بحث عن
العلم
أهميته، وفضله، وأسبابه، وثمراته
ويليه
ترجمة للإمام
الماوردي -رحمه الله-
- مقدمة الباحث ....................................................................... 2
المبحث الأول :- العلم
- الباب الأول: العلم فريضة شرعية وضرورة عصرية .................................... 4
- الباب الثاني: أقسام العلم الشرعي من حيث الحكم ................................... 6
- الباب الثالث: فضل العلم ............................................................ 6
الباب الرابع: فضل العلماء ............................................................. 8
الباب الخامس: حلية طالب العلم من لطائف الآداب..................................... 10
الباب السادس: آفات العلم ............................................................ 15
الباب السابع: سؤال مهم لطالب العلم على مقاعد الدراسة .............................. 17
المبحث الثاني:- الماوردي
وقد جعلاه على عدّة أبواب:-
الباب الأول: اسمه ومولده وأسرته ..................................................... 19
الباب الثاني: طلبه للعلم ............................................................... 19
الباب الثالث: من أخباره وزهده....................................................... 20
الباب الرابع: مكانة الماوردي السياسية ................................................ 21
الباب الخامس: منهج الماوردي في العقيدة واتهامه بالإعتزال ............................. 22
الباب السادس: ومن الفوائد عن الماوردي ............................................. 23
الباب السابع: موقف الماوردي مع الخليفة في لقب"شاهنشاه" .......................... 24
الباب الثامن: من مؤلفاته ............................................................. 25(1/1)
الباب العاشر: وفاته رحمه الله تعالى .................................................... 25
الخاتمة ............................................................................... 25
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الباحث
الحمد لله ولي الصالحين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد عليه من ربنا أفضل الصلاة وأتم التسليم،، وبعد:-
فالبحث والنقل التحقيق والجمع من أهم الوسائل ومن أحسنها التي تعين طالب العلم على ترسيخ مطلبه، وتفتّق ذهنه وتضيف له مزية من مزايا الطلب، ويكون على دراية كاملة في فنّه الذي بحث فيه، ويمر بالفوائد أثناء تقليبه للكتب ما لا يحصله أثناء القراءة المنهجيّة، ويختصر له المسافات، ويتعرف على كثير من الكتب والمراجع، ويضيف إلى حصيلته الشيء الكثير.
فهذا بحثي المصغّر عن "طلب العلم" و "ترجمة للإمام الماوردي" وقد جعلته على مبحثين ليسهل للقارئ الإطلاع عليه، وكما سار عليه المحققون، وقد أمضيت في هذا البحث قرابة الأربعة أيام متواصلة، ولست آسف على ذلك، فأنا على خير عظيم، وبين كتاب ونقل ودراسة وتمحيص
وقد نقلت ذلك البحث على مسودة ثم بيّضتها، محاولاً في ذلك تقليدٌ لتحقيقات وبحوث من سبقني من مشايخ وعلماء، فآمل أن تخلو من الأخطاء، وأن أكون قد حصلت مطلبي وهو رضا الله عز وجل ثم أن يكون البحث على المستوى المطلوب، وقد نقلت البحث من عدّة مراجع، ولي استدراكات عليها، وخرّجت الأحاديث في الكتب العشرة -بواسطة جهاز كمبيوتر- وأعزو الحديث للصحيحين، فإن لم أجدها في الصحيحين، عزوتها لأقرب طرقه للصحة.
العلم
أهميته، وفضله، وأسبابه، وثمراته
العلم فريضة شرعية وضرورة عصرية
العلم من أجل نعم الله علينا ؛ منحه الله ومدحه وكرم أهله وأجزل لهم العطاء ، ورفع لهم الدرجات ، فهو هداية ورحمة ونور وعصمة ، وسمو ورفعة .(1/2)
قال تعالى في سورة المجادلة { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {11 } وقال تعالى في سورة الزمر (( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ {9} ))
ومن البراهين القاطعة والحجج الساطعة على فضل العلم وأدواته ووسائله افتتاح الله - عز وجل - كتابه الكريم بصدر سورة العلق (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ {5} اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }{5}
فكما أنعم الله عز وجل على الإنسانية بنقلها من ظلمة العدم إلى نور الوجود كذلك أنعم عليها بنعمة العلم الذي يُخرج الناس به من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة .
ومن شرف العلم وفضله : أن الله عز وجل حثنا على الاستزادة منه وأمر بذلك نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى (وقل ربِّ زِدني عِلمَاً )(1) وفي هذا ما يدل على شرف العلم وفضيلة الاستزادة منه قال قتادة : لو كان أحد يكتفي من العلم بشئ لاكتفي موسى عليه السلام، ولكنه قال للخضر عليه السلام : (هل أتبعُكَ على أن تعلمَني مما عُلِّمتَ رُشداً ) (2). (3)
وفي السنة أحاديث كثيرة في فضل العلم ومكانة العلماء : نذكر منها :
__________
(1) - سورة طه 114
(2) - سورة الكهف 66
(3) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر(1/3)
ما رواه البخاري ومسلم عن معاوية - رضي الله عنه - قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من يُرِدِ اللهُ به خيراً يفقهه في الدين ) (1).
وما رواه مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ... ". ) (2) .
وروى الترمذي في السنن عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال - صلى الله عليه وسلم - ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع )(3) .
__________
(1) - رواه البخاري كتاب العلم باب: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. 1/25 ، ومسلم – كتاب الإمارة باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة، وأن السفلى هي الآخذة. – رقم / 1037
(2) - رواه مسلم كتاب الذكر والدعاء – باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر. الحديث رقم: 38 - (2699)
(3) -رواه الترمذي : في السنن باب فضل طلب العلم - . 5/29 حديث (2785) وقال: حديث حسن غريب .(1/4)
ومن الحكم المأثورة عن السلف في فضل العلم ما أخرجه ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال:" تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ؛ وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، ومنار سبيل أهل الجنة ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة يقتصّ آثارهم، ويحتذى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في ظلهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والتفكر فيه يعدل الصيام، ومداومته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، هو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء " . (1)
أقسام العلم الشرعي من حيث الحكم
العلم الشرعي ثلاثة أقسام:
أولها: فرض العين: وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب -الذي يتعين عليه فعله- إلا به، كأركان الإسلام والإيمان ونحوهما.
ثانيهما: فرض الكفاية: وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة أمور دينهم ودنياهم، فإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.
ثالثها: المستحب: وهو التبحر في أصول الأدلة، والإمعان فيما وراء القدر الذي يحصل به فرض الكفاية، ومن تخصص في علم وجوباً، أصبح غيره من العلوم له نفلاً.
فضل العلم
1 - العلم مهذب للنفوس :
سئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله حين بدأ به " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " (2) فأمر بالعمل بعد العلم .
__________
(1) 7 - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر
(2) 8 سورة محمد: 19(1/5)
وقد بوَّب الإمام البخاري بابًا فقال: " باب العلم قبل القول والعمل" ،لقوله تعالى : " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " (8)
2 - العلم نور البصيرة :
إنه نور يبصر به المرء حقائق الأمور ، وليس البصر بصر العين ، ولكن بصر القلوب ، قال تعالى : (( فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ))(1) ولذلك جعل الله الناس على قسمين : إمَّا عالم أو أعمى فقال الله تعالى : (( أ فمن يعلم أنَّما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ))(2).
3 - العلم يورث الخشية من الله تعالى : قال الله تعالى : " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء "(3)، وقال تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " (4)
4 - طلب الاستزادة من العلم :
وقد أمرنا الله تعالى بالاستزادة من العلم وكفى بها من منقبة عظيمة للعلم ، فقال الله تعالى : " وقل رب زدني علمًا "(5)، قال القرطبي : فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم.
5 - العلم أفضل الجهاد :
إذ من الجهاد ، الجهاد بالحجة والبيان ، وهذا جهاد الأئمة من ورثة الأنبياء ، وهو أعظم منفعة من الجهاد باليد واللسان ، لشدة مؤنته ، وكثرة العدو فيه .
قال تعالى : " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا "(6)
__________
(1) 9 سورة الحج: 46
(2) 10 سورة الرعد: 19
(3) 11 سورة فاطر : 28
(4) 12 سورة الإسراء : 107-109
13 سورة طه: 114
(5) 14 سورة الفرقان : 51-52(1/6)
يقول ابن القيم : " فهذا جهاد لهم بالقرآن ، وهو أكبر الجهادين ، وهو جهاد المنافقين أيضًا ، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين ، بل كانوا معهم في الظاهر ، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ، ومع هذا فقد قال تعالى : " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " ومعلوم أنَّ جهاد المنافقين بالحجة والقرآن .
6 - التنافس في بذل العلم :
ولم يجعل الله التحاسد إلا في أمرين : بذل المال ، وبذل العلم ، وهذا لشرف الصنيعين ، وحث النَّاس على التنافس في وجوه الخير .
7 - العلم و الفقه في الدين أعظم منة :
ومن رزق فقهًا في الدين فذاك الموفق على الحقيقة ، فالفقه في الدين من أعظم المنن .
عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ))(1)
فضل العلماء
1 - العلماء هم الثقات :
قال الله تعالى : (( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم))(2).
فأهل العلم هم الثقات العدول الذين استشهد الله بهم على أعظم مشهود ، وهو توحيده جل وعلا .
2 - مديح الله تعالى للعلماء :
وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم ، فجعل كتابه آيات بينات في صدورهم ، به تنشرح وتفرح وتسعد .
قال الله تعالى : (( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون))(3) .
3 - العلماء ورثة الأنبياء :
وهم أهل الذكر ، الذين أمر الناس بسؤالهم عن عدم العلم قال الله تعالى : (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ))(4)
4 - رفع درجات أهل العلم والإيمان خاصة :
قال تعالى : (( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ))(5)
5 - لا ينقطع عمل العالم بموته :
__________
(1) 15 أخرجه الترمذي (2645) وقال : حسن صحيح .
(2) 16 سورة آل عمران : 18
(3) 17 سورة العنكبوت:49
(4) 18 سورة النحل: 43
(5) 19 سورة المجادلة :11(1/7)
بخلاف غيره ممن يعيش ويموت ، وكأنَّه من سقط المتاع ، أمَّا أهل العلم الربانيون الذين ينتفع بعلمهم من بعدهم فهؤلاء يضاعف لهم في الجزاء والأجر شريطة الإخلاص.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ))(1).
6 - رحمة الله تتنزل على العالم والمتعلم :
وكل ما في الدنيا هالك وإلى زوال، تتنزل عليه اللعنات ، والمرحوم من ذلك صنفان من النَّاس : أهل العلم وطلبته ، والعابدون الذاكرون الله كثيرًا .
عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم ))(2)
7 - الاستغفار للعالم :
ويكفي صاحب العلم فضلاً أنَّ الله يسخر له كل شيء ليستغفر له ويدعو له ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر ))(3).
8 - العلماء هم أكثر الناس خشية من الله تعالى :
قال الله تعالى : " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء " (4)
وقال تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا "(5)
حلية طالب العلم من لطائف الآداب
للعلم آداب وأخلاق لابد لطالب العلم أن يتحلى بها: فهي حليته ووسيلته إلى الفلاح والنجاح.
فالعلم إن لم تكتنفه فضائل **** تعليه كان مطية الإخفاق
وقفة مع نموذج رائع:
__________
(1) 20 أخرجه مسلم
(2) 21 أخرجه الترمذي (2322) وقال : حسن غريب
(3) 22 أخرجه أبو يعلى بسند صحيح
(4) 23 سورة فاطر: 28
(5) 24 سورة الإسراء :107-109(1/8)
الإمام الفقيه المؤرخ المحدث المفسر : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، الذي نشأ الشيخ وترعرع وطلب العلم منذ نعومة أظفاره ، وسرعان ما تفتح عقله ، وبدت عليه علامات النجابة وأمارات النبوغ حتى قال عن نفسه : " حفظت القرآن ولي سبع سنين ، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين ، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة ".
ومما يدل على علو همته وقوة تحصيله ما أخبر به عن نفسه قال : " جاءني يوماً رجل فسألني عن شيء في علم العروض ، ولم أكن نشطت له قبل ذلك ، فقلت له : إذا كان غداً فتعال إلىَّ " ، وطلب سِفْرَ العروض للخليل بن أحمد ، فجاءوا له به فاستوعبه وأحاط بقواعده وكلياته في ليلة واحدة ، يقول : " فأمسيت غير عروضي ، وأصبحت عروضياً ". (1)
ومن جملة هذه الأخلاق:-
1) إخلاص النية لله عز وجل
فالعلم طاعة وعبادة ، والإخلاص لله تعالى واجب في جميع العبادات وسائر الطاعات قال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (2)
والإخلاص في العلم أن يبتغي به وجه الله تعالى، فإذا كان هم طالب العلم تحصيل شهادة أو تبوء منصب لكسب منافع مادية فحسب: فإنه لا يكن مخلصا في طلب العلم.
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلمْ: (من تعلم علما مما يبتغي بِهِ وجه اللَّه، لاَ يتعلمه إِلاَّ ليصيب بِهِ عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يَوْم القيامة) يعني ريحها.(3)
__________
(1) 25 تراجع في ترجمته طبقات الشافعية الكبرى 3 /120
(2) 26 سورة البينة: 5
(3) 27 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2 / 338، وأبو داود في السنن، كتاب العلم، باب : طلب العلم لغير الله تعالى حديث 3647. وابن ماجة في السنن المقدمة، باب : الانتفاع بالعلم والعمل به حديث 252(1/9)
2) تقوى الله عز وجل : فالعلماء هم أعرف الناس بالله وأتقاهم له وبالتقوى يزداد العالم علما ، وبالعلم يزداد التقي تقوى قال تعالى (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(1) وقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(2)
والتقوى هي جماع كل خير ، ووصية الله للأولين والآخرين قال تعالى{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }(3)
أي يجعل لكم ما تٌفرقون به بين الحق والباطل، وبين الصحيح والسقيم، وبين الغث والسمين
3) استحضار القلب عند الطلب ؛ إذ لا بد من ذلك لطالب العلم لأنه إن طلبه دون استحضار قلب وحضور ذهن فلن يحصّل شيئا ، وعلى المعلم أن يستعين بالوسائل المفيدة التي تعين على الانتباه والالتفات إلى العلم والإقبال عليه، كالأسئلة والمحاورات مع الطلبة وتنبيه الغافل منهم والثناء الحسن على النابهين المجتهدين ورصد الجوائز والحوافز لهم وتذكيرهم دوما بفضائل العلم
4) الحرص على الوقت: فالوقت نعمة إلهية تستوجب منا الشكر، ولقد خلق الله الليل والنهار لتستقيم الحياة، قال تعالى { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (4).
__________
(1) 28 سورة البقرة: 282
(2) 29 سورة فاطر: 28
(3) 30 سورة الأنفال: 29
(4) 31 سورة النحل: 12(1/10)
وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حين قال:( نعمتان مغبون(1)فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ )(2).
…فعلى المؤمن العاقل أن يجدّ في شكر المنعم على نعمة الوقت وأن يوظفه في كل مفيد نافع.
والوقت أمانة ومسئولية: شأنه في ذلك شأن سائر الأمانات وكافة المسئوليات التي سيسأل عنها الإنسان يوم العرض على الملك الديان، قال - صلى الله عليه وسلم - ( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به )(3).
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه ** وأراه أيسرَ ما عليك يهون
وقال الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما ).
قال أبو هلال العسكري في كتابه ( الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه )(4) كان الخليل بن أحمد – الفراهيدي البصري أحد أذكياء العالم يقول: أثقل الساعات على: ساعة آكل فيها ، فالله أكبر ما أشد الفناء في العلم عنده ؟! ، وما أوقد الغيرة على الوقت لديه ؟!.
__________
(1) 32 قوله (مغبون) من الغبن وهو النقص، وقيل: الغبن وهو ضعف الرأي. (الصحة) في الأبدان. (الفراغ) عدم ما يشغله من الأمور الدنيوية
(2) -الحديث رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما صحيح البخاري، كتاب الرقاق 1 - باب: ما جاء في الصحة والفراغ، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة. الحديث رقم: 6049.
(3) -…الحديث رواه الترمذي في السنن عن ابن مسعود كتاب صفة القيامة باب في القيامة في شأن الحساب والقصاص رقم /2418/ و/2419/ وقال حسن صحيح
(4) 35…الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه لأبى هلال العسكرى ص 87 .(1/11)
" وبحرص سلفنا الصالح على أوقاتهم علا قدرهم وسما شأنهم ، وخلد ذكرهم ، أما في زماننا هذا فإن من أبرز أسباب تخلف المسلمين تفننهم وتفانيهم في تدمير وإهدار أوقاتهم في المقاهي والملاهي والطرقات وأمام التلفاز والتسجيلات الصوتية والمرئية وفي غير ذلك من المجالات التي لا فائدة منها ولا ثمرة من ورائها " (1).
5) الصبر والتحمل
فطريق العلم ليس مفروشا بالورود والرياحين بل إنه يحتاج إلى صبر ويقين وعزيمة لا تلين ، فالطريق طويل والنفس داعية إلى الملل والسآمة والدعة والراحة فإذا طاوع طالب العلم نفسه قادته إلى الحسرة والندامة .
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ****** فإن أطمعت تاقت وإلا تسلتِ
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ***** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
" ومن أعظم ميادين الصبر : الصبر في طلب العلم : فلا سبيل إلى طلب العلم إلا بالصبر ، فالصبر يضئ لطالب العلم طريقه ، وهو زاد لا يستغني عنه ، وخلق كريم لا بد وأن يتحلى به ، صبره على مشقة الترحال إلى الشيوخ وطول المكث عندهم والتأدب معهم ، وصبره على المذاكرة والتحصيل ، وفي قصة موسى والخضر دار هذا الحوار بين نبي الله موسى وبين الخضر عليهما السلام قال تعالى { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } (2) " (3)
6) المثابرة: فطالب العلم لا يعرف الملل ولا الكلل ولا يتوقف عن الطلب؛ فالعلم بحر لا ساحل له ونهر لا ينقطع. يقول بعض السلف: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، أي: منذ الطفولة إلى الموت.
7) مذاكرة العلم: وقد قيل:
__________
(1) 36 يتيمة الدهر في تفسير سورة العصر للدكتور أحمد الشرقاوي توزيع دار السلام بالقاهرة
(2) 37 سورة الكهف: 66-67-68-69
(3) 38 نفس المرجع ص 77(1/12)
إحياء العلم مذاكرته *** فأدم للعلم مذاكرته
ولقد كان سلفنا الصالح يتواصون بمذاكرة العلم، يقول أحدهم: مذاكرة ليلة أحب إلي من إحيائها. يعني: جلوسي في هذه الليلة أتذكر العلم وأتذكر ما حفظته أحب إلي من أن أقومها قراءة وتهجدا وصلاة وركوعا وسجودا.
8) كتابة ما استفاده: فكلما استفاد فائدة أثبتها معه في دفتر أو ورقة وكررها إلى أن يحفظها . يقول العلماء : " إن ما حفظ فر وما كتب قر " ، أي أن ما كتبته ستجده فيما بعد .. ويشبهون العلم بالصيد، فيقول بعضهم:
العلم صيد والكتابة قيده*** فاحفظ لصيدك قيده أن يفلت
9) أن لا يمنعه خجله من السؤال ؛ ولذلك قال بعض السلف : " لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر "، أي: أن يحمله تكبره على أن يعجب بنفسه ويبقى على جهله، وكذلك أيضا يحمله خجله عن أن لا يطلب أو يستفيد ممن معه علم فيبقى على جهله.
10) العمل بالعلم : فالعلم إن لم يترجم إلى عمل فما الفائدة منه ، فعلى طالب العلم كما يجد في الطلب وأن يجدّ في العمل فإنه أولى الناس بقطف ثمرات، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلانا ما شأنك؟ أليس كنت تأمرننا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). (1)
__________
(1) 39 صحيح البخاري 10 - باب: صفة النار، وأنها مخلوقة. الحديث رقم: 3094وأخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب: عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، رقم: 2989(1/13)
11) الدعوة إلى الله تعالى والاجتهاد في نشر العلم : أن يوظف هذا العلم في الدعوة إلى الله تعالى على هدى وبصيرة قال تعالى في سورة يوسف ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108}) فالداعية لا بد وأن يستغل كل مناسبة ويدعو إلى تعالى في شتى الميادين والمجالات.
آفات العلم
ونختم هذه الرسالة ببيان أهم آفات العلم ليكون طالب العلم على حذر منها ونردفها بسؤال لا ينقصه أهمية:
1- المعاصي:
فهي آفة الآفات، وتقضي على العلم كما تأكل النار الحطب، وكم من نظرة محرمة أدت إلى فقد كثير من العلم، أو لقمة من مال مشتبه أو محرم حولت العلم إلى سراب.
2- الكبر والغرور:
من تواضع لله رفعه، وما زاد عبد لله ذلاً إلا زاده الله رفعة، والكبر مهلك لصاحبه، مفن لعلمه، ولا يجتمع الكبر والعلم في قلب رجل، وإن حمل أعلى الشهادات وحفظ من الكتب أثقالاً، وروى البخاري في الأدب، وأحمد في المسند؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولا تكونوا جبابرة العلماء ".
3- المراء والمخاصمة والجدل:
روى الإمام أحمد، وأبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المراء في القرآن كفر " (1).
وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شراً أغلق عليه باب العمل، وفتح له باب الجدل، وقال إبراهيم النخعي: "ما خاصمت قط"، وقال الجزري: "ما خاصم ورع قط".
__________
(1) صحيح الجامع 6563.(1/14)
فالحذر الحذر من الجهل بعد العلم، والضلالة بعد الهدى، والمجادلة الشرعية هي ما عناها الله بقوله: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ")(1).
4- كتم العلم:
لا شيء يزيد بالإنفاق كما يزيد العلم، و"من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن (2).
وكتم العلم يؤدي إلى نسيانه وذهابه، والماء إذا لم يجر أسن، وكذا العلم إذا كتم ذهب، وهذا أمر مشاهد محسوس.
5- الانشغال بالدنيا:
من آفات العلم التهافت على الدنيا والانشغال بها عن الآخرة، يقول أحد السلف: "لو كلفني أهلي شراء بصلة ما عرفت مسألة من العلم".
فكيف بمن همه الدنيا، بها يصبح وعليها يمسي، ورحم الله الألبيري حيث يقول:
6- النسيان:
أعظم آفات العلم، ولذلك امتن الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم فقال: " سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى" (الأعلى:6)، وعلاج النسيان بالمذاكرة وبذل العلم، وترك أسباب ذهابه، كالمعاصي وغيرها.
سؤال مهم لطالب العلم على مقاعد الدراسة
س3: أنا طالب في كلية الشريعة، وأريد أن أكون طالباً للعلم الشرعي، ولكن لا أجد أنني حريص على العلم، حيث إننا نطلب من الشيخ أن يحذف عنا أغلب المنهج، فما تعليقكم على ذلك؟
جـ3: هذا يرجع إلى قلة الإخلاص، وعدم الإحساس بحاجة الأمة إلى هذا العلم، فالطالب يشعر فقط أنه بحاجة إلى شهادة، فيسعى لنيلها بأي وسيلة، ولو استشعر أن الله سيحاسبه عن ذلك؛ لما طلب من الأستاذ أن يحذف من المنهج شيئاً، بل لقال للأستاذ عندما يحذف جزءاً من المنهج: يا أستاذ هذه خيانة للأمة، ولقال للأستاذ الذي يشرح بدون إعداد ولا تحضير: لماذا لم تحضر يا أستاذ؟!
ولكن الأساتذة وجدوا طلاباً كسالى، فضعفت هممهم و"كما تكونون يول عليكم".
هذا والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه،، ويتبع المبحث الثاني عن "الإمام الماوردي" ...
__________
(1) 41 (العنكبوت: من الآية46
(2) سنن الترمذي 2649.(1/15)
بحث ترجمة عن
الماوردي
أولاً: اسمه ومولده وأسرته.
هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي ولد في سنة أربعٍ وستون وثلاث مئة للهجرة 364 هـ الموافق 1058 ميلادية في البصرة ونشأ فيها يسقي طلاب العلم ماء الورد، كما كان يفعل والده، ومن هنا جاء لقبه بالماوردي. تولى وظيفة قاضي القضاة في نيسابور، وذاعت شهرته، ولُقب بأقضى القضاة، وكان أول من لُقب بذلك في تاريخ الإسلام. والماوردي يُعدُّ من أوائل من اهتموا بعلم السياسة، وأصول الحكم الديني، صاحب التصانيف الكثيرة النافعة ، الفقيه الحافظ ، من أكبر فقهاء الشافعية و الذي ألّف في فقه الشافعية موسوعته الضخمة في أكثر من عشرين جزءًا. (1)
عاش أبو الحسن في أسرة محبة للعلم والعلماء، وهذا ما نلمسه من توجهه لطلب العلم، ومن تبحره في العلم والكتب التي صنفها المفيدة والكبيرة، والتي منها الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي، حيث ما رآه أحد إلا وشهد له بالتبحر في العلم.
ومن محبته للعلم ترك مهنة أهله ووالده وهي بيع ماء الورد، والتي نسب إليها وبها عرف واشتهر، كما زامن عدداً من العلماء المشهورين، وأخذ العلم عن كثير منهم، وتخرج عليه آخرون، حتى ذاع صيته، ورحل إليه طلباً للعلم، وسفيراً لبني بويه، وصنف الكتب الكثيرة المفيدة. (2)
ثانياً: طلبه للعلم.
تعلم على يد علماء منهم الحسن بن علي بن محمد الجبلي المحدث، ومحمد بن عدي بن زُحَر المقريء، ومحمد بن المعلى الأزدي ، وجعفر بن محمد بن الفضل البغدادي وأبو القاسم عبد الواحد بن محمد الصيمري القاضي بالبصرة أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني ببغداد.(3)
__________
(1) 43 من وصايا الماوردي للسلطان، شاكر النابلسي
(2) 44 منهج الماوردي في أصول الدين
(3) 45 موسوعة ويكبيديا(1/16)
تفقه بالبصرة على الصيمري ثم رحل إلى الشيخ أبي حامد الإسفرايني ببغداد وكان إماما جليلا رفيع الشأن له اليد الباسطة في المذهب والتفنن التام في سائر العلوم، قال الشيخ أبو إسحاق: درس بالبصرة وبغداد سنين كثيرة وله مصنفات كثيرة في الفقه والتفسير وأصول الفقه والآداب وكان حافظا للمذهب .
وقال الخطيب: كان من وجوه الفقهاء الشافعيين وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه وغير ذلك وقال: وجعل إليه ولاية القضاء ببلدان كثيرة .
وقال ابن خيرون: كان رجلا عظيم القدر مقدما عند السلطان، أحد الأئمة له التصانيف الحسان في كل فن من العلم بينه وبين القاضي أبي الطيب في الوفاة أحد عشر يوما .(1)
ثالثاًً: من أخباره وزهده:
وقيل إنه لم يظهر شيئا من تصانيفه في حياته وجمعها في موضع فلما دنت وفاته قال لمن يثق به الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة فإذا عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في دجلة وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قد قبلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية، قال ذلك الشخص: فلما كان في النزع وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده .
كما عرف عنه التدين والتنزه عن اللهو والهزل، وشهد المعاصرون للماوردي بالصلاح والتقوى، وهم محقون في ذلك، وإخفاء مؤلفاته أكبر شاهد على ذلك.(2)
__________
(1) 46 موسوعة ويكيبديا
(2) 47 موسوعة الأسرة المسلمة، الموسوعة الشاملة(1/17)
ومن كلام الماوردي الدال على دينه ومجاهدته لنفسه ما ذكره في كتاب أدب الدين والدنيا فقال ومما أنذرك به من حالي أني صنفت في البيوع كتابا جمعته ما استطعت من كتب الناس وأجهدت فيه نفسي وكددت فيه خاطري حتى إذا تهذب واستكمل وكدت أعجب به وتصورت أني أشد الناس اطلاعا بعلمه حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل ولم أعرف لشيء منها جوابا فأطرقت مفكرا وبحالي وحالهما معتبرا فقالا أما عندك فيما سألناك جواب وأنت زعيم هذه الجماعة فقلت لا فقالا إيها لك، وانصرفا ثم أتيا من قد يتقدمه في العلم كثير من أصحابي فسألاه فأجابهما مسرعا بما أقنعهما فانصرفا عنه راضيين بجوابه حامدين لعلمه .....إلى أن قال فكان ذلك زاجر نصيحة ونذير عظة تذلل لهما قياد النفس وانخفض لهما جناح العجب .(1)
رابعاً: مكانة الماوردي السياسية .
نشأ الماوردي، معاصرا خليفتين من أطول الخلفاء بقاء في الحكم: الخليفة العباسي القادر بالله، ومن بعده ابنه القائم بأمر الله الذي وصل الضعف به مبلغه حتى إنه قد خطب في عهده للخليفة الفاطمي على منابر بغداد.
كان الماوردي ذو علاقات مع رجال الدولة العباسية كما كان سفير العباسيين ووسيطهم لدى بني بويه والسلاجقة. بسبب علاقاته هذه يرجح البعض كثرة كتابته عما يسمى بالفقه السياسي.
وكان مفكر سياسي إسلامي يعد من أوائل من اهتموا بعلم السياسة وأصول الحكم الإسلامي، يأخذ أفكاره وآراءه من وحي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة(2)
__________
(1) 48 طبقات الشافعية.
(2) 49 موسوعة الاسرة المسلمة، الموسوعة الشاملة.(1/18)
عَمِلَ الماوردي في ظل العباسييّن قاضيًا، كما كان له منصب هام في البلاط العبّاسي أيام الخليفَتين القادر بالله والقائم بالله اللّذين حكما بين سنتي 381 و467 هجرية (991-1075م) وللماوردي الفقيه السّني كتب كثيرة، منها: "الأحكام السّلطانية"،"قوانين الوزارة وسياسة الملك".(1)
رابعاًً: منهج الماوردي في العقيدة واتهامه بالإعتزال .
منهج أبي الحسن الماوردي في العقيدة هو منهج الأشاعرة، وإن كان يعتمد في استدلاله على الكتاب الكريم، والسنة الشريفة المطهرة، وعلى أقوال السلف الصالح، وعلى اللغة والشعر، والعقل، لتقرير صحة ما يراه، وللرد على المخالفين، كما تبين أن الماوردي سار على غير خطى السلف في باب الأسماء والصفات، حيث عمد -عفا الله عنه- لتأويل جميع صفات الفعل، كما زعم أنها -صفات الفعل- مخلوقة في غيره في كلام موهم.(2)
كما أول صفات الذات كاليدين والعين والساق والوجه، وحينما تعرض لمسألة العلو أثبت علو القدر والقهر، ولم يتعرض لعلو الذات لا بالنفي ولا الإيجاب، وإن كان يروغ منه مما يدل على عدم تبنيه له، أما الاستواء فكلامه فيه على غير سواء، حيث تابع فيه المبتدعة الضلال، أما مسألة كلام الله تعالى فقد قام فيه خطيباً للمبتدعة حتى زعم أن كلام الله تعالى خلقه في الشجرة، وهي شنشنة نعرفها من جهم وأتباعه، أما رؤية الله تعالى في الآخرة فلم يكن له رأي صريح، بل كان يجلب الأقوال فيها غثها مع سمينها دون تمييز بينها.
__________
(1) 50 موسوعة ويكيبديا.
(2) 51 منهج الماوردي في أصول الدين(1/19)
قال ابن الصلاح كان الماوردي -عفا الله عنه- يتهم بالاعتزال وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه وأتأول له وأعتذر عنه(1) في كونه يورد في تفسيره في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير تفسير أهل السنة وتفسير المعتزلة غير متعرض لبيان ما هو الحق منها وأقول لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق أو باطل ولهذا يورد من أقوال المشبهة أشياء مثل هذا الإيراد حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة وما بنوه على أصولهم الفاسدة ومن ترجيحه في أحد الآيات إلى أن الله لا يشاء عبادة الأوثان.
وقال في قوله تعالى } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ { [الأنعام: 112]. وجهان في جعلنا أحدهما معناه حكمنا بأنهم أعداء والثاني تركناهم على العداوة فلم نمنعهم منها
وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشحونا بتأويلات أهل الباطل تلبيسا وتدسيسا على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق ثم هو ليس معتزليا مطلقا فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرآن كما دل عليه تفسيره في قوله عز وجل } مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ{ [الأنياء: 2]. وغير ذلك ويوافقهم في القدر وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديما .(2)
أما في توحيد العبادة يقرر ما يقرره أهل السنة والجماعة، من إثباته والاستدلال عليه، واستحقاقه تعالى له دون ما سواه.(3)
خامساً: ومن الفوائد عن الماوردي .
قال الماوردي في كتاب الشهادات من الحاوي في الكلام على قول الشافعي رضي الله تعالى عنه وإن كان يديم الغناء كتب إلى أخي من البصرة وقد اشتد شوقه إلى لقائي ببغداد:
طيب الهواء ببغداد يشوقني ** قدما إليها وإن عاقت مقادير
__________
(1) 52 انظر إلى جميل الاعتذار وحسن الظن.
(2) 53 طبقات الشافعية.
(3) 54 منهج الماوردي في أصول الدين.(1/20)
فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت ** طيب الهواءين ممدود ومقصور
قال النووي قوله طيب الهواءين لحن عند النحويين لأنهم لا يجيزون تثنية المختلفين في الصيغة إلا في ألفاظ سمعت من العرب كالأبوين والعمرين وشبهه من المسموع، قلت في المسألة مذاهب للنحاة فمن قائل يمتنع مطلقا ويؤول ما ورد من ذلك وهو اختيار شيخنا أبي حيان ومن قائل يجوز مطلقا وهو اختيار ابن مالك وقال ابن عصفور إن اتفقا في المعنى الموجب للتسمية كالأحمرين للذهب والزعفران والأطيبين للشباب والنكاح وإلا فلا .(1)
سادساً: موقف الماوردي مع الخليفة في لقب"شاهنشاه" .
وهي من محاسن الماوردي وقد ساقها الشيخ محمد بن الشيخ أبي الفضل عبد الملك ابن إبراهيم الهمذاني في ذيله الذي ذيله على تاريخ أبي شجاع محمد بن الحسين الوزير العالم وأبو شجاع أيضا مذيل على تاريخ متقدم
وحاصلها أنه في سنة تسع وعشرين وأربعمائة في شهر رمضان أمر الخليفة أن يزاد في ألقاب جلال الدولة ابن بويه شاهنشاه الأعظم ملك الملوك وخطب له بذلك فأفتى بعض الفقهاء بالمنع وأنه لا يقال ملك الملوك إلا لله وتبعهم العوام ورموا الخطباء بالآجر
وكتب إلى الفقهاء في ذلك فكتب الصيمري الحنفي أن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية
وكتب القاضي أبو الطيب الطبري بأن إطلاق ملك الملوك جائز ومعناه ملك ملوك الأرض قال وإذا جاز أن يقال قاضي القضاة جاز أن يقال ملك الملوك ووافقه التميمي من الحنابلة .
وأفتى الماوردي بالمنع وشدد في ذلك وكان الماوردي من خواص جلال الدولة فلما أفتى بالمنع انقطع عنه فطلبه جلال الدولة فمضى إليه على وجل شديد فلما دخل قال له أنا أتحقق أنك لو حابيت أحدا لحابيتني لما بيني وبينك وما حملك إلا الدين فزاد بذلك محلك عندي
__________
(1) 55 طبقات الشافعية(1/21)
قلت وما ذكره القاضي أبو الطيب هو قياس الفقه إلا أن كلام الماوردي يدل على حديث ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ( أخنع اسم عند الله تعالى يوم القيامة رجل يسمى ملك الأملاك ) رواه الإمام أحمد.
وفي حديث عوف عن خلاس عن أبي هريرة أن النبي ( اشتد غضب الله على من قتل نفسه واشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الملوك لا ملك إلا لله تعالى ) .
قلت ولم تمكث دولة بني بويه بعد هذا اللقب إلا قليلا ثم زالت كأن لم تكن ولم يعش جلال الدولة بعد هذا اللقب إلا أشهرا يسيرة ثم ولي الملك الرحيم منهم وبه انقرضت دولتهم .(1)
سابعاًً: من مؤلفاته .
صاحب الحاوي والإقناع في الفقه وأدب الدين والدنيا والتفسير "النكت والعيون" والأحكام السلطانية وقانون الوزارة وسياسة الملك(2) وأعلام النبوة وتسهيل النظر وكتاب في النحو والأمثال والحكم وأدب القاضي وكتاب نصيحة الملوك وغير ذلك .
ثامناً: وفاته .
وظل الماوردي في خدمة العلم إلى أن فاضت روحه إلى بارئها، قال الخطيب: كان ثقة مات في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة ودفن من الغد في مقبرة باب حرب ببغداد، قال وكان قد بلغ ستا وثمانين سنة .(3)
أخيراً: الخاتمة .
وأخيراً .. فقد مرّ معنا أحد أعلام المسلين مفتتحاً بالعلم أهميته وفضله وثمراته وأسبابه، فأشكر ربي عز وجل أولاً وأخيراً وظاهراً وباطناً أن وفقني لإتمام هذا البحث، وإخراجه على هذه الصورة، وأسأله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم. ونختم بما به بدأنا أن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
المراجع المستفادة للبحث
1- كتاب الله عزوجل.
2- الكتب العشرة.
__________
(1) 56 طبقات الشافعية
(2) 57 قانون الوزارة وسياسة الملك، عنوان كتاب واحد؛ وليس كتابين
(3) 58 كانت وفاته في ذلك التاريخ باتفاق المراجع جميعها(1/22)
3- العلم فريضة شريعة وضرورة عصرية، لأحمد محمد الشرقاوي.
4- العلم، للشيخ ناصر العمر.
5- لماذا نتعلم، للشيخ خالد المصلح
6- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر.
7- طبقات الشافعية، لتاج الدين السبكي .
8- منهج الماوردي في أصول الدين] رسالة ماجستير[، للدكتور عبد العزيز بن عمر الغامدي.
9- من وصايا الماوردي للسلطان، شاكر النابلسي.
10- موسوعة ويكيبيديا، الموسوعة الحرة ]على شبكة الإنترنت[ .(1)
11- موسوعة الأسرة المسلمة.(2)
__________
(1) 59 أكبر موسوعة، عظيمة جداً حديثه على الإنترنت بـ 48 لغة، وتحدّث بشكل مستمر.
(2) 60 موسوعة الاسرة المسلمة موسوعة كاملة تهم كل أسرة مسلمه و تحتوي على 16 قسم مصنفة بشكل دقيق(1/23)