محنة ابن تيمية
يرويها بنفسه يوما بيوم
مع مدائح الشيخ ومراثيه وثناء العلماء عليه
جمع وتحقيق :
محمد عبد الحكيم القاضي
" ما يصنع أعدائي بي ؟
أنا جنتي وبستاني في صدري ؛ أين رحت فهي معي ، لا تفارقني :
أنا حبسي خلوة
وقتلي شهادة
وإخراجي من بلدي سياحة .. "
" المحبوس من حُبس قلبُه عن ربه ، والمأسور منَ أسره هواه "
……شيخ الإسلام ابن تيمية
" ما رأينا أفتى (1) من ابن تيمية ؛ سعينا في دمه ، فلما قدر علينا عفا عنا "
…………ابن مخلوف القاضي
من الشعر المنسوب لشيخ الإسلام رحمه الله :
====================================
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَل
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَولِه لا يَنْثَني عَنهُ ولا يَتَبَدَّل
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلُّهُمْ لي مَذْهَبٌ وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّل
وَلِكُلِّهِمْ قَدْرٌ وَفَضْلٌ ساطِعٌ لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَل
وأُقِرُّ بِالقُرآنِ ما جاءَتْ بِهً آياتُهُ فَهُوَ القَديمُ المُنْزَلُ
وجميعُ آياتِ الصِّفاتِ أُمِرُّها حَقاً كما نَقَلَ الطِّرازُ الأَوَّلُ
وأَرُدُّ عُقْبَتَها إلى نُقَّالِها وأصونُها عن كُلِّ ما يُتَخَيَّلُ
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ الكِّتابَ وراءَهُ وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ قالَ الأخطَلُ
والمؤمنون يَرَوْنَ حقاً ربَّهُمْ وإلى السَّماءِ بِغَيْرِ كَيْفٍ يَنْزِلُ
وأُقِرُ بالميزانِ والحَوضِ الذي أَرجو بأنِّي مِنْهُ رَيّاً أَنْهَلُ
وكذا الصِّراطُ يُمَدُّ فوقَ جَهَنَّمٍ فَمُوَحِّدٌ نَاجٍ وآخَرَ مُهْمِلُ
والنَّارُ يَصْلاها الشَّقيُّ بِحِكْمَةٍ وكذا التَّقِيُّ إلى الجِنَانِ سَيَدْخُلُ
ولِكُلِّ حَيٍّ عاقلٍ في قَبرِهِ عَمَلٌ يُقارِنُهُ هناك وَيُسْأَلُ
هذا اعتقادُ الشافِعيِّ ومالكٍ وأبي حنيفةَ ثم أحمدَ يَنْقِلُ
فإِنِ اتَّبَعْتَ سبيلَهُمْ فَمُوَحِّدٌ وإنِ ابْتَدَعْتَ فَما عَلَيْكَ مُعَوَّلًًًً(1/1)
( بسم الله الرحمن الرحيم (
ترجمة
ابن تيمية
رحمه الله تعالى
وقد اخترناها من كتاب الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه :
الذيل على طبقات الحنابلة
لابن رجب الحنبلي
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم ابن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني ، ثم الدمشقي ، الإمام الفقيه ، المجتهد المحدث ، الحافظ المفسر ، الأصولي الزاهد . تقي الدين أبو العباس ، شيخ الإسلام وعلم الأعلام ، وشهرته تغنى عن الإطناب في ذكره ، والإسهاب في أمره .
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى ستين وستمائة بحران .
وقدم به والده و بإخواته إلى دمشق ، عند استيلاء التتر على البلاد ، سنة سبع وستين
فسمع الشيخ بها من ابن عبد الدايم ، وابن أبي اليسر ، وابن عبد ، والمجد ابن عساكر ، ويحيى بن الصيرفي الفقيه ، وأحمد بن أبي الخير الحداد ، والقاسم الأربلي ، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر ، ولمسلم بن علان ، وإبراهيم بن الدرجي ، وخلفه كثير .(1/2)
وعني بالحديث وسمع " المسند " مرات ، والكتب الستة ، ومعجم الطبراني الكبير ، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء . وقرأ بنفسه ، وكتب بخطه جملة من الأجزاء ، وأقبل على العلوم في صغره . فأخذ الفقه والأصول . عن والده ، وعن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر ، والشيخ زين الدين بن المنجا . وبرع في ذلك ، وناظر . وقرأ في العربية أياماً على سليمان بن عبد القوى ، ثم أخذ كتاب سيبويه ، فتأمله ففهمه . وأقبل على تفسير القرآن الكريم ، فبرز فيه ، وأحكم أصول الفقه ، والفرائض ()2 ، والحساب والجبر والمقابلة ، وغير ذلك من العلوم ، ونظر في علم الكلام الفلسفة ، وبرز في ذلك على أهله ، ورد على رؤسائهم وأكابرهم ، ومهر في هذه الفضائل ، وتأهل للفتوى و التدريس ، وله دون العشرين سنة ، وأفتى من قبل العشرين أيضاً ، وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ ، وقوة الإدراك والفهم ، وبطء النسيان ، حتى قال غير واحد : إنه لم يكن يحفظ شيئاً فينساه .
ثم توفى والده إحدى وعشرين سنة . فقام بوظائفه بعده . فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين وستمائة .
وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكى ، والشيخ تاج الدين الغزاري ، وزين الدين بن المرجل ، والشيخ زين الدين المنجا ، وجماعة ، وذكر درساً عظيماً في البسملة . وهو مشهور بين الناس ، وعظمه الجماعة الحاضرون ، وأثنوا عليه ثناءً كثيراً .
قال الذهبي : وكان الشيخ تاج الدين الغزاري ، يبالغ في تعظيمه الشيخ تقي الدين ، بحيث إنه علق بخطه درسه بالسكرية ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع ، لتفسير القرآن العظيم ، وشرع من أول القرآن . فكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر ، وبقي يفسر في سورة نوح ، عدة سنين أيام الجمع .
وفي سنة تسعين : ذكر على الكرسي يوم جمعة شيئاً من الصفات ، فقام بعض المخالفين ، وسعوا في منعه من الجلوس ، فلم يمكنهم ذلك .(1/3)
وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخوي : أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين ، فعوقب في ذلك . فقال : لأن ذهنه صحيح ، ومواده كثيرة ، فهو لا يقول إلا الصحيح .
وقال الشيخ شرف الدين المقدسي : أنا أرجو بركته ودعاءه ، وهو صاحبي ، وأخى . ذكر ذلك البرزالي في تاريخه .
وشرع في الجمع والتصنيف ، من دون العشرين ، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره . سمع الحديث ، وأكثر بنفسه من طلبه ، وكتب وخرج ، ونظر في الرجال والطبقات ، وحصل ما لم يحصله غيره . برع في تفسير القرآن ، وغاص في دقيقة معانيه بطبع سيال ، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال ، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها . وبرع في الحديث وحفظه ، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث ، معزوا إلى أصوله و صحابته ، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل ، وفاق الناس في معرفة الفقه ، واختلاف المذاهب ، وفتاوى الصحابة والتابعين ، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب ، بل يقوم بما دليله عنده . وأتقن العربية أصولاً وفروعاً ، وتعليلاً واختلافاً . ونظر في العقليات ، وعرف أقوال المتكلمين ، ورد عليهم ، ونبه على خطئهم ، وحذر منهم . ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين . وأوذي في ذات الله من المخالفين ، وأضيف في نصر السنة المحضة ، حتى أعلى الله منارة ، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له ، وكتب أعداه ، وهدي به رجالاً من أهل الملل والنحل ، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً ، وعلى طاعته ، وأحي به الشام ، بل والإسلام ، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولى الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم ، فظنت بالله الظنون ، وزلزل المؤمنون ، واشرأب النفاق وأبدى صفحته . ومحاسنه كثيرة ، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي ، فلو حلفت بين الركن والمقام ، لحلفت : أنى ما رأيت بعيني مثله ، وأنه ما رأى مثل نفسه .(1/4)
وقد قرأت بخط الشيخ العلامة شيخنا كما الدين ابن الزملكاني ، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم . " ابن تيمية " كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي و السامع : أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله . وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذهبهم أشياء ، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع منه ، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه أهله ، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها .
وقال الذهبي في معجمه المختصر : كان إماماً متجراً في علوم الديانة ، صحيح الذهن ، سريع الإدراك ، سيال الفهم ، كثير المحاسن ، موصوفاً بفرط الشجاعة والكرم ، فارغاً عن شهوات المأكل والملبس والجماع ، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه . والعمل بمقتضاه .
قلت : وقد عرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين ومشيخة الشيوخ ، فلم يقبل شيئاً من ذلك . قرأت ذلك بخطه .
قال الذهبي : ذكره أبو الفتح اليعمري الحافظ - يعنى ابن سيد الناس - في جواب سؤالات أبي العباس الدمياطي الحافظ ، فقال : ألفيته ممن أدرك من العلوم حظا . وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً ، إن تكلم في التفسير فهو حامل رأيته ، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته ، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه ، وذو روايته ، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته ، ولا أرفع من درايته ، برز في كل فن على أبناء حسنه ، ولم ترعين من رآه مثله ، ولا رأت عينه مثل نفسه .(1/5)
وقد كتب الذهبي في تاريخه الكبير للشيخ ترجمة مطولة ، وقال فيها : وله خبرة تامة بالرجال ، وجرحهم وتعديلهم . وطبقاتهم ، ومعرفة بفنون الحديث ، وبالعالي والنازل ، والصحيح والسقيم ، مع حفظة لمتونه ، الذي أنفرد به ، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ، ولا يقاربه ،و هو عجيب في استحضاره ، واستخراج الحجج منه ، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة ، والمسند ، بحيث يصدق عليه أن يقال : كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث .
وقال : ولما كان معتقلاً بالإسكندرية : التمس منه صاحب سبتة أن يجيز لأولاده ، فكتب لهم في ذلك نحواً من ستمائة سطر ، منها سبعة أحاديث بأسانيدها ، والكلام على صحتها ومعانيها ، وبحث وعمل ما إذا نظر فيه المحدث خضع له من صناعة الحديث . وذكر أسانيده في عدة كتب . ونبه على العوالى . عمل ذلك كله من حفظه ، من غير أن يكون عنده ثبت أو من يراجعه .
ولقد كان عجيباً في معرفة علم الحديث . فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والسند : فما رأيت من يدانيه في ذلك أصلاً .قال : وأما التفسير فمسلم إليه ، وله من استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة . وإذا رآه المقرئ تحير فيه . ولفرط إمامته في التفسير ، وعظم إطلاعه . يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين . ويوهي أقولا عديدة . وينصر قولا واحداً ، موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث . ويكتب في اليوم والليلة من التفسير ، أو من الفقه ، أو من الأصلين ، أو من الرد على الفلاسفة والأوائل : نحواً من أربعة كراريس أو أزيد . قلت : وقد كتب " الحموية " في قعدة واحدة . وهي أزيد من ذلك . وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلد .(1/6)
وكان رحمه الله فريد دهره في فهم القرآن ، ومعرفة حقائق الإيمان . وله يد طولي في الكلام على المعارف والأحوال والتمييز بين صحيح ذلك الزملكاني بخطه على كتاب " إبطال التحليل " للشيخ ترجمة لكتاب واسم الشيخ . وترجم له ترجمة عظيمة . وأثنى عليه ثناء عظيماً .
وكتب أيضاً تحت ذلك :
ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهرة أنوارها أربت على الفجر
وللشيخ أثير الدين أبي حيان الأندلس النحوي - لما دخل الشيخ مصر واجتمع به - ويقال : إن أبا حيان لم يقل أبياتا خيرا منها ولا أفحل :
لما رأينا تقي الدين لاح لنا داع إلى الله فرداً ، ماله وزر على محياه من سيما الأولى صحبوا خير البرية نور دونه القمر
خبر تسر بل منه دهره صبرا بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا مقام سيد تيم إذ عصت مضر فأظهر الدين إذ آثاره درست وأخمد الشرك إذ طارت له شرر
يا من تحدث عن علم الكتاب أصخ هذا الإمام الذي قد كان ينتظر
وحكى الذهبي عن الشيخ : أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قال له - عند اجتماعه به وسماعه لكلامه - : ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك
ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ أبي عبد الله الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين المذكور أما قول سيدي في الشيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره . و زخارة بحره وتوسعه في الشرعية والعقلية . وفرط ذكائه واجتهاده . وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف . والمملوك يقول ذلك دائماً . وقدره في نفس أكبر من ذلك وأجل . مع ما جمعه الله له من الزهاده والورع والديانة . ونصرة الحق . والقيام فيه لا نعرض سواه . وجريه على سنن السلف . وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى . وغرابة مثله في هذا الزمان . بل من أزمان .(1/7)
وكان الحافظ أبو الحجاج المزي : يبالغ في تعظيم الشيخ والثناء عليه ، حتى كان يقول : لم ير مثله منذ أربعمائة سنة .
وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني : أنه سئل عن الشيخ ؟ فقال : لم ير من خمسمائة سنة ، أو أربعمائة سنة . الشك من الفاقل . وغالب ظنه : أنه قال : من خمسمائة - أحفظ منه .
وكذلك كان أخوه الشيخ شرف الدين يبالغ في تعظيمه جداً وكذلك المشايخ العارفون ، كالقدوة أبي عبد الله محمد بن قوام ويحكي عنه أنه كان يقول : ما أسلمت معارفنا إلا على يد ابن تيمية .
والشيخ عماد الدين الواسطى كان يعظمه جداً ، وتتلمذ له ، مع أنه كان أ سس منه . وكان يقول : قد شارف مقام الأئمة الكبار ، ويناسب قيامه في بعض الأمور قيام الصديقين .
وكتب رسالة إلى خواص أصحاب الشيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه ، ويعرفهم حقوقه ، ويذكر فيها : أنه طاف أعيان بلاد الإسلام ، ولم ير فيها مثل الشيخ علماً وعملاً ، وحالاً وخلقا واتباعا وكرما وحلما في حق نفسه ، وقياما في حق الله تعالى ، عند انتهاك حرماته . وأقسم على ذلك بالله ثلاث مرات .
ثم قال : أصدق الناس عقداً ، وأصحهم علما وعزما ، وأنقذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه ، وأسخاهم كفا ، وأكملهم اتباعا لنبيه محمد ( . ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل ، بحيث يشهد القلب الصحيح . أن هذا هو الاتباع حقيقة .
ولكن كان هو وجماعة من خواص أصحابه ربما أنكروا من الشيخ كلامه في بعض الأئمة الأكابر الأعيان ، أو في أهل التخلي والانقطاع ونحو ذلك .
وكان الشيخ رحمه الله لا يقصد بذلك إلا الخير ، والانتصار للحق إن شاء الله تعالى .(1/8)
وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقائهم : كانوا يحبون الشيخ و يعظمونه ، ولم يكونوا يحبون له التوغل مع أهل الكلام و لا الفلاسفة ، كما هو طريقة أئمة أهل الحديث المتقدمين ، كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم ، وكذلك كثير من العلماء من الفقهاء والمحدثين والصالحين كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل التي أنكرها السلف على من شذ بها ، حتى إن بعض قضاة العدل من أصحابنا منعه من الإفتاء ببعض ذلك .
قال الذهبي : وغالب خطه على الفضلاء و المتزهده فبحق ، وفي بعضه هو مجتهد ، ومذهبه توسعة العذر للخلق ، ولا يكفر أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه .
قال : ولقد نصر السنة المحضة ، والطريقة السلفية ، واحتج لها ببراهين ومقدمات ، وأمور لم يسبق إليها ، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا ، وجر هو عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه ، وبدعوه وناظروه وكابروه ، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي ، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده ، وحده ذهنه ، وسعة دائرته في السنن والأقوال ، مع ما اشتهر عنه من الورع ، وكمال الفكر ، وسرعة الإدراك ، والخوف من الله ، و التعظيم لحرمات الله .
فجرى بينه وبينهم حملات حربية ، ووقعات شامية ومصرية ، وكم من نوبة قدرموه عن قوس واحدة ، فينجيه الله . فإنه دائم الابتهال ، كثير الاستغاثة ، والاستعانة به قوى التوكل ، ثابت الجأس ، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية . وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء ، ومن الجند والأمراء ومن التجار والكبراء ، وسائر العامة تحبه ؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً ، بلسانه وقلمه .(1/9)
وأما شجاعته : فبها تضرب الأمثال ، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال . ولقد أقامه لله تعالى في نوبة قازان . والتقى أعباء الأمر بنفسه . وقام وقعد وطلع ، ودخل وخرج ، واجتمع بالملك - يعنى قازان - مرتين ، وبقطلوا شاه ، وبولاى . وكان قيجق يتعجب من إقدامه وجرائته على المغول .
وله حده قوية تعتريه في البحث ، حتى كأن ليث حرب . وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته . وفيه قلة مدارة ، وعدم تؤدة غالبا ، والله يغفر له . وله إقدام و شهامة ، وقوة نفس توقعه في أمور صعبة ، فيدفع الله عنه .
وله نظم قليل وسط ، ولم يتزوج ، ولا تسرى ، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل . وأخوه يقوم بمصالحه ، ولا يطلب منهم غذاء ولا عشاء في غالب الوقت .
وما رأيت في العالم أكرم منه ، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم ، لا يذكره ، ولا أظنه يدور في ذهنه . وفيه مروءة ، وقيام مع أصحابه ، وسعى في مصالحهم . وهو فقير لا مال له . وملبوسه كآحاد الفقهاء : فَرَّجِيَّه ، ودلق ، وعمامة تكون قيمة ثلاثين درهما ، ومداس ضعيف الثمن . وشعره مقصوص .
وهو ربع القامة ، بعيد ما بين المنكبين ، كأن عينيه لسانان ناطقان ، ويصلي بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجود . وربما قام لمن يجئ من سفر أو غاب عنه ، وإذا جاء فربما يقومون له ، الكل عنده سواء ، كأنه فارغ من هذه الرسوم ، ولن ينحن لأحد قط ، وإنما يسلم ويصافح ويبتسم . وقد يعظم جليسه مرة ، ويهينه في المحاورة مرات .(1/10)
قلت : وقد سافر الشيخ مرة على البريد إلى الديار المصرية يستنفر السلطان عند مجئ التترسنة من السنين ، وتلا علهم آيات الجهاد ، وقال : إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله والذب عنهم ، فإن الله تعالى يقيم لهم من ينصرهم غيركم ، ويستبدل بكم سواكم . وتلا قوله تعالى ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( (3) وقوله تعالى ( إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً و يستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئا ( (4)
وبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد - وكان هو القاضي حينئذ - فاستحسن ذلك ، وأعجبه هذا الاستنباط وتعجب من مواجهة الشيخ للسلطان بمثل هذا الكلام .
محنة
شيخ الإسلام - رحمه الله
وأما محن الشيخ : فكثيرة ، وشرحها يطول جداً .
وقد اعتقله مرة بعض نواب السلطان بالشام قليلا ، بسبب قيامه على نصراني سب الرسول ( واعتقل معه الشيخ زين الدين الفاروقي ، ثم أطلقهما مكرمين
تصنيف الحموية
وبداية المحنة
ولما صنف المسألة " الحموية " في الصفات : شنع بها جماعة ، ونودي عليها في الأسواق على قصبة ، وأن لا يستفتي من جهة بعض القضاة الحنفية . ثم انتصر للشيخ بعض الولاة ، ولم يكن في البلد حينئذ نائب ، وضرب المنادي وبعض من معه ، وسكن الأمر .
تاريخ المحنة
وأهم ما وقع بها
ثم امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان ؟ فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر ، وأحضر الشيخ ، وسأله عن ذلك ؟ فبعث الشيخ من أحضر من داره " العقيدة الواسطية " فقرءوها في ثلاث مجالس ، وحاققوه ، و بحثوا معه ، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سنية سلفية ، فمنهم من قال ذلك طوعاً ، ومنهم من قاله كرها وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه : إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف .(1/11)
ثم إن المصريين دبروا الحيلة في أمر الشيخ ، ورأوا أنه لا يمكن البحث معه ، ولكن يعقد له مجلس ، ويدعى عليه ، وتقام عليه الشهادات . وكان القائمون في ذلك منهم : بيبرس الجاشنكير ، الذي تسلطن بعد ذلك ، ونصر المنبجي وابن مخلوف قاضي المالكية ، فطلب الشيخ على البريد إلى القاهرة ، وعقد له ثاني يوم وصوله - وهو ثاني عشرين رمضان سنة خمس وسبعمائة - مجلس بالقلعة ، وادعى عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية ، أنه يقول : أن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت وأنه على العرش بذاته ، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية .
وقال المدعى : أطلب تعزيره على ذلك ، التعزير البليغ - يشير إلى القتل على مذهب مالك - فقال القاضي : ما تقول يا فقيه : أأمنع من الثناء على الله تعالى ؟ فقال القاضي : أجب ، فقد حمدت الله تعالى . فسكت الشيخ ، فقال : أجب . فقال الشيخ له : من هو الحاكم في ؟ فأشاروا : القاضي هو الحاكم ، فقال الشيخ لابن مخلوف : أنت خصمي ، كيف تحكم في ؟ وغضب ومراده : إني وإياك متنازعان في هذه المسائل ، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها ؟ فأقيم الشيخ ومعه أخواه ، ثم رد الشيخ ، وقال رضيت أن تحكم في ، فلم يمكن من الجلوس ، ويقال : إن أخاه الشيخ شرف الدين ابتهل ، ودعا الله عليهم في حال خروجهم ، فمنعه الشيخ ، وقال له : بل قل : اللهم هب لهم نورا يهتدون به إلى الحق .
ثم حبسوا في برج أياما ، ونقلوا إلى الجب ليلة عيد الفطر ، ثم بعث كتاب سلطاني إلى الشام بالحط على الشيخ ، والزم الناس - خصوصاً أهل مذهبه - بالرجوع عن عقيدته ، والتهديد بالعزل والحبس ، ونودي بذلك في الجامع والأسواق . ثم قرئ الكتاب بسدة الجامع بعد الجمعة ، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة ، وحبس بعضهم ، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع . وكان قاضيهم الحراني قليل العلم .(1/12)
ثم في سلخ رمضان سنة ست : أحضر سلار - نائب السلطان بمصر - القضاة والفقهاء ، وتكلم في إخراج الشيخ ، فاتفقوا على أنه يشترط إليه من يحضره ، وليتكلموا معه في ذلك ، فلم يجب إلى الحضور ، وتكرر الرسول إليه في ذلك ست مرات ، وصمم على عدم الحضور ، فطال عليهم المجلس ، فانصرفوا من غير شيء .
ثم في آخر هذه السنة وصل كتاب إلى نائب السلطنة بدمشق من الشيخ ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه ، وأثنى عليه : وقال ما رأيت مثله ، ولا أشجع منه وذكر ما هو عليه في السجن : من التوجه إلى الله تعالى ، وأنه لا يقبل شيئاً من الكسوة السلطانية ، ولا من الأدوار السلطاني ، ولا تدنس بشيء من ذلك .
ثم في ربيع الأول من سنة سبع وسبعمائة دخل مهنا بن عيسى أمير العرب إلى مصر ، وحضر بنفسه إلى السجن ، وأخرج الشيخ منه ، بعد أن استأذن في ذلك ، وعقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء ، وانفصلت على خير .
وذكر الذهبي والبرزالى وغيرهما : أن الشيخ كتب لهم بخطه مجملا من القول وألفاظاً فيها بعض ما فيها ، لما خاف وهدر بالقتل ، ثم أطلق وامتنع من المجئ إلى دمشق . وأقام بالقاهرة يقرئ العلم ، ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة ، ويجتمع عليه خلق .
ثم في شوال من السنة المذكورة : اجتمع جماعة كثيرة من الصوفية ، وشكوا من الشيخ إلى الحاكم الشافعي ، وعقد له مجلس لكلامه في ابن عربي وغيره ، وادعى عليه ابن عطاء بأشياء ، ولم يثبت منها شيئاً ، لكنه اعترف أنه قال : لا يستغاث بالنبي ( ، استغاثة بمعنى العبارة ولكن يتوسل به ، فبعض الحاضرين قال : ليس في هذا شيء .
ورأى الحاكم ابن جماعة : أن هذا إساءة أدب ، وعنفه على ذلك ، فحضرت رسالة إلى القاضي : أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك ، فقال القاضي : قلت له ما يقال لمثله .(1/13)
ثم إن الدولة خيروه بين أشياء ، وهي الإقامة بدمشق ، أو بالإسكندرية ، بشروط ، أو الحبس ، فاختار الحبس . فدخل عليه أصحابه في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط عليه ، فأجابهم ، فأركبوه خيل البريد ، ثم ردوه في الغد ، وحضر عند القاضي بحضور جماعة من الفقهاء ، فقال له بعضهم : ما ترضى الدولة إلا بالحبس فقال القاضي : وفيه مصلحة له ، واستناب التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس ، فامتنع ، وقال : ما ثبت عليه شيء ، فأذن لنور الدين الزواوي المذكور : فيكون في موضع يصلح لمثله ، فقيل له : ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس ، وأذن أن يكون عنده من يخدمه . وكان جميع ذلك بإشارة نصر المنبجي .
واستمر الشيخ في الحبس يستفتى ويقصده الناس ، ويزورونه ، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس .
وكان أصحابه يدخلون عليه أولاً سراً ، ثم شرعوا يتظاهرون بالدخول عليه ، فأخرجوه في سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر ، إلى الإسكندرية على البريد ، وحبس فيها في برج حسن مضيء متسع ، يدخل عليه من شاء ، ويمنع هو من شاء ، ويخرج إلى الحمام إذا شاء . وكان قد أخرج وحده ، وأرجف الأعداء بقتله وتفريقه غير مرة ، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره ، وكثر الدعاء له . وبقي في الإسكندرية مده سلطنة المظفر .(1/14)
فلما عاد الملك الناصر إلى السلطنة وتمكن ، وأهلك المظفر ، وحمل شيخه نصر المنجبى ، واشتدت موجدة السلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر ، وعزل بعضهم : بادر بإحضار الشيخ إلى القاهرة مكرماً في شوال سنة تسع وسبعمائة ، وأكرمه السلطان إكراما زائدة ، وقام إليه ، وتلقاه في مجلس حفل ، فيه قضاة المصريين و الشاميين ، و الفقهاء وأعيان الدولة ، وزاد في إكرامه عليهم ، وبقى يُسارّه ويستشير سويعة ، أثنى عليه بحضورهم ثناء كثيرا ، وأصلح بينه وبينهم ، و يقال : إنه شاورهم في أمرهم به في حق القضاة ، فصرفه عن ذلك ، وأثنى عليهم ، وأن ابن مخلوف كان يقول : ما رأينا أفتى من ابن تيمية ، سعينا في دمه ، فلما قدر علينا عفا عنا .
واجتمع بالسلطان مرة ثانية بعد أشهر ، و سكن الشيخ بالقاهرة ، والناس يترددون إليه ، والأمراء والجند ، وطائفة من الفقهاء ، ومنهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع .
قال الذهبي : وفي شعبان سنة إحدى عشرة : وصل النبأ : أن الفقيه البكري - أحد المبغضين للشيخ - استفرد بالشيخ بمصر ، ووثب عليه ، ونتش بأطواقه وقال : احضر معي إلى الشرع ، فلي عليك دعوى ، فلما تكاثر الناس انملص ،فطلب من جهة الدولة ، فهرب واختفى0
وذكر نميره :أنه ثار بسبب ذلك فتنة ،وأراد جماعة الانتصار من البكري فلم يمكنهم الشيخ من ذلك 0
واتفق بعد مدة : أن البكري هم السلطان بقتله ، ثم رسم بقطع لسانه ؛ لكثرة فضوله وجراءته ، ثم شفع فيه ، فنفى إلى الصعيد ، ومنع من الفتوى بالكلام في العلم . وكان الشيخ في هذه المدة يقرئ العلم ، و يجلس للناس في مجالس عامة .
قدم إلى الشام هو واخوته سنة اثنتي عشرة بنية الجهاد ، لما قدم السلطان لكشف التتر عن الشام . فخرج مع الجيش ، وفارقهم من عسقلان ، وزار البيت المقدس .(1/15)
ثم دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين ، ومعه أخواه وجماعة ، وخرج خلفه كثير لتلقيه ، وسر الناس بمقدمه ، و استمر على ما كان عليه أولاً ، من إقراء العلم ، وتدريسه بمدرسة السكرية ، والحنبلية وإفتاء الناس ونفعهم .
ثم في سنة ثمان عشرة : ورد كتاب من لسلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير ، وعقد له مجلس بدار السعادة ، ومنع من ذلك ، ونودي به في البلد ، ثم في سنة تسع عشرة عقد له مجلس أيضاً كالمجلس الأول ، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذلك ، وعوتب على فتياه بعد المنع ، وانفصل المجلس على تأكيد المنع .
ثم بعد مدة عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك ، وعوتب وحبس بالقلعة ، ثم حبس لأجل ذلك مرة أخرى ، ومنع بسببه من الفتيا مطلقاً ، فأقام مدة يفتى بلسانه ، ويقول : لا يعنى كتم العلم .
وفي آخر الأمر : دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى القبور الأنبياء والصالحين ، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء ، وذلك كفر ، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء ، وهم ثمانية عشر نفسا ، رأسهم القاضي الإصناني المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه ، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهراً . و بهامات رحمه الله : أن ما حكم عليه به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة جداً ، وأفتى جماعة بأنه يخطئ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم ، ووافقه جماعة من علماء بغداد ، وغيرهم . وكذلك ابنى أبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أفتيا : أنه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلا ، وأنه نقل خلاف العلماء في المسألة ، ورجح أحد القولين فيها .
وبقى مدة في القلعة يكتب العلم ويصنفه ، وبرسل إلى أصحابه الرسائل ، ويذكر ما فتح الله به عليه في هذه المرة من العلوم العظيمة ، والأحوال الجسيمة .(1/16)
وقال : قد فتح الله على في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن ، ومن أصول العلم بأشياء ، كان كثير من العلماء يتمنونها ، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن ، ثم إنه منع من الكتابة ، ولم يترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق ، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر .
قال شيخنا أبو عبد الله ابن القيم : سمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ، نور ضريحه يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخل جنة الآخرة قال : وقال لي مرة : ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي و بستاني في صدري ، أين رحت فهي معي ، لا تفارقني ، أنا حبسي خلوة . قتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة .
وكان في حبسه في القلعة يقول : لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة - أو قال : ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير - ونحو هذا .
وكان يقول في سجوده ، وهو محبوس : اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، ما شاء الله .
وقال مرة : المحبوس من حبس قلبه عن ربه ، و المأسور من أسره هواه .
ولما دخل إلى القلعة ، وسار داخل سوارها نظر إليه وقال : ( فضرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ( (5)
قال شيخنا : وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشاً منه قط ، مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف وهو مع ذلك أطيب الناس عيشا ، وأشرحهم صدرا ، وأقواهم قلبا ، تلوح نضرة النعيم على وجهه . وكنا إذا اشتد بنا الخوف و ساءت بنا الظنون ، وضاقت بنا الأرض : أتيناه ، فما هو إلا أن نراه ، ونسمع كلامه ، فيذهب عنا ذلك كله ،وينقلب إنشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة . فسبحان ما شهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل ،فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها ، والمسابقة إليها
مصنفاته :(1/17)
وأما تصانيفه رحمه الله :فهي أشهر من أن تذكر ، وأعرف من أن تنكر . سارت مسير الشمس في الأقطار ، وامتلأت بها البلاد والأمصار . قد جاوزت حد الكثرة ، فلا يمكن أحد حصرها ، ولا يتسع هذا المكان لعد المعروف منها ولا ذكرها .
ولنذكر نبذه من أسماء أعيان المصنفات الكبار : كتاب " الإيمان " مجلد ، كتاب " الاستقامة " مجلدان " جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوى الحموية " أربع مجلدات كتاب " تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية " في ست مجلدات كبار ، كبار " المحنة المصرية " مجلدان " المسائل الاسكندرانية " مجلد " الفتاوى المصرية " سبع مجلدات .(1/18)
وكل هذه التصانيف ما عدا كتاب " الإيمان " كتبه وهو بمصر في مدة سبع سنين صنفها في السجن . وكتب معها أكثر من مائة لفة ورق أيضاً ، كتاب " درء تعارض العقل والنقل " أربع مجلدات كبار . والجواب عما أورده للشيخ كمال الدين بن الشريشي على هذا الكتاب ، نحو مجلد كتاب . " منهاج السنة النبوية في نقص كلام الشيعة والقدرية " أربع مجلدات " الجواب الصحيح لمن بدل كلام المسيح " مجلدان " شرح أول المحصول للرازي " مجلد " شرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي " مجلدان " الرد على المنطق " مجلد كبير " الرد على البكري في مسألة الاستغاثة " مجلد " الرد على أهل كسروان الروافض " مجلدان " الصفدية " ، " جواب من قال : إن معجزات الأنبياء قوي نفسانية " مجلد " الهلدونية " مجلد " شرح عقيدة الأصبهاني " مجلد " شرح العمدة " للشيخ موفق الدين ، كتب منه نحو أربع مجلدات " تعليقه على المحرر " في الفقه لجده عدة مجلدات " الصارم المسلول على شاتم الرسول مجلد ، | بيان الدليل على بطلان التحليل " مجلد " اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم " مجلد " التحرير في مسألة حفير " مجلد في مسألة من القسمة ، كتبها اعتراضاً على الخوى في حادثة حكم فيها " الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق " ثلاث مجلدات ، كتاب " تحقيق الفرقان بين التطليق والإيمان " مجلد كبير " الرد على الأحنافي في مسألة الزيارة "مجلد . وأما القواعد المتوسطة و الصغار وأجوبة الفتاوى : فلا يمكن الإحاطة بها ، لكثر وانتشار وتفرقها . ومن أشهرها " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " مجلد لطيف " الفرقان بين الحق والبطلان مجلد لطيف " الفرقان بين الطلاق والإيمان " مجلد لطيف " السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية " مجلد لطيف " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " مجلد لطيف .
ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه :(1/19)
اختار ارتفاع الحدث بالمياه المتعصرة ، كماء الورد ونحوه ، واختار جواز المسح على النعلين ، والقدمين ، وكل ما يحتاج في نزعه من الرجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الأخر فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين .
واختار أن المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة ، كالمسافر علي البريد ونحوه ، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد و يتوقف مع إمكان النزع وتيسره .
واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها .
واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حقه غير المعذور ، كمن أخر الصلاة عمداً حتى تضايق وقتها . وكذا من خشي فوات الجمعة و العيدين وهو محدث . فأما من استيقظ أو ذكر في أخر وقت الصلاة : فإنه يتطهر بالماء ويصلي ، لأن الوقت متسع في حقه
واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت ، أو شق عليها النزول إلى الحمام وتكرره : أنها تيمم وتصلي .
واختار أن لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره ، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين ، ولا لسن الإياس من الحيض وأن ذلك راجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها .
واحتار أن تارك الصلاة عمداً : لا يجب عليه القضاء و لا يشرع له . بل يكثر من النوافل . وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله ، وأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة
ذكر وفاته
مكث الشيخ في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين ، ثم مرض بضعه وعشرين يوماً ، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه ولم يفجأهم إلا موته .
وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة .
وذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع ، وتكلم به الحرس على الأبراج ، فتسامع الناس بذلك ، وبعضهم أعلم به في منامه ، وأصبح الناس ، واجتمعوا حول القلعة حتى أهل الغوطة والمرج ، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئاً ، ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أول النهار . وفتح باب القلعة .(1/20)
وكان نائب السلطنة غائباً عن البلد ، فجاء الصاحب إلى نائب القلعة ، فعزاه به وجلس عنده ، واجتمع عند الشيخ في القلعة خلف كثير من أصحابه ، يبكون ويثنون ، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرحمن : أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمه ، و شرعا في الحادية والثمانين ، فانتهيا إلى قوله تعالى ( إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ( . (6)
فشرع حينئذ الشيخان الصالحان : عبد الله بن المحب الصالحي ، والزرعي الضرير - وكان الشيخ يحب قراءتهما - فابتدأ من سورة الرحمن حتى ختما القرآن . وخرج الرجال ودخل النساء من أقارب الشيخ ، فشاهدوه ثم خرجوا ، واقتصروا على من يغسله ، و يساعد على تغسليه ، وكانوا جماعة من أكابر الصالحين وأهل العلم ، كالمزي وغيره ، لم يفرغ من غسله حتى امتلأت القلعة بالرجال وما حولها إلى الجامع ، فصلى عليه بدركات القلعة : الزاهد القدوة محمد بن تمام . وضج الناس حينئذ بالبكاء و الثناء ، و بالدعاء و الترحم .
وأخرج الشيخ إلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أو نحوها . وكان قد امتلأ الجامع و صحنه ، و الكلاسة ، و باب البريد ، وباب الساعات إلى الميادين و الفوارة . وكان الجمع أعظم من جمع الجمعة ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز ، مما يلي المقصورة ، و الجند يحفظون الجنازة من الزحام ، وجلس الناس على غير صفوف ، بل مرصوصين ، لا يتمكن أحد من الجلوس و السجود إلا بكلفة . وكثر الناس كثرة لا توصف .(1/21)
فلما أذن المؤذن الظهر أقيمت الصلاة على السدة ، بخلاف العادة ، وصلوا الظهر ، ثم صلوا على الشيخ . وكان الإمام نائب الحطابة علاء الدين ابن الخراط لغيبة القزويني بالديار المصرية ، ثم ساروا به ، والناس في بكاء و دعاء و ثناء و تهليل وتأسف ، و النساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يدعين و يبكين أيضاً . وكان يوما مشهوداً ، لم يعهد بدمشق مثله ، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إلا القليل من الضعفاء والمخدرات (7) ، وصرخ صارخ : هكذا تكون جنائز أئمة أهل السنة ، فبكى الناس بكاء كثيراً عند ذلك .
وأخرج من باب البريد ، و اشتد الزحام ، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم ، وصار النعش على الرءوس ، يتقدم تارة ، و يتأخر أخرى . وخرج الناس من أبواب الجامع كلها وهي مزدحمة . ثم من أبواب المدينة كلها ، لكن كان المعظم من باب الفرج ، ومنه خرجت الجنازة ، و باب الفراديس ، وباب النصر ، و باب الجابية ، و عظم الأمر بسوق الخيل .
وتقدم في الصلاة عليه هناك : أخوه زين الدين عبد الرحمن و دفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله بمقابر الصوفية ، وحرز الرجال : بستين ألفاً وأكثر ، إلى مائتي ألف ، و النساء بخمسة عشر ألفاً ، وطهر بذلك قول الإمام أحمد " بيننا و بين أهل البيع يوم الجنائز " .
وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة ، وتردد الناس إلى الزيارة قبره أياما كثيرة ، ليلا ونهرا ، و رئيت له منامات كثيرة صالحة ، ورثاه خلف كثير من العلماء و الشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى ، وأقطار متباعدة ، وتأسف المسلمون لفقده . ( ورحمه ، و غفر له .
وصلى عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة و البعيدة ، حتى في اليمن و الصين . وأخبر المسافرون : أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة " الصلاة على ترجمان القرآن " .(1/22)
وقد أفرد الحافظ أبو عبد الله بن عبد الهادي له ترجمة في مجلده ، وكذلك أبو حفص عمر بن على البزار البغدادي في كراريس . و إنما ذكرناها هنا على وجه الاقتصار ما يليق بتراجم هذا الكتاب .
وقد حدث الشيخ كثيرا . و سمع منه خلف من الحفاظ والأئمة من الحديث ، ومن تصانيفه ، وخرج له ابن الواني أربعين حديثاً حدث بها .
بداية المحنة
برواية تلميذه ابن عبد الهادى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . و لا ظهير و لا معين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله إلى الخلق أجمعين . صلى الله عليه و على آله و سلم و على سائر عباد الله الصالحين .
أما بعد . فقد سئلت غير مرة ، أن أكتب ما حضرنى ذكره مما جري في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة ، في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبة أمير البلاد لما سعى إليه قوم من الجهمية ، و الاتحادية ، و الرافضة ، و غيرهم : من ذوي الأحقاد ، فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة : قضاة المذاهب الأربعة ، و غيرهم من نوابهم و المفتين ، و المشايخ : ممن له حرمة و به اعتداد . و هو لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد . وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس و سبعمائة .
فقال لي : هذا المجلس عقد لك . فقد ورد مرسوم السلطان : أن أسألك عن اعتقادك ، و عما كتبت به إلى الديار المصرية ، من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد .
وأظنه قال : وأن أجمع القضاة و الفقهاء و تتباحثون في ذلك .
فقلت : أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ، و لا عمن هو أكبر مني ، بل يؤخذ عن الله ورسوله . و ما أجمع عليه سلف الأمة . فما كان في القرآن وجب اعتقاده . وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، مثل صحيح البخاري و مسلم .(1/23)
وأما الكتب ، فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك و لكنني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية و غيرهم .
وكان قد بلغني أنه زور علي كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير أستاذ دار السلطان ، يتضمن ذكر عقيدة محرفة . ولم أعلم بحقيقته . ولكن علمت أن هذا مكذوب . و كان يرد على من مصر و غيرها من يسألني مسائل في الاعتقاد أو غيره ، فأجيبه بالكتاب و السنة . و ما كان عليه سلف الأمة .
فقال : نريد أن نكتب لنا عقيدتك .
فقلت : اكتبوا .
فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب .
و كتبت له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات ، و القدر ، و مسائل الإيمان ، و الوعيد ، و الإمامة ، و التفضيل .
هو أن اعتقاد أهل السنة و الجماعة : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، و بما و صفه به رسوله . من غير تحريف ، و لا تعطيل ، و لا تكييف ، و لا تمثيل . و أن القرآن كلام الله ، غير مخلوق . منه بدأ و إليه يعود . و الإيمان بأن الله خالف كل شيء من أفعال العباد و غيرها . وأنه ما شاء الله كان ، و ما لم يشأ لم يكن . و أنه أمر بالطاعة ورضيها و أحبها . و نهى عن المعصية و كرهها . و العبد فاعل حقيقة . و الله خالق فعله . وأن الإيمان و الدين قول و عمل يزيد وينقص . و أن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بالذنوب . ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحداً ، وأن الخلفاء بعد رسول الله ( : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ( وأن مرتبتهم في الفضل كمرتبتهم في الخلافة ومن قدم علياً علي عثمان . فقد أزري بالمهاجرين و الأنصار .
وذكرت هذا و نحوه . فإني الآن قد بعد عهدي . و لم أحفظ لفظ ما أمليته إذ ذاك ثم قلت للأمير و الحاضرين : أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي ، كما قد كذبوا علي غير مرة . وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون : كتم بعضه ، أو داهن وداري . فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين ، قبل مجئ التترى إلى الشام .(1/24)
قلت : قبل حضورها كلاما قد بعد عهدي به . وغضبت شديداً ، لكني أذكر أني قلت:
أنا أعلم أن أقوماً كذبوا على . و قالوا للسلطان أشياء . و تكلمت بلام احتجت إليه . مثل أن قلت :
من قام بالإسلام في أوقات الحاجة غيري ؟ ومن الذي أوضح دلائله ، و بينه ، وجاهد أعداءه ، وأقامه لما مال ، حين تخلي عنه كل أحد ، فلا أحد ينطق بحجته ، ولا أحد يجاهد عنه ، وقمت مظهراً لحجته ، مجاهداً عنه ، مرغباً فيه ؟
فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام في فكيف يصنعون بغيري ؟
ولو أن يهودياً طلب من السلطان الإنصاف لوجب عليه أن ينصفه ، وأنا قد أعفو عن حقي ، و قد لا أعفو . بل قد أطلب الإنصاف منه . وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليحاققوا على افترائهم .
وقلت كلاماً أطول من هذا ، من هذا الجنس . لكن بعد عهدي به
فأشار الأمير إلى كاتب الدرج : محي الدين ، أن يكتب ذلك .
وقلت أيضاً : كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه .
وما أدري ، هل قلت هذا قبل حضورها . أو بعدها ؟
لكنني قلت أيضاً : بعد حضورها و قراءتها ، ماذكرت فيها فصلا إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة . وكل خلاف لطائفة من الطوائف .
ثم أرسلت من أحضرها ، و معها كراريس بخطي من المنزل . فحضرت العقيدة الواسطية .
وقلت لهم : هذه كان سبب كتابتها : أنه قدم من أرض واسط بعض قضاة نواحيها : شيخ يقال له رضي الدين الواسطى . قدم علينا حاجاً . وكان من أهل الخير والدين . وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التتر من غلبه الجهل و الظلم ، ودروس الدين و العلم . و سألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته .
فاستعفيت من ذلك . وقلت : قد كتب الناس عقائد متعددة فخذ بعض عقائد أئمة السنة.
فألح في السؤال . وقال : ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت .
فكتبت له هذه القيدة . وأنا قاعد بعد العصر .
وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر و العراق و غيرها .(1/25)
فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا - لرفع الريبة - و أعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين .
فقرأها على الحاضرين حرفاً حرفاً ، و الجماعة الحاضرون يسمعونها . و يورد المورد منهم ما شاء . و يعارض فيما شاء . والأمير أيضاً : يسأل عن مواضع فيها .
وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف و الهوى : ما قد علم الناس بعضه . وبعضه بسبب الاعتقاد ، و بعضه بغير ذلك .
ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام و المناظرات في هذه المجالس . فإنه كثير لا ينضبط .
لكن أكتب ملخص ما حضرني من ذلك مع بعد العهد بذلك .
ومع أنه كان يجري رفع أصوات و لغط لا ينضبط . فكان مما اعترض عليه بعضهم محمد ( : من غير تحريف و لا تعطيل ، و لا تكييف ولا تمثيل "
فقال : ما المراد بالتحريف و التعطيل ؟
ومقصوده : أن هذا ينفي التأويل الذي يثبته أهل التأويل ، الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره ، إما وجوبا وإما جوازا .
فقلت : تحريف الكلام عن مواضعه ، كما دفعه الله في كتابه ، و هو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى ( وكلم الله موسى تكليما ( أي جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً .
ومثل تأويلات القرامطة و الباطنية و غيرهم : من الجهمية و الرافضة و القدرية ، وغيرهم . فسكت ، و في نفسه ما فيها .
وكرت في غير هذا المجلس : أني عدلت عن لفظ " التأويل " إلى لفظ " التحريف " لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه . وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب و السنة . فنفيت ما ذمة . وأنا أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات . لأنه لفظ له عدة معان . كما بينته في موضعه من القواعد فإن معنى لفظ " التأويل " في كتاب الله غير معنى لفظ " التأويل " في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول و الفقه ، و غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير و السلف . فلم أنف ما نقوم الحجة على صحته إذ ما قامت الحجة على صحته ، وهو منقول عن السلف ، فليس من التحريف .(1/26)
وقلت له أيضاً : ذكرت في النفي " التمثيل " و لم أذكر " التشبيه " لأن " التمثيل " نفاه الله بنص كتابه حيث قال : ( ليس كمثله شيء ) و قال : ( هل تعلم له سميا ) فكان أحب إلى من لفظ ليس في كتاب الله ، ولا في سنة رسول الله ( . وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح ، كما قد معنى فاسد .
ولما ذكرت " أنهم لا ينفقون عنه ما وصف به نفسه ، و لا يحرفون الكلم عن جعل الحاضرين يمتعض من ذلك ، لاستشعاره ما في ذلك من الرد لما هو عليه و لكن لم يتوجه له ما يقوله .
وأراد أن يدور علي بالأسئلة التي أعلمها ، فلم يتمكن لعلمه بالجواب .
ولما ذكرت آية الكرسى ، أظن سأل الأمير عن قولنا " لا يقربه شيطان حتى يصبح "
فذكرت له حديث أبي هريرة ( في الذي كان يسرق صدقة الفطر وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه .
وأخذوا يذكرون نفي التشبيه و التجسيم و يطنبون في هذا و يعرضون بما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك .
فقلت قولي " من غير تكييف ، ولا تمثيل " ينفي كل باطل و إنما أخذت هذين الاسمين . لأن " التكييف " مأثور نفيه عن السلف . كما قال ربيعة ، ومالك و ابن عيينة و غيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول " الاستواء معلوم ، و الكيف مجهول والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة "
فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا . فنفيت ذلك ، اتباعاً لسلف الأمة ، وهو أيضاً منفى بالنص . فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف و حقيقة صفاته . وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . كما قد قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التاويل . و المعنى : و الفرق بين علمنا بمعنى الكلام . و بين علمنا بتأويله .
وكذلك " التمثيل " ينفي بالنص والإجماع القديم ، مع دلالة على نفيه . ونفى التكييف . إذ كنه الباري تعالى غير معلوم للبشر .(1/27)
وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف . و هو : " إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها ، مع نفي الكيفية ، و التشبيه عنها ، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذي فيه حذوه ، و يتبع فيه مثاله . فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف . فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف "
فقال أحد كبراء المخالفين : فحينئذ يجوز أن يقال : هو جسم ، لا كالأجسام .
فقلت له ، أنا و بعض الفضلاء الحاضرين و المعروفين بالديانة يريد إظهار أن ينفى عنا ما يقوله ، فجعل يزيد في المبالغة في نفي التشبيه و التجسيم .
فقلت : قد ذكر فيها في غير موضع " من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل "
وقلت في صدرها : " ومن الإيمان بالله . الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه ، و بما وصفه به رسوله محمد ( ، من تحريف و لا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل " .
ثم قلت : " وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك " .
إلى أن قلت : " إلى أمثال هذه الأحاديث الصحاح التي يخبر فيها رسول الله ( بما يخبر به . فإن الفرقة الناجية أهل السنة و الجماعة يؤمنون بذلك ، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه ، من تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، بل هم الوسط في فرق الأمة ، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم ، فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية ، وأهل التمثيل المشبهة "
ولما رأى هذا الحاكم العدل تمالؤهم وتعصبهم . ورأى قلة المعاون منهم و الغاصر ، وخافهم قال : أنت قد صنفت اعتقاد الإمام أحمد . فنقول : هذا اعتقاد أحمد ؟
يعنى والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه . فإن هذا مذهب متبوع .
وغرضه بذلك : قطع مخاصمة الخصوم(1/28)
فقلت : ما جمعت إلا عقدة السلف الصالح جميعهم ، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا ، و الإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي ( . ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول ( لم نقبله . و هذه عقيدة محمد ( .
وقلت مرات : قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين . فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي ( ، حيث قال : " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك . وعلى أن آتى بنقول جميع الطوائف من القرون الثلاثة توافق ما ذكرته : من الخفية ، و المالكية ، و الشافعية ، و الحنبلية ، والأشعرية والصوفية ، وأهل الحديث ، وغيرهم .
وقلت أيضاً ، في غير هذا المجلس : الإمام أحمد ، ( ، لما انتهى إليه من السنة و نصوص رسول الله ( أكثر مما انتهى إلى غيره ، وابتلى بالمحنة و الرد على أهل البدع أكثر من غيره كان كلامه وعمله في هذا الباب أكثر من غيره . فصار إماماً في السنة أظهر من غيره . وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة العلماء الصلحاء ، قال : المذهب لمالك و الشافعي ، و الظهور لأحمد بن حنبل .
يعنى أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام ، وإن كان لبعضهم من زيادة العلم و البيان ، وإظهار الحق ، و دفع الباطل ما ليس لبعض .
ولما جاء حديث أبي سعيد المتفق عليه في الصحيحين عن النبي ( : " يقول لله يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك ، و سعديك . فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تبعث بعثاً إلى النار ..." الحديث .
سألهم الأمير : هل هذا الحديث صحيح ؟
فقلت : نعم ، هو في الصحيحين . ولم يخالفوا في ذلك . واحتاج المنازع إلى الإقرار به .
وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف و الصوت . لأن ذلك طلب منه ز(1/29)
فقلت : هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه : أن صوت القارئين ومداد المصاحف : قديم أزلي - كذب مفترى . لم يقل ذلك أحمد ، ولا أحد من علماء المسلمين .
وأخرجت كراساً كان قد أحضر مع العقيدة ، وفيه ما ذكره الشيخ أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الإمام أحمد . و ما جمعه صاحبه أبو بكر المروزي من كلام أحمد ، وكلام أئمة زمانه في : " أن من قال : لفظي بالقرآن مخلوق . فهو جهمي . ومن قال : غير مخلوق . فهو مبتدع "
قلت : فكيف بمن يقول لفظي قديم ؟ فكيف بمن يقول : صوتي غير مخلوق ؟ فكيف بمن يقول : صوتي قديم ؟
وأحضرت جواب مسألة كنت سئلت قديماً عنها . فيمن حلف بالطلاق في مسألة الحرف و الصوت ، ومسألة الظاهر في العرش ، وقلت : هذا جوابى .
وكانت هذه المسألة قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة ، ممن كان بعضهم حاضراً في المجلس فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم .
وكانوا قد ظنوا أبى إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله ، حصل مقصودهم من الشناعة ، وإن أجبت بما يقولونه هم . حصل مقصودهم من الموافقة .
فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة ، وليس هو ما يقولونه هم ، ولا ما ينقلونه عن أهل السنة ، إذ يقوله بعض الجهال ؛ بهتوا لذلك .
وفيه : " إن القرآن كلام الله حروفه و معانيه ، ليس القرآن اسماً لمجرد الحروف ، ولا لمجرد المعاني " .
و لما جاءت مسألة القرآن ، فقلت : " ومن الإيمان به : الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ و إليه يعود " - نازع بعضهم في كونه منه بدأ و إليه يعود . و طلبوا تفسير ذلك .
فقلت : أما هذا القول فهو المأثور الثابت عن السلف ، مثل ما نقله عمرو بن دينار قال : " أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون : الله الخالق وما سواه مخلوق ، إلا القرآن ؛ فإنه كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود " ، وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى ( والصحابة و التابعين .(1/30)
و أما معناه : فإن قوله " منه بدأ " أي هو المتكلم به ، وهو الذي أنزله من لدنه ، ليس هو كما تقوله الجهمية : إنه خلق في الهواء أو غيره ؛ أو بدأ من عند غيره .
وأما " إليه يعود " فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف و الدور ، فلا يبقى في الصدور ، منه كلمة ، ولا في المصاحف منه حرف .
ووافق على ذلك غالب الحاضرين ، و سكت المنازعون .
وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس ، بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادر بالله التي فيها : " إن القرآن كلام الله ، خرج منه " نتوقف في هذا اللفظ .
فقلت : هكذا قال النبي ( : " و ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج عنه " يعنى القرآن .
وقال خباب بن الأرت " يا هنتاه تقرب إلى بما استطعت فلن نتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه " ؟!
وقال أبو بكر الصديق ( - لما قرئ عليه قرآن مسيلمة الكذاب فقال : " إن هذا كلام لم يخرج من إل " يعنى رب .
ومما فيها : " ومن الإيمان به : الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل ، غير مخلوق ، منه بدأ و إليه يعود . وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد ( هو كلام الله حقيقة ، لا كلام غيره . ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية ، أو عبارة عن كلام الله ، بل إذا قرأ القرآن ، أو كتبوه في المصاحف ، لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله ، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا . لا إلى من قاله مبلغا مؤدباً " .
فامتعض بعضهم من كونه إثبات كلام الله حقيقة ، بعد تسليمه أن الله تكلم به حقيقة . ثم إنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه ، وهذا لا يصلح نفيه ولما بين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم ، و شعر الشعراء المضاف إليهم ، هو كلامهم حقيقة . فلا يكون نسبة القرآن إلى الله بأقل من ذلك .(1/31)
ولما ذكر فيها : " أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا ، لا إلى من قاله مبلغاً مؤدباً " . استحسنوا هذا الكلام و عظموه . وأخذ أحد كبراء الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام ، وأنه أزال عنه الشبهات ، و يذكر أشياء من هذا النمط .
ولما جاء ذكر من الإيمان باليوم الآخر ، و تفصيله و نظمه استحسنوا ذلك و عظموه .
وكذلك لما جاء الإيمان بالقدر ، و أنه على درجتين ، إلى غير ذلك مما فيه من القواعد الجليلة .
وكذلك لما جاء الكلام في الفاسق الملى ، و في الإيمان .
لكن اعترضوا على ذلك بما سأذكره
وكان مجموع ما اعترض به المنازعون المعاندون - بعد انقضاء قراءة جميعا ، و البحث فيها - أربعة أسئلة :
السؤال الأول : قولنا : " ومن أصول الفرقة الناجية : أن الإيمان و الدين : قول ، وعمل ، يزيد و ينقص . قول القلب و اللسان ، و عمل القلب و اللسان و الجوارح " .
قالوا : إذا قيل : إن هذا من أصول الفرقة الناجية ، خارج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك ، مثل أصحاب المتكلمين الذين يقولون : إن الإيمان هو التصديق ، ومن يقول : إن الإيمان هو التصديق والإقرار . و إذا لم يكونوا ناجين . لزم أن يكونوا هالكين .
وأما الأسئلة الثلاثة ، وهي التي كانت عمدتهم ، فأوردوها على قولنا : " وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله : الإيمان بما أخبر الله به في كتابه ، و تواتر عن رسوله ( ، وأجمع عليه سلف الأمة ؛ ومن أنه سبحانه فوق سموانه ، وأنه على عرشه ، علي على خلقه . هو معهم أينما كانوا ، يعلم ما هم عاملون ، كما جمع بين ذلك في قوله :
( هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم و الله بما تعملون بصير ( (8)(1/32)
" و ليس معنى قوله ( وهو معكم ) أنه مختلط بالخلق . فإن هذا لا توجبه اللغة ، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة و خلاف ما فطر الله عليه الخلق ، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته . و هو موضوع في السماء . وهو مع المسافر و غير المسافر أينما كان.
وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه ، مهيمن عليهم ، مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته " .
" وكل هذا الكلام الذي ذكره الله : من أنه فوق العرش . وأنه معنا : حق على حقيقته . لا يحتاج إلى تحريف ، و لكن يصان عن الظنون الكاذبة " .
والسؤال الأول قال بعضهم : نفر باللفظ الوارد ، مثل حديث العباس ( حديث الأوعال " والله فوق العرش " ولا نقول : فوق السماوات . ولا نقول : على العرش .
وقالوا أيضاً ، نقول : ( الرحمن على العرش استوى ( ولا نقول : الله على العرش استوى . ولا نقول : مستو .
وأعاد هذا المعنى مراراً - أي أن اللفظ الذي ورد ، يقال اللفظ بعينه ، ولا يبدل بلفظ يرادفه ، ولا يفهم له معنى أصلا ، ولا يقال : إنه يدل على صفة الله أصلا .
وانبسط الكلام في هذا المجلس الثاني ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .
والسؤال الثاني : قالوا التشبيه بالقمر : فيه تشبيه كون الله في السماء يكون القمر في السماء .
والسؤال الثالث : قالوا : قولك : " حق على حقيقته " الحقيقة هي المعنى اللغوي . ولا يفهم من الحقيقة إلا استواء الأجسام وفوقيتها . ولم تضع العرب ذلك إلا لها ، فإثبات الحقيقة : هو محض التجسيم ، ونفي التجسيم مع هذا تناقض ، أو مصانعة .
فأجبتهم عن الأسئلة : بأن قولي : " اعتقاد الفرقة الناجية " هي الفرقة التي وصفها النبي ( بالنجاة ، حيث قال : " تفترق أمتي على ثلاث و سبعين فرقة ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " .
فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي ( وأصحابه وهم ومن اتبعهم : الفرقة الناجية .(1/33)
فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال : " الإيمان يزيد و ينقص " .
وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة ( بالأسانيد الثابتة . لفظه أو معناه ، وإذا خالفهم من بعدهم ، لم يضرني ذلك .
ثم قلت لهم : وليس كل مخالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا . فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئا ، يغفر الله له خطأه . وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة . وقد يكون من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته . وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول ، و التائب ، وذو الحسنات الماحية و المغفور له وغير ذلك . فهذا أولى . بل موجب هذا الكلام : أن من اعتقد ذلك بجا في هذا الاعتقاد ، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا ، وقد لا يكون ناجيا . كما قال : " من صمت نجا " .
وأما السؤال الثاني : فأجبتهم ، أولا : بأن كل لفظ قلته ، فهو مأثور عن النبي ( ، مثل لفظ " فوق السماوات " و لفظ " على العرش " و " فوق العرش " .
وقلت : اكتبوا الجواب ، فأخذ الكاتب في كتابته .
ثم قال بعض الجماعة : قد طال المجلس اليوم . فيؤخر هذا إلى مجلس آخر .
فتكتبون أنتم الجواب . وتحضرونه في ذلك المجلس .
وأشار بعض الموافقين : بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب ، لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم .
وكأن الخصوم كان لهم غرض في تأخير كتابة الجواب ، ليستعدوا لأنفسهم و يطالعوا ، و يحضروا من غاب من أصحابهم ، و يتأملوا العقيدة فيما بينهم ليتمكنوا من الطعن و الاعتراض .
فحصل الاتفاق على أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة .
وقمنا على ذلك .
وقد أظهر الله من قيام و بيان المحجة ما أعز الله به السنة و الجماعة ، و أرغم به أهل البدعة و الضلالة ؛ و في نفوس كثير من الناس أمور لما يحدث في المجلس الثاني .(1/34)
وأخذوا في تلك الأيام يتأملونها ، و يتأملون ما أجيب به في مسائل تتعلق بالاعتقاد ، مثل المسألة الحموية في الاستواء و الصفات الخبرية و غيرها .
فصل
فلما كان في المجلس الثاني ، يوم الجمعة ، بعد الصلاة ، ثاني عشر رجب - وقد أحضروا أكبر شيوخهم ممن لم يكن حاضراً ذلك اليوم - و بحثوا فيما بينهم ، و اتفقوا و تواطأوا ، وحضروا بقوة و استعداد ، غير ما كانوا عليه لأن المجلس الأول أتاهم بغتة وإن كان أيضاً بغتة للمخاطب الذي هو المسئول و المجيب و المناظر .
فلما اجتمعنا - وقد أحضرت ما كتبته من الجواب على أسئلتهم المتقدمة التي طلب تأخيره إلى هذا اليوم - حمدت الله بخطبة الحاجة ، حطبة ابن مسعود ( .
ثم قلت : إن الله أمرنا بالجماعة و الائتلاف ، و نهانا عن الفرقة و الاختلاف ، و قال لنا في القرآن
( واعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا ( (9)
وقال : ( إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعاً لست منهم في شيء ( (10)
وقال : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من ما جاءهم البينات ( (11)
وربنا واحد ، وكتابنا واحد ، و نبينا واحد ، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف . وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين ، و هو متفق عليه بين السلف .
فإن وافق الجماعة فالحمد لله ، و إلا فمن خالفني بعد ذلك ، كشفت له الأسرار ، و هتكت الأستار ، و بينت المذاهب الفاسدة ، التي أفسدت الملل و الدول . وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد ، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس . فإن المسلم كلاما و للحرب كلاما .
وقلت : لا شك أن الناس يتنازعون ، فيقول هذا : أنا حنبلي ، و يقول هذا : أنا أشعري ، و يجري بينهم تفرق واختلاف ، على أمور لا يعرف حقيقتها .
وأنا قد أحضرت ما بين اتفاق المذاهب فيما ذكرته ، وأحضرت كتاب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري . تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر .(1/35)
وقلت : لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل ها . وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتاب الإبانة .
فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة ، سأل الأمير عن معنى المعتزلة ؟
فقلت : كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملي . وهو أول اختلاف حدث في الملة ، هل هو كافر ، أو مؤمن ؟ فقالت الخوارج : إنه كافر و قالت الجماعة : إنه مؤمن .
فقالت طائفة : نقول : هو فاسق ، لا كافر ، ولا مؤمن . ننزله منزلة بين منزلتين ، وخلدوه في النار ، واعتزوا حلقه الحسن البصري وأصحابه ، فسموا معتزلة .
فقال الشيخ الكبير بحبه ورد : ليس كما قلت ، و لكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون : مسألة الكلام ، و سمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك ، و كان أول من قالها : عمرو بن عبيد ، ثم خلفه بعد موته عطاء بن واصل .
هكذا قال : وذكر نحواً من هذا .
فغضت عليه . وقلت : أخطأت . وهذا كذب مخالف للإجماع .
وقلت له : لا أدب ولا فضيلة ، لا تأدبت معي في الخطاب ، ولا أصبت في الجواب .
ثم قلت : الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلانة المأمون ، و بعدها في أواخر المائة الثانية . وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير ، في زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري ، في أوائل المائة الثانية . ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ، ولا تنازعوا فيها . وإنما أول بدعتهم : تكلمهم في مسائل الأحكام و الأسماء و الوعيد .
فقال : هذا ذكره الشهر ستاني في كتاب الملل و النحل .
فقلت : الشهر ستاني ذكر ذلك في اسم المتكلمين : لم سموا متكلمين ، لم يذكره في اسم المعتزلة ، والأمير إنما سأل عن اسم المعتزلة .
وأنكر الحاضرون عليه .
وقال : غلطت .
وقلت في ضمن كلامي : أنا أعلم كل بدءة حدثت في الإسلام ، وأول من ابتدعها . وما كان سبب ابتداعها .(1/36)
وأيضاً : فما ذكره الشهر ستاني لي بصحيح في اسم المتكلمين فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا اسم قبل تنازعهم في مسألة الكلام وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء : إنه متكلم ، ويصفونه بالكلام و لم يكن الناس اختفوا في مسألة الكلام .
وقلت أنا وغيري : إنما هو واصل بن عطاء .
قلت : وواصل لم يكن بعد موت عمرو بن عبيد ، وإنما كان قريبه .
وقد روي أن واصلاً تكلم مرة بكلام . فقال عمرو بن عبيد : لو بعث نبي ما كان يتكلم بأحسن من هذا ، وفصاحته مشهورة ، حتى قيل : إنه كان ألئغ ، فكان يحترز عن الراء حتى قيل له : أمر الأمير أن يحفر بئر في قارعة الطريق . فقال : أو عز القائد ، أن يقلب قليب في الجادة .
قال الشيخ المتقدم فيهم : لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر ، ومن أكبر أئمة الإسلام ، لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء .
فقلت : أما هذا فحق ، وليس هذا من خصائص أحمد ، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام ، وهو منهم برئ . قد انتسب إلى مالك أناس ، هو برئ منهم ، وقد انتسب إلى موسى عليه السلام أناس هو برئ منهم ، وانتسب إلى عيسى عليه السلام أناس هو برئ منهم . وقد انتسب إلى على بن أبي طالب ( أناس هو برئ منهم . و نبينا ( قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية ، و غيرهم من أصناف الملحدة و المنافقين من هو برئ منهم .
وذكر في كلامه : أنه انتسب إلى أحمد أناس من الحشوية و المشبهة . ونحو هذا الكلام .
فقلت : المشبهة و المجسمة في غير أصحاب أحمد أكثر منهم فيهم ، هؤلاء أصناف الأكراد ، و كلهم شافعية ، و فيهم من التشبيه و التجسيم ما لا يوجد في صنف آخر . وأهل جيلان ، فيهم شافعية وحنبلية .
قلت : وأما الحنبلية المحضة . فليس من ذلك ما في غيرهم .
وكان من تمام الجواب : أن الكرامية المجسمة كلهم حنفية .
وتكلمت على لفظ الحشوية ، ما أدرى جواباً عن سؤال الأمير ، أو غيره ، أو عن غير جواب .(1/37)
فقلت : هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة ، فإنهم يسمون الجماعة و السواد الأعظم : كما تسميهم الرافضة : الجمهور .
وحشو الناس : هم عموم الناس وجمهورهم ، وهم غير الأعيان المتميزين يقولون : هذا من حشو الناس . كما يقال : هذا من جمهورهم .
وأول من تكلم بهذا : عمرو بن عبيد ، وقال : كان عبد الله بن عمر حشويا . فالمعتزلة سموا الجماعة حشوا ، كما تسميهم الرافضة : الجمهور .
وقلت : - لا أدرى في المجلس الأول ، أو الثاني - أول من قال إن جسم ، هشام بن الحكم الرافضي .
وقلت لهذا الشيخ : من في أصحاب الإمام أحمد من الأعيان حشوي بالمعنى الذي تريده ؟ الأثرم ، أبو داود ، المروزي ، الخلال ، أبو بكر بن عبد العزيز ، أبو الحسن التميمي ، ابن حامد القاضي ، أبو يعلي ، أبو الخطاب ، ابن عقيل ؟
ورفعت صوتي وقلت : سمهم . قل لي : من هم ، من هم ؟
أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة ، وتندرس معالم الدين ؟ كما نقل هو وغيره عنهم . أنهم يقولون : إن القرآن القديم هو أصوات القارئين ، ومداد الكاتبين ، وأن الصوت والمداد قديم أزلى ؟ من قال هذا ؟ وفي أي كتاب وجد هذا عنهم ؟ قل لي .
وكما نقل عنهم : أن الله لا يرى في الآخرة ، باللزوم الذي ادعاه ، والمقدمة التي نقلها عنهم ؟
وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ : من أنه كبير الجماعة و شيخهم ، وأن فيه من العقل والدين ، ما يستحق أن يعامل بموجبه .
وأمرت بقراءة العقيدة عليه ، فإنه لم يكن حاضراً في المجلس الأول ، وإنما أحضروه في الثاني ، انتصاراً به .
وحدثني الثقة عنه بعد خروجه من المجلس ، أنه اجتمع به ، وقال له : أخبرني عن هذا المجلس ؟
فقال : ما لفلان ذنب ، ولا لي ، فإن الأمير سأل عن شيء . فأجابه عنه . فظننته سأل عن شيء آخر .
وقال : قلت لهم : مالكم على الرجل اعتراض ، فإنه نصر ترك التأويل ، وأنتم تنصرون قول التأويل ، وهما قولان للأشعري .(1/38)
وقال : أنا أختار قول ترك التأويل . وأخرج وصيته التي أوصى بها . وفيها : قول ترك التأويل .
قال الحاكي لي : فقلت له : بلغني عنك أنك قلت ، في آخر المجلس ، لما أشهد الجماعة على أنفسهم بالموافقة : لا تكتبوا عني نفياً ولا إثباتاً . فلم ذاك ؟
فقال : لوجهين ، أحدهما : أني لم أحضر قراءة جميع العقيدة في المجلس الأول : والثاني : لأن أصحابي طلبوني لينتصروا بي ، فما كان يليق أن أظهر مخالفتهم ، فسكت عن الطائفتين .
وأمرت غير مرة أن تعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ ، فرأى بعض الجماعة أن ذلك يطول ، وأنه لا يقرأ عليه إلا الموضع الذي لهم عليه سؤال ، وأعظمه : لفظ " الحقيقة " فقرأوه عليه .
وذكر هو بحثاً حسناً ، يتعلق بدلالة اللفظ ، فحسنته ومدحته عليه .
وقلت : لا ريب أن الله حي حقيقة ، سميع حقيقة ، بصير حقيقة ، وهذا متفق عليه بين أهل السنة و الصفاتية ، من جميع الطوائف ، ولو نازع بعض أهل البدع في بعض ذلك ، فلا ريب أن الله موجود ، والمخلوق موجود ، ولفظ " الوجود " سواء كان مقولا عليهما بطريق الاشتراك اللفظي فقط ، أو بطريق التواطؤ ، المتضمن للاشتراك لفظاً ومعنى ، أو بالتشكيك ، الذي هو نوع من التواطؤ ، فعل كل قول : فالله موجود حقيقة . والمخلوق موجود حقيقة . ولا يلزم من إطلاق الاسم على الخالق و المخلوق بطريق الحقيقة محذور .
ولم أرجح في ذلك المقام قولا من هذه الثلاثة على الآخر ، لأن غرضي يحصل على كل مقصود .
وكان مقصودى تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف ، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرته وأن أعيان المذاهب الأربعة ، والأشعرى ، وأكابر أصحابه على ما ذكرته .(1/39)
فإنه قبل المجلس الثاني ، اجتمع بي من أكابر الشافعية ، والمنتسبين إلى الأشعرية ، و الحنفية ، وغيرهم ، ممن عظم خوفهم من هذا المجلس ، وخافوا انتصار الخصوم فيه ، و خافوا على نفوسهم أيضاً من تفرق الكلمة ، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته ، أو لم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها - : لصارت فرقة ، ولصعب عليهم أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم ، كما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم . فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك ، وقامت الحجة عليه ، وبان أنه مذهب السلف ، أمكنهم إظهار القول به ، مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق .
حتى قال لي بعض الأكابر من الحنفية ، وقد اجتمع بي :
لو قلت : هذا مذهب أحمد حنبل ، و ثبت على ذلك ، لانقطع النزاع .
ومقصوده : أنه يحصل دفع الخصوم عنك بأنه مذهب متبرع ، و يستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة .
فقلت : لا والله ، ليس لأحمد بن حنبل بهذا اختصاص ، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة ، وأئمة أهل الحديث .
وقلت أيضاً : هذا اعتقاد رسول الله ( ، وكل لفظ ذكرته ، فأنا أذكر به آية أو حديثاً ، أو إجماعاً سلفياً ، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف ، من جميع طوائف المسلمين : اتباع الفقهاء الأربعة ، و المتكلمين ، وأهل الحديث ، و الصوفية .
وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية : لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف ، و قول أئمة أصحاب الشافعي ، وأذكر قول الأشعري ، وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم . و لينتصرن كل شافعي ، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف . وأبين قول طائفة من أصحابه . فللأشعرية قولان ، ليس للأشعري قولان .
فلما ذكرت في المجلس أن جميع أسماء الله التي يسمى بها المخلوق كلفظ " الوجود " الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب و الممكن ، على الأقوال الثلاثة ، تنازع كبيران : هل هو مقول بالاشتراك ، أو بالتواطؤ ؟ .(1/40)
فقال أحدهما : هو متواطئ . وقال الآخر : هو مشترك . لئلا يلزم التركيب .
وقال هذا : قد ذكر فخر الدين : أن هذا النزاع مبني على أن وجوده . هل هو عين ماهيته ، أم لا ؟
فمن قال : إن وجود كل شيء عين ماهيته ، قال : إنه مقول بالاشتراك ، ومن قال : إن وجوده قدر زائد على ماهيته ، قال :إنه مقول بالتواطؤ .
فأخذ الأول يرجح قول من يقول : إن الوجود زائد على أن الماهية ، لينصر أنه مقول بالتواطؤ .
فقال الثاني : ليس مذهب الأشعري وأهل السنة : أن وجوده عين ماهيته فأنكر الأول ذلك .
فقلت : أما متكلمو أهل السنة ، فعندهم : أن وجود كل شيء عين ماهيته . وأما القول الآخر ، فهو قول المعتزلة : إن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته ، وكل منهما أصاب من وجه ، فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطؤ ، كما قد قررته في غير الموضع .
وأجبت عن شبهة التركيب بالجوابين المعروفين .
وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عينها . فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب . فإنا وإن قلنا : إن وجود الشيء عين ماهيته ، لا يجب أن يكون الاسم مقولا عليه وعلى نظيره الاشتراك اللفظي فقط ، كما في جميع أسماء الأجناس . فإن اسم "السواد " مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطؤ . وليس عين هذا السواد هو عين هذا السواد ، إذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما ، وهو المطلق الكلي ، لكنه لا يوجد مطلقاً كلياً بشرط الإطلاق إلا في الذهن ، ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في المخارج ، فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة ، وهي جمهور الأسماء الموجودة في اللغات . وهي أسماء الأجناس اللغوية ، وهو الاسم المطلق على الشيء و على كل ما أشبهه . سواء كان اسم عين ، وأو اسم الجنس في اللغة يدخل فيه الأصناف والأجناس والأنواع ، ونحو ذلك . وكلها أسماء متواطئة ، وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة .(1/41)
وطلب بعضهم إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة ، ليطعن في بعضها فعرفت مقصوده .
فقلت : كأنك استعددت للطعن في حديث الأوعال . حديث العباس بن عبد المطلب ، وكانوا قد تعنتوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم ، من قول البخاري في تاريخه : عبد الله بن عميرة ، لا يعرف له سماع من الأحنف .
فقلت : هذا الحديث - مع أنه رواه أهل السنن . كأبي داود ، و الترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم - فهو مروي من طريقين مشهورين . فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر .
فقال : أليس مداره على ابن عميرة ، وقد قال البخاري : لا يعرف له سماع عن الأحناف ؟ .
فقلت : قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي ( .
قلت : والإثبات مقدم على النفي ، والبخاري إنما نفي معرفته لسماعه من الأحنف ، لم ينف معرفة الناس بهذا ، فإذا عرف غيره - كإمام الأئمة ابن خزيمة - الإسناد ، كانت معرفته وإثباته مقدماً على نفي غيره ، وعدم معرفته ، ووافق الجماعة على ذلك .
وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه .
وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن في العقيدة ، ولكن لها تعلق بما أجبت به في مسائل ، ولها تعلق بما قد يقهمونه من العقيدة .
فأحضر بعض أكابرهم كتاب الأسماء و الصفات ، وللبيهقي فقال : هذا فيه تأويل الوجه عن السلف .
فقلت : لعلك تعنى قول تعالى : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ( (12) ؟
فقال : نعم . قد قال مجاهد و الشافعي : يعنى قبلة الله .(1/42)
فقلت : نعم . هذا صحيح عن مجاهد ، والشافعي وغيرها . وهذا حق ، و ليست هذه الآية من آيات الصفات ، ومن عدها في الصفات فقد غلط ، كما فعل طائفة ، فإن سياق الكلام يدل على المراد ، حيث قال : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ( والمشرق والمغرب : الجهات . والوجه : هو الجهة - يقال : أي وجه تريد ؟ - أي جهة . وأنا أريد هذا الوجه . أي هذه الجهة - كما قال تعالى : ( ولكل وجهة هو موليها ( ، و لهذا قال : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ( - أي تستقبلوا وتتوجهوا . والله أ'لم .
****
قال ابن عبد الهادي :
هذا آخر ما علقه الشيخ فيما يتعلق بالمناظرة ، بحضرة نائب السلطان و القضاة ، و الفقهاء ، وغيرهم ، بالقصر .
كتاب السلطان بإرسال الشيخ إلى مصر
وفي يوم الاثنين خامس شهر رمضان من سنة خمس وسبعمائة وصل كتاب السلطان بالكشف عما كان وقع للشيخ تقي الدين ، في ولاية سيف الدين جاغان ، وفي ولاية القاضي إمام الدين وبإحضاره وإحضار القاضي نجم الدين بن صصري إلى الديار المصرية .
فطلب نائب السلطنة الشيخ وجماعة من الفقهاء ، وسألهم عن تلك الواقعة ، وقرئ عليهم المرسوم .
فأجاب كل منهم بما كان عنده من تلك القضية ، وكتبه عنهم صاحب الديوان محي الدين ، و القاضي نجم الدين إلى مصر على البريد ، و خرج مع الشيخ خلق كثير ، و بكوا وخافوا عليه من أعدائه .
وأخبرت : أن نائب السلطنة كان قد أشار على الشيخ بترك التوجه إلى مصر ، وأنه بكاتب في ذلك فامتنع من ذلك ، ولم يقبل وذكر أن في توجهه إلى مصر مصالح كثيرة .
وقرأت بخط بعض أصحاب الشيخ ، قال :(1/43)
و لما توجه الشيخ في اليوم الذي توجه فيه من دمشق المحروسة ، كان يوماً مشهوداً ، غريب المثل ، في كثرة ازدحام الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قريب للجسورة - فيما بين دمشق و الكسوة - التي هي أول منزلة منها ، وهم ما بين باك وحزين ، ومتعجب ومتنزه ، ومزاحم متغال فيه . ودخل الشيخ مدينة غزة يوم السبت ، وعمل في جامعها مجلساً عظيما .
و في يوم الخميس الثاني و العشرين من رمضان وصل الشيخ و القاضي إلى القاهرة
وفي ثاني يوم بعد صلاة الجمعة ، جمع القضاة ، وأكابر الدولة بالقلعة لمحفل . وأراد عدلان خصما ، احتساباً . وادعى عليه القاضي ابن مخلوف المالكي أنه يقول :
إن الله فوق العرش حقيقة ، وإن الله يتكلم بحرف وصوت ، وسأل جوابه .
فأحذ الشيخ في حمد الله و الثناء عليه .
فقيل له : أجب . ما جئنا بك لتحطب .
فقال : ومن الحاكم في ؟
فقيل له : القاضي المالكي .
قال : كيف يحكم في و هو خصمي ؟
وغضب غضباً شديداً ، وانزعج .
فأقيم مرسما عليه . وحبس في برج أياما .
ثم نقل منه ليلة عيد الفطر إلى الحبس المعروف بالجب هو وأخواه : شرف الدين عبد الله ، وزين الدين عبد الرحمن .
ثم إن نائب السلطنة - سيف الدين سلارا - بعد أكثر من سنة وذلك ليلة عيد الفطر من سنة ست و سبعمائة أحضر القضاة الثلاثة : الشافعي ، و المالكي ، و الحنفي - و من الفقهاء : الباجي ، و الجزري ، و النمراوي . و تكلم في إخراج الشيخ من الحبس .
فاتفقوا على أنه يشترط عليه أمور ، ويلزم بالرجوع عن بعض الفقيدة .
فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه في ذلك . فلم يجب إلى الحضور .
وتكرر الرسول إليه في ذلك مرات . وصمم على عدم الحضور .
فطال عليهم المجلس ، و انصرفوا عن غير شيء .
قال ابن عبد الهادي :(1/44)
وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين ، أو إحدى و ثمانين ختمه انتهى في آخر ختمه إلى آخر اقتربت الساعة ( إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ( (13) ، ثم كملت عليه بعد وفاته ، وهو مسجي .
كان كل يوم يقرأ ثلاثة أجزاء ، يختم في عشرة أيام . هكذا أخبراني أخوه زين الدين .
وكانت مدة مرضه بضعه وعشرين يوما ، وأكثر الناس ما علموا بمرضه ، فلم يفجأ الخلق إلا نعيه ، فاشتد التأسف عليه وكثر البكاء والحزن ، ودخل إليه أقاربه و أصحابه وازدحم الخلق على باب القلعة و الطرقات ، وامتلأ جامع دمشق و صلوا عليه ، وحمل على الرءوس . رحمه الله ورضي عنه .
محنة شيخ الإسلام
يرويها بنفسه - رحمه الله تعالى -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله . ونشهد أن محمدا عبده ورسوله . ( تسليما .
أما بعد
فقد وصلت ورقتك التي ذكرت فيها إخبارك الشيخ باجتماع الرسول بي ، وما أخبرته به من الكلام . وأن الشيخ قال :
أعلم أني - والله - قد عظم عندي كيف وقعت الصورة على هذا - إلى آخره ، وأنه قال : يجتمع بالشيخ ، و يتفق معه على ما يراه هو و يختاره ، إن يكن كما قلت أو غيره - فتسلم عليه (14) وتقول له : أنا ، هذه القضية ليس لي فيها غرض معين أصلاً (15) . ولست فيها واحداَ من المسلمين ، لي ما لهم وعلى ما عليهم ، وليس لي - ولله الحمد - حاجة إلى شيء معين يطلب من المخلوق ، ولا في ضرر يطلب زواله من المخلوق ، بل أنا في نعمة الله سابغة ، وحمة عظيمة ، أعجز عن شكرها .
ولكن عليّ أن أطبع الله ورسوله ، وأطيع أولى الأمر إذا أمروني بطاعة الله ، فإذا أمروني بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . هكذا دل عليه الكتاب و السنة ، واتفق عليه أئمة الأمة . قال الله تعالى :(1/45)
( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم . فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم والآخر. ذلك خير وأحسن تأويلا ( (16)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ( أنه قال :
" لا طاعة لمخلوق في معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف " (17) وأن أصبر على جور الأئمة ، وأن لا أخرج عليهم في فتنة ؛ لما في الصحيحين عن ابن عباس قال : قال رسول الله (
" من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه . فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات ( إلا مات ) ميتة جاهلية " (18) .
ومأمور أيضاً - مع ذلك - أن أقول وأقوم بالحق حيثما كنت ، لا أخاف في الله لومة لائم ، كما أخرجا في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال
" بايعت رسول الله ( علي السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا ، وأثرة (19) علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول - أو نقوم - بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم " (20) فبايعهم على هذه الأصول الثلاثة الجامعة ، وهي الطاعة في طاعة الله ، وإن كان الأمير ظالما ، وترك منازعة الأمر أهله ، والقيام بالحق بلا مخافة من الحق .
والله سبحانه قد أمر في كتابه - عند تنازع الأمة - بالرد إلى الله ورسوله ، لم يأمر عند التنازع إلى شيء معين أصلا وقد قال الأئمة : إن أولى الأمر صنفان : العلماء والأمراء ، وهذا يدخل فيه مشايخ الدين وملوك المسلمين ، كل منهم يطاع فيما إليه من الأمر ، كما يطاع هؤلاء فيما يأمرون به من العبادات ، ويرجع إليهم في معاني القرآن والحديث والإخبار عن الله ، وكما يطاع هؤلاء في الجهاد ، وإقامة الحدود ونحو ذلك مما يباشرونه من الأفعال التي أمرهم الله بها .(1/46)
وإذا اتفق ( المسلمون ) (21) على أمر فإجماعهم حجة قاطعة . فإن أمة محمد لا تجتمع على ضلالة (22) ؛ وإن تنازعوا فالمرد إلى الكتاب والسنة . وهذه القضية : قد جري فيها ما جري ، مما ليس هذا موضع ذكره ، وكنت تبلغني بخطابك وكتابك من الشيخ ما تبلغني . وقد رأيت وسمعت موافقتي على كل ما فيه طاعة الله ورسوله ، وعدم التغاتي إلى الظالم لحظوظي ، أو مقابلة في يؤذيني ، ووتيقنت هذا مني . فما الذي يطلب من المسلم فوق هذا ؟
وأشرت بترك المحاقة (23) ولين الجانب وأنا مجيب إلى هذا كله . فجاء الفتاح (24) أولا ، فقال : يسلم عليك النائب . وقال : إلى متي يكون المقام في الحبس ؟ أما تخرج ؟ هل أنت مقيم على تلك الكلمة أم لا ؟ وعلمت أن الفتاح ليس في استقلاله بالرسالة مصلحة ، لأمور لا تخفى .(1/47)
فقلت له : سلم على النائب وقل له : أنا ما أدري ما هذه الكلمة ؟ وإلى الساعة لم أدري ؟ على ( أي ) (25) شيء حبست ؟ ولا علمت ذنبي . وإن جواب هذه الرسالة لا يكون مع خدمتك ، لما يرسل من ثقافة (26) الذين يفهمون ويصدقون أربعة أمراء ، وليكون الكلام معهم مضبوطا عن الزيادة والنقصان . فأنا قد علمت ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب . فجاء بعد ذلك الفتاح ، ومعه شخص ، عرفته . لكن ذكر لي أنه يقال له : علاء الدين الطيبرسي . ورأيت الذين عرفوه أثنوا عليه بعد ذلك خيراً ، وذكروه بالحسنى ، ولكنه لم يقل ابتداء من الكلام ما يحتمل الجواب بالحسنى فلم يقل : الكلمة التي أنكرت : كيت وكيت و استفهم هل أنت مجيب إلى كيت وكيت ؟ ولو قال ما قال من الكذب على والكفر والمجادلة على الوجه الذي يقتضي الجواب بالحسنى لفعلك ذلك ؛ فإن الناس يعلمون أني من أطول الناس ، روحاً ، وصبراً على مر الكلام ، وأعظم الناس عدلا في المخاطبة لأقل الناس ، دع ولاة الأمور ، لكنة جاء مجئ المكره على أن أوافق إلى ما دعا إليه ، وأخرج درجا فيه من الكذب والظلم ، والدعاء إلى معصية الله ، والنهى عن طاعته : ما الله به عليم .
وجعلت كلما أردت أن أجيبه وأحمله رسالة يبلغها لا يريد أن يسمع شيئاً من ذلك و يبلغه ، بل لا يريد إلا ما مضمونه الإقرار بما ذكر . والتزام عدم العودة إليه . والله تعالى يقول ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ( (27)
فمتي ظلم المخاطب لم نكن مأمورين أن نجيبه بالتي هي أحسن ، بل قال أبو بكر الصديق ( لعروة بن مسعود بحضرة النبي ( - لما قال " إني لأري أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك " - : " امصص بظر اللات (28) ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ " .
ومعلوم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين من كانوا وقد قال تعالى
( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ( . (29)(1/48)
فمن كان مؤمناً فهو الأعلى - كائناً من كان - ومن حاد الله ورسوله ، فقد قال تعالى:
(إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين ( (30)
وأنا - أو غيري - من أي القسمين كنت ، فإن الله تعالى يعاملني و غيري بما وعده . فإن قوله الحق :
( وعد الله لا يخلف الله وعده ( (31) .
فقلت له في ضمن الكلام : الحق في هذه القضية ليس لي . لكن لله ولرسوله و لسائر المؤمنين من شرق الأرض إلى غربها ، وأنا لا ( أبتغي ) (32) تبديل الدين و تغييره . وليس لأجلك أو أجل غيرك أرتد عن دين الإسلام ، وأقر بلكفر و الكذب ، و البهتان ، راجعاً عنه أو موافقاً عليه .
[ ثبات ضد الظلم ]
ولما رأيته يلح في الأمر بذلك ، أغلظت عليه في الكلام ، و قلت : دع هذا الفشار (33) ، وقم رح في شغلك ، فأنا ما طلبت منكم أن تخرجوني ؛ وكانوا قد أغلقوا الباب القائم ، الذي يدخل منه إلى الباب المطبق . فقلت أنا : افتحوا لي الباب حتى أنزل - يعنى فرغ الكلام .
وجعل غير مرة يقول لي : أتخالف (34) المذاهب الأربعة ؟ فقلت : أنا ما قلت إلا ما يوافق المذاهب الأربعة ، و لم يحكم علي أحد من الحكام إلا ابن مخلوف (35) ، وأنت كنت ذلك اليوم حاضراً .
وقلت له : أنت تحكم ، أو أنت و هؤلاء ؟ فقال : بل أنا وحدي . فقلت له : أنت خصمي ، فكيف تحكم علي ؟ فقال : كذا - ومد صوته ، و انزوي إلى الزاوية - وقال : قم ، قم . فأقاموني ، وأمروا بي إلى الحبس . ثم جعلت أقول أنا واخوتي غير مرة : أنا أرجع و أجيب وإن كنت أنت الحاكم وحدك ، فلم يقبل ذاك مني .(1/49)
فلما ذهبوا بي إلى الحبس حكم بما حكم به ، وأثبت ما أثبت ، وأمر في الكتاب السلطاني بما أمر به . فهل يقول أحد من اليهود و النصارى - دع المسلمين - إن هذا حبس بالشرع ؟ فضلاً عن أن يقال : شرع محمد بن عبد الله ( ؟ وهذا مما يعلم الصبيان الصغار بالاضطرار من دين الإسلام : أنه مخالف لشرع محمد بن عبد الله . و هذا الحاكم - هو وذووه - دائما يقولون : فعلنا ما فعلنا بشرع محمد بن عبد الله
وما أشبه الليلة بالبارحة . وهذا الحكم مخالف لشرع الله الذي أجمع المسلمون عليه من أكثر من عشرين وجهاً ؟ ثم النصارى في حبس حسن ، يشركون فيه بالله ، و يتخذون فيه الكنائس ، فيا ليت حبسنا كان من جنس حبس النصارى ، و يا ليتنا سوينا بالمشركين و عباد الأوثان . بل لأولئك الكرامة و لنا الهوان (36) . فهل يقول من يؤمن بالله و اليوم الآخر : إن رسول الله أمر بهذا ؟
وثاني ذلك : حبس اخوتي في ذنب إنما ثبت بالكذب و البهتان . ومن قال : إن ذلك فعل بالشرع ، فقد كفر بإجماع المسلمين . و قلت له في ضمن الكلام : أنت لو ادعى عليك رجل بعشرة دراهم ، وأنت حاضر في البلد غير ممتنع من حضور مجلس الحكم : لم يكن للحاكم أن يحكم عليك في غيبتك ، هذا في الحقوق ، فكيف بالعقوبات التي يحرم فيها ذلك بإجماع المسلمين ؟ ثم هذا الرجل قد ظهر لديه غير مرة ذلك اليوم كذب على في أكثر ما قاله وهذه الورقة التي أمر بكتابتها أكثرها كذب ، و الكتاب السلطاني ، الذي كتب بأمره ، مخالف للشريعة من نحو عشرة أوجه وفيه من الكذب على المجلس الذي عقد أمور عظيمة ، قد علمها الخاص و العام .
فإذا كان الكتاب الذي كتب على لسان السلطان و قرئ على منابر الإسلام : أخبر فيه عن أهل المجلس من الأمراء و القضاة بما هو من أظهر الكذب و البهتان ، فكيف بما غاب عنهم ؟
[ تبديل كلام الخصم ](1/50)
قلت : وهو دائما يقول عني : إني أقول : الله في زاوية ، وكذا و كذا . وهذا كله كذب (37) . وشهرته بالكذب و الفجور يعلمها الخاص و العام . فهل يصح مثل هذا أن يحكم في أصول الدين ، و معاني الكتاب والسنة ، وهو لا يعرف ذلك ؟ ورأيته هنا يبتسم تبسم العارف بصحة ما قلته ؛ و كان سيرة هذا الحاكم مشهورة بالشر بين المسلمين . وأخذ يقول لي : هذى المحاضر ، ووجدوا بخطك . فقلت : أنت كنت حاضراً ذلك اليوم ، هل أراني أحد ذلك اليوم خطاً أو محضراً ؟ أو قيل لي : شهد عليك بكذا ، أو أسمع لي كلام ؟ بل حين شرعت أحمد الله وأثنى عليه لقول النبي ( : " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم "(38) منعوني من حمد الله ، و قالوا : لا تحمد الله ، بل أجب . فقلت لابن مخلوف : ألك أجيب ، أو لهذا المدعى ؟ وكان كل منهما قد ذكر كلاما أكثره كذب . فقال : بل أحب المدعى . فقلت فأنت وحدك تحكم ، أو أنت و هؤلاء القضاة ؟ فقال : بل أنا وحدي . فقلت : فأنت خصمي ، فكيف يصح حكمك علي ؟ فلم يطلب مني الاستفسار عن وجه المخاصمة . فإن هذا كان خصما من وجوه متعددة معروفة عند جميع المسلمين .
[ شهادة القضاة بعقيدة الشيخ ]
ثم قلت : أما ما كان بخطي : فأنا مقيم عليه ، وأما المحاضر : فالشهود فيها : فيهم من الأمور القادحة في شهادتهم وجوه متعددة ، تمنع قبول شهادتهم بإجماع المسلمين ، و الذي شهدوا به : فقد علم المسلمون - خاصتهم و عامتهم بالشام وغيره - ضد ما شهدوا به وهذا القاضي شرف الدين بن المقدسي قد سمع منه الناس العدول : أنه كان يقول : أنا على عقدة فلان ، حتى قبل موته بثلاث ، دخلت عليه عائداً مع طائفة فقال قدامهم : أنا أموت على عقيدتك يا فلان ، لست على عقيدة هؤلاء - يعنى الخصوم .(1/51)
وكذلك القاضي شهاب الدين الخولي ، غير مرة يقول في قفاي أنا على عقيدته (39) و القاضي إمام الدين قد شهد على العدول أنه قال ما ظهر في كلامه شيء ؟ ومن تكلم فيه عزرته ، وقال لي في أثناء كلامه : فقد قال بعض القضاة : إنهم أنزلوك عن الكرسي . فقلت : هذا من أظهر الكذب الذي يعلمه جميع الناس ما أنزلت من الكرسي قط ، ولا استتابني أحد قط عن شيء ولا استرجعني .
وقلت : قار وصل إليكم المحضر الذي فيه خطوط مشايخ الشام ، و سادات الإسلام ، و الكتاب الذي فيه كلام الحكام - الذين هم خصومي - كمال الدين المالكي ، وجلال الدين الحنفي ، وما ذكروا فيه مما يناقص هذا المحاضر ، و قول المالكي : ما بلغني قط أنه استتيب ، ولا منع من فتيا ، ولا أنزل ، ولا كذا ولا كذا ، ولا ثبت عليه عندي قط شيء يقدح في دينه ، وكذلك قول سائر العلماء و الحكام في غيبتي . وأما الشهادات : ففيها أمور عظيمة . فتدبرها ، فكيف شهود المحضر فيهم من موانع الشهادة أمور تقال عند الحاجة ؟
فصل معترض
[ اعتماد السلطان على جهلة المتعالمين ]
ذكرت في وقتك أنك قلت للشيخ : في نفسي أن تطلب لي المحاضر ، حتى ينظر هو فيها ، فإن كان له دافع ، و إلا فالجماعة كلهم معذورون ، وهذا مما لا حاجة لي إليه أصلا ؛ وهذه المحاضر أقل وأحقر من أن يحتاج الرد عليها إلى حضورها فإني قد بينت ببضع وعشرين وجهاً أن هذا الحكم خارج عن شريعة الإسلام بإجماع المسلمين ، و المذاهب الأربعة و سائر أئمة الدين .
وقلت للرسول : ما لابن مخلوف ونحوه في أن يتعرض إلى علم الدين الذي غيره أعلم به منه ؟ مثل تفسير القرآن ، وأحاديث النبي ( ، ومقالات السلف ، وأصول الدين التي لا يعرفها ، وهذه الأمور إنما يرجع فيها إلى من يعرفها ، فإن كان السلطان أو نائبة الحاكم يعرفها كان في ذلك كسائر العارفين بها ، و إلا فلا أمر لهم فيها ، كما لا يرجع في الاستفتاء إلا إلى من يحسن الفتيا .(1/52)
[ سبب فتاوى الإمام في العقيدة و سبب النقمة عليه ]
وقلت له : أنا لم يصدر مني قط إلا جواب مسائل ، و إفتاء مستفت ، ما كاتبت أحداً ، ولا خاطبته في شيء من هذا ، بل يجئني الرجل المسترشد المستفتي عما أنزل الله على رسوله ، فيسألني مرة بعد مرة ، وهو متحرق على طلب الهدى ، أفيسعني في ديني أن أكتمه العلم ؟ و قد قال النبي ( : من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " (40)
و قد قال الله تعالى :
( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيانات و الهدى من بينه للناس في الكتاب ، أولئك يلعنهم الله ، و يلعنهم اللاعنون ( (41)
أفعلى أمرك أمتنع من جواب المسترشد لأكون كذلك ؟ و هل يأمرني بهذا السلطان ، أو غيره من المسلمين ؟ و لكن أنتم ما كان مقصودكم إلا دفع أمر الملك لما بلغتكم من الأكاذيب فقال : يا مولانا دع أمر الملك ؛ أحد ما يتكلم في الملك ؟ فقلت : إيه ، الساعة ما بقي أحد يتكلم في الملك ، و هل قامت هذه الفتنة إلا لأجل ذلك ؟ ونحن سمعنا . بهذا و نحن بالشام : أن المنبر لا يهمه (42) الملك ، لكن ما اعتقدنا أن أحداً يصدق هذا .(1/53)
وذكرت له : أن هذه القضية ليس ضررها علي ، فإني أنا من أي شيء أخاف ؟ إن قتلت كنت من أفضل الشهداء ، وكان ذلك سعادة في حقي ؛ يترضي بها على إلى يوم القيامة ، و يلعن الساعي في ذلك إلى يوم القيامة ؛ فإن جميع أمة محمد يعلمون أني أقتل على الحق الذي بعث الله به رسوله ، و إن حبست : فوالله إن حبسي لمن أعظم نعم الله علي ، و ليس لي ما أخاف الناس عليه ، لا مدرسة ولا إقطاع ، ولا مال ، ولا رياسة ، ولا شيء من الأشياء ، و لكن هذه القضية ضررها يعود عليكم ، فإن الذين سعوا فيها من الشام ، أنا أعلم أن قصدهم فيها كيدكم ، و فساد ملتكم ودولتكم ، وقد ذهب بعضهم إلى بلاد التتر ، وبعضهم مقيم هناك ، فهم الذين قصدوا إفساد دينكم و دنياكم ، و جعلوني أنا [ ما نستر ] * لعلمهم بأني أواليكم و أنصح لكم ، و أريد لكم خير الدنيا و الآخرة ؛ و القضية لها أسرار ، كلما جاءت تنكشف ، و إلا فأنا لم يكن بيني و بين أحد بمصر عداوة ولا بغضاء ، و مازلت محباً لهم ، موالياً لهم ، أمرائهم و مشايخهم و قضاتهم .
فقال لي : فما الذي أقوله لنائب السلطان ؟
فقلت : سلم عليه ، و بلغه كل ما سمعت .
فقال : هنا كثير .
[ الإجماع على أن الاستواء حقيقة ]
فقلت : ملخصه أن الذي في هذا الدرج ، أكثره كذب ، و أما هذه الكلمة " استوى حقيقة " .
فهذه قد ذكر غير واحد من علماء الطوائف المالكية و غير المالكية : أنه أجمع عليها أهل السنة و الجماعة ، وما أنكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا أئمتها بل ما علمت عالماً أنكر ذلك ، فكيف أترك ما أجمع عليه أهل السنة ، و لم ينكره أحد من العلماء ؟ .
وأشرت بذلك إلى أمور ، منها : ما ذكره الإمام أبو عمر الطلمنكي - وهو أحد أئمة المالكية قبل الباجي و ابن عبد البر و هذه الطبقة - قال : و أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى
( وهو معكم أينما كنتم ( (43)(1/54)
ونحو ذلك من القرآن : أن ذلك علمه ، وأن الله فوق السماوات بذاته ، مستو على عرشه كيف شاء .
وقال أيضا : قال أهل السنة في قول الله :
( الرحمن على العرش استوى ( (44)
إن الاستواء من الله علي عرشه المجيد ، على حقيقة ، لا على المجاز
وقال أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير المشهور في قوله تعالى
( ثم استوى على العرش ( (45)
قال : (46) : هذه مسألة الاستواء .
للعلماء فيها كلام و إجراء ، و قد بينا أقوال العلماء فيها في كتاب " الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " وذكرنا فيها أربعة عشر قولا
إلى أن قال :
وقد كان السلف الأول -رضي الله عنهم - لا يقولون بنفي الجهة ، ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم و الكافة بإثباتها لله تعالى ، كما نطق به كتابة و أخبرت به رسله .
قال " و لم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات ، و إنما جهلوا كيفية " الاستواء " و أنه لا تعلم حقيقته ، كما قال مالك " الاستواء معلوم - يعني في اللغة - و الكيف مجهول ، و السؤال عن هذا بدعه " وكذلك قالت أم سلمة رضي الله عنها .
وقال هذا الشيخ - المشهور بمصر و غيرها " في كتاب شرح الأسماء - قال : وذكر الإمام أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها " برسالة الإيماء ، إلى مسألة الاستواء " لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء : قول الطبري - يعني أبا جعفر صاحب التفسير الكبير - و أبي محمد ابن أبي زيد ، و القاضي عبد الوهاب و جماعة من شيوخ الحديث و الفقه - قال : و هو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر - القاضي عبد الوهاب أيضاً ، وهو أنه سبحانه مستو على العرش بذاته ، و أطلقوا في بعض الأماكن " فوق عرشه " قال الإمام أبو بكر : و هو الصحيح الذي أقول به ، من غير تحديد و لا تمكين في مكان ، ولا كون فيه ، ولا ماسة .
[ ما قال السلف في مسألة الاستواء ](1/55)
قال الشيخ أبو عبد الله : هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب " تمهيد الأوائل " له . و قاله الأستاذ أبو بكر بن فورك في " شرح أوائل الأدلة " له و هو قول أبي عمر بن عبد البر ، (47) و الطلمنكي ، و غيرهما من الأندلسيين ، و قول الخطابي في " شعار الدين " ثم قال - بعد أن حكي أربعة عشر قولاً - : " و أظهر الأقوال : ما تظاهرت عليه الآي و الأخبار ، و الفضلاء و الأخبار : إن الله على عرشه ، كما أخبر في كتابه و على لسان نبيه بلا كيف ، بائن من جميع خلقه . هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله عنهم الثقات " هذا كله لفظه و قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب " الإبانة " له :
" و أئمتنا - كسفيان الثوري ، و مالك بن أنس ، و سفيان بين عيينه ، و حماد بن سلمة ، و حماد بن زيد ، و عبد الله بن المبارك ، و فضيل [ بن ] (48) عياض ، و أحمد بن حنبل ، و إسحاق بن راهوية - متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش ، و أن علمه بكل مكان ، و أنه يري يوم القيامة بالأنصار ، فوق العرش ، و أنه ينزل إلى سماء الدنيا ، و أنه يغضب و يرضي ، و يتكلم بما يشاء ، فمن خالف شيئاً من ذلك فهو منهم برئ و هم منه براء .
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب " التمهيد " في شرح الموطأ - و هو أجل ما صنف في فنه ، لما تكلم على حديث النزول - (49) قال (50) : " هذا حديث ثابت من جهة النقل ، صحيح الإسناد ، لا يختلف أهل الحديث العدول في صحته ... و هو حديث منقول من طرق - سوي هذه - من أخبار العدول عن النبي ( و فيه دليل على أن الله في السماء على العرش ، من فوق سبع سماوات ، كما قالت الجماعة . و هو من حجتهم على المعتزلة في قولهم : إن الله بكل مكان ، و ليس على العرش . وقال : و الدليل على صحة ما قال أهل الحق : قول الله :
( الرحمن على العرش استوى ( (51)
و قال
( إليه يصعد الكلم الطيب ( (52)
وقال
( تعرج الملائكة و الروح إليه ( (53)
وقال لعيسى(1/56)
( إني متوفيك ورافعك إلي ( (54)
وذكر آيات إلى أن قال : وهذا أشهر عند العامة و الخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته . لأنه اضطرار ، لم يوافقهم عليه أحد ، و لا خالفهم فيه مسلم - و بسط الكلام في ذلك إلى أن قال : و أما احتجاجهم بقوله تعالى :
( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، و لا خمسة إلا هو سادسهم ، و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ( (55)
فلا حجة لهم في ظاهر الآية ، لأن علماء الصحابة و التابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل هذه الآية : هو على العرش . وعلمه في كل مكان ، و ما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله . وذكر عن الضحاك ابن مزاحم أنه قال في قوله :
( ما يكون من نجوى ثلاثة (
قال : هو على عرشه . و علمه معهم أينما كانوا . و عن سفيان الثوري مثل ذلك . وعن ابن مسعود قال : الله فوق العرش . و لا يخفي عليه شيء من أعمالكم .
قال أبو عمر بن عبد البر : *
أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن و السنة ، و الإيمان بها و حملها على الحقيقة لا على المجاز ، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ، و لا يجدون فيه صفة محصورة . و أما أهل البدع الجهمية و المعتزلة كلها و الخوارج : فكلهم ينكرها ، و لا يحمل شيئاً منها على الحقيقة . و يزعمون أن من أقربها مشبه . وهم عند من أقر بها نافون للمعبود . و الحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله و سنة رسوله . و هم أئمة الجماعة .
و قال أبو عمر : " الذي عليه أهل السنة و أئمة الفقه و الأثر في هذه المسألة و ما أشبهها : الإيمان بما جاء عن النبي ( فيها ، و التصديق بذلك ، و ترك التحديد و الكيفية في شيء منه " .(1/57)
وقال الشيخ العارف أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الكيلاني في كتاب " الغنية " له : أما معرفة الصانع بالآيات و الدلالات على وجه الاختصار : فهو أن نعرف و نتيقن أن الله واحد أحد - إلى أن قال - و هو بجة العلو (56) ، مستو على العرش ، محتو على الملك ، محيط علمه بالأشياء .
قال " و لا يجوز و صفه بأنه في كل مكان ، بل يقال : إنه في السماء على العرش ، كما قال ( الرحمن على العرش استوى (
وذكر الآيات و الأحاديث - إلى أن قال : " و ينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل ، و أنه استواء الذات على العرش ، قال : وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على نبي أرسل بلا كيف ، وذكر كلاماً طويلا .
[ متابعة الخصوم له على العقيدة ]
وهذه الآثار لم أذكرها كلها للرسول ، لكن هي مما أشرت إليه بقولي له " إني لم أقل شيئا من نفسي ، و إنما قلت ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها " وهذا الموضوع بما في ذلك من كلام الأئمة .
فقال لي : نعم هو مستو على العرش حقيقة بذاته ، بلا تكيف ولا تشبيه ؟ قلت : نعم ، وهكذا هو في العقيدة .
فقال : فاكتب هذه الساعة - وقال : التزمه ، أو نحو هذا فقلت : هذا هو مكتوب بهذا اللفظ في العقيدة التي عندكم (57) التي بحثت بدمشق ، واتفق عليها المسلمون . فأي شيء هو الذي أزيده ؟ .
وقلت له : أنا قد أحضرت أكثر من خمسين كتابا من كتب أهل الحديث و التصوف و المتكلمين و الفقهاء الأربعة و الحنفية ، و المالكية ، و الشافعية ، و الحنبلية - يوافق ما قلته .
وقلت : أنا أمهل من خالفني ثلاث سنين أن يجئ بحرف واحد عن أئمة الإسلام يخاف ما قلته . فما الذي أصنعه ؟
فلما خرج الطيبرسي و الفتاح عاد الفتاح بعد ساعة . فقال : يسلم عليك نائب السلطان ، و قال : فاكتب لنا الآن عقيدة بخطك .(1/58)
فقلت : سلم على النائب السلطان ، وقل له : لو كتبت الساعة شيئاً لقال القائل : قد زاد و نقص ، أو غير الاعتقاد ، وهكذا بدمشق لما طلبا الاعتقاد هو الذي قرئ بالشام في المجالس الثلاثة وقد أرسله إليكم نائبكم مع البريد و الجميع عندكم ، ثم أرسل إليكم مع العمرى ثانيا لما جاء الكتاب الثاني ما قاله القضاة و العلماء و المحضر و كتاب البخاري الذي قرأه المزي ، والاعتقاد ليس هو شيئاً أبتدئه من عندي ، حتى يكون كل يوم لي اعتقاد ، وهو ذلك الاعتقاد بعينه ، و النسخة بعينها . فانظروا فيها . فراح ، ثم عاد ، و طلب أن اكتب بخطي أي شيء كان .
فقلت : فما الذي أكتبه ؟
قال : مثل العفو ، وأن لا تتعرض لأحد
فقلت : نعم ، هذا أنا مجيب إليه ، ليس غرضي في إيذاء أحد ولا الانتقام منه ، ولا مؤاخذته ، و أنا عاف عمن ظلمني . وأردت أن أكتب هذا ، ثم قلت : مثل هذا ما جرت العادة بكتابته ، فإن عفو الإنسان عن حقه لا يحتاج إلى هذا .(1/59)
و تعلم أن الأمر لما جرى على هذا الوجه بعض القلوب يتغير على الشيخ . وظنوا أن هذا الدرج قد أمر به ، و أن ذلك يناقص ما كان بقوله ، ويرسل به . فجعلت أنا وأخى نرفع ذلك و نقول : هذا من فعل ابن مخلوف ، وقد تحققت أنا أن ذلك من عمل ابن مخلوف ، و يعرف الشيخ أن مثل هذه القضية التي قد اشتهرت و انتشرت ، لا تندفع على هذا الوجه ، فأنا أبذل (58) ما في و سعي من الإحسان ، وترك الانتقام ، وتأليف القلوب ، لكن هو يعرف خلقاً كثيراً ممن بالديار المصرية ، و أن الإنسان لا ينجو من شرهم و ظلمهم إلا بأحد طريقين ، إحداهما : مستقر ، والآخر متقلب . الأول : أن [ يكون له ] من الله تأييد و سلطان ، و التجاء إليه ، و استعانة به ، و توكل عليه ، و استغفار له ، و طاعة له ، يدفع به عنه شر شياطين الإنس و الجن ، و هذه الطريقة هي النافعة الباقية . و الطريق الثاني : أن [ يكون له ] (59) جاه من ذي جاه ، فإنهم يراءون ذا الجاه ، ما دام جاه ، و إلا فإذا أنقلب جاهه كانوا من أعظم الناس قياماً عليه هم بأعيانهم ، حتى إنهم قد يضربون القاضي بالمقارع ، و نحو ذلك مما لا يكاد يعرف لغيرهم (60) أعداؤه و مبغوضوه كثيرون ، وقد دخل في إثبات و إملاك وغير ذلك ، متعلقة بالدولة و غير الدولة فلو حصل من ذوي الجاه من له غرض في نقض أحكامه و نقل الأملاك ، كان ذلك من أيسر الأمور عليه ، إما أن يثبت ردته ، و أحكام المرتد لا تنفذ ؛ لأنه قد علم من الخاص و العام أنه جعل ما فعله في هذه القضية شرع محمد بن عبد الله ، و الإنسان متي حلل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه ، أو بدل الشرع المجمع عليه : كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء ، و في مثل هذا نزل قوله - على أحد القولين .
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ( (61)
أي هو : المستحيل للحكم بغير ما أنزل الله .
[ معاني الشرع في العرف ]
ولفظ " الشرع " يقال في عرف الناس على ثلاثة معان ،(1/60)
الشرع المنزل و هو ما جاء به الرسول ، و هذا يجب اتباعه ، ومن خالفه و جبت عقوبته .
والثاني : الشرع المؤول ، وهو آراء العلماء المجتهد فيها ، كمذهب مالك و نحوه ، فهذا يسوغ اتباعه ، و لايجب ، و لا يحرم ، و ليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ، و لا يمنع عموم الناس منه
و الثالث : الشرع المبدل ، وهو الكذب على الله و رسوله ، أو على الناس : شهادات الزور و نحوها ، و الظلم البين ، فمن قال : إن هذا من شرع الله ، فقد كفر بلا نزاع ، كمن قال : إن الدم و الميتة حلال ، و لو قال : هذا مذهبي ، و نحو ذلك .
[ مخالفة الخصوم لائمتهم ]
فلو كان الذي حكم به ابن مخلوف ، هو مذهب مالك أو الأشعري : لم يكن له أن يلزم جميع الناس به و يعاقب من لم يوافقه عليه . باتفاق الأمة ، فكيف و القول الذي يقوله ، و يلزم به هو خلاف نص مالك ، و أئمة أصحابه ، و خلاف نص الأشعري و أئمة أصحابه ، كالقاضي أبي بكر ، و أبي الحسن الطبري ، و أبي بكر بن فورك ، و أبي القاسم القشيري ، و أبي البيهقي ، و غير هؤلاء ، كلهم مصرحون بمثل ما قلناه ، و بنقيض ما قاله ؟(1/61)
ولهذا اصطلحت الحنبلية و الشعرية ، و اتفق الناس كلهم و لما رأي الحنابلة كلام أبي الحسن الأشعري ، قالوا : هذا خير من كلام الشيخ الموفق ، وزال ما كان في القلوب من الأضغان ، وصار الفقهاء من الشافعية و غيرهم يقولون : الحمد لله على اتفاق كلمة المسلمين . ثم لو فرض أن هذا الذي حكم به مما يسوغ فيه الاجتهاد : لم يكن له أن ينقض حكم غيره ، فكيف إذا نقض حكم حكام الشام جميعهم بلا شبة ، بل بما يخالف دين المسلمين بإجماع المسلمين : : و لو زعم أن حكام الشام مكرهون ففيهم ممن يصرح بعدم الإكراه غير واحد ، و هؤلاء بمصر كانوا أظهر إكراهاً لما اشتهر عند الناس أنه فعل ذلك لأجل غرض الدولة المتعلق بالملك ، و أنه لولا ذلك لتكلم الحكام بأِشياء ، وهذا ثابت عن حكام مصر ، فكيف ؟ وهذا الحكم الذي حكم به مخالف لشريعة الإسلام من بضعة و عشرون وجهاً ، و عامتها بإجماع المسلمين ؟ و الوجوه مكتوبة مع الشرف محمد فينبغي أن يعرف الشيخ نصر بحقيقة الأمر و باطن القضية ، ليطبها بتدبيره فأنا ليس مرادي إلا في طاعة الله و رسوله ، و ما يخافه على جميع المصريين إلا من بعضهم في بعض ، كما جرت به العادة ، وقد سمعتم ما جري بدمشق ، مع أن أولئك أقرب إلى الاتفاق - من تجديد القاضي المذكور إسلامه ، عند القاضي الآخر ، و أنا لما كنت هناك ، كان هذا الأذرعي الحنفي قد ذهب إلى القاضي تقي الدين الحنبلي ، و جدد إسلامه ، و حكم بحقن دمه لما قام عليه بعض أصحابهم في أشياء . وكان من مدة - لما كان القاضي حسام الدين الحنفي مباشراً لقضاء الشام أراد أن يحلق لحية هذا الأذرعى ، و أحضر الموس و الحمار ليركبه و يطوف به فجاء أخوه عرفني ذلك ، فقمت إليه ، ولم أزل به حتى كف عن ذلك ، و جرت أمور لم أزل له فيها محسناً إليهم ، وهذه أمور ليست من فعلي و لا فعل أمثالي ، نحن إنما ندخل فيما يحبه الله ورسوله و المؤمنون ، ليس لنا غرض مع أحد ، بل نجزي بالسيئة الحسنة ، و(1/62)
نعفو ونغفر . وهذه القضية قد انتشرت و ظهر ما فعل فيها ، و علمه الخاص و العام ، فلو تغيرت الأحوال حتى جاء أمير أو وزير له [ عرض ] (62) في نقل ملك قد أثبته أو حكم به : لكان هذا عند المصريين من أسهل ما يكون ، فيثبتون ردته ، و المرتد أحكامه مردودة باتفاق العلماء ، ويعود ضرره على الذين أعانوه و نصروه بالباطل ، من أهل الدولة و غيرهم ، وهذا أمر كبير لا ينبغي إهماله ، فلشيخ خبير ، يعرف عواقب الأمور .
وأنا و الله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها و في غيرها ، وإقامة لكل خير .
[ تسامح الشيخ مع خصومه ]
وابن مخلوف - ولو عمل مهما عمل - والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ، ولا أعين عليه عدوه قط ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هذه نيتي و عزمي ، مع علمي بجميع الأمور ، فإني أعلم أن الشيطان ينزع بين المؤمنين ، ولكن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين ، ولو كنت خارجاً لكنت أعلم بماذا أعاونه ، لكن هذه قد جعلوها مسألة دور ، والله يخير للمسلمين جميعهم ما فيه الخير لدينهم ودنياهم .
ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله ، والاستغفار و التوبة ، وصدق الالتجاء ، فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وأما ما ذكرت عن الشيخ نصر : أنه قال " كنت أوثر أن لا يحسوا به إلا وقد خرج خشية أن يعلم فلان وفلان ، فيطلعوا و يتكلموا فتكثر الغوغاء و الكلام " فعرفه أن كل من قال حقاً ، فأنا أحق من سمع الحق و التزمه و قبله ، سواء كان حلواً أو مراً ، وأنا أحق أن يتوب من ذنبه التي صدرت منه ، بل وأحق بالعقوبة - إذا كنت أضل المسلمين عن دينهم - و قد قلت فيما مضى : ما ينبغي لأحد أن تحمله محبته لشخص وموالاته له على أن يتعصب معه بالباطل أو يعطل لأجله حدود الله تعالى ، بل قد قال النبي (
" من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ، فقد ضاد الله في أمره " (*63)
[ مسألة الاستغاثة ](1/63)
وهذا الذي يخافه من قيام العدو و نحوه في المحضر الذي قام به من الشام إلى ابن مخلوف فيما يتعلق بالاستغاثة بالنبي ( إن أظهروه : كان و باله عليهم ، ودل على أنهم متشككون لا يفرقون بين دين المسلمين ودين النصارى ، فإن المسلمين متفوقون على ما علموه بالاضطرار من دين الإسلام أن العبد لا يجوز له أن يعبد ، و لا يدعو ، ولا يستغيث ، ولا يتوكل إلا على الله ، و أن من عبد ملكاً مقرباً ، أو نبياً مرسلاً ، أو دعاه ، أو استغاث به : فهو مشرك فلا يجوز عن أحد من المسلمين أن يقول للقائل : يا جبرائيل ، أو يا ميكائيل ، أو يا إبراهيم ، أو يا موسى ، أو يا رسول الله : اغفر لي ، أو ارحمني ، أو ارزقني ، أو انصرني ، أو أغنني ، أو أجرني من عدوي ، أو نحو ذلك ، بل هذا كله من خصائص الإلهية ، وهذه مسائل شريفة معروفة قد بينها العلماء ، وذكروا الفرق بين حدود الله - التي يختص بها الرسل ، و الحقوق التي له ولرسله ، كما يميز سبحانه بين ذلك في مثل قوله
( وتعزروه و توقروه و تسبحوه بكرة و أصيلا ( (64)
قال عزيز و التوقير للرسول ، والتسبيح بكرة و أصيلا : لله ، وكما قال تعالى
( ومن يطع الله ورسوله و يخشى الله و يتقه فأولئك هم الفائزون ( (65)
فالطاعة لله و لرسوله ، و الخشية و التقوى لله وحده ، وكما يقول المرسلون
(أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون ( (66)
فيجعلون العبادة و التقوى لله وحده و يجعلون لهم الطاعة ، قال تعالى :
( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ، و أنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً ، قل إنما أدعو ربي و لا أشرك به أحداً ، قل إني لا أملك لكم ضراً و لا رشداً ، قل إني لن يجيرني من الله أحد ، ولن أجد من دونه ملتحداً ( (67)
وقال تعالى :
( فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين ( (68)
وقال تعالى :(1/64)
( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، و مالهم فيهما من شرك ، وماله فهم من ظهير ، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ( (69)
وقال تعالى :
( من ذا الذي يشفع عند إلا بإذنه ( (70)
وقال تعالى :
( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ، أولئك الذين يدعون يتبعون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب و يرجون رحمة و يخافون عذابه ، إن عذاب ربك كان محذورا ( (71)
وقال تعالى :
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله و المسيح ابن مريم ، و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً ، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( (72)
وقال تعالى :
( ما كان لبشر أن يوتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة ، ثم يقول للناس : كونوا عباداً لي من دون الله ، و لكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب و بما كنتم تدرسون ، و لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة و النبيين أرباباً ، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ ( (73)
فمن اتخذ الملائكة و النبيين أرباباً ، فقد كفر بعد إسلامه بإتقان المسلمين ، ولأجل هذا نهى النبي ( عن اتخاذ المساجد على القبور ، وعن أن يجعل لله نداً في خصائص الربوبيه ، ففي الصحيحين عنه أنه قال
" عن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما فعلوا " (74) وفي الصحيح عنه أنه قال " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك " و في السنن عنه أنه قال
" لا تتخذوا قبري عيداً " (75) (76) وروي عنه أنه قال
" اللهم لا تجعل قبري و ثناً يعبد " (77) وقال له رجل
" ما شاء الله و شئت ؟ فقال : اجعلتني لله نداً ؟ بل ما شاء الله وحده " (78)
[ آداب زيارة النبي ( ](1/65)
ولهذا قال العلماء : من زار قبر النبي ( فإنه لا يستلمه و لا يقبله ، ولا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق الذي يستلم و يقبل منه الركن الأسود ، و يستلم الركن اليماني ؛ و لهذا اتفق العلماء على أنه لا يشرع تقبيل شيء من الأحجار ، ولا استلامه [ إلا ] (79) الركنان اليمانيان ، حتى مقام إبراهيم الذي بمكة لا يقبل و لا يتمسح به ، فكيف بما سواه من المقامات و المشاهد ؟
[ عقيدة الخصوم في أهل القبور ]
وأنت لما ذكرت لي ذلك اليوم [ هذا ] قلت لك : هذا من أصول الإسلام . فإذا كان القاضي لا يفرق بين دين الإسلام ودين النصارى الذين يدعون المسيح وأمه ، فكيف أصنع أنا ؟ و لكن من يتخذ نفيسة رباً ، و يقول : إنها تجير الخائف ، و تغيث الملهوف ، و إنه في حسبها ، و يسجد لها ، و يتضرع في دعائها ، مثل ما يتضرع في دعاء رب الأرض و السماوات ، ويتوكل على حي قد مات ، ولا يتوكل على الحي الذي لا يموت
فلا ريب أن إشراكه بمن هو أفضل منها يكون أقوى .
قال تعالى .
( قل من بيده ملكوت كل شيء ، و هو يجير و لا يجار عليه إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون : لله . قل : فأني تسحرون ؟ ( (80)
وحديث معاذ لما رجع من الشام فسجد للنبي ( فقال : " ما هذا يا معاذ ؟ فقال : رأيتهم في الشام يسجدون لأساقففهم ، و يذكرون ذلك عن أنبيائهم ، فقال : يا معاذ ، أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له ؟ قال : لا . قال : فلا تسجد لي . فلو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " (81)
فمن لا ينهى الضالين عن مثل هذا الشرك المحرم بإجماع المسلمين كيف ينهى عما هو أقل منه ؟ ومن دعا رجلا أو امرأة من دون الله . وفي الصحيح عن النبي ( أنه قال " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ؛ فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله " (82)(1/66)
بل في سوغ أن يدعي المخلوق ، ومنع كمال دعاء الخالق الذي فيه تحقيق صمديته و إلهيته : فقد ناقض الإسلام في النفي والإثبات ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله .
[ الفرق بين التوسل الجائز والاستغاثة ]
وأما حقوق رسول ( - بأبي هو وأمي - مثل تقديم محبته على النفس والأهل و المال ، و تعزيره وتوقيره ، وإجلاله و طاعته ، واتباع سنته ، و غير ذلك : فعظيمة جداً ، وكذلك ما يشرع التوسل به في الدعاء ، كما في الحديث الذي رواه الترمذي و صححه : أن النبي ( شخصاً أن يقول .
" اللهم إني أسألك و أتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد ، يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها ، اللهم فشفعه في " (83)
فهذا التوسل به حسن ؛ (84) وأما دعاؤه والاستغاثة به فحرام .
و الفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين
المتوسل : إنما يدعو الله و يخاطبه ، و يطلب منه ، لا يدعو غيره إلا على سبيل استحضاره ، لا على سبيل الطلب منه
وأما الداعي و المستغيث : فهو الذي يسأل يجيب المضطر إذا دعاه ، و هو القريب الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، و هو سميع الدعاء . سبحانه و تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً وأنا قد صنعت كتاباً كبيراً سميته " الصارم المسلول ، على شاتم الرسول " و ذكرت فيه [ في ] (85) المسألة ما لم أعرف أحداً سبق إليه ، و كذلك هذه القواعد الإيمانية ، قد كتبت فيها فصولا هي من أنفع الأشياء في أمر الدين .
ومما ينبغي أن يعرف به الشيخ : أني أخاف أن القضية تخرج عن أمره بالكلية ، و يكون فيها ما فيه ضرر عليه ، و على ابن مخلوف و نحوهما ، فإنه قد طلب مني ما يجعل سبباً لذلك ، و لم أجب إليه ، فإني إنما أنا لون واحد ، والله ما غششتهما قط ، و لو غششتهما كتمت ذلك و أنا مساعد لهما على كل بر و تقوى .(1/67)
و تعرفه ، أن الأصل الذي تصلح عليه الأمور : رجوع كل شخص إلى الله و توبته إليه في هذا العشر المبارك ، فإذا حسنت السرائر أصلح الله الظواهر ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وهذه قضية كبيرة . كلما جاءت تزداد ظهوراً وانتشاراً .
والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، و الحمد لله ،،، (86)
بعض رسائل
شيخ الإسلام - رحمه الله -
من السجن :
قال ابن عند الهادي :
وما زال الشيخ تقي الدين رحمه الله في هذه المدة معظماً مكرماً ، يكرمه نقيب القلعة و نائبها إكراما كثيرا ، و يستعرضان حوائجه و يبالغان في قضائها .
وكان ما صنفه في هذه المدة قد خرج بعضه من عنده ، وكتبه بعض أصحابه ، و اشتهر ، وظهر .
فلما كان قبل وفاته بأشهر ورد مرسوم السلطان بإخراج ما عنده كله ، ولم يبق عنده كتاب ولا ورقة ، ولا دواة ، ولا قلم ، وكان بعد ذلك إذا كتب ورقة إلى بعض أصحابه يكتبها بفحم . وقد رأيت أوراقا عدة بعثها إلى أصحابه ، و بعضها مكتوب بفحم . منها ورقة يقول فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ونحن لله الحمد و الشكر في نعم متزايدة متوافرة ، وجميع ما يفعله الله فيه نصر الإسلام ، وهو من نعم الله العظام . و ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ( (87) ، فإن الشيطان استعمل حزبه في إفساد دين الله ، الذي بعث به رسله ، وأنزل كتبه .
ومن سنة الله : أنه إذا أراد إظهار دينه ، أقام من يعارضه ، فيحق بكلماته ، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاق .
والذي سعى فيه حزب الشيطان لم يكن مخالفة لشرع محمد ( وحده بل مخالفة الدين جميع المرسلين : إبراهيم ، وموسى و المسيح ، ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين(1/68)
وكانوا قد سعوا في أن لا يظهر من جهة حزب الله رسوله خطاب ولا كتاب ، و جزعوا من ظهور الإخنائية ، فاستعملهم الله تعالى حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم ، وألزمهم بتفتيشه ومطالعته ، ومقصودهم إظهار عيوبه ، و ما يحتجون به ، فلم يجدوا فيه إلا ما هو حجة عليهم ، وظهر لهم جهلهم وكبهم وعجزهم ، وشاع هذا في الأرض ، وأن هذا مما لا يقدر عليه إلا الله ، ولم يمكنهم أن يظهروا علينا فيه عيباً في الشرع والدين ، بل غاية ما عندهم : أنه خولف مرسوم بعض المخلوقين ، والمخلوق كائناً من كان ، إذا خالف أمر الله تعالى ورسوله ، لم يجب ، بل ولا يجوز طاعته ، في مخالفة أمر الله ورسوله باتفاق المسلمين
وقول القائل : إن يظهر البدع ، كلام يظهر فساده لكل مستبصر ويعلم أن الأمر بالعكس ، فإن الذي يظهر البدعة ، إما أن يكون لعدم علمه بسنة الرسول ، أو لكونه له غرض وهوي يخالف ذلك ، وهو أولى بالجهل بسنة الرسول ، واتباع هواهم بغير هدي من الله ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدي من الله ( (88) ، ممن هو أعلم بسنة الرسول منهم وأبعد عن الهوى و الغرض في مخالفتها ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين ( (89) .
وهذه قضية كبيرة لها شأن عظيم ، ولتعلمن نبأه بعد حين .
ثم ذكر الشيخ في الورقة كلاماً ، لا يمكن قراءة جميعه ، لا نطماسه .
وقال بعده :(1/69)
وكانوا يطلبون تمام الإخنائية ، فعندهم ما يطمهم أضعافها ، وأقوى فقهاً منها ، وأشد مخالفة لأغراضهم . فإن الزملكانية قد بين فيها من نحو خمسين وجها : أن ما حكم به ورسم به ، مخالف لإجماع المسلمين وما فعلوه - لو كان ممن يعرف ما جاء به الرسول ، و يتعمد مخالفته - لكان كفراً وردة عن الإسلام ، لكنهم جهال دخلوا في شيء ما كانوا يعرفونه ، ولا ظنوا أنه يظهر منه أن السلطنة تخالف مرادهم والأمر أعظم مما ظهر لكم ، ونحن والله الحمد ، على عظيم الجهاد في سبيله .
ثم ذكر كلاما وقال :
بل جهادنا في هذا مثل جهادنا يوم قازان ، و الجبلية ، و الجهمية ، والاتحادية ، وأمثال ذلك . وذلك من أعظم نعم الله علينا و على الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
****
ومنها ورقة قال فيها :
ورقة أخرى مما كتبه الشيخ في السجن
ونحن ولله الحمد و الشكر ، في نعم عظيمة ، تتزايد كل يوم ، ويحدد الله تعالى من نعمه نعما أخرى ، وخروج الكتب كان من أعظم النعم ، فإني كنت حريصاً على خروج شيء منها ، لتقفوا عليه ، وهم كرهوا خروج الإحنائية ، فاستعملهم الله تعالى في إخراج الجميع . وإلزام المنازعين بالوقوف عليه . وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق .
فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس . فإذا ظهرت فمن كان قصده الحق هداه الله ، ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله ، واستحق أن يذله الله و يجزيه .
وما كنبت شيئا من هذا ليكتم عن أحد ، ولو كان مبغضا ، والأوراق التي فيها جواباتكم غسلت .
وأنا طيب و عيناي طيبتان أطيب ما كانتا .
ونحن في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد ، والحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه .
ثم ذكر كلاما ، وقال :
كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير و الرحمة و الحكمة ( إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم القوى العزيز (90) ، ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه .(1/70)
( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ( (91) .
فالعبد عليه أن يشكر الله و يحمده دائماً على كل حال ، و يستغفر من ذنوبه ، فالشكر يوجب المزيد من النعم ، والاستغفار يدفع النقم ، ولا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له " إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيراً له " .
****
وهذه الورقة كتبها الشيخ وأرسلها بعد خروج الكتب من عنده بأكثر من ثلاثة أشهر : في شهر شوال ، قبل وفاته بنحو شهر و نصف .
ولما أخرج ما عنده من الكتب والأوراق ، حمل إلى القاضي علاء الدين القونوي ، وجعل تحت يده في المدرسة العادلية .
وأقبل الشيخ بعد إخراجها على العبادة والتلاوة و التذكر و التهجد حتى أتاه اليقين .
كتاب الشيخ إلى والدته وإلى غيرها
وقد وقفت على عدة كتب بخط الشيخ ، بعثها من مصر إلى والدته ، وإلى أخيه لأمه : بدر الدين ، وإلى غيرهما .
منها كتاب إلى والدته ببول فيه :
من أحمد بن تيمية إلى الوالدة السيدة ، أقر الله عينها بنعمه ، وأسبغ عليها جزيل كرمه ، و جعلها من خيار إمائه و خدمه .
سلام عليكم ، ورجمة الله و بركاته .
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وهو للحمد أهل ، وهو على كل شيء قدير . و نسأله أن يصلى على خاتم النبيين ، وإمام المتقين ، محمد عبده ورسوله ( وعلى آله وسلم تسليما .
كتابي إليكم عن نعم من الله عظيمة ، ومنن كريمة ، وآلاء جسيمة نشكر الله عليها ، و نسأله المزيد من فضله . و نعم الله كلما جاءت في نمو وازدياد ، وأياديه جلت عن التعداد .(1/71)
وتعلمون أن مقامنا الساعة في هذه الساعة في هذه البلاد ، إنما هو لأمور ضرورية متي أهملناها فسد علينا أمر الدين و الدنيا . و لسنا و الله مختارين للبعد عنكم ، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم ، ولكن الغائب عذره معه ، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور ، فإنكم - و لله الحمد - ما تختارون الساعة إلا ذلك ، ولم نعزم على المقام والاستيطان شهراً واحداً ، بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم ، وادعوا لنا بالخبرة ، فنسأل الله العظيم أن يخير لنا و لكم و المسلمين ، ما فيه الخيرة . في خير وعافية .
ومع هذا فقد فتح الله من أبواب الخير و الرحمة ، والهداية والبركة ، ما لم يكن يخطر بالبال ، ولا يدور في الخيال ، ونحن في وقت مهمومون بالسفر ، مستخيرون الله سبحانه وتعالى . فلا يظن الظان أنا نؤثر على قربكم شيئا من الدنيا قط . بل ولا نؤثر من أمور الدين ،ما يكون قربكم أرجح منه ، ولكن ثم أمور كبار ، نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .
والمطلوب ، كثرة الدعاء بالخيرة ، فإن الله يعلم ، ولا نعلم ، ويقدر ولا نقدر ن وهو علام الغيوب . وقد قال النبي ( " من سعادة ابن آدم استخارته الله ، ورضاه بما يقسم الله له ، ومن شقاوة ابن آدم . ترك استخارته ، و سخطه بما يقسم الله له " والتاجر يكون مسافراً فيخاف ضياع بعض ماله ، فيحتاج أن يقيم حتى يستوفيه . وما نحن فيه أمر يجل عن الوصف ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والسلام عليكم ، ورحمة الله وبركاته ، كثيراً ، كثيراً . وعلى سائر من في البيت من الكبار و الصغار ، و سائر الجيران ، والأهل والأصحاب واحداً ، واحداً .
والحمد لله رب العالمين . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .
****
كتاب آخر للشيخ بعثه من مصر إلى دمشق
ومنها كتاب ، قال فيه : بعد حمد الله تعالى ، والصلاة على نبيه ( .(1/72)
أما بعد : فإن الله - وله الحمد - قد أنعم علي من نعمه العظيمة ومنته الجسيمة ، وآلائه الكريمة ، ما هو مستوجب لعظيم الشكر ، و الثبات على الطاعة ، واعتياد حسن الصبر ، على فعل المأمور . و العبد مأمور بالصبر في السراء أعظم من الصبر في الضراء قال تعالى :
( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور . ولئن أذقنا نعماء بعد ضراء مسته ليقولن : ذهب السيئات عني ، إنه لفرح فخور . أي الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( (92)
وتعلمون ، أن الله سبحانه من في هذه القضية من المنن التي فيها من أسباب نصر دينه . وعلو كلمته ، ونصر جنده ، وعزة أوليائه ، وقوة أهل السنة والجماعة ، وذل أهل البدعة والفرقة ، وتقرير ما قرر عندكم من السنة ، وزيادات على ذلك بانفتاح أبواب من الهدى والنصر ، والدلائل ، وظهور الحق . لأمم لا يحصى عددهم إلا الله تعالى ، وإقبال الخلائق إلى سبيل السنة والجماعة ، وغير ذلك من المنن ، ما لا بد معه من عظيم الشكر ، ومن الصبر ، وإن كان صبراً في سراء .
وتعلمون أن من القواعد العظيمة ، التي هي من جماع الدين : تأليف القلوب ، واجتماع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، فإن الله تعالى يقول :
( فاتقوا الله ، وأصلحوا ذات بينكم ( (93)
ويقول :
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ( (94) ويقول :
( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ( (95) .
وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف ، وتنهى عن الفرقة والاختلاف .
وأهل هذا الأصل : هم أهل الجماعة ، كما أن الخارجين عنه ، هم أهل الفرقة .
وجماع السنة : طاعة الرسول . ولهذا قال النبي ( في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة :(1/73)
" إن الله يرضى لكم ثلاثاً : أن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ، ولا تفرقوا ، ، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم " .
وفي السنن من حديث زيد بن ثابت وابن مسعود - فقيهي الصحابة - عن النبي ( أنه قال :
" نضر الله أمراً سمع هنا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه ، فرب حامل فقه غير فيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه . ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة المر . ولزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم " .
وقوله " لا يغل " أي لا يحقد عليهن . فلا يبغض هذه الخصال قلب المسلم ، بل يحبهن ، ويرضاهن .
وأول ما أبدأ به من هذا الأصل : ما يتعلق بي ، فتعلمون - رضي الله عنكم - أني لا أحب أن يؤذي أحد من عموم المسلمين - فضلا عن أصحابنا - بشيء أصلا ، لا باطناً ولا ظاهراً ، ولا عندي عتب على أحد منهم . ولا لوم أصلا ، بل لهم عندي من الكرامة ، والإجلال و المحبة ، والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان ، كل بحسبه ، ولا يخلو الرجل . إما أن يكون مجتهداً مصيباً ، أو مخطئاً ، أو مذنباً ، فالأول : مأجور مشكور . والثاني مع أجره على الاجتهاد : فمعفو عنه ، مغفور له . و الثالث : فالله يغفر لنا وله ، ولسائر المؤمنين .
فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل .
كقول القائل : فلان قصر ، فلان ما عمل ، فلان أوذي الشيخ بسببه ، فلان كان سبب هذه القضية ، فلان كان يتكلم في كيد فلان . و نحو هذه الكلمات ، التي فيها مذمة لبعض الأصحاب ، والإخوان . فإني لا أسامح من آذاهم ، من هذا الباب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله
بل مثل هذا يعود على قائله بالملام . إلا أن يكون له من حسنة وممن يغفر الله له إن شاء . وقد عفا الله عما سلف .(1/74)
وتعلمون أيضاً : أن ما يجري من نوع تغليظ ، أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان : ما كان يجري بدمشق ، و مما جرى الآن بمصر ، فليس ذلك غضاضة ولا نقصاً في حق صاحبه ، ولا حصل بسبب ذلك تغير منا ، ولا بغض ، بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين ، أرفع قدراً ، وأبه ذكرا ، وأحب وأعظم ، وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين ، التي يصلح الله بعضهم ببعض ، فإن المؤمن للمؤمن كاليدين ، تغسل إحداهما الأخرى . وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة ، لكن بنوع من الخشونة ، لكن ذلك يوجب من النظافة ، والنعومة ، ما نحمد معه ذلك التخشين .
وتعلمون : أنا جميعاً ، متعاونون على البر والتقوى ، واجب علينا نصر بعضنا بعضاً ، أعظم مما كان ، وأشد ، فمن رام أن يؤذي بعض الأصحاب ، أو الإخوان ، لما قد يظنه من نوع تخشين - عومل به بدمشق ، أو بمصر الساعة ، أو غير ذلك - : فهو الغالط .
وكذلك ، من ظن أن المؤمنين يبخلون عما أمروا به من التعاون و التناصر ، فقد ظن ظن سوء ( وإن الظن لا يغنى من الحق شيئاً ( وما غاب عنا أحد من الجماعة ، أو قدم إلينا الساعة ، أو قبل الساعة ، إلا ومنزلته عندنا اليوم أظم مما كانت ، وأجل ، و أرفع .
وتعلمون - رضي الله عنكم - : أن ما دون هذه القضية من الحوادث يقع فيها من اجتهاد الآراء ، واختلاف الأهواء وتنوع أحوال أهل الإيمان ، وما لابد منه - من نزعات الشيطان - ما لا يتصور أن يعرى عنه نوع الإنسان . وقد قال تعالى : ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا . ليعذب الله المنافقين و المنافقات ، و المشركين و المشركات و يتوب الله على المؤمنين و المؤمنات وكان الله غفورا رحيما ( (96) بل أنا أقول ما هو أبلغ من ذلك - تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، وبالأقصى على الأدنى - فأقول :(1/75)
تعلمون كثرة ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب المفتراة والأغاليط المظنونة ، والأهواء الفاسدة ، وأن ذلك أمر يحل عن الوصف . وكل ما قيل : من كذب وزور ، فهو في حقنا خير ونعمة . قال تعالى :
( إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( (97) .
وقد أظهر الله من نور الحق وبرهانه ، ما رد به إفك الكاذب و بهتانه .
فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه على ، أو ظلمه وعدوانه ، فإني قدة أحللت كل مسلم . وأنا أحب الخير لكل المسلمين ، وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي .
والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي .
وأما ما يتعلق بحقوق الله ، فإن تابوا تاب الله عليهم ، وإلا فحكم الله نافذ فيهم ، فلو كان الرجل مشكوراً على سوء عمله ، لكنت أشكر كل من كان سبباً في هذه القضية ، لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة ، لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه ، وأياديه التي لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له .
وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم ، وأ÷ل العمل الصالح يشكرون على عملهم ، وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم وأنتم تعلمون هذا من خلقي . والأمر أزيد مما كان وأوكد ، لكن حقوق الناس بعضهم مع بعض ، وحقوق الله عليهم ، هم فيها تحت حكم الله .
وأنتم تعلمون أن الصديق الأكبر في قضية الإفك ، التي أنزل الله فيها القرآن ، خلف لا يصل مسطح بن أثاثة ، لأنه كان من الخائضين في الإفك . فأنزل الله تعالى :
( ولا يأتل أولو الفضل منكم و السعة أن يؤتوا أولى القربى و المساكين و المهاجرين في سبيل الله و ليعفوا و ليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم و الله غفور رحيم ( (98) .
فلما نزلت قال أبو بكر : بلي ، والله إني لأحب أن يغفر الله لي . فأعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق " .(1/76)
ومع ما ذكر من العفو والإحسان ، وأمثاله ، وأضعافه ، والجهاد على ما بعث الله به رسوله من الكتاب و الحكمة أمر لابد منه ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم . إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ( (99) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والحمد لله رب العالمين ، و صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما .
وقد بعث الشيخ رحمه الله إلى أقاربه و أصحابه بدمشق كتباً غير هذه .
[ من شعره في سجن القلعة ]
وقد وجد بخط الشيخ أبيات ، قالها بالقلعة ، وهي (100) :
أنا الفقير إلى رب السماوات
أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي…
والخير ، إن جاءنا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
ولا عن النفس في دفع المضرات
وليس لي دونه مولى يدبرني…
ولا شفيع إلى رب البريات
إلا بإذن من الرحمن خالقنا…
رب السماء كما قد جاءت في الآيات
ولست أملك شيئا دونه أبدا
ولا شريك أنا في بعض ذراني
ولا ظهير له كيما أعاونه…
كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا
كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم…
وكلهم عنده عبد له آني
فمن بغى مطلباً من دون خالقه…
فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون أجمعه…
ما كان منه ، وما من بعده يأتي
ثم الصلاة على المختار من مضر…
خير البرية من ماض ومن آتى
وله أيضاً :
إن لله علينا أنعماً
يعجز الحصر عن العد لها
فله الحمد على أنه
وله الحمد على الشكر لها
خاتمة
في بعض مناقبه
ومدائح العلماء ومراثيهم له
وحصر لمؤلفاته
رحمه الله
وفاة الشيخ رحمه الله بالسجن(1/77)
ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى بقي بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأياما ، ثم توفي إلى رحمة الله ورضوانه . وما برح في هذه المدة مكباً على العبادة و التلاوة و تصنيف الكتب ، و الرد على المخالفين .
وكتب على تفسير القرآن العظيم جملة كثيرة ، تشتمل نفائس جليلة و نكتاً دقيقة ومعاني لطيفة ، و بين في ذلك مواضع كثيرة أشكلت على خلق من علماء التفسير .
وكتب في المسألة التي حبس بسببها عدة مجلدات :
منها : كتاب في الرد على ابن الإخنائي قاضي المالكية بمصر ، تعرف لالإخنائية
ومنها كتاب كبير حافل في الرد على بعض قضاة الشافعية ، وأشياء كثيرة في هذا المعنى أيضاً .
هذه المباحث في مناقب شيخ الإسلام رحمه الله وقد اختصرتها من كتاب الشيخ الإمام عمر بن علي البزار المسمى
(الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية )
فقد رأيته من أخصر الكتب التي تحدثت عنها وأوعبها وأحسنها عبارة ، فمما قال رحمه الله :
في غزارة علومه وسعة نقله في فتاويه ودروسه البديهية ومنصوصاته :
أما غزارة علومه :
فمنها ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه لدقائقه ونقله لأقوال العلماء في تفسيره واستشهاده بدلائله وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه وفنون حكمه وغرائب نوادره وباهر فصاحته وظاهر ملاحته فإنه فيه من الغاية التي ينتهي إليها والنهاية التي يعول عليها.
ولقد كان إذا قريء في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها فينقضي المجلس بجملته والدرس برمته وهو في تفسير بعض آية منها 0
وكان مجلسه في وقت مقدر بقدر ربع النهار يفعل ذلك بديهة من غير أن يكون له قارئ معين يقرأ له شيئا معينا يبيته ليستعد لتفسيره بل كان من حضر يقرأ ما تيسر ويأخذ هو في القول على تفسيره(1/78)
وكان غالبا لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضي الزمن المعتاد لأورد أشياء أخر في معنى ما هو فيه من التفسير لكن يقطع نظرا في مصالح الحاضرين ولقد أملى في تفسير (قل هو الله أحد) مجلدا كبيرا، وقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) نحو خمس وثلاثين كراسة ولقد بلغني انه شرع في جمع تفسير لو أتمه لبلغ خمسين مجلدا.
أما معرفته وبصره بسنة رسول الله وأقواله وأفعاله وقضاياه ووقائعه وغزواته وسراياه وبعوثه وما خصه الله تعالى من كراماته ومعجزاته ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه وبقية المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم وأحوالهم وأحوال مجاهداتهم في دين الله وما خصوا به من بين الأمة :
فإنه كان رضي الله عنه من أضبط الناس لذلك وأعرفهم فيه وأسرعهم استحضارا لما يريده منه فإنه قل أن ذكر حديثا في مصنف أو فتوى أو استشهد به أو استدل به إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو ومن أي قسم من الصحيح أو الحسن أو غيرهما وذكر اسم رواية من الصحابة وقل أن يسأل عن اثر إلا وبين في الحال حاله وحال أمره وذاكره 0
ومن أعجب الأشياء في ذلك أنه في محنته الأولى بمصر لما أخذ وسجن وحيل بينه وبين كتبه صنف عدة كتب صغارا وكبارا وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وأسماء المحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهم وعزا كل شئ من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم وذكر أسماء الكتب التي ذكر فيها وأي موضع هو منها كل ذلك بديهة من حفظه لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه ونقبت واختبرت واعتبرت فلم يوجد فيها بحمد الله خلل ولا تغير ومن جملتها كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول وهذا من الفضل الذي خصه الله تعالى به 0(1/79)
ومنها ما منحه الله تعالى من معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل وما روي عن كل منهم من راجح ومرجوح ومقبول ومردود في كل زمان ومكان وبصره الصحيح الثاقب الصائب للحق مما قالوه ونقلوه وعزوه ذلك إلى الأماكن التي بها أودعوه حتى كان إذا سئل عن شئ من ذلك كأن جميع المنقول عن الرسول وأصحابه والعلماء فيه من الأولين والآخرين متصور مسطور بإزائه يقول منه ما شاء الله ويذر ما يشاء وهذا قد اتفق عليه كل من رآه أو وقف على شئ من علمه ممن لا يغطي عقله الجهل والهوى 0
وأصناف مؤلفاته ومصنفاته :
فإنها اكثر من أن أقدر على إحصائها أو يحضرني جملة أسمائها بل هذا لا يقدر عليه غالبا أحد لأنها كثيرة جدا كبارا وصغارا وهي منشورة في البلدان فقل بلد نزلته إلا ورأيت فيه من تصانيفه.
*فمنها ما يبلغ إثني عشر مجلدا كتلخيص التلبيس على أساس التقديس وغيره
*ومنها ما يبلغ سبع مجلدات ك الجمع بين العقل والنقل
*ومنها ما يبلغ خمس مجلدات ومنها منهاج الاستقامة والاعتدال ونحوه
*ومنها ما يبلغ ثلاث مجلدات ك الرد على النصارى وشبهه
*ومنها مجلدان ك نكاح المحلل وإبطال الحيل وشرح العقيدة الأصبهانية
*ومنها مجلد ودون ذلك
وقد ذكر الشيخ رحمه الله امثلة على هذه المصنفات تركناها لاننا سنورد كل ما وقع لنا منها حسب الطاقة بعد هذا الملخص إهم مناقبه 0
قال :
صفة فتاويه ونصوصه وأجوبته على المسائل :
فهي أكثر من أن اقدر على إحصائها لكن دون بمصر منها على أبواب الفقه سبعة عشر مجلدا وهذا ظاهر مشهور وجمع أصحابه اكثر من أربعين ألف مسألة وقل أن وقعت واقعة وسئل عنها إلا وأجاب فيها بديهة بما بهر واشتهر وصار ذلك الجواب كالمصنف الذي يحتاج فيه غيره إلى زمن طويل ومطالعة كتب وقد لا يقدر مع ذلك على إبراز مثله(1/80)
أخبرني الشيخ الصالح تاج الدين محمد المعروف بابن الدوري انه حضر مجلس الشيخ رضى الله عنه وقد سأله يهودي عن مسألة في القدر قد نظمها شعرا في ثمانية أبيات فلما وقف عليها فكر لحظة يسيرة وانشأ يكتب جوابها وجعل يكتب ونحن نظن انه يكتب نثرا فلما فرغ تأمله من حضر من أصحابه وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيتها تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتا وقد ابرز فيها من العلوم ما لو شرح بشرح لجاء شرحه مجلدين كبيرين هذا من جملة بواهره وكم من جواب فتوى لم يسبق إلى مثله
وأما ذكر دروسه :
فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوتها وكان لا يهييء شيئا من العلم ليلقيه ويورده بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم على صفة مستحسنة مستعذبة لم اسمعها من غيره ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض ولطائف ودقائق وفنون ونقول واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء ونصر بعضها وتبين صحته أو تزييف بعضها وإيضاح حجته واستشهاد بأشعار العرب وربما ذكر اسم ناظمها وهو مع ذلك يجري كما يجري السيل ويفيض كما يفيض البحر ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ كالغائب عن الحاضرين مغمضا عينيه وذلك كله مع عدم فكر فيه أو روية من غير تعجرف ولا توقف ولا لحن بل فيض الهي حتى يبهر كل سامع وناظر فلا يزال كذلك إلى أن يصمت وكنت أراه حينئذ كأنه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب ويحير الأبصار والعقول وكان لا يذكر رسول الله قط إلا ويصلي ويسلم عليه ولا والله ما رأيت أحدا اشد تعظيما لرسول الله ولا احرص على أتباعه ونصر ما جاء به منه حتى إذا كان ورد شيئا من حديثه في مسألة ويرى انه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي ويفتي بمقتضاه ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنا من كان وقال رضي الله عنه كل قائل إنما يحتج لقوله لا به ألا الله ورسوله(1/81)
وكان إذا فرغ من درسه يفتح عينيه ويقبل على الناس بوجه طلق بشيش وخلق دمث كأنه قد لقيهم حينئذ وربما اعتذر إلى بعضهم من التقصير في المقال مع ذلك الحال ولقد كان درسه الذي يورده حينئذ قدر عدة كراريس وهذا الذي ذكرته من أحوال درسه أمر مشهور يوافقني عليه كل حاضر بها وهم بحمد الله خلق كثير لم يحصر عددهم علماء ورؤساء وفضلاء من القراء والمحدثين والفقهاء والأدباء وغيرهم من عوام المسلمين
ثم قال :
أما معرفته بصحيح المنقول وسقيمه :
فإنه في ذلك من الجبال التي لا ترتقي ذروتها ولا ينال سنامها قل أن ذكر له قول إلا وقد أحاط علمه بمبتكره وذاكره وناقله واثره أو راو إلا وقد عرف حاله من جرح وتعديل بإجمال وتفصيل
حكى من يوثق بنقله انه كان يوما بمجلس ومحدث يقرأ عليه بعض الكتب الحديثية وكان سريع القراءة فعارضه الشيخ في اسم رجل في سند الحديث قد ذكره القاريء بسرعة فذكر الشيخ أن اسمه فلان بخلاف ما قرأ فاعتبروه فوجدوه كما قال الشيخ فانظر إلى هذا الإدراك السريع والتنبيه الدقيق العجيب ولا يقدر على مثله إلا من اشتدت معرفته وقوي ضبطه.
وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه به من استنباط المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية :
وإبراز الدلائل منها على المسائل وتبين مفهوم اللفظ ومنطوقه وإيضاح المخصص للعام والمقيد للمطلق.
والناسخ للمنسوخ وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها وما يترتب عليها وما يحتاج فيه إليها، حتى كان إذا ذكر آية أو حديثا وبين معانيه وما أريد به اعجب العالم الفطن من حسن استنباطه ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه
ولقد سئل يوما عن الحديث لعن الله المحلل والمحلل له فلم يزل يورد فيه وعليه حتى بلغ كلامه فيه مجلدا كبيرا.
وقل إن كان يذكر له حديث أو حكم فيشاء أن يتكلم عليه يومه اجمع إلا فعل أو يقرأ بحضرته آية من كتاب الله تعالى ويشرع في تفسيرها إلا وقطع المجلس كله فيها.(1/82)
وأما ما خصه الله تعالى به من معارضة أهل البدع في بدعتهم أهل الأهواء في أهوائهم وما ألفه في ذلك من دحض أقوالهم وتزييف أمثالهم وأشكالهم :
وإظهار عوارهم وانتحالهم وتبديد شملهم وقطع أوصالهم وأجوبته عن شبههم الشيطانية ومعارضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية بما منحه الله تعالى به من البصائر الرحمانية والدلائل النقلية والتوضيحات العقلية حتى ينكشف قناع الحق وبان بما جمعه في ذلك ألفه الكذب من الصدق حتى لو أن أصحابها أحياء ووفقوا لغير الشقاء لأذعنوا له بالتصديق ودخلوا في الدين العتيق.
ولقد وجب على كل من وقف عليها وفهم ما لديها أن يحمد الله تعالى على حسن توفيقه هذا الإمام لنصر الحق بالبراهين الواضحة العظام.
حدثني غير واحد من العلماء الفضلاء النبلاء الممعنين بالخوض في أقاويل المتكلمين لإصابة الثواب وتمييز القشر من اللباب أن كلا منهم لم يزل حائرا في تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم وانه لم يستقر في قلبه منها قول ولم يبن له من مضمونها حق بل رآها كلها موقعة في الحيرة والتضليل وجلها ممعن بتكلف الأدلة والتعليل وانه كان خائفا على نفسه من الوقوع بسببها في التشكيك والتعطيل حتى من الله تعالى عليه بمطالعته مؤلفات هذا الإمام احمد ابن تيمية شيخ الإسلام وما أورده من النقليات والعقليات في هذا النظام فما هو إلا أن وقف عليها وفهمها فرآها موافقة للعقل السليم وعلمها حتى انجلى ما كان قد غشيه من أقوال المتكلمين من الظلام وزال عنه ما خاف أن يقع فيه من الشك وظفر بالمرام.
ومن أراد اختبار صحة ما قلته فليقف بعين الإنصاف العرية عن الحسد والانحراف إن شاء على مختصراته في هذا الشأن كشرح الأصبهانية ونحوها وان شاء على مطولاته ك تخليص التلبيس من تأسيس التقديس والموافقة بين العقل والنقل ومنهاج الاستقامة والاعتدال فإنه والله يظفر بالحق والبيان ويستمسك بأوضح برهان ويزن حينئذ في ذلك بأصح ميزان.(1/83)
ولقد اكثر رضي الله عنه التصنيف في الأصول فضلا عن غيره من بقية العلوم :
فسألته عن سبب ذلك والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء فقال لي ما معناه الفروع أمرها قريب ومن قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة والقائلين بوحدة الوجود والدهرية والقدرية والنصيرية والجهمية والحلولية والمعطلة والمجسمة والمشبهة والراوندية والكلابية والسليمية وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال وبان لي أن كثيرا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية الظاهرة العلية على كل دين وان جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم ولهذا قل أن سمعت أو رأيت معرضا عن الكتاب والسنة مقبلا على مقالاتهم إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده.
فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي انه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم ويزيف دلائلهم ذبا عن الملة الحنيفية والسنة الصحيحة الجلية.(1/84)
ولا والله ما رأيت فيهم أحدا ممن صنف في هذا الشأن وادعى علوم المقام إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام، وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح المبين وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين واتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سموها بزعمهم حكميات وعقليات وإنما هي جهالات وضلالات وكونه التزمها معرضا عن غيرها أصلا ورأسا فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم فتخبط حتى خبط فيها عشوا ولم يفرق بين الحق والباطل وإلا فالله اعظم لطفا بعباده أن لا يجعل لهم عقلا يقبل الحق ويثبته ويبطل الباطل وينفيه لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانا يزن به العبد الواردات فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق وما هو من قبيل الباطل ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل ولم يقع التكليف إلا مع وجوده فكيف يقال انه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى هذا باطل قطعا يشهد له كل عقل سليم لكن ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
قال الشيخ الإمام قدس الله روحه فهذا ونحوه هو الذي أوجب أنى صرفت جل همي إلى الأصول والزمني إن أوردت مقالاتهم وأجبت عنها بما انعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية.
قلت وقد أبان بحمد الله تعالى فيما ألف فيها لكل بصير الحق من الباطل وإعانة بتوفيقه حتى رد عليهم بدعهم وآراءهم وخدعهم وأهواءهم مع الدلائل النقلية بالطريقة العقلية حتى يجيب عن كل شبهة من شبههم بعدة أجوبة جلية واضحة يعقلها كل ذي عقل صحيح ويشهد لصحتها كل عاقل رجيح.
ثم قال :
أما تعبده رضي الله عنه :
فإنه قل إن سمع بمثله لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه حتى انه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى ما يراد له لا من أهل ولا من مال(1/85)
وكان في ليله متفردا عن الناس كلهم خاليا بربه عز وجل ضارعا مواظبا على تلاوة القرآن العظيم مكررا لأنواع التعبدات الليلية والنهارية وكان إذا ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنتها قبل إتيانه إليهم وكان إذا احرم بالصلاة تكاد تتخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميله يمنة ويسرة وكان إذا قرأ يمد قراءته مدا كما صح في قراءة رسول الله وكان ركوعه وسجوده وانتصابه عنهما من اكمل ما ورد في صلاة الفرض وكان يخفف جلوسه للتشهد الأول خفة شديدة ويجهر بالتسليمة الأولى حتى يسمع كل من حضر. فإذا فرغ من الصلاة أثنى على الله عز وجل هو ومن حضر بما ورد من قوله اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ثم يقبل على الجماعة ثم يأتي بالتهليلات الواردات حينئذ ثم يسبح الله ويحمده ويكبره ثلاثا وثلاثين ويختم المائة بالتهليل كما ورد وكذا الجماعة ثم يدعو الله تعالى له ولهم وللمسلمين أجناس ما ورد.
وكان غالب دعائه: "اللهم انصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا واهدنا ويسر الهدى لنا اللهم اجعلنا لك شاكرين لك ذاكرين لك أواهين لك مخبتين إليك راغبين إليك راهبين لك مطاويع ربنا تقبل توباتنا واغسل حوباتنا وثبت حججنا واهد قلوبنا اسلل سخيمة صدورنا، يفتتحه ويختمه بالصلاة على النبي ثم يشرع في الذكر".
وكان قد عرفت عادته لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر فلا يزال في الذكر يسمع نفسه وربما يسمع ذكره من إلى جانبه مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس ويزول وقت النهي عن الصلاة.(1/86)
وكنت مدة إقامتي بدمشق ملازمه جل النهار وكثيرا من الليل وكان يدنيني منه حتى يجلسني إلى جانبه وكنت اسمع ما يتلو وما يذكر حينئذ فرأيته يقرأ الفاتحة ويكررها ويقطع ذلك الوقت كله اعني من الفجر إلى ارتفاع الشمس في تكرير تلاوتها ففكرت في ذلك لم قد لزم هذه السورة دون غيرها فبان لي والله اعلم ان قصده بذلك ان يجمع بتلاوتها حينئذ بين ما ورد في الأحاديث وما ذكره العلماء هل يستحب حينئذ تقديم الأذكار الواردة على تلاوة القرآن أو العكس فرأى رضي الله عنه ان في الفاتحة وتكرارها حينئذ جمعا بين القولين وتحصيلا للفضيلتين وهذا من قوة فطنته وثاقب بصيرته.
ثم انه كان يركع، فإذا أراد سماع حديث في مكان آخر سارع إليه من فوره مع من يصحبه.
فقل أن يراه أحد ممن له بصيرة إلا وانكب على يديه يقبلهما حتى انه كان إذا رأه أرباب المعايش يتخطون من حوانيتهم للسلام عليه والتبرك به وهو مع هذا يعطي كلا منهم نصيبا وافرا من السلام وغيره
وإذا رأى منكرا في طريقه أزاله أو سمع بجنازة سارع إلى الصلاة عليها أو تأسف على فواتها وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث فصلي عليه. ثم يعود إلى مسجده فلا يزال تارة في إفتاء الناس وتارة في قضاء حوائجهم حتى يصلي الظهر مع الجماعة ثم كذلك بقية يومه.
وكان مجلسه عاما للكبير والصغير والجليل والحقير والحر والعبد والذكر والأنثى قد وسع على كل من يرد عليه من الناس يرى كل منهم في نفسه ان لم يكرم أحدا بقدره
ثم يصلي المغرب ثم يتطوع بما يسره الله ثم اقرأ عليه من مؤلفاته أو غيري فيفيدنا بالطرائف ويمدنا باللطائف حتى يصلي العشاء ثم بعدها كما كنا وكان من الإقبال على العلوم إلى أن يذهب هوي من الليل طويل وهو في خلال ذلك كله في النهار والليل لا يزال يذكر الله تعالى ويوحده ويستغفره.(1/87)
وكان رضي الله عنه كثيرا ما يرفع طرفه إلى السماء لا يكاد يفتر من ذلك كأنه يرى شيئا يثبته بنظره فكان هذا دابة مدة إقامتي بحضرته.
فسبحان الله ما اقصر ما كانت يا ليتها كانت طالت ولا والله ما مر على عمري إلى ألان زمان كان احب إلى من ذلك الحين ولا رأيتني في وقت احسن حالا مني حينئذ وما كان إلا ببركة الشيخ رضي الله عنه.
وكان في كل أسبوع يعود المرضى خصوصا الذين بالمارستان
واخبرني غير واحد ممن لا يشك في عدالته أن جميع زمن الشيخ ينقضي على ما رأيته فأي عبادة وجهاد افضل من ذلك فسبحان الموفق من يشاء لما يشاء.
وأما ورعه فقال عنه رحمه الله :
كان رضي الله عنه في الغاية التي ينتهي إليها في الورع لان الله تعالى أجراه مدة عمره كلها عليه فإنه ما خالط الناس في بيع ولا شراء ولا معاملة ولا تجارة ولا مشاركة ولا زراعة ولا عمارة ولا كان ناظرا مباشرا لمال وقف ولم يكن يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر ولا كان مدخرا دينارا ولا درهما ولا متاعا ولا طعاما وإنما كانت بضاعته مدة حياته وميراثه بعد وفاته رضى الله عنه العلم اقتداء بسيد المرسلين وخاتم النبيين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين فإنه قال: "إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد اخذ بحظ وافر."
وكان ينبه العاقل بحسن الملاطفة ودقيق المخاطبة ليختار لنفسه طريقتهم ويسلك سبيلهم وإن كان دونها من الطريق من اتخاذ المباحان جائز لكن العاقل يدله عقله على طلب الأعلى.
فأنظر بعين الإنصاف إلى ما وفق له هذا الإمام وأجرى عليه ما أقعد عنه غيره وخذل عن طلبه لكن لكل شئ سبب وعلامة عدم التوفيق سلب الأسباب ومن أعظم الأسباب لترك فضول الدنيا التخلي عن غير الضروري منها.(1/88)
فلما وفق الله هذا الإمام لرفض غير الضروري منها انصبت عليه العواطف الإلهية فحصل بها كل فضيلة جليلة بخلاف غيره من علماء الدنيا مختاريها وطالبيها والساعين لتحصيلها فانهم لما اختاروا ملاذها وزينتها ورئاستها انسدت عليهم غالبا طرق الرشاد فوقعوا في شركها يخبطون خبط عشواء ويحطبونها كحاطب ليل لا يبالون ما يأكلون ولا ما يلبسون ولا ما يتأولون ما يحصل لهم أغراضهم الدنيئة ومقاصدهم الخبيثة الخسيسة فهم متعاضدون على طلبها يتحاسدون بسببها أجسامهم مليئة وقلوبهم من غيرها فارغة وظواهرهم مزخرفة معمورة وقلوبهم خربة مأسورة، ولم يكفهم ما هم عليه حتى اصبحوا قالين رافضها معادين باغضها.
ولما رأوا هذا الإمام عالم الآخرة تاركا لما هم عليه من تحصيل الحطام من الشبه الحرام رافضا الفضل المباح فضلا عن الحرام تحققوا أن أحواله تفضح أحوالهم وتوضح خفي أفعالهم وأخذتهم الغيرة النفسانية على صفاتهم الشيطانية المباينة لصفاته الروحانية.
فحرصوا على الفتك به أين ما وجدوه ونسوا انهم ثعالب وهو أسد فحماه الله تعالى منهم بحراسته وصنع له غير مرة كما صنع لخاصته وحفظه مدة حياته وحماه ونشر له عند وفاته علما في الأقطار بما والاه.
أما زهده في الدنيا ومتاعها :
ن الله تعالى جعل ذلك له شعارا من صغره حدثني من أثق به عن شيخه الذي علمه القرآن المجيد قال: قال لي أبوه وهو صبي يعني الشيخ احب إليك أن توصيه وتعده بأنك إن لم تنقطع عن القراءة والتلقين ادفع إليك كل شهر أربعين درهما. قال: ودفع إلي أربعين درهما، وقال أعطه إياها فإنه صغير وربما يفرح بها فيزداد حرصه في الاشتغال بحفظ القرآن ودرسه وقل له لك في كل شهر مثلها. فامتنع من قبولها وقال: يا سيدي إني عاهدت الله تعالى أن لا آخذ على القرآن أجرا، ولم يأخذها. فرأيت إن هذا لا يقع من صبي إلا لما لله فيه من العناية.(1/89)
قلت: وصدق شيخه فإن عناية الله هي التي أوصلته إلى ما وصل من كل خير من صغيره لا من كبر.
ولقد اتفق كل من رآه خصوصا من أطال ملازمته أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا حتى لقد صار ذلك مشهورا بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها بل لو سئل عامي من أهل بلد بعيد من الشيخ من كان أزهد أهل هذا العصر وأكملهم في رفض فضول الدنيا وأحرصهم على طلب الآخرة لقال ما سمعت بمثل ابن تيمية رحمة الله عليه
وما اشتهر له ذلك إلا لمبالغته فيه مع تصحيح النية وإلا فمن رأينا من العلماء قنع من الدنيا بمثل ما قنع هو منها أو رضي بمثل حالته التي كان عليها لم يسمع انه رغب في زوجة حسناء ولا سرية حوراء ولا دار قوراء ولا مماليك جوار ولا بساتين ولا عقار ولا شد على دينار ولا درهم ولا رغب في دواب ولا نعم ولا ثياب ناعمة فاخرة ولا حشم ولا زاحم في طلب الرئاسات ولا رئي ساعيا في تحصيل المباحان مع أن الملوك والأمراء والتجار والكبراء كانوا طوع أمره خاضعين لقوله وفعله وادين أن يتقربوا إلى قلبه مهما أمكنهم مظهرين لإجلاله أو أن يؤهل كلا منهم في بذل ماله.
فأين حاله هذه من أحوال بعض المنتسبين إلى العلم وليسوا من أهله ممن قد أغراه الشيطان بالوقيعة فيه بقوله وفعله أترى ما نظروا ببصائرهم إلى صفاتهم وصفاته وسماتهم وسماته وتحاسدهم في طلب الدنيا وفراغه عنها وتحاشدهم في الاستكثار منها ومبالغته في الهرب منها وخدمتهم الأمراء واختلافهم إلى أبوابهم وذل الأمراء بين يديه وعدم اكتراثه بكبرائهم وأترابهم ومداجاتهم وإظهار تعبداتهم وصدعه إياهم بالحق وقوة جأشه في محاورتهم بلى والله، ولكن قتلتهم ألحالقه، حالقة الدين لا حالقة الشعر، وغطى على أحلامهم حب الدنيا السارقة سارقة العقل لا سارقه البدن حتى أصبحوا قاطعين من يأتيهم في طلبها واصلين من وأصلهم في جلبها
أما إيثاره _على فقره_ فقال فيه رحمه الله :(1/90)
كان رضي الله عنه مع شدة تركه للدنيا ورفضه لها وفقره فيها وتقلله منها مؤثرا بما عساه يجده منها قليلا كان أو كثيرا جليلا أو حقيرا لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدق به ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به فقد كان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئا نزع بعض ثيابه المحتاج إليه فيصل به الفقير وكان يستفضل من قوته القليل الرغيف و الرغيفين فيؤثر بذلك على نفسه وربما خبأهما في كمه ويمضي ونحن معه لسماع الحديث فيراه بعضنا وقد دفعه إلي الفقير مستخفيا يحرص أن لا يراه أحد. وكان إذا ورد عليه فقير وآثر المقام عنده يؤثره عند الأكل بأكثر قوته الذي جعل برسمه.
حدثني الشيخ الصالح العارف زين الدين علي الو اسطي ما معناه انه أقام بحضرة الشيخ مدة طويلة قال فكان قوتنا في غالبها انه كان في بكرة النهار يأتيني ومعه قرص قدره نصف رطل خبزا بالعراقي فيكسره بيده لقما ونأكل منه أنا وهو جميعا ثم يرفع يده قبلي ولا يرفع باقي القرص من بين يدي حتى اشبع بحيث أني لا أحتاج إلي الطعام إلى الليل وكنت أرى ذلك من بركة الشيخ ثم يبقى إلي بعد العشاء الآخرة حتى يفرغ من جميع عوائده التي يفيد الناس بها في كل يوم من أصناف القرب فيؤتي بعشائنا فيأكل هو معي لقيمات ثم يؤثرني بالباقي وكنت أسأله ان يزيد على أكله فلا يفعل حتى إني كنت في نفسي أتوجع له من قلة أكله
وكان هذا دأبنا في غالب مدة إقامتي عنده وما رأيت نفسي أغني منها في تلك المدة ولا رأيتني أفقر هما مني فيها.
وحكى غير واحد ما اشتهر عنه من كثرة الإيثار وتفقد المحتاجين والغرباء ورقيقي الحال من الفقهاء والقراء واجتهاده في مصالحهم وصلاتهم ومساعدته لهم بل ولكل أحد من العامة والخاصة ممن يمكنه فعل الخير معه وإسداء المعروف إليه بقوله وفعله ووجهه وجاهه.
وأما تواضعه :(1/91)
ما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك كان يتواضع للكبير والصغير والجليل والحقير والغنى الصالح والفقير وكان يدني الفقير الصالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء حتى أنه ربما خدمه بنفسه وأعانه بحمل حاجته جبرا لقلبه وتقربا بذلك إلي ربه.
وكان لا يسأم ممن يستفتيه أو يسأله بل يقبل عليه ببشاشة وجه ولين عريكة ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه كبيرا كان أو صغيرا رجلا أو امرأة حرا أو عبدا عالما أو عاميا حاضرا أو باديا ولا يجبهه ولا يحرجه ولا ينفره بكلام يوحشه بل يجيبه ويفهمه ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط.
وكان يلزم التواضع في حضوره من الناس ومغيبه عنهم في قيامه وقعوده ومشيه ومجلسه ومجلس غيره. ولقد بالغ معي في حال إقامتي بحضرته في التواضع والإكرام حتى إنه لا يذكرني باسمي بل يلقبني بأحسن الألقاب ويظهر لي خصوصا بين أصحابي من الإكرام والتبجيل والإدناء منه بحيث لا يتركني اجلس إلا إلى جانبه قصيرا كان مجلسه أو طويلا خاصا أو عاما ولازمني في حال قراءتي صحيح البخاري وكان قصدي قراءته على رواية منفردا لاستصغاري نفسي عن القراءة هناك بمحضر من الناس ولقصدي تعجيل فراغي منه انتهازا للفرصة وخوفا من فوات ذلك الشيخ الراوي لكونه تفرد بروايته سماعا على أصحاب أبى الوقت السجزي.
فلما سمع الشيخ بذلك ألزمني قراءته بمجمع كثير من الناس رجالا ونساء وصبيانا وقال ما ينبغي إلا على صفة يكون نفعها متعديا إلى المسلمين فتجرد لي بحيث حصل لي مرادي وفوقه من تحصيل قراءتي له في عشرين مجلسا متوالية لم يتخللها سوى الجمعة ولازمني فيها وحضر القراءة كلها يضبطها بنسخة كانت بيده هي أصل ابن ناصر الحافظ يعارض بها نسخة القراءة وكانت اصل الشيخ المسمى.(1/92)
وأظهر لي من حسن الأخلاق والمبالغة في التواضع بحيث أنه كان إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة يحمل هو بنفسه النسخة ولا يدع أحدا منا يحملها عنه وكنت أعتذر إليه من ذلك خوفا من سوء الأدب فيقول لو حملته على رأسي لكان ينبغي، ألا احمل ما فيه كلام رسول الله؟
وكان يجلس تحت الكرسي ويدع صدر المجالس حتى إني لأستحي من مجلسه هناك وأعجب من شدة تواضعه ومبالغته في إكرامي بما لا استحق ورفعي عليه في المجلس ولولا قراءتي حديث رسول الله وعظم حرمتها لما كان ينبغي لي ذلك.
وكان هذا حاله في التواضع والتنازل والإكرام لكل من يرد عليه أو يصحبه أو يلقاه حتى أن كل من لقيه يحكي عنه من المبالغة في التواضع نحوا مما حكيته وأكثر من ذلك فسبحان من وفقه وأعطاه وأجراه على خلال الخير وحباه.
وأما هيئته ولباسه فقال عنه رحمه الله :
كان رضي الله عنه متوسطا في لباسه وهيئته لا يلبس فاخر الثياب بحيث يرمق ويمد النظر إليه ولا أطمارا ولا غليظة تشهر حال لا بسها ويميز من عامة الناس بصفة خاصة يراه الناس فيها من عالم وعابد بل كان لباسه وهيئته كغالب الناس ومتوسطهم ولم يكن يلزم نوعا واحدا من اللباس فلا يلبس غيره بل كان يلبس ما اتفق وحصل ويأكل ما حضر وكانت بذاذة الإيمان عليه ظاهرة لا يرى متصنعا في عمامة ولا لباس ولا مشية ولا قيام ولا جلوس ولا يتهيأ لأحد يلقاه ولا لمن يرد عليه من بلد.
ومن العجب أنى كنت قد رايته قبل لقيه بمدة فيما يرى النائم ونحن جلوس نأكل طعاما على صفة معينة فحال لقيتي له ودخولي عليه وجدته يأكل مثل ذلك الطعام على نحو من الصفة التي رأيت فأجلسني وأكلنا جميعا كما رأيت في المنام.(1/93)
وأخبرني غير واحد أنه ما رآه ولا سمع أنه طلب طعاما قط ولا غداء ولا عشاء ولو بقي مهما بقي لشدة اشتغاله بما هو فيه من العلم والعمل بل كان يؤتي بالطعام وربما يترك عنده زمانا حتى يلتفت إليه وإذا أكل أكل شيئا يسيرا، قال وما رأيناه يذكر شيئا من ملاذ الدنيا ونعيمها ولا كان يخوض في شيء من حديثها ولا يسأل عن شيء من معيشتها بل جعل همته وحديثه في طلب الآخرة وما يقرب إلي الله تعالى.
وهكذا كان في لباسه لم يسمع أنه أمر أن يتخذ له ثوب بعينه بل كان أهله يأتون بلباسه وقت علمهم باحتياجه إلي بدل ثيابه التي عليه وربما بقيت عليه مدة حتى تتسخ ولا يأمر بغسلها حتى يكون أهله هم الذين يسألونه ذلك.
وأخبر أخوه الذي كان ينظر في مصالحه الدنيوية أن هذا حاله في طعامه وشرابه ولباسه وما يحتاج إليه مما لا بد منه من أمور الدنيا، وما رأيت أحدا كان أشد تعظيما للشيخ من أخيه هذا أعني القائم بأوده وكان يجلس بحضرته كأن على رأسه الطير وكان يهابه كما يهاب سلطانا، وكنا نعجب منه في ذلك ونقول: من العرف والعادة أن أهل الرجل لا يحتشمونه كالأجانب بل يكون انبساطهم معه فضلا عن الأجنبي ونحن نراك مع الشيخ كتلميذ مبالغ في احتشامه واحترامه، فيقول: إني أرى منه أشياء لا يراها غيري أوجبت علي أن أكون معه كما ترون. وكان يسأل عن ذلك فلا يذكر منه شيئا لما يعلم من عدم إيثار الشيخ لذلك.
وأما كراماته التي أخبره بها الثقات فقال عنه :
أخبرني غير واحد من الثقات ببعض ما شاهده من كراماته وأنا أذكر بعضها على سبيل الاختصار وأبدأ من ذلك ببعض ما شاهدته.
فمنها اثنين جرى بيني وبين بعض الفضلاء منازعة في عدة مسائل وطال كلامنا فيها وجعلنا نقطع الكلام في كل مسألة بأن نرجع إلى الشيخ وما يرجحه من القول فيها(1/94)
ثم أن الشيخ رضي الله عنه حضر فلما هممنا بسؤاله عن ذلك سبقنا هو وشرع يذكر لنا مسألة مسألة كما كنا فيه وجعل يذكر غالب ما أوردناه في كل مسأله ويذكر أقوال العلماء ثم يرجح منها ما يرجحه الدليل حتى أتى على آخر ما أردنا أن نسأله عنه وبين لنا ما قصدنا أن نستعلمه منه فبقيت أنا وصاحبي ومن حضرنا أولا مبهوتين متعجبين مما كاشفنا به وأظهره الله عليه مما كان في خواطرنا.
وكنت في خلال الأيام التي صحبته فيها إذا بحث مسأله يحضر لي إيراد فما يستتم خاطري به حتى يشرع فيورده ويذكر الجواب من عدة وجوه.
وحدثني الشيخ الصالح المقريء أحمد بن الحريمي أنه سافر إلى دمشق قال فاتفق أنى لما قدمتها لم يكن معي شئ من النفقة البتة وأنا لا اعرف أحدا من أهلها فجعلت أمشي في زقاق منها كالحائر فإذا بشيخ قد أقبل نحوي مسرعا فسلم وهش في وجهي ووضع في يدي صرة فيها دراهم صالحة وقال لي انفق هذه الآن وخلي خاطرك مما أنت فيه فإن الله لا يضيعك ثم رد على أثره كأنه ما جاء إلا من أجلي فدعوت له وفرحت بذلك، وقلت لبعض من رأيته من الناس من هذا الشيخ؟ فقال وكأنك لا تعرفه هذا ابن تيمية لي مدة طويلة لم أره اجتاز بهذا الدرب.
وكان جل قصدي من سفري إلى دمشق لقاءه فتحققت أن الله أظهره علي وعلى حالي فما احتجت بعدها إلى أحد مدة إقامتي بدمشق بل فتح الله علي من حيث لا احتسب واستدللت فيما بعد عليه وقصدت زيارته والسلام عليه فكان يكرمني ويسألني عن حالي فاحمد الله تعالى إليه.(1/95)
وحدثني الشيخ العالم المقريء تقي الدين عبد الله ابن الشيخ الصالح المقريء احمد بن سعيد قال سافرت إلى مصر حين كان الشيخ مقيما بها فاتفق أني قدمتها ليلا وأنا مثقل مريض فأنزلت في بعض الأمكنة فلم ألبث أن سمعت من ينادي باسمي وكنيتي فأجبته وأنا ضعيف فدخل إلي جماعة من أصحاب الشيخ ممن كنت قد اجتمعت ببعضهم في دمشق فقلت كيف عرفتم بقدومي وأنا قدمت هذه الساعة فذكروا أن الشيخ أخبرنا بأنك قدمت وأنت مريض وأمرنا أن نسرع بنقلك وما رأينا أحدا جاء ولا أخبرنا بشيء، فعلمت أن ذلك من كرامات الشيخ رضي الله عنه.
وحدثني أيضا قال مرضت بدمشق إذ كنت فيها مرضة شديدة منعتني حتى من الجلوس فلم اشعر إلا والشيخ عند رأسي وأنا مثقل مشتد بالحمى والمرض فدعا لي وقال جاءت العافية، فما هو إلا أن فارقني وجاءت العافية وشفيت من وقتي
وحدثني قال كنت قد استكتبت شعرا لبعض من انحرف عن الحق في الشيخ قد تنقصه فيه وكان سبب قول ذلك الشعر أنه نسب إلي قائلة شعر وكلام يدل على الرفض فأخذ الرجل وأثبت ذلك عليه في وجهه عند حاكم من حكام الشرع المطهر فأمر به فشهر حاله بين الناس فتوهم أن الذي كان سبب ذلك الشيخ فحمله ذلك على أن قال فيه ذلك الشعر وبقي عندي وكنت ربما أورد بعضه في بعض الأحيان فوقعت في عدة أشياء من المكروه والخوف متواترة ولولا لطف الله تعالى بي فيها لأتت على نفسي فنظرت من أين دهيت فلم أر لذلك سببا إلا إيرادي لبعض ذلك الشعر فعاهدت الله أن لا اتفوه بشيء منه فزال عني أكثر ما كنت فيه من المكاره وبقي بعضه وكان ذلك الشعر عندي فأخذته وحرقته وغسلته حتى لم يبق له أثر واستغفرت الله تعالى من ذلك فأذهب الله عني جميع ما كنت فيه من المكروه والخوف وأبدلني الله به عكسه ولم أزل بعد ذلك في خير وعافية، ورأيت ذلك حالا من أحوال الشيخ ومن كرامته على الله تعالى.(1/96)
وحدثني أيضا قال أخبرني الشيخ ابن عماد الدين المقرئ المطرز قال قدمت على الشيخ ومعي حينئذ نفقة فسلمت عليه فرد علي ورحب بي وأدناني ولم يسألني هل معك نفقة أم لا، فلما كان بعد أيام ونفدت نفقتي أردت أن اخرج من مجلسه بعد أن صليت مع الناس وراءه فمنعني وأجلسني دونهم فلما خلا المجلس دفع إلي جملة دراهم وقال أنت الآن بغير نفقة فارتفق بهذه فعجبت من ذلك وعلمت أن الله كشفه على حالي أولا لما كان معي نفقة وآخرا لما نفدت واحتجت إلى نفقة.
وحدثني من لا أتهمه أن الشيخ رضي الله عنه حين نزل المغل بالشام لأخذ دمشق وغيرها رجف أهلها وخافوا خوفا شديدا، وجاء إليه جماعة منهم وسألوه الدعاء للمسلمين فتوجه إلى الله ثم قال أبشروا فإن الله يأتيكم بالنصر في اليوم الفلاني بعد ثالثة حتى ترون الرؤوس معبأة بعضها فوق بعض.
قال الذي حدثني فوالذي نفسي بيده أو كما حلف ما مضى إلا ثلاث مثل قوله حتى رأينا رؤوسهم كما قال الشيخ على ظاهر دمشق معبأة بعضها فوق بعض.
وحدثني الشيخ الصالح الورع عثمان بن احمد بن عيسى النساج أن الشيخ رضي الله عنه كان يعود المرضى بالبيمارستان بدمشق في كل أسبوع فجاء على عادته فعادهم فوصل إلى شاب منهم فدعا له فشفي سريعا وجاء إلى الشيخ يقصد السلام عليه فلما رآه هش له وأدناه ثم دفع إليه نفقة وقال قد شفاك الله فعاهد الله أن تعجل الرجوع إلى بلدك أيجوز أن تترك زوجتك وبناتك أربعا ضيعة وتقيم هاهنا؟ فقبل يده وقال يا سيدي أنا تائب إلى الله على يدك وقال الفتى وعجبت مما كاشفني به وكنت قد تركتهم بلا نفقة ولم يكن قد عرف بحالي أحد من أهل دمشق.(1/97)
وحدثني من أثق به أن الشيخ رضي الله عنه أخبر عن بعض القضاة انه قد مضى متوجها إلى مصر المحروسة ليقلد القضاء وأنه سمعه يقول حال ما اصل إلى البلد قاضيا احكم بقتل فلان رجل معين من فضلاء أهل العلم والدين قد أجمع الناس على علمه وزهده وورعه ولكن حصل في قلب القاضي منه من الشحناء والعداوة ما صوب له الحكم بقتله فعظم ذلك على من سمعه خوفا من وقوع ما عزم عليه من القتل لمثل هذا الرجل الصالح وحذرا على القاضي أن يوقعه الهوى والشيطان في ذلك فيلقى الله متلبسا بدم حرام وفتك بمسلم معصوم الدم بيقين وكرهوا وقوع مثل ذلك لما فيه من عظيم المفاسد فأبلغ الشيخ رضي الله عنه هذا الخبر بصفته، فقال إن الله لا يمكنه مما قصد ولا يصل إلى مصر حيا فبقى بين القاضي وبين مصر قدر يسير وأدركه الموت فمات قبل وصولها كما أجرى الله تعالى على لسان الشيخ رضي الله عنه.
قلت وكرامات الشيخ رضي الله عنه كثيرة جدا لا يليق بهذا المختصر اكثر من ذكر هذا القدر منها ومن اظهر كراماته أنه ما سمع بأحد عاداه أو غض منه إلا وابتلي بعدة بلايا غالبها في دينه وهذا ظاهر مشهور لا يحتاج فيه إلى شرح صفته
وأما كرمه رضي الله عنه :
كان رضي الله عنه مجبولا على الكرم لا يتطبعه ولا يتصنعه بل هو له سجيةوقد ذكرت فيما تقدم أنه ما شد على دينار ولا درهم قط بل كان مهما قدر على شيء من ذلك يجود به كله وكان لا يرد من يسأله شيئا يقدر عليه من دراهم ولا دنانير ولا ثياب ولا كتب ولا غير ذلك
بل ربما كان يسأله بعض الفقراء شيئا من النفقة فإن كان حينئذ متعذرا لا يدعه يذهب بلا شئ بل كان يعمد إلى شئ من لباسه فيدفعه إليه وكان ذلك المشهور عند الناس من حاله(1/98)
حدثني الشيخ العالم الفاضل المقرئ أبو محمد عبد الله ابن الشيخ الصالح المقرئ احمد بن سعيد قال كنت يوما جالسا بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه فجاء إنسان فسلم عليه فرآه الشيخ محتاجا إلى ما يعتم به فنزع الشيخ عمامته من غير أن يسأله الرجل ذلك فقطعها نصفين واعتم بنصفها ودفع النصف الآخر إلى ذلك الرجلولم يحتشم للحاضرين عنده.
قلت وربما توهم بعض من يحتاج إلى التفهيم ان هذا الفعل من الشيخ فيه إضاعة المال أو نوع من التبذل الذي يشين المروءة وليس الأمر كذلك فإنه لم يكن عنده حينئذ معلوم غير ثيابه ورأى أن قطع غير العمامة من بقية لباسه مما يفسده ولا يحصل به المقصود ولم يكن عليه ولا عنده حينئذ ثوب صحيح لا يحتاج إليه حتى يدفعه إليه فسارع إلى قطع ما يستغنى ببعضه عن كله فيما وضع له وهو العمامة فنفع أخاه المسلم وسد حاجته حينئذ ببعضها واستغنى هو بباقيها وهذا هو أكمل التصرف الصالح والرشد التام
والجود المذكور المشهور والإيثار بالميسور وأما التبذل الذي فيه نوع إسقاط المروءة فليس من هذا القبيل في شيء بل هذا من المبالغة في التواضع وعدم رؤية النفس في محل الاحتشام ورفض إرادة المرء تعظيم نفسه بحضرة الحاضرين وهذه خصال محمودة مطلوبة شرعا وعقلا
وقد روي مثل ذلك عن سيد الأنام وأكمل الخلق مروءة وعقلا وعلما محمد المصطفى انه لبس يوما شملة سوداء لها حواش بيض وخرج إلى المسجد وجماعة من المسلمين حضور فرآه إنسان فقال يا رسول الله أعطني هذه الشملة وكان لا يمنع سائلا يسأله فنزعها رسول الله عن جسدة المكرم ودفعها إلى ذلك
الرجل وطفق الناس يلومون ذلك الرجل على ما فعل وكونه سأل النبي وكان محتاجا إلى ما لبسه وقد علم انه لا يمنع شيئا يسأله فقال الرجل معتذرا إليهم إني لم أطلبها لألبسها لكن لأجعلها لي كفنا عند موتي.
قال الراوي فامسكها عنده حتى كانت كفنه.(1/99)
وهذا حديث مشهور قد رواه غير واحد من الحفاظ النقلة الثقات وهو من أوضح الدلائل على ما قلناه بل أبلغ في الجود والتواضع وكسر النفس وكرم الأخلاق.
وحدثني من أثق به أن الشيخ رضي الله عنه كان مارا يوما في بعض الأزقة فدعا له بعض الفقراء وعرف الشيخ حاجته ولم يكن مع الشيخ ما يعطيه فنزع ثوبا على جلده ودفعه إليه وقال بعه بما تيسر وأنفقه واعتذر إليه من كونه لم يحضر عنده شئ من النفقة.
وهذا أيضا من المبالغة في عدم اكتراثه في غير ما يقرب إلى الله تعالى وجوده بالميسور كائنا ما كان وهذا من أبلغ إخلاص العمل لله عز وجل فسبحان الموفق من شاء لما شاء.
وحدثني من أثق به أن الشيخ رضي الله عنه كان لا يرد أحدا يسأله شيئا كتبه بل يأمره أن يأخذ هو بنفسه ما يشاء منها.
وأخبرني أنه جاءه يوما إنسان يسأله كتابا ينتفع به فأمره أن يأخذ كتابا يختاره فرأى ذلك الرجل بين كتب الشيخ مصحفا قد اشترى بدراهم كثيرة فأخذه ومضى
فلام بعض الجماعة الشيخ في ذلك فقال أيحسن بي أن امنعه بعد ما سأله دعه فلينتفع به.
وكان الشيخ رضي الله عنه ينكر إنكارا شديدا على من يسأل شيئا من كتب العلم التي يملكها ويمنعها من السائل ويقول ما ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه.
ومن كرمه انه كان لا ينظر مع ذلك إلى جهة الملك والتمول وهذا القدر من كرمه يغنى المقتدي به.
وأما قوة قلبه وشجاعته :
كان رضي الله عنه من أشجع الناس وأقواهم قلبا ما رأيت أحدا أثبت جأشا منه ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده ولا يخاف في الله لومة لائم
وأخبر غير واحد أن الشيخ رضي الله عنه كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم إن رأى من بعضهم هلعا أو رقة أو جبانة شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة وبين له فضل الجهاد والمجاهدين وإنزال الله عليهم السكينة(1/100)
وكان إذا ركب الخيل يتحنك ويجول في العدو كأعظم الشجعان ويقوم كأثبت الفرسان ويكبر تكبيرا انكى في العدو من كثير من الفتك بهم ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت.
وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أمورا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها، قالوا ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره.
ولما ظهر السلطان غازان على دمشق المحروسة جاءه ملك الكرج وبذل له أموالا كثيرة جزيلة على ان يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق ووصل الخبر إلى الشيخ فقام من فوره وشجع المسلمين ورغبهم في الشهادة ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف
فانتدب منهم رجال من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان فلما رآهم السلطان قال من هؤلاء فقيل هم رؤساء دمشق فأذن لهم فحضروا بين يديه. فتقدم الشيخ رضي الله عنه أولا فلما أن رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة حتى أدناه وأجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام معه أولا في عكس رأيه عن تسليط المخزول ملك الكرج على المسلمين وضمن له أموالا واخبره بحرمه دماء المسلمين وذكره ووعظه فأجابه إلى ذلك طائعا وحقنت بسببه دماء المسلمين وحميت ذراريهم وصين حريمهم.(1/101)
وحدثني من أثق به عن الشيخ وجيه الدين ابن المنجا قدس الله روحه قال كنت حاضرا مع الشيخ حينئذ فجعل يعني الشيخ يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ويرفع صوته على السلطان في أثناء حديثه حتى جثا على ركبتيه وجعل يقرب منه في أثناء حديثه حتى لقد قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته مصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه وأن السلطان من شدة ما أوقع الله ما في قلبه من المحبة والهيبة سأل من يخصه من أهل حضرته من هذا الشيخ وقال ما معناه إني لم أر مثله ولا أثبت قلبا منه ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقيادا مني لأحد منه فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل، فقال الشيخ للترجمان قل لغازان انت تزعم انك مسلم ومعك قاضي وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت.
وسأله إن أحببت أن اعمر لك بلد آبائك حران وتنتقل اليه ويكون برسمك فقال لا والله لا أرغب عن مهاجر إبراهيم استبدل به غيره.
فخرج من بين يديه مكرما معززا قد صنع له الله بما طوى عليه نيته الصالحة من بذله نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه ما أراده، وكان ذلك ايضا سببا لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم وردهم على أهلهم وحفظ حريمهم
وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوة الجأش.
وكان يقول لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه فان رجلا شكى إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال لو صححت لم تخف أحدا، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك.
وأخبرني من لا أتهمه أن الشيخ رضي الله عنه حين وشي به إلى السلطان المعظم الملك الناصر محمد أحضره بين يديه قال فكان من جملة كلامه:(1/102)
إنني أخبرت انك قد أطاعك الناس وأن في نفسك اخذ الملك، فلم يكترث به بل قال له بنفس مطمئنة وقلب ثابت وصوت عال سمعه كثير ممن حضر أنا أفعل ذلك والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فلسين. فتبسم السلطان لذلك وأجابة في مقابلته بما اوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة إنك والله لصادق وإن الذي وشيء بك إلي كاذب واستقر له في قلبه من المحبة الدينية ما لولاه لكان قد فتك به منذ دهر طويل من كثرة ما يلقى إليه في حقه من الأقاويل الزور والبهتان ممن ظاهر حاله للطغام العدالة وباطنه مشحون بالفسق والجهالة.
ولم يزل المبتدعون أهل الأهواء وآكلو الدنيا بالدين متعاضدين متناصرين في عدوانه باذلين وسعهم بالسعي في الفتك به متخرصين عليه بالكذب الصراح مختلقين عليه وناسبين إليه ما لم يقله ولم ينقله ولم يوجد له به خط ولا وجد له في تصنيف ولا فتوى ولا سمع منه في مجلس
أتراهم ما علموا أن الله سائلهم عن ذلك ومحاسبهم عليه أو ما سمعوا قول الله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
بلى والله ولكن غلب عليهم ما هم فيه من إيثار الدنيا على الآخرة والعمل للعاجلة دون الآجلة فلهذا حسدوه وابغضوه لكونه مباينهم ومخالفهم لبغضه ورفضه ما احبوا وطلبوا ومحبته ما باينوا ورفضوا، ولما علم الله نياته ونياتهم أبى أن يظفرهم فيه بما راموا حتى أنه لم يحضر معه منهم أحد في عقد مجلس إلا وصنع الله له ونصره عليهم بما يظهره على لسانه من دحض حججهم الواهية وكشف مكيدتهم الداهية للخاصة والعامة.
ذكر قوته في مرضاة الله وصبره على الشدائد واحتماله إياها وثبوته على الحق إلى أن توفاه الله تعالى على ذلك صابرا محتسبا راضيا شاكرا
وقد عقد البزار الفصل الثاني عشر لهذه المعالي فكان مما قال :
قال في ذلك:(1/103)
كان رضي الله عنه من أعظم أهل عصره قوة ومقاما وثبوتا على الحق وتقريرا لتحقيق توحيد الحق لا يصده عن ذلك لوم لائم ولا قول قائل ولا يرجع عنه لحجة محتج بل كان إذا وضح له الحق يعض عليه بالنواجذ ولا يلتفت إلى مباين معاند فاتفق غالب الناس على معاداته وجعل من عاداه قد تستروا باسم العلماء والزمرة الفاخرة وهم أبلغ الناس في الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة.
وسبب عدواتهم له أن مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرئاسة وإقبال الخلق ورأوه قد رقاه الله إلى ذروة السنام من ذلك بما أوقع له في قلوب الخاصة والعامة من المواهب التي منحه بها وهم عنها بمعزل فنصبوا عداوته وامتلأت قلوبهم بمحاسدته وأرادوا ستر ذلك عن الناس حتى لا يفطن بهم فعمدوا إلى اختلاق الباطل والبهتان عليه والوقوع فيه خصوصا عند الأمراء والحكام وإظهارهم الإنكار عليه ما يفتي به من الحلال والحرام فشققوا قلوب الطغام بما إجترحوه من زور الكلام ونسوا ان لكل قول مقاما أي مقام بين يدي أحكم الحكام يسأله هل قلته بحق أو بذام فيجازي المحق دار السلام والمبطل دار الانتقام. فبعضهم صبا إلى أقوالهم تقليدا وصار في حق هذا الإمام جبارا عنيدا أحس بذلك من العامة قوم قد أصبحوا للحكام عبيدا وتصوروا أن أخذهم بزمام حصول المال يكون شديدا فأصبحوا وهم لهم مصدقين وفي طاعتهم مستبقين.
فاجتمع من هذا التركيب العتديد بحيث عاداه اكثر السادات والعبيد كل بحسب غرضه الفاسد.
وهو مع ذلك كلما رأى تحاشدهم في مباينته وتعاضدهم في مناقضته لا يزداد إلا للحق انتصارا ولكثرة حججه وبراهينه إلا إظهارا.(1/104)
ولقد سجن أزمانا وأعصارا وسنين وشهورا ولم يولهم دبره فرارا ولقد قصد أعداؤه الفتك به مرارا وأوسعوا حيلهم عليه إعلانا وإسرارا فجعل الله حفظه منهم له شعارا ودثارا ولقد ظنوا أن في حبسه مشينة فجعله الله له فضيلة وزينة وظهر له يوم موته ما لو رآه واده أقر به عينيه فإن الله تعالى لعلمه بقرب اجله ألبسه الفراغ عن الخلق للقدوم على الحق اجمل حلله كونه حبس على غير جريرة ولا جريمة بل على قوة في الحق وعزيمة.
هذا مع ما نشر الله له من علومه في الآفاق وبهر بفنونه البصائر والأحداق وملأ بمحاسن مؤلفاته الصحف والأوراق كبتا ورغما للأعداء أهل البدع المضلة والأهواء وصنعا عظيمة من رب السماء لعوائده لخاصة الأولياء أهل المحبة والولاء.
مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية :
قال ابن عبد الهادي :
وأسماء مصنفاته ، وما جري بينه وبين الفقهاء والدولة وحبسه مرات ، وأحواله : لا يحتمل ذكر جميعها هذا الكتاب .
أقول :
هي أكثر من 340 رسالة وكتاب تشمل مجموع الفتاوى ومعظم مؤلفات شيخ الإسلام ، وهي كما حصرت حسب الطاقة مرتبة على الحروف :
1 أسئلة في مصطلح الحديث ونحوه
2 أفعال العبد الاختيارية
3أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل
4أمراض القلوب وشفاؤها
5إبطال فتاوي قضاة مصر
6إيضاح الدلالة على عموم الرسالة
7اقتضاء الصراط
8الأربعون التي رواها الشيخ
9 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
10 الإربلية
11 الإكليل في المتشابه والتأويل
12 الاحتجاج بالقدر
13 الاستقامة
14 البغدادية فيما يحل من الطلاق ويحرم
15 التبيان في نزول القرآن
16 التحفة العراقية في الأعمال القلبية
17 الترتيب والمولاة في العبادات والعقود
18 التصوف والسلوك
19 التقليد الذي حرمه الله ورسوله
20 التوبة
21 التوسل والوسيلة
22 الجواب الباهر في زوار المقابر
23 الحج
24 الحجج النقلية والعقلية في ما ينافي الإسلام من بدع
25 الحسنة والسيئة
26 الحقيقة والمجاز(1/105)
27 الدليل على فضل العرب
28 الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم
29 الرد على ابن عربي
30 الرد على المنطقيين
31 الرسالة الأكملية
32 الرسالة التدمرية
33 الرسالة العرشية
34 الرسالة القبرصية
35 الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات
36 السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية
37 الصارم المسلول
38 الطلاق
39 العبودية
40 العقيدة الأصفهانية
41 العقيدة الواسطية
42 الفتوى الحموية الكبرى
43 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
44 الفرقان بين الحق والباطل
45 القاعدة المراكشية
46 القرآن كلام الله
47 القرآن كلام الله أيضا
48 القرآن هل هو حرف وصوت أم لا
49 القواعد النورانية
50 الكلام على أحاديث الدعاء بعد الخروج من الصلاة
51 الكلام على أن الحسنة من الله والسيئة من النفس
52 الكلام على دعوة ذي النون
53 الكلام في القرآن
54 الكيلانية
55 المسألة المصرية في القرآن
56 المظالم المشتركة
57 المفاضلة بين الملائكة والناس
58 المناظرة في العقيدة الواسطية
59 المنظومة التائية في القدر
60 الموالاة في الوضوء
61 النبوات
62 الواسطة بين الخلق والحق
63 الوصية الصغرى
64 الوصية الكبرى
65 بدع زيارة القبور
66 بغية المرتاد
67 بيان تلبيس الجهمية
68 بيان مختصر لمناسك الحج
69 تحقيق التوكل
70 تحقيق الشكر
71 تعارض الحسنات والسيئات
72 تعليقة على فتوح الغيب لعبد القادر
73 تعليقة على كتاب فصوص الحكم
74 تعليقة على كلام الغزالي في مسألة طلب الرزق
75 تفسير سورة الأعلى
76 تفسير سورة الإخلاص
78 تفسير سورة البينة
79 تفسير سورة الشمس
80 تفسير سورة العلق
81تفسير سورة الكافرون
82 تفسير سورة الكوثر
83 تفسير سورة الناس
84تفسير سورة النور
85 تفسير قوله تعال واستعينوا بالصبر والصلاة
86 تفسير قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه
87 تفسير قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة
88 تفسير قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة(1/106)
89 تفسير قوله تعالى إن الذين يرمون
90 تفسير قوله تعالى إن هذان لساحران
91 تفسير قوله تعالى ادعو ربكم تضرعا
92 تفسير قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم
93 تفسير قوله تعالى حتى إذا استيئس الرسل
94 تفسير قوله تعالى ربنا لا تؤخذنا
95 تفسير قوله تعالى سماعون للكذب
96 تفسير قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو
97 تفسير قوله تعالى فيقسمان بالله
98 تفسير قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا
99 تفسير قوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو
100 تفسير قوله تعالى قل ياعبادي الذين أسرفوا
101 تفسير قوله تعالى كتب عليكم القصاص
102 تفسير قوله تعالى لا تحرموا طيبات
103 تفسير قوله تعالى ما أصابك من حسنة
104 تفسير قوله تعالى وإذا بشر
105 تفسير قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك
106تفسير قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك
107 تفسير قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم
108 تفسير قوله تعالى والذين لا يدعون
109 تفسير قوله تعالى والمطلقات يتربصن
110 تفسير قوله تعالى والوالدات يرضعن
111 تفسير قوله تعالى ولا تجادل
112 تفسير قوله تعالى ولتكملوا العدة
113 تفسير قوله تعالى ومن أحسن دينا
114 تفسير قوله تعالى يدعون من دون الله
115 تلخيص مناظرة ابن تيمية وابن المرحل
116 تهنئة الشيخ للملك الناصر
117 جواب أهل العلم ولإيمان
118 جواب أيهما أفضل كثرة الركوع أو طول القيام
119 جواب شبهة في نفي الصفات
120 جواب ورقة أرسلت إليه في السجن
121 حقيقة مذهب الاتحاديين ووحدة الوجود
122حكاية الشيخ علم الدين للمناظرة في العقيدة الواسطية
123 حكم الامتناع عن قتال التتار
124حكم تارك الصلاة من غير عذر
125خلاف الأمة في العبادات
126دخول الجنة
127درء التعارض
128دقائق التفسير
129 دين الأنبياء واحد
130رأس الحسين
131رسائل في الجهاد
132رسائل في الظهار والعدة والنفقات
133رسائل متفرقةرسائل متفرقة في التفسير
135رسالة أهل البحرين أيضا(1/107)
136رسالة إلى أهل البحرين
137 رسالة إلى الشيخ نصر المنبجي
138رسالة الشروط في النكاح
139رسالة عبد الله بن تيمية إلي أخيه زين الدين
140رسالة عن إجارة البساتين والأرض
141رسالة في أحوال الميت
142رسالة في أصل العلم الإلهي
143رسالة في أصول الدين
144رسالة في أفعال العباد
145 رسالة في أهل الصفة
146رسالة في أوقات النهي عن الصلاة
147رسالة في إبدال الوقف
148رسالة في إقامة الصلاة
149رسالة في الأيمان
150 رسالة في الاحتجاج بسابق القدر
151 رسالة في الاكتفاء بالرسالة المحمدية
152 رسالة في التقليد المذموم
153 رسالة في التوبة والاستغفار
154 رسالة في الجمع بين علو الرب وقربه
155 رسالة في الحديث المروي في الأبدال
156 رسالة في الحكم على بعض الأحاديث
157 رسالة في الحلاج
158 رسالة في الحلاج
159 رسالة في الحلف بالطلاق
160 رسالة في الحلف بالطلاق الثلاثة
161 رسالة في الحمام
162 رسالة في الحمام أيضا
163 رسالة في الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين
164 رسالة في الذكر البدعي
165 رسالة في الرد على بعض أهل الكلام
166 رسالة في الروح
167 رسالة في السماع
168 رسالة في السماع والرقص
169 رسالة في الصفات الاختيارية
170 رسالة في الصلاة على السجادة
171 رسالة في العبادات
172 رسالة في العبادات عند القبور والآثار
173 رسالة في العقل والروح
174 رسالة في العلو والاستواء
175 رسالة في الغيبة
176رسالة في الفرق بين الطلاق والحلف
178رسالة في الفرق بين المنهاج النبوي والفلسفي
179 رسالة في الفرقة من الطلاق
180 رسالة في القضاء والقدر
181 رسالة في القياس
182 رسالة في المباينة بين الله وخلقه
183 رسالة في المثل
184 رسالة في المزارعة
185 رسالة في المساقاة والمزارعة
186 رسالة في المنطق
187 رسالة في الموالاة والمعاداة
188 رسالة في الهلال
189 رسالة في بدع عاشوراء
190 رسالة في تحزيب القرآن
191 رسالة في تعليل الحكم الواحد بعلتين(1/108)
192 رسالة في ثلاثة آيات متشابهة
193 رسالة في جمل مقالات الطوائف
194 رسالة في حدود الأسماء
195 رسالة في حديث الولاء لمن أعتق
196 رسالة في حقيقة كلام الله
197 رسالة في حلول الحوادث
198 رسالة في خاتم الأولياء
199 رسالة في خواتيم سورة البقرة
200 رسالة في ذبائح أهل الكتاب
201 رسالة في رؤية المؤمنين ربهم في الجنة
202 رسالة في سجود السهو
203 رسالة في سجود القرآن
204 رسالة في سلطة الحاكم
205 رسالة في شرط صلاة الجمعة والعيدين
206 رسالة في شروط الواقف
207رسالة في شمول النصوص
208 رسالة في صلاة الجماعة
209 رسالة في ضبط كليات المنطق
210 رسالة في طرق العلم الإلهي
211رسالة في طريقة التوبة
212 رسالة في عذاب القبر
213 رسالة في علم الباطن والظاهر
214 رسالة في عمل القلب
215 رسالة في عوارض التكاليف
216 رسالة في فضائل الرمي وتعليمه
217 رسالة في قدرة الرب
218 رسالة في قنوط الصبح
219 رسالة في قوله كما صليت على إبراهيم
220رسالة في قوم منتسبين إلى المشايخ
221رسالة في قيام الممكنات والمحدثات في الواجب القديم
222 رسالة في لباس الصلاة
223رسالة في لباس الفتوة
224 رسالة في ما أحدثته الصوفية
225 رسالة في مراتب الذنوب
226 رسالة في مرض القلوب وشفاؤها أيضا
227 رسالة في مس الصبي الأمرد
228 رسالة في مسألة تأويل الصفات
229 رسالة في مسائل الأيمان والطلاق
230 رسالة في مقام الإيمان بالله ورسوله
231 رسالة في نكاح الزانية
232 رسالة من السجن
233 رسالة من الشيخ إلى أصحابه وهو في السجن
234 رفع الملام عن الأئمة الأعلام
235 زيارة القبور
236 زيارة بيت المقدس
237 سؤال عما ذكر عن أبي سليمان في تعريف الرضا
238 سؤال عن الكيمياء
239 سؤال عن المعز الذي بنى القاهرة
240 سؤال عن حكم التتار
241 سؤال عن حكم التتار المنتسبين إلى الإسلام
242 سؤال في صفات الرب
243 سؤال في علي بن أبي طالب
244سؤال في فضل جبل لبنان(1/109)
245 سؤال في ماهية لقاء الله
246 سؤال في معاوية بن أبي سفيان
247 سؤال في معاوية بن سفيان
248 سؤال في يزيد بن معاوية
249 سؤال هل حج النبي مفردا أو قارنا
250 شرح القول في الحكم في مني الإنسان
251 شرح حديث أعطيت جوامع الكلم
252 شرح حديث أن الله قبض قبضتين
253 شرح حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف
254 شرح حديث إن الله ينادي بصوت
255 شرح حديث إنما الأعمال بالنيات
256 شرح حديث إني حرمت الظلم
257 شرح حديث النزول
258 شرح حديث بدأ الإسلام غريبا
259 شرح حديث تفترق أمتي على ثلاث
260شرح حديث فاطمة بنت أبي حبيش
261شرح حديث كان الله ولم يكن شيء قبله
262شرح حديث لعن الله زورات القبور
263 صحة مذهب أهل المدينة
264 فتوى في بعض الفرق
265 فتيا في النية إلى السفر إلى قبور الأنبياء والصالحي
266 فتيا في مسألة العلو
267 فصل في المفطرات
268 فعل المأمور أعظم من ترك المنهي
269 قاعدة أهل السنة والجماعة
270 قاعدة شمول النصوص لجميع الأحكام
271 قاعدة في أعداد ركعات الصلاة
272 قاعدة في أقسام القرآن
273 قاعدة في أن ما يحتج به المبطل إنما تدل على الحق
274 قاعدة في أنواع الاستفتاح في الصلاة
275 قاعدة في الأحكام التي تختلف في السفر والإقامة
276 قاعدة في الأيمان
277 قاعدة في الأيمان والنذور
278 قاعدة في الاسم والمسمى
279 قاعدة في الاعتصام بكتاب الله
280 قاعدة في الجهر بالبسملة
281 قاعدة في الحسبة
282 قاعدة في الخلافة والملك
283 قاعدة في الخلع
284 قاعدة في الزكاة
285 قاعدة في الزهد والورع
286 قاعدة في الصبر والهجر والصفح الجميل
287 قاعدة في الصفات والأفعال
288 قاعدة في الصوفية والفقراء
289 قاعدة في العلوم والاعتقادات
290 قاعدة في العمر المكية
291 قاعدة في القرآن
292 قاعدة في القراءة خلف الإمام
293 قاعدة في الكلام على المرشدة
294قاعدة في المائعات والميتة إذا وقعت فيها
295قاعدة في المحبة(1/110)
296قاعدة في المعجزات والكرامات
297قاعدة في تزكية النفوس
298قاعدة في تصويب المجتهدين
299 قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع
300قاعدة في توحيد الله
301قاعدة في لعب الشطرنج
302قاعدة في ما يجب من المعاوضات
303قاعدة في مواضع الأئمة في مجامع الأمة
304قاعدة في وجوب طاعة الله ورسوله
305 قاعدة في وضع الجوائح
306 قاعدة لطيفة في المحبة
307 قاعدة ما ترك من واجب وفعل
308 قاعدة هل كل مجتهد مصيب
309 قصة شعيب عليه السلام
310قنوط الأشياء كلها لله تعالى
311قواعد في العقود
312كتاب إلى والدته
313 كتاب الإيمان الأوسط
314كتاب الإيمان الكبير
315 لفظ السنة في القرآن
316مختصر الرد على الأخنائي
317 مختصر الرد على منطق اليونان
318 مذهب السلف في الاعتقاد
319 مراتب الإرادة
320 مسألة الأحرف
321 مسألة الاعتياض عن دين السلم بغيره
322 مسألة الاقتصاد في العبادات
323مسألة التفضيل بين العبادات
324مسألة التمتع والقران أيهما أفضل
325مسألة الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة
326مسألة الطواف للحائض والجنب والمحدث
327 مسألة العزم على الفعل المحرم
328 مسألة القراءة خلف الإمام
329 مسألة المفاضلة بين أبي بكر وعمر وعلي
330 مسألة تحسين العقل وتقبيحه
331 مسألة سقوط التكليف
332 مسألة شرط الخف الذي يمسح عليه
333مسألة علم الله
334 مسألة في اتباع الرسول بصريح المعقول
335 مسألة في الجبر
336 مسألة في الفقر والتصوف
337 مسألة في القراءة خلف الإمام
338 مسألة في الوقف الذري
339 مسألة في تفضيل الثلاثة على علي
340مسائل في أصول الفقه
341 مسائل في التجارة والمعاملات
342مسائل في الجنابة
343مسائل في الجنايات والحدود
344مسائل في الحديث وعلومه
345مسائل في الحيض
346 مسائل في الخطبة والزواج والطلاق
347مسائل في الزكاة
348 مسائل في الصلاة
349 مسائل في الطهارة
350مسائل في العقيدة
351 مسائل في المنطق
352مسائل في الوقف والوصايا والفرائض(1/111)
353مسائل في عطايا الملوك
354معارج الوصول
355معاني سورة الإنسان
356معنى قولة علي لا يرجون عبد إلا ربه
357 معنى كون الرب عادل
358مقالة أكل الحلال المتعذر
359 مقدمة التفسير
360 منهاج السنة النبوية
====================
مدائح العلماء للشيخ ومراثيهم له :
وقد استقيناها من كتاب: ( العقود الدرية) لابن عبد
الهادي تلميذه وهو الكتاب الذي يعد ترجمة للشيخ رحمه الله 0
قال :
ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى بقي بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأياما ، ثم توفي إلى رحمة الله ورضوانه . وما برح في هذه المدة مكباً على العبادة و التلاوة و تصنيف الكتب ، و الرد على المخالفين .
وكتب على تفسير القرآن العظيم جملة كثيرة ، تشتمل نفائس جليلة و نكتاً دقيقة ومعاني لطيفة ، و بين في ذلك مواضع كثيرة أشكلت على خلق من علماء التفسير .
وكتب في المسألة التي حبس بسببها عدة مجلدات :
منها : كتاب في الرد على ابن الإخنائي قاضي المالكية بمصر ، تعرف لالإخنائية
ومنها كتاب كبير حافل في الرد على بعض قضاة الشافعية ، وأشياء كثيرة في هذا المعنى أيضاً .
قال الشيخ علم الدين :
و في ليلة الاثنين ، لعشرين من ذي القعدة من سنة ثمان وعشرين و سبعمائة ، توفي الشيخ الإمام العلامة الفقيه ، الحافظ الزاهد القدوة ، شيخ الإسلام ، تقي الدين أبو العباس أحمد ، ابن شيخنا الإمام المفتى ، شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ، بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني ، ثم الدمشقي بقلعة دمشق التي كان محبوسا فيها .
وحضر جمع إلى القلعة ، فأذن لهم في الدخول ، وجلس جماعة قبل الغسل ، وقرءوا القرآن و تبركوا برؤيته وتقبيله ثم انصرفوا .
وحضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن .(1/112)
قال: وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الفروع والأصول كمل منها جملة وبيضت ، وكتبت عنه ، وجعلة كثيرة لم يكملها ولكن لم تبيض .
قال :
وأثني عليه وعلى فضائله جماعة من علماء عصره:
مثل القاضي الخوي ، وابن دقيق العيد ، وابن النحاس ، وابن الزملكاني ، وغيرهم .
ووجدت بخط الشيخ جمال الدين بن الزملكاني : أنه اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها ، وأن له اليد الطولي في حسن التصنيف ، وجودة العبارة والترتيب و التقسيم والتبيين ، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات الثلاثة من نظمه . وهي :
ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهرة أنوارها أربت على الفجر
وهذا الثناء عليه . وكان عمره نحو الثلاثين سنة .
وكان بيني وبينه مودة وصحبه من الصغر ، وسماع الحديث والطلب ن نحو خمسين سنة . وله فضائل كثيرة .
وقد مدح الشيخ رحمه الله بقصائد كثيرة في حياته ، ورثى بأكثر منها بعد وفاته .
فمن القصائد التي مدح بها : قصيدة نجم الدين إسحاق بن أبي بكر بن ألتي التركي وهي :
ذرانى من ذكري سعاد وزينب
ومن ندب أطلال اللوي والمحصب
ومن مدح آرام سنحن برامة
ومن غزل في وصف سرب وربرب
ولا تنشداني غير شعر إلى العلا
يظل ارتياحا يزدهيني ويطبي
وإن أنتما طار حتماني ، فليكن
حديثكما في ذكر مجد ومنصب
بحب الأعالى ، لا بحب أم جندب
أقضي لبانات الفؤاد المعذب
خلقت امرءا جلداً على حملي الهوى
فلست أبالى بالقلي و التجنب
سواء أرى للوصل تعريض جؤذر
وإعراض ظبي ألمس الثغر أشنب
ولم أصب في عصر الشبيبة والصبا
فهل أصبون كهلا بلمة أشيب ؟
يعنفني في بغيتي رتب العلا
جهول ، أراه راكباً غير مركبي
له همة دون الحضيض محلها
ولي همة تسمو على كل كوكب
فلو كان ذا جهل بسيط عذرته
ولكنه يدلي بجهل مركب
يقول : علام اخترت مذهب أحمد
فقلت له : إذ كان أحمد مذهب
وهل في ابن شيبان مقال لقائل
وهل فيه من طعن لصاحب مضرب ؟(1/113)
أليس الذي قد طار في الأرض ذكره
فطبقها ، ما بين شرق و مغرب ؟
إمام الهدى الداعي إلى سنن الهدى
وقد فاضت الأهواء من كل مسغب
أتوا بعظيم الإفك ، وانتصروا له
بكل مقال بالدليل مكذب
وقالوا : كلام الله خلقا ، وكذبوا
بما صح نقلا عن أبي ومصعب
وأصبح أهل الحق بين معاقب
وبين معد للأذى مترقب
فقام بما يوهى ثبيرا ويذبلا
قيام هزبر للفريسة مغضب
ولم ينته عنهم ، ولما يصده
عقوبة ذي ظلم ، وجور معذب
إلى أن بدا الإسلام أبلج ساطعاً
وكشف عن ظلمائهم كل غيهب
وهدم من أركانهم كل شامخ
ودوخ من شجعانهم كل قرهب
ومزقهم أيدى سبا ، فتفرقت
كتائبهم ما بين شرق ومغرب
وأصحابه أهل الهدى لا يضرهم
على دينهم طعن امرئ جاهل غبي
هم الظاهرون القائمون بدينهم
إلى الحشر ، لم يغلبهم ذو تغلب
لنا منهم في كل عصر أئمة
هداة إلى العليا ، مصابيح مرقب
فأيدهم رب العلا من عصابة
لإظهار دين الله أهل تعصب
وقد علم الرحمن أن زماننا
تشعب فيه الرأي أي تشعب
فجاء بحبر عالم من سرانهم
لسبع مئين بعد هجرة يثرب
يقيم قناة الدين ، بعد اعوجاجها
وينقذها من قبضة المتغصب
فذاك فتى تيمية ، خير سيد
نجيب أتانا من سلالة منجب
عليم بأدواء النفوس يسوسها
بحكمته ، فعل الطبيب المجرب
بعيد من الفحشاء و البغي والأذى
قريب إلى أهل التقى ، ذو تحبب
يغيب ، ولكن عن مساو وغيبة
وعن مشهد الإحسان لم يتغيب
حليم كريم مشفق ، بيد أنه
إذا لم يطع في الله . لله يغضب
يرى نصرة الإسلام أكرم مغنم
وإظهار دين الله أربح مكسب
ليوث ، إذا أهل الضلال تجمعوا
لكل فتى منهم يعد بمقنب
لئن جحدت علياء فضلك حد
لعمر أبي ، قد زاد منهم تعجبي
وهل ممكن في العقل أن يجحد السنا
ضحى ، وضياء الشمس لم يتحجب ؟
أيا مطلبا حزناه من غير مهلك
وكم مهلك صد الورى دون مطلب
بعزم تقي الدين أحد تتقى
صروف زمان بالفوادح مرعب
وفي الجدب نستسقى الغمام بوجهه
فنصبح في روض كناديه مخصب
ربيب المعالى ، يافع الجود والندى(1/114)
فتى العلم ، كهل الحلم ، شيخ التأدب
مفصل ما قد جاء من جعل النهي
وإيضاحه للفهم غير مقرب
بسيط معان في وجيز عبارة
بتهذيبه تعجيز كل مهذب
وليس له في العلم والزهد مشبه
سوى الحسن البصري وابن المسيب
ومن رام حبرا غيه اليوم في الورى
فذاك الذي قد رام عنقاء مغرب
ألي هو الندب الذي بالنتصاره
حبا الدين حبي ، بالإقامة قد حبي
وجاهد في ذات الإله بنفسه
وبالمال والأهلين والأم والأب
ووازراه في حالتيه ابن أمه
فذلك عبد الله ، نعم الفتى الأبي
عقاب المعالى ، ضيغم الغابة ، الذي
فرى كل ذي غي بناب ومخلب
هما ناصرا دين الإله ، وحاميا
حمى خير خلق الله من نسل يعرب
مقيمان كالإسلام في دار غربة
فياحبذا في الله حسن التغرب
وكم قد غدا بالقول والفعل مبطلا
ضلالة كذاب ورأي مكذب
ولم تلق من عاداه غير منافق
وآخر عن نهج السبيل منكب
لقد حاولوا منه الذي كان رامه
من المصطفي قدما حي بن أخطب
ولكن رأي من بأسه مثلما رأي
من المصطفى في حربه رأس مرحب
تمسك ، أبا العباس بالدين واعتصم
بحبل الهدى ، تقهر عداك وتغلب
ولا تخش من كيد الأعادي ، فما هم
سوى حائر في أمره ومذبذب
جنودهم من طامع ومذلل
مسيلمة منهم من يلوذ بأشعب
وجندك من أهل السماء ملائك
يمدك منهم موكب بعد موكب
وكل امرئ قد باع لله نفسه
فليس إذاً يصغى لقول مؤنب
خدمتهما مني بعقد منضد
بفكر سوائى درة لم يثقب
تشنف سمع الدهر إذا اغتدي
به الناظم التركي أفصح مغرب
وما جئت في مدحيهما متطلعا
به عرضا يفني ، ولا نيل منصب
ولكنني أبغى الله خالقي
وأرجو به غفران زلة مذنب
وأجعله لي في المعاد ذخيرة
أفوز بها في الحشر من خطبة الوبى
نجزت ، وهي سبعة وستون بيتا
وقال الشيخ الفقيه ، أمين الدين عبد الوهاب بن سلار الشافعي ، ( يرثي الشيخ تقي الدين ، الإمام أحمد بن تيمية :
كل حي له الممات ورود
ليس في الدنيا لمرء خلود
كل خل مفارق لخليل
كل وصل إلى انفصال يعود
ليس يبقى إلا إله البرايا(1/115)
دائم الملك والبقا . لا يبيد
عين ، سحى بمدمع ليس يرقأ
وسهاد دائماً ، وأجفان جودا
بالجرح بمهجتي ، ليس يبرا
أو يجودوا بطيفهم ، أو يعودوا
هل لما بي من مسعد ، أو معين ؟
عز صبري ، وفرط حزني يزيد
ويك نفسي ، تعاملي باصطبار
فالذي قد قضى بهذا مريد
قد رزئنا إمام علم ودين
عدم المثل في الزمان فريد
يا لحزن عليه ، عم البرايا
بالنار ، بقلبي لها وقود
كان شيخ الإسلام عقلا ونقلا
سنن البدع عنده مردود
كان في العلم والشجاعة فذا
وهو في الزهد والعفاف يسود
كان بالعرف آمراً ، لا للحظ
وعن النكر للعباد يذود
كان لله ذاكراً كل وقت
وعن اللهو والضلال بعيد
مات لله صابرا وسط سجن
يوم الاثنين ، سره مشهود
وتولاه الأبرار غسلاً ودفنا
أبيض الوجه ، في الثرى ملحود
حين وافي على الرءوس مسجى
والبرايا من كل حي وفود
صحت من فرط ما بدالي : مها
لا ، لك في جنة الخلود خلود
يا لها من رزية طاش فيها
كل لب وتقشعر الجلود
يا ابن تيمية ، عليك سلامي
كل وقت يمضي ، ووقت يعود
يا ابن عبد الحليم ، حلمك يسمو
يا ابن عبد السلام ، سلمك جود
يا إمام العلوم ، من للفتاوى ؟
ولحل الأشكال حبراً تفيد ؟
ولفهم الكتاب والنقل بحر
في معانيهما مصيب شديد
يا بشوشا لكل من را نفعاً
إن من نال من جناك سعيد
كل وقت مضي لديك سماعا
ذاك عند التحقيق علم جديد
ليت شعري ، أيامنا باجتماع
بك ، هل تبدو لنا ، أو تعود ؟
طبت ترباً ، وقدست منك روح
ومنحت النعيم مهما تريد
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله و صحبه وسلم .
قال ابن عبد الهادي:
وجدت بخط والدي يقول :
أنشد الشيخ الإمام العالم ، مسند الشأم ، بهاء الدين القاسم بن محمود بن عساكر . أبقاه الله تعالى ، لنفسه في شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية هذين البيتين ، في يوم الأربعاء سابع رجب عام عشرين و سبعمائة ، بمنزلة بدمشق .
تقي الدين أضحى بحر علم يجيب السائلين بلا قنوط
حاط بكل علم فيه نفع…فقل ما شئت في البحر المحيط(1/116)
****
وأيضاً وجدت بخطه في ابن تيمية يقول :
أنشدنا الشيخ صلاح الدين القواس من لفظه ونظمه ، في شوال سنة ست و سبعمائة ببعلبك ، بمسجد الحنابلة :
قالوا : ابن تيمية في الجسن ، قلت : لهم
لا يعجزنكم الأفكار بالقلق
مات الموفق و القاضي الإمام أبو
يعلي ، ومات أبو الخطاب والخرقى
ولابن حنبل الصديق نور هدي
حتى القيامة مثل البدر في الغسق
وفضله بين أهل الفضل مشتهر…
وإصبعاه من الزنديق في الحدق…
ووجدت بخط الشيخ سعيد الذهبي يقول :
أنشدنا الشيخ الإمام العالم الفاضل الكامل ، أوحد دهره ، وفريد عصره ، إمام المحققين ، وقدرة أئمة المحدثين ، تقي الدين أبو الثناء محمود بن على بن محمود بن مقبل ابن سليمان بن داود الدقوقي المحدث سامحه الله تعالى لنفسه .
يرثي الشيخ الإمام العلامة و البحر الفهامة ، حجة الإسلام ، وقدوة الأنام ، تقي الملة و الحق والدين ، أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم ، بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني . قدس الله روحه . ونور ضريحه . في سنة ثمان وعشرين و سبعمائة . ولم ير الشيخ رحمه الله .
قف بالربوع الهامدات وعدد
وأذر الدموع الجامدات وبدد
واحبس مطيك في المنازل ساعة
واسأل ، ولاتك في سؤالك معتد
واقطع علائقك التي هي فتنة
واتبع سبيل أولى الهداية تهتد
ودع صباك . ودع أباطيل المني
واهجر دنيات الأمور وسدد
واقنع من الدنيا القليل ، ولازم الفعل
الجميل ، وسر بسير مجرد
وتوخ فعل الخير ، وأصحب أهله
متحبباً متجنباً أهل الدد
لا تعتبن مفارقا يبكي على
أحبابه ، ورحمه إن لم تسعد
ودع المروع بالبعاد , وعذله
فالعذل أمضى من فعال مهند
ماذا الوقوف عن السري ، وصحابنا
ساروا صاروا بالعراء الفدفد ؟
لا أخضر بعدهم العقيق ، ولا شدت
ورق الحمائم فوق برقة ثهمد
أما أنا ، فلأبكين ، فإن وني
دمعي ، سفكت حشاشة القلب الصدي
أين المعين على الحطوب إذا عرت ؟
أين المساعد عند فقد المسعد ؟(1/117)
أو ما دري من كنت تعرف قد مضى
لسبيله في ضنك لحد مؤصد ؟
أين المحامي عن شريعة أحمد ؟
أين المحقق نهج مذهب أحمد ؟
مات الإمام العالم الحبر الذي
يهداه عالم كل قوم يهتدي
من لليهود وللنصارى بعده
يرميهم بمقالة المتسدد ؟
سل عنه ديان اليهود ، أما غدا
متلفعا بصغاره المتهود ؟
نشأت على فعل التقى أطواره
فعنت له التقوى وأعطت عن يد
ورث الزهادة كابراً عن كابر
والعلم إرثا سيدا عن سيد
قف إن مررت بقاسيون على ثرى
فيه ضريح العالم المتفرد
واعجب لقبر ضم بحراً زاخراً
بالفضل يقذف بالعلا و السؤدد
بشر يبشر بالغنى من جاءه
يسر يسرَّ بنعش ميت ملحد
كانت تسير بنعشه وتحطه
فوق السماك وفوق فرق الفرقد
مات الذي جمع العلوم إلى التقي
والفضل والورع الصحيح الجيد
شيخ الأنام تقي دين محمد
وجمال مذهب ذي الفضائل أحمد
ودعت قلبي يوم جاء نعيه
فتقاعدي ، يا عين بي ، أو أنجدي
سقت العهاد عراص قبر حله
جسد حوى خلقا وحسن تودد
يا مبلغ العذال فرط صبابتي
وتعلقي يوم النوى وتسهدي
ما بعد رزئك في الزمان رؤية
تصمي المقاتل بالفراق ولا تدى
بددت شمل الملحدين جميعهم
وجمعت شمل ذوي التقي المتبدد
يا من ترى أقواله مبيضة
في كل ذي قول ووجه أسود
يا كالئ الإسلام من أعدائه
وسمام كل أخي نفاق ملحد
يا واحد الدنيا الذي بعلومه
يمتاز في الإسلام كل موحد
يا حامل الأعباء عن مستنصر
يا كاشف الغماء عن مستنجد
يا طارد الشبهات عن متردد
يا دافع الفاقات عن مسترفد
قرت عيون مجاوريك وقد غنوا
بجوار قبرك عن وثير المرقد
فكأنما تلك اللحود حدائق
تزهو بنرجس زهرها الغض الندي
يا خاتم العلماء صح بموتك الـ
خبر الذي يرويه كل مجود
اليوم قبض العلم ، قولا واحدا
من غير ما منع ، وغير تردد
لو لم يكن ختم الأئمة أحمد
بشرت أهل الخافقين بأحمد
خوض الكرائه لم يزل من دأبه
فيه الفوراس في المضايق تهتدي
شيخ إذا أبصرته في محفل
تقذي برؤيته عيون الحسد
ذو المنقبات الغر والشيم التي(1/118)
يفنى الزمان وذكره لم ينفذ
يا من يروم له عديلا في الورى
قد رمت كالعنقاء ما لم يوجد
كم بين رئبال الفلاة وثعلب
كم بين شعواء البزاة وجد جد ؟
أرح المعلي ، ولا تكن كمحاول
صيد النجوم من المياه الركد
قد كان شمسا للصحاب منيرة
بضيائها ، في كل قطر ، نهتدي
واليوم أدركها الكسوف فأظلمت
طرق الهدى القويم الأرشد
مات الصديق ومات من عاديته
وتموت أنت كمثله ، وكأن قد
وإذا مضى أقران عمرك فانتظر
في يومك الناعي ، وإلا في غد
لكن لنا عن كل خل سلوة
بمصاب سيدنا النبي محمد
صلي عليه الله ما هجر الكرى
جفن التقى القانت المتهجد
تمت والحمد لله . وعدتها ستة وخمسون بيتاً .
وأيضاً للدقوقي ، رحمه الله تعالى :
ما كفء هذا الرزء جفن تسجم
أبدا ، ولا قلب يذوب ويألم
رزء أصم جميع أسماع الورى
سبق الحدوث به القضاء المبرم
رزء يجل عن البكاء ، لأنه
لا رزء منه في البرية أعظم
يتضاءل اللسن الفصيح لذكره
ويجل قدراً في النفوس و يعظم
رزء له هوت النجوم وكورت
شمس الضحى ، والصبح ليل معتم
من عظم موقعه ، وفادح خطبه
لم يدر قس ما البيان وأكثم
لكنما تجرى الأمور بكل ما
يقضى به رب السماء و يحكم
والأمر أعظم أن يقوم ببعضه
دمع يصوب ولم يخالطه دم
ذا الخطب أعظم أن يداوي بالأسى
هذا المصاب أجل مما تعلم
كل يدافع حتفه عن أنفه
حتى يفاجئه الحمام المؤلم
أعي الأنام ، فما له من ملجأ
يؤويهم عند الخطوب ، و يعصم
والموت ورد للجميع ، وكلهم
في ماء ذاك الورد حتما يقدم
من أخطأته يد الحوادث في الصبا
لابد تدركه إذا هو يهرم
سيان في خكم القضاء مؤجل
في نفسه ، ومعجل يتقدم
أأخي ، لا تبعد ، فليس بخالد
أحمد ، ولا حي عليها يسلم
لا تعذل الباكي على أحبابه
واعذره ، وارحمه ، لعلك ترحم
للخطب يدخر الصديق ، ولا أرى
في الناس يوم البين خلا يرحم
لا تحسبوا ورق الحمام سواجعا
يوم الرحيل ، ولا المطايا تدرم
هذى تحن فتشتكي ألم السري
والورق تذكر إلفها ، فترتم
ما حاربت أيدي الردى في مأزق(1/119)
إلا غدت أقرانه تتخرم
من ذا يطيق مع الفراق تجلداً ؟
قل لي ، وقد ( مات الإمام الأعظم )
أودي فريد الدهر أوحد عصره
ومضى التقى العارف المتوسم
شيخ يسود بجده وبجده
وسواه في هذين صفر معدم
شيخ كأن الله أودع سره
فيه ، فما تلقاه إلا يعلم
اليوم أكشف عن غوامض سره
اليوم منه يفسر المستعجم
قد كان يؤثر من أتاه بقوته
ويظل طول نهاره لا يطعم
ويجود بالموجود منه ، ويرشد الـ
جنف العصى بهديه ، ويقوم
ظهرت له شيم التقى فكأنه
بطهارة الأثواب نسكا محرم
وإذا تقاعست الرجال ، فإنه
يوم النزاع العالم المتقدم
من ذا يرى للمشكلات يحلها
والواقعات ، ومن به يستعصم ؟
وعلى النصارى الملحدين إذا أتو
من ذا يرد ، ومن يجيب و يفهم ؟
يشتافه الإرسال في إسناده
والنسخ والمنسوخ ، ثم المحكم
وبكته عنعنة الحيث وطرقه
وبيان ما يحوى عليه المعجم
هذا الذي للدين منه معال
ومنوع ، ومجنس ، ومعلم
هذا الإمام الحجة الحبر الذي
تنفي به شبه الشكوك و تحسم
فضل وزهد لا يعد وعفة
وديانة ورزانة وتحلم
لك يا ابن مجد الدين طود باذخ
في الفضل ممنوع الجوانب أبهم
أقسمت ما وصف امرؤ بصيانة
في نفسه ، إلا وصوتك أعظم
أبدي مصلاك البكاء ، وحسبه
يبكى ساج ، والخلائق نوم
حسدوه إذا وجدوه أعلم منهم
ورأوه أفضلهم ، وإن كانوا عموا
عقلوه إذ عقلوه ، ليث كباشهم
والليث يعقل من سطاه و يلجم
تبكى عليه جوامع ، ومجامع
ومناقب ، ومراتب تتهدم
وزكت خلائقه الشراف وكرمت
منه المعارش ، وهو منها أكرم
جمعت له أشتات كل فضيلة
تروى مدائح شاردات حوم
ملأت فضائله البلاد ، ففضله
كالشمس ، نور ضيائها لا يكثم
ولقد دعوت الشعر يوم نعيه
فأبى على ، فلم أطق أتكلم
أنى يجيب ؟ ومن لوازم حقه
أن لا يجيب ، وفكره متقسم
وأخذت أكتب ما أقول وأدمعي
بين السطور كعقد در ينظم
نفد المداد ، فساعدته مدامعي
فعصى علي ، فساعد الدمع الدم
حال المداد عن السواد ، كأنه
دمع المحاجم صب فيه العندم
جادت ضريحا بالشام غمامة(1/120)
تسقى ثراه على المدى وتدوم
وسقى قبوراً جاورته من الرضا
تحت التراب سحاب عفو مثجم
طوبى لمن أمسى مجاور تربه
من أجلها الجار المجاور يكرم
أمسى وتحت الأرض عرس إذ نوى
فيها ، وفوق الأرض فينا مأتم
هذا وأملاك السماء تحفه
في كل يوم لا تمل و تسأم
يا أرض صرت به كروضة جنة
لنزيلها في كل يوم موسم
لسواه به أرض أقام برمسها
ميتاً وهذا الميت حي مكرم
نقلت إلى جنات عدن روحه
والحور والولدان فيها تخدم
حسمانه تحت العراء ، وروحه
في مقعد الصدق الرضا تتنعم
لو كان للقبر المحيط بجسمه
يوما لسان ناطق يتكلم
لسمعت بشراه بمن وافى إلى
عرصانه من خير ضيف يقدم
هو في جوار الله أشرف منزل
والله أرأف بالعباد وأرحم
تبكى له السبع الطواف و سعيه
والحجر ، والبيت العتيق ، وزمزم
وتعطل المحراب من متهجد
بالذكر في أسحاره يترنم
والخلق إن نسبوا إليه كواحد
في أمة ، وهو الفريد الأدلم
أضحت سطور الفضل يصعب فهمها
كالخط أصعبه الغويب المبهم
فأبان مشكلها ، وأوضح رمزها
فندت يتنقيط الفضائل تعجم
إن كان قد أمسى رهين مودأ
زلخ الجوانب جدره متهدم
فلرب عان قد أعان وأكمه
هدي ، فأرشده ، ولا يتبرم
وضريحه كالمسك ، ينشق علافه
من كان من حنق عليه يسلم
إن كان هذا الرزء يعظم ذكره
شرفا ، و ينجد في البلاد و يتهم
فالصبر أكرم ملبس يختاره
حر بصير ، باعواقب مسلم
وعلى النبي من الإله صلاته
ما سارت الأظعان سوقا ترزم
قال الشيخ أبو بكر أحمد الدريبي رحمه الله :
كان على النسخة التي نقلت منها نسختي هذه ما صورته :
نقلتها من خط مؤلفها الشيخ الإمام العلامة ، أوحد عصره وفريد دهره ، أبي الثناء محمود بن على بن محمود الدقوق ، البغدادي ، قدس الله روحه .
وقال أيضاً . شاهدت الأصل المنقول عنه ما صورته :(1/121)
سمع علي الولد السعيد أبو الخير ، سعيد بن عبد الله الذهلي الحريري جميع هذه القصيدة الموسومة : بمرثاة الشيخ العالم الرباني تقي الدين أحمد بن تيمية الحرائي . بقراءة الشيخ الإمام الأوحد الفاضل المحقق الكامل ، جمال الدين أبي أحمد يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد السامري . وذلك في يوم الثلاثاء سادس ربيع الأول سنة ثلاثين و سبعمائة .
وكتب ناظمها محمود بن علي بن محمود الدقوقي حامداً و مصلياً :
توفي ناظم هذه المرثاة الشيخ تقي الدين الدقوقي يوم الاثنين العشرين من المحرم سنة ثلاث و ثلاثين وسبعمائة ، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة الإمام أحمد ، وحملت جنازته على الرءوس . رحمه الله .
والدقوقي أيضاً رحمه الله تعالى :
مضى عالم الدنيا الذي عز فقده
وأضرم ناراً في الجوائح بعده
فدمي طليق فوق خدي مسلسل
أكفكفه حينا ، و جفني يرده
و يرجو التلاقي ، و الفراق يصده
وما حيلة الراجى إذا خاب قصده
مضى الطاهر الأثواب ، ذو العلم
والحجى ولم يتدنس قط بالإثم بردء
مضى الزاهد الندب ابن تيمية الذي
أقر له بالعلم و الفضل ضده
بكته بلاد طرا وأهلها
وجامعها وانماع للحزن صلده
يحن إليه في النهار صيامه
ويشتاقه في ظلمة الليل ورده
ويبكى له نوع الكلام وجنسه
ويندبه فصل الخطاب وجده
حمى نفسه الدنيا ، وعف تكرما
ولما يصعر للدنيات خده
ولم يجتمع زوجان من شهواتها
لديه ، وبين الناس قد صح زهده
ويؤثر عن فقر ، وفيه قناعة
ويعجبه من كل شيء أشده
عليم بمنسوخ الحديث وحكمه
وناسخه ، فخر الزمان ومجده
قؤول ، فعول ، طيب الجسم طاهر
إمام ، له من كل علم أسده
فما قال في دنياه هجرا ولا هوى
ولا زاغ عن الحق تبين رشده
علوم كنشر المسك من كل سيرة
يشيد دين المصطفى ويجده
فلله ما ضم التراب ، وما حوى من
الفضل فليفخر على الأرض لحده
فيا نعشه ، ماذا حملت ما امرئ
جميع الورى فيه ، وفوقك فرده ؟
وكان لنا بحراً من العلم ذاخرا
فما باله لم يصف مذ غاب ورده(1/122)
وما مات من تبقى التصانيف بعده
مخلدة ، والعلم و الفضل ولده
وخلف آثاراً حساناً حميدة
إذا عددت زادت على ما نعده
ولست مطيقا شرح ذاك مفصلا
ولكن على الإجمال يعكس طرده
لقد فارق الأصحاب منه مصاحبا
يراعى وداد الحل إن خان أوده
قضى نحبه والله راض بفعله
ولله فيما قد قضى فيه حمده
يدل تراب القبر من جاء زائرا
إليه بطيب فيه يعبق نده
ولا تحسبوا ما ناح عطر حنوطه
ولكنه حسن الثناء ومجده
وكان لأهل تاجاً مكللا
يحوطهم من مبطل خيف حقده
وما كان إلا التبر عند امتحانه
يبين لعين الحاذق النقد نقده
وكان يقول الحق والحق حلوه
مرير لهذا كان يكره رده
وفي الحق لم تأخذه لومة لائم
ولا خاف من غمر تشدد حرده
وما كان إلا السيف غارت يد العلا
عليه ، فردته كما غارت غمده
ولم تلهه الدنيا وزخرفها الذي
يروق لمن لم يؤنس الدهر رشده
لقد فقدت منه المحاسن زينها
ولما يفارق علمه الجم وجده
وخضبت الأقلام بعد مدادها
عليه دما ، قد فاض في الطرس مده
فللدهر ماضم الثرى من محقق
ويالك من عضب تثلم حده
وكان إمام يستضاء بنوره
وبحراً من الأفضال قد غيض عده
وكنت أرجى أن أراه ، و نلتقى
ولكن قضاء الله ، من ذا يرده ؟
نرى الموت مألوف الطباع و ربما
يعلل بالمألوف من لا يوده
فآه على تفريق شمل مجمع
وحر فؤاد بان ، مذ بان برده
ألا إنها نفس عهد خل تغيبت
محاسنه ، والخل يحفظ عهده
وما عذر دمع لا يجيش بدمعه
غداة نأى عنه الصديق ورفده
يروم الأماني ، والمنايا قصده
وما حيلة الراجعي إذا حار قصده
عليك أبا العباس فاضت مدامعي
وقلبي لبعدي عنك أجج قصده
على مثلك الآن المرائي مباحة
وإن غاض دمعي ، فالدماء تمده
شددت عرى الإسلام شدة عارف
قوي على الأعداء لم يأل جهده
تركت لهم ديناهم ترك عالم
علا قدره عند الإله ومجده
وكنت لمجموع الطوائف مقتدي
وعقداً لهذا الدين أثرم عقده
وكنت ربيعا للمريد وعصمة
فمذ صرت تحت الأرض صوح ورده
جمعت علوم الأولين مع التقى(1/123)
إلى الورع الشافي الذي صاح حمده
وكنت تقي الدين معني وصورة
قؤولا ، وخير القول عندك جده
رحلت وخلفت القلوب جريحة
تذوب وجيش الصبر قد قل جنده
عليك سلام الله حيا وميتا
مدي ما بدى نجم وأشرف سعده
تمت وهي اثنان وخمسون بيتا .
فهرس الموضوعات
كلمة للإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى
ترجمة الإمام ابن تيمية
قصة محنته ( كما يرويها هو نفسه )
- ثبات ضد الظلم
- إهانة المسلم جريمة
- تبديل كلام الخصم
- شهادة القضاة بعقيدة الشيخ
- اعتماد السلطات على جهلة المتعالمين
- سبب فتاوي الإمام في العقيدة و النقمة عليه
- الإجماع على أن استواء الله حقيقة
- ما قال السلف في مسألة الاستواء
- متابعة الخصوم له على العقيدة
- معاني الشرع في العرف
- مخالفة الخصوم لأئمتهم
- تسامح الشيخ مع خصومه
- مسألة الاستغاثة
- آداب زيارة النبي (
- عقيدة الخصوم في أهل القبور
- الفرق بين التوسل الجائز و الاستغاثة
- بعض المصادر و المراجع
- الفهرس
(1 ) أفتى : أشد فتوة
(2 ) الفرائض : علم الحديث
(3 ) محمد / 38
(4 ) التوبة / 39
(5 ) سورة /
(6 ) القمر / 54 ، 55
(7 ) المخدرات : النساء
(8 ) سورة الحديد : 4
(9 ) سورة آل عمران / 103
(10 ) سورة الأنعام / 159
(11 ) سورة آل عمران / 105
(12 ) سورة البقرة / 115 .
(13) سورة القمر / 55
(14 ) استئناف كلام شيخ الإسلام .
(15 ) هذه القضية هي القضية التي أثيرت في الفتوى الحموية ، وهي الخاصة بصفات الله تعالى . وهي إثبات الصفات كلها لله - مع التسليم بأنه تعالى " ليس كمثله شيء " ، وأنه تعالى لا يشبه الكائنات في صفاتها . ولذلك يترك التشبيه والتمثيل و الكيف ولا تثبت إلا الصفة على الهيئة التي تليق بالله ، والتي لا يعلمها إلا الله عز وجل . وكانت إثبات الصفات لله تعالى هو سبب امتحان شيخ الإسلام و سجنه ، والفتوى بقتله .
(16 ) النساء / 58
(17 ) حديث صحيح بلفظ :
" لا طاعة في معصية الله تعالى "(1/124)
وقد رواه بلفظ المصنف :
- وإليه عزاه السيوطي في ( جمع الجوامع - خط : 1 / 913 ) .
- والبغوي في شرح السنة ( 10/ 44 : كتاب الإمارة ) .
- ورواه عن عمران بن حصين والحكم بن عمرو .
- الطيالسي ص 115 ح 856
- وأحمد بن حنبل في المسند 5 / 66
- والحاكم 3 / 443 وصححه ، ووافق الذهبي وقد صححه الألباني في الصحيحة .
- والشطر الآخر ، وهو " إنما الطاعة في المعروف" ، متفق عليه :
خرجه البخاري ( كتاب أخبار الآحاد - باب ما جاء في إجازة خبر الواحد : 13 ح 7257 ) لفظ : " لا طاعة في معصية ، إنما الطاعة في المعروف " .
ومسلم : كتاب الإمارة : ( 3 / 1469 ح 1840 )
(18 ) متفق عليه :
البخاري ( كتاب الأحكام - باب السمع والطاعة - ح 7143 )
مسلم ( كتاب الإمارة : 3 / 1477 ح 1849 )
(19 ) الأثرة : تفضيل النفس على الغير . وهي صفة قبيحة إن لم تكن بحقها في الضرورات .
ومعنى هذا أن الأمير إذا لآثر نفسه بشيء على رعيته لا يجوز الخروج عن طاعته ما أعلن الإسلام وأقام الدين .
(20 ) متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت :
البخاري ( كتاب الفتن - باب قول النبي ( : سترون بعدي أموراً تتكردفها : 13 ح 7055 ، 7056 )
مسلم : ( كتاب الإمارة ك 3 / 1470 ح 1079 )
(21 ) كلمة محوة من الأصل واقترح الشيخ الفقي في الهامش أن تكتب ( المسلمون ) فوضعتها في المتن هكذا يستقيم السياق .
(22 ) لحديث : إن أمتي لا تجتمع على ضلالة .
وهو حديث صحيح مشهور مروي من أكثر من طريق عند الترمذي والدارمي والحاكم ، وغيرهم . وقد خرجناه في " تلبيس إبليس " بما فيه الكفاية .
(23 ) المحاقة : المناظرة ، والإصرار على إثبات أن الحق له .
وهذا يجوز تركه في حقوق الدنيا ، أما في الحق الثابت ، ومسائل الشرع ففيه تفصيل :
- وإذا كان الدليل ظنيا والخلاف محتملا : فالصواب التوجيه والإرشاد ، وترك المجادلة إلا بين عالمين يعرفان مت يقف كل منهما عن المباحثة والمناظرة . والله تعالى أعلم .(1/125)
(24 ) كان وصفا عرفيا للحاجب أو البواب أو السجان . ( من هامش المطبوعة )
(25 ) هذه ساقطة أثبتناها اجتهاداً ليتصل السياق .
(26 ) في المطبوعة ( ثقافة ) .
ولم نشر إلى كل تحريف أو تصحيف ، وإنما أشرفا في الهوامش إلى المشهورات .
(27 ) العنكبوت / 46
(28 ) خرجه البخاري في الشروط .
والنظر : هو الجزء موضع الختان من المرأة . و التعبير كناية ساخرة عن التحدي و التهكم و التوبيخ .
(29 ) آل عمران / 139
(30 ) المجادلة / 20
(31 ) الروم / 6
(32 ) كلمة ممحوة من الأصل المخطوط . و في المطبوعة اقترح الشيخ الفقي أن تكون ( أستطيع ) أو ( أريد ) .
* كل هذه العناوين الداخلية وضعتها لإبانة أهم الأذكار و ليست في الأصل .
(33 ) الفشار : الكذب و الباطل و اللغو الفارغ .
(34 ) في المطبوع : أتحاف .
(35 ) ابن مخلوف هو قاضي المالكية بمصر أيام الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمها الله تعالى . وكان شديد التمسك ببدعة الأشعرية في الصفات . ومضى في الترجمة شيء عنه .
(36 ) ما أشبه الليلة بالبارحة !
ويعيد التاريخ نفسه ، و يحكم المسلمين حكام عندهم النصارى أعز موضعا وأرفع مكانا من أهل الإسلام فلو قرأت هذه الفقرة لوجدتها تنطبق تماماً على دافع المسلمين اليوم ، بل النصارى لا تحسبهم الحكومات أصلاً ، وإذا خيف ضرهم البالغ على كراسي الحكم - لا على الإسلام - سجنوا في حبس رفيق - كما صنع بهم منذ أعوام .
فحسبنا الله ونعم الوكيل .
(37 ) وما أشبه الليلة بالبارحة ! فأهل الباطل يحرفون كلام أهل الحق ، و ينسبون إليهم ما لم يقولوا .
فهاهم يفترون على الإمام ابن تيمية أنه يقول : " الله في زاوية " مع أنه لم يقله .(1/126)
وهم في زماننا ينسبون مثله إلى أهل الحق . وأنا أعيش في قرية أغلب أهلها وأئمة المساجد فيها أشعرتة متعصبون لبدعة نفي الصفات أو تأويلها . وهم ينسبون إلى أهل السنة فيها أنهم يقولون إن الله متحيز إلى جهة . وقال بعضهم - كذب : إن ابن خزيمة يقول إن الله تعالى يقعد على عرشه " و يضع رجلا على رجل " ! و يقولون ذلك لمريديهم و تلامذتهم إيقاعاً بينهم و بين الحق و الهدى .
……فحسبنا الله ونعم الوكيل
(38 ) حديث ضعيف و قد حسنه غير واحد :
رواه أو داود برقم 4840 وابن ماجه برقم 1894 وجزم الدارقطني يا رسالة وقد خرجته في كتاب " الفتوى في الإسلام للشيخ جمال الدين القاسمي . فليراجع .
(39 ) في قفاي : يعني في غيبتي .
(40 ) حديث حسن : و صححه الألباني حفظه الله :
* خرجه الإمام أحمد : 2 / 263 ، 305 - من حديث أبي هريرة .
* و أبو داود : ( كتاب العلم - باب كراهية منع العلم : 4 / 67 ، 68 ح 3658 )
* الترمذي ( كتاب العلم - باب ما جاء في كتلف العلم : : ح2649 ) و حسنه .
* ابن ماجه : ( المقدمة - باب من سئل عن علم فكتمه 1 / 96 ح 261 )
* الحاكم في المستدرك : 1 / 102 و صححه على شرط الشيخين .
* وصححه الألباني في صحيح الترمذي و غيره .
(41 ) البقرة / 159
(42 ) في المطبوعة ( أن المنير لها تهمة الحكم ) و السياق هكذا ينبئ أن هناك تحريفا يقينا . فأصلحناه حسب الطاقة .
* هكذا في المطبوعة . ولم أعرف معناها ، ولا استطعت - على مجهودي - أن أتبين كلمة أحق منها .
(43 ) الحديد / 4
(44 ) طه / 5
(45 ) الأعراف / 54
(46 ) تفسير القرطبي ط دار الكتب 7 / 219 .
(47 ) أبو عمر بن عبد البر :
هو يوسف بن محمد بن عبد البر بن عاصم - التمري القرطبي المالكي . ولد بقرطبة في الأندلس ، و نشأتها مع أنه عربي صليبة(1/127)
عكف على دراسة العلوم الشرعية خصوصاً فقه مالك و موطأه ، و هو من أفضل من اعتنى بالموطأ - بل هو أفضلهم . و له التمهيد والاستذكار والاستيعاب و غيرها مما يشهد بتجره في العلوم . وتوفي رحمه الله سنة 463 هـ .
(48 ) ساقطة من المطبوع .
(49 ) و هو حديث :
" ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل .. " الحديث
وهو حديث صحيح متواتر
(50 ) انظر هذا النص و غيره في كلام الحافظ ابن عبد البر على الحديث في كتاب " التمهيد " ( 7 / 128 و ما بعدها )
(51 ) طه / 5
(52 ) فاطر / 10
(53 ) المعارج / 4
(54 ) آل عمران / 55
(55 ) المجادلة 27
* التمهيد 7 / 145
(56 ) لا أحب أن يقال : إن الله في جهة العلو يأو نحوها ؛ لأنها ليست في كتاب و لا في سنة و لا عند السلف من أهل القرون المباركة قرون الخير .
وأحب أن نقف عند النصوص الصحاح الصراح ؛ لأن الأمر أمر اعتقاد ، فلا ينبغي الجهة ولا نثبتها لعدم الدليل . و نثبت الصفة ، وهي العلو لصحة الدليل و نقف عند ما يجب أن نقف عنده و لا نتعداه .
و الله أعلم
(57 ) المقصود و الله أعلم العقيدة الواسطية ، أو الفتوى الحموية .
(58 ) في النسخة المطبوعة : " وأنا أبذل غاية ما في وسعي و قال في الحاشية : ( أراها - يعنى كلمة " غاية " سقط من الأصل ) .
ولست أرى وجهاً لذلك ؛ لأن السياق مستقيم بدونها .
(59 ) هذه الزيادة ليستقيم السياق ، و قد اقترحها الشيخ حامد الفقي في الهامش .
(60 ) هنا سقط في الأصل اقترح الشيخ الفقي في الحاشية أن يكون : " و ابن مخلوف " أو نحو ذلك .
(61 ) المائدة / 44
(62 ) سقطت من الأصل - على حد ترجيح الشيخ المحقق في الحاشية .
( * ) حديث حسن ، وهو جزء من حديث ، بقيته : " .. ومن خاصم في باطل . وهو يعلمه - لم يزل في سخط الله تعالى حتى ينزع ، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال "
خرجه الإمام أحمد : 2 / 70(1/128)
وأبو داود ( كتاب الأقضية - باب فيمن يعين على خصومة $ / 23 ح 3597 )
والحاكم : 4 / 383 .
و الطبراني في الكبير 12/270 ، 271 ، ح 13084 .
والبيهيقي 8 / 332 .
وقد صححه الحاكم بلقط تقارب
ومسند بهذا اللفظ
البغوي في مصابيح السنة 2 ح 552 .
(64 ) الفتح / 9
(65 ) النور / 52
(66 ) نوح / 3
(67 ) الجن / 18 : 22 ووقع في الأصل : " قال : إنما أدعو ربي وهي قراءة نافع و غيره .
(68 ) الشعراء / 213
(69 ) سبأ / 22 ، 23
(70 ) البقرة /255
(71 ) الإسراء / 56
(72 ) التوبة / 31
(73 ) آل عمران / 79 / 80 .
(74 ) متفق عليه :
- البخاري : في كتابي : المساجد و الجنائز .
- مسلم : كتاب المساجد
- أبو داود : في الجنائز
- والإمام أحمد : 1/218، 2/260،284 و غيرها .
(75 ) عياً : يعني موضعاً يعتاده الناس و يزورنه في أوقات معتادة كما يصنع الناس اليوم في قبول من يسمونهم بالأولياء .
(76 ) صحيح :
- خرجه أبو داود في المناسك .
- والإمام أحمد في المسند 2 / 267
(77 ) خرجه الإمام مالك في الموطأ ( كتاب قصر الصلاة في السفر - باب جامع الصلاة ح 85 ) مرسلاً . والإمام أحمد في المسند 2 / 246 .
(78 ) حسن :
رواه أحمد : 1 /214 ، 224 ، 283 ، 247 و الدارمي و غيره .
(79 ) سقطت من المطبوع وزدناها لتسقيم السياق .
(80 )
(81 ) صحيح إن شاء الله تعالى :
خرجه الإمام أحمد في المسند : 6 / 76
والترمذي في الرضاع : 3 / 465 ح 1159 )
وابن ماجه في باب النكاح : 1 / 595
وهو مروي عن ثلاثة من الصحابة و صححه الشيخ ناصر الدين الألباني في الصحيحة .
وقد حققناه في " فتاوى رسول الله ( "
(82 ) صحيح :
خرجه البخاري في الصحيح .
وانظر : [ صحيح الجامع 2 / 1229 ح 7363 / 2563 ]
(83 ) أرى هذا الحديث مضطربا :
وقد رواه الإمام أحمد : 4 / 138
والترمذي في الدعوات : 5 / 531 ح 3578
والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 204 .
والطبراني في الكبير و غيرهم(1/129)
وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح غريب لا تفرق إلا من هذا الوجه "
قلت : وقد روي عن عثمان بن حنيف مرفوعاً يحلي قصة نفسه ، وروي عنه موقوفا ، وروي عنه يحلى قصة غيره فالله أعلم به .
(84 )
(85 ) أحسبها سقطت من الأصل ، فيها السياق يستقيم .
(86 ) اللهم انفع به نظر فيه ، واكتبه في ميزان حسناتنا . واغفر لنا زلاتنا .
وكان الفراغ من تبيض حواشيه في صبيحة الاثنين الثاني عشر من المحرم سنة 1410 هـ و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،
(87) سورة الفتح 28 .
(88) سورة القصص / 50
(89) سورة الجاثية / 18 ، 19 .
(90) سورة يوسف / 100
(91) سورة النساء / 79
(92) سورة هود / 9 ، 10 ، 11 .
(93) سورة الأنفال / 1
(94) سورة آل عمران / 103
(95) سورة آل عمران / 105
(96) آخر سورة الأحزاب .
(97) سورة النور / 11
(98) سورة النور / 22
(99) سورة المائدة / 54 - 56 .
(100) في القصيدة بعض أخطاء عروضية ، ولكنها هكذا في الأصل ( حمدي ) .
??
??
??
??
16(1/130)