بسم الله الرحمن الرحيم
سلطان العلماء.. العز بن عبد السلام
علي سالم النباهين
في تاريخنا الإسلامي الزاهر نماذج رائعة من العلماء العاملين الذين أدوا رسالتهم على أكمل وجه، فكانوا نبراساً يستضاء بهم في كل زمان، ونماذج يقتدى بها في وقت تُفتقد فيه القدوة الصالحة، والكلمة الجريئة ، والمجابهة الصريحة في سبيل إعلاء كلمة الله.
... وشيخنا العز بن عبد السلام هو من ذلك الطراز الفريد الذي يجب أن نستلهم سيرته في حياتنا المعاصرة، فقد كان هذا الرجل أنموذجاً رائعاً للسياسي البارع، والعالم المستنير، والاجتماعي المخلص، المتعبد على طريقة السلف الصالح، فكان أمة في عصره أحيا الله به موات المسلمين.
ولادته ونشأته
ولد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (المعروف بالعز بن عبد السلام) عام 577 هـ (1181 م) في دمشق ونشأ بها، وتفقه على أكابر علمائها، فبرع في الفقع والأصول والتفسير والعربية، حتى انتهت إليه رياسة المذهب الشافعي، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصد بالفتاوى من كل مكان.. فاستحق لقب »سلطان العلماء« بجدارة كما أطلقه عليه تلميذه ابن دقيق العيد.
وبعد أن اكتملت ثقافته اتجه إلى التدريس والافتاء والتأليف، وتولى المناصب العامة في القضاء والخطابة في مساجد دمشق –مسقط رأسه- أولاً، ثم في القاهرة بعد أن هاجر إليها بعد أن تجاوز الستين من عمره [1].
الأحداث التاريخية التي عاصرها(1/1)
تفتحت عينا العز بن عبد السلام على أحداث جسام كان يموج بها العالم الإسلامي، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة (ت 660هـ) عاصر فيها أحداثاً سياسية مؤلمة. فقد أدرك انتصارات صلاح الدين الأيوبي المجيدة واسترداده بيت المقدس من أيدي الصليبيين (583 هـ)، وشاهد دولة الأيوبيين في هرمها وآخر أيامها، وشاهد دولة المماليك البحرية في نشأتها وعزّها، وشاهد بعض الحملات الصليبية على فلسطين ومصر، وشاهد الغزوة التترية المغولية الهمجية على الخلافة العباسية في بغداد، وتدميرها للمدن الإسلامية، وشاهد هزيمة التتار في عين جالوت بفلسطين بقيادة سيف الدين قطز سلطان مصر.
شاهد شيخنا كل هذه الأحداث، فأثرت في نفسه، وراعَه تفتت الدولة الأيوبية القوية –قاهرة الصليبيين- إلى دويلات عندما اقتسم أبناء صلاح الدين الدولة بعد وفاته: فدويلة في مصر، ودويلة في دمشق، ودويلة في حلب، ودويلة في حماة، وأخرى في حمص، ودويلة فيما بين النهرين. وبين حكام هذه الدويلات تعشش الأحقاد والدسائس، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفزون للانقضاض على بلاد الشام ومصر.
موقفه من الملك الصالح في دمشق(1/2)
إزاء هذه الأوضاع المتردية أخذ العز بن عبد السلام يدعو إلى أن يتحد سلطان الأيوبيين، وتتحد كلمة المسلمين لمواجهة الأخطار المحدقة بهم. وكانت وسيلته في ذلك: الخطب على المنابر، والوعظ ونصح الأمراء، وقول كلمة الحق الجريئة التي ألزم الله بها العلماء.. ولكن أنى يتسجيب المتشبثون بكراسي الحكم إلى كلمة الحق، والتدبر في العواقب؟ فقد حدث في ظل هذه الأوضاع القائمة أن الملك الصالح إسماعيل الأيوبي تصالح مع الصليبيين على أن يسلم لهم صفداً وقلعة الشقيف وصيدا وغيرها من حصون المسلمين الهامة مقابل أن ينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب! فأنكر عليه الشيخ ابن عبد السلام ذلك، وترك الدعاء له في الخطبة، فغضب الصالح إسماعيل منه، وخرج العز مغاضباً إلى مصر (639 هـ) فأرسل إليه الصالح أحدَ أعوانه يتلطف به في العود إلى دمشق، فاجتمع به ولايَنَهُ وقال له: ما نريد منك شيئاً إلا أن تنكسر للسلطان وتقبّل يده لا غير. فقال له الشيخ بعزة وإباء العالم المسلم: »يا مسكين، ما أرضاه يقبّل يدي فضلاً أن أقبّل يده! يا قوم، أنتم في واد ونحن في واد، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم« [2].
الشيخ في مصر
وتوجه الشيخ إلى مصر –وقد سبقته شهرته العلمية وغيرتُه الدينية وعظمته الخلُقية- فاستقبله سلطانها نجم الدين أيوب وأكرمه وولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وقلّده القضاء في مصر، والتف حوله علماء مصر وعرفوا قدره، وبالغوا في احترامه.. فامتنع عالم مصر الجليل الشيخ زكي الدين المنذري عن الإفتاء بحضوره احتراماً له وتقديراً لعلمه، فقال: »كنا نفتي قبل حضوره، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعيّن فيه« [3].
موقفه من السلطان نجم الدين أيوب(1/3)
... ورغم المناصب الهامة التي تولاها الشيخ في مصر، فقد التزم بقول كلمة الحق ومجاهرة الحكام بها في مصر، كما التزم بها من قبل في الشام، فهو لم يسعَ إلى المناصب الرفيعة، وإنما هي التي سعت إليه لجدارته بها، ولم يكن يبالي بها إذا رأى أنها تحول دون الصدع بالحق وإزالة المنكرات، فقد تيقن من وجود حانة تبيع الخمور في القاهرة، فخرج إلى السلطان نجم الدين أيوب في يوم عيد إلى القلعة »فشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته –على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السطان وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوىء لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة! يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون- قال: يا سيدي، هذا ،أنا ما عملته، هذا من زمن أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة« [4].
... وعندما سأله أحد تلاميذه لما جاء من عند السلطان –وقد شاع هذا الخبر-: »يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني، رأيته في تلك العظمة فأردتُ أن أهينه لئلا تكبر نفسُه فتؤذيه. فقلتُ: يا سيدي، أما خفتَه؟ قال: والله يا بني استحضرتُ هيبة الله تعالى، فصار السلطان قُدّامي كالقط« [5].
الشيخ وجماعة أمراء الممالك(1/4)
... ولم يتوقف الشيخ مرة عن مصارعة الباطل والصدع بكلمة الحق، مهما كلفه ذلك من المتاعب والتبعات، »فقد ذكر أن جماعة من أمراء المماليك –في عهد السلطان أيوب- لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلّغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم فيه، واحتدم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضباً، فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقال: نعقد لكم مجلساً وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي. فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث إليه فلم يرجع (عن قراره). فجرتْ من السلطان كلمة فيها غلطة حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به، فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمير أخر، ومشى خلفهم خارجاً من القاهرة قاصداً نحو الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد (ستة أميال) إلا وقد لحقه غالب المسلمين، لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم. فبلغ السلطان الخبر، وقيل له: متى راح ذهب ملكُك! فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع واتقفوا معه أن ينادى على الأمراء (لبيعهم). فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه، فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا. فركب بنفسه في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تغير وقال: يا ولدي! أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله! ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب، يبست يدُ النائب وسقط السيف منها وأرعدت مفاصله فبكى، ويسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي خبّر، إيش (أي شيء) تعمل؟ قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم.(1/5)
قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟ قال: أنا. فتمّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير« [6].
جنازة الشيخ
... وهكذا تمضي حياة العز بن عبد السلام في كفاح متواصل، وتواضع جم، ونفس أبية مترفعة عن حطام الدنيا، فنال ثوابيْ الدنيا والآخرة. ويختاره الله إلى جواره، وتمر جنازته تحت القلعة بالقاهرة، وشاهد الملك الظاهر بيبرس كثرة الخلق الذين معها فقال لبعض خواصه: »اليوم استقر أمري في الملك، لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه لانتزع الملك مني« [7].
... رحم الله سلطان العلماء، ورادع السلاطين، ونسأله تعالىأن يرزقنا من أمثاله.
مجلة الأمة، العدد 25، المحرم 1403 هـ
------
[1] السبكي (طبقات الشافعية الكبرى): 8/209؛ ابن تغري بردي (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة): 7/208؛ ابن العماد الحنبلي (شذرات الذهب في أخبار من ذهب): 5/203
[2] (طبقات الشافعية الكبرى) 8/210؛ السيوطي (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة): 2/161؛ ابن واصل (مفرج الكروب في أخبار بني أيوب): 5/301
[3] (حسن المحاضرة) 1/315
[4] (طبقات الشافعية الكبرى): 8/212
[6] المرجع السابق 8/216
[7] المرجع السابق 8/215
وفاة العز بن عبد السلام – سلطان العلماء
الزمان / 10 جمادى الأولى – 660هـ
المكان / القاهرة – الديار المصرية
الموضوع / وفاة سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام
الأحداث /(1/6)
الذين كانوا يؤرخون لأحداث التاريخ الإسلامي دائماً يكون اهتمامهم ومحط أنظارهم على الأحداث العامة لتاريخ الأمة وخاصة أحداث الحكم والحكام والملوك والخلفاء والغزوات وقليلاً ما كانوا يذكروا أخبار العلماء أو الفقهاء تاركين ذلك لأصحاب كتب التراجم والطبقات ورواة الحديث ذلك لأن المؤرخين كانوا يعتبرون العلماء والفقهاء بعيدين عن التأثير في مجرى الأحداث واتخاذ القرارات حتى قال بعضهم وهو ابن الأزرق في كتابه المسمى ببدائع السلك في طبائع الملك : إن العلماء من بين الناس أبعد عن السياسة ومذاهبها من غيرهم , وقال ابن خلدون في مقدمته : وسبب عدم حضورهم –أي العلماء – لأهل الحل والعقد لأنه ليس عندهم قوة يقتدر بها على حل أو عقد و أما شوراهم النظرية فهذا موجود في الكتب من الفتاوي . ولكن صاحبنا الذي نؤرخ له كسر هذه القاعدة وضرب أروع الأمثلة في القوة العلمية والعملية وصار حجة على كل علماء السوء الساكتين على الحق المداهنين للطواغيت الذين يبيعون دينهم من أجل عرض من الدنيا زائل وما أكثرهم في أيامنا تلك .(1/7)
هو الإمام الكبير والعالم الجليل عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم الدمشقي ثم المصري المكنى بأبي محمد السلمي الملقب بعز الدين أو العز المشهور بسلطان العلماء كما أطلق عليه ذلك تلميذه ابن دقيق العيد , شيخ الشافعية وإمامهم في عصره بلا مدافعة ولا منازعة ومفيد أهله المقدم عليهم , ولد الشيخ في دمشق سنة 578هـ ولم يشتغل في بداية حياته بالفقه لأنه كان فقيراً يعمل ليقتات لأهله وفي ذات يوم نام في ليلة باردة في مسجد دمشق فاحتلم فنزل فاغتسل في بئر المسجد وكان الماء بارداً فتألم بشدة ثم عاد فنام فاحتلم مرة أخرى فلما نزل في الماء أغمى عليه من شدة البرد فأفاق على صوت يناديه ولا يراه يقول له 'يا عبد العزيز أتريد العلم أم العمل' فقال عبد العزيز بل أريد العلم لأنه ينير الطريق إلى العمل' فلما طلع النهار وجد في قلبه همة عالية للعلم فبدأ في تحصيله على يد العلماء الكبار أمثال ابن عساكر شيخ الشافعية والمحدث الكبير وتتلمذ علي يد الآمدي في الأصول وغيرهما حتى برع في الفقه وفاق أقرانه وذاعت شهرته وجاءه الناس من كل مكان .
عندما توفى خطيب الجامع الأموي في دمشق 'الخطيب الدولعي' تولى الخطابة مكانه العز بن عبد السلام وكان العز من أشد العلماء في الإنكار على المبتدعين فلما تولى الخطابة والإمامة في الجامع الأموي صار حرباً على المبتدعة فأبطل بدع الخطباء السابقة مثل بدعة السيف على المنبر والأعلام المذهبة ولبس السواد والسجع في الكلام وجعل الأذان أذاناً واحداً بدلاً من اثنين وأبطل صلاة الرغائب وصلاة النصف من شعبان وصار رأساً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يكن يحابي أحداً من الناس حتى أنه ترك مدح الملوك في الخطب رغم عادة سابقيه في ذلك .(1/8)
سطع نجم العز بن عبد السلام جداً في دمشق وقصده الناس من كل مكان حتى كان الأمر سنة 539هـ عندما تعاهد ملك دمشق الصالح إسماعيل مع الصليبيين على قتال ابن أخيه الصالح أيوب في مصر وانتزاعها من يده وأعطاهم الصالح إسماعيل حصن الصفد والثقيف وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والطعام وعندها تصدى العز وصعد على منبره وخطب الناس خطبة عظيمة وأفتى بحرمة بيع السلاح للفرنجة وحرمة الصلح معهم ثم قطع الخطبة عن الصالح إسماعيل وكان ذلك بمثابة إعلان للعصيان العام وقال في أخر خطبته 'اللهم أبرم أمر رشد لهذه الأمة يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويأمر بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ..(1/9)
' وكان أول من قال هذه العبارة , فأخذه الصالح إسماعيل فحبسه هو والشيخ أبا عمرو بن الحاجب المالكي الذي وافق العز على فتواه , وحاول الصالح إسماعيل إغواء العز وأرسل إليه من يتلطف إليه من أجل تقبيل يد الصالح أمام الناس حتى يعفو عنه فقال العز كلمته الشهيرة 'والله ما أرضى أن يقبل هو يدي أمام الناس , أين أنتم إنكم في واد ونحن في واد الحمد لله الذي عافاني مما أنتم فيه' ولما يأس الصالح إسماعيل منه أخرجه من دمشق فسار العز إلى الديار المصرية فأحسن إليه سلطانها الصالح أيوب وبالغ في إكرامه وجعلها خطيباً لجماع عمرو بن العاص وأضاف إليه القضاء فلما تولى ذل قصده الناس من كل مكان للأخذ من علمه وفقهه وواصل الشيخ العز بن عبد السلام أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ووقعت له حادثة كانت سبباً لعزله حيث بنى أستاذ دار الصالح أيوب واسمه فخر الدين بن شيخ الشيوخ ما يسمى طلخانة وهي دار يوضع فيها طبول يضرب عليها عند خروج السلطان بنيت على سطح جامع عمرو بن العاص , فثار العز من أجل ذلك وأمر بهدم الطلخانة وأسقطة عدالة هذا الأمير وعندما علم الصالح أيوب عزله من منصبه فتفرغ الشيخ العز للعلم والتدريس والإملاء وقصده طلاب العلم من كل مكان وظل هكذا يعلم ويدرس حتى قضى أجله رحمه الله .(1/10)
كان للشيخ العز بن عبد السلام من المواقف المشهورة والأخبار العطرة التي تريح القلوب وتفرح النفوس حتى أن أخباره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على السلاطين والأمراء والكبراء ما تقصر به صفحتنا تلك منها إنكاره على الصالح أيوب وجود خمارة في بلاده وإصراره على بيع أمراء الدولة لما ثبت أنهم ما زالوا عبيداً , هذه المواقف العظيمة جعلت هذا الشيخ يعظم جداً في أعين الناس كبيرهم وصغيرهم حتى أن الخليفة المستعصم لم يقبل رواية الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ السابق ذكره لأن العز قد أسقط عدالته , وأيضاً جرى ذات يوم إنكار من الصالح أيوب له في بعض المواقف وأغلظ له القول وعندها خرج من عنده العز بن عبد السلام وحمل أهله وعياله على حمارين ثم خرج ماشياً من مصر فلم يكد يخرج من المدينة 'القاهرة' حتى خرج ورائه أهل البلد كلهم كبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم ذكرهم وإنثاهم فعندها رأى الصالح أيوب ذلك خرج مسرعاً وراءه واعتذر له وتلطف معه حتى رده وأكرمه جداً .
لم يكن الشيخ العز بن عبد السلام من هذا النوع الذي يعلم ولا يعمل أو يقول ولا يفعل بل اجتمعت فيه القوة العلمية والعملية والفهم الدقيق لقضايا أمته ودينه فعندما صالح سلطان دمشق التتار أنكر عليه وقطع عنه الخطبة وأفتى بحرمة بيع السلاح لهم مع سكوت علماء وقته عن ذلك وعندما أراد سلطان مصر المنصور بن العز التركي أخذ أموال التجار والناس لصد العدوان الصليبي قال له العز 'إن لم يبق في بيت المال شئ ثم أنفقتم أموالكم الخاصة وحواصلكم المليئة بالذهب وغيرها من الذهب والفضة والزينة في قصوركم وتساويتم أنتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب بحيث لم يبق للجندي سوى فرسه التي يركبها ساغ للحاكم أن يأخذ ما يشاء من أموال الرعية في دفع الأعداء عنهم لأنه إذا دهم العدو البلاء وجب على الناس كلهم دفعه ' .(1/11)
كان الشيخ العز بن عبد السلام له كرامات وبطولات نادرة حتى أنه وهو في السبعين من عمره خرج للجهاد ضد الصليبيين في دمياط وبانت له كرامة هائلة أثناء القتال حيث وقف في مقدمة سفينة مصرية في بحر دمياط وسفن الصليبيين مقبلة بسرعة ناحيتهم فنادى بأعلى صوته 'يا ريح خذيهم يا ريح خذيهم' وهو يشير ناحية سفن الصليبيين فانقلبت الريح عاصفة وحملت سفن الصليبيين في عرض البحر حتى غرقت فكبر المسلمون وسمعوا منادياً في الهواء وهم لا يرونه : 'الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من أطاعته الريح' , وعندما حاول نائب السلطان الصالح أيوب وكان أحد المماليك الذين أمر الشيخ العز ببيعهم أن يقتل الشيخ وقد وقف على داره بالسيف فلما رآه النائب تجمدت يده على السيف وارتدعت فرائصه ثم بكى وطلب من الشيخ أن يعفو عنه .
وكان من مواقف الشيخ العز الطريفة أنه عندما كان في دمشق حصل غلاء شديد حتى بيعت البساتين بأسعار زهيدة جداً لشدة الغلاء فقالت له زوجته 'خذ هذا المصاغ واشتري لنا بستاناً نتنزه فيها ونستروح فيه' فأخذ الشيخ مصاغها ثم تصدق به على الفقراء فلما عاد قالت له 'اشتريت البستان' قال لها نعم اشتريت لك بستاناً في الجنة تصدقت بثمنه على الفقراء فقالت له جزاك الله عني خيراً .
بالجملة كان الشيخ رحمه الله صاحب علم وعمل وقول وفعل وفقه وفهم حتى أنه قد بلغ رتبة الاجتهاد كما قيل ذلك عنه , وقد بلغ من العز والكرامة والجاه وحب الناس ما لم يكن لأحد منذ أزمان بعيدة ويكفي قول الظاهر بيبرس عندما سار في جنازته قال لمن حوله 'الآن تم لي ملكي بعد موت العز بن عبد السلام لأنه لو كان قال للناس اخرجوا عليه لخرجوا كلهم على ولسلبوني الملك' فرحم الله سلطان العلماء وأجزل له المثوبة وغفر له ما كان من زلاته .
مفكرة الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الرد على مَن أنكر عليَّ تسمية العز بن عبد السلام بالإمام !
الأخ عبد الرحمن السلفي(1/12)
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
1 - لا أدري ما الداعي لمثل هذا السؤال ، لكن لا نلوم من يسأل وقد خرجت ( نابتة ) في هذا الزمان نقدت من غير علم ، وطعنت من غير رحمة ! وقد سارت تلك ( القطعان ) يميناً وشمالاً يقودها ( زمرة ) من ( الرموز البغيضة ) تحذِّر من المصلحين ، وتسيء للعلماء العاملين من أهل السنة والجماعة ، وليتنا نرى حماسهم هذا في التحذير من فرق الضلال كلٌّ في بلده ، لكن رأينا سيوفهم مسلطة على العزَّل من أهل العلم والدين ممن لا يحمي ظهرهم إمام أو سلطان ! وإلا لما رأيتَ كثيراً من الفتن كما تراها الآن ، والله المستعان .
2 - ولا زال أهل العلم يذكرون مثل هذه الألقاب لمستحقها بغض النظر عن اعتقاده ، إذ الإمامة ليست هي إمامة أهل السنة حتى يُنكر مثل هذا اللفظ.
3 - والإمامة في وصف الإمام ! العز بن عبد السلام لستُ أول من ابتدعها ، ولا أول من قالها حتى يُنكر عليَّ أو ألام فيه ، فقد سبقني إليه علماء وأئمة ، أكتفي - الآن - بذكر أهل السنة ! منهم :
أ . قال ابن العماد الحنبلي :
وفيها (( أي : سنة 660 هـ )) : عز الدين شيخ الإسلام أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القسم بن الحسن الإمام العلامة وحيد عصره سلطان العلماء السلمي الدمشقي ثم المصري الشافعي.
" شذرات الذهب " ( 3 / 301 ) .
ب . قال ابن تغري بردي :
وفيها (( أي : سنة 660 هـ )) : توفى الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبى القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذب السلمي الدمشقي الشافعي المعروف بابن عبد السلام مولده سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة .
" النجوم الزاهرة " ( 7 / 208 ) .
ت . قال الشيخان : الألباني وزهير الشاويش :
" مساجلة علميَّة بين الإمامين الجليلين : العز بن عبد السلام وابن الصلاح " ( عنوان الغلاف )
وقالا :(1/13)
فهذه مساجلة علمية مفيدة جرت في القرن السابع الهجري بين الإمامين العالمين الكبيرين : العز بن عبد السلام وأبي عمرو بن الصلاح رحمهما الله تعالى . ( ص 3) .
وقالا : هو أبو محمد ، عز الدين ، ... الإمام ، الفقيه ، المجتهد ، الملقَّب بـ " سلطان العلماء " . ( ص 17) .
وقالا : وما يزال كثير من آثار هذا الإمام العظيم مخطوطاً مبعثراً في المكتبات .
وإنما أكثرت من النقل عن شيخنا الألباني لعلمي بأن كثيراً يكتفون بهذا الإمام والنقل عنه ، لكن الزيادة في النقل تزيد الثقة والطمأنينة !
ث . قال الشيخ عبد الرحمن المحمود :
الإمام العلَم المشهور ، وهو أحد تلامذة الآمدي ... .
" موقف ابن تيمية من الأشاعرة " ( 2 / 681 ) .
ومن حيث معنى الإمامة :
ج . قال ابن كثير :
وانتهت إليه رئاسة الشافية وقصد بالفتاوى من الآفاق .
" البداية والنهاية " ( 13 / 235 ) .
4 - وقد رأيتُ الشيخ ربيعاً قد ذكر في بعض تراجم الأئمة في تحقيقه لكتاب " النكت على ابن الصلاح " ما يؤيد هذا ، وهو أنه أطلق لفظ " الإمام " على أئمة الأشاعرة ! بل وذكر في تراجمهم بعض كتبهم التي فيها عقائدهم المنحرفة ! وأطلق هذا اللفظ على من نصر بدعة وألَّف فيها ونافح عنها !
وهاك أمثلة :
أ. قال الشيخ ربيع :
تعريف بالإمام ابن الصلاح ! ( ص 21 ( " النكت " .
وقال : رأينا أن الإمام ابن الصلاح قام برحلات واسعة ... . ( ص 23 ) .
والعجيب أن ابن الصلاح هو الذي دافع عن صلاة الرغائب المبتدعة والتي تصدى له فيها : الإمام العز بن عبد السلام !!
ب. وفي " الحافظ العراقي " يقول :
هو الحافظ الإمام الكبير الشهير أبو الفضل زين الدين ... ( ص 27 ) .
وذكر في ابن الصلاح أنه كان سلفيا ، ولم يذكر اعتقاد العراقي مع أنه يعد من كبار الأشاعرة ! بل ذكر ثناء ابن فهد المكي أنه كان " صالحاً ديناً ورعاً عفيفاً ... " ( ص 30 ( .
ج. وفي " الحافظ ابن حجر " يقول :(1/14)
هو شيخ الإسلام ! الأستاذ إمام الأئمة !! شهاب الدين أبو الفضل أحمد ... . ( ص 35 ) .
بل نقل في ترجمته :
" وكان متبعاً للسنة شديد التمسك بها في جميع أحواله ويدعو إليها بلسانه وقلمه ... " ( ص 45 ) .
وأخطاء ابن حجر وموافقته للأشاعرة معروفة عند أهل العلم السلفيين ، وقد ألِّف فيها مؤلفات ، مثل مؤلف الشيخ " الشبل " ومؤلف الشيخ " كندو " .
د. وقال في " البلقيني " :
فمن ذلك الثناء ما كتبه شيخه الإمام ! سراج الدين البلقيني تقريظاً ... ( ص 45).
وهو كذلك من رؤوس الأشعرية !!
هـ . وقال في " الباقلاني " :
هو الإمام محمد بن الطيب بن محمد ... متكلم على مذهب الأشعري !!! ( ص 373 ) .
قال الشيخ عبد الرحمن المحمود :
يعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري !!!
" موقف ابن تيمية من الأشاعرة " ( 2 / 549 ) .
و. وفي " القاضي عياض " يقول :
هو عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته : عياض بن موسى ... ( ص 370 ) .
وهذا من أعجب العجب ، وهو أن يكون القاضي عياض – وهو من الأشاعرة – إماماً للفرقة الناجية أو ! الطائفة المنصورة !! فمثل هذا هو الذي ينبغي أن يُنكر .
ز. وفي " البيهقي " يقول :
الإمام الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن الحسين ... ( ص 386 ( .
وللبيهقي مخالفات كثيرة لاعتقاد السلف ، وللشيخ الغامدي رسالة علمية في موقف البيهقي من الإلهيات ، ومما ذكره هناك :
1 - مخالفته للسلف في صفات الفعل الخبرية ، حيث ذهب إلى تأويل بعضها ، وتفويض بعضها الآخر ، زاعما أن التفويض في ما فوض فيه هو مذهب السلف. وقد بينت فساد قول من نسب التفويض والتأويل إلى السلف ، مبينا أن مذهب السلف هو الإثبات الحقيقي لجميع الصفات إثباتا لا تأويل فيه ولا تفويض ولا تشبيه.(1/15)
2 - أن البيهقي يختلف مع السلف في جميع ما يتعلق بصفة الكلام التي أثبتها ، من القول بأن الكلام نفسي قديم وأنه بدون حرف ولا صوت وأنه معنى واحد . وقد ناقشته في جميع هذه المسائل وبينت خطأ ما ذهب إليه وصحة مذهب السلف. وبينت أن رأيه في كلام الله تعالى هو عين مذهب أصحابه الأشاعرة ، وأن حقيقة مذهبهم في القرآن لا يختلف عن مذهب المعتزلة إلا بنفيهم أن يكون هذا القرآن الذي نقرأه هو كلام الله الحقيقي.
" البيهقي وموقفه من الإلهيات " للدكتور أحمد بن عطية الغامدي ص 331 – 333 .
وقال الشيخ عبد الرحمن المحمود :
4 - دافع البيهقي عن علم الكلام ، ولما ذكر أقوال الشافعي المشهورة في ذم الكلام وأهله : علَّق البيهقي على ذلك مبرراً ما فعله العلماء من الأخذ بالعقل أو علم الكلام ، وفي مناقب الإمام أحمد أنه قال بتأويل بعض نصوص الصفات ، ولما ذمَّ الشافعيُّ الصوفيَّةَ دافع البيهقي عنهم ، بل ونقل إباحة أنواعٍ من السماع !!!
" موقف ابن تيمية من الأشاعرة " ( 2 / 589)
5 - وقد استعمل العلماء لفظ " الإمام " ولو كان لمخالفٍ لعقيدة السلف اعترافاً منهم بتقدمه في العلم أو وصفاً لحاله بين أتباعه ، ومن الأمثلة :
أ . قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن " ابن حزم " :
السموات مستديرة عند علماء المسلمين وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من العلماء وأئمة الإسلام مثل أبى الحسين أحمد بن جعفر بن المنادى أحد الأعيان الكبار من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد وله نحو أربعمائة مصنف ، وحكى الإجماع على ذلك : الإمام أبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي .
" مجموع الفتاوى " ( 6 / 586 ) .
ب. قال الذهبي عن " الباقلاني " : الإمام ، العلاَّمة ، أوحد المتكلمين ، مقدم الأصوليين ... " .
" السير " ( 17 / 190 ((1/16)
6 - وأما توقيت المقال : فلأن بعض ( النابتة ) تظن أنه يجب هدر كل من تلبس ببدعة وأخطأ في مسألة ، والعلماء من السلف الصالح ما عرفوا هذا ، بل أعطوا كل واحدٍ حقَّه ومستحقَّه ، ولم يمنعهم ثناؤهم من تبيان خطئهم لكن بأدب وعلم وهو ( المفتقد ) الذي نبحث عنه !
ولأبيِّن تناقض أولئك القوم في ثنائهم على من تلبس ببدعة ( أحياناً ) وهدر من شاؤوا ( أحايين ) كثيرة !!
ولأبيِّن مدى عنتهم وشدة غبائهم في تقييم الناس والتحذير منهم ، فقد رأيتُ من يستدل بكبار أهل العلم ممن تلبس ببدعة الأشعرية أو التصوف أو التجهم أو الإرجاء ! وعندما يأتي كلام لبعض المعاصرين ممن يخالفونهم – زعموا ! – في المنهج ! لا في العقيدة يضع بين قوسين " مع مخالفتنا له " أو " مع تحذيرنا من الكاتب من كذا " أو ما شابه تلك العبارت الغبية ! التي لم يذكرها فيمن تلبس ببدعة ممن قد تمشي بدعتهم على العامة بسبب الثناء والمدح لهم .
وإني لأتخيل أن يأتي يوم على هؤلاء المرضى ، فيكتب أحدهم :
[[ قال الحافظ ابن حجر ( مع التنبيه على أن له أخطاء في العقيدة والحديث والرجال والفقه وقد نبه على أخطاء العقيدة ... ) : قال السيوطي ( مع التنبيه أن للسيوطي مقالات وفتاوى لا نرضاها ! وله تصوف نبَّه عليه بعَض إخواننا ! ... ) : روى الترمذي ( مع التنبيه أن الترمذي متساهل في التصحيح كما قال شيخنا ... وفي كتابه أحاديث ضعيفة ... ( ... وقد فصَّلت الكلام في كتابي " فتح الباري " ( مع التنبيه أن على كتاب " فتح الباري " ملاحظات وقد بيَّنها الأئمة ... ونحذِّر من الاغترار بمن ردَّ على الحافظ ! ابن حجر في مسألة الإيمان من خوارج العصر !! ... ]] .(1/17)
وهذا منهج دخيل على الشرع وعلماء الشرع ، وقد حاول بعض المهووسين به الإنكار عليَّ في " مجلس الشيخ ربيع " لما علم أني صاحب كتاب " نقد عبد الله علوان " وأنكر عليَّ الاستدلال بكلام شيخي عمر الأشقر !! فقلت : وما وجه الإنكار ؟ قال : هو من الإخوان المسلمين ! فقلت : وماذا فيها ؟ وهل رأيتني نقلتُ عنه باطلاً ؟ قال : لا ولكن كان ينبغي أن تنبه على هذا (( من جماعة التنبيه السابقة !!! )) فقلت : لا يلزمني ، ولم أر أحداً من أهل العلم فعل هذا لا قديماً ولا حديثاً ، قال : طيب ، نبِّه ! (( عقدة التنبيه )) على هذا في المقدمة ! قلت : ولا حتى هذا يلزمني ! فقلَّ أدبه فأعطيتُه (( المقسوم )) ! وكل ذلك والشيخ ربيع يستمع ، ثم استدللتُ بوهاء كلامه على فعل الشيخ ربيع نفسه في كتبه ، ووجهت للشيخ ربيع السؤال إن كان يعرف هذا المنهج في التأليف عن أحدٍ من أهل العلم !
فتوجه إليَّ الشيخ بالكلام وقال : هذا الأخ أنا أعرفه هو سلفي ، ولكن هذا منهج الحدَّادية - أو : الحدَّاد - !!! فبهت الرجل ! ورجع خائباً وخرج كذلك.
7 - وأنا لا أدافع عن بدعة ولا ضلالة لكن أدافع عن صاحبها إن ظلمه الظالمون وتعدَّوا عليه بغير بيان ما هو عليه ، أو حاولوا إهداره ونبذه ، ولو أنهم طبقوا منهجهم هذا مع الجميع ما بقي لهم أحدٌ !! فلماذا يسكتون عن أئمتهم وعلمائهم ، ويطيلون ألسنتهم ويسلون سيوفهم على غيرهم ، وقد يكون خطأ أئمتهم في ( العقيدة ) وخطأ غيرهم في ( المنهج أو الدعوة ) ؟؟؟!!!
أرجو أن يكون هذا البيان واضحاً لك ولمن أراد أن يستفيد ، ولولا ثقتي بكم وعلمي بأنكم أهل لأن أرد عليهم ما فعلت هذا .
وفقك الله والله أعلم وهو الهادي للصراط المستقيم
كتبه إحسان بن محمد بن عايش العتيبي أبو طارق
من نفائس أقوال الإمام العز بن عبد السلام
كيف تُعرف مصالح الدين والدنيا ومفاسدها ؟
قال العز بن عبد السلام :
فيما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدهما :(1/18)
أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها : فلا تعرف إلا بالشرع ، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح.
وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها : فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات ، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته .
ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكمٌ منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبَّد الله به عبادَه ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته ، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها.
" قواعد الأحكام في مصالح الأنام " ( 1 / 11(
هل أباح الإمام العز بن عبد السلام الرقص ؟
قال الإمام العز بن عبد السلام :
وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذاب وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه ، وقد قال عليه السلام : " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " ( 1 ) ، ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك ، وإنما استحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله عز وجل ولقد مانوا فيما قالوا وكذبوا فيما ادعوا من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين اثنتين :
إحداهما : لذة المعارف والأحوال المتعلقة بذي الجلال .(1/19)
والثانية : لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات النفس التي ليست من الدين ولا متعلقة بأمور الدين ، فلما عظمت عندهم اللذتان غلطوا فظنوا أن مجموع اللذة إنما حصل بالمعارف والأحوال ، وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين بشيء . وقد حرم بعض العلماء التصفيق لقوله عليه السلام : " إنما التصفيق للنساء " ( 2 ) ، و " لعن عليه السلام المتشبهات من النساء بالرجال ، والمتشبهين من الرجال بالنساء " ( 3 ) ، ومن هاب الإله وأدرك شيئاً من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ولا يصدر التصفيق والرقص إلا من غبي جاهل ، ولا يصدران من عاقل فاضل ، ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ، ، ولم يفعل ذلك أحد الأنبياء ولا معتبر من أتباع الأنبياء ، وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء ، وقد قال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئا من ذلك ، ومن فعل ذلك أو اعتقد أنه غرض من أغراض نفسه وليس بقربة إلى ربه ، فإن كان ممن يقتدى به ويعتقد أنه ما فعل ذلك إلا لكونه قربة فبئس ما صنع لإيهامه أن هذا من الطاعات ، وإنما هو من أقبح الرعونات .
" قواعد الأحكام في مصالح الأنام " ( 2 / 221 ، 222 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
وكذلك رأيت في " فتاوي الفقيه أبي محمد " – أي : العز بن عبد السلام - فتوى طويلة فيها أشياء حسنة قد سئل بها عن مسائل متعددة قال فيها : ولا يجوز شغل المساجد بالغناء والرقص ومخالطة المردان ويعزَّر فاعله تعزيراً بليغاً رادعاً .
" مجموع الفتاوى " ( 4 / 15 ) .
وتعلم بعد هذا قيمة المنقول عن هذا الإمام وكذا تعليله !
قال الذهبي :
قال قطب الدين كان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنوادر والأشعار يحضر السماع ويرقص .
" العبر في خبر من غبر " ( 5 / 260 )(1/20)
وفي ( 3 / 302 ) من " شذرات الذهب " قال :
وقال الذهبي : كان يحضر السماع ويرقص !!
وما نقل عن الإسنوي – في كتب الشافعية - من تعليل الرقص عند العز بن عبد السلام لا قيمة له لأنه مبني على لا شيء !
________
( 1 ) الحديث رواه بالمعنى ، ولفظه " خير الناس ... " و " خير أمتي ... " و " خيركم قرني ... " ، ولو كان اللفظ " خير القرون " لكان الذي بعده " ثم الذي يليه " لا " ثم الذين يلونه ... " فتنبه ! وهذا اللفظ منتشر عند شيخ الإسلام وغيره من العلماء ، وكذا عند الخطباء والمدرسين ! فليتنبه !
والحديث رواه البخاري ( 2508 ) ومسلم ( 2535 ) من حديث عمران بن حصين – رضي الله عنه - .
( 2 ) رواه البخاري ( 625 ) ومسلم ( 421 ) من حديث سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه - .
( 3 ) رواه البخاري ( 5546 ) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -.
كتبه إحسان بن محمد بن عايش العتيبي أبو طارق(1/21)