان .
قلت : أحمد بن حنبل كان يقول تارة بهذا الفرق، وتارة كان يذكر الاختلاف ويتوقف، وهو المتأخر عنه، قال أبو بكر الأثرم في [ السنة ] : سمعت أبا عبد اللّه يسأل عن الاستثناء في الإيمان : ما تقول فيه ؟ فقال : أما أنا فلا أعيبه، أي من الناس من يعيبه . قال أبو عبد الله : إذا كان يقول : إن الإيمان قول /وعمل يزيد وينقص، فاستثنى مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثنى للعمل . قال أبو عبد اللّه : قال اللّه تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] أي : أن هذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل القبور : ( وإنَّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ) أي : لم يكن يشك في هذا، وقد استثناه وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وعليها نُبْعَثُ إن شاء الله ) : يعني : من القبر، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه ) قال : هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان .(1/51)
قلت لأبي عبد اللّه : وكأنك لا ترى بأساً ألا يستثنى . فقال : إذا كان ممن يقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله : إن قوماً تضعف قلوبهم عن الاستثناء، كالتعجب منهم، وسمعت أبا عبد اللّّه وقيل له : شَبَابَة أي شيء تقول فيه ؟ فقال : شبابة كان يدعى الإرجاء، قال : وحكى عن شبابة قول أخبث من هذه الأقاويل، ما سمعت عن أحد بمثله، قال أبو عبد اللّه : قال شبابة : إذا قال فقد عمل بلسانه كما يقولون، فإذا قال فقد عمل بجارحته، أي : بلسانه حين تكلم به، ثم قال أبو عبد اللّه : هذا قول خبيث، ما سمعت أحداً يقول به ولا بلغني، قيل لأبي عبد اللّه : كنت كتبت عن شبابة شيئًا ؟ فقال : نعم، كنت كتبت عنه قديمًا يسيراً قبل أن نعلم أنه يقول بهذا، قلت لأبي عبد اللّه : كتبت عنه بعد ؟ قال : لا ولا حرف . قيل لأبي عبد اللّه : يزعمون أن سفيان كان يذهب إلى الاستثناء في الإيمان . فقال : هذا مذهب سفيان، المعروف به الاستثناء، قلت لأبي عبد اللّه : من يرويه عن /سفيان ؟ فقال : كل من حكى عن سفيان في هذا حكاية كان يستثنى، قال : وقال وَكِيع عن سفيان : الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ؟ ولا ندري ما هم عند اللّه . قلت لأبي عبد اللّّه : فأنت بأي شيء تقول ؟ فقال : نحن نذهب إلى الاستثناء .(1/52)
قلت لأبي عبد اللّه : فأما إذا قال : أنا مسلم فلا يستثنى ؟ فقال : نعم، لا يستثنى إذا قال : أنا مسلم، قلت لأبي عبد اللّّه : أقول : هذا مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ، وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه، فذكر حديث مَعْمَر عن الزهري، فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، قال أبو عبد اللّّه : حدثناه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، قيل لأبي عبد الله : فنقول : الإيمان يزيد وينقص ؟ فقال : حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك، فذكر قوله : ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال كذا، أخرجوا من كان في قلبه مثقال كذا ) فهو يدل على ذلك وذكر عند أبي عبد اللّه عيسى الأحمر، وقوله في الإرجاء فقال : نعم، وذلك خبيث القول، وقال أبو عبد الله : حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا حماد بن زيد، سمعت هشاماً يقول : كان الحسن ومحمد يقولان : مسلم . ويهابان : مؤمن .
قلت لأبي عبد اللّّه : رواه غير سُوَيْد ؟ قال : ما علمت بذلك، وسمعت أبا عبد اللّّه يقول : الإيمان قول وعمل . قلت لأبي عبد اللّّه : فالحديث الذي يروى : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) قال : ليس كل أحد يقول : إنها مؤمنة، يقولون : أعتقها . قال : ومالك سمعه من هذا الشيخ هلال بن علي لا يقول : ( فإنها مؤمنة ) / وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذاك فحكمها حكم المؤمنة، وهذا معناه . قلت لأبي عبد اللّّه : تفرق بين الإيمان والإسلام ؟ فقال : قد اختلف الناس فيه، وكان حماد بن زيد ـ زعموا ـ يفرق بين الإيمان والإسلام، قيل له : من المرجئة ؟ قال : الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل .(1/53)
قلت : فأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سلب جميع الإيمان فلم يبق معه منه شيء، كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فإنه قد صرح في غير موضع بأن أهل الكبائر معهم إيمان يخرجون به من النار، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ، وليس هذا قوله ولا قول أحد من أئمة أهل السنة، بل كلهم متفقون على أن الفُسَّاق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار، هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين، لكن إذا كان معه بعض الإيمان لم يلزم أن يدخل في الاسم المطلق الممدوح، وصاحب الشرع قد نفى الاسم عن هؤلاء فقال : ( لا يرني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ، وقال : ( لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه ) وقال : ( لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَه ) وأقسم على ذلك مرات وقال : ( المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم )
والمعتزلة ينفون عنه اسم الإيمان بالكلية، واسم الإسلام ـ أيضاً ـ ويقولون : ليس معه شيء من الإيمان والإسلام، ويقولون : ننزله منزلة بين منزلتين، فهم يقولون : إنه يخلد في النار لا يخرج منها بالشفاعة، وهذا هو الذي أنكر عليهم،/ وإلا لو نفوا مطلق الاسم وأثبتوا معه شيئًا من الإيمان يخرج به من النار لم يكونوا مبتدعة، وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب، لكنه من أهل الوعيد، وإنما ينازع في ذلك من يقول : الإيمان لا يتبعض من الجهمية والمرجئة، فيقولون : إنه كامل الإيمان، فالذي ينفى إطلاق الاسم يقول : الاسم المطلق مقرون بالمدح واستحقاق الثواب، كقولنا : مُتَّقٍ، وبَرٌّ، وعلى الصراط المستقيم، فإذا كان الفاسق لا تطلق عليه هذه الأسماء، فكذلك اسم الإيمان، وأما دخوله في الخطاب، فلأن المخاطب باسم الإيمان كل من معه شيء منه؛ لأنه أمر لهم، فمعاصيهم لا تسقط عنهم الأمر .(1/54)
وأما ما ذكره أحمد في الإسلام، فاتبع فيه الزهري حيث قال : فكانوا يرون الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، في حديث سعد بن أبي وقاص، وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة،وتصوم رمضان، وتحج البيت ) . وقد يراد به الكلمة فقط من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام . لكن قد يقال : إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال : الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا ـ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ ألزموا بالأعمال الظاهرة : الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة، بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها .
/وأحمد إن كان أراد في هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتان فقط، فكل من قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه، والرواية الأخرى : لا يكون مسلماً حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصل كان كافراً . والثالثة : أنه كافر بترك الزكاة ـ أيضاً . والرابعة : أنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ما إذا لم يقاتله، وعنه أنه لو قال : أنا أؤديها ولا أدفعها إلى الإمام، لم يكن للإمام أن يقتله، وكذلك عنه رواية أنه يكفر بترك الصيام والحج، وإذا عزم أنه لا يحج أبداً . ومعلوم أنه على القول بكفر تارك المباني يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام، وهذا صحيح، فإنه يشهد له بالإسلام ولا يشهد له بالإيمان الذي في القلب، ولا يستثنى في هذا الإسلام، لأنه أمر مشهور، لكن الإسلام ـ الذي هو أداء الخمس كما أمر به ـ يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها .(1/55)
وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال : قيل : هو الإيمان، وهما اسمان لمسمى واحد . وقيل : هو الكلمة، وهذان القولان لهما وجه سنذكره، لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام، فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا / هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له : مؤمن ؟ قد تقدم الكلام فيه . وكذلك هل يستلزم الإسلام للإيمان ؟ هذا فيه النزاع المذكور وسنبينه، والوعد الذي في القرآن بالجنة وبالنجاة من العذاب، إنما هو معلق باسم الإيمان وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه .(1/56)
وبالإسلام بعث اللّه جميع النبيين، قال تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] ،وقال : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } [ آل عمران : 19 ] ، وقال نوح : { يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 71، 72 ] ، وقد أخبر أنه لم ينج من العذاب إلا المؤمنين فقال : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] ، وقال : { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] وقال نوح : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ هود : 29 ] .(1/57)
وكذلك أخبر عن إبراهيم أن دينه الإسلام فقال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 130 : 132 ] ،/وقال : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] ، وبمجموع هذين الوصفين علق السعادة فقال : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] ، كما علقه بالإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] .(1/58)
وهذا يدل على أن الإسلام الذي هو إخلاص الدين للّه، مع الإحسان وهو العمل الصالح الذي أمر اللّه به، هو والإيمان المقرون بالعمل الصالح متلازمان، فإن الوعد على الوصفين وعد واحد وهو الثواب، وانتفاء العقاب، فإن انتفاء الخوف علة تقتضي انتفاء ما يخافه؛ ولهذا قال : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لم يقل : لا يخافون، فهم لا خوف عليهم وإن كانوا يخافون اللّه، ونفى عنهم أن يحزنوا؛ لأن الحزن إنما يكون على ماض، فهم لا يحزنون بحال لا في القبر ولا في عَرَصَات القيامة، بخلاف الخوف فإنه قد يحصل لهم قبل دخول الجنة ولا خوف عليهم في الباطن، كما قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] .(1/59)
وأما الإسلام المطلق المجرد، فليس في كتاب اللّه تعليق دخول الجنة به، كما في كتاب اللّه تعليق دخول الجنة بالإيمان المطلق المجرد، كقوله : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ِ } [ الحديد : 12 ] ، وقال : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [ يونس : 2 ] . وقد وصف الخليل ومن اتبعه بالإيمان كقوله : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] ، ووصفه بذلك فقال : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } [ الأنعام : 81 : 83 ] ، ووصفه بأعلى طبقات الإيمان، وهو أفضل البرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم .(1/60)
والخليل إنما دعا بالرزق للمؤمنين خاصة فقال : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ البقرة : 126 ] ، وقال : { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] بعد قوله : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ْ } [ يونس : 83 ] ، وقال : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 87 ] ، وقد ذكرنا البشرى المطلقة للمسلمين في قوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] .(1/61)
وقد وصف اللّه السحرة بالإسلام والإيمان معاً، فقالوا : { آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [ الأعراف : 121،122 ] ، وقالوا : { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } [ الأعراف : 126 ] ، وقالوا : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 51 ] وقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الأعراف : 126 ] ، ووصف اللّه أنبياء بني إسرائيل بالإسلام في قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } [ المائدة : 44 ] ، والأنبياء كلهم مؤمنون، ووصف الحواريين بالإيمان والإسلام فقال تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] و { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] .
وحقيقة الفرق : أن الإسلام دين . والدين مصدر دان يدين ديناً : إذا خضع وذل، و [ دين الإسلام ] الذي ارتضاه اللّه وبعث به رسله هو الاستسلام للّه وحده، فأصله في القلب هو الخضوع للّه وحده بعبادته وحده دون ما سواه . فمن عبده، وعبد معه إلهاً آخر، لم يكن مسلماً، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، والإسلام هو الاستسلام للّه، وهو الخضوع له، والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة : أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب العمل، عمل القلب والجوارح .(1/62)
وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له؛ فلهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم [ الإيمان ] بإيمان القلب وبخضوعه، وهو الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، وفسر [ الإسلام ] باستسلام مخصوص، هو المباني الخمس . وهكذا في سائر كلامه صلى الله عليه وسلم يفسر الإيمان بذلك النوع ويفسر الإسلام بهذا، وذلك النوع أعلى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب ) فإن الأعمال الظاهرة يراها الناس، وأما / ما في القلب من تصديق ومعرفة وحب وخشية ورجاء فهذا باطن، لكن له لوازم قد تدل عليه، واللازم لا يدل إلا إذا كان ملزومًا؛ فلهذا كان من لوازمه ما يفعله المؤمن والمنافق، فلا يدل . . [ بياض بالأصل ] ففي حديث عبد اللّه بن عمرو وأبي هريرة جميعاً أن النبي صلىالله عليه وسلم قال : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَهُ الناس على دمائهم وأموالهم ) ، ففسر المسلم بأمر ظاهر وهو سلامة الناس منه؛ وفسر المؤمن بأمر باطن، وهو أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وهذه الصفة أعلى من تلك، فإن من كان مأمونًا سلم الناس منه، وليس كل من سلموا منه يكون مأمونًا . فقد يترك أذاهم وهم لا يأمنون إليه، خوفًا أن يكون ترك أذاهم لرغبة ورهبة؛ لا لإيمان في قلبه .(1/63)
وفي حديث عبيد بن عمير عن عمرو بن عَبَسَة عن النبي صلىالله عليه وسلم؛ أن رجلاً قال للنبي صلىالله عليه وسلم : ما الإسلام ؟ قال : ( إطعام الطعام، ولينُ الكلام ) قال : فما الإيمان ؟ قال : ( السَّمَاحَة والصبر ) فإطعام الطعام عمل ظاهر يفعله الإنسان لمقاصد متعددة، وكذلك لين الكلام، وأما السماحة والصبر فخُلُقَانِ في النفس، قال تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] ، وهذا أعلى من ذاك، وهو أن يكون صباراً شكوراً فيه سماحة بالرحمة للإنسان وصبر على المكاره، وهذا ضد الذي خُلِقَ هَلُوعاً إذا مسه الشر جَزُوعاً، وإذا مسه الخير منوعا، فإن ذاك ليس فيه سماحة عند النعمة، ولا صبر عند المصيبة .
/وتمام الحديث : فأي الإسلام أفضل ؟ قال : ( من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ) قال : يا رسول اللّّه، أي المؤمنين أكمل إيماناً ؟ قال : ( أحسنهم خُلُقاً ) قال : يا رسول اللّّه، أي القتل أشرف ؟ قال : ( من أرِيقَ دَمُهُ، وعُقِرَ جَوَادُهُ ) قال : يا رسول اللّه، فأي الجهاد أفضل ؟ قال : ( الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّّه ) . قال : يا رسول اللّه، فأي الصدقة أفضل ؟ قال : ( جُهْدِ المُقِلِّ ) . قال : يا رسول اللّه، فأي الصلاة أفضل ؟ قال : ( طول القُنُوت ) . قال : يا رسول اللّه، فأي الهجرة أفضل ؟ قال : ( من هَجَرَ السُّوءَ ) . وهذا محفوظ عن عبيد بن عمير، تارة يروى مرسلاً، وتارة يروى مسنداً، وفي رواية : أي الساعات أفضل ؟ قال : ( جَوْفَ الليل الغَابِر ) وقوله : ( أفضل الإيمان السماحة والصبر ) يروى من وجه آخر عن جابر عن النبي صلىالله عليه وسلم .(1/64)
وهكذا في سائر الأحاديث، إنما يفسر الإسلام بالاستسلام للّه بالقلب مع الأعمال الظاهرة، كما في الحديث المعروف الذي رواه أحمد عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ أنه قال : واللّه يا رسول اللّه، ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به ؟ قال : ( الإسلام ) . قال : وما الإسلام ؟ قال : ( أن تسلم قلبك للّه وأن توجه وجهك إلى اللّه، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل اللّه من عبد أشرك بعد إسلامه ) . وفي رواية قال : ( أن تقول : أسلمت وجهي للّه وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكل مسلم على مسلم مُحَرَّم ) وفي لفظ تقول : ( أسلمت نفسي للّه، وخليت وجهي إليه ) . وروى محمد بن نصر من حديث خالد/ بن معدان عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( إن للإسلام صُوًى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد اللّه ولا تشرك به شيئًا، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسلم على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك، ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم إن سَكَتَّ عنهم،وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئًا فهو سهم في الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نَبَذَ الإسلام وراء ظهره ) .(1/65)
وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] قال مجاهد وقتادة : نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، وهذا لا ينافي قول من قال : نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب أو فيمن لم يسلم؛لأن هؤلاء كلهم مأمورون ـ أيضًا ـ بذلك، والجمهور يقولون : { فٌي بسٌَلًم } أي : في الإسلام . وقالت طائفة : هو الطاعة، وكلاهما مأثور عن ابن عباس، وكلاهما حق، فإن الإسلام هو الطاعة كما تقدم أنه من باب الأعمال . وأما قوله : { كَآفَّةً } فقد قيل : المراد ادخلوا كلكم . وقيل : المراد به ادخلوا في الإسلام جميعه، وهذا هو الصحيح، فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره، وإنما يؤمر بما يقدر عليه، وقوله : { ادْخُلُوا } خطاب لهم كلهم فقوله : { كَآفَّةً } إن أريد به مجتمعين لزم أن يترك الإنسان الإسلام حتى يسلم غيره فلا يكون الإسلام مأموراً به إلا بشرط موافقة الغير له كالجمعة، وهذا لا يقوله مسلم، وإن أريد بكافة : أي : ادخلوا جميعكم، فكل أوامر القرآن كقوله : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الحديد : 7 ] ، { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } [ النور : 56 ] كلها من هذا الباب، وما قيل فيها كافة، وقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] أي : قاتلوهم كلهم لا تدعوا مشركاً حتى تقاتلوه، فإنها أنزلت بعد نبذ العهود، ليس المراد : قاتلوهم مجتمعين أو جميعكم، فإن هذا لا يجب، بل يقاتلون بحسب المصلحة، والجهاد فرض على الكفاية، فإذا كانت فرائض الأعيان لم يؤكد المأمورين فيها بكافة، فكيف يؤكد بذلك في فروض الكفاية ؟ ! وإنما المقصود تعميم المقاتلين . وقوله : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] فيه احتمالان .(1/66)
والمقصود أن اللّّه أمر بالدخول في جميع الإسلام كما دل عليه هذا الحديث، فكل ما كان من الإسلام وجب الدخول فيه، فإن كان واجباً على الأعيان لزمه فعله، وإن كان واجباً على الكفاية اعتقد وجوبه، وعزم عليه إذا تعين، أو أخذ بالفضل ففعله، وإن كان مستحباً اعتقد حسنه وأحب فعله، وفي حديث جرير : أن رجلاً قال : يا رسول اللّه، صِفْ لي الإسلام . قال : ( تشهد أن لا إله إلا اللّه، وتُقِرُّ بما جاء من عند اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) قال : أقررت، في قصة طويلة فيها : أنه وقع في أخَاقِيقَ جُرْذَان، وأنه قتل وكان جائعا، وملكان يَدُسَّان في شِدْقِه من ثمار الجنة، فقوله : ( وتقر بما جاء من عند اللّه ) . هو الإقرار بأن محمداً رسول اللّه فإنه هو الذي جاء بذلك .(1/67)
وفي الحديث الذي يرويه أبو سليمان الداراني : حديث الوفد الذين قالوا : نحن المؤمنون، قال : ( فما علامة إيمانكم ؟ ) قالوا : خمس عشرة خَصْلة : خمس أمرتنا رسلك أن نعمل بهن، وخمس أمرتنا رسلك أن/نؤمن بهن، وخمس تَخَلَّقْنَا بها في الجاهلية، ونحن عليها في الإسلام إلا أن تكره منها شيئًا . قال : ( فما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها ؟ ) قالوا : أن نشهد أن لا إله إلا اللّه،وأن محمداً رسول اللّه، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت . قال : ( وما الخمس التي أمرتكم أن تؤمنوا بها ؟ ) قالوا : أمرتنا أن نؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، قال : ( وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية، وثَبَتُّمْ عليها في الإسلام ؟ ) قالوا : الصبر عند البَلاء،والشكر عند الرَّخَاء والرِّضَي بِمُرِّ القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء، فقال النبي صلىالله عليه وسلم : ( علماء حكماء، كادوا من صِدْقِهم أن يكونوا أنبياء ) . فقال صلىالله عليه وسلم : ( وأنا أزيدكم خمسًا فتتم لكم عشرون خصلة : إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غداً تزولون وعنه منتقلون، واتقوا اللّه الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون ) .
فقد فرقوا بين الخمس التي يعمل بها فجعلوها الإسلام، والخمس التي يؤمن بها فجعلوها الإيمان، وجميع الأحاديث المأثورة عن النبي صلىالله عليه وسلم تدل على مثل هذا .(1/68)
وفي الحديث الذي رواه أحمد، من حديث أيوب، عن أبي قِلابة، عن رجل من أهل الشام عن أبيه أن النبي صلىالله عليه وسلم قال له : ( أسْلِمْ تَسْلَمْ ) قال : / وما الإسلام ؟ قال : ( أن تُسْلِم قلبك للّه، ويَسْلَم المسلمون من لسانك ويدك ) قال : فأي الإسلام أفضل ؟ قال : ( الإيمان ) قال : وما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت ) قال : فأي الإيمان أفضل ؟ قال : ( الهجرة ) قال : وما الهجرة ؟ قال : ( أن تهجر السوء ) قال : فأي الهجرة أفضل ؟ قال : ( الجهاد ) قال : وما الجهاد ؟ قال : ( أن تجاهد الكفار إذا لقيتهم ولا تُغَلُّ ولا تَجْبنُ ) ثم قال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما ) قالها ثلاثاً ( حجة مبرورة؛ أو عمرة ) وقوله : ( هما أفضل الأعمال ) أي بعد الجهاد؛ لقوله : ( ثم عملان ) ، ففي هذا الحديث جعل الإيمان خصوصاً في الإسلام، والإسلام أعم منه، كما جعل الهجرة خصوصًا في الإيمان والإيمان أعم منه، وجعل الجهاد خصوصًا من الهجرة والهجرة أعم منه . فالإسلام أن تعبد اللّه وحده لا شريك له مخلصًا له الدين .
وهذا دين اللّه الذي لا يقبل من أحد دينًا غيره،لا من الأولين ولا من الآخرين، ولا تكون عبادته مع إرسال الرسل إلينا إلا بما أمرت به رسله، لا بما يضاد ذلك؛ فإن ضد ذلك معصية، وقد ختم اللّه الرسل بمحمد صلىالله عليه وسلم فلا يكون مسلماً إلا من شهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإنسان في الإسلام . فمن قال : الإسلام الكلمة وأراد هذا، فقد صدق، ثم لابد من التزام ما أمر به الرسول من الأعمال الظاهرة،كالمباني الخمس،ومن ترك من ذلك شيئًا نقص إسلامه/ بقدر ما نقص من ذلك، كما في الحديث : ( من انتقص منهن شيئًا فهو سَهْمٌ من الإسلام تَرَكَهُ ) .(1/69)
وهذه الأعمال إذا عملها الإنسان مخلصاً للّه ـ تعالى ـ فإنه يثيبه عليها، ولا يكون ذلك إلا مع إقراره بقلبه أنه لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فيكون معه من الإيمان هذا الإقرار، وهذا الإقرار لا يستلزم أن يكون صاحبه معه من اليقين ما لا يقبل الرَّيْب، ولا أن يكون مجاهداً ولا سائر ما يتميز به المؤمن عن المسلم الذي ليس بمؤمن، وخلق كثير من المسلمين باطناً وظاهراً معهم هذا الإسلام بلوازمه من الإيمان، ولم يصلوا إلى اليقين والجهاد، فهؤلاء يثابون على إسلامهم وإقرارهم بالرسول مجملاً، وقد لا يعرفون أنه جاء بكتاب، وقد لا يعرفون أنه جاءه ملك، ولا أنه أخبر بكذا، وإذا لم يبلغهم أن الرسول أخبر بذلك لم يكن عليهم الإقرار المفصل به، لكن لابد من الإقرار بأنه رسول اللّه، وأنه صادق في كل ما يخبر به عن اللّه .
ثم الإيمان الذي يمتاز به فيه تفصيل، وفيه طمأنينة ويقين، فهذا متميز بصفته وقدره في الكمية والكيفية، فإن أولئك معهم من الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله وتفصيل المعاد والقدر ما لا يعرفه هؤلاء .(1/70)
وأيضاً، ففي قلوبهم من اليقين والثبات ولزوم التصديق لقلوبهم ما ليس مع هؤلاء، وأولئك هم المؤمنون حقاً، وكل مؤمن لابد أن يكون مسلماً، فإن الإيمان يستلزم الأعمال، وليس كل مسلم مؤمناً هذا الإيمان المطلق؛ لأن/ الاستسلام للّه والعمل له لا يتوقف على هذا الإيمان الخاص، وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة للّه ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم اللّه ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شُكِّكوا لشَكُّوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفاراً ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الرَّيْبَ، ولا عندهم من قوة الحب للّه ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم اللّه عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق .(1/71)
وكذلك إذا تعين عليهم الجهاد ولم يجاهدوا، كانوا من أهل الوعيد؛ ولهذا لما قدم النبي صلىالله عليه وسلم المدينة أسلم عامة أهلها، فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق . فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة، ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين ابتلوا فظهر صدقهم، قال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 : 3 ] ، وقال تعالى : { مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [ آل عمران : 179 ] ، وقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [ الحج : 11 ] ؛ ولهَذا ذم اللَّه المنافقين بأنهم دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه بقوله تعالى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } إلى قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 1،3 ] ، وقال في الآية الأخرى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } إلى قوله : { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ التوبة : 64 : 66 ] ، فقد أمره أن يقول لهم : قد كفرتم بعد(1/72)
إيمانكم .
وقول من يقول عن مثل هذه الآيات : إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم، لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال : قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق، وتكلموا بالاستهزاء، صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين، وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [ التوبة : 73، 74 ] فهنا قال : { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } .(1/73)
فهذا الإسلام قد يكون من جنس إسلام الأعراب فيكون قوله : { بعد إيمانكم } و { بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } سواء، وقد يكونون ما زالوا منافقين، فلم يكن لهم حال كان معهم فيها من الإيمان شيء، لكونهم أظهروا الكفر والردة؛ ولهذا دعاهم إلى التوبة فقال : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا } بعد التوبة عن التوبة { يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } وهذا إنما هو لمن أظهر الكفر، فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة؛ ولهذا ذكر هذا في سياق قوله : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ؛ ولهذا قال في تمامها : { وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ التوبة : 47 ] .(1/74)
وهؤلاء الصنف الذين كفروا بعد إسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم فإن هؤلاء حلفوا باللّه ما قالوا، وقد قالوا كلمة الكفر التي كفروا بها بعد إسلامهم وهَمُّوا بما لم ينالوا، وهو يدل على أنهم سعوا في ذلك، فلم يصلوا إلى مقصودهم؛ فإنه لم يقل : هموا بما لم يفعلوا، لكن { بٌمّا لّمً يّنّالٍوا } فصدر منهم قول وفعل، قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [ التوبة : 65 ] فاعترفوا واعتذروا؛ ولهذا قيل : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ التوبة : 66 ] فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفراً، وكان كفراً كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه، وهكذا قال غير واحد من السلف /في صفة المنافقين، الذين ضرب لهم المثل في سورة البقرة : أنهم أبصروا ثم عموا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا . وكذلك قال قتادة ومجاهد : ضرب المثل لإقبالهم على المؤمنين، وسماعهم ما جاء به الرسول، وذهاب نورهم، قال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 17، 18 ] إلى ما كانوا عليه .(1/75)
وأما قول من قال : المراد بالنور : ما حصل في الدنيا من حقن دمائهم وأموالهم، فإذا ماتوا سلبوا ذلك الضوء كما سلب صاحب النار ضوءه، فلفظ الآية يدل على خلاف ذلك، فإنه قال : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } ويوم القيامة يكونون في العذاب كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } الآية [ الحديد : 13، 14 ] ، وقد قال غير واحد من السلف : إن المنافق يعطي يوم القيامة نوراً ثم يطفأ؛ ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا } [ التحريم : 8 ] . قال المفسرون : إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ، سألوا اللّه أن يتم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة .(1/76)
/قال ابن عباس : ليس أحد من المسلمين إلا يعطي نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، وأما المؤمن فيشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهو يقول : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } ، وهو كما قال : فقد ثبت في [ الصحيحين ] من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ـ وهو ثابت من وجوه أخرـ عن النبي صلىالله عليه وسلم . ورواه مسلم من حديث جابر، وهو معروف من حديث ابن مسعود ـ وهو أطولها ـ ومن حديث أبي موسى في الحديث الطويل الذي يذكر فيه أنه ينادى يوم القيامة : ( لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم اللّه في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول : أنا ربكم، فيقولون : نعوذ باللّه منك، وهذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم اللّه في صورته التي يعرفون، فيقول أنا ربكم، فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ) . وفي رواية : ( فيكشف عن ساقه ) . وفي رواية فيقول : ( هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها، فيقولون : نعم . فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياء إلا جعل اللّه ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خَرَّ على قفاه . فتبقى ظهورهم مثل صَيَاصِي البقر فيرفعون رؤوسهم فإذا نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويطفأ نور المنافقين فيقولون : ذرونا نقتبس من نوركم ) .(1/77)
فبين أن المنافقين يحشرون مع المؤمنين في الظاهر، كما كانوا معهم في الدنيا ثم وقت الحقيقة، هؤلاء يسجدون لربهم، وأولئك لا يتمكنون من السجود،/فإنهم لم يسجدوا في الدنيا له، بل قصدوا الرياء للناس، والجزاء في الآخرة هو من جنس العمل في الدنيا، فلهذا أعطوا نوراً ثم طفئ؛ لأنهم في الدنيا دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه؛ ولهذا ضرب اللّه لهم المثل بذلك، وهذا المثل، هو لمن كان فيهم آمن ثم كفر، وهؤلاء الذين يعطون في الآخرة نوراً ثم يطفأ .
ولهذا قال : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] إلى الإسلام في الباطن . وقال قتادة ومقاتل : لا يرجعون عن ضلالهم . وقال السدي : لا يرجعون إلى الإسلام، يعني في الباطن، وإلا فهم يظهرونه، وهذا المثل إنما يكون في الدنيا، وهذا المثل مضروب لبعضهم وهم الذين آمنوا ثم كفروا . وأما الذين لم يزالوا منافقين فضرب لهم المثل الآخر، وهو قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [ البقرة : 19 ] ، وهذا أصح القولين، فإن المفسرين اختلفوا : هل المثلان مضروبان لهم كلهم، أو هذا المثل لبعضهم ؟ على قولين . والثاني هو الصواب؛ لأنه قال : { أَوْ كَصَيِّبٍ } وإنما يثبت بها أحد الأمرين، فدل ذلك على أنهم مثلهم هذا وهذا، فإنهم لا يخرجون عن المثلين بل بعضهم يشبه هذا وبعضهم يشبه هذا، ولو كانوا كلهم يشبهون المثلين لم يذكر [ أو ] بل يذكر الواو العاطفة .
وقول من قال : [ أو ] هاهنا للتخييرـ كقولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ـ ليس بشيء، لأن التخيير يكون في الأمر والطلب لا يكون في الخبر، وكذلك قول من قال : { أّوً } بمعنى الواو أو لتشكيك المخاطبين،/ أو الإبهام عليهم ليس بشيء، فإن اللّه يريد بالأمثال البيان والتفهيم، لا يريد التشكيك والإبهام .(1/78)
والمقصود تفهيم المؤمنين حالهم، ويدل على ذلك أنه قال في المثل الأول : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } وقال في الثاني : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 19، 20 ] فبين في المثل الثاني أنهم يسمعون ويبصرون ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم، وفي الأول كانوا يبصرون ثم صاروا في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمي . وفي الثاني إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فلهم حالان : حال ضياء، وحال ظلام، والأولون بقوا في الظلمة . فالأول حال من كان في ضوء فصار في ظلمة، والثاني حال من لم يستقر لا في ضوء ولا في ظلمة، بل تختلف عليه الأحوال التي توجب مقامه واسترابته .(1/79)
يبين هذا أنه ـ سبحانه ـ ضرب للكفار ـ أيضاً ـ مثلين بحرف [ أو ] فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [ النور : 39، 40 ] . فالأول/ مثل الكفر الذي يحسب صاحبه أنه على حق وهو على باطل، كمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فإنه لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم؛ فلهذا مثل بسراب بقيعة، والثاني مثل الكفر الذي لا يعتقد صاحبه شيئاً، بل هو في ظلمات بعضها فوق بعض، من عظم جهله لم يكن معه اعتقاد أنه على حق، بل لم يزل جاهلاً ضالاً في ظلمات متراكمة .
وأيضاً، فقد يكون المنافق والكافر تارة متصفاً بهذا الوصف وتارة متصفًا بهذا الوصف، فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم، وبكل حال فليس ما ضرب له هذا المثل هو مماثل لما ضرب له هذا المثل؛ لاختلاف المثلين صورة ومعنى؛ ولهذا لم يضرب للإيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد فضرب مثله بالنور، وأولئك ضرب لهم المثل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة أو بالظلمات المتراكمة، وكذلك المنافق يضرب له المثل بمن أبصر ثم عمى، أو هو مضطرب يسمع ويبصر ما لا ينتفع به . فتبين أن من المنافقين من كان آمن ثم كفر باطناً، وهذا مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسير، أنه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب :(1/80)
منها : أمر القبلة، لما حولت ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن اللّه بها الناس، قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } [ البقرة : 143 ] /قال : أي : إذا حولت، والمعنى : أن الكعبة هي القبلة التي كان في علمنا أن نجعلها قبلتكم؛ فإن الكعبة ومسجدها وحرمها أفضل بكثير من بيت المقدس وهي البيت العتيق، وقبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء، ولم يأمر اللّه قط أحداً أن يصلي إلى بيت المقدس، لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما؛ فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة، ولكن جعلناها أولاً قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس،فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فكان في شرعها هذه الحكمة .(1/81)
وكذلك ـ أيضاً ـ لما انهزم المسلمون يوم أحد وشُجَّ وجه النبي صلىالله عليه وسلم وكسرت رَبََِاعِيَتُهُ، ارتد طائفة نافقوا، قال تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 139 : 141 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [ آل عمران : 166، 167 ] فقوله : { وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } ظاهر فيمن أحدث نفاقاً وهو يتناول من لم ينافق قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقاً ثانياً، وقوله : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم بل إما أن يتساويا، وإما أن يكونوا للإيمان أقرب، وكذلك كان، فإن ابن أبيّ لما /انخزل عن النبي صلىالله عليه وسلم يوم أحد، انخزل معه ثلث الناس، قيل : كانوا نحو ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق .(1/82)
فإن ابن أبي كان مظهراً لطاعة النبي صلىالله عليه وسلم والإيمان به؛ وكان كل يوم جمعة يقوم خطيباً في المسجد يأمر باتباع النبي صلىالله عليه وسلم ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس إن ظهر، وكان معظماً في قومه، كانوا قد عزموا على أن يتوجوه ويجعلوه مثل الملك عليهم، فلما جاءت النبوة بطل ذلك، فحمله الحسد على النفاق، وإلا فلم يكن له قبل ذلك دين يدعو إليه؛ وإنما كان هذا في اليهود، فلما جاء النبي صلىالله عليه وسلم بدينه وقد أظهر اللّه حسنه ونوره، مالت إليه القلوب لا سيما لما نصره اللّه يوم بدر، ونصره على يهود بني قينقاع، صار معه الدين والدنيا، فكان المقتضى للإيمان في عامة الأنصار قائماً، وكان كثير منهم يعظم ابن أبي تعظيماً كثيراً ويواليه، ولم يكن ابن أبي أظهر مخالفة توجب الامتياز، فلما انخزل يوم أحد وقال : يدع رأيي ورأيه، ويأخذ برأي الصبيان ـ أو كما قال ـ انخزل معه خلق كثير، منهم من لم ينافق قبل ذلك .(1/83)
وفي الجملة، ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب اللّه به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من /المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان، ينقص إيمانهم كثيراً وينافق أكثرهم أو كثير منهم . ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة . وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسول باطناً وظاهراً لكن إيماناً لا يثبت على المحنة . ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم .(1/84)
وهؤلاء من الذين قالوا : { آمنا } فقيل لهم : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] أي : الإيمان المطلق، الذي أهله هم المؤمنون حقًا، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب اللّه ـ تعالى ـ كما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب، والريب يكون في علم القلب وفي عمل القلب، بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم؛ ولهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علماً وعملاً، وإلا فإذا كان عالماً بالحق، ولكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعًا عظيماً، لم يكن صاحب يقين قال تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] .
/وكثيراً ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوب اللّه عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، ويدفعه اللّه عنه . والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قالت الصحابة : يا رسول اللّه، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يَخرَّ من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به . فقال : ( ذاك صريح الإيمان ) ، وفي رواية : ما يتعاظم أن يتكلم به . قال : ( الحمد للّه الذي رد كيده إلى الوسوسة ) أي : حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب، هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو، فدافعه حتى غلبه، فهذا أعظم الجهاد، والصريح الخالص، كاللبن الصريح . وإنما صار صريحاً، لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية، ودفعوها فخلص الإيمان فصار صريحاً .(1/85)
ولابد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فصير كافراً أو منافقاً، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمناً وإما أن يصير منافقاً؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع اللّه ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة؛/فإنه عدوهم يطلب صدهم عن اللّه، قال تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } [ فاطر : 6 ] ؛ ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم، فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقيناً وطمأنينة وشفاء، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : { هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 138 ] ، وقال تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، وقال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] .(1/86)
وهذا مما يجده كل مؤمن من نفسه، فالشيطان يريد بوساوسه أن يشغل القلب عن الانتفاع بالقرآن، فأمر اللّه القارئ، إذا قرأ القرآن، أن يستعيذ منه، قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 98 : 100 ] ، فإن المستعيذ باللّه مستجير به، لاجئ إليه، مستغيث به من الشيطان، فالعائذ بغيره مستجير به؛ فإذا عاذ العبد بربه كان مستجيراً به متوكلاً عليه فيعيذه اللّه من الشيطان ويجيره منه، ولذلك قال اللّه تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فصلت : 34 : 36 ] .
وفي الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : ( إني لأعلم كلمة لو/ قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ) . فأمر ـ سبحانه ـ بالاستعاذة عند طلب العبد الخير؛ لئلاً يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه من الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات، وعند ما يأمره الشيطان بالسيئات؛ ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم : ( لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق اللّه ؟ فمن وجد ذلك فليستعذ باللّه ولينته ) ، فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شر أو يمنعه من خير، كما يفعل العدو مع عدوه .(1/87)
وكلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك من غيره بحيث تكون قوته على ذلك أقوى، ورغبته وإرادته في ذلك أتم، كان ما يحصل له ـ إن سلمه اللّه من الشيطان ـ أعظم، وكان ما يفتتن به ـ إن تمكن منه الشيطان ـ أعظم؛ ولهذا قال الشعبي : كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم .
وأهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل، وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم، وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب، ولهذا أمر النبي صلىالله عليه وسلم بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة؛ وأولئك لهم/نهمة في العلم والعبادة، فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم ـ وهم يظنونها هدي، فيطيعونها ـ ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم؛ كما قال ابن مسعود لأصحابه : كونوا ينابيع العلم،مصابيح الحكمة، سُرُج الليل،جُدَد القلوب، أحْلاس البيوت، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض .
فصل(1/88)
إذا عرف هذا، فنقول : الصواب في قصة آدم وموسى، أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص؛ ولهذا قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ لم يقل : لماذا خالفت الأمر ؟ ولماذا عصيت ؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . قال ابن مسعود أو غيره : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( احرص على/ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .
فأمره بالحرص على ما ينفعه وهو طاعة الله ورسوله، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله، وأمره إذا أصابته مصيبة مقدرة ألا ينظر إلى القدر ولا يتحسر بتقدير لا يفيد، ويقول : قدر الله وما شاء فعل، ولا يقول : لو أني فعلت لكان كذا، فيقدر ما لم يقع، يتمني أن لو كان وقع؛ فإن ذلك إنما يورث حسرة وحزنًا لا يفيد، والتسليم للقدر هو الذي ينفعه، كما قال بعضهم : الأمر أمران : أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه .
ومازال أئمة الهدى من الشيوخ وغيرهم يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت تلك المصيبة بسبب فعل آدمي .(1/89)
فلو أن رجلاً أنفق ماله في المعاصي حتى مات، ولم يخلف لولده مالا، أو ظلم الناس بظلم صاروا لأجله يبغضون أولاده، ويحرمونهم ما يعطونه لأمثالهم، لكان هذا مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب فعل الأب، فإذا قال أحدهم لأبيه : أنت فعلت بنا هذا، قيل للابن : هذا كان مقدورًا /عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعله من الظلم والتبذير، ملوم علي ذلك، لا يرتفع عنه ذم الله وعقابه بالقدر السابق، فإن كان الأب قد تاب توبة نصوحًا وتاب الله عليه وغفر له، لم يجز ذمه ولا لومه بحال، لا من جهة حق الله، فإن الله قد غفر له، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله؛ إذ لم يكن هو ظالمًا لأولئك، فإن تلك كانت مقدرة عليهم .
وهذا مثال قصة آدم : فإن آدم لم يظلم أولاده، بل إنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وإنما هبط آدم وحواء، ولم يكن معهما ولد حتى يقال : إن ذنبهما تعدي إلى ولدهما، ثم بعد هبوطهما إلى الأرض جاءت الأولاد، فلم يكن آدم قد ظلم أولاده ظلمًا يستحقون به ملامه، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر كان مقدرًا عليهم لا يستحقون به لوم آدم، وذنب آدم كان قد تاب منه، قال الله تعالى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } [ طه : 121، 122 ] ، وقال : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] ، فلم يبق مستحقًا لذم ولا عقاب .(1/90)
وموسى كان أعلم من أن يلومه لحق الله على ذنب قد علم أنه تاب منه، فموسى أيضًا فد تاب من ذنب عمله، وقد قال موسى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [ الأعراف : 155 ] ، وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر على أن المذنب لا ملام عليه، فكيف وقد علم أن إبليس لعنه الله بسبب/ذنبه وهو ـ أيضًا ـ كان مقدرًا عليه،وآدم قد تاب من الذنب واستغفر، فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له عند ربه لاحتج ولم يتب ويستغفر .
وقد روى في الإسرائيليات أنه احتج به، وهذا مما لا يصدق به لو كان محتملا،فكيف إذا خالف أصول الإسلام، بل أصول الشرع والعقل، نعم إن كان ذكر القدر مع التوبة فهذا ممكن، لكن ليس فيما أخبر الله به عن آدم شيء من هذا، ولا يجوز الاحتجاج في الدين بالإسرائيليات إلا ما ثبت نقله بكتاب الله أو سنة رسوله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم ) .
وأيضًا فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له فلماذا أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض ؟ !
فإن قيل : وهو قد تاب، فلماذا بعد التوبة أهبط إلى الأرض ؟(1/91)
قيل : التوبة قد يكون من تمامها عمل صالح يعمله فيبتلى بعد التوبة لينظر دوام طاعته، قال الله تعالى : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ آل عمران : 89 ] في التائب من الردة، وقال في كاتم العلم : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 160 ] ، وقال : { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] ، وقال في القذف : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النور : 5 ] ، وقال : { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [ الفرقان : 70، 71 ] ، وقال : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [ طه : 82 ] .
ولما تاب كعب بن مالك وصاحباه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم حتى نسائهم ثمانين ليلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما رجمها : ( لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله ) . وقد أخبر الله عن توبته على بني إسرائيل حيث قال لهم موسى : { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] .(1/92)
وإذا كان الله ـ تعالى ـ قد يبتلى العبد من الحسنات والسيئات، والسراء والضراء بما يحصل معه شكره وصبره، أم كفره وجزعه وطاعته أم معصيته فالتائب أحق بالابتلاء، فآدم أهبط إلى الأرض ابتلاء له، ووفقه الله في هبوطه لطاعته فكان حاله بعد الهبوط،خيرًا من حاله قبل الهبوط، وهذا بخلاف ما لو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له، فإنه لا يكون عليه ملام البتة ولا هناك توبة تقتضي أن يبتلى صاحبها ببلاء .
وأيضًا فإن الله قد أخبر في كتابه بعقوبات الكفار : مثل قوم/ نوح وهود وصالح وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون وقومه ما يعرف بكل واحدة من هذه الوقائع ألا حجة لأحد في القدر، وأيضًا فقد شرع الله من عقوبة المحاربين من الكفار وأهل القبلة وقتل المرتد وعقوبة الزاني والسارق والشارب ما يبين ذلك .
سئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن قول الشيخ عبد القادر : نازعت أقدار الحق بالحق للحق .
فأجاب :
الحمد لله، جميع الحوادث كائنة بقضاء الله وقدره، وقد أمرنا الله سبحانه أن نزيل الشر بالخير بحسب الإمكان . ونزيل الكفر بالإيمان والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة من أنفسنا ومن عندنا، فكل من كفر أو فسق أو عصى فعليه أن يتوب، وإن كان ذلك بقدر الله، وعليه أن يأمر غيره بالمعروف، وينهاه عن المنكر بحسب الإمكان، ويجاهد في سبيل الله، وإن كان ما يعمله من المنكر والكفر والفسوق والعصيان بقدر الله، ليس للإنسان أن يدع السعي فيما ينفعه الله به متكلاً على القدر، بل يفعل ما أمر الله ورسوله، كما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف . وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن . وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(1/93)
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرص على ما ينفعه، والذي ينفعه / يحتاج إلى منازعة شياطين الإنس والجن، ودفع ما قدر من الشر بما قدره الله من الخير . وعليه مع ذلك أن يستعين بالله فإنه لا حول ولا قوة إلا به . وأن يكون عمله خالصا لله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، وهذا حقيقة قولك : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } والذي قبله حقيقة : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] فعليه أن يعبد الله بفعل المأمور وترك المحظور، وأن يكون مستعينًا بالله على ذلك، وفي عبادة الله وطاعته فيما أمر إزالة ما قدر من الشر بما قدر من الخير، ودفع ما يريده الشيطان، ويسعى فيه من الشر قبل أن يصل بما يدفعه الله به من الخير .
قال الله تعالى : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ } [ البقرة : 251 ] كما يدفع شر الكفار والفجار الذي في نفوسهم والذي سعوا فيه بالحق كإعداد القوة ورباط الخيل، وكالدعاء والصدقة الذين يدفعان البلاء كما جاء في الحديث : ( إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض ) فالشر تارة يكون قد انعقد سببه وخيف فيدفع وصوله، فيدفع الكفار إذا قصدوا بلاد الإسلام، وتارة يكون قد وجد فيزال وتبدل السيئات بالحسنات وكل هذا من باب دفع ما قدر من الشر بما قدر من الخير . وهذا واجب تارة، ومستحب تارة .
فالذي ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ هو الذي أمر الله به ورسوله .(1/94)
/والمقصود من ذلك أن كثيرًا من أهل السلوك والإرادة يشهدون ربوبية الرب، وما قدره من الأمور التي ينهى عنها فيقفون عند شهود هذه الحقيقة الكونية، ويظنون أن هذا من باب الرضا بالقضاء والتسليم، وهذا جهل وضلال قد يؤدي إلى الكفر، والانسلاخ من الدين . فإن الله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .
والله تعالى قد قال : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] وقال : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] فكيف يأمرنا أن نرضى لأنفسنا مالا يرضاه لنا، وهو جعل ما يكون من الشر محنة لنا وابتلاءً كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } [ الفرقان : 20 ] ، وقال تعالى بعد أمره بالقتال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 4 ] ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) .
فالمؤمن إذا كان صبورًا شكورًا، يكون ما يقضي عليه من المصائب خيرًا / له، وإذا كان آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، مجاهدًا في سبيله، كان ما قدر له من كفر الكفار سبب للخير في حقه، وكذلك إذا دعاه الشيطان والهوى كان ذلك سببًا لما حصل له من الخير، فيكون ما يقدر من الشر إذا نازعه ودافعه، كما أمره الله ورسوله سببًا لما يحصل له من البر والتقوى وحصول الخير والثواب وارتفاع الدرجات .(1/95)
فهذا وأمثاله مما يبين معنى هذا الكلام . والله أعلم .
فصل
فى الدعاء المذكور في آخر ( سورة البقرة ) وهو قوله : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } إلى آخرها [ البقرة : 682 ] .
وقد ثبت فى صحيح مسلم : أنه قال ( قَدْ فَعَلْتُ ) ، وكذلك فى صحيحه من حديث ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أعطيتُ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من كَنْزٍ تحت العرش لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته ) وفى صحيحه أيضاً عن ابن مسعود قال : لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سِدْرة ينتهى، وهى فى السماء السابعة، وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها يتنهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها، قال : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [ النجم : 16 ] ، قال : فراش من ذهب، قال : فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطى الصلوات الخمس،وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئاً المقْحِمَات .
قال بعض الناس : إذا كان هذا الدعاء قد أجيب، فطلب ما فيه من باب تحصيل الحاصل، وهذا لا فائدة فيه، فيكون هذا الدعاء عبادة محضة ليس المقصود به السؤال، وهذا القول قد قاله طائفة فى جميع الدعاء أنه إن كان المطلوب مقدرا فلا حاجة إلى سؤاله وطلبه، وإن كان غير مقدر لم ينفع الدعاء ـ دعوت أو لم تدع ـ فجعلوا الدعاء تعبداً محضاً، كما قال ذلك طائفة أخرى فى التوكل .(1/96)
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء فى غير هذا الموضع، وذكرنا قول من جعل ذلك أمارة أو علامة بناء على أنه ليس فى الوجود سبب يفعل به؛ بل يقترن أحد الحادثين بالآخر، قاله طائفة من القدرية النظار، وأول من عرف عنه ذلك الجَهْم بن صَفْوان ومن وافقه، وذكرنا أن ( القول الثالث ) هو الصواب، وهو أن الدعاء والتوكل والعمل الصالح سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة والمعاصي سبب، وأن الحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع، فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب .
والمقصود هنا الكلام في الدعاء الذى قد علم أنه أجيب، فقال بعض الناس : هذا تعبد محض لحصول المطلوب بدون دعائنا، فلا يبقى سببا ولا علامة، وهذا ضعيف .
أما أولاً : فإن العمل الذى لا مصلحة للعبد فيه لا يأمر الله به، وهذا بناء على قول السلف : إن اللّه لم يخلق ولم يأمر إلا لحكمة، كما لم يخلق ولم يأمر إلا لسبب . والذين ينكرون الأسباب والحكم يقولون : بل يأمر بما لا منفعة فيه للعباد البتة، وإن أطاعوه وفعلوا ما أمرهم به، كما بسط الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع .
والمقصود أن كل ما أمر الله به، أمر به لحكمة، وما نهى عنه نهى لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقهاء قاطبة وسلف الأمة وأئمتها وعامتها، فالتعبد المحض ـ بحيث لا يكون فيه حكمة ـ لم يقع . نعم، قد تكون الحكمة فى المأمور به وقد تكون في الأمر، وقد تكون في كليهما، فمن المأمور به ما لو فعله العبد بدون الأمر حصل له منفعة؛ كالعدل، والإحسان إلى الخلق،وصلة الرحم، وغير ذلك . فهذا إذ أمر به صار فيه حكمتان حكمة فى نفسه، وحكمة في الأمر، فيبقى له حسن من جهة نفسه ومن جهة أمر الشارع، وهذا هو الغالب على الشريعة، وما أمر الشرع به بعد أن لم يكن إنما كانت حكمته لما أمر به .
وكذلك ما نسخ زالت حكمته وصارت فى بدله كالِقبلة .(1/97)
وإذا قدر أن الفعل ليست فيه حكمة أصلاً فهل يصير بنفس الأمر فيه حكمة الطاعة ؟ وهذا جائز عند من يقول بالتعبد المحض وإن لم يقل بجواز الأمر لكل شىء، لكن يجعل من باب الابتلاء والامتحان، فإذا فعل صار العبد به مطيعا، كنهيهم عن الشرب إلا من اغترف غرفة بيده .
والتحقيق أن الأمر الذى هو ابتلاء وامتحان يحض عليه من غير منفعة فى الفعل متى اعتقده العبد وعزم على الامتثال حصل المقصود، وإن لم يفعله، كإبراهيم لما أمر بذبح ابنه، وكحديث أقرع وأبرص وأعمى لما طلب منهم إعطاء ابن السبيل، فامتنع الأبرص والأقرع فسُلِبَا النعمة . وأما الأعمى فبذل المطلوب، فقيل له : أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضى عنك وسخط على صاحبيك . وهذا هو الحكمة الناشئة من نفس الأمر والنهى لا من نفس الفعل، فقد يؤمر العبد وينهى وتكون الحكمة طاعته للأمر وانقياده له وبذله للمطلوب، كما كان المطلوب من إبراهيم تقديم حب الله على حبه لابنه، حتى تتم خُلَّته به قبل ذبح هذا المحبوب للّه، فلما أقدم عليه وقوى عزمه بإرادته لذلك، تحقق بأن الله أحب إليه من الولد وغيره، ولم يبق فى قلبه محبوب يزاحم محبة اللّه .
وكذلك أصحاب طالوت، ابْتُلُوا بالامتناع من الشرب ليحصل من إيمانهم وطاعتهم ما تحصل به الموافقة، والابتلاء هاهنا كان بنهى لا بأمر، وأما رمى الجمار والسعى بين الصفا والمروة، فالفعل فى نفسه مقصود لما تضمنه من ذكر الله .
وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم هذا بقوله فى الحديث الذى فى السنن : ( إنما جعل السعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله ) رواه أبو داود والترمذى وغيرهما . فبين النبى صلى الله عليه وسلم أن هذا له حكمة، فكيف يقال : لا حكمة، بل هو تعبد وابتلاء محض .(1/98)
وأما فعل مأمور فى الشرع ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا حكمة إلا مجرد الطاعة، والمؤمنون يفعلونه، فهذا لا أعرفه، بل ما كان من هذا القبيل نسخ بعد العزم، كما نسخ إيجاب الخمسين صلاة إلى خمس .
والمعتزلة تنكر الحكمة الناشئة من نفس الأمر؛ ولهذا لم يجوزوا النسخ قبل التمكن، وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبى الحسن التميمى [ هو أبو الحسن عبد العزيز بن الحارث بن آسد بن الليث التميمى، فقيه حنبلى، له إطلاع على مسائل الخلاف . صنف كتبا فى الآصول والفرائع، ولد سنة 317هـ، وتوفى سنة 371هـ ] ، وبنوه على أصلهم، وهو أن الأمر عندهم كاشف عن حسن الفعل الثابت فى نفسه لا مثبت لحسن الفعل، وأن الأمر لا يكون إلا بحسن، وغلطوا فى المقدمتين، فإن الأمر وإن كان كاشفا عن حسن الفعل فالفعل بالأمر يصير له حسن آخر غير الحسن الأول، وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة فقد يأمر بما ليس بحسن فى نفسه وينسخه قبل التمكن إذا حصل المقصود من طاعة المأمور وعزمه وانقياده، وهذا موجود فى أمر الله وأمر الناس بعضهم بعضا .
والجهمية تنكر أن يكون فى الفعل حكمة أصلا فى نفسه ولا فى نفس الأمر بناء على أصلهم : أنه لا يأمر لحكمة، وعلى أن الأفعال بالنسبة إليه سواء، ليس بعضها حسنا وبعضها قبيحا، وكلا الأصلين قد وافقتهم عليه الأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء، كأصحاب الشافعى ومالك وأحمد وغيرهم، وهما أصلان مبتدعان؛ فإن مذهب السلف والأئمة أن الله يخلق لحكمة ويأمر لحكمة، ومذهب السلف والأئمة أن اللّه يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى ذلك، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان قد شاء وجود ذلك، وقد بسط هذا فى موضع آخر .
وقد قال تعالى : { وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] ، فإن نفس السجود خضوع للّه،ولو فعله الإنسان للّّه مع عدم علمه أنه أمر به انتفع، كالسحرة الذين سجدوا قبل الأمر بالسجود .(1/99)
وكذلك قول العبد : حُطَّ عنا خطايانا، دعاء للّه وخضوع، وقد قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، وهذه الأفعال المدعو بها فى آخر البقرة أمور مطلوبة للعباد .
وقد أجيب بجواب آخر وهو : أن اللّه تعالى إذا قدر أمراً فإنه يقدر أسبابه، والدعاء من جملة أسبابه، كما أنه لما قدر النصر يوم بَدْر، وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم، كان من أسباب ذلك استغاثة النبى صلى الله عليه وسلم ودعاؤه، وكذلك ما وعده به ربه من الوسيلة، وقد قضى بها له، وقد أمر أمته بطلبها له، وهو ـ سبحانه ـ قدرها بأسباب، منها ما سيكون من الدعاء .
وعلى هذا، فالداخل فى السبب هو ما وقع من الدعاء المأمور به واللّه أعلم بذلك، فيثيب هذا الداعى على ما فعله من الدعاء بجعله تمام السبب، ولا يكون على هذا الدعاء سبباً فى اختصاصه بشىء من ذلك، بل فى حصوله لمجموع الأمة، لكن هو يثاب على الدعاء لكونه من جملة الأسباب؛ وهذا لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من عبد يدعو اللّه بدعوة ليس فيها إثم ولا قَطِعيةُ رَحِمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى خِصال ثلاث : إما أن يُعجِّل له دعوته، وإما أن يَدَّخِر له من الخير مثلها، وإما أن يدفع عنه من البلاء مثلها ) . قالوا : يا رسول اللّه، إذا نُكْثِر . قال : ( الله أكثر ) . فالداعى بهذا كالداعى بالوسيلة يحصل له من الأجر ما يخصه كالداعي للأمة ولأخيه الغائب، ودعاؤه من أسباب الخير التى بها رحمة الأمة، كما يثاب على سؤاله الوسيلة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن تحل عليه الشفاعة يوم القيامة .(1/100)
وهنا جواب ثالث وهو : أن كل من دعا بهذا الدعاء حصل له من المدعو المطلوب ما لا يحصل بدون المطلوب من الدعاء، فيكون الدعاء به كدعائه بسائر مطالبه من المغفرة والرحمة، وليس هو كدعاء الغائب للغائب، فإن الملك يقول هناك : ( ولك بمثله ) ، فيدعو له الملك بمثل ما دعا به للغائب، وهنا هو داع لنفسه وللمؤمنين .
وبيان هذا أن الشرع، وإن كان قد استقر بموت النبى صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر أن اللّه تجاوز لأمته عن الخطأ والنسيان، وقد أخبر أن الرسول يضع عن أمته إصْرَهم والأغلال التى كانت عليهم،وسأل ربه لأمته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم فأعطاه ذلك، لكن ثبوت هذا الحكم فى حق آحاد الأمة قد لا يحصل إلا بطاعة اللّه ورسوله، فإذا عصى اللّه ذلك الشخص العاصى عوقب عن ذلك بسلب هذه النعمة، وإن كانت الشريعة لم تنسخ .
يبين هذا أن فى هذا الدعاء سؤال الله بالعفو والمغفرة والرحمة والنصر على الكفار، ومعلوم أن هذا ليس حاصلا لكل واحد من أفراد الأمة، بل منهم من يدخل النار، ومنهم من ينصر عليه الكفار، ومنهم من يسلب الرزق، لكونهم فرطوا فى طاعة الله ورسوله، فيسلبون ذلك بقدر ما فرطوا أو قصروا .
وقول الله : ( قَدْ فَعَلْتُ ) يقال فيه شيئان :
أحدهما : أنه قد فعل ذلك بالمؤمنين المذكورين فى الآية، والإيمان المطلق يتضمن طاعة اللّه ورسوله . فمن لم يكن كذلك نقص إيمانه الواجب فيستحق من سلب هذه النعم بقدر النقص، ويعوق اللّه عليه ملاذ ذلك، ولم يستحق من الجزاء ما يستحقه من قام بالإيمان الواجب .(1/101)
الثانى : أن يقال : هذا الدعاء استجيب له فى جملة الأمة، ولا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح؛ فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، ولولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح : ( سألت ربى لأمتى ثلاثا فأعطانى اثنتين، ومنعنى واحدة : سألته ألا يهلك أمتى بسَنَة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم، فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بَأْسَهم بينهم فمنعنيها، وقال : يا محمد،إنى إذا قضيتُ قضاء لم يُرَدَّ ) .
وكذلك فى الصحيحين : لما نزل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( أعوذ بوجهك ) . { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : ( أعوذ بوجهك ) { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 65 ] قال : ( هاتان أهْوَن ) . وهذا لأنه لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة، ولابد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشرى، ولا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك؛ ولهذا لم يكن ما وقع فيها من الاختلاف والقتال والذنوب دليلا على نقصها، بل هي أفضل الأمم، وهذا الواقع بينهم من لوازم البشرية، وهو فى غيرها أكثر وأعظم، وخير غيرها أقل والخير فيها أكثر، والشر فيها أقل، فكل خير فى غيرها فهو فيها أعظم، وكل شر فيها فهو فى غيرها أعظم .
وأما حصول المطلوب للآحاد منها فلا يلزم حصوله لكل عاص؛ لأنه لم يقم بالواجب، ولكن قد يحصل للعاصى من ذلك بحسب ما معه من طاعة اللّه تعالى، وأما حصول المغفرة والعفو والرحمة بحسب الإيمان والطاعة فظاهر؛ لأن هذا من الأحكام القدرية الخلقية من جنس الوعد والوعيد، وهذا يتنوع بتنوع الإيمان والعمل الصالح .(1/102)
وأما دفع المؤاخذة بالخطأ والنسيان، ودفع الآصار، فإن هذا قد يشكل لأنه من باب الأحكام الشرعية أحكام الأمر والنهى .
فيقال : الخطأ والنسيان المرفوع عن الأمة مرفوع عن عصاة الأمة؛فإن العاصى لا يأثم بالخطأ والنسيان؛ فإنه إذا أكل ناسياً أتم صومه، سواء كان مطيعاً فى غير ذلك أو عاصياً، فهذا هو الذى يشكل، وعنه جوابان :
أحدهما : أن الذنوب والمعاصى قد تكون سبباً لعدم العلم بالحنيفية السَّمْحَة؛فإن الإنسان قد يفعل شيئاً ناسيًا أو مخطئاً ويكون لتقصيره فى طاعة الله علماً وعملا،ولا يعلم أن ذلك مرفوع عنه؛إما لجهله،وإما لكونه ليس هناك من يفتيه بالرخصة فى الحنيفية السمحة .
والعلماء قد تنازعوا فى كثير من مسائل الخطأ والنسيان، واعتقد كثير منهم بطلان العبادات أو بعضها به،كمن يبطل الصوم بالنسيان،وآخرون بالخطأ،وكذلك الإحرام، وكذلك الكلام فى الصلاة،وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسياً أو مخطئاً، فإذا كان اللّه ـ سبحانه ـ قد نفى المؤاخذة بالخطأ والنسيان،وخفى ذلك فى مواضع كثيرة على كثير من علماء المسلمين،كان هذا عقوبة لمن لم يجد فى نفسه ثقة إلا هؤلاء فيفتونه بما يقتضى مؤاخذته بالخطأ والنسيان،فلا يكون مقتضى هذا الدعاء حاصلا فى حقه لعدم العلم،لالنسخ الشريعة .(1/103)
واللّه ـ سبحانه ـ جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعلم النافع، كقوله : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] ،وقال : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ } [ البقرة : 88 ] ، وقال : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 109، 110 ] وقال : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } [ البقرة : 10] ، وقال : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] .
وهذا كما أنه حرم على بنى إسرائيل طيبات أحلت لهم لأجل ظلمهم وبغيهم، فشريعة محمد لا تنسخ ولا تعاقب أمته كلها بهذا، ولكن قد تعاقب ظلمتهم بهذا، بأن يحرموا الطيبات، أو بتحريم الطيبات؛ إما تحريماً كونياً بألا يوجد غيثهم، وتهلك ثمارهم، وتقطع المِيرَة عنهم، أو أنهم لا يجدون لذة مأكل ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس ونحوه كما كانوا يجدونها قبل ذلك، وتسلط عليهم الغُصَص [ جمع غُصَّة،وهى ما اعترض فى الحلق ـ من طعام وشراب وغيرهما ـ فأشرق . انظر : القاموس، مادة : غصص ] وما ينغص ذلك ويعوقه . ويجرعون غصص المال والولد والأهل، كما قال تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ التوبة : 55 ] وقال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55،56 ] ، وقال : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [ التغابن : 15 ] ، فيكون هذا كابتلاء أهل السبت بالحيتان .(1/104)
وإما أن يعاقبوا باعتقاد تحريم ما هو طيب حلال لخفاء تحليل اللّه ورسوله عندهم، كما قد فعل ذلك كثير من الأمة، اعتقدوا تحريم أشياء فروج عليهم بما يقعون فيه من الأيمان والطلاق، وإن كان الله ورسوله لم يحرم ذلك؛ لكن لما ظنوا أنها محرمة عليهم عوقبوا بحرمان العلم الذى يعلمون به الحل، فصارت محرمة عليهم تحريماً كونياً، وتحريماً شرعياً فى ظاهر الأمر؛ فإن المجتهد عليه أن يقول ما أدى إليه اجتهاده، فإذا لم يؤد اجتهاده إلا إلى تحريم هذه الطيبات لعجزه عن معرفة الأدلة الدالة على الحل، كان عجزه سبباً للتحريم فى حق المقصرين فى طاعة الله .
وكذلك اعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التى يحتاجون إليها كضمان البساتين، والمشاركات وغيرها؛ وذلك لخفاء أدلة الشرع، فثبت التحريم فى حقهم بما ظنوه من الأدلة، وهذا كما أن الإنسان يعاقب بأن يخفى عليه من الطعام الطيب والشراب الطيب ما هو موجود وهو مقدور عليه لو علمه، لكن لا يعرف بذلك عقوبة له، وإن العبد ليحَرم الرزق بالذنب يُصيبه، وقد قال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2، 3 ] فهو سبحانه إنما ضمن الأشياء على وجهها واستقامتها للمتقين، كما ضمن هذا للمتقين .
فتبين أن المقصرين فى طاعته من الأمة قد يؤاخذون بالخطأ والنسيان، ومن غير نسخ بعد الرسول، لعدم علمهم بما جاء به الرسول من التيسير، ولعدم علم من عندهم من العلماء بذلك؛ ولهذا يوجد كثير ممن لا يصلى فى السفر قصراً يرى الفطر فى السفر حراما فيصوم فى السفر مع المشقة العظيمة عليه، وهذا عقوبة له لتقصيره فى الطاعة، لكنه مما يكفر اللّه به من خطاياه ما يكفره، كما يكفر خطايا المؤمنين بسائر مصائب الدنيا .(1/105)
وكذلك منهم من يعتقد التربيع فى السفر واجباً فيربع فيبتلى بذلك لتقصيره فى الطاعة، ومنهم من يعتقد تحريم أمور كثيرة من المباحات التى بعضها مباح بالاتفاق، وبعضها متنازع فيه، لكن الرسول لم يحرمه؛ فهؤلاء الذين اعتقدوا وجوب ما لم يوجبه الله ورسوله، وتحريم ما لم يحرمه حمل عليهم إصراً، ولم توضع عنهم جميع الآصار والأغلال وإن كان الرسول قد وضعها، لكنهم لم يعلموها .
وقد يبتلون بمطاع يلزمهم ذلك فيكون آصاراً وأغلالا من جهة مطاعهم؛ مثل حاكم، ومفت، وناظر وقف، وأمير ينسب ذلك إلى الشرع؛ لاعتقاده الفاسد أن ذلك من الشرع ويكون عدم علم مطاعهم تيسير اللّه عليهم عقوبة فى حقهم لذنوبهم، كما لو قدر أنه سار بهم فى طريق يضرهم، وعدل بهم عن طريق فيه الماء والمرعى لجهله، لا لتعمده مضرتهم، أو أقام بهم فى بلد غالى الأسعار مع إمكان المقام ببلد آخر .
وهذا لأن الناس كما قد يبتلون بمطاع يظلمهم ويقصد ظلمهم، يبتلون أيضا بمطاع يجهل مصلحتهم الشرعية والكونية، فيكون جهل هذا من أسباب عقوبتهم، كما أن ظلم ذلك من أسباب مضرتهم، فهؤلاء لم ترفع عنهم الآصار والأغلال لذنوبهم ومعاصيهم، وإن كان الرسول ليس فى شرعه آصار وأغلال؛ فلهذا تَسلَّط عليهم حكام الجور والظلم، وتساق إليهم الأعداء، وتقاد بسلاسل القهر والقدر، وذلك من الآصار والأغلال التى لم ترفع عنهم مع عقوبات لا تحصى؛ وذلك لضعف الطاعة فى قلوبهم، وتمكن المعاصى وحب الشهوات فيها، فإذا قالوا : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [ البقرة : 286 ] دخل فيه هذا .
وأما قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] ، فعلى قولين :(1/106)
قيل : هو من باب التحميل القدرى، لا من باب التكليف الشرعى، أى : لا تبتلينا بمصائب لا نطيق حملها، كما يبتلى الإنسان بفقر لا يطيقه، أو مرض لا يطيقه، أو حدث، أو خوف، أو حب أو عشق لا يطيقه، ويكون سبب ذلك ذنوبه .
وهذا مما يبين أن الذنوب عواقبها مذمومة مطلقاً .
وقوله : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، و { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7، 8 ] قول حق، وقال تعالى فى قصة قوم لوط : { وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ الذاريات : 37 ] .
فما من أحد يبتلى بجنس عملهم إلا ناله شىء من العذاب الأليم، حتى تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى صارت غرامًا وعشقاً زاد العذاب الأليم، سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجز عنه؛ فإن كان عاجزاً فهو فى عذاب أليم من الحزن والهَمّ والغَمّ، وإن كان قادراً فهو فى عذاب أليم من خوف فراقه، ومن السعى فى تأليفه وأسباب رضاه؛ فإن نزل به الموت أو افتقر تضاعف علىه العذاب، وإن صار إلى غيره استبدالاً به أو مشاركة قوى عذابه، فإن هذا الجنس يحصل فيه من العذاب ما لا يحصل فى عشق البغايا وما يحصل مثله فى الحلال، وإن حصل في الحلال نوع عذاب كان أخف من نظيره، وكان ذلك سبب ذنوب أخرى .
فإذا دعا الإنسان بهذا الدعاء ـ يخص نفسه ويعم المسلمين ـ فله من ذلك أعظم نصيب، كيف لا وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( الآيتان من آخر سورة البقرة ما قرأ بهما أحد فى ليلة إلا كفَتَاهُ ) وكيف لا تكفيانه وما دعا به من ذلك لم يحصل له إلا ما حصل لسائر المؤمنين الذين لم يقرؤوهما، فإن الداعى بهذا الدعاء له منه نصيب يخصه كسائر الأدعية .(1/107)
ومما يبين ذلك أن الصحابة إنما استجيب لهم هذا الدعاء لما التزموا الطاعة للّه مطلقاً بقولهم : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ البقرة : 285 ] ، ثم أنزل هذا الدعاء، فدعوا به فاستجيب لهم .
ولهذا كانوا فى الحنيفية السمحة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكانوا فيها على عهد أبى بكر خيراً مما كانوا فيها على عهد عمر، فلما كانوا فى زمن عمر حدث من بعضهم ذنوب أوجبت اجتهاد الإمام فى نوع من التشديد عليهم، كمنعهم من مُتْعَة الحج، وكإيقاع الثلاث إذا قالوها بكلمة، وكتغليظ العقوبة فى الخمر، وكان أطوعهم للّه وأزهدهم ـ مثل أبى عبيدة ـ ينقاد له عمر ما لا ينقاد لغيره، وخفى عليهم بعض مسائل الفرائض وغيرها، حتى تنازعوا فيها، وهم مؤتلفون متحابون، كل منهم يقر الآخر على اجتهاده .
فلما كان فى آخر خلافة عثمان زاد التغير والتوسع فى الدنيا، وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر، فحصل بين بعض القلوب تنافر حتى قتل عثمان، فصاروا فى فتنة عظيمة قد قال تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] ، أى هذه الفتنة لا تصيب الظالم فقط، بل تصيب الظالم والساكت عن نهيه عن الظلم، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يَعُمَّهم اللّه بعقاب منه ) .(1/108)
وصار ذلك سبباً لمنعهم كثيراً من الطيبات، وصاروا يختصمون فى متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر، فطائفة تمنع المتعة مطلقاً كابن الزبير، وطائفة تمنع الفسخ كبنى أمية وأكثر الناس، وصاروا يعاقبون مَنْ تمتع، وطائفة أخرى توجب المتعة، وكل منهم لا يقصد مخالفة الرسول، بل خفي عليهم العلم، وكان ذلك سببه ما حدث من الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( خرجتُ لأخبركم بليلة القَدْر فَتَلاَحا رجلان، فُرفِعَتْ، لعل ذلك أن يكون خيراً لكم ) . أى قد يكون إخفاؤها خيراً لكم لتجتهدوا فى ليالى العشر كلها؛ فإنه قد يكون إخفاء بعض الأمور رحمة لبعض الناس .
والنزاع فى الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم؛ ولهذا صنف رجل كتابا سماه ( كتاب الاختلاف ) فقال أحمد : سَمِّه ( كتاب السعة ) وإن الحق فى نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة اللّه ببعض الناس خفاؤه لما فى ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] .
وهكذا ما يوجد فى الأسواق من الطعام والثياب قد يكون فى نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله له حلالا لا إثم عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة، وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة وقد يكون مكروه النفس أنفع كما فى الجهاد : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] .
والمقصود هنا أن من الذنوب ما يكون سبباً لخفاء العلم النافع أو بعضه؛ بل يكون سبباً لنسيان ما علم، ولاشتباه الحق بالباطل تقع الفتن بسبب ذلك .(1/109)
واللّه ـ سبحانه ـ كان أسكن آدم وزوجه الجنة، وقال لهما : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ البقرة : 35 ،36 ] ، فكل عداوة كانت فى ذريتهما وبلاء ومكروه وتكون إلى قيام الساعة وفى النار يوم القيامة سببها الذنوب ومعصية الرب تعالى .
فالإنسان إذا كان مقيما على طاعة اللّه باطنا وظاهراً كان فى نعيم الإيمان والعلم وارد عليه من جهاته، وهو فى جنة الدنيا، كما فى الحديث : ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ) . قيل : وما رياض الجنة ؟ قال : ( مجالس الذكر ) ، وقال : ( ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة ) ، فإنه كان يكون هنا فى رياض العلم والإيمان .
وكلما كان قلبه فى محبة اللّه وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى، فلا يزال فى علو ما دام كذلك، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل، فلا يزال فى هبوط ما دام كذلك، ووقعت بينه وبين أمثاله عداوة، فإن أراد الله به خيراً ثاب وعمل فى حال هبوط قلبه إلى أن يستقيم فيصعد قلبه، قال تعالى : { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] فتقوى القلوب هى التى تنال اللّه،كما قال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ،فأما الأمور المنفصلة عنا من اللحوم والدماء فإنها لا تنال اللّه .(1/110)
والباطنية ـ المنكرون لخلق العالم فى ستة أيام، ومعاد الأبدان ـ الذين يجعلون للقرآن تأويلا يوافق قولهم، عندهم ما ثَمَّ ( جَنَّة ) إلا لذة ما تتصف بها النفس من العلم والأخلاق الحميدة، وما ثَمَّ ( نار ) إلا ألم ما تتصف به النفس من الجهل والأخلاق الذميمة السيئة، فنار النفوس ألمها القائم بها كحسراتها لفوات العلم، أو لفوات الدنيا المحبوبة لها، وحجبها إنما هى ذنوبها .
وهذا الكلام مما يذكره أبو حامد فى ( المضنون به على غير أهله ) ،لكن قد يقول هذا : ليس هو عذاب القبر المذكور فى الأجسام،بل ذاك أمر آخر مما بينه أهل السنة،ولا نعيم عندهم إلا ما يقوم بالنفس من هذا؛ولهذا ليس عندهم نعيم منفصل عن النفس ولا عذاب .
وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلا؛ فإن الناس فى الدنيا يثابون ويعاقبون بأمور منفصلة عنهم، فكيف فى دار الجزاء ؟ ولكن الذى أثبتوه من هذا وهذا منه ما هو حق، ولكن الباطل جحدهم ما جحدوه مما أخبر الله به ورسوله، فهؤلاء عندهم أن آدم لم يكن إلا فى جنة العلم، وهبوطه انخفاض درجته فى العلم، وهذا كذب، ولكن ما أثبتوه من الحق حق،وقصة آدم تدل عليه بطريق الاعتبار الذي تسميه الصوفية الإشارة، لا أنه هو المراد بالآية، لكن قد دل عليه آيات أخر تدل على أن من كذب بالحق عوقب بأن يطبع على قلبه فلا يفهم العلم، أو لا يفهم المراد منه، وأنه يسلط عليه عدوه ويجد ذلاً، كما قال تعالى عن اليهود : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } [ البقرة : 61 ] ، { ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ البقرة : 61 ] .
ولا ريب أن لذة العلم أعظم اللذات، واللذة التى تبقى بعد الموت وتنفع فى الآخرة هى لذة العلم بالّله والعمل له، وهو الإيمان به، وهم يجعلون ذلك الوجود المطلق .(1/111)
وأيضا، فنفس العلم به إن لم يكن معه حب له وعبادة له، بل كان مع حب لغيره كائنا من كان، فإن عذاب هذا قد يكون من أعظم العذاب فى الدنيا والآخرة، وهم لا يجعلون كمال اللذة إلا فى نفس العلم .
وأيضاً فاقتصارهم على اللذة العقلية خطأ، والنصارى زادوا عليهم السمع والشم، فقالوا : يتمتعون بالأرواح المتعشقة والنغمات المطربة، ولم يثبتوا هم ولا اليهود الأكل والشرب ولا النكاح ـ وهى لذة اللمس ـ والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات؛ سمعاً، وبصراً، وشماً، وذوقا، ولمسا، للروح والبدن جميعاً، وكان هذا هو الكمال، لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية، وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى اللّه ـ سبحانه ـ كما فى الحديث الصحيح : ( فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ) ، وهو ثمرة معرفته وعبادته فى الدنيا، فأطيب ما فى الدنيا معرفته، وأطيب ما فى الآخرة النظر إليه ـ سبحانه ـ ولهذا كان التجلى يوم الجمعة فى الآخرة على مقدار صلاة الجمعة فى الدنيا .
وأبو حامد يذكر فى كتبه هو وأمثاله ( الرؤية ) ،وأنها أفضل أنواع النعيم، ويذكر كشف الحجُب، وأنهم يرون وجه الله، ولكن هذا كله يريد به ما تقوله الجهمية والفلاسفة؛ فإن الرؤية عندهم ليست إلا العلم، لكن كما أن الإنسان قد يرى الشىء بعينيه، وقد يمثل له خياله إذا غاب عنه فهكذا العلم . ففى الدنيا ليس عندهم من العلم إلا مثال كالخيال في الحساب، وفى الآخرة يعلمونه بلا مثال، وهو عندهم ( وجود لا داخل العالم ولا خارجه ) ، و ( كشف الحجاب ) عندهم رفع المانع الذى فى الإنسان من الرؤية، وهو أمر عدمي، فحقيقته جعل العبد عالماً، وهذا كله مما تقول به الفلاسفة والباطنية .(1/112)
وهؤلاء إنما يأمرون بالزهد فى الدنيا لينقطع تعلق النفس بها وقت فراق النفس، فلا تبقى النفس مفارقة لشىء يحبه، لكن أبو حامد لا يبيح محظورات الشرع قط، بل يقول : قتل واحد من هؤلاء خير من قتل عدد كثير من الكفار .
وأما هؤلاء فالواصل عندهم إلى العلم المطلوب قد يبيحون له محظورات الشرائع، حتى الفواحش والخمر وغيرها، إذا كانوا ممن يعتقد تحريم الخمر، وإلا فغالب هؤلاء لا يوجبون شريعة الإسلام، بل يجوزون التهود والتنصر، وكل من كان من هؤلاء واصلا إلى علمهم فهو سعيد .
وهكذا تقول الاتحادية منهم؛ كابن سبعين، وابن هود، والتلمسانى، ونحوهم، ويدخلون مع النصارى بِيَعَهُم [ جمع بيعة، وهى متعبد النصارى ] ، ويصلون معهم إلى الشرق، ويشربون معهم ومع اليهود الخمر، ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين لما فيه من إباحة المحظورات؛ ولأنهم أقرب إلى الاتحاد والحلول؛ ولأنهم أجهل فيقبلون ما يقولونه أعظم من قبولهم لقول المسلمين،وعلماء النصارى جهال إذا كان فيهم متفلسف عظموه،وهؤلاء يتفلسفون .
والواحد من هؤلاء يفرح إذا قيل له : لست بمسلم، ويحكى عن نفسه كما كان أحمد الماردينى وهو من أصحاب ابن عربى يحكى عن نفسه أنه دخل إلى بعض ديارات النصارى ليأخذ منهم ما يأكله هو ورفيقه، فأخذ بعضهم يتكلم فى المسلمين، ويقول : يقولون : كذا وكذا، فقال له آخر : لا تتكلم فى المسلمين فهذا واحد منهم، فقال ذلك المتكلم : هذا وجهه وجه مسلم ؟ أى ليس هذا بمسلم، فصار يحكيها الماردينى أن النصرانى قال عنه : ليس هذا بمسلم، ويفرح بقول النصرانى ويصدقه فيما يقول، أى ليس هو بمسلم .
والمتفلسفة يصرحون بهذا . يقولون : قلنا : كذا وكذا، وقال المسلمون : كذا وكذا، وربما قالوا : قلنا : كذا، وقال المِلِّيُّون : كذا أى : أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وكتبهم مشحونة بهذا، ولا بد لأحدهم عند أهل الملل أن يكون على دينهم .(1/113)
لكن دخولهم فى هذا كدخولهم فى سياسة الملوك، كما كانوا مع الترك الكفار، وكانوا مع هولاكو ملك المغول الكفار، ومع القان الذى هو أكبر منه خليفة جنكزخان ببلاد الخطا، وانتساب الواحد منهم هناك إلى الإسلام انتساب إلى إسلام يرضاه ذلك الملك بحسب غرضه، كما كان النصير الطوسى [ هو محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسى، فيلسوف، كان رأسا فى العلوم العقلية، ذا منزلة من هولاكو،فكان يطيعه فيما يشير به عليه،اتخذ خزانة ملأها من الكتب التى نهبت من بغداد والشام والجزيرة، اجتمع فيها نحو أربعمائة ألف مجلد، ولد بطوس سنة 597 هـ، وتوفى سنة 672 هـ ] وأمثاله مع هولاكو ملك الكفار، وهو الذى أشار عليهم بقتل الخليفة ببغداد لما استولى عليها وأخذ كتب الناس، ملكها ووقفها، وأخذ منها ما يتعلق بغرضه، وأفسد الباقى، وبنى الرصد ووضعها فيه، وكان يعطى من وقف المسلمين لعلماء المشركين البخشية والطوينية،ويعطى فى رصده الفيلسوف والمنجم والطبيب أضعاف ما يعطى الفقيه، ويشرب هو وأصحابه الخمر فى شهر رمضان، ولا يصلون .
وكذلك كان بالشام ومصر طائفة مع تصوفهم وتألههم وتزهدهم يشرب أحدهم الخمر فى نهار رمضان،وتارة يصلون وتارة لا يصلون . فإنهم لا يدينون بإيجاب واجبات الإسلام وتحريم محرماته عليهم، بل يقولون : هذا للعامة والأنبياء، وأما مثلنا فلا يحتاج إلى الأنبياء . ويحكون عن بعض الفلاسفة أنه قيل له : قد بعث نبى، فقال : لو كان الناس كلهم مثلى ما احتاجوا إلى نبى . ومثل هذه الحكاية يحكيها من يكون رئيس الأطباء ولا يعرف الزندقة ولا يدرى مضمون هذه الكلمة ما هو؛ لجهله بالنبوات . وقيل لرئيسهم الأكبر فى زمن موسى ـ عليه السلام : ألا تأتيه فتأخذ عنه ؟ فقال : نحن قوم مهديون فلا نحتاج إلى من يهدينا .(1/114)
وأما ما ذكروه من حصول اللذة فى القلب والنعيم بالإيمان بالله والمعرفة به فهو حق، وهو سبب دخول الجنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصُفِّدَت الشياطين ) . وما ذاك إلا لأنه فى شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التى بها وبسببها تفتح أبواب الجنة، ويمتنع من الشرور التى بها تفتح أبواب النار، وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه فى الإفطار؛ فإن المصفد هو المقيد، لأنهم إنما يتمكنون من بنى آدم بسبب الشهوات، فإذا كُفّوا عن الشهوات صفدت الشياطين .
والجنة والنار التى تفتح وتغلق غير ما فى القلوب، ولكن ما فى القلوب سبب له ودليل عليه وأثر من آثاره،وقد قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } [ النساء : 10 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( الذى يشرب فى آنية الذهب والفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم ) . فقيل : يأكلون ويشربون ما سيصير ناراً . وقيل : هو سبب النار . واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم .
وَقَالَ شيخ الإسلام :
قوله : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ } الآية بعد قوله : { كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ } [ النساء : 78، 79 ] ، لو اقتصر على الجمع أعرض العاصى عن ذم نفسه، والتوبة من الذنب، والاستعاذة من شره، وقام بقلبه حجة إبليس، فلم تزده إلا طرداً، كما زادت المشركين ضلالا حين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [ الأنعام : 148 ] .(1/115)
ولو اقتصر على الفرق لغابوا عن التوحيد والإيمان بالقدر، واللجاء إلى اللّه فى الهداية، كما فى خطبته صلى الله عليه وسلم : ( الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره ) فيشكره ويستعينه على طاعته، ويستغفره من معصيته، ويحمده على إحسانه . ثم قال : ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ) إلى آخره، لما استغفر من المعاصى استعاذه من الذنوب التى لم تقع ثم قال : ( ومن سيئات أعمالنا ) ،أى : ومن عقوباتها،ثم قال : ( من يهد الله فلا مضل له ) إلخ . شهادة بأنه المتصرف فى خلقه، ففيه إثبات القضاء الذى هو نظام التوحيد، هذا كله مقدمة بين يدى الشهادتين، فإنما يتحققان بحمد الله وإعانته، واستغفاره واللجاء إليه، والإيمان بأقداره . فهذه الخطبة عقد نظام الإسلام والإيمان .
وقال : كون الحسنات من الله والسيئات من النفس له وجوه :
الأول : أن النعم تقع بلا كسب .
الثانى : أن عمل الحسنات من إحسان الله إلى عبده، فخلق الحياة، وأرسل الرسل، وحبب إليهم الإيمان . وإذا تدبرت هذا شكرت الله فزادك، وإذا علمت أن الشر لا يحصل إلا من نفسك تبت فزال .
الثالث : أن الحسنة تضاعف .
الرابع : أن الحسنة يحبها ويرضاها، فيحب أن ينعم، ويحب أن يطاع؛ ولهذا تأدب العارفون فأضافوا النعم إليه والشر إلى محله، كما قال إمام الحنفاء : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } إلى قوله : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 78ـ80 ] .
الخامس : أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها بكل اعتبار، وأما السيئة فما قدرها إلا لحكمة .
السادس : أن الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة؛ لأنها إما فعل مأمور أو ترك محظور، والترك أمر وجودى، فتركه لما عرف أنه ذنب،وكراهته له ومنع نفسه منه أمور وجودية، وإنما يثاب على الترك على هذا الوجه .(1/116)
وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم البغض فى الله من أوثق عُرَى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك . وكذلك براءة الخليل من قومه المشركين ومعبوديهم ليست تركا محضاً، بل صادراً عن بغض وعداوة . وأما السيئات فمنشؤها من الظلم والجهل . وفى الحقيقة كلها ترجع إلى الجهل، وإلا فلو تم العلم بها لم يفعلها؛ فإن هذا خاصة العقل،وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة، والغفلة، والشهوة أصل الشر، كما قال تعالى : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } الآية [ الكهف : 28 ] .
السابع : أن ابتلاءه له بالذنوب عقوبة له على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه .
الثامن : أن ما يصيبه من الخير والنعم لا تنحصر أسبابه من إنعام الله عليه، فيرجع فى ذلك إلى الله، ولا يرجو إلا هو؛ فهو يستحق الشكر التام الذى لا يستحقه غيره، وإنما يستحق من الشكر جزاء على ما يسره الله على يديه،ولكن لا يبلغ أن يشكر بمعصية الله، فإنه المنعم بما لا يقدر عليه مخلوق، ونعم المخلوق منه أيضاً، وجزاؤه على الشكر والكفر لا يقدر أحد على مثله .
فإذا عرف أن { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] صار توكله ورجاؤه إلى الله وحده، وإذا عرف ما يستحقه من الشكر الذى يستحقه صار له . . . [ بياض بالأصل ] ، والشر انحصر سببه فى النفس؛ فعلم من أين يؤتى فتاب واستعان بالله، كما قال بعض السلف : لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه،وقد تقدم قول السلف ـ ابن عباس وغيره ـ أن ما أصابهم يوم أحد مطلقاً كان بذنوبهم لم يستثن أحد، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص .(1/117)
التاسع : أن السيئة إذا كانت من النفس والسيئة خبيثة، كما قال تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } الآية [ النور : 26 ] ،قال جمهور السلف : الكلمات الخبيثات للخبيثين،وقال : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } [ إبراهيم : 26 ] ،وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] والأقوال والأفعال صفات للقائل الفاعل، فإذا اتصفت النفس بالخبث فمحلها ما يناسبها،فمن أراد أن يجعل الحيات يعاشرن الناس كالسنانير لم يصلح،بل إذا كان فى النفس خبث طهرت حتى تصلح للجنة، كما فى حديث أبى سعيد ـ الذى فى الصحيح ـ وفيه : ( حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم فى دخول الجنة ) .
فإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه لم يطمع فى السعادة التامة، مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا } [ الزلزلة : 7 ] إلخ . وعلم أن الرب عليم حكيم، رحيم عدل، وأفعاله على قانون العدل والإحسان، كما فى الصحيح : ( يمين الله ملأى ) إلى قوله : ( والقسط بيده الأخرى ) وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل .(1/118)
إلى أن قال : ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهى أن يقول ـ كما نقل عن الشاذلى [ هو أبو الحسن على بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف بن هرمز الشاذلى المغربى، رأس الطائفة الشاذلية، من المتصوفة، وصاحب الأوراد المسماة ـ حزب الشاذلى ـ ولد سنة 591 هـ، سكن شاذلة قرب تونس، فنسب إليها، وتوفى سنة 656 هـ ] ـ يكون الجمع فى قلبك مشهوداً، والفرق على لسانك موجودا، كما يوجد فى كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهى، مما يوجب أن يجوز عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض، ويدعون بأدعية فيها اعتداء، كما فى حزب الشاذلي . وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر وكافر، ويقولون : هذه موهبة، ويظنونها من الكرامات وهى من الأحوال الشيطانية التى يكون مثلها للسحرة والكهان، كما قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } إلى قوله : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [ البقرة : 101، 102 ] ، وصح قوله : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ) .
فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن نبذ القرآن وراء ظهره، واتبع ما تتلو الشياطين فلا يعظم أمر القرآن ونهيه ولا يوالى من أمر القرآن بموالاته، ولا يعادى من أمر القرآن بمعاداته بل يعظم من يأتى ببعض الخوارق .
ثم منهم من يعرف أنه من الشياطين لكن يعظمه لهواه، ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، قال الله ـ تعالى ـ فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } إلخ [ النساء : 51 ] .(1/119)
قال : وفى قوله تعالى : { فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] من الفوائد : أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، بل يسأل اللّه أن يعينه على طاعته؛ ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه دعاء الفاتحة، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، ويدخل فيه من أنواع الحاجات ما لا يمكن حصره، ويبينه أن الله ـ سبحانه ـ لم يقص علينا قصة فى القرآن إلا لنعتبر، وإنما يكون الاعتبار إذا قِسْنَا الثانى بالأول، فلولا أن في النفوس ما فى نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] وقوله : { أَتَوَاصَوْا بِهِ } [ الذاريات : 53 ] وقوله : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] ولهذا فى الحديث : ( لتسلكن سنن من كان قبلكم ) .
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وأعظم السيئات جحود الخالق والشرك به، وطلب أن يكون شريكا له، وكلا هذين وقع .
وقال بعضهم : ما من نفس إلا وفيها ما فى نفس فرعون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف أحوال الناس رأى ما يبغض نظيره وأتباعه حسداً، كما فعلت اليهود لما بعث الله من يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون .
وَقَالَ الشّيخ الإمَام العَالم العَلاّمة شيخ الإسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرانى ـ تغمده الله تعالى برحمته :
الحمد للّه نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره . ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له .
وأشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فصل(1/120)
وهذا الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الصراط المستقيم، وهو الذي يصلح به دين الإنسان، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( أعدل الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) ، وفي رواية صحيحة : ( أفضل ) والأفضل هو الأعدل الأقوم . وهذا القرآن يهدي للتى هي أقوم، وهي وسط بين هذين الصنفين؛ أصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف والتقشف الزائد .
ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين . قال الحسن : هو المبتدع في دينه والفاجر فى دنياه، وكانوا يقولون : احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه،وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور .
فالقسم الأول : أهل الفجور، وهم المترفون المنعمون، أوقعهم فى الفجور ما هم فيه .
والقسم الثانى : المترهبون، أوقعهم فى البدع غلوهم وتشديدهم، هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم، وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهى عنها أو يسرفون فى المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم اللّه والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيراً منهم .
والذين يحرمون ما أحل اللّه من الطيبات ـ وإن كانوا يقولون : إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون ألا يفعلوه، إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء ـ يقول أحدهم : للّه على ألا آكل طعاماً بالنهار أبداً، ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر، فهذا يلتزم ألا يشرب الماء، وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز، وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع، وهذا يلتزم ألا يتكلم قط، وهذا يجب نفسه، وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح . وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التى ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة .(1/121)
ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المجاهد من جاهد نفسه فى ذات الله، والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنى على اللّه ) ، لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه اللّه ورسوله، فلا يحرم الحلال ولا يسرف فى تناوله، بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد فى ذلك، ويقتصد فى العبادة، فلا يحمل نفسه ما لا تطيق .
فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة، التى غالب من سلكها ارتد على حافره، ونقض عهده، ولم يرعها حق رعايتها . وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق، وتزكو به نفسه، وتسير به إلى ربه، ويجد بذلك من المزيد فى إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق؛ فإنهم لابد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بنى آدم إلا من أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا، وقد قال تعالى : { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا } [ النساء : 28 ] .
قال طاوس فى أمر النساء وقلة صبره عنهن ـ كما تقدم . فميل النفس إلى النساء عام فى طبع جميع بنى آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران، كما هو المذكور عنهم، فيبتلى بالميل إلى المردان، وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى ابتلى بما هو دون ذلك من المباشرة والمشاهدة، ولا يكاد أن يسلم أحدهم من الفاحشة، إما فى سره وإما بينه وبين الأمرد، ويحصل للنفس من ذلك ما هو معروف عند الناس .
وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه فى الله، وهو مأمور بهذا الجهاد ليس أمراً أوجبه وحرمه هو على نفسه، فيكون فى طاعة نفسه وهواه، بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه، فيصير بالمجاهدة في طاعة اللّه ورسوله .(1/122)
وفى حديث رواه أبو يحيى القتات عن مجاهد، عن ابن عباس ـ مرفرعًا ـ : ( من عَشِق فَعفَّ وكَتَم وصبر ثم مات فهو شهيد ) ، وأبو يحيى فى حديثه نظر؛ لكن المعنى الذى ذكره دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمر بالتقوى والصبر، فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرمه الله من نظر بعين، ومن لفظ بلسان، ومن حركة بيد ورجل، ومن الصبر أن يصبر عن شكوي ما به إلى غير الله عز وجل؛ فإن هذا هو الصبر الجميل .
وأما الكتمان فيراد به شيئان :
أحدهما : أن يكتم بَثَّه [ أى : حزنه الشديد . انظر : القاموس، مادة : بثث ] وألمه، فلا يشكو إلى غير الله، فمتى شكا إلى غير اللّه نقص صبره، وهذا أعلى الكتمانين، لكن هذا لا يقدر عليه كل أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين :
فإن شكا ذلك إلى طبيب، يعرف طب الأديان، ومضرات النفوس ومنافعها؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان، فهذا بمنزلة المستفتى، وهذا حسن . وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام .
وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة، كما يشكو من الراحة، كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد،تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً، إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذى يتسخط .(1/123)
والثانى : أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما فى ذلك من إظهار السوء والفاحشة؛فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتَشَهَّتْ وتَمَنَّتْ وتَتَيَّمَتْ [ أى : عشقت وأحبّتْ . انظر : القاموس، مادة : تيم ] . والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً له إلى الفعل والتشبه به، والنساء متى رأين البهائم تَنْزُو [ أى : تثب وتعلو . انظر : القاموس، مادة : نزا ] الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله فى نفسه دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حَنَّّ إليه، وكل ما فى نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه، وإما إلى مشاهدته، وكلاهما يحصل به تخيل فى النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر فى بعض الأمور المتعلقة به، فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة .
ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، أو كان أوان الحج، أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه، أو أصحابه أو غيرهم، ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك، فتتحرك بذكر الأبْرَق والأجْرَع والعُلىَ ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهباً إلى محبوبه، فصار ذكرها يذكره بالمحبوب .
وكذلك أصحاب المتاجر والأموال، إذا سمع أحدهم بالمكاسب تحركت داعيته إلى ذلك، وكذلك أهل الفرج والتنزه، إذا رأوا من يقصد ذلك تحركوا إليه، وهذه الدواعي كلها مركوزة في نفوس بنى آدم، والإنسان ظلوم جهول .(1/124)
وكذلك ذِكْر آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم تُذَكٍّر به وتحرك محبته، فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذكر ما به لغيره تحركت نفس ذلك الغير إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة؛ فإذا تصورت جنساً تحرك إليها المحبوب .
ولهذا نهي الله ـ تعالى ـ عن إشاعة الفاحشة، وكذلك أمر بستر الفواحش، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فليستتر [ فى المطبوعة : فاليستتر ـ وهو خطأ ] بستر اللّه؛ فإنه من يُبَدِ لنا صَفْحَتَه نُقِمْ عليه كتاب الله ) ، وقال : ( كل أمتى مُعَافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به ) ، فما دام الذنب مستوراً فعقوبته على صاحبه خاصة، وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاماً، فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه .
ولهذا كره الإمام أحمد وغيره إنشاد الأشعار ـ الغزل الرقيق ـ لأنه يحرك النفوس إلى الفواحش؛ فلهذا أمر من يبتلى بالعشق أن يعف ويكتم ويصبر، فيكون حينئذ ممن قال الله فيه : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .
والمقصود أنه يثاب على هذه المجاهدة، والمجاهد من جاهد نفسه في اللّه، وأما المبتدعون فى الزهد والعبادة، السالكون طريق الرهبان، فإنهم قد يزهدون فى النكاح، وفضول الطعام، والمال ونحو ذلك . وهذا محمود، لكن عامة هؤلاء لابد أن يقعوا فى ذنوب من هذا الجنس، كما نجد كثيراً منهم يبتلى بصحبة الأحداث، وإرفاق النساء؛ فيبتلون بالميل إلى الصور المحرمة من النساء والصبيان ما لا يبتلى به أهل السنة المتبعون للشريعة المحمدية .(1/125)
وحكايتهم في هذا أكثر من أن يحكى بسطها فى كتاب، وعندهم من الفواحش الباطنة والظاهرة ما لا يوجد عند غيرهم، وخيار من فيهم يميل إلى الأحداث والغناء والسماع؛ لما يجدون في ذلك من راحة النفوس، ولو اتبعوا السُّنَّة لاستراحوا من ذلك .
قال أبو سعيد الخراز لما قال له الشيطان فى المنام : لي فيكم لطيفتان : السماع وصحبة الأحداث . قال أبو سعيد : قَلَّ من ينجو منها من أصحابنا، حتى لقوة محبة نفوسهم صار ذلك ممتزجاً بطريقهم إلى الله؛ فإن أحدهم يجد فى نفسه عند مشاهدة الشاهد من الرغبة فيما اعتاده من العبادة والزهادة ما لا يجدها بدون ذلك، وعنده في نفسه عند سماع القصائد من الشوق والرغبة والنشاط ما لا يجده عند سماع القرآن، فصاروا في شبهة وشهوة، لم يكتف الشيطان منهم بوقوعهم فى الأمور المحرمة، التى تفتنهم، حتى جعلهم يعتبرون ذلك عبادة، كالذين قال الله فيهم : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا } الآية [ الأعراف : 28 ] ، وهؤلاء الذين أضاعوا الصلاة واتَّبَعُوا الشهوات .
وإذا وقعوا فى السماع وقعوا فيه بشوق ورغبة قوية، ومحبة تامة، وبذلوا فيه أنفسهم وأموالهم، فقد يبذلون فيه نساءهم وأبناءهم، ويدخلون في الدياثة لأغراضهم، فيأتي أحدهم بولده فيهبه للشيخ يفعل ما أراد هو ومن يلوذ به، ويسمونه حواراً، وإن كان حسن الصورة استأثر به الشيخ دونهم، ويعد أهله ذلك بركة حصلت له من الشيخ، ويرتفع الحياء بين أم الصبى وأبيه وبين الفقراء .(1/126)
وإذا صَلُّوا صَلُّوا صلاة المنافقين، يقومون إليها وهم كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، فقد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، ومع هذا فهم قد يزهدون فى بعض الطيبات التى أحلها الله لهم، ويجتهدون فى عبادات وأذكار، لكن مع بدعة وأفعال لا تجوز، مما تقدم ذكره، فتلك البدعة هي التى أوقعتهم فى اتباع الشهوات، وإضاعة الصلوات؛ لأن الشريعة مثالها مثال سفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وهؤلاء تخلفوا عنها فغرقوا بحبهم، ويتوب اللّه على من تاب .
والسالكون للشريعة المحمدية، إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال، بل من الحنيفية السمحة، وأما أهل البدع فقد تكون التوبة عليهم آصاراً وأغلالا، كما كانت على من قبلنا من الرهبان؛ فإنهم إذا وقع أحدهم في الذنب لم يخلص من شره إلا ببلاء شديد، من أجل خروجه عن السنة .
وهؤلاء قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه السلوك إلى اللّه ـ تعالى ـ إلا ببدعة .
وكذلك أهل الفجور المترفين، قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه فعل الواجبات إلا بما يفعله من الذنوب، ولا يمكنه ترك المحرمات إلا بذلك، وهذا يقع لبشر كثير من الناس .
منهم من يقول : إنه لا يمكن أداء الصلوات واجتناب الكلام المحرم ـ من الغيبة وغيرها ـ إلا بأكل الحشيشة .
ويقول الآخر : إنّ أكْلَها يعينه على استنباط العلوم وتصفية الذهن، حتى يسميها بعضهم معدن الفكر والذكر، ومحركة العزم الساكن، وكل هذا من خدع النفس ومكر الشيطان بهؤلاء وغيرهم، وإنها لعمى الذهن، ويصير آكلها أبكم مجنوناً لا يَعِي ما يقول .(1/127)
وكذلك في هؤلاء من يقول : إن محبته لله ورغبته فى العبادة، وحركته ووجده وشوقه وغير ذلك لا يتم إلا بسماع القصائد، ومعاشرة الشاهد من الصبيان وغيرهم، وسماع الأصوات والنغمات، ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات ورؤية الصور المحركات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة ما لا تتحرك بدون ذلك، وأنهم بدون ذلك قد يتركون الصلوات، ويفعلون المحرمات الكبار، كقطع الطريق، وقتل النفوس، ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم، وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم والكبائر، وتحملها على الصلاة والصوم والحج .
وهذا مستند كثير من الشيوخ الذين يدعون الناس إلى طريقهم بالسماع المبتدع على اختلاف ألوانه وأنواعه، منهم من يدعو إليه بالدف والرقص، ومنهم من يضيف إلى ذلك الشبابات، ومنهم من يعمله بالنساء والصبيان، ومنهم من يعمله بالدف والكف، ومنهم من يعمله بأذكار واجتماع، وتسبيحات وقيام، وإنشاد أشعار، وغير ذلك من سائر أنواعه وألوانه .
وربما ضموا إليه من معاشرة النساء والمردان ونحو ذلك، ويقولون : هؤلاء الذين تَوَّبْنَاهم وقد كانوا لا يصلون، ولا يحجون، ولا يصومون، بل كانوا يقطعون الطريق، ويقتلون النفس، ويزنون، فتوبناهم عن ذلك بهذا السماع . وما أمكن أحدهم استتابتهم بغير هذا .
وقد يعترفون أن ما فعلوه بدعة منهي عنها أو محرمة، ولكن يقولون : ما أمكننا إلا هذا، وإن لم نفعل هذا القليل من المحرم حصل الوقوع فيما هو أشد منه تحريماً، وفى ترك الواجبات ما يزيد إثمه على إثم هذا المحرم القليل فى جنب ما كانوا فيه من المحرم الكثير .
ويقولون : إن الإنسان يجد في نفسه نشاطاً وقوة في كثير من الطاعات إذا حصل له ما يحبه، وإن كان مكروهاً حراماً، وأما بدون ذلك فلا يجد شيئاً، ولا يفعله . وهو أيضاً يمتنع عن المحرمات، إذا عوض بما يحبه وإن كان مكروهاً، وإلا لم يمتنع، وهذه الشبهة واقعة لكثير من الناس، وجوابها مبنى على ثلاث مقامات :(1/128)
أحدها : أن المحرمات قسمان :
أحدهما : ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئاً لا لضرورة ولا لغير ضرورة؛ كالشرك، والفواحش، والقول على اللّه بغير علم، والظلم المحض، وهى الأربعة المذكورة فى قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] .
فهذه الأشياء محرمة فى جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل، ولم يبح منها شيئاً قط، ولا فى حال من الأحوال؛ ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية، ونفى التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير، حرمه فى حال دون حال، وليس تحريمه مطلقاً .
وكذلك الخمر، يباح لدفع الغُصَّة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء، ومن لم يبحها قال : إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد . فحينئذ، فالأمر موقوف على دفع العطش بها؛ فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب، كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع؛ فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة فى شيء من ذلك .
وكذلك الميسر، فإن الشارع أباح السبق فيه بمعنى الميسر للحاجة فى مصلحة الجهاد . وقد قيل : إنه ليس منه، وهو قول من لم يبح العوض من الجانبين مطلقاً إلا المحلل . ولا ريب أن الميسر أخف من أمر الخمر، وإذا أبيحت الخمر للحاجة فالميسر أولى . والميسر لم يحرم لذاته إلا لأنه يصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء، فإذا كان فيه تعاون على الرمي الذي هو من جنس الصلاة، وعلى الجهاد الذي فيه تعاون، وتتألف به القلوب على الجهاد، زالت هذه المفسدة .(1/129)
وكذلك بيع الغرر، هو من جنس الميسر، ويباح منه أنواع عند الحاجة ورجحان المصلحة .
وكذلك الربا، حرم لما فيه من الظلم، وأوجب ألا يباع الشيء إلا بمثله، ثم أبيح بيعه بجنسه خرصاً عند الحاجة، بخلاف غيرها من المحرمات؛ فإنها تحرم فى حال دون حال؛ ولهذا - والله أعلم - نفي التحريم عما سواها، وهو التحريم المطلق العام؛ فإن المنفي من جنس المثبت، فلما أثبت فيها التحريم العام المطلق نفاه عما سواها .
المقام الثاني : أن يفرق بين ما يفعل فى الإنسان، ويأمر به ويبيحه، وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه، فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريماً منه لم ينه عنه، ولم يبحه أيضاً .
ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات، وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه .
بخلاف ما أمر اللّه به الأنبياء وأتباعهم من دعوة الخلق؛ فإن دعوتهم يحصل بها مصلحة راجحة على مفسدتها، كدعوة موسى لفرعون، ونوح لقومه، فإنه حصل لموسى من الجهاد وطاعة الله، وحصل لقومه من الصبر والاستعانة باللّه ما كانت عاقبتهم به حميدة، وحصل ـ أيضاً ـ من تفريق فرعون وقومه ما كانت مصلحته عظيمة .
وكذلك نوح حصل له ما أوجب أن يكون ذريته هم الباقين، وأهلك اللّه قومه أجمعين، فكان هلاكهم مصلحة .(1/130)
فالنهي عنه إذا زاد شره بالنهي، وكان النهي مصلحة راجحة كان حسناً، وأما إذا زاد شره وعظم وليس فى مقابلته خير يفوته لم يشرع، إلا أن يكون فى مقابلته مصلحة زائدة؛ فإن أدى ذلك إلى شر أعظم منه لم يشرع، مثل أن يكون الآمر لا صبر له، فيؤذى فيجزع جزعا شديداً يصير به مذنباً، وينتقص به إيمانه ودينه .
فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك، بخلاف ما إذا صبر واتقى اللّه وجاهد، ولم يتعد حدود اللّه، بل استعمل التقوى والصبر؛ فإن هذا تكون عاقبته حميدة .
وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته، وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة، كما قال تعالى : { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 54 ] .
وأما الإنسان فى نفسه فلا يحل له أن يفعل، الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله؛ فإن هذا لا يكون إلا مفسدة، أو مفسدته راجحة على مصلحته،وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة؛ فإن الشارع حكيم، فلو علم أن فى ذلك مصلحة لم يحرمه، لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب، وتكون مصلحته أنه يتوب منه، ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة، وإنابة إلى اللّه ـ تعالى ـ فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها، فإن الإنسان قد يحصل له [ بعدم ] الذنوب كبر وعجب وقسوة، فإذا وقع فى ذنب أذله ذلك وكسر قلبه، ولين قلبه بما يحصل له من التوبة .(1/131)
ولهذا قال سعيد بن جبير : إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة . وهذا هو الحكمة فى ابتلاء من ابتلى بالذنوب من الأنبياء والصالحين، وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة، فليس للإنسان أن يعتقد حل ما يعلم أن اللّه حرمه قطعاً، وليس له أن يفعله قطعاً، فإن غلبته نفسه وشيطانه فوقع فيه تاب منه، فإن تاب فصار بالتوبة خيراً مما كان قبله، فهذا من رحمة اللّه به حين تاب عليه، وإلا فلو لم يتب لفسد حاله بالذنب، وليس له أن يقول : أنا أفعل ثم أتوب، ولا يبيح الشارع له ذلك، لأنه بمنزلة من يقول : أنا أطعم نفسي ما يمرضني ثم أتداوى، أو آكل السم ثم أشرب التِّرْيَاق [ هو دواء مركب . انظر : القاموس، مادة : ترق ] .
والشارع حكيم؛ فإنه لا يدري هل يتمكن من التوبة أم لا ؟ وهل يحصل الدواء بالترياق وغيره أم لا ؟ وهل يتمكن من الشرب أم لا ؟ لكن لو وقع هذا وكانت آخرته إلى التوبة النصوح كان الله قد أحسن إليه بالتوبة، وبالعفو عما سلف من ذنوبه، وقد يكون مثل هذا ليس صلاحه إلا فى أن يذنب ويتوب، ولو لم يفعل ذلك كان شراً منه لو لم يذنب ويتوب؛ لكن هذا أمر يتعلق بخلق الله وقدره وحكمته، لا يمكن أحد أن يأمر به الإنسان؛ لأنه لا يدري أن ذلك خير له، وليس ما يفعله خلقاً ـ لعلمه وحكمته ـ يجوز للرسل وللعباد أن يفعلوه، ويأمروا به .(1/132)
وقصة الخِضْر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع اللّه وأمره، ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدراً كما يظنه بعض الناس، بل ما فعله الخضر هو مأمور به فى الشرع، بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنه لم يفعل محرماً مطلقاً، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار؛ فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما، وكذلك قتل الإنسان الصائل [ هو الذى يقتل الناس، ويعدو عليهم . انظر : القاموس، مادة : صؤل ] لحفظ دين غيره أمر مشروع، وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع .
فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد، فيحرمه من لم يعرف الحكمة التى لأجلها فعل، وهو مباح فى الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التى توجب حسنه وإباحته .
وهذا لا يجىء فى الأنواع الأربعة؛ فإن الشرك والقول على الله بلا علم، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والظلم، لا يكون فيها شىء من المصلحة، وقتل النفس، أبيح فى حال دون حال، فليس من الأربعة . كذلك إتلاف المال يباح فى حال دون حال، وكذلك الصبر على المجاعة؛ ولذلك قال : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ الأعراف : 29 ] .
فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقاً فى كل حال، وفى كل شرع،فعلى العبد أن يعبد اللّه مخلصاً له الدين، ويدعوه مخلصاً له، لا يسقط هذا عنه بحال، ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد، وهم أهل ( لا إله إلا الله ) .
فهذا حق الله على كل عبد من عباده، كما فى الصحيحين من حديث معاذ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له : ( يا معاذ، أتدرى ما حق الله على عباده ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا ) الحديث .(1/133)
فلا ينجون من عذاب اللّه إلا من أخلص للّه دينه وعبادته، ودعاه مخلصًا له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره؛ كفرعون وأمثاله، فهو أسوأ حالا من المشرك، فلابد من عبادة الله وحده، وهذا واجب على كل أحد، فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذى لا يقبل الله دينا غيره .
ولكن لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولا، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة فى الدنيا امتحن فى الآخرة، ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب اللّه بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولا، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون، والميت في الفترة المحضة، فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار .
فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات ـ والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال، وهو العدل فى حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصا له الدين، ولا يظلم الناس شيئاً، وما هو محرم على كل أحد فى كل حال لا يباح منه شىء، وهو الفواحش والظلم والشرك، والقول على الله بلا علم ــ وبين ما سوى ذلك .
قال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } [ الأنعام : 151 ] ، فهذا محرم مطلقاً لا يجوز منه شىء، { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ، فهذا فيه تقييد؛ فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه، وهذا الأمر والنهى للوالد هو من الإحسان إليه، وإذا كان مشركا جاز للولد قتله، وفي كراهته نزاع بين العلماء .(1/134)
قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ } فهذا تحريم خاص، { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعا م : 151 ] ، هذا مطلق، { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [ الأنعام : 152 ] هذا مقيد؛ فإن يتامى المشركين أهل الحرب يجوز غنيمة أموالهم، لكن قد يقال : هذا أخذ وقربان بالتى هى أحسن، إذا فسر الأحسن بأمر الله ورسوله، { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } [ الأنعام : 152 ] ، هذا مقيد بمن يستحق ذلك { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } [ الأنعام : 152 ] ، هذا مطلق .
{ وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ } [ الأنعام : 152 ] ، فالوفاء واجب، لكن يميز بين عهد الله وغيره، ويفرق بين ما يسكت عنه الإنسان وبين ما يلفظ به، ويفعله ويأمر به، ويفرق بين ما قدره اللّه، فحصل بسببه خير، وبين ما يؤمر به العبد، فيحصل بسببه خير .
سورة يوسف
وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله ـ :
فَصْل
قول يوسف صلى الله عليه وسلم لما قالت له امرأة العزيز : { هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ يوسف : 23 ] ، المراد بربه فى أصح القولين هنا : سيده، وهو زوجها الذى اشتراه من مصر، الذى قال لامرأته : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } [ يوسف : 21 ] ، قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 21 ] .(1/135)
فلما وصى به امرأته فقال لها : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } ، قال يوسف : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } ؛ ولهذا قال : { إنَّهٍ لا يٍفًلٌحٍ بظَّالٌمٍون } والضمير فى : { إِنَّهُ } معلوم بينهما، وهو سيدها .
/ وأما قوله تعالى : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] ، فهذا خبر من الله ـ تعالى ـ أنه رأى برهان ربه، وربه هو الله كما قال لصاحبى السجن : { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [ يوسف : 37 ] ، وقوله : { رَبِّي } مثل قوله لصاحب الرؤيا : { \ذًكٍرًنٌي عٌندّ رّبٌَك } ، قال تعالى : { فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] ، قيل : أنْسِىَ يوسف ذكر ربه، لَمَّا قال : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } .
وقيل : بل الشيطان أَنْسَى الذى نجا منهما ذكر ربه، وهذا هو الصواب،فإنه مطابق لقوله : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ، قال تعالى : { فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } والضمير يعود إلى القريب، إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك؛ ولأن يوسف لم ينس ذكر ربه، بل كان ذاكرًا لربه .
وقد دعاهما قبل تعبير الرؤيا إلى الإيمان بربه، وقال لهما : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 39، 40 ] .(1/136)
وقال لهما قبل ذلك : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أى : فى الرؤيا { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } ،يعنى : التأويل { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [ يوسف : 37، 38 ] ، فبذا يذكر ربه ـ عز وجل ـ فإن هذا مما علمه ربه؛ لأنه ترك ملة قوم مشركين لا يؤمنون بالله،وإن كانوا مقرين بالصانع ولا يؤمنون بالآخرة،واتبع ملة آبائه أئمة المؤمنين ـ الذين جعلهم الله أئمة يدعون بأمره ـ إبراهيم وإسحاق ويعقوب،فذكر ربه ثم دعاهما إلى الإيمان بربه .
ثم بعد هذا عبر الرؤيا فقال : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } الآية [ يوسف : 41 ] ، ثم لما قضى تأويل الرؤيا قال للذى نجا منهما : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] ، فكيف يكون قد أَنْسَى الشيطان يوسف ذكر ربه ؟ وإنما أنسى الشيطان الناجى ذكر ربه، أى : الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه، وهو أن يذكر عنده يوسف . والذين قالوا ذلك القول، قالوا : كان الأولى أن يتوكل على الله، ولا يقول : اذكرنى عند ربك، فلما نسى أن يتوكل على ربه جوزى بِلُبْثِه فى السجن بِضْعَ سنين .(1/137)
فيقال : ليس فى قوله : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ما يناقض التوكل، بل قد قال يوسف : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } [ يوسف : 40 ] ، كما أن قول أبيه : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } [ يوسف : 67 ] ، لم يناقض توكله، بل قال : / { وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ يوسف : 67 ] .
وأيضًا، فيوسف قد شهد الله له أنه من عباده المخلصين، والمخلص لا يكون مخلصًا مع توكله على غير الله، فإن ذلك شرك، ويوسف لم يكن مشركًا لا فى عبادته ولا توكله، بل قد توكل على ربه فى فعل نفسه بقوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } [ يوسف : 33 ] ، فكيف لا يتوكل عليه فى أفعال عباده .
وقوله : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ، مثل قوله لربه : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : 55 ] ، فلما سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هذا مناقضًا للتوكل، ولا هو من سؤال الإمارة المنهى عنه،فكيف يكون قوله للفتى : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } مناقضًا لِلتَّوَكُّل وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به؛ ليعلم حاله ليتبين الحق، ويوسف كان من أثبت الناس .(1/138)
ولهذا بعد أن طلب : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } ، قال : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [ يوسف : 50 ] ، فيوسف يذكر ربه فى هذه الحال، كما ذكره فى تلك، ويقول : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } فلم يكن فى قوله له : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ترك لواجب، ولا فعل لمحرم، حتى يعاقبه الله على ذلك بلبثه فى السجن بضع سنين، وكان القوم قد عزموا على حبسه إلى حين قبل هذا ظلمًا له، مع علمهم ببراءته من الذنب .
قال الله تعالى : { ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [ يوسف : 35 ] ، ولبثه فى السجن كان كرامة من الله فى حقه؛ ليتم بذلك صبره وتقواه، فإنه بالصبر والتقوى نال ما نال؛ ولهذا قال : { أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] ، ولو لم يصبر ويتق، بل أطاعهم فيما طلبوا منه جزعًا من السجن، لم يحصل له هذا الصبر والتقوى، وفاته الأفضل باتفاق الناس .
لكن تنازع العلماء، هل يمكن الإكراه على الفاحشة ؟ على قولين :
قيل : لا يمكن، كقول أحمد بن حنبل وأبى حنيفة وغيرهما، قالوا : لأن الإكراه يمنع الانتشار .
والثانى : يمكن، وهو قول مالك والشافعى، وابن عقيل، وغيره من أصحاب أحمد؛ لأن الإكراه لا ينافى الانتشار، فإن الإكراه لا ينافى كون الفعل اختيارًا، بل المكره يختار دفع أعظم الشَرَّيْنِ بالتزام / أدناهما . وأيضًا، فالانتشار بلا فعل منه، بل قد يُقَيَّد ويُضْجَع فتباشره المرأة فتنتشر شهوته فتستدخل ذَكَرَهَ .(1/139)
فعلى قول الأولين : لم يكن يحل له ما طلبت منه بحال، وعلى القول الثانى : فقد يقال : الحبس ليس بإكراه يبيح الزنا، بخلاف ما لو غلب على ظنه أنهم يقتلونه أو يَتْلِفُون بعض أعضائه، فالنزاع إنما هو فى هذا، وهم لم يبلغوا به إلى هذا الحد، وإن قيل : كان يجوز له ذلك لأجل الإكراه لكن يفوته الأفضل .
وأيضًا، فالإكراه إنما يحصل أول مرة ثم يباشر، وتبقى له شهوة وإرادة فى الفاحشة .
ومن قال : الزنا لا يتصور فيه الإكراه، يقول : فرق بين ما لا فعل له ـ كالمقيد ـ وبين من له فعل ، كما أن المرأة إذا أُضْجِعَتْ وَقُيِّدَتْ حتى فُعِلَ بها الفاحشة لم تأثم بالاتفاق، وإن أُكْرِهَتْ حتى زنت ففيه قولان : هما روايتان عن أحمد، لكن الجمهور يقولون : لا تأثم، وقد دل على ذلك قوله تعالى : { وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 33 ] ، وهؤلاء يقولون : فعل المرأة لا يحتاج إلى انتشار، فإنما هو كالإكراه على شرب الخمر، بخلاف فعل الرجل، وبسط هذا له موضع آخر .
/ والمقصود أن يوسف لم يفعل ذنبًا ذكره الله عنه، وهو ـ سبحانه ـ لا يذكر عن أحد من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر استغفاره منه، ولم يذكر عن يوسف استغفارًا من هذه الكلمة، كما لم يذكر عنه استغفارًا من مقدمات الفاحشة، فعلم أنه لم يفعل ذنبًا فى هذا ولا هذا، بل هَمَّ هما تركه لله، فَأُثِيْبَ عليه حسنة، كما قد بُسِطَ هذا فى موضعه .(1/140)
وأما ما يكفره الابتلاء من السيئات، فذلك جُوْزِىَ به صاحبه بالمصائب المكفرة، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما يُصيِبُ المؤمن من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حزن، ولا غَمٍّ ولا أذى، إلا كَفَّر الله به خطاياه ) ، ولما أنزل الله تعالى هذه الآية : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، قال أبو بكر : يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، وَأَىُّنَا لم يعمل سوءًا ؟ فقال : ( ألست تحزن ؟ ألست تنصب ؟ ألست تُصِيبك اللأوى ؟ فذلك مما تجزون به ) [ واللأواء : الشدة وضيق المعيشة ] .
فتبين أن قوله : { فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } ، أى : نسى الفتى ذكر ربه أن يذكر هذا لربه، ونسى ذكر يوسف ربه، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، ويوسف قد ذكر ربه، ونسى الفتى ذكر يوسف ربه، وأنساه الشيطان أن يذكر ربه هذا الذكر الخاص، فإنه وإن كان يسقى ربه خمرًا، فقد لا يخطر هذا الذكر بقلبه، وأنساه / الشيطان تذكير ربه، وإذكار ربه لما قال : { اذْكُرْنِي } ، أمره بإذكار ربه، فأنساه الشيطان إذكار ربه، فإذكار ربه أن يجعله ذاكرًا،فأنساه الشيطان أن يجعل ربه ذاكرا ليوسف، والذكر هو مصدر، وهو اسم، فقد يضاف من جهة كونه اسمًا،فيعم هذا كله،أى : أنساه الذكر المتعلق بربه، والمضاف إليه .
ومما يبين أن الذى نسى ربه هو الفتى لا يوسف قوله بعد ذلك : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ يوسف : 45 ] ،وقوله : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } ، دليل على أنه كان قد نسى فادكر .(1/141)
فإن قيل : لا رَيْب أن يوسف سَمَّى السيد رَبا فى قوله : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } و { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } ونحو ذلك، وهذا كان جائزًا فى شرعه،كما جاز فى شرعه أن يسجد له أبواه وإخوته، وكما جاز فى شرعه أن يؤخذ السارق عبدًا، وإن كان هذا منسوخًا فى شرع محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [ يوسف : 23 ] ، إن أراد به السيد فلا جناح عليه، لكن معلوم أن ترك الفاحشة خوفًا لله واجب ولو رضى سيدها، ويوسف ـ عليه السلام ـ تركها خوفًا من الله . { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، وقال يوسف ـ أيضًا ـ { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ يوسف : 33، 34 ] ، فدل على أنه كان معه من خوف الله ما يزعه عن الفاحشة، ولو رضى بها الناس، وقد دعا ربه ـ عز وجل ـ أن يصرف عنه كَيْدَهُنَّ .(1/142)
وقوله : { السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } بصيغة جمع التذكير، وقوله : { كَيْدَهُنَّ } بصيغة جمع التأنيث، ولم يقل : مما يدعيننى إليه، دليل على الفرق بين هذا وهذا، وأنه كان من الذكور من يدعوه مع النساء إلى الفاحشة بالمرأة، وليس هناك إلا زوجها، وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة، أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها؛ ولهذا لما اطَّلَعَ على مراودتها قال : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [ يوسف : 29 ] ، فلم يعاقبها، ولم يفرق بينها وبين يوسف، حتى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف ألا يذكر ما جرى لأحد محبة منه لامرأته، ولو كان فيه غِيْرَة لعاقب المرأة .
ومع هذا، فشاعت القصة واطَّلَعَ عليها الناس من غير جهة يوسف، حتى تحدثت بها النسوة فى المدينة، وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه، ومع هذا : فـ { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا } [ يوسف : 31 ] ، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن؛ ليقمن عذرها على مراودته، وهى تقول لهن : { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ } [ يوسف : 23 ] .
وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته، والخلوة به، مع علم الزوج بما جرى، وهذا من أعظم الدِّياثة [ الدياثة : الرجل الذى لا غيرة له على أهله ] ، ثم إنه لما حُبِسَ فإنما حبس بأمرها، والمرأة لا تتمكن من حبسه إلا بأمر الزوج، فالزوج هو الذى حبسه . وقد روى أنها قالت : هذا القِبْطِىُّ هتك عرضى فحبسه، وحبسه لأجل المرأة معاونة لها على مطلبها لِديَاثَتِهِ، وقلة غيرته، فدخل هو فى من دعا يوسف إلى الفاحشة .(1/143)
فعلم أن يوسف لم يترك الفاحشة لأجله، ولا لخوفه منه، بل قد علم يقينًا أنه لم يكن يخاف منه، وأن يوسف لو أعطاها ما طلبت،لم يكن الزوج يدرى،ولو درى فلعله لم يكن ينكر؛ فإنه قد درى بالمراودة والخُلْوَةَ التى هى مقتضية لذلك فى الغالب فلم ينكر، ولو قدر أنه هَمَّ بعقوبة يوسف فكانت هى الحاكمة على الزوج القاهرة له . وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ) ، ولما راجعنه فى إمامة الصديق قال : ( إنكن لأنتن صواحب يوسف ) ، ولما أنشده الأعشى :
/وهن شر غالب لمن غلب
استعاد ذلك منه وقال : وهن شَرُّ غالب لمن غلب . فكيف لا تغلب مثل هذا الزوج وتمنعه من عقوبة يوسف ؟ وقد عهد الناس خلقًا من الناس تغلبهم نساؤهم، من نساء التتر وغيرهم، يكون لامرأته غرض فاسد فى فتاه، أو فتاها، وتفعل معه ما تريد، وإن أراد الزوج أن يكشف أو يُعَاقِب منعته ودفعته، بل وأهانته وفتحت عليه أبوابًا من الشر بنفسها، وأهلها وحَشَمِهَا، والمطالبة بصداقها وغير ذلك، حتى يتمنى الرجل الخلاص منها رأسًا برأس، مع كون الرجل فيه غيرة فكيف مع ضعف الغيرة ؟ !
فهذا كله يبين أن الداعى ليوسف إلى ترك الفاحشة كان خوف الله لا خوفًا من السيد؛ فلهذا قال : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ يوسف : 23 ] ، قيل : هذا مما يبين محاسن يوسف، ورعايته لحق الله وحق المخلوقين، ودفعه الشر بالتى هى أحسن، فإن الزنا بامرأة الغير فيه حقان مانعان، كل منهما مستقل بالتحريم .(1/144)
فالفاحشة حرام لحق الله ولو رضى الزوج، وظلم الزوج فى امرأته حرام لحقه، بحيث لو سقط حق الله بالتوبة منه فحق هذا فى امرأته لا يسقط، كما لو ظلمه وأخذ ماله وتاب من حق الله، لم يسقط / حق المظلوم بذلك؛ ولهذا جاز للرجل إذا زنت امرأته أن يقذفها ويلاعنها، ويسعى فى عقوبتها بالرجم، بخلاف الأجنبى، فإنه لا يجوز له قذفها ولا يلاعن، بل يُحَدُ إذا لم يأت بأربعة شهداء، فإفساد المرأة على زوجها من أعظم الظلم لزوجها، وهو عنده أعظم من أخذ ماله .
ولهذا يجوز له قتله دفعًا عنها باتفاق العلماء، إذا لم يندفع إلا بالقتل بالاتفاق، ويجوز فى أظهر القولين قتله وإن اندفع بدونه، كما فى قصة عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ لما أتاه رجل بيده سيف فيه دم، وذكر أنه وجد رجلا تفخذ امرأته فضربه بالسيف، فأقره عمر على ذلك وشكره، وقَبِلَ قوله أنه قتله لذلك إذ ظهرت دلائل ذلك .
وهذا كما لو اطلع رجل فى بيته، فإنه يجوز له أن يَفْقأ عينه ابتداء، وليس عليه أن ينذره، هذا أصح القولين، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لو اطلع رجل فى بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شىء ) ، وكذلك قال فى الذى عض يد غيره فنزع يده فانقلعت أسنان العاض .
وهذا مذهب فقهاء الحديث، وأكثر السلف، وفى المسألتين نزاع ليس هذا موضعه، إذ المقصود أن الزانى بامرأة غيره ظالم للزوج، وللزوج حق عنده؛ ولهذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم أن من / زنى بامرأة المجاهد؛ فإنه يُمَكَّن يوم القيامة من حسناته يأخذ منها ما شاء .
وفى الصحيحين عن ابن مسعود قال : قلت : يا رسول الله، أى الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل الله ندًا وهو خلقك ) ، قلت : ثم أى ؟ قال : ( أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَمَ معك ) ، قلت : ثم أى ؟ قال : ( أن تزانى بحَليلَة جَارِكَ ) فذكر الزنا بحليلة الجار، فعلم أن للزوج حقًا فى ذلك، وكان ظلم الجار أعظم؛ للحاجة إلى المجاورة .(1/145)
وإن قيل : هذا قد لا يُمَكِّن زوج المرأة أن يحترز منه،والجار عليه حق زائد على حق الأجنبى، فكيف إذا ظلم فى أهله والجيران يأمن بعضهم بعضًا، ففى هذا من الظلم أكثر مما فى غيره، وجاره يجب عليه أن يحفظ امرأته من غيره، فكيف يفسدها هو .
فلما كان الزنا بالمرأة المزوجة له علتان كل منهما تستقل بالتحريم، مثل لحم الخنزير الميت، عَلَّلَ يوسف ذلك بحق الزوج، وإن كان كل من الأمرين مانعًا له، وكان فى تعليله بحق الزوج فوائد :
منها : أن هذا مانع تعرفه المرأة وتعذره به، بخلاف حق الله ـ تعالى ـ فإنها لا تعرف عقوبة الله فى ذلك .
ومنها : أن المرأة قد ترتدع بذلك، فترعى حق زوجها، إما /خوفًا وإما رعاية لحقه، فإنه إذا كان المملوك يمتنع عن هذا رعاية لحق سيده؛ فالمرأة أولى بذلك؛ لأنها خائنة فى نفس المقصود منها، بخلاف المملوك، فإن المطلوب منه الخدمة، وفاحشته بمنزلة سرقة المرأة من ماله .
ومنها : أن هذا مانع مُؤْْيس لها فلا تطمع فيه لا بنكاح ولا بِسِفَاح ، بخلاف الخَلِىَّة من الزوج، فإنها تطمع فيه بنكاح حلال .
ومنها : أنه لو علل بالزنا فقد تسعى هى فى فراق الزوج ، والتزوج به ، فإن هذا إنما يحرم لحق الزوج خاصة ؛ ولهذا إذا طلقت امرأته باختياره جاز لغيره أن يتزوجها، ولو طلقها ليتزوج بها ـ كما قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عَوْف ٍ : إن لى امرأتين فاختر أيتهما شئت حتى أطلقها وتتزوجها ـ لكنه بدون رضاه لا يحل، كما فى المسند عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس مِنَّا من خَبَّبَ امرأة على زوجها، ولا عبدًا على مواليه ) [ قوله : خَبَّب : أى خدع وأفسد ] ، وقد حَرَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يَخْطِب الرجل على خِطْبَة أخيه، ويَسْتَام على سَوْمِ أخيه، فإذا كان بعد الخِطْبَةِ وقبل العقد لا يحل له أن يطلب التزوج بامرأته فكيف بعد العقد، والدخول والصحبة ؟ !(1/146)
فلو علل بأن هذا زنا مَحَرَّم ربما طمعت فى أن تفارق الزوج وتتزوجه، فإن كَيْدَهُنَّ عظيم، وقد جرى مثل هذا . فلما علل بحق / سيده وقال : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } ، يئست من ذلك، وعلمت أنه يراعى حق الزوج، فلا يزاحمه فى امرأته البتة، ثم لو قدر مع هذا أن الزوج رضى بالفاحشة وأباح امرأته، لم يكن هذا مما يبيحها لحق الله ولحقه ـ أيضًا ـ فإنه ليس كل حق للإنسان له أن يسقطه، ولا يسقط بإسقاطه، وإنما ذاك فيما يباح له بذله، وهو ما لا ضرر عليه فى بذله، مثل ما يعطيه من فضل مال ونفع .
وأما ما ليس له بذله فلا يباح بإباحته، كما لو قال له : علمنى السحر والكفر والكهانة، وأنت فى حل من إضلالى، أو قال له : بِعْنى رقيقًا وخذ ثمنى، وأنت فى حل من ذلك .
وكذلك إذا قال : افعل بى أو بابنتى أو بامرأتى أو بإمائى الفاحشة، لم يكن هذا مما يسقط حقه فىه بإباحته، فإنه ليس له بذل ذلك، ومعلوم أن الله يعاقبها على الفاحشة وإن تراضيا بها، لكن المقصود أن فى ذلك ـ أيضًا ـ ظلمًا لهذا الشخص لا يرتفع بإباحته، كظلمه إذا جعله كافرًا أو رقيقًا، فإن كونه يفعل به الفاحشة أو بأهله، فيه ضرر عليه لا يملك إباحته؛ كالضرر عليه فى كونه كافرًا، وهو كما لو قال له : أَزِلْ عقلى وأنت فى حل من ذلك؛ فإن الإنسان لا يملك بذل ذلك، بل هو ممنوع من ذلك، كما يمنع السفيه من التصرف فى ماله، أو إسقاط حقوقه، وكذلك المجنون والصغير؛ فإن هؤلاء محجور عليهم لحقهم .(1/147)
/ولهذا لو أذن له الصبى أو السفيه فى أخذ ماله لم يكن له ذلك، ومن أذن لغيره فى تَكْفِيرهِ أو تَجْنِيِنه أو تَخْنِيثِهِ والإفحاش به وبأهله،فهو من أَسْفه السفهاء، وهذا مثل الربا،فإنه وإن رضى به المرابى وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك؛لما فيه من ظلمه؛ ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة، ولا يعطيه إلا رأس ماله، وإن كان قد بذله باختياره،ولو كان التحريم لمجرد حق الله ـ تعالى ـ لسقط برضاه، ولو كان حقه إذا أسقطه سقط لما كان له الرجوع فى الزيادة، والإنسان يحرم عليه قتل نفسه أعظم مما يحرم عليه قتل غيره، فلو قال لغيره : اقتلنى لم يملك منه أعظم مما يملك هو من نفسه .
ولهذا يوم القيامة يتظلم من الأكابر، وهم لم يكرهوهم على الكفر، بل باختيارهم كفروا . قال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [ الأحزاب : 66 ـ68 ] ، وقال : { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } [ فصلت : 29 ] .
وكذلك الناس يلعنون الشيطان، وإن كان لم يكرههم على الذنوب ، / بل هم باختيارهم أذنبوا .(1/148)
فإن قيل : هؤلاء يقولون لشياطين الإنس والجن : نحن لم نكن نعلم أن فى هذا علينا ضررًا، ولكن أنتم زينتم لنا هذا وحَسَّنْتُمُوهُ حتى فعلناه، ونحن كنا جاهلين بالأمر . قيل : كما نعلم أن الجاهل بما عليه فى الفعل من الضرر لا عبرة برضاه وإذنه، وإنما يصح الرضاء والإذن ممن يعلم ما يأذن فيه ويرضى به، وما كان على الإنسان فيه ضرر راجع لا يرضى به إلا لعدم علمه، وإلا فالنفس تمتنع بذاتها من الضرر الراجع .
ولهذا كان من اشترى المعيب والمدلس والمجهول السعر ولم يعلم بحاله غير راض به، بل له الفسخ بعد ذلك؛ كذلك الكفر والجنون والفاحشة بالأهل، لا يرضى بها إلا من لم يعلم بما فيها من الضرر عليه، فإذا أذن فيها لم يسقط حقه،بل يكون مظلومًا، ولو قال : أنا أعلم ما فيها من العقاب وأرضى به كان كذبًا، بل هو من أجهل الناس بما يقوله .
ولهذا لو تكلم بكلام لا يفهم معناه، وقال : نويت موجبه عند الله، لم يصح ذلك فى أظهر القولين؛ مثل أن يقول : ( بهشم ) ولا يعرف معناها، أو يقول : أنت طالق إن دخلت الدار وينوى موجبها / من العربية، وهو لا يعرف ذلك؛ فإن النية والقصد والرضا مشروط بالعلم، فما لم يعلمه لا يرضى به، إلا إذا كان راضيًا به مع العلم، ومن كان يرضى بأن يُكَفَّر ويُجَنَّ وتُفْعَل الفاحشة به وبأهله، فهو لا يعلم ما عليه فى ذلك من الضرر، بل هو سفيه، فلا عبرة برضاه وإذنه، بل له حق عند من ظلمه وفعل به ذلك غير ما لله من الحق، وإن كان حق هذا دون حق المنكر المانع .
ولهذا قال يوسف ـ عليه السلام ـ : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ يوسف : 23 ] ، يقول : متى أفسدت امرأته كنت ظالمًا بكل حال، وليس هذا جزاء إحسانه إلى .(1/149)
والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضًا، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم، قال طاوس : ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلا تفرقا عن تقال، وقال الخليل عليه السلام : { إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] ، وهؤلاء لا يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضًا لمجرد كونه عصى الله، بل لما حصل له بمشاركته ومعاونته من الضرر . وقال تعالى عن أهل الجنة التى أصبحت كالصَّرِيم : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ } [ القلم : 30 ] ، أى : يلوم بعضهم بعضًا، وقال : { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] .
فالمُخَالّة [ أى : الصداقة، بالفتح، والضم لغة ] إذا كانت على غير مصلحة الاثنين؛ كانت عاقبتها عدواة، وإنما تكون على مصلحتهما إذا كانت فى ذات الله، فكل منهما وإن بذل للآخر إعانة على ما يطلبه واستعان به بإذنه فيما يطلبه، فهذا التراضى لا اعتبار به، بل يعود تباغضًا وتعاديا وتلاعنًا، وكل منهما يقول للآخر : لولا أنت ما فعلت أنا وحدى هذا، فَهَلاكِى كان منى ومنك .
والرب لا يمنعهما من التباغض والتعادى والتلاعن، فلو كان أحدهما ظالمًا للآخر فيه لنهى عن ذلك، ويقول كل منهما للآخر : أنت لأجل غرضك أوقعتنى فى هذا، كالزانيين كل منهما يقول للآخر : لأجل غرضك فعلتَ معى هذا، ولو امتنعتَ لم أفعل أنا هذا، لكن كل منهما له على الآخر مثل ما للآخر عليه؛ فتعادلا .(1/150)
ولهذا إذا كان الطلب والمراودة من أحدهما أكثر، كان الآخر يتظلمه ويلعنه أكثر، وإن تساويا فى الطلب تقاوما، فإذا رضى الزوج بالدياثة فإنما هو لإرضاء الرجل أو المرأة لغرض له آخر، مثل أن يكون محبًا لها، ولا تقيم معه إلا على هذا الوجه، فهو يقول للزانى بها : أنت لغرضك أفسدت على امرأتى، وأنا إنما رضيت لأجل غرضها، فأنت لما أفسدت على امرأتى وظلمتنى فعلت معى ما فعلت .
/ ومن ذلك أنه لو قال : إنى أخاف الله أن يعاقبنى ونحو ذلك؛ لقالت : أنت إنما تترك غرضى لغرضك فى النجاة، وأنا سيدتك، فينبغى أن تقدم غرضى على غرضك، فلما قال : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } علل بحق سيده الذى يجب عليه وعليها رعاية حقه .
فصل
والناس في هذا المقام ـ وهو مقام حكمة الأمر والنهي ـ على ثلاثة أصناف : فالمعتزلة القدرية يقولون : إن ما أمر به ونهي عنه كان حسنًا وقبيحًا قبل الأمر والنهي، والأمر والنهي كاشف عن صفته التي كان عليها لا يكسبه حسنًا ولاقبحًا، ولا يجوز عندهم أن يأمر وينهى لحكمة تنشأ من الأمر نفسه؛ ولهذا أنكروا جواز النسخ قبل التمكن من فعل العبادة، كما في قصة الذبيح، ونسخ الخمسين صلاة التي أمر بها ليلة المعراج إلى خمس، ووافقهم على منع النسخ قبل وقت العبادة/ طائفة من أهل السنة المثبتين للقدر؛ لظنهم أنه لابد من حكمة تكون في المأمور به والمنهي عنه، فلا يجوز أن ينهى عن نفس ما أمر به، وهذا قياس من يقول : إن النسخ تخصيص في الأزمان، فإن التخصيص لا يكون برفع جميع مدلول اللفظ، لكنهم تناقضوا .(1/151)
والجهمية الجبرية يقولون : ليس للأمر حكمة تنشأ، لا من نفس الأمر، ولا من نفس المأمور به، ولا يخلق الله شيئا لحكمة، ولكن نفس المشيئة أوجبت وقوع ما وقع وتخصيص أحد المتماثلين بلا مخصص، وليست الحسنات سببًا للثواب ولا السيئات سببًا للعقاب، ولا لواحد منهما صفة صار بها حسنة وسيئة، بل لا معني للحسنة إلا مجرد تعلق الأمر بها، ولا معني للسيئة إلا مجرد تعلق النهي بها، فيجوز أن يأمر بكل أمر حتى الكفر والفسوق والعصيان، ويجوز أن ينهى عن كل أمر حتى عن التوحيد والصدق والعدل، وهو لو فعل لكان كما لو أمر بالتوحيد والصدق والعدل، ونهي عن الشرك والكذب والظلم . هكذا يقول بعضهم، وبعضهم يقول : يجوز الأمر بكل ما لا ينافي معرفة الأمر، بخلاف ما ينافي معرفته، وليس في الوجود عندهم سبب، ولكن إذا اقترن أحد الشيء ين بالآخر خلقًا أو شرعًا، صار علامة عليه، فالأعمال مجرد علامات محضة لا أسباب مقتضية .(1/152)
وقالوا : أمر من لم يؤمن بالإيمان معناه : إني أريد أن أعذبكم، /وعدم إيمانكم علامة على العذاب، وكذلك أمره بالإيمان من علم أنه يؤمن معناه : إني أريد أن أثيبك، والإيمان علامة . وهؤلاء منهم من ينفي القياس في الشرع والتعليل للأحكام، ومن أثبت القياس منهم، لم يجعل العلل إلا مجرد علامات، ثم إنه مع هذا قد علم أن الحكم في الأصل ثابت بالنص والإجماع، وذلك دليل عليه، فأي حاجة إلى العلة ؟ وكيف يتصور أن تكون العلة علامة على الحكم في الأصل، وإنما تطلب علته بعد أن يعلم ثبوت الحكم، وحينئذ فلا فائدة في العلامة . وأما الفرع فلا يكون علة له حتى يكون علة للأصل، وهؤلاء منهم من ينكر العلل المناسبة ويقول : المناسبة ليست طريقًا لمعرفة العلل وهم أكثر أصحاب هذا القول . ومن قال بالمناسبة من متأخرىهم يقول : إنه قد اعتبر في الشرع اعتبار المناسب، فيستدل بمجرد الاقتران، لا لأن الشارع حكم بما حكم به لتحصيل المصلحة المطلوبة بالحكم، ولا لدفع مفسدة أصلًا، فإن عندهم أنه ليس في خلقه ولا أمره لام كي . فجهم - رأس الجبرية- وأتباعه في طرف، والقدرية في الطرف الآخر .
وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة الإسلام ـ كالفقهاء المشهورين وغيرهم ومن سلك سبيلهم من أهل الفقه والحديث والمتكلمين في أصول الدين وأصول الفقه ـ فيقرون بالقدر، ويقرون بالشرع، ويقرون بالحكمة لله في خلقه وأمره، لكن قد يعرف أحدهم الحكمة وقد لا يعرفها، /ويقرون بما جعله من الأسباب، وما في خلقه وأمره من المصالح التي جعلها رحمة بعباده، مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه ـ أفعال العباد، وغير أفعال العباد ـ وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وأن كل ما وقع من خلقه وأمره فعدل وحكمة، سواء عرف العبد وجه ذلك أو لم يعرفه .
والحكمة الناشئة من الأمر ثلاثة أنواع :(1/153)
أحدها : أن تكون في نفس الفعل ـ وإن لم يؤمر به ـ كما في الصدق والعدل ونحوهما من المصالح الحاصلة لمن فعل ذلك وإن لم يؤمر به، والله يأمر بالصلاح وينهى عن الفساد .
والنوع الثاني : أن ما أمر به ونهي عنه صار متصفًا بحسن اكتسبه من الأمر، وقبح اكتسبه من النهي، كالخمر التي كانت لم تحرم ثم حرمت فصارت خبيثة، والصلاة إلى الصخرة التي كانت حسنة فلما نهي عنها، صارت قبيحة . فإن ما أمر به يحبه ويرضاه، وما نهي عنه يبغضه ويسخطه . وهو إذا أحب عبدًا ووالاه؛ أعطاه من الصفات الحسنة ما يمتاز بها على من أبغضه وعاداه . وكذلك المكان والزمان الذي يحبه ويعظمه ـ كالكعبة وشهر رمضان ـ يخصه بصفات يميزه بها على ما سواه، بحيث يحصل في ذلك الزمان والمكان من رحمته /وإحسانه ونعمته ما لا يحصل في غيره .
فإن قيل : الخمر قبل التحريم وبعده سواء، فتخصيصها بالخبث بعد التحريم ترجيح بلا مرجح .(1/154)
قيل : ليس كذلك، بل إنما حرمها في الوقت الذي كانت الحكمة تقتضي تحريمها، وليس معني كون الشيء حسنًا وسيئًا مثل كونه أسود وأبيض، بل هو من جنس كونه نافعًا وضارًا، وملائمًا ومنافرًا، وصديقًا وعدوًا، ونحو هذا من الصفات القائمة بالموصوف التي تتغير بتغير الأحوال، فقد يكون الشيء نافعًا في وقت، ضارًا في وقت، والشيء الضار قد يترك تحريمه إذا كانت مفسدة التحريم أرجح، كما لو حرمت الخمر في أول الإسلام، فإن النفوس كانت قد اعتادتها عادة شديدة، ولم يكن حصل عندهم من قوة الإيمان ما يقبلون ذلك التحريم، ولا كان إيمانهم ودينهم تامًا حتى لم يبق فيه نقص إلا ما يحصل بشرب الخمر من صدها عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلهذا وقع التدريج في تحريمها، فأنزل الله أولًا فيها : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] ثم أنزل فيها ـ لما شربها طائفة وَصَلُّوا فغلط الإمام في القراءة ـ : آية النهي عن الصلاة سكارى، ثم أنزل الله آية التحريم .(1/155)
/والنوع الثالث : أن تكون الحكمة ناشئة من نفس الأمر، وليس في الفعل البتة مصلحة، لكن المقصود ابتلاء العبد هل يطيع أو يعصي ؟ فإذا اعتقد الوجوب وعزم على الفعل، حصل المقصود بالأمر فينسخ حينئذ . كما جرى للخليل في قصة الذبح، فإنه لم يكن الذبح مصلحة، ولا كان هو مطلوب الرب في نفس الأمر، بل كان مراد الرب ابتلاء إبراهيم ليقدم طاعة ربه ومحبته على محبة الولد، ولا يبقي في قلبه التفات إلى غير الله، فإنه كان يحب الولد محبة شديدة، وكان قد سأل الله أن يهبه إياه ـ وهو خليل الله ـ فأراد ـ تعالى ـ تكميل خلته لله بألا يبقي في قلبه ما يزاحم به محبة ربه { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ } [ الصافات : 103 : 106 ] ومثل هذا الحديث الذي في صحيح البخاري، حديث أبرص وأقرع وأعمي، كان المقصود ابتلاءهم لا نفس الفعل . وهذا الوجه والذي قبله مما خفي على المعتزلة، فلم يعرفوا وجه الحكمة الناشئة من الأمر، ولا من المأمور لتعلق الأمر به، بل لم يعرفوا إلا الأول . والذين أنكروا الحكمة عندهم الجميع سواء، لا يعتبرون حكمة، ولا تخصيص فعل بأمر، ولا غير ذلك، كما قد عرف من أصلهم .(1/156)
ثم إن كثيرًا من هؤلاء وهؤلاء يتكلمون في تفسير القرآن والحديث والفقه، فيبنون على تلك الأصول التي لهم ولا يعرف حقائق أقوالهم إلا /من عرف مأخذهم . فقول القائل : إن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وفاتحة الكتاب قد تكون كل واحدة منهما في نفسها مماثلة لسائر السور، وآية الكرسي مماثلة لسائر الآيات، وإنما خصت بكثرة ثواب قارئها، أو لم تتعين الفاتحة في الصلاة ونحو ذلك إلا لمحض المشيء ة من غير أن يكون فيها صفة تقتضي التخصيص، هو مبني على أصول جهم في الخلق والأمر، وإن كان وافقه عليه أبو الحسن وغيره . وكتب السنة المعروفة التي فيها آثار السلف يذكر فيها هذا وهذا، ويجعل هذا القول قول الجبرية المتبعين لجهم في أقوال القدرية الجبرية المبتدعة، والسلف كانوا ينكرون قول الجبرية الجهمية كما ينكرون قول المعتزلة القدرية، وهذا معروف عن سفيان الثوري والأوزاعي والزبيدي وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم، وقد ذكر ذلك غير واحد من أتباع الأئمة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وسائر أهل السنة في كتبهم، كما قد بسط في مواضعه، وذكرت أقوال السلف والأئمة في ذلك .(1/157)
وإنما نبهنا هنا على الأصل؛ لأن كثيرًا من الناس لا يعرف ذلك، ولا يظن قول أهل السنة في القدر إلا القول الذي هو عند أهل السنة قول جهم وأتباعه المجبرة أو ما يشبه ذلك . كما أن منهم من يظن أن قول أهل السنة في مسائل الأسماء والأحكام والموعد والوعيد هو ـ أيضًا ـ القول المعروف عند أهل السنة بقول جهم . وهذا يعرفه من يعرف /أقوال الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام المشهورين في هذه الأصول . وذلك موجود في الكتب المصنفة التي فيها أقوال جمهور الأئمة التي يذكر فيها أقوالهم في الفقه كثيرًا، والعلماء الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة على مذهب السلف في ذلك، وكثير من الكتب المصنفة التي يذكر فيها أقوال السلف على وجه الاتباع من تصنيف أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم يذكرون ذلك فيها .
وينبغي للعاقل أن يعرف أن مثل هذه المسائل العظيمة التي هي من أعظم مسائل الدين لم يكن السلف جاهلين بها ولا معرضين عنها، بل من لم يعرف ما قالوه فهو الجاهل بالحق فيها، وبأقوال السلف، وبما دل عليه الكتاب والسنة . والصواب في جميع مسائل النزاع ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقولهم هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والعقل الصريح . وقد بسط هذا في مواضع كثيرة . والله ـ سبحانه ـ أعلم .
فصل(1/158)
وقد احتج بـ [ سورة الإخلاص ] من أهل الكلام المحدث من يقول : الرب ـ تعالى ـ جسم كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم، ومحمد بن كرام، وغيرهما، ومن ينفي ذلك ويقول : ليس بجسم ممن وافق جهم بن صفوان، وأبا الهذيل العلاف، ونحوهما، فأولئك قالوا : هو صمد والصمد لا جوف له، وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة، فإنها لا جوف لها، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة، وكما قيل : إن الملائكة صمد؛ ولهذا قيل : إنه لا يخرج منه شيء، ولا يدخل فيه شيء، ولا يأكل ولا يشرب، ونحو ذلك، ونفي هذا لا يعقل إلا عمن هو جسم، وقالوا : أصل [ الصمد ] : الاجتماع، ومنه تصميد المال، وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع، وأما النفاة فقالوا : [ الصمد ] الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام .
وقالوا ـ أيضًا ـ [ الأحد ] : الذي لا يقبل التجزي والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزى والانقسام . وقالوا : / إذا قلتم : هو جسم كان مركبًا مؤلفًا من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وما كان مركبًا مؤلفًا من غيره كان مفتقرًا إليه، وهوـ سبحانه ـ صمد، والصمد الغني عما سواه، فالمركب لا يكون صمدًا .(1/159)
فيقال : أما القول بأنه ـ سبحانه ـ مركب مؤلف من أجزاء، وأنه يقبل التجزي والانقسام والانفصال، فهذا باطل شرعًا وعقلًا؛ فإن هذا ينافي كونه صمدًا ـ كما تقدم ـ وسواء أريد بذلك أنه كانت الأجزاء متفرقة، ثم اجتمعت، أو قيل : إنها لم تزل مجتمعة لكن يمكن انفصال بعضها عن بعض، كما في بدن الإنسان وغيره من الأجسام، فإن الإنسان وإن كان لم يزل مجتمع الأعضاء، لكن يمكن أن يفرق بين بعضه من بعض، واللّه - سبحانه - منزه عن ذلك؛ ولهذا قدمنا أن كمال الصمدية له، فإن هذا إنما يجوز على ما يجوز أن يفنى بعضه أو يعدم، وما قبل العدم والفناء لم يكن واجب الوجود بذاته، ولا قديمًا أزليًا؛ فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه، وكذلك صفاته التي لم يزل موصوفًا بها وهي من لوازم ذاته، فيمتنع أن يعدم اللازم إلا مع عدم الملزوم .
ولهذا قال من قال من السلف : [ الصمد ] : هو الدائم، وهو الباقى بعد فناء خلقه، فإن هذا من لوازم الصمدية، إذ لو قبل العدم، لم تكن صمديته لازمة له، بل جاز عدم صمديته فلا يبقى صمدًا، ولا/تنتفي عنه الصمدية إلا بجواز العدم عليه، وذلك محال، فلا يكون مستوجبًا للصمدية، إلا إذا كانت لازمة له، وذلك ينافي عدمه، وهو مستوجب للصمدية، لم يصر صمدًا بعد أن لم يكن - تعالى وتقدس- فإن ذلك يقتضي أنه كان متفرقا فجمع، وأنه مفعول محدث مصنوع، وهذه صفة مخلوقاته . وأما الخالق القديم الذي يمتنع عليه أن يكون معدومًا أو مفعولًا أو محتاجًا إلى غيره بوجه من الوجوه، فلا يجوز عليه شيء من ذلك، فعلم أنه لم يزل صمدًا، ولا يزال صمدًا، فلا يجوز أن يقال : كان متفرقا فاجتمع، ولا أنه يجوز أن يتفرق، بل ولا أن يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء .(1/160)
وهذا مما هو متفق عليه بين طوائف المسلمين ـ سنيهم وبدعيهم ـ وإن كان أحد من الجهال أو من لا يعرف قد يقول خلاف ذلك، فمثل هؤلاء لا تنضبط خيالاتهم الفاسدة، كما أنه ليس في طوائف المسلمين من يقول : إنه مولود ووالد، وإن كان هذا قد قاله بعض الكفار، وقد قال المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام من التولد والتعليل ما هو شر من قول أولئك . وأما إثبات الصفات له، وأنه يُرَى في الآخرة، وأنه يتكلم بالقرآن وغيره، وكلامه غير مخلوق، فهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين وأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف . والخلاف في ذلك مشهور مع الجهمية والمعتزلة، / وكثير من الفلاسفة والباطنية .
وهؤلاء يقولون : إن إثبات الصفات يوجب أن يكون جسمًا وليس بجسم . فلا تثبت له الصفات . قالوا : لأن المعقول من الصفات أعراض قائمة بجسم، لا تعقل صفته إلا كذلك . قالوا : والرؤية لا تعقل إلا مع المعاينة، فالمعاينة لا تكون إلا إذا كان المرئي بجهة، ولا يكون بجهة إلا ما كان جسمًا . قالوا : ولأنه لو قام به كلام أو غيره للزم أن يكون جسمًا، فلا يكون الكلام المضاف إليه إلا مخلوقًا منفصلًا عنه .(1/161)
وهذه المعاني مما ناظروا بها الإمام أحمد في المحنة، وكان ممن احتج على أن القرآن مخلوق بنفي التجسيم أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث ـ تلميذ حسين النجار ـ وهو من أكابر المتكلمين، فإن ابن أبي دؤاد كان قد جمع للإمام أحمد من أمكنه من متكلمى البصرة وبغداد وغيرهم ممن يقول : إن القرآن مخلوق، وهذا القول لم يكن مختصًا بالمعتزلة كما يظنه بعض الناس، فإن كثيرًا من أولئك المتكلمين ـ أو أكثرهم ـ لم يكونوا معتزلة، وبشر المْرِيسي لم يكن من المعتزلة، بل فيهم نجارية، ومنهم برغوث، وفيهم ضرارية، وحفص الفرد الذي ناظر الشافعي كان من الضرارية أتباع ضرار بن عمرو، وفيهم مرجئة، ومنهم بشر المريسي، ومنهم جهمية محضة، ومنهم معتزلة، وابن أبي/دُؤَاد لم يكن معتزليًا، بل كان جهميا ينفي الصفات، والمعتزلة تنفي الصفات، فنفاة الصفات الجهمية أعم من المعتزلة، فلما احتج عليه برغوث بأنه لو كان يتكلم ويقوم به الكلام لكان جسما، وهذا منفي عنه، وأحمد وأمثاله من السلف كانوا يعلمون أن هذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون كلفظ الجسم وغيره ينفيها قوم ليتوصلوا بنفيها إلى نفي ما أثبته اللّه ـ تعالى ـ ورسوله، ويثبتها قوم ليتوصلوا بإثباتها إلى إثبات مانفاه اللّه ورسوله .
فالأولى : طريقة الجهمية ـ من المعتزلة وغيرهم ـ ينفون الجسم حتى يتوهم المسلمون أن قصدهم التنزيه، ومقصودهم بذلك أن اللّه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن ولا غيره، بل خلق كلامًا في غيره، وأنه ليس له علم يقوم به، ولا قدرة ولا حياة، ولا غير ذلك من الصفات . قال الإمام أحمد في خطبته في الرد على الجهمية والزنادقة :(1/162)
الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب اللّه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، / فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجتمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه، وفي اللّه، وفي كتاب اللّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ باللّه من فتن المضلين .(1/163)
والثانية : طريقة هشام وأتباعه، يحكى عنهم أنهم أثبتوا ما قد نزه اللّه نفسه عنه من اتصافه بالنقائص، ومماثلته للمخلوقات، فأجابهم الإمام أحمد بطريقة الأنبياء وأتباعهم وهو الاعتصام بحبل اللّه الذي قال اللّه فيه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 102، 103 ] .(1/164)
وقال : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] ، وقال تعالى : { المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 1 : 3 ] ، وقال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [ طه : 123 : 126 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأولى الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [ النساء : 59 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ٌيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ(1/165)
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 1، 2 ] .
وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 60 : 65 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ الأنعام : 159 ] ، وقوله تعالى : {(1/166)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ الروم : 30 : 32 ] ، وقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] .
فهذه النصوص وغيرها تبين أن اللّه أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان الحق من الباطل، وبيان ما اختلف فيه الناس، وأن الواجب على الناس اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة، وأن من لم يتبع ذلك كان منافقًا، وأن من اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذلك حشر أعمى ضالًا شقيًا معذبًا، وأن الذين فرقوا دينهم قد برئ اللّه ورسوله منهم .
فاتبع الإمام أحمد طريقة سلفه من أئمة السنة والجماعة المعتصمين/بالكتاب والسنة، المتبعين ما أنزل اللّه إليهم من ربهم، وذلك أن ننظر فما وجدنا الرب قد أثبته لنفسه في كتابه أثبتناه، وما وجدناه قد نفاه عن نفسه نفيناه، وكل لفظ وجد في الكتاب والسنة بالإثبات أثبت ذلك اللفظ، وكل لفظ وجد منفيًا نفي ذلك اللفظ، وأما الألفاظ التي لا توجد في الكتاب والسنة، بل ولا في كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين لا إثباتها ولا نفيها .(1/167)
وقد تنازع فيها الناس، فهذه الألفاظ لا تثبت ولا تنفي إلا بعد الاستفسار عن معانيها، فإن وجدت معانيها مما أثبته الرب لنفسه أثبتت، وإن وجدت مما نفاه الرب عن نفسه نفيت، وإن وجدنا اللفظ أثبت به حق وباطل، أو نفي به حق وباطل، أو كان مجملًا يراد به حق وباطل، وصاحبه أراد به بعضها، لكنه عند الإطلاق يوهم الناس أو يفهمهم ما أراد وغير ما أراد ـ فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ الجوهر والجسم والتحيز والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل في هذا المعنى، فقل من تكلم بها نفيًا أو إثباتًا إلا وأدخل فيها باطلًا، وإن أراد بها حقًا .
والسلف والأئمة كرهوا هذا الكلام المحدث؛ لاشتماله على باطل وكذب، وقولُ عَلَى اللّه بلا علم . وكذلك ذكر أحمد في رده على الجهمية أنهم يفترون على اللّه فيما ينفونه عنه، ويقولون عليه بغير علم، وكل/ ذلك مما حَرَّمَهُ اللّه ورسوله، ولم يكره السلف هذه لمجرد كونها اصطلاحية، ولا كرهوا الاستدلال بدليل صحيح جاء به الرسول، بل كرهوا الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة، ولا يخالف الكتاب والسنة إلا ما هو باطل، لا يصح بعقل ولا سمع .
ولهذا لما سئل أبو العباس ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين وقال : وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث اللّه النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك، ولم يرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين؛ فإنهما لم يكونا قد أحدثا في زمنه، وإنما أراد إنكار ما يعني بهما من المعاني الباطلة، فإن أول من أحدثهما الجهمية والمعتزلة، وقصدهم بذلك إنكار صفات اللّه ـ تعالى ـ أو أن يرى، أو أن يكون له كلام يتصف به، وأنكرت الجهمية أسماءه أيضًا .(1/168)
وأول من عرف عنه إنكار ذلك الجعْدُ بن درهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القَسْرى بواسط . وقال : يا أيها الناس ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى اللّه عما يقول الجعد علوًا كبيرًا . ثم نزل فذبحه .
وكلام السلف والأئمة في ذم هذا الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع .
/والمقصود هنا أن أئمة السنة ـ كأحمد بن حنبل وغيره ـ كانوا إذا ذكرت لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ الجسم والجوهر والحيز ونحوها، لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي . وأهل البدع بالعكس ابتدعوا ألفاظًا ومعاني، إما في النفي، وإما في الإثبات، وجعلوها هي الأصل المعقول المحكم، الذي يجب اعتقاده، والبناء عليه، ثم نظروا في الكتاب والسنة، فما أمكنهم أن يتأولوه على قولهم تأولوه، وإلا قالوا : هذا من الألفاظ المتشابهة المشكلة التي لا ندري ما أريد بها، فجعلوا بدعهم أصلًا محكمًا، وما جاء به الرسول فرعًا له ومشكلًا، إذا لم يوافقه . وهذا أصل الجهمية والقدرية وأمثالهم، وأصل الملاحدة من الفلاسفة الباطنية، جميع كتبهم توجد على هذا الطريق، ومعرفة الفرق بين هذا وهذا من أعظم ما يعلم به الفرق بين الصراط المستقيم الذي بعث اللّه به رسوله، وبين السبل المخالفة له، وكذلك الحكم في المسائل العلمية الفقهية، ومسائل أعمال القلوب وحقائقها وغير ذلك . كل هذه الأمور قد دخل فيها ألفاظ ومعان محدثة، وألفاظ ومعان مشتركة .
فالواجب أن يجعل ما أنزله اللّه من الكتاب والحكمة أصلًا في جميع هذه الأمور، ثم يرد ما تكلم فيه الناس إلى ذلك، ويبين مافي الألفاظ المجملة من المعاني الموافقة للكتاب والسنة فتقبل، وما فيها من المعاني /المخالفة للكتاب والسنة فترد .(1/169)
ولهذا كل طائفة أنكر عليها ما ابتدعت احتجت بما ابتدعته الأخرى، كما يوجد في ألفاظ أهل الرأي والكلام والتصوف، وإنما يجوز أن يقال في بعض الآيات : إنه مشكل ومتشابه إذا ظن أنه يخالف غيره من الآيات المحكمة البينة، فإذا جاءت نصوص بينة محكمة بأمر، وجاء نص آخر يظن أن ظاهره يخالف ذلك يقال في هذا : إنه يرد المتشابه إلى المحكم، أما إذا نطق الكتاب أو السنة بمعنى واحد لم يجز أن يجعل ما يضاد ذلك المعنى هو الأصل، ويجعل ما في القرآن والسنة مشكلًا متشابهًا، فلا يقبل ما دل عليه .
نعم قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها، فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس إلا وفي القرآن بيان معناه، فإن القرآن جعله اللّه شفاءً لما في الصدور، وبيانًا للناس، فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك؛ لكن قد تخفي آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة، حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم . إما ألا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه، فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة، ومن ههنا يقع الشرك، وتفريق الدين شيعًا، كالفتن التي تحدث السيف، فالفتن القولية والعملية/ هي من الجاهلية بسبب خفاء نور النبوة عنهم، كما قال مالك بن أنس : إذا قَلَّ العِلْمُ ظهر الجفَاَءُ، وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء .(1/170)
ولهذا شبهت الفتن بقطع الليل المظلم؛ ولهذا قال أحمد في خطبته : الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم . فالهدى الحاصل لأهل الأرض إنما هو من نور النبوة كما قال تعالى { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } [ طه : 123 ] ، فأهل الهدى والفلاح هم المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون في كل زمان ومكان . وأهل العذاب والضلال هم المكذبون للأنبياء، يبقى أهل الجاهلية الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء .
فهؤلاء في ضلال وجهل وشرك وشر، لكن اللّه يقول : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [ الإسراء : 15 ] ، وقال : { رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، وقال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 59 ] ، فهؤلاء لا يهلكهم اللّه ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولًا . وقد رويت آثار متعددة في أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا، فإنه يُبْعَثُ إليه رَسَولٌ يوم القيامة في عَرَصَات القيامة .(1/171)
/وقد زعم بعضهم أن هذا يخالف دين المسلمين؛ فإن الآخرة لا تكليف فيها، وليس كما قال، إنما ينقطع التكليف إذا دخلوا دار الجزاء ـ الجنة أو النار ـ وإلا فهم في قبورهم ممتحنون ومفتونون، يقال لأحدهم : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ وكذلك في عرصات القيامة يقال : ليتبع كل قوم ماكانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ومن كان يعبد القمرَ القمرَ، ومن كان يعبد الطواغيتَ الطواغيتَ، وتبقي هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم اللّه في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، ويقول : أنا ربكم، فيقولون : نعوذ باللّه منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا . وفي رواية : فيسألهم ويثبتهم، وذلك امتحان لهم، هل يتبعون غير الرب الذي عرفوا أنه اللّه الذي تجلى لهم أول مرة ؟ فيثبتهم اللّه ـ تعالى ـ عند هذه المحنة، كما يثبتهم في فتنة القبر، فإذا لم يتبعوه لكونه أتى في غير الصورة التي يعرفون، أتاهم حينئذ في الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق، فإذا رأوه خروا له سجدًا، إلا من كان منافقًا، فإنه يريد السجود فلا يستطيعه، يبقى ظهره مثل الطبق . وهذا المعنى مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث ثابتة من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وقد أخرجاهما في الصحيحين، ومن حديث جابر . وقد رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وأبي موسى، وهو معروف من رواية أحمد وغيره، فدل/ذلك على أن المحنة إنما تنقطع إذا دخلوا دار الجزاء، وأما قبل دار الجزاء امتحان وابتلاء .(1/172)
فإذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور، ووقع الشر بينهم، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني الثالثة، سألته ألا يهلك أمتى بسنة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ) . والبأس مشتق من البؤس، قال اللّه تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 65 ] ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } قال ( أعوذ بوجهك ) .
{ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : ( أعوذ بوجهك ) . { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } قال : ( هاتان أهون ) ، فدل على أنه لابد أن يلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول في هذه الحال، وهم فيها في جاهلية .
ولهذا قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج/ أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية . وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أنها كانت تقول : ترك الناس العمل بهذه الآية ـ تعني قوله تعالى ـ : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } [ الحجرات : 9 ] ، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر اللّه ـ تعالى ـ فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية .(1/173)
وهكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى اللّه والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم اللّه أقر بعضهم بعضًا، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضًا، ولا يعتدى عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله . وهذه حال أهل البدع والظلم كالخوارج وأمثالهم، يظلمون الأمة ويعتدون عليهم، إذا نازعوهم في بعض مسائل الدين، وكذلك سائر أهل الأهواء، فإنهم يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها، كما تفعل الرافضة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء؛ ابتدعوا بدعة وكفروا من خالفهم فيها، /واستحلوا منع حقه وعقوبته .
فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث اللّه به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما عادلون، وإما ظالمون . فالعادل فيهم الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم الذي يعتدى على غيره، وهؤلاء ظالمون مع علمهم بأنهم يظلمون، كما قال تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 4 ] ، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضًا، كالمقلدين لأئمة الفقه الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم اللّه ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نوابًا عن الرسول، وقالوا : هذه غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعى أن قول متبوعه هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من يخالفه مع أنه معذور .(1/174)
وكان الذين امتحنوا أحمد وغيره من هؤلاء الجاهلين، فابتدعوا كلامًا متشابهًا نفوا به الحق، فأجابهم أحمد لما ناظروه في المحنة، وذكروا الجسم ونحو ذلك، وأجابهم بإني أقول كما قال اللّه تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} ، وأما لفظ الجسم فلفظ مبتدع محدث، ليس على أحد أن يتكلم به ألبتة، والمعنى الذي يراد به مجمل، ولم تبينوا مرادكم حتى نوافقكم على المعنى الصحيح، فقال : ما أدرى ما تقولون ؟ / لكن أقول : { اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } .
يقول : ما أدري ما تعنون بلفظ الجسم، فأنا لا أوافقكم على إثبات لفظ ونفيه، إذ لم يرد الكتاب والسنة بإثباته ولا نفيه، إن لم نَدْرِ معناه الذي عناه المتكلم، فإن عني في النفي والإثبات ما يوافق الكتاب والسنة وافقناه، وإن عني ما يخالف الكتاب والسنة في النفي والإثبات لم نوافقه .
ولفظ [ الجسم ] و [ الجوهر ] ونحوهما لم يأت في كتاب اللّه ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد ـ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسائر أئمة المسلمين ـ التكلم بها في حق اللّه ـ تعالى ـ لا بنفي ولا إثبات؛ ولهذا قال أحمد في رسالته إلى المتوكل : لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب اللّه، أو في حديث عن رسول صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة أو التابعين لهم بإحسان، وأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود .(1/175)
وذكر ـ أيضًا ـ فيما حكاه عن الجهمية أنهم يقولون : ليس فيه كذا ولا كذا ولا كذا، وهو كما قال، فإن لفظ الجسم له في اللغة التي نزل بها القرآن معنى، كما قال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } [ المنافقون : 4 ] ، وقال تعالى : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [ البقرة : 247 ] . قال ابن عباس : كان طالوت أعلم بنى إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه، والبسطة : السعة . قال ابن قتيبة : هو من قولك : بسطت الشيء، إذا كان مجموعا ففتحته ووسعته . قال بعضهم : والمراد بتعظيم الجسم : فضل القوة؛ إذ العادة أن من كان أعظم جسمًا كان أكثر قوة، فهذا لفظ الجسم في لغة العرب التي نزل بها القرآن . قال الجوهري : قال أبو زيد الأنصاري الجسم : الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان . وقال الأصمعي : الجسم، والجسد، والجثمان الشخص . وقال جماعة : جسم الإنسان يقال له : الجثمان، وقد جسم الشيء، أي : عظم، فهو جسيم وجسام، والجِسَامُ ـ بالكسر ـ جمع جسيم . قال أبو عبيدة : تجسمت فلانا من بين القوم، أي : اخترته، كأنك قصدت جسمه . كما تقول : تأتيته، أي : قصدت أتيه وشخصه، وأنشد أبو عبيدة :
تَجَسَّمْتُهُ من بينهن بمرهف **
وتَجَسَّمْتُ الأرضَ : إذا أخذت نحوها تُريدُها، وتَجَسَّمَ من الجسم . وقال ابن السكيت : تَجَسَّمْتُ الأمر، أي : ركبت أجسمه وجسيمه، أي معظمه، قال : وكذلك تَجَسَّمْتُ الرَّمْلَ والجَبَلَ، أي : ركبت أعظمه، والأجْسَمُ : الأضخم . قال عامر بن الطفيل :
/لقد علم الحىُّ من عامرٍ ** بأن لنا الذِّرْوَةَ الأجْسَما(1/176)
فهذا الجسم في لغة العرب، وعلى هذا فلا يقال للهواء : جسم، ولا للنَّفَسِ الخارج من الإنسان : جسم، ولا لروحه المنفوخة فيه : جسم . ومعلوم أن اللّه ـ سبحانه ـ لا يماثل شيئًا من ذلك، لا بدن الإنسان ولا غيره، فلا يوصف اللّه ـ تعالى ـ بشيء من خصائص المخلوقين، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فلا يجوز أن يقال : هو جسم، ولا جسد .
وأما أهل الكلام، فالجسم عندهم أعم من هذا، وهم مختلفون في معناه اختلافا كثيرًا عقليًا، واختلافًا لفظيًا اصطلاحيًا . فهم يقولون : كل ما يشار إليه إشارة حسية فهو جسم، ثم اختلفوا بعد هذا، فقال كثير منهم : كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر الفردة، ثم منهم من قال : الجسم أقل ما يكون جوهرًا، بشرط أن ينضم إلى غيره . وقيل : بل الجوهران، والجواهر فصاعدًا . وقيل : بل أربعة فصاعدًا . وقيل : بل ستة . وقيل : بل ثمانية . وقيل : بل ستة عشر . وقيل : بل اثنان وثلاثون، وهذا قول من يقول : إن الأجسام كلها مركبة من الجواهر التي لا تنقسم .
وقال آخرون من أهل الفلسفة : كل الأجسام مركبة من الهيولى/والصورة، لا من الجواهر الفردة .
وقال كثير من أهل الكلام وغير أهل الكلام : ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، ولا من هذا ولا من هذا، وهذا قول الهشامية والكُلابية والضرارية وغيرهم من الطوائف الكبار، لا يقولون بالجوهر الفرد ولا بالمادة والصورة، وآخرون يدعون إجماع المسلمين على إثبات الجوهر الفرد، كما قال أبو المعالى وغيره : اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادًا، ومع هذا، فقد شك هو فيه، وكذلك شك فيه أبو الحسين البصري . وأبو عبد اللّه الرازي .(1/177)
ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من أئمة المسلمين ـ لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ـ ولا أحد من أئمة العلم المشهورين بين المسلمين، وأول من قال ذلك في الإسلام طائفة من الجهمية والمعتزلة، وهذا من الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولكن حاكى هذا الإجماع لما لم يعرف أصول الدين إلا ما في كتب الكلام، ولم يجد إلا من يقول بذلك، اعتقد هذا إجماع المسلمين، والقول بالجوهر الفرد باطل، والقول بالهيولى والصورة باطل، وقد بسط الكلام على هذه المقالات في مواضع أخر .
/وقال آخرون : الجسم هو القائم بنفسه، وكل قائم بنفسه جسم، وكل جسم فهو قائم بنفسه، وهو مشار إليه، واختلفوا في الأجسام : هل هي متماثلة أم لا ؟ على قولين مشهورين .(1/178)
وإذا عرف ذلك، فمن قال : إنه جسم ـ وأراد أنه مركب من الأجزاء ـ فهذا قوله باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات، فقد علم بالشرع والعقل أن اللّه ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت للّه مثلًا في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال : إنه جسم بهذا المعنى، فهو مبطل، ومن قال : إنه ليس بجسم ـ بمعنى أنه لا يرى في الآخرة، ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء، ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا تعرج الملائكة والروح إليه ـ فهذا قوله باطل . وكذلك كل من نفي ما أثبته اللّه ورسوله، وقال : إن هذا تجسيم فنفيه باطل، وتسمية ذلك تجسيمًا تلبيس منه، فإنه إن أراد أن هذا في اللغة يسمى جسمًا، فقد أبطل، وإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسمًا مركبًا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة، أو أن هذا يقتضي أن يكون جسمًا، والأجسام متماثلة، قيل له : أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة، وفي أنها مركبة، فلا يقولون : إن الهواء مثل الماء/ ولا أبدان الحيوان مثل الحديد والجبال، فكيف يوافقونك على أن الرب ـ تعالى ـ يكون مماثلًا لخلقه، إذا أثبتوا له ما أثبت له الكتاب والسنة ؟ ! واللّه ـ تعالى ـ قد نفي المماثلات في بعض المخلوقات، وكلاهما جسم كقوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] ، مع أن كلاهما بشر، فكيف يجوز أن يقال : إذا كان لرب السموات علم وقدرة أنه يكون مماثلًا لخلقه ؟ ! والله ـ تعالى ـ ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .(1/179)
ونكتة الأمر : أن الجسم في اعتقاد هذا النافي يستلزم مماثلة سائر الأجسام، ويستلزم أن يكون مركبًا من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وأكثر العقلاء يخالفونه في هذا التلازم، وهذا التلازم منتف باتفاق الفريقين، وهو المطلوب .
فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن اللّه شرعًا وعقلًا؛ بقي بحثهم في الجسم الاصطلاحى : هل هو مستلزم لهذا المحذور ؟ وهو بحث عقلى، كبحث الناس في الأعراض : هل تبقي أو لا تبقي ؟ وهذا البحث العقلى لم يرتبط به دين المسلمين، بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر من السلف بلفظ الجسم في حق اللّه ـ تعالى ـ لا نفيًا ولا إثباتًا، فليس لأحد أن يبتدع اسمًا مجملًا يحتمل معاني مختلفة، لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين، ولو كان قد نطق باللغة العربية، فكيف إذا /أحدث للفظ معنى آخر ؟ !
والمعنى الذي يقصده إذا كان حقًا عبر عنه بالعبارة التي لا لبس فيها، فإذا كان معتقده أن الأجسام متماثلة، وأن اللّه ليس كمثله شيء، وهو ـ سبحانه ـ لا سمى له، ولا كُفْو له، ولا ند له، فهذه عبارات القرآن تؤدى هذا المعنى بلا تلبيس ولا نزاع، وإن كان معتقده أن الأجسام غير متماثلة، وأن كل ما يرى وتقوم به الصفات فهو جسم، فإن عليه أن يثبت ما أثبته اللّه ورسوله من علمه وقدرته وسائر صفاته، كقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمتينُ } [ الذاريات : 58 ] ، وقوله ـ عليه السلام ـ في حديث الاستخارة : ( اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك ) . وقوله في الحديث الآخر : ( اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق ) . ويقول كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( إنكم ترون ربكم يوم القيامة عيانًا كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته ) فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئيُّ كالمرئيِّ .(1/180)
فهذه عبارات الكتاب والسنة عن هذا المعنى الصحيح بلا تلبيس ولا نزاع بين أهل السنة ـ المتبعين للكتاب والسنة وأقوال الصحابة ـ ثم بعد هذا من كان قد تبين له معنى من جهة العقل أنه لازم للحق لم يدفعه عن عقله، فلازم الحق حق، لكن ذلك المعنى لابد أن يدل /الشرع عليه فيبينه بالألفاظ الشرعية، وإن قُدِّرَ أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده، وحينئذ فليس لأحد أن يدعو الناس إليه، وإن قدر أنه في نفسه حق .
فَصْل
إذا تبين هذا، فمن الناس من صار في طَرَفي نقيض، فحكى عن بعض السوفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها، يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد، وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل، وإنما هو من جنس ما يحكى أن السوفسطائية أنكروا الحقائق ولم يثبتوا حقيقة ولا علمًا بحقيقة، وأن لهم مقدمًا يقال له : سوفسطا كما يذكره فريق من أهل الكلام .
وزعم آخرون أن هذا القول لا يعرف أن عاقلًا قاله، ولا طائفة تسمى بهذا الاسم، وإنما هي كلمة معربة من اللغة اليونانية ومعناها : الحكمة المموهة، يعنون الكلام الباطل الذي قد يشبه الحق، كما قد يتخيله الإنسان لفساد عقله أو مزاجه أو اشتباه الأمر عليه، وجعلوا /هذا نوعًا من الكلام والرأى يعرض للنفوس، لا أنه صنف من الآدميين .(1/181)
وبكل حال، فمعلوم أن التخيلات الفاسدة كثيرًا ما تعرض لبنى آدم، بل هي كثيرة عليهم، وهم يجحدون الحق؛ إما عنادًا، وإما خطأ في أمور كثيرة وفي أحوال كثيرة، وإن كان الجاحد قد يقر بحق آخر، أو يقر بذلك الحق في وقت آخر، فالجهل والعناد الذي هو السفسطة هو فيهم خاص مقيد، لا أنه عام مطلق، قد يبتلى به بعضهم مطلقًا وإن لم يستمر به الأمر، وقد يبتلى به في شيء بعينه على سبيل الدوام، وأما ابتلاء الشخص المعين به، فقد يكون؛ إما مع فساد العقل المسقط للتكليف وهو الجنون،وإما مع صحة العقل المشروط في التكليف، فما أعلم شخصًا جاهلًا بكل شيء معاندًا لكل شيء حتى يكون سوفسطائيًا .
ومما يبين أن هذا لم يقع عند المتكلمة ـ أيضًا ـ أن كثيرًا من متكلمة أهل الحديث والسنة وغيرهم يقولون : إن العقل المشروط في التكليف نوع من العلوم الضرورية؛ كالعلم بوجوب الواجبات، وجواز الجائزات، وامتناع الممتنعات . واستدلوا على ذلك بأن العاقل لا يخلو من علم شيء من ذلك، وهذا قول القاضي أبي بكر، وابن البَاقِلانى، وأبي الطيب الطبري، والقاضي أبي يَعْلى، وابن عقيل، وغيرهم، فمن كان هذا / قوله لم يصح أن يحكى عن عاقل أنه أنكر العلوم جميعها إلا على سبيل العناد . ومعلوم أن العناد لا يكون إلا لغرض، وليس لأحدٍ غرضٌ أن يعاند في كل شيء، ويجحده على سبيل الدوام .(1/182)
ومن الناس بإزاء هؤلاء مَنْ قد يتوهم أنه لا تأثير للعقائد في المعتقدات، ولا تختلف الأحكام باختلاف العقائد، بل يتخيل أنه إذا اعتقد وجوب فعل، أو تحريمه كان من خرج عن اعتقاده مبطلًا مرتكبًا للمحرم، أو تاركًا للواجب، وأنه يستحق من الذم والعقاب ما يستحقه جنس من ترك الواجب، أو فعل المحرم، وإذا عورض بأنه متأول، أو مجتهد لم يلتفت إلى هذا، وقال : هو ضال مخطئ مستحق للعقاب، وهذا ـ أيضًا ـ على إطلاقه وعمومه لا يعتقده صحيح العقل والدين، ما أعلم قائلًا به على الإطلاق والعموم كالطرف الأول، وإنما أعلم أقوامًا وطوائف يُبْتَلون ببعض ذلك ولوازمه في بعض الأشياء، فإن من غالب من يقول بعصمة الأنبياء والأئمة الاثنى عشر عن الخطأ في الأقوال والأعمال مَنْ قد يرى أنه لو أخطأ الإمام في فعلٍ لكان ذلك عيبًا وذمًا، وبين هذين الطرفين المتباعدين أطراف ـ أيضًا ـ نشأ عنها اختلاف الناس في تصويب المجتهدين وتخطئتهم في الأصول والفروع، كما سننبه عليه ـ إن شاء اللّه .
الوجه الرابع عشر(1/183)
أن الناس اتفقوا على أن المطلوب بالأمر وجود المأمور به وإن لزم من ذلك عدم ضده ويقول الفقهاء : الأمر بالشيء نهي عن ضده فإن ذلك متنازع فيه . والتحقيق أنه منهي عنه بطريق اللازم وقد يقصده الآمر وقد لا يقصده وأما المطلوب بالنهي فقد قيل : إنه نفس عدم المنهي عنه . وقيل : ليس كذلك، لأن العدم ليس مقدورا ولا مقصودا بل المطلوب فعل ضد المنهي عنه وهو الامتناع وهو أمر وجودي . والتحقيق : أن مقصود الناهي قد يكون نفس عدم المنهي عنه، وقد يكون فعل ضده، وذلك العدم عدم خاص مقيد يمكن أن يكون مقدورا بفعل ضده فيكون فعل الضد طريقا إلى مطلوب الناهي وإن لم يكن نفس المقصود وذلك أن الناهي إنما نهى عن الشيء لما فيه من الفساد فالمقصود عدمه كما ينهى عن قتل النفس وشرب الخمر وإنما نهى لابتلاء المكلف وامتحانه كما نهى قوم طالوت عن الشرب إلا بملء الكف فالمقصود هنا طاعتهم وانقيادهم وهو أمر وجودي وإذا كان وجوديا فهو الطاعة التي هي من جنس فعل المأمور به فصار المنهي عنه إنما هو تابع للمأمور به، فإن مقصوده إما عدم ما يضر المأمور به أو جزء من أجزاء المأمور به وإذا كان إما حاويا للمأمور به، أو فرعا منه : ثبت أن المأمور به أكمل وأشرف وهو المقصود الأول .
وسئل عن مسائل كثير وقوعها، ويحصل الابتلاء بها، ويحصل الضيق والحرج والعمل بها على رأي إمام بعينه ؟ منها مسألة المياه اليسرة، ووقوع النجاسة فيها من غير تغير وتغييرها بالطاهرات ؟
فأجاب ـ رحمه الله تعالى :
الحمد لله رب العالمين، أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات ـ كالأشنان والصابون والسدر والخطمي والتراب والعجين، وغير ذلك مما قد يغير الماء، مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمي ووضع فيه ماء، فتغير به، مع بقاء اسم الماء ـ فهذا فيه قولان معروفان للعلماء :(1/184)
أحدهما : أنه لا يجوز التطهير به، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدي الروايتين عنه التي اختارها الخرقي والقاضي، وأكثر متأخري أصحابه؛ لأن هذا ليس بماء مطلق، فلا يدخل في قوله تعالى : {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} [ المائدة : 6 ] . ثم إن أصحاب هذا القول استثنوا من هذا أنواعًا، بعضها متفق عليه بينهم، وبعضها مختلف فيه، فما كان من التغير حاصلاً بأصل الخلقة أو بما يشق صون الماء عنه، فهو طهور باتفاقهم . وما تغير بالأدهان والكافور ونحو ذلك، ففيه قولان معروفان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما . وما كان تغيره يسيرًا : فهل يعفي عنه أو لا يعفي عنه، أو يفرق بين الرائحة وغيرها ؟ على ثلاثة أوجه، إلى غير ذلك من المسائل .
والقول الثاني : أنه لا فرق بين المتغير بأصل الخلقة وغيره، ولا بما يشق الاحتراز عنه، ولا بما لا يشق الاحتراز عنه، فما دام يسمي ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورًا، كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخري عنه، وهي التي نص عليها في أكثر أجوبته . وهذا القول هو الصواب؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال : {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [ المائدة : 6 ] ، وقوله : {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} نكرة في سياق النفي، فيعم كل ما هو ماء، لا فرق في ذلك بين نوع ونوع .
فإن قيل : إن المتغير لا يدخل في اسم الماء ؟(1/185)
قيل : تناول الاسم لمسماه لا فرق فيه بين التغير الأصلي والطارئ ولا بين التغير الذي يمكن الاحتراز منه والذي لا يمكن الاحتراز منه، فإن الفرق بين هذا وهذا إنما هو من جهة القياس لحاجة الناس إلىاستعمال هذا المتغير، دون هذا، فأما من جهة اللغة وعموم الاسم وخصوصه فلا فرق بين هذا وهذا؛ ولهذا لو وكله في شراء ماء، أو حلف لا يشرب ماء أو غير ذلك، لم يفرق بين هذا وهذا، بل إن دخل هذا دخل هذا،وإن خرج هذا خرج هذا، فلما حصل الاتفاق على دخول المتغير تغيرًا أصليا، أو حادثًا بما يشق صونه عنه، علم أن هذا النوع داخل في عموم الآية . وقد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر : ( هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ) والبحر متغير الطعم تغيرًا شديدًا؛ لشدة ملوحته . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن ماءه طهور ـ مع هذا التغير ـ كان ما هو أخف ملوحة منه أولي أن يكون طهورًا، وإن كان الملح وضع فيه قصدًا؛ إذ لا فرق بينهما في الاسم من جهة اللغة . وبهذا يظهر ضعف حجة المانعين؛ فإنه لو استقي ماء، أو وكله في شراء ماء لم يتناول ذلك ماء البحر، ومع هذا فهو داخل في عموم الآية، فكذلك ما كان مثله في الصفة .
وأيضًا، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل المحرم بماء وسدر . وأمر بغسل ابنته بماء وسدر . وأمر الذي أسلم أن يغتسل بماء وسِدر . ومن المعلوم : أن السدر لابد أن يغير الماء، فلو كان التغير يفسد الماء لم يأمر به .
وقول القائل : إن هذا تغير في محل الاستعمال، فلا يؤثر، تفريق بوصف غير مؤثر، لا في اللغة ولا في الشرع؛ فإن المتغير إن كان يسمي ماء مطلقًا، وهو على البدن، فيسمي ماء مطلقًا وهو في الإناء . وإن لم يسم ماء مطلقًا في أحدهما، لم يسم مطلقًا في الموضع الآخر فإنه من المعلوم أن أهل اللغة لا يفرقون في التسمية بين محل ومحل .(1/186)
وأما الشرع : فإن هذا فرق لم يدل عليه دليل شرعي، فلا يلتفت اليه . والقياس عليه إذا جمع أو فرق، أن يبين أن ما جعله مناط الحكم جمعًا أوفرقًا مما دل عليه الشرع، وإلا فمن علق الأحكام بأوصاف ـ جمعًا وفرقًا بغير دليل شرعي ـ كان واضعًا لشرع من تلقاء نفسه، شارعًا في الدين ما لم يأذن به الله .
ولهذا كان على القائس أن يبين تأثير الوصف المشترك الذي جعله مناط الحكم، بطريق من الطرق الدالة على كون الوصف المشترك هو علة الحكم . وكذلك في الوصف الذي فرق فيه بين الصورتين، عليه أن يبين تأثيره بطريق من الطرق الشرعية .
وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم : توضأ من قصعة فيها أثر العجين، ومن المعلوم أنه لابد ـ في العادة ـ من تغير الماء بذلك، لاسيما في آخر الأمر، إذا قل الماء وانحل العجين .
فإن قيل : ذلك التغير كان يسيرًا ؟
قيل : وهذا ـ أيضًا ـ دليل في المسألة؛ فإنه إن سوَّي بين التغير اليسير والكثير مطلقًا، كان مخالفًا للنص . وإن فرق بينهما، لم يكن للفرق بينهما حد منضبط، لا بلغة ولا شرع، ولا عقل ولا عرف، ومن فرق بين الحلال والحرام بفرق غير معلوم لم يكن قوله صحيحًا .
وأيضًا، فإن المانعين مضطربون اضطرابًا يدل على فساد أصل قولهم، منهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره، ويقول : إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة . ومنهم من يقول : بل نحن نجد في الماء أثر ذلك، ومنهم من يفرق بين الورق الربيعي والخريفي، ومنهم من يسوي بينهما، ومنهم من يسوي بين الملحين : الجبلي والمائي . ومنهم من يفرق بينهما .(1/187)
وليس على شيء من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه، لا من نص ولا قياس ولا إجماع؛ إذ لم يكن الأصل الذي تفرعت عليه مأخوذًا من جهة الشرع، وقد قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [ النساء : 82 ] ، وهذا بخلاف ما جاء من عند الله، فإنه محفوظ، كما قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [ الحجر : 9 ] ، فدل ذلك على ضعف هذا القول .
وأيضًا، فإن القول بالجواز موافق للعموم اللفظي والمعنوي، مدلول عليه بالظواهر والمعاني، فإن تناول اسم الماء لمواقع الإجماع، كتناوله لموارد النزاع في اللغة، وصفات هذا كصفات هذا في الجنس، فتجب التسوية بين المتماثلين .
وأيضًا، فإنه على قول المانعين، يلزم مخالفة الأصل، وترك العمل بالدليل الشرعي لمعارض راجح؛ إذ كان يقتضي القياس عندهم أنه لا يجوز استعمال شيء من المتغيرات في طهارتي الحدث والخبث، لكن استثني المتغير بأصل الخلقة، وبما يشق صون الماء عنه للحرج والمشقة فكان هذا موضع استحسان ترك له القياس، وتعارض الأدلة على خلاف الأصل . وعلى القول الأول : يكون رخصة ثابتة على وفق القياس من غير تعارض بين أدلة الشرع، فيكون هذا أقوي .
وَسُئِلَ عن مس النساء : هل ينقض الوضوء أم لا ؟
فأجاب :
فيه ثلاثة أقوال للفقهاء :
أحدها : أنه لا ينقض بحال، كقول أبي حنيفة وغيره .
والثاني : أنه إن كان له شهوة نقض وإلا فلا، وهو قول مالك وغيره من أهل المدينة .
والثالث : ينقض في الجملة وإن لم يكن بشهوة، وهو قول الشافعي وغيره .
وعن أحمد بن حنبل ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة، لكن المشهور عنه قول مالك .(1/188)
والصحيح في المسألة أحد قولين؛ إما الأول وهو عدم النقض مطلقًا، وإما القول الثاني وهو النقض إذا كان بشهوة . وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال، ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة، ولا روى أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر المسلمين أن يتوضؤوا من ذلك؛ مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم فيه أحد في عموم الأحوال؛ فإن الرجل لايزال يناول امرأته شيئًا وتأخذه بيدها، وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به، فلو كان الوضوء من ذلك واجبًا، لكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك مرة بعد مرة ويشيع ذلك، ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد، فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحدًا من المسلمين بشيء من ذلك ـ مع عموم البلوى به ـ علم أن ذلك غير واجب .
وأيضًا،فلو أمرهم بذلك لكانوا ينقلونه ويأمرون به . ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه أمر بالوضوء من مجرد المس العارى عن شهوة، بل تنازع الصحابة في قوله تعالى : {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} [ المائدة : 6 ] ، فكان ابن عباس وطائفة يقولون : الجماع، ويقولون : الله حيى كريم يُكَنِّى بما يشاء عما شاء . وهذا أصح القولين .
وقد تنازع عبد الله بن عمر والعرب وعطاء بن أبي رباح والموالي : هل المراد به الجماع أو ما دونه ؟ فقالت العرب : هو الجماع . وقالت : الموالي هو ما دونه . وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب وخطَّأ الموالي .
وكان ابن عمر يقول : قُبلة الرجل امرأته ومسها بيده من الملامسة،وهذا قول مالك وغيره من أهل المدينة . ومن الناس من يقول : إن هذا قول ابن عمر وابن مسعود؛ لكونهما كانا لا يريان التيمم للجنب، فيتأولان الآية على نقض الوضوء، ولكن قد صرح في الآية أن الجنب يتيمم .
وقد ناظر أبو موسى ابن مسعود بالآية فلم يجبه ابن مسعود بشيء وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه، فَعُلِم أن ذلك كان من عدم استحضاره لموجب الآية .(1/189)
ومعلوم أن الصحابة الأكابر الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم لو كانوا يتوضؤون من مس نسائهم مطلقًا، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، لكان هذا مما يعلمه بعض الصغار، كابن عمر وابن عباس وبعض التابعين، فإذا لم ينقل ذلك صاحب ولا تابع، كان ذلك دليلا على أن ذلك لم يكن معروفًا بينهم . وإنما تكلم القوم في تفسير الآية، والآية إن كان المراد بها الجماع فلا كلام، وإن كان أريد بها ما هو أعم من الجماع فيقال : حيث ذكر الله ـ تعالى ـ في كتابه مس النساء ومباشرتهن ونحو ذلك، فلا يريد به إلا ما كان على وجه الشهوة واللذة، وأما اللمس العارى عن ذلك فلا يعلق الله به حكما من الأحكام أصلا، وهذا كقوله تعالى : {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [ البقرة : 187 ] ، فنهى العاكف عن مباشرة النساء مع أن العلماء يعلمون أن المعتكف لو مس امرأته بغير شهوة لم يحرم ذلك عليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يدنى رأسه إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ فترجله وهو معتكف . ومعلوم أن ذلك مظنة مسه لها ومسها له .
وأيضًا، فالإحرام أشد من الاعتكاف ولو مسته المرأة لغير شهوة لم يأثم بذلك ولم يجب عليه دم، وهذا الوجه يستدل به من وجهين : من جهة ظاهر الخطاب، ومن جهة المعنى والاعتبار . فإن خطاب الله ـ تعالى ـ في القرآن بذكر اللمس والمس والمباشرة للنساء ونحو ذلك لا يتناول ما تجرد عن شهوة أصلا، ولم يتنازع المسلمون في شيء من ذلك إلا في آية الوضوء، والنزاع فيها متأخر، فيكون ما أجمعوا عليه قاضيًا على ما تنازع فيه متأخروهم .(1/190)
وأما طريق الاعتبار فإن اللمس المجرد لم يعلق الله به شيئا من الأحكام، ولا جعله موجبًا لأمر، ولا منهيًا عنه في عبادة ولا اعتكاف ولا إحرام، ولا صلاة ولا صيام، ولا غير ذلك . ولا جعله ينشر حرمة المصاهرة، ولا يثبت شيئًا غير ذلك، بل هذا في الشرع كما لو مس المرأة من وراء ثوبها ونحو ذلك من المس الذي لم يجعله الله سببًا لإيجاب شيء ولا تحريم شيء .
وإذا كان كذلك، كان إيجاب الوضوء بهذا مخالفًا للأصول الشرعية المستقرة، مخالفًا للمنقول عن الصحابة، وكان قولا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، بل المعلوم من السنة مخالفته، بل هذا أضعف ممن جعل المنى نجسًا، فإن القول بنجاسة المنى ضعيف، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا بغسل ما يصيب بدنه أو ثيابه من المنى مع كثرة ما كان يصيب الناس من ذلك في حياته؛ وقد أمر الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من الدم مع أن ذلك قليل بالنسبة لإصابة المنى للرجال، ولو كان ذلك واجبًا لبينه، بل كان يغسل ويمسح تقذرًا، كما كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تارة تغسله وتارة تفركه من ثوبه صلى الله عليه وسلم ) .
وكان سعد بن أبي وقاص وابن عباس يقولان : أمطه عنك ولو بأذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وكانت عمرة تغسله من ثوبه . فإن كان في اعتقاده نجاسة المنى، فهذا نزاع بين الصحابة، والسنة تفصل بينهم . فإذا كانت نجاسة المنى ضعيفة في السنة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك لعموم البلوى به . لكن هذا أضعف لكون الصحابة لم يحك أحد منهم مجرد اللمس العارى عن الشهوة ناقضًا، وإنما تنازعوا في اللمس المعتاد للشهوة كالقبلة والغمز باليد ونحو ذلك .
وأيضًا، فإيجاب الوضوء من جنس اللمس كمس النساء ومس الذكر إن لم يعلل بكونه مظنة تحريك الشهوة، وإلا كان مخالفًا للأصول، فأما إذا عُلِّل بتحريك الشهوة، كان مناسبًا للأصول، وهنا للفقهاء طريقان :(1/191)
أحدهما : قول من يقول : إن ذلك مظنة خروج الناقض، فأقيمت المظنة مقام الحقيقة . وهذا قول ضعيف، فإن المظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية وكانت المظنة تفضى إليها غالبا، وكلاهما معدوم، فإن الخارج لو خرج لعلم به الرجل . وأيضًا، فإن مس الذكر لا يوجب خروج شيء في العادة أصلا؛ فإن المنى إنما يخرج بالاستمناء وذلك يوجب الغسل، والمذى يخرج عقيب تفكر ونظر ومس المرأة لا الذكر، فإذا كانوا لا يوجبون الوضوء بالنظر الذي هو أشد إفضاء إلى خروج المنى، فبمس الذكر أولى .
والقول الثاني : أن يقال : اللمس سبب تحريك الشهوة كما في مس المرأة، وتحريك الشهوة يُتوضأ منه كما يتوضأ من الغضب وأكل لحم الإبل، لما في ذلك من أثر الشيطان الذي يطفأ بالوضوء؛ ولهذا قال طائفة من أصحاب أبي حنيفة : إنما يتوضأ إذا انتشر انتشارًا شديدًا . وكذلك قال طائفة من أصحاب مالك : يتوضأ إذا انتشر، لكن هذا الوضوء من اللمس : هل هو واجب أو مستحب ؟ فيه نزاع بين الفقهاء ليس هذا موضع ذكره، فإن مسألة الذكر لها موضع آخر وإنما المقصود هنا مسألة مس النساء .
والأظهر ـ أيضًا ـ أن الوضوء من مس الذكر مستحب لا واجب، وهكذا صرح به الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وبهذا تجتمع الأحاديث والآثار بحمل الأمر به على الاستحباب، ليس فيه نسخ قوله : ( وهل هو إلا بضعة منك ؟ ) ، وحمل الأمر على الاستحباب أولى من النسخ .
وكذلك الوضوء مما مست النار مستحب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وبذلك يجمع بين أمره وبين تركه . فأما النسخ فلا يقوم عليه دليل، بل الدليل يدل على نقيضه . وكذلك خروج النجاسات من سائر البدن غير السبيلين كالوضوء من القيء، والرُّعَاف، والحجامة، والفِصاد، والجراح : مستحب، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أنهم توضؤوا من ذلك . وأما الواجب فليس عليه في الكتاب والسنة ما يوجب ذلك .(1/192)
وكذلك الوضوء من القهقة مستحب في أحد القولين في مذهب أحمد، والحديث المأثور في أمر الذين قهقهوا بالوضوء، وجهه أنهم أذنبوا بالضحك، ومستحب لكل من أذنب ذنبا يتوضأ ويصلي ركعتين كما جاء في السنن عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له ) . والله أعلم .
الفصل الأول
القول في طهارة الأرواث والأبوال من الدواب والطير التي لم تحرم وعلى ذلك عدة أدلة :
الدليل الأول : أن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر، وهذه الأعيان لم يبين لنا نجاستها فهي طاهرة . أما الركن الأول من الدليل، فقد ثبت بالبراهين الباهرة والحجج القاهرة . وأما الثاني فنقول : إن المنفي على ضربين : نفي نحصره ونحيط به، كعلمنا بأن السماء ليس فيها شمسان ولا قمران طالعان، وأنه ليس لنا إلا قبلة واحدة، وأن محمدًا لا نبي بعده، بل علمنا أنه لا إله إلا الله، وأن ما ليس بين اللوحين ليس بقرآن، وأنه لم يفرض إلا صوم شهر رمضان، وعلم الإنسان أنه ليس في دراهم قبل ولا تغير، وأنه لم يطعم، وأنه البارحة لم ينم، وغير ذلك مما يطول عده، فهذا كله نفي مستيقن يبين خطأ من يطلق قوله : لا تقبل الشهادة على النفي .
الثاني : ما لا يستيقن نفيه وعدمه . ثم منه ما يغلب على القلب ويقوى في الرأى، ومنه ما لا يكون كذلك . فإذا رأينا حكمًا منوطًا بنفي من الصنف الثاني، فالمطلوب أن نرى النفي ويغلب على قلوبنا .
والاستدلال بالاستصحاب وبعدم المخصص وعدم الموجب لحمل الكلام على مجازه هو من هذا القسم . فإذا بحثنا وسبرنا عما يدل على نجاسة هذه الأعيان والناس يتكلمون فيها منذ مئات من السنين فلم نجد فيها إلا أدلة معروفة . شهدنا شهادة جازمة في هذا المقام بحسب علمنا ألا دليل إلا ذلك .(1/193)
فنقول : الاستدلال بهذا الدليل إنما يتم بفسخ ما استدل به على النجاسة، ونقض ذلك . وقد احتج لذلك بمسلكين : أثرى ونظرى :
أما الأثري : فحديث ابن عباس المخرج في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال : ( إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير . أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ) وروى : ( لا يستنزه ـ ) والبول اسم جنس محلى باللام، فيوجب العموم . كالإنسان في قوله : {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [ العصر : 2، 3 ] ، فإن المرتضى أن أسماء الأجناس تقتضي من العموم ما تقتضيه أسماء الجموع، لست أقول : الجنس الذي يفصل بين واحده وكثيره الهاء ـ كالتمر، والبر، والشجر ـ فإن حكم تلك حكم الجموع بلا ريب . وإنما أقول : اسم الجنس المفرد الدال على الشيء، وعلى ما أشبهه ـ كإنسان ورجل، وفرس، وثوب، وشبه ذلك .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بالعذاب من جنس البول، وجب الاحتراز والتنزه من جنس البول، فيجمع ذلك أبوال جميع الدواب، والحيوان الناطق، والبهيم، ما يؤكل وما لا يؤكل، فيدخل بول الأنعام في هذا العموم، وهو المقصود .
وهذا قد اعتمد عليه بعض من يدعى الاستدلال بالسمع، وبعض الرأى، وارتضاه بعض من يتكايس، وجعله مفزعًا وموئلاً .
المسلك الثاني النظري : وهو من ثلاثة أوجه :
أحدها : القياس على البول المحرم فنقول : بول، وروث، فكان نجسًا كسائر الأبوال، فيحتاج هذا القياس أن يبين أن مناط الحكم في الأصل هو أنه بول وروث، وقد دل على ذلك تنبيهات النصوص مثل قوله : ( اتقوا البول ) وقوله : ( كان بنو إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم البول قرضه بالمقراض ) .
والمناسبة ـ أيضًا ـ : فإن البول والروث مستخبث مستقذر، تعافه النفوس، على حد يوجب المباينة، وهذا يناسب التحريم، حملا للناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأحوال، وقد شهد له بالاعتبار تنجس أرواث الخبائث .(1/194)
الثاني : أن نقول : إذا فحصنا وبحثنا عن الحد الفاصل بين النجاسات والطهارات، وجدنا ما استحال في أبدان الحيوان عن أغذيتها، فما صار جزءًا فهو طيب الغذاء، وما فضل فهو خبيثه؛ ولهذا يسمى رجيعًا . كأنه أخذ ثم رجع أى رد . فما كان من الخبائث يخرج من الجانب الأسفل : كالغائط والبول والمني والوذي والودي، فهو نجس . وما خرج من الجانب الأعلى : كالدمع والريق والبصاق والمخاط ونخامة الرأس، فهو طاهر . وما تردد كبلغم المعدة ففيه تردد .
وهذا الفصل بين ما خرج من أعلى البدن، وأسفله، قد جاء عن سعيد بن المسيب ونحوه، وهو كلام حسن في هذا المقام الضيق . الذي لم يفقه كل الفقه، حتى زعم زاعمون أنه تعبد محض وابتلاء، وتمييز بين من يطيع وبين من يعصى .
وعندنا أن هذا الكلام لا حقيقة له بمفرده، حتى يضم إليه أشياء أخر، فَرَّق من فَرَّق بين ما استحال في معدة الحيوان كالروث والقىء وما استحال من معدته كاللبن .
وإذا ثبت ذلك، فهذه الأبوال والأرواث مما يستحيل في بدن الحيوان، وينصع طيبه، ويخرج خبيثه من جهة دبره وأسفله، ويكون نجسا . فإن فرق بطيب لحم المأكول، وخبث لحم المحرم، فيقال : طيب الحيوان وشرفه وكرمه لا يوجب طهارة روثه، فإن الإنسان إنما حرم لحمه كرامة له وشرفا، ومع ذلك فبوله أخبث الأبوال .
ألا ترى أنكم تقولون : إن مفارقة الحياة لا تنجسه، وأن ما أبين منه ـ وهو حى فهو طاهر ـ أيضًا كما جاء في الأثر ـ وإن لم يؤكل لحمه ـ فلو كان إكرام الحيوان موجبًا لطهارة روثه، لكان الإنسان في ذلك القدح المعلى . وهذا سر المسألة ولبابها .(1/195)
الوجه الثالث : أنه في الدرجة السفلى من الاستخباث، والطبقة النازلة من الاستقذار . كما شهد به أنفس الناس، وتجده طبائعهم وأخلاقهم، حتى لا نكاد نجد أحدًا ينزله منزلة در الحيوان ونسله، وليس لنا إلا طاهر، أو نجس . وإذا فارق الطهارات، دخل في النجاسات، والغالب عليه أحكام النجاسات ـ من مباعدته ومجانبته ـ فلا يكون طاهرًا؛ لأن العين إذا تجاذبتها الأصول، لحقت بأكثرها شبهًا، وهو متردد بين اللبن وبين غيره من البول، وهو بهذا أشبه .
ويقوى هذا أنه قال تعالى : {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [ النحل : 66 ] ، قد ثبت أن الدم نجس، فكذلك الفرث؛ لتظهر القدرة والرحمة في إخراج طيب من بين خبيثين . ويبين هذا جميعه أنه يوافق غيره من البول في خلقه ولونه وريحه وطعمه، فكيف يفرق بينهما مع هذه الجوامع التي تكاد تجعل حقيقة أحدهما حقيقة الآخر ؟ !
فالوجه الأول : قياس التمثيل وتعليق الحكم بالمشترك المدلول عليه .
والثاني : قياس التعليل بتنقيح مناط الحكم وضبط أصل كلي .
والثالث : التفريق بينه وبين جنس الطاهرات فلا يجوز إدخاله فيها، فهذه أنواع القياس : أصل ووصل وفصل .
فالوجه الأول : هو الأصل، والجمع بينه وبين غيره من الأخباث .
والثاني : هو الأصل والقاعدة، والضابط الذي يدخل فيه .
والثالث : الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات، وهو قياس العكس فالجواب عن هذه الحجج، والله المستعان .
أما المسلك الأول : فضعيف جدًا لوجهين :(1/196)
أحدهما : أن اللام في البول للتعريف، فتفيد ما كان معروفًا عند المخاطبين، فإن كان المعروف واحدًا معهودًا فهو المراد . وما لم يكن ثم عهد بواحد، أفادت الجنس؛ إما جميعه على المرتضى، أو مطلقه على رأي بعض الناس، وربما كانت كذلك . وقد نص أهل المعرفة باللسان والنظر في دلالات الخطاب أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود، فأما إذا كان ثَمَّ شيء معهود مثل قوله تعالى : {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [ المزمل : 15، 16 ] ، صار معهودًا بتقدم ذكره، وقوله : {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} [ النور : 63 ] ، هو معين؛ لأنه معهود بتقدم معرفته وعلمه، فإنه لا يكون لتعريف جنس ذلك الاسم حتى ينظر فيه، هل يفيد تعريف عموم الجنس، أو مطلق الجنس فافهم هذا، فإنه من محاسن المسالك .
فإن الحقائق ثلاثة : عامة، وخاصة، ومطلقة .
فإذا قلت : الإنسان، قد تريد جميع الجنس، وقد تريد مطلق الجنس، وقد تريد شيئًا بعينه من الجنس .
فأما الجنس العام، فوجوده في القلوب والنفوس علمًا ومعرفة وتصورا .
وأما الخاص من الجنس : مثل زيد وعمرو، فوجوده هو حيث حل، وهو الذي يقال له وجود في الأعيان، وفي خارج الأذهان وقد يتصور هكذا في القلب خاصًا متميزا .
وأما الجنس المطلق مثل الإنسان المجرد عن عموم وخصوص، الذي يقال له نفس الحقيقة، ومطلق الجنس، فهذا كما لا يتقيد في نفسه، لا يتقيد بمحله، إلا أنه لا يدرك إلا بالقلوب، فتجعل محلا له بهذا الاعتبار، وربما جعل موجودا في الأعيان باعتبار أن في كل إنسان حظًا من مطلق الإنسانية فالموجود في العين المعينة من النوع حظها وقسطها .
فإذا تبين هذا، فقوله : فإنه كان لا يستنزه من البول، بيان للبول المعهود، وهو الذي كان يصيبه، وهو بول نفسه . يدل على هذا ـ أيضًا ـ سبعة أوجه :(1/197)
أحدها : ما روى، ( فإنه كان لا يستبرئ من البول ) والاستبراء لا يكون إلا من بول نفسه؛ لأنه طلب براءة الذكر، كاستبراء الرحم من الولد .
الثاني : أن اللام تعاقب الإضافة، فقوله : ( من البول ) كقوله : من بوله، وهذا مثل قوله : {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} [ ص : 50 ] ، أي أبوابها .
الثالث : أنه قد روى هذا الحديث من وجوه صحيحة : ( فكان لا يستتر من بوله ) وهذا يفسر تلك الرواية .
ثم هذا الاختلاف في اللفظ متأخر : عن منصور، روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس . ومعلوم أن المحدث لا يجمع بين هذين اللفظين، والأصل والظاهر عدم تكرر قول النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أنهم رووه بالمعنى، ولم يبن أى اللفظين هو الأصل .
ثم إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال اللفظين، مع أن معنى أحدهما يجوز أن يكون موافقًا لمعنى الآخر، ويجوز أن يكون مخالفًا، فالظاهر الموافقة . يبين هذا أن الحديث في حكاية حال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، ومعلوم أنها قضية واحدة .
الرابع : أنه إخبار عن شخص بعينه أن البول كان يصيبه، ولا يستتر منه . ومعلوم أن الذي جرت العادة به بول نفسه .
الخامس : أن الحسن قال : البول كله نجس، وقال ـ أيضًا ـ : لا بأس بأبوال الغنم، فعلم أن البول المطلق عنده هو بول الإنسان .
السادس : أن هذا هو المفهوم للسامع عند تجرد قلبه عن الوسواس والتمريح، فإنه لا يفهم من قوله : فإنه كان لا يستتر من البول إلا بول نفسه . ولو قيل : إنه لم يخطر لأكثر الناس على بالهم جميع الأبوال : من بول بعير، وشاة وثور، لكان صدقًا .(1/198)
السابع : أنه يكفي بأن يقال : إذا احتمل أن يريد بول نفسه؛ لأنه المعهود، وأن يريد جميع جنس البول، لم يجز حمله على أحدهما إلا بدليل، فيقف الاستدلال . وهذا ـ لعمرى ـ تنزل، وإلا فالذي قدمنا أصل مستقر، من أنه يجب حمله على البول المعهود، وهو نوع من أنواع البول، وهو بول نفسه الذي يصيبه غالبًا، ويترشرش على أفخاذه وسوقه، وربما استهان بإنقائه، ولم يحكم الاستنجاء منه . فأما بول غيره من الأدميين، فإن حكمه ـ وإن ساوى حكم بول نفسه ـ فليس ذلك من نفس هذه الكلمة، بل لاستوائهما في الحقيقة، والاستواء في الحقيقة يوجب الاستواء في الحكم . ألا ترى أن أحدا لا يكاد يصيبه بول غيره، ولو أصابه لساءه ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن أمر موجود غالب في هذا الحديث، وهو قوله : ( اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه ) فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحدًا من الناس، وهذا بين لا خفاء به .
الوجه الثاني : أنه لو كان عامًا في جميع الأبوال، فسوف نذكر من الأدلة الخاصة على طهارة هذا النوع ما يوجب اختصاصه من هذا الاسم العام . ومعلوم من الأصول المستقرة إذا تعارض الخاص والعام فالعمل بالخاص أولى؛ لأن ترك العمل به إبطال له وإهدار، والعمل به ترك لبعض معانى العام، وليس استعمال العام وإرادة الخاص ببدع في الكلام، بل هو غالب كثير .
ولو سلمنا التعارض على التساوي من هذا الوجه، فإن في أدلتنا من الوجوه الموجبة للتقديم والترجيح وجوها أخرى من الكثرة والعمل، وغير ذلك مما سنبينه ـ إن شاء الله تعالى . ومن عجيب ما اعتمد عليه بعضهم، قوله صلى الله عليه وسلم : ( أكثر عذاب القبر من البول ) . والقول فيه كالقول فيما تقدم ـ مع أنا نعلم إصابة الإنسان بول غيره قليل نادر، وإنما الكثير إصابته بول نفسه . ولو كان أراد أن يدرج بوله في الجنس الذي يكثر وقوع العذاب بنوع منه، لكان بمنزلة قوله أكثر عذاب القبر من النجاسات .(1/199)
واعتمد ـ أيضًا ـ على قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يصلي أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان ) يعنى البول والنجو . وزعم أن هذا يفيد تسمية كل بول ونجو أخبث، والأخبث حرام نجس، وهذا في غاية السقوط؛ فإن اللفظ ليس فيه شمول لغير ما يدافع أصلا . وقوله : إن الاسم يشمل الجنس كله . فيقال له : وما الجنس العام ؟ أكل بول ونجو ؟ أم بول الإنسان ونجوه ؟ وقد علم أن الذي يدافع كل شخص من جنس الذي يدافع غيره، فأما ما لا يدافع أصلا، فلا مدخل له في الحديث، فهذه عمدة المخالف .
وأما المسلك النظري : فالجواب عنه من طريقين : مجمل، ومفصل .
أما المفصل فالجواب عن الوجه الأول من وجهين :
أحدهما : لا نسلم أن العلة في الأصل أنه بول وروث، وما ذكروه من تنبيه النصوص، فقد سلف الجواب بأن المراد بها بول الإنسان . وما ذكروه من المناسبة فنقول : التعليل : إما أن يكون بجنس استخباث النفس واستقذارها، أو بقدر محدود من الاستخباث والاستقذار .
فإن كان الأول، وجب تنجيس كل مستخبث مستقذر، فيجب نجاسة المخاط والبصاق والنخامة، بل نجاسة المني الذي جاء الأثر بإماطته من الثياب، بل ربما نفرت النفوس عن بعض هذه الأشياء أشد من نفورها عن أرواث المأكول من البهائم، مثل مخطة المجذوم إذا اختلطت بالطعام، ونخامة الشيخ الكبير إذا وضعت في الشراب، وربما كان ذلك مدعاة لبعض الأنفس إلى أن يذرعه القيء .
وإن كان التعليل بقدر موقت من الاستقذار، فهذا قد يكون حقًا لكن لابد من بيان الحد الفاصل بين القدر من الاستخباث الموجب للتنجيس، وبين ما لا يوجب، ولم يبين ذلك، ولعل هذه الأعيان مما ينقض بيان استقذارها الحد المعتبر .(1/200)
ثم إن التقديرات في الأسباب والأحكام إنما تعلم من جهة استقذارها عن الشرع في الأمر الغالب، فنقول : متى حكم بنجاسة نوع علمنا أنه مما غلظ استخباثه، ومتى لم يحكم بنجاسة نوع، علمنا أنه لم يغلظ استخباثه فنعود مستدلين بالحكم على المعتبر من العلة، فمتى استربنا في الحكم فنحن في العلة أشد استرابة، فبطل هذا . وأما الشاهد بالاعتبار، فكما أنه شهد لجنس الاستخباث، شهد للاستخباث الشديد، والاستقذار الغليظ .
وثانيهما : أن نقول : لم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل أنه بول ما يؤكل لحمه ؟ وهذه علة مطردة بالإجماع منا ومن المخالفين لنا في هذه المسألة والانعكاس ـ إن لم يكن واجبًا ـ فقد حصل الغرض . وإن كان شرطًا في العلل، فنقول فيه ما قالوا في اطراد العلة وأولى، حيث خولفوا فيه وعدم الانعكاس أيسر من عدم الاطراد .
وإذا افترق الصنفان في اللحم والعظم واللبن والشعر، فلم لا يجوز افتراقهما في الروث الروث والبول، وهذه المناسبة أبين ؟ فإن كل واحد من هذه الأجزاء هو بعض من أبعاض
وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولا ينفع ذا الجِدِّ منك الجِدُّ ) وهل هو بالخفض أو بالضم ؟ أفتونا مأجورين .
/فأجاب :
الحمد لله، أما الأولي : فبالخفض . وأما الثانية : فبالضم . والمعني : أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده : أي لا ينجيه ويخلصه منك جده، وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح . و [ الجد ] هو الغني، وهو العظمة، وهو المال . بيَّن صلى الله عليه وسلم : أنه من كان له في الدنيا رئاسة ومال لم ينجه ذلك، ولم يخلصه من الله وإنما ينجيه من عذابه إيمانه وتقواه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين :
أحدهما : توحيد الربوبية، وهو ألا معطي لما منع الله، ولا مانع لما أعطه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو .(1/201)
والثاني : توحيد الإلهية، وهو بيان ما ينفع، وما لا ينفع، وأنه ليس كل من أُعْطِي مالًا أو دنيا أو رئاسة، كان ذلك نافعًا له عند الله منجيًا له من عذابه، فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب . قال تعالي : { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ . كَلَّا } [ الفجر : 15 - 17 ] ، يقول : ما كل من وسعت عليه أكرمته، ولا كل من قدرت عليه أكون قد أهنته، بل هذا ابتلاء ليشكر العبد على السراء، ويصبر على الضراء، فمن رزق الشكر/والصبر، كان كل قضاء يقضيه الله خيرًا له، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء، شكر فكان خيرًا له . وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له ) .
وتوحيد الإلهية : أن يعبد الله، ولا يشرك به شيئًا، فيطيعه، ويطيع رسله، ويفعل ما يحبه ويرضاه .
وأما توحيد الربوبية : فيدخل ما قدره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه وأرضاه، والعبد مأمور بأن يعبد الله، ويفعل ما أمر به، وهو توحيد الإلهية ويستعين الله على ذلك، وهو توحيد له، فيقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . والله أعلم .
وسئل شَيخ الإسْلام ـ رحمه اللّه ـ عن مسائل يكثر وقوعها، ويحصل الابتلاء بها، والضيق والحرج على رأي إمام بعينه . منها : [ مسألة الجماعة للصلاة ] هل هي واجبة أم سنة ؟ وإذا قلنا : واجبة، هل تصح الصلاة بدونها مع القدرة عليها ؟
فأجاب :
وأما الجماعة فقد قيل : إنها سنة . وقيل : إنها واجبة على الكفاية ـ وقيل : إنها واجبة على الأعيان . وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، فإن اللّه أمر بها في حال الخوف، ففي حال الأمن أولي، وآكد .(1/202)
وأيضاً، فقد قال تعالى { وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ البقرة : 43 ] ، وهذا أمر بها .
وأيضاً، فقد ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرخص له أن يصلي في بيته، فقال : ( هل تسمع النداء ؟ ) قال : نعم . قال : ( فأجب ) . وفي رواية : ( ما أجد لك رخصة ) . وابن أم مكتوم كان رجلا صالحاً، وفيه نزل قوله تعالى : / { عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى } [ عبس : 1،2 ] ، وكان من المهاجرين، ولم يكن من المهاجرين من يتخلف عنها إلا منافق، فعلم أنه لا رخصة لمؤمن في تركها .
وأيضاً، فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال : ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ) . وفي رواية : ( لولا ما في البيوت من النساء والذرية ) . فبين أنه إنما يمنعه من تحريق المتخلفين عن الجماعة من في البيوت من النساء والأطفال، فإن تعذيب أولئك لا يجوز؛ لأنه لا جماعة عليهم .
ومن قال : إن هذا كان في الجمعة، أو كان لأجل نفاقهم، فقوله ضعيف . فإن المنافقين لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقتلهم لأجل النفاق، بل لا يعاقبهم إلا بذنب ظاهر . فلولا أن التخلف عن الجماعة ذنب يستحق صاحبه العقاب، لما عاقبهم . والحديث قد بين فيه التخلف عن صلاة العشاء والفجر . وقد تقدم حديث ابن أم مكتوم، وأنه لم يرخص له في التخلف عن الجماعة .
وأيضاً، فإن الجماعة يترك لها أكثر واجبات الصلاة في صلاة الخوف وغيرها، فلولا وجوبها لم يؤمر بترك بعض الواجبات لها؛ لأنه لا يؤمر بترك الواجبات لما ليس بواجب .
فصل
وإذا ترك الجماعة من غير عذر، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره :
أحدهما : تصح صلاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة ) .(1/203)
والثاني : لا تصح، لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له ) . ولقوله : ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) ، وقد قواه عبد الحق الإشبيلي .
وأيضًا، فإذا كانت واجبة، فمن ترك واجبًا في الصلاة، لم تصح صلاته .
وحديث التفضيل محمول على حال العذر . كما في قوله : ( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة / القاعد ) . وهذا عام في الفرض والنفل .
والإنسان ليس له أن يصلي الفرض قاعدًا أو نائمًا، إلا في حال العذر، وليس له أن يتطوع نائمًا عند جماهير السلف، والخلف، إلا وجهًا في مذهب الشافعي وأحمد .
ومعلوم أن التطوع بالصلاة مضطجعًا بدعة، لم يفعلها أحد من السلف، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ) ، يدل على أنه يكتب له لأجل نيته، وإن كان لا يعمل عادته قبل المرض والسفر فهذا يقتضي أن من ترك الجماعة لمرض أو سفر وكان يعتادها، كتب له أجر الجماعة . وإن لم يكن يعتادها، لم يكن يكتب له . وإن كان في الحالين إن ما له بنفس الفعل صلاة منفرد . وكذلك المريض إذا صلى قاعدًا أو مضطجعًا . وعلى هذا القول، فإذا صلى الرجل وحده وأمكنه أن يصلي بعد ذلك في جماعة فعل ذلك، وإن لم يمكنه فعل الجماعة، استغفر الله، كمن فاتته الجمعة وصلي ظهرًا، وإن قصد الرجل الجماعة ووجدهم قد صلوا كان له أجر من صلى في الجماعة، كما وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وإذا أدرك مع الإمام ركعة، فقد أدرك الجماعة، وإن أدرك أقل / من ركعة، فله بنيته أجر الجماعة، ولكن هل يكون مدركًا للجماعة أو يكون بمنزلة من صلى وحده ؟ فيه قولان للعلماء في مذهب الشافعي وأحمد .
أحدهما : أنه يكون كمن صلى في جماعة، كقول أبي حنيفة .(1/204)
والثاني : يكون كمن صلى منفردًا، كقول مالك، وهذا أصح، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة ) ، ولهذا قال الشافعي وأحمد ومالك وجمهور العلماء : إنه لا يكون مدركًا للجمعة إلا بإدراك ركعة من الصلاة، ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون : إنه يكون مدركًا لها إذا أدركهم في التشهد .
ومن فوائد النزاع في ذلك : أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة إذا أدرك ركعة، فإن أدرك أقل من ركعة فعلى القولين المتقدمين .
والصحيح أنه لا يكون مدركًا للجمعة ولا للجماعة إلا بإدراك ركعة، وما دون ذلك لا يعتد له به، وإنما يفعله متابعة للإمام، ولو بعد السلام، كالمنفرد باتفاق الأئمة .
فصل
ثم نقول : بل نحن نعلم ونجزم بأنه ليس فيه رأس الحسين، ولا كان ذلك المشهد العسقلاني مشهدًا للحسين، من وجوه متعددة :
منها : أنه لو كان رأس الحسين هناك لم يتأخر كشفه وإظهاره إلى ما بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة سنة . ودولة بني أمية انقرضت قبل ظهور ذلك بأكثر من ثلاثمائة وبضع وخمسين سنة . وقد جاءت خلافة بني العباس . وظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق ما كان كثير منها كذبا . وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هناك مشهدًا . وكان ينتابه أمراء عظماء، حتى أنكر ذلك عليهم الأئمة . وحتى إن المتوكل لما تقدموا له بأشياء يقال : إنه بالغ في إنكار ذلك وزاد علي الواجب .(1/205)
دع خلافة بني العباس في أوائلها، وفي حال استقامتها، فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون المشاهد، سواء منها ما كان صدقا أو كذبًا، كما /حدث فيما بعد؛ لأن الإسلام كان حينئذ ما يزال في قوته وعنفوانه . ولم يكن علي عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد، لا علي قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلا، بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك . وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبسون علي المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب . ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر .
ويقال : إنه حدث قريبًا من ذلك المكوس في الإسلام .
وقريبًا من ذلك ظهر بنو بويه . وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية . وفي دولتهم قوي بنو عبيد القداح بأرض مصر، وقي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي ـ رضي الله عنه ـ بناحية النجف ، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول : إن قبر علي هناك ، وإنما دفن علي ـ رضي الله عنه ـ بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أن بعضهم حكي عن الرشيد : أنه جاء إلى بقعة هناك، وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا : إنه علي، وأنه اعتذر إليه مما فعل بولده فقالوا : هذا قبر علي، وقد قال قوم : / إنه قبر المغيرة بن شعبة، والكلام عليه مبسوط في غير هذا الموضع .(1/206)
فإذا كان بنو بويه وبنو عبيد ـ مع ما كان في الطائفتين من الغلو في التشيع، حتى إنهم كانوا يظهرون في دولتهم ببغداد يوم عاشوراء من شعار الرافضة ما لم يظهر مثله،مثل تعليق المسوح علي الأبواب، وإخراج النوائح بالأسواق، وكان الأمر يفضي في كثير من الأوقات إلى قتال تعجز الملوك عن دفعه . وبسبب ذلك خرج الخرقي ـ صاحب المختصر في الفقه ـ من بغداد، لما ظهر بها سب السلف . وبلغ من أمر القرامطة الذين كانوا بالمشرق في تلك الأوقات أنهم أخذوا الحجر الأسود، وبقي معهم مدة، وأنهم قتلوا الحجاج وألقوهم ببئر زمزم .
فإذا كان مع كل هذا لم يظهر حتى مشهد للحسين بعسقلان، مع العلم بأنه لو كان رأسه بعسقلان لكان المتقدمون من هؤلاء أعلم بذلك من المتأخرين، فإذا كان مع توفر الهمم والدواعي والتمكن والقدرة لم يظهر ذلك، علم أنه باطل مكذوب، مثل من يدعي أنه شريف علوي . وقد علم أنه لم يدع هذا أحد من أجداده، مع حرصهم علي ذلك لو كان صحيحًا، فإنه بهذا يعلم كذب هذا المدعي، وبمثل ذلك علمنا كذب من يدعي النص علي خلافة علي، أو غير ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي علي نقله ولم ينقل .
/الوجه الثاني : أن الذين جمعوا أخبار الحسين ومقتله ـ مثل أبي بكر بن أبي الدنيا، وأبي القاسم البغوي وغيرهما ـ لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل إلى عسقلان ولا إلى القاهرة .
وقد ذكر نحو ذلك أبو الخطاب بن دَحْية في كتابه الملقب بـ ( العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور ) ، ذكر أن الذين صنفوا في مقتل الحسين أجمعوا أن الرأس لم يغترب، وذكر هذا بعد أن ذكر أن المشهد الذي بالقاهرة كذب مختلق، وأنه لا أصل له، وبسط القول في ذلك، كما ذكر في يوم عاشوراء ما يتعلق بذلك .
الوجه الثالث : أن الذي ذكره من يعتمد عليه من العلماء والمؤرخين : أن الرأس حمل إلى المدينة، ودفن عند أخيه الحسن .(1/207)
ومن المعلوم : أن الزبير بن بكار، صاحب كتاب [ الأنساب ] ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب الطبقات، ونحوهما من المعروفين بالعلم والثقة والاطلاع، أعلم بهذا الباب، وأصدق فيما ينقلونه من الجاهلين والكذابين، ومن بعض أهل التواريخ الذين لا يوثق بعلمهم ولا صدقهم، بل قد يكون الرجل صادقًا، ولكن لا خبرة له بالأسانيد حتى يميز بين المقبول والمردود، أو يكون سيئ الحفظ أو متهمًا بالكذب أو بالتزيد في الرواية، كحال كثير من الإخباريين والمؤرخين، / لا سيما إذا كان مثل أبي مِخْنَف لوط بن يحيي وأمثاله .
ومعلوم أن الواقدي نفسه خير عند الناس من مثل هشام بن الكلبي، وأبيه محمد بن السائب وأمثالهما، وقد علم كلام الناس في الواقدي، فإن ما يذكره هو وأمثاله إنما يعتضد به، ويستأنس به، وأما الاعتماد عليه بمجرده في العلم فهذا لا يصلح .
فإذا كان المعتمد عليهم يذكرون أن رأس الحسين دفن بالمدينة، وقد ذكر غيرهم أنه إما أن يكون قد عاد إلى البدن، فدفن معه بكربلاء، وإما أنه دفن بحلب، أو بدمشق أو نحو ذلك من الأقوال التي لا أصل لها، ولم يذكر أحد ممن يعتمد عليه أنه بعسقلان ـ علم أن ذلك باطل، إذ يمتنع أن يكون أهل العلم والصدق علي الباطل، وأهل الجهل والكذب علي الحق في الأمور النقلية، التي إنما تؤخذ عن أهل العلم والصدق،لا عن أهل الجهل والكذب .(1/208)
الوجه الرابع : أن الذي ثبت في صحيح البخاري : أن الرأس حمل إلى قدام عبيد الله ابن زياد، وجعل ينكت بالقضيب علي ثناياه بحضرة أنس بن مالك . وفي المسند : أن ذلك كان بحضرة أبي برزة الأسلمي . ولكن بعض الناس روي بإسناد منقطع : أن هذا النكت كان بحضرة يزيد بن معاوية . وهذا باطل . فإن أبا برزة، وأنس / بن مالك كانا بالعراق، لم يكونا بالشام، ويزيد بن معاوية كان بالشام، لم يكن بالعراق حين مقتل الحسين، فمن نقل أنه نكت بالقضيب ثناياه بحضرة أنس وأبي برزة قدام يزيد فهو كاذب قطعًا،كذبًا معلومًا بالنقل المتواتر .
ومعلوم بالنقل المتواتر : أن عبيد الله بن زياد كان هو أمير العراق حين مقتل الحسين، وقد ثبت بالنقل الصحيح : أنه هو الذي أرسل عمر بن سعد بن أبي وقاص مقدمًا علي الطائفة التي قاتلت الحسين، وكان عمر قد امتنع من ذلك، فأرغبه ابن زياد وأرهبه حتى فعل ما فعل .
وقد ذكر المصنفون من أهل العلم بالأسانيد المقبولة : أنه لما كتب أهل العراق إلى الحسين، وهو بالحجاز : أن يقدم عليهم، وقالوا : إنه قد أميتت السنة، وأحييت البدعة . وأنه، وأنه، حتى يقال : إنهم أرسلوا إليه كتبًا ملء صندوق وأكثر، وأنه أشار عليه الأحباء الألباء فلم يقبل مشورتهم فإنه كما قيل :
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ** وما كل مؤت نصحه بلبيب
فقد أشار عليه مثل عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهما بألا يذهب إليهم، وذلك كان قد رآه أخوه الحسن ـ واتفقت كلمتهم علي أن هذا لا مصلحة فيه، وأن هؤلاء العراقيين يكذبون /عليه ويخذلونه؛ إذ هم أسرع الناس إلى فتنة، وأعجزهم فيها عن ثبات، وأن أباه كان أفضل منه وأطوع في الناس، وكان جمهور الناس معه . ومع هذا فكان فيهم من الخلاف عليه والخذلان له ما الله به عليم . حتى صار يطلب السلم، بعد أن كان يدعو إلى الحرب . وما مات إلا وقد كرههم كراهة الله بها عليم، ودعا عليهم وبرم بهم .(1/209)
فلما ذهب الحسين ـ رضي الله عنه ـ وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إليهم، واتبعه طائفة . ثم لما قدم عبيد الله بن زياد الكوفة، قاموا مع ابن زياد، وقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وغيرهما . فبلغ الحسين ذلك، فأراد الرجوع، فوافته سرية عمر بن سعد، وطلبوا منه أن يستأسر لهم فأبي، وطلب أن يردوه إلى يزيد ابن عمه، حتى يضع يده في يده، أو يرجع من حيث جاء، أو يلحق ببعض الثغور، فامتنعوا من إجابته إلى ذلك بغيا وظلمًا وعدوانا . وكان من أشدهم تحريضًا عليه شمر بن ذي الجَوْشَن . ولحق بالحسين طائفة منهم . ووقع القتل حتى أكرم الله الحسين ومن أكرمه من أهل بيته بالشهادة ـ رضي الله عنهم وأرضاهم . وأهان بالبغي والظلم والعدوان من أهانه بما انتهكه من حرمتهم، واستحله من دمائهم، { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } [ الحج : 18 ] . وكان ذلك من نعمة الله علي الحسين، وكرامته له لينال منازل الشهداء، حيث لم يجعل له في أول الإسلام من الابتلاء /والامتحان ما جعل لسائر أهل بيته، كجده صلى الله عليه وسلم وأبيه وعمه، وعم أبيه ـ رضي الله عنهم . فإن بني هاشم أفضل قريش، وقريشًا أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم . كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله في الحديث الصحيح : ( إن الله اصطفي من ولد إبراهيم بني إسماعيل، واصطفي كنانة من بني إسماعيل، واصطفي قريشًا من كنانة، واصطفي بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم ) .
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال يوم غدِير خُمٍّ : ( أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ) .
وفي السنن أنه شكا إليه العباس : أن بعض قريش يحقرونهم، فقال : ( والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) .
وإذا كانوا أفضل الخلق، فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال .(1/210)
وكان أفضلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا عدل له من البشر، ففاضلهم أفضل من كل فاضل من سائر قبائل قريش والعرب، بل ومن بني إسرائيل وغيرهم .
ثم علي وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث هم من السابقين الأولين من المهاجرين . فهم أفضل من الطبقة الثانية من سائر القبائل . ولهذا / لما كان يوم بدر أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمبارزة لما برز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . فقال النبي : ( قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قم يا علي ) . فبرز إلى الثلاثة ثلاثة من بني هاشم .
وقد ثبت في الصحيح أن فيهم نزل قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } الآية [ الحج : 19 ] . وإن كان في الآية عموم .
ولما كان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد ولدا بعد الهجرة في عز الإسلام، ولم ينلهما من الأذي والبلاء ما نال سلفهما الطيب، فأكرمهما الله بما أكرمهما به من الابتلاء ليرفع درجاتهما وذلك من كرامتهما عليه لا من هوانهما عنده، كما أكرم حمزة وعليا وجعفرًا وعمر وعثمان وغيرهم بالشهادة وفي المسند وغيره : عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته، وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا، إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها ) .
فهذا الحديث رواه الحسين، وعنه بنته فاطمة التي شهدت مصرعه .
وقد علم الله أن مصيبته تذكر علي طول الزمان .(1/211)
فالمشروع، إذا ذكرت المصيبة وأمثالها أن يقال : { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعونَ } [ البقرة : 156 ] ( اللهم آجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيرًا منها ) . قال تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعونَ } ، قال الله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155 : 157 ] .
والكلام في أحوال الملوك علي سبيل التفصيل متعسر أو متعذر، لكن ينبغي أن نعلم من حيث الجملة : أنهم هم وغيرهم من الناس ممن له حسنات وسيئات يدخلون بها في نصوص الوعد أو نصوص الوعيد .
وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه الله، موافقا للسنة . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِية، ويقاتل ليقال، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) .
وكذلك تناول نصوص الوعيد للشخص مشروط بألا يكون متأولا ولا مجتهدًا مخطئًا . فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان .(1/212)
وكثير من تأويلات المتقدمين وما يعرض لهم فيها من الشبهات معروفة يحصل بها من الهوي والشهوات . فيأتون ما يأتونه بشبهة وشهوة . والسيئات التي يرتكبها أهل الذنوب تزول بالتوبة . وقد تزول بحسنات ماحية، ومصائب مكفرة، وقد تزول بصلاة المسلمين عليه، وبشفاعة / النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في أهل الكبائر، فلهذا كان أهل العلم يختارون فيمن عرف بالظلم ونحوه مع أنه مسلم له أعمال صالحة في الظاهر ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ أنهم لا يلعنون أحدًا منهم بعينه، بل يقولون كما قال الله تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَي الظَّالِمِينَ } [ هود : 18 ] فيلعنون من لعنه الله ورسوله عامًا، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها، وبائعها ومشتريها، وساقيها وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها ) ، ولا يلعنون المعين . كما ثبت في صحيح البخاري وغيره : أن رجلا كان يدعي حمارا، وكان يشرب الخمر . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلده . فأتي به مرة . فلعنه رجل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله ) .
وذلك لأن اللعنة من باب الوعيد، والوعيد العام لا يقطع به للشخص المعين لأحد الأسباب المذكورة؛ من توبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، وغير ذلك .
وطائفة من العلماء يلعنون المعين، كيزيد . وطائفة بإزاء هؤلاء يقولون : بل نحبه، لما فيه من الإيمان الذي أمرنا الله أن نوإلى عليه؛ إذ ليس كافرًا .
والمختار عند الأمة : أنا لا نلعن معينا مطلقًا، ولا نحب معينًا مطلقًا،/ فإن العبد قد يكون فيه سبب هذا وسبب هذا إذا اجتمع فيه من حب الأمرين .(1/213)
إذ كان من أصول أهل السنة التي فارقوا بها الخوارج : أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات، فيثاب علي حسناته، ويعاقب علي سيئاته . ويحمد علي حسناته ويذم علي سيئاته . وأنه من وجه مرضي محبوب، ومن وجه بغيض مسخوط؛ لهذا كان لأهل الأحداث هذا الحكم .
وأما أهل التأويل المحض الذين يسوغ تأويلهم، فأولئك مجتهدون مخطئون، خطؤهم مغفور لهم . وهم مثابون علي ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم واجتهادهم في طلب الحق واتباعه . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ) .
ولهذا كان الكلام في السابقين الأولين ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير ونحوهم، له هذا الحكم، بل ومن هو دون هؤلاء، كأبر أهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : / ( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ) .(1/214)
فنقول في هؤلاء ونحوهم فيما شجر بينهم : إما أن يكون عمل أحدهم سعيا مشكورًا، أو ذنبا مغفورًا، أو اجتهادًا قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه، فلهذا كان من أصول أهل العلم : أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم وديانتهم، بل يعلم أنهم عدول مرضيون، وأن هؤلاء ـ رضي الله عنهم ـ لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفتري، مثلما كان طائفة من شيعة عثمان يتهمون عليا بأنه أمر بقتل عثمان، أو أعان عليه . وكان بعض من يقاتله يظن ذلك به . وكان ذلك من شبههم التي قاتلوا عليا بها . وهي شبهة باطلة . وكان علي يحلف ـ وهو الصادق البار ـ : أني ما قتلت عثمان، ولا أعنت علي قتله . ويقول : اللهم شتت قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل . وكانوا يجعلون امتناعه من تسليم قتلة عثمان من شبههم في ذلك . ولم يكن ممكنا من أن يعمل كل ما يريده من إقامة الحدود، ونحو ذلك، لكون الناس مختلفين عليه، وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به . فإن التفرق والاختلاف يقوم فيه من أسباب الشر والفساد وتعطيل الأحكام ما يعلمه من يكون من أهل العلم العارفين بما جاء من النصوص في فضل الجماعة والإسلام .
/ويزيد بن معاوية : قد أتي أمورا منكرة . منها : وقعة الحرة . وقد جاء في الصحيح عن علي ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المدينة حرام ما بين عير إلى كذا . من أحدث فيها حدثا أو آوي محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ) ، وقال : ( من أراد أهل المدينة بسوء أماعه الله، كما ينماع الملح في الماء ) .
ولهذا قيل للإمام أحمد : أتكتب الحديث عن يزيد ؟ فقال : لا، ولا كرامة أو ليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل ؟ !
وقيل له ـ أي في ما يقولون ـ : أما تحب يزيد ؟ فقال : وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ؟ فقيل : فلماذا لا تلعنه ؟ فقال : ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا .(1/215)
ومذهب أهل السنة والجماعة : أنهم لا يكفرن أهل القبلة بمجرد الذنوب، ولا بمجرد التأويل، بل الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله .
وهذا الذي ذكرناه هو المتفق عليه بين الناس في مقتل الحسين ـ رضي الله عنه .
/وقد رويت زيادات، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها كذب موضوع .
والمصنفون من أهل الحديث في ذلك؛ كالبغوي، وابن أبي الدنيا، ونحوهما؛ كالمصنفين من أهل الحديث في سائر المنقولات، هم بذلك أعلم وأصدق بلا نزاع بين أهل العلم لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات، أو يرسلونه عمن يكون مرسله يقارب الصحة، بخلاف الأخباريين . فإن كثيرًا مما يسندونه عن كذاب أو مجهول . وأما ما يرسلونه فظلمات بعضها فوق بعض . وهؤلاء لعمري ممن ينقل عن غيره مسندًا أو مرسلا .
وأما أهل الأهواء ونحوهم، فيعتمدون علي نقل لا يعرف له قائل أصلا، لا ثقة ولا معتمد . وأهون شيء عندهم الكذب المختلق . وأعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة، بل إلى سماعات عن الجاهلين والكذابين، وروايات عن أهل الإفك المبين .
فقد تبين أن القصة التي يذكرون فيها حمل رأس الحسين إلى يزيد ونكته إياها بالقضيب كذبوا فيها، وإن كان الحمل إلى ابن زياد ـ وهو الثابت بالقصة ـ فلم ينقل بإسناد معروف أن الرأس حمل إلى قدام يزيد .
ولم أر في ذلك إلا إسنادًا منقطعًا، قد عارضه من الروايات ما هو / أثبت منه وأظهر . نقلوا فيها أن يزيد لما بلغه مقتل الحسين أظهر التألم من ذلك، وقال : لعن الله أهل العراق . لقد كنت أرضي من طاعتهم بدون هذا . وقال في ابن زياد : أما إنه لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله . وأنه ظهر في داره النوح لمقتل الحسين، وأنه لما قدم عليه أهله وتلاقي النساء تباكين،سوأنه خير ابنه عليا بين المقام عنده والسفر إلى المدينة، فاختار السفر إلى المدينة . فجهزه إلى المدينة جهازًا حسنا .(1/216)
فهذا ونحوه ما نقلوا بالأسانيد التي هي أصح وأثبت من ذلك الإسناد المنقطع المجهول، تبين أن يزيد لم يظهر الرضي بقتل الحسين، وأنه أظهر الألم لقتله، والله أعلم بسريرته .
وقد علم أنه لم يأمر بقتله ابتداء، لكنه مع ذلك ما انتقم من قاتليه، ولا عاقبهم علي ما فعلوا؛ إذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه الذي كان يخاف عليه من الحسين وأهل البيت ـ رضي الله عنهم أجمعين .
والمقصود هنا أن نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد . فكيف بنقله بعد زمن يزيد ؟ وإنما الثابت هو نقله من كربلاء إلى أمير العراق عبيد الله بن زياد بالكوفة . والذي ذكر العلماء : أنه دفن بالمدينة .
/وأما ما يرويه من لا عقل له يميز به ما يقول، ولا له إلمام بمعرفة المنقول : من أن أهل البيت سبوا، وأنهم حملوا علي البخاتي،وأن البخاتي نبت لها من ذلك الوقت سنامان، فهذا من الكذب الواضح الفاضح لمن يقوله . فإن البخاتي قد كانت من يوم خلقها الله قبل ذلك ذات سنامين، كما كان غيرها من أجناس الحيوان، والبخاتي لا تستر امرأة، ولا سبي أهل البيت أحد، ولا سبي منهم أحد، بل هذا كما يقولون : إن الحجاج قتلهم .
وقد علم أهل النقل كلهم أن الحجاج لم يقتل أحدًا من بني هاشم، كما عهد إليه خليفته عبد الملك، وأنه لما تزوج بنت عبد الله بن جعفر شق ذلك علي بني أمية وغيرهم من قريش، ورأوه ليس بكفء لها . ولم يزالوا به حتى فرقوا بينه وبينها، بل بنو مروان علي الإطلاق لم يقتلوا أحدًا من بني هاشم، لا آل علي، ولا آل العباس، إلا زيد بن علي المصلوب بكناسة الكوفة وابنه يحيي .
الوجه الرابع : أنه لو قدر أنه حمل إلى يزيد، فأي غرض كان لهم في دفنه بعسقلان، وكانت إذ ذاك ثغرًا يقيم به المرابطون ؟ فإن كان قصدهم تعفية خبره فمثل عسقلان تظهره لكثرة من ينتابها للرباط . وإن كان قصدهم بركة البقعة فكيف يقصد هذا من يقال : إنه عدو له، مستحل لدمه، ساعٍ في قتله ؟(1/217)
/ثم من المعلوم : أن دفنه قريبًا عند أمه وأخيه بالبقيع أفضل له .
الوجه الخامس : أن دفنه بالبقيع هو الذي تشهد له عادة القوم . فإنهم كانوا في الفتن، إذا قتلوا الرجل ـ لم يكن منهم ـ سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلمه إلى أمه .
وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينه وبينه من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه . فإن ابن الزبير ادعي الخلافة بعد مقتل الحسين، وبايعه أكثر الناس، وحاربه يزيد حتى مات وجيشه محاربون له بعد وقعة الحرة .
ثم لما تولي عبد الملك غلبه على العراق مع الشام، ثم بعث إليه الحجاج بن يوسف، فحاصره الحصار المعروف، حتى قتل، ثم صلبه، ثم سلمه إلى أمه .
وقد دفن بدن الحسين بمكان مصرعه بكربلاء، ولم ينبش، ولم يمثل به . فلم يكونوا يمتنعون من تسليم رأسه إلى أهله، كما سلموا بدن ابن الزبير إلى أهله، وإذا تسلم أهله رأسه، فلم يكونوا ليدعوا دفنه عندهم بالمدينة المنورة عند عمه وأمه وأخيه، وقريبًا من جده صلى الله عليه وسلم ويدفنونه بالشام، حيث لا أحد إذ ذاك ينصرهم على /خصومهم، بل كثير منهم كان يبغضه ويبغض أباه . هذا لا يفعله أحد .
والقبة التي على العباس بالبقيع، يقال : إن فيها مع العباس الحسن وعلي بن الحسين، وأبو جعفر محمد بن على، وجعفر بن محمد . ويقال : إن فاطمة تحت الحائط، أو قريبًا من ذلك، وأن رأس الحسين هناك أيضًا .
الوجه السادس : أنه لم يعرف قط أن أحدًا، لا من أهل السنة، ولا من الشيعة، كان ينتاب ناحية عسقلان لأجل رأس الحسين، ولا يزورونه ولا يأتونه . كما أن الناس لم يكونوا ينتابون الأماكن التي تضاف إلى الرأس في هذا الوقت، كموضع بحلب .(1/218)
فإذا كانت تلك البقاع لم يكن الناس ينتابونها ولا يقصدونها، وإنما كانوا ينتابون كربلاء؛ لأن البدن هناك، كان هذا دليلاً على أن الناس فيما مضي لم يكونوا يعرفون أن الرأس في شيء من هذه البقاع، ولكن الذي عرفوه واعتقدوه هو وجود البدن بكربلاء، حتى كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتى إن في مسائله، مسائل فيما يفعل عند قبره، ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير في زيارة المشاهد .
ولم يذكر أحد من العلماء أنهم كانوا يرون موضع الرأس في شيء من هذه البقاع غير المدينة .
/فعلم أن ذلك لو كان حقا لكان المتقدمون به أعلم . ولو اعتقدوا ذلك لعملوا ما جرت عادتهم بعمله، ولأظهروا ذلك وتكلموا به، كما تكلموا في نظائره .
فلما لم يظهر عن المتقدمين ـ بقول ولا فعل ـ ما يدل على أن الرأس في هذه البقاع علم أن ذلك باطل، واللّه أعلم .
الوجه السابع : أن يقال : مازال أهل العلم في كل وقت وزمان يذكرون في هذا المشهد القاهري المنسوب إلى الحسين : أنه كذب ومِينٌ ، كما يذكرون ذلك في أمثاله من المشاهد المكذوبة؛ مثل المشاهد المنسوبة بدمشق إلى أُبي بن كعب، وأويس القرني، أو هود، أو نوح، أو غيرهما، والمشهد المنسوب بحران إلى جابر بن عبد اللّه، وبالجزيرة إلى عبد الرحمن بن عوف وعبد اللّه بن عمر ونحوهما، وبالعراق إلى علي ـ رضي اللّه عنه ـ ونحوه، وكذلك ما يضاف إلى الأنبياء غير قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل ـ عليه السلام .
فإنه لما كان كثير من المشاهد مكذوبا مختلقاً كان أهل العلم في كل وقت يعلمون أن ذلك كذب مختلق، والكتب والمصنفات المعروفة عن أهل العلم بذلك مملوءة من مثل هذا . يعرف ذلك من تتبعه وطلبه .
/ومازال الناس في مصنفاتهم ومخاطباتهم يعلمون أن هذا المشهد القاهري من المكذوبات المختلقات . ويذكرون ذلك في المصنفات، حتى من سكن هذا البلد من العلماء بذلك .(1/219)
فقد ذكر أبو الخطاب بن دحية في كتابه [ العلم المشهور ] في هذا المشهد فصلا مع ما ذكره في مقتل الحسين من أخبار ثابتة وغير ثابتة، ومع هذا فقد ذكر أن المشهد كذب بالإجماع، وبين أنه نقل من عسقلان في آخر الدول العبيدية، وأنه وضع لأغراض فاسدة، وأنه بعد ذلك بقليل أزال اللّه تلك الدولة وعاقبها بنقيض قصدها .
ومازال ذلك مشهوراً بين أهل العلم حتى أهل عصرنا، من ساكني الديار المصرية، القاهرة وما حولها .
فقد حدثني طائفة من الثقات : عن الشيخ أبي عبد اللّه محمد بن على الغنوي، المعروف بابن دقيق العيد، وطائفة عن الشيخ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، وطائفة عن الشيخ أبي محمد بن القسطلاني، وطائفة عن الشيخ أبي عبد اللّه محمد القرطبي صاحب التفسير وشرح أسماء اللّه الحسني، وطائفة عن الشيخ عبد العزيز الديريني ـ كل من هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه، وحدثني عن بعضهم عدد كثير، كل يحدثني عمن حدثني من هؤلاء ـ : أنه كان ينكر أمر هذا المشهد، ويقول : / إنه كذب، وإنه ليس فيه الحسين ولا غيره . والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال : إن فيه نصرانيا، بل القرطبي والقسطلاني ذكرا بطلان أمر هذا المشهد في مصنفاتهما . وبينا فيها أنه كذب . كما ذكره أبو الخطاب بن دحية .
وابن دحية هو الذي بني له الكامل دار الحديث الكاملية . وعنه أخذ أبو عمرو بن الصلاح ونحوه كثيراً مما أخذوه من ضبط الأسماء واللغات . وليس الاعتماد في هذا على واحد بعينه، بل هو الإجماع من هؤلاء . ومعلوم أنه لم يكن بهذه البلاد من يعتمد عليه في مثل هذا الباب أعلم ولا أدق من هؤلاء ونحوهم .
فإذا كان كل هؤلاء متفقين على أن هذا كذب ومين، علم أن اللّه قد برأ منه الحسين .(1/220)
وحدثني من حدثني من الثقات : أن من هؤلاء من كان يوصي أصحابه بألا يظهروا ذلك عنه خوفا من شر العامة بهذه البلاد، لما فيهم من الظلم والفساد؛ إذ كانوا في الأصل دعاة للقرامطة الباطنيين . الذين استولوا عليها مائتي سنة . فزرعوا فيهم من أخلاق الزنادقة المنافقين، وأهل الجهل المبتدعين، وأهل الكذب الظالمين، ما لم يمكن أن ينقلع إلا بعد حين . فإنه قد فتحها ـ بإزالة ملك العبيديين ـ أهل الإيمان /والسنة في الدولة النورية والصلاحية، وسكنها من أهل الإسلام والسنة من سكنها، وظهرت بها كلمة الإيمان والسنة نوعا من الظهور، لكن كان النفاق والبدعة فيها كثيراً مستوراً، وفي كل وقت يظهر اللّه فيها من الإيمان والسنة ما لم يكن مذكوراً، ويطغي فيها من النفاق والجهل ما كان مشهوراً .
واللّه هو المسؤول أن يظهر بسائر البلاد ما يحبه ويرضاه، من الهدي والسداد . ويعظم على عباده الخير بظهور الإسلام والسنة، ويحقق ما وعد به في القرآن من علو كلمته وظهور أهل الإيمان .
وكثير من الناس قد اعتقد وتخلق بعقائد وبأخلاق هي في الأصل من أخلاق الكفار والمنافقين، وإن لم يكن بذلك من العارفين، كما أن كثيرا منهم يشارك النصاري في أعيادهم، ويعظم ما يعظمونه من الأمكنة والأزمنة والأعمال، وهو قد لا يقصد بذلك تعظيم الكفر، بل ولا يعرف أن ذلك من خصائصهم،فإذا عرف ذلك انتهي عنه وتاب منه .
وكذلك كثير من الناس تخلق بشيء من أخلاق أهل النفاق، وهو لا يعرف أنها من أخلاق المنافقين، وإذا عرف ذلك كان إلى اللّه من التائبين، واللّه يتوب علينا وعليه وعلى جميع المذنبين /من المؤمنين .
وهذا كله كلام في بطلان دعوي وجود رأس الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ في القاهرة أو عسقلان، وكذبه .(1/221)
ثم نقول : سواء كان صحيحاً أو كذبا، فإن بناء المساجد على القبور ليس من دين المسلمين، بل هو منهى عنه بالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، واتفاق أئمة الدين، بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء المسجد عليها، أو بقصد الصلاة عندها، بل أئمة الدين متفقون على النهى عن ذلك، وأنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد، لا نبي ولا غير نبي، وكل من قال : إن قصد الصلاة عند قبر أحد، أو عند مسجد بني على قبر، أو مشهد، أو غير ذلك أمر مشروع، بحيث يستحب ذلك، ويكون أفضل من الصلاة في المسجد الذي لا قبر فيه، فقد مرق من الدين، وخالف إجماع المسلمين . والواجب أن يستتاب قائل هذا ومعتقده، فإن تاب وإلا قتل .
بل ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي بنيت على القبور، ولو لم يقصد الصلاة عندها . فلا يفعل ذلك لا اتفاقا ولا ابتغاء؛ لما في ذلك من التشبه بالمشركين، والذريعة إلى الشرك، ووجوب التنبيه عليه /وعلى غيره، كما قد نص على ذلك أئمة الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم . منهم من صرح بالتحريم، ومنهم من أطلق الكراهة، وليست هذه المسألة عندهم مسألة الصلاة في المقبرة العامة . فإن تلك منهم من يعلل النهى عنها بنجاسة التراب، ومنهم من يعلله بالتشبه بالمشركين .
وأما المساجد المبنية على القبور، فقد نهوا عنه، معللين بخوف الفتنة بتعظيم المخلوق، كما ذكر ذلك الشافعي وغيره من سائر أئمة المسلمين .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها وعند وجودها في كبد السماء، وقال : ( إنه حينئذ يسجد لها الكفار ) ، فنهى عن ذلك لما فيه من المشابهة لهم، وإن لم يقصد المصلي السجود إلا للواحد المعبود .
فكيف بالصلاة في المساجد التي بنيت لتعظيم القبور ؟
وهذه المسألة قد بسطناها في غير هذا الجواب .(1/222)
وإنما كان المقصود تحقيق مكان رأس الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ وبيان أن الأمكنة المشهورة عند الناس بمصر والشام، أنها مشهد الحسين، وأن فيها رأسه، فهي كذب واختلاق، وإفك وبهتان، واللّه أعلم، وكتبه أحمد بن تيمية .
ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي .
ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود . ولا بد في ذلك من الرفق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه وقال : إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف ) .
ولا بد أيضًا أن يكون حليما صبورا على الأذى، فإنه لا بد أن يحصل له أذى، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح .(1/223)
كما قال لقمان لابنه : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] ولهذا أمر الله الرسل - وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالصبر كقوله لخاتم الرسل، بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة . فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 ] بعد أن أنزلت عليه سورة . اقرأ التي بها نبئ فقال : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 ] { قُمْ فَأَنذِرْ } [ المدثر : 2 ] { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } [ المدثر : 3 ] { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [ المدثر : 4 ] { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [ المدثر : 5 ] { وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [ المدثر : 7 ] ، فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة وختمها بالأمر بالصبر ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر . فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر وقال : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [ الطور : 48 ] وقال تعالى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } [ المزمل : 10 ] { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [ القلم : 48 ] { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } [ النحل : 127 ] { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 115 ] .(1/224)
فلا بد من هذه الثلاثة : العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه والصبر بعده وإن كان كل من الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال، وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد : ( لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به حليمًا فيما ينهى عنه ) .
وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس، فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه، وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل : فإن ترك الأمر الواجب معصية : فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار والمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل، وقد يكون الثاني شرًا من الأول : وقد يكون دونه، وقد يكونان سواء، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم : وقد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكونان سواء .(1/225)
ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه : أن المعاصي سبب المصائب، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال وأن الطاعة سبب النعمة فإحسان العمل سبب لإحسان الله قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] ، وقال تعالى : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] وقال : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 165 ] ، وقال : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 34 ] وقال : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ } [ الشورى : 48 ] وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] .(1/226)
وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، وقوم فرعون : في الدنيا . وأخبر بما يعاقبهم به في الآخرة، ولهذا قال مؤمن آل فرعون : { يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ } [ غافر : 30 ] { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ } [ غافر : 31 ] { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } [ غافر : 32 ] ، { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ غافر : 32 ] ، وقال تعالى : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ القلم : 33 ] وقال : { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [ التوبة : 101 ] وقال : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ السجدة : 21 ] وقال : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [ الدخان : 10 ] . إلى قوله : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } [ الدخان : 16 ] .
ولهذا يذكر الله في عامة سور الإنذار ما عاقب به أهل السيئات في الدنيا وما أعده لهم في الآخرة وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط، إذ عذاب الآخرة أعظم، وثوابها أعظم، وهي دار القرار .(1/227)
وإنما يذكر ما يذكره من الثواب والعذاب في الدنيا تبعا، كقوله في قصة يوسف : { وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 56 ] { وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يوسف : 57 ] وقال : { فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 148 ] وقال : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ النحلل : 41 ] { الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحلل : 42 ] وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ العنكبوت : 27 ] . وأما ذكره لعقوبة الدنيا والآخرة ففي سورة : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } [ النازعات : 1 ] { وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } [ النازعات : 2 ] ، ثم قال : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } [ النازعات : 6 ] { تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } [ النازعات : 7 ] فذكر القيامة مطلقًا ثم قال : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } [ النازعات : 15 ] { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [ النازعات : 16 ] { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [ النازعات : 17 ] إلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } [ النازعات : 26 ] ثم ذكر المبدأ والمعاد م(1/228)
فصلاً فقال : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] . إلى قوله تعالى : { فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } [ النازعات : 34 ] . إلى قوله تعالى : { فَأَمَّا مَن طَغَى } [ النازعات : 37 ] { وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ النازعات : 38 ] { فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 39 ] { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } [ النازعات : 40 ] { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 41 ] إلى آخر السورة . وكذلك في [ المزمل ] ذكر قوله : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أولى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا } [ المزمل : 11 ] { إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا } [ المزمل : 12 ] { وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا } [ المزمل : 13 ] ، إلى قوله تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } [ المزمل : 15 ] { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا } [ المزمل : 16 ] .(1/229)
كذلك في [ سورة الحاقة ] ذكر قصص الأمم، كثمود وعاد وفرعون ثم قال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ الحاقة : 13 ] { وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [ الحاقة : 14 ] إلى تمام ما ذكره من أمر الجنة والنار . وكذلك في سورة [ ن والقلم ] ، ذكر قصة أهل البستان الذين منعوا حق أموالهم وما عاقبهم به ثم قال : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ القلم : 33 ] . كذلك في [ سورة التغابن ] قال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ التغابن : 5 ] { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ التغابن : 6 ] ثم قال : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } [ التغابن : 7 ] .
وكذلك في سورة [ ق ] ذكر حال المخالفين للرسل، وذكر الوعد والوعيد في الآخرة . وكذلك في [ سورة القمر ] ذكر هذا وهذا . كذلك في [ آل حم ] مثل حم غافر، والسجدة، والزخرف، والدخان وغير ذلك . إلى غير ذلك مما لا يحصى . فإن التوحيد والوعد والوعيد هو أول ما أنزل، كما في صحيح البخاري عن يوسف بن ماهك قال : ( إني عند عائشة أم المؤمنين إذ جاءها عراقي فقال : أي الكفن خير ؟ قالت : ويحك وما يضرك ؟ قال : يا أم المؤمنين أريني مصحفك . قالت : لم ؟ قال : لعلى أؤلف القرآن عليه . فإنه يقرأ غير مؤلف قالت : وما يضرك أيه قرأت قبل إنما نزل أول ما نزل منه سورة من الم(1/230)
فصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبدا لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [ القمر : 46 ] وما نزلت سورة البقرة و النساء إلا وأنا عنده قال : فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور ) .
وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليهم آخرون إنكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من أعظم الفتن والشرور قديمًا وحديثًا، إذ الإنسان ظلوم جهول والظلم والجهل أنواع فيكون ظلم الأول وجهله من نوع وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر . ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها، ومن تبعهم من العامة من الفتن : هذا أصلها، يدخل في ذلك أسباب الضلال والغي : التي هي الأهواء الدينية والشهوانية، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا وذلك أن أسباب الضلال والغي البدع في الدين والفجور في الدنيا وهي مشتركة : تعم بني آدم، لما فيهم من الظلم والجهل، فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره، كالزنا بلواط وغيره، أو شرب خمر، أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب، أو نحو ذلك . ومعلوم أن هذه المعاصي وإن كانت مستقبحة مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة أيضًا ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها، لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له وهذا هو الغبطة التي هي أدنى نوعي الحسد .(1/231)
فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه، أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وإن لم يحصل، ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه أنها تختص عن غيرها بالشهوات، فكيف إذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها ؟ فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي وأما الآخر فظلوم حسود . وهذان يقعان في الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله فما كان جنسه مباحا من أكل وشرب ونكاح ولباس وركوب وأموال : إذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم، والبخل والحسد . وأصلهما الشح كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم : أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) . ولهذا قال الله تعالى في وصف الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا } [ الحشر : 9 ] أي : لا يجدون الحسد مما أوتي إخوانهم من المهاجرين، { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] ثم قال : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] .
ورئي عبد الرحمن بن عوف يطوف بالبيت ويقول : رب قني شح نفسي رب قني شح نفسي فقيل له في ذلك فقال : إذا وقيت شح نفسي فقد وقيت البخل والظلم والقطيعة أو كما قال .
فهذا الشح الذي هو شدة حرص النفس يوجب البخل بمنع ما هو عليه، والظلم بأخذ مال الغير . ويوجب قطيعة الرحم، ويوجب الحسد، وهو : كراهة ما أختص به الغير والحسد فيه بخل وظلم، فإنه بخل بما أعطيه غيره، وظلمه بطلب زوال ذلك عنه .(1/232)
فإذا كان هذا في جنس الشهوات المباحة، فكيف بالمحرمة : كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك ؟ وإذا وقع فيها اختصاص فإنه يصير فيها نوعان : أحدهما : بغضها لما في ذلك من الاختصاص والظلم، كما يقع في الأمور المباحة الجنس . والثاني : بغضها لما في ذلك من حق الله . ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام : أحدها : ما فيها ظلم الناس، كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق، والحسد ونحو ذلك . والثاني : ما فيه ظلم الناس فقط، كشرب الخمر والزنا، إذا لم يتعد ضررهما . والثالث : ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر، ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم، كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان وقد قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] .
وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم : أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل : إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة . ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام .(1/233)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم ) ، فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة، فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له، والتعدي عليه في حقه . وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث . فهي قد تظلم من لا يظلمها، وتؤثر هذه الشهوات وإن لم تفعلها، فإذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير وقد تصبر، ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه ما لم يكن فيها قبل ذلك ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين، يكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين، وإن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب، والجهاد على ذلك من الدين .
والناس هنا ثلاثة أقسام :(1/234)
قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فلا يرضون إلا بما يعطونه ولا يغضبون إلا لما يحرمونه، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه وصار الأمر الذي كان عنده منكرًا - ينهى عنه ويعاقب عليه، ويذم صاحبه ويغضب عليه - مرضيا عنده وصار فاعلا له وشريكا فيه، ومعاونا عليه، ومعاديًا لمن نهى عنه وينكر عليه . وهذا غالب في بني آدم يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه . وسببه : أن الإنسان ظلوم جهول، فلذلك لا يعدل بل ربما كان ظالما في الحالين يرى قومًا ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم، فيرضى أولئك المنكرون ببعض الشيء فينقلبون أعوانا له . وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه . وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك، أو يرضوه ببعض ذلك، فتراه قد صار عونا لهم . وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره . وقوم يقومون ديانة صحيحة يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا .
وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم من خير أمة أخرجت للناس : يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله . وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا، وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة . وهذه القسمة الثلاثية كما قيل : الأنفس ثلاث : أمارة، ومطمئنة، ولوامة .(1/235)
فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء . والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } [ الفجر : 27 ] { ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر : 27 ] { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } [ الفجر : 28 ] { وَادْخُلِي جَنَّتِي } [ الفجر : 28 ] . والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتتلون : تارة كذا . وتارة كذا . وتخلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا .
ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم : ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ) : أقرب عهدا بالرسالة وأعظم إيمانًا وصلاحًا، وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة : لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسم الوسط . ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة على كثر القسم الثالث، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا ثم كثر ذلك بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين : وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنه مع الحق والعدل ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى . فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه : ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى كما قال تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } [ الشورى : 15 ] . وهذا أيضًا حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات .(1/236)
وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين . فإنهم يحتاجون إلى شيئين : إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها : فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم، كما هو الواقع، فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانه، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير . فكم ممن لم يرد خيرًا ولا شرًا حتى رأى غيره - لا سيما إن كان نظيره - يفعله ففعله فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض .(1/237)
ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر : له مثل من تبعه من الأجر والوزر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ) ، وذلك لاشتراكهم في الحقيقة . وأن حكم الشيء حكم نظيره . وشبه الشيء منجذب إليه . فإذا كان هذان داعيين قويين : فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران ؟ وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم، ومعاداتهم لمخالفيهم . وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم : إما للمعاونة على ذلك، كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم . وإما بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر، فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير : إما حسدًا له على ذلك، لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم . وإما لئلا يكون له عليهم حجة . وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، ولئلا يكونوا تحت منته وخطره ونحو ذلك من الأسباب قال الله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } [ البقرة : 109 ] وقال تعالى في المنافقين : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء } [ النساء : 89 ] .(1/238)
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : ودت الزانية لو زنى النساء كلهن . والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور كالاشتراك في الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد وقد يختارونها في النوع، كالزاني الذي يود أن غيره يزني، والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضًا، لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها .
وأما الداعي الثاني فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر . فإن شاركهم وإلا عادوه وآذوه على وجه ينتهي إلى حد الإكراه، أولا ينتهي إلى حد الإكراه ثم إن هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم أو يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه : متى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه واستخفوا به . وجعلوا ذلك حجة عليه في أمور أخرى . وإن لم يشاركهم عادوه وآذوه . وهذه حال غالب الظالمين القادرين .
وهذا الموجود في المنكر نظيره في المعروف وأبلغ منه كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] فإن داعي الخير أقوى، فإن الإنسان فيه داع يدعوه إلى الإيمان والعلم، والصدق والعدل، وأداء الأمانة فإذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع آخر، لا سيما إذا كان نظيره، لا سيما مع المنافسة وهذا محمود حسن . فإن وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين، ويبغضه إذا لم يفعل : صار له داع ثالث، فإذا أمروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع . ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات، كما يقابل الطبيب المرض بضده . فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه وذلك بشيئين : بفعل الحسنات . وترك السيئات مع وجود ما ينفي الحسنات ويقتضي السيئات . وهذه أربعة أنواع .(1/239)
ويؤمر أيضًا بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة بحسب قدرته وإمكانه، قال تعالى : { وَالْعَصْرِ } [ العصر : 1 ] { إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ } [ العصر : 2 ] { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } .
وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : ( لو فكر الناس كلهم في سورة والعصر لكفتهم ) . وهو كما قال . فإن الله تعالى أخبر أن جميع الناس خاسرون إلا من كان في نفسه مؤمنا صالحًا، ومع غيره موصيًا بالحق موصيًا بالصبر .
وإذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو الدرجة وعظيم الأجر، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : ( أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء : ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه . فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه . ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة ) وحينئذ فيحتاج من الصبر ما لا يحتاج إليه غيره : وذلك هو سبب الإمامة في الدين، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] .
فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور به وترك السيئ المحظور، ويدخل في ذلك الصبر على فعل الأذى وعلى ما يقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم : وغير ذلك من أنواع الصبر . ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن به ويتنعم به ويغتذي به وهو اليقين، كما في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا أيها الناس سلوا الله اليقين، والعافية، فإنه لم يعط أحد بعد اليقين خيرا من العافية فسلوهما الله ) .(1/240)
وكذلك إذا أمر غيره يحسن أو أحب موافقته على ذلك، أو نهى غيره عن شيء، فيحتاج أن يحسن إلى ذلك الغير إحسانا يحصل به مقصوده، من حصول المحبوب واندفاع المكروه، فإن النفوس لا تصبر على المر إلا بنوع من الحلو، لا يمكن غير ذلك، ولهذا أمر الله تعالى بتأليف القلوب، حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيبا في الصدقات . وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] . وقال تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] فلا بد أن يصبر وأن يرحم وهذا هو الشجاعة والكرم .
ولهذا يقرن الله بين الصلاة والزكاة تارة، وهي الإحسان إلى الخلق وبينهما وبين الصبر تارة . ولا بد من الثلاثة : الصلاة، والزكاة، والصبر . لا تقوم مصلحة المؤمنين إلا بذلك، في صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم، لا سيما كلما قويت الفتنة والمحنة، فالحاجة إلى ذلك تكون أشد، فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا به . ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء في شعرهم . وكذلك يتذامون بالبخل والجبن .
والقضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقا، كاتفاقهم على مدح الصدق والعدل، وذم الكذب والظلم . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الأعراب، حتى اضطروه إلى سمرة فتعلقت بردائه، فالتفت إليهم وقال : ( والذي نفسي بيده لو أن عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمته عليكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جبانًا ولا كذوبًا ) .(1/241)
لكن يتنوع ذلك بتنوع المقاصد والصفات، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى . ولهذا جاء الكتاب والسنة بذم البخل والجبن، ومدح الشجاعة والسماحة في سبيله دون ما ليس في سبيله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع ) . وقال : ( من سيدكم يا بني سلمة ؟ فقالوا الجد بن قيس على أنا نزنه بالبخل فقال : وأي داء أدوأ من البخل ؟ ) وفي رواية : ( إن السيد لا يكون بخيلاً بل سيدكم الأبيض الجعد البراء بن معرور ) . وكذلك في الصحيح قول جابر بن عبد الله لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما : إما أن تعطيني وإما أن تبخل عني فقال تقول : وإما أن تبخل عني وأي داء أدوأ من البخل ؟ فجعل البخل من أعظم الأمراض . وفي صحيح مسلم عن سلمان بن ربيعة قال : ( قال عمر : قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسْمًا فقلت : يا رسول الله والله لغير هؤلاء أحق به منهم فقال : إنهم خيروني بين أن يسألوني بالفحش وبين أن يبخلوني ولست بباخل يقول : إنهم يسألوني مسألة لا تصلح فإن أعطيتهم وإلا قالوا : هو بخيل فقد خيروني بين أمرين مكرهين لا يتركوني من أحدهما : الفاحشة والتبخيل . والتبخيل أشد، فأدفع الأشد بإعطائهم ) .(1/242)
والبخل جنس تحته أنواع : كبائر، وغير كبائر قال تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ آل عمران : 180 ] . وقال : { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ النساء : 36 ] إلى قوله : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } [ النساء : 36 ] { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } [ النساء : 37 ] وقال تعالى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] . وقال : { فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ التوبة : 76 ] { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } [ التوبة : 77 ] . وقال : { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } [ محمد : 38 ] . وقال : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } [ الماعون : 4 ] { االَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 5 ] { الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } [ الماعون : 6 ] { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ الماعون : 7 ] . وقال : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } [ التوبة : 35 ] الآية .(1/243)
وما في القرآن من الأمر بالإيتاء والإعطاء وذم من ترك ذلك : كله ذم للبخل وكذلك ذمه للجبن كثير مثل قوله : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الأنفال : 16 ] . وقوله عن المنافقين : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [ التوبة : 57 ] . وقوله : { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ محمد : 20 ] . وقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 77 ] .(1/244)
وما في القرآن من الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له : كله ذم للجبن . ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم : بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شيئا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ التوبة : 39 ] . وقال تعالى : { هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] .
وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضل [ الله ] السابقين فقال : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [ الحديد : 10 ] .(1/245)
وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله، ومدحه في غير آية من كتابه، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه فقال : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } [ الأنفال : 45 ] . { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال : 46 ] .
والشجاعة ليست هي قوة البدن وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته . فإن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به . والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب . حتى يفعل ما يصلح .
فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد . وقد تقدم أن جماع ذلك هو الصبر، فإنه لا بد منه . والصبر صبران : صبر عند الغضب، وصبر عند المصيبة . كما قال الحسن : ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم . وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم .(1/246)
والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن، ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز، ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما تعدون الرقوب فيكم ؟ قالوا : الرقوب الذي لا يولد له قال : ليس ذلك بالرقوب، ولكن الرقوب الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئًا ثم قال : ما تعدون الصرعة فيكم ؟ قلنا : الذي لا تصرعه الرجال فقال : ليس بذلك ولكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب ) فذكر ما يتضمن الصبر عند المصيبة والصبر عند الغضب قال الله تعالى في المصيبة : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِين } [ البقرة : 155 ] { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [ البقرة : 155 ] الآية . وقال تعالى في الغضب : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 35 ] .
وهذا الجمع بين صبر المصيبة وصبر الغضب نظير الجمع بين صبر النعمة [ وصبر المصيبة ] كما في قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ هود : 9 ] { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ هود : 10 ] { إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ هود : 11 ] . وقال : { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ] .
وبهذا وصف كعب بن زهير من وصفه من الصحابة المهاجرين حيث قال :(1/247)
لا يفرحون إذا نالت سيوفهم ** قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا .
وكذلك قال حسان بن ثابت في صفة الأنصار :
لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم ** وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع .
وقال بعض العرب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم : يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر . ولما كان الشيطان يدعو الناس عند هذين النوعين إلى تعدي الحدود بقلوبهم وأصواتهم وأيديهم : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لما قيل له : وقد بكى لما رأى إبراهيم في النزع أتبكي ؟ أولم تنه عن البكاء ؟ فقال : إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان . وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية ) فجمع بين الصوتين .(1/248)
وأما نهيه عن ذلك في المصائب فمثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ) . وقال : ( أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة ) . وقال : ( ما كان من العين والقلب فمن الله وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان ) . وقال : ( إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم - وأشار إلى لسانه وقال : من ينح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه ) . واشترط على النساء في البيعة أن لا ينحن وقال : ( إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالاً من قطران ) . وقال في الغلبة والمصائب والفرح : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) . وقال : ( إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان ) . وقال : ( لا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا ) . إلى غير ذلك مما أمر به في الجهاد من العدل وترك العدوان، اتباعا لقوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] ولقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين } [ البقرة : 190 ] .
ونهى عن لباس الحرير وتختم الذهب، والشرب في آنية الذهب والفضة، وإطالة الثياب، إلى غير ذلك من أنواع السرف والخيلاء في النعم وذم الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف وجعل فيهم الخسف والمسخ .(1/249)
وقد قال الله تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } [ النساء : 36 ] . وقال عن قارون : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } [ القصص : 76 ] . وهذه الأمور الثلاثة مع الصبر عن الاعتداء في الشهوة هي جوامع هذا الباب . وذلك أن الإنسان بين ما يحبه ويشتهيه : وبين ما يبغضه ويكرهه فهو يطلب الأول بمحبته وشهوته ويدفع الثاني ببغضه ونفرته . وإذا حصل الأول أو اندفع الثاني أوجب له فرحًا وسرورًا وإن حصل الثاني أو اندفع الأول حصل له حزن فهو محتاج عند المحبة والشهوة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الغضب والنفرة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الفرح أن يصبر عن عدوانه، وعند المصيبة أن يصبر عن الجزع منها فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصوتين الأحمقين الفاجرين : الصوت الذي يوجب الاعتداء في الفرح حتى يصير الإنسان فرحًا فخورًا، والصوت الذي يوجب الجزع .(1/250)
وأما الصوت الذي يثير الغضب لله : كالأصوات التي تقال في الجهاد من الأشعار المنشدة : فتلك لم تكن بآلات وكذلك أصوات الشهوة في الفرح، فرخص منها فيما وردت به السنة من الضرب بالدف في الأعراس والأفراح للنساء والصبيان . وعامة الأشعار التي تنشد بالأصوات لتحريك النفوس هي من هذه الأقسام الأربعة وهي التشبيب، وأشعار الغضب والحمية، وهي الحماسة والهجاء . وأشعار المصائب كالمراثي وأشعار النعم والفرح وهي المدائح . والشعراء جرت عادتهم أن يمشوا مع الطبع، كما قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } [ الشعراء : 225 ] { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } [ الشعراء : 226 ] ، ولهذا أخبر أنهم يتبعهم الغاوون والغاوي : هو الذي يتبع هواه بغير علم، وهذا هو الغي، وهو خلاف الرشد . كما أن الضال الذي لا يعلم مصلحته هو خلاف المهتدي قال الله سبحانه وتعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } [ النجم : 1 ] { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [ النجم : 2 ] ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) . فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة، إذ كان عدم هذين مذمومًا على الإطلاق وأما وجودهما فبه تحصل مقاصد النفوس على الإطلاق، لكن العاقبة في ذلك للمتقين .(1/251)
وأما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة والعاقبة وإن كانت في الآخرة فتكون في الدنيا أيضًا، كما قال تعالى لما ذكر قصة نوح ونجاته بالسفينة : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ هود : 48 ] إلى قوله : { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [ هود : 49 ] . وقال : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 194 ] .
والفرقان : أن يحمد من ذلك ما حمده الله ورسوله، فإن الله تعالى هو الذي حمده زين وذمه شين، دون غيره من الشعراء والخطباء وغيرهم؛ ولهذا لما قال القائل من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم : إن حمدي زين وذمي شين قال له : ( ذاك الله ) . والله سبحانه حمد الشجاعة والسماحة في سبيله، كما في الصحيح عن ( أبي موسى قال : قيل : يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) .
وقد قال سبحانه : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] وذلك أن هذا هو المقصود الذي خلق الخلق له، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق لها الخلق كان محمودًا عند الله وهو الذي يبقى لصاحبه وهذه الأعمال الصالحات . ولهذا كان الناس أربعة أصناف : من يعمل لله بشجاعة وسماحة، فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة .(1/252)
ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة، فهذا ينتفع بذلك في الدنيا وليس له في الآخرة من خلاق . ومن يعمل لله لكن لا بشجاعة ولا سماحة، فهذا فيه من النفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك . ومن لا يعمل لله وليس فيه شجاعة ولا سماحة، فهذا ليس له دنيا ولا آخرة .
فهذه الأخلاق والأفعال يحتاج إليها المؤمن عموما وخصوصًا في أوقات المحن والفتن الشديدة، فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضي للفتنة عندهم ويحتاجون أيضًا إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم وكل من هذين الأمرين فيه من الصعوبة ما فيه، وإن كان يسيرًا على من يسره الله عليه . وهذا لأن الله أمر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح وأمرهم بدعوة الناس وجهادهم على الإيمان والعمل الصالح، كما قال الله تعالى : { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ الحج : 41 ] . وكما قال : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] وكما قال : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] . وكما قال : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 173 ] .
ولما كان ( في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة : صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة كما قال عن المنافقين : { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } [ التوبة : 49 ] الآية .(1/253)
وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في ( الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم - وأظنه قال : هل لك في نساء بني الأصفر ؟ - فقال يا رسول الله : إني رجل لا أصبر عن النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر . فائذن لي ولا تفتني ) .
وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة، واستتر بجمل أحمر، وجاء فيه الحديث : ( أن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر ) فأنزل الله تعالى فيه : { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } [ التوبة : 49 ] الآية . يقول : إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء فلا يفتتن بهن فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك . وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء . فهذا وجه قوله : { وَلاَ تَفْتِنِّي } [ التوبة : 49 ] قال الله تعالى : { أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } [ التوبة : 49 ] .
يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد : فتنة عظيمة قد سقط فيها فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته ؟ والله يقول : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] .
فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة : فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده وتركه ما أمر الله به من الجهاد . فتدبر هذا، فإن هذا مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام : قسم يأمرون وينهون ويقاتلون، طلبًا لإزالة الفتنة التي زعموا ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة .(1/254)
وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا وهم قد سقطوا في الفتنة وهذه الفتنة المذكورة في [ سورة براءة ] دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة، فإنها سبب نزول الآية .
وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور . وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعا أو تركهما جميعا : مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي، فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك فلا بد أن يفعل شيئا من المحظورات . فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين . فإن كان المأمور أعظم أجرًا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة، وإن كان ترك المحظور أعظم أجرًا لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك، فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات، فهذا هذا . وتفصيل ذلك يطول .
وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي ولا بد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف وإما بمنكر، كما قال تعالى : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ] فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته، والنهي طلب الترك وإرادته ولا بد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك، فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته .(1/255)
وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض وإذا اجتمع اثنان فصاعدا فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر، ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين، كما قيل : الاثنان فما فوقهما جماعة، لكن لما كان ذلك اشتراكا في مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما إمام والآخر مأموم كما ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه : إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما ) وكانا متقاربين في القراءة .
وأما الأمور العادية ففي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمروا عليهم أحدهم ) . وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم : فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلا بد أن يأمر وينهى . ويؤمر وينهى : إما بما يضاد ذلك، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله وإذا اتخذ ذلك دينا كان دينا مبتدعا . وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته همام حارث فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملا صالحا لوجه الله وإلا كان عملا فاسدا أو لغير وجه الله وهو الباطل كما قال تعالى : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } [ الليل : 4 ] .
وهذه الأعمال كلها باطلة من جنس أعمال الكفار { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 1 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شيئا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . وقال : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } [ الفرقان : 23 ] .(1/256)
وقد أمر الله في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولى الأمر من المؤمنين، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأولى الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] .
وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولوا الأمر صنفين : العلماء، والأمراء . فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته : ما بقاؤنا على هذا الأمر ؟ قال : ما استقامت لكم أئمتكم . ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان، وكل من كان متبوعا فإنه من أولى الأمر وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولا يطيعه في معصية الله كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى أمر المسلمين وخطبهم، فقال في خطبته : أيها الناس القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم .
فصل
فإذًا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق . فإذا قرأ الإنسان [ سورة الأحزاب ] وعرف من المنقولات فى الحديث، والتفسير، والفقه، والمغازى، كيف كانت صفة الواقعة التى نزل بها القرآن، ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك، وجد مصداق ما ذكرنا . وأن الناس انقسموا فى هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة . كما انقسموا فى تلك . وتبين له كثير من المتشابهات .(1/257)
/افتتح الله السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 1 ] ، وذكر فى أثنائها قوله : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 47، 48 ] ، ثم قال : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } [ الأحزاب : 2، 3 ] . فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة ـ التى هى سنته ـ وبأن يتوكل على الله . فبالأولى يحقق قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، وبالثانية يحقق قوله : { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . ومثل ذلك قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] .(1/258)
وهذا وإن كان مأمورا به فى جميع الدين، فإن ذلك فى الجهاد أوكد؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين، وذلك لا يتم إلا بتأييد قوى من الله؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة . ففيه سنام المحبة، كما فى قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [ المائدة : 54 ] . وفيه سنام التوكل، وسنام الصبر، فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ولهذا قال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 41، 42 ] ، { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] .
ولهذا كان الصبر واليقين ـ اللذان هما أصل التوكل ـ يوجبان الإمامة فى الدين، كما دل عليه قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] .
ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التى هى محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما : إذا اختلف الناس فى شىء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله يقول : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }(1/259)
وفى الجهاد أيضا : حقيقة الزهد فى الحياة الدنيا، وفى الدار الدنيا .
وفيه أيضا : حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن جاهد فى سبيل الله، لا فى سبيل الرياسة، ولا فى سبيل المال، ولا فى سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هى العليا .
وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال /تعالى : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] . و { الجَنَّةَ } اسم للدار التى حوت كل نعيم . أعلاه النظر إلى الله، إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، مما قد نعرفه وقد لا نعرفه، كما قال الله ـ تعالى ـ فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم : ( أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ) .
فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا .
ثم إنه ـ تعالى ـ قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } [ الأحزاب : 9 ] .(1/260)
وكان مختصر القصة : أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم، وجاؤوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بنى أسد، وأشجع، وفزارة، وغيرهم من قبائل نجد . واجتمعت ـ أيضا ـ اليهود، من قريظة، والنضير . فإن بنى النضير كان النبى صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله ـ تعالى ـ فى [ سورة الحشر ] . فجاؤوا فى الأحزاب إلى قريظة وهم معاهدون للنبى صلى الله عليه وسلم، ومجاورون له، قريبًا من /المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد، ودخلوا فى الأحزاب . فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بقدر المسلمين مرات متعددة . فرفع النبى صلى الله عليه وسلم الذرية من النساء والصبيان فى آطام المدينة، وهى مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أخر . وجعل ظهرهم إلى سلع ـ وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام ـ وجعل بينه وبين العدو خندقا . والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة . وكان عدوا شديد العداوة، لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات .
وفى هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغل وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة، ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم . ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام والإحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين . ومقصودهم الاستيلاء على الدار، واصطلام أهلها . كما نزل أولئك بنواحى المدينة بإزاء المسلمين .
ودام الحصار على المسلمين عام الخندق ـ على ما قيل : بضعا وعشرين ليلة . وقيل : عشرين ليلة .(1/261)
وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول /انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه؛ يوم الاثنين حادى أو ثانى عشر جمادى الأولى، يوم دخل العسكر ـ عسكر المسلمين ـ إلى مصر المحروسة . واجتمع بهم الداعى، وخاطبهم فى هذه القضية . وكان الله ـ سبحانه وتعالى ـ لما ألقى فى قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم : ألقى الله فى قلوب عدوهم الروع والانصراف .
وكان عام الخندق برد شديد، وريح شديدة منكرة، بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] .
وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد ـ على خلاف أكثر العادات ـ حتى كره أكثر الناس ذلك . وكنا نقول لهم : لا تكرهوا ذلك؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة . وكان ذلك من أعظم الأسباب التى صرف الله به العدو؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله . وهلك ـ أيضًا ـ منهم من شاء الله . وظهر فيهم وفى بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغنى عن بعض كبار المقدمين فى أرض الشام أنه قال : لا بيض الله وجوهنا، أعدونا فى الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم ؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدًا للمسلمين، لو يصطادونهم، لكن فى تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة .
/وقال الله فى شأن الأحزاب : { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 10، 11 ] .(1/262)
وهكذا هذا العام . جاء العدو من ناحيتى علو الشام ـ وهو شمال الفرات ـ وهو قبلى الفرات ـ فزاغت الأبصار زيغًا عظيمًا، وبلغت القلوب الحناجر؛ لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو، وتوجهه إلى دمشق . وظن الناس بالله الظنونا . هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام . وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر . وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام . وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها . وهذا ـ إذا أحسن ظنه ـ قال : إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو، سنة سبع وخمسين . ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام . وهذا ظن خيارهم . وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية، وأهل التحديث والمبشرات أمانى كاذبة، وخرافات لاغية . وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب، ليس له عقل /يتفهم، ولا لسان يتكلم .
وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب . ولا يميز فى التحديث بين المخطئ والصائب . ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلاً بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدى لدفع ما يتخيل أنه معارض لها فى بادئ الروية .(1/263)
فلذلك استولت الحيرة على من كان متسمًا بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء، { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] . ابتلاهم الله بهذا الابتلاء، الذى يكفر به خطيآتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات، ما استوجبوا به أعلى الدرجات . قال الله تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [ الأحزاب : 12 ] . وهكذا قالوا فى هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية، والخلافة الرسالية، وحزب الله المحدثون عنه . حتى حصل لهؤلاء التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] .
فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم .
/وأما الذين فى قلوبهم مرض، فقد تكرر ذكرهم فى هذه السورة، فذكروا هنا، وفى قوله : { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } [ الأحزاب : 60 ] ، وفى قوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] .
وذكر الله مرض القلب فى مواضع، فقال تعالى : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ } [ الأنفال : 49 ] .
والمرض فى القلب كالمرض فى الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون فى القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال، من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته .(1/264)
وذلك ـ كما فسروه ـ هو من ضعف الإيمان، إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته . فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع؛ فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك، كلها أمراض . وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التى فيه .
وعلى هذا فقوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] هو إرادة الفجور، وشهوة الزنا، كما فسروه به . ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم : / ( وأى داء أدوأ من البخل ؟ ! ) .
وقد جعل الله ـ تعالى ـ كتابه شفاء لما فى الصدور، وقال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إنما شفاء العِىِّ السؤال ) .
وكان يقول فى دعائه : ( اللهم إنى أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء ) .
ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض فى قلبه، كما ذكروا أن رجلاً شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال : لو صححت لم تخف أحدًا . أى : خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك؛ ولهذا أوجب الله على عباده ألا يخافوا حزب الشيطان، بل لا يخافون غيره ـ تعالى ـ فقال : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] أى : يخوفكم أولياءه . وقال لعموم بنى إسرائيل تنبيهًا لنا : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] .(1/265)
وقال : { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 44 ] . وقال : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [ البقرة : 150 ] . وقال تعالى : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 3 ] . وقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ } [ التوبة : 18 ] . وقال : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ } [ الأحزاب : 39 ] . وقال : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } [ التوبة : 13 ] .
فدلت هذه الآية ـ وهى قوله تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ الأحزاب : 12 ] ـ على أن المرض والنفاق فى القلب يوجب الريب فى الأنباء الصادقة التى توجب أمن الإنسان من الخوف،حتى يظنوا أنها كانت غرورًا لهم، كما وقع فى حادثتنا هذه سواء .
ثم قال تعالى : { وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } [ الأحزاب : 13 ] ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد عسكر بالمسلمين عند سَلْع، وجعل الخندق بينه وبين العدو . فقالت طائفة منهم : لا مقام لكم هنا؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة . وقيل : لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى دين الشرك . وقيل : لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم .(1/266)
وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال : ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغى الدخول فى دولة التتار . وقال بعض الخاصة : ما بقيت أرض الشام تسكن، بل ننتقل عنها، إما إلى الحجاز واليمن، وإما إلى مصر . وقال بعضهم : بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد /استسلم لهم أهل العراق، والدخول تحت حكمهم .
فهذه المقالات الثلاث قد قيلت فى هذه النازلة . كما قيلت فى تلك . وهكذا قال طائفة من المنافقين، والذين فى قلوبهم مرض، لأهل دمشق خاصة والشام عامة : لا مقام لكم بهذه الأرض .
ونفى المقام بها أبلغ من نفى المقام . وإن كانت قد قرئت بالضم أيضًا . فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان، فكيف يقيم به ؟ !
قال الله تعالى : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } [ الأحزاب : 13 ] .
وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون ـ والناس مع النبى صلى الله عليه وسلم عند سَلْع داخل الخندق، والنساء والصبيان فى آطام المدينة : يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، أى : مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل ـ وأصل العورة : الخالى الذى يحتاج إلى حفظ وستر . يقال : اعور مجلسك إذا ذهب ستره، أو سقط جداره . ومنه عورة العدو . وقال مجاهد والحسن : أى ضائعة تخشى عليها السراق . وقال قتادة : قالوا : بيوتنا مما يلى العدو، فلا نأمن على أهلنا، فائذن لنا أن /نذهب إليها؛لحفظ النساء والصبيان . قال الله تعالى : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } ؛ لأن الله يحفظها { إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } فهم يقصدون الفرار من الجهاد، ويحتجون بحجة العائلة .(1/267)
وهكذا أصاب كثيرًا من الناس فى هذه الغزاة . صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة، كمصر، ويقولون : ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون فى ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم فى حصن دمشق، لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله ؟ قال الله تعالى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا } [ الأحزاب : 14 ] ، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة ـ وهى الافتتان عن الدين بالكفر، أو النفاق لأعطوا الفتنة، ولجاؤوها من غير توقف .
وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم . ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام ـ وتلك فتنة عظيمة ـ لكانوا معه على ذلك . كما ساعدهم فى العام الماضى أقوام بأنواع من الفتنة فى الدين والدنيا، ما بين ترك واجبات، وفعل محرمات، إما فى حق الله، وإما فى حق العباد . كترك الصلاة، وشرب /الخمور، وسب السلف، وسب جنود المسلمين، والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين، وحريمهم . وأخذ أموال الناس، وتعذيبهم، وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم، إلى غير ذلك من أنواع الفتنة .
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا } [ الأحزاب : 15 ] ، وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا ـ قديمًا وحديثًا ـ فى هذه الغزوة . فإن فى العام الماضى، وفى هذا العام ـ فى أول الأمر ـ كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر، ثم فر منهزمًا، لما اشتد الأمر .(1/268)
ثم قال الله تعالى : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 16 ] ، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل . فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون؛ ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ) . والفرار من القتل كالفرار من الجهاد . وحرف [ لن ] ينفى الفعل فى الزمن المستقبل . والفعل نكرة . والنكرة فى سياق النفى تعم جميع أفرادها . فاقتضى ذلك : أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدًا . وهذا خبر الله الصادق . فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله فى خبره .
/والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن . فإن هؤلاء الذين فروا فى هذا العام لم ينفعهم فرارهم، بل خسروا الدين والدنيا، وتفاوتوا فى المصائب . والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك فى الدين والدنيا، حتى الموت الذى فروا منه كثر فيهم . وقل فى المقيمين . فما منع الهرب من شاء الله . والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد، ولا قتل، بل الموت قل فى البلد من حين خرج الفارون . وهكذا سنة الله قديمًا وحديثًا .(1/269)
ثم قال تعالى : { وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 16 ] ، يقول : لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة، ثم تموتون . فإن الموت لابد منه . وقد حكى عن بعض الحمقى أنه قال : فنحن نريد ذلك القليل . وهذا جهل منه بمعنى الآية . فإن الله لم يقل : إنهم يمتعون بالفرار قليلاً . لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدًا . ثم ذكر جوابًا ثانيًا : أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل . ثم ذكر جوابًا ثالثًا : وهو أن الفار يأتيه ما قضى له من المضرة، ويأتى الثابت ما قضى له من المسرة . فقال : { قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } [ الأحزاب : 17 ] .
ونظيره قوله فى سياق آيات الجهاد : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } الآية [ النساء : 78 ] . وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ آل عمران : 156 ] . فمضمون الأمر : أن المنايا محتومة، فكم ممن حضر الصفوف فسلم، وكم ممن فر من المنية فصادفته، كما قال خالد بن الوليد ـ لما احتضر : لقد حضرت كذا وكذا صفًا، وإن ببدنى بضعًا وثمانين، ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهاأنذا أموت على فراشى كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء .(1/270)
ثم قال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } [ الأحزاب : 18 ] . قال العلماء : كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له : ويحك ! اجلس فلا تخرج . ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر : أن ائتونا بالمدينة، فإنا ننتظركم . يثبطونهم عن القتال . وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدًا . فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم . فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة . فانصرف بعضهم من عند النبى صلى الله عليه وسلم، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ . فقال : أنت هاهنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلم إلىَّ، فقد أحيط بك وبصاحبك .
/فوصف المثبطين عن الجهاد ـ وهم صنفان ـ بأنهم إما أن يكونوا فى بلد الغزاة، أو فى غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول، أو بالعمل، أو بهما . وإن كانوا فى غيره راسلوهم، أو كاتبوهم : بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة، ليكونوا معهم بالحصون، أو بالبعد . كما جرى فى هذه الغزاة .
فإن أقوامًا فى العسكر والمدينة وغيرهما صاروا يعوقون من أراد الغزو، وأقوامًا بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم : هلم إلينا . قال الله ـ تعالى ـ فيهم : { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } [ الأحزاب : 18، 19 ] أى : بخلاء عليكم بالقتال معكم، والنفقة فى سبيل الله . وقال مجاهد : بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة . وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شح عليهم بفضل الله، من نصره ورزقه الذى يجريه بفعل غيره، فإن أقوامًا يشحون بمعروفهم، وأقوامًا يشحون بمعروف الله وفضله . وهم الحساد .(1/271)
ثم قال تعالى : { فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ الأحزاب : 19 ] ، من شدة الرعب الذى فى قلوبهم، يشبهون المغمى عليه وقت النزع؛ فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره ولا يطرف . فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل .
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب : 19 ] ، ويقال فى اللغة : / [ صلقوكم ] وهو رفع الصوت بالكلام المؤذى . ومنه : [ الصالقة ] وهى التى ترفع صوتها بالمصيبة . يقال : صلقه، وسلقه ـ وقد قرأ طائفة من السلف بها، لكنها خارجة عن المصحف ـ إذا خاطبه خطابًا شديدًا قويًا . ويقال : خطيب مسلاق : إذا كان بليغًا فى خطبته، لكن الشدة هنا فى الشر لا فى الخير . كما قال : { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } [ الأحزاب : 19 ] . وهذا السلق بالألسنة الحادة، يكون بوجوه :
تارة يقول المنافقون للمؤمنين : هذا الذى جرى علينا بشؤمكم، فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة .
وتارة يقولون : أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا .
وتارة يقولون : أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم، كما قال تعالى : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 49 ] .
وتارة يقولون : أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا /أنفسكم والناس معكم .(1/272)
وتارة يقولون أنواعًا من الكلام المؤذى الشديد . وهم مع ذلك أشحة على الخير، أى : حراص على الغنيمة والمال الذى قد حصل لكم . قال قتادة : إن كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم . يقولون : أعطونا، فلستم بأحق بها منا . فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق . وأما عند الغنيمة فأشح قوم . وقيل : أشحة على الخير، أى : بخلاء به، لا ينفعون، لا بنفوسهم ولا بأموالهم .
وأصل الشح : شدة الحرص الذى يتولد عنه البخل والظلم، من منع الحق، وأخذ الباطل . كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمَرَهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) . فهؤلاء أشحاء على إخوانهم، أى : بخلاء عليهم، وأشحاء على الخير، أى : حراص عليه . فلا ينفقونه، كما قال : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، ثم قال تعالى : { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 20 ] .
فوصفهم بثلاثة أوصاف :
/أحدها : أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد . وهذه حال الجبان الذى فى قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن .
الوصف الثانى : أن الأحزاب إذا جاؤوا تمنوا ألا يكونوا بينكم، بل يكونون فى البادية بين الأعراب، يسألون عن أنبائكم : إيش خبر المدينة ؟ وإيش جرى للناس ؟
والوصف الثالث : أن الأحزاب إذا أتوا ـ وهم فيكم ـ لم يقاتلوا إلا قليلاً . وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس فى هذه الغزوة كما يعرفونه من أنفسهم، ويعرفه منهم من خبرهم .(1/273)
ثم قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [ الأحزاب : 21 ] ، فأخبر ـ سبحانه ـ أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه . فليتأسوا به فى التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها، وإهانة له . فإنه لو كان كذلك ما ابتلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ خير الخلائق ـ بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك،/ فيكون فى حقه عذابًا كالكفار والمنافقين .
ثم قال تعالى : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 22 ] . قال العلماء : كان الله قد أنزل فى سورة البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ، فبين الله ـ سبحانه منكرًا على من حسب خلاف ذلك ـ أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم بـ [ البأساء ] ، وهى الحاجة والفاقة . و [ الضراء ] وهى الوجع والمرض . و [ الزلزال ] وهى زلزلة العدو .(1/274)
فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم، قالوا : { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [ الأحزاب : 22 ] ، وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال . وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم، وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا لحكم الله وأمره . وهذه حال أقوام فى هذه الغزوة قالوا ذلك .
وكذلك قوله : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } [ الأحزاب : 23 ] أى : عهده الذى عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل، أو عاش . و [ النحب ] : النذر والعهد . وأصله من النحيب . وهو /الصوت . ومنه : الانتحاب فى البكاء، وهو الصوت الذى تكلم به فى العهد . ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق فى اللقاء ـ ومن صدق فى اللقاء فقد يقتل ـ صار يفهم من قوله : { قَضَى نَحْبَهُ } أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب : نذر الصدق فى جميع المواطن؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت . وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } [ الأحزاب : 23 ] أى : أكمل الوفاء . وذلك لمن كان عهده مطلقًا بالموت، أو القتل . { وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ } قضاءه، إذا كان قد وفى البعض، فهو ينتظر تمام العهد . وأصل القضاء : الإتمام والإكمال .
{(1/275)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 24 ] . بين الله ـ سبحانه ـ أنه أتى بالأحزاب ليجزى الصادقين بصدقهم، حيث صدقوا فى إيمانهم، كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] فحصر الإيمان فى المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون فى قولهم : آمنا، لا من قال، كما قالت الأعراب : { آمنا } [ الحجرات : 14 ] ، والإيمان لم يدخل فى قلوبهم، بل انقادوا واستسلموا . وأما المنافقون فهم بين أمرين : إما أن يعذبهم، وإما أن يتوب عليهم . فهذا حال الناس فى الخندق وفى هذه الغزاة .
/وأيضًا، فإن الله ـ تعالى ـ ابتلى الناس بهذه الفتنة، ليجزى الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون الصابرون، لينصروا الله ورسوله، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم . ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين؛ فإن منهم من ندم . والله ـ سبحانه ـ يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات . وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة، لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها .(1/276)
وقد ذكر أهل المغازى ـ منهم ابن إسحاق ـ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى الخندق : ( الآن نغزوهم، ولا يغزونا ) ، فما غزت قريش ولا غطفان، ولا اليهود المسلمين بعدها، بل غزاهم المسلمون، ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة . كذلك ـ إن شاء الله ـ هؤلاء الأحزاب من المغل وأصناف الترك ومن الفرس، والمستعربة، والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام، الآن نغزوهم ولا يغزونا . ويتوب الله على من يشاء من المسلمين، الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق، بأن ينيبوا إلى ربهم، ويحسن ظنهم بالإسلام، وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم . فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولى الأبصار، كما قال : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [ الأحزاب : 25 ] .
/ فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا ـ ريح شديدة باردة ـ وبما فرق به بين قلوبهم، حتى شتت شملهم، ولم ينالوا خيرًا . إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين، فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم، والبرد الشديد، والريح العاصف، والجوع المزعج، ما الله به عليم .(1/277)
وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التى وقعت فى هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة . وكنا نقول لهم : هذا فيه خيرة عظيمة . وفيه لله حكمة وسر، فلا تكرهوه . فكان من حكمته : أنه فيما قيل : أصاب قازان وجنوده، حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل : سبب رحيلهم . وابتلى به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه . وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضى حلب : يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر عقيب العسكر، واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله فى قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه . فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو، جزاء منه، وبيانًا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل، وإن تباعدت الديار .
/وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغل والكرج وألقى بينهم تباغضًا وتعاديًا، كما ألقى ـ سبحانه ـ عام الأحزاب بين قريش وغطفان، وبين اليهود . كما ذكر ذلك أهل المغازى . فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك، كما ذكره أهل المغازى، مثل عروة بن الزبير، والزهرى، وموسى بن عقبة، وسعيد بن يحيى الأموى، ومحمد بن عائذ، ومحمد بن إسحاق، والواقدى، وغيرهم .
ثم تبقى بالشام منهم بقايا، سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم، مضافاً إلى عسكر حماة وحلب، وما هنالك . وثبت المسلمون بإزائهم . وكانوا أكثر من المسلمين بكثير، لكن فى ضعف شديد وتقربوا إلى حماة، وأذلهم الله ـ تعالى ـ فلم يقدموا على المسلمين قط . وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم، فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار، كما جرى فى غزوة الخندق، حيث قتل على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فيها عمرو بن عبد ود العامرى لما اقتحم الخندق، هو ونفر قليل من المشركين .(1/278)
كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون، مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين . وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم . وساق المسلمون خلفهم فى آخر /النوبات،فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات . وبعضهم فى جزيرة فيها، فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم، وخالطوهم، وأصاب المسلمون بعضهم . وقيل : إنه غرق بعضهم .
وكان عبورهم وخلو الشام منهم فى أوائل رجب، بعد أن جرى ـ ما بين عبور قازان أولاً وهذا العبورـ رجفات ووقعات صغار، وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة؛ لأجل الغزاة، لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا . وثبت بإزائهم المقدم الذى بحماة، ومن معهم من العسكر، ومن أتاه من دمشق، وعزموا على لقائهم، ونالوا أجرًا عظيمًا . وقد قيل : إنهم كانوا عدة كمانات، إما ثلاثة، أو أربعة . فكان من المقدر أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقى فى قلوب عدوهم الرعب فيهربون، لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل [ تيزين ]
و [ الفوعة ] و [ معرة مصرين ] وغيرها ما لم يكونوا وطئوه فى العام الماضى .
وقيل : إن كثيرًا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم ـ بسبب الرفض ـ وأن عند بعضهم فرامين منهم، لكن هؤلاء ظلمة، ومن أعان ظالمًا بلى به، والله تعالى يقول : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] .(1/279)
وقد ظاهروهم على المسلمين الذين كفروا من أهل الكتاب،من /أهل [ سيس ] والأفرنج . فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهى الحصون ـ ويقال للقرون : الصياصى ـ ويقذف فى قلوبهم الرعب . وقد فتح الله تلك البلاد . ونغزوهم إن شاء الله ـ تعالى ـ فنفتح أرض العراق وغيرها، وتعلو كلمة الله ويظهر دينه؛ فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس . وخرجت عن سنن العادة . وظهر لكل ذى عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التى بارك فيها للعالمين ـ بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم، وكر العدو كرة فلم يلو عن . . وخذل الناصرون فلم يلووا على . . . وتحير السائرون فلم يدروا من . . . ولا إلى . . . وانقطعت الأسباب الظاهرة . وأهطعت الأحزاب القاهرة، وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق .
فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة، وأساسًا /لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفى صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا .(1/280)
قال الشيخ ـ رحمه الله : كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده، لما رجعت من مصر فى جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد . ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم، وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم . فكتبته فى رجب، والله أعلم . والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين .
وَسئل ـ رَحمه اللّه تعالي ـ ما تقول السادة العلماء أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم علي إظهار الحق المبين، وإخماد شغب المبطلين ـ في [ النصيرية ] القائلين باستحلال الخمر، وتناسخ الأرواح،وقدم العالم، وإنكار البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة الدنيا، وبأن [ الصلوات الخمس ] عبارة عن خمسة أسماء، وهي : علي، وحسن، وحسين ، ومحسن، وفاطمة . فذكر هذه الأسماء الخمسة علي رأيهم يجزيهم عن الغسل من الجنابة، والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها . وبأن [ الصيام ] عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا،واسم ثلاثين امرأة، يعدونهم في كتبهم، ويضيق هذا الموضع عن إبرازهم . وبأن إلاههم الذي خلق السموات والأرض هو علي بن طالب ـ رضي الله عنه ـ فهو عندهم الإله في السماء، والإمام في الأرض، فكانت الحكمة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت علي رأيهم أن يؤنس خلقه وعبيده؛ ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه .(1/281)
وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه، ويشربون معه الخمر، ويطلعونه علي أسرارهم، ويزوجونه من نسائهم، حتي يخاطبه معلمه . وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه علي كتمان دينه، ومعرفة مشائخه،/ وأكابر أهل مذهبه؛ وعلي ألا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه، وعلي أن يعرف ربه وإمامه بظهوره في أنواره وأدواره، فيعرف انتقال الاسم والمعني في كل حين وزمان . فالاسم عندهم في أول الناس آدم والمعني هو شيث، والاسم يعقوب، والمعني هو يوسف . ويستدلون علي هذه الصورة كما يزعمون بما في القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فيقولون : أما يعقوب فإنه كان الاسم، فما قدر أن يتعدي منزلته فقال : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ } [ يوسف : 98 ] ، وأما يوسف فكان المعني المطلوب فقال : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } [ يوسف : 92 ] فلم يعلق الأمر بغيره؛ لأنه علم أنه الإله المتصرف، ويجعلون موسي هو الاسم، ويوشع هو المعني، ويقولون : يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره، وهل ترد الشمس إلا لربها ؟ ! ويجعلون سليمان هو الاسم، وآصف هو المعني القادر المقتدر، ويقولون : سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس، وقدر عليه آصف؛ لأن سليمان كان الصورة، وآصف كان المعني القادر المقتدر، وقد قال قائلهم :
هابيل شيث يوسف يوشع ** آصف شمعون الصفا حيدر
ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا علي هذا النمط إلي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون : محمد هو الاسم، وعلي هو المعني، ويوصلون العدد علي هذا الترتيب في كل زمان إلي وقتنا هذا . فمن حقيقة الخطاب في الدين عندهم أن عليًا هو الرب، وأن محمداً هو الحجاب، وأن / سلمان هو الباب، وأنشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه في شهور سنة سبع مائة فقال :
أشهد أن لا إله إلا ** حيدرة الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا ** محمد الصادق الأمين(1/282)
ولا طريق إليه إلا ** سليمان ذو القوة المتين
ويقولون : إن ذلك علي هذا الترتيب لم يزل ولا يزال، وكذلك الخمسة الأيتام، والاثنا عشر نقيبا، وأسماؤهم مشهورة عندهم، ومعلومة من كتبهم الخبيثة، وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب في كل كور ودور أبداً سرمداً علي الدوام والاستمرار، ويقولون : إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويليه في رتبة الإبليسية أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ثم عثمان ـ رضي الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلي رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين ـ فلا يزالون موجودين في كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب . ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلي هذه الأصول المذكورة .
وهذه الطائفة الملعونة استولت علي جانب كبير من بلاد الشام وهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب، وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم، ومن عامة الناس أيضا في / هذا الزمان؛ لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين علي البلاد الساحلية، فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم، والابتلاء بهم كثير جداً .(1/283)
فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم، أو يتزوج منهم ؟ وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه، أم لا ؟ وما حكم الجبن المعمول من أنفحة ذبيحتهم ؟ وما حكم أوانيهم وملابسهم ؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين، أم لا ؟ وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم ؟ أم يجب علي ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة، وهل يأثم إذا أخر طردهم ؟ أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك ؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم، وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمي، فأخره ولي الأمر عنه وصرفه علي غيره من المسلمين أو المستحقين، أو أرصده لذلك : هل يجوز له فعل هذه الصور ؟ أم يجب عليه ؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال، أم لا ؟ وإذا جاهدهم ولي الأمر أيده اللّه تعالي بإخماد باطلهم، وقطعهم من حصون المسلمين، وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وألزمهم بالصوم والصلاة، ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار : هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدي والترصد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد / سيس وديار الإفرنج علي أهلها ؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا ؟ ويكون أجر من رابط في الثغور علي ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر، أم هذا أكبر أجرا ؟ وهل يجب علي من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد علي إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم، فلعل الله تعالي أن يهدي بعضهم إلي الإسلام، وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم، أم يجوز التغافل عنهم والإهمال ؟ وما قدر المجتهد علي ذلك، والمجاهد فيه، والمرابط له والملازم عليه ؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء اللّه تعالي، إنه علي كل شيء قدير، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل ؟
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية :(1/284)
الحمد للّه رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود النصاري، بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم علي أمة محمدصلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم؛ فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بملة من الملل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه علي أمور/ يفترونها،يدعون أنها علم الباطن،(1/285)
من جنس ما ذكره السائل، ومن غير هذا الجنس، فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء اللّه تعالي وآياته، وتحريف كلام الله تعالي ورسوله عن مواضعه؛ إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل، ومن جنس قولهم : إن [ الصلوات الخمس ] معرفة أسرارهم، و [ الصيام المفروض ] كتمان أسرارهم، و [ حج البيت العتيق ] زيارة شيوخهم، وأن [ يدا أبي لهب ] هما أبو بكر وعمر، وأن [ النبأ العظيم ] والإمام المبين هو علي بن أبي طالب، ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين؛ كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة،وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالي وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره، وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبينوا فيها ماهم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد، الذي هم به أكفر من اليهود والنصاري، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام . وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم .
ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولي عليها النصاري من جهتهم، وهم دائما مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصاري علي المسلمين . ومن/ أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل، وانقهار النصاري، بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين علي التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولي ـ والعياذ باللّه تعالي ـ النصاري علي ثغور المسلمين؛ فإن ثغور المسلمين مازالت بأيدي المسلمين، حتي جزيرة قبرص يسر اللّه فتحها عن قريب، وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي اللّه عنه ـ فتحها معاوية بن أبي سفيان إلي أثناء المائة الرابعة .(1/286)
فهؤلاء المحادون للّه ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولي النصاري علي الساحل، ثم بسببهم استولوا علي القدس الشريف وغيره؛ فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك، ثم لما أقام اللّه ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل اللّه تعالي كنور الدين الشهيد، وصلاح الدين وأتباعهما، وفتحوا السواحل من النصاري، وممن كان بها منهم، وفتحوا ـ أيضاً ـ أرض مصر، فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصاري، فجاهدهم المسلمون حتي فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية .
ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم؛ فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو [ النصير / الطوسي ] كان وزيرا لهم بالألموت، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء .
ولهم [ ألقاب ] معروفة عند المسلمين، تارة يسمون [ الملاحدة ] ، وتارة يسمون [ القرامطة ] ، وتارة يسمون [ الباطنية ] ، وتارة يسمون [ الإسماعيلية ] ، وتارة يسمون [ النصيرية ] ، وتارة يسمون [ الخُرَّمِيَّة ] ، وتارة يسمون [ المحمرة ] . وهذه الأسماء منها ما يعمهم، ومنها ما يخص بعض أصنافهم، كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه : إما لنسب، وإما لمذهب، وإما لبلد، وإما لغير ذلك .
وشرح مقاصدهم يطول، وهم كما قال العلماء فيهم : ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض . وحقيقة أمرهم : أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين؛ لا بنوح، ولا إبراهيم، ولا موسي، ولا عيسي ولا محمد ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ـ ولا بشيء من كتب اللّه المنزلة؛ لا التورة، ولا الإنجيل، ولا القرآن . ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه، ولا بأن له دينا أمر به، ولا أن له دارا يجزي الناس فيها علي أعمالهم غير هذه الدار .(1/287)
/وهم تارة يبنون قولهم علي مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين، وتارة يبنونه علي قول المجوس الذين يعبدون النور، ويضمون إلي ذلك الرفض .
ويحتجون لذلك من كلام النبوات، إما بقول مكذوب ينقلونه، كما ينقلون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أول ما خلق اللّه العقل ) والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، ولفظه : ( إن اللّه لما خلق العقل، قال له : أقبل، فأقبل . فقال له : أدبر، فأدبر ) فيحرفون لفظه فيقولون : ( أول ما خلق اللّه العقل ) ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل . وإما بلفظ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحرفونه عن مواضعه، كما يصنع أصحاب [ رسائل إخوان الصفا ] ونحوهم، فإنهم من أئمتهم .
وقد دخل كثير من باطلهم علي كثير من المسلمين ، وراج عليهم حتي صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلي العلم والدين، وإن كانوا لا يوافقونهم علي أصل كفرهم؛ فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها [ الدعوة الهادية ] درجات متعددة، ويسمون النهاية [ البلاغ الأكبر والناموس الأعظم ] ، ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالي، والاستهزاء به، وبمن يقر به، حتي قد يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله وفيه ـ أيضًا ـ جحد شرائعه ودينه وما جاء به الأنبياء ، ودعوي أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة، فمنهم من أحسن في طلبها،ومنهم من أساء في/ طلبها حتي قتل، ويجعلون محمدًا وموسي من القسم الأول،ويجعلون المسيح من القسم الثاني . وفيه من الاستهزاء بالصلاة، والزكاة والصوم، والحج، ومن تحليل نكاح ذوات المحارم، وسائر الفواحش، ما يطول وصفه . ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضًا، وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان فقد يخفون علي من لا يعرفهم، وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلاً عن خاصتهم .(1/288)
وقد اتفق علماء المسلمين علي أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم امرأة، ولا تباح ذبائحهم .
وأما [ الجبن المعمول بأنفحتهم ] ففيه قولان مشهوران للعلماء، كسائر أنفحة الميتة، وكأنفحة ذبيحة المجوس، وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم أنهم لايذكون الذبائح . فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين : أنه يحل هذا الجبن؛ لأن أنفحة الميتة طاهرة علي هذا القول؛ لأن الأنفحة لا تموت بموت البهيمة، وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا ينجس . ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى : أن هذا الجبن نجس؛ لأن الأنفحة عند هؤلاء نجسة؛ لأن لبن الميتة وأنفحتها عندهم نجس . ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة . وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة، فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس . وأصحاب القول الثاني / نقلوا أنهم أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصاري . فهذه مسألة اجتهاد؛ للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين .
وأما [ أوانيهم وملابسهم ] فكأواني المجوس وملابس المجوس، علي ما عرف من مذاهب الأئمة . والصحيح في ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها؛ فإن ذبائحهم ميتة، فلابد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك، فأما الآنية التي لا يغلب علي الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التي لا يضعون فيها طبيخهم، أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها، وقد توضأ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من جرة نصرانية فما شك في نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك .(1/289)
ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا يصلي علي من مات منهم؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالي ـ نهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة علي المنافقين؛ كعبد الله بن أبي، ونحوه، وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين، ولا يظهرون مقالةتخالف دين الإسلام، لكن يسرون ذلك، فقال الله : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 84 ] ، فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر، والإلحاد .
وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم، فإنه من الكبائر، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم، فإنهم من أغش الناس / للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس علي فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر؛ فإن المخامر قد يكون له غرض؛ إما مع أمير العسكر، وإما مع العدو . وهؤلاء مع الملة . ونبيها ودينها، وملوكها، وعلمائها، وعامتها، وخاصتها، وهم أحرص الناس علي تسليم الحصون إلي عدو المسلمين، وعلي إفساد الجند علي ولي الأمر، وإخراجهم عن طاعته .
والواجب علي ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر، ولا في غير ثغر؛ فإن ضررهم في الثغر أشد، وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلي استخدامه من الرجال المأمونين علي دين الإسلام، وعلي النصح لله ورسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلمًا، فكيف بمن يغش المسلمين كلهم ؟ !
ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه، بل أي وقت قدر علي الاستبدال بهم وجب عليه ذلك .(1/290)
وأما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم، فلهم إما المسمي وإما أجرة المثل؛ لأنهم عوقدوا علي ذلك . فإن كان العقد صحيحًا وجب المسمي، وإن كان فاسدًا وجبت أجرة المثل، وإن لم يكن استخدامهم من جنس / الإجارة اللازمة فهي من جنس الجعالة الجائزة، لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم، فالعقد عقد فاسد، فلا يستحقون إلا قيمة عملهم، فإن لم يكونوا عملوا عملاً له قيمة فلا شيء لهم، لكن دماؤهم وأموالهم مباحة .
وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء، فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم . ومن لم يقبلها لم تنقل إلي ورثتهم من جنسهم، فإن مالهم يكون فيئًا لبيت المال؛ لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة؛ لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم، وفيهم من يعرف، وفيهم من قد لا يعرف . فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم، فلا يتركون مجتمعين، ولا يمكنون من حمل السلاح، ولا أن يكونوا من المقاتلة، ويلزمون شرائع الإسلام، من الصلوات الخمس، وقراءة القرآن . ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام، ويحال بينهم وبين معلمهم .(1/291)
فإن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وسائر الصحابة لما ظهروا علي أهل الردة، وجاؤوا إليه، قال لهم الصديق : اختاروا إما الحرب المجلية، وإما السلم المخزية . قالوا : يا خليفة رسول الله، هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية . قال : تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ونقسم ما أصبنا من أموالكم، وتردون ما أصبتم من أموالنا، وتنزع منكم الحلقة والسلاح، وتمنعون من ركوب /الخيل،وتتركون تتبعون أذناب الإبل حتي يري الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرًا بعد ردتكم . فوافقه الصحابة علي ذلك، إلا في تضمين قتلي المسلمين، فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال له : هؤلاء قتلوا في سبيل الله فأجورهم علي الله، يعني : هم شهداء فلا دية لهم، فاتفقوا علي قول عمر في ذلك .
وهذا الذي اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء، والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء . فمذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن، كما اتفقوا عليه آخرًا . وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين . ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخري هو القول الأول . فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلي الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه، فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التي تلبسها المقاتلة، ولا يترك في الجند من يكون يهوديا ولا نصرانيا . ويلزمون شرائع الإسلام حتي يظهر ما يفعلونه من خير أو شر . ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم، وسير إلي بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور . فإما أن يهديه الله تعالي، وإما أن يموت علي نفاقه من غير مضرة للمسلمين .(1/292)
ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق / وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه . وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين . وحفظ رأس المال مقدم علي الربح .
وأيضًا فضرر هؤلاء علي المسلمين أعظم من ضرر أولئك، بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين علي كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب .
ويجب علي كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب، فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم، ولا يحل لأحد أن يعاونهم علي بقائهم في الجند والمستخدمين، ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله، ولا يحل لأحد أن ينهي عن القيام بما أمر الله به ورسوله؛ فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالي، وقد قال الله تعالي لنبيه صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التحريم : 9 ] ، وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين .(1/293)
والمعاون علي كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالي؛ فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم؛ كما قال الله / تعالي : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ، قال أبو هريرة : كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في القيود والسلاسل حتي تدخلوهم الإسلام . فالمقصود بالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر : هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان، فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة، ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره .(1/294)
ومعلوم أن الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أفضل الأعمال، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله تعالي ) . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلي الدرجة كما بين السماء إلي الأرض، أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ) ، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وجري عليه عمله، وأجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتنة . والجهاد أفضل من الحج والعمرة، كما قال تعالي : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 19 : 22 ] ، والحمدلله رب العالمين، وصلاته وسلامه علي خير خلقه سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين .(1/295)