الأسئلة(260/39)
أحاديث الوعيد
السؤال
يقول السائل: من المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام ليس من صفاته الكذب في أثناء الوعيد، فكيف يمكن التوفيق في قوله عليه الصلاة والسلام: {ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر} وقول علماء أهل السنة أن هذا من الوعيد فقط إذا وفق بين أحاديث الوعد والوعيد؟
الجواب
ليس قول أهل السنة هذا من الوعيد معناه أنه ليس له معنى، كما يفهم السائل أو غيره، أو أنه ليس له حقيقة؛ بل يقصدون أن الذين أطلقوا هذه الكلمة من علماء أهل السنة يعنون أن هذه الأحاديث ينبغي أن نبقيها على ما هي عليه؛ ليكون أهيب لها في نفوس الناس؛ لأننا إذا دخلنا في تأويلها، وقلنا: إن هذا مثلاً مخصوص لفئة من الناس، أو أنه في حال دون حال، أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي حملها عليها بعض أهل العلم، إن هذا يقلل من تأثيرها، ووقعها على النفوس.
فإبقاء الحديث يقرأ على الناس، ويؤثر فيهم بالالتزام الأوامر، واجتناب النواهي أقوى، وأدعى إلى الامتثال، وليس المقصود أن هذا وعيداً لا حقيقة له، لكن الوعيد قد لا ينفذ، وكما يقول الشاعر العربي: ويعلم ابن العم والجار سطوتي ولا أنثني من سطوة المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي أي: أن الوعيد قد يتخلف لسبب من الأسباب، فقد يتوعد الله العبد أو العباد بذنب من الذنوب، ويلقاه عبد بهذا الذنب، ويتخلف الوعيد عنه بسبب من الأسباب، إما لتوبة، أو لكثرة استغفار، أو لأعمال صالحة كثيرة غطت على هذا الأمر، أو لشفاعة قريب من أقربائه، أو لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أو لأي سببٍ آخر أو برحمة أرحم الراحمين.
ليس بالضرورة أن ينفذ الوعيد، لكن مجمل العصاة لا بد أن يعذبوا، ولا نحكم على عاص معين بأنه لا بد أن يعذب ما دام داخل في دائرة الإسلام.(260/40)
طريقة النهي عن المنكر
ِالسؤال يقول السائل: كثيرٌ ما نشاهد، ونسمع عن منكرات البيوت، كالموسيقى وآلات الطرب، ورفع صوت التلفاز من بعض الجيران، فما واجبي تجاه هذه المنكرات؟
الجواب
أولاً: الصلة بالجار، لا ينبغي أن تكون معرفتك بالجار -فقط- حين تجد عليه خطأً أن تنبهه إليه، اتصل به، أقم معه علاقة حسنة، اكسب وده إن استطعت، أحسن إليه؛ لأن الإحسان إلى الناس من أعظم وسائل كسبهم، ثم حاول أن تدعوه، حتى قبل أن ترى عليه منكراً، اعطه الكتاب المناسب، والشريط الجيد، وادعه إلى المجالات الخيرية، والمناسبات العامة، وإذا رأيت عليه منكراً فحاول أن تنبهه على هذا المنكر إما بمخاطبته مشافهة، وإما بالهاتف، وإما بالرسالة، وإما بالأسلوب الذي تعتقد أنه مناسب.
وقد تعطه شريطاً، أو كتاباً في موضوع المعصية التي رأيتها عليه، حتى يتنبه إلى ذلك، وكلما كان الإنسان ألطف، وأحسن خلقاً كان أدعى للقبول.(260/41)
المقياس الوسط بين العزلة والإفراط في الخلطة
السؤال يقول: ما هو المقياس الوسط والصحيح بين العزلة والإفراط في الخلطة؟
الجواب
-كما ذكرت- في خلق العدل الذي يفرط في الخلطة، يقولون: الإكثار من الأصدقاء مثل الإكثار من الطعام، فيورث الإنسان، ويسبب له التخمة، وكثيرة شكوى الشعراء وغيرهم من كثرة الأصدقاء، وضرهم: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق فصار أدرى بالمضرة فالعدل مطلوب، وكذلك العزلة، فإذا بالغ الإنسان في العزلة يقع في الحرام، فيترك الجمعة والجماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء حقوق الأخوة، وزيارة الأقارب والجيران، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وأداء الحقوق وما أشبه ذلك؛ فالعدل مطلوب في هذه الأشياء.
وهناك أحوال خاصة تشرع فيها العزلة، وما عداها فالأصل هو الخلطة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي بسند صحيح: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} فإذا كان الإنسان يتضرر بالخلطة بفساد، يفسد هو إذا خالط الناس، أو يغير المنكرات بطريقة تضاعف من المنكر، أو يؤذي الناس بقوله أو عمله، ولا يملك الصبر على ذلك فقد يعتزل، وفيما عدا ذلك فالأصل له أن يخالط.
وفي هذا الموضع سبق أن أعددت دراسة ضمن رسائل الغرباء الذي ذكرها الأخ في البداية وعنوانها العزلة والخلطة ولعلها ترى النور قريباً -إن شاء الله-.(260/42)
الدعوة في الأقربين
السؤال يقول السائل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كثير من الدعاة، أو المسلمين يهتمون بالدعوة خارج أسرهم، فينسون نساءهم وأولادهم؛ بحيث يكون هناك فجوة بينه وبين أهله، ويتفرغ للدعوة خارج دائرته، أرجو توجيه كلمة لذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأقربون أولى بالمعروف، والرسول صلى الله عليه وسلم خوطب بقول الله جل وعلا: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فالداعية يعتبر بيته هو القلعة التي ينطلق منها، وكم من داعية يعير بأن زوجته سافرة، أو أولاده منحرفين، أو إخوانه، أو أقاربه فيهم وفيهم؛ وذلك لأن الناس يعرفون بالفطرة والبداهة أن أولى الناس بدعوتك: هم أقاربك؛ ولذلك كان رفض قريش لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، من أهم أسباب امتناع العرب عنها زماناً، لأنهم يقولون: هؤلاء أدرى الناس به، فلو كان ما يدعو إليه حقاً لقبلوه، ويقولون: هؤلاء أقرب الناس إليه.
فكانوا هم الأولى بدعوته؛ ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] فأحق الناس بالداعية هم أهل بيته، ومن الخطأ أن ينشغل الداعية بالأبعدين عن أهل بيته، ولا تعارض، يمكن أن يقوم بالواجبين معاً، لكن ينبغي أن يفرغ جزءاً من وقته لأهل بيته ويراقبهم، خاصة -ونحن نعرف- أن أجهزة الإعلام قد اقتحمت البيوت على أهلها، وأصبحت تخاطب الطفل، والمرأة، والكبير، والصغير وكافة الطبقات بوسائل مثيرة، وجذابة، ومغرية، بل من الدعاة -مع الأسف- من يضع هذه الأجهزة في البيت ويخلي بينها وبين أهل البيت، فيشاهدون ما يشاءون، ويسمعون ما يشاءون، ويستمتعون بما يشاءون، دون أن يكون رقيباً عليهم، ودون أن يقدم لهم أي دعوة، وهذا خطأ جسيم.(260/43)
كتب تتكلم حول الأخلاق
السؤال يقول: ما هو الكتاب الخاص بالأخلاق الذي تنصحنا بقراءته؟
الجواب
في الحقيقة أن الكتب كثيرة وكثيرة جداً، حيث كتب في موضع الأخلاق جماعة من أهل العلم، كالإمام ابن حزم، والغزالي، والإمام ابن القيم، وابن رجب الحنبلي، وجماعة من العلماء المعاصرين مثل عبد الله دراز، ومحمد الغزالي وغيرهم، والكتب في ذلك كثيرة، ومن الكتب النفيسة المفيدة -خاصة لطالب العلم المتقدم- كتاب الأخلاق والسير في مداواة النفوس للإمام ابن حزم، وهو كتاب نفيس، وفيه حكم ولطائف وطرائف يفرح بها طالب العلم، وكتابات ابن القيم في هذا الباب في عدد من كتبه، منها: مدارج السالكين كتابات فدة ونفيسة، وكذلك الإمام ابن رجب في عديد من رسائله، وغيرهم كثير.
في كتابات للإمام الغزالي في كتاب: إحياء علوم الدين، نافعة وإن كان الكتاب فيه أخطاء، مثل وجود أحاديث ضعيفة؛ بل وموضوعة أحياناً، وفيه نفس فلسفي، وفيه مسحة من تصوف، بل فيه عبارات صوفية موحشة وموهمة، فطالب العلم الذي يستطيع أن يميز الخطأ من الصواب، يستطيع أن ينتفع من بعض اللفتات التربوية الموجودة في هذا الكتاب.
أو إذا لم يكن كذلك فيستطيع أن يستفيد من بعض الكتب التي اختصرته: ككتاب منهاج القاصدين، وكتاب موعظة المؤمنين وغيرها.(260/44)
بداية الدعوة
السؤال
ما هو الأفضل أن تبدأ الدعوة من المساجد، أو بالوسائل العصرية الحديثة؟
الجواب
المسجد لا يمكن أن يستغنى عنه في أي مرحلة من مراحل الدعوة، بداية ونهاية، والمسجد هو الموقع الطبيعي لمخاطبة جمهور المصلين، لكن هناك أعداد من الناس الذين لا يرتادون المساجد فيحتاجون إلى أن نبلغهم الدعوة حيث كانوا؛ ولذلك لا تعارض، بل الدعوة تبدأ في المسجد وتنتهي في المسجد، ومع ذلك لا يمنع هذا -أبداً- الاستفادة من كل وسيلة بشرطين: الأول: أن تكون هذه الوسيلة مباحة؛ ليست محرمة.
الشرط الثاني: أن تكون هذه الوسيلة مؤدية للمقصود، نافعة في إيصال الدعوة إلى الناس.(260/45)
وسائل التغيير
السؤال
يقول السائل: ما الوسائل التي تعيينا على تغيير بعض الأخلاق السيئة إلى حسنة؟
الجواب
هذه هي النقطة التي اعتذرت منها في السؤال السابق، لأنها أمر يطول، لكن منها: التدريب، ومنها: مراقبة النفس، ومن أعظم الوسائل أن يكون الإنسان رقيباً على نفسه، فإذا رزق الإنسان الرقابة على نفسه، فقد رزق خيراً كثيراً، وإذا خلوت بنفسك فراقبها واسألها، وراجع التصرفات التي قمت بها، ما هو الخطأ؟ وأين الخطأ؟ وكيف تصحح؟ وأي موقف يحدث لك فراجعه فيما بعد، وإذا عرفت أن في هذا الموقف خطأً فوطن نفسك على أنك سوف تتلافى هذا الخطأ لو تكرر الموقف.
وهكذا حتى تستطيع أن تحمل نفسك على كثير من الأخلاق الفاضلة، وأقول لكم -أيها الإخوة- بالتجربة والممارسة مع عدد من الطلاب ظهر جلياً أنه يمكن تهذيب الكثير من الأخلاق الذميمة في نفوس الناس، خاصة الشباب، ويمكن تقوية كثير من الأخلاق الفاضلة في نفوسهم -أيضاً-، ومن الوسائل: أن تتخذ لك أخاً، أو صديقاً توده ويودك، وتنصحه وينصحك، وتطلب منه أن يبين لك عثراتك وأخطاءك، وتبين له عثراته وأخطاءه، وتتناصحون فيما بينكم.(260/46)
جبلة الأخلاق ومكتسبها
السؤال
يقول السائل: هل الأخلاق الذي ذكرتها هي جبلية في نفس الإنسان أم مكتسبة، أي: يكتسبها من غيره؟
الجواب
أصول الأخلاق منها ما هو جبلي، ومنها ما هو مكتسب؛ ولذلك الرسول عليه السلام قال لـ- أشج عبد القيس -: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، فقال يا رسول الله: أخلقين جبلت عليهما أم اكتسبتهما؟ فقال: بل جبلت عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله} .
فالأخلاق منها ما هو جبلي، ومنها ما هو مكتسب، لكن الأخلاق الجبلية تحتاج إلى عناية، ورعاية حتى تثمر وتورق وتكبر في نفس الإنسان، ولئلا تموت أو تضيع، وكذلك الأخلاق يمكن أن يكتسبها الإنسان؛ ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم} .
وهناك وسائل وطرائق -ليس هذا مجال الحديث عنها- يستطيع الإنسان من خلالها أن يكتسب الأخلاق الفاضلة ويتحلى بها، ويتعود، ويتدرب عليها، ولذلك نجد أن الشرع أمر بالتزام الخلق الفاضل، ولو كان المجبول على خلق ذميم لا يستطيع أن يتخلى عنه لما كان هناك فائدة للنهي عنه، وكان هذا نهياً عما لا يمكن أو أمراً بما لا يمكن.(260/47)
الاستجابة للداعي
السؤال
تقول: حفظك الله ونفع الله بك، إنه لا يمكن أن يدعو الداعي إلا وله ثمرة ممن يستجيب له، كيف نوفق بين هذا، وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم {إنه يأتي النبي وليس معه أحد} أو كما قال صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هذا الحديث معروف، ولست أقصد على سبيل الإجمال في جميع الأمم، وإنما أقصد في هذا الوقت بالذات، أي: إن الذي يقعد، ويعتزل الناس، ويترك الدعوة بحجة أنه لا يستجاب له، نقول له: هذا غير صحيح؛ لأننا نعلم بدلالة الواقع اليقينية التي لا إشكال فيها مطلقاً، أن الدعاة إلى الإسلام يستجاب لهم في هذا العصر الحاضر، وليس مطلقاً، مع أننا نعلم أنه في نفس الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم {رفع له سواد عظيم فظنه أمته، فقال من هذا: قيل هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظر فإذا سواد قد سد الأفق، فقيل له: هذه أمتك، وفيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب} فدل على كثرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكثرة الخيرية فيها، والمستجيبين للدعوة منهم.(260/48)
العمل بالقول
السؤال
يقول: هناك من الإخوة الكبار الذي يوجد لديهم العلم الكافي لإلقاء مواعظ، وخواطر، ونصائح، ودروس، ولكن للأسف لا يتكلمون، وإذا سألناهم: لماذا لا تلقون المواعظ والدروس؟ يقولون: نحن لسنا أكفاء؛ لأننا لا نعمل بما نقول في بعض الشيء، فهل هذا الفعل صحيح للدعاة؟
الجواب
أولاً: بينت أنه ليس من شروط الدعوة أن يكون الإنسان عاملاً بكل ما يقول، المهم هو أن يكون صادقاً في دعوته فلا يخادع الناس، وإنما يدعو عن حقيقة وصدق.
وثانياً: أنه لا ينبغي للإنسان أن يتخلى عن موقعه بحجة أنه غير كفؤ، إلا إذا وجد أنه شغل بمن هو أكفأ منه، فهذا الدرس الذي اعتذرت عنه، إن كان قام به من هو أكفأ منك، وأجدر، فحسن وحبذا، لكن إن جلس من دون أحد، وتعطل، فلئن يقوم به إنسان يؤدي ولو بعض الواجب خير من ألا يقوم به أحد ألبتة.
وهذه في كثير من الأحيان من مداخل الشيطان على الإنسان، أن يقعد به عن القيام بالواجب بحجة أنه ليس كفأً، مع أنه يعلم ويجزم بأن من قام بهذا العمل هو أقل كفاءة منه، أو لم يقم به أبداً، أو لم يقم به أحداً بعد أن تخلى عنه.(260/49)
التربية الوجدانية وأثرها
في هذا الدرس تحدث الشيخ حفظه الله عن التربية الوجدانية وأثرها في الحد من انتشار الجرائم، كالمخدرات مبتدئاً بالحديث عن أقسام السموم باعتبار المخدرات منها، ثم تاريخها، وانتقالها من ظاهرة فردية إلى عامة عن طريق الحشاشين، وكيف استخدم الاستعمار هذه المخدرات كسلاح يُبَلِّد به الشعوب، ثم تحدث عن التربية الوجدانية ذاكراً في ذلك عدداً من القصص الصحيحة الواقعية، وحث على توظيف كافة الأجهزة والمؤسسات في المجتمع لمحاربة الرذيلة، ونشر الفضيلة، وحذر من التناقض الذي يعيشه الطفل في المجتمع بين منهج المدرسة وواقع الشارع والإعلام، وأن ذلك هو سبب الضياع والتميُّع في أبنائها.(261/1)
أقسام السموم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم وسلم تسليماً كثيراً وبعد: يقسم العلماء السموم المعروفة عادة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: هي تلك السموم القاتلة التي تمزق وتحرق الأجزاء التي تصل إليها من الجسم بمجرد تعاطيها أو تناولها، وذلك كالسم المعروف بالسليمانى.
القسم الثاني: هي السموم المهيجة كالزرنيخ مثلاً، وهي ذات تأثير مهيج على المعدة والأمعاء.
القسم الثالث: هي السموم المخدرة وهي ذات تأثير تخديري على المخ والأعصاب كالحشيش والأفيون وغيرها، وهي ما تعارف الناس اليوم - بل ومن قبل - على تسميتها بالمخدرات.(261/2)
تاريخ المخدرات
ولم تكن هذه المخدرات وليدة اليوم وإن كان هذا العصر شهد تطوراً رهيباً مذهلاً في انتشارها وترويجها واستخدامها في كافة الأغراض، لم تكن المخدرات وليدة اليوم، بل لقد عرفها الإنسان منذ آلاف السنين، وقد ذكر المتحدثون عن المخدرات أن بعض شعوب الشرق الأدنى عرفوا الأفيون منذ نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة كما يقولون، وكانوا يسمونه نبات السعادة، ويستخدمونه في بعض الأغراض الصحية، أو يعطونه لأطفالهم لمنع إفراطهم في البكاء أو ما أشبه ذلك.(261/3)
الحشاشون والمخدرات
أما استخدام هذه المخدرات وتحول هذا الأمر إلى ظاهرة عامة، فلعل أول ما عرف ذلك في العالم الإسلامي على الأقل هو ما قام به الحشاشون، وهم طائفة من المتصوفة ذات تأثير خطير في العالم الإسلامي في تاريخ المسلمين، وهم أصحاب قلعة الموت على بحر الخزر، فكانوا يتعاطون المخدرات والحشيش بالذات للتأثير على أتباعهم، حتى كان الحسن بن الصباح -زعيمهم- إذا أراد أن يعاقب شخصا من أتباعه فإنه يمنع عنه الحشيش أياماً معلومات، ويعتبر هذا من التعذيب والتأديب لهذا الإنسان التابع له، وقد عرفت هذه الطائفة في التاريخ باسم الحشاشين، وهناك دراسات مستفيضة عن الحشاشين ودورهم وأعمالهم.
وخلاصة القول فيهم أن هؤلاء الحشاشين كانوا عبارة عن جماعة إرهابية تخريبية جعلت العنف والقتل والإرهاب سياسة لها، وهي من الباطنية، وقد حاولوا اغتيال البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي مراراً، لكنهم باءوا بالفشل، وقد ذهب ضحيتهم عظماء ووزراء كبار من أبرزهم نظام الملك الوزير العباسي المشهور، وكان لهم في ذلك خطط كبيرة لاغتيال الشخصيات المشهورة والزعامات البارزة وإحداث الفوضى وزعزعة الأمن في المجتمعات الإسلامية.(261/4)
الاستعمار والمخدرات
ثم جاء الاستعمار البريطاني وغيره إلى بلاد المسلمين وإلى غيرها من البلاد التي استعمرها، فحاول أن ينشر المخدرات فيها بصورة كبيرة لإدراكه ما لهذه المخدرات من تأثير في تبلد الأحاسيس واستسلام ضحاياها للأمر الواقع، فنشر الاستعمار البريطاني أنواع المخدرات في الهند وغيرها من بلاد العالم الإسلامي، سواء عن طريق زراعتها كما في شركة الهند الشرقية، أو عن طريق ترويجها ونشرها، وبذلك انتشر القات في جنوب الجزيرة العربية، وانتشر الحشيش في سواحل الشام، وانتشر الكوكائين في مصر، وبعد ذلك انتشر الهروين في فلسطين، بجهود المستعمرين الذين حاولوا تخريب الشباب عن طريق نشر هذه المخدرات.(261/5)
اليهود والمخدرات
وقد نشرت جريدة المسلمون قبل عدديين أو ثلاثة مقالاً يتحدث عن آريل شارون السفاح اليهودي المشهور صاحب مجازر صبرا وشاتيلا، وهو يقول: إنني أتعهد بأن أحوِّل هؤلاء الشباب الفلسطيني - الذين هم شباب الانتفاضة المباركة - إلى مُدْمِنِي مخدرات وإلى حشاشين إذا أعْطِيْتُ صلاحيات في ذلك، وهو يقترح أن يمنح صلاحيات لمقاومة هذا الأمر عن طريق نشر هذه السموم في أوساط الشباب المسلم الذي قام بهذه الانتفاضة، فالاستعمار يدرك خطر هذه المخدرات وأثرها البالغ في استسلام الشعوب وطواعيتها له، ولذلك لا يألو جهداً في نشرها بهذه الطرق وغيرها.(261/6)
المخدرات الصناعية
لقد كانت المخدرات المنتشرة بين الناس هي المخدرات الطبيعية، كالحشيش والأفيون والخشخاش والقات وغيرها، ومع أن هذه المخدرات ما زالت ذات انتشار بين الناس، إلا إنه قد نافستها في هذا العصر المخدرات الصناعية، كالمسهرات والمنومات والمهدءات والمنشطات، وعقاقير الهلوسة والمواد الطيارة التي تستخدم فيما يسمونه بالتشفيط، ومنها مثلاً المواد البترولية والغراء والأثير وغيرها، وكل هذه الأشياء لها رواج كبير وانتشار في أوساط متعاطي المخدرات.(261/7)
استنتاجات من خلال تاريخ المخدرات
من خلال هذه المقدمة (البسيطة) السريعة - يقولون: (البسيطة) وهو استعمال لغوي غير صحيح؛ لأن (البسيطة) معناه المطوَّلة، وأنا أريد أن أقول المختصرة - فمن خلال هذه المقدمة المختصرة (غير البسيطة) نلاحظ أمرين:(261/8)
انتشار المخدرات مع الوعيد العظيم على تعاطيها
الأمر الأول: كيف تطور استخدام هذه السموم من كونه حالات فردية نادرة قليلة إلى كونه ظاهرة عامة منتشرة أصبحت اليوم هي الهم الأكبر لدى جميع دول العالم، فما من دولة إلا وهي تنادى بحرب المخدرات، حتى تلك الدول التي تتغاضى عن مروِّجي المخدرات وصانعيها وزارعيها، فإنها تعلن حربها على المخدرات، والمؤسسات العالمية الكبرى كالأمم المتحدة وغيرها توجد فيها لجان خاصة لمكافحة المخدرات والقضاء عليها وللمسلمين نصيبهم من هذا الأمر؛ فإن تضررهم بانتشار هذه المخدرات هو أعظم من تضرر أي شعب آخر، لأنهم أمة يقوم وجودهم على أساس الإيمان والإسلام والالتزام الأخلاقي والسلوكي، فضررهم من انتشار هذه المخدرات هو أعظم من ضرر غيرهم من الشعوب الأخرى، أقول نلحظ كيف انتشرت وتطورت هذه المخدرات من كونها ظاهرة فردية قليلة إلى أن أصبحت ظاهرة عامة.
ثم تذكر الحديث الذي رواه البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى فيه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسُمٍّ فسُمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه - أي: يطعن بها بطنه - في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً} وهكذا نجد هذا الوعيد الشديد على من يقتلون أنفسهم، سواء بالانتحار من خلال السقوط والتردى من القمم الشاهقة والمباني المرتفعة، أم من خلال قتل أنفسهم بالنار والسكاكين وغيرها، أم من خلال قتل أنفسهم من خلال هذه المخدرات التي يتعاطونها بأيدهم طوعاً واختياراً، والوعيد جاء رهيباً كبيراً: {فسُمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً} وكل إنسان مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر حين يسمع هذا الحديث تصيبه قشعريرة من هذا الوعيد العظيم، في هذا الحديث الذي رواه البخاري ورواه مسلم أيضاً، وهو وعيد يوحي بأن المتعاطين لهذه السموم الفتاكة المؤدية إلى الموت يتعاطونها في نار جهنم خالدين فيها أبداً، وهو وعيد شديد، لا أتصور وعيداً أعظم منه، وينبغي أن نبقي هذا الوعيد بهيئته وجلاله وتأثيره كما تحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله عزوجل {من قتل نفسَه بسُمٍّ فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً} .
مع أننا نعلم جميعاً أن معتقد أهل السنة والجماعة الذي أجمعوا عليه أن مرتكب المعاصي والكبائر لا يخرج من الإسلام وإن وقع فيها؛ ما دام يعترف بأنها محرمة، فهو مسلم مهما ارتكب من المعاصي والكبائر والموبقات، فلا يخرج من الإسلام بهذه المعاصي، لكن بقاء هذا الوعيد على هيئته أبلغ في النفوس وأقوى في التأثير.(261/9)
دور أعداء الأمة الإسلامية في ترويج المخدرات
الملاحظة الثانية في العرض السابق هو: ملاحظة الدور الخطير الذي يقوم به أعداء الأمة المسلمة من الداخل والخارج في ترويج المخدرات، فنحن لاحظنا دور الاستعمار - مثلاً - في نشر المخدرات في أصقاع العالم الإسلامي: وفي الجزيرة، وفي مصر، وفي الشام، في الهند وفي غيرها، وكان الاستعمار يضحي بالشيء الكثير في سبيل فرض هذه المخدرات ونشرها بين الناس؛ حتى إنه قامت بين بريطانيا والصين حرب مشهورة باسم حرب الأفيون، تحاول فيها بريطانيا بالقوة أن تفرض على الصينيين السماح بدخول هذه المخدرات إلى بلادهم! وفعلاً أذعنوا إلى بعض هذه المطالب! وهذا يؤكد لنا أن قضية المخدرات ليست قضية محلية كما يحاول أن يفسرها بعض الناس، بل هي قضية عالمية، وما العصابات المشهورة في العالم والتي تتبنى ترويج المخدرات ونشرها كعصابات المافيا وغيرها عنا ببعيد، وفي جريدة المسلمون أيضاً الصادرة في يوم الجمعة القادم سوف ينشرون تحقيقاً كما ذكروا عن دور هذه العصابات في نشر ألوان المخدرات لشباب الجامعات في مصر وغيرها، وكذلك دور الأعداء الداخليين الممثلين في أوساط المجتمع الإسلامي، كما لاحظنا دور الحشاشين المتصوفة في نشر المخدر بين المسلمين، واستخدام ضحايا المخدر في أغراض أخرى: في أغراض سياسية وفي أغراض تخريبية، وفي إخلال بالأمن، وفي القتل وسفك الدماء وترويع الآمنين إلى غير ذلك.(261/10)
التربية الوجدانية وأثرها في مقاومة المخدرات
وأنتقل بعد هذه المقدمة إلى الحديث عن التربية الوجدانية وأثرها في مقاومة المخدرات وحماية الفرد والمجتمع منها، وأستميحكم العذر لأعرض عليكم بعض القصص التي ذكرها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تدل عملياً على أثر التربية الوجدانية.
وربما يكون الوقوف أمام قصة أو حادثة أبلغ من كلام طويل عريض في بيان أثر التربية الوجدانية على الفرد والمجتمع.(261/11)
قصة الغامدية
وأعجب وأغرب من قصة ماعز قصة الغامدية الجهنية التي رواها مسلم في صحيحه عن بريدة -رضي الله عنها- حين جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله، إني زنيت فطهرني، فعاملها عليه الصلاة والسلام كما عامل ماعز من قبل، وحاول أن يصرفها فقالت له: يا رسول الله! كأنك تريد أن تردَّني كما رددت ماعزاً! والله إني لحُبلى من الزنا، -لا مجال للتردد، ولا شك؛ فأنا الآن حامل من الزنى، وهى بذلك تدرك أي مصير يسوقها إليه هذا الاعتراف، وهى امرأة ونحن نعلم ما في جبلة المرأة من الضعف، والعجب كل العجب أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين علم أنها حامل قال: لها اذهبي حتى تلدي، فذهبت وبين حملها وولادتها تسعة أشهر بالأحوال الطبيعية، وقد نتصور أن الإنسان أحياناً إذا وقع في المعصية ندم ندماً شديداً؛ لكن إذا مضت عليه أيام وليالي؛ فإن الندم يبدأ يخف، ويبدأ -كما يقولون- في العدِّ التنازلي تدريجياً حتى ربما يضعف عنده إلى حد بعيد، لكن هذه المرأة على الرغم من مضي تسعة أشهر ما زال الندم والخوف من الله عز وجل يؤرِّق مضجعها؛ فتأتي بعد الولادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعها صبيها وتقول: يا رسول الله! هذا الصبي قد ولدته، فيقول لها الرسول عليه الصلاة والسلام: {اذهبي حتى تفطميه} وتذهب بصبيها وربما كان بين ولادته وفطامه حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وبعد سنتين - وقبل السنتين تسعة أشهر - يظل الخوف من الله عز وجل والخوف من عقاب الآخرة يقلق بال هذه المرأة، فتأتى بعد سنتين وتسعة أشهر من الجريمة وقد حملت هذا الصبي معها وفي يده كسرة خبز، وهى تقول: هذا يا رسول الله، قد فطمته، فهي وضعت في يده كسرة خبز لتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً هو مفطوم الآن، وقد استغنى بأكل الخبز وغيره عن اللبن، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فترجم ويقام عليها الحد، فحين يتناولها أحد الصحابة بالسب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {والله، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له} وفى اللفظ الآخر: {لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم! وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟} .
فهذه التربية الوجدانية؛ وهذه التربية الإيمانية، وليس الكلام الفارغ الذي قد نتبجح به في الصباح والمساء وفي كل ميدان! التربية الإيمانية التي تجعل المرأة تقلق من جريمة وقعت فيها منذ سنتين وتسعة أشهر؛ فلا ترضى إلا أن يقام عليها الحد، وهى تعلم سلفاً أي حد سيقام عليها، إنه الرجم!(261/12)
قصة الصحابة وتحريم الخمر
وما دمنا بصدد الحديث عن المخدرات، فلنأخذ مثلاً آخر من الجيل الأول في قوة الوازع الإيماني عندهم، يتعلق بموضوع هذا الحديث، ألا وهو ما رواه البخاري ومسلم عن أنس - رضي الله عنه - أنه كان يسقي نفراً من الأنصار الخمر في بيت أبي طلحة - رضي الله عنه - وأبو طلحة هو زوج أم سليم وهي أم أنس بن مالك، فهو زوج أم أنس بن مالك، وكان أنس بن مالك شاباً صغيراً يخدمهم ويسقيهم الخمر قبل أن ينزل تحريمها، وهم مجموعة من الأنصار في منزل أبي طلحة، فبينما هم يتعاطون كئوس الخمر؛ إذا بهم يسمعون مناديا يصرخ في شوارع المدينة: ألا إن الخمر قد حرمت، ألا إن الخمر قد حرمت، حينئذ لم يحدث من هؤلاء أن قالوا: نريد أن نتأكد ونتثبت في صحة المعلومات، ولم يحدث من هؤلاء أن قالوا: هذا المجلس الآن مضى فنكمل ما فيه ثم نتوقف، بل أراقوا الخمور في الحال وأمروا أنساً فأراق الخمر حتى جرت سكك المدينة بالخمور، مجرد بيان يصدر من الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ إلى المسلمين كافة يحدث منهم أن يريقوا الخمور في ساعة واحدة، وفي لحظة واحدة، حتى تجرى بها شوارع المدينة من كثرة ما أريق! وهذا يدل على مدى انتشارها في ذلك المجتمع وتعاطيها عندهم بحيث تجرى منها الشوارع، ويدل على مدى تغلغله! وكلنا نعرف كيف كانت الخمر في حياة العرب في الجاهلية، وإذا كان الناس يقولون (الشعر ديوان العرب) فاقرأ أشعار الشعراء الجاهليين، وانظر كيف يتغنون بالخمر، بل اقرأ أشعار الشعراء الإسلاميين وانظر كيف كانوا يتغنون بالخمر في حال جاهليتهم، هذا حسان رضي الله عنه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في همزيته عن الخمر حين كانوا يشربونها في الجاهلية: فنشربها فتجعلنا ملوكاًَ وأُسْداً لا يُنْهَنْهَهَا اللقاءُ وهذا أبو محجن الثقفي رضي الله عنه يقول عن الخمر -ولعل هذا كان في حال جاهليته-: إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمةٍ تروي عظامى بعد موتى عروقُها ولا تَدْفننِّي بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها والشاعر الجاهلي يقول: فإذا سكرتُ فإنني ربُّ الخوَرْنَقِ والسديرِ وإذا صحوتُ فإننى ربُّ الشويهةِ والبعيرِ أي أنه يسكر فيعيش في أحلام وخيالات أنه رب الخوَرْنَق والسدير -وهى قصور معروفة لملوك العرب- فهو إذا سكر خُيِّل إليه أنه من الملوك، وأن الدنيا في يده كما قال حسان: فتجعلنا ملوكاً وكل شعراء الجاهلية لهم قصائد خاصة تسمى الخمريات، أو غالبها فيها تَغَنٍّ بالخمر، وبيان مدى تغلغلها في المجتمع العربي آنذاك.
مع هذا كله يأتي بيان يعلن من الرسول -عليه الصلاة والسلام- بأن الخمر قد حُرِّمَتْ فتراق في شوارع المدينة، حتى إنَّ من كان في يده الكأس منهم كان يريقه، وحتى إنهم لم يكتفوا بإراقة الخمر بل أمروا أنساً أن يكسِّر قنان الخمور وأوانيها، بل من كان الخمر في فمه فإنه يبزقه ولا يشربه، وأعجب في ذلك أنهم بدءوا يفكرون فيمن ماتوا والخمر في أجوافهم قبل أن ينزل تحريمها، فقالوا: قد مات أقوام وهى في أجوافهم؛ فأنزل الله عز وجل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة:93] فبين أنه لا جناح على هؤلاء الذين ماتوا، والخمر في أجوافهم؛ ما دام ذلك كان قبل منعها وتحريمها فمن خلال هذه الأمثلة يتبين لنا دور الوازع الإيماني وأثره، وأثر التربية الوجدانية على الفرد وعلى المجتمع في الوقاية من هذه المخدرات.(261/13)
قصة ماعز بن مالك
المثل الآخر هو قصة ماعز بن مالك الأسلمي وقد رواها أيضاً الشيخان في صحيحيهما في حديث أبي هريرة وجابر - رضى الله عنهما - وخلاصة هذه القصة، أن ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه {أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: يا رسول الله: إنى زنيت فطهرني، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بالشاب يأتي مرة أخرى، وهو مفتول العضلات -قوى-، فيقبل على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، فيعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم للمرة الثانية، بل يصرفه ويقول له: ويحك، استغفر الله وتب إليه} فيأتي للمرة الثالثة ويقول: يا رسول الله، إني زنيت فطهرني، ورابعة؛ فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه اعترف على نفسه أربع مرات بالزنا، قال: أبِكَ جنون؟، قل: لا، قال: أأحصنت؟ -أي: تزوجت- قال: نعم، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أهله وعشيرته؛ فأخبروه أنه رجل ليس فيه جنون وإنما هو رجل وقع في ذنب يرى أنه لابد له من الخروج منه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فرُجِم وأُقِيْم عليه الحد، وزكَّاه عليه الصلاة والسلام وبين أنه تاب إلى الله عز وجل.(261/14)
قصة الثلاثة أصحاب الغار
أذكر لكم مثلاً حديث عبد الله بن عمر الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر {أن ثلاثة نفر من بني إسرائيل آواهم المبيت إلى غار، فباتوا في هذا الغار، فانطبقت عليهم صخرة، فلم يستطيعوا الخروج، فقال بعضهم لبعض: تعلمون أنه لن يخرجكم من هذا الغار إلا أن تدعوا الله عز وجل بصالح أعمالكم، فقام الأول وقال: اللهم! إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، ونأى بي طلب الشجر يوماًَ، - أي: ابتعد وهو يرعى غنمه - فلم يأوِ إلا بعد مضي هزيع من الليل؛ فلما جاء ليسقي والديه وجدهما نائمَين، فوقف عند رأسيهما - لا يريد أن يوقظهما رحمه بهما وشفقة عليهما، ولا يريد أن يسقي صبيانه وأولاده قبل والديه -، قال: والصبية يتضاغون - أي: يبكون ويصيحون من الجوع - قال: فما زلت كذلك حتى برق الفجر، فاستيقظا فسقيتهما، اللهم إن كنت تعلم أنني إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، قال: فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج، فقام الآخر وقال: اللهم! إنك تعلم أنه كانت لي ابنة عم، وكانت من أجمل النساء، وكنت أحبها أشد ما يحب الرجال النساء، وقد أردتها على نفسها، فامتنعت مني، حتى احتاجت يوماً فجاءتني تطلب مني مالاً؛ فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففَعَلَتْ، فلما جلست منها مجلس الرجل من امرأته، قالت لي: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، - فذكَّرته بالله عز وجل وأنه لا يجوز له أن ينتهك ما حرم الله عليه - قال: فقمت من عندها وأنا أشد ما أكون شوقا إليها وحبا لها، وتركت الذهب لها، اللهم! إن كنت تعلم أنني إنما فعلت ذلك ابتغاء ما عندك، فافرج عنا ما نحن فيه، ففرجت الصخرة! غير أنهم لا يستطيعون الخروج أيضاً، فقام الثالث وقال: اللهم! إنك تعلم أنني استأجرت أجراء؛ فأعطيتهم أجرهم غير أجير واحد فإنه لم يأخذ أجره - وكأنه تقالَّ هذا الأجر، فغضب وتركه -، قال: فنمَّيتُه له حتى جاءني يوماً وقال لي: يا فلان! اتق الله وأعطني أجري، قال: فقلت له: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والعبيد فهو لك، - وقد نما أجره وزاد حتى صار هكذا؛ وادياً من الإبل، وآخر من البقر، وثالثاً من الغنم، وجمعاً من العبيد الأرقَّاء -، فقال لي: اتق الله ولا تسخر بي، فقلت: إني لا أسخر بك، قال: فاستاقها كلها ولم يترك منها شيئاً اللهم إن كنت تعلم أنني إنما فعلت ذلك ابتغاء ما عندك فافرج عنا ما نحن فيه، قال: ففرجت الصخرة وخرجوا يمشون!} .
ما هو الدافع الذي جعل هذا الرجل يقف على رأس أبويه وهما نائمان لا يشعران به، ولا يسقي أطفاله الصبيان الصغار، وهم يبكون من الجوع حتى برق الفجر، فيستيقظ والداه ويشربان قبل أطفاله؟ إنه لا شك شعور إيماني، الشعور بأن الله عز وجل رقيب عليه مطلع، فلا يعمل إلا ما يرى أنه أقرب له إلى الله عز وجل.
وما الذي جعل الآخر يقلع عن المعصية وقد أصبح قاب قوسين أو أدنى منها، وقد تهيأت له سبلها وأسبابها، وأصبحت هذه المرأة في متناوله، والدوافع موجودة، ومع ذلك يقوم وهو أشد ما يكون رغبة وشوقاً؟ إنه الإيمان بالله عز وجل والخوف منه.
وما الذي يدفع ذلك الرجل الثالث إلى أن يحتفظ بمال رجل أجنبي قد يعود أو لا يعود؟ بل نَمَّاه حتى أصبح أودية من الإبل والبقر والغنم والرقيق، ثم يسلمه له؟ لاشك أنه دافع الإيمان وأنه يشعر أنه يتعامل مع الله عز وجل حين يتعامل مع الناس، فالله تعالى مطلع عليه ومحاسبه على كل ما يأخذ وكل ما يدع، ولذلك كان الإمام أحمد ومن قبله أبو الدرداء - رضي الله عنه وأرضاه - كثيراً ما يتمثلون بهذه الأبيات: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل: عليَّ رقيبُ ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوبُ فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوبُ فالمؤمن يشعر بأن الله عز وجل رقيب عليه؛ حتى في حال خلوته وبعده عن أعين الناس.(261/15)
وسائل محاربة المخدرات
إننا نجد أن دول العالم اليوم وهى تتنادى لحرب المخدرات قد فشلت في ذلك فشلاً كبيراً إلى حد كبير! وبقدر ما تقدمت الوسائل في اكتشاف المخدرات تقدمت الوسائل في تهريبها أيضاً! وتفانى من يهربونها في هذا السبيل؛ حتى إنهم يبذلون مهجهم وأرواحهم من أجل تحصيل هذه المتعة، أو من أجل المكسب المادي، أو من أجل التقريب، أو غير ذلك، ونحن نجد أن في الإسلام للمسلمين إمكانية كبيرة جداً للقضاء على هذه المخدرات من خلال إثارة وإحياء التربية الوجدانية في نفوس الناس.(261/16)
استغلال مختلف المؤسسات في التوعية
الإعلام مثلاً له دور كبير في ذلك من خلال مؤسساته مِن: إذاعة، وصحافة، وتلفزة، وكتب، ووسائل مختلفة.
التعليم: من خلال المؤسسات، والمدارس، والمعاهد، وغيرها.
الصحة، رعاية الشباب، وغير ذلك من المؤسسات ذات العلاقة والارتباط بالمجتمع عموماً وبالشباب خصوصاً، لابد أن تُجَنَّد جميعُ هذه الأجهزة في هذه الحرب في إحياء الإيمان في النفوس وجعله هو الوازع الأكبر في وقاية الفرد والمجتمع من هذه المخدرات.(261/17)
الحديث عن الأضرار الدينية والصحية والاقتصادية للمخدرات
القضية الثانية: أهمية التركيز على الأضرار الدينية الناتجة عن تعاطى المخدرات، فإننا نجد مثلاً أن الخمر في الشريعة كما في الأثر: {إن الخمر هي ما خامر العقل} والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن {مَن شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة} كما في الحديث الصحيح، وقد ورد في حديث آخر له طرق كثيرة: {إن من شربها لم تقبل صلاته أربعين يوماً} أن من شربها لم تقبل، أو بخست صلاته -أي: نقصت- أربعين يوماً، والله عز وجل بيَّن في كتابة أنها إثم، وأنها رجس من عمل الشيطان، فأعظم ضرر يرتكبه الإنسان المتعاطي للمخدرات هو الوقوع في هذه المحاذير الشريعة، وقبل قليل سمعتم عقوبة من مات من جراء تعاطي هذه المخدرات، فتوعية الناس بالأضرار الدينية قضية مهمة، ويترتب أيضاً على الأضرار الدينية أن يكون هناك حديث مع متعاطي المخدرات عن أثر المخدرات في ترك الصلاة، في عقوق الوالدين، وفي عدم القيام بالواجبات تجاه الأولاد، والأطفال، والزوجات، والجيران وغير ذلك، وانسلاخ الفرد من مجتمعه، وأثر المخدرات في الأضرار الصحية، والإسلام جاء بتحريم كل ما يضر بالإنسان ضرراً محققا في صحته، قال النبي: {لا ضرر ولا ضرار} وأثر المخدرات في الناحية الاقتصادية والله عز وجل نهى عن الإسراف، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فما بالك حين يكون الإسراف في أمر محرم في الأصل؟ فتوعية الناس بالأضرار الدينية والشرعية المترتبة على تعاطى المخدرات هي من القضايا المهمة أيضاً.(261/18)
إحياء الإيمان في النفوس وربطها بخالقها
والأمر الثالث: هو العمل على إحياء الإيمان في النفوس، بحيث لا تكون هذه القضايا مجرد حملات تتعلق بالمخدرات فقط، بل تجند جميع الأجهزة والمؤسسات والجمعيات والجهود لتربية الناس تربية إسلامية تبني الإيمان في قلوبهم، وتربطهم بالله عز وجل؛ بحيث يتربى الإنسان على حب الله والرغبة فيما عنده والخوف منه، وإننا جميعاً لا نتردد ولا نشك بل إنني أقول: حتى غير المسلمين لا يترددون في أن الشخص والإنسان إذا آمن بالله عز وجل، وباليوم الآخر، وأدرك أن هناك جنةً وناراً، وعرف بعد ذلك كله أن هذا العمل محرم، أن هذا سيكون من أقوى الدوافع له على تجنبه، أو علم أن هذا واجب سيكون من أقوى الدوافع على فعله، فلابد أن تتضافر كل هذه الأجهزة في توعية الناس وإحياء الإيمان في نفوسهم.(261/19)
بيان الحكم الشرعي في المخدرات
فمثلاً: الحديث عن حكم الإسلام في هذه المخدرات والوضوح بذلك في شكل جيد، هذا من القضايا المهمة وقد يقول قائل: وهل يجهل أحد حكم المخدرات؟ فأقول: نعم، وقد دلت الإحصائيات والدراسات المتنوعة على أن عدداً غير قليل ممن يتعاطون هذه المخدرات قد يجهلون حكمها في الشريعة الإسلامية، فقد ذكر سعد المغربي في دراسة إحصائية له في مصر؛ أن الغالبية العظمى من متعاطي الحشيش يعتقدون أنه غير محرم، أو غير مكروه من ناحية الشريعة الإسلامية، وفى دراسة أخرى لـ مصطفى سويف في مصر أيضاً ذكرت هذه الإحصائية: أن اثنين وستين في المائة من متعاطي الحشيش يعتقدون أنه غير محرم ولكنه مكروه فقط! اثنان وستون في المائة منهم يعتقدون أنه مكروه فقط، واثنا عشر منهم يقولون: إن تعاطيه محرم، وستة وعشرون منهم بالمائة يقولون: إنه غير مكروه ولا محرم أيضاً، إذاً حوالي ثمانية وثمانين بالمائة من متعاطي الحشيش في إحدى الدول الإسلامية يعتقدون أن الحشيش غير محرم! وبالتأكيد أن هذه النسبة تختلف من بلد إلى آخر بحسب قوة الوعي الإسلامي، وبحسب انتشار العلم الشرعي وجهود العلماء والدعاة والمصلحين في التحذير من هذه الأخطار، فبالتأكيد مثلاً أن النسبة ستختلف كثيراً لو كانت الإحصائية في هذه البلاد.
لكن أيضاً الجهل موجود في كل مكان، وقبل أيام كان أحد الأشخاص يحدثني عن مشكلة تتعلق بتعاطي الخمر، وأن أحد الأشخاص يقول وهو يشرب الخمر: إنها ليست بحرام، وغاية ما في الأمر أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول: {من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة} فأنا أريد أن أشربها في الدنيا حتى لو لم أشربها في الآخرة؛ فالمهم أن أدخل لجنة ولو لم أشرب الخمر، يعنى: ليس هناك مشكلة، هكذا يقول!! ونحن نعلم أن الإسلام موقفه من هذه القضية واضح وصريح؛ فإن الله عز وجل صرح بأن الخمر رجس من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها، وبيَّن أن فيها إثماً كبيراً {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] فكثير من الناس إما أنهم يجهلون الحكم، أو يتجاهلون ويحاولون أن يلتمسوا المسوغات والمبررات لأنفسهم في الوقوع في هذه المعاصي، فلابد من القيام بجهود تربوية ومحاولة توعية الناس بموقف الإسلام الصريح من هذه القضايا، حتى من التدخين -فضلاً عن الخمر وغيره من المخدرات- لأن الأمور يجر بعضها إلى بعض.(261/20)
أسباب تعاطي المخدرات
دراسات عديدة ومن أجملها دراسة كتبها الدكتور عبد الرحمن مصيقر بعنوان (الشباب والمخدرات في الخليج العربي) وهى دراسة مفيدة ورائعة، ذكر أن من أسباب انتشار المخدرات وتعاطيها: الصراع والتناقض الذي يعيشه الشاب داخل المجتمع، جهة تبني، وجهة أخرى تهدم ما بنت تلك الجهة، نحن بحاجة إلى أن نربي الشباب على أن تكون اتجاهاتهم واحدة، بحيث إن كل وسيلة تؤثر في الشباب، في جرهم نحو إشباع غرائزهم بطريقة غير صحيحة -مثلاً- في إبعادهم عن معالي الأمور، وفي شغلهم بالتوافه من القضايا، في إضعاف الإيمان في نفوسهم، في تقوية دوافع المراهقة عندهم، إنها لابد أن تتوقف وتشترك جميع الأجهزة في بناء الشباب، وليس من مصلحة الأجيال أن يقرأ ويدرس -مثلاً- في المدارس عن تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية، أو تدرس المرأة مثلاً تحريم كشف وجهها، ثم يجد أن المرأة مكشوفة أمامه؛ بل ومتبرجة؛ بل وبصورة مثيرة وفاتنة في وسائل ومجالات كثيرة! فحينئذٍ يشعر الشاب بتناقض كبير بين ما يدرس ويسمع ويتعلم وبين ما يواجهه في الواقع، ويصعب على الشاب -بل حتى الكبير في كثير من الأحيان- أن يوفق بين هذا التناقض.
وهذا قد يوجد للأمة الإسلامية أجيالاًََ الله أعلم بحالها، أجيالاً مهزوزة لا تنفع في دين ولا تنفع في دنيا، فلا بد من القضاء على التناقض الموجود في المجتمعات الإسلامية، وتوحيد الاتجاه في بناء أجيال إسلامية صالحة تخدم الأمة وتحمل راية الإسلام، وهذه الأجيال هي التي سوف تقوم بالتصنيع، هي التي سوف تقوم بخدمة المجتمعات، هي التي سوف تتحمل الأعباء والمسئوليات، وهي التي سوف تقود الأمة الإسلامية إلى الحضارة، والعز، والتقدم، والنصر، والتمكين.
والحديث -كما يقولون- ذو شجون ولعل فيما ذكرت كفاية.
والحمد لله رب العالمين.
وأعتذر إليكم عن الإطالة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(261/21)
الأسئلة(261/22)
حكم مرتكب الكبيرة
السؤال
ذكرتم أن مرتكب الكبائر لا يكْفُر باتفاق العلماء أو أغلبهم، فما هو دليل ذلك؟
الجواب
ليس أغلب العلماء؛ بل كل أهل السنة والجماعة لا يُخرجون فاعل المعصية من الإسلام، ولذلك يقول الإمام الطحاوي في عقيدته: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن كانوا غير تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قال: (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه دخل الجنة} وفي حديث أبي ذر قال: {قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قال: قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قال: قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر} .
وقد أطبق وأجمع أهل السنة والجماعة على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإسلام بارتكاب هذه الكبيرة ما دام معترفاً بتحريمها.
وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(261/23)
حكم الإسلام في بعض العقاقير المذهبة للملل والنعاس
السؤال
ما حكم الإسلام في بعض العقاقير المذهبة للملل والنعاس على الرغم من أنه غير مخدر ولا مسكر؟
الجواب
هنا قاعدة عامة صرح بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر، فكل شيء يحدث السكر فهو محرم بغض النظر عن اسمه، فقد تتنوع المسميات والأسماء لكن القاعدة لا تتغير ولا تتنوع، وكذلك الأشياء التي تثبت الفتور والخمول في البدن؛ فهي محرمة أيضاً، وبناءً على هذه القاعدة فإن الإنسان يستطيع أن يحكم على أي عقار جديد بحسب ما تقتضيه هذه القاعدة، ومن الصعب أن أتكلم في هذه النقطة الخاصة التي سأل عنها السائل لأنني لا أعرف بالضبط ما هذه العقاقير؟ وما تركيبها؟ وما أثرها؟ هذا كله يحتاج إلى تثبت ومعرفة واضحة، لكن القاعدة معروفة.(261/24)
الميت بسبب التدخين
السؤال
أني أحبك في الله، أشرت في حديثك أن من قتل نفسه بالسم فإنه يتحساه في النار، هل يدخل في ذلك من مات بسبب الأمراض الناتجة عن التدخين؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني من أجله، ونسأل الله أن يجعل قلوبنا جميعاً متآلفة متحابة فيه؛ فإن المحبة في الله من أسمى وأرقى درجات الإيمان! ويكفيك أيها المسلم! فرحاً وسروراً قول الله عزوجل {وجبت محبتي في المتحابين فيَّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيَّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيَّ، ووجبت محبتي للمتباذلين فيَّ} والحديث رواه مالك في الموطأ بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، والله تعالى ذكر أن الأخلاء يوم القيامة تنقلب خلتهم إلى عدواة إلا المتقين، فينبغي أن نفرح بالتحاب في الله تعالى، ونحرص على تعميق وتدعيم راوبط المحبة فيما بيننا؛ فهي الواحة التي يستظل بها الإنسان في هذه الصحراء، صحراء الحياة الملتهبة.
أما الحديث فهل يدخل في من مات بسبب التدخين، الذي يظهر لي بادي الرأي أنه لا يدخل فيه؛ لأن موته بسبب التدخين إنما يحدث بعد فترة طويلة، والموت بالتدخين ليس أمراً مؤكداً، وإنما هو يحدث أحياناً، لكن لا شك أن المدخن له نصيب من عموم النصوص الواردة في ذلك، ويخشى عليه أن يكون واقعاً في شيء من هذا، أما نص الحديث فالذي يظهر لي بادي الرأي أنه لا يتناوله والله أعلم.(261/25)
الحدود كفارات لأهلها
السؤال
(يدور على من أقيم عليه الحد) إذا أقيم الحد الشرعي على الشخص الذي ارتكب جريمة السكر، سواء قبض عليه أو أعترف بذلك على نفسه، هل هذا الحد يكفي عن العقوبة الأخروية؟
الجواب
إذا تاب الإنسان تاب الله عليه؛ مع أن الحدود كفارات لأهلها كما ورد في الحديث، ولذلك جاء في الحديث أن: {من شرب الخمر ولم يتب منها لم يشربها يوم القيامة} فالمدار على التوبة، فإذا تاب الإنسان تاب الله عليه، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم كثير منهم وقعوا في شرب الخمر في الجاهلية، ولما أسلموا ونزل تحريمها؛ تابوا فتاب الله عليهم، فمنهم الصديقون والشهداء والصالحون ومنهم ومنهم، أما إذا أقيم على الإنسان الحد ولم يتب، يعني جلد مثلاً في الخمر ثم لم يتب، بل ظل يتعاطاها سراً، فلا شك أن هذا لا يكفي؛ فإنه إذا قلنا: إن الحد كفَّر شَرْبَتَه الأولى التي حُدَّ فيها، فإنه لا يكفر ما بعدها، وأما كون الإنسان يَشرب اليوم ويُجلد غداً، ويقول: يكفِّر عني، فالذي ذهب إليه أكثر أهل العلم، وهو قول قوي فيما أرى، وله أدلة صحيحة: أن شارب الخمر إذا شرب أربع مرات فإنه يقتل لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن شارب الخمر إذا تكرر منه شربها فإن حدَّه حينئذٍ القتل، أما كونه يشرب ويقول: أجلد فيكون هذا كفارة لي! فهذا نوع من العبث.(261/26)
المخدرات أنست الناس جريمة الخمر
وهناك إيراد، وهو: أن التحذير من المخدرات أنسى الناس جريمة الخمر، هذا الإيراد الذي ذكره الأخ يذكرني بطرفة حدثت في أحد الأماكن لما كان شخص أرادوا جلده في الخمر، فكان الناس كالعادة متجمعين حوله يشهدون الجلد، فلما جيء به كان يتلفت بشيء من عدم المبالاة ويقول: يجب أن تعلموا -أيها الناس- أنني لم أجلد في أمرٍ مُشْكِل، القضية قضية خمر فقط، لا تظنوا أني واقع في جريمة، وهو بذلك يهوِّن ويبسِّط هذا الفعل أمام الناس وهذا مشهود الآن فعلاً، ونجد أن الخمر قل العناية بالتحذير منها، مع أنها سبيل وباب إلى تعاطي المخدرات، ولذلك لا أدري ماهو السبب في عدم العناية بتحذير الناس من الخمر وحمايتهم منها؟ قد يكون من الأسباب أن الناس دائماً إذا جاء أمر، غطى على غيره -كما قيل: (فتنٌ يرقع بعضُها بعضاً) - فلما صار الناس أمام المخدرات -وهي ذات مفعول بليغ في العقول والأجساد والأموال والأعراض والأفراد والمجتمعات، وقد تستخدم من قبل قوى عالمية في التسلل إلى المجتمعات- شغلت كثيراً من الناس عن التحذير من الخمر، وقد يكون من الأسباب: كثرة وقوع الناس في الخمر! وهذا مسلك غريب؛ لأننا نجد أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما رأى كثرة وقوع الناس في الخمر ما تهاون فيها، ولا قال مثلاً: نتسامح ونصبر عنهم؛ لأن القضية ما عادت قضية واحد ولا اثنين ولا عشرة! بل أمير المؤمنين رضي الله عنه وهو الباب بين المسلمين وبين الفتن! لما رأى وقوع الناس في الخمر ضاعف الحد من أربعين وجعله ثمانين، فكان الناس يجلدون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر شارب الخمر أربعين أو نحواً من أربعين؛ بالجريد والنعال وأطراف الثياب وغير ذلك، فلما جاء عمر رضي الله عنه ورأى وقوع الناس في الخمر جلد ثمانين! فألحقه بأخف الحدود، فالواجب أنه مع كثرة هذا الشيء وانتشاره يزيد التحذير منه، وكذلك يُغني بتطبيق العقوبة على من يقعون في هذه الجريمة.(261/27)
العقاب المعنوي
السؤال
ما نوع العقوبة التي يواجه بها مدمنو ومروِّجو المخدرات؟ وهل هناك عقاب معنوي لذلك؟
الجواب
هناك في الشريعة الإسلامية باب واسع اسمه باب التعزير، وأوسع من استخدم هذا الباب هو الإمام مالك، وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده ابن القيم إلى ترجيح رأي الإمام مالك في التعزير، وقد نصوا على أن التعزير للإمام أو من يقوم مقامه، وقد يصل التعزير أحياناً إلى القتل في أمور لم يرد فيها نص، ولذلك قال بعض السلف عن المرابين: والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح، أخذاً من قول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:278-279] .
قال: فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح، فقضية التعزير باب واسع، بالإمكان استخدامه في علاج الأحداث والجرائم التي جدت أو تطورت وتغيرت، واتخذت مجرى آخر غير ما كان معهوداً عند الناس من قبل، هذا فيما يتعلق في نوعية العقوبة التي يواجه بها مدمنو ومروجو ومهربو المخدرات وغيرهم، من أصحاب الجرائم الأخرى، أما فيما يتعلق بالعذاب المعنوي، فأنا كنت أقصد بالعذاب المعنوي ما يسمى بتوبيخ الضمير، بمعنى كون الإنسان الواقع في المعصية يشعر بالألم الداخلي، وهذا موجود، ولذلك في إحصائية نشرها مجلس التعاون الخليجي في أحد كتبه - وهذه الإحصائية تحدثت عن سجن في بريدة للمخدرات - وأوردت إحصائيات معينة، وذكرت الإحصائية بأن تسعة وسبعين في المائة من متعاطي المخدرات يشعرون بعد زوال مفعولها بالندم الشديد والألم والضيق، ويؤكدون أهمية العناية بالتوعية الدينية، والإرشاد والتوجيه في إنقاذ هؤلاء المرضى مما هم فيه، وأرى أن موضوع الدوافع القلبية وتعذيب الضمير موضوع مهم يمكن الاستفادة منه إلى حد كبير؛ لأن الذي يتعذب يدل على وجود شيء من الإيمان؛ إذا أمكن إزالة الغبار عنه وتحريكه فقد ينتعش وينتصر، ومالنا نستغرب ذلك، ونحن نجد اليوم في مجتمعنا ونسمع يوماً بعد يوم عن أعداد غير قليلة من الشباب؛ ممن وقعوا ضحية هذه المخدرات؛ تاب الله عليهم بسبب موعظة سمعوها، أو آية سمعوها، أو عبرة حصلت لهم، أو ما أشبه ذلك؟! فالنفوس قريبة إذا وجدت من يخاطبها بصدق، لأن الدين من ميزته أنه يصعب استغلاله إذا ما كان حديثك عن القضية حديثاً غير جاد، أي لو أردت أن تحرك الإيمان في ضمير شخص وأنت ضعيف الإيمان ما يتقبل منك، لأن (فاقد الشيء لا يعطيه) لكن لو استطعت أن تجعل شخصاً فعلاً يتحدث بإيمان وبصدق وبحرقة وجد القبول، ولذلك قال بعض السلف لأبيه وقد رأى أن أباه واعظ كبير يؤثر في الناس ويبكيهم قال له: يا أبت، مالي أرى الناس إذا سمعوا إليك بكوا، وإذا سمعوا إلى فلان وفلان لا يتأثرون؟ قال: يا بني، لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة!، امراة يموت وحيدها فتبكي عليه بصدق وانفعال، فكل من سمع لها هشَّ وتأثَّر، لكن امرأة يموت إنسان، ولا يوجد في المجتمع من يبكي عليه، فيستأحرون امرأة حتى تبكي مقابل أجر معلوم، فالناس يضحكون منها، فلا بد من إحياء الوازع الديني في قلوب الناس، كذلك لا بد من العقوبة -عقوبة بدنية بالضرب والحبس والغرامات وغيرها- وتوجد عقوبات -كما أشار الأخ- يمكن أن نقول أنها عقوبات نفسية، فأحياناً وقوف الإنسان أمام الناس أو التشهير به أو ما أشبه ذلك، يكون له وقع كبير في نفسه، وقد يردعه ويجعله على الأقل يستخفي بمعصيته أكثر مما يردعه الضرب والجلد.(261/28)
من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر
السؤال
هل تسقط توبة الإنسان الحدَّ؟ أم هل لا تتم توبته إلا بإقامة الحد الشرعي عليه إذا ما ارتكب عملاً يوجب عليه الحد الشرعي؟
الجواب
إذا تاب الإنسان إلى الله عز وجل من جريمة ارتكبها، ولم يكن يترتب عليها حقوق للناس، فلعل الأولى به أن يستر على نفسه ويتوب فيتوب الله عز وجل عليه، ولذلك جاء في الحديث: {هلاَّ تركتموه، لعله يرجع فيتوب، فيتوب الله عليه} وفي الحديث الآخر: {مَن ارتكب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله} وقد سمعتم ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ماعز، ومع الغامدية في ترديدهم بعد أن اعترفوا لعلَّهم ألاَّ يأتوا إليه مرة أخرى ما داموا قد تابوا إلى الله عز وجل، أما من يعرف عنهم الجرأة في المعاصي والمنكرات، والإقدام عليها ومحاولة نشرها في المجتمع فأرى وجوب فضحهم وعدم سترهم - خلافاً لأولئك الناس الذين وقعت منهم زلة ثم تابوا منها، فسترهم حينئذٍ أولى -.(261/29)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عَرَّف الشيخ حفظه الله تعالى المعروف والمنكر بداية، ثم بين قاعدتين مهمتين في معرفة المعروف والمنكر، ثم عرج على حتمية الأمر والنهي وانقسام الناس فيما يأمرون به وينهون عنه، ثم أكد على مسألة مهمة، وهي أن نجاة المجتمعات لا تكون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم عرج على اختلاف الأمر والاستتار بالمعاصي والمجاهرة بها، وختم ببيان الحكم الشرعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومتى يكون واجباً عينياً.(262/1)
تعريف المعروف والمنكر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:- أيها الإخوة: إن الموضوع الذي نتحدث عنه في هذه الليلة، هو موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأول قضية ينبغي أن يعرفها الجميع هي: ما هو المعروف الذي يجب الأمر به؟ وما هو المنكر الذي يجب النهي عنه؟ فأما المعروف: فهو مشتق في لغة العرب من مادة عرف، وهو كما يقول العلماء: اسم جامع لكل أمر عرف بالشرع والعقل حُسْنه، من طاعة الله عز وجل والإحسان إلى عباده، هذا هو المعروف، وإنما سمي معروفاً؛ لأن نفوس المؤمنين المستقيمين تعرفه، فتسكن إليه وتطمئن وتأنس به.
أما المنكر: فهو كل أمر عرف بالعقل والشرع قبحه، من معصية الله عز وجل، أو الإساءة إلى عباده، وإنما سمي منكراً لأن نفوس المؤمنين تنكره وتنبو عنه، وتستوحش منه.
هذا هو المنكر، ومن خلال تعريف المعروف والمنكر، يتضح لنا أمران مهمان:(262/2)
الشرع هو مصدر تحديد المعروف والمنكر
الأمر الأول: أن الأصل في تحديد المعروف والمنكر، هو الشرع، فما جاء الشرع بالأمر به فهو معروف، وما جاء الشرع بالنهي عنه فهو منكر، وليس المرجع في تحديد المعروف والمنكر إلى عرف الناس، وعادات الناس وتقاليد المجتمع، فإن أعراف الناس تختلف من وقت إلى آخر، فما كان معروفاً ومشتهراً ومقبولاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، قد يصبح منكراً في بعض المجتمعات المنحرفة؛ لأن الناس لم يعتادوه، فيستوحشون منه ويستغربونه، وحتى في بعض المجتمعات التي يوجد فيها تدين وصلاح، قد تخفى عليهم كثير من السنن والمستحبات، بل وكثير من الواجبات فيستغربونها ويستنكرونها.
فالناس يستغربون اليوم -مثلاً- تقصير الثوب، مع أن الثابت بسنة النبي صلى الله عليه وسلم تقصير الثياب إلى أسفل من الركبة بأربعة أصابع، فإن لم يمكن بأربعة أصابع، فإلى نصف الساق، فإن لم يمكن فإلى ما فوق الكعبين، ولا حظ للكعبين في الإزار، ومع أن هذا أمر ثابت بالسنة فإن كثيراً من المجتمعات التي شاع فيها إسبال الثياب -مثلاً- قد تستغرب تقصير الثوب، ورفعه إلى موضعه المشروع في السنة، لا تستغربه؛ لأنه أمر لم يرد في الشرع، وإنما تستغربه؛ لأنها لم تتعود عليه؛ لأنها تجهله، ومن جهل شيئاً أنكره وعاداه.
وفي كثير من المجتمعات التي درجت النساء فيها على التبرج والسفور، وإظهار المرأة لمفاتنها ومحاسنها، يستغربون ظهور المرأة المحجبة أشد الاستغراب، ومنهم من يرمي المرأة المسلمة المتحجبة بالحجاب الشرعي بأسوأ الألقاب، فيقولون -كما قد تكونون سمعتم- إن هذه المرأة تمشي وكأنها خيمة، يسخرون بها لما يرون عليها من اللباس، مع أن هذا اللباس، لباس مشروع، وثابت بالقرآن والسنة؛ ولكن لأنهم لم يتعودوا عليه جهلوه وأنكروه، فصار في عرفهم منكراً، مع أنه في عرف الشارع معروف.
ومنهم من يقول: إن هذه المرأة قبيحة فتستر دمامتها بهذه الثياب.
إذاً فالمرجع في تحديد المعروف والمنكر إلى ماذا؟ المرجع في تحديد المعروف والمنكر إلى الشرع، إلى القرآن والسنة، لا إلى عرف الناس فإن أعراف الناس تختلف، وقد يصبح المعروف عندهم منكراً ويصبح المنكر عندهم معروفاً؛ لجهلهم بالقرآن والسنة وبعدهم عن الالتزام الصحيح بمدلولاتهما، هذه هي المسألة الأولى التي ينبغي أن نتأملها من خلال تعريفنا للمعروف وللمنكر، حيث إن المعروف ما عرف بالشرع والعقل حُسْنه، مما يحبه الله ويرضاه من طاعة الله والإحسان إلى عباده، أما المنكر فهو ضده مما عرف بالشرع والعقل قبحه من معصية الله والإساءة إلى عباده.(262/3)
ما رآه المسلمون معروفاً أو منكراً فهو كذلك
المسألة الثانية: هي أن الأصل في المجتمعات الإسلامية، الالتزام بالمعروف، بطاعة الله والتباعد عن المنكر، عن معصية الله وعن الإساءة إلى عباده، فالمسلمون ما صاروا مسلمين؛ إلا لأنهم وحدوا الله عز وجل وأفردوه بالعبادة، ووحدوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالطاعة والإتباع والرسالة، فهم يؤمنون بالله عز وجل وحده، ويؤمنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن طاعة الأنبياء غيره فيما نسخ بالإسلام لا تجوز، فكيف بطاعة غير الأنبياء من البشر من أهل القوانين، ومن أهل النظريات والأقوال المخالفة للكتاب والسنة؛ فلذلك سمي المسلمون مسلمين.
فالأصل أن المجتمع المسلم ملتزم بطاعة الله، متباعد عن معصية الله؛ ولذلك فما عرفه المسلمون الحقيقيون فهو معروف، وما أنكره المسلمون الحقيقيون فهو منكر؛ ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح]] وهو يعني بالمسلمين أهل الصدق والاتباع، من الذين جمعوا بين العلم والتجرد والإخلاص، ولذلك فما عمله الصحابة رضي الله عنهم وأجمعوا عليه، فهو حجة على المسلمين إلى قيام الساعة، بإجماع العلماء، فإجماع الصحابة، حجة بين الله وبين عباده بإجماع أهل العلم؛ لأن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين العلم الصحيح المتلقى من الكتاب والسنة، وجمعوا بين الإخلاص والتجرد، فلم يتلوثوا بالأهواء والآراء المخالفة، فكانوا فيما أجمعوا عليه حجة بين الله وبين عباده بإجماع المسلمين.
وكذلك ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى حجية عمل أهل المدينة، فقال: [[إن عمل أهل المدينة في القرن الأول حجة]] ؛ ذلك لأن أهل المدينة كانوا في ذلك القرن، متبعين لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، بخلاف بقية الأمصار التي وجد فيها من الآراء، ومن تأثيرات الأمراء وأوامرهم ما قد يخالف السنة.
إذاً: الأصل أن المسلمين الحقيقيين يعرفون المعروف وينكرون المنكر، فما رأوه معروفاً، فهو معروف مما تشهد له دلائل الكتاب والسنة، وما رأوه منكراً، فهو منكر مما تشهد دلائل الكتاب والسنة على إنكاره.(262/4)
حتمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخطر المسائل وأعظمها، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا بهذا الأصل، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وقال: "إن كل إنسان مهما كان لا بد له، إما من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإما من ضد ذلك من الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وإما بما يخالف ذلك بعض المخالفة، من الأمر بالمعروف وببعض المنكر، أو من النهي عن المنكر ونهي عن بعض المعروف".
إذاً فكل إنسان لا بد له من أمر ونهي حتى ولو كان بمفرده؛ فإنه لا بد أن يأمر نفسه وينهاها، فإما أن يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، وإما يأمرها بالمنكر وينهاها عن المعروف، وإما أن يأمرها وينهاها بما فيه شوب واختلاط، من المعروف ومن المنكر.(262/5)
صلاح المجتمعات ونجاتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قد بين الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أن صلاح المجتمعات هو بقيامهم بهذا الركن الركين، وبهذا الأصل الأصيل، وأن فسادها هو بإخلالها بهذا الأمر، فقال الله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] فهذا هو سبب لعنهم أنهم عصوا واعتدوا وتركوا التناهي عن المنكر، وتركوا التآمر بالمعروف.
وهذا الأمر الذي حكاه الله عز وجل لنا عن خبر بني إسرائيل، إنما حكاه لنا لنعتبر به معشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فنحذر أن يصيبنا ما أصابهم، ولذلك يقول حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: [[نعمة الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لهم المر ولكم الحلو]] أي: إن سلكتم ما سلكوا أصابكم ما أصابهم، حَذْوَا القُذَّةِ بالقُذَّةِ، وفي الحديث الصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال: [[يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب} ]] وهذا الحديث رواه أصحاب السنن، والإمام أحمد وغيرهم، وروي موقوفاً على أبي بكر رضي الله عنه ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجح الأئمة كـ الدارقطني وغيره، ورجحوا الموقوف على أبي بكر.
وسواء كان الحديث موقوفاً عليه أو مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن دلائل القرآن والسنة تشهد لمعناه، ولعله مما لا يقال بالرأي، فهو بكل حال حديث عظيم معناه صحيح، {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب} فإن المنكرات إذا فشت في المجتمع، وانتشرت ولم يغيرها الناس، صارت عرفاً سائداً، يستحي المصلحون من إنكاره وتغييره وينشأ عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، حتى ربما دَاخَلَ كثيراً من الناس اليأس من إصلاحه، فتركوه وبدءوا في تغيير منكرات أخرى، وهذا مدعاة إلى فشو المنكرات وانتشارها، وإلى خمول الأمور المعروفة، واستحياء الناس من إظهارها، ولذلك بوب الإمام مالك رحمه الله في موطئه، على نحو هذا الحديث، بقوله: (باب عذاب العامة بعمل الخاصة) وروى فيه أثراً عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: كانوا يقولون، أي السلف من الصحابة والتابعين الذين تلقى عنهم عمر بن عبد العزيز،كانوا يقولون: [[إن المعصية إذا عملت سراً لم تضر إلا صاحبها، فإذا عملت جهراً ضرت الناس كلهم]] أو نحواً مما قال رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه.(262/6)
وجود المنكرات المستترة في المجتمع أمر طبيعي
إن وجود المنكرات مستترة مستخفية أمر لا بد منه، ولذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أزهى العهود، وأكثرها التزاماً بالقرآن والسنة، وأبعدها عما لا يرضي الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجد من الناس من وقع في المعصية، بل وجد المنافقون الذين لم يكتفوا بفعل المعصية فحسب، بل تعدوا ذلك إلى أن أصبحوا يتناهون عن المعروف، ويتآمرون بالمنكر -عياذاً بالله- كما حكى الله عز وجل من خبرهم في قوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67] .
وجد هؤلاء ووجدت المعاصي حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت حالات فردية مستترة خفية، وكان صاحب المعصية يستحيي من إظهارها، ولم يعرف أن رجلاً كان يشرب الخمر والعياذ بالله في الشارع، أو يزني في عرض الطريق، حاشى ذلك المجتمع النظيف من مثل هذه الأعمال!! وإنما كان الرجل يعمل المعصية سراً، فيأتي للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: يا رسول الله زنيت فطهرني، فيعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه، فيأتيه من الشق الآخر، فيقول: يا رسول زنيت فطهرني، يفعل ذلك أربع مرات، وهذا دليل على قوة الإيمان عنده، حتى وهو يعصي، فحتى العصاة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا نوعاً آخر غير العصاة في الأزمنة الأخرى، الذين يجاهرون بالمعاصي ويتبجحون بها، وينكرون على من يخالفهم أو ينكر عليهم.(262/7)
الخطر في التظاهر بالمعصية
إذاً: وجود المعصية، بحد ذاته وفي حالات قليلة مستترة مستخفية أمر ليس بالغريب، ولكن الأمر الغريب أن يتظاهر أصحاب المعاصي بمنكراتهم، ويعلنوها على الملأ، بل ويحامون دونها! فلا يوجد من ينكر عليهم، أو يأمرهم أو ينهاهم، فإذا وصلت المجتمعات إلى هذا الحد، فقد تلوثت أجواؤها وصارت بيئات موبوءة، إذا وجد فيها الإنسان الصالح صار من الصعب عليه أن يستقيم على الحق، لأنه كما يقولون: يسبح ضد التيار.
ولذلك تجدون في مجتمعاتنا اليوم كثيراً من الشباب الذين هداهم الله فاستقاموا على الطريق، يأتي إليك أحدهم ويقول: إني أحاول الصلاح والاستقامة، فأجد داخل بيتي من المنكرات والمعاصي ما يحول بيني وبين الاستقامة، وما يدعوني إلى الرذيلة والمعصية، وأجد من أبي أو من أمي المعارضة -أحياناً- لكثير من السنن؛ لأنهم لا يعرفونها، فوصول المجتمعات إلى هذا الحد هو أمر خطير وهو مؤذن بخرابها وانحرافها إلى أبعد حد، إلا أن يأذن الله بوجود أولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض، كما قال الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116] فأولو البقية الذين هم الطائفة المنصورة المبشر بها، هم الذين يقومون بالنهي عن الفساد في الأرض، بالتعليم وبالعمل وبما يستطيعون من الوسائل الممكنة، وهم بإذن الله العاصم للمجتمعات من الانحطاط والزوال والفناء.(262/8)
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الإخوة: يتساءل كثير من الناس عن حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأقول: أجمع المسلمون قاطبة، أولهم عن آخرهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ثم اختلفوا في نوع هذا الواجب، هل هو وجوب عيني، أو وجوب كفائي؟ فذهب أكثر العلماء إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وجوباً كفائياً، إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط عن الباقين، وصار في حقهم سنة، وهذا هو الرأي الصحيح؛ لقوله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] فقال: (ولتكن منكم أمة) فإذا وجدت هذه الأمة سقط الوجوب عن باقي الأمة وأصبح سنة.
القول الثاني: وهو رأي لـ ابن حزم رحمه الله أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وجوباً عينياً على كل مسلم، واستدل بالحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى عليه وسلم قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} ومما لا شك فيه، أن التغيير بالقلب واجب وجوباً عينياً على كل مسلم بلا خلاف، وإنما الكلام في التغيير باليد وباللسان، ولا شك أن ما ذهب إليه ابن حزم قول مرجوح للدليل الذي ذكرناه، ولرأي جمهور العلماء أنه واجب وجوباً كفائياً.(262/9)
متى يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً عينياً؟
ولكن ثمة حالات يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها وجوباً عينياً على الشخص بذاته، ومن هذه الحالات:- أولاً: إذا لم يعلم بالمنكر غيره، فإذا افترض أنك اطلعت على منكر لم يطلع عليه غيرك من الناس، وجب عليك التغيير حينئذٍ بقدر ما تستطيع: بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإذا لم تستطع تغيير المنكر بيدك، فعليك أن تغير بلسانك، وأن تبلغ أهل العلم والمسئولين عن وجود هذا المنكر حتى يقوموا بتغييره.
الحالة الثانية: إذا لم يستطع تغيير المنكر إلا أشخاص معدودون، لا تقوم الكفاية إلا بهم، وذلك كما إذا وجد منكر عند الكبراء، من مسئولين أو تجار أو وجهاء أو غيرهم، مما يعجز عامة الناس عن التغيير والإنكار عليهم، فيصبح الأمر والنهي حينئذٍ على المستطيع من العلماء وطلاب العلم وأصحاب الوجاهة أمراً عينياً، وجوباً عينياً.
الحالة الثالثة: أنه يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً عينياً على من استرعاهم الله عز وجل على رعية، كالأمراء ورؤساء الدوائر الحكومية، فإنه يجب عليهم تغيير المنكرات التي تقع تحت سلطتهم وجوباً عينياً.(262/10)
ملاحظة في تصرف بعض الآباء من أبنائهم
وكذلك الأب يجب عليه وجوباً عينياً أن يغير المنكرات الموجودة في بيته، وبذلك تعرف مدى الضلال والانحراف الذي يقع فيه كثير من الآباء حين يجلبون وسائل الفساد والانحلال إلى بيوتهم، ويقولون: إننا لا نستطيع إلا ذلك، فهم لم يكتفوا بترك الأمر بالمعروف، بل أضافوا إلى ذلك تيسير المنكر لمن استرعاهم الله عليهم، وهذا من الخيانة، وفي صحيح مسلم: {أنه ما من عبد يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة} .(262/11)
طريقة الإنكار
أيها الإخوة: إن الحديث عن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطول، ولا أحب أن أطيل عليكم أكثر من ذلك، فأدعوكم ونفسي في ختام هذه الكلمة إلى أن نكون إيجابيين في تغيير المنكرات وفي الأمر بالمعروف، وقد فشت في مجتمعاتنا اليوم منكرات كثيرة، فأنت إذا مشيت في السوق أو دخلت البقالة، أو ركبت الطائرة، بل وإذا دخلت المسجد أحياناً، تجد منكرات على بعض الأشخاص كثيرة، وكثير من الناس يتذمرون ويتكلمون بينهم وبين أنفسهم، ويقولون: ماذا نفعل؟ فأقول: لا أقل من الكلمة الطيبة، إذا دخلت البقالة -مثلاً- فوجدت أعداداً كبيرة من المجلات فيها من الصور ما يندى له الجبين، التي تؤثر بالانحراف على الشباب وعلى الفتيات، فلا تخرج وأنت مقطب الجبين فقط، بل تكلم معه بالكلام الطيب اللين المحبب إلى النفس، وقل له: يا أخي أنت مسلم، لا ترضى لنفسك بهذا الأمر، وذكّره بالله وباليوم الآخر، وتحدث معه فإن استجاب لك فبها، وإن لم يستجب فقد برئت ذمتك، وبعد يوم أو يومين يدخل شخص آخر، ويقول مثل ما قلت، فلا يزال الطَّرْق بهذا الإنسان حتى يغيره، وقد قيل:- أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا وهذا مجرد مثال أقتصر عليه لضيق المقام، وأسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، المتحابين فيه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(262/12)
الأسئلة(262/13)
التعامل مع جيران لا يصلون
السؤال يقول: إن له جيراناً لا يشهدون الصلاة، ونصحتهم أكثر من مرة ويردون برد جميل، ولكنهم مستمرون على التخلف عن المسجد، وقد أخبرت عنهم الهيئة، فهل تبرأ الذمة منهم، علماً أني هجرتهم لله، لا أزورهم في شيء، أرجو توجيهي؟
الجواب
باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد سمعنا سؤال السائل الذي يقول فيه: إن له جيراناً وإنهم لا يحضرون الصلاة في المسجد، وأنه نصحهم مراراً ويردون رداً جميلاً ولكنهم لم يستجيبوا بعد وقد هجرهم، فهل يلحقه شيء من الإثم، بسبب هؤلاء الجيران؟ فالجواب: ينبغي لك يا أخي أن لا تيئس ما دام هؤلاء الجيران الذين ذكرتهم، يردون عليك رداً جميلاً، ينبغي لك أن تَتَخَوَّلَهَم بالموعظة والنصيحة، وأن تخوفهم بالله سبحانه وتعالى، وتحذرهم من عملهم هذا وتستعين عليهم أيضاً بالإخوة الناصحين الذين يدعونهم بالحكمة ويجادلونهم بالتي هي أحسن، ويكرروا عليهم ذلك.
وإذا لم يفد هذا ينبغي لك أن تقول لهم: إنني لا أصبر على هذا، فإنني سأرفع أمركم إلى ولاة الأمر، حتى تبرأ ذمتي منكم، فإذا لم يفد ذلك ينبغي لك، أن ترفع أمرهم إلى ولاة الأمر إلى أهل الحسبة، حتى يدعونهم إلى هذا الأمر، وإلى حضور الصلاة في جماعة المسلمين، ثم إذا رفعت أيضاً فيهم ينبغي لك أن لا تيئس منهم ولا تقنط، فعليك أن تكرر نصحهم وأن تدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فإنك إذا تركتهم ويئست منهم، تسلط عليهم الشيطان، وربما استشرى الداء وصعب العلاج، ولكن إذا كنت دائماً تنصحهم، وتخوفهم وتحذرهم، وتدعو الناس إلى نصيحتهم، وتدعوهم إلى حضور مجالس العلم، ومجالس الموعظة، فإن ذلك له أثره، ولعل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بموعظتك، ومتى خلصت النية وصح القصد، فإن الله سبحانه وتعالى سيوفقك إلى ما تريد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(262/14)
التعامل مع الكفار
السؤال
نحن أصحاب المحلات التجارية وقد نضطر في كثير من الأحيان أن نضحك مع الكفار ونمازحهم، بل قد نشكرهم، فهل في هذا محذور؟
الجواب
الإسلام وضع حواجز كبيرة بين المسلم وغير المسلم، فالمسلمون أمة واحدة، محبتهم في الله وأخوتهم فيه، يتناصرون فيما بينهم، ويتناصحون، وتتكافأ دماؤهم، ويسعى في ذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وكما أخبر الله عز جل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] أما غير المسلمين، من سائر الملل من اليهود، أو النصارى، أو الكفار والمشركين الوثنيين، أو المنافقين أو غيرهم، فهم أمة أخرى ليس بينهم وبين المسلمين أي وشيجة، أو رابطة أو علاقة، إلا وجوب دعوتهم إلى الله عز وجل، وإقامة الحجة عليهم، بالقرآن والسنة، فإذا رأيت امرأً كافراً غير مسلم، فيجب عليك أول ما يجب أن تفكر في دعوته إلى الله عز وجل بأي طريق أمكن ذلك، والوسائل القولية والفعلية كثيرة ومعروفة، منها ما ورد في قوله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] وتبين له بالخُلق وبالقول: أن الإسلام هو الدين الصحيح، وأن ما هو عليه كفر بالله عز وجل، وأن مصيره إن مات على ما هو عليه، هو النار، فإن لم يستجب لك قط، ورفض الدين الذي تدعوه إليه، فعليك حينئذٍ أن تتبرأ منه؛ لأن البراءة من المشركين هي أصل من أصول العقيدة، فالحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله، هي من أصول الدين، وإنما تنال ولاية الله عز وجل بذلك، فمن أحب الكافرين أو والاهم أو شد على أعضادهم أو ناصرهم، فإنه يخشى أن يكون مثلهم، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وفي سنن أبي داود عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله} والله أعلم.(262/15)
أفحكم الجاهلية يبغون؟!
بدأ الشيخ حفظه الله تعالى موضوعه هذا ببيان شمولية الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ورد على التوهم بوجود حوادث لم تذكر في الشريعة، وذكر قواعد مهمة في هذا الموضوع، ثم بين مواقف الناس من الشريعة، وتلاها ببعض مظاهر الشرك، وأنه لا يقتصر على عبادة الأصنام كما قد يظن البعض، وبعد ذلك ذكر طائفة من الآيات القرآنية الكريمة حول موضوع تحكيم الشريعة الإسلامية شارحاً إياها، مبيناً بعض أسباب النزول لها؛ ومستخرجاً أوجه الدلالة منها.(263/1)
شمول الشريعة لأفعال المكلفين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء، وفصّل فيه كل شيء تفصيلاً، فما من فعل من أفعال المكلفين أو أمرٍ يُلِمُّ بهم إلا ولله تعالى فيه حكم، إما أمرٌ أو نهي أو إباحة، علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
وكما أن كل ما يقع في الكون من الأقدار والأحداث فبإذن الله ومشيئته، فلا يقع إلا ما شاءه الله وأراده وقدره وقضاه؛ فكذلك كل ما يقع للمكلف من أمر فإنه لا يَنْفَكُّ عن شرع الله تبارك وتعالى، ولا بد لله فيه من حكمٍ ينبغي للمكلف علمه واتباعه.
هذه القضية وهي قضية شمول الشريعة لكل أفعال المكلفين من القضايا الأساسية المهمة التي يجب أن نفقهها ونعلمها ونعيها حق وعيها.(263/2)
شمول الشريعة لكل الأحكام مع عدم تناهي الوقائع
وقد يتساءل بعضهم فيقولون: إن نصوص الشرع متناهية محدودة، أما الحوادث والوقائع فهي كثيرة ومتجددة وغير متناهية، فكيف يمكن لهذه النصوص المحدودة أن تُحيطَ بهذه الأحداث والوقائع المتجددة على مدار العصور غير المتناهية؟ والجواب على هذا الاستشكال يكون من ثلاثة أوجه:(263/3)
اندراج هذه الحوادث المتجددة تحت أصول سابقة بجامعٍ بينها
الوجه الأول: أن نقول: إن هذه الحوادث والوقائع الفردية المتجددة فيما يراه الناس هي في الحقيقة فروع عن أصولٍ سابقةٍ ثابتةٍ، ويمكن ردها إلى تلك الأصول بحيث لا تصبح متجددة والحالة هذه، فمثلاً: لمّا ننظر إلى أنواع المسكرات التي جَدَّت في هذا العصر نجدها كثيرة جداً، ونجد أن الصحف والكتب المتخصصة تطالعنا في كل يوم بألوان جديدة من المخدرات لم يكن الناس يعلمونها من قبل، فهذه المسكرات والمخدرات التي جدَّت -فيما يراه الناس- نقول وإن كانت هذه الأفراد منها جديدة في اسمها أو في طريقة صنعها أو في تناولها أو في غير ذلك؛ إلا أننا نستطيع أن نقول: إنها فروع للمسكرات التي هي قديمة في الأصل، فهي لا تخرج عن كونها مسكرات، كما كان الناس يعرفون هذه المسكرات في الأزمان الماضية.
هذا هو الوجه الأول أن نقول: إن هذه الأفراد التي يرى الناس أنها جديدة هي في الحقيقة ليست جديدة في أصلها، بل يمكن إرجاعها إلى أصولها التي تتفرع عنها.(263/4)
كثرة القواعد العامة
الوجه الثاني: أن نقول: إن الشريعة الإسلامية جاءت بقواعد عامة وقضايا كلية، يدخل فيها أنواعٌ وأفراد كثيرة، وتدل دلالة طردية كما تدل دلالة عكسية، والمثال يوضح هذا فمثلاً: الحديث الذي رواه البخاري، ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وفي رواية: مسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} هذا الحديث جاء بقاعدة عامة وقضية كلية تشمل أفراداً وأنواعاً لا تتناهى من البدع والمحدثات، فتدخل فيها أنواع البدع القولية والفعلية مما أحدثه الناس على غير شرع الله، وقصدوا فيه التعبد والتقرب إلى الله جل وعلا بفعله، كما تدخل فيه أفراد البدع القولية والفعلية مثل دعاء الله سبحانه وتعالى وذكره، مثل ذكر الله بالاسم المفرد أو بالضمير، كما يفعل الصوفية حين يذكرون الله فيقولون: الله الله، أو يكتفون بالضمير فيقولون: هو هو، فنقول هذه الصورة من الذكر داخلة تحت عموم الحديث الذي يقول: {مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} ، وإن لم يأت نصٌ نبوي وقرآنيٌ بتحريم الذكر بهذه الصيغة، فإننا نقول: إن هذا الحديث العام دل على تحريمها بعمومه، ولا نحتاج مع ذلك إلى نص خاص في هذه القضية بعينها.
إذاً، دل هذا الحديث بعمومه على منع البدع والمحدثات القولية والفعلية والاعتقادية، ودل على تحريم جميع أفراد هذه البدع، ودلالته على هذه الأشياء هي دلالة طردية؛ لأن هذا هو المعنى المباشر للحديث، ولكن الحديث أيضاً يدل دلالة عكسية على أن العمل المقبول هو ما شرعه الله عز وجل؛ وجاء وِفْقَ القرآن والسنة بعد انضمام الإخلاص والنية الصالحة إلى ذلك.
فما دام كل عمل ليس عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو رد، إذاً فالعمل الذي يقبل هو ما كان عليه أمر الله وأمر رسوله، وهذه القضية التي فهمناها من الحديث فهماً عكسياً -كما قلت من مفهوم العكس- جاءت نصوص كثيرة تدل عليها دلالة طردية صحيحة، لكنني أردت فقط أن أبين ما معنى الدلالة الطردية والدلالة العكسية.
إذاً، فالوجه الثاني الذي يبين شمول الشريعة وكمالها أن نقول: إن الشريعة جاءت بقواعد كلية وقضايا عامة تدخل تحتها أنواع وأفراد كثيرة.(263/5)
تعدد المصادر المعتمدة للتشريع
الوجه الثالث: أن النص الشرعي أحال على مصادر للتشريع كثيرة متجددة، فكما أن الإنسان يأخذ من القرآن والسنة دليلاً شرعياً، فإن القرآن والسنة أيضاً يدلان على أن الإجماع دليلٌ شرعي؛ فما أجمع المسلمون على وجوبه فهو واجب، وما أجمعوا على منعه فهو ممنوع، وما أجمعوا على استحسانه فهو حسن، وما أجمعوا على كراهيته واستقباحه فهو قبيح ومكروه وهكذا؛ فالإجماع من الأدلة الشرعية المتجددة التي يمكن أن تقع في أي عصر، وإن كان بعض العلماء حصروا الإجماع في إجماع الصحابة أو في إجماع السلف رضوان الله تعالى عليهم.
وأحال النص الشرعي أيضاً على القياس، وإلحاق ما ليس بمعلوم بما هو معلوم إذا اتفقت العلة.
وكذلك من المصادر الشرعية: المصلحة المرسلة، واستصحاب الحال وغير ذلك من المصادر الشرعية التي دل النص على اعتبارها.
إذاً فالوجه الثالث الدال على شمول الشريعة وكمالها وأنه لا تخلو حادثة من الحوادث المتعلقة بالمكلفين من حكم للشريعة فيها: أن النص الشرعي أحال على مصادر تشريعية ثَرَّة متجددة كالقياس والإجماع والاستصحاب والمصلحة المرسلة وغيرها، وهذه القضية المهمة تحدث عنها عدد كبير من علماء الإسلام، وخاصة علماء الأصول، ومن أجمل ما كتب فيها ما كتبه الشيخ الإمام/ ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه: (إعلام الموقعين عن رب العالمين) في الجزء الأول حيث تكلم عن هذه المسألة، وبيَّن المذاهب فيها ووجه الحق.(263/6)
مواقف الناس من الشريعة
إذا علمنا جميعاً أن لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل مسالةٍ أمراً أو نهياً أو إباحة؛ فإننا نريد أن نعلم ما هي مواقف الناس من هذا الشرع الكامل الذي لا يخرج عنه شيء، وما هو موقفهم من هذه الشريعة المُحْكَمة.
إن الناس انقسموا إزاء موقفهم من هذا الشرع إلى قسمين لا ثالث لهما:(263/7)
الرافضون للشريعة
الموقف الثاني: وهو موقف الرفض لهذه الشريعة والإباء والاستكبار عنها، وهو أولاًَ: شعور وعقد بالقلب، يدل عليه في نظر الناس فعلٌ أو قولٌ يُنبئ ويعبِّر عن هذا الشعور الموجود في القلب أيضاً, فمثلاً المعصية التي مثلت لكم بها قبل قليل، والتي يفعلها الإنسان المسلم، فتكون معصية يثوب ويتوب منها، قد يفعلها الإنسان بطريقة أخرى، تدل على خلو قلبه من الإيمان بالكلية، وأنه قد استحل هذه المعصية استحلالاً تاماً، ولنضرب مثلاً على ذلك: قد يقع المسلم في الزنا فحال ما يواقِع هذه المعصية، وتنتهي هذه اللذائذ العاجلة، يبدأ الهمُّ والحزن في قلبه، ويبدأ التوبيخ في ضميره يقلقه ويقض مضجعه ليل نهار، فيستغفر الله ويتوب من فعله ولا يواقعه مرة أخرى، وهكذا شأن المؤمن، لكن قد يقع إنسان آخر يدعي الإسلام في هذه المعصية أيضاً، ولكن يكون موقفه من المعصية بعد وقوعه فيها موقفاً آخر مختلفاً عن موقف ذلك المسلم، فتجد هذا المواقع للزنى يفتخر بفعلته في المجالس ويعتبر هذا الفعل نوعاً من كمال الرجولة والفتوة، وربما اعتبر مَن لا يقع في مثل فعله قاصر الرجولة، بل وتجد مثل هذا الإنسان المنسلخ عن الدين بالكلية يسجل أفعاله في قصائد فينشرها بين الناس، بل وربما سجل قصائده في أشرطة ينشرها بين المسلمين، ويفسد بها أجيالهم، ولا يتوب منها، ولا يشعر بجُرمه أو قبح فعله!! فمثل هذا هل تعتبرونه مؤمناً بقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ؟! هل تعتبرون مثل هذا الإنسان الذي يظهر من حاله الاستخفاف والاستحلال وعدم المبالاة بقول الله وقول رسوله؛ هل تعتبرونه مؤمناً بقوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) ؟! أقول: لا لو كان مؤمناً لما افتخر بفعلته، ولما اعتبرها من خصال الرجولة والفتوة والكمال، ولما وصم من لم يفعلها بنقص الرجولة والقوة، ولما كتب القصائد التي يتغنى فيها بأفعال اللواطة والزنا، ويمدح فاعليها ويتغزل بأهلها! ولما سجل هذه القصائد على أشرطة، ووزعها بين الناس، فأفعاله كلها تدل على أن وراء هذا الفعل الذي هو الزنا قلباً خرباً غير مؤمن بالله ولا رسوله ولا منقادٍ لأمر الله ورسوله! وها هنا يظهر لك جلياً أن الموقف الثاني: وهو موقف المتنكر لشرع الله الرافض لحكمه المستكبر على الانقياد، هذا الموقف عقدٌ بالقلب، يترجم أيضاً في صورة أعمال، وهذه الأعمال قد تكون كفراً لا شك فيه كالسجود لصنم، أو سب الله ورسوله، أو إهانة القرآن، وقد تكون في الأصل ليست كفراً، ولكنها صارت كفراً لما لابسها من القرائن الدالة على الاستخفاف والاستحلال وعدم المبالاة وعدم الإيمان بأصل الحكم.
ومثل هذا الإنسان لا نقول عنه: إنه فاسق أو عاصٍ، بل نقول: إنه مشرك؛ لأن القضية تعدت المعصية، وأصبحت نوعاً من التدخل في الحكم والتشريع، فهو قد عَدَلَ نفسه بالله عز وجل؛ فالله يقول عن الزنا: ((ِ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وهو يقول غير ذلك، الله يحرم وهو يحل! إذاً هو قد جعل نفسه نِدّاً لله عز وجل، أو جعل غيره ممن أطاعه في هذا التحليل وفي هذا العمل وفي هذا المدح - جعل هذا الغير نِدّاً لله عز وجل، وهذا هو الشرك؛ لأن الله عز وجل وصف المشركين بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يجعلونه شريكاً وعديلاً ونداً لله كما ذكره: مجاهد والسدي وغيرهما من أئمة المفسرين، فمن عَدَلَ بالله عز وجل غيرَه في أي أمر مِن الأمور فقد اتخذه نداً وعبده مع الله أو من دونه.(263/8)
موقف المسلمين من الشريعة
القسم الأول: هم المسلمون الذين قبلوا هذا الشرع، ومعنى الإسلام: هو أن يعلم الإنسان بقلبه وجوب الإذعان والانقياد لحكم الله عز وجل، فلا يكفي أن يعلم فقط، فهناك من يعلم وجوب الإذعان ولكنه لا يذعن، فلا يكفي أن يعلم وجوب الإذعان؛ حتى يضيف إليه نية الانقياد والاذعان لحكم الله عز وجل متى علمه، فينطوي قلب المسلم على الطواعية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل حكم متى استبان له هذا الحكم، فلا يكون بينه وبين تنفيذ الحكم والعمل به إلا العلم، فمتى علمه نَفَّذَه.
إذاً: الإسلام مكون من ركنين: الركن الأول: هو النية وهي عمل القلب.
الركن الثاني: هو عمل الجوارح من القول والفعل، فمتى تخلَّف أحد هذين الركنين بالكلية، يكون الإنسان الذي تخلف عنه الركن كافراً بلا شك.
فمثلاً: لو أن إنساناً قال: إنني أعلم وجوب الإذعان لله والانقياد له بالطاعة، ولكنني لا أمتثل لذلك، أو قال: أعلم وسأمتثل؛ ولكنه لم يمتثل أيَّ أمرٍ من الأوامر الفعلية أو القولية على الإطلاق، فلم يقل قولاًَ يرضي الله، ولم يفعل فعلاً يرضي الله البتَّة؛ حينئذٍ نقول: إن هذا الإنسان قد خرج من الإسلام! لماذا؟ لأن الشهادة وهي: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) هي قول اللسان، هي قول، فهي نطق، فهي فعل إذن، وقد تخلفت عن هذا اللسان؛ لأننا قلنا: إنه لم يفعل فعلاً بالكلية مما أراده الله، ثم لم يُصَلِّ، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن تارك الصلاة بالكلية يكفر ولو أقر بوجوبها، إذاً من تخلف عنه العمل بالكلية فهو كافر؛ لأنه تخلف عنده ركن أساس من أركان الدين والإسلام والإيمان.
كذلك لو تخلف عنده الركن الثاني وهو النية وعقد القلب، فهو كافر أيضاً ولو عمل بجوارحه، مثال ذلك: أن يقول إنسان من الناس: أنا لا أرى وجوب طاعة الله، ولا وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا وجوب الإذعان والانقياد لهما، ولكنني أرى أن من المصلحة أن أمتثل الشرع -مثلاً- يرى أن صلاح المجتمعات الإسلامية مرهون باتباع الشرع؛ لأن الناس يمكن أن يذعنوا كلهم للشرع، فمن هذا المنطلق يرى اتباع الشرع، وقد تجد بعض الناس يقول لك: إنني لا أرى وجوب الصلاة -مثلاً- ولكن يصلي، لماذا يصلي وهو لا يرى وجوب الصلاة؟ لا يصلي لله ولا طلباً لما عند الله ولا خوفاً من عقاب الله، لكن يصلي؛ لأنه يقول: إن الصلاة تعطي الإنسان مكانة اجتماعية؛ فأهلك وجيرانك وأقاربك حين يرونك لا تصلي لا يهتمون بك، ولذلك أنا أصلي لهذا السبب فقط، أو يقول: إنني جربت الصلاة ووجدتها تساهم في ضبط وقت الإنسان بصورة جيدة، فيصلي حتى يحصل على هذه المصلحة، أو يصلي من أجل الرياضة، أو من أجل أي هدف آخر؛ المهم أن الباعث على فعل هذه الشعيرة أو غيرها ليس هو الباعث الديني الإيماني، إنما هو باعث آخر لا يمت إلى الإيمان بصلة، فحينئذٍ نقول: إن هذا الإنسان أيضاً غير مسلم؛ لأنه تخلف عنده الركن الآخر، وهو الأساس من أركان الدين والإيمان والإسلام، وهو انقياد القلب وطواعيته وإذعانه.
فالإسلام: أولاً: العلم بوجوب الانقياد والإذعان والاستسلام لله عز وجل.
وثانياً: نية الانقياد والإذعان لله عز وجل.
وثالثاً: عمل الجوارح الذي هو الترجمة العملية لهذا الإذعان والانقياد المستتر في قلبك، هذا هو الإسلام.
والمسلم وإن كان مذعناً منقاداً قد يقع منه الخطأ، ولكن المسلم وهو يخطئ يعرف أنه عبد وأن الله ربه؛ فلذلك إذا بدرت منه المعصية قال: يارب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فيعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، فهو مسلم حتى وهو يعصي، ولذلك روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً ممن كان قبلكم أذنب ذنباً أو قال أصاب ذنباً فقال: يا رب! إني أذنبت ذنباً أو أصبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: أَعَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ قد غفرت له! ثم مكث ما شاء الله، فوقع في الذنب مرة أخرى، فقال: يارب! إني أصبت ذنباً أو أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: أَعَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟! قد غفرت له، ثم مكث ما شاء الله، فأذنب مرة ثالثة، فقال: يا رب! إني أصبت ذنباً أو أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: أَعَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب؟! اعمل ما شئت فقد غفرت لك} والحديث في صحيح البخاري كما ذكرتُ.
فالمسلم لا يخرج من الإسلام حتى وهو يخطئ ما دام مقراً مذعناً منقاداً، إذا لم يقع في مُكَفِّرٍ يُخْرِجُه من الإسلام بالكلية، والمكفِّراتُ معروفةٌ، وشأنها معروفٌ، وشروطها معروفة، وهذا هو الموقف الأول من مواقف الناس تجاه هذه الشريعة المحكمة، وهو موقف الإذعان والانقياد والقبول.(263/9)
الشرك
الشرك أو اتخاذ الند يأخذ صوراً شتى.(263/10)
الشرك في الحاكمية
الصورة الثالثة من صور الشرك: أن يزعم الإنسان أن هناك مشرعاً مع الله يُقْبَلُ حكمه وتشريعه، فَيُحِلُّ ما أَحَلَّ، ويُحَرِّمُ ما حَرَّم، وينسخ ما نسخ، ويُحْكِم ما أحكم، وينقُضُ ما نقض، ويبرم ما أبرم؛ إلى غير ذلك، فهذه صورة من صور الشرك بالله عز وجل واتخاذ أنداد مع الله تعالى.(263/11)
الشرك في الربوبية
الصورة الأولى منها: أن يزعم هذا الإنسان أن مع الله شريكاً في إدارة أمور الكون وتدبيرها، كما يزعم بعض الصوفية -مثلاً - إن الأقطاب والأوتاد والأبدال يجتمعون مرات في السنة في مكانٍ معين، ويديرون أمور الكون ويصرفون الأقدار، فمن زعم أن هناك مصرفاً أو مدبراً لشئون الكون والقدر غير الله أو مع الله فهو مشرك؛ لأنه في هذه الحالة قد جعل لله نداً وعدل بربه، فهو من الذين كفروا والذين هم بربهم يعدلون.(263/12)
الشرك في الألوهية
الصورة الثانية: أن يتقرب الإنسان إلى غير الله بشعائر العبادة، مثل أن يتخذ الإنسان صنماً يعبده ويصلي إليه ويتقرب إليه بالذبح والنذر والصلاة والصيام وغير ذلك من الشعائر، كما كان المشركون يفعلون مع آلهتهم المدعاة، فهو في هذه الحالة قد جعل هذا الإله المعبود نداً لله، وعدله بالله، فهو من المشركين، وهو من الذين كفروا، وهو من الذين بربهم يعدلون.(263/13)
نصوص قرآنية حول شرك الحاكمية
ورد في هذا النوع الثالث -وهو الشرك في الحكم والتشريع- نصوص كثيرة جداً، أحببت أن أعرض لكم الآن بعض هذه النصوص، وعسى أن يكون هناك فرصة أخرى لاستكمال البحث في هذا الموضوع في جوانب أخرى قد لا يتسع المجال لعرضها الآن.(263/14)
النص السادس: في الذين رفضوا الانقياد لحكم الله
النص السادس: هو قول الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:48-50] .
هم رفضوا الانقياد لحكم الله فلا يخلو أمرهم من ثلاثة أحوال: في قلوبهم مرض، أو ريب، أوخوف من أن يحيف الله عليهم ورسوله، وكل هذه الأشياء كفرٌ، {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50] {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:51] إذاً هم ليسوا بمؤمنين بل منافقون، أما المؤمنون فقولهم كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] فهذه حال المؤمن المصدق بالله ورسوله المنقاد لله ورسوله.(263/15)
النص السابع: في الذين يأخذون من الشرع ما يوافق هواهم
النص السابع: هو ما ذكره الله عز وجل حين قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] فوصفهم بالمسارعة إلى الكفر وإن ادّعوا الإيمان، {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] ثم بَيَّنَ الله عز وجل ما سبب نفي الإيمان عنهم، وإثبات الكفر والمسارعة في الكفر لهم، بينّه بقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] وهذه الكلمة يبين معناها سبب نزول الآية: فالسبب الأول: هو ما رواه: مسلم، وأبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بيهودي محمَّماً مجلوداً -أي أن يهودياً من اليهود زنا، فقام اليهود وصَبَغوا وجهه باللون الأسود، وجلدوه ووضعوه هو والمرأة التي زنا بها على حمار، وجوه بعضهم إلى بعض، ومَشَوا بهم في الشوارع من باب التشهير والنكاية بهم، فمَرَّ اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموكب المهيب- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود، ودعاهم: {أهكذا تجدون حد الزاني المحصن في كتابكم} ؟ قالوا: نعم هذا حد الزاني المحصن في كتابنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عالماً من علمائهم يقال له: ابن صوريّا - وفي بعض الروايات: أنه ذهب إليهم صلى الله عليه وسلم في بيت المدراس الذين يدرسون فيه الكتاب فقال لهذا العالم: {أنشدك الله أو أنشدك بالله الذي نزّل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا! ولولا أنك ناشدتني بهذه النِشدة ما أخبرتك، -ثم بين هذا اليهودي ما هو السبب في نقضهم لحكم الله ورسوله- فقال: ولكنه كثر في أشرافنا -هذه رواية مسلم، يعني: الزنا- ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا وجدنا الشريف يزني جلدناه، وإذا وجدنا الضعيف يزني أقمنا عليه الحد -وهو الرجم- فطال ذلك، حتى قلنا: تعالوا نتفق على حكم نقيمه على الشريف والوضيع، فاتفقوا على الجلد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنني أول من أحيا أمرك إذْ أماتوه ثم أمر بهما فرجما، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: فلقد رأيت هذا اليهودي يجنأ عليها} : يحميها بنفسه من الحجارة.
إذاً: قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة:41] : يعني إن أوتيتم الحكم بالجلد، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل أوتيتم الحكم بالرجم (فَاحْذَرُوا) ، يعني: إن تحاكمتم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فحكم لكم بالجلد، وهو الحكم الأخف، فخذوه واقبلوه؛ لا لأنه حكم الله، ولكن لأنه خفيف يوافق أهواءهم، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل حَكَمَ محمد صلى الله عليه وسلم بالرجم (فَاحْذَرُوا) ولا تأخذوا هذا الحكم! السبب الثاني في نزول هذه الآية أو القول الثاني في سبب نزول هذه الآية هو: ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن اليهود كانوا قبائل، فكانت منهم قبيلة بني النضير وهي قبيلة شريفة عزيزة، وقبيلة بني قريظة وهي قبيلة ذليلة، فكانوا إذا قتل رجل من بني النضير الأعزاء رجلاً من بني قريظة الأذلاء لم يقتلوه به، بل اكتفوا بأن يدوه مائة وسق من تمر، فإن قتل رجل من بني قريظة الأذلاء رجلاً من بني النضير الأعزاء قتلوه به، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حصلت بين اليهود مشكلة أن قتل رجل من بني النضير الأعزاء رجلاً من بني قريظة الأذلاء، فقال أولياء المقتول: هاتوه لنا نقتله، فقالوا: لا! إنما نعطيكم ديته مائة وسق من تمر، فأرادوا التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض -بنو النضير قالوا هذا القول فيما بينهم-: إن حكم لكم محمد بالدية فاقبلوها؛ لأنها أخف، وإن حكم بالقصاص فلا تقبلوه، وهذا الحديث أيضا إسناده صحيح، وقال ابن كثير رحمه الله: يحتمل أن السببين اجتمعا معاً فنزلت الآية فيهما جميعاً، والله أعلم.
المقصود أن الله عز وجل حكم عليهم بأنهم يسارعون في الكفر؛ لأنهم رفضوا حكم الله عز وجل.
ثم بيَّن تبارك وتعالى أنهم ومن كان على شاكلتهم في رفض حكم الله ورسوله قد جمعوا خلالاً ثلاثاً: الخلة الأولى: الكفر بالله عز وجل فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] كافرون؛ لأنهم ستروا الحق -أخفوه وكتموه- وزعموا أن الحكم هو الجلد، وإنما هو الرجم، وهكذا حالهم في كل مسألة أخرى.
الخلة الثانية: أنهم فاسقون؛ لأنهم قد خرجوا عن حكم الله ورسوله إلى طاعة النفس والهوى والشيطان.
الخلة الثالثة: أنهم ظالمون؛ لأنهم حكموا على الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وأبشارهم بغير حكم الله ورسوله، وفضلوا بعضهم على بعض بما لم يفضل الله فيه بعضهم على بعض.
وهكذا كل من كان على شاكلتهم فهو من الكافرين الفاسقين الظالمين، وختم السياق بقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] .
والله أعلم، وصَلَّى الله وسَلَّمَ على عبده ورسوله ونبيه محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(263/16)
النص الثاني: فيمن شرعوا من الدين مالم يأذن به الله
قال تبارك وتعالى عن المشركين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] تجد أنه تعالى جعل من شرع من الدين ما لم يأذن به الله شريكاً أو مدعياً أنه إله، ثم جعل من اتبعه في هذا قد اتخذ من دون الله شركاء، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .(263/17)
النص الثالث: فيمن يزخرفون القول المفترى على الله
النص الثالث وهو نص مهم أحب أن نقف عنده بعض الشيء، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] .
تأمل أيها المسلم هذه الآية، هناك في الدنيا منهجان: المنهج الأول: منهج الأنبياء والمرسلين وهو طاعة الله في كل شيء، بما في ذلك طاعته في الحكم والتشريع، ولذلك ستجدون في آخر الآيات قوله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام:114] أي لا أبتغي حكماً غير الله؛ لأنني على منهج الأنبياء السابقين.
المنهج الثاني: منهج أعداء الأنبياء، من هم أعداء الأنبياء؟ إنهم شياطين الجن والإنس، قال تعالى: {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] ثم بيّن الله عز وجل وحي هؤلاء الشياطين، فقال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] أي: أنهم يخترعون ديناً وشرعاً لم يأذن به الله، ثم يزخرفون هذا الدين وهذا الشرع بالقول الحسن الجميل الذي يخدع ويبهر السذج والغوغاء والدهماء من الناس فيتبعونه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] .
إذاً هذه الآية هي في حق كل مشرع من دون الله من طواغيت الشرق والغرب، من المقننين الذين يضعون الأنظمة والدساتير والقوانين لتنظيم شئون الحياة كلها، هذه الآية في حقهم.
ثم تحدثت الآية التي بعدها عمن قبل هذا الشرع وهذا الحكم وانقاد له وأذعن، فقال الله عز وجل: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام:113] من هم الذين يصغون إلى هذا الزخرف الباطل من القول الذي وضعه حثالات البشر من اليهود وغيرهم؟ من الذين يصغون إلى هذا القول؟ يقول ربنا عنهم: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام:113] .
إذاً نرجع للقضية الأساسية وهي أن كل من اتبع شرعاً غير شرع الله أو حكماً غير حكمه، أو ديناً غير دينه؛ فإننا نعلم أن هناك فساداً في قلبه وإنكاراً للآخرة؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] .(263/18)
النص الرابع: فيمن يتحاكمون إلى الطواغيت
النص الرابع الذي أريد أن أقف عنده هو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] هم يزعمون الإيمان زعماً لا حقيقة له، والدليل على زيف هذا الزعم إرادتهم التحاكم إلى الطواغيت، {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:59-60] .
إذاً زعم الإيمان كذب، والحقيقة أنهم منافقون {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60] .(263/19)
النص الخامس: في نفي الإيمان حتى يرضوا بحكم الله ويسلموا به
ثم بين الله عز وجل أنه لا يمكن أن تتحقق لهم حقيقة الإيمان إلا بشروط، وأقسم الله عز وجل على هذه الحقيقة، والقسم من الله يدل على أهمية الأمر المقسم عليه، ولذلك ورد كما ذكر القرطبي وغيره من المفسرين أن: أعرابياً سمع قول الله عز وجل: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] فبكى، وقال: من أغضب الجليل حتى حلف.
فربنا عز وجل يقسم بذاته المقدسة أنهم لا يمكن أن يؤمنوا إلا إذا حَكَّموا الرسول، فيقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] فيلتزمون التزاماً ظاهراً بحكمه فيما يعرض لهم من الخصومات والمنازعات وغيرها {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فأكد الفعل بالمصدر الذي يدل على انتفاء أدنى قدر من الحرج أو التردد أو التبرم أو الضيق أو الشك.
فالآية اشترطت للإيمان الشرطين: أولاً: عقد القلب، ثانياً: عمل الجوارح، وهذا ما قَرَّرْتُه في بداية هذه الكلمة، فلا بد من الإذعان العملي والقلبي لحكم الله عز وجل، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية روايتان: الرواية الأولى: ما رواه عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي الحافظ المعروف بـ دحيم في تفسيره عن عتيبة بن ضمرة عن أبيه أن رجلين من المسلمين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خصومة كانت بينهما، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم لأحدهما على الآخر، فلما خرجا، قال المحكوم عليه: [[لا أرضى حتى نذهب إلى أبي بكر]] فذهبا إلى أبي بكر، فقالا له: [[إننا ذهبنا الى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم لأحدنا، فلم يرضَ فلان حتى أتينا إليك]] فردهما أبو بكر وأمرهما بالامتثال لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فخرجا من عنده، فذهبا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما جلسا عنده ذكر أحدهما له قصة ذهابهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر، فقال عمر للمحكوم عليه: [[أكذلك؟ هل هذا صحيح؟ قال: نعم، قال: انتظرا حتى آتي فأحكم بينكما]] فخَرَج من عندهما؛ واشتمل على السيف ودخل ثم ضرب المحكوم عليه الذي لم يقبل لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ضربةً بالسيف حتى قتله، وأدبر الآخر، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قتل عمر - والله - صاحبي، ولولا أني أعجزته لقتلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن} فأنزل الله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء:65] الآية، فهدر دم ذلك الرجل، وبرئ عمر من قتله له.
وهذه الرواية المرسلة قال الإمام ابن تيمية بعد أن ذكرها في كتابه المعروف الصارم المسلول: "وهذا المرسل له شاهدٌ من وجه آخر يصلح للاعتبار".
الرواية الثانية: في سبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن رجلين من الصحابة أحدهما الزبير بن العوام، والآخر رجل من أهل المدينة من الأنصار، اختصما في شريج الحرَّة ومسيل الماء، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: {اسقِ يا زبير! ثم ارسل الماء إلى جارك} أي: الأنصاري، فقال الأنصاري: أإن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! أي: حكمت له؛ لأنه ابن عمتك، فتلَوَّن وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {اسق يا زبير حتى يبلغ الماء إلى الجدار، ثم ارسل الماء إلى جارك} فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم لـ الزبير حقه بصريح الحكم حين أحفظه الأنصاري وكان أشار عليهما قبل ذلك بأمر لهما فيه سَعَة، فالأصل أن الحكم هو ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم أخِيراً، وكان الأول منه عليه الصلاة والسلام صلحاً بينهما، فلما أغضبه الأنصاري استوعى لـ الزبير حقه، ثم نزلت هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وأياً كان السبب فهو صريح وواضح في وجوب الانقياد والإذعان لحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.(263/20)
النص الأول: فيمن تولوا وأعرضوا عن حكم الله
انظروا إلى قول الله عز وجل في سورة آل عمران {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23] فذكر الله عز وجل فئة من أهل الكتاب إذا دُعُوا إلى الكتاب الذي ينسبون إليه ليحكم بينهم تولوا وأعرضوا.
إذاً، هؤلاء وقعوا في مظهر من مظاهر الشرك بالله عز وجل؛ وهو رفض الانقياد لحكم الله تعالى وحكم رسوله، وهذا هو قبول حكم غير حكم الله وقبول شرع غير شرع الله.
انظروا ما هو السبب في هذا الكفر الذي وقعوا فيه! هذا الكفر العملي الذي وقعوا فيه: بيّن الله سبحانه وتعالى أن وراءه كفراً عقدياً في القلب فقال: (ذَلِكَ) أي ما وقعوا فيه من رفض الانقياد لحكم الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:24] .
إذاً فكلما رأيت إنساناً يرفض الانقياد لحكم الله وحكم رسوله؛ فاعلم أن وراء هذا الرفض فساداً وخراباً في عقيدته، وانحرافاً متأصِّلاً في قلبه.(263/21)
الأسئلة(263/22)
فوات الصلاة بالنوم
السؤال
بعض الأيام تفوتني صلاة الفجر، فلا أستطيع أن أصليها إلا بعد طلوع الشمس، فما الحكم؟
الجواب
لا يجوز للإنسان أن يُخرج الصلاة عن وقتها أبداً، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:74-] لكن إن كان فوات الصلاة عن وقتها لعذر صحيح وبدون تفريط، فلا حرج على الإنسان، فلو بذل الإنسان الوسائل التي تدعوه إلى الاستيقاظ: كأن يكلف أحداً بأن يوقظه، أو يضع ساعةً منبهةً عند رأسه، أو ما أشبه ذلك من الوسائل التي يستطيعها، ثم مع ذلك لم يستطع أن يستيقظ إلا حين طلعت الشمس فحينئذٍ أقول له كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة} واللفظ الآخر: {ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى دخل وقت الصلاة الأخرى} وقد حصل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما في الصحيحين وغيرهما.(263/23)
الشريعة بين العادات والتقاليد
السؤال
أُخْبِرُك أنني أحبك في الله، وأسأله سبحانه أن يجمعني بك في مستقر رحمته؛ مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وسؤالي هو: كثيراً ما نسمع أو نقرأ هذه العبارة (عاداتنا وتقاليدنا لا تسمح بذلك) فهل تصح هذه العبارة؟ وهل الشريعة عادةٌ أم تقليد، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
أحبك الله! وأسأل الله أن يجمعنا جميعاً في مستقر رحمته، وأن يجعلنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً!! كلمة "العادات والتقاليد" تحتمل معنيين: المعنى الأول: الأمور والأعراض الاجتماعية مما لم يأت به الشرع ولا يعارضه الشرع، فهذا لا بأس به، ولا مانع من أن يسمى عادة أو تقليداً، وإن كان في نظري أن كلمة "تقليد" فيها نظر من حيث اللغة العربية، لكن لا بأس أن تسمى عادة.
المعنى الثاني: أما إن كانت كلمة "العادات والتقاليد" تطلق على الدين نفسه، فهذا مفهوم غير صحيح؛ بل إن الدين ليس تراثاً بشرياً، وإنما هو دينٌ إلهي سماوي، فلا ينبغي أن يسمى عادات، ولا أن يسمى تقاليد، ويجب أن يُرْبأ به عن هذه المعاني، وأظن أن بعض المهزومين يقفون في بعض المواقف فيستحيون -مع الأسف الشديد- أن يصرحوا بقضية الدين والإسلام، أو يصرحوا أنهم رفضوا هذا -أيَّ مُحَرَّمٍ- من أجل الله، من أجل إرضاء الله، أو لأن الدين يرفضه، يستحيون من هذا المعنى، فيلفون القضية ويقولون: ليس هذا من عاداتنا وتقاليدنا؛ لأنهم متفقون جميعاً على أن عادات المجتمع ينبغي مراعاتها، والعادات والتقاليد الاجتماعية ينبغي مراعاتها، فلا بأس أن يقول: عاداتنا وتقاليدنا في زعمه، لكن يجدون حرجاً أن يصرحوا بهويتهم، وهذه مشكلة خطيرة يا إخواني! إن كثيراً من المسلمين صاروا يستحيون من المجاهرة بالدين وإعلان قضية الإسلام، وهذا بلاء عظيم جداً وخطر ليس بالبسيط! سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(263/24)
أسلوب النصيحة
السؤال
إنني امرأة أشعر وأحس بالضيق عندما أرى إنساناً يشاهد التلفزيون أو يسمع الأغاني، فإنني أريد أن أنصح من حولي، ولكن لا يسمعون لي؛ فأتأثر بذلك، ولا أجد كلمات تأثير، ولا يتأثرون بما أقول، فأرجو من فضيلتكم أن تخبروني عن بعض الكلمات التي تؤثر فيهم وتكون بلينٍ ولطفٍ، ولكم الشكر
الجواب
الكلمات التي يمكن أن تقال لا يمكن أن نتحدث عنها الآن، وإنما يكتسبها الإنسان من خلال قراءاته في الكتب التي تبين الأسلوب المناسب للدعوة، ومن خلال اطلاع واسع ويحتاج إلى وقت، ولكن أقدم بعض الملاحظات حول هذا الموضوع الذي أشارت إليه السائلة: الملاحظة الأولى -وقد سبقت-: وهي ضرورة أن يكون الأمر والنهي بأسلوبٍ طيب، وحين أرى من الذين أمرتهم أو نهيتهم عدم استجابة، لا ينبغي أن تثور أعصابي وأنفعل، ثم أحطم العلاقة بيني وبينهم، لا ينبغي هذا، بل أُبْقِي الجسورَ قائمة؛ لأن هناك فرصاً أخرى يمكن أن تستغل لأمرهم ونهيهم، وربما تأمرين اليوم فلا يستجيبون، وتأمرين غداً فيستجيبون، فالقضية ليست في يومٍ وليلة، وقد لاحظت كثيراً من الناس إذا أمر بأمر، وَبَيَّنَه، ثم لم يستجب الناس؛ تبرم وضاق بهم، وينسى أن الناس تعودوا أشياء، وتربَّوا على أشياء، وتحيط بهم ظروف كثيرة، لا أقول: إنها تبرر ما فعلوا، معاذ الله! المعصية ليس هناك ما يبررها أبداً، لكن تجعلك تسلك معهم الأسلوب المناسب، وتتلطف معهم في المدخل، وتحرص على أن تدعوهم شيئاً فشيئاً، هذا هو الأمر الأول، وهو التطلف والتدرج في الأسلوب.
الأمر الثاني: أن هذا الوضع وهو كونه لا يستجيب للأمر لا يعني أبداً أننا يجب أن نترك الأمر والنهي، قال الله: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] إذاً أنت حين تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أول من نفعت، نفعت نفسك؛ لأنك أعذرت إلى الله عز وجل، وقمت بالواجب هذا أولاً، ثانياً: أنت تسببت في حماية المجتمع كله؛ لأن المجتمع حين يخلو من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يحل عليه غضب الله وعقوبته! وهذه سنة إلهية لا تتخلف، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قولُه: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه} لهذا الحديث طرق يصح بمجموعها.
فأنت حين تأمر وتنهى ولو بالكلمة تكون تسببت في حماية المجتمع من العقاب الإلهي؛ لأنك تسببت في حمايته من المجاهرة بالمعصية والرذيلة وعدم المبالاة.
وثانياً: كل كلمة حقٍ تقولها، ثِقْ بأنها مؤثِّرَة، لكن لا يلزم أن يكون الأثر اليوم، قد تؤثر اليوم، وقد تؤثر غداً، وقد تؤثر أثراً بسيطاً، فيتكلم غيرك بكلمة أخرى، فتنضم إليها، وهكذا حتى يهتدي هذا الإنسان، ولذلك تجدون كثيراً من الناس اليوم يهتدون إلى الله عز وجل بدون سببٍ واضح، فنقول: هؤلاء القوم تأثروا بمجموعة مؤثرات: سمعوا نصيحة، ثم سمعوا أخرى، ثم زارهم أحد الصالحين ونصحهم ولم يقدر، ثم سمعوا شريطاً إسلامياً ثم قرأوا كتاباً، وهكذا حتى تجمعت مجموعة مؤثرات، وربما أحداث معينة، فهداهم الله عز وجل، فكلمة الحق لا تضيع، وعلى الإنسان أن يحرص على أن يقولها باستمرار على الأقل محافظة على المسلمين.(263/25)
تدبر القرآن
السؤال
مما أعرف أن الواجب على المسلم إذا تلا القرآن الكريم فإنه يجب عليه أن يتدبَّر معانيه، وقد سبق لي أن سمعت أحاديث دالة على هذا، وأنا لم استطع تدبرها، فما الطريق إلى ذلك؟
الجواب
هذا السؤال يشير إلى أنه لم يستطع تدبر القرآن، فأقول: عدم استطاعته لأسباب لا بد من معرفتها والبحث في إزالتها ودفعها، فقد يكون عدم تدبرك للقرآن ناتجاً عن عدم معرفتك بمعانيه أحياناً، وحينئذٍ عليك أن تقرأ في كتب التفسير أو غيرها، أو تسأل أهل العلم حتى تعرف المعنى الذي دلت عليه الآية.
الأمر الثاني: أن يكون السبب انشغال قلبك في أمورٍ أخرى، وحينئذٍ يكون هذا السؤال مثل سؤال من يسأل فيقول: حاولت أن أخشع في الصلاة فلم أستطع مثلاً، فنقول: سبب عدم الخشوع وسبب عدم التدبر وسبب فعل كثير من العبادات بدون خشوع منا جميعاً -نسأل الله أن يتوب عليّ وعليكم أجمعين- أننا نفعلها بقلوبٍ خاوية، فالخشوع والتدبر والتأمل والتأثر كلها أفعالٌ قلبية من أعمال القلب، فإذا كان القلب مستعداً قام بها، لكن إذا كان القلب مشغولاً بشئونٍ أخرى كثيرة لاهية عن هذه الأشياء، فإنها تضعف بقدر انشغال القلب.
فمشغول القلب يصلي وهو لاهٍ ساهٍ، ويقرأ القرآن وهو لاهٍ ساهٍ، ويدعو وهو لاهٍ ساهٍ، شأن كثير منا في هذا الزمان! فعلى الإنسان أن يحرصَ على تفريغِ قلبه ما استطاع، لا أقول: عليه أن يترك الدنيا كلها! بل عليه أن يحرص على تفريغ قلبه ما استطاع من الشوائب، والإقبال بكليته على الأمر الذي يريده من العبادة، وتوفير أسباب التأثر ما أمكن، وحينئذٍ سيفعل القرآن فعله في النفس؛ فإن القرآن كلام رب العرش العظيم الذي خلق هذه القلوب، ومتى خلينا بين قلوبنا وبين القرآن سنجد من فِعل القرآن في هذه القلوب ما لا يخطر على بال.
وأذكر لكم قصة قرأتها لأحد الشيوخ الموجودين الآن، يقول هذا الشيخ: إنه جمعه مجلس مع بعض المستشرقين الفرنسيين فحانت صلاة العشاء، فقام يصلي بالقوم، فصلى هو والمسلمون، ثم رجعوا إلى مجالسهم، وكان بجواره أحد هؤلاء الفرنسيين وكان كافراً، وكان أيضاً لا يحسن العربية، يقول هذا الشيخ: فلما جلستُ بجواره وجدته قد أخرج منديلاً من جيبه، وهو يمسح دموعاً تتساقط بغزارة من عينه، يقول: فاستحييت من نفسي في هذا الموقف، ولكنني لم أستطع أن أتجاهله، وما حصل أمرٌ غريب، فسألته: ما السر في هذا البكاء؟ فقال: أنا والله لا أدري ما هو السر في هذا البكاء! ولكنني أشعر أن هذا الكلام الذي قلته في الصلاة -يعني القرآن- أشعر أن شيئاً بداخلي يتجاوب ويتحرك مع هذا الكلام، وأنني يجب أن أبكي حين أسمع مثل هذا الكلام؛ مع أنني لا أفقه ما تقول، ولا أدري ما هو، ولكنني أشعر باستجابة في داخلي لهذا الكلام! وهناك قصص مشابهة لا يتسع المجال لذكرها، فحتى الذي لم يعلم ما معنى القرآن، وجد في قلبه نوعاً من التأثر، ولا يلزم أن يكون هذا التأثر في كل إنسان، بل قد يوجد نوعٌ من الناس يوجد في قلوبهم هذه الحساسية والرقة والاستعداد للتأثر! والله أعلم(263/26)
التعامل مع الكبير
السؤال
إن عندي مشكلة طالما عانيت منها، وهي: أنني قد هداني الله -إن شاء الله- إلى الطريق السوي، لكن أخي الأكبر تضايق من ذلك وتغير سلوكه نحوي؛ حيث كان قدوةً ومعلماً لي، وأنا مستغرب من فعله هذا، فتغيَّرت من جراء ذلك أحوال البيت، أرجو الإجابة، وجزاكم الله خيراً
الجواب
الذي يظهر من هذا السؤال أن الأخ الأكبر رجلٌ مستقيم كان قدوةً لأخيه فتغير سلوكه تجاهك، قد يكون والله أعلم بسبب تصرفات معينة قام بها الأخ الأصغر بعد هدايته، وهذه التصرفات لا أستطيع أن أعرف ما هي الآن، ولكنني أستطيع أن أذكر بعض التصرفات التي يكثر أن تقع من بعض الصالحين، فمن ذلك: التخلي عن أعمال البيت ومشاغله والإلقاء بها على غيره، فإن الإنسان قد يكون مهتدياً صالحاً، فيرغب أن يشغل وقته في أمورٍ نافعة فيما يحسب، وبناءً على ذلك قد يتخلى عن كثيرٍ من المشاغل التي لابد منها، ويُلقي بها على أبويه أو على إخوانه الآخرين أو غير ذلك، ومهما ألحوا عليه فإنه لا يقوم بذلك حق القيام، فهذا سبب من الأسباب التي قد تؤدي إلى وجود شيءٍ من النفرة أو القطيعة.
ومن الأسباب أيضاً: أن يتنكر الإنسان لغيره بعدما يهديه الله عز وجل، وقد يكون له دورٌ في هدايته، فربما بدأ يتجاهله ولا يأبه به، وربما أمره ونهاه بأسلوبٍ أيضاً غير مناسب؛ لأنه يقول: هذا حق، ولابد من بيانه مثلاً، ومن هذا المنطلق قد يسلك مع مَن عَلَّمَهُ ورَبَّاهُ أسلوباً منفراً غير صحيح ولا مشروع.
صحيح أن النصيحة من كل أحد لكل أحد، وليس في الإسلام كبيرٌ أو صغير، لكن الاحترام والأدب والتوقير للأكبر مطلوب، وحتى حين تريد أن تأمره أو تنهاه، يجب أن تصحب ذلك بالأسلوب الذي يجعله يستجيب لما تأمر وتنهى، وقد يكون هناك أسبابٌ أخرى يجب عليك البحث فيها، وإن رأيت أن له أصدقاء يمكن أن تستعين بهم في حل هذا، فهو أمرٌ طيب.(263/27)
تكفير المعيَّن
السؤال
قبل فترة زلت لساني بكلمة ندمت عليها كثيراً، وهي أنني في إحدى المرات ذَكَرَ لي مَن لا أثق به: أن أحد الأطباء الهنود ليس مسلماً، فحصل بعد ذلك أن ذكرت لبعض الحاضرين أن ذلك الشخص كافر، فاستغفرت الله بعدها على ذلك، مع أنني لا أجزم بكفره، فماذا أفعل بعد ذلك، مع أنه لا يتكلم العربية؟
الجواب
لا شك أن الإنسان محاسب على ما يخرج من فيه، وفي حديث معاذ الذي رواه: الترمذي وصحَّحه: {وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال على مناخِرهم إلا حصائدُ ألسنتهم} قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] فينبغي لك أن لا تتسرع بالحكم على الناس، لا بكفرٍ ولا بغيره حتى تتأكد وتتثبت من ذلك، حين يوجد لهذا الأمر داعٍ يدعو إليه، أما المجازفة والتسرع في وصف الناس بالكفر أو الفسق فهو أمرٌ خطير، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره، أنه: {ما قال رجلٌ لأخيه: يا كافر! أو دعا عليه بالكفر إلا باء بها أحدهما} وهذا وعيد شديد في حق من يطلق ألفاظ الكفر على المسلمين، فعلى الإنسان أن يكون حذراً أشد الحذر من ذلك، ويتقي الله ولا يتسرع في هذا الأمر مهما أمكن، أما وقد حصل الأمر منك فإنني أنصحك أولاً: بكثرة التوبة والاستغفار لعل الله عز وجل أن يمحوَ عنك هذا الإثم، وأنصحك ثانياً: أن تحسن إلى هذا الرجل الذي قلت فيه هذه الكلمة، فإن كان مسلماً فأحسن إليه بتعليمه ما يجهل من أمور دينه، وبنفعه في أي أمر من أمور دنياه، وإن كان كافراً فابذل جهدك أن تدعوه إلى الإسلام لعل الله يهديه على يديك فتكون هذه الكلمة التي صدرت منك؛ وإن كانت شراً إلا أنها دعتك إلى أمر خير، فتكون ككلمة عمر رضي الله عنه يوم الحديبية، حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فما زالت هذه الكلمة تدفعه إلى أعمال صالحة كثيرة؛ حتى رجا أن تكون خيراً!(263/28)
الإشراك في الربوبية، والألوهية، والاتباع
السؤال
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ذكرتم أن الإشراك بالله لا يختص بعبادة الأصنام، فلو أعدتم شيئاً من توضيح ذلك، وجزاكم الله خيراً
الجواب
صُوَر الشرك كثيرة جداً، وأصل الشرك -كما ذكرتُ- عقد في القلب يصبح الإنسان به قد جعل غير الله من المخلوقين نِداً لله عز وجل معادلاً له في أمر من الأمور أياً كان هذا الأمر، فحينئذٍ يقع الإنسان في الشرك، أما الصور العملية لهذا الشرك فهي كثيرة جداً ذكرت منها صوراً ثلاثاً: الأول: الشرك في الربوبية، وهو أن يظن أو يزعم الإنسان أن مع الله مُصَرِّفاً ومدبراً للأكوان.
الثاني: الشرك في الألوهية، وهو أن يصرف شيئاً من ألوان العبادة لغير الله.
الثالث: الشرك بالطاعة والاتباع، وهو أن يعتقد بوجوب طاعة أحدٍ غير الأنبياء والرسل الذين طاعتهم من طاعة الله عز وجل فيما لا يطاع فيه إلا الله، فيعتقد مثلاً بطاعة الأحبار والرهبان أو الرؤساء أو غيرهم من البشر المخلوقين في أمور التحليل والتحريم والحظر والإباحة والمنع والأمر وهكذا.(263/29)
أسباب سقوط الدول
تكلم الشيخ في هذه المحاضرة عن جملة من أسباب سقوط الدول، وبدأ محاضرته ببعض نظريات ابن خلدون حول تقسيم الدول بحسب أطوارها وأجيالها وزوالها، ثم ذكر بعض الأسباب الداخلية وضرب الأمثلة بالعديد من الدول السابقة أو المعاصرة بدءاً بالأندلس ومروراً بالدول الإسلامية في فجر الإسلام كالأموية والعباسية، وانتهاء بالدول المعاصرة، ثم أجاب في نهاية محاضرته عن الأسئلة حولها.(264/1)
سنة تقلب الدهر
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فكما وعدتكم في الدرس الماضي، فإن هذا الدرس سوف يكون عن "أسباب سقوط الدول"، ورقم هذه الحلقة: (18) وهي تنعقد في مساء الأحد ليلة الإثنين: 7/صفر/1411هـ.
إخوتي الكرام: الدهر دول، والأيام قُلَّب، ولو بقيت الدنيا لمَنْ قَبْلَنا لما وصلت إلينا، ولو بقي المُلك في أيدي السابقين لَمَا وصل إلى اللاحقين، يقول الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساءُ ويوم نسر ويقول عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] هكذا قرأها الجماعة: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} [البقرة:251] وقرأها آخرون: {وَلَوْلا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] بكسر الدال في (دفاع) والمعنى واحد.
أي: أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض، فيدفع هذا بهذا، وهذا بهذا، يدفع الكافر بالمؤمن، ويدفع البلاء عن الفاسقين بالمطيع، وهكذا يبتلي الله بعض العباد ببعض، يبتلي المؤمن بالكافر، ويبتلي الكافر أيضاً بالمؤمن.
وهذه الآية تبين لنا سنة إلهية، يسميها بعض العلماء: سنة الخلفية، والخلفية يعني: أن كل شيء في هذه الدنيا له خلف لا يبقى، فالإنسان -مثلاً- يموت ويخلفه أولاده من بعده، وهكذا سائر الحيوان، وكذلك النبات يكون البذر فيه، فإذا مات منه شيء نبت شيء آخر، وهكذا الحال في العناصر الكيميائية، وفي غيرها مما هو موجود في هذه الدنيا؛ فإن كل شيء يخلفه شيء آخر، وقد جعل الله عز وجل في طبيعة هذا الشيء أنه قابل لأن يكبر عن شيء آخر يَضْمَحِلُّ ويزول.
وهكذا الشأن تماماً في الدول، فإننا نعلم الآن أن التاريخ - وقد مر في هذه الدنيا حقب، وعصور، ودهور طويلة - يشهد نهاية دولة وقيام دولة أخرى، وقد يطول عمر الدولة وقد يقصر، لكن النهاية عليها محتومة، كالموت بالنسبة للإنسان، فقد يمتد عمر الإنسان إلى مائة سنة، ومائة وعشر، ومائة وعشرين سنة، لكن في النهاية لا بد أن يموت، ويكون من بعده ورثته وذريته.
وهكذا الشأن في الدول، فقد يطول عمر الدولة، حتى تصبح كما كانت دولة بني العباس، أو دولة العثمانيين، تنيف على خمسة قرون، لكن أتتها النهاية فانتهت، وزالت، وبادت، وقد يقصر عمر بعض الدول حتى تكون سنين قصيرة، أو عشرات السنين على أكثر تقدير.
ولو كُتب للإنسان أن يقرأ تاريخ أمة من الأمم، أو دولة من الدول لتعجب من كثرة الملوك، والحكام الذين مروا عليها، وهذا إذا حصل للإنسان فإنه يعطيه إحساساً بالتاريخ، ومعرفة بتغير الأحداث.
وأذكر كتاباً أو قصيدة بالأصح لرجل يمني اسمه نشوان بن سعيد الحميري، ونشوان هذا كتب قصيدة يؤرخ فيها للتبابعة ملوك اليمن، وهم يزيدون عن ألف ملك.
وقد كتب قصيدة جميلة حلوة، فيها عبرة وعظة يؤرخ فيها لهؤلاء الملوك، وهي قصيرة مطبوعة مع شرح لها بعنوان: "خلاصة السيرة الجامعة لملوك اليمن التبابعة" وهذه القصيدة يقول في مطلعها: الأمر جد وهو غير مزاحِ فاعمل لنفسك صالحاً يا صاحِ كيف البقاء مع اختلاف طبائعٍ وكرور ليل دائمٍ وصباحِ تجري بنا الدنيا على خطرٍ كما تجري عليه سفينة الملاحِ تجري بنا في لج بحرٍ ما له من ساحل أبداً ولا ضحضاح إلى أن يقول - بعدما سرد مجموعة من الملوك -: وملوك حمير ألف ملك أصبحوا في الترب رهن ضرائح وصفاحِ إلى آخر تلك القصيدة.
المهم: أنه يسرد لك أسماء الملوك، وكم عاشوا، وما شيدوا وبنوا وحكموا وقتلوا وسفكوا، وفي النهاية أفناهم الدهر، ثم انتهت أيامه ولياليه، وأصبح خبراً وأثراً بعد عين.(264/2)
نظريات ابن خلدون في نشوء الدول وسقوطها
والإمام ابن خلدون رحمه الله له كتاب مشهور اسمه المقدمة، وهو مقدمة لكتاب التاريخ الذي ألفه، ويقول في هذا الكتاب: إن أعمار الدول لا تكاد تتجاوز مائة وعشرين سنة غالباً، أي: أن الإنسان عمره قد يصل إلى مائة سنة، يقول: الدول غالباً أنها مائة سنة، أو قريباً من ذلك، وقد تزيد إلى مائة وعشرين سنة.(264/3)
أجيال الدول
ويقسم ابن خلدون المائة وعشرين سنة هذه إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: بعدما يحصل للدولة النصر والظفر والتمكين، يكون القائمون عليها أقوياء، فيهم شظف العيش، والبداوة، والبسالة، والشعور بالجهد والتعب الذي بذلوه في تحصيل المُلك، فيكون عندهم قوة، وحزم، وصبر، وتحمل، وحسن سياسة للأمور.
فهذا الجيل الأول.
ويأتي بعدهم الجيل الثاني: وهذا الجيل أقل من الأول وأضعف منه، فإنه قد أتى إلى دولة قائمة مستقرة، وورث ملكاً عن أبيه ثابتاً، وفي الوقت نفسه يكون لهؤلاء من الترف والدَّعة وأنواع الأموال ما يجعلهم يميلون إلى نوع من التساهل، والعناية بالمآكل والمشارب والمراكب والمناكح والملاذ بهذه الدنيا؛ مع أنهم قد ورثوا شيئاً من القوة، إما لأنهم عاشوا بعض زمن قيام الدولة، أو سمعوا من أخبار آبائهم وحديثهم ما يجعلهم أقوياء أشداء إلى حد ما.
ثم يأتي بعد هذا الجيل الجيل الثالث: الذي ما عاش شيئاً من قوة الدولة، وتكاليف نهوضها وقيامها، ولا سمع الأخبار تتلى ممن شاهدوا وعاينوا، ووجد ملكاً موطأً، ووجد مالا، وجاهاً عريضاً، فيميل إلى الراحة والدعة والاسترخاء، وعلى يد هذا الجيل غالباً ما تكون نهاية تلك الدول.
فقسم ابن خلدون الدول إلى ثلاثة أجيال: الجيل الأول، الذي أنشأ الدولة، وأقامها.
ثم الجيل الأوسط.
ثم الجيل الأخير، الذي يميل إلى الراحة والدعة والترف، وتكون نهاية الدول -غالباً- على يد هذا الجيل.(264/4)
أطوار الدول
وأشار أيضاً في مقدمته من جانب آخر، إلى أن أية دولة تمر بخمسة أطوار: ذَكَر الطور الأول منها: وهو أنها أول ما تقوم يغلب عليهم نشوة الظفر، والحصول على المطلوب، فأي مجموعة من الناس، أصحاب عصبية، أو قبيلة من القبائل جاهدت وقاتلت حتى حصلت على المُلك، تجد أنهم في المرحلة الأولى مجتمعين؛ لأن المُلك حصل لهم جميعاً، فبينهم تعاون وتظافر وتلاحم؛ لأن هذه هي العصبية التي قامت عليها الدولة.
وبعد ذلك يأتي الطور الثاني: وهو أن يعمل بعضهم على الاستئثار بهذه الدولة وبهذا الملك العريض الذي ورثوه، فيحرص أحدهم على أن يكون المُلك فيه وفي بنيه من بعده -مثلاً- وأن يكون له السمعة الحسنة، والجاه العريض، فيعطي الناس العطايا، ويصنع الصنائع، ويُحسِن ليُذْكَر، ويقال: عَمِل فلانٌ، ويُنسى مَن عداه، وهذه هي المرحلة الثانية، وسماها ابن خلدون مرحلة أو طور الاستبداد عن المشاركين والانفراد عنهم بالسلطان.
ثم الثالثة: مرحلة أو طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات المُلك.
والرابعة: هي مرحلة الخنوع والمسالمة والتقليد للسابقين؛ بحيث يقول الإنسان: ما كان عليه آباؤه وأجداده هو السليم، والخروج عنه قد يؤدي إلى الانهيار.
وأخيراً: مرحلة الإسراف والتبذير؛ حيث يصطنع الحاكم قرناء السوء، ويقربهم منه، ويُبْعِد الجلساء الصالحين الناصحين، فيحملون عليه ويحقدون، ويتمنون زواله.(264/5)
أنواع الزوال
والزوال - كما تعرفون - نوعان: زوال مِلَّة.
وزوال دولة.(264/6)
زوال الملَّة
فمن زوال الملة: ما حصل في بلاد الأندلس، فإن الإسلام حكم في بلاد الأندلس نحو ثمانية قرون، وقامت فيها رايات الإسلام، وبُنيت المساجد، وارتفعت المنائر والمنابر، ومازال النصارى يجاهدون، ويكابدون، حتى استطاعوا أن يطردوا المسلمين شيئاً فشيئاً، وبذلك زال الإسلام من بلاد الأندلس بالكلية، حتى حوِّلت الآن في هذا العصر المنائر التي كان ينادَى فيها: الله أكبر، الله أكبر، إلى أجراس للكنائس، وجعلت المساجد في عصر من العصور اصطبلات للخيول، أما اليوم فأصبحت في كثير من الأحيان متاحف تعرض فيها الأشياء، والتحف، والأشياء التاريخية، والأمور، والصور، والرسوم، وغيرها؛ ليشاهدها الزوار والسياح من كل مكان.
وأصبح الإسلام غريباً، حتى أنَّ ذِكْرَه اندَرَسَ في بلاد الأندلس، فلا يكاد يذكره أحد، ولا يكاد يسمع به أحد، وهكذا أصبح الأمر كما ذكر أبو البقاء الرندي: حتى المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان حتى المآذن تبكي وهي جامدة حتى المنابر تبكي وهي عيدان وهكذا الحال في عدد من البلاد الأوروبية التي حكمها الإسلام، على عهد دولة بني عثمان، فقد بسط العثمانيون سلطانهم على كثير من أنحاء أوروبا، وحكموها بالإسلام، ودانت لهم ردحاً من الزمن، ثم زالت دولة بني عثمان، وتحولت تلك البلاد إلى ديانتها النصرانية الأولى، وعادت إلى ما كانت عليه، فهذا زوال ملة.(264/7)
زوال الدولة
القسم الثاني: زوال دولة: مثلاً: بلد إسلامي أهله مسلمون، حَكَمَتْهُم دولة، ثم خلفتها دولة أخرى لم تغير من شرائع الملة شيئاً، ولا من رسوم الدين شيئاً يذكر، وبقي الإسلام حاكماً مهيمناً، لكن تغيَّر الأشخاص، وتغيرت الأسماء، وتغير نمط الحكم، وهذا هو الكثير الغالب.
مثلاً: زالت دولة الخلفاء الراشدين، وخلفتها دولة بني أمية، ثم زالت دولة بني أمية، وخلفتها دولة بني العباس، وزالت دولة بني العباس، وجاءت دولة المماليك, وزالت دولة المماليك، وجاءت دولة الأتراك، ثم زالت دولة الأتراك وجاءت دول الطوائف، فأصبح كل بلد منفرداً بحكم خاص، فهذه ليس فيها زوال الملة -غالباً- وإنما فيها زوال الدولة.
ولا شك أن زوال الملة هو الأخطر، ولذلك كثر بكاء الشعراء على الدول التي خرجت من بلاد، وتحولت تلك البلاد إلى بلاد الكفر، كالأندلس -كما ذكرت- وقريبٌ منها فلسطين، فأن اليهود احتلوها، وكادوا أن يفعلوا بها كما فعل النصارى بالأندلس، ولذلك سماها بعض الشعراء أخت الأندلس، يقول: خلتُ فلسطين من أبنائها النجب وأقفرت من بني أبنائها الشهب طارت على الشاطئ الخالي حمائمُه وأقلعت سفن الإسلام والعرب يا أخت أندلس صبراً وتضحية وطول صبر على الأرزاء والنوب ذهبتِ في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلسٍ من قبل في الحقب وطوحت ببنيك الصيد نازلة بمثلها أمة الإسلام لم تُصَب وهكذا ما كان يحاوله الروس في أفغانستان، فإنهم لم يكونوا يحاولون تغيير الدولة، بل كانوا يحاولون تغيير الملة، وإبادة خضراء المسلمين وهدم المساجد على رءوس المصلين!! وهكذا فعلوا أو حاولوا أن يفعلوا في عدن؛ فإن الشيوعية حين احتلت عدن لم يكن حكماً بديلاً عن حكم، بل كان ديناً بديلاً عن دينٍ وملةٍ أخرى.
ولذلك قضوا على الإسلام فيها قضاءً مبرماً، أو كادوا، وعلقوا جثث العلماء والمشايخ على الأعواد في الميادين العامة، وهتكوا الأعراض، ومنعوا الدروس وحِلق العلم، حتى حصل من أمرهم ما حصل، ومع ذلك فالإسلام يتمرد على هذه القيود، وينتفض مرة بعد أخرى، كما نلاحظ في أفغانستان، وفلسطين، وعدن، بل حتى في أسبانيا؛ فإن الذين يزورون بلاد أسبانياالتي كانت تسمى: الأندلس يذكرون أن الإسلام الآن بدأ ينتعش فيها من جديد، وبدأت النشاطات الإسلامية فيها على قدم وساق، وظهرت مراكز إسلامية في عدد من مدن أسبانيا.(264/8)
أسباب سقوط الدول
والحديث عن أسباب زوال الدول يطول، وقد كان حق هذا الموضوع أن يقسم إلى حلقتين؛ لكنني سمعت كثيراً من الشباب، وكثيراً من الإخوة أصحاب التسجيلات، يقولون: إن اختصار الدرس في حلقة واحدة أفضل، لأن كثيراً من الإخوة يشق عليهم أن يشتروا شريطين في موضوع واحد، فكونه شريطاً واحداً فهو أسهل للتداول والتناول، ولذلك آليتُ على نفسي أن أختصر هذا الموضوع مهما كان الاختصار مُخِلاً، ومهما كان مكلفاً، فأذكر بعض هذه الأسباب وأعرض عن بعضها، وما سأذكره سأذكره على سبيل الاختصار -أيضاً-:(264/9)
الكيد الخارجي على الدولة
السبب الحادي عشر هو: الكيد الخارجي:- وهو كيد الأمم الخارجية، وبروز دول وقوى جديدة؛ لأن الدهر دول -كما سبق-، فهذه دولة تضعف وتلك تقوى، حتى تأكل الدولة القوية الدولة الضعيفة وتَضُمَّها إليها.
السبب الثاني عشر هو: عواقب الخلاف والانشقاق في داخل الدول:- الانشقاق: سواء في حكامها أو في رعيتها.(264/10)
الترف والفساد الأخلاقي
السبب الثامن: هو الإسراف في الترف والفساد في الأخلاق:- وهذا لاشك يورث الغفلة عن صيانة الدولة وصيانة الملة، ويجعل الناس مشتغلين بشهواتهم ولذاتهم، وقد ذكرت لكم المعتمد بن عباد قبل قليل.
وأذكر لكم قصة طريفة تتعلق بالترف، وبلاد الأندلس أكثر البلاد التي شهدت الترف والإسراف والتبذير، لكن هذا ليس مجالاً لأن نفيض فيه، وإنما أذكر هذه القصة.
كان عند المعتمد بن عباد زوجة وبنات في النعيم والترف والقصور والحبور، وفي يوم من الأيام اشتهت زوجته أن تخوض في الطين -لاحظ أذواق المترفين- فهي عندها كلُّ الطعام، والشراب، والفراش الوفير، وأشياء كثيرة كل ما تريده موجود، لكن جاءتها رغبة، قالت: أريد أن أحمل قربة على كتفي وأخوض في الطين!! لكن أين الطين؟! قام المعتمد بن عباد وعمل على أن يؤتى بالمسك والكافور ويُخلط بماء الورد، ويوضع طيناً على الأرض على مسافات هائلة، ويرش عليه ماء الورد، ثم أعطيت هذه القرب الفاخرة التي فيها خيوط من حرير، وصارت تحملها هي وبناتها ووصيفاتها على كتفها وتمشي في هذا الطين، فتحققت بذلك لذاتها! فهذه لذات المترفين! والمعتمد بن عباد قلت لكم: إنه مات في أغمات، وبناته كن في الأطمار البالية، لا تكاد تجد الواحدة ما يستر سوأتها وعورتها، فلما رأى هذا المشهد وكان شاعراً فحلاً، قال أبياتاً كثيرة يتذمر فيها من حاله ومآله، ومن ضمن هذه الأبيات: في ما مضى كنتُ في الأعياد مسروراً فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا بَرَزْنَ نحوَكَ للتسليم خاشعةً أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرا يَطَأْن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا تذكر الوضع السابق! الآن صارت تطأ في الطين فعلاً وأقدامها حافية.
مَنْ بَاتَ بَعْدَكَ في مُلْكِ يُسَرُّ به فإنه بات في الآمال مغرورا(264/11)
عدم تمييز العدو من الصديق
السبب التاسع: عدم تمييز العدو من الصديق:- فاليهود -مثلاً- والنصارى أعداء، والمنافقون والمشركون أعداء، فمن المؤسف أن المسلم تتحول عداوته لهؤلاء إلى ثقة وصداقة، ويصبحون إخواناً وحلفاء وأعواناً لنا في كثير من الأوقات، فتختلط عندنا الأمور ولا نميز بين العدو والصديق! ولو أردتُ أن أتكلم عن كيد اليهود والنصارى والمنافقين للمسلمين، فأعتقد أن هذا أمر يطول، لكن أعطيكم عناوين فقط.
فمثلاً: ضد الرسول صلى الله عليه وسلم: كم مؤامرةِ حاكها اليهود ضد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ضد أبي بكر رضي الله عنه: دورهم في حروب الردة.
ضدَّ عمر: وآخرها مقتل عمر رضي الله عنه، ومواقفهم مع الفرس في حركات الفتوح.
ضد عثمان: وكان مقتله بمؤامرة يهودية.
ونشوء الفِرَق الإسلامية من الرافضة، والخوارج، وغيرها: لليهود والنصارى دور بارز في مثل هذه الأحداث.
وفي الأندلس: دور اليهود والنصارى بارز معروف، وكان من أهم أسباب سقوط الأندلس تولية اليهود الوزارة، واستخدامهم، والثقة بهم، وكانوا عوناً لإخوانهم النصارى على المسلمين.
وكذلك العثمانيون: فمن أهم أسباب سقوط دولة بني عثمان، أنها وثقت باليهود والنصارى في مجالات كثيرة، وكانت تعطيهم بعض المناصب.
فمثلاً: السلطان محمد الفاتح على الرغم من أنه من خير أمراء بني عثمان وقوادهم، إلا أنه وثق بيهودي، كيف وثق به؟! وثق به لأنه أصبح طبيباً عنده، وهذا اليهودي تظاهر بالإسلام وسمى نفسه يعقوب باشا، وصار هو الطبيبَ الخاص للسلطان محمد الفاتح الذي فتحت القسطنطينية على يديه، فدس له نوعاً من السم يسمى العاقور! وهو سم مفعوله قوي وفعال وسريع، وهو بلون الماء، فدس له السم فشربه وقتله!! ومع ذلك فعدد من الخلفاء وثقوا باليهود والنصارى، وولوهم ولايات كبيرة تصل أحياناً إلى مستوى وزارات عليا.
ولذلك أقول: إن ثقتنا بأعداء الله تعالى من اليهود، أو النصارى: الأمريكان، أو البريطانيين، أو الفرنسيين، أو الشيوعيين الروس، أو البعثيين، أو العلمانيين، أو المنافقين، أو الحداثيين، إن ثقتنا بهؤلاء جميعاً في غير محلها، وهؤلاء صحيح قد يدفعون عنا خطراً -في تصورنا- نتوقعه، لكنهم يجرون إلينا خطراً أكبر.
وقبل قليل ذكرت لكم قصة المعتمد بن عباد، وكيف أنه لما استدعاه ابن جهور لحماية مملكته، كان هو الضحية، فإنه قد يقاتل عدوك حتى يدفعه، ثم ينثني عليك، ونحن نعرف مطامع الغربيين وأعداء الإسلام من النصارى واليهود في بلاد الإسلام، وخاصة في البلاد التي أعطاها الله تعالى هذه الثروة الكبيرة (البترول) ويعتبرون أنه لابد لهم من المحافظة عليها وحمايتها وصيانتها.
وكم هو مؤسف -أيها الإخوة- أن أصبح رجل الشارع -وهذا أيضاً كما ذكرتُ سابقاً مسئولية الإعلام- أصبح رجل الشارع العادي لا يتوكل على الله، بل يتوكل على بوش! يقول أحد العوام: من يوم جاء بوش أصبحنا ننام في الحوش!! هذه كلمة أصبحت الآن دارجة، سبحان الله!! أليسوا هم نصارى؟! أإلى هذا الحد أصبح المواطن العادي يثق بهم، ويعتمد عليهم؟! وربما يدعو لهم أحياناً! ونسي البراءة من الكافرين، ونسي قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ونسي العداوة التي قررها الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مع النصارى، والآن أصبحت العداوة مركزة مع اليهود، حتى العداوة مع اليهود: ثقوا ثقة تامة أنها سوف تمحى وتزول، لماذا؟! لأنه قد يكون هناك خطط مستقبلية للصلح مع إسرائيل، "ولا داعي لمواجهة إسرائيل في حرب قد تأتي على الأخضر واليابس"! "ونحن لسنا على مستوى حربها"! إذاً: لا بد من الصلح معها، ويحدث كما حدث في مصر بما يسمونه بالتطبيع، إذ منعوا الكلام عن اليهود وإسرائيل في أجهزة إعلامهم، وربما يساءل الخطيب لماذا تتكلم عن اليهود؟ وما بقي إلا أن يمنع القراء من قراءة الآيات التي فيها ذمُّ اليهود والنصارى وذكر عداوتهم للمسلمين!! وأحد الولاة جمع الخطباء والأئمة، وقال لهم: انتبهوا لديكم تعليمات ألا تتكلموا عن اليهود ولا عن النصارى، لأننا لا نريد أن نفرق الدولة، ولا أن نمزق الشمل، وعندنا أوامر تقضي بذلك، فلا أحد يتكلم عن اليهود ولا عن النصارى! فأحد الخطباء النجباء الأذكياء قال له: يا طويل العمر! إذاً لازم ما نقرأ سورة الفاتحة؛ لأن فيها قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] والمغضوب عليهم: هم اليهود، والضالون: هم النصارى! فظن المسكين أن السؤال على وجه وأنه جاد، فقال: لا! اقرأوها لكن لا تفسروها للناس، ولا تشرحوها.(264/12)
ضعف الأساس الذي قامت عليه الدولة
السبب العاشر وهو سبب خطير: ضعف الأساس الذي قامت عليه الدولة:- فقد تقوم دولة من الدول على الجهاد، كما قامت دولة الأيوبيين في الشام ومصر، فقد قامت دولة صلاح الدين الأيوبي على الجهاد ضد الصليبيين، فلما تركت الجهاد فقدت المقوم الذي كان هو سبب وجودها فسقطت خلال ثمانين سنة.
وبعض الدول -مثلاً- قامت على أساس الدين، قامت الدولة لحماية الدين والدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحكيم الشريعة، فكانت هذه هي عصبيتها، لأن كل دولة لها عصبية.
فعصبية هذه الدولة -مثلاً- أنها قامت على أساس الدين، بمعنى أن هؤلاء الناس الذين ناصروا هذه الدولة وقاموا معها وبذلوا جهودهم وأرواحهم وأموالهم من أجل قيامها، لا من أجل فلان أو علان، بل قاموا لأنهم يريدون التمكين للدين والملة وتحكيم الشريعة، فما دامت هذه الدولة التي قامت على أساس الدين ملتزمة بالأساس والهدف الذي قامت من أجله، فهي لابد أن تكون قوية عزيزة منيعة، لأن الناس يلتفون حولها على هذا الأساس لكن إذا فقدت الهدف الذي وجدت من أجله، وهو تحكيم الدين وإقامة الشرع، حينئذٍ فقدت سبب وجودها، فتخلى عنها أنصارها الأولون، لأنهم شعروا أنها تركت الهدف التي قامت من أجله، ولم تكتسب أنصاراً جدداً، وبذلك كان هذا هو سبب زوالها.(264/13)
ضعف الرقابة على المسئولين
السبب الخامس: ضعف الرقابة على سلوك المسئولين الخاص والعام:- فالمسئولون لهم سلوك خاص، فقد يكون المسئول -مثلاً- منحرفاً، فقد تجد أميراً يشرب الخمر، أو يرتكب الفواحش، أو يترك الصلاة مع الجماعة، أو يعصي الله عز وجل، فهذا نسميه: سلوكاً شخصياً.
ولكن هناك السلوك العام، وهو: سلوك الأمير أو الحاكم أو الوزير أو الوالي مع الرعية.
فهذا السلوك عام: هل هو حَسَن المعاملة للناس، يعطي الناس حقوقهم، وينصف المظلومين من الظالمين، ويوصل الأموال لأهلها أم أنه باطش جبارٌ معتدٍ أثيم؟ فالرقابة من أهم الأسباب لضبط سلوك المسئولين الشخصي، والسلوك العام أيضاً، ولذلك نجد أن الدولة النبوية الإسلامية كانت تراقب سلوك المسئولين بطريقة غريبة جداً، ولعل من أبرز الأمثلة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، بلغ عمر بن الخطاب أن سعد اً بنى في العراق قصراً، وأنه وضع فيه باباً ولا يدخل عليه الناس إلا بإذن، فـ عمر رضي الله عنه حالاً أرسل رسولاً، وقال له: اذهب لقصر سعد فاحرق الباب مباشرة! فانظر! كيف كان علاج تصرفات المسئولين التي لا تعجب عمر، ما ذهب يوبخه ولا يسأله ولا يحقق معه، بل أرسل واحداً وقال: توقد على الباب، وتحرق الباب، ثم أرسل إلى سعد يعاتبه، وينهاه أن يحتجب عن الرعية.
ومرة أخرى بلغ عمر بن الخطاب أن خالد بن الوليد مدحه شاعر فأعطاه مالاً كثيراً، فأرسل عمر إلى خالد بن الوليد أن يؤتى به ويدُه مغلولة -كما تقول بعض الروايات- حتى جاء لـ عمر وسأله عما فعل.
ومن أعجب القصص عن عمر رضي الله عنه في الرقابة الشديدة على المسئولين: أن عمر رضي الله عنه كان لا يولي أحداً من قرابته، فما كان عمر يقول: هذا نوليه لأنه من بني عدي، ولو كان أجهل الناس، وأغبى الناس، وأفسق الناس، وما ولى من بني عدي إلا رجلاً واحداً؛ لأنه رجل رأى عمر فيه صلاحاً، وجدارة في المنصب، وكان اسمه النعمان بن عدي.
وفي يوم من الأيام جاءت الأخبار إلى عمر عن النعمان بن عدي هذا، فقالوا له: يا أمير المؤمنين إنه يتغنى بأبيات من الشعر، قال: ماذا يقول؟ قالوا: إنه يقول: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بنعمان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنت لي دهاقين قرية وصنَّاجَةٌ تجثو على حرث منسم إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم يعني إذا كنت نديمي في شرب الخمر، فاسقني بالكأس الكبيرة، ولا تسقني بالكأس الصغير المنكسرة.
لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا في الجوسق المتهدم أي أنه يقول: لو علم عمر فسيسوؤه ذلك وهذا شعر ما له حقيقة، فغضب عمر، وكتب إليه كتاباً، فيه: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1-3] .
أما بعد: فإنه قد بلغني أنك تقول: لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم، نعم إنه والله ليسوؤني ذلك، فإذا أتاك كتابي هذا فلا تَلِ لي عملاً، واقدُم علي.
جاء الرجل إلى عمر رضي الله عنه، فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما شربت الخمر قط، وإنما هي أبيات من الشعر كنت أتغنى بها.
قال له عمر: أظن ذلك، لكن -والله- لا تلي لي عملا.
فمجرد كونك تتغنى بمثل هذه الأبيات الخليعة التي تدل على أنك تجاهر بشرب الخمر، ولو كنت عفيفاً لا تشرب الخمر فبهذا لا يمكن أن تلي لي عملاً.
إذاً: من الخطورة بمكان أن أولي إنساناً، ثم لا أضع رقابة على سلوكه الشخصي؛ لأن سلوك الحاكم أو الوالي الشخصي ينعكس على سلوك الناس؛ فكيف يضرب الحاكم الناس في الخمر وهو يشرب الخمر؟! أو يأمر الناس بالصلاة وهو لا يصلي؟! لاشك أنه مطالب بإقامة الحدود، وأمر الناس بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإن ارتكب هو ما ارتكب، لكن الناس لا يقبلون منه ذلك، ولا ينصاعون لأوامره، وأخطر من هذا كله الغفلة عن مراقبته في سلوكه العام: في طريقة إدارتة -مثلاً- وفي ظلمه، ومعاملته للناس، وفي سلوكه معهم، وفي ما يقدم لهم.
وأضرب لكم مثلاً: أجهزة الإعلام في الدول كلها، هي اللسان الرسمي الناطق عن الدولة، فإذا أردت أن تعرف دولة، هل هي دولة عقدية شرعية دينية، أو دولة علمانية لا دينية، أو دولة شيوعية، أو دولة رافضية، فانظر إلى إعلامها.
فإذا أتيت إلى إعلام الشيعة الرافضة -مثلاً- ماذا تجد؟ لو سمعت إذاعة إيران تجد إذاعات أخذت على عاتقها الدعوة للمذهب الرافضي الباطني الخبيث بكافة الوسائل والأساليب التي يحسنونها.
فتأتي إلى تلفازهم، فتجد أنه أخذ على عاتقه نشر المذهب الرافضي الخبيث والتمكين له.
وتنتقل إلى دولة شيوعية تجدها حاولت من خلال أجهزة الإعلام: من تلفزة، وإذاعة، وصحافة، وغيرها، أن تصبغ الشعب كله بالصبغة الشيوعية.
وتأتي إلى دولة علمانية تجد إعلامها خليطاً: يهتم بالإثارة الجنسية، وبالأغاني، وبالموسيقى، ويهتم بالأخبار العلمية البحتة، ويهتم بالرياضة وأخبار الشباب، وما أشبه ذلك، لأنه علماني -لاديني-.
وتأتي إلى الدول الإسلامية، فماذا نجد في إعلامها؟ هل هناك رقابة على إعلام هذه الدولة، أو على المسئولين في الإعلام؟ ماذا يقدمون للناس؟! إذا أردنا أن نحسن الظن، قلنا: ليس هناك رقابة، ولذلك أصبح الإعلام في البلاد الإسلامية -أيضاً- على أحسن الأحوال، إعلام علماني، فربما يكون أحسن إعلام من الناحية الدينية -فقط- هو في المملكة، ومع ذلك يقولون -هم-: إن البرامج الدينية في التلفاز لا تزيد على (25%) إذاً ماذا تكون بقية البرامج، ثم ما نوعية هذه البرامج التي تقدم؟! أما إذا انتقلنا إلى الإذاعات الأخرى: فإنك تجد العجب العجاب، تنظر -مثلاً- في بعض الإذاعات، وماذا تقدم من برامج للطفل وللمرأة وللمواطن تجد شيئاً مذهلاً!! أنا -مرة من المرات- كنت أسمعهم يشرحون حديثاً نبوياً على أنغام الموسيقى!! وأحياناً ما بين قراءة القرآن وبين الموسيقى إلا المذيع الذي يقدم أو يقول كلمة أو كلمتين، ثم يأتي العزف! وفي كثير من الأحيان تقدم مسرحيات وتمثيليات فيها محادة لله ورسوله، وحرب لله ورسوله، وقد سمعت مرة مسرحية تقدم في إذاعة البرنامج الثاني، امرأة -حسب المسرحية- تحكي قصة رجل دخل عليها وتزوجها، ماذا يفعل الزوج مع زوجته؟ طبعاً نحن في الإذاعة لا نرى لكن نسمع، نسمع همسات الحب، وكلمات الغرام، والألفاظ الرقيقة التي تكاد تذوب رقة وتودداً وتقرباً وحباً؛ حتى إن الإنسان الذي يسمعها قد تتحرك عاطفته، وتثور غريزته، فكيف بالذي يمارسها ويفعلها؟! المذيع نفسه أو المذيعة نفسها كيف نتصور؟! مع أنه قطعاً ليس زوجاً لها بالحقيقة إنما هذا تمثيل.
وكم نسبة الأغاني في إذاعاتنا؟! كم نسبة البرامج الهازلة؟! تجد عجباً عجاباً، وذلك لضعف الرقابة، أو غياب الرقابة، وأنه تسلل إلى هذه الأجهزة كما تسلل إلى الصحافة من قبل أناس لا خير فيهم من العلمانيين أو غيرهم الذين لا يأبهون بدين الناس.
ومن ناحية أخرى: ما هي ضوابط المسئولين عن الرقابة في الإعلام؟ الآن توجد أجهزة رقابة ولاشك، على التلفاز أو الفيديو أو غيرها، ما هي الضوابط عندكم -يا مسئولون عن الرقابة-؟ على أي أساس تمنعون هذه المادة أو تسمحون بها؟ أليس من المؤسف -يا أحبتي- أن يأتي شيخ يتكلم في برنامج فتوى دينية عن تحريم حلق اللحية، فتلغى هذه الفتوى ولا تأتي، لماذا لا تأتي؟ لأنه صعب أن ننشر فتوى أن حلق اللحية حرام في التلفزيون.
فترى -كما حدثني بعض الشباب- رأس الشيخ إذا اهتز علامة على أن هناك شيئاً حذف في برنامج فتاوى، مع أني أعتقد أن العالم في مثل بلدنا يجب أن تكون كلمته هي الأخيرة، فلا أحد يستدرك عليه، ولا أحد يراقب فتواه أو قوله، لكن في مقابل ذلك تأتي إلى الرقابة على أجهزة وأشرطة الفيديو، فتجد أنهم يجيزون مواداً -أستطيع أن أقول بكل ارتياح وأنا مسئول عما أقول-: خليعة، صحيحٌ أنهم لا يسمحون بظهور الرجل فوق المرأة؛ فهم يقطعونه أو يمنعونه، لكن من ابتلوا بهذه الأشياء، قد يرون المرأة -وهذا موجود، حتى أنه يلاحظه الإخوة العاملون في تلك الأجهزة- يرون المرأة وهي لم تستر إلا سوءتها الكبرى، وعليها لباس لا يكاد يواري إلا سوءتها فقط، وقد تكون على شاطئ نهر أو مع مجموعة من الشباب.
إذاً: ما هو الضابط الذي بسببه نمنع مادة، ونجيز مادة أخرى؟ إذا كنا نقول إنه يوجد تساهل وتفريط، فلماذا لا يكون هذا التساهل والتفريط حتى في البرامج الدينية؟ وليس تساهلاً أو تفريطاً في حق واجب، ولكن على حد زعم هؤلاء المراقبين، وإذا كان هناك تشديد إلى هذا الحد، فلماذا لا تراقب البرامج الأخرى ويبعد منها كل ما يخالف الدين؟ وأنا أثق أنه لو أبعد من تلك البرامج التي تعرض كل ما يخالف الدين، لما عرض ولا عشرة بالمائة منها؛ لأن أي تمثيلية تقدم في التلفزيون -مثلاً- لا يمكن إلا أن يكون فيها امرأة! وامرأة كاشفة عن شعر رأسها، ورقبتها، وكفيها، وذراعيها، وقدميها، وساقيها، وهي مع رجال أجانب!! فهذه أقل مخالفة، وهذا مثال في قضية أهمال الرقابة، وإلا فليس الحديث حديثاً عن الإعلام.(264/14)
فساد الاقتصاد
السبب السادس: فساد الاقتصاد:- ومن الملاحظ فيما يتعلق بالمال -أيها الأحبة- أن كل الناس يسخطون له، فالأمور الدينية يسخط لها طبقة من الناس، إذا حكومة من الحكومات أساءت إلى الدين، وتعرضت للمتدينين، أو انتهكت حرمة، فإنما يسخط لذلك المتدينون، وهم طبقة من الناس، وفئة من المجتمع.
وفي مقابل ذلك إذا قامت دولة من الدول، أو حكومة من الحكومات بالقضاء على بعض مظاهر الفساد، من القضاء -مثلاً- على مواخير الدعارة والبغاء، أو منع شرب الخمور، أو ما أشبه ذلك، غضب لهذا الإجراء طبقة وهم المفسدون والمنحرفون والضالون.
لكن هناك شيء يغضب له الجميع: الطيِّب والخبيث، المؤمن والفاسق، الكبير والصغير، ألا وهو المال! فإن أي دولة إذا مست الناس في أموالهم، كسبت بذلك سخطهم وكراهيتهم، يستوي في ذلك الطيب وغيره، فالإنسان الصالح إذا أَخَذْتَ مَالَه أبغضك، والخبيث إذا أخذت ماله أبغضك، فإذا أرادت الدولة، أو إذا أراد المندسون في الدولة والذين يريدون بها شراً أن يوقعوا بينها وبين شعوبها، عملوا على الإكثار من فرض الضرائب والإتاوات والرسوم وغيرها، فالمشي في الطريق له رسوم، وكل شيء له رسوم، ووقوف السيارة عند الباب له رسوم، وفتح الباب على الشارع له رسوم إلخ.
بحيث أصبحت الضرائب تثقل كواهل الناس، وتجعلهم يئنون تحت وطأتها، ويتمنون زوالها وزوال من فرضها عليهم.
وأحياناً تتكلم الصحف وغيرها عن ثورة الخبز، ماذا يقصدون بثورة الخبز؟! يقصدون ثورات تقوم في الشوارع، وهيجان وغليان بسبب قلة المواد التموينية، يسمونها ثورة الخبز، كما سموها في الجزائر قبل سنتين أو قريباً من ذلك، وفي غيرها.
وفي الواقع أنه ليس الثورة ثورة خبز، لكن هذا هو الفتيل، أي أن الناس ساخطون كلهم بسبب قلة ما في أيديهم، وبسبب الضغط عليهم وسوء تصريف الأموال، فيأتي إنسان يستغل هذا السخط لمصلحته، فإن كان إنساناً متديناً استطاع أن يستفيد من سخط الناس في القضاء على المنكرات ومقاومة الفساد الموجود وإن كان خبيثاً شيوعياً أو غيره، استطاع أن يَنْدَسَّ مع الناس، ويستفيد من ثورتهم في تحقيق مطالبه ومآربه، فيرفعون لافتات تؤيد مذاهبهم التي ينتمون إليها، وإن كان جمهور الناس لا يؤمنون بهذه المبادئ ولا يتحمسون لها، ولا يغضبون لها.
ومن سوء التصرف في المال: العطايا التي ليس لها مبرر إلا المزاج الشخصي، ولذلك قالوا في الحكمة: من علامة إدبار الملك أن تكون عطاياه وعقوبته بسبب أغراض نفسه، أو أغراض أتباعه، ومن علامة إقبال الملك أن تكون عطاياه وعقوبته تحت الإيجاب بالعقل والشرع وطول الامتحان، أي: أنك إذا وجدت أن دولة تعطي الناس المال عطاء في محله يقبله العقل والشرع، فاعلم أن هذا من علامة قوتها ورسوخها، وإذا وجدت أن المال يضرب به يمنة ويسرة دون ضابط ولا مقياس إلا المزاج الشخصي؛ فاعلم أن ذلك من علامات الإدبار.
وانتشار الرشوة في أي بلد على مستوى الفرد وعلى مستوى المسئولين من أسباب زوالها واضمحلالها.
ومن ذلك احتكار الأشياء لأشخاص معينين، سواء في ذلك احتكار السلع، بحيث إنهم هم الذين يستوردونها ويوفرونها للناس، أو احتكار الشركات لأفراد معينين، أو احتكار الأعمال والوظائف فإن هذا من علامات الإدبار.
السبب السابع: إهمال تربية الشعب وعدم اصطناع الرجال:- فإن الحكم في الرجال، ولذلك يقال في الحكمة: ليس الحاكم من ملك العبيد، بل من ملك الأحرار، وتملك الأحرار ليس بأن تشترى ذممهم بالأموال، ولكن بالاصطناع، وحُسن المعاملة، والاحترام، والتقدير، ومشاورتهم في الأمور، وإشعارهم بأن الأمر أمرهم وأن لهم دوراً في الأحداث وأنه يؤخذ بقولهم فيما أصابوا فيه، فهذا اصطناع الأحرار، وبهذا نجحت الدول وتقدمت.
فالأمة بأفرادها، وعند الأزمات تظهر الحقائق، فتبين الشعوب الضعيفة الواهنة التي لم تتدرب إلا على الأكل والشرب والنوم والتلذذ، من الشعوب التي تربت على القوة والإقدام والاستعداد لكل طارئ، ولاشك أن الحاكم -أحياناً- يحلو له أن يحكم قطيعاً من الغنم.
قطيع يساق إلى حتفه ويمشي ويهتف للجازرين ولكن إذا نزلت الأزمات والملمات، أدرك حينئذٍ أهمية صناعة الرجال الأقوياء الأشداء، وكما قيل: ستعلم حين ينكشف الغبار جواداً تحت رجلك أم حمار(264/15)
الظلم
السبب الرابع: الظلم:- ورُبَّ دعوة مظلوم تُسقِط دولة؛ ولذلك جاء في الحديث: {اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} وجاء في مسند الإمام أحمد وغيره بسند حسن: {اتق دعوة المظلوم ولو فاجراً -وفي رواية ولو كافراً-} ففجوره على نفسه، فإن الظلم من أعظم أسباب زوال الدول، ولذلك قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويخذل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.
فالعدل أساس الملك -كما يقال- وكثيراً ما تجد سبب زوال دولة ظلم، إما ظلم عام، أو ظلم خاص.
فمن الظلم العام -مثلاً-: نهب أموال الرعية، وأخذ أراضيهم، والمحسوبية في الشركات والأعمال والوظائف وغيرها.
ومن أنواع الظلم: التفاوت والطبقية في الناس، بحيث إنه إذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق الشريف تركوه، فكأن هناك أناساً يجري في عروقهم دم مقدس، إن سرقوا، أو زنوا، أو فجروا، لا تقام عليهم الحدود، فيتركون وربما يؤدبون بأدب معين، كأن يسجن، أو يوبخ، أو يجرد من منصبه، أو ما أشبه ذلك، لكن لا يقام عليه حد وحكم الله تعالى، فإذا سرق ضعيف من سائر الناس، فإنه يقام عليه الحد؛ فهذا من الظلم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أسباب هلاك الأمم، فلما كُلِّم في المخزومية التي سرقت قال صلى الله عليه وسلم: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه -وفي رواية أقاموا عليه الحد- وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها} إلى هذا الحد بلغ العدل، حتى مع أقرب الناس.
والعدل -أيها الأحبة- ليس مجرد تهريج وخداع وتضليل للناس، فأحياناً بعض الحكام يريد أن يتظاهر بالعدل، فيصنع مناورة في جهاز من أجهزة إعلامه، يضحك بها على الخلق، ويخيل إليه أن الناس غُفَّل وسذج، يصدقون ما يقول.
وأذكر -على سبيل المثال- أن أحد الحكام في دولة عربية -ولا يزال موجوداً- في يوم من الأيام كان له ولد يقوم على جهاز من أجهزة الأمن، هو المسئول عن استخبارات بلده، فهذا الولد كان كأبيه سفاكاً للدماء قتالاً، فقتل مجموعة من الناس، ومن ضمن من قتل رجل كان خادماً عند أبيه، وسأل: أين فلان؟ فقيل له: قتله ولدك فلان! فغضب وهاج وماج، ووجد أهل القتيل غاضبين لماذا يقتل وهو يعمل في بلاط الرئيس؟! إلى غير ذلك، فأراد الحاكم أن يصنع موقفاً يضحك به على عقول البلهاء والسُذَّج، فأعلن أنه سوف يقتل ولده، وشاع هذا في أجهزة الإعلام، حتى في أجهزة إعلامنا هنا نشر الخبر، أن الرئيس سوف يقتل ولده قصاصاً، ما شاء الله تبارك الله! إلى هذا الحد العدلُ؟! لكن تدخل أهل القتيل، وأعلنوا للرئيس أننا نحن متنازلون، وولدك في الواقع ولدٌ لنا، وقتلك له قتل لنا، ونحن نتنازل عن دم ولدنا، ونريد أن تحقن دم ولدك الذي قَتل، وهكذا حقن دم ولده، وأعاده إلى عمله! فهذه ألعوبة، ليس هذا هو العدل، العدل هو أن يكون الحاكم يجري الأحوال والأمور والحدود والأحكام على القريب والبعيد والعالي والنازل والشريف والوضيع على حد سواء، وإلا فليأذن بزوال مملكته ودولته عاجلاً غير آجل.
وأذكر لكم قصة شهدتها بلاد الأندلس، وهي تدل على أثر الظلم في زوال الدول واضمحلالها.
كان هناك رجل اسمه المعتمد بن عباد حاكماً لبعض هذه الولايات، وكان رجلاً شجاعاً قوياً كريماً طموحاً فيه من خصال الخير ما فيه، ولكن كان فيه ترف وبذخ وإسراف في تضييع الأموال، استعان به رجل من بني جهور، قد هاجمته قوة مجاورة، فاستعان بـ المعتمد بن عباد وقال له: تعال، احمِ دولتي من الغازي الذي هو ابن ذي النون، الذي يريد أن يقضي على مملكتي.
فجاء المعتمد بن عباد ليساعد ابن جهور ويحمي دولته، جاء بجيش قوي كثيف، ومعه جنده وأعوانه، فصار على حدود مملكة بني جهور، فلما رأى ابن ذي النون الغازي هذا الجيش انسحب وهرب.
إذاً المهمة التي جاء من أجلها المعتمد بن عباد انتهت، والجيش الذي أتى ليطرده قد هرب بنفسه.
وخرج الحاكم من بني جهور في الصباح الباكر ليودع جيش المعتمد بن عباد، ويشكرهم على نجدتهم وعونهم، فلم يرعَ إلا والمعتمد بن عباد قد بثَّ جيوشه في المدينة وحوالي القصر، وجعل الشرطة في كل مكان، واحتل المدينة! وكما يقولون -بلغة العصر الحاضر-: اجتاحها، اجتاح المدينة وسيطر عليها تماماً كما فعل العراق بالكويت؟! في صبيحة يوم لم يكن يخطر ببالهم شيء من ذلك!! فالجيش جاء ليحمي المدينة وإذا به يحتل المدينة! فأصيب الحاكم من بني جهور بصدمة عنيفة، وقبض عليه، وقبض على والده، وكان والده قد أصيب بالفالج "الشلل النصفي" ومالَ شدقُه، ومات شقه، وكان يعيش حالة صعبة.
فقُبض عليه، وأخذت أموالُه، وأودع أولاده في السجن، أخذ عَبيدَه، وسُبِيت زوجاتُه، ثم أخرج من المدينة بهذه الصورة، ونفي إلى مدينة أخرى، فكان أبو الملك وهو الذي أصيب بالفالج، ومال شدقه، كان يقول لولده: -والله- إن هذا لأثر دعوة مظلوم ظلمناه بالأمس.
يقصد الذي أصابنا.
ثم رفع الأب المشلول بصره إلى السماء، وقال: اللهم كما انتقمت للمظلومين منا، فانتقم لنا من الظالمين، إذاً الآن الدور واقف على المعتمد بن عباد.
وظل المعتمد بن عباد في ملكه فترة، حتى اجتاحت مُلْكَه دولة المرابطين، وأسر المعتمد بن عباد، وأخذت أمواله، وأخذ أولاده، وقَضَى حياته في أغمات في مدينة بالمغرب أسيراً أثقلت القيود يديه ورجليه، ومات في السجن! وكانت بناتُه بالأمس (بنات الملك) لهن من الترف ما سوف أذكره لكم في قصة طريفة بعد قليل، فأصبحت بناتُه يشتغلن بالغزل في الشوارع، يَغْزِلْنَ للناس، حتى إن إحدى بناته وقفت في يوم من الأيام تغزل لرجل، فلما نظرت إلى هذا الرجل كان أحد العرفاء -أحد الشرطة- عند والدها! تغزل له مقابل مبلغ يسير من المال تقتات به، وتطعم والدها الذي أصبح في السجن! فانتقم الله تعالى أيضاً من المعتمد بن عباد، كما انتقم قبل من بني جهور إذاً كم من دعوة مظلوم أسقطت دولة! والعدل أساس الملك.(264/16)
سوء اختيار الأعوان
والسبب الثالث من أسباب سقوط الدول، هو: سوء اختيار الأعوان:- ولعل هذا من آثار الاستبداد، فإن الطاغية المستبد تعوَّد ألا يسمع كلام نقد أو ملاحظة، تعوَّد أن يسمع كلام الثناء، ولذلك يختار الناس الذين يثق بأنهم سوف يكونون معه على طول الطريق.
ومن الطرائف والنكت التي تناولتها الصحف في يوم من الأيام، هي نكتة يضحك منها الناس، لكنها في الجانب الآخر تشبه الحقيقة التي تُعَايَش في البلاد الإسلامية، تعرفون أن جمال عبد الناصر حكم دهراً، وضحك على الناس وقتاً، واستخف بعقولهم وعواطفهم، وأودع من يخالفه في الرأي في غياهب السجون، وكان مِن أول ضحاياه زملاؤه في الثورة، ممن يسمونهم بالضباط الأحرار، ثم قضى على الدعاة والعلماء والمسلمين، ونصب لهم المشانق.
فالمهم: مِن النكت التي كانت تتداولها الصحف وقت جمال عبد الناصر، يقولون: إنه زار حديقة الحيوان، فمر على حمار، فوقف عنده - قلت لكم: إنها أسطورة، لكن لها معنى مثل قصص كليلة ودمنة- قال له: من الذي جعلك في هذا المكان؟ قال له: وضعوني فيه فجلست، قال: ماذا تأكل؟ قال: آكل ما يقدم لي، قال: ماذا تشرب؟ قال: أشرب ما يقدم لي، قال: ومتى تخرج؟ قال: إذا فتح الباب.
والمهم: أنه كلما سأله عن شيء بيَّن أنه مطيع، إذا أُمِر بشيء نفَّذ، وإذا نُهي عن شيء انتهى، وإذا قدم له شيء أكله، وإذا مُنع من شيء امتنع، فقال لمن حوله: إن هذا يصلح عضواً في مجلس الشعب، اذهبوا به إلى مجلس الشعب، أي: أنه يختار ممن حوله أعواناً إذا قال شيئاً أمَّنوا على ما يقول؛ لأنه تعود ألا يسمع رأياً مخالفاً، ولذلك ينفعل، ويطير صوابه، إذا سمع صوتاً يقول له كلمة الحق، لأنه ما تعود.
وأذكر أننا سمعنا -جميعاً- في الإذاعة، أن الزعيم الهالك -زعيم مصر السابق- كان في إحدى الاحتفالات يتكلم، فقام إليه أحد الشباب، وسُمِع هذا في الإذاعة؛ لأن الحفل كان يُنْقل على الهواء، فسمعناه في الإذاعة وهو يقول: أنا أبو الأسرة المصرية، ونحن أسرة واحدة.
فقام وقال له بلهجته المعتادة: (إزَّاي) -كيف تقول- إننا في دولة العلم والإيمان، وأنت قد أبعدت المؤمنين والصادقين، وقربت المنافقين، وفصلت الخطباء الذين يقولون كلمة الحق، وانطلق هذا الشاب كالسيل الهادر يتكلم بشجاعة وجرأة، فبُهِت الرجل وانزعج! وجلس فترة لا يكاد يستطيع أن يتكلم، فوجئ بما لم يكن له في حسابه، وانشدت أعصابُه، وبعدما استرد شيئاً من هدوئه تكلم بكلمات شديدة غليظة تدل على التشنج والانفعال، لماذا؟ لأنه ما تعود أن يسمع هذا الكلام من أقرب الناس إليه من الوزراء ورجال الدولة، فضلاً عن أن يسمعه من مواطن عادي.
فالطاغية المستبد تعود ألا يسمع إلا ما يوافقه: ما تقوله أنت هو عين الصواب، وما تراه هو الحق، وما تقترحه فلا خير ولا عزة ولا مصلحة للأمة إلا فيه، تعود هذا الكلام، ولذلك تحجب عنه الحقائق من خلال هؤلاء الأعوان، يختار أعواناً بيده يحجبون عنه الحقائق، وما يعانيه الناس من آلام وما يعانيه الناس من فقر، ويحجبون عنه ما يعانيه الناس من كبتٍ للحريات وما يعانيه الناس من اضطهاد ومن تسلط الأمراء والوزراء والولاة عليهم، ويقولون له: إن كل شيء على ما يرام، فيرتاح لهم ويقربهم ويُدنِيهم.
فإذا جاءه إنسان آخر ناصح، وقال له: إن الأمور على عكس ما يقال لك، وإنه يوجد في مكان كذا مضايقات، والطاغية الفلاني يؤذي الناس، والحاكم الفلاني يعتدي على الأعراض، وفلان ينهب الأموال، وفلان يأخذ كذا؛ فإنه يكره هذا الناصح؛ ويبغضه ويقصيه ويبعده؛ لأنه عكر مزاجه، وقال له كلاماً لم يتعود أن يسمعه.
ولذلك فإنه -من جهة- يكون من أهم أسباب زوال الدولة وفسادها: أن الطاغية المستبد يبعد المؤمنين الصادقين الناصحين ويقرب المنافقين.
ومن جهة أخرى، فإنه في كثير من الأحيان يكون المقياس الذي يقرب به الأفراد، ويولَّوْن المسئوليات والمناصب، ويكونون أعواناً، يكون مقياساً مختلاً، فإن المقياس الصحيح هو الكفاءة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] فإذا وجد في إنسان قوةٌ وأمانةٌ في كل شيء بحسبه، أصبح صالحاً للولاية في مجاله، ولكن قد يختل هذا الميزان -أحياناً- وتصبح القضية أن هذا يولَّى لأنه من قبيلة كذا، أومن بلد كذا، أو لأمر من الأمور، أو لمصلحة من المصالح، أو لمراعاة شيء ما.
ولو جردتَ هذا الإنسان من اسمه، وجردتَه من نسبه، وجردتَه من شرفه، لأصبح لا يصلح أن يكون أميراً على اثنين، أو والياً على أدنى ولاية! ليس لديه عقل راجح يُمدح به، ولا بصر نافذ، ولا خلق حسن، ولا تجربة تنضجه! كل ما في الأمر أنه يملك شرفاً أو سؤدداً أو مكانة معينة، فأصبح بها أهلاً للولاية، فلو جردته من هذا الشرف، أو النسب، أو السؤدد لوجدته شخصاً عادياً، أو في كثير من الأحيان أقل من العادي.
ولذلك قد يصل الأمر في كثير من عصور التاريخ الإسلامي إلى ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: إمرة الصبيان، وإمرة السفهاء، فقد يولى على المسلمين صبي عمره أربع عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، أما عشرون سنة، وخمس وعشرون، وثلاثون، فهذا -والله المستعان- حدِّث عنه ولا حرج، في كل زمان وفي كل مكان، لكن في كثير من العصور كان يحكم المسلمين أمير عمره أربعة عشر عاماً، لماذا؟ لأنه مات أبوه، ولم يبقَ إلا هو، وتكون أمه هي التي تدير أمور الولاية باسم هذا الصبي الصغير، وتدير أمور الحكم.
حتى أن أحد العلماء كتب كتاباً فيمن ولِّي بلاد الإسلام قبل بلوغ الاحتلام، فعدد الذين تولوا السلطة في بلاد الإسلام قبل أن يبلغوا الحلم، فقبل أن يصل الواحد منهم إلى سن الخامسة عشرة يصبح أميراً، أو خليفة مشاراً إليه بالبنان، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من إمرة الصبيان، كما قال أبو هريرة: [[أعوذ بالله أن تدركني سنة ستين أو أمرة الصبيان]] .
وذُكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من إمرة الصبيان؛ لأن الصبي ليس لديه خبرة، فيأتيه كريم قوم، ويأتيه عزيز، أو شيخ قبيلة، أو إمام، أو عالم جليل، أو ذو مكانة، فلا يأبه به، ولا يكترث له، بل قد يهينه، ويتكلم عليه بالكلام البذيء، وقد يعتدي عليه، وقد يسقط حقه، ولا يعرف لذي قدر قدره، ولا لذي مكانة مكانته.
في حين إذا جاءه بعض السفهاء الذين يسرون عن خاطره بالنكت والطرائف، ويتكلمون معه بالكلام، فإنه يقربهم ويدنيهم، ويأخذ مشورتهم ورأيهم.
ومما يروى عن كسرى أنو شروان وهو أحد ملوك فارس، أنه كان يقول: الملك بالأعوان.
انظر! كيف تَخْرُج الحِكَمُ حتى من أفواه الكفار الذين خبروا الأمور وجربوها.
يقول: الملك بالأعوان، لأن الحاكم مهما كان، فليس كالشمس سيشرق على الدنيا كلها، وإنما يستطيع أن يعرف الأحوال بالأعوان، (فالملك بالأعوان، والأعوان بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالرعية، والرعية بالعمارة، والعمارة بالعدل) لاحظ هذا التسلسل، تجد أنه ينطبق انطباقاً تاماً على الواقع.
ولذلك يقول أبو مسلم الخراساني، وقد سئل عن سبب سقوط دولة بني أمية، يقول: لأن دولة بني أمية قرَّبت الأعداء، حتى تأمَنَ شرَّهم، وأبعدت الأصدقاء ثقةً بهم، فقرَّبت الأعداء لتأمَنَ شرهم، فإذا وجدوا شخصاً يخافون منه؛ أعطوه ولاية، وأعطوه منصباً؛ حتى يأمنوا شره، وأبعدوا الأصدقاء ثقة بهم، واتكلوا على حسن الثقة بينهم وبينهم، فأبعدوا الأصدقاء، يقول: فلم يتحول العدو إلى صديق، بل تحول الصديق إلى عدو، والعدو بقي على عدوانه، واستغل منصبه في تحقيق مطامعه، لكن الصديق الذي يمكن أن تصطنعه وتوليه وتثق به تحول إلى عدو؛ لأنه رآك أبعدته، وقربت أعداءك ومناوئيك.
وهكذا الشأن في كثير من الدول، فبعض الدول يكون فيها أحزاب منحلة منحرفة، أحزاب علمانية، أو بعثية، أو قومية، أو يسارية، أو شيوعية، فهذه الدول تريد أن تأمن شر هذه الأحزاب وتحتويها، فتحاول أن تعطيهم بعض المناصب والوزارات والولايات، وتقربهم، وتشاورهم في بعض الأمور، وتظن أنها بذلك سحبت البغضاء والعداوة من قلوبهم، ولا تدري أن هؤلاء لا يزالون يتغلغلون ويتخلخلون ويتآمرون؛ حتى يقتحموا ويسقطوا هذه الدولة أو تلك بما مكنت لهم وأعطتهم في الوقت الذي لا يكون لها أنصار؛ لأن الأنصار الحقيقيين الذين كانوا أعواناً لها لم تخف الدولة منهم، ولذلك لم تعطهم المناصب والولايات، ولم تأخذ برأيهم في النوازل والملمات.(264/17)
الاستبداد
السبب الثاني: الاستبداد والفردية في الرأي، وزوال الشورى:- وذلك أن الله عز وجل أعطى كل إنسان عقلاً وفهماً وإنسانية وشخصية، فإذا أهدرتَ عقلَ الإنسان أو شخصيتَه، فإنه لا ينفعه أن تعطيه الدنيا كلها، أرأيت إنساناً تزدري عقلَه وتحتقرَه وتهينَه، أو تستخفَّ به، أو تعاملَه بخلقٍ سيء، هل ينفعك معه أن تعطيه المال الكثير الوفير؟! هذا لا ينفعه أبداً.
ولذلك يُقال: إن فرعون الطاغية المتجبر، المتأله الذي كان يقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] كان يقال: إن فرعون باذخاً في العطاء والإنفاق على الفقراء والمحتاجين والمساكين والمُعْدَمين، إذ كان يعطيهم في كل سنة مائتي ألف دينار فرعوني، يخصِّص هذا للفقراء والمساكين والمحتاجين، ويخصِّص مثلها لرجال الملة والدين -رجال دينهم- الذين يقومون بتعليم الناس طقوسَهم وعباداتهم، ويخصِّص مثلها لذوي الحاجات ومن تنزل بهم الفاقة، وكان يعطي عطاءاً كبيراً، وكان يحضر على مأدبته ووليمته أعداد غفيرة من الناس؛ يكرمهم ويطعمهم، ويجعل لكل فرد منهم ألواناً خاصة من الطعام، حتى يأكل منها ما يشاء ويدع ما يشاء.
ومع ذلك كان الناس يكرهونه، وآلَ أمْرُه إلى الزوال والفناء، لماذا؟ لأنه استخف بعقول الناس واستبد، وصادر حرياتهم الدينية وحرياتهم الفكرية.
فأما بالنسبة للحرية الدينية: فكان يقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وكان يدَّعي أنه يجري في عروقه دمٌ إلهي، وأن على الناس -كلهم- أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً! وأما بالنسبة للحريات؛ حرية الفكر، والرأي، والمشورة: فإنه كان يقول لهم: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] فأصبح ليس هناك رأي، ولا مشورة، ولا تفكير، إلا بما يقوله فرعون نفسه، وما يمليه على مَن حولَه، وكان يتهدد كلَّ مَن يخالفه بالرأي، ويأتي برأي غير رأيه، أو مذهب غير مذهبه، أو يجتهد في أمر بخلاف ما يريده فرعون؛ بالقتل والسجن، ولذلك قال لموسى: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] والمعنى: المسجونون كثيرون، لكن أنت ستكون منهم إن خالفت ما آمرك به، وما أمليه عليك.
ولذلك نلاحظ أن الحكومات الدينية الشرعية كانت تهتم بالشورى، فالحكومة التي أقام بنيانها محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تقوم على الشورى، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ولذلك لم يكن أحدٌ أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الله تعالى أيده بالوحي، وكثيراً ما كان يقول: {أشيروا علي أيها الناس} ومن ذلك ما حصل في معركة بدر، وفي معركة أحد، وفي صلح الحديبية، وغيرها من المناسبات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من مشاورة أصحابه؛ وذلك ليعلمهم المشورة من بعده.
ولذلك لما تولى أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية المؤمنين، كانت حكوماتهم حكومات شوروية، لا ديمقراطية -كما يقولون بلسان العصر الحاضر-.
فكانت حكومات شورية، ربانية، على منهاج النبوة، ولم تكن حكومات استبدادية يقول فيها القائل: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] فكان كل فرد يشعر بأن الرأي رأيه؛ إذا تشاوروا في الأمر، فإن كان صواباً فالحمد لله، وإن كان خطأ لم يُلْقُوا باللوم على الحاكم، ويقولون: استأثرت بالأمر دوننا، وفعلت هذا الأمر بمحض رأيك، ولو أخذت رأينا لخالفناك، وبَيَّنَّا لك وجه الصواب؛ لا يقولون له ذلك؛ لأن الرأي صدر عن مداورة ومشاورة بينهم جميعاً، ولهذا كان لها من النفوذ والقوة والبقاء الشيء الكثير.
ويكفي أن نقول: إن الحكومة الشرعية الدينية ظلت باقية قروناً طويلة.
صحيحٌ أن الدول تغيرت من الخلافة الراشدة، إلى الأمويين، إلى العباسيين، إلى العثمانيين، لكنها كلها كانت حكومات تقوم على أساس الحكم بالشرع.
ولم تقم دولة من الدول في عصر من العصور السابقة كلها تنادي بحكم غير حكم الله ورسوله قط، بل كانت تقوم على أساس الشريعة الإسلامية.
وحين دب إلى الدولة العثمانية الاستبداد، وطغى خلفاؤها المتأخرون، ثارت عليهم الثورات في كل مكان، ولم يفدهم بعد ذلك أنهم أعلنوا الدستور، وجعلوا هناك ما يسمونه بمجلس الشورى، أو مجلس نيابي شكلي يختارون فيه أفراداً يعيِّنونهم، لم ينفعهم ذلك، فسقطت دولتهم لأسباب كثيرة من أهمها: إهمال الشورى، وضياع الحياة الدستورية الصحيحة في بلادهم.
وقل مثل ذلك بالنسبة للدول المعاصرة، فنحن نشهد في هذه الأيام سقوط الشيوعية في عدد من الدول التي حكمتها عشرات السنين، فسقطت هذه الدول التي هي مدججة بالحديد والنار والاستخبارات والقوة الأمنية، ومع ذلك سقطت أمام تيارات الجماهير التي تصرخ وتنادي بحريتها في عدد من البلاد، بل أصبحت تتهاوى كما تتهاوى لَبِنات البناء المتهالك القديم إذا تعرض لإعصار شديد أو لضربة قاضية!! وهاهي روسيا التي هي أم الشيوعية، والتي شهدت ميلاد أول دولة شيوعية، هاهي الآن تدرك أن من أهم أسرار التهاوي: هو أن الحكم الشيوعي حكمٌ استبدادي، يؤمِن بحكم الحزب الواحد، والفرد الواحد، ويدمِّر قيمة الفرد، فليس له تملُّك أو رأي، أو اختيار؛ بل هو مجرد تِرْس في آلة، وبذلك قضوا على حرية الفرد وشخصيته، فيحاولون أن يعيدوا ما أفسدوا الآن في روسيا، وهكذا انشغلوا بهمومهم الداخلية عن الهموم الخارجية.
فسقوط الشيوعية منبئ عن أهمية الشورى، ومعرفة قيمة الفرد، وأن كل دولة تقوم على الحديد والنار، وتبطش بالناس، فإنها آيلةٌ للزوال والفناء؛ فالقوة لا بقاء لها.
وهكذا الشأن في نظام شاه إيران، النظام الفاسد الهالك.
فإن شاه إيران كان يحكم الناس بالسلطة والحديد والنار والقوة، وكان نظام المخابرات عنده المعروف بنظام (السافاك) يلاحق خصوم النظام في الداخل والخارج، ويلتقطهم واحداً بعد آخر، وينكل بهم شر تنكيل، وكان شاه إيران يحلم بإقامة امبراطورية فارسية، ويعيش على هذه الآمال العريضة، وما هي إلا أيام حتى ضج الناس من بطشه وطغيانه، فلما سمعوا بالثورة الإيرانية التي يقودها الخميني الهالك، وتناقلوا أشرطته التي كانت تندد بما يسميه (الشاهٍ شاه) الذي يحاول أن يستأثر بالملك، بل يحاول أن ينازع الله تعالى في ملكه، فيتشبه به بهذا الاسم ملك الأملاك (شاهٍ شاه) ولا مَلِك إلا الله، وكانت أشرطته تمشي في شوارع إيران، وهي تفعل في الناس كما تفعل النيران بالأشياء المتهالكة والهشيم! وما هي إلا أيام وشهور حتى زال الشاه، وخرج من ملكه، ثم ورثه بعد ذلك وجاء من بعده: شاهٌ آخر، لَبِسَ جُبة وعمامة، ولكنه عاد إلى الأساليب نفسها التي سلكها سلفه، ولذلك فإن السُّنَّة الإلهية لابد أن تمضي على ما يسمونه بالجمهورية الإسلامية، كما مضت على جمهورية شاه إيران من قبل، ولابد أن تزول بنفس السبب، وهو سلوكهم أسلوب الدكتاتورية والتسلط والحكم الفردي، وأخذ الناس بقوة الحديد والنار: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] بالأسلوب الفرعوني في الحكم.
وفي مقابل ذلك، فإننا نجد الأنظمة الغربية الآن في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، إذا أردنا أن نكون واقعيين وصرحاء؛ فإن هذه الأنظمة أكثر استقراراً من الأنظمة الشيوعية بلا شك، وأكثر استقراراً من الأنظمة العربية والإسلامية المعاصرة كلها.
وليس ذلك لأن الأنظمة الغربية تقوم على مبدأ كلا! بل إن الأنظمة الغربية لا تقوم على مبدأ، فهي ليست أنظمة دينية، بل هي أنظمة علمانية.
ولذلك في أمريكا -مثلاً- يمنعون من تعليق صور المسيح في المدارس والمؤسسات الحكومية، ونحن المسلمون نعرف أن الصور ممنوعة، وتصوير الأنبياء والصالحين وتعليقها شرك يؤدي إلى عبادتهم، وكذلك سائر العظماء، بل تعليق الصور مطلقاً لا يجوز، وموقفنا من التصوير واضح، لكن النصارى أنفسهم يعتبرون الصور رمزاً لدين وعبادة عندهم؛ لذلك يعلقون الصور في الكنائس والمعابد؛ لكن أصدرت الحكومات أوامر بمنع تعليق صور المسيح وأمِّه في المدارس والمؤسسات، لماذا؟ لأنهم يقولون: نحن دولة علمانية، لا نريد أن ينشأ الأولاد عندنا في المدارس على التَّديُّن بدين معين، أو تعظيم شخص معين؛ فالذي يريد الدين يذهب إلى الكنيسة.
فهذه دول علمانية، كذلك هي دول ليس لها مبدأ معين، إنما مبدؤها المادة والمصلحة، ومع ذلك فهي حكومات ودول مستقرة إلى حد بعيد، لماذا؟ لأنها حكومات لم تقم على منهج الحكم الديكتاتوري المتسلط، بل هي أعلنت ما تسميه -هي- بالحكم الديمقراطي، وهم يقصدون بالحكم الديمقراطي: أن الفرد هو مصدر السلطات، فالإنسان المواطن هو مصدر السلطة عندهم، لماذا؟ لأنه لا يوجد عندهم دين، فالسلطة، والحرام والحلال هو ما أحله أو حرمه الشعب عندهم، وكذلك الأنظمة هي ما تختارها الشعوب، ويسمون ذلك بالديمقراطية.
وبغض النظر عن موقف الإسلام من هذا النظام، وأن الإسلام لا يعتبر أن الأمة مصدر السلطات، بل إن القرآن والسنة هما مصدر السلطات، إذا قصدنا بالسلطات: الشرائع، والأحكام، والحلال، والحرام، فإن الإسلام لاشك يؤمن بقيمة الفرد؛ ولذلك فإن الحكومة التي تهتم بالفرد وتعطي الفرد عناية واهتماماً، وتأخذ رأيه هي أولى بالبقاء والاستمرار من تلك الحكومة التي تهدر قيمة الفرد، وتحكمه بالحديد والنار، وتسلك الطريقة الفرعونية في الحكم: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] .
فهذه الدول الغربية الديمقراطية الانتخابية في أمريكا، و(264/18)
أن يكون وجودها غير طبيعي
فأول هذه الأسباب: أن يكون وجود الدولة وجوداً غير طبيعي في الزمان أو في المكان:- خذ على سبيل المثال: وجود دول نصرانية أو يهودية في وسط إسلامي، أو وجود دول شيعية فاطمية في وسط سُنِّي، فإن هذا من الأسباب المؤذنة بالزوال.
ولذلك لما حكم العبيديون في مصر وغيرها، تسلطوا وطغوا وبغوا، وفرضوا سلطانهم وقتاً من الزمان، ومنعوا قراءة صحيح البخاري، ومنعوا تداوله، وحاربوا السنة وأهلها.
ولكن مع ذلك فإن المصريين وغيرهم ممن حكموهم لم يقبلوا دينهم، ولم يرضوا بهم، بل كانوا يتربصون بهم الدوائر، فإذا حصل تهديد للعبيديين الفاطميين، فرحت بذلك الشعوب التي يحكمونها، وقالوا: يذهبون غير مأسوف عليهم.
وهكذا بالنسبة للدول النصرانية التي قامت إبَّان الحروب الصليبية في الشام وغيرها، فإنها سرعان مازالت وبادت، وقُلْ مِثْلَ ذلك في دولة إسرائيل التي تعيش الآن بين المسلمين، فعلى الرغم من أنها أقوى دول المنطقة بلا منازع، وتملك من قوة الحديد والسلاح والمال والاقتصاد والنجاح في برنامجها السياسي ما لا تملكه جميع الشعوب العربية بلا شك، وكذلك تملك من الدعاية الغربية الشيء الكثير، حتى إن الغرب يعتبر أن إسرائيل هي الدولة الناجحة في الشرق الأوسط، وأنها دولة حضارية متقدمة في وسط عالم عربي همجي متأخر.
فهذا تصوُّر الغربيين عن إسرائيل، ومع ذلك فقد ظهرت -الآن- أصوات كثيرة حتى في أوروبا نفسها، تقول: إن إسرائيل بذرة غربية في جو غريب، وأنه لا بقاء لها، ولذلك أُذِيع في التلفزة الغربية فيلم يسمونه بالانتفاضة الفلسطينية، يتكلم عن بداية الهزيمة لإسرائيل، والنصر الساحق للشباب والأطفال والنساء الذين يحملون الحجارة، ويقاتلون الغزاة اليهود المحتلين، وقد كان لهذا الفيلم الذي عُرض أَثَرٌ كبير في نظرة الغربيين؛ حتى أن اليهود قاموا بحربه، وحاولوا محاربة القنوات التي قامت ببثه، حتى حاربوه فعلاً ومنعوا تداوله.
لكن مع ذلك بدأت الأصوات تقول -حتى من اليهود أنفسهم-: إن إسرائيل بذرة غربية في وسط لا يمكن أن يقبلها، فهي أشبه ما تكون بجسم غريب زرع في بدن لم يقبلْه، كما لو زرعت كِلْية في بدن ولم يقبلها، ولم يسرِ فيها الدم بصورة طبيعية، ولم يتقبلها الجسم، فإنها آيلة إلى الموت، ولا بد من تغييرها واستبدالها.
إذاً: فمن أهم أسباب الزوال: أن تكون الدولة نشأت في مكان أو زمان غير مناسبَين وغير طبيعيَين؛ فهي لا تصلح فيه، ولابد أن تزول.(264/19)
الأسئلة(264/20)
المشاركة في الحرب ضد العراق
السؤال
ماذا يكون علينا إذا قامت الحرب على العراق؟ هل نذهب إلى الجبهة، ونترك النساء والأطفال، ونذهب إلى الحرب إذا لزم الأمر؟
الجواب
الذي أعتقدُه أن الحرب مع العراق -والله تعالى أعلم- لن تكون بشكل حرب مع العراق! الآن الدول الغربية أحضرت أسلحة وقوى هائلة تستخدم لأول مرة في العالم، وهذه القوى أحضرت من أجل ألا يكون هناك حرب بين أمريكا والعراق، وإنما من أجل أن تضرب أمريكا ضربتها لالعراق! وتنهي قوته خلال سبع دقائق، ولا يكون هناك حاجة للحرب أصلاً، فهذه خطتهم، وهذا تفكيرهم.
وبحسب إمكانيتهم فإن هذا الأمر ليس أمراً مستبعداً، ويكفي أن عندهم من الطائرات ما يسمونها بطائرات (الشبح) التي خلال حركة بسيطة -وهي لا تُكَْشَف بالرادار- تستطيع أن تدمر جميع وسائل الاتصال في الدولة المحاربة من الكهرباء والهاتف والخطوط وغيرها وبذلك تَنْشَل حركة الدولة، ويسهل القضاء عليها.
فلا أعتقد أن هناك حرباً حقيقة سوف تقوم، ونحتاج إلى أن نجند أنفسنا في هذه الحرب، لكن المؤمن يجند نفسه في كل وقت؛ لأن زوال الخطر ليس معناه زوال خطر العراق فقط، فقد يكون الخطر من النصارى أنفسهم أو من اليهود! ولماذا نستبعد هذا؟ فالمؤمن يجب أن يستعد، ويتدرب على التسلح، ويربي نفسه تربية عسكرية، أما هذا السؤال، فإنني أقول للأخ السائل أبشر بطول سلامةٍ -إن شاء الله-.(264/21)
أخبار صدام حسين
السؤال
هل صحيح ما نسمع مما يقال في الصحف والإذاعات من أخبار صدام؟
الجواب
لعل ما تسمعه في الصحف والإذاعات من أخبار صدام، هو بعض الحقيقة وليس كل الحقيقة، أي: أنه جزء من أخبار هذه الطاغية.
يكفي أن صدام قضى على أعظم حركة ودعوة إسلامية في العراق.
يكفي أن صدام أجهز على العلماء العاملين ولم يبق إلا مجموعة من المرتزقة باسم الدين.
يكفي أن صدام استضعف أهل العراق، واستخف بهم، ونهب أموالهم وخيراتهم، وجعلهم يعيشون في شظف من العيش، وفي بلاء لا يعلمه إلا الله.
ويكفي أن صدام ضرب بلاد الأكراد، وما يُسمى بـ (حَلْبَجَة) وما حولها بالأسلحة الكيماوية، وقتل منها عشرات الألوف، لكن السؤال الذي -فعلاً- من الممكن أن يطرح: أين هذا الكلام بالأمس؟ من الطريف أنه يوجد شريط يحكي مأساة الأكراد في (حَلْبَجَة) هذا الشريط عمره سنتان ونصف، يعني الدول والإعلام الغربي الكافر النصراني عرض مأساة المسلمين الأكراد قبل سنتين ونصف! نحن هنا يمكن أن نعرض الشريط بعد سنتين ونصف من الحادث!! لماذا نتفطن الآن؟! لماذا نسكت عن جرائم صدام كل الوقت الذي مضى؟ ثم ننفجر عليه مرة واحدة، ونكشف الأوراق كلها؟! حتى انتصاره على إيران أصبحنا نشكك فيه، ونقول: إنه هزم في سبعين معركة، وكذا وكذا وكذا! ثانياً: حزب البعث ليس صداماً فقط، فالبعث أكبر من صدام، والبعث موجود في سوريا، والبعث موجود في أحزاب في معظم البلاد العربية، وموجود في أشخاص معروفين فلماذا يكون العداء لبعث صدام، ونسكت عن بعث غيره.
؟!! هذا الذي أفقد الناس الثقة بإعلامنا، أنه أصبح إعلاماً موجهاً، ينفخ فيه بحسب الحاجة ويسكت عنه! فالذي كفرناه بالأمس نسكت عنه اليوم! وقد يدل السكوت على أنه تحول إلى رجل صالح، فيستقبل استقبال الفاتحين، ويُثنى عليه ويُعطى عبارات التبجيل، وتتكلم عنه الصحافة بلهجة مختلفة! أين كلامنا بالأمس عن معمر القذافي؟! أين الرد الشافي على معمر القذافي؟! أين كفره؟! أين إنكاره للسنة النبوية؟ أين وأين؟! هذه هي القضية -فعلاً- التي تحتاج إلى سؤال.
أقول بصراحة: الذي يجب أن يكون عليه أهل العلم، وأهل الدين، وأهل الفكر: أن يكون لديهم إمكانية، وقوة، وشجاعة أن يتكلموا بالحق في أوانه، ولو لم يكن يرضي جميع الأطراف، بحيث إذا قالوا كلمة الحق في مناسبتها، وتكلموا عن صدام، قَبِل الناس كل ما يقولونه؛ لأنهم يعرفون أنهم لا يتكلمون تبعاً لعواطف آنية، ولا بتحريض من جهة معينة، بل يتكلمون بالحقيقة.(264/22)
حديث إعزاز الدين بالفاجر
السؤال
ما مدى صحة حديث: {إن الله ليُعِزْ هذا الدين بالرجل الفاجر} ؟
الجواب
هذا الحديث صحيح في البخاري ومسلم، وله قصة.(264/23)
حكم قنوت الفجر
السؤال
ما مدى صحة القنوت في صلاة الفجر؟
الجواب
الراجح: أن القنوت في النوازل مشروع، وقد قنت الرسول صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على أحياء من العرب، فلا بأس أن يقنت الإنسان إذا نزلت بالمسلمين نازلة، في صلاة الفجر أو في غيرها، لا بأس في ذلك.
لكن إن كان القنوت مدعاة للإثارة من قبل العوام والاستغراب، فممكن للإنسان أن يقنت سراً، إذا رفع رأسه من الركوع يدعو بينه وبين نفسه دون أن يسمع المأمومين.(264/24)
شرعية الحكومة الكويتية
السؤال
هل يجوز لنا أن نطلق على الحكومة الكويتية الحكومة الشرعية؟
الجواب
مع الأسف كلمة الشرعية -الآن- أصبحت لعبة.
الآن يقال: نحن مع الشرعية في لبنان، ما هي الشرعية في لبنان؟ الشرعية في لبنان: عودة حكامها النصارى! كذلك يقولون: مع الشرعية في الكويت: عودة حكامها الذين أخرجوا منها.
وفي الواقع: إنني أقول: إننا لسنا متعبدين بالطاعة، لا لـ صدام حسين، ولا لآل صُباح، ولا لغيرهم، نحن صاحبنا هو الذي يرفع راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ولو كان أعجمياً، أو كردياً، أو من أي نحلة كان، أو من أي أمة كان، أو من أي دولة كان، صاحبنا هو الذي يرفع راية الإسلام، هذا نفديه بأرواحنا وما ملكت أيدينا.
والواقع: أن حكومة الكويت ما كانت تحكم بالشريعة الإسلامية، وما كانت تحكم بما أنزل الله، بل كانت تحكم بالقوانين الوضعية.(264/25)
رعاية حقوق الإنسان في الغرب
السؤال
ورد في مجمل كلامك نوع من المدح للسياسة الغربية مع شعوبها، مع أن معظم ما هو واقع في ديار المسلمين هو من أثر سياسية الغرب وحربها للإسلام؟
الجواب
في الواقع لست أقصد المدح لهم مطلقاً، إنما أقصد أن هؤلاء في أنظمة حكمهم أقرب إلى رعاية حقوق الناس من غيرهم، وهذا أمر استفاد الناس منه، حتى المسلمون استفادوا منه، فكثير من المسلمين مع الأسف، يهربون من ليبيا، أو سوريا، أو العراق إلى أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا! وقد زرتهم بنفسي، ورأيتهم في تلك البلاد قد أعطوا حرية بناء المساجد، حتى إنه في فرنساأكثر من ألف مسجد، معظمها بناها إخوة من الجزائر، والمغرب، وتونس، وأناس هربوا من بلادهم، وكذلك الحال في أمريكا يوجد فيها جماعات كثيرة من الإخوة الليبيين الهاربين والفلسطينيين الذي لم يجدوا من يأويهم، ويقومون بالدعوة على خير وجه.
فأنا لست أجهل حقيقة هؤلاء القوم، بل لي أحاديث خاصة عن هذا الأمر، وخلاصة كلامي يمكن أن تراجعه في محاضرة "حي على الجهاد".
وخلاصة كلامي أنني أقول: هؤلاء القوم يسكتون عن الإسلام لأنه لم يصبح خطراً يهددهم الآن، ولا يزال دون مستوى الخطورة، لكن حين يصبح الإسلام خطراً عليهم سوف تعرفون كيف تكون ضراوتهم في حرب الإسلام، واجتماعهم عليه، لكنني أقصد أن أنماط حكمهم لشعوبهم -الآن- أفضل من أنماط الحكم الديكتاتوري الغاشم في البلاد الشيوعية أو في البلاد الإسلامية.
هذا والله تبارك وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(264/26)
هكذا يصنع الفراغ
بدأ الشيخ -حفظة الله- حديثه في هذا الدرس بذكر أسباب هذا الموضوع والدوافع التي دعته إلى الحديث عنه، ثم بدأ بذكر واقع الشباب الذي يعيشونه وأقسام الناس تجاه هذا الواقع من متساهل ومضخم، وعرض الشيخ بعض السلبيات والإيجابيات عند هؤلاء الشباب المنحرفين والتي تشجع على دعوتهم إلى الهداية.(265/1)
نقاط خفيفة وسريعة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نحمد الله تعالى ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره.
أما بعد: فهذا هو الدرس السادس والعشرون من الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين الثامن عشر من شهر ربيع الآخر (1411هـ) .
أيها الأحباب: عنوان هذه الحلقة، أو هذا الدرس كما قرأتم وسمعتم (رسالةٌ إلى الشباب! هكذا يصنع الفراغ!) ولا بأس من الاقتصار على آخر العنوان؛ لأنه أكثر دلالة على الكلام الذي سوف أقوله لكم في هذه الجلسة، وقبل دخولي في الموضوع، أقول لكم: إن النقاط التي سأتناولها في هذا اللقاء هي كالتالي:- أولاً: بعض النقاط الخفيفة السريعة التي لا تتعلق بالموضوع.
ثانياً: أهمية الموضوع.
ثالثاً: التحذير من النظرة المتشائمة للواقع.
رابعاً: واقع هؤلاء الشباب.
خامساً: أماكن تجمعهم.
وأخيراً: جوانب إيجابية في حياتهم.
ففيما يتعلق بالنقاط الخفيفة التي سأتحدث عنها فهي حوالي أربع نقاط:(265/2)
وليمة عشاء
ولعلها من باب الطرفة، بينما كنت أقلب في أوراق أسئلة الأسبوع الماضي، وجدت سؤالاً من أحد الإخوة يتساءل ويقول: ذكر بعض الإخوان أنه سوف يقام في الدروس القادمة وليمة عشاء بعد الدرس فهل هذا صحيح؟ وأقول إن الأمل معقود على من يعرف شيئاً عن هذه الوليمة أن يسارع بالتبليغ جزاه الله خيراً قبل فوات الأوان.(265/3)
الأسئلة وما يتعلق بها
أبدى بعض الإخوة، أو بالأصح أبدى أحد الإخوة ملاحظاتهم حول قراءة بعض الأسئلة في الأسبوع الماضي، والتي قد لا تكون هي أهم ما قدم، وقد لا تكون مناسبة، فضلاً عن أن طريقة قراءتي للأسئلة قد يكون فيها شيء من العجلة.
وهذا يعود إلى أمرين: أولهما: أن الأسئلة التي تقدم لي غير مفروزة، بل كل ما يكتب يصل إليَّ، وأنتم تعرفون أنه خلال وجودي هنا لا أستطيع أن أميز الأسئلة الملائمة والمناسبة من غيرها، فربما بدأت بقراءة السؤال فأكتشف بعدما بدأت أنه غير مناسب، لكنني مضطر إلى إمضائه، ثم التعليق عليه بما يناسب، وإلا فيعلم الله أن بعض الأسئلة التي أقرؤها قد لا أكون مستريحاً لها.
ثانيهما: ثم إن السرعة في قراءتي تعود أيضاً للرغبة في كسب الوقت مع كثرة الأسئلة.
وحلاً لهاتين المشكلتين فسنعمل في المستقبل بإذن الله -تعالى- على أن نرتب الأمر بطريقة تضمن فرز الأسئلة، واختيار الأسئلة المناسبة منها، وأيضاً تنظيم قراءتها بحيث من الممكن أن يتولى قراءتها أحد الإخوة، لضمان عدم الإسراع في الإلقاء.(265/4)
الشباب قضية كبرى
كنت وعدتكم كما أسلفت في الحديث عن موضوع الشباب، وبعد أن تجمعت المعلومات حول هذا الموضوع، تبين لي أنه موضوع يستحق أن يكون قضية كبيرة للأمة في كل مكان، ولذلك قسمت الموضوع إلى عدة أقسام، كل موضوع منها نستطيع أن نعده موضوعاً مستقلاً، أي: يُسمع لوحده، ومن الممكن أن يباع كشريط بصفة مستقلة، وموضوع هذه الليلة كما سمعتم أما موضوع الأسبوع القادم فسيكون بعنوان (مسؤولية المجتمع عن انحراف الشباب) .(265/5)
أهمية موضوع الفراغ
أما عن أهمية هذا الموضوع الذي نتحدث عنه، فلا أعتقد أن الحديث عن الشباب من حيث أهميته للأمة، مما يحتاج إلى بيان، بل نستطيع أن نقول بكل اطمئنان أن الشباب هم الأمة، هم مستقبلها المنشود.(265/6)
المخططات الأجنبية التي تستهدف الشباب
مما يؤكد أهمية تناول الموضوع بالذات: قضية المخططات الأجنبية التي تستهدف شباب المسلمين بتهميشهم، وشغلهم بالتافه من الأمور، وذلك بكافة الوسائل من صحافة، وإذاعة، وتليفزيون، وفيديو، ومراسلة إلى غير ذلك.
أيها الأحبة لعل من عجيب ما يستحق أن يروى لكم، أن أحد الشباب الجزائريين كتب رسالة وضمنها كتيباً صغيراً اسمه (الكتاب المقدس) هو كلمة الله أي الإنجيل هو كلمة الله، وهذا الكتاب من تأليف رجل غربي اسمه جون جركليز ويرد فيه على كتاب لـ أحمد ديدات معروف، يقول هذا الشاب الجزائري، وهو شاب مؤمن متدين سلفي العقيدة، يقول: إنه وصله هذا الكتاب من إحدى الجمعيات التنصيرية في جنوب إفريقيا، وحين قرأه تحير، وصار يعيش في قلق، وشك، وضعف في الإيمان، يقول: حتى إني أكاد أجن من كثرة التفكير، وإن هذا الكتاب يوشك أن يغير مجرى حياتي.
إذاً مثل هذه المراسلات وغيرها من الوسائل، تستهدف تهميش، أو تغيير اتجاهات الشباب؛ هذا فضلاً عن ملء فراغ الشباب وحياتهم، بما يضر ولا ينفع من الرياضة، والفن، ووسائل الترفيه، وتسهيل مهمة السفر إلى بلاد العالم، خاصة بلاد العالم المليئة بالإيدز، والهيربس، والإباحية الجنسية، عن طريق الوكالات السياحية، والخطوط الجوية العالمية، والتسهيلات الخاصة بالشباب، ولا بأس بأن أستشهد لكم ببعض ما جاء في كتاب بروتوكولات حكماء صهيون وإن كنت سبق وأن ذكرت أنني لا أعتقد أن هذا الكتاب كل ما جاء فيه صحيح.
بل لعل هذا الكتاب يخدم في بعض جوانبه مهمة اليهود في ترويع الشعوب، وتخويفهم، وجعلهم يعيشون في قلق لا ينتهي، لكن كما قال بعض الظرفاء: لا بأس بالاستشهاد بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، فإن هذه النقطة التي سوف أنقلها لكم الآن يصدقها الواقع، وإن كان الكتاب بحد ذاته ليس موثوقاً بالجملة، يقول الكتاب في البروتوكول الثالث عشر صفحة (168) ما يلي: ولكي نبعدها -يعني الشعوب- عن أن تكشف بنفسها أي خط عمل جديد، سنلهيها بأنواع شتى من الملاهي، والألعاب ومزجيات الفراغ، وسرعان ما سنبدأ الإعلان في الصحف، داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى، في كل أنواع المشروعات كالفن، والرياضة وما إليهما، هذه المتع الجديدة ستلهي ذهن الشعب حتماً عن المسائل التي سنختلف فيها معهم.
أحبتي الكرام: إن من البديهي أن مواجهة الأخطار الجديدة المحدقة بالأمة لا يمكن أن يتم من خلال مضاعفة عدد المباريات، ولا بتنشيط الحركة الرياضية، ولا إغراق الناس بالإنتاج الفني الجديد لا، نحن نحتاج إلى مبادئ واضحة صريحة يربى عليها شباب الأمة من ذكور وإناث هذا سبب يؤكد أهمية طرق هذا الموضوع.(265/7)
جهل الشباب بما يدور وما يفيض من خير في المجتمع
ثمة سبب آخر أكثر قرباً، وهو الفاصل العميق، والحاجز الصفيق بين هؤلاء الشباب والمجتمع، فهم لا يدرون ما يدور في أوساط الآخرين، ولا يعرفون ماذا عند الناس، وخاصة الطيبين.
خذ مثلاً نشاط جماعة تحفيظ القرآن الكريم عندنا في القصيم، وفي أنحاء المملكة كلها، نشاط واسع منقطع النظير، وغالب رواد هذا النشاط من طلاب المدارس الثانوية، والمتوسطة، والجامعة وغيرها، ومع ذلك تجد كثيراً من هؤلاء الشباب لا يعرفون عن نشاط تحفيظ القرآن الكريم شيئاً، أو لا يعرفون عنه إلا اليسير، وبالدقة كانت نسبة (85%) من شباب أجري عليهم استفتاء، أو استبانة لا يعرفون شيئاً أبداً عن نشاط جماعة تحفيظ القرآن الكريم، على حين (5%) كانوا يعرفون عن هذا النشاط؛ لأنهم التحقوا به يوماً من الأيام، أما (10%) فربما عرفوا شيئاً عنه من خلال ما يسمعون.
مثلٌ آخر: الدروس العلمية التي أصبحت اليوم في كل حي، بل في كل مسجد، وبصورة تبشر بخير كثير، وأصبح روادها بالعشرات بل بالمئات، ومع ذلك بسؤال بعض هؤلاء الشباب عن هذا النشاط، وعن الشيوخ، والأساتذة القائمين عليه، تبين أن كثيراً منهم لا يدركون منه شيئاً، وقل مثل ذلك في الندوات والمحاضرات وغيرها.
إذاً: هم يجهلون ماذا عندنا؟! ماذا عند الجمعيات والمؤسسات الخيرية؟! ماذا عند الشباب الطيبين؟! ولذلك لابد من إثارة القضية أمام المجتمع، وأمام من يملك أن يصنع شيئاً لكسر هذا الحاجز، ومد الجسور مع هذا القطاع المهم من المجتمع، وإزالة القصور الإعلامي لدى العلماء والدعاة، القصور في إيصال حقيقة النشاطات التي يقوم العلماء والدعاة إلى أوساط أولئك الشباب الذين يقضون جزءاً غير قليل من حياتهم في الشوارع، أو على الأرصفة، أو في المنتديات، أو في المطاعم، أو غيرها.
إن أفلحنا في إشعار المجتمع بأن هناك قضية تستحق الدراسة من الآباء، من التربويين، من أولياء الأمور، من الدعاة والعلماء والغيورين من الأسر، فإننا نكون قد نجحنا فيما نريد، هذه الشريحة من الشباب ليست محصورة في بلد معين، ولا في منطقة معينة كلا، بل كما يقول المثل العربي: (في كل واد بنو سعد) .(265/8)
تساهل أولياء الأمور في هذا الموضوع
إن كثيراً من الناس يتساهلون في هذا الموضوع، خاصة من أولياء الأمور بحجة أن السفه والجنوح عند الشاب المراهق أمر عادي، وربما كان كثير من الآباء وغيرهم كذلك في الماضي، فمَنَّ الله -تعالى- عليهم فيقولون: هؤلاء الشباب وإن سفهوا، أو انحرفوا فإنهم سيعودون، ولاشك أن باب التوبة مفتوح، ولكن يجب أن نعلم أن وسائل الإفساد التي تعمل على استمرار الشباب في غيه وفساده، أصبحت اليوم أكثر بكثير من ذي قبل.
وعلى سبيل المثال: قضية المخدرات؛ فالشاب الذي وقع ضحية المخدرات وعصابة المخدرات التي تجره وتورطه في أمورٍ كثيرة، كيف لهذا الشاب أن يخرج بعدما أصبح مدمناً على المخدرات؟! الأمر في ذلك لاشك فيه صعوبة كبيرة.
كذلك قضية السفر للخارج، كيف الخلاص منها؟ بعدما تعلق قلب الشباب بالنساء، بالفجور، وأصبح ذواقاً لا يقنع بواحدة، ولا يقنع بالحلال مهما يرزق من الحسن، ومهما يرزق من الجمال؟! وهكذا، إذن أيها الإخوة! يجب ألا نتخذ السلامة عادة، وأن نقول إن هذا الشاب مراهق وسوف يعود قريباً.
إن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى يخططون لتوريط شبابنا في شباك لا مخلص لهم منها، فيجب أن نكون حذرين، ويجب أن ندرك أن الزمان قد تغير ولم يعد اليوم كالأمس.(265/9)
التحذير من النظرة المتشائمة وأصناف الناس فيها
وذلك لأنني سأتعرض في هذه المحاضرة لواقع فئةٍ معينةٍ من الشباب، الشباب الذي لم يجد الطريق بعد، ولكن لابد من الانتباه إلى ضرورة الاعتدال في النظرة، فإن هناك من الناس أصنافاً.(265/10)
من لا يدرك واقع هؤلاء الشباب
هناك من لا يدرك واقع هؤلاء الشباب، ولا يدري ماذا يدور في أوساطهم؟ فربما إذا سمع كلامي نسبني إلى نوع من المبالغة، وأنني أعطيت هذا الموضوع أكبر من حجمه، وعذره في ذلك أنه لا يدري عن واقع هؤلاء الشباب، وأنا الآخر لم أكن أدري عن واقع هؤلاء الشباب بصورة صحيحة حتى بدأت الرسائل تصل إلىّ، وأعلنت عن هذه المحاضرة، وتطوع مجموعة من الشباب لزيارتهم في أماكنهم، ومجالستهم، وسماع ما عندهم، وبذلك تكوَّن لدينا صورة دقيقة وواضحة من هذا الموضوع.
فأود أن أقول: إن ما سأقدمه لكم الآن من مادة هذه المحاضرة، مستقى من مصادر موثوقة، ومعدٌ بطريقةٍ أستطيع أن أقول: إنها طريقةٌ واقعية علمية بعيدة عن المبالغة والتهويل، فهي إما نتيجة استبانة وزعت على هؤلاء الشباب، ودرست دراسةً دقيقة، وإما معلوماتٍ وصلت بالبريد أو غيره عن طريق رسائل من أولئك الشباب، ممن هم في طريق الهداية إن شاء الله تعالى وقد تبرعوا بهذه المعلومات مع أن الإنسان يضع في ذهنه ألا يقع ضحية بعض المعلومات المضللة.
وإنني إذ أذكر ذلك -بالمناسبة أشكر هؤلاء الإخوة من الشباب- الذين أمدوا أخاهم بمادة مفيدة جداً في هذا الموضوع، إنني مدين بالشكر لله تعالى ثم لأولئك، وإذ يمنعني مراعاة مشاعرهم من أن أذكر أسماءهم، فإنني أقول لهم جميعاً حاضرهم وغائبهم جزاكم الله خيرا، فلقد وضعتم لبنةً سليمةً في بناءٍ يجب أن يقوم، وأعني به بناء معالجة وضع هؤلاء الشباب، ولم يكن لي في هذا الدرس الذي سوف أقدمه لكم الآن دورٌ أكثر من أن مهمتي تقتصر على الإلقاء فقط.
هذا صنفٌ من الناس الذين لا يدرون عن واقع هؤلاء الشباب، فربما نسبوا من يتحدث عنهم في المبالغة والتهويل.(265/11)
من يضخمون واقع هؤلاء الشباب
لكن هناك صنف آخر، قد يضخمون واقع هؤلاء الشباب، ويهولونه إلى درجة لا تطاق، سواءً من حيث عددهم، أو من حيث واقعهم.
فأما العدد فإنهم مهما يكونوا يعدون قليلاً بالنسبة لأفراد المجتمع، وهذا لا يعني التساهل بحال وسأُجري -إن شاء الله- في مناسبة قادمة مقارنة بين هؤلاء الشباب والشباب المتدينين الصالحين.
أما من حيث واقعهم فقد أثبتت الدراسة أن لديهم جوانبَ كثيرةً من الخير، لو استغلت لأثمرت بإذن الله تعالى، وسوف أتحدث عنها في نهاية هذه الجلسة.(265/12)
واقع الشباب في مجال الاعتقاد
نعم قد تجد حالات فسادٍ صارخة لا شك فيها، ولكنها تبقى حالات نادرة، أو على الأقل تبقى حالات قليلة -مثلاً- أحد الشباب كتب رسالة، ورمز لنفسه براجي عفو الله، يقول في رسالة له: هناك ظاهرة كانت منتشرة، وهي السخرية، والتنكيت على الأمور الغيبية التي لا يطيقها عقل الإنسان -هكذا يقول الأخ- مثل أمور القيامة، وأهوالها، والملائكة، والحور العين، حتى بلغ بنا الأمر إلى السخرية بالله جل وعلا وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه.
هذه صورة موجودة عند فئة قليلة من الشباب، لكن لا أعتقد أن الأمر كما توقع أخي الكريم ظاهرةً منتشرة، بقدر ما هي حالات فردية وجودها بحد ذاته مخيفٌ على كل حال.
ووجودها عند واحدٍ منهم مخيف فضلاً عن كونها توجد عند مجموعة منهم، هذا في مجال الاعتقاد.(265/13)
الشاب وأمراض الشهوات
أما فيما يتعلق بأمراض الشهوات، فمن الأشياء التي أصبحت ظاهرة فعلاً، وهذه قد يوافق على أنها ظاهرة، العلاقات المشبوهة بين الكبار والصغار، أصبحت تجد مجموعة من الكبار، وبينهم غلامٌ في سن الرابعة عشرة، وغالباً ما يكون هذا الغلام وسيماً حَسَنَ الهيئة، وبعضهم -مع الأسف الشديد- قد يتحدثون صراحة عن الفواحش، ويسمون هذا الغلام خِلاً لهم، يقول: هذا خلي أو خليلي، ويصحبه في تجواله في الشوارع وغيرها.
ومع ذلك فإنني أقول من الصعب تعميم مثل هذه الممارسة الفاسدة الفاجرة على جميع هؤلاء الشباب، يقول أحد المهتدين -وهذا نموذج- وكان مع ابن عمٍ له في مجموعة، يقول: حين بدأ يدخل مع المجموعة بعض كبار السن دخلت معهم المشاكل من دخان، وأفلام خليعة، وكانوا يغزوننا بها حتى سقط بعض الشباب في براثن هؤلاء الكبار، فأصبحوا يعملون معهم ما حرم الله، وعندما وصل الأمر إلى ذلك المستوى، أخذت ابن عمي، وكان يصغرني سناً، وابتعدنا بهدوءٍ عن تلك المجموعة، وكانت فاتحةَ خيرٍ لي، حيث حججت مع شباب ملتزمين ودلوني إلى طريق الخير والنجاة بحمد الله.
أخي المسلم: إياك من المبالغة، والتهويل في مثل هذه الأوضاع السيئة، واسمع ما قاله لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكُهم} -بضم الكاف- يعني: أكثرهم هلاكاً وفي رواية (فهو أهلكهم) يعني هو السبب في هلاكهم، الذي يبالغ في تضخيم الجوانب السلبية في الأمة في المجتمع هو نفسه من أكثر الناس هلاكاً وبعداً، وهو أيضاً سبب في هلاك الناس، لأنه يغرس في نفوسهم اليأس والقنوط.(265/14)
مساوئ المبالغة في تهويل الواقع السيئ
إن المبالغة في تهويل الواقع السيئ لها مساوئ منها ما يلي: أولاً: الازدراء على الناس، واحتقارهم، وتقبيح أحوالهم، وفي صحيح مسلم -أيضاً- {أن رجلاً من بني إسرائيل ذكر له رجلٌ فاجر مسرف على نفسه، فقال: والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل: (من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك) } .
إذاً ازدراء على الناس، واحتقارهم، وتقبيح أحوالهم -وإن كان عندهم معاصي- هو من الأمور التي لا تجوز.
ثانياً: أن هذا يدعو إلى أن الإنسان الصالح الذي يبالغ في التهويل يزهو بنفسه، ويعتقد الفضل على الآخرين، وربما أدى ذلك إلى العجب والعياذ بالله وهو محبطٌ للأعمال.
الأمر الثالث: أن هذا يؤدي إلى إثم الوقيعة في الناس، وربما جر إلى الغيبة وما يلحق بها، لأنه قد يغتاب أناساً لا يحق له أن يغتابهم.
الأمر الرابع: أن هذا يدعو إلى اليأس، والقنوط، والقعود عن العمل والدعوة والإصلاح.
أحبتي الكرام: إن حديثي هذا عن هذه الظاهرة هو دعوة إلى العلاج، دعوة إلى تضييق نطاق الانحراف بقدر المستطاع، وليس من المصلحة أن ندس رؤوسنا في الرمال، ونتجاهل أوضاع أولادنا وشبابنا.(265/15)
أماكن تجمع هؤلاء الشباب
يقضي هؤلاء الشباب معظم أوقات فراغهم خارج البيوت مثلاً: قرب الملاعب الرياضية، كما يسمونها في عدد من المدن، الإستاد الرياضي، أو على جنبات الشوارع الرئيسية الملائمة لهم، والطرق العامة كالدائري مثلاً، في الحدائق والمنتزهات العامة الداخلية، والخارجية، أحياناً في التجوال في الشوارع، وخاصة الشوارع المحددة الملائمة لهم، مثل شارع الأصفر كما يسمونه، والأخضر وأخيراً: الشارع الأبيض، هذه أسماء يعرفها أهل الاختصاص، ربما نحن وأمثالكم لا ندري ما هي هذه الألغاز عندنا.
وقد يتجولون في بعض الحارات للتعرف على شبابها وربط العلاقات مع صغار السن منهم، إن من العادات السيئة التي بدأت تنتشر هذه الأيام قيام مجموعة من هؤلاء الشباب باستئجار شقة في أحد الأحياء الداخلية في المدينة، ويجتمعون في هذه الشقة لعمل جلسة فنية مثلاً، أو على الأقل لتناول الشاي والتدخين، وربما يؤدي الأمر أحياناً إلى تعاطي المسكرات أو المخدرات، أو ارتكاب الفواحش، أو مشاهدة الأفلام الخليعة، وهذا يؤكد على أصحاب البيوت، وأصحاب المكاتب العقارية أن يتقوا الله في مجتمعهم، وألا يؤثروا مصالحهم الدنيوية العاجلة على المصلحة العامة للأمة والمجتمع، وأن يراعوا ألا يؤجروا من يشكون في وضعه وحاله.
إن هذا المال الذي يكسبه الإنسان من مثل هذه الأجور، مال سحت يدخل جيبه ويأكله حراماً، وحين يتوقع الإنسان ما يئول إليه الأمر فإنه يجب عليه أن يقلع عن ذلك، كما أن أهل الأحياء ينبغي أن يراقبوا ويراعوا أحياءهم، ويعلموا ما يدور في بعض الشقق المؤجرة، وأن يبلغوا عند وجود شك، أو لبس، أو شبهة، أن يبلغوا الجهات المختصة كالهيئات وهي من الجهات القائمة على مثل ذلك الأمر، أو الشرطة أو غيرها، كما أنه يؤكد على ضرورة قيام الجهات المختصة كهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها بمراقبة الأماكن العامة لمنع مضايقة الناس فيها من قبل بعض الشباب المراهق، وعلى كل حال فالحديث عن العلاج لهذه الأمور له مجال آخر كما وعدت قبل قليل.(265/16)
كيف يقضي هؤلاء الشباب وقت الفراغ؟(265/17)
التردد على المطاعم الرياضية
الأمر الرابع: ومن الأمور الذي يقضون به وقت فراغهم التردد على المطاعم الرياضية القريبة من مواقعهم المعتادة، وتناول الواجبات هناك، ولذلك تراعي تلك المطاعم ظروف هؤلاء الشباب، فتفتح لهم أبوابها طيلة وقت الظهيرة في الأيام الدراسية، كما هو ظاهر من الإعلانات الموجودة في الشوارع، أما في أيام الإجازات فيظل المطعم مفتوحاً إلى ساعة متأخرة من الليل، وهذه المطاعم فرصة للتعارف، وعقد الصلات، حيث يباشر على من يريد أن يعقد صلة معه أي يهدي له هدية أو يحاسب عنه، فضلاً عن الأحاديث الفارغة، والتدخين، ومشاهدة التلفاز إلى غير ذلك.(265/18)
العناية بالشكليات
الأمر الخامس: حيث يقضي هؤلاء الشباب وقتاً طويلاً في العناية بالشكليات، سواء شكليته هو، أم شكلية السيارة.
أما هو فالعناية بتصفيف الشعر، وموديلات الثياب، والخروج أحياناً بلا طاقية، أو بلا فنيلة، أو بتسريحة شعر غريبة تلفت أنظار الآخرين، وقد يعمل على لفت نظر الناس إليه بكل وسيلة، حتى لو كانت أحياناً وسيلة لا تليق بالرجال.
يقول أحد العائدين: إن أحدهم إذا أراد أن ينظر إليك، لا بد أن يلتفت إليك بجميع جسمه، لا يستطيع أن يحرك رأسه بحرية، حتى لا يفسد تصفيف الشعر، إضافة إلى أن لا يفسد الهندام الذي يعتني به أتم عناية، وهم يستخدمون القصات الغربية، كقصة مايكل جاكسون، أو قصة الأسد، ويترددون على أماكن الحلاقة وتصفيف الشعر المخصصة لذلك، وحدثني أحد الإخوة أنه رأى شاباً يضع خلف رأسه ما يسمى بالبكلة.
وقد بلغ الأمر ببعض هؤلاء إلى استخدام المكياج أيضاً، ويقولون هناك مكياج خاص بالرجال، نعم هذه حالات شاذة، لكن النار إنما تنطلق من شرارة، وقد تحرق أمة بأكملها.
ومن هؤلاء من يلبس أحدث الموديلات التي رسمت عليها صور اللاعب الفلاني، أو المغني الفلاني، أو المصارع الفلاني، وقد يُكتب عليها عبارات باللغة الإنجليزية أي قد يكون مكتوباً عليها أصلاً عبارات باللغة الإنجليزية لا يفهم هؤلاء معناها.
وهكذا العناية بالسيارة، وتغسيل السيارة، وغسل الإطارات، وترصيصها بحيث يستنفذ من الشاب وقتاً ليس بقليل.
أذكر شاباً كان يسكن بقرب بيتي، لا أكاد أذكر أنني مررت من عنده يوماً من الأيام إلا ووجدته عاكفاً على غسل سيارته، وبالذات غسل كفراتها، والشارع من حوله يموج بالماء، ومن الناس من همه يتعلق بسحب (سُسَتْ) السيارة، أو مد الصدام، أو وضع الزجاج الملون، أو الأنوار الملونة، أو ما أشبه ذلك، هذه جوانب سلبية -لا شك- من واقع هؤلاء الشباب، وإنما قصدت بها كما ذكرت في البداية أن نأخذ صورة حقيقية عن واقعهم، لأن معرفة الواقع، أو معرفة المرض هي بداية العلاج.(265/19)
حضور المباريات وتشجيعها
الأمر الثالث: ومن الأمور التي يقضون بها أوقات فراغهم: حضور المباريات الرياضية وتشجيعها، والخروج بعد هذه المباراة، أو تلك في طوابير متواصلة في الشوارع، لقد أصبحت الكرة -مع الأسف الشديد- جزءاً لا يتجزأ من حياة البعض، حتى من كبار السن، والأب -في بعض الحالات- أصبح حريصاً على أن يصبغ أبناءه بصبغة الفريق الذي يشجعه وينتمي إليه، وكذلك يصبغ بنته بهذه الصبغة، لكن قد لا تجده حريصاً على صبغه بالدين والمحافظة على الصلوات؛ لأن الأب نفسه قد يكون هو الآخر مقصراً في أداء الصلوات مع الجماعة، قد يؤديها في المنزل، وقد يفرط حتى في أدائها في المنزل، وقد يمر وقت الصلاة وهو قاعد على المدرج، أو مشغول بحمى التشجيع، ومرارة الهزيمة، أو فرحة الانتصار، فلا يؤدي الصلاة والعياذ بالله.
في الأسبوع الماضي جاءتني من ضمن الأسئلة ورقتان فيهما سؤال مكرر عن أحد مشجعي الأندية يقول: سأله صحفي في أحد الجرائد! ما تصرفك لو وجدت أن أحد أبنائك يشجع نادياً غير النادي الذي تنتسب إليه؟ فقال الأب: لو وجدت أن أحد أبنائي يشجع فريقاً آخر غير فريقي لتبرأت منه، إلى هذا الحد!! كم واحد مستعد، لا أقول يتبرأ من ولده من أجل الدين؟! لكن أن يناصح ولده، أن يبذل الوسيلة المطلوبة لإصلاح الولد، أن يحثه على أداء الصلوات، أن يوفر له أسباب الهداية، أن يحول بينه وبين أسباب الفساد؟ الجواب معروف! ثم يظهر الهوس الجنوني بعد هذه المباراة في الشوارع العامة، وعبر صرير الكفرات من التفحيط، وعبر منبهات الصوت التي تزعج الغادين والرائحين، وعبر الزخم الهائل الذي يذكرك بقول الشاعر في القصيدة التي أهداها المراسل المجهول وهي قصيدة مشهورة: عربات تدفقت تشبه الهائج الخضم وعليها تكومت زمرٌ طيشها احتدم وعلى كل قبضة راية زاحمت علم حشر الناس تحتها أمم إثرها أمم ماجت الأرض بالورود ووداع الفحيط حم فتساءلت والأسى يمضغ القلب والألم هل فلسطين حررت وقطاف العناء تم أم بكابول دمرت قوة الملحد الأذم أم قضت محنة الجياع وغياث الرخاء عم قيل لا بل فريقنا فاز في لعبة القدم(265/20)
سلبيات هذه المجالس
من سلبيات هذه المجالس التي يجلسون على الأرصفة، أو في الأحواش وغيرها ما يلي: أولاً: جلوس الصغار مع الكبار بصورة ملفتة للنظر، ولها أكثر من معنى: هي أولاً: مدعاة للفتنة والتعلق من الكبير بهذا الصغير، تعلقاً يجعل قلبه متعبداً له، حتى كتب إليَّ أحد الشباب يحلف لي بالله ويقول: إنَّ صديقاً لي -أيام ما كانوا في زمن الانحراف- سافر من يحبه مع أهله إلى مكة لأداء العمرة، يقول: فكان يبكي كالمرأة أمامنا، وتنهل دموعه ويقول فيه القصائد الطويلة، يشتاق إلى لقائه، فهذه من مفاسد هذه الاجتماعات.
كذلك فهي سبب للوقوع فيما حرم الله عز وجل من المعاصي والموبقات، وقد توصل الإنسان والعياذ بالله إلى ارتكاب الفواحش، التي تكون سبباً في سخط الله عز وجل ونقمته من الفرد ومن المجتمع الذي يقر هذا الفرد على فساده.
ومن مضار اجتماع الكبار مع الصغار أيضاً: أن الصغير أحياناً يشعر بأنه صغير، وأنه بحاجة إلى أن يثبت أنه رجل، ولكي يثبت رجولته فإنه يقوم بتقليد الكبار في الأعمال التي يعملونها، من أجل أن يثبت أنه قد اكتمل وأصبح رجلاً سوياً، فقد يدخن مثلهم، أو يقوم بممارسة الأعمال التي يمارسون، لا لاقتناعه بها، لكن ليثبت أنه رجل، وأنه مستقل بنفسه، ويتخذ القرار الذي يريد، وليس لأحد عليه سلطان لا أهله ولا غيرهم.
ومن مفاسد وسلبيات هذه المجالس: ثانياً: ترك الصلاة، سواء صلاة الفجر بسبب أنهم يتأخرون، ويسهرون وغالبهم يسهرون ما بين الساعة الثانية عشرة ليلاً إلى الثانية ليلاً، وبعضهم يسهرون إلى قبيل صلاة الفجر، ثم ينامون عن الصلاة، أو السهر عن غيرها من الصلوات، أو التأخير عن غيرها من الصلوات الأخرى، وقد يمر وقت الصلاة، أو أكثر وهم على مجلسهم لا أحد يهيجهم هناك.
السلبية الثالثة: تبادل الشتائم واللعنات: حتى التحية عندهم والعياذ بالله أصبحت شتيمة ولعنة، يقول لي أحد التائبين: إن هذا الأمر حدث له شخصياً، وذلك أنهم خلال تلقي بعضهم لبعض، إذ تأخر أحدهم لا يسألونه أين كنت؟ أو أين غبت؟ إنما يبدءون بالشتيمة واللعنة والعياذ بالله أما ذكر الله، أما التسبيح، أمَّا التهليل، أمَّا الاستغفار، أمَّا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أمَّا كفارة المجلس، فإنهم لا يعرفون عن هذا شيئاً والله المستعان.(265/21)
مقدار وقت الفراغ
ما مقدار وقت الفراغ؟ تصوروا أنه من خلال الاستبانة التي أشرت إليها، تبين أن وقت الفراغ يشكل جزءاً كبيراً جداً عند هؤلاء الشباب.
أحدهم يقول: وقت الفراغ عندي أربع وعشرون ساعة، طبعاً ليس أربعاً وعشرين ساعة بالضبط، لكن المعنى أن كل وقته وقت فراغ، ولكن الغالب ما بين ست إلى ثمان ساعات هو متوسط وقت الفراغ عند هؤلاء الشباب وبين قوسين أقول: (سبحان الله) !! في الوقت الذي أصبحت الأمم تتنافس فيه وتتبارى، تسارع إلى العلم، إلى التقدم، إلى الرقى، إلى تحصيل العلم، ووسائل القوة، والحياة وفي الوقت الذي تجد فيه كثيراً من الأئمة، والعلماء والكبار يضيق وقتهم عن أعمالهم ومهماتهم، هؤلاء الشباب عندهم (6 إلى 8) ساعات فراغ وبعضهم (24) ساعة فراغ، لكن أخطر من قضية وقت الفراغ، كيف يقضي هؤلاء الشباب وقت الفراغ؟ يقضونه في أعمال متنوعة، أستطيع أن ألخصها أو أذكر نماذج منها فيما يلي:(265/22)
أولاً: الدوران في الشوارع
خاصة بعض الشوارع التي اكتسبت أهمية خاصة -كما أشرت إليها- لدى هذه الفئة من المجتمع، مثل الشارع الأصفر، والشارع الأخضر، والأبيض، ونسبة الذين يقضون أوقاتهم في الدوران في هذه الشوارع من بين الذين أجري الاستفتاء عليهم تصل إلى (70%) ، ومن الطريف أن مراسلاً مجهولاً يكتب إليّ ببعض الأوراق ويوافيني بها، يقول: إنهم يسمون الشارع الأخضر والعياذ بالله بالمسعى لكثرة دورانهم فيه ذهاباً وإياباً، ويشربون من ماءٍ هناك، ماءً بارداً يسمونه بزمزم.
عجباً من تلاعب الشيطان بابن آدم في السخرية بالأسماء الشرعية، من حيث لا يشعر، إذ أن الشاب يعلم قطعاً أن بين عمله وهو يدور في هذه الشوارع، وقد يكون معه صديق اجتمع معه على ما حرم الله عز وجل، وقد يكون في وقت صلاة، وقد يؤذي من هم حوله، يدرك الشاب أن بين عمله، وعمل الساعي بين الصفا والمروة ابتغاء مرضاة الله عز وجل كما بين السماء والأرض، وكذلك يدرك أن بين شربته من ذلك الماء، وهو إنما عطش من غير سبيل الله، وبين شربة الحاج، أو المعتمر من ماء زمزم ابتغاء مرضاة الله، وتحقيقاً، أو طلباً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال عن زمزم: {إنها طعام طعم، وشفاء سُقمٍ} وقال: {ماء زمزم لما شُرب له} يدرك أن ما بينهما كما بين الثرى والثريا قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] .
وهذا الدوران، قد يكون أحياناً في وسط الأحياء السكنية، وهو يحقق وراء هذا الدوران أغراضاً شتى، إما أنه يدور بسبب ضيق الصدر، فيدور حتى يزيل الهم عن نفسه كما يقول، ولا يدري المسكين أنه يدور والهم معه يدور أيضاً، وإما للمباهاة بجمال السيارة التي يستقلها، أو لونها، أو موديلها، أو التحسينات المستمرة التي يجريها على هذه السيارة، وإما -ولعله قليل- للمباهاة بجمال من يكون بالباب الأيمن للسيارة، وهو الذي يسميه خِلاً، أو خليلاً، وغالباً ما يكون صغير السن، وإما لاصطياد بعض المغفلين والتغرير بهم وجرهم إلى بعض الأغراض السيئة والدنيئة.(265/23)
العمل الثاني: الذي يقضي به هؤلاء الشاب أوقات الفراغ
الجلوس على الأرصفة وجنبات الطريق، وتبادل الحديث حول موضوعات شتى في الكرة، والفن، والأصدقاء، والغيبة أيضاً، أحد المهتدين كتب إليَّ رسالة يقول: كان في مجلسنا الغيبة فوالله الذي لا إله إلا هو إن كنا لنتلذذ بها تلذذاً عظيماً، لدرجة أننا كنا نحدد شخصاً معيناً ثم نبدأ -والحديث لا يزال له- يقول: ثم نبدأ نحش به حتى لا ندع فيه شيئاً، يقول: حتى بلغ بنا الأمر أنه بمجرد ما يقوم واحد منا يقولون رأيتم فلان ماذا فعل؟! ثم تبدأ الغيبة للشخص المنصرف وهكذا كان هذا ديدننا كل يوم.(265/24)
مشاهدة التلفاز والفيديو
ومما يتعلق بهذه المجالس غير الغيبة، قضية مشاهدة التلفاز وربما الفيديو أحياناً والسهر عليه، خاصة إذا كان السهر في بعض الأحواش المخصصة لهذا الأمر، يسهرون إلى ساعة متأخرة من الليل، وربما -وهذا قليل- يصطحبون معهم العود، وآلات العزف، واللهو والطرب، وأحياناً يستغلون وقتهم بلعب الكرة، وتبادل الحديث حول الرياضة، والفريق المفضل وكلام عن اللاعبين، والمفاضلة بينهم، وكذلك الحديث عن الأندية، وعن نتائج المباريات الرياضية، ومدى نزاهة الحكام الذين قاموا بالتحكيم لهذه المباراة أو تلك، إضافة إلى ممارسة الألعاب المتنوعة كالبلوت وغيرها.(265/25)
جوانب إيجابية عند الشباب
وحتى لا تكن الصورة سوداء أكثر من اللازم، انتقل إلى ذكر الجوانب الإيجابية، أو بعض الجوانب الإيجابية لدى هؤلاء الشباب، فيجب أن لا نتصور أنهم خلوٌ من تلك الجوانب، لأن تأثير البيئة، البيت، المسجد، المدرسة، باقٍ على بعضهم، ويتجلى ذلك في الجوانب التالية:(265/26)
عدم انفتاحهم على الثقافة المنحرفة
الإيجابية الرابعة: وتعتبر هذه من الإيجابيات المهمة عند الشباب وهو بعدم انفتاح هؤلاء الشباب على الثقافة المنحرفة، فنحن ندري اليوم أن المجتمع يضجّ بألوان من الثقافات المنحرفة، كالثقافات الأدبية مثلاً المتمثلة في أطروحات الحداثيين أدباً كانت أو شعراً، أو قصة، أو أقصوصة، أو مقالة: أو نقداً، إلى غير ذلك من ألوان الفكر المنحرف الذي أصبح اليوم يطرح في الساحة، فضلاً عن الفكر الفلسفي، الفكر الوجودي، الفكر الإلحادي.
هؤلاء الشباب منغلقون عن هذا الفكر، لأنهم لا يتعاطون أصلاً قراءة الكتب، وليس لديهم رغبة في ذلك، ولا كذلك قراءة المجلات، سواء أكانت أدبية، أم ثقافية، ولا قراءة الملاحق التي تصدرها بعض الصحف، إذا كانت أدبية، أو ثقافية أيضاً، إنهم حين يشترون الجريدة، أو المجلة لا يهتمون إلا بصفحة الفن والرياضة، ثم يلقون بالجريدة بعد ذلك.
إذاً: ليس ثمة انحرافات فكرية عميقة لدى هؤلاء الشباب، إلا في حالات خاصة ولاشك أن هذا من ناحية إيجابية، توجب على الدعاة إلى الله عز وجل والعلماء، والتربويين، والغيورين، أن يعملوا على الإسراع بملء عقول هؤلاء الشباب بالنافع المفيد، وإن كنت أعتقد أن مشاهدة هؤلاء الشباب للأفلام، وحوالي (70%) منهم أثبتوا أنهم يشاهدون أفلام الفيديو، من بينها أفلام عربية، وأفلام أجنبية، وأفلام نظيفة، وأفلام غير نظيفة، وأفلام المصارعة، وأفلام المناظرة، وقد يشاهدون الأفلام التي قد انتشرت أخيراً عن مأساة الأكراد في حلبجة وغيرها.
المهم مشاهدة تلك الأفلام المنوعة، خاصة الأفلام الأجنبية، والأفلام العربية، والبرامج الإعلامية، سواء أكانت برامج مسموعة، أو مرئية لابد أن تترك هذه الأشياء أثراً سيئاً في عقولهم وفي مفاهيمهم، لكن مما يحمد أنهم لا يحملون بعد أفكاراً، أو مبادئ، أو مذاهب منحرفة.
فأقول: هذه فرصة قبل أن يصل إلى عقولهم بعض حملة الأفكار الشاذة، والأفكار المنحرفة فيسمموها ويحولون بينهم وبين الهداية.
أيها الإخوة: لقد آثرتُ أن تكون هذه المحاضرة خاصة بوصف واقع أولئك الشباب، والجوانب الإيجابية، والجوانب السلبية في واقعهم، ووعدتكم في الأسبوع القادم -إن شاء الله- بعقد محاضرة أخرى في المكان الذي سيحدد بإذن الله -تعالى- لاحقاً عن مسئولية المجتمع عن انحراف الشباب، وفي الأسبوع الثالث -أيضاً- سوف نتناول الجزء الثالث والأخير من هذا الموضوع، الآن ننتقل إلى الأسئلة.(265/27)
اهتمامهم بعلماء الشريعة
جانب إيجابي آخر في حياة هؤلاء الشباب، هو: اهتمامهم بعلماء الشريعة، فقد أجمع المشاركون في الاستبانة وهم عددٌ كبيٌر، على أن عالم الشرع يحتل المرتبة الأولى من حيث الأهمية، وقالوا: إن المجتمع يحتاجه حاجة ماسَّة، أجمعوا على هذا، على حين سئلوا مثلاً عن اللاعب الرياضي قالوا: إن المجتمع لا يحتاجه، أما الفنان فكلهم أيضاً أجمعوا على أن المجتمع ليس في حاجة إلى مغنٍ أو فنان، ولم يشذ منهم عن ذلك سوى واحد أو اثنين فقط.
إذن لا يزال كثير من هؤلاء يحترمون العالم الشرعي، ويزدرون المغني أو المطرب، ويشعرون أن المجتمع ليس بحاجة إلى اللاعب لاعب الكرة.
وهذا أيضاً جانب مهم يدل على أنها لا زالت تنطوي قلوبهم على محبة العلماء، وتقديرهم، والشعور بأن المجتمع الذي يعيشون فيه، مجتمع متدين، مجتمع صبغتة إسلامية، ولا غنى له بحال من الأحوال عن علماء الشرع، وفي الواقع هذا مؤشر كبير يجب أن يستفاد منه، فربما يكون آخر ما يخطر في بالك أن يجمع هؤلاء الشباب، وهم ليسوا طلاب كلية شريعة، ولا معاهد علمية، وليسوا من طلاب الحلقات العلمية، ولا من طلاب تحفيظ القرآن، إنما هم من طلاب الكرة والرياضة، الذين يقضون أوقاتهم في الموضوعات التي أسلفت، أجمعوا على أن العالم الشرعي يحتل المرتبة الأولى في الأهمية في المجتمع.(265/28)
محبة أكثرهم للشاب المتدين
جانب إيجابي ثالث في حياة هؤلاء الشباب هو: محبتهم أو محبة أكثرهم على الأقل للشباب المتدين (70%) من هؤلاء الشباب قالوا نعم أحب الشباب المتدين، وبعضهم يقول أحبهم جداً، (70%) يحبون الشباب المتدين! (20%) قالوا: نحب الشباب المعتدل فقط، أي يحبون نوعية من الشباب المتدين، هو من يسمونه هم بتعريفهم واصطلاحهم الشاب المعتدل فقط، أو يقولون نحب المتدين حقاً، أي الذي تدينه تدين صحيح، أو نحب المتدين ذا الأخلاق العالية، أو يقولون: نحب المتدين المثقف، هذه كلها تعبيراتهم وأساليبهم.
إذاً: انطباعاتهم عن الشباب المتدين انطباعات حسنة، وهم يرونهم كما عبروا وهذه كلها تعبيراتهم يرونهم قدوة، وبعضهم يقول: عدة للمستقبل، وبعضهم يتمنون اللحاق بهم، وبعضهم يدعون الله عز وجل لهم بالثبات، نسبة (10%) فقط من هؤلاء الشباب هي التي لا تحبهم لأسباب كثيرة، قد يعود بعضها للمجتمع، وقد يعود بعضها لبعضهم، وقد يعود بعضها لاجتهادات وسلوكيات تحتاج إلى مراجعة، سوف أتحدث عن بعض ذلك إن شاء الله في مناسبة أخرى.
إذاً: من أهم الإيجابيات، أن هؤلاء الشباب يحبون الشباب المتدينين، ويتمنون أن يكونوا مثلهم، وهذا أيضاً مؤشر يدل على استعداد قوي لديهم لقبول الحق من هؤلاء، والانصياع إليهم، والاستفادة منهم متى وجدت الوسائل، والأسباب، والجسور التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء، وتزيل هذه الجفوة الكبيرة وهذه الفجوة الواسعة بينهم.(265/29)
أمنيات رفيعة
وذلك أن أمنيات كثير من هؤلاء الشباب أمنياتٌ رفيعة، فمنهم مثلاً من تكون أمنيته حين تسأله -وهذا كله مكتوب في أوراق بعد مقابلتهم ومساءلتهم- منهم من تكون أمنيته الفوز برضوان الله -تعالى- والجنة، ومنهم من تكون أمنيته الهداية، ويتمنى أن يكون كالشباب الصالح المتدين، وهذه أكثر الأمنيات تردداً على ألسنتهم، بعد جمع الأمنيات التي تدور في أذهانهم، تبين أن أكثرهم يتمنون أن يكون الواحد منهم شاباً صالحاً متديناً، وأن يمنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالهداية، ومنهم من يتمنى السعادة والحياة الهنيئة التي حرم منها لأسباب معينة، ومنهم من يتمنى أن يكون إماماً لمسجد (جامع) وربما للحرم الشريف، أيضاً.
إلى جوار أمنيات رخيصة بطبيعة الحال، مثل من يتمنى أن يكون عنده سيارة فخمة، أو يتمنى رضا حبيبة، أو يتمنى أن يرى اللاعب الفلاني، ويصور معه، أو يتمنى أن يصبح فناناً مغنياً، أو أن يسافر للخارج، إلى أمنيات أخرى عادية، إلى أمنيات لا بأس بها مثل أن يتمنى أن يكون طبيباً، أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي قد تمر في ذهن أي إنسان.
-على كل حال- معظم أمنيات هؤلاء الشباب تدور حول أمورٍ حسنة، وحول قضايا عليا، ولاشك أن كون الشاب يفكر هذا التفكير يدل على أنه لا يزال غير راضٍ عن الواقع المر الذي يعيشه، وأنه يتطلع إلى تغيير هذا الواقع، وهذه في الحقيقة فرصة يجب أن يهتدي لها الدعاة إلى الله عز وجل.(265/30)
الأسئلة(265/31)
الدعوة لا حدَّ لها
السؤال
هل يجوز دعوة هؤلاء الشباب ولو كانت عندهم بعض المنكرات مثل الشيشة والتدخين؟
الجواب
نعم يجب أن يدعو مهما كانت عندهم من المنكرات، بل إن الدعوة أصلاً توجه إلى من كان عنده منكرات.(265/32)
الشباب وجهود الدعاة
السؤال
نرجو أن تنبه إلى محاضرة ألقاها الشيخ عمر العيد بعنوان ما هكذا يا شباب الإسلام!
الجواب
هذه محاضرة ألقاها الشيخ عمر العيد بعنوان: (ما هكذا يا شباب الإسلام!) وهي جيدة، كذلك هناك محاضرة أخرى للشيخ سعد البريك عنوانها: (الشباب والتجدد) وكلاهما مفيدان.(265/33)
واقع الشباب
السؤال
لقد أحزنتنا بكلامك، وهل كل هذا في هذه البلاد؟ وما هو الحل من هذا الواقع المرير؟
الجواب
هذه شريحة من المجتمع، ولو أردنا أن نفرحك، ونطربك لذكرنا لك مثل هذه المجالس الطيبة، ومجالس تحفيظ القرآن الكريم، وأوضاع الطلاب في المدارس، والمعاهد، والكليات، وأوضاع الطلاب في الحلقات العلمية، إذاً لسُررت، وفرحت، وأدركت أن هذه الأمة فيها خيرٌ كثير، وشبابها غالبهم على الطريق المستقيم، إنما كما ذكرت أردت في هذه الجلسة تصوير واقع معين حتى نسعى في علاجه لا أكثر.(265/34)
دخول الشباب في النوادي الرياضية
السؤال
ألا ترى دخول الشباب في مجال النوادي الرياضية له دور كبير ومهم في عملية التوعية؟
الجواب
حقيقةً دخول الشباب في النوادي الرياضية للتوعية، لا بأس به وذلك كإلقاء الدروس والمحاضرات مثلاً، أو إقامة دروس تحفيظ القرآن الكريم، أو المشاركة في النشاطات الثقافية، أو ما شابه ذلك.
السؤال: هذا سؤال مشابه، يقول: بعض الشباب الملتزمين يبتعدون عن الأندية الرياضية، وخاصة الذين سبق أن كانوا من رواد النوادي، حيث إن في وجود هذا الصنف في الأندية فوائدَ كبيرة في معسكراتهم وجلساتهم؟! فما نصيحتكم؟ الجواب: لاشك أن من كان يعتقد أن بقاءه فيه نافع إما في إيجاد الخير، أو في تقليص الشر، ينبغي ألا يغيب عن المواقع التي يعتقد أنه ينفع فيها ويخدم، خاصةً إذا كان يعتقد أنه يستطيع هو، وغيره قد لا يستطع، فربما يكون الأمر ألزم له من غيره، لأنه يستطيع أن يدخل هذا المجال أو ينفع فيه، وغيره ليس كذلك.(265/35)
قصور في فهم الدعاة
السؤال
كيف سيتقبلون منا وهم لا يطيقون رؤيتنا؟ فكثيرٌ من الشباب حاولنا معهم بجميع الطرق فإذا غبنا سبونا؟!
الجواب
لا، لا أبداً يا أخي وهذا رأيٌ، أو كلامٌ لا ينبغي أن يصدر منك (جزاك الله خيراً) أولاً قضية حاولنا بجميع الطرق، الطرق كثيرة جداً ما تستطيع أن تقول حاولنا بجميع الطرق، هناك مائة طريق وطريق، قد تكون حاولت طريقاً أو طريقين وما أفلحت، وقد تكون أنت أيها الأخ الكريم ممن لا تصلح لهؤلاء، وتصلح لأن تدعو المهتدين، فإنك تزيدهم هدى -بإذن الله تعالى- أو تدعو الناس العاديين لطلب العلم والاشتغال بالدعوة.
لأن كل نوعية من المجتمع لها من يناسبها، بعض الناس لا يصبر ينفعل، فإذا رأى المعاصي سارع إليها، وغضب، وزمجر، وأرغى، وأزبد، فما يصلح لهؤلاء، يصلح معهم إنسان يستطيع أن يضبط أعصابه، يدخل معهم بشكل تدريجي، ويحاول معهم بالأساليب الحكيمة، فإذا استطعت فالحمد لله، وإذا ما استطعت بذلت الطرق الأخرى من الوسائل الأخرى، أما البداية معهم بالغضب، والشدة فإنه ليس من وسائل الدعوة بلا شك.(265/36)
العمل بالحديث الضعيف في الفضائل وشروطه
السؤال
ما رأيك بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؟
الجواب
أنا ذكرت قضية العمل بالحديث الضعيف بمناسبة استشهادي بكلام بروتوكولات حكماء صهيون، مع أنني لا أرى أنها صحيحة، فهذه نكتة أو طرفة ذكرها بعض الظرفاء، أما العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، فإنه يجوز عند كثيرٍ من العلماء بأربعة شروط: الأول: أن يكون له أصلٌ في الشرع يشهد له.
الثاني: ألا يكون ضعفه شديداً.
الثالث: ألا يعتقد عند العمل به ثبوته.
الرابع: ألا يحافظ عليه محافظته على السنة.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم وفقهم إلى طريق الحق يا أرحم الراحمين، اللهم أقر بهم عيون آبائهم وأمهاتهم، اللهم أقر بهم عيون المسلمين الذين ينتظرونهم في كل مكان على أحر من الجمر، اللهم اجعلهم غُصة في حلوق الكفار، والمعاندين، والمعتدين، واليهود، والنصارى، والمشركين إنك على كل شيء قدير.(265/37)
التعصب للجنسية
السؤال
ما رأيك في التعصب بين الشباب للجنسية فقط وللمنطقة بالذات لا للدين؟
الجواب
لا شك أن هذه من أحابيل الشيطان، التي يفرق بها بين الناس، فهو قد يفرق بينهم بالجنسية مثلاً هذا كويتي، وهذا سعودي، وهذا أردني، وهذا سوري، وهذا كذا، وهذا كذا، وهذه -لا شك مع الأسف الشديد- أصبحت اليوم لها صدىً ولها وقع، وقد أفلح الأعداء في زرع العداوة بين الشعوب، وأفلحوا في نزع العداوة من بين الحكام فقط بتحويلها إلى عداوة مستحكمة بين الحكام وبين الشعوب أيضاً، فأصبح كثير من الشعوب يبغض بعضها البعض، ويشيع بينها القالة عن الشعب الفلاني أنه فيه كذا، وفيه كذا، وفيه كذا، هذا يتهم هذا بالخيانة والغش، وهذا يتهم هذا بالمداهنة والنفاق، وهذا يتهم هذا إلى آخره.
هذه من أعظم خطط العدو، لأنه إذا أفلح في تشبيك المنطقة بعداوة لا أول لها ولا آخر، فإنه يستطيع أن يصنع ما يشاء، بل إن العدو ينتقل بعد ذلك إلى زرع العداوة في الشعب الواحد، والعداوة بين الناس، وبين المنطقة والمنطقة الأخرى، والعداوة بين الكبير والصغير، العداوة بين طبقة وطبقة أخرى، حتى العداوة بين مدني وعسكري وهكذا، وهذه من أخطر الأمور التي تدمر الأمم وينبغي التفطن لذلك.
والحذر من ذلك كل الحذر، من أن نكون نحن نموذجاً حياً لهذا الأمر، فمن الأخطاء التي نقع فيها أحياناً من غير قصد، وأستغفر الله وأتوب إليه أحياناً قد ننجر للكلام في منطقة معينة، المنطقة الفلانية فيها كذا، مشهورة مثلاً بالبخل، والمنطقة الفلانية مشهورةٌ بكذا، والمنطقة الفلانية مشهورةٌ بالتشدد، وهذه الأشياء التي نقولها ولو على سبيل المزاح تنتقل وتصبح كأنها حقائق عند الناس لا تقبل عندهم الجدل.(265/38)
واجب الشباب تجاه بعضهم
السؤال
ما موقف الشباب الملتزم من هؤلاء الشباب الذين ضيعوا ساعات أوقاتهم في الدوران والجلوس في الأرصفة؟ وهذا يقول: شباب الأرصفة ما واجبنا نحو هؤلاء الشباب؟ ومن المسئول عنهم؟
الجواب
في الواقع هذه الأسئلة تنم عن خيٍر كثيرٍ، تنم عن أننا بدأنا نشعر أن هناك مشكلةً يجب أن تعالج وسأتحدث عن العلاج في الدرس القادم إن شاء الله.(265/39)
السفر للغرب وأخطاره
السؤال
كثير من الشباب يذهب إلى الدراسة في الخارج، فيخرج من المملكة وذهنه خالٍ عن تلك البلد، وما يخطط له الأعداء في استدراج الشباب وتضييع أو تمييع الدين من قلوبهم، مثل السكن مع عائلة نصرانية، أو ترك الشباب بدون تذكير، أو بدون معرفة مع ما يقابله هناك حتى يذوب ويضيع في أفكار الغرب، ويتشبع بما يراه أعداء الدين، ومن ثمَّ يأتي وقد باع بعضهم دينه، ويحاول أن يروج للأفكار التي درسها هناك مثل الاقتصاد الغربي من الربا وغيره، والأخلاق إلى غير ذلك!!
الجواب
قضية التغريب عن طريق هؤلاء المبتعثين، هي مشكلة واقعة لاشك، والعينات والنماذج موجودة، لا نقول يقال، وإنما نقول: نرى ونسمع، ولكن مع ذلك أبشر الأخ والإخوة عموماً أنني وقفت على مراكز هؤلاء الشباب في عدد من البلاد، وخاصة في أمريكا التي يبتعث إليها أكبر كمية من شبابنا، فوجدت أن نسبة كبيرة منهم تزيد على (70%) أصبحوا متدينين صالحين متحمسين، مع أنهم حين خرجوا من بلدهم كانوا على الأقل عاديين، وليس لديهم ميول، أو فهم للإسلام، أو حماس للدعوة، لكن لما ذهبوا إلى هناك، ووجدوا تحدي المجتمع، ووجدوا أيضاً بيئة طيبة استقاموا -ولله الحمد والمنة- وهم كما ذكرت نسبة لا تقل عن (70%) من هذا النوع، وحتى أولئك الذين بقوا يشكلون (20%) إلى (30%) لا أقول بأنهم قد ضاعوا بالكلية.
بل تجد منهم من يصلي الصلوات الخمس، ولكنه لا يحافظ عليها في المسجد معهم، ومنهم من يأتي إليهم يوم الجمعة ليصلي معهم، ومنهم من قد يشارك معهم في بعض النشاطات.(265/40)
ضوابط شرعية لدفع الظن السيئ
السؤال
في حالة ذهاب الرجل إلى مكان ما ومعه زوجته أو أخته أو أمه، ماذا ينبغي له ليدفع الشبهة عن نفسه، وأهله؟
الجواب
إذا ذهب الإنسان إلى مكان ما لأحد الأمور، فإن الإنسان البعيد عن الشبهة يكون واضحاً للناس لا لبس في هذا الأمر ولا غموض عليه، وإنما الذي يتستر هو الذي يكون في أمره ريبة، ومع ذلك فإن الإنسان إذا خشي من شبهةٍ أو ريبةٍ، فينبغي أن يكون واضحاً، وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يشيع صفية وكان في الاعتكاف، فجاء رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {على رسلكما إنها صفية قالا: سبحان الله يا رسول الله! أو فيك نشك؟! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال شيئاً} أما موضوع الحجاب فهو معروف، أن المرأة إذا خرجت ينبغي أن تكون في غاية من التستر، والتصون، والعفاف، وألا يظهر منها شيءٌ للرجال الأجانب.(265/41)
ضوابط في لعب الكرة
السؤال
يقول بعض الشباب إن اللعب بكرة القدم والتشجيع لها لا بأس به، إذا كنت تؤدي الصلوات الخمس وتطيع والديك، ومع أهلك ترعاهم على الوجه المطلوب، فما رأيك؟ مع أني لا أحضر المباريات، ولكني أشجع بعض الأندية؟ وعلى كلِّ حال فإني مبتلىً بهذا فما توجيهك لي؟
الجواب
أولاً ذكرنا قضية في البداية، وهي أنه لابد في رفع هذا البلاء ونزعه، أن تخرج من قلبك شيئاً فشيئاً محبة الأندية ومحبة الكرة والرياضة، وتضع فيه محبة الله عز وجل والرسول، والأنبياء، والصالحين، والمؤمنين، والشهادة في سبيل الله، اقرأ أخبار المجاهدين لتشتاق للجهاد، اقرأ فضل الشهادة لتشتاق للموت في سبيل الله، اقرأ سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام ليمتلئ قلبك بحبه، اقرأ عن أسماء الله عز وجل وصفاته حتى تحب الله تعالى من ملء قلبك، اقرأ هذا، اشغل قلبك بهذه الأمور.
أما قضية الكرة، فالذي أراه أن لعب الكرة إذا كان مضبوطاً بالضوابط الشرعية، ليست بحرام، والضوابط الشرعية ألا يلهي عن واجب، وألا يغلب على وقت الإنسان، وألا يتضمن ارتكاب محرم، مثل السب، والشتم، أو انتشار العداوة والبغضاء بين اللاعبين، أو ظهور العورات أو ما أشبه ذلك.(265/42)
المثل الأعلى
السؤال
المثل الأعلى، هو قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم:27] .
الجواب
هذا تنبيه: لكن الناس حين يطلقون كلمة المثل الأعلى يقصدون بها القدوة الحسنة التي يتمنى المرء أن يكون مثلها، فهو يعني مفهومٌ آخر غير المفهوم المقصود في الآية.
السؤال: هذا اقتراح يقول: بأن تقوم مجموعة من الشباب الملتزمين، بالتوعية والإرشاد والنصح، وتقديم الأشرطة والكتب النافعة، ولهم في ذلك الفضل الكبير، والأجر العظيم عند الله تعالى؟ الجواب: هذا على كل حال سبق مثل هذا الاقتراح ولعله أن يكون موضع التنفيذ.(265/43)
الصغار ورفاق السوء
السؤال
هناك بعض الأشخاص الصغار ممن يخاف عليهم من رفاق السوء، وقد حاولت مع أحدهم مراراً وتكراراً لأسلك به طريق الخير، وألحقه بالصحبة الصالحة، لكن لم أستطع ذلك، مع أن فيه خير فما الطريقة المثلى لذلك؟
الجواب
لعل من أهم الطرق في هذا، أن تسلط عليه بعض الشباب الصالحين ممن يكونون قريبين من سنه، فإن الإنسان يألف من يكونون في سنه، أو يكونون زملاء له في الدراسة بحيث يذهب معهم للمدرسة ويعود معهم، كذلك محاولة ربطه بما إذا كان هناك نشاطٌ في المدرسةِ التي يدرس فيها، أو حَلقة قرآن، في الحي الذي يسكن فيه.(265/44)
طريقة النصيحة المثلى
السؤال
لي أخٌ من المصلين إن -شاء الله- لكنه يكثر الخروج من البيت، ولا يفعل شيئاً من المعاصي كالدخان وغيره، ولا أقدر على منعه لأنه في سن السادسة عشرة فما هو الحل؟
الجواب
في الحقيقة من الحلول المهمة بشكل عام -وإن كان هذا ليس موضع الحديث عنها- أن تعمل مع من تريدُ هدايته لا على أنك سلطان متسلطٌ عليه، تأمره، وتنهاه، وتوجهه، وأنك أشبه ما تكون بالعسكري، الذي يصدر فرمانات، وأوامر خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى اليمين، وخطوة إلى الشمال! هذا لا يصلح مع الشاب المراهق.
إذا شعر أنك تأمره وتتسلط عليه، فإنه يثور عنده عنصر التحدي والعناد، ولو كان يريد أن يفعل الشيء لتركه لهذا السبب، فلذلك عليك أن تكون حكيماً، وتعامله كصديق، وتغرس الثقة بنفسه في أعماله، وفي قراراته، في أموره كلها.
وإذا أردت أن تنبهه إلى أمر ينبغي أن تكون في غاية اللطف، والحكمة في تنبيهه لهذا الأمر، وتستطيع أن تصرفه عن أشياء كثيرة من المعاصي وذلك عن طريق شغل وقت فراغه، ومصاحبته، ويمكن أن تذهب به معك إلى أمور معينة، ولتكن هذه الأمور أموراً مناسبة لمستواه، لا تذهب به لأمور يستثقلها ويمل منها، فربما يقول لك في المرة القادمة: لا أريد أن أذهب معك.
كذلك الإحسان، أحسن إليه -مثلاً- من الناحية المادية وهذه يحتاجها هؤلاء الشباب، لا أقول: أعطه دراهم؛ لأن الدراهم قد تضره، لكن اشتري له ملابس في الشتاء مثلاً وإذا احتاج إلى أدوات مدرسية اشتري له، وإذا احتاج إلى شيءٍ في البيت وفر له ذلك، حاول أن تقدم له بعض الهدايا، حتى يشعر دائماً بأنك حريص على مصلحته وأنه يعيش في ظلك.(265/45)
اللهُ جميلٌ
السؤال
ما صحة حديث: {إن الله تعالى جميلٌ يحب الجمال} ؟
الجواب
الحديث رواه مسلم ضمن حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا يا رسول الله: إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} المعنى: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده} كما جاء في الحديث الآخر، وهو في السنن أيضاً وهو حديث صحيح، يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، من حسن الملبس، والبزة، والنعل، والسيارة، وإلى غير ذلك.
ولهذا من الملاحظات، أن بعض الشباب المنحرفين يقولون في الاستبانة والاستفتاء الذي وجه إليهم: إنهم يعيبون بعض الصالحين بعدم اهتمامهم بملابسهم، وقد يعيرونهم بذلك، وهذه قضيةٌ لا شك أنها صحيحة، وذلك يعني أن الصالحين مشغولون بمعالي الأمور، والمشغول بمعالي الأمور قد يذهل عن أمر مهم؛ لكنه انشغل بما هو أهم منه ومع ذلك أقول: لا بأس أن يهتم الشاب الصالح بمظهره، حتى يكون كالشامة في وسط الناس، إن أتيت إلى دينه وصلاحه وجدته ما شاء الله، وإن أتيت إلى مظهره وجدت مظهره حسناً، وإن أتيت إلى علمه وجدته على علم، وإن أتيت إلى كرمه وجدته على كرم، وإن أتيت إلى منطقه وجدت منطقاً حسناً وهكذا.(265/46)
ظاهرة سيئة
السؤال
مدرس كان يسأل تلاميذه في إحدى الحصص قائلاً: من هو مثلكم الأعلى، وكان جوابهم بالقول مثلنا الأعلى (بدلاً من أن يقولوا: محمد صلى الله عليه وسلم) قالوا: مارادونا؟
الجواب
لا شك أن هذه ظاهرة شاذة، والمسئول عنها أولاً المدرس فقد كان يجب أن يقدم لطلابه بقدر ما يستطيع النصيحة والتوجيه، ويعمل على لفت عقولهم وأنظارهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، ومحبة الأنبياء، والمرسلين، والصالحين؛ لكن قد يكون هذا والله -تعالى- أعلم وضعٌ في مدرسةٍ غير عادية، وينبغي أن يراعى أن المدارس المتوسطة، يشيع فيها مثل هذه الأفكار أكثر مما تشيع في غيرها ذلك بحكم شدة المراهقة فيها.(265/47)
النساء وحلق العلم
السؤال
ما هو الحل بالنسبة للنساء بالجامع الكبير لأن الجامع ليس فيه مكانٌ للنساء؟
الجواب
يمكن أن نوجد مكاناً للنساء في الجامع الكبير في ما يسمى بالخلوة، وهي أسفل المسجد ولها باب من الجهة الشمالية على الشارع، فسنعمل إن شاء الله على تهيئتها بحيث تكون مناسبة لبقاء النساء فيها.(265/48)
الاستهزاء بالغير
السؤال
يقول: أنا شابٌ وقعتُ في الاستهزاء بغيري وأخذت ذلك عادةً، فما السبيل إلى ترك هذه العادة السيئة؟
الجواب
السبيل إلى ترك هذه العادة أن تعتاد على العمل الصالح، وقد جاء في الحديث: {الخير عادة} فكما أنك أدمنت على الاستهزاء حتى أصبح بالنسبة لك عادة، كذلك بإمكانك أن تُدمن تقدِمْ على الخير حتى يصبح الخير لك عادة، ومن الممكن أن تتخذ صاحباً من الصالحين يحصي عليك، وينبهك كلما أخطأت، أو وقعت في ذلك، ينهاك عنه.(265/49)
مجاورة العصاة
السؤال
أنا أسكن في أحد الشقق وهناك جيرانٌ لي، وهم شباب لا يصلون، ويسمعون الغناء، ويطبلون، ويضربون آلات اللهو حتى أزعجوني، فذهبت إليهم، ونصحتهم لكنهم قالوا: إنك لا تهدي من أحببت فماذا أصنع؟ هل أخرج من هذه الشقة؟ وهم يشربون الدخان ويؤذوننا، وهل الخروج من هذه العمارة هو من الإنكار بالقلب؟ أو أجلس وإن كنت غير راغب في الجلوس؟
الجواب
إن كان جلوسك يمكن أن يقلل من هذه المعصية وهذا المنكر لتقليل الفساد، وكثرة مناصحتهم، والتردد عليهم، فأولى لك البقاء والجلوس، أما إن كنت ترى خروجك يؤدي إلى الإقلاع فلا بأس، لكن الغالب أن خروجك لا يؤدي إلى الإقلاع، بل يجعلهم يقول بعضهم لبعض: خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري(265/50)
قصوراً في فهم الدعوة
السؤال
إن الشباب إذا التزم انقطع عن أصدقائه السابقين، ويكره مقابلتهم، وهذا يجعل الشباب الذي لم يلتزم يتصور ذلك قبل هدايته، مما يكون دافعاً لعدم التسرع في استقبال الهداية بحجة الانقطاع عن الأصدقاء، وهذا في نظري خطأٌ من الشباب المتدين الذي لا يخالط هؤلاء لغرض إصلاحهم!!
الجواب
لاشك أن المتدين إذا هداه الله عز وجل واستطاع أن يقدم لهؤلاء الإخوة خيراً، أو براً، أو معروفاً، فإنه أولى الناس بذلك، فأولى من أن يدخل عليهم شخصٌ غريبٌ عنهم ليدعوهم إلى الله عز وجل أنت أيها الشاب الذي هداك الله من بين هذه المجموعة، اعمل على أن تكفر ما قد تكون فعلت معهم في السابق من المعاصي، أو دعوتهم إلى الفساد، أو الانحراف، أو المشاركة في ذلك، بأن تدعوهم إلى الله عز وجل وتحرص على هدايتهم، فإن لم تستطع بنفسك فمن الممكن أن تستضيف شخصاً آخر يكون معك.(265/51)
من مجالس الشباب
السؤال
لم تذكر أن من أكثر أماكن تجمع هؤلاء الشباب بعض المدارس وخاصة مدارس البنات؟
الجواب
هذا موقع ليس بكثير إن شاء الله -تعالى- خاصة مع وجود ملاحقة، ومتابعة لمثل هذه الظواهر السيئة، من قبل الإخوة في الهيئة جزاهم الله خيراً.(265/52)
اختطاف النظر في الصلاة
السؤال
نرجو توجيه نصيحة للذين يسرِقون في صلاتهم وذلك بالنظر في كل اتجاهٍ خصوصاً وأن (90%) تقريباً ممن يصلُّون مبتلون بذلك النظر؟
الجواب
لاشك أن الكلام في موضوع الخشوع في الصلاة كلامٌ يطول، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى نظر إلى موضع سجوده، وفي الحديث الصحيح {أنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب له أعلام، فلما انصرف من صلاته خلعه وقال: اذهبوا به إلى أبي جهم -الذي أهداه إليه- وئتوني بانبيجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي} فخلع الثوب الذي أشغله النظر فيه عن صلاته، وخلعه ولم يلبسه مرةً أخرى عليه الصلاة والسلام.
ومرة أخرى {صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة، وكانت، قد وضعت سترة على سهوةً لها، (السهوة هي الفرجة سترتها بقرام لها) فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأمرها أن تهتكها أو هتكها وقال: إن تصاويره لم تزل تعرض لي في صلاتي} فإن الإنسان يجب عليه أن ينظر إلى موضع سجوده، ويقبل على عبادته، ولا داعي لإغماض العينين في الصلاة كما يفعله البعض؛ إلا إن كان في قبلته، أو موضع سجوده رسومٌ، وتصاوير، وأعلام تلهيه، فحينئذٍ لا بأس أن يغمض عينيه لتجنب النظر فيها.(265/53)
طرق الهداية
السؤال
بدأت أحب الشباب الملتزمين، وإني ممن يسهرون في الشارع الأصفر وغيره مع شباب غير صالحين، وسألت بعض الملتزمين عن طرق الهداية فيقولها من دون شرح فلا أهمها، فأرجو أن تذكرها وتشرحها؟ التوقيع: شاب إلى طريق الهداية.
الجواب
أولاً: مادمت وضعت قدمك في هذا الطريق فأبشر، فإن الله عز وجل يقول كما في الحديث القدسي الذي رواه البخاري يقول الله -عز وجل: {من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته أهرول} فأبشر بأن الله تعالى لك بكل خيرٍ أسرع، واصدق مع الله تعالى بإقبالك عليه، وأكثر من الضراعة إلى الله عز وجل والزم هذا الصديق الذي ذكرته في سؤالك، وأكثر من سؤاله، واجعل نفسك مَلِحّاً لا تكتفي بسؤاله مرةً واحدة، بل كرر السؤال واطلب منه التفصيل، اطلب منه أن يدلك على بعض الأشرطة التي تكلمتْ عن أسباب الهداية، فضلاً عن أنني وعدت بأن يكون الأسبوع الثالث -إن شاء الله- حديثنا موجهاً إلى هؤلاء الشباب، ولعل عنوانه أيضاً يكون حول (الشباب والسعادة) .(265/54)
سوء الظن
السؤال
ما هو الحل، والطريق السليم لانتزاع الشاب الصغير من أيدي هؤلاء المفسدين؟ وما رأيك بمن يسيء الظن بالشاب الصالح إذا دخل بقصد الإصلاح؟
الجواب
لاشك أن سوء الظن لا يجوز بالمؤمن ما دام مظهره دالاً على الخير.
أما الطريقة المناسبة لانتزاع هؤلاء الشباب، بل لإصلاح الشباب كلهم جملة فهي الدعوة؛ وذلك بأن نقوم بحملةٍ جادةٍ في الدعوة إلى الله عز وجل، من خلال كل الوسائل، الشريط، الكتاب المختصر، التعاون معهم في أمورهم التي يحتاجونها، إيصال الإعلانات إليهم، إعلانات الدروس، إعلانات الحلقات العلمية، إعلانات المحاضرات، وتبليغهم بما يجري في المجتمع، زيارتهم بصفة جماعية أيضاً، والجلوس معهم، والتحدث إليهم، إلى غير ذلك من الوسائل.(265/55)
الأجهزة المحرمة والاستفادة منها
السؤال
يوجد عندي بعض الأجهزة المحرمة، وعزمت إن شاء الله على الخلاص منها مثل التلفاز، والفيديو، والأشرطة، فهل يجوز لي أن أبيعها لبعض الأشخاص الذين يطلبونها أو على بائعيها؟
الجواب
هذه الأجهزة المحرمة لا يجوز بيعها، ولا إعطاؤها لمن لا تعلم أنه سيستفيد منها، أو يستخدمها في طرائق محرمة، لكن هناك جهاتٌ خيريةٌ يمكن أن تستفيد من هذه الأجهزة في أمور شرعية، أو على الأقل في أمور مباحة، فإذا لم تتيسر هذه الجهات الخيرية، فلابد من إتلاف تلك الأجهزة.(265/56)
الناس سواسية
السؤال
هناك كثيرٌ من الرجال -هداهم الله- يعملون عمل الجاهلية، وهم يقولون فلانٌ قبيلي، وفلان حضيري ما قولكم في ذلك؟ وما الأصل في هذا؟
الجواب
لاشك أن الأصل هو قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أكرم الناس أتقاهم} وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى} .
فهذه الأشياء هي من خيوط العنكبوت، ومن عادات الجاهلية التي لا ينبغي أن يقام لها وزن، فالناس سواسية كأسنان المشط قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] .
أما ما يتعلق بموضوع الزواج، فأنا أقترح أن الزواج بين أناسٍ مختلفين في مثل هذه الظروف، قد يكون غير مناسبٍ، وإن كان جائزاً شرعاً بلا شك، ولا ينافي الكفاءة أن يتزوج قبيليٌ من غير قبيلية كما يقولون، أو يتزوج غير قبيلي من قبيلية هذا لا ينافي الكفاءة ولا حرج فيه شرعاً لكنه من حيث الواقع قد يرفضه الأقارب أحياناً، وقد يكون سبباً في خصومة ربما تؤدي في النهاية إلى فض وفك الارتباط بين الزوجين والطلاق، وقد تؤدي إلى مشاكل صعبة لا يستطيع الإنسان التخلص منها، والحمد لله أن الشاب الطيب يستطيع أن يجد فتاةً طيبةً مماثلةً له، دون أن يوقع نفسه في حرج في مثل هذه الأمور، وإلا من الناحية الشرعية لا حرج فيه.(265/57)
صحبة الصغير للشباب
السؤال
ما رأيك في الشاب الصغير، يكون ملتزماً ويصاحب شباباً ملتزمين كباراً هل هذا حسنٌ أم لا؟ مع العلم أن هذا قد يؤدي -أحياناً- إلى خطأٍ أو ارتكاب محرم؟
الجواب
أما صحبة الشاب الصغير للشباب الكبار إذا كانوا صالحين، فإن هذا أمر لابد منه لأنه يتلقى عنهم التوجيه، والإرشاد والتعليم، والتربية، لكن ينبغي أن يضبط ذلك بضوابط منها: أولاً: تجنب الخلوة بهذا الشاب الصغير، خاصةً حينما يكون هناك خطورة فليحذر الشاب الكبير، أو المربي، أو الداعية، أو المعلم أن يخلو بهذا الشاب الصغير على انفراد، فإن الشيطان حينئذٍ يكون ثالثهما.
الأمر الثاني: أن يتجنب النظر إليه وإحداد النظر فيه، فإن هذا مدعاة للفتنة والعياذ بالله خاصةً إذا كان في هذا الشاب ما يدعو إلى الافتنان به، وإن كان هذا الشاب مع مجموعة من الشباب الطيبين الصالحين فليحذروا أن ينفرد به واحدٌ منهم، وخاصةً إذا كان هناك علاقات قوية، أحياناً يكون لبعض الشباب صديقٌ حميمٌ يركب معه السيارة، ويذهب ويأتي معه، وإذا جلس يجلس بجواره، وإذا قام قام معه، وهذه قضية، قضية هذا التعاطف ينبغي القضاء عليها ومراقبتها بحذر.(265/58)
الحذر لا ينافي التوكل
السؤال
كثرت الإعلانات ضد الغازات الكيماوية في الشوارع، هل الأخذ بالتعليمات هنا من باب التوكل؟ أم نتوكل على الله ولا نهتم بالتعليمات؟
الجواب
لا شك أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، وأنا أتعجب لماذا ينزعج الناس من هذا؟! ينبغي أن يكون الناس دائماً في حالة خوف من الله وفي حالة استنفار وتوقع، لأن هذا من الأشياء التي تقوي قلوب الناس، وتجعلهم يقبلون على الله عز وجل إذ تجعل الأمر عادياً، لماذا نكون أحياناً مثل الصغار يرهبون من هذه الأشياء؟! وفي الحقيقة هذه الأمور إذا اعتيدت أصبحت أموراً عادية لا تلفت النظر، ولا يخاف منها الإنسان لكن يتخذ الأهبة والعدة اللازمة.(265/59)
اقتراح للداعية
السؤال
يقول: لو أن بعض أهل الخير الذين لديهم القدرة على حسن التعبير والإقناع، قاموا بزيارة الشباب في أماكن تجمعهم، على مختلف أنواعهم، أو التحدث إليهم بما فيه الفائدة!
الجواب
هذا لا شك أنه اقتراحٌ جيد، بل ينبغي أن ينظم من قبل بعض الجهات القائمة على الدعوة، وسيكون هناك مزيد من الحديث عنه إن شاء الله تعالى.(265/60)
الهوى كيف أتغلب عليه؟!
السؤال
أنا شاب أحاول الالتزام، ومشكلتي أنني مغرم بحب الرياضة إلى درجة الهوس، وخاصة من ناحية الأندية، فأنا قد بلغ بي حب النادي المفضل لدي مبلغاً عظيماً، ولا تفوتني مباراةٌ واحدة لذلك النادي، وقد حاولت ترك ذلك فلم أستطع، رجاء حار بالإجابة؟
الجواب
يا أخي الإنسان أصلاً ليس له إلا قلبٌ واحد، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] فإذا كان قلبك ملآن بحب الرياضة، وحب النادي -مثلاً- بالتأكيد لن يكون في قلبك مكان لحب الأشياء الأخرى، التي يجب أن تحبها، حب الله عز وجل، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب الصالحين، وحب الأنبياء، والمرسلين والشهداء، وحب الجهاد في سبيل الله، وحب الأعمال التي يحبها الله عز وجل، وحب الأماكن التي يحبها الله تعالى كالكعبةِ، والمسجد الحرام، والمسجدِ النبوي والمسجدِ الأقصى، والمساجد، كلها ولذا فإنه لا بد لك من أمرين: الأول: هو التخلية، ويعني: أن تعمل على تفريغ قلبك من هذه المواد الفاسدة التي تملؤه، لابد من التفريغ أولاً، ولو تفريغاً جزئياً بأن تفطم نفسك عن بعض الأعمال التي يقوم بها النادي، بعض المباريات، وتحاول أن تتدرب على ذلك شيئاً فشيئاً، وتحل محل ذلك أموراً طيبةً صالحة، كقراءة القرآن، وقيام الليل، وصيام النفل، وصحبة الطيبين، والحج، والعمرة، وما أشبه ذلك من الأعمال الصالحة، فهذا هو الأمر الأول التخلية.
والأمر الثاني: هو التحلية، والتحلية تعني: بأن تملء قلبك بعد أن فرغته من المواد الفاسدة، تملؤه بالمواد الصالحة التي ذكرت لك نماذج منها، لابد من مجاهدة، والمجاهدة أرقى وأعظم صورها المجاهدة في ميدان القلب، لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله.(265/61)
بشرى وعتاب وطلب
السؤال
هذا يقول! بشرى وعتاب، وطلب البشرى نحن مجموعة من الشباب قد هدانا الله تعالى إلى الاستقامة، وأنقذنا بمنَّه وفضله من ظلمات الضياع، والتيه والمعاصي، إلى واحة الإيمان الوارفة التي ظللتنا بحنانها، ونعمنا بالسعادة فيها، كل هذا حصل بفضل الله بعد أن كانت أفكارنا مشتتة، ونسير دون ضابط، أو تخطيط، نعيش عيشةً عشوائية على الأرصفة، وفي الطرقات، وفي كل مكانٍ لا يليق، وكنا نتجمع حول التلفاز الذي أنقذنا الله تعالى من سمومه ومن شر أفلامه ومسلسلاته، وحول البلوت الذي ضيع أوقاتنا، وأشعل بيننا عداوة كادت لا تنتهي، وعلى الغناء الذي يعلم الله أنه من أشد أسباب قسوة قلوبنا.
وبعد أن كان تفكيرنا دائماً حول المباريات والرياضة التافهة، فمن دوري إلى دوري، ومن كأسٍ إلى كأس، ومن قدمٍ إلى طائرة، ومن ضياعٍ إلى ضياع، ونكمل هذا كله برائحة الدخان الكريهة، حتى فكرنا أن كل ما نعمله ما هو إلا تطبيق بالحرف الواحد لمخططات أعدائنا، الذين يريدون بواسطتها إلهاءنا عن عقيدتنا، وعن مهمة الشباب الأساسية، فالشباب هم قوام الأمة، وحصنها المنيع الذي ترتد به سهام أعداء الإسلام إلى نحورهم.
العتاب: لماذا التقصير في حق الشباب؟ الطلب: التركيز أكثر على الشباب، وإثارة حماسهم لدينهم.
الجواب
هذا عتابٌ في محله، وطلبه نرجو أن يلقى آذاناً صاغيةً من الدعاة، وطلبة العلم والعلماء.(265/62)
العمل الدعوي
السؤال
أقترح على الشباب أن يقوم بتوزيع، وإهداء هذا الشريط على الشباب المنحرف؟
الجواب
في الواقع لا أدري ما فائدة إهداء هذا الشريط لهم؛ لأن المقصود الأول في هذا الشريط، هو أنتم يا أولياء الأمور، وأنتم أيها الشباب المستقيم، وأنت أيها المجتمع بوجهٍ عام، حتى تدرك أن هناك مشكلة موجودة قد تدركها أو لا تدركها.
أنت أيها الأب حتى تدري أين يذهب ولدك، وأنت أيها الأخ حتى تدري أين يذهب أخوك؟! حتى تعلم الأم أين يذهب ولدها؟! وأين يقضون أوقات فراغهم؟! وما هي الأخطار التي تحدق بهم؟! وفي الأسبوع الثالث -كما ذكرت لكم- سيكون هناك محاضرة مخصصة للشباب هؤلاء أنفسهم، نعمل بإذن الله تعالى على أن يوجد فيها من وسائل الخطاب لهم، والتأثير ما لعله أن يكون نافعاً لهم.
يقول تنبيه: سوف تقام صلاة الاستسقاء يوم غدٍ الاثنين: ولاشك أن هذا أمر طيب، والأخ ينبهكم على ضرورة استشعار الحاجة إلى الله وإلى رحمته، وغيث القلوب لأن بعض المصلين يذهبون عادة بدون حضور القلب، والرغبة في الغيث الحقيقي، لا شك أن الاستغاثة، والاستسقاء هو سؤال الله عز وجل والانكسار بين يديه.(265/63)
نصيحة للعائدين إلى الله
السؤال
اعتراف لا أدري ماذا أقول؟! ولكن كنت من الشباب المنحرف ولي كلمة أقولها لكل شاب بأنه لا فائدة ولا جدوى من الضياع في غمرات المعاصي، لقد كنت في ظلامٍ حالك، فإلى متى يا شباب الإسلام؟! إلى متى أيها العاصي؟! لقد كان في مجلسنا كل ما يسوء من لعبٍ ودخانٍ وفيديو، حتى إني أعرف بعض المجالسين قد يشربون المخدرات، وأنا الآن في حلقة وإن شاء الله من التائبين، فبم تنصحني؟
الجواب
أنصحك بالثبات على ما أنت عليه أولا، وأن تسعى إلى دعوة الآخرين الذين كنت معهم إلى ما أنت عليه الآن، عليك أن تسعى إلى نقلهم إلى المسجد، وإلى الدرس، وإلى المحاضرة، وإلى الحلقة العلمية، وإلى غير ذلك من وسائل الخير.(265/64)
نسيم الحجاز في سيرة ابن باز
العلامة ابن باز غني عن التعريف، وبذله في العلم والإرشاد لا يخفى على أحد، وفي هذه الورقات لمحة عن هذا العلامة وجوانب القدوة فيه كعلم من أعلام المسلمين.(266/1)
أسباب الحديث عن سيرة ابن باز
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأحبة: تستنشقون في هذه الجلسة المباركة: نسيم الحجاز في سيرة الإمام عبد العزيز بن باز.(266/2)
السبب الثالث: لأننا لا ندعي عصمة إمام ولا ندعو إلى تقليده
أمر آخر يدعو إلى الحديث عن مثل هذا العلم الإمام وفي مثل هذا الموضوع: إن الحديث عن هؤلاء الأشخاص يضع الحق في نصابه، فهو معرفة لبعض قدرهم وجهادهم وبلائهم، وإذا كان الحديث عنهم لا ينفعهم، ولا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لهم فإنه على الأقل يشعرهم بأن بذلهم يَلقى آذاناً صاغية، وأن جهادهم محل حفاوة الأمة وملء سمعها وبصرها.
ما بالك إذا شعر العالم بأن الأمة التي تحتشد له، وتستمع إليه، وتأكل كل وقته أو جل وقته، وتحاصره في كل لحظة بأسئلتها عبر الهاتف، أو أسئلتها المباشرة، أو طرقها على بابه، أو مراسلتها، أو اتصالاتها، أو موافاته بمشكلاتها.
ما بالك إذا شعر العالم أن هذه الأمة التي تحتشد حوله باستمرار لا تفعل ذلك إلا بقدر ما يخدم مصالحها الشخصية فحسب، ثم لا يعنيها بعد ذلك من أمره شيء أن يصح أو يمرض، يُكرم أو يُهان، يفرح أو يحزن؟! إنها كارثة أخرى أن نتخلى عن أولئك الجهابذة الذين ضحوا من أجلنا، ولو لم يكونوا ينتظرون منا شيئاً، لكن: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] .
إننا نلحظ أهل البدع فنراهم يمنحون رؤساءهم تعظيماً يصل أحياناً إلى درجة القداسة كشيوخ الصوفية مثلاً، أو زعماء الرافضة وسواهم، تَربَّى أتباعهم على معاملتهم عبر طقوس عجيبة لم يطلبها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أتباعهم، بل ولا يرضون منهم لو فعلوها.
فالمطلوب إذاً لأئمة أهل السنة قدراً معتدلاً من التعظيم، والإجلال اللائق الذي يحفظ لهم قدرهم ومكانتهم، ويربي الجيل على ترسُّم خطاهم.
إن الأمة التي لا حاضر لها لا مستقبل لها.
ونحن لا نعتقد أن الحديث عن رجلٍ كـ ابن باز يعني: اعتقاد العصمة له في كل ما يقول، أو يفعل، أو يأخذ أو يذر، ولا تقليده في كل اجتهاداته، ولا ارتهان الفكر والعقل في حدود ما وصل إليه.
لا؛ بل إن من الوفاء لرجل كـ ابن باز وأمثاله: أن نكون أوفياء للمبادئ التي يحملونها، والتي من أهمها نبذ التقليد ومحاربته وذمه، وتربية الجيل على الأخذ من المنبع الأول من الكتاب والسنة، كما قال أحمد: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا.
إننا نريد أن نقول للناس في الوقت الذي نثني فيه على هذا وذاك من الأئمة الأعلام: إن مخالفة أحدهم للآخر في مسألة، أو عشر، أو مائة لا يعني تنقصه، أو مخالفته في المنهج.
كلا.
ألم تر أن الواحد من العلماء قد يخالف صحابياً، أو تابعياً، أو إماماً متبوعاً من الأئمة الأربعة، أو العشرة في مسائل قليلة، أو كثيرة فلا يعني هذا شيئاً سوى الوفاء للدليل، ولسان الحال يقول: فلان عزيز والحق أعز منه.
إننا نحتاج أن نرسخ هذا الميزان أيضاً في نفوس الناشئة ليغنيهم عن تساؤلات كثيرة وإحراجات وقلق لا يهدأ إلا بتصحيح التصورات وتعديل النظرات.
فإن بعض الناس لا يفهمون إلا أحد أمرين: إما أن تكون صادقاً في ثنائك على فلان، وبناءً عليه ينبغي أن توافقه في كل شيء.
وإما أن تخالفه، فيكون معنى ذلك: أنك منابذ له في المنهج، مخالف له في الطريقة، مباعدٌ له في كل شيء.
وهذا خطأ عظيم.
بل عادة العلماء الراسخين في العلم أنهم قد يثنون على العالم بما هو أهله، ويطرونه، ويمدحونه، ويدعون له، ولا يمنعهم هذا أن يخالفوه في مسألة أو عشر أو مائة من المسائل التي هي موطن اجتهاد.(266/3)
السبب الرابع: المدح ليس مذموماً في كل وقت
أمر آخر: إن الحديث عن ابن باز في اعتقادي ومذهبي عبادة إذا صحت فيه النية، ونحن لسنا ممن يتعاطى المديح.
كما أن الإمام ابن باز ليس ممن يحب المديح، ولا ممن يمدح لرغبة أو رهبة، ولكنني منذ جالسته وقاربته شعرت بأنفاس الصدق تتردد في صدره، وشعرت بعلامات اليقين تلوح في قسماته، ورأيت آيات الجهاد الدءوب تشرق في صفحات حياته، فكان من همي منذ زمن أن أخصص درساً أقول فيه لإخوتي من الشباب: إن جوانب عديدة في شخصية هذا الإمام يجب أن تحتذى، هذا كل ما كنت أريد.
وقبل أن أذكر هذه الجوانب أحب أن أقول: إن المديح ليس مذموماً دائماً، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من مدح: فخير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالاتنا سلمة، وأبو بكر وعمر هما السمع والبصر، وعلي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وعثمان تستحي منه الملائكة، وحواريي الزبير وهكذا وهلم جراً.
وقد صنف العلماء في كتبهم أبواباً خاصة في المناقب، ذكروا فيها ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على رجال من أصحابه كالعشرة المبشرين بالجنة، وأمهات المؤمنين، وأهل الشجرة، أهل بيعة الرضوان، وأهل بدر وغيرهم.
ثم صنفوا في مناقب القبائل والبلاد والطوائف وغير ذلك شيئاً كثيراً يطول وصفه.
إذاً: المديح أسلوب تربوي إذا كان في حدود الاعتدال، وإذا كان لغرض صحيح فهو محمود ممدوح.
أما إن كان المديح على سبيل الإطراء المجرد، أو على سبيل التزلف أو الرغبة، أو الرهبة، أو كسب المال والدنيا، أو البحث عن الرزق.
فلا شك أن هذا حينئذ مذموم.
ومثله إذا كان الممدوح يخشى عليه أن يوصله المديح إلى شيء لا يرضي الله تعالى.
فيدعوه إلى شيء من الغرور، أو بطر الحق، أو غمط الناس، أو ما شابه ذلك.(266/4)
السبب الأول: حتى لا ننسى العظماء
وهناك أسباب كثيرة دعتني إلى تناول هذا الموضوع وطرحه والحديث عنه: فنحن أمة لها رجال وقادة في الفكر والعلم، ولها رجال ٌوقادةٌ في السياسة والإدارة، ولها رجال وقادة في الحروب والمعارك، وتنشئة الجيل على تعظيم هؤلاء الكبار ضرورة تربوية لا بد منها.
إن المسألة ليست مسألة ابن باز فحسب، بل مسألة كل العظماء والكبار والأئمة والقدوات فبمن يقتدي الجيل؟! وأي شخصية يمكن أن نقدمها لشبابنا، ونربيهم على تقفي آثارها، والسير على خطاها والنسج على منوالها؟! ما بالك إذا نشأ الجيل وهو يشعر بأن الأمة تتنكر لعظمائها، وتتجاهل تاريخهم؟ {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر:35] إنها لكارثة عظمى.
فإما أن ينساق هذا الجيل مع ذلك التيار فيتنكر للكبار كما تنكر مَن قبله، فيصبح الجيل منسلخاً عن أصوله ومبادئه، بلا تاريخ وماضٍ، فهو مقطوع الصلة بماضيه، مبتوت العلاقة بتاريخه.
وكما قال أحمد شوقي: مَثَلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيطٍ عَيَّ في الناس انتسابا وإما أن ينظر الجيل إلى هذه الأمة التي تنكرت لعظمائها نظرة انتقاد واعتراض، فينقم على ذلك المجتمع، ويشعر أنه مجتمع فاسد منهار.
وكلا الأمرين خطب عظيم.
إنه ليس من مصلحة الأمة في سابقها، ولا في حاضرها، ومستقبلها أن تتنكر لعظمائها، وفي الوقت الذي ننادي نحن وغيرنا بتبجيل شخصية كشخصية ابن باز، فإننا لا نعني؛ بل لا نقبل أن يكون هذا مصادرة للكبار الآخرين، والعظماء في كل ميدان، فإن الأمة الإسلامية عاشت فترة الاستبداد الذي يعني: اعتبار الفرد وطحن من سواه، سواء على صعيد السياسة، أو المال، أو على صعيد العلم، أو العمل، أو على صعيد التربية، وآن الأوان أن تعي الأمة أن تعظيم فلان لا يعني الحط من غيره، وأن المجال يتسع لأعداد كبيرة من العظماء، والكبراء، والقادة، والأئمة، وهذا المعنى الكبير العظيم لا بد أن نقرره قولاً وفعلاً.
وأنا إذ أتحدث عن شخصية نُكِنُّ لها جميعاً الحب، والتقدير، كشخصية إمامنا ابن باز وأزيد إلى تأكيد هذا المعنى، تأكيد معنى آخر: وهو أن الأمة ينبغي أن تعي وتتعلم أنها في الوقت التي تحتفي وتحتفل فيه برجل كـ ابن باز، يجب أن يتسع قلبها وصدرها أيضاً لرجال آخرين من أهل العلم، أو الدعوة، أو الإصلاح، أو التعليم، أو التربية، أو سوى ذلك.
فليس الحديث عن شخصية ابن باز مصادرة لشخصية عالم جليل آخر كفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، أو فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي أو فضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني أو غيرهم.
فهذه الأمة فيها عظماء كثيرون، وفيها أئمة، وقدوات، (وكابينة) القيادة تتسع لهم جميعاً لأن كل فرد منهم في ثغرة وميدان لا يملؤه غيره ولا يسده سواه.
بل هم وجوه لعملة واحدة إن صح التعبير، ولا يجوز أن يكون ثناؤنا ثناء مغرضاً، فأنا أثني على فلان لكي أعرض بعلان، كلا.
بل أنا أثني على فلان فأتحدث عنه كما لو لم يكن أمام ناظري غيره.
وقد أثني في موضع آخر على شخص آخر ممن يستحق الثناء فأتحدث عنه بالطريقة ذاتها، وليس الثناء مقصوداً لذاته وإنما الثناء كما سبق ثناء للجيل، ثناء لهؤلاء الشباب الذين ينتظرون القدوة التي يمشون وراءها.(266/5)
السبب الثاني: حتى لا يصبح للجيل قدوة غير العلماء
إن تجاهل هؤلاء السادة في أجهزة الإعلام العالمية، والعربية، والمحلية، أمر خطير، لأنه يفسح المجال للثناء على رموز الحداثة، وأساطين العلمنة، ودهاقنة التسول الفكري، ويجعلهم هم القدوة والأسوة للشباب.
فإن الإنسان بطبعه لا بد أن يتمثل أمام ناظريه شخصاً يعتبره في موضع الأسوة والقدوة، ويستفيد من علمه وأدبه وخلقه، والله تعالى حينما أنزل الكتاب بعث الرسول أيضاً، والرسول عليه الصلاة والسلام ربَّى أشخاصاً نقلوا هديه ودينه إلى من بعدهم.
فكان ابن مسعود يربي في العراق، وكان ابن عباس يربي في الحجاز، وكان معاذ وأبو موسى يربيان في اليمن، وكان جابر، وكان فلان، وكان فلان فالجيل إذا فقد القدوة في الرجال الذين هم أهلٌ لأن ينظر في هديهم، ويقتدى بهم، فإنه سوف يلتمس القدوة من ذلك الأديب، أو الشاعر، أو المتحدث، أو الناقد الذي قد يكون منحرفاً في فكره، أو في اتجاهه، أو في خلقه، أو في سلوكه، ولكن أجهزة الإعلام نجحت في تقديمه للجيل على أنه نموذج ورمز.
خاصة ونحن نجد أن أرباب الفكر المنحرف يتبادلون ثناءً مغرضاً فيما بينهم، فكل واحد منهم يتحدث عن الآخرين، ويثني، ويطري، ويقدمهم للجيل.
يقدم أعمالهم وإنجازاتهم، وكتبهم، وقصائدهم على أنها نموذج للأدب، والثقافة والوطنية، نموذج للقوة والصبر، فينشأ الشاب يقرأ الجريدة فيجد فيها ثناءً على فلان من الناس ذلك الأديب الكبير.
ويطالع المجلة فيجد فيها نقداً للديوان رقم عشرة أو عشرين للشاعر الوطني فلان، ويسمع الإذاعة فيجد فيها مقابلة مع الدبلوماسي الكبير فلان.
وهكذا يصبح الجيل نهباً لمثل هذه الشخصيات.
وقل مثل ذلك في رموز الفن والرياضة الذين مع كثرة الطرق على أشخاصهم، يصبح الصغير والكبير ينام ويصحو على الإعجاب بأشخاصهم، وتقفي سيرهم وخطاهم، وأن يتمنى أن يكون واحداً منهم.
إن هؤلاء الرجال الذين نطريهم رجالٌ برزوا يوم لم يكن في الساحة هذا الزخم الهائل من أولياء الإسلام، ودعاته، وشبابه، ورجاله، بل برزوا في وقت كثرت فيه قالة السوء، وانتشر فيه دعاة الضلالة، وبرزت فيه الدعوات القومية والبعثية وغيرها، وكان الواحد منهم صبوراً دءوباً على رغم قلة الناصر، والمعين، والمتلقي.
وبعض من ذكرت من الأئمة كان يجلس في حلقته فلا يأتي إليه إلا أربعة رجال، فإذا قرأ الواحد منهم نصيبه قام من الحلقة، ليس لديه وقت أن يجلس إلى نهايتها وإنما يقرأ ثم يذهب إلى عمله.
وآخر يجلس في وقت الظهيرة يثني رجليه في شدة الحر يوم لم يكن ثَمَّ مكيفات، فلا يجلس عنده إلا أفراد قلائل ممن لا شأن لهم، ولا وزن لهم في نظر الناس، ومع ذلك صبّروا أنفسهم كما أمر الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] ودأبوا، وضحوا، واستمروا ثم رأوا طلائع هذه الصحوة المباركة، وهذا الإقبال الكبير، وازدحمت حلقاتهم العلمية بالطلاب، وتكاثر حولهم المتلقون، واحتفلت الأمة بهم فلم يتغير من أمرهم شيء؛ لأن الدعوة التي يحملون هي واحدة يقولونها في حال الإقبال كما يقولونها في حال الإدبار.
وهذه ميزة من أبرز الميزات.
فليس الفخر لأولئك الذين ظهرت أصواتهم وارتفعت في وهج الإقبال والاندفاع نحو الإسلام، وإنما العجب من أولئك الذين وفوا، وصبروا، وجاهدوا، وأعرضوا عن الدنيا يوم أن لم يكن في الساحة غيرهم.
فجدير بنا أن نؤدي بعض حقهم الواجب في أعناقنا بعد أن عرفنا ريادتهم وسبقهم في هذا الميدان الواسع الطويل.(266/6)
سيرة ابن باز
ماذا نأخذ من ابن باز؟ كيف يمكن لي أن ألخص ثلاثاً وثمانين سنة في ثلاث وثمانين دقيقة؟ ثلاث وثمانون سنة من الجهد والبذل غير المحدود، والعطاء الفياض.
إن تاريخ الأعلام لا ينحصر في أن أحدهم ولد عام كذا أو تخرج عام كذا، فهذا هو الجانب المظهري الذي يملك كل إنسان أن يدركه، ولكننا سنبرز جوانب القدوة التي نراها في شخص هذا العلم الكبير.
قد يشعر مستمع هذا الحديث بأن من النقص أن نعلن عن سيرة ابن باز، ثم نتجاهل المعلومات البسيطة التي ينبغي أن نقدمها، ومن أجل سد هذا الفراغ أقدم هذه المعلومات السريعة عن شخصية ابن باز.(266/7)
المناصب تشرف بالعلماء
إن ابن باز وأمثاله من العلماء والدعاة هم أكبر من المناصب، وأعظم من الألقاب العلمية؛ فالمنصب واللقب يشرف أن يضاف إلى ابن باز، أو إلى أمثاله من العلماء والدعاة وليس العكس: نُمُوا إليه فزادوا في الورى شرفاً ورب أصل لفرع في الفخار نمى فالمنصب يشرف بوجود ابن باز فيه، وأمثال ابن باز من العلماء والدعاة وليس العكس.
واللقب العلمي يشرف بأن يكون ابن باز أو غيره من حملته وليس العكس.
لا يضيف إلى ابن باز شيئاً أن نقول: أنه ولي القضاء، أو درس في كلية الشريعة، أو تولى هذا المنصب أو ذاك، بل هذه المناصب تكبر في عيوننا أن يكون ابن باز أو غيره تولاها، فقد كبرت كلية الشريعة بالرياض في عيوننا لما علمنا أن ابن باز درس فيها، ووطئت قدمه أرضها، كما كبرت في عيوننا الجامعة الإسلامية حين علمنا أن ابن باز كان نائباً لها ثم رئيساً، وقل مثل ذلك في الدعاة والعلماء، فهم لا يستمدون عظمتهم من مواقعهم؛ بل كل المسلمين.
العالم الإسلامي لم يعرف سماحة الشيخ محمد بن عثيمين لأنه مدرس في كلية الشريعة بالقصيم -مثلاً- كلا، أو أنه كان مدرساً في معهد عنيزة العلمي، بل عرفه بأنه الإمام الفذ الجهبذ الفقيه المفتي الداعية المصلح، فأصبحت هذه الأعمال أقل من عيار العلماء، وهي تشرف بهم وليسوا هم من يشرفون بها، وهكذا أمثالهم من العلماء، بل ربما يكون كثيرون لا يعرفون ما هي وظيفة فلان، ربما لو سألت كثيرين ماذا يعمل فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين مثلاً؟ أو ماذا يعمل فضيلة الشيخ عبد الله بن قعود؟ أو ماذا يعمل فضيلة الشيخ سفر الحوالي؟ أو ماذا يعمل فضيلة الشيخ عائض القرني؟ فربما وجدت كثيرين لا يعرفون هذا؛ لكنهم يعرفون هذه الأسماء اللامعة المجاهدة من خلال جهادها، وبلائها، ودروسها، ومحاضراتها، وتأثيرها في القريب والبعيد، والقاصي والداني، وقد أصبح المسلم يتناول هذه الأسماء على أنها رموز كبيرة للدعوة إلى الله، والعمل، والعلم، والتعليم، والجهاد، والصبر فهذا ملحظ مهم.(266/8)
المناصب التي تلقاها
وفي عام 1357هـ رشح للقضاء من قبل محمد بن إبراهيم، واستمر قاضياً حتى نهاية 1371هـ.
في سنة 1372هـ انتقل الشيخ عبد العزيز إلى التدريس بالمعهد العلمي في الرياض، وظل على هذا سنة واحدة.
وفي عام 1373هـ انتقل إلى التدريس بكلية الشريعة بالرياض، وقضى فيها سبع سنوات يدرس فيها الفقه والتوحيد والحديث وغيرها من العلوم الشرعية.
في عام 1381هـ عين نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية في المدينة، وكان رئيسها محمد بن إبراهيم رحمه الله، وقضى الشيخ عبد العزيز تسع سنوات في هذا المنصب.
وفي سنة 1390هـ تولى رئاسة الجامعة الإسلامية بعد وفاة رئيسها محمد بن إبراهيم.
وفي سنة 1395هـ عين في منصبه الحالي رئيساً لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وظل في هذا المنصب إلى اليوم.(266/9)
مؤلفاته
له مجموعة من الكتب والرسائل آخرها: مجموع فتاوى ورسائل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وقد صدر منه ثلاثة مجلدات، والشيخ يتولى الإشراف عليها وتقرأ عليه حرفاً حرفاً.
وسوف يكون هذا الكتاب الضخم ديواناً حافلاً جامعاً لعلوم الشيخ حفظه الله.
إلى ذلك له مجموعة من الأعمال الجليلة: كالمشاركة في العديد من المحافل الإسلامية، والمؤتمرات، والمجامع الفقهية والعلمية.
أما حياته اليومية: فهي جهد متواصل، يبدأ من الصلاة قبل الفجر ثم يلقي درساً بعد الفجر يومياً، ثم الإفطار، فالدوام، فالغداء في وسط جموع كبيرة غفيرة من الناس؛ يستغرب من يأتي إلى غداء الشيخ، فهو لا يجد طعم العيش إلا في وسط هذه الجموع التي تحضر إلى غدائه وتشاركه، والشيخ لا ينفك يهلِّ ويرحب، ويفرح بكل قادم مهما يكن.
ثم النوم بعد صلاة العصر وبعد درس قصير يلقيه، ثم هو بعد ذلك للناس بعد صلاة المغرب، وحتى ساعة متأخرة من الليل ربما جلس إلى الساعة الثانية عشرة ليلاً أو بعد ذلك مع الناس.
ثم يخصص بعد ذلك وقتاً للمشي ربما كان ذلك ثلث ساعة أو نصف ساعة يتجول فيها في بيته وقد رتب ذلك ترتيباً دائماً.
ثم بعد ذلك يقوم ما تيسر له من قيام الليل، وهو إلى ذلك كله منتهى لآلاف المشاكل في طول البلاد وعرضها تأتيه من خلال أشخاص، أو رسائل، أو برقيات، أو مهاتفات تنوء بحملها الجبال الرواسي.
فأين وقت النوم إذاً؟ وأين وقت الراحة؟ وأين وقت الشئون البيتية؟!! هذا مما يتعجب له الإنسان.
وإلى ذلك كله فأنت إذا جلست مع الشيخ وجدت صدره متسعاً للمشاكل، يعرف الناس، ويسأل عن أحوالهم، وكل من لقيه سأله عن أموره وأخباره.(266/10)
اسمه ومولده
هو عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز، ولد في الرياض في 12/ ذي الحجة/ 1330هـ من أسرة علمية ينتمي إليها مجموعة من العلماء والقضاة.
كان مبصراً في أول حياته وأصابه المرض سنة 1346هـ وعمره آنذاك 16 عاماً؛ فضعف بصره إلى أن فقد بصره في مستهل محرم/ 1350هـ وعمره حينئذ 20 سنة.
حفظ القرآن عن ظهر قلب قبل أن يصل إلى مرحلة البلوغ.(266/11)
مشايخه
مشايخه كثير: ثنى عليهم ركبتيه، وتلقى عنهم العلم بأدب جم، واحترام كبير.
منهم: محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
ومنهم أيضاً: صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن قاضي الرياض.
ومنهم: الشيخ حمد بن فارس وكيل بيت المال في الرياض، وله أخبار وقصص يعرفها الكثيرون، وكذلك من قبله الشيخ محمد والشيخ صالح.
ومنهم: الشيخ سعد وقاص البخاري من علماء مكة، وقد تلقى عنه الشيخ عبد العزيز علم التجويد سنة 1355هـ.
ومنهم: محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ وقد لازمه الشيخ عبد العزيز نحو (10) سنوات وتلقى عنه جميع العلوم الشرعية ابتداءً من سنة 1347هـ - 1357هـ.(266/12)
جوانب القدوة في شخصيته
أنتقل بعد ذلك إلى الوقفة الأخيرة وهي بيت القصيد جوانب من القدوة في شخصية ابن باز: أولاً: هذه الجوانب هي التي كنت معنياً بالحديث عن ابن باز من أجلها، فأنا لا أتحدث عن ابن باز من أجل ابن باز نفسه، فهو غني عن هذا الكلام، وهذا الكلام بالنسبة له لا يقدم ولا يؤخر، فهو لا ينفعه في الدنيا ولا ينفعه أيضاً في الآخرة؛ اللهم إلا إن نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أنتم شهداء الله في أرضه} وأرجو أن نكون من شهداء الله في أرضه، الذين نثني على هذا الإمام بخير، ونشهد أن هذا الرجل قد أبلى بلاءً حسناً في الدعوة إلى الله، والعلم والتعليم والجهاد.
وإنما نتحدث عن ابن باز من أجل الأمة ومن أجل الناس.(266/13)
تاسعاً: القدرة على معايشة أجيالٍ متعاقبة
فالشيخ ابن ثلاث وثمانين سنة قد أثقلت كاهله السنون، ومع ذلك فهذه السنون الطويلة لم يقضها في رغد العيش، وبحبوحته، ولا في جو الراحة والنعيم، بل قضاها في جوٍ من الجهاد، والصبر على البلاء، والاحتساب، والمواجهة، ومعاناة مشاكل الناس وهمومهم متنقلاً بين القضاء، إلى التدريس، إلى الأعمال الحكومية، ومع هذا كله كان كما قلت قد فتح صدره للناس قريبهم وبعيدهم في السؤال، والفتيا، وفي المشاكل الاجتماعية، وقضايا الطلاق، وفي قضايا الخصومات، ومشكلات المسلمين، وفي همومهم ومصائبهم إلى غير ذلك، وأيضاً استطاع أن يتعايش مع هذه الأجيال المتواصلة.
وهو يملك القدرة على التعامل مع الجيل الحاضر الآن وكما لو كان واحداً منهم، ويعرف همومهم ومشاكلهم وأمورهم المستجدة نظراً لهذه الرواتب والقنوات التي صار متواصلاً بها مع الناس.(266/14)
عاشراً: حمله لهموم الإسلام بنفسه
وهذه قضية مهمة جداً، فهو لا يلقي بالتبعة على الآخرين، رأيت كثيراً من كبار العلماء إذا قلت له: يا شيخ حصل كذا وكذا.
قال: يا ليت العلماء يفعلون كذا، يا ليت الناس يفعلون كذا، يا ليت طلبة العلم يجتمعون.
أما الشيخ عبد العزيز فإنه لا يلقي باللائمة على غيره، ولا يلقي بالحمل على سواه، بل يشعر بأنه هو المسئول.
والمطالب، ويبذل ما يستطيع، ويوصي مع ذلك بمواصلة الآخرين، يعالج المواقف بالذي يقدر عليه، وبالذي يستطيع.
أما الأساليب التي يعالج بها المواقف فهي لا شك أساليب اجتهادية، وقد يستحسن هو شيئاً ويستحسن غيره شيئاً آخر؛ لكن المهم أنه لا يعول على الآخرين فقط ويتخلى هو، أو يبعد نفسه.
كلما جئته في قضية دقت أو جلت قال: نفعل إن شاء الله، ونبذل ما نستطيع، أقل ما يقول: نحن نشفع ونكتب والنتائج على الله، أما أن يقول: لا نستطيع أن نصنع شيئاً، أو لا طاقة لنا بهذا، فقلما تجد أن سماحته يقول ذلك.
وهنا نجد أننا أمام إنسان شعر بالمسئولية، لم يشعر أن الحمل على سواه من الناس، بل يشعر بأن الحمل عليه ويسعى إلى نجاة نفسه بما يستطيع.
ويا ليت كلاً منا يشعر بالمسئولية ذاتها، وكثير يقولون: هذا لأنه ابن باز، ولأنه رئيس إدارة البحوث، لأن تاريخه كذا، لأنه عالم الأمة.
لا يا أخي! هناك أناس عندهم من العلم مقدار، وعندهم من المسئولية مقدار، وأنت أيضاً عندك من المسئولية مقدار؛ لكننا تعودنا وتربينا على التنصل من المسئولية، ونقول: فلان لماذا لا يفعل، وفلان لماذا لا يفعل، لكن لا نفكر نحن لماذا لا نفعل!!(266/15)
حادي عشر: التثبت والتأني والتحري
وأخيراً: من صفاته التثبت والتأني والتحري، والحرص على سلامة الآخرين، فهو يتمنى ألا يكون ما بلغه عن فلان صحيحاً.
وهذه هي أخلاق الكرماء من الرجال، وأذكر أنني اطلعت على أوراق وصلت إلى سماحته عن فلان من الناس داعية مشهور يتهم فيها بأنه مخالف للسنة ومبتدع وفيه كذا وكذا وكذا.
فرأيت أن الشيخ قد كتب لهذا الداعية رسالة فيها التبجيل، والتوقير، والثناء، والدعاء، وبعد ذلك قال: وصلت إليَّ أوراق بشأنكم فيها أنكم كيت وكيت، وأرجو أن يكون ما بلغني عنكم غير صحيح، ولكنني أرسلت إليكم أحببت التثبت من ذلك.
أجل: أنت ماذا تريد إذا قال لك إنسان: أنا برئ، وما نسب إليه كذب، وأنا أبرأ إلى الله من هذا القول الذي نسب إلىَّ، أو هذا الفعل.
أنت لست مأموراً بأن تنقب عن أمور الناس! يكفيك أن يظهر الإنسان التزام السنة، ومجافاة البدعة، والدعوة إلى الخير، والنهي عن المنكر.
فهذا كافٍ.
أما سرائر الناس ودخائلهم وبواطن أحوالهم فهذه أمرها إلى الله: {ومن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
والكلام حول الشيخ يطول، ولكن هذا غيض من فيض، وقد أعطاني أحد الشباب الآن ورقة فيها قصيدة جميلة لمدح الشيخ عبد العزيز -حفظه الله- والقصيدة طويلة لكن أقرأ بعض أبياتها.
يقول: هل المدح إلا فيك يزجا ويوفد ألا كل مدح في سواك مفند رجوت نوال الله إذ مد شاعر بنفسٍ هلوعٍٍ نحو ما مدت يد حللت مكاناً كادت العين دونه تَكِلُّ فلا تدري بأيان تقعد جناح بزاة الطير ريش وإنما جناحاك يا باز التقى والتعبد وضاق فسيح الجو عنك فجزته فما لك إلا جنة الخلد مقصد ملكت مقاليد القلوب وإنها لمن دولة الدنيا أعز وأخلد عجبت لقلب واحد كم تفجرت به من عيونٍ حولها الناس رُكَّدُ مهيضُ جناح قد أتاك جبرته ومقطوع حاجات من الجاه يُرفد حميت حمى التوحيد ستين حجة تنافح عنه من به السوء يقصد فتاواك هل في صفحة الشمس سُطِّرت ففي كل قطر في الدنا لك منشد إذا ما اشتكى ذو العجز قبح زمانه كفى من جوابي أن تشير لك اليد ولم تخلف الأيام في الناس سيرة ولكن هُمُ للأرض لانوا وأخلدوا تهابك عين الناظرين كأنما رأت أسداً أو فارساً يتأسد وهل أبصروا إلا أناة ورأفة ولكن هي التقوى تبدت فأرعدوا وقالوا: ضريرٌ قلت: أعظم مفخرٍ ضريرٌ يقود العالمين ويرشد غريب الزمان لا المكان أيا ترى ضللت الطريق أم تأخر مولد فما أنت إلا من بقايا معاشرٍ هُمُ القوم سفيان وسهل وأحمد فقم يا أبي وانظر بنيك فإنهم يضيق فسيح الأرض عنهم ويجهد إمام الدنا عذراً فشعري قاصرٌ يوفيك بعض الحق فالكل أبعد.(266/16)
سابعاً: العناية بالعلم والفقه والحديث
فعلى رغم مشاغله العالمية والمحلية، وتلقيه لأمور الناس وهمومهم ومشاكلهم؛ إلا أن ذلك كله لم يمنع الشيخ من مواصلة الطلب والبحث.
فالشيخ محدث من الطراز الأول يكاد أن يستحضر الصحيحين حفظاً ويستظهرهما، ولا يكاد يفوته شيءٌ من الكتب الستة؛ فإنه وإن لم يكن حافظاً لها إلا أنه يعرف أحاديثها لكثرة ترداده وسماعه لها.
وهو حريص على الحديث والاتباع، لا يقدم على السنة قول أحد من الناس كائناً من كان؛ فضلاً عن ذلك فإن للشيخ مسلكاً في الفقه عجيباً عظيماً.
ولعل الكثيرين لا يتابعون آراء الشيخ الفقهية، ولكن من خلال متابعتي لآرائه فيما يكتب ويُنشر، أو سؤالي له مشافهة عن كثير من المسائل تبين لي أن الشيخ عظيم في الفقه، وكما أن له باعاً طويلاً في العلم بالحديث له باع طويل في المعرفة بالفقه، وآراؤه الفقهية آراء سديدة قوية منسجمة مع القواعد والأصول انسجاماً كبيراً.
ولذلك فإنني أنصح بالعناية بآراء الشيخ الفقهية، ومتابعتها، والسؤال عنها، ولزومها وإن كنا نقول: هو كغيره بشرٌ غير معصوم، ولكن المنهج العام للتفقه عند الشيخ منهجٌ كبير وعظيم، ويا ليت أن الشباب لزموا ذلك المنهج واستفادوا منه.
ولذلك أقول: فيما يتعلق بعناية الشيخ بالعلم والفقه والحديث والسنة؛ لما عرضت على سماحة الوالد موضوع مسابقة السنة، وكان ذلك في شهر رمضان فرح بها فرحاً عظيماً وأثنى على هذا المشروع، ودَعَمهُ من ذات نفسه دعماً مادياً ومعنوياً، ولما طلبت منه الحضور للمشاركة في تخريج الحفاظ اعتذر لكثرة مشاغله ولم يبعد، ولكنه وعد إن لم يستطع الحضور أن يبعث من يمثله، أو يكتب ورقة، أو يتكلم في شريط ويخاطب الإخوة الحاضرين بما يناسب من الكلام.
وهذا أنموذج من عنايته بالمشاريع الإسلامية الخيرية وحرصه عليها جزاه الله خيراً.
وهناك موضوعات كثيرة لكن الوقت يمضي فأمر عليها باختصار:(266/17)
ثامناً: سلامة الصدر والزهد
فأما سلامة الصدر: فالرجل لا يحمل في قلبه حسداً لأحد على فضل أعطاه الله إياه، ولا يحمل في قلبه على أحد من موقف صدر منه، فقلب الشيخ أكبر من المشكلات وأكبر من الأخطاء الصغيرة.
ولذلك لا يحفظ الشيخ مثل هذه الأمور، وإنما قلبه قلب كبير لا يحفظ إلا الأمور الطيبة الحسنة الجميلة.
وأما الزهد: فليس في يده من الدنيا شيء، رجل يخرج من الدنيا ولم يتلطخ منها بشيء، بل أحياناً تثقله الديون بكثرة نفقاته، وكثرة عطاياه، وكرمه وجوده، كرماً وجوداً لا يعرفه إلا من رآه بعينه، وأعتقد أنه ليس ثمة من أهل العلم في عياره في هذا المجال، ولا في صفات أخرى كثيرة تفرد بها سماحته حفظه الله، ومع ذلك فقد جمع بين الزهد والكرم.(266/18)
سادساًً: أن الشيخ عبد العزيز عالمي
فتجد أنه يسمع أخبار المسلمين في مصر، أو سوريا، أو تونس، أو الجزائر، أو المشرق، أو المغرب كما يسمع أخبار المسلمين في أقرب بلد إليه.
ويأسى لذلك ويحزن، وأحياناً يبكي وتنهل دموعه، وفي آخر مرة وقد تحدث بعض المشايخ، وكنا عنده عن بعض هموم المسلمين فرأيت الشيخ وقد أصابه الحزن والكآبة والهم من ذلك، وكأنه لا يملك شيئاً فقال: قد كتبنا لهؤلاء، كتبنا لرئيس تونس، وكتبنا لرئيس الجزائر، وكتبنا لرئيس اليمن، وكتبنا ولكن هؤلاء لا يردُّون علينا.
فقلت له: يا شيخ! ادع الله تعالى لهؤلاء المستضعفين من المسلمين في تلك البلاد في الثلث الأخير من الليل، فقال لي: إنني في كل ليلة ادعو لهم وللمسلمين.
فسبحان الله! هذا القلب يحمل هموم أمة بأكملها، ليس فقط الحزن لهم، بل تجد أنه يبذل المستطاع، يرسل الوفود هنا وهناك، ويرسل المندوبين، ويبعث بالأموال الطائلة إلى المسلمين في كل مكان، ويخاطب بعض المسئولين هنا وهناك فيما يعتقد أن فيه مصلحة، هذا ما يستطيعه، ويرى أن ذلك ينفع ويدفع بإذن الله تعالى.
ونحن نحتاج أيضاً إلى هذا الأمر، نحتاج إلى دعاة يخرجون من الهم المحلي إلى الهم العالمي، ويعيشون مشاكل المسلمين في كل بلد.
ليس فقط أن مسلماً ذبح، أو أن مسلماً مات جوعاً أو عطشاً هذا لا بد منه، ولكن المسلمين في بلاد العالم كلها يعيشون جهلاً وغيبة عن الإسلام، وكما يحتاجون إلى السلاح للدفاع عن أنفسهم، أو الطعام والشراب، يحتاجون أيضاً إلى من يعلمهم السنة والكتاب، ويربيهم على العقيدة الصحيحة.
أقول: إن للشيخ مندوبين ودعاة في كل بلاد العالم، أكثر من ألف داعية يتبعون المكتب الخاص للشيخ، ويقوم الشيخ بالإنفاق عليهم ودفع رواتبهم، وربما بعث من يتحرى أحوالهم، وهذا يذكرنا بتلك القصيدة التي كان يمدح بها بعض الزعماء السابقين ونحن نستعيرها لإمام من أئمة السنة وإن كان أصل هذه القصيدة ليس كذلك: له خلف بحر الصين في كل بلدة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر رجالٌ دعاةٌ لا يفُلّ عزيمهم تهكّمُ جبارٌ ولا كيد ماكر إذا قال مروا في الشتاء تسارعوا وإن جاء حرٌ لم يخف شهر ناجر هموا أهل دين الله في كل بلدة وأرباب فتياها وعلم التشاجر وهذا الأمر يدعو إلى وقفة، عند الشيخ ألفُ داعيةٍ، وهذا أمر كبير وعظيم.
ولكن السؤال الذي يسأل نفسه: كم يوجد في العالم من داعية إلى النصرانية؟ وكم يوجد من مؤسسة وهيئة رسمية تتبنى أولئك الدعاة؟ وكم يوجد من دولة تسهر وراءهم؟ بل كم يوجد من مؤسسة تملك من الميزانية الضخمة والأوقاف الطائلة للصرف على هؤلاء؟ على حين أن المكاتب المخصصة للإنفاق على الدعاة الإسلاميين غالبها مكاتب تطوعية من المحسنين.
إن الشيخ فيما يبدو يكاد وكأنه يتحرك لوحده في هذا الميدان، ولذلك هو لا يستطيع أن يشرق على الدنيا كلها، ولا أن يحيط بأوضاع ألف داعية، كيف هم؟ وما مدى التزامهم؟ وما مدى قيامهم بالواجب؟ وما مدى صلاحيتهم؟ لا يستطيع، فاليد الواحدة لا تصفق.
فالشيخ أحياناً تشعر بأنه يتحرك لوحده، ونحن نطالب الدعاة بأن يكون كل واحد منهم يسد هذه الثغرة، فلو وجدنا مائة داعية في هذه البلاد كل واحد منهم تبنى عشرة من الدعاة في العالم الإسلامي ينفق عليهم، ويجمع من أموال المحسنين لدفع رواتبهم، وكل واحد من هؤلاء الدعاة له مكتب ومركز، وله مدرسة لوجدنا أننا غطينا مساحة كبيرة في ذلك.
إنني أدعو الدعاة وطلبة العلم بهذه المناسبة إلى أن يشاركوا في حمل هذا العبء الكبير، ونحن نسمع اليوم أن أطفال المسلمين في البوسنة والهرسك يلتقطهم النصارى في كل مكان، ويأخذون منهم، ويختارون على عيونهم من يعجبهم، ويربونهم في الكنائس ومدارس التنصير؛ ليتخرجوا لا أقول نصارى، بل قسيسين ومنصرين ودعاة إلى دين النصرانية.
فأين المسلمون اليوم؟! إنني أدعو الدعاة وطلبة العلم إلى أن يشعروا أن المسئولية ملقاة على عواتقهم قبل غيرهم، وأنه لا يجوز أن يلقوها على جهات أخرى رسمية أو غير رسمية، وأن يعتمدوا على الله عز وجل ثم على أنفسهم، وكل إنسان يستطيع أن يقوم بهذا المشروع في نطاقه الشخصي، ولو بصورة محدودة، فيحاول أن يحصل على تربية واحد أو أكثر من أطفال المسلمين مثلاً، أو يحرص الداعية أو طالب العلم على أن يتابع أوضاع عشرة من الدعاة في العالم الإسلامي ويتكفل برواتبهم، وينظم عملية جمع الأموال للصرف عليهم، ويتصل بالتجار والمحسنين من أجل ذلك؛ حتى نوجد القنوات السليمة التي تساعد هذا الجهد الكبير الذي يبذله الشيخ وتضاعف من بركته.
وهناك مواقف كثيرة للشيخ على المستوى العالمي رسمية، وغير رسمية ربما لا يبديها الشيخ ولا يعلن عنها رعاية لبعض الظروف القريبة والمحيطة التي يرى الشيخ أنَّ من المصلحة مراعاتها ووضعها بالاعتبار.(266/19)
رابعاً: سعة الأفق للاختلاف المبني على الاجتهاد السائغ
وسواء كان هذا الخلاف خلافاً فقهياً في مسائل فقهيه، أم خلافاً في أمور اجتهادية واقعية، فإن الشيخ من أكثر العلماء الذين عرفتهم وعاشرتهم اتساعاً في الصدر لهذا الخلاف، وقبولاً لرأي المعارض، وحلماً على من يقول به، فهو لا يقول بالكلمات النابية على من خالفه، ولا يلقى باللائمة عليه، ولا يتهمه، ولا يسيء الظن به، ولا يتهجم عليه أبداً؛ لكن هذا لا يمنع أن يرد على من خالفه بالكلمات الطيبة، والعبارات المؤدبة.
ولذلك اجتمعت عليه الكلمة، واتفقت عليه الأمة، فقلما تجد أحداً يخاصمه أو يبغضه، اللهم إلا أن يكون مبتدعاً مصراً ضالاً، فهذا لا شك أنه يبغضه لأنه من حملة لواء السنة الداعين إليها الذابين عنها.
أما الباحثون عن الحق فيحبونه حباً شديداً ولو اختلف معهم، وما أحوجنا إلى هذا خاصة شباب الدعوة والصحوة، ونحن نجد أن الخلافات تمتد وتكبر، سواء الخلافات الفقهية في مسائل كثيرة، أو الخلافات العملية وتجد الكثير من هؤلاء قد يسمعون رأي الشيخ عبد العزيز نفسه في بعض هذه المسائل فلا يلتفتون إليه، ويقول بعضهم: الشيخ لا يعرف حقيقة الأمر، أو الشيخ تخفى عليه بعض الأمور، الشيخ الشيخ يا أخي: الشيخ إمام، والشيخ حجة، ونحن لا نقول: إن الشيخ معصوم، من حقك أن تخالفه، أو تخالف غيره، لكن ينبغي أن تلتزم بالأدب مع الشيخ ومع غيره ممن تخالفهم.
نحن لا نمنع أن يكون لك رأي، لكن هذا الرأي لا ينبغي أن تطرحه على أنه هو الدين، وهو الحق، وأنك أنت الناطق الرسمي باسم الكتاب والسنة، وأن من خالفك ليس من أهل الكتاب والسنة، أو ليس على الطريقة الصحيحة، أو ليس على الجادة، أو ما أشبه ذلك.
اطرح ما لديك بتواضع، واعتدال، وتعقَّل، وقل: هذا رأيي وهو صواب يحتمل الخطأ -كما قال الشافعي رحمه الله- ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
لكن لا تجعل رأيك ديناً توالي وتعادي عليه، وتفاصل من أجله وتقارب.
اطرح رأيك باعتدال يا أخي! كما يطرح الكبار آراءهم، إن كثيراً من الشباب الذين لا يزالون في بداية الطلب يطرحون بعض آرائهم وهي آراء -والله العظيم- ضعيفة، فيطرحونها على أنها الحق، فإذا خالفهم فيها أحد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، ونالوا منه بأقوالهم وأفعالهم، واتهموه في دينه، ونيته، وقصده، وفي أما الأئمة الكبار فيطرحون آراءهم باعتدال، وبكلمات مختصرة، وبعبارات هادئة، ولا يتحمسون لها ذلك الحماس، لأنه رأي واجتهاد، ليس نصاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فيا ليت أن شباب الصحوة يقتربون من سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز وأمثاله؛ ليتعلموا منهم حسن الأدب في تقديم الرأي، وحسن الأدب في معاملة المخالف، والاعتدال في الحماس.(266/20)
خامساًً: أن الشيخ رجل العامة
وأنا أطرح هذه الأشياء على غير ترتيب؛ لأنه لا يعنيني الترتيب بقدر ما يعنيني تعميم الفائدة.
إنه رجل العامة، منذ أن كان قاضياً في الخرج وإلى اليوم؛ لا يحجب الناس دونه، ليس عنده حجاب، وليس على بابه بواب، في مجلسه السوقة والأمراء، والكبار والصغار، والعوام والعلماء وطلاب العلم، لم يحتجب بهيبة العلم على وجود الهيبة والوقار على محياه، ولم تشغله أيضاً معاناة أمور الناس ومشاكلهم اليومية عن مواصلة الطلب والبحث، فهو لا يزال طالباً باحثاً في العلم.
الشيخ عبد العزيز يعيش مع العامة في مشاكلهم اليومية، وحاجاتهم المادية، وأمورهم الدنيوية، وفي مشاكلهم الاجتماعية.
ولذلك أصبح قريباً من نفوس الناس، لا تجد أنه يقول: هذا لا يعنيني، وهذا لا يخصني، أو إذا أتيته قال: اذهب إلى فلان، أو اذهب إلى علان، فهو يرى أن كل من قصده في شيء فحقه عليه أن يتقبل شكواه ويبذل وسعه على الأقل في شفاعة، يكتب له إلى فلان وعلان، أو إلى هذه الجهة أو إلى تلك، أو يبذل له هو ما يستطيع.
ولذلك يصح أن يطلق عليه (رجل عامة) ونحن نحتاج إلى هذا النمط من العلماء والدعاة وطلاب العلم الذين لا يحتجبون عن العوام، صحيح أننا لا نطالب أن يجعل الإنسان كل وقته للناس، فهذا أمر صعب فلكل إنسان خصوصياته، وأوقاته وظروفه، وهو يحتاج إلى وقت للتعلم وللقراءة، ووقت للتعليم وللتحضير، ووقت للفتوى إلى غير ذلك.
ولكن ينبغي أن يكون هناك أوقات، وأن يكون هناك استعداد نفسي وشخصي لتقبل مشاكل العامة، والبشاشة في وجوههم، والسؤال عن أحوالهم، ومواجهة مشكلاتهم، وبذل المستطاع في حلها، وهذا النمط من العلماء -أيها الإخوة- هم القواد الحقيقيون للمجتمع.(266/21)
ثالثاً: جوانب من شجاعته
الجانب الأول: مواقف الشيخ مع الحكام والسلاطين وهي كثيرة معروفة: خاطب حكام البلاد العربية كلهم أو جلهم، ولقد أطلعني وأطلع غيري من الدعاة على أشياء من ذلك؛ فضلاً عما تسامع الناس به كلهم، فكتب إلى جمال عبد الناصر يوم أعدم الأستاذ سيد قطب ومن معه من الدعاة خطاباً قوياً مشهوراً محفوظاً، وكتب إلى رؤساء الدول العربية، كتب إلى رئيس الجزائر الهالك، وكتب إلى رئيس تونس، وكتب إلى رئيس اليمن، وكتب إلى رئيس مصر، وما حدثناه أو اقترحنا عليه أن يكتب إلى حاكم من هؤلاء الحكام، أو طاغية من هؤلاء الطواغيت إلا أبدى موافقته وكتب إليه، يكتب مذكراً، وناصحاً، وداعياً إلى الرفق بالرعية، والحرص عليهم، وتحكيم الكتاب والسنة، وما أشبه ذلك من المعاني، ويا ليت أن ما كتبه سماحة الوالد ينشر على الناس؛ ليعلم الناس أن الشيخ يكتب لهؤلاء، ولا يرضى ما يفعلونه من إيذائهم لرعاياهم، أو حكمهم بغير الكتاب والسنة، أو ما أشبه ذلك، ولكن كثيراً من ذلك يعلم ولو بعد حين، أما كتابة الشيخ عن بعض الذين جاهروا بالفساد فهو معروف، وأذكر -مثلاً- أنه قد تكلم عن رئيس تونس البائد الهالك أيضاً كلاماً معلناً لما أنكر بعض ما في القرآن الكريم، وسخر ببعض القصص القرآنية، واستهزأ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وألغى بعض الأحكام الشرعية، فكتب الشيخ كلاماً، قوياً، رصيناً، معلناً كان له صدىً كبير في صدور الناس.
وبعضهم يلتقون بالشيخ فيحادثهم مباشرة بينه وبينهم بالنصيحة التي يدين الله تعالى بها، فهذا جانب من شجاعة الشيخ.
الجانب الثاني: شجاعته مع الناس، فهذه شجاعة يجب ألا تجهل مع العامة، ومع بعض طلبة العلم أيضاً فهذا مهم أيضاً، هناك من الناس المحيطين بالكبار من يكون له لون من التلبس والحصار الفكري الذي يصعب الفكاك منه، أي أن: بعض طلبة العلم، وبعض الدعاة المعروفين، وبعض الكتاب، وربما بعض الفقهاء إذا صار حوله طلاب، فهؤلاء الطلاب لهم اتجاه، وفيهم قوة أو شدة، فإنهم يظلون يحيطون بالشيخ، ويتكلمون معه، ويكثرون حتى ربما أثروا عليه وأصبح من الصعب عليه أن يخالفهم، أما سماحة الوالد فهو شجاع مع الجميع، فإذا رأى أن الحق خلاف من حوله؛ قاله لهم ولا يبالي بهم، وإذا رأى أن الحق خلاف ما يعتاده العامة أيضاً قاله ولو خالفه من خالفه في ذلك، فله في هذا شجاعة ومواقف مشهودة واضحة، وهو يرى أن الشجاعة تكون على كل صعيد، فهي ليست مع الحاكم فقط؛ بل هي مع الحاكم والمحكوم وطالب العلم ومع الكل.
والبعض يستغربون المواقف الرسمية للشيخ، ويرون أن الشيخ يُستغرب منه ذلك، كيف قال كذا؟ وكيف تكلم بكذا؟ وكيف خاطب بهذا الخطاب؟ أو نشر هذا الكلام؟ أو أفتى بكذا؟ وأقول حسب معرفتي بالشيخ عن قرب: إن ذلك لم يكن من الشيخ -حفظه الله- مداهنة لأحد، ولا مجاملة لأحد، ولا كسباً لرضى فلان أو فلان، وإنما هذا ما يرى الشيخ المصلحة فيه، أو ما يراه الحق، فهو يقوله بغض النظر عن مدى موافقة الآخرين معه أو مخالفتهم له، لكنه لا ينطلق من مجاملة، أو مداهنة، أو مصالح شخصية، وإنما ينطلق مما يرى أنه الحق، أو ما يرى أن فيه مصلحة عامة للمسلمين، وهذا ينبغي أن يقال حقاً، وبغض النظر أيضاً عن هذه المواقف، وكونه ووفق أو خولف فيها، أو كونها توافق رأي فلان أو علان، لكن الشيخ ينطلق من منطلقات الإخلاص والنصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، هذا الذي أعتقده وأدين الله تعالى به.(266/22)
أولاً: من جوانب العظمة في شخصية ابن باز
سعة صدره، واحتماله للناس على اختلاف طبقاتهم، ومشاربهم، ومستوياتهم العلمية، والاجتماعية، والإدارية، والوظيفية، فهو حليم لا يضجر على كثرة من يأتونه من الناس، تأتيه أعداد غفيرة من الناس، كل إنسان له عمله، وله سؤاله، وله مشكلته التي يريد من الشيخ أن يشاركه فيها، وأن يساعده في حلها فتجد أن الشيخ يقبل على كل إنسان، ويبتسم له، ويباسطه، ويسأله عن حاله: من الأخ؟ وأين تعمل؟ وهل أنت متزوج؟ وما عندك من الأولاد؟ وفي أي مكان؟ فإن كان يعرف البلد الذي هو فيه سأله عن البلد؟ وسأله عمن فيه من أهل العلم؟ حتى لو كان هذا الإنسان شاباً صغير السن، هذا أمر عجيب!!! فإنك إذا جلست مع الشيخ ساعة أصابك الضجر والملل من كثرة من يأتونه، وأنت تعلم أن الناس دائماً وأبداً لا تهمهم إلا حاجاتهم، فكل إنسان همه شغله ولو كان شغلاً تافهاً أحياناً.
فيأتي إنسان في قضية شخصية جداً لا تعني أحداً فتجد أنه يطول الكلام مع الشيخ، ويبدأ في التفصيل، والحديث المطول، ويأتي بمقدمات لا حاجة إليها، وأنت لا يعنيك الأمر، فأنت تأتي مجرد زائر للشيخ فتصاب بالضجر والملل من هذه التفاصيل التي لا حاجة إليها، أما الشيخ فإنه يطأطئ رأسه، ويهز رأسه، ويقول: نعم.
ويصغي أذنه لهذا الإنسان حتى ينتهي من كل ما عنده ثم بعد ذلك يوجهه الشيخ بما يراه، فإما أن يوصيه بالصبر والاحتساب، وإما أن يأخذ أوراقه، ويعده أن يكتب معه، وإما أن يساعده بما يمكن، وهذا أمر يعجب منه الإنسان، منَّة حباها الله للشيخ قلما تتوفر في غيره.
وعلى كثرة من يأتيه، يأتيه بعض الأحيان أناس أخلاقهم سيئة، طباعهم غليظة، ليس عندهم أدب العلم، ولا معرفة أقدار العلماء، فربما رفع الواحد منهم صوته على الشيخ، وربما أغلظ له في القول، بل رأيت بعضهم وهو يمسك بجيب الشيخ بيديه، ويقف في وجهه، والشيخ يريد أن يمشي، ويهز يده في وجهه قائلاً: يا شيخ! اتق الله، ومع ذلك كله لا يخرج الشيخ عن طوره.
أغلظ كلمة تسمعها من فم الشيخ أحياناً أن يقول لبعض الحضور إذا زاد في الكلام أو تكلم فيما لا حاجة له: سبح سبح، أي: اشتغل بذكر الله والتسبيح والتهليل، وهذه صفة الحلم، وسعة الصدر، وعدم الضجر، هذه من أخلاق الأنبياء، فأنت لو تصفحت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت أن الشيخ عبد العزيز حفظه الله قد اقتبس هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى كثرة من يأتيه من الناس، من الأعراب، وأهل البادية، والجفاة، والأقارب، والأباعد حتى من الأعداء والخصوم، كان صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيحاً لهؤلاء جميعاً، ربما تأتيه الجارية تشكو إليه أذىً في بيتها من سادتها، فيفسح لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تتكلم بكل ما في نفسها، ثم يشفع لها عند سادتها ومواليها.
وقد يأتيه رجل يريد أن يشفع إلى امرأة هو يريدها وهي لا تريده، كما حصل في قصة مغيث وبريرة، عندما أعتقت بريرة فرفضت مغيثاً، فكان يبكي شوقاً إليها وحباً لها، حتى جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له أن يشفع إليها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة وقال لها: {ما لكِ عن مغيث؟ فقالت: يا رسول الله! تأمرني؟ قال: لا.
إنما أنا شافع، قالت: لا حاجة لي به} .
ونحن بحاجة إلى أناس على هذا الغرار، وهذه الوتيرة، تكون صدورهم مفتوحة للأمة، لمشاكل الأمة، لأحاديث العوام، يحرصون على أن يتعودوا على السماع من الناس، واحتمال جفوتهم، وغلظتهم، وقسوتهم، وسوء أدبهم حتى تجتمع حولهم الأمة قال الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] .(266/23)
ثانياً: السماحة
ليس الشيخ عبد العزيز من أصحاب المواقف الانفعالية، بل هو رحيم، لين، صبور، غير عجول، ولذلك كسب جميع طبقات الناس، وأثر فيهم جميعاً، واجتمعت الكلمة عليه، لا تجد أن الشيخ يحرص على الخصومة مع الآخرين، بل تجد أنه لطيف معهم، حتى لو قيل في أحدهم شيء، سأله بحسن أدب، وخفض صوت: سمعنا كذا، واطلعنا على كذا، وإن كان خطأً قال الشيخ: هذا ليس بجيد، هذا خطأ، قال الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل العلم على كذا وهذا لا ينبغي، لكن تجد أن الشيخ لا تسمع منه الكلمة الغليظة القاسية، اللهم إلا إن رأى من خصمه الإصرار والعناد بعد طول الصبر عليه، وطول الدعوة له.
إنه ليس من الحكمة أن نفتعل الخصومة مع الأطراف كلها حتى نثبت أننا شيء وهم شيء آخر، وأننا أصحاب منهج وهم أصحاب منهج آخر، أننا متبعون على حين أنهم أهل بدعة، أو أننا متجردون على حين أنهم أصحاب هوى وغرور، أو أننا ورعون على حين أنهم أصحاب تلبيس وتخليط، فليس هذا من الحكمة، بل صاحب الدعوة يسعى إلى أن يكسب الناس كلهم إلى دعوته بالحسنى وبالكلمة الطيبة، قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وهذا في رأيي من أكثر ما يفتقده الدعاة اليوم، فأكثر الدعاة في عجلة من أمرهم، بل من الدعاة من يتعمد أن يغاير الناس، ويخالفهم، وينابذهم، ويثبت أنه شيء وأنهم شيء آخر.
والواقع أنه لا حاجة إلى هذا ما دام أنني أستطيع أن أعلِّم الناس بالحسنى، وبالكتاب والسنة، فالتميز عن الناس ليس مطلباً شرعياً إلا أن يكون تميزاً بالحق، وباتباع الكتاب والسنة، وبلزوم المنهج، والطريقة.
أما التميز بالألقاب، وبالأسماء، والشعارات، وغير ذلك، فهذا مما ليس له داعٍ ما دام أنني أستطيع أن أجمع الناس على الحق وأدعوهم إليه.(266/24)
الأسئلة(266/25)
من وسائل التنصير
السؤال
لقد ذكرت في محاضرة وسائل التنصير، الوسائل التي يستخدمها المنصرون، ولعلك نسيت نوعاً أو وسيلة مهمة ألا وهي عن طريق أفلام الفيديو وسوف أثبت لك ذلك.
عندما كنت صغيراً كنت مولعاً بأفلام الرعب، وفي أحد الأفلام كان هناك جني تلبس بامرأة فجاءوا لها بقسيس فقرأ عليها من الإنجيل وأخذ يضع الصليب بين عيني المرأة فأخرج الجني من تلك المرأة -طبعاً هذا تمثيل- فقلت في نفسي وأنا صغير: إذا ما جاءني جني فسوف أصنع لي صليباً صغيراً لأخيف به الجن؟
الجواب
لقد ذكرت أن الأفلام -أفلام الفيديو وغيرها- بعض الوسائل التي ينصرون بها، ولو رجعت إلى الشريط مرة أخرى لوجدتني أشرت إلى ذلك، ثم أشرت أيضاً في الشريط الذي بعده وهو: التنصير يجتاح العالم الإسلامي.
أما هذه القصة التي تذكرها فهي تمثيل لا حقيقة لها.
أسأل الله أن ينجيك والمسلمين.
وجزاك الله خيراً أيضاً.(266/26)
اقتراح لأهل اللغة
يقول: اقتراح للإخوة مدرسي اللغة باستغلال مادة التعبير والإنشاء في تعليم الناشئة، وإطلاعهم على هؤلاء القمم الشوامخ وهذا أمر بسيط وسهل.
الجواب
نعم هذا شيء طيب.(266/27)
أعمال العنف
السؤال
هل عمل أعداء الإسلام في البلاد الإسلامية، ودفعهم إلى أعمال العنف لأجل ضربهم والقضاء عليهم؟
الجواب
إن بعض أعداء الإسلام عملوا ذلك، وبعضه قد يكون نتيجة لسوء التربية أو اختلاف الاجتهادات أو غير هذا.
ولو رجعت إلى محاضرة (حقيقة التطرف) لوجدت الجواب لذلك.(266/28)
ابن باز والتلفاز
السؤال
لماذا الشيخ عبد العزيز بن باز نراه في التلفاز وهو محرم؟
الجواب
في الواقع أنه لا يظهر في التلفاز كمتحدث، وإن كان يفتي بجواز الظهور لبعض طلبة العلم إذا كان في ذلك مصلحة.
ولكنه قد يُرى في بعض المناسبات العامة.
أما رأي الشيخ عبد العزيز في التصوير فهو معروف أنه يراه محرماً.
هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وأن يرزقنا محبة هؤلاء العلماء والاقتداء بهم، وأن يحشرنا معهم ومع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(266/29)
الأدب العلمي
السؤال
هناك من يتصل بالعلماء وباللجنة، ولكن لا يحسن الأدب معهم، وكأنه يخاطب رجلاً من أوساط الناس.
فما توجيهكم لهذا؟
الجواب
ينبغي أن يكون الاتصال مع حسن أدب وتلطف وصبر وأناة؛ لأنك تضع في اعتبارك أنه جاءهم غيرك، وتكلم معهم غيرك، وراسلهم سواك.
فليكن كلامك واضحاً، وقوياً، وليكن كلامك صريحاً، ولكن ليكن أيضاً بشيء من الاحترام والتبجيل ومعرفة أقدار هؤلاء العلماء.(266/30)
ما يعلن من مواقف الشيخ
السؤال
ألا تؤيد القول بأن أقوال الشيخ ومواقفه لا يعلن منها إلا ما كان موافقاً للجهات الرسمية فقط.
فما رأيك في ذلك؟
الجواب
هذا الشيخ له مواقف كثيرة قد لا يعلمها الناس، ويرى هو أن من المصلحة ألا يعلن عنها فتظل هذه الأشياء في طي الكتمان، وهي جزء من تاريخ الشيخ الذي يجب أن يعرف اليوم أو غداً.(266/31)
الدعاء للشيخ
السؤال
ما رأيك لو أن كلاً منا خصص للشيخ دعاءً خاصاً في سجوده وفي جميع أحواله، لأن هذا أقل ما يقدم له حفظه الله من كيد الكائدين؟
الجواب
هذا أمر طيب.
فأنا أدعوك وأدعو نفسي إلى أن تخصص للشيخ دعاءً في سجودك وصلاتك ولعلماء المسلمين ولدعاة المسلمين أيضاً، فتخص الشيخ ثم تعمهم.(266/32)
فائدتان
يقول فائدة: الشيخ عبد العزيز تميز بالعدل على الأشخاص والهيئات.
صحيح هذا من أبرز ميزاته.
الفائدة الثانية: الشيخ درس على الشنقيطي في علم المنطق وكان في منصب مدير الجامعة، والشيخ الشنقيطي مدرساً فيها.(266/33)
حفظ الشيخ للسنة
السؤال
هل كان الشيخ حافظاً للكتب الستة؟
الجواب
لا.
ليس الشيخ حافظاً للكتب الستة، لكن يظهر لي أن الشيخ عنده عناية كبيرة في الصحيحين، ولا يكاد يفوته من متونهما شيء.(266/34)
أفغانستان وحَّدَهم الجهاد فهل فرقتهم السلطة؟
السؤال
نسمع الأخبار المؤلمة في أفغانستان، فما هي آخر الأخبار، وكيف نرد على بعض الجرائد التي تقول: وحَّدَهم الجهاد وفرقتهم السلطة؟
الجواب
في الواقع أن الخلاف قديم، والخلاف الآن هو بين المليشيات التي كانت تقاتل المجاهدين في السابق على مدى أربعة عشر عاماً، وهي طرف أساسي في النزاع اليوم.
والكلام في هذا الموضوع له ميدان آخر.(266/35)
الدعاء للبوسنة والهرسك
السؤال
لا نرى هذه الأيام قنوتاً للمسلمين في البوسنة والهرسك، ألا يوجد سبب لهذا الفتور من قبل الدعاة وأئمة المساجد، مع أن إخواننا هناك في أمس الحاجة؟
الجواب
أنا أدعو إلى القنوت لهم الآن في هذه الظروف الصعبة، أدعو أئمة المساجد، وخطباء الجوامع إلى القنوت لهم في مثل هذه الظروف، وكثرة الدعاء لهم لعل الله أن ينصرهم ببركة دعاء المسلمين.(266/36)
حصاد الغَيْبَة
تحدث الشيخ عن مهرجان السنة وكثرة من حضره من العلماء والدعاة وغيرهم وأهمية مثل هذه الاحتفالات وفوائدها، ثم تحدث عن الخلاف بين العلماء والدعاة والواجب نحو ذلك.
ثم تحدث عن زلزال مصر وسببه وواجبنا نحوهم وعن دور النقابات الإسلامية هناك، ثم ذكر بعض الوثائق عن التنصير والمنصرين، ثم تحدث عن الساحة الأفغانية وما يحصل هناك، ثم تكلم عن جريدة خضراء الدمن (جريدة الشرق الأوسط) وما تنشره من مقالات، ثم تحدث عما ذكره الدكتور مصطفى عبد الواحد بعنوان كيف ينهدم الزمان؟(267/1)
مهرجان السنة النبوية
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا الدرس الرابع والسبعون من سلسلة الدروس العلمية العامة التي تعقد في الجامع الكبير ببريدة ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين، الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر، من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، وعنوانه كما وعدت وأسلفت (حصاد الغَيبة) بفتح الغين لا بكسرها، أي أن: هذا الموضوع هو عرض لمجموع من القضايا والمسائل التي فاتني ذكرها فيما مضى بسبب الانقطاع، أو بسبب ضيق الوقت.
وسوف أعرض في هذه الجلسة إن اتسع الوقت لنحو اثنتي عشرة مسألة إن شاء الله تعالى.
أولاً: حديث سريع عما يسمى بمهرجان السنة النبوية.
ثانياً: متى يجتمع العلماء والدعاة؟.
ثالثا: زُلزلت مصر.
رابعاً: وثائق عن التنصير.
خامساً: الساحة الأفغانية.
سادساً: جريدة خضراء الدمن.
سابعاً: كيف ينهدم الزمان.
ثامناً: الجديد في قضية المسلمين في البوسنة والهرسك.
تاسعاً: نظرة الإعلام الغربي للإسلام.
عاشراً: معان شعرية.
حادي عشر: رسائل ذات معنى.
لقد شهدت هذه المنطقة -بفضل الله تعالى وحمده- خلال الأسبوع الماضي تجمعاً كبيراً تحت عنوان (فعاليات مسابقة السنة النبوية) وكان ذلك تنفيذاً لفكرة قديمة مضى عليها نحو عشرة أشهر، وكانت موضع الدراسة والبحث والإعداد من مجموعة من العلماء والدعاة في هذه المنطقة.
وكان سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- متابعاً لهذه الفكرة من أولها -منذ أن كانت فكرةً عابرةً- وإلى أن تحققت وحدثت بحمد الله تعالى.
وكان الهدف من هذه الفكرة: هو دعم وتشجيع الدروس العلمية القائمة على تعليم الكتاب والسنة والفقه والتفسير والتوحيد وغيرها.
لقد تحقق -بحمد الله تعالى- نجاح كبير خلال الأسبوع الماضي، وكان هذا النجاح الكبير متمثلاً في عدة أمور:(267/2)
كثرة العلماء والدعاة الذين حضروا الحفل
أولها: الحشد العظيم من المشايخ والعلماء الذين حضروا إلى هذه المنطقة، وربما كان بعضهم يفد إليها لأول مرة، وبالتأكيد فإن ذلك التجمع الكبير الغفير يحدث لأول مرة، كما يشهد بذلك كل الذين تحدثوا عن هذا الموضوع من العلماء والمشايخ.
فقد حضر إلى هذه المنطقة بل إلى هذا المسجد بالذات أمثال فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك، وفضيلة الشيخ عبد الله بن قعود، إضافة إلى مشايخ المنطقة كالشيخ محمد بن عثيمين والشيخ حمود بن عقلاء والشيخ محمد بن صالح المنصور، وأعداد غفيرة من العلماء من سائر أنحاء البلاد، كالشيخ سفر الحوالي، والشيخ سعيد بن زعير، والشيخ عبد الوهاب الناصر، والشيخ عائض القرني، وأساتذة الجامعات من جامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض وبالمنطقة الشرقية أيضاً فضلاً عن القضاة، والوجهاء، والأعيان، والدعاة، وجمهور من المهتمين بقضايا الإسلام والمسلمين.
إن هذا سر من أسرار النجاح الذي حققه ذلك العمل الجديد الفريد.(267/3)
كثرة الجماهير
أما السر الآخر: فيتمثل في جماهير الأمة التي حضرت، وضاق بها رحب المكان في هذا المسجد، فلأول مرة تمتلئ ساحات المسجد وسطوحه وخلواته، والساحات المحيطة به، والشوارع، ويزدحم الناس، وتغلق الشوارع، ويعود الكثير منهم القهقرى؛ لأنه لم يجد مكاناً يتبوءه ويقعد فيه، إنني سألت نفسي وأنا أرى هذه الجموع تتدافع وتتضايق لماذا جاء هؤلاء؟! حمداً لله تعالى أتم الحمد وأكمله وأوفاه.
كنا نقرأ في الصحف، ونسمع في الأخبار، أن لاعباً سوف يتناول طعام الغداء في المطعم الفلاني في الرياض، وأن جماهير من الشباب قد اصطفت صفوفاً وطوابير من أجل أن تشاهده وتلقي عليه نظرة، أو ربما تظفر بأن تصافحه فضلاً عن أنه قد يتمكن من التوقيع لهم على ورقة أو كتاب أو خطاب أو غير ذلك.
فيحزننا ذلك كثيراً.
وقد نسمع مثل هذا في حضور ممثل أو فنان أو شهير من المشاهير في جدة، أو في أي مكان آخر من هذه البلاد أو في غيرها، فكانت قلوبنا تنطوي على إغماض كبير وحزن شديد.
فإذا بنا نرى جموع المسلمين الصادقين المؤمنين تحضر، وهي لا تطمع في أكثر من أن ترى بعينيها من طالما استمعت إليهم بأذنيها، وربما تمكنت أن تصافحهم أو تحييهم أو تبتسم لهم أو تعرب لهم عن المحبة لله عز وجل.
فالحمد لله أن هؤلاء العلماء والدعاة بل وهؤلاء الشباب من الحفاظ والقراء وطلاب العلم الذين حضرت الأمة وحضر ما يزيد -على حسب التقادير المعتدلة- على خمسة عشر ألفاً حضروا ليشاهدوهم! إنهم لا يملكون الدنيا ولا يعطونها، وإنما يملكون أن يقولوا كلمة الحق، ويدعوا الناس إلى الله عز وجل، فكان هذا الحضور مما أبهج نفوس المؤمنين وسرهم، فالحمد لله تعالى على ذلك كثيراًَ.(267/4)
نجاح الحفل
أما السر الثالث من أسرار النجاح: فهو كان نجاح الحفل بتفاصيله وبرامجه وتنوعه، وسرور الحضور كلهم سواءً من الوافدين من أهل المنطقة -سرورهم- بما رأوا وما سمعوا وكان ذلك لأول مرة، ومع ذلك فكان فيه من التوفيق والتسديد والنجاح والانضباط ما لم يكن يخطر لنا -جميعاً- على بال، وما كان ذلك ليتم إلا بفضل الله تعالى وتوفيقه، فله المن والفضل، ثم بجهود المخلصين من المشايخ والعلماء والدعاة، ومكتب الدعوة في بريدة، فجزى الله الجميع خيرا.(267/5)
فعاليات الحفل
وكان السر الرابع من أسرار النجاح: هو الفعاليات المصاحبة لذلك التجمع الغفير، منها: الاحتفالات الخطابية التي جرت في الليلة الأولى هنا في بريدة، وتكلم فيها أصحاب الفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، ثم الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي، ثم الشيخ عبد الرحمن البراك، وجموع غفيرة من الدعاة، وألقى فيها الشيخ عائض القرني قصيدته.
ثم كان الاحتفال الآخر من الغد في منزل الشيخ عبد الله بن حمد الجلالي، وتكلم فيه جماعة من الدعاة، منهم من أسلفت ومضافاً إليهم عدد آخر.
وفي الليلة التي تليها كان الحفل الخطابي في مدينة الرس، وتكلم فيه عدد كبير من الدعاة، منهم من ذكرت مضافاً إليهم الشيخ ناصر بن سليمان العمر، والشيخ محمد بن صالح السحيباني، وجماعة من المشايخ.
ثم تتمثل الفعاليات أيضا في المحاضرات، وقد كانت إحدى المحاضرات في هذا المسجد ليلة الجمعة، وتكلم فيها فضيلة الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي تحت عنوان الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وكانت المحاضرة الأخرى للشيخ رياض الحجيري في مدينة البكيرية وذلك يوم الجمعة ليلة السبت.
أما الندوات: فكانت أولاها في مدينة عنيزة ليلة الجمعة حيث تحدث كل من الشيخ عبد الوهاب الناصر، والشيخ الدكتور حمد الصيفي، والشيخ الدكتور عابد السفياني، ثم أجابوا على أسئلة الحضور.
أما الندوة الثانية: فكانت في الخبراء، حيث تحدث كل من فضيلة الدكتور ناصر العمر، وفضيلة الدكتور حمزة الفعر حول الوسطية في الإسلام.
أما الندوة الثالثة: فكانت في الرس حيث تحدث فيها فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين، وفضيلة الدكتور عبد الله بن حمود التويجري، إضافة إلى محدثكم حول موضوع الجهاد في سبيل الله.
أما الخطب فقد تناوب بعض الخطباء في بريدة وعيون الجوى فضلاً عن قيام مكتب الدعوة واللجنة العلمية بتوزيع بعض المطويات المتعلقة بطريقة تحفيظ السنة وتعليمها، وكذلك جداول للدروس العلمية، إضافة إلى بعض الأعمال والمشاريع الأخرى.
لقد سرني كثيراً أن يعود الجميع بانطباع جيد جداً عن هذا الاحتفال، وعن هذه المنطقة، وأن ينجح هذا العمل الكبير في تحقيق الجانب الإعلامي للدروس العلمية.
لقد كان إعلامنا مشغولاً كثيراً بأخبار الرياضة، واستضافة بعض الدورات الرياضية، وغير ذلك من التجمعات الحاشدة.
فاستطاع هذا التجمع الكبير -بحمد الله- أن يفرض نفسه عليه، فأشارت إليه مجموعة من الصحف، وذكر ذلك في وسائل الإعلام إلى حد ما.
وكان النجاح الأكبر أن يعود المئات الذين حضروا إلى هنا ولديهم صورة كاملة قوية عن النشاط العلمي الموجود في هذا البلد.
ونحن نحتاج كثيراً أن يسمع الناس قاصيهم ودانيهم بالدروس العلمية، والمحاضرات والنشاطات التي تقوم بها مكاتب الدعوة، وغير ذلك من الأعمال الخيرية التي يحتاج الناس أن يسمعوا عنها أكثر مما يحتاجون أن يسمعوا عن غيرها، بل ربما لا يحتاجون أن يسمعوا أصلاً عن بعض النشاطات التي تضر ولا تنفع.(267/6)
من أهداف الاجتماع
إذاً قد كان الهدف الأول من خلال هذا العمل النبيل الكبير الناجح المفيد: هو إعطاء الزخم الإعلامي اللازم للدروس العلمية، والنشاطات الدعوية والتربوية في هذه المنطقة، وقد تحقق ذلك بحمد الله تعالى كما أن الشريط الذي سجل عليه ذلك الحفل سوف يؤدي دوراً آخر في هذا المجال.
الهدف الثاني: هو توسيع نطاق الدروس العلمية، وذلك أن الكثيرين سوف يُقبلون على هذه الدروس ويحرصون عليها، ويعملون بها من قبل أن لم يكونوا كذلك، ونحن نحتاج إلى عدد كبير يحيون هذه الدروس ويكثرون الإقبال عليها [[فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا]] كما قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
الهدف الثالث: هو تطبيع العلم والحفظ فإن الكثير كانوا يقولون: أحياناً لا فائدة من الحفظ ولا جدوى منه، وأي فائدة من أن يحفظ إنسان صحيح البخاري مثلا فنكون أضفنا بذلك نسخة جديدة من نسخ صحيح البخاري.
وكان آخرون يقولون: الحفظ مهم ولا شك، ولكنه أمر صعب عسير ولا يتيسر إلا لأصحاب المواهب الفذة والملكات النادرة، فاستطعنا بحمد الله تعالى أن نقول لهم من خلال ذلك الاحتفال: كلا! الحفظ مهم والحفظ -أيضاً- ميسور بصورة عملية لكل إنسان، وليس شرطاً أن يحفظ الإنسان الصحيحين مثلاً، بل قد يكون قادراً على حفظ الصحيحين، وقد يستطيع أن يحفظ ما هو دون ذلك "وكل ميسر لما خلق له" قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] .
وكذلك السنة هي وحي ميسر سهل، ويستطيع الإنسان أن يحفظ منها شيئا.
ً فإن لم يحفظ صحيح البخاري، أو مختصره، فبإمكانه أن يحفظ بلوغ المرام أو عمدة الأحكام، وإن لم يتيسر له ذلك فلا أقل من أن يحفظ مائة حديث، فإن لم يستطع فبإمكانه أن يحفظ الأربعين النووية ليتسنى له حفظ شيء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً الحفظ ليس حكراً على طبقة من أصحاب المواهب النادرة والملكات الفذة بل هو أمر ميسور للجميع.
وقبل سنوات ليست بالبعيدة كنا نعد من يحفظون القرآن على رؤوس الأصابع، وكان الناس يقولون: كان فلان رحمه الله يحفظ القرآن، فيذكرونه بعد ما أصبح رفاتاً رميماً في قبره؛ لأنه كان يحفظ القرآن.
أما اليوم فقد أصبحنا نرى أطفال الكتاب يحفظون القرآن وهم في السنة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، فأي خير أكبر وأعظم من ذلك؛ فالحمد لله على ذلك.
إننا نعد تطبيع العلم الشرعي وتسهيله وتيسيره وجعله في متناول أي إنسان من أعظم المكاسب والخطوات التي ينبغي أن نسعى إليها ونحرص على تحقيقها.
أما الهدف الرابع: فكان ربط الناس بعلمائهم مشاهدة واستماعاً ورؤيةً ومحبةً، وقد تحقق ذلك -بحمد الله- سواء أكان ذلك من خلال برنامج مسابقة السنة، أم من خلال ما تبع ذلك من الدروس والندوات والمحاضرات والاحتفالات وغيرها.
أما الهدف الخامس: فهو الإعلان عن شمولية التعليم والتربية التي ندعو بها وننادي إليها.(267/7)
شمولية التعليم والتربية
إننا نعتقد أن العالم الإسلامي يعيش أحياناً لوناً من النقص أو التقصير أو التشويه، فليس بغريب أن ترى قوماً قد تحيزوا وتحزبوا على جزء من الدين وغفلوا عما سواه، ليس فقط أنهم لم يشتغلوا به بل ربما عابوا من يشتغل به! فأردنا أن نقول للناس ما يلي:- أولاً: لا بد من العلم والحفظ، العلم بالقرآن والعلم بالحديث، أي: العلم بالنص الشرعي قرآناً وسنة، والعلم بأقوال أهل العلم، والقواعد الشرعية، والأصول العلمية، والنحو والعقيدة والتفسير والحديث، وغير ذلك، لا بد من هذا ولا بد من تربية الجيل عليه.
ثانياً: ولكن هذا وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الأمر الآخر: وهو الفهم والفقه، وليس مرادنا أن نخرج شباباً يستظهرون النصوص ويحفظونها، ثم يكون حالهم كما قال لشاعر: زواملُ للأسفار لا علمَ عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعرِ لعمرُكَ ما يدري البعير إذا غدا بأحماله أو راح ما في الغرائرِ لا، إن هؤلاء الشباب الذين نقدمهم اليوم للأمة الإسلامية شباب أضافوا إلى العلم والحفظ الفهم والفقه، فهم عارفون بمعاني كتاب الله، عارفون بمعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندهم بقدر سنهم وعمرهم إلمام بالقواعد الفقهية، ومعرفة بالأحكام الشرعية، وقدر من الفهم باللغة العربية، ونوع من الاهتمام بالأدب والشعر.
فهم أصحاب مواهب متنوعة، وعلوم شتى، جمعوا هذا إلى ذاك، ولم يرضوا بمجرد معرفة النصوص حفظاً حتى أضافوا إلى ذلك فهمها ومعرفة معانيها، ولكن العلم والحفظ مضافاً إليه الفهم والفقه لا يكفي إذا استبطن صاحبه اغتراراً واستغناءً عن العلماء الآخرين، وشعوراً بالاكتفاء الذاتي.
ثالثاً: ولهذا كان أولئك الشباب الذين سمعهم الناس أو سمعوا نماذج منهم لم يستبد بهم الغرور ولا العجب ولا الاستكبار، بل هم ذوو تواضع جم، ومعرفة بتواضع أهل العلم السابقين واللاحقين، فهم أمام من يكبرهم سناً أو علماً أو قدراً في غاية التواضع والأدب والاحترام والتعلم، لا يستنكفون أن يتعلموا من أي إنسان مهما كان، مهما كان قدره وشأنه، فضالتهم المنشودة العلم والفهم والفقه، يبحثون عنها، ويستحي الواحد منهم أن يتقدم بين يدي معلمه أو شيخه برأي غريب أو قول شاذ أو مذهب مستبعد، فهم حريصون على تقفي آثار جمهور علماء الأمة من السلف والخلف لم ينفرد أحد منهم بقول أو يشذ برأي يبتكره من قبل نفسه، أو يفتات به على غيره من أهل العلم والفقه والإيمان.
رابعاً: وكل هذا لم يكن لينفع أو يجدي لولا توافر الأمر الرابع الذي ندعو إليه وننادي به ونربى عليه: وهو أن ثمرة العلم هو العمل والصلاح والعبادة، فأنت ستجد هؤلاء الشباب -إن شاء الله- لو صبرتهم وراقبتهم من المبكرين إلى المساجد، الحريصين على النوافل المقبلين على الخيرات، المسارعين إلى الطاعات، البعيدين عن المعاصي والذنوب والموبقات كبائرها وصغائرها، بقدر المستطاع إلا ما استثناه الله عز وجل {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) [النجم:32] فقد ظهرت آثار العلم والمعرفة وسيماهما في طلبة العلم في عبادتهم وسلوكهم وآدابهم وخلقهم مع القريب والبعيد والكبير والصغير مع الجميع؛ فالحمد لله الذي حباهم هذا إلى ذاك.
خامساً: وكل ذلك تضاف إليه التربية على مكارم الأخلاق ومعانيها، والقيام بالدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذاً نقول: لقد حاولنا أن نقدم للناس نموذجاً يقتفي أثر الصحابة رضي الله عنهم في الجمع بين العلم والعمل والدعوة والجهاد وعدم الاقتصار على شيء من ذلك.
وهذا لا يعني التبرؤ من النقائص والعيوب؛ بل نحن معدنها وأهلها، ولا شك أنه ما من عمل إلا ويعتريه النقص والعيب، ولكننا نعلنها صريحة مدوية مرددين كلمة الإمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه [[رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا]] .
لماذا نقول هذا أيها الأحبة؟! يعلم الله عز وجل أنني لا أقول هذا الكلام لمجرد الإطراء والمديح لفئة من طلبة العلم في هذه المنطقة أو في غيرها، وإنني أسمع من يمدحهم فأكره ذلك ويضيق صدري به خوفاً من أن يتسرب إلى نفس أحد منهم شعوراً لا نرتضيه، أو أن يتسلل الشيطان من خلال كلمة أو عبارة.
ولكنني أقول هذا: لأنني ممن يدعو إلى تدمير الانفصام المفتعل والعناد المتكلف بين القضايا الشرعية.
فإن الكثير من الشباب يسألون في أحيان كثيرة: كيف يتم الجمع بين العلم وبين الدعوة؟ وآخرون يقولون: أيهما أفضل! العلم أم الجهاد؟ وثالث يقول: بأيهما أبدأ بالعلم أم بالتربية؟ ورابع يسأل عن الجمع بين العلم والعمل؟ فكأننا جعلنا القرآن عزين، ومزقنا ديننا كل ممزق، فأصبحنا محتاجين إلى من يرفع راية الجمع بين هذه الأشياء كلها.
وليس من شرط من يرفع هذه الراية أن يفلح في تحقيق كل هذه المكاسب والمطالب، فإن الإنسان بطبيعته محدود الإمكانيات، محدود الوقت، محدود القدرة، ولا بد أن يفوت عليه شيء كثير، فإن اعتنى بالعلم قصر في العمل وإن اعتنى بالعمل قصر في الجهاد، وإن اعتنى بالجهاد ربما فرط ببعض أمور الدعوة أو العلم الشرعي وهكذا، لكن يكفينا أن نعلن أننا نؤيد كل من يقوم بعمل من هذه الأعمال.
فنحن نؤيد العلماء في حلقات علمهم، ونؤيد المجاهدين في خنادق جهادهم، ونؤيد الدعاة في ميادين دعوتهم، ونؤيد المصلحين في حلقات تعليمهم وإرشادهم ووعظهم، ونؤيد كل صاحب خير يدعو إليه ما دام على الكتاب والسنة.
ثانياً: هذه هي الرسالة التي حرصت تلك المسابقة بفعاليتها المختلفة أن توصلها إلى الجميع.(267/8)
متى يجتمع العلماء والدعاة
هذا سؤال، وهو الفقرة الثانية، طرحه عليَّ مجموعة من الإخوة، وأكتفي بنموذج واحد رسالة من أحد الإخوة، أحد الإخوة بعد المقدمة يقول: أذكرك بقول الله عز وجل {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) َ) [النور:51] .
إن مما يتقطع القلب له ألماً ما يحدث بين أهل العلم من الدعاة من تناحر وتفارق وتنافر وبغض وبعد، حتى كان سبباًَ في فرقة بعض الشباب من طلبة العلم، ورمي بعضهم بعضاً واتهام بعضهم بعضاً في الاعتقاد، بل وفي النيات -عياذاً بالله-! وهذا والله الذي يريده أعداء الدعوة، وأعداء الصحوة.
إنني أناشدكم بالله أن تسعوا لسد هذا الشرخ، وأن تقفلوا الطريق على أهل الباطل.
ثم يقول: إن هذه الفتنة لم تنحصر بين العلماء؛ بل شملت طلاب العلم، وشملت بعض أهل التسجيلات الذين كان يجب عليهم أن ينشروا الخير بين الناس، فهذه تبيع أشرطة الشيخ فلان وفلان والأخرى لا تبيعها.
و
السؤال
من يستطيع أن يجمع هؤلاء العلماء والمشايخ على كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم؟ أدعو الله عز وجل أن يقر أعيننا بجمع شمل علمائنا وإخواننا طلاب العلم، وأدعوه تبارك وتعالى أن يبطل كيد الكائدين إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله.
وإنني أشكر الأخ وكل من يطرح هذا السؤال؛ لأن الأمة التي تنزعج بالخلاف وتبتئس له، لابد واصلة إن شاء الله تعالى إلى شاطئ الوحدة والأخوة والإيمان متى صدقت النية وحسن القصد وسلك السبيل المستقيم.
ولأنني أعرف ماذا يقصد هذا الأخ، وربما الكثيرون يدركون جانباً من بعض الخلافات التي تعصف بالدعاة، فإنني أطرح باختصار النقاط والمسائل التالية:-(267/9)
أطع الله فيمن عصاك فيه
رابعاً: من عصى الله تعالى فينا وجب علينا أن نطيع الله تعالى فيه، ونحسن إليه بقدر المستطاع، وندعو له سراً وعلانية، ونعدل معه ما استطعنا، ونجتنب ظلمه والإساءة إليه، إلا ما يقع من الإنسان عفواً فإن الإنسان بشر يخطئ.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} .(267/10)
كلام الأتباع والجماهير
خامساً: أما كلام الأتباع والجماهير والهمج والرعاع؛ فإنه لا يلتفت إليه، فإن الكلام يطول ويقصر ويزيد وينقص، وكم من كلمات ذاعت وشاعت وذهبت وشرقت وغربت، والواحد يعلم علم اليقين كما أن دون غد الليلة أن هذه الكلمة مختلقة مفتعلة لا أصل لها.
أمسك بي منذ أيام أحد الشباب وقال لي: إن كتاباً خرج في الرد على أحد الدعاة.
قلت له: نعم، قال: بعض الشباب يحرقون هذا الكتاب!! قلت له: هذا لا ينبغي، هذا من إتلاف المال، قال يحرقونه بكميات كبيرة!! قلت: هذا أشد وأشد.
قال: هم ينسبون هذا الأمر إليك، ويزعمون أنك قلته.
قلت: هاتهم -تعالى وإياهم إلي حتى يتبين من هو الذي كذب وافترى-.(267/11)
ليست هذه مسألة خلاف
سادساً: المسألة التي يتكلم عنها الأخ السائل وغيره ليست مسألة خلاف فيما أرى وأعتقد، وقد أكون مخطئاً لكنها مسألة تعدي من جهة معينة، وهذا على الأقل هو رأيي، ومن علم عني أو عن غيري من الدعاة أننا قابلنا ذلك بمثله، أو ظلمنا أحداً أو افتعلنا خصومة مع أحد من هؤلاء الذين هم على منهج الكتاب والسنة إجمالاً فليرد ذلك علينا وليبينه فإنا راجعون عنه إن شاء الله تعالى.(267/12)
أهمية النصيحة
سابعاً: لا مانع أن يعتقد إنسان خطأ الداعية فلان، وأن ينتقده ولو كان الحق مُرَّاً فقد تعودنا بحمد لله على سماع النقد والنصيحة سواءً أكانت بالحكمة والموعظة الحسنة أم كانت بغير ذلك، وليطمئن الإخوة أن سماعنا للنصيحة بل سماعنا للشتيمة -أيضاً- لا يقلقنا ولا يزعجنا ولا يضيق صدورنا ولا يجعلنا نسهر الليالي، فقد تجاوزنا ذلك كثيراً والحمد لله، وأصبح لا يأخذ من وقتنا ولا من جهدنا ولا من اهتمامنا شيئاً يذكر.
بل الذي يحسن إلينا ليس هو الذي يأتينا بهذا الشريط وهذا الكتاب وهذه الورقة، ويقول: فيه كيت وكيت بل من يطوي ذلك عنا، فعندنا مما يعتقد أنه عمل مفيد مثمر في نفع الناس، ودعوتهم ونفعهم في دينهم وفي دنياهم، والتواصل مع المسلمين في القريب والبعيد ما نعتقد أن فيه غناء، ونرى أن العمر يضيق عن بعض الأشياء التي تقبل التأجيل أو تقبل الإهمال.
أما التركيز على العيوب والمآخذ فأرى أنه لا يصلح؛ لأنه من أسباب الرد، ونحن كغيرنا بشر ينبغي على الإنسان إذا أراد أن ينتقد أحداً أن يحرص على نقده بالتي هي أحسن.
أما مسألة الكلام في المقاصد والنيات فهذا لا ينبغي.(267/13)
كن مفيداً للمسلمين
وأخيرا نقول: ليس المهم موقفك من فلان الداعية أو طالب العلم، لكن المهم أن تعمل عملاً مفيداً للمسلمين في دينهم أو دنياهم.
أما موقفك من فلان فهذا لا يضر، وقد قلت في أكثر من مناسبة: ليس مهماً أن يغتر جماعة من الناس بالداعية الفلاني أو بمن يعارضه، فقد اغتر الناس ببعض رؤوس الضلالة والبدعة، واغتروا ببعض العلمانيين، واغتروا ببعض الحداثيين، واغتروا بمن هو ضرر محض على المسلمين، ومع ذلك لم نستطع أن نزيل اغترار الناس، فليس كل خطأ يقع نحن قادرون على إزالته.(267/14)
أهمية المنهج للدعاة وتأييدهم لبعضهم
ثم أيضاً إن المهم هو أن يكون هؤلاء الإخوة لهم منهج يدعون به إلى الله تعالى، ويعلّمون به من ضل ويساعدون به إخوانهم المسلمين.
وحق وواجب على كل داعية صادق مخلص أن يؤيد ويساعد كل من يعلم أنه على الكتاب والسنة والحق في دعوته وعلمه وعمله حتى ولو كان ينتقده أو ينتقصه، وكما قلت: لا تجد فيمن عصى الله فيك أفضل من أن تطيع الله تعالى فيه.(267/15)
مشاهد العبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه
ثم إنني وجدت كلاماً عجيباً للإمام ابن القيم في كتابه القيم مدارج السالكين وهو كلام طويل، لكنني أذكره مختصراً في هذه الكلمات.
عنوان هذه المقالة له رحمه الله "مشاهد العبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه" والكلام مختصر -يعني موقف الإنسان فيمن يجني عليه أو يؤذيه: المشهد الأول: مشهد القدر وأن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد والألم والمرض وهبوب الرياح، فإن الكل أوجبته مشيئة الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] .
الثاني: مشهد الصبر، مشهد وجوب الصبر وحسن عاقبته وجزاء الصابرين، وما يترتب على الصبر من الغبطة والسرور.
الثالث: مشهد العفو والصفح والعلم، فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لعشاً في بصيرته، فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً} كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وكما علم ذلك بالتجربة والوجوب.
الرابع: مشهد الرضا وهو فوق مشهد العفو لا سيما إذا كان ما أصيب به الإنسان سببه القيام بما يرضي الله وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره، ومتى تسخط به وتشكا منه كان ذلك دليلاً على كذبه في المحبة.
الخامس: مشهد الإحسان وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح منه، وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه.
فينبغي لك أن تشكره، ويهون ذلك -أيضاً- علمك بأن الجزاء من جنس العمل؛ فإن كان عملك فيه إساءة من المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك، وهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني سبحانه وتعالى بك في إساءتك يقابلها بما قابلت به إساءة العبد إليك، فهذا لا بد منه وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.
السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته وهو: ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وبإدراك الثأر منه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبوناً والرشيد لا يرضى بذلك.
السابع: مشهد الأمن؛ فإنه إذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل أمن من تولد العداوة وزيادتها، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيراً فكم من حقيرٍ، أردى عدوه الكبير.
الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وصاحب هذا المقام قد اشترى الله تعالى منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن.
فإذا أراد الله أن يسلم إليه الثمن وهو الجنة فليسلم هو إلى الله تعالى السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه إذا كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] .
ومن رضي بقتل النفس رضي بما دون ذلك.
التاسع: مشهد النعمة وذلك من وجوه: الأول: أن يشهد نعمة الله عليه أن جعله مظلوماً يترقب النصر، ولم يجعله ظالماً يترقب الأخذ والمقت.
والثاني: أن يشهد نعمة الله تعالى في التكفير بذلك من خطاياه {فإنه ما أصاب المؤمن من همٍ ولا غمٍ ولا أذى إلا كفَّر الله به من خطاياه} كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك.
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها، فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر وإنها في الحقيقة نعمة، والمصيبة الحقيقية هي مصيبة الدين.
ومنها: توفية أجلها وثوابها يوم الفقر والفاقة، وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما ناله عند الناس وبما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يعد هذا ذخراً ولا يبطله بالانتقام الذي لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة.
المشهد العاشر: مشهد الأسوة وهو -أيضاً- مشهد شريف، فإن العاقل الذي يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه، فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس.
ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم، أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده الأمثل فالأمثل، ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم.
وفي الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص-: {هل مر عليك يوم كان أشد من يومأحدقال عليه الصلاة والسلام: لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال -هذا في الطائف- فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، إلى قوله في آخر الحديث لما عرض عليه ملك الجبال ما عرض فقال له: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا} .
المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد، وهو أجلّ المشاهد، وأرفعها فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له وإيثار مرضاته والأنس به واطمأن إليه، واتخذه ولياً دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأخذيته، وفني بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه؛ ومن سواه فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البته فضلاً عما يشتغل قلبه وفكره وسره في تطلب الانتقام والمقابلة.
هذا بعض ما يحضرني وأرى أنه ينبغي أن يقال في هذه المناسبة.(267/16)
الدعاة يكمل بعضهم بضاً
ثانيا: أنا لا أقول عن نفسي ولا عن غيري إننا استفرغنا القيام بكل الواجبات الكفائية، بل أقول: إن أكثر الدعاة يرى الواحد منهم أنه قام ببعض الواجب، وسد بعض النقص وغطى بعض الأمور، وقام في بعض الثغور، وأن غيره قام بواجبات أخرى، فكل من قام بواجب مما اشتغل به الدعاة أو مما لم يشتغل به الدعاة فنحن نشكره ونؤيده وندعو له، ولا نقول إن الذي نقدمه إنما نقدمه للناس هو منهج ينبغي للجميع أن يسلكوه؛ بل هو محاولة لسد نقص وتلافي ثغرة موجودة، وغيرنا يقوم بغير ذلك من ألوان الخير وصنوفه، وكلٌ على ثغرة من ثغور الإسلام، وكلٌ على خير إن شاء الله تعالى.(267/17)
عدم رضا الدعاة بالخلاف
ثالثاً: ليس بيننا وبين أحد من أهل الحق خصومة إن شاء الله تعالى، ولا يرضى الإخوة الدعاة وطلبة العلم أن تثار معركة من أجل أشخاصهم، أنا أقول عن نفسي وبالنيابة عنهم؛ لأنني أعرف ماذا يفكرون به وكيف يتحدثون؟ نقول: جميعاً لا نرضى ولا نوافق على إثارة معركة كلامية بين مجموعات من الشباب من أجل أشخاصنا، فنحن أهون وأقل من ذلك، والذي يعنينا هو أمر الإسلام وأمر الدعوة، أمَّا الأشخاص فيذهبون ويجيئون، وليس من شرط لنجاح الداعية أن يكون مقتنعاً بفلان أو محباً لفلان أو متبعاً لفلان أو مستمعاً لفلان.(267/18)
الكلام السابق في الموضوع لم ينشر
أولاً: لقد تحدثت عن شيء من هذا الموضوع في محاضرة كانت بعنوان (ولكن في التحريش بينهم) وكانت خلال الإجازة الماضية؛ ولكن يؤسفني أن أقول: إن هذه المحاضرة وكل المحاضرات التي تلتها والدروس العلمية -حسب ما وصل إليَّ من مصادر موثوقة- لم تعد تباع في محلات التسجيلات، ولم تعد وزارة الإعلام ترخص بها أو تسمح لها أو تستقبلها أصلاً، وإنني أعجب أشد العجب أنه في الوقت الذي تستقبل فيه آلاف المجلات الخليعة، وآلاف الصحف المنحرفة، ومئات بل آلاف الكتب التي تنشر الرذيلة والفساد أو تنشر أحياناً -أقول وأنا مسؤول عن ما أقول- الإلحاد، ويسمح فيه بمئات وآلاف من الأشرطة والأفلام التي تصور في عيون الناس صور الانحلال الخلقي بألوانه وأشكاله، ويسمح لكل صاحب فكر دخيل أن يتكلم بملء فمه وينشر ما يقول وما يريد، إنه يؤسفني جدَّاً أن يوقف أمام الكلمة النيرة!! أنا لا أعترض أن ترى الجهات المختصة -في شريط أو في كلمة أو في محاضرة- شيئاً تعتقد أنه ليس من المصلحة نشره فتستبعده، وقد كانت تمارس ذلك وتفعله طيلة السنوات الماضية، وتستبعد أحيانا أشياء مفيدة، لكننا كنا نسكت عن ذلك.
أما اليوم فأصبح مجرد العثور على شريط لفلان في يد شخص مدعاة للمساءلة، وقد حدثني فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين وهو من تعلمون يقول: إن شاباً وجد معه شريط لك فأخذ وأودع السجن منذ ثمانية عشر يوماً، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
على كل حال أعتقد أن نشر الخير ممكن، وأنه ليس من مصلحة أحد كائناً من كان أن يقف في طريق الخير وفي طريق الدعوة، فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله تعالى شيئاً وسيجزي الله الشاكرين.(267/19)
زلزلة مصر
أما النقطة الثالثة فهي بعنوان زلزلة مصر؟(267/20)
واجبنا نحو إخواننا
وقفة أخرى: إن من واجبنا أن نقف إلى جنب إخواننا في كل مكان، فروابط الإسلام تربطنا بكل مسلم ونتجاوز بها الحدود السياسية والإقليمية وغيرها، بل أقول: ينبغي أن تكون مثل هذه الأحوال والمناسبات مجالاً نعبر فيه لإخواننا المسلمين في كل مكان تعبيراً صادقاً عن أخوتنا لهم، والرابطة الإسلامية التي تجمع بين المسلمين بغض النظرعن أي اعتبارات أخرى، ينبغي أن نكون معهم بماذا؟ أولاً: بالمساعدة والدعم والوقوف إلى جانبهم بما نستطيع، فهذا واجب ينبغي أن ينبري له القادرون من الأثرياء وغيرهم.
الواجب الثاني: أن نقف معهم بالتسلية والتعزية والتصبير والتثبيت على ما أصابهم.
الأمر الثالث: أن نقف معهم بالنصيحة الصادقة التي تخرج من قلوبنا، لا تشفياً ولا فرحاً، وإنما نقول ذلك والألم والأسى يعتصر قلوبنا على ما أصاب إخواننا هناك، وبعد أن نثبتهم ونصبرهم نذكرهم بوجوب التوبة إلى الله والرجوع إليه، وأن نحدث له توبة صادقة يرحمنا بها.(267/21)
دور النقابات الإسلامية
وقفة أخرى: إن مما يؤسف أن يكون هناك تعتيم إعلامي في مصر وغيرها على الدور الكبير الذي يقوم به رجال الإسلام ودعاته في مصر في مساعدة المنكوبين.
فقد قامت النقابات الإسلامية -كنقابة المهندسين ونقابة الأطباء- بجهود كثيرة وأرسلت مبالغ مالية وخيام ومساعدات وإعانات وإغاثات كثيرة، وجندت أعداداً كبيرة من المهندسين لمعاينة المواقع والبيوت والدور وغير ذلك.
فوجدنا أن هناك انزعاجاً من الحكومة من هذا العمل، وقالت: إن هؤلاء يستغلون تلك الأزمة أو ذلك الموقف المأساوي للدعاية الشخصية لأنفسهم، فسبحان الله! أولاً: هب أنه يستغل ما يستغل، ما دام أنه يساعد في أزمة ويقف فقد أذنتم لليهود والنصارى وكل المشركين أن يقفوا حتى إسرائيل تعرض خدماتها، وقد بعث إسحاق رابين إلى الحكومة المصرية رسالة تعزية وعرض إمكانياته وخدماته لمساعدة الحكومة في تلك المناسبة.
وأما أمم الأرض النصرانية فكلها ساهمت أو شاركت فلماذا يظل أهل الإسلام ممنوعين؟! وكلما قاموا بعمل خير إنساني قيل: إنهم يستهدفون من ذلك دعاية إعلامية أو ترويج!! ثم الدولة نفسها ماذا كانت تريد من وراء أعمالها ودعاياتها وأقاويلها؟! بل ماذا كانت تريد على مدى السنين الطويلة حينما كان إعلامها وإعلام الدول الأخرى مجنداً للثناء على إنجازات حكومية مزعومة وإغراء المواطنين بها، والمبالغة في تصويرها حتى لا يفتح المواطن عينه ولا أذنه إلا على ثناء وتبجيل وتطبيل ودعايات طويلة عريضة صادقة حيناً، وكاذبة في الأعم الأغلب عن إنجازات وأعمال وأشياء لا رصيد لها من الواقع، أو كانت صغيرة فكثرت أو كانت عادية فوضع حولها هالة، ولم يكن الهدف من وراء ذلك كله إلا كسب ولاء الناس وكسب قلوبهم، فلماذا يكون حلالاً لهم حراماً على غيرهم؟(267/22)
تعليقات
أود أن أعلق على ذلك بعده أمور: أولاً: من البديهيات التي لا تحتاج إلى تأكيد أن كل المصائب العامة التي تجتاح المسلمين هي بسبب ذنوبهم {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] في آيات أخرى كثيرة.
إذاً من البدهيات التي يجب أن نذكر بها عند كل مصيبة أو نازلة تقع بالمسلمين، سواء أكانت فيضانات، أم قحطاً، أم جفافاً، أم فقراً، أم جوعاً، أم زلازل، أم هزائم عسكرية، أم انهيارات مالية واقتصادية، أم غير ذلك، إن ذلك كله بسبب ذنوب العباد.
أما المصائب الفرضية التي تصيب الشخص بذاته من مرض أو فقر أو نكبة أو موت قريب أو ما أشبه ذلك فهذه قد تكون بسبب الذنوب، وقد تكون لغير ذلك من الأسباب كرفعة الدرجات وزيادة الحسنات وغير ذلك.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر إيمانه} .
إذاً هناك فرق بين المصائب الفرضية الخاصة، وبين المصائب العامة التي تجتاح الأمة بأكملها أو تجتاح قطراً من أقطار المسلمين، فينبغي أن نؤكد على هذا المعنى.
ولكنني أقول وأنا أؤكد على هذا المعنى: لا ينبغي أن يكون التوكيد من منطلق التشفي، فبعضهم يقول هذه الحقيقة، بلهجة المتشفي، وكأنه يرى أنه هو بمنجاة من السنة الإلهية والسنة الكونية، وكأنه هو ذلك العبد التقي النقي المطيع الذي لم يرتكب إثماً ولا معصية قط.
وأقول أيها الأحبة كل بلاد المسلمين تشترك في قاسمٍ عظيمٍ من الذنوب والمعاصي الكبار، فبيوت الربا في كل البلاد، وألوان الفساد الإعلامي تجتاح بلاد المسلمين كلها، ومد الأيدي إلى الكفار بالموالاة والحب والنصرة والعقود والعهود والمواثيق في جميع بلاد الإسلام، والتضييق على الدعوة والدعاة والعلم وأهله في كل بلاد الإسلام، والتفسخ الأخلاقي والاجتماعي والتحلل موجود في كل البلاد.
إذاً ينبغي ونحن نتحدث عن مصيبة وقعت في مصر أو مصيبة وقعت في الصومال أو أخرى وقعت في العراق أو رابعة وخامسة أن نتحدث عنها أن كل ما أصابنا بسبب ذنوبنا ومعاصينا، لكن حديثنا هو حديث المشفق الذي يدعو هؤلاء المسلمين وأولئك إلى أن يسرعوا بالتوبة إلى الله عز وجل وأن يقلعوا عما هم فيه، وأن يحدثوا لله تعالى إنابة يرحمهم بها ويرفع عنهم ما أصابهم، فالله تعالى على كل شيء قدير {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:53] التعليق الثاني: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فينبغي مع ذلك أن يعلم أن كل ما أصابه أو نزل به من ضر فردي أو جماعي في نفسه أو ماله أو أهله أو ولده أنه بقضاء الله تعالى وقدره، وأن عليه الصبر والاحتساب، فإن المصيبة تتحول بالصبر إلى نعمة ومنحة ومنة كما عرفنا قبل قليل.
فينبغي للعبد أن لا يضيع أجره بتسخط ذلك، بل أن يرضى ويصبر ويسلم ويقول: إنا لله وإنّا إليه راجعون، وفي الصحيح "أن الله تعالى إذا قبض ولد العبد قال لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟! قالوا: نعم، قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟! قالوا: نعم.
قال سبحانه فماذا قال؟ قالوا: يا رب حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد" {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فإن هذا كله في قضاء الله تعالى وقدره.
النقطة الثالثة: أن نعلم أن لا شفاء ولا دواء للمصائب العامة التي تجتاح الأمة الإسلامية إلا بأن تعود إلى شريعة الله تعالى حُكاماً ومحكومين، وعلى كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والتربوية وغيرها () وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [المائدة:65] وفي الآية التي بعدها {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66] .
التعليق الثالث: أن هذه السنة ماضية، وينبغي ألا نغتر بالتقارير العلمية، فإن التقارير العلمية قد تكون أحياناً صواباً يفهم على غير وجهه، وأحياناً تكون خطأً وتلبيساً، مثلاً: يقع الكسوف والخسوف، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله تعالى بهما عباده} فتقول التقارير العلمية: إن الكسوف والخسوف سببه تقدم الشمس أو تقدم القمر أو ارتفاع الأرض أو انخفاضها أو إلى غير ذلك.
فيظن الناس أن هذه الأشياء تحدث وفق نواميس وتقارير وسنن لا تتقدم ولا تتأخر، فيزول من عندهم الهيبة والرهبة والخوف والوجل، وينسون أنه حتى الأشياء التي تقع وفق نواميس وتقارير فإنما تقع بإرادة الله تعالى الذي يجري الناموس متى شاء.
فمثلاً: هذا الزلزال! هل علم به الخبراء -خبراء الأرصاد- في مصر أو غيرها؟ لم يعلموا به ولا تنبأوا بحصوله؛ بل حصل على حين غفلة وغرة منهم جميعاً، فلما حصل الزلزال يوم الاثنين فيما أعتقد، ثم بعد ذلك قالوا: لن يتكرر، فحصلت هزات أرضية يوم الثلاثاء والأربعاء، قالوا: هو ضعيف إلى الانتهاء، فحصلت هزة يوم الجمعة وكلها قيست بمقياس الشهير مقياس رختر، بعضها بلغ ما يزيد على خمس درجات، وقالوا: إن هذه الهزات وهذا الزلزال لن يحصل مرة أخرى.
إذا كنتم تعرفون أنه يحصل أو لا يحصل، فلماذا لم تخبرونا قبل أن يحصل أول مرة؟! ولذلك ينبغي ألا نغتر بما يقولون فهم -مثلاً- يقولون: الجزيرة العربية بمنجاة من الزلازل، على الأقل في الفترة الحاضرة وإلى المدة المرئيَّة.
من أخبركم بهذا؟! {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) [الكهف:51] .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم {سوف يكون خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب} وذكر عليه الصلاة والسلام {الجيش الذي يكون بالبيداء فيخسف بأولهم وآخرهم} كما صح بذلك الحديث، وهو في صحيح مسلم.
إذاً فنقول: إن كل بلاد الدنيا وكل المخلوقات هي في قبضة الواحد الأحد، وفي ملكه وتدبيره وسلطانه، والله تعالى يعاقب من يشاء، وعلينا أن نعلم أن السنة ماضية على الجميع، وأنه ليس أحد بمنجاة، لا باسمه ولا بقبيلته ولا بدعاياته ولا بشعاراته، وإنما الأمر الذي يصح عند الله تعالى هي الحقائق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم} .
فعلينا أن ندرك أن الأمر يتطلب منا جميعاً صدقاً في التوبة إلى الله عز وجل، وألا يكون بعضنا كأمثال الذين ذكر الله عنهم أنهم كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:22] فهذا الدعاء في حال الأزمة، فإذا نجاهم إلى البر أشركوا بالله عز وجل (إذا هم يشركون) فلا ينبغي أن يكون العبد كذلك.(267/23)
حجم الخسائر
لقد سمع الجميع الأحداث التي وقعت في مصر من الزلزال الذي ضرب نحو ست وعشرين محافظة في مصر، وذهب له ضحايا كثيرون، فبعض الإحصائيات تقول: إن عدد القتلى يزيد على ألف، أما عدد الجرحى فيزيدون على ستة آلاف، منهم أكثر من ألفين في العناية المركزة.
أما الخسائر المادية في الأموال والعمارات وغيرها فهو رقم خيالي كبير.(267/24)
خبر طريف
وحول هذا الموضوع لا بد من التعليقات، وقبل التعليقات أذكر لكم هذا الخبر الطريف الذي نشرته لكم جريدة الحياة في ثمانية عشر ربيع الآخر العدد (10840) يقول: كان مجلس الوزراء في مصر قد انتهى من دراسة سياسية أمنية جديدة، تضمنها تقرير أعده وزير الداخلية وهو يتضمن خطة جديدة لمواجهة التصعيد المستمر في التطرف والإرهاب، وأنتم تعرفون ماذا يعني التطرف وماذا يعني الإرهاب؟ يقول الخبر: كان وزير الداخلية يقرأ التقرير لأعضاء مجلس الوزراء حتى بلغ فقرة جاء فيها: إن البلاد تتعرض لأول مرة لهزة عنيفة تهدف إلى النيل من الاستقرار الأمني والاقتصادي الذي تتمتع به الدولة؛ وما أن انتهى الوزير من كلمة هزة حتى حدثت الهزة الأرضية الحقيقية وهرعَ الوزراء يبحثون عن سبب الانفجار الذي ظن بعضهم أنه ناتج عن شحنة ديناميت ضخمة فجرت أمام مبنى المجلس، غير أنه بعد ثوانٍ تكشفت حقيقة الأمر، وشكلت غرفة عمليات برئاسة رئيس الوزراء إلى آخر الخبر.(267/25)
وثائق عن التنصير
أما القضية الرابعة: فهي تتعلق بالتنصير وبعض الوثائق الجديدة؛ ولقد تحدثت عن موضوع التنصير تفصيلاً فيما سبق، وصل إليَّ بعد الحديث وثائق كثيرة جداً، عزمت -إن شاء الله تعالى- على أن أدرجها ضمن دراسة علمية للمختصين في هذا الموضوع؛ لصعوبة الرجوع إليه، لكن لا مانع أن أوافيكم بين حين وآخر ببعض هذه الوثائق.(267/26)
جمعية نسائية
ومن الوثائق الخطيرة التي وصلت إليَّ: اكتشاف جمعية نسائية في المنطقة الشرقية خطيرة، تعمل على تحرير المرأة وتصدر مجلات ونشرات وتعقد الاجتماعات والمؤتمرات، ويحتشد في مواعيدها جموع هائلة من النساء على كافة المستويات، ومن كافة الطبقات، من نساء هذا البلد ومن النساء الأجنبيات، ولهذه الجمعية أهداف خطيرة وشريرة فيما يتعلق بالمرأة المسلمة في هذه البلاد.(267/27)
رحلات إلى سويسرا
فمن هذه الوثائق: أن مدارس أهلية بالرياض تعرف باسم مدارس الملك فيصل تقوم برحلات طلابية إلى سويسرا وقد وصل إليَّ هذا التعميم أو هذا الإعلان الذي سوف يذهب بأطفال صغار من فلذات الأكباد إلى منتجع في سويسرا لماذا؟ حتى يتعلموا التزلج على الجليد في موقع يعدُّ من أحسن المواقع العالمية للتدريب على هذه الرياضة العجيبة.(267/28)
استقدام اللاجئين
كذلك من الوثائق التي وصلت إليَّ والأخبار؛ أن الحكومة الكاثوليكية في أمريكا قامت بقبول أكثر من ألف لاجيء عراقي من الذين يقيمون في رفحاء واستقدمتهم إلى أمريكا، وقد استخدمت الكنيسة طائرتي جامبو استأجرتهما من أمريكا؛ لنقلهم من القاعدة الجوية هناك إلى حيث يُنَصَّرون وتغير عقولهم.
كما سبق أن استقدمت الكنيسة الكاثوليكية لاجئين ليبيين من تشاد كانوا أسرى هناك، وحاولت التأثير عليهم وتنصيرهم، وضايقتهم حتى اضطر بعضهم إلى السفر، وعلى الأقل كان واحد منهم ذهب إلى أفغانستان حينما كانت باكستان مفتوحة للمهاجرين والذاهبين إليها.(267/29)
الساحة الأفغانية
الوقت يضيق، لذلك سوف أختصر بعض النقاط وأؤجلها، وأمر على بعض القضايا التي يفوت الوقت بتأجيلها، فمن القضايا التي سأتحدث عنها مروراً الساحة الأفغانية.
وهنا مجموعة من الأخبار التي أرجو أن تكون -إن شاء الله تعالى- جيدة إجمالاً، منها: أن اللجنة المكلفة بتكوين مجلس الشورى -مجلس الحل والعقد- توصلت إلى اتفاق على عقد هذا المجلس قبل انتهاء فترة الرئيس برهان الدين رباني.
وأن مصادر أفغانية أشارت أن جميع الأحزاب وافقت على مسودة المجلس، وسوف يتم المصادقة عليه من قبل شورى مجلس القيادة.
وأن البروفيسور عبد رب الرسول سياف يبذل مجهودات كبيرة من أجل نقل اجتماع المجلس القيادي إلى خارج كابول، بعد أن رفض المهندس حكمتيار دخول كابول.
كذلك تقول المصادر: أن زعيم حركة الانقلاب الإسلامي محمد نبي يحاول ترتيب اجتماع بين رباني رئيس الدولة وحكمتيار رئيس الحزب الإسلامي، لكي تُحل المشكلة تلقائياً بينهما قبل البت في أمور مجلس الشورى والأمور الأخرى.
وأن هناك خبراً يقول: إن أحمد شاه مسعود يؤكد انسحاب الميليشيا من كابول، فقد نقل متحدث باسم لجنة الوساطة عن وزير الدفاع الأفغاني تأكيده أن ميليشيا غلام جام سوف تنسحب من العاصمة الأفغانية، وقال المتحدث وهو رئيس لجنة السلام: إن وزارة الدفاع ما زالت تجري مشاوراتها مع الزعماء حول انسحاب الميلشيا، ورغم انتهاء المدة المحددة لانسحابها يوم الاثنين الماضي؛ إلا أنه لم تقع مصادمات إذ لا تزال المشاورات جارية، وتأتي هذه الأحداث في الوقت الذي يقوم فيه الرئيس رباني بزيارة لأوزباكستان بينما يغيب أحمد شاه مسعود في زيارة طويلة إلى شمالأفغانستان.
وهناك خبر يتعلق بموقف الولايات المتحدة الأمريكية من حكمتيار، فمن الأخبار المهمة أن الولايات المتحدة تتعهد بوقف حكمتيار من محاولة تدمير العملية السياسية.
وهناك خبر آخر يقول: إن المدير السابق لعمليات الاستخبارات الأمريكية يقول: واشنطن تضغط لإبعاد حكمتيار عن الحكم.
وسوف أعرض لهذا الموضوع تفصيلاً إن شاء الله في الأسبوع القادم.(267/30)
جريدة خضراء الدمن
من القضايا -أيضاً- التي سوف أقف عندها قضية جريدة خضراء الدمن، وأعني بها جريدة الشرق الأوسط، وقد كنت حذَّرت مراراً وتكراراً من شراء هذه الجريدة أو بيعها أو تعاطيها بأي صورة، ومن الضرورة أن نفرض عليها حصاراً حتى تضطر أن تنسحب من الساحة كما انسحبت أختها التي هلكت بالأمس: لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب(267/31)
مقال ينشر
أعني بها جريدة الصباحية، وقد طالعتنا بمقال في (22/4) بعنوان الزميل أحمد الربعي سابقاً يتحدث عن تولي هذا الرجل لوزارة التربية والتعليم في الكويت، وهذا الرجل ذو تاريخ شيوعي معروف، ومع ذلك حاول الكاتب أن يلمعه بعض التلميع.
وقال: إنه نموذج لمئات الشباب الذين عادوا إلى البيت برؤية جديدة وحماس جديد بعدما عاشوا لذة الانعتاق التائه وقصبة البهيمي الجوال، ثم يقول: وهناك ما زال ضائعون آخرون بدلاً من أن يتجهوا يساراً اتجهوا يميناً -أي: بدلاً من أن يكونوا شيوعيين أصبحوا اليوم إسلاميين أو أصوليين- كما يعبر: فغرقوا في تهويمات الحزبية الضيقة التي انتقلت بقضها وقضيضها من ماركسية متزمتة إلى أصولية متزمتة -انظر كيف قابل بين هذا وذاك؟ - قال: وكل تطرف منبوذ أياً كان لونه وشكله وطريقته، وليت هذا الجيل يتعلم من الجيل الذي سبق، فيكتشف أن خير الأمور الوسط، وأن الواقع أكبر بكثير من الأحلام الملساء -يعني: كأن ما ينادي به ويدعو إليه دعاة الإسلام هي: أحلام ملساء يخدرون بها عقليات الشعوب، أو يخدعون بها بعض الأتباع.
ثم يقول: والمعارضة الحقة هي التي تتحمل المسئولية، فالعروبة لم تعد أحلاماً ومحاضرات ومظاهرات، وتصفيقاً وهتافاً، بل أصبحت نظرة بعيدة إلى المستقبل تنطلق من المصالح والأماني المشتركة، والمعارضة الحقة: هي التي تتحمل المسئولية وتضع نفسها للحظات في موقع صاحب القرار حين يتخذ قراره.
إن التطوير والتبديل ليس إثارة للجماهير، واستغلالاً لطبيعتها السهلة وعزفاً لغرائزها، بل هما الانطلاق من واقع ملموس ومن قيم حضارية، ومن مقتضيات لا تقبل التطويح والمجازفة بأقدار الشعوب في مغامرات غير محسوبة، أليس مثيراً للاستغراب أن يمضي العربي من عمره عقدين من الزمن هما زهرة حياته في ممارسة الخطيئة قبل أن يئوب إلى رشده؟! هذا الرجل من الواقع أولاً: أنه يقارن بين ما يسميه بالأصولية الإسلامية، وبين الماركسية الشيوعية، وشتان شتان -عندنا- بين شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وهي شجرة الباطل وكلمة الباطل وبين شجرة ثابتة وطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهي شجرة التوحيد والإسلام.
ثم شتان -عندنا- بينكم أنتم يا معشر اليساريين والماركسيين الذين كنتم يوماً من الأيام تخادعون الشعوب بالوعود والأحلام المعسولة، ثم اكتشفت الشعوب زيف دعاياتكم وأحلامكم وأقاويلكم، فانصرفت عنكم وتركتكم وبصقت على أقوالكم وشعاراتكم ومذاهبكم وأحزابكم، وبين أمة عرفت دينها؛ فاحتشدت حول دعاة الإسلام وتشربت حقيقة الدعوة فآمنت بها، لذلك انجفلت إلى العلماء وإلى الخطباء وإلى الدعاة، ليس لأنهم يرفعون الشعارات كما تريدون أن تصوروا، وليس لأنهم يغرونها بالأحلام الملساء، فإن دعاة الإسلام لم يعدوا بحلم قط، ولم يعدوا أحداً بشيء، وما قالوا لأحد نوليك وزارة ولا منصبا، بل هم بعيدون كل البعد عن زخرف الدنيا، وهذا من حكمة الله تعالى أن أهل الإسلام ودعاته ليسوا أصحاب أموال ولا أصحاب مناصب ولا أصحاب جاه، حتى يقبل من يقبل على الإسلام بصدق وطواعية ورغبة وهو لا يطمع في غير الجنة ورضوان الله عز وجل، فإن الله تعالى لم يعد بغير ذلك قال: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29-33] فاليوم اليوم انتهت الدنيا ونحن في موقف القيامة {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34-36] .
نعم والله ثوبوا ما كانوا يفعلون، إذاً فلا أحد من دعاة الإسلام يعد الناس بالدنيا، وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعد أصحابه -خاصة في الفترة المكية وهم يؤذون ويعذبون ويضطهدون- إلا بالجنة، {صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة} فشتان بين ما يريد أن يصوره، ويريد أن يقول: إن احتشاد الناس حول الدعاة، وإقبالهم على الدعوة، هو شبيه باحتشادهم من قبل حول الماركسية والأحزاب العلمانية.(267/32)
رسالة هاتفية
وقصاصة أخرى وصلت إليَّ من أمريكا حول جريدة خضراء الدمن أيضاً، فقد أرسل إلي أحد الشباب المبتعثين الغيوريين رسالة يقول لي: إحدى الرسائل التي تتعلق بموضوع نشر جريدة الشرق الأوسط لصورة امرأة استرالية وقد أظهرت فيها فخذيها، بالإضافة إلى نشر صورة للنساء في ملابس تنكرية للقطط، وقد وصفت العورة الكبرى لإحداهن، إما حقيقة أو رسماً يدوياً، ويقول الأخ الكريم: وكم آلمنا ذلك؟! وشعرنا بالدرجة التي وصل إليها المشرفون على جريدة خضراء الدمن من الدعوة إلى التعري والخلاعة ونشر الفاحشة والدعوة إلى الرذيلة! وذلك في تقديري أمر متوقع، فإن مضى دون محاسبة فالغد القريب سيحمل صورة للنساء، ربما عاريات تحدياً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.
وقد تكون الأعداد التي طبعت في خارج المملكة، أو على الأقل هنا في أمريكا بهذه الصورة الخليعة، وهذا تحد سافر فكيف يصح لجريدة اتفق جمهور الأمة على أنها جريدة سعودية سواء طبعت بجوار الحرم المكي، أو في أحد شوارع لندن، كيف نتفق على هذا العمل المنكر وهذا الاستخفاف بالدين وبأهل الدين؟ وهي هنا ينظر إليها المسلمون على أنها صحيفة سعودية؟! إنني إذ أرسل إليك هذه الرسالة الهاتفية أتمثل قوله تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] وإني أعبر عن شعور زملائي المبتعثين الذين يسألون الله تبارك وتعالى أن يريح المسلمين عامة، والعرب خاصة من هذه الجريدة الخبيثة وشقيقاتها في الإثم والعدوان إلخ ما قال، وفي نهاية الكلمة يعبر الأخ عن مشاعره الطيبة تجاه علماء هذه الأمة ودعاتها، فجزاه الله تعالى وسائر الإخوة هناك خيراً وكثَّر الله تعالى في الأمة من أمثالهم، ونفع الله تعالى بهم وبعلمهم.
هناك مجموعة من الموضوعات تتعلق بالأوضاع في البوسنة والهرسك ونظرة الإعلام الغربي إلى الإسلام والمسلمين، وهناك قصيدة شعرية ذات معان جيدة وقوية وغريبة لأحد الدكاترة المعروفين، كل هذه الأشياء سوف أؤجلها للأسبوع القادم؛ لأنها تصلح لموضوع خاص يكون عنوانه (الإسلام والغرب) .
وسوف أضيف إليه بعض المعلومات والوثائق التي استبعدتها لضيق الوقت، إذاً فسوف يكون عنوان المحاضرة أو درس الأسبوع القادم (الإسلام والغرب) .(267/33)
كيف ينهدم الزمان
أما الأشياء الأخيرة، التي أقف عندها: فهي مقال للدكتور مصطفى عبد الواحد نشر في جريدة الندوة يوم السبت الماضي عنوانه "كيف ينهدم الزمان" وقد صدر هذا المقال بالأثر المعروف [[أتدري ما يهدم الإسلام.
قال: لا، الله ورسوله أعلم.
قال: زلة العالم، وجدالة المنافق في الكتاب، وحكم الأئمة المضلين]] .(267/34)
زلة العالم
ثم تكلم عن زلة العالم؛ لأن الناس يسمعون قوله ويعجبون بعلمه، فلا بد أن يكون حريصاً على حسن صورته أمامهم، وأن يكون صادقاً في المطابقة بين القول والعمل، وأن يعلم أن العلم أمانة في أدائه وتحمله والعمل به، كان وبالاً على صاحبه وإلا كان عديم النفع للناس.
وزلة العالم: قد تكون بقول، وقد تكون في عمل وسلوك، وقد تكون في رأي يتبع فيه الهوى ويجانب فيه الحق، ثم يصر عليه وتأخذه العزة بالإثم حين ينبه إلى وجه الخطأ فيه، فيلج في عناده ويلتمس لنفسه من الأدلة الزائفة ما لا ينهض به ولا يقيل عثرته.
وكل المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة تنتمي إلى هذا الزلل وإلى هذا العناد، والمفترض أن يبحث عن الحق ويلتمس الصواب سواء أجاء نتيجة بحثه هو أم نتيجة إرشاد غيره إليه.
وهكذا حذرنا عمر رضي الله عنه من هذه العوامل الهدامة التي لا يرتفع معها بناء، ولا يصلح معها عمل، ولا يستقيم معها سعي حتى تبرأ الأمة منها، وتأخذ حذرها من أخطارها.
نعم، إن العالم كما يقول المثل: إذا زل العالم زال بزلته عَالَم، فما هو الموقف إذاً من زلة العالم التي ربما تكون متوقعة بحكم الطبيعة البشرية؟!(267/35)
الاعتدال في المواقف
أقول: إن الموقف يجب أن يكون معتدلاً، فإن الإفراط يؤدي إلى التفريط، والغلو يؤدي إلى الجفاء، والتطرف يؤدي إلى تطرف في الجانب الآخر، فالذي يغلو في الاستماع إلى العالم وقبول كل شيء منه وجعله ميزاناً للحق والصواب والهدى، حينما يكتشف أن العالم قد أخطأ؛ ينفض يده منه بالكلية ويتبرأ منه وربما سبه أو اغتابه أو استحل عرضه، بل وجد من يصل به الحكم والعياذ بالله إلى الحكم بالردة والكفر.
فهذا التفريط نتيجة الإفراط الأول، والواقع الذي ندعو إليه أولاً: أن نكون معتدلين في نظرتنا إلى العلماء والدعاة أياً كان هؤلاء العلماء سواء أكانوا علماء رسميين أم علماء عامة أم غيرهم، وأن نعرف للعالم حقه وقدره، فنحترمه ونجله وندعو له ونحسن الظن به بقدر المستطاع.
ولا نسمح بالوقوع في عرضه أو النيل منه، فإن هذا هو حق المسلم العادي على المسلم، فإذا كان المسلم عالماً أو طالب علم أو فقيهاً أو مفتياً، كان هذا الحق له أكبر وأعظم وأوفى.
ولكن ينبغي ألا يكون معنى ذلك تقليد العالم في كل شيء، ومتابعته في كل شيء، وأن يغلق الواحد منا عينه عن القراءة، وأذنه عن السماع، وعقله عن التفكير، ويده عن الكتابة، ورجله عن المشي لماذا؟ لأنه قد أسلم هذه الأشياء كلها لفلان وفلان، لا.
لا ينبغي إن أخطأ أخطأت، وإن أصاب أصبت.
ينبغي أن تكون متبعاً بوعي، وعلم، وبصيرة، ويقظة، وإدراك، فحتى هذا العالم مع احترامك له، وتقديرك لعلمه، ومعرفتك بفضله، فأنت مع ذلك تدري أن طبيعة البشرية جبلة مركوزة فيه، ورثها عن أبينا الأول آدم عليه الصلاة والسلام.
وأن الإنسان لا ينفك عن الخطأ بحال، ولهذا فأنا حين يخطأ هذا العالم أقول: غفر الله له، وهذا الأمر ليس صواباً وقد أرد عليه بالكلمة الطيبة، والحكمة والأسلوب الحسن، ولا أعدّ أن النقد أو الرد إسقاط لقدر هذا العالم أو نيلٌ منه أو تحطيم له كما يتوهم بعضهم، لا؛ لأنني من الأصل كنت منطوياً عاقداً ضميري وسريرتي على أنني أحترمه لكني لا ألغي ما أعطاني الله تعالى اتباعاً له.
هذا هو الواجب أولاً، فإذا حصل الخطأ كان الموقف منه معتدلاً، بحيث يقدر الخطأ بقدره، ولا يكون الخطأ سببا في إهدار العالم أو الحط من كرامته، أو اتهامه بأمور هو منها براء، بل يلتمس له عذراً، ومع ذلك الخطأ يظل خطأ ولو كان صاحبه معذوراً.
أما بعضهم فإنك تجدهم بين إفراط أو تفريط، فبعضهم قد عطلوا واعتقلوا تفكيرهم، وعصبوا عيونهم، فلا يسمع الواحد منهم ولا يقول إلا ما قاله فلان، وهذا -في الواقع- غير لائق بالإنسان الذي كرَّمه الله تعالى، ومنحه عقلاً وفهماً وشيئاً من اليقظة والبصيرة والعلم، هذا أولاً.
ثانياً: حين تترك قول عالم، أو اجتهاد عالم، أو بيان عالم لا تتركه إلى رأيك الشخصي، بل تتركه إلى قول عالم آخر واجتهاد عالم آخر، وبيان عالم آخر، قد يكون مثله أو أفضل منه أو دونه، ولكن أصاب الحق هذه المرة، والله تعالى لم يضمن لأحد من البشر أن يكون الحق محصوراً في قوله إلا الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فينبغي للإنسان أن يعتدل في نظرته إلى العالم أولا، فإذا أخطأ العالم جعل خطأه بقدره، ولا يجعله مجالاً لإهدار فضل العالم وسابقته.(267/36)
الأسئلة(267/37)
مشروع البحث والترجمة
السؤال
تحدث فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي -حفظه الله- عن مشروع البحث والترجمة، وتكلم عن تكليف هذا المشروع، وجمع التبرعات في هذا المسجد، والحمد لله المطلوب منكم جمع التبرعات الآن حيث أن كثيراً من الإخوة الموجودين هنا لم يحضروا المحاضرة التي ألقاها الشيخ، وذلك لكثرة الندوات في الوقت نفسه؟
الجواب
ما ذكره الشيخ من مشروع لترجمة كتاب الجواب الصحيح ومشروع الرد على النصارى، ومواجهة التنصير، هو: مشروع عظيم ويتطلب منكم المساعدة والدعم، وأنا مستعد لتقبل المساعدة في أي وقت كما تشاءون، لكن ليس بالضرورة الآن.(267/38)
من أسباب الإلتزام بالدين
السؤال
يقول نحن مجموعة حضرنا من قصيبا، واستمعنا للحفل السنوي، فكان هذا سبباً في التزام ثلاثة شباب حضروا معنا، فادعو لنا بالثبات.
الجواب
نحمد الله على ذلك، وهذه من عاجل البشرى، ونسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يثبتنا وإياكم بقوله الثابت في الحياة الدينا والآخرة، وأن يختم لنا ولكم بالخير، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.(267/39)
دعوة للتبرع
السؤال
أرجو أن تدعو الخطباء، وأئمة المساجد أن ينبهوا العامة على مشروع ترجمة الكتب الإسلامية؟
الجواب
هذا سبق أن ذكرته قبل قليل، ولا بأس بذلك، وكذلك مشروع الشيخ صالح الونيان.
نعم الشيخ صالح الونيان -حفظه الله- عنده مشروع -مستودع خيري لتلقي الأدوات الكهربائية، والملابس وغيرها، وتصليحها وتنظيفها وتوزيعها على المحتاجين- وهذا المشروع يتطلب الدعم.(267/40)
الفوز في الكرة
السؤال
أصبح الولاء والبراء في الكرة، والفوز أصبح نصراً، فكان الشباب يفرح فرحاً عشوائياً؛ ما رأيكم في فوز السعودية على أمريكا في الكرة؟
الجواب
ما شاء الله تبارك الله! ما فزنا عليهم إلا في الكرة!!.(267/41)
اقتراح
السؤال
اقتراح وهو أن يرسل شريط -جلسة مع مربي- إلى المدرسين في المدارس لما في ذلك من المصلحة؟
الجواب
هذا اقتراح طيب لمن يرى أن ينفذه.
السؤال: ما دام الناس عندهم الآن حماس لحفظ السنة؛ فأقترح أن يقام درس لبعض المشايخ في الأربعين النووية للمتن والسند؟ الجواب: هذا اقتراح جيد، ويعرض إن شاء الله على اللجنة العلمية لعله أن يتم تنفيذه.(267/42)
الاحتفال سنة حسنة
السؤال
يقول: ما رأيك فيمن يقول: إن الاحتفال بمسابقة السنة بدعة؟
الجواب
الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- وهو من هو في العلم، قال كلمته في هذا الحفل، التي لا بد أنكم سمعتموها، وقال: إن هذه سنة حسنة، وعادة طيبة، ولا أرى أن هذا الأمر فيه بدعة بوجه من الوجوه؛ لأنه من الاجتماع على الخير، والتعاون على البر والتقوى، والتعود على حفظ السنة ودراستها، وتعويد الناس على ذلك، ولم يكن المقصود فيه التعبد لله تعالى محض التعبد، والقربة التي يقال ببدعية العمل الذي لا يكون له فيها أصلاً.(267/43)
حذف في المناهج التعليمية
السؤال
بعض المناهج التعليمية فيها حذف، مثل: موضوع الاستعمار والأمة العربية، مادة المطالعة للصف الثالث علماً بأن الموضوع كان موجوداً في العام الماضي؟
الجواب
نعم، وحذفت أشياء كثيرة، حذفت الحروب الصليبية، حذف الكلام عن احتلال اليهود لفلسطين وغير ذلك، فإلى الله تعالى المشتكى، إن مناهجنا بدأت تخضع لما يسمى بالتطبيع شيئاً فشيئاً حتى في مادة الجغرافيا والتاريخ وغيرها.(267/44)
سبب زلزال مصر
السؤال
قلت لأحد الإخوة: إن الذي وقع في مصر كان بسبب الذنوب، فغضب، وقال: إن ذلك من ضعف القشرة الأرضية؟ ما تقول في ذلك؟
الجواب
نقول كما ذكرت قبل قليل لعلي أجبت على هذا السؤال، لكن ينبغي أن يكون الإنسان حكيماً فيما يطرح من المعاني والمقاصد الشرعية لأنه كما قيل: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبيير لما تأت إنسان مصاب تقول: هذا بسبب الذنوب ويستحقون، لا شك أنه يتاثر ويصيبه شيء من الغم والهم والحزن، لكن لو عزيته، وقلت: هذا بقضاء الله وقدره، وعلينا الصبر والاحتساب، وإن شاء الله المسلمون يقفون، ثم ثنيت بعد ذلك بتقرير القاعدة الشرعية التي ذكرناها قبل قليل لكان هذا أدعى للقبول.(267/45)
طلب إلقاء محاضرة
السؤال
طالب في هذه المسابقة تأثر تأثيراً عجيباً جعله يقلق زملاءه ويحاول إقناعهم بهذا الحفظ صبيحة مسابقة السنة في هذا الجامع، فقال: إن شاء الله سوف أحفظ الأربعين النووية في عشرة أيام، فسمعه زميله وقال: أعطيك ألف ريال إن أتممت الحفظ في عشرة أيام، هذه برقية عاجلة وبشرى طيبة، يقول: وها هو الأخ جاد في الحفظ، بل إنه حفظ أكثر من خمسة أحاديث خلال ساعات معدودة؛ فجزى الله خيراً كل من كان السبب في ذلك، والأمر الذي يزيد الدهشة أن من أخبرني عن هذه الحادثة قال: إنها في قرية صغيرة من قرى القصيم تبعد عن بريدة 150 كم، وهذا دليل على أن أثر هذه المسابقة قد شمل جميع هذه المنطقة، مدنها وقراها والحمد لله رب العالمين، يقول نريد بإلحاح شديد إلقاء محاضرة لكم في المذنب على الرغم من كثرة المشايخ الذين حضروا إلى بريدة إلا أنهم لم يظفروا بواحد منهم، فهلا ألقيت محاضرة نحن مترقبون جداً لذلك؟
الجواب
نسأل الله أن يعيننا على ذلك إن شاء الله تعالى.(267/46)
التدرج في طلب العلم
السؤال
إنني شاب قريب من إتمام حفظ القرآن، فهل أبدأ بحفظ الصحيح؟ أم أبدأ بدراسة الفقه جزاكم الله خيراً؟
الجواب
كل ذلك حسن ولكن لعل بدأك بحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه من جميل المتون، وعظيم البلاغة، وحسن التعبير، وجوامع الكلم، لعله أولى بك، ثم إذا حفظت متناً من متون السنة لا مانع أن تنتقل بعد ذلك إلى حفظ متن الفقه، وقد ذكرنا ذلك تفصيلاً في نشرة وزعت، وزع منها في الجامع الكبير ما يزيد على عشرة آلاف نسخة، في ليلة مسابقة السنة، ومكتب الدعوة يقوم بتوزيعها وهي بعنوان (منهج لدراسة الحديث) وقد كتب لها والدنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مقدمة ضافية مفيدة فجزاه الله تعالى خيراً.(267/47)
اقتراح بالمشاركة
السؤال
هناك اقتراح بسيط هو أن تقترحوا على أئمة الجوامع أن يضعوا صناديق لكي يتسنى أن نشارك بأقلامنا في موضوع الخطبة القادمة، إذا أخبروا بعنوانها، ويقدم لهم المعلومات؟
الجواب
هذا حقيقة، اقتراح جيد ووجيه، أرى أن يضع الخطيب صندوقاً للاقتراحات، والأسئلة والموضوعات وغيرها؛ ليعرف مشكلات الناس وموضوعاتهم، وماذا يترقبون وماذا ينتظرون.(267/48)
مشكلة غربية
السؤال
مشكلة غريبة، والدتي لا تطيق النظر في وجهي، لا تحملني الذنب فقد حاولت كثيراً ولكن دون جدوى، فماذا أفعل؟
الجواب
دع هذه الوالدة، قبل رأسها واجلس إلى جانبها، لا تجلس أمامها، ودعها وما هي بشأنه، فلعل لها عذراً وأنت تلوم، وحاول أن تكثر من الدعاء لها، وبرها والإحسان إليها، وألا تقف حائراً أمام هذه القضية، أو تعدها مشكلة كبيرة، أو تحزنك أو تحرجك، أو تسبب لك تعقيداً أو حرجاً أو غير ذلك، فعليك أن تجد وتجتهد في طريقك وعملك، وأن تكون إيجابياً ومشاركاً وواثقاً بالله تعالى، ثم بما أعطاك الله من المواهب والملكات والإمكانيات، وألا تقف أمام هذه المشكلة كثيراً.(267/49)
دش على المستشفى
السؤال
يقول ما رأيك فيما فعله مستشفى الملك التخصصي، حيث وضع الدش في الجهة الجنوبية من المستشفى، ماذا نفعل تجاه الفساد في هذه المنطقة؟
الجواب
نعم، وهناك أخبار وأسرار وأمور تصل إلينا، وروائح منتنة تزكم أنوفنا في هذا المستشفى، فإلى الله تعالى المشتكى كم شكونا وبكينا وتكلمنا ولكن دون جدوى.(267/50)
طلب الدعاء بالشفاء
السؤال
إنني مريض بحساسية شديدة، وأشد شيء يؤثر علي الأطياب النفاثة المركزة وإنني أحب أحضر محاضراتكم العطرة، فإن لم تستطع أن تقول للشباب أن يتركوها أثناء المحاضرة فعلى الأقل ادعُ لي والشباب يؤمنون؟
الجواب
أما أن يتركوا الطيب فهذا أمر صعب، ولا نستطيع أن نقول لهم دعوها، ولكن نسأل الله تعالى وندعو الله تعالى أن يشفيك ويعافيك من هذا الداء الذي تعاني منه.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع الحاضرين أجمعين.
اللهم اهد قلوبنا اللهم صحح أبداننا، اللهم وفقنا لكل خير، اللهم أبعدنا عن كل شر، وعن كل ما تكرهه يا حي يا قيوم.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم علمنا، ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(267/51)
افتراء صحيفة
السؤال
ذكرت في إحدى محاضراتك أن إحدى الصحف المحلية افترت عليك بكتابة فتوى بجواز العمل أو تحريمه في بنك الراجحي، وأخرى بحرمان ذلك، وقد وعدت بذكر اسمها إذا لم تعتذر، فهل اعتذرت هذه الصحيفة أم لا؟
الجواب
هذه لها قصة، وهي تمت بسبب إلى مسألة الوثائق المزورة، فقد جاءتني رسالة أن رجلاً كتب سؤالاً لي عن حكم العمل في بنك الراجحي، وأنني كتبت بعد مقدمات أن العمل في هذه المؤسسة حرام، ولا يجوز، ثم كتبت اسمي، وكانت هذه الورقة مختلقة، لا أعلم حتى الآن من أين جاءت، وبالنظر وجدت أنها قد دست إلي من فاكس لإحدى الصحف، ولا بأس أن أذكرها الآن وهي صحيفة عكاظ وبالذات مكتب المنطقة الشرقية.
ولأنني لا أحب أن أكون متعجلاً، فقد تريثت بعض الوقت، وقلت: إن الأمر فيه لبس فكتبت للصحيفة رسالة، وبعد ذلك أرسل إليَّ هذا الرجل رسالة أخرى -أيضاً- حول العمل في بنك الراجحي، وفيها حيثيات وملابسات، وأن العمل فيه جائز ولا بأس به إن شاء الله، يعني جاءه افتاءان متناقضان في جواب واحد كلها منسوبة إلي، وكلها من موقع واحد، فكتبت لهذه الجريدة، وبالذات لفرعها في الشرقية أو مكتبها رسالة: أنه وصل إليَّ هذا وأرسلت لهم صورة منه، وأنا أريد منكم أن تبينوا لي هذا الأمر، ومن الذي استجاز أن ينسب لي مثل هذا الكلام الذي لم أقله، وحاول أن يوجد نوع من التناقض بين فتوى بالتحريم، وفتوى بالجواز، وليس بينهما إلا يوم واحد أو أقل من ذلك.
وكان هذا منذ شهور، لكن مع ذلك لم يصل إليَّ جواب حتى الآن، ولم أذكر هذه الصحيفة؛ لأنه لم يوجد لها مناسبة، لكن ذكرتها الآن ما دام أنه قد جاء السؤال، وأرجو أن يسمع الإخوة في صحيفة عكاظ وفي مكتب الشرقية هذا الكلام، ويردوا علي في جواب مقنع.
أما ما يتعلق بموضوع العمل في بنك الراجحي، وفي غيره من الشركات التي على غراره، فإنني أفتي بجواز ذلك، لما علمته من أن العمل في هذه المجالات الأصل فيه أنه عمل شرعي مباح، وأن هناك لجنة شرعية مكونة من مجموعة من العلماء والمشايخ المعروفين، تقوم بالإشراف على كل الأعمال التي تديرها هذه المؤسسة المصرفية، وقد سألت العاملين والمسؤولين في هذه الشركة عما يتعلق بموضوع الفوائد التي تعطى لهم من بعض البنوك التي يضطرون للإيداع فيها، في بلاد الغرب، فأثبتوا لي أن هذه الفوائد لا تدخل إلى الشركة، ولا توزع على المساهمين، بل تصرف في مصارفها في أعمال خيرية من باب التخلص منها؛ لأن هذه ضرورة.
أما ما يتعلق بموضوع التقسيط، وقد شكا إلي عدد من الناس فيما يتعلق بأمر التقسيط في عدد من الفروع والمكاتب أيضاً في القصيم وحائل والرياض وغيرها فإن نظام التقسيط في أصله يبدو أنه نظام سليم في الجملة إن شاء الله، ولكن لا يمكن أن يكون هناك تنفيذ -يعني بعض المنفذين، أو بعض الموظفين- قد لا يدركون حقيقة هذه الأشياء، فيقع منهم نوع من الخطأ في التعامل مع المراجعين، وإلا فإن الذي يظهر لي أن أصل النظام -حسب ما رأيت وعلمت- الذي يقوم عليه التقسيط في بنك الراجحي نظام شرعي وسليم.(267/52)
حضور الدروس العلمية
السؤال
شاب يترك جماعته في صلاة المغرب ويأتي إلى الدرس العلمي وكذلك صلاة العشاء؟
الجواب
لا بأس في هذا، ما دام فيه خير ومصلحة، وهناك من ينوب عنه في ذلك.(267/53)
أسئلة من أمريكا
تحدث الشيخ -حفظه الله- عن المشاكل القائمة بين الشباب نتيجة الاختلافات الفقهية، وتكلم عن أقسام الخلاف وأنواعه والواجب فيه، ثم تعرض الشيخ لسؤالٍ حول تعارض العقل مع النقل، وبيَّن وجه الحق في ذلك، وتطرق لمصطلح (الديمقراطية) والفرق بينه وبين الشورى، كما تكلم الشيخ عن مصطلح (الإسلام السياسي) وعلاقة الدين بالسياسة، ثم عرَّج على قضية الحزبية في الجماعات الإسلامية والعمل الإسلامي.(268/1)
المفاهيم والخلافات الفقهية
السؤال
كيف نواجه المشكلات القائمة بين بعض المسلمين، بسبب [الخلافات الفقهية] أو ببعض [المفاهيم المكتسبة] مما تؤدي -أحياناً- إلى تبادل التهم بالتشدد أو العكس أو غير ذلك؟ وكذلك هذا يؤثر على المسلمين الجدد الداخلين في الإسلام سواءً من الغرب أم من غيرهم؟
الجواب
الخلاف الفقهي -يا أخي- يمكن أن يقسم إلى قسمين أيضاً:- القسم الأول: خلاف مبني على اجتهاد في الدليل الشرعي: فهذا مثل الخلاف الذي وقع بين الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وسلف الأمة، وكذلك الخلاف القائم بين المذاهب الفقهية الإسلامية المعروفة، المذاهب الأربعة وغيرها، والخلاف المبني على الاجتهاد في الدليل، مثل: اختلافهم في مسائل الطهارة، والصلاة، والزكاة وفي غيرها، بناءً على وجود أدلة شرعية لكل واحد منهم قد يفهمها بوجهٍ آخر، أو الدليل يصح عند هذا ولا يصح عند هذا، فمثل هذا الخلاف إذا اجتهد الإنسان وسعه إلى الوصول إلى الحق وتحري الصواب، فإنه إن شاء الله على خير -أصاب أم أخطأ- فهو إن شاء الله مأجور ومعذور.
القسم الثاني: الخلاف المبني على مجرد التقليد، كأن هذا يقلد شخصاً، وهذا يقلد شخصاً آخر، فلا شك أن الأصل أنه مذموم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] والواجب على المسلم المستطيع أن يتحرى في معرفة الأحكام الشرعية، فإن كان فقيهاً وعالماً تحرى في الأدلة والنظر في الأدلة، والتصحيح والتضعيف والاستنباط، وإن لم يكن كذلك فإنه يتحرى في اختيار القول الذي يأخذ به من الأقوال الفقهية، فلا يأخذ أقوال إنسان مهما كان أصاب أو أخطأ، وسواء أوجد معه دليل أم لم يجد معه دليل، بل على أقل تقدير أن يسأله عن دليله، ويحاول أن يتفهم هذا الدليل بقدر المستطاع.
وحتى إذا وصل الأمر إلى أن يقلده دون أن يفهم دليله، فهذا المستوى من التقليد لا يبيح له أبداً أن ينتقد الآخرين الذين خالفوه، أي لو فرضنا أن قلنا: إن التقليد ضرورة بالنسبة لفلان من الناس -مثلاً- لأنه لا يستطع إلا التقليد، فبهذه الحالة لا يتعدى الأمر أن هذا المقلد يطالب الآخرين -أيضاً- أن يقلدوا من يقلد، وأن ينتقد الذين يخالفونه في المسلك، أو في الاجتهاد، أو الذين ينظرون في الأدلة، وأيضاً ينبغي أن يكون ذلك كله بعيداً عن التراشق بالتهم والسباب والشتام وغير ذلك، وترديد العبارات التي نسمعها كثيراً من الدوائر الأجنبية، أو من الأجهزة المعادية للإسلام، أن هذا متشدد وهذا غير متشدد، وهذا معتدل وهذا غير معتدل؛ لأن هذا نوع من التمزيق للمسلمين.
والأخذ بالدليل والنص الشرعي والتحري فيه لا يمكن أن يوصف بأنه تشدد بحال من الأحوال، وربما يكون من أسباب المشكلة هذه في الغالب: ضعف العلم الشرعي وضعف الدعاة القائمين به، وعدم وجود مؤسسات علمية -جامعات مثلاً، أومعاهد- تسعى إلى تعليم المسلمين العلم الشرعي المبني على أصول شرعية، على فهم القرآن وعلى فهم الحديث، وعلى إدراك الأصول الفقهية والقواعد وغير ذلك، فهذه مشكلة موجودة حتى في البلاد الإسلامية نفسها، والجامعات الإسلامية، فضلاً عن البلاد الغربية، والله المستعان(268/2)
ضوابط خروج المرأة المسلمة
السؤال
ما ضابط خروج المرأة المسلمة في المجتمعات الكافرة -مثلاً- للدراسة أو الذهاب للأسواق وغير ذلك؟
الجواب
أولاً: خروج المرأة للحاجة، فتخرج لحاجتها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لأزواجه: {قد أُذن ليكن لتخرجن لحوائجكن} فينبغي للمرأة أن يكون خروجها من البيت إذا احتاجت إلى ذلك.
ثانياً: ثم خروجها ينبغي أن يكون مضبوطاً -أيضاً- بما لا يثير الفتنة، مثلاً: لا تتطيب لخروجها، ولا تتبرج بزينة {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] والنبي عليه الصلاة والسلام نهى أن تتطيب المرأة إذا أرادت أن تخرج حتى إلى المسجد للعبادة، فقال: {يخرجن وهن تفلات} يعني غير متطيبات ولا متزينات؛ لأن خروجها بالزينة والطيب، مدعاة للفتنة والإثارة.
ثالثاً: وكذلك ينبغي أن تتجنب أماكن الرجال ووجودهم وازدحامهم، بقدر المستطاع، فلا تفتن ولا تفتتن.
والضابط العام في هذا كله: هو درء الفتنة، درء الفتنة عن المرأة نفسها لئلا تفتن نفسها بالآخرين، ودرء الفتنة عن الآخرين لئلا تفتنهم بنفسها، كأن ينظروا إليها أو يظنوا بها سوءاً، أو يضايقوها بأمور ليست مناسبة، ونحن الآن نجد في المجتمعات الغربية، على الرغم من أن هذه المجتمعات أصبح وجود المرأة فيها عادياً معتاداً بين الرجال، وأصبحت المناظر يراها الناس صباحاً ومساءً، في السوق وفي أجهزة الإعلام، وهذا يقلل -بلا شك- من التأثر بها، ومع ذلك تجد أن هناك أرقاماً عالية جداً لمضايقات النساء في دوائر العمل، أو حتى ابتزازهن من قبل القائمين على العمل، من قبل رؤسائهن ومن قبل زملائهن في العمل، حتى في الدوائر العسكرية التي تعد ذات طابع جدي وصارم، فربما أنكم تسمعون وتعرفون أنه حتى في الدوائر العسكرية وجود المرأة أصبح مدعاة لتحرش الرجال بها على نطاق واسع.
والإسلام حينما وضع للمرأة شروطاً وضوابط؛ من أجل حفظ المرأة عن مثل هذه الأشياء، ومن أجل أن الرجل يكف نفسه، فلا يجد الشيء الذي يستمتع به إلا في البيت، وهذا يعطيه قوة في حسن التعامل مع أهله والعناية بهم والاهتمام، بخلاف ما إذا كان هذا الشيء مباحاً متاحاً له في كل مكان، فإنه لن يجد في بيته أي شيء آخر يعد جديداً في نظره.
فعلى كل حال المجتمعات التي فيها قدر كبير من التسيب الأخلاقي والانفتاح، واختلاط الرجال بالنساء، يجب على المرأة أن تحرص قدر المستطاع أن تبتعد عن ذلك، وأن يكون خروجها للحاجة وهي غير متطيبة ولا متزينة ولا متبرجة، وحينما تحتاج إلى محادثة الرجال فعليها أن تتمثل قول الله تعالى، في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] فتتكلم بكلام ليس فيه خضوع، ولا تكسُّر ولا إغراء بفتنة، ولا همس يدعو إلى الشك والإثارة، بل بكلام واضح محدد في الموضوع الذي تحتاج إليه، هذا أهم ما يحضرني الآن من الضوابط.(268/3)
مخالفة أحكام الشريعة
السؤال
نجد من إخواننا المسلمين من يخالف بعض أحكام الشريعة، التي قام الدليل على ثبوتها، بناءً على أن هذه أحكام لا تتمشى مع العقل والذوق، وكأنهم يجعلون العقل حاكماً على النص، فما نصيحتكم لهؤلاء؟ وما المجالات التي يعمل فيها العقل، ويجب ألا يتخطاها؟
الجواب
ينبغي أن نعلم أولاً: أنه لا يمكن أن يوجد تعارض حقيقي بين العقل والنص، هذا لا يمكن أن يوجد بحال من الأحوال، لأن منزل النص هو خالق العقل سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] فليس بين ما خلق الله تعالى وهو العقل، وكذلك الكون، وبين ما أنزل الله تعالى وهو (الوحي) ليس بينهما أي تضارب أو تعارض، بل هما يسيران على سنن الوثاق والوئام دائماً، لكن هذه القضية المجملة يجب أن يؤمن بها المؤمن، ولو لم يستطع أن يطبق كل تفاصيلها؛ لأن الإنسان قد يكون عقله -مثلاً- ناقصاً، فلا يستطيع أن يدرك مغزى النص، وقد يكون فهمه للشرع ناقصاً، فلا يستطيع أن يوفق بينه وبين العقل في مسألة معينة، إنما عليه أن يؤمن بهذه القاعدة الكلية إيماناً مطلقاً، لا يقبل الشك، ثم يجتهد في تطبيقها على تفاصيل الأحكام والأحوال والمسائل، ولذلك من الخطأ الكبير اشتعال خصومة بين العقل وبين النقل الشرعي، ومن الخطأ أن يتحدث المسلمون عن فلان أنه مثلاً فلان العقلاني، وكأن العقل منقصة ينبغي التبرأ منها، أو إن فلاناً نصوصي، وكأن ذلك تنقص له، يعني: أنه يهتم بالنصوص ويلغي دور العقل.
والأصل أن العقل والنص يسيران جنباً إلى جنب، فالنص -مثلاً- لا يمكن أن يفهم إلا بالعقل، وكلما كان الإنسان أكبر وأوسع عقلاً كان أقدر على فهم النصوص، وأقدر على استيعابها وأقدر على إدراك مغازيها، وأقدر على التوفيق بينها.
إذاً فالعقل هو الذي يفهم به النص، ويدرك به وتستنبط به الأحكام من مصادرها وأصولها، وكذلك العقل له مجال رحب بتطبيق النص على واقع الحياة، وتنزيل الأحكام الشرعية على مواضعها، وله دور كبير في استكشاف آفاق المجهول في الحياة، وفي معرفة السنن والنواميس، وفي معرفة النتائج من مقدماتها إلى غير ذلك من المجالات الواسعة.
أما المجالات التعبدية، والمجالات الاعتقادية المحضة، فهذه دور العقل أن يفهمها وأن يحتج لها، وليس دوره أن يشطب عليها أو يعترض أو يردها أو ينكرها، ولو أننا أفضينا بالعقل إلى هذا لكررنا الأخطاء التي وقع فيها بعض المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية، في فترة مضت، حينما أنهكوا العقل في التعرف على أسماء الله وصفاته، من حيث التكييف ومن حيث الإثبات والنفي إلى غير ذلك، فأضاعوا جهودهم في غير طائل، بل أضاعوا جهودهم في أمر عاد على المسلمين بشيء كبير من الضرر، انهماك في قضايا غيبية لا مجال للعقل في إدراكها، وانشغال العقل عن مجالاته الطبيعية في أمور الحياة التي يمكن أن يثمر فيها، أو حتى في معرفة الجوانب الشرعية التي تعرف بالعقل فعلاً، كما أكدت نماذج من ذلك.
الجانب الثاني: نقول فيما يتعلق بالنصوص الشرعية: وجود من قد يجهل نصاً، ليس غريباً في هذا العصر أن يوجد من تخفى عليه بعض الأحكام أو كثيراً من الأحكام، فعلينا أن نحرص قدر المستطاع على الصبر على من يكون هذا شأنه، وأن لا نواجه هؤلاء بكثير من التسخط والانزعاج؛ لأن هذا الزمان (زمان غربة الدين) فالجاهل فيه ليس غريباً، فالغريب فيه أن يوجد العلم، خاصة في المناطق البعيدة والنائية والبلاد التي طال عهد المسلمين فيها بالجهل، وبَعُدَ عهدهم بالنص والعلم والشرع.
ولاشك أن هذا هو زمان الغربة، وأننا ينبغي أن نصبر على المسلمين، وألا نستغرب أن يجهلوا بعض أحكام الدين، فلا يدعونا هذا -مثلاً- إلى رميهم، أو إلى التسخط عليهم، أو اتهامهم، بل ينبغي أن نحلم عليهم وندرك أن هذا جزء من مدلول الحديث النبوي، الذي يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: وهو حديث صححه جماعة من أهل العلم {إنكم في زمان من ترك عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من عمل بعشر ما أمر به نجا} وعندما نقرأ حديث الغربة مثلاً، نعرف أن جزءاً من الحكمة في الإخبار بهذا الخبر، حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام {وسيعود غريباً كما بدأ} أنه إنما أخبر بذلك حتى يكون الداعي، والعالم، وطالب العلم، والمرشد والمعلم صبوراً على الناس، لا ينفعل أو ينزعج إذا رأى منهم -مثلاً- مخالفة له، أو إعراضاً أو عدم قبول، أو ما أشبه ذلك، ويفسر ذلك بأن هذا زمان الغربة.
ولا شك أن من كان عنده علم أوفهم أو دين، أو دعوة في مثل هذه الأوقات، (أوقات الغربة) ينبغي أن يكون عنده مع ذلك طول نفس وسعة صدر، وصبر على الناس، وقدرة على تحمل مخالفتهم له، حتى يستطيع أن يحقق ما يصبو إليه من التعليم دون أن يكون سبباً في مزيد من كثرة الاختلافات بين المسلمين، أو كثرة القيل والقال، أو تباعد النفوس، أو اختلاف القلوب أو ما أشبه ذلك من الآثار والأضرار التي قد تكون عوائق أمام دعوته، بحيث ينظر الناس إليه على أنه سبب في تفريق الكلمة، يظنون هذا لعدم علمهم، بالاختلاف بين المسلمين أو ما أشبه ذلك.
فعلى الداعي أن يتذرع بمزيد من الحلم والصبر وطول البال، والأناة مع الناس، وكما مدح النبي صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة} فنحن أحوج ما نكون، خاصة الذين يحملون الحق، ويحملون المنهج الصحيح، أحوج ما يكون أن يقدموه في قالب من الود والحلم والأناة والصبر، ومغفرة أخطاء الناس، كما قال الله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] أما كوني كلما وجدت من الناس تلوماً أو تباطؤاً أو مخالفة لي، أو عدم قبول ما عندي مما أعتقد أنه حق، أشهرت فيهم سلاح النقد والتجريح وما أشبه ذلك من التعيير، وتكلمت عنهم بكثير من التبرم، فإن هذا يدل على نقص عندي، وهو سبب من أسباب عدم قبول الدعوة، أسأل الله تعالى للجميع التوفيق.(268/4)
الخلافات السياسية
السؤال
هناك مشكلة تعاني منها المراكز والتجمعات الإسلامية، وهي عن كيفية معالجة الخلافات التي تحدث بين بعض المسلمين بسبب الخلافات السياسية بين حكوماتهم؟
الجواب
يا أخي ينبغي للمسلم في مثل بلادكم، (البلاد التي تعيشون فيها) أن لا يشعر أنه جاء لهذه البلد، ليتكلم باسم حكومة ينتمي إليها -مثلاً- أو يمثل هذا الحكومة أو تلك، وإنما جاء لهدف محدد، جاء للتأليف، للدراسة، للدعوة، جاء لغرض واضح، وبالتأكيد فهو يقول: إنه لم يستشر في أي موقف من المواقف التي تقوم بها الدولة التي ينتمي إليها مثلاً، وبالتالي فهو غير مسئول عنها، فلا ينبغي أن يحمل أحد مسئولية شيء لم يفعله، ولم يؤخذ رأيه فيه أصلاً.
وهذا أمر بديهي معروف لدى الجميع، أي منظمة أو أي دائرة أو أي جهة لم تستشر أفرادها ولم تستشر المنسوبين إلى البلد التي تكون منه فيما تفعل وما تترك وما تأخذ وما تقول، ومن تفاوض ومن تصادق ومن تعادي، وماذا تفعل، فلا ينبغي أن نحاسب هؤلاء على ذنب لم يقترفوه، أو شيء لم يقولوه أو لم يوافقوا عليه، كما أنهم هم -أيضاً- لا ينبغي أن يدافعوا عن أشياء ومواقف ليسوا مسئولين عنها، ولم يؤخذ رأيهم فيها.
ينبغي للمسلمين أن يعدوا وجودهم في هذه البلاد فرصة لتحقيق الإخاء الإسلامي، وفرصة للتعارف، وحينما أقول التعارف (لا أعني التعارف بالأسماء فقط) بل تعارف المواهب، وتعارف الملكات، والإمكانيات التي يستطيع كل مسلم أو مجموعة من المسلمين أن يقوموا بها، وبالتالي التعاون في هذه المجالات وتكامل الجهود الإسلامية، يكمل بعضها بعضاً ويعز بعضها بعضاً، كأن تكون مجالاً لأن يتبنى كل إنسان موقف جماعة بعينها، أو حكومة أو منظمة أو جهة ويدافع عنه، لمجرد أنهم ينتمون إلى البلد الذي هو فيه مثلاً، فينصر قومه وقبيلته بالحق وبالباطل، ويتعصب لذلك، ويتبناه، ويكون هذا سبباً في العداوة، وربما يقاطع هذا المسجد أو هذا المركز أو هذه المجالس؛ لأن الأغلبية التي فيها من مجموعة أخرى، أو من جنسيه أخرى، أو من بلد آخر.
أنا أقول بصراحة: إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد فلا حول ولا قوة إلا بالله، أنا أخاف أن أقول لا خير فينا، يعني: قد نفسر بعض الأوضاع التي يعيشها المسلمون أنها أوضاع اضطرارية ليس لهم فيها يد، لكن إذا كان هذا الداء انتقل إلى مثل تلك البلاد التي تعيشون فيها، وهي بلاد المسلم فيها حر يستطيع أن يقول ما يشاء، وأن يفعل ما يشاء مما يعتقد أنه حق وصواب، ومع ذلك تجد أن هذا المسلم ينحو المنحى الذي يعد خطأ، يحتاج إلى من يفسره أو يعتذر عنه، ويترك ما يعتقد أنه صواب فهذا أمر محزن فعلاً، أن تنتقل الخلافات (جرثومة الداء) إلى البلاد التي ينبغي أن تكون فرصة للمسلمين حتى يزيلوا الخلافات الموجودة بينهم، وحتى يتعارفوا من خلال مؤتمرات، أو جلسات، أو زيارات، أو ندوات، أو لقاءات تُعقد، تكون سبباً في إزالة هذه الشحناء وبتعارف المسلمين بعضهم ببعض.
أقول: المسلمون -أيها الأخ الكريم- يؤملون آمالاً كبيرة في الإخوة الموجودين في مثل هذه البلاد، أن يفلحوا في التغلب على الأوضاع المأساوية التي يعيشها المسلم في بلادهم الأكثرية، فإذا كان الداء ينتقل إليكم أنتم، فهذه مشكلة تجعل منا -أحياناً- أن نعيد النظر في تقويمنا لما وصل إليه المسلمون من وعي وإدراك، وأنهم في الواقع يكررون أخطاءهم في كل مكان، ويعيدون الشريط نفسه، ويجترون الآلام من جديد، وأنهم ما زالوا دون المستوى المطلوب، أقول: إذا كان الأمر بهذا الشكل، فهذه نتيجة مؤلمة ولا شك.(268/5)
تربية أولاد المسلمين في بلاد الكفار
السؤال
تربية الأولاد هاجس يشغل بال كل مسلم، يعيش في مثل هذه الدولة الكافرة، ما هي النصيحة التي يقدمها الشيخ لمثل هؤلاء؟
الجواب
تربية الأولاد حتى في البيئات النظيفة والطيبة والمسلمة، تعد مشكلة تحتاج إلى جهد، إذا كانت البيئة سيئة والولد -مثلاً- بنتاً أو ذكراً يواجه في المدرسة اختلاطا وألوناً من الفساد، ويواجهه في الشارع، ويواجهه في جهاز التلفاز، الذي قد يملأ بمشاهد كثيرة من هذا القبيل، فإن الجهد يتضاعف على الأب، فلا بد من جهد يقوم به الأب، ولا بد من تنسيق وتعاون بين الأبوين، بحيث تقوم الأم -أيضاً- التي قد تكون أكثر تفرغاً بدور كبير في هذا المجال.
ويمكن هذا بطبيعة الحال من خلال: توفير الكتب، وبعض الأشرطة التخصصية للأطفال، وتحفيظهم بعض الأذكار وتربيتهم على الأخلاق الإسلامية التي تناسب مستواهم، كذلك ينبغي أن يكون هناك مجهود جماعي مشترك للمسلمين مثلاً، في هذه الولاية أو في هذه المدينة، أو في هذا المسجد أو المركز، بإيجاد نشاط للأطفال، في تجمع مسائي -مثلاً- أو في أي وقت من الأوقات، أو مدرسة لتعليمهم، والإتيان بهم إلى المسجد، وأن يكون في المسجد مكتبة خاصة للأطفال، وأن يكون هناك برنامج مشترك بينهم، حتى قد يقوموا به فيما بينهم، يكون دور الكبار فيه مجرد الإرشاد والتوجيه، كما أن عليهم أن يتعاملوا مع الأوضاع السيئة التي يشاهدها الأطفال، في تفسيرها لهم وبيان ما فيها من خطأ، وبيان ما فيها من ضرر، حتى يتدرب الطفل منذ صغره على رفض الخطأ، وعلى إدراك الخطأ أيضاً، إدراكه ثم رفضه؛ لأنه من أخطر الأشياء أن يتطبع الطفل مع بعض الأوضاع القائمة ويعتقد أنها صواب، فهو بحاجة دائمة إلى أن يُبين له إلى أن هذا وإن كان موجوداً إلا أنه خطأ، وأن الذين يقومون بهذا الشيء -مثلاً- هم كفار، أناس من الكفار، أو من الفساق، أو حتى هذا العمل وإن فعله مسلم إلا أنه غلط، والواجب أن يفعل المسلم كذا والصواب هو ما يفعله فلان، والطفل بالتدريب والتكرار يمكن أن يفهم ذلك.(268/6)
النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي
السؤال
ما الفرق بين النظام الديموقراطي والنظام الإسلامي؟ وهل يصح قول بعضهم: إن عمر وأبا بكر رضي الله عنهما من زعماء الديمقراطية؟ وما معنى حرية الرأي في الإسلام؟
الجواب
النظام الديموقراطي في الأصل مأخوذ من كلمة "ديموقراطيك" وهي فيما أعلم كلمة يونانية معناها حكم الشعب، إذاً الديموقراطية يقصد بها حكم الشعب، وفي البيئات التي نشأ فيها هذا المصطلح لم يكن للشريعة مقام ولا وجود أصلاً -لم يكن للنص الإلهي والحكم الإلهي "بمعنى التشريع"، لم يكن له وجود- فكانت هذه الكلمة تنطلق على حكم الشعب في المجالات التشريعية، بمعنى أن الشعب هو الذي له سن الأنظمة والأحكام والقوانين، فالشعب -مثلاً- هو: الذي يحكم بأن هذا الشيء أحلال هو أم حرام، حق أم باطل، خطأ أم صواب، وهو الذي يضع الأنظمة التفصيلية أيضاً في كل شئون الحياة، وكذلك الشعب له حق السلطة التنفيذية والقضائية، بمعنى أن الشعب هو الذي يمارس تنفيذ القوانين، فيكون الشعب هو مصدر التشريع وهو مصدر السلطات، وبناءً عليه لا يكون للشرع حكم أو مرجعية، هذا أصل وجود الديموقراطية.
وهو كذلك بالنسبة للديموقراطية اللبرالية الغربية، فهي تقوم على أساس علماني لاديني، على أساس عدم دخول الدين في السلطة، ولذلك فإن البرلمانات الغربية والمجالس أياً كان اسمها، هي التي تسن القوانين وتشرع، فمن الممكن أن تخرج -مثلاً- في هذا العام قانوناً فحواه: أن الشذوذ الجنسي مثلاً مباح، فيكون مباحاً كما هو الآن الجدل الدائر في أمريكا وفي غيرها، وهكذا كل الأشياء الأخرى، فهذه الديمقراطية العلمانية اللبرالية تقوم على أساس إقصاء الحكم الإلهي والتشريع الرباني، وإحلال الفرد كما لو كان إلهاً يحكم ويشرع ويأمر وينهى، كما قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] وهذا لا شك أنه شرك في الألوهية والربوبية وإعطاء حق التشريع لغير الله تعالى، والله تعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .
أما المعنى الثاني: الذي يستخدمه بعض الكتاب، فقد يستخدمون مصطلح الديمقراطية نفسه، ويقصدون به المشاركة الشعبية في إدارة دفة الحكم، من خلال انتخاب الشعب بنوابه وممثليه ومن يكونون في دوائر تنفيذ الأمور، دون أن يكون لهم تدخل في التحليل والتحريم، ولا علاقة بالأحكام الشرعية، وفي ظل إقرار الجميع بأن الشريعة، هي شريعة الله، وأن الحكم حكم الله، وأنه لا يحق لأحد فرداً كان أو جماعة أو أمة أن يغير شريعة الله تعالى، لا من خلال اختيار ولا من خلال انتخاب، ولا من خلال تصويت، ولا غير ذلك، بل الجميع مقرون بأن شريعة الله تعالى هي المرجع، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وبعض الكتاب الذين يتحدثون من منطلق إسلامي، يقصدون هذا المعنى، لا يقصدون المعنى الأول؛ لأن المعنى الأول هو بلا شك يعني منح التشريع لغير الله تعالى كما أسلفت، وهذا شأنه كما اتضح.
حتى المعنى الثاني لا أرى أبداً استخدام الكلمة، لأن الكلمة غربية أجنبية، لها مصطلح له ظل، وله معنى خاص، واعتبار أن الديموقراطية الغربية هي النظام الإسلامي بلا شك خطأ، لأن الإسلام مستقل بمصطلحاته وعباراته كما هو مستقل بنظمه وأحكامه، فالإسلام جاء بالشورى نعم، فـ عمر ومن قبله أبو بكر ومن قبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا أئمة الشورى، والله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ولا شك أن النبي عليه السلام كما قال عنه أبو هريرة: [[لم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم]] كان يستشيرهم في أمور كثيرة، من أمور الحرب، والسلم والأمن والخوف وغير ذلك، مما هو معروف من هديه وسيرته عليه الصلاة والسلام، والشورى فيها منافع وفوائد عظيمة جداً: منها: تدريب الأمة على المشاركة، وألا تحول الأمة إلى قطيع يساق دون أن يكون له رأي.
ومنها: تدريب الأمة على المواقف والأزمات.
ومنها: الاشتراك في تحمل التبعات والمسئوليات، وألا يتحملها فرد أو أفراد بأعينهم، ويتحول البقية إلى نائمين في وقت الأمن، ولائمين في وقت المصائب والأزمات، وحصول ضد ما هو متوقع، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة التي ليس هذا مجالاً للحديث عنها.
فالنظام الإسلامي نظام شوروي، نعم، ولا شك أن من الشورى أن يشترك المسلمون في الاختيار، كما حدث في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فإن عمر رضي الله عنه لم يحدد الخليفة من بعده، بل جعل الأمر في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فترتب على ذلك أنهم فوضوا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، في سؤال الناس، فكان يسأل الرجال والنساء حتى العذارى في خدورهن، ويأخذ رأيهم في ذلك؛ وبناءً عليه جعل الأمر في علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، ثم آل الأمر إلى اختيار عثمان بن عفان بالتخصيص، فكان هو الخليفة الراشد الثالث على ما هو معروف تفصيله في التاريخ.
فالمقصود أن هذا الأمر لا داعي أبداً أن يسميه بعضهم بالديموقراطية، لأن الإسلام مستقل في أحكامه وشرائعه، كما هو مستقل بمصطلحاته وعباراته، وإطلاق مصطلح أجنبي أو غربي أو حتى في الأصل وثني غير شرعي، على أي حكم من أحكام الشريعة فيه إجحاف بحق الشريعة، وقد يكون فيه نوع من التلبيس.
والعذر الذي قد يقدمه بعضهم، هو أن هذا المصطلح أصبح مصطلحاً مشهوراً دارجاً عند الناس معروفاً، هنا نقول: إن الإنسان عليه أن يبين من يستخدم هذا المصطلح بعينه، بل يبين أن المصطلح الذي هو الديموقراطية -مثلاً-، إن أريد به المشاركة التي وصفتها -كما سبق- فهذا صحيح وجاء في الإسلام، لكن الإسلام لا يطلق عليه مثل هذا المصطلح، وإن أريد به أن الشعب له حق التشريع والنقض والاعتراض على ما أنزل الله، فهذا معنى باطلٌ شرعاً، وليس لأحدٍ من الناس حق الاعتراض على ما أنزل الله تعالى، وحكم وقرر وقضى، والأمر يتطلب مزيداً من التفصيل بلا شك؛ لأنها قضية خطيرة وكبيرة، وهي أحد الإشكاليات التي يكتب فيها المعنيون بالسياسة الشرعية في هذا الزمان، لكن هذه عجالة تناسب ضيق الوقت.(268/7)
الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة
السؤال
حمل المسلمون الأوائل دعوة الإسلام عن طريق الجهاد، تحت راية الدولة الإسلامية، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، هل مازال الجهاد هو الطريق الرئيسي لحمل الدعوة؟ وكيف نحيي هذه الفريضة؟
الجواب
علينا أن نحدد أولاً: ما هو الجهاد؟ إذا كان المقصود من الجهاد القتال، فلا شك أن القتال هو شريعة، والجهاد بهذا المعنى شريعة محكمة غير منسوخة، وهو باقٍ إلى قيام الساعة، ولا تزال طائفة من هذه الأمة تقاتل أعداءها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكن ليس هو الطريق الوحيد، بل هناك الدعوة، والدعوة تسبق القتال بلا شك، ولهذا أوصى النبي عليه الصلاة والسلام، القادة من أصحابه كما في حديث بريدة في صحيح مسلم: {إذا لقي عدوه من المشركين أن يدعوه إلى الإسلام أولاً} فالدعوة تسبق القتال.
ولهذا على المسلمين أن ينشطوا في مجال الدعوة إلى الله، وفي مجال الاستفادة من الفرص الإعلامية المعاصرة، وهي فرص ضخمة جداً بالدعوة إلى الله عز وجل وفي نشر الإسلام، وفي تحريك عقول الآخرين للبحث عن هذا الدين، واكتشافه كما يقولون؛ لأن الكثيرين قد أخفت عليهم وسائل الإعلام، واليهودية وصورت الإسلام بأنه دين العنف، ودين سفك الدماء، ودين الإرهاب، ودين التضييق على المرأة، ودين مصادرة حقوق الإنسان إلى غير ذلك، واستخدمت بعض ما يعانيه المسلمون في بلادهم، من تخلفٍ، وضعفٍ وبعدٍ عن الدين، وعدت هذا هو الدين.
ولا شك أن بين واقع المسلمين وبين حقيقة الدين بونٌ شاسع، ولا يمكن أن يحاكم الدين إلى واقع الناس، مع أن واقع الناس قام على غير أساس الدين، والقائمون على الدين من العلماء والمصلحين، يسعون إلى تقريب هذا الواقع إلى الدين، فالمقصود أن هناك انشطاراً حقيقياً بين واقع المسلمين وبين الإسلام، وهذا قد يحدث إشكالاً عند الكثيرين من البسطاء والعامة الذين لا يمكن أن يفهموا الدين فهماً نظرياً، إلا في ظل واقع عملي يشار إليه، ويقال لهم: هذا هو الإسلام، وهذا هو الدين، لكن مع ذلك ينبغي أن نحرص: أولاً: على تكوين الواقع العملي في التجمعات الإسلامية، ولو كانت صوراً مصغرة.
ثانياً: وكذلك نحرص على شرح الإسلام ودعوتهم إلى اكتشافه، ونشر الكتب المنصفة التي تبين حقيقية الإسلام في أوساطهم، حتى تتم الدعوة.
ثالثاً: وعلينا لكوننا مسلمين، أن نسعى إلى الإستفادة من الفرص الإعلامية الضخمة الموجودة في هذا العصر، عصر ثورة الاتصالات من خلال الكمبيوتر، ومن خلال التلفزة، والإذاعة، والصحافة، إلى غير ذلك من وسائل الاتصال السريعة والحديثة، وأن نستغلها في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي إيضاح القضية الإسلامية، فهذا واجب ضخم وعظيمٌ جداً علينا، وهذا لا يعني أن الجهاد بالقتال مؤجل إلى أن تتم الدعوة؛ لأن الدعوة أولاً: ليست واجباً مؤقتاً، بل هي واجبٌ دائم.
وثانيا: لأن هناك مواقع، وهناك بعض البلاد، وبعض الرقاع تواجه عدواناً وتسلطاً من أعداء الدين، سواء كانوا يهود كما هو الحال في فلسطين، أم نصارى كما هو الحال في بلادٍ كثيرةٍ جداً، كالفلبين مثلاً، أو السودان، أو عدة مناطق أفريقية أو غيرها، أو كانوا سيخاً أو وثنيين كما هي الحال في كشمير، أو كانوا شيوعيين، أو كانوا مرتدين أيضاً.
فالمقصود أن هذه المواقع التي يواجه المسلمون فيها تسلطاً من عدوهم، ومصادرة لحقهم في الحياة، وحقهم في العبادة، وحقهم في إقامة شريعة ربهم، أن عليهم واجباً وهو أن يقاوموا عدوهم، وأن يغالبوه كما قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-42] .
فهذا أيضاًَ واجب بإزاء ذلك الواجب.
وبشكل عام فإن الجهاد ميادينه واسعة، فهناك من يجاهدو في الثغور، وهناك من يجاهد في مجال التعليم، وهناك من يجاهد في مجال الإعلام، وهناك من يجاهد في مجال الدعوة، وهناك من يجاهد في إصلاح أحوال المسلمين، وهناك من يجاهد في مجال دعوة غير المسلمين وشرح القضية الإسلامية لهم، وهكذا مجالات الجهاد واسعة جداً، وهناك من يجاهد أيضاً في مجال الاقتصاد، وهو مجال ضخم وخطير في هذا العصر، وعلى المسلمين أن يعملوا على القيام بهذه الفروض الكفائية، كلٌ بالمجال الذي يشعر بأنه يتقنه ويجيد فيه أكثر من غيره.(268/8)
موقفنا مما يجري من الأحداث في أفغانستان
السؤال
فضيلة الشيخ ما موقفنا مما يجري في أفغانستان، وأي الأطراف أولى بالتأييد والدعم؟
الجواب
الحقيقة الصورة قاتمة ومظلمة، وأنا أتكلم أقول لك عن نفسي وأقول لك عن قطاع عريض، بل عن كل من رأيت من الناس، من عامة وخاصة وطلبة علم ومتعلمين، وغير متعلمين، ومتحمسين لقضية الإسلام وغير متحمسين، كل من لقيت وجدت أنه مستاءٌ جداً مما يجري في أفغانستان، ولا شك أن الوضع سيء ومؤذي، وأنا أعد أن ما يجري نكولٌ عن الجهاد، الذي قام نُشوبه على مدى أربع عشرة سنة هناك، وتحركت همم المسلمين إليه، وكان محط آمالهم على مدى السنين كلها، وكم استنزف فيه من أموال ومن دماء ومن جهود، ومن دموع، وفي النهاية يتحول الأمر إلى صراع محتدم بين أطراف المجاهدين.
أقول: إن ضراوة المعركة التي تجري الآن، بكل تأكيد لم تحدث على مدى الأربع عشرة سنة الماضية، يوم كان القتال من الشيوعيين أنفسهم، وقد أصبحنا شماتة لعدونا في الإعلام، وفي المجالس العامة والخاصة، وفي الدوائر وفي غيرها، فمتى يصح الإخوة المجاهدون في أفغانستان، ومتى يثوبوا بإخوانهم الذين تبنوا قضية الجهاد في كل البلاد، ومتى يصبوا إلى رشدهم ويدركوا أن سعي كل طرف لتدمير الطرف الآخر، سعي بغير طائل، وأنه تدمير لأنفسنا بأيدينا، وأن هذا تشبه بأهل الكتاب الذين قال الله عنهم: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر:2] وادعاء أن القضية لن تتوقف بعد، وأن المعركة ما زالت قائمة، ومثل هذا الكلام أنا أقول عن نفسي، الإنسان لا يستطيع أن يتحمل مثل هذا الكلام، نحن نلوم المجاهدين بصراحة جميعاً، وكل الأطراف ولا نجد أن هناك حاجة إلى دراسة أي الطرفين أولى بالدعم، لأن هذا الموضوع موضوع شائك وغير واضح، والقضية متناقضة في الواقع، ولو فرض أن واحداً مثلاً استطاع أن يقول: إن هذا الطرف أو ذاك، فإن هذا الأمر من الصعب أن تدركه الجماهير التي تحمست زماناً طويلاً لقضية أفغانستان.
وكما نلوم الإخوة في أفغانستان، فإننا نلوم أنفسنا -أيضاً- معشر المسلمين، إذ كيف يستمر القتال الضاري ومن قبله الخلاف السياسي زمناً طويلاً دون أن يكون عند المسلمين آلية عملية قوية لحسم المنازعات، والضغط على الأطراف حتى ترضى وتقبل بالحلول السلمية، والحوار بين الأطراف المختلفة، ولذلك أذكركم أنتم أيها الإخوة بواجبكم؛ لأنكم تستطيعون ما لا يستطيعه المسلمون في بلادهم في كثير من الأحيان، من الضغط على هؤلاء الإخوة، وبعث الرسائل إليهم والعرائض وليوقعها آلاف، أو حتى عشرات الآلاف من المسلمين، تحتج على ما يجري، يذهب وفود مثلاً، تتكلم باسم المسلمين، وتقول للإخوة المجاهدين هناك كفوا، كفى! كنا نريد أن تكون أفغانستان منطلقاً لتحرير المسلمين في الجمهوريات السوفيتية الأخرى، ومنطلقاً للنور وللدعوة، وللعلم، فإذا بنا نفاجأ أن المهاجرين الطاجيك مثلاً في أفغانستان، أصبحوا يعانون أوضاعاً في غاية الصعوبة، بسبب الوضع المتأزم في أفغانستان، وقد يطحنون بين الطرفين المتنازعين، كما هو الحال في قندز وغيرها، فكم هذا الأمر محزن، ومؤسف، وكما قلت لأحد الإخوة سألني أنه أصبح المسلمون حتى مجرد البكاء أحياناً لا يملكونه:- وليس البكا أن تسفح العين إنما أحر البكا عين البكاء المولد والله تعالى المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأرجو -يا أخي- أن تبلغ إخوانك المسلمين بهذه الوصية لعل الله يجعل في ذلك بعض الحزم.(268/9)
الدعوة إلى الله في جميع المجالات
السؤال
بعد توقيفكم يا شيخ لعلكم أن تحدثونا عن المشاريع والأعمال التي تنهمكون فيها؟
الجواب
ربما تفاصيل الأعمال لا يكون هناك مجال واضح للحديث عنها، لكني أحاول أن أبذل جهدي فيما يتاح لي من خدمة لإخواني المسلمين، ودائماً ينبغي أن نعلم أن الدعوة ليست مجرد كلمة تقال في مسجد أو درس، فهذه الكلمة التي تقال عبر شريط، أو كتاب أو في مجلس عام أو خاص، هذه الكلمة هي دعوى وادعاء، والواقع هو الذي يصدقها أو يكذبها، والموقف هو الذي يصححها أو يخطئها، فعلينا أن نصدق أقوالنا بأفعالنا، بوضوح المبدأ ووضوح الهدف، وعدم الانحراف أوالركون أو الضعف أو المتاجرة بالمبدأ، هذا هو الشيء الأساس الذي ينبغي أن يحرص عليه الداعية؛ لأن الناس يسمعون الداعي يتكلم، فقد يكون كلامه جميلاً، وقد تكون عباراته معسولة، وقد تكون أفكاره جيدة أيضاً، لكن ربما هذا هو كل رصيده، وكم من داعية أو طالب علم أو عالم يخفق في أول اختبار عملي يواجهه في الحياة، فنحن نعد أن ما يقع ويجري فرصة لأن نختبر أنفسنا، ما مدى صبرنا على ما نلقاه في ذات الله تعالى!، ما مدى استعدادنا لتحمل الأذى في سبيل ما نعتقد أنه حق وصواب! إن الإنسان تتقلب به الأحوال تقلباً كبيراً، فالإنسان قد تمر به حالة قوة، وقد تمر به حالة ضعف، وقد تمر به حالة صحة، وقد تمر به حالة مرض، حالة غنى حالة فقر، والصورة المثلى التي ذكرها الله تعالى في القرآن، هي صورة ذلك المؤمن الذي هو المؤمن في كل الظروف، ولهذا عاب الله تعالى على أقوام، إذا أوذوا غيروا، كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] .
كما عاب سبحانه على طوائف من الناس، إذا جاءهم الضر آمنوا، وإذا جاءهم الفرج والسعة انحرفوا وابتعدوا، كما قال سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] والمؤمن الحق هو من لا تغيره الشدائد والظروف، ولا تقلبات الأحوال، فهو يتعبد الله تعالى بأنواع العبادة، القوة لها عبادة، والضعف له عبادة، والغنى له عبادة، والفقر له عبادة، والصحة لها عبادة، والغنى له عبادة، والمرض له عبادة، والسفر له عبادة، والإقامة لها عبادة، وكل حال من الأحوال والتقلبات لها عبادة محددة في الشريعة، فالله تعالى يبتلي عباده بما شاء من ذلك، وهذا هو المحك الحقيقي.
فمن الناس -مثلاً- من قد يندفع بالدعوة ويسير في طريقها، ويلمع نجمه في تيار الاندفاع، والقوة والتقبل والفرص المفتوحة، لكن إذا أصبحت هذه الفرص تتضايق، أصبح يبحث عن الفرص حتى ولو على حساب ما يعتقد، وما يدين به وما يؤمن به.
ومن الناس من يعد أن هناك قضايا يقف عندها، حتى لو أدى ذلك إلى تفويت بعض الفرص عليه؛ لأنه ليس همه أن يهتبل الفرص ولا همه أن يقف أمام الناس ليتحدث، ولا همه أن يشتهر -مثلاً-، ولا همه أن يتعاطى الناس اسمه، إنما له هدف واضح في الدعوة إلى الله يسعى في تحقيقه بنفسه أو بغيره، ولو يعجز عن التحقيق بسبب شرعي، يعد أنه قد أدى ما عليه وبرئت ساحته، ويلجأ بعد ذلك إلى ما يستطيعه من الوسائل الشرعية، وهو موقن بأنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وأرجو أن تعفيني من الكلام بالتفصيل بطبيعة الحال، وإن كان الحمد لله أكثر الإخوة يعرف أن هناك مجالاً واسعاً لمزيد من القراءة والاطلاع، الذي يحتاج إليه الإنسان، وقد ينشغل عنه ببعض النشاطات الدعوية، ونحن بحاجة إلى أن نجدد أنفسنا ونجدد عقولنا ونوسع مداركنا باستمرار، ولا نقف عند حد معين، -ككتابة بعض الكتب، أو تصحيح بعض المحاضرات السابقة وإعدادها للطباعة لتطبع، إذا أتيحت فرصة في أي مكان من الأرض-، والحمد لله أبشركم -باختصار- بأنني قطعت شوطاً طيباً، أشعر بأنني لم أكن راضياً عنه إلا أنني أعتقد بأنه أمر جيد، والحمد لله تعالى.(268/10)
تعدد الجماعات الإسلامية وأثرها على الصحوة
السؤال
كيف يرى الشيخ تعدد الجماعات الإسلامية في الساحة وآثارها على واقع الصحوة؟ وكيف يمكن تقليص الخلاف بينها؟
الجواب
التجمع من أجل الدعوة إلى الله تعالى، لا شك أنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] لكن ينبغي أن يكون هناك أيضاً وحدة للعمل وتقارب، كما أمر الله في قوله سبحانه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وقوله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فكلما أمكن توحيد العاملين للإسلام، كان هذا ألزم وأوجب.
فإذا كان هناك مدعاة للاختلاف أو سبب للاختلاف مقبول شرعاً، كأن يكون الاختلاف كما يقال: اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد، ومعنى اختلاف التنوع: أن كل إنسان يعمل في مجاله، وكلها مجالات مشروعة، والمسلمون محتاجون إليها، فهذا لا بأس به.
ومثله -أيضاً- أن يكون الاختلاف ناتجاً عن اختلاف الظروف السياسية، والظروف الاجتماعية من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، فهذا أيضاً اختلاف مقبول.
ومثله أن يكون الاختلاف ناتجاً عن الاختلاف في الاجتهاد فيما يجوز الاجتهاد فيه، في هذه الأُطُر يكون الاختلاف مقبولاً، بشرط ألا يؤدى إلى التفرق؛ لأن الله تعالى نهى عن التفرق قال: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ؛ فالتفرق منهيٌ عنه مطلقاً، وهو تنافر القلوب واختلافها، وتضاد الجهود وتناقض القوة، بحيث يكون الإنسان كارهاً للآخر، أو ينتقص حقه وحق أُخوته الإسلامية بسبب اختلافٍ معه، أو ما أشبه ذلك من الأسباب والصور التي تكون مذمومة شرعاً، فينبغي أن نفرق بين موضوع الاختلاف الناتج عن أسباب شرعية، وبين الاختلاف الناتج عن الهوى، أو الناتج عن الجهل، وأيضاً يجب أن يفرق بين الاختلاف الذي يكون مصحوباً بحفظ حقوق الأخوة، وحسن الظن وتقديم المساعدة والتعاون على البر والتقوى، وبين اختلاف يكون نتيجتة التناحر والتباغض، وربما يساعد الأخ عدوه على أخيه.(268/11)
الضغط الجماهيري وأثره على الصحوة
السؤال
الضغط الجماهيري إلى أي درجة يمكن الاستفادة منه وكيف يمكن تحريك مثل هذه القوة يا شيخ؟
الجواب
لا شك أن كل مسلم ينبغي أن يستفاد منه بقدر طاقته وشخصه، وليست الواجبات الشرعية مقصورة على فئة معينة، فليست مقصورة على العَالِم، ولا مقصورة على الحاكم، ولا مقصورة على الداعي، وإنما هي شاملة للجميع، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر أصحابه بالصدقة: {تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة} .
ففي مجال الصدقة نحن لا نعدها موقوفة على التجار، وإنما نطالب أيضاً متوسط الحال، أو من هو دون المتوسط أن يساهم بقدر جهده، وهكذا كل التكاليف الشرعية، يطالب الإنسان فيها بقدر جهده، وإذا كان هذا في التكاليف الفردية التي تلزم الإنسان، فالتكاليف العامة التي تجب على الأمة كلها إذا حصل فيها تقصير وهي الواجبات الكفائية، كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وما أشبه ذلك من الواجبات العامة، المنوطة بعنق الأمة كلها.
وأيضاً يجب على كل إنسان قادر بحسب إمكانياته فيها، والملاحظ أن كثيراً من خصوم الإسلام، سواء أكانوا خصوماً أصليين، كالكفار الأصليين، أم كانوا خصوماً طارئين كالمرتدين والمنافقين وضعاف الإيمان -أيضاً-، يحاولون تحجيم وجود الأمة الإسلامية، عن طريق عزل الشعوب عن أداء دورها، حتى يتخلصوا من إمكانيتها ومن قدراتها، ويجعلوا القضية قضية فئة خاصة؛ لذلك كثيراً ما تجد بأن هذا -مثلاً- توجه إلى فئة بعينها، أو طائفة، أو مجموعة، أو حزب، أو تيار، ويحاول أن يصور للناس هؤلاء بصورة قد تكون مناقضة كثيراً أو قليلاً لواقعهم، حتى يحال بينهم وبين القيام بالأمر نفسه.
فيصور -مثلاً- أمر التعليم على أن هؤلاء الذين يقومون بالتعليم فئة خاصة، أو الدعوة أو الجهاد، وقد ينتقص من قدرها فيوصف المجاهد بأنه أصولي أو إرهابي مثلاً، ولو كان يجاهد جهاداً شرعياً منضبطاً مدروساً تقتضيه الحال إلى غير ذلك.
والقصد من ذلك هو عزل الأمة عن قضاياها وإبعادها وتفريغ الأمة من مهمتها العظيمة، وبطبيعة الحال إذا تحقق هذا -لا قدّر الله- فأول الخاسرين هي الأمة نفسها؛ لأنها لم تعد لها قضية تعيش من أجلها.
ثانياً: القضايا نفسها خسرت، لأن القضية التي لا تكون وراءها أمة تتعب وتبذل في سبيلها، وتتحمس لها، فإن هذه القضية تضعف؛ لأنها عندما تكون قضية أفراد، أو حتى قضية جماعات أو فئات محدودة، فإنها لا تحظى بالنجاح والزخم العظيم والتأثير مثلما إذا كانت قضية الأمة بكل مستوياتها: قضية الأفراد، وقضية الرجال والنساء والكبار والصغار والمتعلمين وغير المتعلمين، فرق كبير بين هذا وهذا.
والمؤسف أن أعداء الإسلام وخاصة الكفار الأصليين، في الوقت الذي يحاولون عزل الأمة المسلمة عن قضاياها الحقيقية، وشغلها بالأمور التافهة كأمور الرياضة -مثلاً- أو أمور المعاش والركض وراء لقمة العيش، أوالأمور الدنيوية البحتة الصغيرة، وليست الدنيوية المفيدة العظيمة الكبيرة والمؤثرة، ففي الوقت الذي يحاولون فيه تفريغ الأمة من قضاياها، وصرف العامة -عامة المسلمين- عن الاشتغال بهذه الأمور التي هي جزء من الواجب الشرعي العام، كل بحسب ما أعطاه الله تعالى، فإنهم يحترمون شعوبهم ويقدرونها ويعطونها الاهتمام، -كما هو معروف- يعني: يهتمون بها حتى في صغير القضايا، فيستشيرونها في من يولونه الأمر، حتى فيمن يكون عمدة لهذا الحي، أو مسئولاً عن هذا الشارع، أو مديراً لهذا القسم، فضلاً أن يجيدوا أمورهم بالجملة، يستشيرونهم في مثل هذا الأمر، ويعملون باستمرار الاستبيانات والأسئلة التي تكشف ما يسمونه هم (بالرأي العام) ويعتمدون على هذا، ويقيمون وزناً لما يقوم في بلادهم هم، وفي غيرها -أيضاً- من المظاهرات والمسيرات، والإضرابات، والاحتجاجات التي هي نوع من التعبير عن الرأي الشعبي عندهم، ويجسون نبض الشعوب ومدى تفاعلها وتعاطفها مع تلك القضايا، ويقيمون وزناً لذلك كله في بلادهم، بل وأكثر من ذلك أنه لو قتل فرد واحد منهم في أي بلد؛ لأقاموا الدنيا وما أقعدوها، وتكلموا واحتجوا، بل وربما يحصل من جراء ذلك شيء عظيم.
أمس -مثلاً- نسمع في الأخبار أن أمريكا سحبت آخر قواتها من الصومال، ثمان وعشرين ألف جندي، لماذا؟! نتيجة لمقتل عدد قليل من هؤلاء، وهم يقومون بالمهمة التي نذروا أنفسهم لها في أرض الصومال المسلمة.
أما فيما يتعلق بالمسلمين فهم لا يقيمون لهم وزناً، حتى لو مات منهم لا أقول: مئات، ولا أقول: ألوفاً بل مئات الألوف، كما هو حاصل في البوسنة، أو في طاجكستان، أو في عدد من البلاد العربية وغير العربية، لا يقيمون لذلك وزناً، ولا يتكلمون عن حقوق الإنسان، كأن المسلم ليس إنساناً، أو ليس له حقوق يجب أن يتحدث عنها، وكأن الإنسان عندهم هو فقط ذلك الإنسان الأبيض، أو ذلك الإنسان الأوروبي أو الأمريكي، أو ذلك الإنسان النصراني، حتى إنهم في الوقت الذي يحاولون فيه أن يرفعوا قيمة شعوبهم وأهميتها، ويتحدثون عنها ويعطونها حقها، يحاولون صرف أو تصريف الشعوب الإسلامية من قيمتها وأهميتها، وعدها مجرد أرقام لا وزن لها؛ بل أقول: حتى لا يعدونها مجرد أرقام، فأنت عندما تتساءل عن سكان البلاد الإسلامية، لا تجد أن هناك اهتماماً بتعداد السكان -مثلاً- في تلك البلاد، أو معرفة دقيقة بهم، وقد يكون الفرق أحياناً بين تقدير وتقدير آخر بالملايين؛ لأنهم يعدون هذه أرقاماً ليس لها وزنٌ كبير، سواء أزادوا مليوناً أم نقصوا، بل هم ربما يهمهم أن يكون العدد أنقص مما هو في الواقع.
لكن يزعجهم -مثلاً- أن تقول التقارير والتقادير: إن عدد سكان المسلمين والمقصود بطبيعة الحال المسلمون الجغرافيون، يكون عددهم مليار ونصف مليار، وهذا يشكل أكثر من خمس سكان الكرة الأرضية، فيعني هذا من التناقض الغريب، الذي يشهده المتأمل اليوم، ولعلي استطردت في هذا الموضوع.
وفي الوقت نفسه يبقى في سؤالك -لأنه سؤال مهم فعلاً-، يبقى فيه جوانب أخرى ما دمنا نقول: إن المسلم -أي مسلم- يجب أن يكون له دور يؤديه، ويجب ألا يعزل عن قضاياه، نعود إلى أنه من الطبيعي أن يكون للمسلمين قيادات علمية، وشرعية، ودعوية، وإصلاحية، يكون لها خصوصية في العلم والفهم والرأي، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] فذكر الرد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا إلى شخصه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، والرد إلى أولي الأمر، الذين يعرفون الأشياء ويستنبطونها، ويعرفون النتائج من مقدماتها الطبيعية، فهذا أمر لا اعتراض عليه ولا إشكال فيه.
ولا يعني كلامي السابق، أو كلام غيري أن يكون الناس كلهم جميعاً يتعاطون الخطايا على حد سواء، فلا شك أن العَالِم الذي يعرف الأمور، ويعرف الشرع، والأحوال، والمجريات، ويتوقع النتائج، وكذلك مع العلم العقل -أيضاً- لأن العاقل أحياناً حتى لو لم يكن عالماً، فإنه قد يدرك الأمور والنتائج والبدايات والنهايات، ويعرف التصرف المناسب، فلا بد أن هؤلاء لهم مزيد اختصاص واهتمام وشورى، وأيضاً العامة ينبغي أن نستفيد منهم في سقف معلوم وفي إطار معلوم؛ لأن أمورهم لا تنضبط تماماً، وطريقة الاستفادة من عموم المسلمين، طريقة لا بد من حبكها وبسطها؛ لأن الناس في مجملهم لهم إقبال ولهم إدبار ولهم -أحياناً- نبضهم، أحياناً يرتفع وأحياناً ينخفض، وتجاوبهم يقل ويكثر وأوضاعهم تتفاوت، فالقضية تتطلب حنكة وفهم وإدراك، وتحسس لهؤلاء الناس بحيث يعرف الإنسان كيف يستثمرون، ومتى يستثمرون وفي أي موضوع، فلا يعطيهم -مثلاً- فوق ما يقدرون عليه، أو فوق طاقتهم، فإذا فوجئ بأنهم لم يفعلوا أصيب بخيبة أمل، وربما كان الخطأ من عنده هو؛ لأنه انتظر منهم ما لا يقدرون عليه، أو يهملهم ويعد أنهم ليس لهم قيمة وليس لهم أثر ولا اعتبار، ويجب أن يلغوا من الحساب، وهذا خطأ كبير؛ لأن إلغاء مئات الملايين من المسلمين من الحساب ليس بالأمر السهل، بل على النقيض، يجب أن يكون لهم وزن واعتبار، ولهم تأثير في القضايا، وأن يستفاد منهم في مجالات كثيرة.
أنا ضربت -مثلاً- في أول الحديث بموضوع الإنفاق مثلاً: {تصدق رجل من ديناره} الأول لو طلبت من تاجر والأزمات الإسلامية كثيرة جداً، والحاجة ملحة والاقتصاد يتراجع، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] كما ذكر الله تعالى، فتجد أن كثيراً من التجار والأثرياء ربما تقلصت أيديهم عن العطاء بعض الشيء، أو تراجعت أو ضعفت، فبدل من أن ينفق مائة ألف، أصبح ينفق خمسين ألفاً.
لكن لو تصورنا إنفاق العامة في حملة إعلامية لجمع التبرعات منهم، حتى لو أعطى الواحد منهم مبلغاً زهيداً فإن المجموع سيكون ضخماً، وقل مثل ذلك في توعيتهم إعلامياً بقضاياهم، بحيث يعرفون عدوهم من صديقهم، ويعرفون الحق من الباطل في الجملة، ويعرفون الشيء الذي يجب أن يكونوا معه، والشيء الذي يجب أن يكونوا ضده، بل لو لم تظفر من العوام إلا بدعوة صالحة؛ لأنهم لا يعدمون أن يكون فيهم صادق النية، طيب القلب، مستجاب الدعوة، لو أقسم على الله تعالى لأبره، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره} فهذا ليس من المشاهير ولا من المعروفين ولا من الكبار، لأنه لا يؤبه له، ومع ذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، لو سأل الله تعالى بصدق لأجابه الله تعالى، ولو أقسم على الله لأبره.(268/12)
صحة منهج الداعية
السؤال
كيف يستطيع الداعية المصلح أن يقدم صحة منهجه؟ وهل الفصل أو الإيقاف أو السجن يعتبر من دلائل النجاح أو الفشل؟
الجواب
صدق المنهج يعرف من خلال الأدلة الشرعية، والله سبحانه وتعالى جعل لنا معياراً، وهو الكتاب والسنة والإجماع، فهذا هو المعيار الذي يعرف به صدق المنهج من عدمه، هذا من حيث الجملة، وتفاصيل ذلك لا يعلمها كل أحد، إنما يعرفها من رزقه الله سبحانه وتعالى علماً وفهماً، وأيضاً من آتاه الله تعالى تجرداً وإخلاصاً وسلامة في قلبه، بحيث يكون عنده هوى، يحدوه إلى أن يصحح هذا ويخطأ هذا، ويصوب هنا ولا يصوب هنا، من غير استنارة بالدليل الشرعي، أو أحياناً بأن لا يحس الاستفادة من الدليل الشرعي، فيضع الدليل في غير موضعه، أو يستنبط من النص الشرعي آية أو حديثاً ما لا يدل عليه، إلا بنوع من التحكم ونوع من التعسف لا يقبل، فالمعيار الشرعي هو القواعد الشرعية بالجملة، النصوص الشرعية، المقاصد العامة للشريعة، هذه هي المعايير التي يعرف بها الحق أو الخطأ من الصواب، مع أن الخطأ والصواب في أمر الدعوة وارد، فقد يجتهد الإنسان ويتحرى الصواب ويخطئ، ونحن نعرف -مثلاً- من الفقهاء السابقين، فقهاء الصحابة والتابعين، أنهم اجتهدوا في مسائل كثيرة فقهية، بل هي أخطر من حيث إنها مسائل فيها نصوص شرعية، مسائل: الطهارة والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والجهاد، والطلاق، والزواج، والقضاء، وغيرها، اختلفوا فيها مع وجود النصوص الكثيرة فيها، ولا نشك أن مجمل العلماء والفقهاء كانوا مخلصين يتحرون الصواب ويبحثون عنه، ومع ذلك فقد يوفقون أو لا يوفقون إليه، وهم مأجورون {فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد} ، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن العاص المتفق عليه.
إذاً قضية الخطأ في الدعوة واردة، فإذا علمت أن الإنسان اجتهد فهذا خير، ولو أخطأ ينبغي أن أسعى في تصحيحه وتصويبه بقدر المستطاع، فإذا رأيت أن هذا هو الذي وصل إليه وأدى إليه اجتهاده، وهو الذي يدين الله تعالى به، فليس لي أن ألزمه بما عندي، فإنه قد يجوز أن يكون الخطأ عندي أنا، ومن الطبيعي أني أرى ما عندي صواباً، وما عنده خطأ، لكن هذا الذي أراه ليس ديناً ملزماً، لكنه اجتهاد قد يكون صواباً وقد يكون خطأ.
فالمهم أن المعيار في معرفة ما عليه الداعية أهو خطأ أم صواب، أحق أم باطل، ينبغي أن يكون مرده وإلى الشرع إلى القواعد الشرعية، والنصوص، والمقاصد الشرعية العامة وما أشبه ذلك.
هناك أمور يختلف الناس في النظر إليها، فمثلاً: نتائج العمل فبعض الناس يحكم على العمل من خلال نتيجته، وهذا الأمر يحتاج الكلام فيه إلى دقة، فليست النتيجة دليلاً قطعياً على الصواب أو الخطأ، فمثلاً النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح {أنه يأتي يوم القيامة النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد} .
إذاً هناك أنبياء بعثوا وماتوا أو حتى قتلوا، وما استجاب لهم أحد، إذاً قد يوجد دعوة تقوم وتبذل وتستميت وتضحي وفي النهاية ما تحقق شيئاً، فهل نستطيع أن نحكم أن هذا دليل على فشلها؟ لا، نحن نقول: إن هذه الأمة -الأمة الإسلامية-، أمة معطاءة، قوية تتجدد في التاريخ كما دلت النصوص الشرعية، أمة لا تتوقف عن الإنتاج، ولا تتوقف عن التجدد والتغير نحو الأفضل في الجملة، كما أخبر النبي عليه السلام في حديث أبي هريرة عند أبي داود {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} وكما قال عليه الصلاة والسلام: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} وهو حديث حسن، وهناك نصوص كثيرة جداً تدل على أن الخيرية في هذه الأمة باقية إلى قيام الساعة، وإن كانت تتفاوت من زمان إلى آخر، أو من بلد إلى آخر، وتتفاوت من شخص وطائفة إلى شخص وطائفة أخرى.
فمثلاً: الأمة في الجملة أمة إنتاج وأمة عطاء، وأمة رجوع، يعني: إذا صاح بهم الداعي والصائح انجذبوا إليه، وركضوا وجفلوا وأقبلوا -هذا معلوم بالجملة-، لكنه ليس أمراً قطعياً أن يحدث هذا دائماً وأبداً، وأيضاً حتى هذا الأمر لا يلزم أن تكون نتيجته نصراً حاسماً للدين، أو قيام حكم بشريعة الله تعالى، أو انتصار في معركة جهادية على الكافرين، فهذا ليس بلازم لزوماً قطعياً، فقد يحدث وهو الغالب، أو لا يحدث.
أمر آخر: هو أن كون الأمة أو الأفراد يصابون في أنفسهم، بأنواع من البلاء والأذى، كالسجن والتشريد من بلادهم، والقتل والأذى والتعسف وألوان الظلم والقهر والاضطهاد، كل هذه الأشياء هي أمور طبيعية من حيث الجملة، لا بد أن تواجه الداعية، بل إني أقول: إنها غالباً تواجه كل داعية يرمى إلى التجديد، سواء أكان داعية إسلامياً، أم حتى لو كان داعية إلى غير الإسلام.
اقرأ سير الدعاة إلى الشيوعية مثلاً: ماذا لقي؟ حتى كارل ماركس، أو إنجلز، دعاة كثيرون، وكثيرون جداً من دعاة الفلاسفة ومن دعاة المذاهب الوضعية وغيرهم، كم لاقوا، وكم عانوا، وكم سجنوا، وكم أوذوا؟! ونحن نسمع أن هذا سجن ثلاثين سنة، ثم خرج، وهذا سجن أكثر وهذا أقل، وهذا أوذي وهذا طرد، وهذا أخرج من بلده، وهذا أعدم أو قتل، وهم على غير ملة الإسلام، فكيف نتصور أن تغيير الواقع نحو الأفضل إسلامياً، وأن صياغة النص صياغة شرعية، أنها لا تتطلب جهد أو تضحية أو بذلاً أو عناء.
إذا كنا نطمع في تغير واقع المسلمين، فيجب أن نتوقع أن نلقى ما لقيه قبلنا الدعاة الصالحون المصلحون، وعلى رأسهم سيد الدعاة وإمام الأئمة، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج من بلده، وأوذي، وطُرد، وحاولوا قتله مرات ونصبوا مؤامرات لاغتياله، وقاتلوه في ميدان المعركة، ورموه بسائر التهم، وحاصروه إعلامياً {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:30] فهم حاولوا قتله أو إخراجه من بلده، أومنعه من الخروج من البلد حتى لا تنتشر الدعوة ليحال بينه وبين الناس، فقد حاولوا معه وحاولوا مع غيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام، لكن في النهاية تمت كلمة ربك الحسنى عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما صبروا، ودمر الله تعالى ما كان يصنع الكفار وما كانوا يعرشون.
فالابتلاء سنة لابد منها، ولهذا يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] وقال كما في حديث ابن عباس في قصة هرقل قال: {كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة} والشافعي رضي الله عنه سئل أيهما أفضل للرجل: أن أو يبتلى؟ قال: لا حتى يبتلى، فالابتلاء سنة إلهية في أن يبتلى الدعاة في دعوتهم ودينهم، ثم يختار الله تعالى لدينه من يشاء، وقد ينتصر الدين الآن أو بعد عشر أوعشرين سنة، على أيدينا أو على أيدي أبنائنا أو أحفادنا، أو أبناء أحفادنا، هذا أمر غيبي يعلمه الله وإن كنا نتطلع بحكم جبلتنا البشرية، واستعجالنا إلى أن نرى نصر الدين بعيوننا، وتفرح به قلوبنا ونُسَّربه، لكن الله تعالى يفعل ما يشاء، وليس ما نشاء نحن، ويحكم ما يريد وليس ما نريد نحن، والإنسان من طبيعته العجلة، كما في حديث خباب في صحيح البخاري لما قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: يا رسول الله ألا تدعو لنا! ألا تستغفر لنا! فقال عليه الصلاة والسلام -وكان نائماً فقعد وأحمر وجهه عليه الصلاة والسلام- ثم قال: قد كان الرجل قبلكم يؤتي به -يعني من المسلمين- فيحفر له في الأرض فيوضع فيها، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه من عصب، لا يثنيه ذلك عن دينه} يعني: قد ابتلى من قبلكم فلماذا أنتم مستعجلون؟ ولماذا أنتم قد ثقل الأمر عليكم؟ - ثم قال عليه الصلاة والسلام: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} فدين الله تعالى منصور بنا أو بغيرنا، بهذا الجيل أو بالجيل الذي يليه، لكن حتى لو فرضنا أن نصر الدين سيكون بالجيل القادم، فهذا الجيل الذي نحن جزء منه الآن يجب أن يشتغل بإعداد المقدمات، وتهيئة الأسباب والجهاد لتحقيق النصر الإسلامي على كافة المستويات، الإعلامية والدعوية والتعليمية وفي كل مجالات الحياة، بدون استثناء، والأمر بعد ذلك لله ينصر من يشاء.
إذاً لا نستطيع أن نقول مثلاً: إن مجرد الابتلاء في حد ذاته دليل على صواب دعوة، أو خطئها، لأن الدعوات الصادقة الجادة دعوات الأنبياء يبتلى أصحابها، والدعوات الكاذبة - أيضاً- قد يحدث لها الابتلاء، والدعوات الصادقة الجادة قد تمكن وتنصر، وهذا كله تربطه سنن ونواميس إلهية، والكلام فيها يطول وربما لا يكون من المناسب خاصة مع ضيق الوقت الاسترسال فيها.(268/13)
حملة تجزئة الدين
السؤال
ما رأي فضيلتكم في مصطلح "الإسلام السياسي"، الذي بدأ يوصم به بعض الدعاة إلى الله؟
الجواب
هذا جزء من الحملة لتجزئة الدين: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] فالإسلام الذي نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام، كان إسلاماً واحداً، ومع أن الإسلام واحداً، إلا أنه كان شاملاً، فبه قام سوق الجهاد، ودعي الناس إلى الله، وأقيمت حلقات التعليم، ونودي إلى الإنفاق في سبيل الله، وجوهد الكفار، وأقيمت الدولة في المدينة، وكانت تدار السياسة والعلاقات بين المسلمين بعضهم ببعض، ومع اليهود والمشركين والفرس والروم، فكان الإسلام كما ذكر الله تعالى في وصف القرآن {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48] أي: مهيمناً على الكتب السابقة كلها وناسخاً لها، وحاكماً في الدقيق والجليل من أمور الحياة، ولهذا من الأمور القطعية في الإسلام، التي ليست موضع خلاف، أنه لا يوجد في الدنيا كلها مسألة، إلا ولله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيها حكم، علمه من علمه وجهله من جهله، كما قرر ذلك الفقهاء والأصوليون والعلماء، فكل مسألة في الدنيا سواء أكانت مسألة اقتصادية أم سياسية أم إدارية أم اجتماعية أم إعلامية أم تعليمية أم أي شيء آخر، خاصة أم عامة على مستوى الفرد والجماعة، الرجل والمرأة، والدولة، والحزب والطائفة، فكل مسألة في الدنيا، لله وللرسول فيها حكم.
هذا الحكم قد يكون تحريماً أو إباحة أو إيجاباً أو استحباباً، أو كراهية، وقد يكون صحة أو فساداً، فالمقصود أن الشريعة الإسلامية مهيمنة، وهذا موضوع اتفاق عند المسلمين، الشرع مهيمن على الحياة كلها، إذاً فالسياسة جزء من الدين، ولو أن قائلاً قال: إن السياسة لا علاقة لها بالدين في الإسلام، لكان بذلك أما جاهلاً فينبغي أن يعلم، أو أن يكون الرجل قد رضي لنفسه ديناً آخر غير الإسلام؛ لأن الإسلام الرباني الذي أنزله الله تعالى على محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يكن مجرد علاقة عبادة في المسجد - مثلاً- بين العبد وربه، هذا نعم كان جزءاً من الدين لا شك فيه، لكن أيضاً كان الإسلام تنظيماً للعلاقات الفردية والجماعية، على مستوى المجتمع المسلم، وعلاقة المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى المحيطة به أيضاً، في مجالات الحياة وشئونها كلها.
إذاً: لا يمكن أن يكون هناك مسلم عاقل يعرف دينه، ويقول: إن هناك شيئاً لا علاقة له بالدين، الأخلاق -مثلاً- بعضهم يقول: الأخلاق لا علاقة لها بالدين، الفن لا علاقة له بالدين، الإعلام لا علاقة له بالدين، السياسة لا علاقة لها بالدين الخ.
إذاً: ماذا بقي للدين؟ هذه نظرة كهنوتية للإسلام، نظرة كهنوتية بذاتها فربما أخطر القضايا وأشدها حساسية، يكون له طرف فيها بالتعاون مع جهات أخرى ظاهرة أو مستترة، فما أدري لماذا يراد بالمسلمين فقط أن يعزلوا عن هذه الأمور، ويحال بينهم وبينها، وأن يحول ذلك أيضاً إلى قناعة فكرية عند بعضهم؟ فنحن لا نعرف أن هناك معنى لكلمة إسلام سياسي، إلا إذا كان له مقابل، فما هو المقابل له؟ هذا نوع من التجزئة للإسلام، ونوع من التمزيق لدين الله عز وجل، وربما ذكرت المقصود منه الإرهاب والتخويف وإعطاء صورة مخيفة، أو صورة غير واقعية؛ لأنهم يريدون أن يقولوا للناس: إن الدين شيء وديع، وهو عبارة عن رقة القلب، والدين مجرد إنسانية، ومجرد عبادة، وذكر، كما يعتقده الصوفية، هكذا يريدون أن يقولوا للناس، وأن هذا الإنسان الذي يتعاطى مع واقع الحياة، أويحاول أن يشارك الناس هموههم أو يحاول أن يصحح، أنه لا يقوم بواجب ديني أو شرعي.
إذا كان المسلمون يرفضون الغش والخيانة والغدر على المستوى الفردي، فكل الأديان والشرائع ترفض - مثلاً- أن الرجل يخون زوجته، أو يغشها أو يخدعها أو يظلمها أو يؤذيها، وكذلك أن يفعل هذا بأخيه، أو بجاره أو بولده أو بمن يعامله ويشتري منه أو يبيع، إذا كان هذا هو الحكم فيما يتعلق بغش فرد لفرد، فما بالك عندما يتحول الغش إلى غش على مستوى الأمم كلها، بطبيعة الحال: أن الأديان لابد أن تكون أشد حرباً لهذا اللون من الغش، وأشد حرباً عليه، فصحيح أن يكون ذلك بالطرق السلمية، وبالأساليب التي تؤدي إلى النتائج، لكن هذه موضع اجتهاد، لأنها تتفاوت بين عصر وعصر وبيئة وأخرى.
فأقول: هذا التفريق بين أجزاء الإسلام، هو ما يتعاطاه الصحفيون غالباً، وقد يكون مقصوداً ترويجه بين المسلمين، من أجل إيجاد نوع من الحواجز التي تدمر قوة المسلمين، وتمنع من تضافر الجهود وتآزر القوى في الوصول بالأمة الإسلامية إلى مستواها المنشود.(268/14)
الحزبية في العمل الإسلامي
السؤال
فضيلة الشيخ: الحزبية في العمل الإسلامي ظاهرة لا ينكرها منصف، فما هي أسبابها وكيف يمكن الخلاص منها؟
الجواب
ينبغي أن نقف أولاً عند تعريف الحزبية لنعرف ما هو المقصود بها؛ فإذا قصد بالحزبية التجمع على مبدأ واحد، أو على اجتهاد، فهذا في حد ذاته يدخل في الكلام الذي قلته قبل قليل، لما تكلمت عن الاختلاف.
وأنه قد يوجد اختلاف محمود، أو على الأقل أنه مقبول، لأنه خلاف ناتج عن اجتهاد في أمور يُقبل الاجتهاد فيها وممن يستطيع الاجتهاد.
أو أنه اختلاف في أمور ناتجة عن اختلاف الظروف، من بلد إلى بلد ومن بيئة إلى أخرى.
أو أنه اختلاف تنوع، فأنا -مثلاً- مشغول بنوع من النشاط الشرعي، كالتعليم مثلاً، وأنت مشغول بالدعوة، وثالث مشغول بالإعلام، ورابع مشغول بالاقتصاد وهكذا، فكل واحد منهمك فيما هو فيه، ففي هذا الحد ليس في الأمر إشكال، وينبغي أن نكون مرنين بقدر المستطاع؛ لأنه من الصعب أن نجمع الناس على آرائنا أو اجتهاداتنا الخاصة مهما كنا نعتقد أنها صواب، وأنها ملزمة، ولا نجاة للمسلمين إلا بها، إنما ينبغي -أيضاً- أن نعطي الآخرين فرصة أن يفكروا مثلنا، وأن يجتهدوا ويعملوا مثلنا، لا نستطيع أن نلزم الناس بآرائنا أبداً، هذا غير ممكن، وحتى لو كان ممكناً، فهو شر وفساد؛ لأن الخير في التنوع الذي يثري الميدان ويوسع الإطار.
أما إذا كان المقصود بالحزبية التعصب، فلا شك أن هذا مذموم، كالتعصب للمذهب الفقهي فإنه مذموم، كوني حنبلياً أتعصب لمذهب الإمام أحمد -مثلاً- وأجعل الحق محصوراً فيه، وأنفي ما خالفه وأرفضه، وأعد أنه خطأ وباطل، والصواب هو ما ذهب إليه الإمام فقط، فهذا باطل، ومثله لو كنت شافعياً وأعتقد هذا في مذهب الشافعي أو مالكياً أو حنفياً أو أوزاعياً إلى آخره، فكذلك الحال بالنسبة لتنوع الاجتهادات في ميدان الدعوة الإسلامية، خاصة أن العصر الآن عصر مملوء بالتغيرات، وانقلاب في المفاهيم، وتجددت أمور كثيرة، فالعالم - فعلاً- يشهد ثورة في مجال الصناعة، وفي مجال الاتصالات، والمعلومات، وفي مجالات كثيرة جداً، وفي الوقت نفسه تجد أن الكثير من المسلمين لا يستطيعون أن يتعاملوا ويتعاطوا مع هذه القضايا بروح واعية، وروح مدركة، روح تفقه هذه القضايا، وهذه حقيقة إحدى المشكلات التي تواجهها الدعوة الإسلامية، فالتنوع في هذا الإطار مطلوب ولابد منه.
أما التعصب والتحزب والانغلاق على النفس، والنظر إلى الآخرين على أنهم قد شطوا وانحرفوا أو غيروا وبدلوا ثم اتهامهم، ثم كون الإنسان دائماً وأبداً ينصر أصحابه بالحق وبالباطل، ويحاول أن يجعل الفرص لهم إلى آخره، هذه الحقيقة مشكلة، وإن اغتفرناها وسامحنا عنها إلا أننا ينبغي أن نبذل قصارى جهدنا ووسعنا في دعوة الناس إلى التخلص منها بقدر المستطاع، إلى تحقيق مبدأ الأخوة الشرعية، ولا يوجد عصر واجه المسلمون فيه -والله أعلم- من التحديات مثل هذا العصر، تحديات كأمثال الجبال، صعوبات جمَّة، والشعوب المسلمة شعوب مستضعفة، يكثر فيها الجهل والفقر والمرض والتخلف وضعف الوعي والإدراك، والحيلولة بينها وبين دينها، وإنهماكها بالقضايا التافهة أو غير المفيدة، وشغلها بلقمة العيش، هذا أمر أصبح مشاهداً، هل نعتقد أن فئة واحدة أو جماعة أو حزباً بمفرده يستطيع أن يتخلص من هذه العقبات الصعبة، وهذه التحديات القائمة الكبيرة؟! لا يمكن هذا!! بل حتى مجموعات لا تستطيع فعل ذلك بسهولة، فضلاً عن أن هناك تحديات خارجية، متمثلة في القوى المتربصة بالإسلام، والكلام في هذا يطول ربما أنه سبق في أكثر من مناسبة أني تحدثت عن هذا الموضوع، وعلى كل حال فلا أحب أن أسترسل معك فيه، خاصة أن الوقت بالنسبة لي، وربما لك أنت أيضاً يضيق.
فتعدد الجماعات واقع لا مفر منه، وربما يكون التعامل معه من هذا المنطلق، لكن أيضاً ينبغي أن نحس أنفسنا بشكل دائم وصادق وصريح ونخلص لله تعالى أشد الإخلاص، في هذا الجانب وفي غيره، وألا يمنعنا وجود حاجز كمثل كوني من مجموعة أو جماعة أو حزب، لا يمنعني أني أتعاطف مع أذى يصيب مجموعة أخرى من المسلمين؛ لأنهم يختلفون عني أو عنك - مثلاً- في نوع الانتماء، أو في نوع الاجتهاد، أوفي نوع العمل الذي يقومون به، لا! أخوة الإسلام ينبغي أن تكون إطاراً عاماً، يجمع بيننا جميعاً ويوحد الصف، ويجعل النصرة قائمة للمسلم حتى ولو اختلف لونه عن لونك، أو اختلف جنسيته، أو اختلف انتماؤه أو اختلفت طائفته، أو حزبه أو قبليته.
المهم أنه مسلم، ولو كان مفرطاً، أو مقصراً، أو مخطئاً أو عنده جهل، أو انحراف بل لابد أن أنصره ومن نصره أيضاً أن أصحح خطأه وانحرافه.
هذا واجب وينبغي أن ندرك أن هذا من أعظم أسرار التخلف الإسلامي، فالعدو ظن أن المسلمين لا يصنعون شيئاً، لماذا؟ لأنه رأى أنهم لا يتحركون في الأزمات، لأنهم مخدرون من جهة، لكن حتى القِسْم الذي يمكن أن يتحرك يؤثر في تحركه مؤثرات كثيرة، منها: تلك الحواجز التي تحدثت عنها، فإذا استطعنا أن نتجاوزها، فمعنى ذلك أننا سوف ننتقل إلى الهواء الطلق والجو الواسع، والميدان الرحب، وسنستطيع أن نستكمل العلاقات والإمكانيات الإسلامية بشكل جيد، ونفرض وجودنا وهيبتنا على القريب والبعيد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(268/15)
المصائب التي حلت بالمسلمين
السؤال
أقول: ما الواجب الشرعي فيما حل ويحل بالمسلمين من مصائب وعلى رأسها قضية فلسطين؟
الجواب
الحقيقة - أن المصائب كما يقال:- فكنت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال فلو كان سهماً واحداً لاتقيته لكن سهم وثان وثالث ما يدري الإنسان عما يتحدث وبما يبدأ، لكن قضية الإخوة في فلسطين من القضايا التي طفت على السطح الآن، يومياً تسمع أخباراً، مثلاً: من آخرها مجزرة الخليل، قتلوا في المسجد وهم يصلون، ثم يحاولون أن يقفزوا على هذه القضية ويتجاوزنها كما لو كانت تاريخاً مضى وانتهى، ولو فرضنا أن هذه المجزرة وقعت في حق اليهود -مثلاً-، أو في حق مجموعة من الأمريكان، أو في حق مجموعة من القوات الدولية، في الصومال أو في سراييفو أو في أي مكان آخر من الأرض، كيف سيحدث؟! سوف تتحرك أساطيل وقوى، وتنقلب موازين، وتصدر بيانات حتى البيان الذي أصدروه من المنظمة الدولية، وهو بيان باهت توقفت عدد من الدول الكبرى عند جزء من عبارته وعناصره وفقراته، ورفضت الموافقة عليه، وهو على كل حال لا يقدم ولا يؤخر، كما قال الشاعر:- أثخنونا بالجراح ثم قالوا لا تصيحوا إن في هذا الصياح بعض ما يبغي الجريح نعم! المسلمون يضربون، وحتى البكاء والصياح والأنين محظور عليهم، فالمسلم الذي يتحدث عن قضايا الإسلام، وقضايا أمته، إنما هو مجرد حديث، وشكوى، ومجرد بكاء ونياحة، حتى النياحة أصبحت ممنوعة على المسلمين.
نعم! نحن نعرف أن النياحة التي هي البكاء بصوت، وشق الجيوب وخمش الوجوه والدعاء بدعوى الجاهلية، هذا محرم أصلاً شرعاً، وإنما مقصودي أنه حتى التعبير عن هذه الآلام التي يعاينها المسلمون، وحتى هذا الحق أصبح يستكثر على المسلمين، ولا يراد منهم أن يتحدثوا عن قضاياهم، ولا أن يشتكوا ولا يتباكوا على أوضاعهم المرة، وهذه حقيقة مؤشر على نوع من التردي الذي يراد أن تساق الأمة إليه، لذا قبلت الأمة الهوان والضعة بنفسها، فقضية الإخوة في فلسطين يومياً تسمع، قتلى بالعشرات، بعضهم على يد القوات اليهودية، وبعضهم بأيدي المستوطنين، والبارحة أسمع مستوطناً يقتل سائق شاحنة فلسطيني وهو في سيارته، فقد أصبح الدم المسلم في فلسطين وفي غير فلسطين هو أرخص الدماء على الإطلاق، بل إن كل أحد يجرب حظه مع المسلمين، وهو آمن مطمئن، أن هذه الأمة لا يمكن أن تثأر أو تنتصر، لا، نحن ندرك -فعلاً- أن الأمة والحمد لله، بدأت تعي، وقضية البوسنة من أوضح وأظهر القضايا، تعاطف المسلمون معها بشكل جيد والحمد لله، ولا يزالون من ناحية مادية مالية، ودعوية، وإعلامية، ومن ناحية وجود بعض الضغوط ولو لم تكن بالمستوى المطلوب، لكنه مؤشر، ولذلك تجد أن هناك نوعاً من التحول في السياسة الغربية تجاه قضية البوسنة لا يخفى على المتأمل والمدرك، وهذا التحول هو نوع من الاستجابة للضغوط الإسلامية بالجملة، والضغوط العالمية -أيضاً- وفي الوقت نفسه هو نوع من الالتفاف على القضية بطريقة أخرى، والحيلولة دون قيام دولة إسلامية صرفة في البوسنة، يجعلها دولة فيدرالية أو كونفيدرالية يشترك فيها الكروات، أو حتى الصرب قد يدخلون في هذا التشكيل الجديد، والمقصود من ذلك محاولة ألا تكون دولة إسلامية محضة في قلب أوروبا يهددهم وجودها الإسلامي المتميز.
أما فيما يتعلق في كيفية التعامل مع قضايا المسلمين، فهي كثيرة جداً كما ذكرت: فمن الملاحظ أن الاختلاف بين المسلمين ألقى بظلاله على تعاونه في هذه القضايا؛ لأن المفروض في الأصل أنه إذا أصيب مسلم في الشرق تجاوب مع مصيبته المسلم في الغرب، فالعدو استطاع أن يقيم الحواجز والسدود بين المسلمين، سواء أكانت تلك الحواجز جغرافية أم سياسية، ثم بنى عليها إثارة العداوات والفتن، فهذا خليجي! وهذا شامي! وهذا مغربي! وهذا مصري! وهذا كذا، وهذا كذا، وهذه الأشياء حاول أن يرسخها ويعمقها، ويكون هناك دور للتباعد بين المسلمين بمقتضى هذه المسميات، ووجد نوع من هذا الذي يمكن أن نسميه نوعاً من التحزب أو التعصب للون أو للجنسية أو للشعب أو للبلد الذي ينتمي إليه الإنسان، وعمق ذلك بحيث أصبح الإنسان لا يتعاطف مع قضايا الشعوب الأخرى.
فعلى سبيل المثال: الأكراد، لكن كم لهذا الشعب من بلاء في الإسلام، وكم له من أياد بيضاء في التاريخ، يكفيك صلاح الدين الأيوبي وإخوانه في الدولة الأيوبية، كم لهم من أيادٍ بيضاء على الإسلام والمسلمين، وكم لهم من جهاد عظيم، ومن بعدهم العلماء والدعاة والمصلحون، ومع ذلك تجد أن هذا الشعب يباد، وهناك مؤامرة دولية لإبادته وعدم تمكينه من أي لون من ألوان الاستقلال، ومع ذلك تجد أن المسلمين لا يتعاطفون مع قضايا إخوانهم الأكراد، ثم تجد أن الكفار الذين يحرضون المسلمين ظاهراً أو باطناً على القضاء على الأكراد، وعدم تمكينهم من حقوقهم المشروعة، ومن جهة أخرى تجد أن الكفار قد يستقبلون هؤلاء ويعطونهم بعض الفرص، ونتيجة لذلك ربما تجد أن الهدف من ذلك هو تحسين صورة الكافر، وإغراء المسلمين بالإعجاب بهم، في مقابل بغضهم لإخوانهم المسلمين من الجنسيات الأخرى، أو الشعوب الأخرى، بسبب أنه يرى أنهم خذلوه أو تخلوا عنه أو حاربوه أو هم سر بلائه، مع أن هؤلاء هم الذين حاربوه -في الواقع وإنما هم يؤدون دوراً مرسوماً، وربما أوحت إليهم الدوائر الأجنبية، أن يؤدوه ويقوموا به.(268/16)
إثبات الرؤية لله عز وجل
تحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن إثبات بعض الصفات التي يثبتها أهل السنة والجماعة -دون كل فرق المبتدعة- لله عز وجل، فبدأ بصفة الوجه حيث ذكر أدلته وأقوال بعض المبتدعة وتفصيل بعض الآيات، ثم ذكر صفة اليد، ذاكراً طعن اليهود في كرم الله، مفصلاً حالهم، ثم في صفة العين، وتعدد ألفاظها بين الإفراد والجمع، ثم تكلم أخيراً عن صفة السمع لله عز وجل، وسبب نزول آية المجادلة، وذكر سماع الله لطعن اليهود في كرمه ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)) .(269/1)
صفة الوجه
ذكر المصنف رحمه الله أولاً: الآيات المتعلقة بإثبات صفة الوجه كقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وهذه الآية من سورة الرحمن، وقبلها قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] فأثبت الفناء للمخلوقات على ظهر هذه الأرض، بقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] وكل: كما هو معلوم من ألفاظ العموم، التي تدل على فناء المخلوقات كلها، وليس المقصود العموم المطلق، وإنما هو العموم بحسبه، كما في قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] فإن من المعلوم أن المعنى: تدمر كل شيء قابل للتدمير بها، يعنى: بالريح، كبيوتهم وما أشبه ذلك، ولذا قال: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] فآثار مساكنهم لا تزال باقية، فمن المعلوم أنها لا تستطيع أن تدمر السماء ولا الأرض.
ومثله قوله تعالى عن بلقيس: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] فقوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لا يعني العموم المطلق، وإنما هو عموم بحسبه، يعني من كل شيء مما يؤتاه الملوك عادةً، من المال والخدم والحشم والأعوان والشرط وغير ذلك.
فقوله جل وعلا هنا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] هذا عموم لكنه بحسبه، ولهذا فهناك أشياء لا تفنى، وقد عدها بعض أهل العلم ثمانية، كما ذكر السيوطي: ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم هي العرش والكرسي ونار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم (وعجب) يعني العظم الموجود في أسفل ظهر الإنسان، وذكر في بقية البيت الأشياء التي لا تفنى وهي الأرواح، واللوح والقلم، وغيرها: فهذه ثمانية أشياء، وأما ما عداها فإنه كتب عليها الفناء والزوال، ثم استثنى وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] والآية إنما سيقت في مساق المدح فقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ليس مدحاً، إنما يأتي المدح ويكمل إذا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] فبعدما حكم بالزوال والفناء للمخلوقات على ظهر هذه البسيطة، استثنى وبين بقاء الله عز وجل فقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ذلك أن الله عز وجل حي لا يموت، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: {أنت الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون} وقال الله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] وذلك أن حياته عز وجل حياة كاملة تامة، وهي صفة لذاته بخلاف المخلوق فإن حياته حياة ناقصة، قد أفاضها عليه ربه جل وعلا، ومنحه إياها، فيسلبها منه متى شاء، ولهذا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] وقوله: (ذو الجلال) فهذه صفة للوجه ولهذا جاءت مرفوعة بـ (ذُو) ؛ لأنها صفة لـ (وجه) وهو فاعل {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] فهي صفة للوجه.(269/2)
مسلك إثبات صفة الوجه من الآية
ويؤخذ من هذه الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى من عدة أدلة منها:- أنه وصف الوجه بقوله: {ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] وهذا دليل على أنه صفة له جل وعلا.
ومنها: أنه أضافه إلى الذات- أضافه إلى ذاته العظيمة- فقال: {وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] ولو كان الوجه هو الذات- كما قال بعض أهل البدع- لم يكن لإضافته إلى الذات معنى.
ومن الأدلة على أن الوجه غير الذات وأن الوجه صفة لله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عطفه على الذات، كما في حديث أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم} وذلك عند دخول المسجد، والحديث صحيح، فلو كان الوجه هو الذات، لم يكن لعطفه على الذات معنى، فلما عطف عليه عُلم أن الوجه صفة لله عز وجل وليس ذاته، وليس الوجه ذاته، فقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] .(269/3)
محاجة المبتدعة في إثبات صفة الوجه والرد عليهم
وقد احتج بعض أهل البدع هنا بقولهم: إن هذا دليل على أن الوجه هو الذات، قلنا: كيف؟ قالوا: لأن البقاء هل هو خاص بالوجه أم لذاته- جل وعلا؟
الجواب
أنه ليس خاصاً بالوجه، بل لذاته سبحانه، قالوا: إذاً هذا دليل على أن الوجه هو الذات {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] أي: يبقى ربك.
هذا كلام من؟ هذا كلام أهل البدع الذين أنكروا صفة الوجه، فيرد عليهم بأمور:- منها: أن يقال إنه ذكر الوجه هاهنا {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] لأن إثبات بقاء الوجه يستلزم إثبات بقاء الذات، فحينئذ يكون المقصود بالوجه بقاء وجهه عز وجل، ويلزم من هذا بقاء ذاته.
الجواب الثاني: أن يقال: حتى على التسليم، بأن مقصود {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] أي: ويبقى ربك.
فإن ذكر الوجه لله تعالى، لم يكن ليسوغ أو ليصلح لو لم يكن ثابتاً له في الأصل تعالى، فإن الإنسان يقبح منه مثلاً أن يقول: وجه الريح، لأن الريح ليس لها وجه، أو وجه الجدار؛ لأن الجدار ليس له وجه، فلما قال سبحانه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] علم أن الوجه صفة يوصف الله تعالى بها، وتثبت له، فلهذا ذكره في السياق- هذا فضلاً عن أن هناك نصوصاً أخرى لا تقبل مثل هذا التأويل، وذلك كما في أحاديث -النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث الذي ذكرته: {أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم} وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهذا صريح في إثبات الوجه له تعالى.
ثم ذكر قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وهي كالآية السابقة، حكم الله تعالى فيها بالهلاك على كل شيء إلا وجهه، ففيها إثبات صفة الوجه له تعالى، وبقاء الوجه يستلزم بقاء الذات كما سبق، وذكر الوجه له حتى لو كان المقصود إلا ذاته، فذكر الوجه لم يكن ليسوغ لو لم يكن الوجه صفة ثابتة له تعالى، وهذه فائدة ينبغي أن تعرف في جميع الصفات، بمعنى أن أهل البدع قد يتمسكون بنص من النصوص، يؤولون الآية فيه على غير ما دلت عليه، فمثلاً يقولون: في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] فإذا قلنا لهم: هذا دليل على إثبات صفة اليد، قالوا: لا، لأن الملك ليس في يده حقيقة، وإنما المعنى: في تصرفه وتدبيره.
فنقول: حتى لو سلمنا جدلاً أن هذا هو المعنى، فإن قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] لم يكن ليسوغ لولا أن اليد في الأصل ثابتة له، مع أننا نستعين بالنصوص الأخرى الواردة في المقام والسياق نفسه لإثبات ما نفوه، وتحقيق ما أولوه.(269/4)
صفة اليد
ثم انتقل المصنف رحمه الله تعالى إلى صفة اليد، فذكر فيها قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وهذا من خطاب الله تعالى إلى إبليس حين أبى السجود، فقال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] فقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: لآدم عليه السلام إن الله تعالى خلقه بيده، كما جاء في الحديث الصحيح: {إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده} .(269/5)
مجيء صفة اليد بالإفراد والتثنية والجمع
وقد جاء في القرآن والسنة ذكرها بلفظ الإفراد والتثنية والجمع، كما في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس:71] والجمع بين الإفراد والتثنية والجمع وارد أن يقال: إن لله عز وجل يدين حقيقيتين، فقوله باليد لا يعني الإفراد، بل هو كما تقول: رأيت هذا الأمر بعيني، وأنت تقصد بعينيك، وأما على الجمع فهو على أن أقل الجمع اثنان، فلا إشكال وهذا هو الظاهر والله أعلم.
إن لله تعالى يدين كما في قوله هاهنا: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وقد يطلق الجمع على المثنى أيضاً كما في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] (قُلُوبُكُمَا) هي اثنان، ولم يقل: قلباكما، وإنما قال: (قُلُوبُكُمَا) فهكذا هاهنا: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] والآيات والأحاديث الواردة في إثبات اليد لله تعالى كثيرة، حتى إن النصوص تزيد على مائة فيها إثبات صفة اليد لله تعالى، فنثبتها إثباتاً حقيقياً يليق بجلاله وعظمته، دون أن نشبهها بالأيدي المعروفة من أيدي المخلوقات، ودون أن نؤولها كما أولها أهل البدع.
هذا الآيات ساقها المصنف رحمه الله تعالى لبيان عدد آخر من صفات لله عز وجل الثابتة في كتابه تعالى وهي: العين، والسمع، والبصر، وساق في ذلك عدداً من الآيات، وهذا ليس كل ما ورد، ولكن بعض ما ورد، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل العينين، ويثبتون له الرؤيا والبصر، ويثبتون له السمع على وجه يليق بجلاله، من دون أن يكيفوا ذلك بكيفية مما عهده البشر وعرفوه.
لا يلزم من إثبات العين، أن تكون العيون التي عرفها البشر، من حيث حدقتها ومن حيث مكوناتها، وما أشبه ذلك، فإن هذه هي العيون التي عهدها الناس وعرفوها، فإنهم يثبتون لله العين دون أن يدخلوا في تكييف العين؛ لأنه لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه، فكذلك لا يعلم كيف صفاته إلا هو، ولكنهم يثبتونها كما جاءت في القرآن والسنة، من دون أن يكيفوها ومن دون أن يعطلوها أو يؤولها.
فيصرفوا معناها الظاهر إلى معنى آخر بعيد أو غير متبادر، خلافاً لما يفعله المعطلة وأسلافهم، فإنهم يؤولون هذه الأشياء إلى معانٍ مختلفة، فقد يؤولون السمع والبصر مثلاً بالعلم، وذلك أن العلم هو ثمرة السمع والبصر كما يزعمون، فيؤولونهما بالعلم، والواقع أن العلم صفة ثالثة، غير السمع وغير البصر، وكذلك بعضهم قد يقولون: يسمع بذاته، ويرى بذاته، فينفون عنه العين، وهذا أيضاً غير صحيح، فإن معنى ذلك أن الصفات كلها أصبحت مترادفة تدل على الذات فقط، والواقع أن الصفة تدل على معنيين: تدل على الذات بالالتزام، لأن الصفة دليل على الذات لا شك، ولكن أيضاً تدل على أمر آخر بالمطابقة، وهو المعنى الذي دلت عليه بالمباشرة.(269/6)
الرد على من أول اليد بالقدرة
فقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] لا يمكن تأويله، لأنه لو قال المؤول: أن المقصود باليد القدرة، لكان معنى الآية: لما خلقت بقدرتيَّ.
وهل في النصوص أن الله له قدرتان؟ لا، إنما الله تعالى له قدرة كما جاء في النصوص.
فإثبات القدرتين له مثلاُ لا يدرك بالعقول، ولا جاءت به النصوص، هذا من وجه، ومن وجه آخر فإنه لو كان معنى (بِيَدَيَّ) أي: بقدرتي أو بنعمتي أو بقوتي، وهل كان هذا يخص آدم عليه السلام؟ لا، لكان هذا عاماً لجميع الخلق، حتى إبليس نفسه خلقه الله تعالى بقدرته، بل حتى نقول: خلقه برحمته، لأن الله عز وجل هو أرحم الراحمين، وهو أعلم بما يصلح الخلق، فأعماله وأفعاله كلها حسنة.
فتخصيص خلق آدم مثلاً بأنه بقدرته أو بعلمه أو بقوته ليس له معنى، فحتى إبليس خلقه الله تعالى بقدرته وخلقه بقوته، وحينئذٍ لا يكون للتخصيص في آدم معنى، فتعين أن قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: بيدين حقيقيتين له سبحانه، ولذلك تميز آدم وأمر الله تعالى ملائكته بالسجود له.(269/7)
اليهود وما قالوه عن يد الله
ومثله قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وقول اليهود -لعنهم الله عز وجل- معناه أنهم نسبوا لله عز وجل إلى البخل وعدم الإنفاق عليهم، فإن اليهود ينسبون إلى الله تعالى نقائص كثيرة كما حكى الله عنهم: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181] ونسبوا إليه الحزن والبكاء، ونسبوا إليه وإلى غيره من الأنبياء والمرسلين في كتبهم نقائص كثيرة، وذلك لأنهم جبلوا على الفساد والفجور والطغيان والوقاحة، ومنها:- أولاً: نسبوا إلى الرسل شرب الخمور، والوقوع في الزنا، وغيرها من الفواحش ثم تجرءوا بعد ذلك على الله عز وجل فنسبوا إليه من النقائص ما ذكره تعالى في كتابه، وأيضاً نسبوا إليه أشياء لم تذكر في القرآن الكريم، لكنها موجودة في كتبهم، منها قولهم هاهنا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] أي: لا يبسطها بالإنفاق، قال الله عز وجل: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] وهذا حكم منه جل وعلا بغل أيديهم ولعنهم بما قالوا، ولذلك فإن اليهود مغلولة أيديهم، فهم لا ينفقون، ولا تمتد أيديهم بالخير إلى الناس، وهم ملعونون {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] وعلى مدى تاريخهم الطويل كانوا أذلة، وكلما ارتفع لهم رأس سلط الله عليهم من الملوك والكبار من يسومهم سوء العذاب {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167] .
ولا يغترن مغتر بتسلطهم في هذا الزمان، فإن هذه فترة استثنائية قليلة، ولو نظرنا إلى دولة إسرائيل لوجدنا أنها نشأت منذ وقت قريب منذ خمسون أو ستون سنة في ميزان الله، وليست شيئاً مذكوراً، إنما {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59] إنهم الآن يتهيؤون؛ لأن يحقق الله فيهم وعده، بأن يسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:4-8] إذاً هو وعد ثابت إلى قيام الساعة {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] .
فالمؤمن بالقرآن والسنة يوقن كما يرى الشمس بعينه أن لليهود جولة قادمة، سوف يسحقهم فيها عباد من عباد الله عز وجل، ويقتلونهم فيها قتل عاد وإرم، هذا وعد لا يقبل الشك؛ لأنه ممن لا يخلف الميعاد؛ وما ذلك إلا لبغيهم وعدوانهم ووقاحتهم وجرأتهم على الله تعالى ورسوله، ولهذا قال هاهنا: {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] .
ثم قال عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] وهذا هو الشاهد، فإنه أثبت لنفسه أن له يدين، ووصفهما بالبسط، وهذا ولا شك دليل على إثبات صفة اليدين لله جل وعلا.(269/8)
صفة العين
مثلاً: قوله عز وجل كما ساق المصنف هاهنا أول ما ساق: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:13-14] وفي الآية الأخرى في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وفي الآية الثالثة: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] هذه الآيات الثلاث في إثبات العين، تدل أولاً: على الذات، لأنه لا تكون صفة إلا في الذات، ولكنها تدل ثانياً على صفة خاصة غير دلالتها على الذات وهي صفة العين، والآية الأولى التي ساقها المصنف وهي قوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] هي أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر لحكم الله عز وجل.(269/9)
من بديع بلاغة القرآن
وهذه الآية تختلف عن الآيتين قبلها من وجهين:- الأول: أن لفظ العين فيها مفرد، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وهو في الآيتين قبلها مجموع {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] والجمع بين هذا وهذا، أن يقال في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فيه إثبات العين، ولا يلزم منه المفرد بل قد يطلق المفرد ويراد به ما هو أكثر من الواحد، وكذلك الحال بالنسبة للجمع فإن أقله اثنان، وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض، فإذا ضممنا إلى ذلك ما جاء في سنن أبي داود وغيره، وهو حديث صحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عينه وإلى أذنه} وكذلك ما جاء في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: تعلمون أنني سأحدثكم وأقول لكم فيه قولاً ما قاله نبي قبلي: إنه رجل أعور وإن ربكم ليس بأعور} أي: أن الدجال رجل أعور والله تعالى ليس بأعور، عُلم بذلك أن ما هو مشهور عند أهل السنة الجماعة بإثبات العينين لله جل وعلا، أنه أمر صحيح.
الوجه الثاني الذي تختلف فيه الآية الأخيرة عما قبلها: هو أنها عديت بـ (على) في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] بخلاف الآية التي قبلها {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] وسر هذا الفرق يتضمن أموراً لعل من أظهرها أن قوله عز وجل: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] وقوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] هو أمر واقع الآن، أي كأن الآية تحكي أمراً واقعاً الآن {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] أي: تجري برؤيتنا، وبمرأى منا يتضمن الحفظ والكلاءة كما سبق.
أما قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فهو أمر مستقبليٌ أنه سيقع وسيتم على عين الله عز وجل، أي: على ما يحب وعلى ما يريد، ففي الآية معنى معين خاص الآية المتعلقة بموسى عليه السلام، وهو أن الله تعالى سيربي موسى على عينه، وعلى ما يحب ويريد؛ ليكون هو الرجل المناسب لتلك المرحلة.
وهو الذي يقوم بإنقاذ بني إسرائيل وغيرهم من كيد فرعون وبطشه، وفيها معان أخرى أشار ابن القيم رحمه الله إلى شيء منها.(269/10)
تفسير قوله تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)
وفي الآية التي قبلها إثبات العين والأعين لله جل وعلا، وهذه الآية في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ومن ضمن ما يمتن الله تعالى به على موسى كما في سورة طه حيث امتن عليه بأشياء كثيرة، من حين أن خرج من بطن أمه، فأوحى الله تعالى إليها بإرضاعه، ثم أن تقذفه في التابوت، ثم تقذفه في اليم، إلى قوله: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فكل هذه منن ونعم من الله تعالى على موسى عليه الصلاة والسلام، ومنها قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] سبحان الله! المحبة تلقى وتتنزل وترسل، فأرسل الله إلى موسى وألقى عليه محبة منه، أن الله تعالى أحبه وجعل الناس يحبونه، فجعل في موسى محبة، فهو محبوب، فمن رآه أحبه وأنس به، وهذا سر عظيم حيث لما رأته امرأة فرعون رقت له وأحبته وقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص:9] وكذلك فرعون سخره الله له، وكذلك غيره، فألقى الله تعالى على موسى محبة منه، وهذه من المنن ليبلغ الله تعالى به من أمره ما يشاء، حتى أنه يتربى في قصر فرعون الذي كتب الله تعالى أن يكون هلاكه على يده {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] أي: ليتربى موسى عليه الصلاة والسلام على عين الله عز وجل، أي: بمرأى منه وبصر، وهذا يتضمن -كما سبق- ويستلزم الحفظ والصيانة لموسى عليه الصلاة والسلام وحياطته من عدوه وكمال تربيته أيضاً، فإننا نعلم ولله المثل الأعلى أن الولد مثلاً إذا تربى على عين والده وبحضرته ومراقبته وسمعه وبصره، يكون هذا من كمال تربيته، لكنه لو تربى بعيداً عنه، لربما تربى على خصال وخلال لا يحبها، ولله المثل الأعلى، فهاهنا يقول الله عز وجل: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] أي: أن الله تعالى لن يكل أمر موسى وحفظه وتعهده إلى غيره أبداً، بل يصنع له سبحانه ما يكون فيه كمال تربيته وكمال رجولته، وهذا هو الذي جرى كما هو معروف للناس من القصص الذي قصها الله علينا في القرآن.(269/11)
تفسير آية (واصبر لحكم ربك)
والصبر هو الحبس -كما هو معروف- وهو ثلاثة أنواع أيضاً، وهو واجب، فمنه قدر واجب، وقد أمر الله نبيه بالصبر لحكمه، والحكم نوعان -حكم الله عز وجل- الأول منه: الحكم الشرعي بالتحليل والتحريم، والإيجاب والأمر والنهي، والصحة والفساد ونحوها، فهذا وضع الشريعة وهذا حكم الله فيجب الصبر له والقبول به وعدم الاعتراض على أمر الله عز وجل، وهذا معروف فليس من حق أحد أن يعترض على أمر الله وشرعه عز وجل في كتابه أو على لسان رسله عليهم الصلاة والسلام، فهذا حكم بين وهو حكم الله.
الحكم الثاني لله عز وجل: هو الحكم القدري المتمثل في حكم الله عز وجل بالإيجاد والإحياء والإماتة والرزق وغير ذلك مما تجرى به المقادير غير ما جاء في الشرائع، أمور قدرها الله عز وجل وحدثت وخلقها عز وجل، فهذه أيضاً يجب الصبر لها؛ لأنها قد تجرى على خلاف ما يحب الإنسان.
من فقر ومرض أو هزيمة أو ضعف أو معصية أو غير ذلك، فيصبر العبد لقضاء الله وقدره إذا وقع وتحقق ذلك.
أما مسألة المعصية سواء أكانت معصية أم كفراً فقد سبق الكلام في موقف المؤمن منها وأنه يكره هذه الأشياء، ويجب عليه أن يكرهها ويكره وقوعها، وإن حدثت فعلاً وعُلم أنها حدثت بقضاء وقدر، إلا أنها مما يكرهه الله تعالى فقال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] .
فواجب على المؤمن أن يكره ما يكرهه الله تعالى من الأقوال والأفعال وغيرها، هذا معنى قوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] يشمل الحكم الشرعي ويشمل الحكم القدري.(269/12)
سر التعليل في قوله تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)
ثم علل هذا الأمر بإيجاب الصبر، علله بقوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] أي: بمرأى منا، ونحن نبصرك، وهذا التعليل قوله: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) علاقته بقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ظاهرة جداً وهي من حيث إن العبد إذا صبر، وعلم أن الله تعالى مطلع عليه، زاده ذلك صبراً على ما يلقى، وصبراً على الصبر أيضاً، فإن الصبر يحتاج إلى صبر، وإلا فقد يصبر الإنسان يوماً أو يومين، ثم ينفد هذا الصبر فيجزع، لكن إذا علم أنه بعين الله عز وجل وبرؤيته، زاده ذلك الأمر صبراً، وزاده صبراً على الصبر، وفي مقابل ذلك أيضاً فإن العبد إذا علم أن الله مطلع عليه، رأى أن ما يجرى له هو عين الحكمة، فإنه بالنسبة للمخلوق مثلاً لو حصلت له مصبية، ولم يجد من يساعده ربما قال: لو علم فلان بي، لأعانني على الخروج من ورطتي، أو لساعدني أو لأخذ بيدي، لكن إذا علم العبد أن الله عز وجل المطلع عليه يراه ويسمعه، ومع ذلك قضى وقدر أن يبقى العبد في مصيبته مثلاً، أو يبقى في محنته، هنا يعلم أن بقاءه في المصيبة والمحنة هو عين الحكمة، لأن الله تعالى يرى ويسمع ويعلم ما لا يعلمه العبيد، فيرضى العبد حينئذ ويسلم، لأنه يعلم أنه بين يدي اللطيف الخبير، ثم يتذكر العبد ثالثاً: أن كل مخالفة يقع فيها -سواء أكانت هذه المخالفة هي من الجزع على قدر الله عز وجل، أم كانت هي الاعتراض على شرعه- أنها ذنب عظيم يسخط الله عز وجل، والله تعالى يرى هذا الجزع وهذا الاعتراض ويسمعه ويعاقب عليه، فيكُف العبد عن كل ما يخطر في باله من ذلك، فهذا سر التعليل في قوله: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) ولذلك أعقبه بقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] .(269/13)
ورود صفة العين بالإفراد والتثنية والجمع
وفي هذه الآية إثبات صفة العين لله جل وعلا وذلك في قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] والأعين جمع عين، وقد قال جماعة من أهل العلم: إن الجمع يطلق على الاثنين فما فوقهما، جمعاً بين هذه الآية وبين نصوص أخرى.(269/14)
تفسير قوله تعالى: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:14]
وهذه هي الآية (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) في قصة نوح عليه السلام وهو أن الله تعالى لما أرسل الطوفان ليغرقهم ويجتاحهم، حمل نوحاً ومن آمن معه من قومه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] حملهم على سفينة، ووصف السفينة هاهنا بقوله: {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13] جمع لوح وهي معروفة (وَدُسُرٍ) جمع دِسار: وهو المسمار، فهي ذات ألواح مربوط بعضها ببعض بالمسامير وهي الدسر، وقد كان نوح -عليه الصلاة والسلام- هو الذي يصنعها كما قال الله عز وجل: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] فهذه السفينة التي حمل الله عليها نوحاً ومن آمن معه من قومه، قال عنها: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فهو كقوله في الآية قبلها: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] أي: بمرأى منا وبصرنا، فهي تجري في البحر بمرأى وبصر من الله عز وجل وهذا ليس المقصود منه فقط الإخبار بأن الله -تعالى- يراها، لا بل المقصود وراء ذلك، كما هو المقصود في الآية قبلها أيضاً إثبات الحفظ والكلاءة والحياطة من الله عز وجل لها، فإن قوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] يدل على معنى هو، أن الله تعالى يحفظ رسوله وينصره ويكلؤه، وكذلك قوله هاهنا: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] أي: بمرأى منا، وهذا يتضمن الحفظ لها والكلاءة والحياطة لها من كل عدو ومن كل آفة، {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14] يعني جزاء لنوح عليه السلام الذي كفره قومه، وأنكروه وحاربوه واستهزءوا به، وكذلك جزاء لقومه الكافرين الذين كذبوا واستنكفوا واستكبروا، فهو جزاء للكافرين، بأن يغرقوا ويروا بأعينهم نجاة المؤمنين ويعرفوا بها، وهي جزاء لنوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين إذ يرون بأعينهم نجاتهم، وغرق القوم المكذبين.(269/15)
صفة السمع(269/16)
تفسير قوله تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ)
قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] .
نعم! هذا فيما يتعلق بالمشركين وأقوالهم، وزعموا أن الله تعالى لا يسمعهم ولا يعلم ما يقولون، إذا أسروا أو تناجوا فيما بينهم وبين أنفسهم، فقال الله عز وجل: (أَمْ يَحْسَبُونَ) وأم هاهنا بمعنى بل والمعنى: بل يحسبون إذ يتجرءون على الله عز وجل، وعلى المعاصي (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) الآية، والسر: هو الشيء الخفي حتى إنه قد يكون للإنسان وحده لا يطلع عليه أحداً أبداً، أما النجوى: فهو شيء خفي بين اثنين أو بين جماعة، كما في قوله عز وجل: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف:80] وهم جماعة يناجي بعضهم بعضاً، ويهمس بعضهم إلى بعض، ويتحدثون بصوت خافت لا يسمعه البعيد، فهذه هي النجوى، والسر أخفى منها، والله تعالى يعلم السر والنجوى، ويعلم الله ما هو أخفى من السر أيضاً، {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} [الزخرف:80] أي: نسمع سرهم ونجواهم وزيادة على ذلك {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] .
قوله: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وهذا خطاب لموسى عليه السلام وأخيه هارون، فإن الله تعالى لما قالا: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:45-46] .
فهذا تعليل لعدم الخوف لأن من علم أن الله معه، يسمع قوله وقول عدوه، ويرى مكانه ومكان عدوه وما يصنع به، فإنه يكون عنده اطمئنان، خاصة إذا كان على الحق، وأنه بمرضاة الله عز وجل، فإنه يطمئن ولا يصيبه شيء من الخوف أو الرعب، {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وفي الآيات كلها إثبات صفة السمع لله جل وعلا، وهي صفة ثابتة في الكتاب والسنة حتى وردت في أكثر من تسعين موضعاً، فنثبتها كما يليق بجلاله وعظمته.(269/17)
تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)
قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وهذه الآية من سورة آل عمران فيها إثبات السمع لله عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وهؤلاء هم اليهود كـ فنحاص اليهودي وغيره.
اليهود لما سمعوا قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] قالوا: لعمرك إن رب محمد لفقير إذاً، إذ يستقرضنا ويطلب منا القرض، وهم بهذا قصدوا أمرين:- الأمر الأول: قصدوا النيل من الله جل وعلا، وقصدوا ثانياً: السخرية من الرسول عليه الصلاة والسلام وتكذيب دعوته وأنه يأتي بأشياء لا تقبل ولا تصدق وهي أن الله تعالى يستقرض عباده، وهذا شأن ودأب معروف من اليهود، أنهم ينتهكون المقدسات، ويستهينون بالحرمات، ويسخرون من رب الأرض والسماوات، كما سبق فيما كانوا يقولونه عن الله عز وجل {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] لذلك كتب الله عليهم الذل والصَّغار دائماً وأبداً، فلا تكاد ترتفع لهم راية إلا نكست، ولا يكاد يبين لهم أمر إلا اختفى، ولا يكاد يصل إليهم العز إلا قربه الذل، وهذا في الواقع يجعل عندنا -نحن المؤمنين الدعاة إلى الله عز وجل- ثقة كبيرة جداً لا تحد، بأن يوم اليهود آت قريب، اليوم الذي يبيد فيه المسلمون خضراءهم، ويستأصلون شأفتهم؛ لأنهم ما كتب الله لهم العز أبداً، وعلى مدى التاريخ، هم من ذل إلى ذل، والآن هم كما وصفهم الله عز وجل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] .
فهم الآن قد تمسكوا بحبل من الناس، وربطوا العلاقات الاستراتيجية مع الغرب، حتى أصبح الغرب يصرح بأنه إنما جاء إلى هذه البلاد لحماية أمن الخليج وأمن إسرائيل بكل وقاحة وقلة حياء، وما ذلك إلا لأننا -نحن المسلمين- قد هُنَّا على الله عز وجل فهُنَّا على الناس، وهُنَّا على خلقه، فأصبحنا كما قيل:- ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهود ومع ذلك فإن قوماً غدروا وفجروا وسخروا برب العالمين واستهزءوا به، لا يمكن أن يتركهم بحال من الأحوال أبداً! {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] هل ترى قوماً يقولون هذا الكلام ينصرون ويسددون ويؤيدون ويتركون؟! أبداً! {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:181-182] فهي كالآية قبلها فيها إثبات صفة السمع لله عز وجل، وهذا على سبيل التهديد.
أما الأول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] فهو على سبيل التطمين، أما ذاك فهو على سبيل التهديد: أي: أن السمع سيتبعه ما يترتب عليه من عقاب هؤلاء، {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:182] إذاً: هو سمع وكتابة يتبعها حساب وعذاب.(269/18)
قصة سبب نزول أية المجادلة
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] هذه الآية في سورة المجادلة، وسبب نزولها معروف، حين ظاهر أوس بن الصامت رضي الله عنه من زوجه خولة بنت ثعلبه، وقال لها -وكان شيخاً كبير السن سريع الغضب- فرأى منها أمراً لم يعجبه فقال لها: [[أنت علي كظهر أمي]] وكان هذا في الجاهلية يعد طلاقاً، ثم أرادها فامتنعت منه بما تمتنع به المرأة القوية من الشيخ الكبير، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي إليه، فقال: {ما أراك إلا قد حرمت عليه} فقالت: [[أشكوا إليك أولاداً إن ضممتهم إليه ضاعواْ وإن ضممتهم إليَّ جاعواْ]] فما زالت حتى نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فلما سُرّي عنه قرأ هذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [[الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ركن الحجرة، ما أدري ما تقول، أو يخفى عليَّ بعض أمرها، وسمعها الله تعالى من فوق سبع سماوات، فأنزل الله على نبيه قوله: (قَدْ سَمِعَ) ]] وهذا في الواقع مفخرة لذلك الجيل، الذي نشأ مع الرسول عليه الصلاة والسلام، أنهم يتحدثون ثم ينزل الوحي: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] أي مراجعة الكلام بينكما فهذه هي المحاورة، من حار إذا رجع، من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام لها وكلامها له، {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] .(269/19)
مسلك إثبات السمع لله من الآية
فأثبت السمع في هذه الآية بقوله: (قَدْ سَمِعَ) وهذا فعل ماض، (وَاللَّهُ يَسْمَعُ) وهذا فعل مضارع (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) وهذا اسم من أسمائه عز وجل، سميع أي: سميع لكل مسموع، ظاهراً كان أم خفياً، قريباً كان أم بعيداً، وليس على الله ببعيد فهو يسمع كل مسموع (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ، وكثيراً ما يأتي السمع والبصر مقترنين في القرآن الكريم كما في قوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، ففي الآية إثبات السمع لله عز وجل، وبصورة متصرفة فهو مرة سمع، ومرة يسمع، ومرة سميع، وهذا يدل على أن السمع لله سمع حقيقي، يليق بجلاله وعظمته وسلطانه سبحانه.(269/20)
أدب السؤال
ذكر الشيخ أن أصناف الناس في المعرفة بالحكم صنفان: صنف هم أهل الذكر، وصنف هم العوام، ثم استطرد في قيمة العلماء وما ينبغي لهم، ثم ذكر آداب السؤال حين يتوارد إلى أهل العلم، وذكر جملة من الآداب منها: مراعاة المناسبة وعدم إيذاء العلماء بمضايقتهم في أوقاتهم وحسن اختيار وقت السؤال ومكانه، وعدد جملة من الآداب وختمها بأن يكون السؤال بريئاً غير موجه وليس المقصود منه الشتم والإغاضة إلخ وبين في معرض حديثه أن اختلاف الأمة في الفروع رحمة من الله تعالى.(270/1)
معنى السؤال
الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن موضوع حديثي إليكم هو عن (أدب السؤال) .
واعني ب
السؤال
سؤال أهل العلم عما أشكل من أمور الدين وهو مأمور به كما قال الله عز وجل: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] في موضعين من كتابه تعالى، فأمر الله عز وجل أن نسأل أهل الذكر وهم أهل العلم، العارفون بالكتاب عن ما أشكل علينا من أمور الدين والأحكام ونحوها، فكل من لا يعلم فهو مخاطب بهذه الآية، {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أما الذي يعلم فإنه من أهل الذكر الذين يسألون.(270/2)
أصناف السائلين
إذاً بمقتضى هذه الآية فالناس صنفان: الأول: أهل الذكر: وهم أهل العلم والمعرفة المفتون، الذين يُسألون عن الحرام والحلال وباقي الأحكام.
والصنف الثاني: هم العوام: الذين لا يعلمون ولا يعرفون، فيحتاجون أن يعلموا ويعرفوا ويسألوا، فمن يسألون؟ يسألون أهل الذكر: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وهذا ماأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس وجابر وغيرهما في قصة صاحب الشجة أن رجلاً من الصحابة كان في غزوةٍ فأصابته جراحة (شجة في رأسه) فاحتلم ليلاً وأراد أن يغتسل- احتلم وخاف إن اغتسل أن يتضرر- فسأل فقالوا له: لا نرى لك إلا أن تغتسل، فاغتسل فمات، فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال} فالذي فيه عي وجهل شفاؤه أن يسأل، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يعلموا أن يسألوا من يعلم، فإن السؤال هو شفاء العي والعجز والجهل.
وهكذا في الحديث الصحيح في قصة الرجل الذي كان له غلام يعمل عند رجل عسيف فزنى بامرأته، فافتدى من زوج المرأة -أخذ الزوج من هذا الرجل مائة شاة ووليدة- مقابل ما فعله ولده بزوجته، يقول أبو الولد: فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {لأقضين بينكم بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك- التي افتديت بها من زوج المرأة رد عليك- وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغدُ يا أنيس على امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها فغدا إليها فاعترفت فرجمها أنيس رضي الله عنه} والمقصود أن الرجل قال: فسألت أهل العلم فأخبروني، وقال هذا لسيد المفتين وإمام المعلمين عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك أقره على ذلك- صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر عليه أنه سأل أهل العلم حتى والرسول -صلى الله عليه وسلم -حاضر بين ظهرانيه.(270/3)
إقبال الناس على العلماء
وإن من النعم التى يشكر الله عز وجل عليها، إقبال المسلمين عامتهم وخاصتهم على العلماء في مثل هذه الأزمنة، والأوقات، عامتهم، وخاصتهم يسألونهم ويستفتونهم، وهذه -في الواقع- نعمة تجددت بعد أن ركن العلماء في عدد من البلدان زماناً طويلاً، فقد مضى زمان غير يسير في عدد من البلاد الإسلامية، وأحمد الله أن لم تكن هذه البلاد منها -وإن حاول بعض المغرضين- لكن في كثير من البلاد الأخرى صار العلماء زمناً طويلاً مركونين لا يُستخدمون إلا للسخرية بهم والتندر عليهم في أجهزة الإعلام وفى غيرها، حتى إنهم يضعون الكاريكاتيرات أحياناً التي هي (الرسوم الساخرة) والتي يهدفون منها النيل من العلماء والحط من كرامتهم؛ بل حتى من الهيئات والمؤسسات العلمية، ووالله لقد قرأنا في بعض الصحف في بعض البلاد المجاورة وغير المجاورة كلاماً يعلم الله أنه يستحى أن يذكر مما فيه من تنقص العلماء وازدرائهم، فمنَّ الله تعالى على هذه الأمة، ورد عليها حقيقتها ومعنويتها، فصارت تحترم العلماء، وتعظمهم وتقدرهم وتقبل عليهم من العامة والخاصة.
أما العامة فحدث ولا حرج، قد انجفلوا إلى العلماء يسألونهم عن كل ما يشكل عليهم، حتى من أمور دنياهم، وأما الخاصة فإنك تجد الطبيب يشكل عليه الأمر من أمر الطب فيسأل العالم والفقيه، وتجد المهندس يشكل عليه الأمر فيسأل العالم، وتجد العالم بالاقتصاد والمال يشكل عليه الأمر فيسأل العالم، وتجد الإداري يشكل عليه الأمر فيسأل العالم، حتى الأمراء والزعماء والملوك يقبلون على العلماء ويسألونهم؛ لأنهم يعلمون أن الأمة لا تقبل بالعلماء بديلاً، ولا ترضى إلا قول العالم، وهذا يدل على أن هذه الأمة قد وجدت طريقها بإذن الله تعالى، هذا أمر نحمد الله عليه، ونقول: إنه أمر يسر في هذه الأمة وإن لم يكن بالأمر الغريب، بل هو الأمر الطبيعي، والغريب غيره، فإن الأمة أصلاً من لدن محمد عليه الصلاة والسلام لا معنى لكونها أمة مسلمة إلا لأنها ترجع إلى العلماء، بحيث إن الإسلام هو الضابط الذي تضبط به كل أمور الأمة من صغيرها إلى كبيرها، ليس هناك شيء لا يحتاج إلى سؤال، اللهم إلا القضايا المفروغ منها المعروفة عند العامة والخاصة أن الدين يبيحها ولا يعترض عليها، أما ما سوى ذلك فإنه لابد من أخذ حكم الدين فيها، وحكم الدين لا يسأل فيه من هب ودب، إنما يسأل فيه أهل الذكر، وأهل العلم، وكما أننا لا نسمح مثلاً للبقال أن يكون طبيباً يعالج الناس ويصف الوصفات الطبية، ولا نسمح مثلاً لمن يشتغل بالتبليط أو التلييس أن يقوم بوضع الحسابات التجارية والمالية للمؤسسات، كذلك لا نسمح لكل من هب ودب؛ من أديب أو شاعر أو عامي أو حتى لو كان مثقفاً وغير عالم بالشرع، لا يسمح له أن يتكلم في القضايا الشرعية.
ومن خلال مجالسة بعض الشيوخ من أساتذتي ومن زملائي وأشياخي الذين يسألهم الناس استقرأت بعض الأخطاء وبالتالي بعض الآداب التي يجب أن يراعيها أولئك الذين يسألون وكلنا سائلون، وكلنا ممن يسألون العلماء، حتى لو كان الواحد منا عنده بعض العلم في الشرع، وبعض المعرفة بالأحكام فهو بالتأكيد محتاج إلى أن يسأل، وعمر رضى الله عنه نفسه كان يسأل، وربما أشكلت عليه المسألة فجمع لها أهل بدر وسألهم عنها.(270/4)
آداب السؤال
إننا كلنا -معشر الحاضرين والسامعين- محتاجون أن نسأل، وبالتالي كلنا محتاجون إلى أن نتعرف على شيء من آداب السؤال يتناسب مع المقام.(270/5)
أن يكون الهدف هو معرفة حكم الله
الأدب السادس: هو أن يكون غرض السائل من سؤاله معرفة حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في المسألة، فهدفه الاسترشاد وليس هدفه أي شيء آخر، الأغراض تتفاوت ولكن بعض الناس عندهم مشكلة يريدون أخذ الحكم فيها، هذا لاحرج عليه، بل يجب أن يسأل ولا شك، لكن ما أكثر أغراض السائلين.
بعضهم يسأل لمجرد الاستمتاع بمحادثة فلان، محادثة الشيخ مثلاً وأنه يقول: أحياناً قلت لفلان وقال لي فلان، وهذا ليس غرضاً شرعياً، وبعضهم يسأل لأنه يريد معرفة رأي المتكلم وعنده خبر عن المسألة وعنده معرفة وقد ترجح لديه شيء، أو سأل عالماً، لكنه يريد معرفة رأي فلان نفسه، ليس لأنه أدين أو أعلم؛ فيريد أن يتبعه، بل يريد مجرد استطلاع رأيه، وهذا ليس من الأغراض الشرعية، وإضاعة وقت الناس في مثل هذا ليس حسناً ولا لائقاً.
وبعضهم يسأل للإيقاع، يعني: يسأل سؤالاً بقصد إيقاع المفتي أو العالم أو المتكلم بكلام معين، يرى أنه يريد أن يوقعه فيه لغرضٍ أو لآخر، وبعضهم يسأل للإحراج، بقصد أن يحرج العالم أو الشيخ بسؤال قد بحث عنه وتعب في البحث عنه، لأنه سؤال صعب يرى أن كونه يعرضه دليل على أنه طالب علم، وإلا ما عرض مثل هذا السؤال المحرج، فيرى أن هذا من باب إحراج الآخرين، فيسأل مثل هذه الأسئلة التي قد يعجزون هم عن الإجابة عليها، هذا أيضاً من الأغراض غير الشرعية؛ بل إنك -أحياناً- تلحظ أن بعض الأسئلة قد يكون الغرض من ورائها إيذاء إنسان آخر يسمع، فمثلاً: حصلت بيني وبين زميل لي مشكلة واختلفنا فيها، فأردت أن يسمع زميلي رأي الشيخ فقمت وكتبت سؤالاً عن المشكلة نفسها، ما رأيك في إنسان يقول كذا؟ ويفعل كذا، وعرضت المشكلة، ولكن لم أعرضها بأمانة إنما عرضتها بطريقتي الخاصة، وكأنني أملي على الشيخ الجواب.
أحياناً السؤال يفهم منه أن السائل يريد جواباً معيناً- مثل قوله: ما رأيك فيمن يزعم كذا وكذا؟ أو ما رأيك فيمن يدعي كذا وكذا؟ الذي قال: يدعي ويزعم، هو يريد أن تقول: إن هذا الكلام غير صحيح؛ لأنه دعوى، ولأنه زعم ولو كان يريد معرفة الحق بالضبط لقال: ما رأيك فيمن يقول كذا وكذا؟ هل هذا الكلام أصح أم لا؟ أما كونك تسميه زعماً وتسميه دعوى، أو يقول: ما رأيك في بعض الناس الذين انحرفوا عن سواء السبيل فصاروا يفعلون كذا أو يفعلون كذا أو يفعلون كذا؟ إذاً أنت عارف الجواب، وقد بان من سؤالك أنك تعرف الجواب وتريد جواباً موجهاً كما يقولون، فالسؤال موجه وليس سؤالاً بريئاً، وهذه أيضاً يمكن أن تضاف إلى آداب السؤال وهو: أن يكون السؤال غير موجَّه يقصد من ورائه الاسترشاد فقط لا غير، وليس يقصد من ورائه أيَّ هدف أو مقصد من المقاصد التى أشرت إليها.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى.(270/6)
عدم ضرب أقوال المفتين بعضها ببعض
الأدب الخامس: عدم ضرب أقوال المفتين بعضهم ببعض: وذلك لأن العلماء مجتهدون.
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا حتى والرسول صلى الله عليه وسلم حي بينهم، فلما قال عليه الصلاة والسلام في المتفق عليه: {لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة} فبعضهم صلى في الطريق، وبعضهم صلى في بني قريظة، وما عنف أحداً منهم؛ فاختلفوا في حياته عليه الصلاة والسلام ولم يعنف أحداً منهم.
إذاً تأكد -يا أخي الكريم- أن الساعة ستقوم، والناس مختلفون لا شك في هذا، ولا تعتقد أنه سيأتي يوم يرتفع فيه الخلاف ويصبح الناس على رأي واحد، لا، هذا لا يمكن أن يكون إلا في حالة واحدة: إذا عم الجهل، وطم وأصبح الناس كلهم جهال فهذا موضوع آخر، أما ما دام أنه يوجد علماء فلا بد من خلاف، وهذا لا ينقص من قيمة العالم ولا يضر بالشرع، ولا يؤدي إلى اضطراب العامة والناس، لكن بشرط أن يعرف العامة وغير المختصين وغير العلماء كيف يتعاملون مع هذا الخلاف؟ أعني أنك أنت أحد رجلين، فأنت مطالب وباختصار أن تأخذ بالرأي الأقوى والأصح، وستقول لي: كيف أعرف أصح الأقوال؟ هل أنصب نفسي حكماً بين العلماء؟ نقول: لا تنصب نفسك حكماً بين العلماء، إنما أنت تتكلم في مسألة معينة أو فتوى معينة، فإما أن تكون طالب علم عندك معرفة بالأدلة وبعض الأشياء بحيث تستطيع أن تقول: يبدو لي أن هذا الأمر أقوى بسبب كذا وكذا، وأن دليله أقوى أو حجته أكثر أو ما أشبه ذلك، فتأخذ به ولا عليك، وإما أن تقول: أنا عامي بحت، لا أورد الأمور ولا أصدرها، ولا أعرف الأقوال وأميز بعضها من بعض، فحينئذ نقول: انظر من هؤلاء العلماء من تعتقد أنه أعلم وأدين وأورع، فخذ برأيه واترك الباقى، ولا تشتغل بضرب الأقوال بعضها ببعض، فتقول: هذا قال كذا، وهذا قال كذا، وفلان خالفه، وهذا فيه، وهذا ليس فيه، إنما الذي يهمك هو ما تتعبد به أنت لله عز وجل، ثم دع أمر الناس للناس، ثم لا تأخذ هذا القول، وتفتي به الناس، وكأنك أصبحت مالكاً في المدينة، أو أبا حنيفة، لا!! بل خذ القول واعمل به في شأن نفسك واترك أمر الناس للناس، كل واحد منهم يفعل ما فعل.
إذاً أنت أحد رجلين: إما طالب علم تبحث عن الدليل، وإما عامي تنظر أحسن العلماء في ظنك وأعلمهم وأتقاهم وتأخذ بقوله، هذا هو الذي يسعك أمام اختلاف العلماء.
وفي شهر رمضان مثلاً تثور قضايا كثيرة جداً، في موضوع الاختلاف، نذكر منها على سبيل المثال: 1- قراءة الفاتحة خلف الإمام: موضوع قراءة الفاتحة وراء الإمام في الصلاة، حتى إنه -وربما في المسجد الواحد- يأتي عدد من المشايخ كل واحد منهم يفتي بفتوى مخالفة للآخر، عالم يفتي مثلاً: بأن قراءة الفاتحة وراء الإمام في الصلاة الجهرية خاصة في التراويح والقيام ليست لازمة، فإذا كان الإمام لا يسكت بعد الفاتحة فاسكتوا أنتم ولا تقرءون، وآخر يقول: لا، إن قراءة الفاتحة لا بد منها ولا يسع الإنسان أن يترك قراءة الفاتحة لا في سرية ولا في جهرية، لا في فرض ولا في نفل، وكلاهما قولان معروفان لأهل العلم، وليس أمراً جديداً، بل هذا معروف منذ عهد الصحابة، والصحابة أنفسهم مختلفون في هذه المسألة بالذات، فلا تقل أنت: فلان قال، وفلان قال، وبعض الناس يقولون: تحيرنا ماذا نأخذ وماذا ندع؟ فنقول: خذ من تعتقد بأنه أقوى دليلاً أو من تعتقد بأنه أعلم.
2- زكاة الحلي: مسألة ثانية: يكثر فيها القيل والقال وهي مسألة زكاة الحلي المستعمل الذى تستعمله المرأة، سواء أكانت تلبسه أم تعده للاستعمال، هل تزكيه أو لا تزكيه؟ بعض العوام يقول أحدهم: أنا سمعت الشيخ ابن حميد رحمه الله يقول: إنه لا زكاة فيه، وآخر يقول: يا أخي أنا سمعت الشيخ ابن باز يقول: فيه زكاة، ومثله الشيخ ابن عثيمين يقول: فيه زكاة، نحن نقول هذا صحيح وهذا صحيح، الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله كان يرى أن لا زكاة فيه، والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله يريان أن فيه زكاة، وليس القضية قضية ابن حميد وابن باز وغيرهما.
لا، القضية قضية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختلفوا في هذه المسألة، فمنهم من يرى أن فيه زكاة ومنهم من لا يرى، وكذلك الأئمة الأربعة اختلفوا، فـ أبو حنيفة يرى أن فيه زكاة، والجمهور لا يرون أن فيها زكاة، وكذلك العلماء الكبار اختلفوا، فـ ابن تيمية وابن القيم وهم من كبار الأئمة لا يرون فيه زكاة، وهم يوافقون الجمهور على ما ذهبوا إليه وهكذا.
وفى هذه المسألة عدة كتب فقد رأيت خلال ثلاث سنوات -تقريباً- أنه طبع ثلاثة كتب في مسألة زكاة الحلي، إذاً المسألة ليست جديدة - والقضية ليست جديدة، وإنما يبقى دورك أنت وقضيتك أنت من هذا الخلاف، وليس دورك -إن كنت عامياً- أن تضرب الأقوال بعضها ببعض، إنما تأخذ المرأة المسلمة، أو يأخذ الرجل لزوجته الرأي الذي يعتقد أنه أقرب للصواب، فإن كان لا يستطيع أن يميز، فليقلد من يعتقد أنه أعلم، وانتهى الأمر، أما طالب العلم فلا بأس أن يناقش ويبحث ويأخذ ويعطي.
وأيضاً: مما يجب أن يراعى في هذه المسألة، أن نعي أن الخلاف ليس فيه حرج، فبعض الناس- مثلاً: استقر في ذهنه أن الحلي فيه زكاة، فإذا سمع أحداً يفتي بأن الحلي ليس فيه زكاة وجد في نفسه عليه، وقال: فلان هداه الله ليته ما تكلم، لماذا؟ لأنه أفتى أن الحلي لا زكاة فيه، لماذا يا أخي؟! من قال لك: أن القول الذى تعتقده هو الصواب عند الله، قد تكون اعتقدت أن الأمر صواب، والصواب غيره عند الله، نحن نوافقك أنك تأخذ بقول لنفسك، ممن تعتقد أنه عالم دين، أو تعتقد أن دليله أقوى، أما كونك تتحكم وتريد أن يكون الناس وفق الرأي الذى تميل إليه فهذا ليس بلازم.
3- المفطرات في رمضان: وقل مثل ذلك بالنسبة للمفطرات في رمضان، وكثيراً ما يقع الناس في حيرة من شأنهم، آلكحل يفطر أم لا يفطر؟ آلقطرة تفطر أم لا تفطر؟ آلحجامة بسحب الدم للتحليل أو لإعانة مريض تفطر أم لا تفطر؟ 4- طواف الوداع للمعتمر: وهناك قضية أيضاً تكثر في هذا الشأن: وهي قضية طواف الوداع للمعتمر أهو واجب أم غير واجب؟ قد يقول قائل: عالمان في الحرم المكي أحدهما في شرقه والآخر في غربه، أحدهم يفتي بوجوب طواف الوداع، والآخر يفتي بأنه ليس بواجب، تقول له: نعم، ولو كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضى الله عنهم- في المسجد الحرام لاختلفوا كما اختلف هذان العالمان، والله أعلم.
فالقضية ليس فيها إشكال، القضية فيها رحمة بهذه الأمة، وهذا ما أراد الله أن يكون، وليس فيه حرج، إنسان اجتهد فرأى فيها الوجوب، وآخر اجتهد فرأى عدم الوجوب، فطالب العلم يأخذ بالأدلة، والعامي يقلد من يعتقد بأنه أعلم وأدين، وانتهى الأمر ولا داعي لضرب الأقوال بعضها ببعض.(270/7)
إيضاح السؤال
الأدب الرابع: هو الإيضاح وتجنب الإبهام في
السؤال
وذلك لأن فتوى العالم هي كالقضاء لا تحرم حلالاً، ولا تحل حراماً؛ فلو فرضنا أنك تخاصمت مع شخص على أرض، وكنتما أمام القاضي، وكنت أنت ألحن بحجتك وأبلغ في الكلام، فغلبته بالحجة وحكم لك القاضي، والواقع أن الأرض لخصمك، فحكم القاضي لا يجعل الأرض لك عند الله تعالى؛ ولذلك تعاقب يوم القيامة عليها وتحاسب، وفى صحيح البخاري {من ظلم شبراً من الأرض طوق به يوم القيامة من سبع أراضين} والرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة يقول: {إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض - (يعني أقوى في التعبير وأبلغ) فأقضي له مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها} .
إذاً الفتوى لا تحلل الحرام ولا تحرم الحلال؛ كنت قلبت السؤال وما أعطيت الحقيقة كاملة خلال عرضك للسؤال، لهذا على الإنسان أن يحرص على أن يعرض السؤال عرضاً دقيقاً أميناً، واضحاً للشيخ أو العالم حتى يحظى منه بالجواب المناسب عن سؤاله، أما إذا لبس عليه فلا يلومن إلا نفسه.
وكثير من الناس -رجالاً ونساء- في قضايا المعاشرة الزوجية، تجد الرجل يقول كلاماً، والمرأة تقول كلاماً آخر، ومثله في قضايا الطلاق تجد الرجل يقول كلاماً، والمرأة تقول كلاماً آخر، وكذلك في قضايا الأموال؛ لأن النفوس مجبولة على حب الأموال، فتجد الإنسان لا يعطي الحقيقة كاملة، بل يعطي بعض الحقيقة، أو يلبس أو يغمغم بعض الكلام الذى ليس في مصلحته، لعله يحظى بفتوى فيقول: سألت فلاناً، فقال لي: كذا وكذا، وأحياناً: تكون الفتوى متعلقة بنية السائل، فلا بد من بيان قصدك ومرادك بكلامك، والنية لا يطلع عليها إلا الله عز وجل، وإنما يعرفها المفتي من قبلك أنت، من قبل أخبارك.
ومن هنا تأتي أهمية أن يكون الإنسان واضحاً غير مبهم في سؤاله، وأن يعبر أوضح تعبير عن ما يريد قوله، وأن يذكر ما له تعلق بالسؤال، أو ما يظن أن له تأثيراً بالحكم، حتى يكون الجواب مطابقاً للسؤال.(270/8)
جمال العبارة والأسلوب
أدب ثالث: يتعلق بجمال العبارة والأسلوب الذي يسأل به السائل.
ولست أقصد بجمال العبارة أننا نطلب من العامي أو شبه العامي أن يكون رفيع الأدب، قوي الأسلوب، فصيح العبارة، يأتي بأجمل ما يوجد من الكلمات، هذا ليس بلازم؛ فنحن نجد الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمام بن ثعلبة وحديثه في الصحيح، جاء والرسول صلى الله عليه وسلم جالس فقال: يابن عبد المطلب، قال: قد أجبتك، نعم، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك.
انظر حتى هذا من الأدب، كون الرجل يقوم لسؤاله قبل ما يأتي بالكلام الشديد فيأتي بهذه الكلمة الممهدة هذا جميل: (إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك) .
ولهذا بعض الناس مثلاً يمهد لسؤاله بقوله: إن الله لا يستحي من الحق، لا حياء في الدين، هذا جميل؛ لأنه يوحي بأنه لا مؤاخذة بالكلام الذي قد لا يكون مناسباً، إنما سألت عنه بغرض الاستفسار ومعرفة ما يحل لي وما لا يحل، وهكذا إذا كان الكلام شديداً يمهد له بمثل ما مهد به ضمام بن ثعلبة وهو رجل جاء من البادية، وعادة أهل البادية أن يكون فيهم شيء من الجفاء، لكن مع ذلك فالرجل عرف هذا التمهيد المناسب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن مما ينبغي على الإنسان في كل حال: أن لا يخاطب من يسأله من الشيوخ بعبارة نابية، أو لفظ غير مناسب، وأضرب لكم بعض الأمثلة: بعض الناس اعتاد أن يقول إذا تكلم: أفهمت أم لم تفهم؟ فكونك تتكلم مع أخيك أو مع زميلك بهذا فلا بأس، لكن تسأل الشيخ فتقول: أفهمت أم لم تفهم؟ فهذا غير لائق، أو مثلاً: ماذا بك؟ وأنت تسأل الشيخ هذا غير مناسب ولا يصلح.
أو كونك تروي له قصة مشكلة حصلت بينك وبين إنسان فتأتي بضمير المخاطب فتقول مثلاً: فلان قابلني وقال لي: ما فيك خير، فهذا لا يصح أن تقوله؛ لأنه لو سمع إنسان كلمة (ما فيك خير) ، ظن أنك تقصد ذلك الشخص نفسه، أو الذي تسأله ظن أنك تخاطبه بذلك؛ ولهذا تكلم فيه الذين ذكروا آداب طالب العلم والمستفتي، فنهوا أن يؤتى بمثل هذه العبارات فتقول: مثلاً: فلان قال لي: أنت ما فيك خير، وأنت فيك كذا؛ وفيك كذا كأنك تخاطبه، وإنما تقول: قال: إنني ما فيَّ خير وإنني كذا وإنني كذا، فتأتي بالكلام على نفسك لا على المخاطب.
مثال آخر: وهذا كثيراً ما يقع وقد سمعت منه أشياء وأنا في مجلس بعض الشيوخ.
أحياناً السائل يريد أن يروي قصة أو سؤالاً، لنفترض أنه يريد أن يسأل عن إنسان كان يسرق المال، وسرق مبالغ طائلة من الأموال ثم تاب الله عليه، فكيف يستطيع أن يتخلص من هذه الأموال.
فيأتي السائل من باب التقريب وإيضاح السؤال، يفترض أن الشيخ المسئول هو الشخص السارق، فيقول مثلاً: وهو يخاطب الشيخ: فرضنا أنك تعملُ في مؤسسة، وبعد ذلك سرقتَ منها أموالاً!! هذا غير لائق قطعاً؟! ولو قال: أنا أعملُ في مؤسسة، وبعد ذلك سرقتُ أموالاً لكان الأمر أهون، خاصة لو كانت القضية قد وقعت منه فعلاً.
والأولى أن ينسبها إلى آخر مجهول فيقول: هناك إنسان فعل كذا، ويذكر عن إنسان أنه شرب الخمر ومات وهو في بطنه أو تاب أو غير ذلك.
فلا يصلح أن تفترض أن المسئول هو السائل المستفتي، لا أقول: إنه محرم شرعاً؛ لكنه -أدباً- غير لائق وغير مناسب.
وأحياناً بعض العامة تجد فيهم من التنبه لهذه الأشياء ولطافة العبارة، وحسن التأني، وكثرة الدعاء للمسئول، والترحم عليه والترضي، ما يحتاج لبعضه بعض طلبة العلم.(270/9)
مراعاة المناسبة
الأدب الثانى: هو مراعاة المناسبة: وذلك يعني: أن الإنسان بشر حتى لو كان مفتياً أو عالماً جليلاً أو شيخاً فاضلاً نبيلاً فإنه يبقى بشراً، وكونه بشراً يعني: أنه يعرض له الغضب والرضا، والحزن والسرور، والصحة والمرض، والنوم واليقظة، ويكون في حاجة أهله، وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عندما سئلت عنه عائشة رضي الله عنها قالت: [[كان يكون في مهنة أهله، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة]] ولذلك وضع الشارع حدوداً وآداباً للدخول والخروج، والاستئذان والمحادثة، وغير ذلك، ومن هذا أيضاً ما يتعلق بقضية الهاتف وهي أظهر ما تكون.
فإن الإنسان مثلاً قد يغلق عليه بابه، لكن تأتي قضية الهاتف فتجد في رمضان من الناس من يسهر الليل كله، ولذلك إذا أراد أن يتصل بأحد المشايخ ليسألهم متى يتصل بهم؟ يتصل بهم الساعة الثانية ليلاً! لأن الناس لا ينامون في رمضان هكذا يقيس الناس على نفسه! وآخر ينام بالليل ولا ينام بالنهار، لذلك يذهب يتصل الساعة الحادية عشرة ضحى لماذا؟ لأنه نام في الليل، فهو يقول: الناس نائمون في الليل، فلا تجد الآن أحداً نائماً، يظن الناس مثله.
وثالث: ينام بعض الليل وبعض النهار، ولهذا ربما يتصل في الساعة الثالثة بعد الظهر، لماذا؟ لأنه يقول: إن الناس قد شبعوا من النوم الآن فيقيس الناس على نفسه، لذلك تجد كما ذكر لي بعض المشايخ أن جرس الهاتف يرن عنده طيلة أربع وعشرين ساعة؛ لأن كل إنسان يتصل في الوقت الذي يناسبه، دون أن يراعي وقت الآخرين، وهذا نوع من الاستئذان الذي ينبغي أن يراعى فيه الأدب.
الله تعالى أدبنا بالنسبة لطرق الباب والدخول والاستئذان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] كذلك الأمر بالنسبة لطرقك للإنسان في حمأة الظهيرة، أو في منتصف الليل كونك تطرق عليه الباب في هذه الأوقات غير مناسب، وكذلك بالنسبة للهاتف فكون الإنسان يتصل في أي وقت دون أن يحسب حساباً لمن يتصل به هذا ليس بجيد.
وربما أن بعض الإخوة إذا لم يظفر بطلبه وحاجته، فإنه ربما يلوم ويعتب، لأنه لا يقدر إلا الوضع الذي يعيشه ولا يتصور ظروف الآخرين، ولنفترض أنك تصورت أن الشيخ الذي تريد أن تتصل به يقظاً الآن، فهل يعني أن هذا الشيخ ليس له هم إلا أن يفتي أو يجيب على أسئلتك؟ كلا! بل ستجد عنده قراءة، وستجد أنه بحاجة إلى عبادة، وبحاجة إلى أن يخلو بنفسه، وبحاجة إلى أن يكتب بعض بحوثه، أو يصحح بعض كتبه، أو يكون في مهمة رسمية، أو ما أشبه هذا.
إذاً فحق أن يقدر كل هذه الظروف، ثم يبحث الإنسان عن الوقت المناسب للاتصال.(270/10)
الاختصار في السؤال
فمن ذلك مثلاً: الاختصار في
السؤال
وهذا أدب مهم؛ فإن الوقت كما تعلمون ثمين، وهو سريع التقضي، أبِيُّ التأتي، بطيء الرجوع، وكثير من الناس قد يكون إحساسه بمشكلته هو أكثر من إحساسه بوقت غيره؛ لذلك إذا أراد أن يتكلم في قضية أطال واستطرد في ذكر تفاصيل لا حاجة لها من قريب أو بعيد.
فمثلاً: إذا كان يريد أن يسأل عن قضية تتعلق بكونه هل يصوم الكفارة عن رجل مات معه وهو في حادث سيارة؟ مثلاً فإنه يبدأ يسرد تفاصيل لا تتعلق بالحكم ولا تؤثر فيه، من كونه في يوم كذا في شهر كذا، سافر من بلد كذا قاصداً بلد كذا ويذكر نوع السيارة، ثم يذكر أموراً كثيرة ليس لها أي تعلق بالسؤال، نعم هناك أشياء تتعلق بالسؤال مثل: هل فرط أم لم يفرط؟ هل يعتني بالسيارة أم لا يعتني؟ هل كان مسرعاً أم غير مسرع؟ هل كان مخطئاً أم غير مخطئ؟ كلها متعلقة بالحكم لا بأس من إيرادها، بل لابد منها لكن هناك أشياء لا تعلق لها بالحكم، فكونه مسافراً مثلاً من بريدة إلى الرياض، هذا لا يؤثر في الحكم، وكون السيارة أمريكية أو يابانية، هذا لا يؤثر في الحكم، إنما من باب الاستطراد، وبعض الناس يحب إيراد القصة على سبيل الرواية والحكاية، مع أن وقت الآخرين قد لا يتسع لسماع هذه التفاصيل التي لا فائدة منها.
وأحياناً يكون السؤال بالهاتف، فتجد السائل قبل أن يطرح سؤاله يسترسل بالسؤال عن الأحوال والحلال والعيال والأمور والصحة، وما أشبه ذلك مما لا جدوى منها، فلو تصورنا بعض مشايخنا مثلاً الذين عندهم أوقات مخصصة للسؤال، كما نجد لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين والشيخ عبد الله بن جبرين أو الشيخ صالح الفوزان أو غيرهم من المشايخ، الذين يخصصون أوقاتاً للفتوى قد يسألهم في اليوم الواحد ربما ألف سائل، فلو تصورت ألف واحد يقول: كيف حالك سماحة الشيخ؟ كيف الأحوال؟ كيف العيال؟ كيف الصحة والجيران؟ وكيف أنت مع الصيام؟ لوجدت أنه ضاع مع ذلك وقت ثمين جداً، وليس مثل وقتي أو وقتك، لا، بل هو وقت يعد أثمن من أوقات الآخرين، ولذلك فإن السائل يراعي أن يتكلم بالكلام الطيب مثل السلام مثلاً، وكيف حالكم، أو كيف أصبحتم، وكيف أمسيتم، ثم يطرح سؤاله.
إذاً: القضية الأولى التي لابد منها هي: مراعاة الاختصار والاقتصار على ما يتعلق بالسؤال.(270/11)
الأسئلة(270/12)
حكم صلاة المفترض خلف المتنفل
السؤال
ما حكم أن ينوي المصلي جعل أول ركعتين من صلاة التراويح من الراتبة، يعني إذا لم يصل الراتبة ونوى أن تكون أول ركعتين من التراويح عن الراتبة؟
الجواب
لا حرج في ذلك.(270/13)
طلب الزكاة للفقراء
السؤال
أقترح لو تعرضت لموضوع طلب الزكاة عند بعض الناس الذين يستأجرون سيارات ليجوبو الشوارع يتعرضون للناس، وظاهرهم ميسور، بل إن بعضهم لديه خادمات، والمشكلة أن بعضهم يفاصلك في الزيادة والنقص، كأنه يبيع ويشتري؟
الجواب
في الواقع هذا مؤسف جداً، وبعض هؤلاء أغنياء، وبعضهم ليسوا بحاجة، بل بعض هؤلاء كما وقفت بنفسي على ذلك يكونون مبتلين بشرب خمر أو مخدرات، أو غيرها فيتعرضون للمارة في رمضان أو غيره، وظاهرهم غير ملتزمين، بل ظاهرهم فيه بعض الانحرافات، وكذلك ظاهر أحوالهم ميسورة، وعلى الإنسان أن يبحث بصدقته وزكاته عمن يعتقد أنه أحوج.(270/14)
السفر إلى الخارج لدراسة اللغة
السؤال
عندي نية سفر لبلد الغرب لدراسة اللغة بعد رمضان، هل في ذلك بأس؟
الجواب
هذا يختلف، إذا كنت تستطيع أن تجد هذه الدراسة في بلدك فلماذا تسافر إلى بلد كافر! يعصى الله تعالى فيه جهاراً نهاراً؟!(270/15)
ميقات من سافر إلى مكة لغير العمرة ثم نوى العمرة
السؤال
من يريد أن يذهب إلى مكة وهو لا يريد العمرة ثم دخل مكة وأنشأ العمرة من مكانه، هل يرجع إلى الميقات، أم أن ميقاته ميقات أهل مكة؟
الجواب
من جاء ودخل مكة وهو لا يريد العمرة فليس عليه إحرام، فإذا أنشأ نية العمرة داخل مكة، فإنه يحرم من أقرب مكان في الحل كأن يحرم من التنعيم مثلاً.(270/16)
الإيمان بالرؤية أبلغ
السؤال
ما الحكم في قبول الله طلب سيدنا إبراهيم بشأن الطير، بالرغم من إقرار إبراهيم بالإيمان، وما علاقة الإطمئنان بالإيمان إذا علمنا أن الإيمان محله القلب؟
الجواب
الإيمان يزيد وينقص، وقد يكون الإيمان إذا رأى الإنسان ما يؤمن به أبلغ بلا شك من الإيمان بالخبر، ولذلك قال الله تعالى له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] فهناك مرحلة فوق مجرد الإيمان، وهي طمأنينة القلب.(270/17)
إخراج زكاة الفطر نقداً
السؤال
هل يمكن إخراج زكاة الفطر نقداً من المال؟
الجواب
كلا، زكاة الفطر لا بد أن تكون من الطعام الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(270/18)
نسبة كتيب دعاء ختم القرآن لشيخ الإسلام ابن تيمية
السؤال
هل صحيح أن الكتيب الصغير المنتشر بدعاء ختم القرآن لشيخ الإسلام ابن تيمية؟
الجواب
نسبة دعاء ختم القرآن لشيخ الإسلام ابن تيمية، فيه نظر.(270/19)
المقصود بالمصلي الوارد في الحديث
السؤال
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى الفجر ثم جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس فكأنما حج واعتمر} ما المقصود بالمصلى؟
الجواب
المصلى المقصود به -والله تعالى أعلم- المسجد، المسجد الذي صلى فيه.(270/20)
خطر الهاتف
السؤال
أرجو توجيه كلمة لمن استغل سماعة الهاتف بالمعاكسات، سواءً من البنين أو البنات، حيث أصبح المسلمون يعانون من ذلك ولا يستطيعون مراقبة هواتفهم مراقبة تامة، لأن عندهم شباب وشابات أحداث، يخافون أن يقعوا في شراك هذه المعاكسات والاتصالات المشبوهة، كما وقع غيرهم وانحدروا رويداً من دينهم وأخلاقهم فوقعوا ضحية مكالمات آثمة تأتي من قعر المنزل بعيداً عن أعين الناس؟
الجواب
نعم، هذا خطر كبير، وأنا اتصل بي كثيرٌ من الناس ذكوراً وإناثاً بعضهم في سن الثالثة عشرة والرابعة عشرة يذكرون أنهم وقعوا في شراك هذه المكالمات الهاتفية ثم نجاهم الله تعالى منها، وبعض الفتيات تتصل وتقول: إن والدها من الرجال الطيبين، ومن الأخيار، ومن طلبة العلم، ومع ذلك انجرفت إلى هذا دون علمه، وهذا ينبهنا إلى أمور: ضرورة مراقبة الهاتف جيداً من قبل الوالدين والأهل.
ومنها: أنه من الخطأ أن يضع الوالد عند بنته أو ولده جهازاً خاصاً للهاتف دون أن يكون قد قام بتربيتهم تربية صحيحة، وعلى أولئك وهؤلاء أن يتقوا الله تعالى ويراقبوه؛ فإن العبد قد يبتلى في نفسه أو ولده، فمن أساء إلى الناس ربما يعاقبه الله تعالى في المستقبل في نفسه أو في أولاده، والجزاء من جنس العمل.(270/21)
موقف كبار العلماء من رسالة الشيخ/ سفر الحولي
السؤال
ما هو رد أصحاب الفضيلة كبار العلماء على الرسالة الموجهة إليهم من قبل الشيخ سفر الحوالي، وهل ترى بأساً في تداولها بين الناس عامة؟
الجواب
لم أعلم في ذلك رداً معيناً، إنما وقعت في يدي هذه الرسالة، وقرأت شيئاً منها، كما وقعت في يدي كثيرين من الناس، أما رد أصحاب الفضيلة فلم أعلم عنه شيئاً.(270/22)
دفع الزكاة للمحتاجين من العصاة
السؤال
هل يجوز دفع الزكاة لشخص محتاج فعلاً لكنه غير ملتزم، بمعنى أن عليه بعض المخالفات؟
الجواب
نعم يجوز دفع الزكاة إليه ما دام مسلماً، اللهم إلا إن كنت تخشى من الزكاة عليه أن تذهب في معصية، كأن يكون يشرب الخمر مثلاً، فتخشى أن يشتري بالزكاة خمراً فحينئذ من الممكن أن تقول له: إن عندي لك زكاة فإذا كنت تريد شيئاً أشتريه لك، فإذا ذكر لك حاجة يكون وكلك بشرائها.(270/23)
تسوية الصفوف بالنسبة للنساء
السؤال
تشتكي بعض النساء في هذا المسجد من اللواتي لا ينتظمن في الصف وهن جماعات يسلكن صفوف الرجال، صفاً خلف صف، وفي كل بقعة جماعة فما نصيحتكم لهن؟
الجواب
في الواقع ينبغي للنساء إذا صلين في جماعة أن يسوين الصفوف، ويتقاربن في الصف كما هو الحال بالنسبة للرجال.(270/24)
نية نقض الوضوء
السؤال
هل إحداث نية بنقض الوضوء قبل اكتماله ينقض الوضوء، بمعنى: أني نويت أن أنقض الوضوء ولم أكمله، وذلك بعد تمام ما نويت الوضوء؟
الجواب
مجرد النية لا ينقض الوضوء، فإذا نوى الإنسان فإنه يكمل وضوءه وخاصة أولئك المبتلون بالوسواس.(270/25)
زكاة المال المتروك للورثة
السؤال
عندي لوالدتي رحمها الله عشرة آلاف ريال، آيله إلى الورثة ولم يستلموها، وهي دين علي ولها أكثر من ست سنوات، ونسيت أن أزكيها وأريد الآن أن أزكيها، فهل زكاتها منها أم من عندي، لأنني المتسبب في بقائها؟
الجواب
في الواقع أن المال هذا خرج من والدتك وصار للورثة، والورثة لم يستلموه إلى الآن ولم يخصم عليهم، فالقول بوجوب الزكاة في هذا المال فيه إشكال؛ لأنه سوف يقسم على الورثة، وقد يكون من الورثة من ماله من هذا المال لا يبلغ نصاباً.(270/26)
قراءة القرآن في ركعة
السؤال
هل صحيح ما نشر أن أحد الصحابة قام إحدى الليالي وقرأ كل القرآن في ركعة؟
الجواب
هذا بعيد جداً، لأنه لو قام يقرأ القرآن كله في ليلة ما أتمه والله تعالى أعلم، خاصة أنه سوف يصلي المغرب والعشاء ويأكل كما هو مأمور بالأكل، ويفطر ويتسحر، هذا فيه بعد، ولو فرض جدلاً أنه صح، فليس مشروعاً ولا يحمد فاعله، ولا يصح عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(270/27)
حديث القلب
السؤال
هل يحاسب الإنسان بهواجس القلب؟
الجواب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {عفي لأمتي ما حدثت به أنفسها، مالم تتكلم أو تعمل} والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فما يخطر في القلب من خواطر وهواجس فإنها لا تؤثر ولا يحاسب العبد عليها.(270/28)
شد الرحال ودروس العلم
السؤال
لا تشد الرحال إلا ثلاثة مساجد، هل تركنا لمساجدنا وبحثنا عن الأئمة الذين يعطون القرآن حقه بركوب السيارة يدخل في هذا الحديث؟
الجواب
كلا، غفر الله لك، ليس من هذا أولاً: لأن هذا ليس شد رحل، لأن المقصود من شد الرحل السفر، وذهابك إلى مسجد في بلدك ليس سفراً، ثم إذا فرض أنك سافرت إلى بلد لسماع قراءة الإمام والصلاة وراءه، فهذا لا يدخل في الحديث، فإن المقصود: لا تشد الرحال إلى بقعة إلا إلى ثلاث بقاع أو مساجد، أما شد الرحل لغير ذلك، مثل أن تشد الرحل لزيارة مريض أو لطلب علم أو لصلة رحم، أو لتجارة أو لغير ذلك فهذا لا حرج فيه.(270/29)
حلي المرأة فيما دون النصاب
السؤال
إذا كان حلي المرأة لا يبلغ النصاب، فهل فيه زكاة؟
الجواب
ليس فيه زكاة بلا شك، إنما الخلاف إذا كان يبلغ نصاباً، والنصاب إحدى عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنيه.(270/30)
فضل الاستماع إلى القرآن
السؤال
هل للمستمع إلى القرآن أجر؟
الجواب
المستمع إلى القرآن له أجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود: {اقرأ علي القرآن، قال: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عليه سورة النساء، حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:41-42] قال: حسبك الآن، فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان} .(270/31)
قراءة الفاتحة للمأموم في صلاة التراويح
السؤال
هل يجب على المأموم قراءة الفاتحة في صلاة التراويح، علماً أن الإمام يقرأ مباشرة؟
الجواب
هذا مثال لما ذكرته قبل قليل في موضوع اختلاف أهل العلم، والمسألة مختلف فيها، فمن أهل العلم من يرى وجوب القراءة، في الفرض والنفل في الجهرية والسرية للمأموم والإمام والمنفرد، ومنهم من يقول: إنه في الصلاة الجهرية لا يجب على المأموم القراءة؛ لأن تأمينه على قراءة الإمام يكفيه، فإذا كان الإمام لا يسكت لم يجب عليه القراءة وإذا قرأ الإمام وجب الإنصات لقول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وقال صلى الله عليه وسلم: {وإذا قرأ فأنصتوا} .(270/32)
الاستهزاء والسخرية
السؤال
هناك كلمة وقع فيها بعض الشباب عندما يرون إنساناً فيه عيب يقولون: شكلك غلط؟
الجواب
هذا كلام مبهم يجب تفصيله وتوضيحه، فإذا كان يقصد بالشكل صفة الإنسان، مثل: ثيابه أو شيئاً من ارتكابه للمحرمات، فلا بأس لكن ينبغي أن يكون ذلك على التعيين بطريقة أحسن، ومواجهة الناس بما يكرهون هكذا ليس لائقاً.(270/33)
قيمة رمضان عند الشباب
السؤال
نرجو النصيحة والإرشاد لبعض الشباب الذين لم يعرفوا قيمة رمضان حتى الآن؟
الجواب
الليلة إحدى عشر، فمن لم يعرف قيمة رمضان حتى الآن فمتى يعرف؟!(270/34)
صحة حديث: تحديث الناس على قدر عقولهم
السؤال
أرجو أن تبين مدى صحة هذا الحديث: {أمرنا أن نحدث الناس على قدر عقولهم} ؟
الجواب
هذا ليس فيما أعلم حديثا، بهذا اللفظ، وإنما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: [[حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله]] .(270/35)
طعم السواك وبلعه للصائم
السؤال
عند استعمال السواك يكون هناك طعم مع الريق خاصة عندما يكون السواك حاراً فإذا بلعت الريق يكون طعم المسواك فيه؟
الجواب
الواقع أن السواك مشروع في كل وقت في رمضان وغيره قبل الزوال وبعده، وعلى الإنسان أن يختار لنفسه سواكاً لا يكون فيه طعم ويكون قد تسوك به من قبل.(270/36)
السنة أثناء إقامة الصلاة
السؤال
أثناء أداء ركعتي السنة أقيمت الصلاة فهل أقطع السنة لأداء الفرض أم ماذا؟
الجواب
إذا كنت في أول السنة، فأقطعها لأداء الفريضة؛ لأن الفرض أولى، وإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام أفضل، أما إذا كنت قد أمضيت من السنة كثيراً، بإمكانك أن تتمها كما لو كنت في التشهد الأخير أو في السجود الأخير في الركعة الثانية، بحيث تتمها خفيفة وتدرك الإمام بعد تكبيرة الإحرام بيسير، فلا حرج في ذلك.(270/37)
الحركة أثناء الصلاة
السؤال
بعض المصلين كثير الحركة أثناء الصلاة، مثلاً يقدم رجله ثم يقدم الأخرى، أو يلعب بأصابعه، وهذه الحركات موجودة بكثرة، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
كثرة الحركة في الصلاة بغير حاجة قد تكون مكروهة، وقد تكون محرمة، بل منها ما يبطل الصلاة إذا كثرت كثرة تخل بصفة المصلي وهيئته، وعلى الإنسان إذا صلى أن يخشع ويسكن لمن صلى له.(270/38)
تناول السحور أثناء الأذان
السؤال
أتيت من سفر متأخر، وأثناء أكلي السحور رفع أذان الفجر، وقمت بالاستمرار بالأكل لدقائق، ثم أمسكت فهل علي قضاء أم ماذا؟
الجواب
إذا كان الأذان على الوقت فإنه يجب على الإنسان أن يمسك مع الأذان، لكن إن كان المؤذنون يبكرون، كما هي الحال بالنسبة لبعض المؤذنين اليوم، فإن الدقيق منهم هو من يؤذن على التقويم، والتقويم فيه شيء من الاحتياط، فإذا تأخر الإنسان بعد التقويم دقيقة أو دقيقتين فلا حرج عليه إن شاء الله، وإن احتاط لنفسه فأمسك مع أول ما يسمع النداء فهذا أحسن.(270/39)
النداء الأول في الفجر
السؤال
في رمضان خاصة، يتم في أغلب المساجد النداء الأول لصلاة الفجر والنية في ذلك هي إيقاظ الناس للسحور، هل هذا العمل صحيح أم أنه بدعة إذا كان الغرض مخالفاً للأمر الذي شرع من أجله النداء؟
الجواب
في الواقع أن النداء الأول مشروع في كل وقت، وفي رمضان خاصة، لأن الحديث الصحيح الذي فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن بلالاً يؤذن بليل} هذا في رمضان، بدليل أنه قال بعد ذلك: {فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت} فالنداء الأول مشروع في كل وقت وفي رمضان خاصة.(270/40)
من تصادق؟!
تحتوي هذه المادة على الحث على صحبة الأخيار والحذر من صحبة الأشرار؛ وحقوق وآداب وثمار الصحبة الصالحة.(271/1)
المرء مع من أحب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه, وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
الحمد لله الذي جعل هذه الدنيا سجناً للمؤمنين, وجعلها جنة للكافرين, كما صح ذلك عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم, جعل هذه الدنيا سجناً للمؤمنين, بالقياس إلى ما ينتظرهم عند الله تبارك وتعالى من النعيم المقيم, مما لم ترَ عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر, وإن كان لهم في هذا السجن من ألوان النعيم والسرور من قربهم من الله، واللذة بمناجاته, والأنس به سبحانه, ما يجعلهم في نعيم لا يقاس به نعيم مما في هذه الدار, وجعل الدنيا جنة للكافرين بالقياس إلى ما ينتظرهم عند الله تبارك وتعالى من النكال والأغلال والحجاب والحرمان, وإن كان لهم في هذه الجنة من ألوان العذاب والنكال والنكد والكبد والشقاء؛ ما يجعلهم في شقاء لا يقاس به شقاء, فقد ذكر الله عز وجل في كتابه هؤلاء الكفار, وما مُتِّعُوا به من الأموال والأولاد, وأن الله عز وجل أراد أن يعذبهم بها في الدنيا قال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] فكل ما أعطوا في هذه الدار فهو شقاء عليهم، مع ما ينتظرهم عند الله عز وجل من ألوان العذاب المعلومة.(271/2)
الولاء والبراء قائم على المحبة والبغض
إذاً: فمن أحب المسلمين فهو معهم, ومن أحب الكافرين والمنافقين والفاسقين فهو معهم في الدنيا والآخرة, قال الله تبارك وتعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] , والمقصود بالأزواج في هذه الآية ليس الزوج بالمعنى المعروف أو الزوجة, كلا, لأن الله عز وجل ذكر لنا في القرآن الكريم أنه قد يكون الزوج صالحاً والزوجة غير ذلك, وقد يكون العكس كما في قصة زوجة فرعون وزوجة لوط وزوجة نوح , وغير ذلك من القصص المعروفة.
إنما المقصود بالأزواج هم الأشباه والنظراء، نظراء الإنسان في دينه وطريقه ومنهجه, وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] , أي: قرنت وحشرت مع أشباهها ونظرائها يوم القيامة.
إذاً من أحببته فاعلم أنك معه في الدنيا والآخرة, فإذا أحببت المؤمنين، فاعلم أنك معهم في الدنيا على الإيمان والعمل الصالح، وأنك محشور معهم إن شاء الله يوم القيامة, ومن أحب الكافرين أو المنافقين أو الفاسقين فشأنه وشأنهم كذلك.
هذه النقطة الأولى التي أحببت أن أجليها لكم في هذه المحاضرة, وهي باختصار أن الله عز وجل خلق الخلق متفاوتين في كل شيء, ومع ذلك جعل أرواحهم متقاربة أو متنافرة, فهي جنود مجندة, أرواح الطيبين والصالحين تحشر زمرة واحدة في الدنيا والآخرة, وأرواح الخبثاء والفاسدين كذلك, هذه هي النقطة الأولى التي أحب أن ننتبه إليها لنبني عليها النقطة الثانية التالية لها.(271/3)
المحبة تكون بعد المعرفة
أيها الإخوة! إن الله عز وجل حين خلق الناس خلقهم متفاوتين في كل شيء, متفاوتين في أخلاقهم وطبائعهم وميولهم, ومع هذا التفاوت العظيم والبون الشاسع, فقد جعل الله تبارك وتعالى أرواحهم جنوداً مجندة, فما تقارب منها وتعارف ائتلف, وما تنافر منها وتناكر اختلف, كما في الحديث الذي رواه مسلم، وأبو داود، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف, وما تناكر منها اختلف} .
ولذلك فإن اللقاء بين المؤمنين في هذه الدار -كما سيتضح لكم- هو نوع من النعيم العظيم, الذي تأنس به قلوبهم في هذه الدنيا, وإن كانوا -كما ذكرت في مقدمة الحديث- في سجن بالقياس إلى ما ينتظرهم في الآخرة.
فالمسلمون على رغم فوارق الزمان والمكان هم من حيث الجملة ممن تقاربت قلوبهم وتآلفت, وهم بالنسبة لغيرهم من الكافرين والمنافقين قد تنافرت معهم قلوبهم، وتباعدت واختلفت أرواحهم, وتناكرت وتباغضت, وبناء على ذلك فإنك لو رأيت من يدعي الإسلام بلسانه, ثم يحب الكافرين ويميل إليهم، فاعلم أنه مسلم شكلاً لا حقيقة, وفي هذا المقام يروي لنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله متى الساعة؟} ونظراً لأن هذا السؤال مما لا ينبغي أن يعلم جوابه إلا الله عز وجل؛ لأنه استأثر بعلم الساعة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم صرف السؤال إلى أمر مهم آخر, كان ينبغي أن يُسأَل عنه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال لهذا الرجل: {ما أعددت لها؟ قال الرجل: لا شيء, إلا أني أحب الله ورسوله, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت, قال أنس: ما فرحت بشيء فرحي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: أنت مع من أحببت, قال رضي الله عنه: فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بعملهم} والحديث متفق عليه عن أنس، ورواه البخاري ومسلم أيضاً عن ابن مسعود وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.(271/4)
تفاوت قلوب المؤمنين أنفسهم
ما دام أننا قد علمنا أن المؤمنين أمة واحدة وحزب واحد -كما سبق- فيجب أن نعلم أنهم يتفاوتون مع ذلك فيما بينهم, في مقدار تقارب أرواحهم, أو تباعدها تفاوتاً بعيداً, ويختلف قدر محبة بعضهم لبعض اختلافاً كبيراً, ففي بعض الأحيان قد تلتقي بشخص تراه لأول مرة؛ فتحس بأن قلبك يحب هذا الشخص، حتى كأنك تعرفه منذ زمن بعيد, وفي أحيان أخرى تجد شخصاً نلتقي معه صباحاً ومساءً، وتشعر من قلبك بالازوِرَار عنه والتجافي عنه, مع أنهم كلهم مسلمون, وما ذلك إلا لأن مقدار التقارب أو التباعد؛ حتى في أرواح المؤمنين يتفاوت فيما بينهم تفاوتاً بعيداً, وهذا القرب الذي تحس به لبعض الأرواح وبعض القلوب وبعض الأشخاص, هو يدور في الغالب على مدى قرب هؤلاء الأشخاص من ربهم.(271/5)
المشاكلة في الظاهر تورث المجانسة في الباطن
وأشد ما تكون المحبة بين المتشاكلين: المتشاكلين في الهدي الظاهر, أو في السمت، أو في الهدي الباطن, فالمشاكلة في الظاهر بالملبس والهيئة والاختصاص؛ تورث تشاكلاً في الهدي الباطن, وهذه المشاكلة في الهدي الظاهر والباطن, تورث محبة بين المتشاكلين, كما أن المتباعدين في الهدي الظاهر والباطن, يوجد بينهم من الجفوة والتباعد ما ذكرت.
وقد نبه وقرر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تقريراً جيداً في كتابه المعروف "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم" وهو كتاب مفيد جداً, يحسن قراءته والانتفاع به.(271/6)
من صور المحبة
إن من أمثلة المحبة السابقة وصورها, ما يرويه لنا الإمام مالك في الموطأ بإسناد صحيح, كما يقول النووي -رحمهم الله- عن أبي إدريس الخولاني رحمة الله تبارك وتعالى عليه قال: [[دخلت مسجد دمشق فإذا فيه فتى براق الثنايا, وإذا الناس حوله، فإذا اختلفوا في شيءٍ أسندوه إليه, وصدروا عن رأيه فيه, قال: فنظرت إليه فوجدت الناس محيطين به، حتى خرج، فلما كان من الغد هجّرت إلى المسجد -يعني: بكرت إليه- فوجدته قد سبقني بالتهجير ووجدته يصلي, فانتظرته حتى إذا قضى صلاته, أتيته من قبل وجهه, فسلّمت عليه ثم قلت له: إني أحبك في الله, قال: آلله, قلت: آلله, قال: آلله, قلت: آلله؟ قال: آلله؟ قلت: آلله ثلاث مرات يستحلفه بالله هل أنت صادق في محبتك لي في الله, كلها يؤكد أبو إدريس فيها أنه يحبه في الله - فقال له هذا الرجل: أبشر، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ, ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ, ووجبت محبتي للمتباذلين فيّ} ]] .
إذاً: النقطة الثانية التي نبنيها على النقطة الأولى, هي: أن مجمل المسلمين وإن كانوا في الجملة أمة واحدة, وزمرة واحدة في قلوبهم, إلا أن بين قلوبهم من التفاوت ما بينها، وكلما كان الإنسان أكثر قرباً من الله بالعلم النافع والعمل الصالح؛ كان الصالحون أكثر محبة له؛ نظراً للتشاكل بينهم في الظاهر والباطن.(271/7)
الأمور التي تقربك من الله
هؤلاء الأشخاص الذين يحس الناس بالقرب منهم، والمحبة لهم والأنس بمحاورتهم، هم في الغالب ممن تقربوا إلى الله عز وجل بأمرين هما أساس الدين وقوامه.
الأمر الأول: العلم النافع، فعلموا دين الله وشرعه, وفهموا ذلك عن ربهم.
الأمر الثاني: هو العمل الصالح الذي ترتب على هذا العلم، فهم لم يكونوا ممن يتعبدون ويتقربون إلى الله على جهل وضلال وعدم معرفة, ولم يكونوا ممن يعلم ولا يعمل بعلمه فيكون كما قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] بل حققوا دين الله وشرعه في أمرين: في العلم النافع، وفي العمل الصالح, وهما أساس الهدى، كما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] , ولذلك في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلاناً فأحبه, فيحبه جبريل، ثم يحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} .
ومحبة الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده, تكون لاستجماع الخصلتين السابقتين اللتين ذكرتهما آنفاً.(271/8)
أثر المحبة وثمرتها
النقطة الثالثة: أن هذه المحبة التي يشعر بها المؤمنون تجاه بعضهم لبعض, لها أثر عظيم جداً في حياة الإنسان وفي آخرته.
ونظراً لهذا الأثر العظيم للمحبة في سلوك الإنسان وحياته وآخرته, فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على محبة الصالحين والقرب منهم, في أحاديث كثيرة جداً, لا يتسع المجال لسردها، ولكنني أذكر نموذجاً منها: ففي الحديث المشهور المتفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين يظلهم الله في ظله في يوم لا ظل إلا ظله, وذكر منهم قال: {ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه} .
وأحب أن أنبه في هذا الحديث على نقطتين: 1- أن ننتبه! ما هو الأجر الذي وعد الله عز وجل به على لسان رسوله للمتحابين فيه، والأجر هو أن الله عز وجل يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
إذاً -عود على بدء- كما أن المحبة في هذه الدار هي روضة ظليلة، يحتمي بها المسلم في هذا السجن الكبير وهو الدنيا، يحتمي بها من لأواء الحياة وهجيرها في هذه الصحراء, فهي في الآخرة ظل ظليل يستظل به المؤمنون يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، ويصل العرق بالناس على قدر أعمالهم, فهذا هو الوعد الذي وعد الله عز وجل به المتحابين فيه.
2- إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ورجلان تحابا في الله} لا يعني أن هذا الوعد مقصور لرجلين فحسب من الناس كلهم, بل هو وعد لكل رجلين تحابا في الله, وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم مثلاً: {وشاب نشأ في عبادة الله} لا يعني أنه شاب واحد, بل كل شاب نشأ في عبادة الله وطاعته، فهو موعودٌ بأن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, كما في هذا الحديث.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي} وهنا تجدون أن الوعد في هذا الحديث منطبق مع الوعد في الحديث الآخر, الذي ذكر أن المتحابين في الله يظلهم الله في ظله.(271/9)
غبطة الأنبياء والشهداء للمتحابين في الله
روى الترمذي حديثاً وصححه، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة} فالحديث هذا أضاف إلى أن المتحابين في الله وإن كانوا في ظل الله يوم القيامة, في ظل العرش يوم القيامة, فإنهم أيضاً على منابر من نور يغبطهم عليها النبيون والشهداء, والحديث صحيح كما ذكرت.
وهكذا تكون المحبة الصحيحة ظلاً ظليلاً في هجير الحياة يفيء إليها المؤمنون, وظلاً في موقف القيامة -كما أشرت- قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] , وقال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:67-68] , فهم كما في الحديث الصحيح {لا يخافون إذا خاف الناس, ولا يحزنون إذا حزن الناس} , فهذه هي المحبة الثابتة الدائمة والمستمرة في الدنيا على رغم تقلب الظروف والأحوال, وفي يوم القيامة على رغم شدة الموقف وتفرق الناس وتباعد ما بينهم, ولذلك يقول الشاعر أبو الحسن التهامي في المقارنة بين هذا وهذا: شيئان ينقشعان أول وهلة ظل الشباب وصحبة الأشرار فكما أن المحبة بين الصالحين دائمة في الدنيا والآخرة، فالمحبة أو الصداقة أو الصحبة بين الأشرار هي كالظل الزائل سرعان ما يتغير وينمحي.
هذه هي النقطة الثالثة في هذه المحاضرة وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أهمية المحبة بين الطيبين والصالحين لما لها من الآثار المشهودة في الدنيا والآخرة.(271/10)
التحذير من صحبة الأشرار
النقطة الرابعة: وهي النقطة المقابلة لها: أنه كما حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة الطيبين والصالحين؛ لما لها من الأثر العظيم، فقد حذرنا من صحبة الأشرار ومقاربتهم ومجالستهم.
وبين لنا صلى الله عليه وسلم أن القرين السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة , وهذا الحديث رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري، ورواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه, فالمرء الذي يجالس الأشرار لا بد أن يكون مثلهم, يقول مالك بن دينار لبعض أقربائه: [[يا مغيرة، الناس أشكال -يصور أن الناس كغيرهم من المخلوقات من الطيور وغيرها-لا يعرف الواحد منهم إلا شكله ومثيله]] كما سبق تقرير هذه القاعدة- يقول: الناس أشكال؛ الحمام مع الحمام, والغراب مع الغراب, الصعو مع الصعو -عصفور صغير- وكل شيء مع شكله, أي كما أن الحيوانات والطيور وغيرها لا يكون الواحد منها إلا مع أمثاله؛ فكذلك الناس لا يكون الواحد منهم إلا مع أمثاله.
فلذلك على الإنسان أن يبحث عن مثيله في الصلاح، مثيله في الخُلُق, مثيله في الهدي والسمت, بل ومثيله في السن، ومثيله في الاختصاص, وفي كل شيء, وأن لا يقرب من الأصحاب إلا من يكون قربه مقرباً إلى الله تبارك وتعالى.
أما أولئك المتظاهرون بالصداقة، وهم يحبلون الأحابيل للإنسان؛ فإنهم في الحقيقة أعدى أعدائه, يسهلون له طريق الجريمة, ويغرونه بها ويثبطونه عن الخير ويحذرونه منه، حتى إذا وقع الإنسان في الفخ؛ ضحكوا منه وولوا وهم يضحكون، غير مبالين بما صار إليه أمره وشأنه.(271/11)
مثال على صديق السوء
لقد مثل لنا بعض السلف، كما ذكر الخطابي في كتابه " العزلة ", صديق السوء بمثال هو نوع من الأساطير, ولكن ليس المقصود بهذه الأساطير هو مجرد النكتة -كما يتصور البعض- لا, المقصود تصوير المعاني الجليلة بصور قريبة من النفوس يسهل فهمها ويلذ سماعها ويمكن التأثر بها, صور لنا قرين السوء بصورة فقال: إن رجلاً نصب فخاً -والفخ هو: أحبولة يصاد بها- فجاء العصفور- وهذا الفخ كان فيه أنواع من الحب- فجاء العصفور إلى الفخ, فنظر إليه وإلى الحب الموجود فيه, فقال له: ما غيبك في التراب؟ فقال الفخ: التواضع, قال: مما انحنيت؟ قال: من طول العبادة, فقال: ما هذا الحب الموجود بداخلك؟! قال: هذا طعام أعددته للصائمين, فلما أمسى وغابت الشمس جاء العصفور إلى الفخ ليلتقط هذا الحب, فخنقته الأحبولة, فقال هذا العصفور وهو يلفظ أنفاسه: "لئن كان كل العباد يخنقون خنقك فلا خير فيهم اليوم.
المقصود من هذه الأسطورة هو أن ينتبه الإنسان إلى أنه لا يكفي في اختيار الصديق, أن يضحك له ويبتسم, أو يكشر في وجهه, أو يقول له الكلام الطيب المعسول، أو يظهر له بعض مظهر الصداقة أول الأمر, بل لا بد أن يبلوه ويختبره ويعرف حسن خلقه, وصدق دينه, وصلاحه واستقامته, قبل أن يتخذه صديقاً, هذه هي النقطة الرابعة وهي كما حث الرسول صلى الله عليه وسلم على صحبة الطيبين والصالحين ومقاربتهم فكذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من صحبة الأشرار ومداناتهم ومجالستهم.(271/12)
من أخبار مدعي الصداقة
ولذلك كثرت شكوى المتقدمين من هذا الجنس, من مدعيي الصداقة ومنتحليها وهي منهم براء، يروي الخطابي في كتاب العزلة وابن عساكر في بعض مجالسه, والإمام ابن حبان في كتاب له مفيد اسمه "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" وهو كتاب يبحث في الآداب والأخلاق التي على الإنسان أن يتقمصها ويتدرب عليها, وغيرهم يروون أن أعرابياً بالكوفة كان له صديق, وكان هذا الصديق يظهر له المودة والصحبة والنصيحة, فاتخذه الأعرابي من عدده للشدائد, يظن أنه كلما حزبه أمر سيلجأ إليه, فلما نزلت بهذا الأعرابي ضائقة؛ ذهب إليه فوجده بعيداً مما كان يظن, فولى الأعرابي عن صديقه وهو يقول أبياتاً من الشعر، ما أكثر من يجب أن تقال لهم: إذا كان ود المرء ليس بزائد على مرحباً أو كيف أنت وحالكا والقول إني وامق لك حافظ وأفعاله تبدي لنا غير ذلكا ولم يك إلا كاشراً أو محدثاً فأفٍ لود ليس إلا كذلكا يصور لك نوعية من الأصدقاء يهشون ويبشون في وجهك, ويقولون: كيف أنت وكيف حالك؟ أو إني محب لك حافظ لك, لا يزيد على ذلك, لأنه قرين سوء فلو احتجته في أمر من الأمور, لخيب ظنك، فيقول لك هذا الأعرابي "فأف لود ليس إلا كذلك" ثم يصور حال صديقه فيقول: لسانك معسول ونفسك بشة وعند الثريا من صديقك مالك وهذا نوع من أنواع التباذل فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث القدسي {والمتباذلين فيّ} وهؤلاء هم الطيبون وهم الصالحون وهم قرناء الخير, وقرناء الخير يبذل بعضهم لبعض البشر والمحبة، والكلمة الطيبة والجلسة الطيبة والنصيحة، ولو احتاجه في أمر من الأمور لوجده عند حسن الظن, بخلاف هؤلاء القوم, ولذلك يقول هذا الأعرابي: وأنت إذا همت يمينك مرة لتفعل خيراً قاتلتها شمالك وفي بعض الكتب " قابلتها شمالك".
فنفسه تمنعه من فعل الخير إلى أصدقائه, ولذلك فلا يغرنك أخي الشاب من مدعي الصداقة لينه معك, وتسامحه أول الأمر.(271/13)
حقوق الصداقة وآدابها
أما النقطة الخامسة: فالصداقة لها حقوق كثيرة, ويكفي أن أذكرها ذكراً لأن الوقت لا يتسع لأن أقف عند كل واحدة منها.(271/14)
حقوق الصداقة
من حقوق الصداقة المساعدة بين الأصدقاء، والتعاون والنصيحة والنصرة، والتواصل والزيارة وإفشاء السلام، وكتمان السر وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الداعي، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، وغفران الزلة، وحسن الظن إلى غير ذلك من الحقوق، سواء الحقوق العامة للمسلم على المسلم، أو الحقوق الخاصة للصديق الذي اختاره واجتباه، واصطفاه على غيره من سائر المسلمين, وكما ذكرت إن هذه الحقوق تحتاج إلى وقت خاص للحديث عن كل واحد منها بالتفصيل.(271/15)
من آداب الصداقة
كما أن لهذه الصداقة آداب أذكر منها -على سبيل المثال- أدباً أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو إخبار من تحب بأنك تحبه, فقد روى أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح, عن المقدام بن معد يكرب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه} , وفي حديث آخر عند أبي داود عن أنس بسند صحيح أيضاً: {إن الرجل يقول: إني أحبك في الله, فيقول الآخر: أحبك الله كما أحببتني فيه} هذه هي الصيغة التي يرد بها على من قال له: إني أحبك في الله, أن يقول له: أحبك الله كما أحببتني فيه, وقد ورد في أحاديث أخرى صيغ مقاربة لهذه الصيغة.
كما أن من آداب الأخوة والصحبة: الاعتدال في الزيارة, فالزيارة كالطعام إن كثر الطعام أصيب الإنسان بالتخمة, وإن قل أصيب الإنسان بالجوع, فكثرة الزيارة تضر وقلتها تضر, وينبغي أن تكون بين وبين, أما ما مقدار الزيارة؟ فمن الأمثلة المشهورة، أن العرب يقولون: "زر غباً تزدد حباً" يعني يوماً بعد يوم, لكن هذا ليس فيه توقيف أن الزيارة فعلاً تكون يوماً بعد يوم, بل هذا يتفاوت بحسب حال المتحابين والمتزاورين في الله, فقد يكون الأنسب بالنسبة لبعضهم أن يبعدوا أكثر من ذلك، والأنسب في حال الآخرين أن يزيدوا على ذلك, فالأمر يتفاوت ولا ينضبط, بل يختلف بحسب حال المتزاورين وما تؤدي إليه الزيارة من تقارب أو تباعد.(271/16)
أمراض الصداقة
أختم حديثي أيها الإخوة! بالتنبيه على ثلاثة أمراض خطيرة، كثيراً ما تفشو بين الأصدقاء, فتعكر عليهم صفو علاقاتهم.(271/17)
تناقل الحديث بين الأصدقاء
الأمر الثالث: المرض الثالث والأخير هو تناقل الحديث بين الأصدقاء, فالأول يقول كلاماً للثاني, والثاني ينقل كلاماً بأسلوبه الخاص للثالث, والثالث ينقل ما فهمه بأسلوبه الخاص للرابع, وهكذا حتى يصل الكلام مختلفاً مشوهاً, إضافة إلى أن الكلام قد يكون أصله غير صالح لأن ينقل وأن يتبادل بين الأصدقاء, وهكذا فتفسد القلوب.
والعلاج لذلك يكون بثلاثة أشياء: 1- ما أرشدنا الله عز وجل إليه في كتابه حيث قال عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] .
إذاً فالشيطان ينزغ بين العباد نتيجة الكلام السيئ, فعلى الإنسان أن يقول الكلام الذي هو أحسن دائماً, واحرص على أن لا يخرج من فيك كلمة تندم عليها تجاه أحد من أصحابك؛ بل تجاه المسلمين، والله المستعان.
2- أن يكون قلب الإنسان مقبرة للأسرار والأخبار والأقوال التي تصل إليه, كل ما وصل إليك من كلام عن أخيك أوصديقك, فاجعل قلبك مقبرة له, لا تقله أصلاً.
3- أن يحسن الإنسان الظن بإخوانه المسلمين عامة، وبأصدقائه المقربين خاصة, فقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حسن الظن وأنه واجب بين المسلمين, وينبغي للإنسان أن يلتمس لأخيه الأعذار ما استطاع، ويحمل عليها ما يبلغه عنه من قول أو فعل, فإذا لم تجد محملاً ولم يطق قلبك ما سمعت من قول أو فعل, فاذهب إلى أخيك وقل له سمعت كذا وقد حزّ هذا في قلبي, وأحببت أن تجلي لي الأمر, فإما أن يكون أخطأ فعلاً؛ فيعتذر إليك ويزيل ما في نفسك, وإما أن يكون الأمر وصل إليك بطريقة غير صحيحة، فيزيل اللبس عنك ويبين لك حقيقة الأمر فتطيب نفسك بذلك.
أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من المتحابين فيه, وأن يحشرنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله, وأن يميتنا على الإسلام، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.(271/18)
التعلق الزائد
الأمر الثاني: وهو مرض يمكن أن أعبر عنه بالعواطف الخاصة, فيوجد مجموعة من الأصدقاء سواء كانوا طلاباً في الفصل، أو زملاء في الحي، أو في غير ذلك, فتجد من بين هذه الزمرة من الأصدقاء اثنين يوجد بينهما رباط خاص متين جداً, أقوى مما يوجد بين غيرهم من سائر أصدقائهم, وتجد بينهم من الهمسات والأسرار وجلوس بعضهم بجوار بعض, وركوب بعضهم مع بعض, إلى غير ذلك مما يوجد نوعاً من الحزازة في نفوس الآخرين, ولذلك مما ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في كتب الشمائل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كل إنسان يأتي إليه يشعر بأنه من أقرب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فكان يقبل بوجهه على جليسه ويحدثه ويباسطه ويسأله عن حاله, إلى غير ذلك مما هو موجود في كتب الشمائل, وهذا من حسن تأديب الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه لأمته.
فعلى الإنسان أن يحرص على أن يكون هاشاً باشاً قريباً من كل أصدقائه, وأن لا يكثر من تمتين العلاقة مع أفراد بحيث يسبب ذلك نوعاً من التنافر عند الآخرين.(271/19)
كثرة المزاح بين الأصدقاء:
وهذا قد يترتب عليه في كثير من الأحيان تغير النفوس والتساخط؛ نتيجة لكلمة خرجت من فم الإنسان دون أن يحسب لها حساباً, أو ضربة غير مقصودة من أخٍ لأخيه, أو ما أشبه ذلك, فضلاً عن أن كثرة المزاح هو إضاعة للوقت في غير طائل, وذهاب للحشمة بين الأحبة.
وهناك خطر تربوي يقع نتيجة لكثرة القرب وكثرة المزاح, وقد لا أملك أن أعبر عنه تعبيراً دقيقاً أو أن أضع النقاط على الحروف, لكنني سوف أحاول أن أقربه لكم ما استطعت, وذلك أن كثرة المزاح والاحتكاك بالأجسام بين المتحابين وخاصة حدثاء السن، وبالأخص حين يكون فيهم ظرف وخفة, يترتب عليها في كثير من الأحيان نوع من تقارب العواطف والابتذال, بحيث يشعر الإنسان من نفسه، أنَّ مزاحه واحتكاكه بإخوانه وأصدقائه؛ يعود عليه بالضرر, ويثير فيه مشاعر غير طيبة, أو عواطف منحرفة, فالحذر الحذر خاصة ونحن نعيش في عصر كثرت فيه المثيرات التي تخاطب شهوة الإنسان, وتخاطب جانبه الحيواني, فالإنسان يجد المثيرات في البيت وفي الشارع، وفي المكتبة وفي البقالة وفي كل مكان, فهناك شحنة معينة قد تساعد على تقارب العواطف بصورة غير مرضية, في مثل الصورة التي أشرت إليها.
وهذا الأمر -كما قلت- يجده كثير من الناس أو بعض الناس في بعض الحالات, فحين يجد الإنسان مثل هذه العاطفة، قد تحركت نتيجة مزيد القرب، على الإنسان حينئذٍ أن يبتعد بعض الشيء, ولا يعني هذا أن الإنسان يبتعد بالكلية عن أصدقائه أو يجفوهم, لا, إنما عليه أن يبتعد مسافة تضمن للإنسان استمرار صلته بأصحابه وأصدقائه، وتضمن له السلامة من هذه العواطف المنحرفة التي أشرت إليها.(271/20)
الأسئلة(271/21)
طاعة الوالد في عد مصاحبة بعض الناس
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا كان أبي يريد لي صديقاً، وأنا أصادق شاباً يريد أبي أن أتركه, ولكني أعرفه جيداً من حيث أخلاقه ومعاملته, فهل أتركه بمجرد أن أبي أمرني بتركه؟
الجواب
بر الوالد مطلوب وواجب فيما ينفع ولا يضر الإنسان في دينه أو دنياه, لكن مثل هذه القضايا التي سأل عنها الأخ قضايا نسبية تتفاوت من حال إلى حال, ومن شخص إلى شخص, ونحن لا نعرف الآن بالضبط ما هي صفة الشخص الذي تصادقه ويطلب أبوك منك تركه, ولا ما هي صفة الشخص الذي يطلب أبوك أن تصادقه مثلاً! فلو عرفنا ذلك لأمكن لنا أن نحكم أن الأولى أن تبين لأبيك أن هذا أحسن أو تصادق هذا.
لكن على الإنسان حين يرى شخصاً صالحاً ينفعه قربه أن يقاربه, وحين يرى شخصاً سيئاً يضره قربه أن يباعده, وهذه هي القاعدة العامة، ولو أمرك أبوك مثلاً أن تصادق منحرفاً؛ فلا شك أن هذا لا يحوز لك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(271/22)
سبب بعد الصالحين من بعض الناس
السؤال
إذا كان الإخوان الصالحون يتهربون مني, فماذا أعمل وهل أنا آثمٌ في ذلك؟
الجواب
أولاً: على كل إنسان طيب ألاَّ يهرب من أي إنسان مسلم فيه خير, بل عليه أن يبذل له -كما ذكرت- النصح، ويكون معه إيجابياً , فالهروب ليس أسلوباً ولا طريقة.
لكن عليك أن تبحث وتفتش في نفسك، لماذا يهرب الناس منك؟! الناس لا شك أن تقوله صحيح، فالناس يهربون لوجود عيوب معينة تنفر الناس عنك, فعليك أن تبحث عن عيوب نفسك, وأن تكون مستعداً لتلافيها والتخلص منها, وأن تكون مستعداً لسماع النصح والملاحظة من غيرك.
وأنبه أنه عليك أن تتأكد من صدق ملاحظتك, فبعض الناس يكون عنده عقدة الشعور بالنقص, فيخيل إليه -أحياناً- أن الناس لا يحبونه, وأنهم ينفرون منه, أو يسخرون منه, والحقيقة أن هذا الأمر غير صحيح، وإنما هو يصور أو يتصور تصرفات بهذا الشكل، فعليه أن يتأكد من صدق هذه الملاحظة فإن كان فيها صادقاً, فعليه أن يبحث عن العيوب التي توجب النفور منه, كما أن على أي عبد صالح أن يحب الصالحين والمقبلين على الخير, وينصح لهم ما استطاع.(271/23)
التخلص من أصدقاء السوء
السؤال
إذا كان لي أصدقاء أشرار, وأنا أحب مصاحبة الطيبين إلا أني كغيري من الشباب مغرم بالرياضة وتشجيعها وأجد أن أصدقاء السوء هم المشجعون لي في ذلك, فكيف أتخلص منهم؟
الجواب
مر خلال الحديث ذكر الوسائل, وعلى الإنسان أن لا تكون قضية الرياضة هي أكبر همّ يواجهه الآن, على الإنسان أن يحرص على تكوين بيئة طيبة صالحة يعيش فيها, حتى لو بقي عليه بعض النقائص التي يتمنى أن يتخلص منها, فلا تجعل همك الوحيد هو فقط أن تتخلص من نقص أو عيب معين, اجعل همك أن تبدل البيئة السيئة المحيطة لك ببيئة صالحة تعينك على الخير, وتحثك عليه, وتثبطك عن الشر وتنهاك عنه, وستجد أن وجودك في هذه البيئة يزيد من حسناتك وفضائلك ومناقبك، ويقلل من عيوبك ونقائصك شيئا فشيئاً, وتصور إنساناً فضائله تزيد وعيوبه تنقص لا بد أن يتحول ولو بعد فترة إلى إنسانٍ صالحٍ مستقيم, وقد يكتب الله عز وجل على يد هذا الإنسان خيراً للإسلام والمسلمين.(271/24)
التشاكل في الظاهر يورث التشاكل في الباطن
السؤال
فضيلة الشيخ! قلت في سالف الحديث: إن التشاكل في الهدي الباطن والظاهر, يوجب المحابة بين المتشاكلين, فهل هذا التشاكل يعتبر المحبة بين المتحابين في الله عاطفية, أو يغلب عليها الجانب العاطفي؟
الجواب
الأخوة في الله هي في حقيقتها نوع من المشاكلة ظاهراً وباطناً, فالمسلمون من حيث الجملة بينهم قدر أو كما يقال بينهم قاسم مشترك من الصفات أوجد بينهم المحبة الإسلامية العامة, وكل مجموعة أو زمرة يوجد بينهم قواسم مشتركة أخرى، فيوجد بينهم أيضاً مزيد من المحبة والتعاطف أكثر وأكثر, وهكذا.
فالمشاكلة في الهدي الظاهر مثل التشاكل في الملبس، مثلاً تتشاكل الجنود في ملابسهم, أو التشاكل في الاختصاص أو الهيئة, أو في غير ذلك, فهذا يورث الإنسان مشاكلة لمن هم على زمرته, كذلك التشاكل في الاسم.
بمعنى أن الإنسان حين يكون داخل زمرة لها اسم معين مثل الكشافة أو الجوالة مثلاً هذا يعطيه نوعاً من مشابهتهم في عدد من الخصال والأخلاق, ولذلك تجد بينهم قواسم مشتركة كثيرة.
أما التشاكل في الهدي الباطن فيعني: التقارب بالخلق، بالدين، بالعلم، بالمنهج بغير ذلك من القضايا, وهذه هي الأخوة في الله.
أما النواحي العاطفية فهي كما قلت أمر موجود ولا يمكن تجاهله, لكن على الإنسان أن يوجهه الوجهة السليمة، ويجعله في إطاره الصحيح، ولا يندفع وراء العاطفة المحضة, بل يترك للعاطفة مجالها وللعقل مجاله.(271/25)
محبة الأنبياء بعضهم لبعض
السؤال
لقد قلت: إن الأنبياء والصالحين يغبطون الأخلاء, فهل معنى ذلك أن الأنبياء لايتحابون في الله؟
الجواب
لعلك أجبت على سؤال يدور في ذهن بعض الإخوة, فكنت أتوقع أن يسأل أحد يقول: هل معنى ذلك أن الأخلاء والمتحابين في الله أفضل من الأنبياء وأفضل من الشهداء, حتى يغبطهم النبيون والشهداء؟! هذا السؤال يمكن أن يثار, والجواب عليه جاء من ضمن السؤال, لأننا نقول: إن الشهداء والأنبياء هم متحابون في الله أيضاً، فلهم في الغالب وخاصة الأنبياء قطعاً -أما الشهداء في الغالب لهم نفس الأجر المذكور في الحديث- لهم نفس الأجر؛ لأنهم هم أرقى درجات المتحابين في الله, وكذلك الشهداء في الغالب, إذاً هم يغبطون الإنسان لأنه حصل هذه المرتبة بجهد أقل مما بذل, إلا أن فضل الله عز وجل, أوصله إلى تلك المرتبة.
فالمحبة في الله هي بحد ذاتها عمل عظيم أوصلت الإنسان إلى هذا المكان, وإلى هذا الفضل على رغم أنه لم يبذل في الظاهر جهداً كبيراً ليرشحه لهذه المنزلة لولا فضل الله, فلذلك هم غبطوه، وغبطتهم لا تعني أنهم لم يصيبوا أو لم يصبهم هذا الأجر, هذه نقطة.
النقطة الثانية: إن تميز الإنسان عن بعض الناس بأمر من الأمور لا يعني فضله عليهم من كل وجه, فقد يقول قائل: بالنسبة للأنبياء عرفنا أنهم أفضل من الناس من كل وجه, لكن بالنسبة للشهداء قد يكون بعض المتحابين في الله أفضل من بعض الشهداء من وجه, وهو أنهم حققوا من معاني الأخوة في الله ما لم يحققه هؤلاء الشهداء فيكونون تفوقوا على الشهداء بمنزلة، وهي منزلة المتحابين في الله, لكن أيضاً الشهداء تفوقوا عليهم بمنزلة أخرى وهي منزلة الشهادة التي لم يدركها هؤلاء المتحابون, والشهيد له -كما تعرفون- ست خصال: يغفر له مع أول قطرة من دمه, ويزوج من الحور العين, ويشفع في أهل بيته إلى غير ذلك من الفضائل الموعودة لمن يستشهد في سبيل الله عز وجل.(271/26)
ظل الرحمن مع تفاوت العبادة والتقوى
السؤال
ورد في الأحاديث أن المتحابين في الله يحشرون جميعاً تحت ظل الله, لكن قد يكون أحدهما أقل من الآخر من حيث العبادة والتقوى, فكيف نوفق بين ذلك؟
الجواب
ليس في الأصل إشكال حتى يحتاج إلى توفيق, لأن كون المتحابين يحشرون في ظل العرش على منابر من نور, لا يحزنون إذا حزن الناس, ولا يخافون إذا خاف الناس, لا يعني أنهم بدرجة واحدة, أهل الجنة درجات متفاوتة, والجنة كما في الصحيح {مائة درجة} فكونهم يشتركون في أمر عام لا يعني تساويهم في هذا الأمر، كما إنهم في هذه الدنيا على رغم اشتراكهم في الإسلام, واشتراكهم في المحبة من حيث الجملة, مع ذلك فهم متفاوتون فيها تفاوتاً بعيداً كما ذكرت, فليس في القضية أصلاً أي إشكال, وأقربهم إلى الله أشدهم حباً لصاحبه في الله.(271/27)
حكم مصاحبة المنافق
السؤال
فضيلة الشيخ: لي صديق ولكنه أحياناً ينافق, فهل أصادقه؟
الجواب
لا تصادقه, إلا أن تدعوه إلى الله وتصلح مما هو فيه.(271/28)
وسائل تقوية المحبة
السؤال
ما هي الوسائل التي تقوي المحبة بين المتحابين في الله؟
الجواب
الوسائل كثيرة, منها تمثيل مقتضيات المحبة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر في الحديث الصحيح الذي ذكرته, ثلاث مقتضيات: أولاً: التزاور في الله.
ثانياً: التجالس في الله.
ثالثاً: التباذل في الله.
فزر أخاك زيارة في الله, واجلس معه جلسة لله, وابذل له ما تستطيع في سبيل الله, وهو أيضاً مخاطب بنفس الكلام, عليه أن يزورك في الله ويجالسك في الله, ويبذل لك ما يستطيع في سبيل الله, فإذا وجد هذا وجدت هذه المقتضيات الظاهرة، وتحققت المعاني القلبية للأخوة, والمقتضيات الظاهرة أوسع من ذلك, لأني ذكرت حقوقاً كثيرة، فثق أن كل عمل ظاهر تقدمه لأخيك؛ يزيدك في قلبه منزلة, صحيح أن هناك من الناس من يتحابون على رغم أنه ليس بينهم أي علاقة -كما أشرت- أيضاً ربما تحب إنسانا ًوأنت لم تره من قبل, لكن هذه حالات, إنما الوضع الطبيعي أنك كلما تحسن إلى الإنسان؛ تتقرب إليه وتترسخ مودتك في قلبه, والشاعر يقول: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ نحن لا نريد استعباد القلوب لغير الله، لكن المقصود أن الإحسان يقربك إلى قلب أخيك, على أخيك أن يحسن إليك وعليك أن تحسن إلى أخيك, كما أن هناك وجهاً آخر لهذه المسألة، وهو أن على الإنسان أن يتجنب كل ما يعكر صفو العلاقة, قد تجد أن أخاك يكره نوعاً ما من المزاح, فلا تثقل عليه فيه, ويكره شيئاً معيناً فلا تضايقه فيه, ولو على سبيل المزاح.(271/29)
من الذي ترضى سجاياه كلها
السؤال
إذا كان في الصديق خصلة أو خصلتان سيئتان, هل يبتعد عنه؟ علماً: أن أغلب الأصدقاء لا يخلون من الخصال السيئة؟
الجواب
من يخلو من الخصال السيئة حتى تصادقه, ما منا أحد إلا وفيه من الخصال ماالله به عليم, ولو عرف كل إنسان ما في الآخر من العيوب التي لا يعلمها؛ لزهد فيه.
من رحمة الله عز وجل أنه أوجد بين المسلمين قدراً من المحبة يجعل الواحد يحسن الظن بالآخر، حتى يدعوه إحسانه الظن إلى الاستفادة منه في العلم والعمل والعبادة وغير ذلك, فوجود خصلة سيئة أو خصلتين في شخص ما, لا تعني تركه أو مباعدته، ولكن حيث علمت بهذه الخصال فعليك أن تعالجها بالأسلوب المناسب.(271/30)
حكم حب لاعبي الكرة
سؤال: من أحب اللاعبين من أهل الكرة، ليس لسلوكهم ولكن مما يظهرون من فنون الكرة,
السؤال
هل من أحبهم عليه إثم سواء كانوا مسلمين أم كافرين؟
الجواب
هناك أحاديث لا تحصى كثرة, عن الرسول صلى الله عليه وسلم لك أيها المسلم أصل من أصول العقيدة التي يبني عليها أهل السنة والجماعة بنيان عقيدتهم, وهذا الأصل هو: الولاء والبراء, الحب في الله والبغض في الله, وما يترتب على الحب والبغض من آثار ومقتضيات, فمحبة الكافرين مر معنا أن من أحب الكافرين حباً كبيراً أو الفاسقين أو غيرهم، فإما أن يكون مثلهم, أو على أقل تقدير أن يكون فيه شبه منهم, لأن الإنسان لا يحب شخصاً أو أشخاصاً إلا لوجود نوع من المشابهة والمشاكلة بينهم وبينه, ومن أحب الصالحين كذلك.
ولذلك مصداق ما ذكرت أن نتصور, أن إنساناً يمضي وفي مشاهدة المباريات الرياضية, سواء على الشاشة أو في الواقع, وبطبيعة الحال هو مستعد أن يضحي بالمال, بل وبما هو أغلى من المال وهو الوقت.
والوقت أثمن ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع مستعد أن يضيع المال وما هو أثمن من المال وهو الوقت, وربما يصل الحال أن يضيع شيئاً من دينه، فيؤخر الصلاة عن وقتها ويعيش في بيئات رديئة, كل ذلك تضحية من أجل مشاهدة مباراة رياضية, هذا الإنسان الذي عمل هذا العمل بغض النظر عن أي شيء، نستطيع أن نقول: في هذا الإنسان شعبة من الشر، شعبة من عدم الاهتداء بهدي الله واستنان بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذه الشعبة شابه فيها هذا الإنسان هؤلاء القوم فأحبهم, ولست أقول: كل من شاهد مباراة في الشاشة أو في الواقع, أو كل من لعب أيضاً أنه منحرف أو فاسد, كلا, فنحن لا ينبغي أن نفسق الناس أو نكفرهم بالجملة, ولا بالتفصيل أيضاً, بل الأصل أن المسلم مسلم غير فاسق حتى يثبت كفره أو فسقه.
ولكنني أقول كما ذكرت: إن هذا الإنسان فيه شعبة من مشابهة هؤلاء القوم, أورثته نوعاً من المحبة لهم, وحين يتخلص من هذه الشعبة، وتصبح اهتماماته الكروية على الأقل ثانوية، سيجد أن قلبه بدأ يخلو من محبة هؤلاء القوم, بل بدأ يشعر بالرثاء لهم على ما يضيع من أوقاتهم ومن أعمارهم في أمور لا طائل تحتها.(271/31)
محبة الصالحين من محبة الله ورسوله
السؤال
رجل من الناس يحب بعض الناس بمحبة في الله حباً قوياً، فهل هذا الحب يؤثر على حبه لله ورسوله؟
الجواب
لا، بل هذا من حبه لله ورسوله, فمن أحب الله أحب كل ما يتصل بدينه وشرعه, أحب البقاع المحبوبة لله, وأحب الأشخاص الذين هم أقرب إلى الله زلفى, وأحب القرآن، وأحب كل ما يحبه الله, فهذه المحبة تقربه من الله وهي من حبه لله.(271/32)
ازدواجية الصداقة
السؤال
فضيلة الشيخ! ما تقول في ازدواجية الصداقة, مع الصالحين تارة ومع الفاسقين تارة, فهو متذبذب, فما حكمه وما علاجه؟
الجواب
أولاً: يجب أن نعلم أن التذبذب من أصول النفاق, ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تميل إلى هذه تارة وتميل إلى هذه أخرى} , فإذا وجد إنسان يميل مع الصالحين تارة، ومع غيرهم أخرى، ففيه شبه أو شعبة من شعب النفاق, ولذلك على الإنسان أن يعالج نفسه ويجاهدها, والتذبذب يكون على أنواع: فهناك أناس تذبذبهم فطري, وهناك نوع من الازداوجية في شخصياتهم نتيجة لعوامل وراثية مثلاً, أو نتيجة تأثيرات تربوية في مرحلة الطفولة, أو لأسباب أخرى كثيرة , فتجد الإنسان بشخصيته ذا وجهين, يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه, بل أحياناً يكون إذا جلس مع الطيبين انبسط وارتاح ليس يجاملهم أو ينافقهم, وإذا ذهب مع ضدهم كذلك, فهذا الإنسان عليه أن يدرك أن العلاج يحتاج إلى جهد من نفسه، يعالج فيها أمراً عميقا ًفي قلبه, ويحتاج إلى بعض الأصدقاء الذين يحيطون به أن ينصحوه بذلك, وأن ينبهوه أولاً بأول على أخطائه المتعلقة بهذا الأمر, ويحرص على أن يحيطوه بجو طيب يعيد تشكيل شخصيته تشكيلاً صحيحاً قدر الإمكان.
وهناك نوع آخر من الازدواجية ليس بهذا العمق, وإنما هو ناتج عن أن الإنسان لم يجد أصدقاء طيبين في فترة من فترات حياته, فعاش في وسط غير طيب, وتعلق وترك هذا الوسط بعض الآثار في نفسه, فهذا النوع من الازدواجية أو التذبذب أمره أهون، ويتم بعملية الإبدال التي أشرت إليها, وهي طريقة نفسية صحيحة, أن يبدل الإنسان هؤلاء الأصدقاء بأصدقاء طيبين، ويحرص أيضاً على أن يرفع أصدقاءه الآخرين إلى المستوى المطلوب, ويمكن أن يستعين ببعض أصدقائه الصالحين في هذه المحاولة.(271/33)
فهم خاطئ
السؤال
ما قولكم في إنسان قد هداه الله تعالى إلى الصراط المستقيم، ولكنه قد عاد إلى أصحاب السوء بقصد هدايتهم، علماً أنه ليس له حصيلة علمية في المجادلة؟
الجواب
دعوة الناس إلى الخير مطلوبة, والمسلم يجب أن يكون إيجابياً في كل المواقف, لأن من لم يغز يُغزَ, فالإنسان الذي يظن أنه يستطيع أن يبقى صالحاً في نفسه غير داع للآخرين إلى الخير الذي هو فيه, فهو واهم، بل لا بد أن يصيبه مما عند الآخرين من شر, إن لم يبادرهم هو بتوجيههم ودعوتهم ونشر الخير بينهم, ولكن حين تشعر أن وجودك في هذا الوسط يعود عليك بالضرر الذي لا يساوي المصلحة المتحققة من ذلك، فعليك حينئذٍ من باب مقارنة المصالح والمفاسد وموازنتها؛ أن تتركهم وتبتعد عنهم, إنما لو رأيت أن بإمكانك أن تصاحب الطيبين والأخيار والصالحين معظم وقتك, ثم تمضي جزءاً من الوقت مع هؤلاء القوم؛ بغرض هدايتهم ودعوتهم والتأثير عليهم، وأنت صادق مع نفسك غير مخادع لها؛ ليست القضية أن تحب وتهوى مجالستهم، ثم تصور لك نفسك الأمارة بالسوء, هذا العمل بأنه بقصد الدعوة, لا, أنت صادق بأن قصدك دعوتهم حينئذٍ لا بأس بهذا العمل, بل هو أمر مطلوب.(271/34)
التعلق بالأشخاص وأثره
السؤال
أنا شاب أعيش بين شباب طيبين ولي صديق عنده بعض الانحرافات, كاستماع الغناء, وحلق اللحية ومشاهدة الأفلام, وأنا قد أحببته حباً كثيراً وله تأثير عليّ, وأستحي أن أناصحه فلقد سمعت الغناء منه, وشاهدت التلفاز وفعلت بعض الكبائر من طريقه, فما موقفي من هذا الشاب، مع العلم أني لا أستطيع أن أفارقه مدى الحياة, أفيدوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
سبحان الله! من ذا الذي يتألى على الله.
في الحديث الذي صححه بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤدبنا وهو المحب لنا, الناصح المشفق علينا، الذي بلغ من حبه لنا ورحمته بنا وعطفه علينا في الدنيا, أنه كان مع أنه بين خير الأصحاب كان يتمنى لقاءنا ورؤيتنا, وفي الآخرة هو بعقر حوضه يذود الناس عنه، ويدعو أمته إليه، فإذا ذيد بعض أمته قال: {يا رب أمتي أمتي} سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المحب المشفق الناصح يقول لنا في هذا الحديث الذي صححه بعض العلماء: {أحبب حبيبك هوناً ما؛ عسى أن يكون بغيضك يوماً ما, وابغض بغيظك هوناً ما؛ عسى أن يكون حبيبك يوماً ما} .
أيها الأخ الذي كتبت هذا السؤال، أحب أن أقول لك: إن معظم من ترى من الناس من حولك الآن وغيرهم, مرت بهم فترة من فترات عمرهم تعلقت فيها قلوبهم بشخص أو بأشخاص تعلقاً شديداً، حتى لا يطيقون فراقهم أو البعد عنهم, ويأنسون بقربهم ويتلذون بمزاحهم وتحسن في عيونهم عيوبهم, ثم مرت الأيام وتفرق الأحباب والأصدقاء وصار الواحد منهم يلقى الآخر في الشارع فيشير إليه بيده في السلام، حتى كأنه لم يعرفه يوماً من الأيام, فرويدك يا أخي بعض حبك لهذا الإنسان أولاً.
ثانياً: هذا السؤال يذكرني بنصيحة ثمينة جداً لأخي السائل ولكل شاب, وهي من بركات كون الإنسان يجعل نفسه في وسط من الناس الطيبين أن يكون تعلقه بواحد منهم, وأنت إذا تعلق قلبك بشخص صالح، كان هذا التعلق مدعاة لأن تستفيد منه علماً وخلقاً وأدباً وصلاحاً, والقلب جعل الله عز وجل فيه عواطف, وكل قلب فيه عواطف, فليس بالضرورة أن هذا الإنسان لا بد أن يتعلق بفلان بن فلان, إنما القلب يكون فارغاً فيتعلق بأي شخص ولذلك يقول الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا أي: لو أن قلب الإنسان تعلق بأمه مثلاً ثم تعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم محبة وإجلالاً وتعظيماً, ثم تعلق بالصالحين، بل وتعلق برجل من الصالحين يوليه محبة خاصة لا يشعر بها تجاه غيره, لم يعد في القلب متسع لحب كل من هب ودب من القريب والبعيد والصالح والطالح, لكن لأن القلب فارغ أصلاً؛ صار مثل الإناء الفارغ يمكن أن يملأ بأي مادة طيبة أو خبيثة.
كما أن السؤال ينبهني بالجانب الآخر إلى مضرة مقارنة السيئين؛ لأن مقارنتك لهم تجعل قلبك على خطر، أن يتعلق بواحد منهم, فيورثك هذا التعلق مشكلة من جنس هذه المشكلة الموجودة في السؤال, بل قد تتطور المشكلة إلى ما هو أشد من ذلك.
أما العلاج فلعله اتضح من خلال هذه اللمسات التي أشرت إليها: على الإنسان أن يجعل نفسه في محيط أناس طيبين، وأن يثق بأنه سيجد من بينهم -قطعاً- من يستحق أن يوجه مشاعره القلبية إليه؛ فيعطيه الحب والود ويحبه حتى لا يصبر عنه, هذه نقطة.
النقطة الثانية: على هذا الإنسان أن يسير محبته لهذا الشخص تسييراً سليماً, فيحرص على أن يرتفع بمستوى صديقه إلى المستوى الذي يعيشه هو, بل إلى ما هو أرفع من ذلك, وإن أمكن أن ينقل صديقه أيضاً إلى جو صالح وبيئة سليمة فهذا يساعده على تحقيق الصلاح في صديقه.
وأختم توجيهي له بما بدأت به أن أقول له: إياك إياك أن يدور في خلدك أن هذه المحبة دائمة مدى الحياة كما زعمت، وكما قيل:" أخبر بقلة ".
وقال المثل الآخر: "عش رجباً ترى عجباً ".(271/35)
أخي رجل الأمن
اشتمل هذا الدرس على عدة عناصر ونقاط منها: دور رجل الأمن في الحفاظ على أمن المجتمع من الداخل والخارج، كذلك اشتمل على بعض النصائح منها: عدم الاستهزاء بآيات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعدم الطاعة العمياء لمن هم أكبر رتبة، وعدم الاستقاء من الغرب، ووجوب الرفق بالأفراد وعدم إضاعة أوقاتهم في الأشياء التافهة، ووجوب المحافظة على الصلاة وبر الوالدين وحسن تربية الأبناء.(272/1)
شمولية الخطاب
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حديثي إليكم في هذه الليلة؛ هو حلقة ضمن سلسلة متصلة هي رسائل موجهة إلى أفراد متفرقين، وحديثنا هو بعنوان: (أخي رجل الأمن) .
وقبل أن أتحدث إلى رجل الأمن؛ أتحدث إليكم أنتم أيها الحضور، شاكراً ومقدراً، فإنه سرني وأبهجني ما جرى في المجلس السابق.
فعلى رغم أن المسجد يستقبل الدرس لأول ليلة؛ إلا أن انضباط الإخوة في المجيء والدخول في المسجد، ومواقف السيارات وغيرها، كان أمراً عجباً، على رغم أنه لا يوجد من ينظم ذلك أو يسعى في ترتيبها.
وما ذلك إلا دليل على مدى انضباط الإخوة وحرصهم وحسن تربيتهم، فجزاكم الله تعالى خيراً، وأسأل الله أن يثيبكم.
إن الكثيرين كانوا يظنون أن يحدث في المجلس السابق بعض الارتباك، ولكن الله تعالى سلم، ووفق وأعان وسدد، فالحمد لله تعالى على ذلك كثيراً.
ورقم هذا الدرس هو التسعون ضمن سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في جامع الذياب ببريدة في هذه الليلة، السادس والعشرين من ذي القعدة، من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة.
أولاً: إنني لا أخاطب رجل الأمن في بلد معين؛ ولا مدينة خاصة؛ ولا قطر أو إقليم، ولكني أخاطب رجل الأمن حيثما كان، من بلاد الله تعالى الواسعة، في كل بلاد الإسلام، ولعل هذه من الحالات النادرة القليلة التي يخاطب فيها رجل الأمن.
فإن الناس عامتهم وخاصتهم في كثير من الأحيان تربوا على مجانبة هذا الميدان، وعدم التعرض له بشيء.
إنني أخاطب رجل الأمن في مصر والجزائر وتونس والسودان، وفي جميع الأصقاع والبقاع، وأخاطب رجل المرور، كما أخاطب رجل المباحث، كما أخاطب رجل الطوارئ، وجميع العاملين في أجهزة الأمن وقطاعاته.
لقد اعتاد الناس أن يسبوا هؤلاء ويتهموهم، لكن لعلهم ألا يسمعوا مني في هذه الليلة ما يسوؤهم، كما اعتاد الناس أن يلهجوا عليهم بالدعوات الحارة الصادقة ضدهم، ولعلهم أن يظفروا مني ومنكم في هذا المجلس العامر المبارك بدعوات تنفعهم في دينهم أو في دنياهم.(272/2)
أهمية رجل الأمن
ثانياً: لعلك قد عرفت أخي رجل الأمن بحكم موقعك وطبيعة عملك؛ أن القرارات الرسمية الكبيرة التي تصدر في بلادك على أعلى المستويات غالباً يكون وراءها تقارير ودراسات خفية خاصة صدرت منك، أو من إدارتك، أو من قطاعك، أو ممن حولك.
فالعالم الإسلامي غالباً يحكم بتلك التقارير السرية الخاصة؛ بل والعالم كله يقيم لهذه ألف اهتمام واهتمام، في مشرقه أو مغربه.
ولهذا لا أحد يلومك حينما اتجهت لهذا العمل الضخم المؤثر، بل الكل يدركون أنه أحياناً شر لا بد منه كما يقال، وهو أحياناً خير نافع للأمة والبلاد والعباد، وهو بدون شك في أحوال كثيرة شر يجب الخلاص منه.
من ذا الذي يشكك -مثلاً- في أهمية حماية المجتمع من المخدرات التي تعمل فيه ليل نهار؟! من ذا الذي يشكك في أهمية حماية المجتمع من التزوير؟! من ذا الذي يشكك في أهمية حماية المجتمع من الاضطرابات والقلاقل والفتن التي تزعزع أمنه، وتقلقل استقراره؟! من ذا الذي يشكك في أهمية حماية المجتمع من الجريمة، أو من التطرف؟! ولعلك تدري ماذا أعني بكلمة التطرف، فلست أستخدمها كما يستخدمها الإعلام العربي والعالمي وصمة عار يلحقها بكل متدين.
بل أعني: التطرف الذي هو انحراف في الفكر، وانحراف في السلوك، وانحراف في التصرف، يقع فيه العلمانيون، ويقع فيه أعداء الدين، ويقع فيه المتسلطون، ويقع فيه -أحياناً- بعض المنتسبين إلى الدين.
إن استقرار الأمن في بلاد الإسلام كلها؛ هو مطلب المخلصين الغيورين، وإن العمل على دعم هذا الاستقرار هو أحد الأهداف الرئيسة التي يسعى لها دعاة الإسلام في كل مكان.
يسعون لها من خلال النظرة الشرعية التي تقرر أن ارتكاب الذنوب والمعاصي، وأن انتشار المنكرات والموبقات، وأن إعلان هذا وذاك هو السبب الأكبر في كل المصائب والنقم التي تقع في بلاد المسلمين.
والنظرة الشرعية التي تقرر دون شك؛ أن السكوت على المنكرات المعلنة هو الموجب للعنة الله تعالى وغضبه ومقته، وأليم عقابه، العقاب الذي قد يأتي بصورة كساد اقتصادي، وقد يأتي بصورة عدو خارجي، وقد يأتي بصورة انشقاق داخلي وتسليط بعض الناس على بعض.
وقد يأتي بصورة فيضانات أو زلازل، أو ما شاء الله {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] .
فلا أحد يشك في الدور الكبير الذي يمكن أن تؤديه أجهزة الأمن؛ إذا أخلصت، وصدقت، وتوجهت إلى أهدافها الحقيقية، واستقطبت الرجال الأمناء المخلصين.
إن تقريراً صغيراً من فرد عادي يمكن أن يتطور ويتطور؛ ليكون تقريراً كبيراً تبنى عليه أعظم النتائج.(272/3)
مهمة رجل الأمن
ثالثاً: المهمة الأصلية لرجل الأمن: هي حماية المجتمع من الداخل، من جميع المخاطر والجرائم التي تهدد دين المجتمع، وأمن المجتمع، واستقرار المجتمع، فالدين هو الهدف الرئيس في حمايته لأجهزة الأمن، أجهزة الأمن في جميع بلاد الإسلام.
وبناء عليه؛ فإن الاعتداء على الدين هو الجريمة العظمى التي تأخذ (رقم واحد) والتي يجب أن يجعل رجل الأمن من جهده جهداً كبيراً في مقاومتها، وكشف من يعملها أو يمارسها وإيقافه عند حده، وإذا سلم للناس دينهم؛ فقد سلمت لهم دنياهم، فإن الدين خير كله، وكل خير في الدنيا فإن الدين جاء بضمانه وتحقيقه.
نعم.
الأمن بالدين، والاستقرار بالدين، والرفاهية الاقتصادية هي بالدين، وكل خير يطمح إليه الإنسان فإنه لا يمكن أن يأتي حقاً، ودون أي مضاعفات أو أخطاء؛ إلا من خلال الدين والتزام السلوك الشرعي الصحيح.
نعم؛ فقد عاشت جمهوريات الاتحاد السوفيتي زماناً بشيء من الاستقرار؛ لكن ذلك الاستقرار كان بغير دين، وكان من خلال أجهزة الأمن التي تعد عناصرها بالملايين، والتي جندت من كافة الطبقات والنوعيات، وضرب بعضها ببعض، وجعلت مهمتها تدمير الأخلاق، وتدمير الأسر، والمجتمعات، وإزالة كل ألوان النخوة والشهامة والمروءة والرجولة، واستطاعوا أن يحافظوا على الأمن سبعين سنة.
لكن ذلك الأمن الذي حافظوا عليه؛ لم يكن في صالحهم؛ إذ دمر طاقات الشعوب واقتصادها وأخلاقها، وأسرها وقضى على كل مقدراتها، ثم كان المآل أن انفرط حبل الأمن، وتمزقت تلك الدول؛ فأصبحت كما يقال: تفرقت أيادي سبأ.
وتفرقت وأصبحت اليوم تعيش ألواناً من الانهيار الاقتصادي، وأنواعاً من الخلافات والحروب المدمرة داخل تلك الدول بما يعلمه الجميع، وهي على شفا بركان، يوشك أن ينفجر صباحاً أو مساءً.
فأولاً: ذلك الأمن الذي نعموا به سبعين سنة هل كان خيراً؟ كلا، بل إن الحرب التي يعيشونها، والدمار الذي يشهدونه هو في نظر جميع المسلمين بلا استثناء، بل في نظر العالم كله، هو خير من الأمن الذي كانوا يعيشونه من قبل؛ لأن ذلك الأمن لم يكن لحماية الدين، ولا لحماية الأخلاق، ولا لحماية المجتمع؛ ولكنه كان لحماية وحراسة الحزب الشيوعي الحاكم الوحيد في تلك البلاد، هذا أولاً.
وثانياً: إن ذلك الأمن لم يستقر؛ وإنما سرعان ما زال وتهاوى والسبب في ذلك أنه كان أمناً استقر من خلال البطش، والحديد والنار، والستار الرهيب الذي أقاموه على شعوبهم، فتململت هذه الشعوب، بعد طول زمان حتى كان ما كان، واستطاعوا أن يواجهوا تلك القوى العظمى.
إنه لم يغن الشيوعية أنها كانت تملك أكثر من ثلاثمائة ألف رأس نووي، ولم ينفعها أو تنفعها صواريخها العابرة للقارات، ولم يغنها من الله شيء أن يكون جهاز الأمن فيها المعروف بجهاز K.
G.
B أنه يملك أكثر من ثلاثة ملايين عنصر، مهمتها أن تحسب على الناس أنفاسهم، وخطواتهم، وأقوالهم، وألفاظهم، وعباراتهم، بل ونياتهم ومقاصدهم، فأنت تراهم اليوم وقد صاروا أحدوثة وأمثولة يتسلى الناس بأخبارهم، ويتشمت بهم أعداؤهم.(272/4)
المهمة الأصلية هي حماية المجتمع من الداخل
إن المهمة الأصلية لرجل الأمن في الإسلام؛ هي حماية المجتمع من الداخل، حماية دين المجتمع، وأخلاق المجتمع، ووحدته، وحماية الأمن والاستقرار للأمة، حماية للأمة والفرد والأسرة.(272/5)
حماية المجتمع من الخارج
ومهمة الجيش في الإسلام هي حماية المجتمع من الأخطار المتمثلة بالغزو الخارجي الذي يهددها من الشمال أو الجنوب، ولعلك يا أخي يا رجل الأمن؛ تشاطرني الرأي أن كثيراً من بلاد الإسلام لم تعد تؤمن بهذه المهمة التي تحدثت عنها إيماناً صحيحاً.
فقد أصبحت مهمة رجل الأمن في كثير من البلاد الإسلامية؛ هي إرهاب المواطن، وملاحقته وتهديده، وإيذاؤه في نفسه أو أهله أو وظيفته أو عمله أو أسرته أو دينه، وأصبحت مهمة الجيش هي التهيؤ للنزول إلى الشوارع لتدعيم مهمة القمع التي يمارسها بعض رجال الأمن في هذا البلد أو ذاك مما تسمعه في الأخبار صباح مساء.
إني سائلك وأنت أخي وأنا أخوك، وما بيني وبينك إن شاء الله تعالى إلا الود والمحبة ما صفت القلوب واتفقت الأرواح ورضينا بالمبدأ الأصل الذي هو الدين الذي ننتمي إليه جميعاً، إني سائلك؛ هل تعلم رجل الجيش في البلاد المجاورة لإسرائيل أنه يتهيأ للمعركة مع اليهود؟! كلا! وكيف يتهيأ للمعركة مع اليهود وجلسات وجولات السلام بينهم تتقدم يوماً فيوماً إلى الأمام!! إنهم يوجهونهم إلى شعوبهم، أو على أحسن الأحوال يوجهونهم أحياناً إلى معركة معروفة الأحداث مع الجيران، فيوماً هنا ويوماً هناك: وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا فهم أُسود أشاوس على الضعفاء من بني جلدتهم، أو من بلادهم أو من جيرانهم، ولكنهم حملان وديعة أمام عدوهم الحقيقي الشرس من اليهود أو النصارى.
ثم إني سائلك مرة أخرى: هل تعلم مهمة رجل الأمن في تلك الديار؟! هل تعلم لهم مهمة أخرى غير اصطياد الشباب المتدين وملاحقتهم؟! أما أنا فلا أعلم إلا هذا، فهل يرضيك يا أخي وأنت المسلم الذي تعلم حرمة الدم المسلم، وحرمة العرض وحرمة المال، أن يحدث هذا! أم يسرك وأنت تسمع قول الباري عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] .
إن الكثيرين ينسون أن الرجل المسلم المقتول غدراً في الشارع أو في الجامعة أو في المسجد أو في المنزل أنه رجل يجري في عروقه أيضاً دم، وليس ماء، وأنه بشر، له حرمته وليس شيئاً آخر غير البشر، وأن له أطفالاً ينتظرونه عند الباب صباح مساء، متى يأتي أبونا؟ متى يأتي والدنا؟ وأن له أمَّاً تذرف الدموع بعد الدموع على قرة عينها الذي طال انتظاره دون جدوى، فلماذا تنزعج أخي؛ أو ينزعج غيرك من خبر يقول مقتل: ضابط أو شرطي في بلد كذا!! ثم تسر لخبر يقول لك: اقتحام منزل وقتل عشرين من المتطرفين!! لقد اعترفوا بالقتل وقتل عشرين! لقد اعترفوا بالقتل! فيقبل اعترافهم على أنفسهم وهي جريمة منكرة في جميع الشرائع، بل وفي كل القوانين الوضعية، أما دعواهم أن هؤلاء من المتطرفين؛ فهي دعوى يعوزها الدليل، وهؤلاء القتلى لم يمثلوا أمام محكمة! ولم يظهر صوتهم في إذاعة! ولم يرهم الناس عبر شاشة! ولم يكتبوا في جريدة ليتحدثوا برأيهم ويدافعوا عن أنفسهم! فأين الدليل الحقيقي على أن هؤلاء كانوا من المتطرفين؟! لقد جاءت أخبار مؤكدة ووصلت إلي تقول: إن الناس في بعض الدول العربية والإسلامية أصبحوا يعتصمون بالجبال، قرى بأكملها ومدن عن بكرة أبيها أصبحت تعتصم بالجبال! وتترك البيوت والحقول والمزارع والنساء والأطفال! وهي مصممة على الثأر ممن تعدهم الجناة.
فهل أدركت أخي رجل الأمن أي فجوة ضخمة خطيرة حفرها أولئك المغرضون المجرمون بينك وبين أخيك المسلم من وطنك وبلادك، بل ربما من أسرتك ومن قبيلتك، وربما من المدينة أو القرية التي كنت منها؟! لقد خوفوك به، كما خوفوه بك، قالوا لك: لا خطر علينا من اليهود، أو ما يسمى بإسرائيل!! فهي حليفتنا وصديقتنا، وبيننا وبينها أوثق العلاقات، ولا خطر علينا من النصارى فهم أصحابنا وأصدقاؤنا، ولا خطر علينا من مجرمي المخدرات، فإنهم لا يضرون إلا أنفسهم.
قالوا لك: الخطر كل الخطر من المتطرفين، فاقتله ولو كان المتطرف متعلقاً بأستار الكعبة، هكذا قبل أيام طالب رئيس دولة عربية معروفة -الرئيس الليبي- طلب من الطلاب في كل مكان قتل المتطرفين دون محاكمة!! أتدري ما آية التطرف عندهم؟! إن إعفاء اللحية أو حمل السواك، أو التردد على المساجد، كافٍ في الدلالة على أن صاحب هذه الأعمال من المتطرفين؛ فإذا قصر ثوبه أو قام يخطب في المسجد، أو نصح، أو ألف كتاباً، أو ألقى درساً، فحينئذ يكون تطرفه مما لا يقبل النظر ولا الجدل عند هؤلاء.
لقد ملئوا قلبك -أخي رجل الأمن- خوفاً وذعراً، حتى أصبحت إذا رأيت ذا اللحية فكأنما رأيت بعبعاً عنيفاً، أو شيئاً مخيفاً، وبالمقابل خوفوه بك وجعلوك سيفاً مصلتاً على رقبته، فصار ما إن يراك ببزتك وبدلتك؛ حتى يرى الموت الأحمر، ويدري أنه إن لم يقتل يُقتل، وصرت أنت وهو -حينئذ- ضدين لا يجتمعان.
إنه الدم، إنه القصاص، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] والقاتل مقتول ولو بعد حين، وسيقضي القاتل أياً كان، سوف يقضي بقية عمره في قلق لا يهدأ وتوتر لا يسكن، وإن من عقوبة القتل أن يزرع الله في قلب القاتل شقاء لا سعادة معه أبداً.
وإذا أمن عقوبة أهل الأرض، فلا يأمن عقوبة رب السماء، تنتظره من يومه أو من غده، نزيفاً في المخ، أو سرطاناً، أو جلطة، أو حادثاً مرورياً مدمراً، أو أزمة قلبية، أو إيدزاً، أو مأساة مروعة على زوجته أو على أطفاله، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:13-14] .(272/6)
أجهزة رجل الأمن
رابعاً: إن كل ما حدث ويحدث أخي رجل الأمن؛ لم يكن لينسينا أنك أنت وأجهزتك ومن وراءك جزء من مجتمعنا المسلم الممتد عبر هذه الرقعة الواسعة، من العالم الإسلامي، التي تشكل خمس سكان الكرة الأرضية.
ففي هذه الأجهزة كما في غيرها، ونحن نعلم ذلك كما تعلمه أنت، فيها الخير والشر، والحق والباطل، والإيجابيات والسلبيات، وفيها الأخيار الذين يتحرقون ألماً على واقع أمتهم، وبلادهم، ولكن واحدهم -ونرجو أن تكون من هؤلاء- واحدهم كمؤمن آل فرعون، يعمل في جو مشحون مضغوط، ويدفع عن الخير وأهله بقدر ما يستطيع، ولكنه يحاذر أن يرتاب فيه المرتابون، أو يتصيده المتربصون، وفي هذه الأجهزة أيضاً الأشرار الذين يكيدون للحق وأهله، من منطلق الحقد على دين الله عز وجل، والبغضاء والمقت للمؤمنين.
وفيها الموظفون الذين لا يعنيهم إلا أمر الراتب في آخر الشهر، ولا يعنيهم إلا أن يضبط الإنسان نفسه، فلا يساءل عن تقصير في عمله، أو إهمال في وظيفته، وقد تكون أذهان هؤلاء مشحونة أو متأثرة بما يسمعون في أجهزة الإعلام، أو في مكاتب العمل، أو في مجالس السمر مع الزملاء والأصدقاء.
وهذا يعني أن الإصلاح ممكن، وأن التدارك وارد، إن لم يكن في كل مكان، ففي بعض البقاع والرقاع، فأين الخطباء عن هذا، وأين الدعاة الغيورون المخلصون؟! وأين الشعراء؟! وأين الموظفون؟! وأين القادرون؟! لماذا يبتعدون عن مثل هذه الأمور؟! فتزداد الفجوة البعيدة بين المتدين، ورجل الأمن.
إن رجل الأمن جزء من المجتمع بدينه، بأخلاقه، بنسبه، بعلاقاته فهو أقرب ممن سواه؛ لذلك فإنك تجدهم في روسيا -مثلاً- كما أسلفنا يجندون المجهولين -أجارنا الله وإياكم- يجندون أولاد الزنى الذين لا يعرف لهم نسب، حتى يكونوا في قوات الكوماندوز، أو الصاعقة، أو التدخل السريع، أو مكافحة الشغب، لأنهم يعلمون أن هؤلاء يمكن أن يشحنوا بالأحقاد على مجتمعهم.
حيث لا رابط يربطهم، ولا علاقة، ولا قرابة، ولا أبوة ولا صهر ولا نسب، ولا دين أيضاً، فيأخذون هؤلاء منذ الطفولة، ويخضعونهم لتربية خاصة، وفي بعض البلاد العربية يقع مثل ذلك.
أما أنت يا أخي؛ فأنت ابن هذا البلد، تحمل دينه وهمه ومشاكله وتحمل مشاعره، وتحمل أخلاقه، وهؤلاء الناس هم إما أبوك أو أخوك أو قريبك أو صديقك أو جارك أو نسيبك، فأي فرق بينك وبينهم؟! ولماذا ترضى أن تسدد سهمك إلى أحد منهم؟! أو تسدد قلمك إلى بعضهم؟! إنك أنت وهم في خندق واحد، والمصير مشترك، وحق عليك أن تطيل التفكير فيها.(272/7)
الحزم في الدين
خامساً: أنت مسلم تؤمن بالله تعالى واليوم الآخر، وتعلم أن لك مصرعاً ينتظرك، وتنتظره، وهو آتيك صباحاً أو مساء {فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء} .
وأنت موقوف بين يدي الله عز وجل، ومسئول عن كل شيء كما قال الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] وقد تقول: إنك مقصر ببعض الطاعات، أو واقع في بعض المعاصي والمنكرات!! فأقول: حتى مع هذا وذاك، فأنت بحمد الله ما زلت مؤمناً، مسلماً، وكيف لا تكون كذلك وأنت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا تعبد إلا الله عز وجل، وأنت مقيم للصلاة، محافظ عليها، إما في المسجد أو حتى في إدارتك أو جهاز عملك أو على انفراد، فما تذكر يوماً أنك تركت صلاة متعمداً، فأنت حينئذ مسلم بحمد الله عز وجل، يرجى لك خير كثير.(272/8)
السخرية بآيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
فكيف -وحالك هذا- ترضى أن تسمع من زميلك سخرية بآيات الله عز وجل، أو استهزاء برسله، أو تشكيكاً بأمور الغيب من البعث أو الجنة أو النار، أو المعجزات والآيات التي جرت على الأنبياء؟! ثم تلوذ بالصمت! وربما كان جوابك عليه ضحكة طويلة مجلجلة!! ألا تذكر أن زميلك يوماً من الأيام شكك في الإسراء والمعراج، وقال: هل رأيت هذا بنفسك، فما رددت عليه ولا ناقشته، ولا ذكرته ولا خوفته؟! أنت أيضاً؛ قد وقعت في خطأ وأطلت إزارك أو بنطالك، فهلا أعجبت بأخيك الذي قصر الإزار أو طواه؛ تحرياً للسنة، وطاعة لله تعالى ورسوله، إذ لم تفعل أنت فعلام السخرية والتندر إذاً ممن هم أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً؟! أخي أنت تعلم أن الشرائع والعبادات أمور مفروضة، وأعجب منك وأنت تصلي وتعلم أن الصلاة دعاء، وأن الدعاء صلاة، كما قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] .
ومع ذلك سمعت زميلك وأخاك وقرينك في العمل يسخر من أمر الدعاء، ويقول: لو كان كل مظلوم دعا استجيب له؛ لما بقي ظالم على وجه الأرض، فسكت عن ذلك، وغمغمت وجمجمت وأحجمت! ولم تبين له كم من مظلوم انتصر الله تعالى له في الدنيا قبل الآخرة! لكن الله تعالى {يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .
أنت تعلم أخي: أن الاستهزاء بآيات الله تعالى كفر، وقد قال جماعة خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد والغزو فسخروا من القراء وطلبة العلم، وقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أكبر بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله تعالى من فوق سبع سماوات آيات كريمات تقرأ إلى يوم الدين، تحكم على هؤلاء بالكفر البواح الصراح، وتتهددهم بنار جهنم وبئس المصير، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65-66] .
إن الاستهزاء بآيات الله تعالى أو رسله أو أنبيائه أو الغيب أو الجنة والنار أو بالصالحين، هو كفر بالله العظيم.(272/9)
الاستهزاء بالصالحين
ولذلك لما ذكر عندك يا رجل الأمن فلان وفلان من أهل الخير والصلاح، فتماجنت وأظهرت الفرح والدعابة، وأن النكتة على طرف لسانك، فضحكت على فلان، وتندرت من شكله أو هيئته، أو منطقه وكلامه، أو تصرفاته، وربما آذيته إن كان لك عليه سبيل.
أنت أنت يا صاحب الجسم النحيل! والعمر القليل! والهم الكليل! أتقدر أنت على أن تحارب الله جل وتعالى؟! إن الله جل جلاله يقول: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي أعلنت على لسان رسولي بأنني محارب له.
زعمت أوروبا أن ستغلب ربها وليُغلبن مُغالب الغلَّاب والولي في قوله: {من عادى لي ولياً} لا تحكم عليه أنت ولا أنا، الولاية سر عند الله عز وجل، وهي الجدير بها أهل التقوى والإيمان {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] .
فربما كان الولي بأسمال متواضعة، وربما كان بدون مرتب أو وظيفة، وربما كان ضعيف الجسم، وربما كان الولي في غياهب السجون، فإياك إياك لا يستفزنك الشيطان، فتطلق لسانك بالسوء على عباد الله، هذا متطرف، وهذا أحمق، وهذا يستغل الدين لمصالحه الشخصية، وهذا يريد الشهرة، وهذا يريد المنصب، وهذا يريد السلطة، وهذا وهذا!! هل جعلك الله تعالى رقيباً على قلوب العباد؟! أخي الكريم إنك قد تقول لي: أنا لست من أهل هذا الشأن، وما تكلمت في مؤمن قط، ولكنني أقول لك: هذا لا يكفينا منك، بل نريدك رسولاً لمن وراءك، أن تأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتقرأ عليهم آيات الله والحكمة.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم} وفي رواية: {إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب} وفي رواية: {يهوي بها سبعين خريفاً في نار جهنم} .
أفيسرك أن تكون أنت من أهل هذا الوعيد العظيم الشديد، سبعين عاماً يتجلجل في نار جهنم! وما جرمه أو ذنبه إلا كلمة لم يتبين فيها، وربما قالها تندراً أو مجاملة لزيد أو عبيد!! وفي سنن الترمذي بسند جيد عن بلال بن الحارث المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت} لم يُقِم لها بالاً ولا وزناً ولا اعتباراً، بل ظنها كلمة سهلة يسيرة، وربما قال: كل الناس يقولون هذا، {يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه} .
تأمل نفسك، وتحسس جسدك؛ هل عندك قدرة أن تظل تعيش كل عمرك الذي بقي لك، تتقلب في سخط الباري عز وجل، الذي أنفاسك منه، وعطاؤك منه، ومالك منه، وزوجك منه، وكل خير بك فمنه، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] أفيسرك يا أخي أن تتقلب يوماً من الأيام على فراش المرض، تئن من آلام مبرحة؛ لو وزعت بين مائة رجل لأثقلتهم وأبكتهم وصاحوا منها؟! أيسرك أن تتحمل هذه الآلام، ثم تدعو الله تعالى فلا يستجيب لك، وتسأله فلا يعطيك، وتستنصره وتستصرخه فلا يجيبك، لماذا؟! لأنك تتقلب في سخطه، نظير كلمة قلتها في حق امرئ مسلم.(272/10)
بعض اهتمامات رجل الأمن
سادساً: أخي رأيت جزءاً من حديثكم عن المتدينين، بل إذا أردت أن أصارحك فقد أصبح المتدينون شغلكم الشاغل في كثير من بلاد الإسلام، وهمكم الأول، بل والأخير، ففي بعض الأصقاع النائية جند الجميع، حتى قوات الدفاع المدني لهذه المهمة! مهمة مطاردة المتدينين، وأنا محدثك عن المتدينين بصراحة، فقد كثر حديثكم عن أخطائهم: الأولى: المتدينون بشر من البشر، يخطئون ويصيبون، ولكنهم يخطئون قليلاً، ويصيبون كثيراً، فصوابهم أكثر من خطئهم، ولكن افتراض الكمال فيهم غير وارد، فهم يجتهدون فيخطئون أحياناً، وقد يخطئون من غير اجتهاد أحياناً أخرى، ربما يظهر بمظهر المتدينين من ليس منهم على الحقيقة، ولكنه دعي لصيق فيهم تزيا بزيهم، ودخل مجالسهم وليس منهم، والناس ليس لهم إلا الظاهر، هذه واحدة فاعقد عليها إصبعك.
الثانية: أن مراقبة المتدينين وعد أنفاسهم، وحساب حركاتهم، سوف يجعل أخطاءهم دائماً في الصورة، فالخطأ مهما صَغُر وَقَل يُعْرف، ويكشف، ويراقب، ويضبط، ثم يكبر، ويكثَّر، ويكتب، ويضخم وينشر، ويضم إلى نظيره ومثيله وقرينه حتى نجعل من الحبة قبة فيما يتعلق بالمتدينين.
وأنا ضارب لك مثلاً: افترض أن مسئولك سخط عليك يوماً من الأيام، ووجد عليك في نفسه وأبغضك وهو لا يخاف الله، فصار يتربص بك الدوائر، ويريد أن يؤذيك، وينتظر الساعات المباركة التي يقع منك الخطأ حتى يعاقبك وينتقم منك، أفيسرك أن يحدث هذا؟! كلا.
إذاً فيجب أن تأتي الناس بالذي تحب أن يؤتى به إليك، بل إنني أقول لك بصراحة إن بعض صواب المتدينين يتحول إلى خطأ بقطرة يضيفها متبرع من بعض أصحابك أو زملائك، فإذا حذر المتدين عن المعاصي وعقوباتها، قيل: تشويش، وإذا تكلم عن خطر الكفار، قيل: إثارة، وإذا تحدث عن مؤامرات العلمانيين قيل: مبالغة وتهويل، أو تفريق للصف، وتمزيق للمجتمع، وإذا أنكر منكراً ظاهراً واجب الإنكار، قيل: تشهير، وإذا نصح، قالوا: فضح!!! فأين المهرب؟! الثالثة: إنها سنة الله عز وجل، كما في حديث معاوية رضي الله عنه {لا تتبع عورات الناس فإنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم، أو كدت تفسدهم} فالمتابعة والملاحقة هي نزع للثقة، وغرس لبذور الريبة والشك بينك وبين هؤلاء، ولا يمكن أبداً أن أسمح لنفسي بأن أتجاوز في حق الآخرين، وأخطئ عليهم، وأتعدى، وألاحقهم، وأضرهم، وأتجسس عليهم، ثم أفترض في الناس دائماً الصبر والتحمل والعفو، والإعراض وهدوء الأعصاب وطول النفس.
الرابعة: هناك أشياء صحيحة، لكنها تدخل في باب المسائل الشخصية، فمثلاً: ربما توجه أخي رجل الأمن نقداً إلى نوعية اللباس الذي يلبسه المتدين، أو طريقته، أو مظهره الشخصي، هذه أمور لا تدل على شيء نعم.
حسناً، لو كان المتدين -مثلاً- أعلى في ذلك، وفي صحيح مسلم {إن الله جميل يحب الجمال} ولكن أيضاً، لا تنسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كما في حديث أبي أمامة الحارثي عند أحمد وابن ماجة وهو صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: {البذاذة من الإيمان} يعني التواضع في الملبس، وعدم الفخر أو المبالغة فيه.
ولا تنسى أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رب أشعث أغبر، ذي طمرين، لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره} والحديث أصله في مسلم، وفي مسند أحمد، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له، فشكله وملبسه وشعره وهندامه يجعل الناس يعرضون عنه، ولكنه ولي لو أقسم على الله في شيء لأجاب الله تعالى قسمه وأبره، ولو دعا الله أو سأله لأعطاه، فهل تريد أن يكون خصمك هذا، وهل تريد أن تسخر بمظهره وأنت تغفل عن مخبره، وقد يكون أقرب إلى الله تعالى زلفاً؟! الخامسة: فإنك تتحدث عن أخطاء المتدينين، أو على أقل تقدير تسمع زملاءك يتحدثون، ولكن اسمح لي أيها الأخ العزيز أن أسألك: ما حجم هذه الأخطاء الموجودة عند المتدينين بالقياس إلى الأخطاء الفادحة الموجودة عند غيرهم؟! ألم تسمع أو تقرأ عمن يسمى بوحش الدار البيضاء؟! رجل في أعلى المناصب هو مسئول في إدارة المباحث، في تلك المدينة المغربية الشهيرة، في أعلى الرتب والمناصب، فماذا كانت جريمته؟ ليست جريمته في ملبسه، أو في حذائه، أو في سيارته، إنها مجموعة من الجرائم المسجل منها على أشرطة الفيديو بالصورة والصوت يزيد على خمسمائة جريمة؛ يهتك فيها أعراض النساء، والرجال، ويتعدى عليهم، ويقتادهم بالقوة، ويغتصبهم، ويضع لهم الأحابيل، ويستخدم كل الإمكانيات التي تحت يده، وكل الأفراد الذين تحت سلطته، يستخدمهم في التمكين لهذه الجريمة، والحصول عليها.
ثم هو يعترف في المحكمة وعلى مرأى ومسمع من الناس، يعترف بأن الجرائم التي لم تسجل هي أكثر بكثير من الجرائم التي تم تسجيلها!! ثم هو ينتظر من المحكمة أن تعفو عنه لأن له أطفالاً صغاراً ينتظرونه في المنزل!! فهل غابت عن ذهنك هذه الجريمة المركبة العظيمة؟ وهل تظن ذلك الرجل كان يعمل بمفرده وهو يتسلم ذلك المنصب الرفيع؟! إنها لا تعدو أن تكون عينة لكثيرين ممن يحيطون به، أو يشبهونه!! ثم ألم تسمع أو تقرأ أيضاً عن تلك الفتاة الغجرية التي نشرت خبرها الصحف المصرية، وكيف تورط في علاقة الحب الحرام معها عليةُ القوم، وكبار المسئولين بما فيهم بعض رجال الأجهزة المسئولة عن الأمن، وكيف نشرت تلك الصحف الأخبار بالتفصيل؟! ألم تقع على مثل هذه الأخبار؟! وما هي إلا أشياء أو فضائح قليلة أصبح من المستحيل التستر عليها، أما الجرائم التي دون ذلك فحدث ولا حرج!!! لعلك سمعت خبراً عن زميلك الذي قبض عليه في قضية أخلاقية، ثم تستر عليها بواسطة تدخل بعض الأطراف! فلماذا تريد أن يكون المتدينون صفحة بيضاء؟! أبداً، وتغفل عن أنهم في الجملة أفضل ممن سواهم، وأن العبد لو تلفت إلى غيرهم حتى من زملائه، زملاء عمله أو معارفه، لوجد شراً مستطيراً، ولعلك أيضاً لم تنس تلك العصابة المتآمرة التي كانت تتعاطى المخدرات، وتبيعها، وتهربها، وتستغل مناصبها، وعلاقاتها في تحقيق ذلك والتستر عليه؟!! ثم إنك تعلم أن كثيراً ممن حولك يرتكبون ما حرم الله عز وجل، في أمور غير مشروعة يفعلونها في حق الناس، دعك من التجسس على المفسدين، أو المجرمين، أو على أهل المخدرات، أو على أهل الجرائم، أو على من يخشى أن يزعزعوا الأمن.
ولكن ما بالك بغيرهم، والله عز وجل يقول: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من تسمع حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة} والآنك هو الرصاص المذاب، والحديث في صحيح البخاري.(272/11)
المصداقية في كتابة التقارير
سابعاً: نعم، أعلم -أخي- أنك تكتب التقارير، وأنك ملزم بذلك، لكنك لست ملزماً ولا مأذوناً أن تقرأ نيات الناس، أو تتحدث عما في قلوبهم، وليس يجوز لك أن تقرأ ما وراء الكلمات، أو ما بين السطور، أو الحروف، فهذا لرب العالمين، ومن نازع الله تعالى في ذلك عذبه.
إنما الغيب لله، عالم الغيب، إن الشرع حين وضع حدوداً على محارم الله عز وجل فرض لها أدق الشروط وأعظمها وأوفاها، فهذا حد الزنى -مثلاً- لا يقام إلا بعدما يشهد أربعة شهود على حصول الجريمة، لكن لا يكفي أن يقولوا حصلت الخلوة، بل ولا المداعبة، بل ولا الضم، ولا ولا ولا، حتى يشهدوا بالجريمة تفصيلاً دقيقاً يزيل أي التباس، ليقام الحد بعد ذلك على المجرم.
فأنت حين تكتب أو تدون لماذا تقرأ نيات الناس؟ أو تتكلم عن مقاصدهم؟ أو أهدافهم؟ أو مراداتهم؟ دع هذا لرب العالمين، أما أنا وأنت فبشر ضعاف مهازيل لا نستطيع أن ندرك من ذلك لا الكثير ولا القليل! ثم حين تكتب يا أخي لماذا تبحث عن رضا المسئول، لماذا لا تبحث عن رضا الله عز وجل، ولماذا لا تستنير بالقاعدة النبوية الشريفة العظيمة أنه {من أرضى الناس بسخط الله عز وجل، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله تعالى بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس} .
إنك إن أرضيت الناس ولو أسخطت الله عز وجل يوشك أن يعود حامدك ذاماً لك يوماً من الأيام، ربما أخذ مسئولك فكرة معينة عن فلان من جراء كلمة سمعها، أو موقف بلغه، أو ما أشبه ذلك، فأصبح يعجبه أن تفسر أقواله، وأعماله، وتصرفاته، على حسب الفكرة المسبقة المستقرة عنده، ولكن هذه خيانة لنفسك ولمسئولك، اعتداء على ذلك الشخص الذي ظلمته.
إنها جناية على أخيك المسلم تؤاخذ بها، في يوم لا درهم فيه ولا دينار ولا متاع، وإنما هي الحسنات والسيئات، فيؤخذ من حسناتك، فيوضع له، فإن فنيت حسناتك قبل أن يقضى ما عليك أخذ من سيئاته ثم طرحت عليك، ثم طرحت في النار، وحينئذ فأنت من المفلسين كما في الحديث الصحيح عن سيد المرسلين.
وربما يرضى من فوقك أن تنقل له ما يعده هو أخطاء، أو يسميه تجاوزات، وأن تسكت عن الإيجابيات ولكن هذا ليس من العدل في شيء، إن الذي يعلمه الناس أنك ربما أعملت هواجسك وظنونك في فلان، أو فلان، ثم رفعتها لمسئولك، وهي ظن أو تخمين لا يقين، ولكن كم من ظن سوء كاذب أصبح عند من فوقك حقيقة لا تقبل الجدل! واقعاً لا يقبل الشك، ثم بنى عليها قراراً بسجن فلان، ونقل علان، وفصل هذا، وتأديب ذاك، ومحاكمة هؤلاء، وظلم أولئك، فإياك إياك أن تظلم الناس للناس، فإن شر الناس من ظلم الناس للناس.
وإياك إياك أن تظلم نفسك، أنت تتقلب على فراشك، والعشرات من الناس يتقلبون، وقد بللت دموعهم خدودهم، وهم يتوسلون إلى الله العظيم الكريم الذي يسمع السر والنجوى أن ينزل أليم سخطه، وعظيم عذابه على من آذاهم، أو آذى إخوانهم، أو آذى أقاربهم، أو مشايخهم، وهي دعوة مظلوم يرفعها الله عز وجل، فوق الغمام، ثم يقول: {وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين} وفي الحديث المتفق عليه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} .
أتريد أن تكون التجربة في نفسك أنت، إياك إياك أخي أنت كغيرك أساء إليك فلان جارك، وأخطأ عليك فلان الذي لقيته يوماً من الدهر، وكان يمكن أن تأخذ حقك بالطرق الشرعية المرعية، فما الذي حدا بك إلى استخدام الوشاية، أو الكيد الخفي لهؤلاء، واستغلال موقعك لتوريطهم في أشياء وأمور هم منها براء.
أخي لا يحملنك الاغترار بالمرتبة، أو العلاوة، أو الترقية، أو الجائزة، أو البدن، على أن تقفو ما ليس لك به علم، قال الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فسمعك موقوف ومسئول، وبصرك ولسانك، وهاجسك في قلبك، أنت مسئول عن ذلك كله متى أنفذته ومتى أعلنته في {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .
فإياك أن تجهد في إيقاع الآخرين، فبئس المال مال جاء من أذية الناس، وما عند الله عز وجل من رزق لا ينال بمعصيته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به} .(272/12)
بعض أخطاء رجل الأمن
ثامناً: أخي العزيز الكريم: ليس حديثي معك الآن حديثاً عن أخطاء العسكر، من ضباط أو أفراد، ولا عن طبيعة العلاقة التي تسود بينهم، فهذه خصوصيات وأسرار لا أرى مصلحة في البوح بها الآن، وإن كنت أنصح الإخوة جميعاً بالحرص على الاحترام المتبادل فيما بينهم، وتنقية القلوب من جميع أنواع البغضاء، فإنه لا أسعد من القلب النقي الذي لا يحمل الحقد ولا الحسد ولا الضغينة على الآخرين.
يجب أن تفرح بما يصيب إخوانك المسلمين من خير، وتهنئهم بقلب صادق، وأن تثق بأن الذي أعطاهم سوف يعطيك خيراً من ذلك، متى صبرت واحتسبت وآمنت، قال الله عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] .
ولكن لا بأس أن أعرض لك بعض الأمور الضرورية التي هي خلل لا بد من تداركها:(272/13)
القسوة على الأفراد
ومن ذلك أيضاً -أعني: من الأخطاء التي لا بد أنك أدركتها- القسوة على الأفراد أحياناً، أو على المرءوسين أو على الصغار، والتسرع في إيقاع أقسى العقوبات عليهم، من حجزهم، أو إيقافهم، أو مطالبتهم بالمشي، أو الغرامات عليهم، أو ما أشبه ذلك مما يدخل في دائرة الظلم.
وأنت -إن شاء الله- حريص على العدل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ويدعو أن: {اللهم من ولي من أمر الأمة شيئاً فارفق بهم، رفق به} فليكن لك حظ من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن ترفق بمن حولك، ممن هم رعية لك، أو أنت مسئول عنهم.(272/14)
إضاعة الأوقات
أيضاً من الأخطاء شغل وقت بعض العسكريين بما لا ينفع، وبطريقة غريبة، فإن هناك سياسة غربية تقول: >اشغل العسكري حتى لا يشغلك، وبذلك قد يكون هناك شغل لهم لمن تحت يده، قد يكون شغل لهم في أمور كثيرة أنت تعلم أنه لا طائل من ورائها، ولا منفعة منها، فلماذا لا تعطيهم وقتاً للراحة؟ أو لقراءة القرآن؟ أو لذكر الله؟ أو أي شيء آخر يفيدهم في دينهم؟ أو دنياهم؟ اللهم إلا إذا كان ثمة عمل يحتاج إليه في ضبط الأمور، أو في المسائل الموكلة، فهذا لا بأس به، أما شغلهم بأمور أنت تعلم أنه لا جدوى منها إلا مجرد إلهائهم؛ فلا شك أن ذلك ليس من المصلحة في شيء.(272/15)
الطاعة العمياء في كل شيء
أولاً: الطاعة العمياء في كل شيء، هذا غير جائز بالنسبة للبشر، بل ربما يقول بعضهم (نفذ ثم اعترض) يعني: قم بالعمل الموكول إليك واعترض بعد ذلك، الطاعة المطلقة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم، أما طاعة البشر كل البشر فهي محكومة بالشرع، ولهذا قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ثم قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] .
إذاً الطاعة المطلقة هي لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، أما البشر فيطاعون في طاعة الله، ويعصون فيما أمروا به من معصية الله تعالى، إن الذين قتلوا المواطنين وواجهوهم، قتلوهم طاعة لبشر، فهل يجوز لك أخي أن تحقن دمك لتقتل أخاك المسلم؟! والذين نزلوا للشوارع بأسلحتهم، نزلوا إرهاباً لمواطنيهم وأقاربهم وجيرانهم، نزلوا لطاعة بشر، فهل يجيز الشرع لأحد أن يرهب أمه وأباه، وأخته وأخاه، وجاره وزميله في غير طائل، ولغير هدف واضح معروف؟! إن الطاعة لا تجوز أبداً إلا في المعروف، ومن حق الفرد أن يراجع ويناقش، ومن أخطر الأساليب التربوية، سحق شخصية الإنسان، وتدمير طاقاته، وتدريبه على التبعية المطلقة للآخرين، إنها تدمير للمجتمع كله.
قال لي شخص: يا لهول المصيبة لو صحا الناس على البيان رقم (1) قلت له: أرأيت لو صحا شعب أمريكا من واشنطن على البيان رقم (1) يعلن خلع الرئيس الجديد، وإلغاء الانتخابات، وتعليق العمل بالدستور، ويعلن أحد الضباط نفسه رئيساً لأمريكا، ويفرض حالة الطوارئ على البلاد والعباد، ويصدر تعليمات بتأميم أجهزة الأمن والتعليم والإعلام وغيرها.
أرأيت لو حدث ذلك؟! قال: محال أن يحدث في تلك البلاد.
قلت له: لماذا؟ قال: لأنها بلاد ناضجة.
قلت: أرأيت إن مصلحة نضج الشعوب هي مصلحة للحاكم والمحكوم والأمة كلها، سواء بسواء، إن الأمة الناضجة القوية الواعية، التي تعرف ما تأخذ وما تذر، وتشارك بالرأي والمشورة، وتحلل وتنظر وتأمر وتنهى وتعبد الله تعالى بذلك كله، إنها هي فقط الأمة التي تستطيع بإذن الله تعالى أن تضمن مستقبلها، فلا يعتدي عليها أحد، ولا تساق إلى حتفها أو مصيرها دون وعي أو شعور.(272/16)
الاستقاء من الغرب
إن من المحزن -أيها الأخ الكريم- أن التربية العسكرية في جميع البلاد الإسلامية تأخذ غالباً بالنظم الشرقية الشيوعية القاسية، التي تنشئ أو تربي العسكري على الذل المطلق لمن فوقه، وعلى الاستكبار على من تحته، فهو يتحمل مما فوقه كل شيء، ليتحمل منه من تحته كل شيء، وهذه الإهانات التي يتلقاها ويأخذها من الكبار، يقوم هو بسقيها وإطعامها للصغار.
ومنذ بداية الخدمة العسكرية؛ يعطى الكثيرون الانطباع بأن الإهانة ضرورة عسكرية وأمنية، لا بد منها، وما يسمى بفترة الاستجداد تشهد تسرب الكثيرين، ولعلك -أخي- تعلم ذلك أكثر مما أعلم أنا، تشهد تسرب الكثيرين من ذوي الهمم العالية والنفوس الكبيرة الذين لم يطيقوا مثل هذه الإهانة، نعم؛ أنت وأمثالك ممن صبروا وتحملوا، لكن هل نسيت زملاء دُفْعتك الذين دخلوا وكانوا نماذج حية بالرجولة والإخلاص والإباء، ثم انصرفوا لأنهم لم يحتملوا ذلك الوضع الصعب العسير.
إن التربية الغربية -مع الأسف الشديد- تختلف جذرياً عن ذلك، فهي تحافظ على كرامة الفرد وعلى استقلاله، وتنشئه نشأة طبيعية، أما التربية الإسلامية فهي لون آخر، يقوم على احترام الآخرين، وتحميلهم المسئولية أمام الله عز وجل، وعلى قبول النصيحة من كل أحد، وعلى ربط الفرد بأهداف الأمة العليا، فهو لا يحامي عن شخص، ولا يدافع عن قبيلة، ولا يقاتل عن حدود، بل الهدف الأول والأخير عنده هو حفظ الدين والأمة والوطن الإسلامي الكبير.(272/17)
بعض النصائح
تاسعاً: أخي العسكري في هذه الفقرة التاسعة ومن خلال دقائق لا تزيد على عشر إن شاء الله سوف أمر بتسع نصائح، أزجيها لك في آخر هذا المجلس المبارك:(272/18)
اختيار الزوجة الصالحة
ثامناً: ابحث عن الحليلة الصالحة، ابحث عن الزوجة الصالحة، فأنت كثير الغياب عن المنزل، كثير الأسفار، وقد تدعى في ساعة متأخرة من الليل، فلا بد أن تكون زوجتك مأمونة ولا يكون الأمن والإيمان إلا عند المتدينة.
فابحث عن ذات الدين تربت يداك، كما أرشدك إلى ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، حينما قال كما في الصحيحين {تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك} إنك أحوج من غيرك إلى الفتاة المتدينة التي تحفظك في نفسها، ومالك، وولدك، وتكون من بعدك حارسة على بيتك وعرضك وعلى أهلك وولدك.(272/19)
اختيار الجليس الصالح
تاسعاً: عليك بالجلساء الصالحين، فإن الجليس الصالح هو كحامل المسك، لا بد أن يحذيك، أو تجد منه ريحاً طيبة، والعبد يحشر يوم القيامة مع من يجالسه {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22] فاحرص على أن يكون جلساؤك الأخيار الأبرار الأطهار، وإياك ومجالسَ السوء التي يعصى فيها الله عز وجل.
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه، وأسمائه وصفاته، وهو الواحد الأحد الصمد: أن يوفقنا وإياك لكل خير، وأن يجعلنا وإياك من الهداة المهتدين، وأن ينفع بك دينك وأمتك وبلادك، إنه على كل شيء قدير.
وأسأله جل وعز: أن يوفقك إلى كسب الحلال، والزوجة الصالحة والذرية الصالحة، وأن يهدينا وإياك سواء السبيل، وأن يعمر قلبك بالإيمان، وأن يوفقك لكل خير، وأن يبعدك عن كل شر، وأن ينزل عليك الرضوان، وأن يهديك إلى سواء السبيل، وأن يبعد عنك جلساء السوء، وأن يجعلك نصراً وبراً وذخراً للإسلام والمسلمين إنه على كل شيء قدير.
وأسأله جل وعلا أن يكون كل عمل عملته من أعمال الخير والبر والإحسان مكتوباً مضاعفاً في ميزان حسناتك {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .
وأستودعك الله عز وجل والسلام عليك ورحمة الله وبركاته،،،(272/20)
طاعة الله عز وجل
سابعاً: إياك ومعصية الله عز وجل، فإن العبد إذا عصى الله استوحش قلبه من ربه جل وعز، لا تسمع الغناء، فإنه ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل، ولا تنظر إلى الحرام، ولا تشرب المسكر، فإن العبد إذا شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً.(272/21)
تربية الأولاد
ثالثاً: تربية الأولاد، فإذا كان والداك أصلاً لك، فأولادك فرع عنك، وبعد موتك هم باقون، فتذكر بهم إن خيراً وإن شراً: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} .
فرب أولادك تربية حسنة، على العمل الصالح والخلق الفاضل وتجنب الحرام ومخافة الله عز وجل، وعلى محبة الخير وأهله، وإياك أن تترك أمر التربية إلى خادمة، أو أجهزة الإعلام، أو المدرسة، فإن كل هذا لا ينفع ولا يكفي، بل ربما يضر في بعض الأحيان.(272/22)
حسن الخلق
رابعاً: حسن الخلق، إنك أحوج ما تكون إلى أن تتحلى بمكارم الأخلاق، مع رؤسائك، ومع زملائك ومع مرءوسيك، ومع سائر الناس، فالكلمة الطيبة، والبسمة الصادقة، والإحسان إلى الناس؛ هي من الأشياء التي تزيل ما بينك وبينهم، وتجعل المودة قائمة، وربما تظفر بدعوة صادقة، أحسنت، جزاك الله خيراً، أحسن الله إليك، فهذه الدعوة قد يكون فيها سعادة الأبد بالنسبة لك.(272/23)
طيب المطعم
خامساً: طيب المطعم، إن الجسد الذي نبت على سحت مآله النار، فلا تطعم نفسك ولا زوجتك ولا أولادك مالاً كسبته من حرام، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين} ثم ذكر الآيات السابقة، فعليك أن تتحرى الحلال في مأكلك ومشربك وملبسك، وزواجك وسكنك وغير ذلك، كيف يقر لك قرار و (قصرك) التي عمرتها من حرام؟! وسيارتك من حرام؟! وحذاؤك من حرام؟! وملبسك من حرام؟! ومطعمك من حرام؟! ومشربك من حرام؟! فكيف يقر لك قرار؟!! وكيف تستغرب أن يسلط الله عليك رئيسك وجارك والأمراض وغير ذلك، وأن تتبدَّد أمورك ما دامت هذه حالك، إنني أعيذك بالله تعالى من هذا كله، وأسأل الله تعالى أن يوفقك للمال الحلال.(272/24)
صدق الحديث
سادساً: صدق الحديث، فالصدق منجاة، والكذب شؤم، ولعنة الله تعالى على الكاذبين، فلا تحملنك ظروفك أو أحوالك أو مشاكلك أو مشاغلك، على أن تقول كذباً يؤاخذ به غيرك، أو تؤاخذ به أنت، فإن العبد مسئول عما قال، فلا تقل إلا حقاً ولو قطعت أو حرقت.(272/25)
بر الوالدين
ثانياً: بر الوالدين، إن لوالديك عليك حقاً عظيماً، وقد أمرك الله تعالى بالوالدين إحساناً، كما قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وقرن حقه جل وعز مع حقهما، فعليك أن تحرص على بر والديك، والإحسان إليهما ما استطعت، ربما دعتك ظروفك إلى البعد عنهما، وربما قصرت في زيارتهما، وربما بَعُدَ عهدهما بك، فعليك أن تكثر من الاتصال الهاتفي بهما، وعليك أن تطمئن على أحوالهما، وعليك أن ترفق بهما، وتقدم لهما الهدية، وتطعمهما، وتكسوهما وترضيهما، وتحرص على كسب رضاهما ما استطعت، فإن رضي عنك الوالدان فأنت على خير كثير إن شاء الله تعالى، فإن الجنة تحت أقدام الأمهات.(272/26)
الصلاة
أولاً: الصلاة، فـ {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] {والعهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} فإياك أن تترك الصلاة مهما تكن ظروفك، صلِّ مع المسلمين، فإن لم تستطع فصل في إدارتك، فإن عجزت فلو أن تصلي على أي حال تقدر أن تصلي عليها، المهم ألا تفوت الصلاة عن وقتها، وواجب عليك أن تصلي مع الجماعة متى كنت مستطيعاً لذلك.
ثم إن من واجبك أيضاً أن تأمر من تحت يدك بالصلاة، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] أفلم تسمع أن بعض زملائك يعدون التردد على المسجد علامة على التطرف، أو أن فلاناً الحريص على الصلاة قد يلقب بأنه (مطوع) أو ما أشبه ذلك، من العبارات التي يريدون منها السخرية به، أو تنقصه، إن ذلك لا يجوز في حال، وهو من الاستهزاء الذي أسلفت الحديث عنه.(272/27)
الأسئلة
هذه بعض الأسئلة منها:(272/28)
حقيقة حرب المتطرفين
السؤال
ما رأيكم في تبادل بعض من له رتبة عالية في منصبه من رجال الأمن في بعض البلدان العربية وذلك لقمع الصحوة وإخماد المتطرفين؟
الجواب
نعم، في جميع الدول العربية والإسلامية؛ تنسيق أمني لمواجهة التطرف، وعليك أن تهدأ كثيراً، فإنهم لا يحاربون المتطرفين أو فلاناً أو علاناً، وإنما يحاربون الله عز وجل: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدا * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] ومن حارب الله فليبشر بالهزيمة العاجلة.(272/29)
عودة الشيخين سفر وسلمان للوعظ
السؤال
هل صدر قرار يسمح لك وللشيخ سفر بالمحاضرات؟
الجواب
نعم، هذا أيضاً ذكرني بهذا الأمر، فقد أصدر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز تعميماً على مكتب الدعوة في الداخل، ومكاتب الدعوة الفرعية، بالسماح لي ولفضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي، بإلقاء الدروس والمحاضرات في أي مكان من هذه البلاد والحمد لله تعالى على ذلك كثيراً.
أسأل الله أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا إلى سواء السبيل، ويجمعنا في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة على جنته، إنه على كل شيء قدير، وأسأله عز وجل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن تنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر الإسلام يا حي يا قيوم، اللهم انصر الإسلام والسنة يا رب العالمين، اللهم أقر عيوننا بنصر الدين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، اللهم من أراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، يا قوي يا عزيز، اللهم إن المسلمين ضعفاء فقوهم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(272/30)
اعتقال المسعري
السؤال
هل صحيح ما سمعناه أمس في إذاعة لندن، من اعتقال الدكتور المسعري، وما هو الجديد في ذلك؟
الجواب
نعم.
هو صحيح، والخبر الذي أذاعته الإذاعة البارحة خبر دقيق، وليس في الأمر من جديد في هذا اليوم، ونسأل الله تعالى أن يفرج عن كل المظلومين والمأسورين والمقهورين والمسجونين، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وأن يوحد أمر هذه الأمة، وأن يقطع دابر الفتنة، وكل من يريد الفتنة بالإسلام والمسلمين.(272/31)
لحوم العلماء مسمومة
السؤال
هذا السؤال تردد كثيراً يقول: إن هناك عدداً من الشباب ينالون من أعراض بعض المشايخ والعلماء، بل ربما وصل الحال والعياذ بالله ببعضهم إلى التكفير، بسبب ما صدر من فتاوى وبالذات البيان الأخير لهيئة كبار العلماء، فلا بد من بيان؟
الجواب
مثل هذا الموضوع في الحقيقة موضوع طويل، ويحتاج إلى حديث خاص، لكن هذه بعض النقاط: أولاً: يجب على المؤمن أن يحسن الظن بالعلماء الذين عرفت الأمة بلاءهم، مثل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، ومن في عيارهم، ممن عرفوا بالدعوة والعلم والفتيا، ويعرفهم الناس في مجالسهم وفي بيوتهم ودروسهم، وفي علمهم، يجب أن يحسن المسلم الظن بهؤلاء وألا يسمح لنفسه ولا لغيره أن يسيء الظن بأحد منهم أبداً.
فإن للعالم حقاً وكرامة ومكانة يجب أن تحفظ وأن تصان بكل حال، هذه واحدة.
وأقول: إن الأمر خطير أن يصل إلى مثل هذا المستوى، فنحن نريد أن يظل هؤلاء خاصة العلماء المعروفين الذين لهم جهود ولهم نشاط، نريد أن تظل لهم مكانة عالية، وأن يكونوا جزءاً من مرجعية الناس، في دينهم، وفي فتواهم، وفي شئونهم الشرعية، وفي إزالة المنكرات التي يضيق الناس بها ذرعاً.
أما أن يؤول الأمر إلى الوقوع في أعراضهم، أو سبهم، أو شتمهم، فضلاً عن التكفير، فإن هذا شر مستطير، وينذر بخطر كبير، وإني أحذر الشباب جميعاً من مثل ذلك فليتقوا الله عز وجل، وليحفظوا أعراض هذه الأمة عن مثل ذلك.
ثانياً: ما يتعلق بالجهات الرسمية، أو الهيئات أو غيرها، فإننا ينبغي أن نعلم أن ما تصدره لا يعدو أن يكون اجتهاداً، والاجتهاد قابل للخطأ والصواب، فهم بشر، وإن اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإن اجتهدوا فأخطئوا فلهم أجر واحد.
أما تزكية الاجتهاد وعدّه صواباً وحقاً؛ فهذا لا يكون بحال من الأحوال، بل الخطأ وارد ومحتمل من الجميع، فليس المطلوب ألا يخطئ الإنسان، وإنما المطلوب أن يجتهد الإنسان وسعه، ولا يألو، وأن يخلص للوصول إلى الحق، فحينئذ أصاب أم أخطأ فهو في كل حال قد وافق ما هو مأمور به من الاجتهاد، وإن أخطأ في اجتهاد خاص.
ثالثاً: يتحدث بعضهم ويقولون لا نعلم من تاريخ هيئة كبار العلماء إلا ثلاثة أمور؛ أولها: إدانة للوثيقة الشهيرة، وثانيها: استنكار للنصيحة، وثالثها: رفض اللجنة.
وأقول: هذه الأشياء الثلاثة صدرت من الإخوة الشيوخ في هيئة كبار العلماء، ولا شك، وهي صدرت في ظروف خاصة، ووفق معطيات معينة، فلماذا لا ندع هذا الأمر جانباً، ونعد أن اجتهاد هيئة كبار العلماء اجتهاد، وأن اجتهاد غيرهم اجتهاد، فالوثيقة السابقة وقعها أكثر من أربعمائة، والنصيحة وقعها نحو هذا العدد، واللجنة وقعها ستة من العلماء، أو كثير منهم من العلماء الشرعيين، وبعضهم من أساتذة الجامعات، وأيدها جمع كبير أيضاً من طلبة العلم في الداخل والخارج أيضاً.
فهذا اجتهاد ويقابله الاجتهاد الآخر، ولا داعي لأن نضرب هذا بذاك، أو أن نجعل هؤلاء خصوماً لأولئك، بل هم جميعاً إخوة، ونرجو أن يكون الجميع مجتهدين وإن كنا لا نضمن تزكية النيات دائماً وأبداً، فإن الله عز وجل يقول عن أفضل البشر بعد الأنبياء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] .
لكن لا داعي لأن ندخل في النيات، أو نفسر مثل هذه المواقف، أو نقول: إنها نتيجة ضغوط، نترك هذه الأمور ولا داعي للحديث عنها، ونعد أن ذلك اجتهاد وذاك اجتهاد، الأمر الذي ساءنا جميعاً هو أن تستغل تلك الفتوى أو ذلك البيان في مثل هذه الإجراءات الإدارية التي نزلت على مثل هؤلاء الدعاة.
وكما أسلفت، فالوظيفة لا تنفعهم، وفقدها لا يضرهم، وهي بالنسبة لهم لا تقدم ولا تؤخر، فكثير منهم أساتذة، بل في رتبة بروفيسور، وهو يستطيع أن يجد عملاً في أي جامعة في العالم، ويجد عملاً في هذا المكان، وربما كان خلاصه من هذه الوظيفة خيراً من كثير من الوجوه، لكن مجرد الاعتبار أن الفصل نوع من التأديب والزجر وإعلان ذلك في وسائل الإعلان، هذا له سلبيات كثيرة.
ثم أمر آخر ساءنا جميعاً ولا شك، الإمام سماحة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، وأنا أدعو الإخوة إلى أن لا يسموه بعد اليوم إلا بهذا الاسم.
فلنعلم أن الولاية الشرعية ليست كالولاية الدنيوية، يطرأ عليها العزل والفصل والإبعاد والطرد، الولاية الشرعية غير قابلة للعزل، فهي ولاية استمدها من الكتاب والسنة، وهي في أعماق قلوب المؤمنين جميعاً، تهش إليه بالحب والفرح والرضا والدعاء له، فسماحة الإمام عبد الله بن جبرين، أمس كانت وسائل الإعلام تسميه فضيلة الشيخ الدكتور وتنقل فتاواه وبكثير من الحفاوة، فما باله اليوم صار لا فضيلة ولا شيخ ولا دكتور ولا حتى أخ، إنما صار عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين.
نعوذ بالله من تجاهل الحقائق، فهؤلاء الدكاترة أخذوا شهادات عليا، دكتور أو أستاذ، أو بروفيسور، أخذها بكد يمينه وعقله وعرقه، لماذا لا نسميه بهذا الاسم ولو فصلناه؟! هذا حق، ينبغي أن يكون غضبي ورضاي ألتزم فيهما بالقسط والعدل والبعد عن الظلم أو الجور أو الحيد.
ونعوذ بالله أن نكون مثل أولئك القوم الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، قال: أرأيتم إن أسلم؟! فقالوا: نعيذه بالله من ذلك!! فخرج عبد الله بن سلام يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا} .
فلم يكن بين تزكيته وذمه إلا بضع دقائق، نعم، هذا من سيما أهل الكتاب الذين غيروا وبدلوا، أن يصبح مدحهم وقدحهم مرتبطاً بآرائهم الشخصية، ومواقفهم الذاتية، أما نحن أهل الإسلام وأهل الإيمان فحق علينا ألا نتأثر بذلك، وأن نثني على الإنسان ولو خالفناه الرأي، وأن نعطيه حقه، ولو اختلفنا معه، فإن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، كما يقال.(272/32)
حكم قتل العصاة
السؤال يقول: تكلمت عن رجل الأمن، وأنه يحرم عليه قتل أخيه المسلم، فهل تؤيدون ما يفعله بعض المسلمين من تلغيم المطاعم وتفجير الفنادق بحجة القضاء على جندي مثلاً أو غير ذلك؟
الجواب
كلا، ولكنني أتساءل أولاً، لا بد أن أعرف يقيناً من هو الذي فجر المطعم، ومن هو الذي لغم الجسر، ومن هو الذي نسف العمارة، لأنني لا يمكن أن أسمع من طرف، ولا أسمع من الطرف الآخر، هذا من جانب.
ثم إذا أردت مني فتوى فلا بد أن تكون فتوى متكاملة، ولا بد أن يكون السؤال عن أشياء كثيرة؛ ما هي الظروف التي عاشها هؤلاء الأفراد، وما هي الأوضاع التي يعانونها، وما هي الأحوال التي قاسوها، ثم لابد من معرفة أحوال المجتمعات هناك، والظروف التي تمر بها، والشريعة التي تحكمها، ولا بد من معرفة ضوابط السياحة في بلادهم، وهل يسمح للسيَّاح مثلاً بشرب الخمر.
إن الذي نعلمه أنه يسمح لهم، بل ويسمح لهم بارتكاب المعاصي والموبقات، بل ويسمح لهم بما هو أشد من ذلك، ومفتي تلك البلاد صرح بأن كثيراً من السياح نقلوا أمراض الإيدز إلى بلادهم.
إذاً علينا أن ندرك أن القضية ليست قضية فتوى، فالأمر الآن خرج عن طور أنه يحتاج إلى فتوى، والفتاوى التي تعلن رسمياً هي فتاوى توافق أهواء السلاطين، ويملونها على مفتين قد عينوهم ونصبوهم، في تكفير هؤلاء، أو تجريم هؤلاء، أو عدّهم متطرفين، أو إباحة السياحة أو ما أشبه ذلك، هي أمور لا أحد يحترمها.
وكيف يحترمها وهو يعلم أن الذين أصدروها أصدروا بالأمس فتوى بإباحة ما حرم الله عز وجل من الربا، الذي صحت النصوص بمنعه، وجاء في تحريمه أكثر من (17) حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمنع بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلا وفق شروط، يداً بيد، مثلاً بمثل، سواء بسواء ومع ذلك تجرأ هؤلاء وأحلوا ما حرم الله عز وجل على رءوس الأشهاد، وفعلوا أمثال ذلك كثيراً! فهذه الفتاوى لا نريد أن تكون فتاوى مجيرة، فتوى تصدر لصالح السلطان، وأخرى تصدر لصالح هذه الفئة أو تلك!! نريد أن يكون المفتي حراً طليقاً، بعيداً عن الضغوط، وبعيداً عن الإلزامات وبعيداً عن التقارير التي توجه إليه من الجهات العليا، وبعيداً عن الإلحاح عليه أو وضعه في جو معين، يضطر إلى أن يقول أو يكتب أو يوقع أو يصدر أو يبين، فإذا خرج المفتي من هذه الضغوط، وكان عالماً شرعياً فحينئذ تكون فتواه مقبولة.(272/33)
لجنة الحقوق الشرعية ودور الشباب
السؤال
عن لجنة الحقوق الشرعية وما يتعلق بها وما حدث لها؟
الجواب
هذا موضوع يؤسفني أنه كثر الكلام عنه جداً، وذلك لأن الكثيرين يتتبعون وسائل الإعلام العالمية، كإذاعة لندن ومونتكارلو وصوت أمريكا وغيرها، ويسمعون ما تذيعه وما تتحدث عنه في مثل هذه القضية، نعم العالم اهتم كثيراً، وذلك لأنها تتعلق بالحقوق الشرعية، ومسألة حقوق الإنسان مسألة حساسة على المستوى الدولي، حيث يوجد عدد كبير جداً من اللجان والجمعيات والمؤسسات المعنية بالأمر، فهذا هو سر الاهتمام المتزايد بهذه القضية على المستوى العالمي والدولي.
أما الذين قاموا بهذه اللجنة فهم نخبة من خيرة أبناء هذه البلاد، بل من علمائها ودعاتها، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين وهو إمام جليل القدر، عظيم الشأن، وأقول ولا أتردد أنني أعتقد أن هذا الرجل ولي من أولياء الله عز وجل، وعلم الله أنني لا أقول إلا ما أعتقده.
بل ومنذ زمن ليس باليسير كلما رأيت هذا الرجل شعرت بالإكبار والإجلال، فهذا الرجل بسعة علمه وكبر سنه هو حركة لا تتوقف، فله عشرات الدروس، والمحاضرات، لا يكل ولا يمل.
ومع ذلك هو منذ زمن، منذ أن كان عنده ثلاثة أو أربعة طلاب وهو ثانٍ رجليه في دروس التعليم، واليوم تحضر عنده الجموع الغفيرة، فالرجل هو هو، ثم هذا الرجل تجده يوماً في الرياض، ويوماً في الشرقية، ويوماً في القصيم، ويوماً في الحجاز، ويوماً في الجنوب، يبذل قصارى جهده في الدعوة والتعليم، ولا يأتي أحد صغر أم كبر، قل أم كثر، يأخذ بيده إلى عمل الخير، إلا أسرع إليه ولبى، فهو أعجوبة وآية في هذا الشأن قل نظيره فيه.
ثم مع ذلك كله ومع طول عمره في الإسلام والبلاء والجهاد والعلم هو رجل في غاية التواضع والزهد، لا يرى نفسه شيئاً، ليس لنفسه من نفسه حظ، وهو شديد التواضع، يكون في المجلس كلهم من أبنائه، وأصغر سناً منه، وأقل علماً منه، فيتحدثون ويستفيضون والرجل صامت لا يتكلم، بل يستمع، فهو حسن الاستماع، يستفيد مما يسمع ويأخذه، ويستفيد من الصغير قبل الكبير.
حتى إن الكثيرين يجلسون معه فلا يعرفونه إلا إذا عرفوا به، أو حدثوا عنه، فهو عجب من العجب، وله في ذلك قصص لو ذكرتها لطال بها المقام والمجال، إنني أقول بملء فمي إن الوظيفة التي يشغلها إمام كالإمام عبد الله بن جبرين، إن الوظيفة تشرف به، وليس العكس، فالوظيفة لا تضيف بالنسبة إليه شيئاً، بل هي أصغر منه، وأقل شأناً.
لذلك لا أخفيكم أنني لم أكره القرار الذي سمعتم، لقد شعرت أن الوظائف تحجم أمثال هؤلاء الرجال الكبار، وأن مثل هذا الرجل ينبغي أن يظل طليقاً بعيداً عن روتين الوظيفة، وزحمة الأعمال اليومية ليتفرغ للدعوة إلى الله، ونشر الخير، ونشر العلم، والتدريس والتعليم والتأليف والكتابة، فهو رجل ليس لبلد، ولا لمدينة، ولا لدولة بل ولا لعصر.
ينبغي أن يكون هذا للمسلمين في كل مكان، وينبغي أن يكون لهذا الجيل، وللأجيال القادمة أيضاً، لهذا فإن مثل هذا الرجل هو أكبر من العمل، وأكبر من الوظيفة، وأكبر من الرتبة، وهي لا تضيف بوجودها إليه شيئاً، وفقدها لا يضره شيئاً.
وهكذا بقية الإخوة المشايخ كأمثال الشيخ عبد الله المسعري رئيس ديوان المظالم سابقاً، والدكتور الشيخ عبد الله بن حمود التويجري، فهم من طلبة العلم المعروفين، ومن الدعاة، ومن المشايخ الكبار، وكذلك الدكتور حمد الصليفيح، والدكتور عبد الله الحامد، والشيخ سليمان الرشودي فهم جميعاً ممن لهم سمعة حسنة، وسابقة طيبة، وكان إعلانهم لهذه اللجنة للدفاع عن حقوق اللجنة الشرعية في نظري أمراً طيباً حسناً.
وذلك لأن هذا الإعلان لا يعدو أن يكون نوعاً من المحاماة عن المظلومين بالمجان، فمكاتب المحاماة قائمة معمول بها في هذه البلاد، كما هو معروف، فهم لم يضيفوا شيئاً جديداً، سوى أنهم تطوعوا للمحاماة عن الفقراء والمساكين والعمال والمظلومين بالمجان، متى عرفوا أن هذا الإنسان مظلوم فعلاً.
وكان مثل هذا العمل مما ينبغي أن يُفرح به؛ لأنه مما قاموا به هم بالنيابة عن الأمة كلها، فكان ينبغي أن يُفرح به، ويُؤيد ويُساعد ويسدد وينظم أيضاً إذا كان ذلك يحتاج إلى تنظيم، ويطور ويوجد له فروع في جميع المناطق وفي جميع البلاد.
هذه وجهة نظري، ويشاطرني فيها مجموعة كبيرة من طلبة العلم في هذه البلاد طولها وعرضها، بل وفي بلاد الإسلام كلها.
ولا شك أن الذي حصل لم يكن بودنا أن يقع، ولكن قدر الله وما شاء فعل، والمؤمن لا يكره أبداً: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] والعبد لا يدري، فعسى أن يكون الخير فيما يكره: وربما صحت الأجسام بالعلل نعم، نحن بحاجة إلى مجموعات من المشايخ وطلبة العلم، يتفرغون للدعوة إلى الله تعالى، ويتحررون من رق العمل اليومي الذي يأسرهم ويأخذ أوقاتهم ويستنزف جهودهم وطاقاتهم، فإن الإنسان إذا قضى في العمل أكثر من ثماني ساعات، يأوي منهكاً متعباً فمتى يتفرغ للدعوة إلى الله عز وجل، ومتى يقوم بالتأليف، ومتى يجاهد، ومتى يسافر، ومتى يكتب، ومتى ومتى فلماذا لا نعد أن هذه إيجابية ساقها الله إلينا على رغم أنوفنا وإرادتنا، وقد ذكرت قبلاً في محاضرة (دلوني على سوق المدينة) ما يعد إرهاصاً وتقدمة لمثل هذا.
أما الفقرة الثانية: دور الشباب الملتزم في مثل هذا؟ فالجواب: أرى أن الدور يمكن أن يكون من خلال خطابات التأييد التي تتداول الآن وتنشر وقد سمعت أن الكثيرين يوقعونها وترسل إلى اللجنة تأييداً، فمثل هذا العمل في نظري كافٍ في مثل هذه المرحلة.(272/34)
نتائج رحلة الرياض
السؤال
يسأل عن أخبار الرحلة الأخيرة لبعض المشايخ إلى الرياض؟
الجواب
أقول إنه كان هناك وفد مكون من سبع عشرة شخصية من الشخصيات العلمية والاجتماعية في هذه البلاد، تمثل جميع مدن منطقة القصيم، وقد قام هذا الوفد بزيارة إلى الرياض يوم الإثنين السابق إلى يوم الجمعة للقاء بالمسئولين ومحادثتهم.
وقد تم لقاء هذا الوفد مع ولي العهد ووزير الداخلية، وأمير الرياض، ومجموعة من المشايخ والعلماء وأساتذة الجامعات، والقضاة والشخصيات المهمة هناك، والحمد لله رجع الوفد بنفسية طيبة، وشعر أنه قام بدور كبير، وأدى مسئولية عظيمة كان يجب أن يؤديها من قبل، وأسأل الله تعالى أن يكون هناك نتائج كثيرة ملموسة، أتمنى أن يحدث ذلك.
أما ما سمعتموه من بعض الإذاعات، أو نشر في بعض الصحف الغربية؛ من خبر هذا الوفد، فإن عادة الصحف الغربية والإذاعات أنها لا بد أن تطعم أخبارها بشيء من الإثارة، أو التهويل، مثلما ذكروا فيما يتعلق بالوفد مثلاً؛ أنهم لم يقابلوا خادم الحرمين الشريفين، وبذلك اعتصموا في أحد الفنادق، فمثل هذا الكلام واضح أنه كلام مدسوس، يعني له ما وراءه.
والواقع أن الوفد فعلاً كان يسكن في أحد الفنادق، ولكن هذا الأمر كان طبيعياً، وكانوا يذهبون إلى أعمالهم وارتباطاتهم، ومواعيدهم، ثم يعودون إليه، أما فيما يتعلق باللقاء بخادم الحرمين، فقد كتبنا أننا سنعود إن شاء الله تعالى مرة أخرى لمقابلته، وأسأل الله تعالى أن ييسر ذلك وأن يجعل من وراء ذلك خيراً للبلاد والعباد.(272/35)
إجابات سريعة
إن المسلم محكوم في جميع تصرفاته أقوالاً وأفعالاً بهذا الدين، فلا يجوز له التصرف خلافاً لما يقتضيه، ومن جهة أخرى فإن المرء كثيراً ما يشغل عن التعلم، أو قد تطرء عليه مسائل ومشاكل لا يدرك حكم الإسلام فيها، والله تعالى أمرنا أن نسأل أهل الذكر.
وفي هذه المحاضرة إجابات للشيخ سلمان على كثير من التساؤلات المتعلقة بالفرد والمجتمع والأمة.(273/1)
افتتاحية عن كيفية حل المشاكل
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا أرحم الراحمين.
هناك في الواقع بعض الأسئلة قد تكون أسئلة شخصية؛ تعرض لمشكلة، وهذه المشكلة قد تكون عويصة وصعبة ودامية، ولكن ليس من المناسب أن تقرأ على رءوس الأشهاد بتفاصيلها، ومشاكلها، ودقائقها، فمن الممكن لأصحابها مثلاً: أن يتصلوا بي مباشرة، أو مهاتفة، أو بغيري من الإخوان، وطلبة العلم هنا، أو بقية المشايخ في المناطق الأخرى.
وأقول: أيها الإخوة ليس ثمة مانعاً أن صاحب المشكلة يأتي بنفسه ولو كانت مشكلة صعبة؛ لأن نجاة الإنسان في دينه تتطلب بعض الجهد وبعض التضحية.
فبعض الناس يقول: لا أستطيع أن أواجه الآخرين بمشكلتي وأحادثهم بها وجهاً لوجه.
أقول: نعم صحيح أنت لن تتكلم علانية، لكن لن تحصل على الدواء الناجع بمجرد سؤال يقرأ على الملأ، ثم يجاب عليه بجواب مقتضب وتعتقد أنك تحصل فيه النجاة.
فطالب النجاة لا بد أن يبذل مزيداً من الجهد، ويتحمل بعض العناء والمشقة، ويصارح بمشكلته من يعتقد أنه قد يملك له بعض النصائح.(273/2)
التعرض للفتن في محلات الذهب
السؤال
أنا شاب لم أتزوج بعد، ولوالدي محل لبيع المجوهرات، ويجبرني على أن أجلس فيه وأبيع، وهيئتي قد تغري بعض النساء ضعيفات الدين والخلق؛ فمنهن من تكتب رقم الهاتف إلى غير ذلك من كشف بعض الوجه، ولما كلمت والدي بهذا الشأن استهزأ بي، وعرضت عليه أن أترك المحل؛ ولكن غضب جداً وقاطعني؛ حتى رضخت للأمر وعدت إلى المحل من جديد ومع رجوعي تفاقم الأمر.
وسؤالي: هل إذا لم أذهب إلى المحل أكون عاقاً لوالدي؟ وهل يجوز لي أن أطيعه في هذا الأمر، مع أن فيه معصية، وآمل أن ترشدني إلى الحل الأمثل؟ ثم أرجو إسداء نصيحة إلى والدي؛ لأنني سوف أقدم له هذا الشريط -إن شاء الله تعالى- لعل الله أن يهديه؟
الجواب
أما ذهابك إلى هذا المحل؛ فإن كنت تستطيع أن تناصح من ترى من النساء أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وإذا حصل من بعض النساء وبادر منها وفرط منها ما يدل على ريبة، وبختها على ذلك ونهرتها وزجرتها، ففي هذه الحالة يجوز لك أن تبقى في طاعة والدك.
أما إن كنت تعلم من نفسك الضعف، وأن هذا الأمر قد يجرك إلى الوقوع في الحرام من محادثة النساء والضحك معهن، بل قد يتمادى الأمر إلى الوقوع في الفواحش، وهذا هو الغالب على كثير من الناس وخاصة من الشباب الذين لم يتزوجوا بعد، -فإنه إذا لم يحصن فرجه يخشى عليه من مغبة هذه الأمور-، فإن كنت تخشى أن الأمر يؤدي بك إلى مثل هذا فعليك أن تترك هذا المحل، وتقنع والدك بحقيقة ما أنت عليه، وما تواجه، وإن احتجت أن توسِّط أحداً لدى والدك ليقتنع بالأمر ولا يحرجك، أو يلح عليك فهذا حسن.
وعلى والدك أن يتقي الله تعالى في دينك؛ فإن الدين هو أهم ما يعتنى به، وهو رأس المال الباقي.
أما رأس مال الدنيا فهو ذاهب لا محالة، وليس صحيحاً أن يكسب والدك شيئاً من الكسب في مقابل أن تخسر أنت دينك وتخسر خلقك، أو يترتب على ذلك من المحاذير ما يخشى من مغبته، فعلى والدك أن يتقي الله تعالى ولا يلزمك بالبقاء في هذا المكان.(273/3)
الدعوة في المناطق الشمالية
السؤال يقول: إن الدين الإسلامي لا شك جاء لنصرة الضعيف؛ فأنا شاب من إحدى المناطق الشمالية في هذا البلد، ونحن هناك مقصرون في الدعوة، وهناك بعض القرى البعيدة عندهم الجهل العجيب، وفي هذه المدينة المباركة طلبة علم فيهم خيرٌ كثير، فحبذا لو نظمت زيارات متكررة مما ينشط الشباب في الدعوة، ومما يستوجب ذلك كثرة محلات الفيديو هناك والتسجيلات الغنائية بشكل عجيب، وهذا لا يخفى عليكم وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
ما ذكرته صحيح في مناطق الشمال، وفي مناطق أخرى كثيرة يوجد جهل كثير، حتى إنك قد تستغرب أنه قد يوجد في هذا البلد أحياناً من يقصر في كثير من الأمور، وربما يجهل الصلاة، بل منهم من يجهل أركان الإسلام وأركان الإيمان، ومنهم من لا يعرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بعض المناطق النائية وبعض الهجر البعيدة.
وعلى طلبة العلم واجب كبير، وعلى الجهات المختصة أيضاً واجب أكبر، فإن الله تعالى إنما أقام السلطان والحكم من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الدين، وسياسة الدنيا به.
فواجب على الجميع حكاماً ومحكومين أن يقوموا بواجبهم، وعلى طلبة العلم خاصة؛ لأنهم هم الأذن التي تسمع، فعليهم أن يقوموا بدورهم في هذا الباب، ولعله يكون إن شاء الله في الإجازة الصيفية تنظيم بعض الدروس والمحاضرات المتسلسلة في مناطق الشمال وما حولها بإذن الله تعالى.
كما إني آمل من الإخوة في الشمال أن يكثروا من الإلحاح على المشايخ وطلبة العلم، وبالذات على المشايخ الكبار كالشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- مثلاً، أن يبعث إليهم بعض الطلبة، وكذلك الشيخ محمد بن صالح العثيمين هنا أن يبعث إليهم بعض الطلبة، وبعض الإخوان ويكلم بعض الدعاة أن يذهبوا إلى هناك فإن كلمتهم لدى طلبة العلم مسموعة وطلبهم لا يرد.(273/4)
شفع الوتر
السؤال يقول: أرى بعض الإخوة يقوم بالإتيان بركعة بعد سلام الإمام من القنوت، فأيهما أفضل أ، آتي بركعة؟ أم أنصرف مع الإمام؟
الجواب
لا.
الأفضل أن تنصرف مع الإمام، وفي حديث أبي ذر {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة} .(273/5)
طريقة اكتساب لذة الإيمان
السؤال يقول: أنا شاب أبلغ من العمر (23) سنة، متمسك بالدين -ولله الحمد- وحالتي الأخلاقية مرضي عنها، ومحافظ على شعائر الدين الواجبة والمسنونة.
وسؤالي: أنني لا أتذوق للإيمان طعماً في قلبي، ولا أستشعر مذاقه في قرارة نفسي، وأرى الصلاة لا تبعدني عن بعض المعاصي: كالنظر إلى النساء سواء حول المسجد، أم في السوق.
وأرجو أن توضح لي كيفية الاهتداء إلى لذة الإيمان الحقيقية؟ كاللذة التي يشعر بها الرجل الفقير الذي قال: لو يعلم الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف؟
الجواب
أولاً: يجب عليك أن تسأل نفسك! هذا الرجل الذي قال هذه الكلمة قالها بعد كم، بعد يوم وليلة؟ لا.
قالها بعد عمر طويل من المجاهدة والصبر، وأنت ترى الآن الإنسان مثلاً: لا يحصل على متاع من متاع الدنيا إلا بجهد جهيد.
مثلاً: حتى تحصل على شهادة الجامعة، تحتاج إلى أن تدرس ست سنوات في الابتدائي، وثلاث في المتوسط، وثلاثاً في الثانوي، وأربع في الجامعة، أي ستة عشر عاماً حتى تحصل على ورقة ووثيقة تثبت أنك خريج جامعي، وتتوظف بمبلغ (ستة آلاف أو خمسة آلاف ريال.
فكيف تطمع في الحصول على لذة الإيمان التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، لمجرد أنك تصلي لله تعالى بعض الصلوات، أو تؤدي بعض النوافل وبعض المسنونات، هذا لا يكفي بل عليك أن تواصل الطريق وتستمر وتثق بالله عز وجل ولا تتلفت يمنة ولا يسرة كما قال الشاعر: فلا تلتفت هاهنا أو هناك ولا تتطلع لغير السماء ثم أحذرك كثيراً من أن تنظر إلى عملك.
وتقول: أنا مثلاً متمسك بالدين، وحالتي الأخلاقية مرضي عنها، ومحافظ تماماً على شعائر الدين الواجبة والمسنونة.
هذا ليس بصحيح، قد تكون تحافظ على بعض الشعائر الواجبة، أو على كل الشعائر الواجبة، وعلى بعض الشعائر المسنونة، أما تماماً على كل الشعائر الواجبة والمسنونة؛ فهذا مستبعد جداً ولكنك إن شاء الله على طريق الهداية وعلى باب خير، وعليك أن تصبر وتدمن طرق الباب حتى يفتح لك.(273/6)
حكم السائل الأبيض الذي يخرج من الفرج
السؤال يقول: بعض الفتيات يخرج منها سائل أبيض، أو يميل أحياناً إلى الصفرة، فلا نعلم أهذا طاهر، أم نجس، وبعض الناس يقولون، أو بعض النساء يقلن: إن كان له رائحة فهو غير طاهر؟
الجواب
هذا اختلفوا فيه، فبعض العلماء يذهب إلى طهارته، وبعضهم يذهب إلى نجاسته، والأقرب والله تعالى أعلم أنه نجس وينقض الوضوء، وإن كان يخرج من المرأة بشكل مستمر، فحكمها حكم من به سلس؛ فعليها أن تتوضأ لكل صلاة، وتصلي بذلك الوضوء ما شاء الله، فإذا دخل وقت الصلاة الأخرى توضأت أيضاً، وتتحفظ حتى لا يصل هذا إلى بدنها وثيابها.
هذا أخ يذكر أنه يحبني، وجزاه الله خيراً، وأرجو أن تكون محبة في الله تعالى، فإن الحب في الله تعالى هو جزء من الدين، وجزء من الرباط الذي يتحاب به المؤمنون ويتناصرون ويدعو بعضهم لبعض بظهر الغيب.
والله تعالى يحب العدل في الأمر كله، ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد، أحبب حبيبك هوناً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما.
فإن أبغضت فاعتدل في بغضك، فربما تكتشف يوماً من الأيام أنك قد أخطأت وأسأت الظن بأخيك، وكذلك إن أحببت فاعتدل في هذا.(273/7)
مسئولية الآباء
السؤال يقول: لقد تكلمت عن ظلم الأولاد.
فما رأيكم في الآباء الذين يتركون أولادهم في الشوارع يذهبون يميناً وشمالاً ولا يعلمون عنهم شيئاً؟
الجواب
هذا خطأ كبير، وهو من الظلم، وخاصة في هذا الشهر الكريم.
فالشاب الصغير قد يقع في شراك مجموعة من الذين يتعاطون الفواحش، وقد يقع في شَرك مجموعة ممن يتعاطون المخدرات، وقد يقتنصه قرناء السوء، بل قد يؤخذ ويختطف بالقوة كما يحصل أحياناً، وأقل ذلك أنه قد يتعرض لخطر السيارات الذاهبة والآيبة وغير هذا.
فعلى الآباء أن يقوموا بواجبهم في رعاية أولادهم والمحافظة عليهم وتتبع أخبارهم.(273/8)
زكاة الدَّين
السؤال يقول: فضيلة الشيخ ذكرت في فتاويك: أن الزكاة لا تجب في المال الذي دينته لآخر، وتدفع سنة واحدة إذا قبضته، هكذا فهمت من كلامك، والمعروف أن هذا القول خاص بالدَّين الذي ليس على مليء؟
الجواب
نعم.
هذا كلامي مقيد في الدين الذي على إنسان غير مليء ولا تتوقع أن يسدده لك، فهذا ليس عليه زكاة.
لكن ذهب بعض أهل العلم أنك إذا استلمته تزكيه سنه واحدة على سبيل الاحتياط.(273/9)
الإطالة في القنوت
السؤال يقول: أرى بعض الأئمة يطيلون في القنوت وهذه الإطالة تسبب الملل، فيحصل لهو القلب وسهوه، وهو من أسباب عدم إجابة الدعوة، فلو أسديت لهم النصيحة؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بالجوامع من الدعاء، مثل: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار.
فهذه الأدعية، دعوات جامعة لم تترك شيئاً من خيري الدنيا والآخرة إلا شملته، مثلاً ربي اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، الدعاء ما تركت عبداً صالحاً في السماء والأرض إلا دعوت له.
فالاقتصار على الجوامع من الدعاء مع الخشوع في الدعاء والسؤال بالاسم الأعظم وغير ذلك، هذه من أسباب قبول الدعوة.(273/10)
الحكمة في الدعوة
السؤال يقول: عند ملاقاة شاب حالق، ومسبل أو مدخن، أو من هواة سماع الأغاني، فما هي الحكمة في دعوة هذا الشاب إلى الله تعالى، وبأي هذه الخصال يبدأ الكلام معه؟
الجواب
وقع في يدي -بالمناسبة ورقة وزعت في المساجد عن الإسبال فتعجبت من تلك الورقة، مكتوب فيها قف! وهي ورقة طيبة، ولا شك أن الذي كتبها مأجور إن شاء الله تعالى ما دامت نيته صالحة، وهو محتسب.
نقدر جهود كثير من الشباب، وبعض الجهود التي تنطلق من أجل إصلاح الواقع ودعوة الناس إلى الخير والمشاركة؛ لأن بعض الناس يقول: لا بد أن نشارك في الخير؛ فيشارك بحسب وسعه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن هذا ما يمنع من التصحيح والتعديل والملاحظة.
ووجدت في هذه الورقة قف، ثم مكتوب: هل تعلم يا أخي أن الفاصل بين الجنة وبين {نَاراً تَلَظَّى لَا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] هو مسافة بضع سنتيمترات.
ثم ذكر حديث الإسبال، ثم قال: إن بعض أهل العلم ذهب إلى أن المسبل لا تقبل له صلاة.
أنا أعتقد أن هذه العبارات ليست لائقة في هذا الإطار وبهذا الشكل، لأسباب: أولاً: أن النار التي هي: {نَاراً تَلَظَّى لَا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] ؛ هذه والله تعالى أعلم هي نار الكفار التي هي نار الخلود، فالأشقى هو الكافر الذي بلغ في الشقاء مداه وهو الخالد المخلد في نار جهنم أبداً.
أما المسلم وإن عصى الله تعالى، فإنه قد يعذب في النار ثم يخرج منها.
فالتعبير بأن الإسبال وعدمه فاصل بين الجنة وبين {نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] هذا فيه تعميم وفيه شيء من وضع الآية في غير موضعها.
ثم الكلام عن قضية قبول الصلاة وعدم قبول الصلاة.
لماذا اخترت أشد الأمور؟ الناس الآن ليسوا في فترة إقبال على الخير ورغبة فيه؛ لأن الذي في إقبال رغبة بمجرد ما تعطيه أي وعيد ممكن أنه ينصاع وينزجر عنه، لكن الناس اليوم أصبحوا يسمعون كلاماً كثيراً، وقد يسمعون بعض المنسوبين إلى العلم يتسامحون في الإسبال ما دام من غير خيلاء.
مثلاً: ربما سمعوا هذا في بعض الإذاعات الأخرى، وربما قرءوا في بعض الكتب، وربما اطلعوا على بعض الفتاوى، فليس من المناسب أن تقدم لهم اجتهادك في هذه المسألة، واجتهاد بعض علمائنا هنا في هذا الإطار، وأن نفرق بين الجنة وبين نار تلظى، وأنه لا تقبل له صلاة؛ لأن الصحيح أن صلاة المسبل مقبولة -إن شاء الله تعالى- فالحديث الوارد فيها ضعيف، حديث {إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره} هو ضعيف؛ فيه أبو جعفر، كما قال المنذري، ورجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه.
فلا داعي لذكر هذه القضية التي لا تثبت.
ثم إنه كما قلتُ: النار التي تلظى هي للكافر، أما المؤمن فإنه قد يعذب لكن ليس بهذه النار التي {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16] فالسياق واضح أنه في شأن الكفار.
كان من الممكن أن تأتي في موضوع الإسبال بعبارة رقيقة لينة لطيفة يا أخي الكريم، وتذكر قصة عمر أنه قال لرجل: [[يا أخي ارفع إزارك، فإنه أتقى وأنقى وأبقى]] وتتحدث عن هذه القضية، وعن سمة المؤمنين، وعن التواضع، وعن عناية الإسلام بالمظهر، وأن هذا جزء من العناية بالمظهر، وغير ذلك من الأشياء التي يتقبلها عقل الإنسان، يتقبلها فهمه، وتدخل في قلبه بسهولة ويسر، ولكن تأتي الإنسان وهو قد يكون غافلاً ثم تضربه في وجهه بمثل هذه العبارات، فينتبه لذلك، ولا بد من التلطف في دعوة الآخرين، والتحبب إليهم بسلوك أنسب، وأقرب الطرق إلى نفوسهم.(273/11)
تكرار التوبة
السؤال يقول: هناك شاب ملتزم على الشرع -ولله الحمد والمنة- وعمل معصية ثم تاب ورجع، ثم عمل أخرى وتكرر ذلك فأقسم بالله أن لا يرجع لها، ولكن نفسه ضعيفة فخانته ورجع، فهل تلزمه الكفارة وإن تاب وأقلع بحمد الله، فهو الآن تاب منها نهائياً ولله الفضل والمنة في ذلك، ولكن قسمه الأول ما حكمه؟
الجواب
عليه أن يكفر عن قسمه ذاك.
وبالمناسبة أقول: إن العبد إذا تاب تاب الله عليه، ولو كان فعل ذنباً (100مرة) .
فبعض الناس يقول: تكرر مني الذنب، فلا أريد أن أتوب لأنني أخشى أنني أنقض هذه التوبة، لا يا أخي من تاب تاب الله عليه، والله تعالى لا يرجع في شيء أعطاه عبده، وقد أعطى عبده التائب إذا صدق وأناب إليه أن يغفر له.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فإذا تاب العبد من الذنب محا الله تعالى عنه إثم ذلك الذنب، فإذا رجع إليه عوقب بهذا الذنب الجديد، أما الذنب الأول فلا يكتب عليه مرة ثانية، وهكذا إذا استغفر العبد ربه وتاب من ذنبه ولو تكرر منه هذا؛ فإنه لا يضره ما مضى فعليه أن يكرر التوبة، ولعل الله تعالى أن يختم له بخير ويقبض روحه على خير.(273/12)
خروج المرأة إلى السوق
السؤال
إني امرأة أخرج إلى السوق برفقة والدتي، أو أختي، وأتكلم مع البائع بقدر الحاجة وأنا -ولله الحمد- متسترة ومحتشمة، هل يلزم خروج زوجي معي؟
الجواب
إذا كنت تخرجين للحاجة؛ لحاجة لك لا بد منها ويخرج معك أحد كما ذكرتي حتى، لو لم يخرج معك أحد، المهم أنك متسترة محتشمة بعيدة عن الزينة والطيب وعن فضول الكلام مع الباعة ومع غيرهم، فإن هذا لا يضر إن شاء الله تعالى.(273/13)
الخلوة في الأسواق
السؤال
هل يعتبر خروجي مع أمي وحديثي للبائع خلوة؟
الجواب
ليس بخلوة، فالدكاكين مفتوحة يدخلها الناس ويخرجون وأمك أيضاً موجودة.(273/14)
الوسوسة في البول
السؤال
إنسان يحس بخروج البول أثناء الصلاة، وبعد انتهاء الصلاة لا يرى رطوبة أو أثراً، مع أنه يتوضأ مع الأذان؟
الجواب
هذا والله أعلم مجرد وسوسة من الشيطان ما دام لا يجد له أثراً، وبعض الناس من شدة التفكير والتخوف يحس بشيء من البرودة، أو الرطوبة في ذكره، فيظن أنه خرج منه شيء.
أقول: ليس في الكتاب ولا في السنة ما يدعو إلى أن الإنسان يذهب ليتأكد هل أخرج منه شيء أم لم يخرج، فما دام لم يستيقن بشكل نهائي وقطعي أنه انتقض وضوؤه، فإن وضوءه باق بحاله، وعليه أن يستمر في صلاته ولا نطالبه ولا نحثه على أن يتأكد من خروج شيء منه، بل ننهاه عن أن يذهب لينظر هل خرج منه شيء أم لا، فإن هذا باب من أبواب الوسوسة؛ والوسوسة اليوم أبتلي بها كثير من الناس حتى قل من يسلم منها، فمستقل ومستكثر.
فعلى الإنسان أن لا يقطع صلاته، ولا يعيد وضوءه إلا إذا تيقن بخروج الحدث منه، وإذا تيقن بخروج الحدث فهو لا يحتاج إلى أن يذهب وينظر في فرجه أخرج منه شيء أم لا.
ولست مطالباً أن تذهب وتنظر يا أخي! دين الله تعالى يسر وسماحة، ولا داعي لأن تشدد على نفسك وتعقد الأمور بهذه الطريقة؛ التي لا تؤجر عليها في الآخرة وهي شقاء لك في الدنيا.(273/15)
طلب الدعاء بالشفاء للمريض
السؤال
إني شاب قد مر عليَّ سنة وأكثر، وهناك ألمٌ في رأسي يؤذيني دائماً.
فأرجو أن تدعو لي مع تأمين الجماعة؟
الجواب
نحن نسأل الله أن يشفيك مما تجد، ونسأله -جل وعلا- أن يمن عليك بالشفاء العاجل إنه على كل شيء قدير، ونعيذك بعزة الله تعالى وقدرته من شر ما تجد وتحاذر.
ولا بأس أن تذهب إلى أحد ليرقيك، ويقرأ عليك ما تيسر من الآيات والأدعية والأذكار النبوية وينفث عليك، فهذا من أسباب الشفاء بإذن الله تعالى.(273/16)
رخص السفر لمن لم ينوِ السفر
السؤال يقول: كثيراً ما نخرج للبر وليس في نيتنا أنه سفر، فنصل أحياناً إلى أماكن تبعد أكثر من 100كيلو متر فهل نترخص برخص السفر؟
الجواب
إذا كان الإنسان لم ينوِ نية السفر، كالذي يصيد مثلاً أو غيره، كل مسافة يقول أتعدى التي بعدها، أتعدى التي بعدها، دون أن يعقد نية السفر فهذا ليس في حكم المسافر.(273/17)
التسرع في التحليل والتحريم
السؤال يقول: كثر في الوقت الحاضر بين الناس إطلاق حكم التحريم والتحليل على كل مسألة يدور حولها النقاش، بدون تورع في إطلاق مثل هذه الأحكام.
ما حكم من يدع للسانه إطلاق مثل ذلك دون دعم ما يقول بدليل صريح صحيح؟
الجواب
والله هذه صراحة من الكوارث، ومن المصائب، فإِنَّ كثيراً من الناس من أهون الأمور عليه وأسهلها أن يقول: حرام، أو يقول: جائز، دون أن يملك في ذلك دليلاً، ونحن نعلم وجود أشياء، الأصل فيها الإباحة؛ كالأطعمة والأشربة والمأكولات -مثلاً- والعقود وغيرها، فالأصل فيها الجواز والإباحة، وإذا قال لنا إنسان هذا الطعام -مثلاً- حرام؟ عليه أن يأتي بالدليل.
وهناك أشياء الأصل فيها المنع، إلا أن يأتي إذن من الشرع، ومن قال بأنها جائزة أو مشروعة؛ فعليه أن يأتي بالدليل، وذلك مثل العبادات.
لو أن إنساناً قال: هناك عبادة معينة يشرع للإنسان أن يفعلها، أو جائز أن يفعل الإنسان كذا.
نقول له: عليك أن تأتي بالدليل، لأن الأصل أنه لا يعبد الله إلا بما شرع.
ومثل ذلك أيضاً مسألة الفروج الأصل فيها المنع وهكذا.
فالمهم أن الإنسان لا ينبغي أن يتسرع في إطلاق لفظ التحليل والتحريم إلا بأحد ثلاثة أمور: إما آية ظاهرة من كتاب الله تعالى، وإما حديث صحيح صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع قائم عن أهل العلم، أو أن يكون هذا الإنسان ينقل كلاماً عن غيره، فيقول: سمعت الشيخ فلاناً يقول عن هذا الأمر: إنه مُحَرَم، بعد أن يتيقن أنه فهم كلام الشيخ وفتواه على وجهها.
فكونك تنهى عن الشيء، أو كونك تقول: الأولى تركه، أو الأحوط تركه، أو لا أرى فعله، أو لعله كذا فهذا لا بأس به.
أما التسرع في قضية حرام، ولا يجوز.
وتقول: الناس لا يرتدعون إلا بهذا، لا يا أخي حرام، فقد قال تعالى في القرآن الكريم: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] ؛ فالذي يحلل ويحرم هو الله تعالى في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
حتى إن بعضهم يفهمون كلام أهل العلم خطأ، فقد يفتي العالم في مسألة بكلام لا يقول فيه لفظ حرام، وقد ينهى.
مثلاً: أحد العلماء أصدر فتوى عن قضية النقاب، وقال: إننا لا نرى أن تلبسه المرأة -مثلاً-؛ لما يقع من الفتن وما أشبه ذلك.
فقد يقرأ الشاب هذه الفتوى، ثم يفهم منها التحريم القطعي، وبالتالي يطلق لفظ التحريم في كل مناسبة أن لبس النقاب حرام ولا يجوز وأن التي تلبسه آثمة، معتمداً على فتوى قد لا يكون فيها هذه العبارات التي استخدمها هو، لكن يكون فيها التحذير لوجود مفاسد لاحظها المفتي في هذا الأمر في واقع معين، أو في ظرف معين.
فليتقِ الإنسان ربه، ولا يتسرع.(273/18)
تكليف الموظف غيره القيام بالعمل
السؤال
هناك ظاهرة منتشرة في كثير من المساجد؛ ألا وهي: أنه يكون للمسجد فرَّاش من السعودية، فيأتي هذا إلى أحد الأجانب ويضعه في مكانه ويعطيه في آخر الشهر أكثر المال بعد تعب شديد جداً، فما حكم ذلك؟
الجواب
المصيبة أنه لا يعطيه أكثر المال، بل يعطيه مبلغاً زهيداً (200) أو (300) ريال، ويأخذ هو في جيبه بقية الراتب، مع أنه ربما لم يصلِّ حتى في المسجد ذاك ولا صلاة واحدة، ويقول: إنه يصلي في مسجد آخر؛ لأنه مسافر، وهذا من أخذ المال بغير حق.(273/19)
أكل الثوم والبصل
السؤال يقول: بالنسبة لأكل الثوم والبصل.
هل أكله عند حضور الصلاة، أو قبلها بوقت طويل يدخل في وقت الإباحة، أم التحريم؛ لأن الناس بين مفرط ومشدد من حيث الحكم أحلال أم حراماً؟
الجواب
أكل الثوم والبصل جائز، والأصل في هذه الخضراوات والبقول الجواز، ومن قال بالتحريم فعليه الدليل.
الرسول عليه السلام ما نهى أصحابه، بل أُكِلَ في حضرته صلى الله عليه وسلم، وإن كان أكل بحضرته مطبوخاً ولم ينهَ أصحابه عن الأكل، ولكن قال: {من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فليعتزلنا، أو ليعتزل مصلانا} وكان يأمر بمن يوجد منه رائحة ثوم وبصل أن يخرج من المسجد إلى البقيع؛ لأنه يؤذي المصلين، ويؤذي الملائكة أيضاً؛ لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.
فأكل الثوم والبصل ليس بحرام، إلا في حالة واحدة؛ لو أن إنساناً تعمد أكل الثوم والبصل حتى يتحيل على ترك الجماعة إذا قرب وقت الصلاة وجد نفسه كسلاناً.
قال: أريد أن آكل ثوماً وبصلاً حتى أكون معذوراً في ترك الجماعة، هذه حيلة؛ والحيل مغلقة في الشرع، فيتحيل على ترك واجب، فهذا لا يجوز.
أما لو أكله لمجرد الأكل فهو ليس بآثم، لكن إذا رائحة الثوم والبصل موجودة في فمه؛ يعني: أكله نيئاً غير مطبوخ؛ فإنه يعتزل المصلى ولا يصلي مع الناس حتى تذهب رائحته، سواء أتذهب رائحته بالوقت، بأكل شيء آخر يزيل أم بسوى ذلك من أنواع المعالجات ولأسباب.(273/20)
مشروع مقترح
السؤال يقول: بين يديك كتيب وشريط، وهي كما ترى عن الشباب.
هذا الشريط نداء لقلوب الشباب، وكتاب شبابنا إلى أين، يقول: وقد قمنا بجمعها بهذا الشكل الأنيق، وقد قمنا بهذا الاقتراح وإن كان متأخراً.
فأقول: بما أنكم حثثتم الشباب الصالح على زيارة إخوانهم، وتقديم ما يناسبهم، فكما عرفت أن هذا الشريط قد لبى جل احتياجات الشباب من التوجيه التربوي المقنع، والأسلوب العاطفي من جهة أخرى.
فحبذا لو كررتم التأكيد على الشباب باستغلال بقية الشهر وزيارة إخوة لهم، -فما زال كثير من إخوانهم على جنبات الطرقات- وبصحبتهم هذا الكتاب وهذا الشريط.
وتسجيلات المجتمع لديها الاستعداد لتوفير الكمية المطلوبة من هذا الشكل، وبسعر مناسب هذا حسب ما سمعت من صاحب التسجيلات.
فأحببت أن توضح ذلك للشباب! حتى تتكاتف الجهود ويتنافس الشباب للقيام بهذا العمل الجليل؟
الجواب
هذا مشروع طيب.
وقد دعونا الإخوة البارحة إلى زيارة إخوانهم من الشباب، فالذهاب بهذا الكتيب وهذا الشريط المجموعات في هذه الورقة مشروع طيب واقتراح وجيه.(273/21)
تطاول المرأة على زوجها
السؤال يقول: امرأة أرادت الذهاب إلى مكة مع أحد أبنائها، فرفض الزوج لبعض العلل وهي تتهمه بأنه يريد منعها لحسد في نفسه، وهي تكيل له الكلام بين أبنائها.
فأرجو توجيهها لأنها الآن حاضرة؟
الجواب
نسأل الله العفو والعافية.
ما قيمة زوجها إن كان ليس من حقه أن يمنعها من السفر إلى أي مكان، وإذا كانت تريد الأجر بالنسبة لذهابها إلى مكة؛ فهي لا تؤجر أن تذهب بغير رضا زوجها، كما أنها آثمة كثيراً؛ لتناولها لزوجها؛ لأن هذا أولاًَ غيبة، وغيبة ليست في شخص بعيد! بل لزوجها الذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها} والحديث صحيح.
وليست غيبة لزوجها -أيضاً- عند الأجانب، بل غيبة عند أولاده، وهذه قد توجد حساسيات، وحزازة في قلوبهم، وبغضاء، إما لأبيهم وإما لأمهم، أو توجد في نفوسهم مشاكل بما يحسون بين الأبوين من عدم الوفاق والوئام.
وما دامت هذه المرأة الكريمة قد حضرت إلى بيت من بيوت الله فعليها أن تتقي الله تعالى، وتستغفر الله مما فرط منها، وتترك عنها مثل هذا الكلام، وتحرص على أن تكثر من الاستغفار لزوجها، ولا تناله بسوء وتقوم بحقه لعل الله أن يعفو عنها.(273/22)
قطع الحيض بالحبوب
السؤال يقول: قد أخبرتني أمي بأنها سوف تقوم بقطع العادة الشهرية بأخذ الحبوب.
ما حكم هذا؟ وما حكم صيامها؟
الجواب
إذا كانت الحبوب لا تضر بصحتها، وأرادت استخدامها بشكل مؤقت من أجل الصيام، أو من أجل العمرة، أو ما شابه ذلك، فالذي يظهر إن شاء الله أنه لا حرج في ذلك، وإن كان الأولى بالمرأة أن تترك عادتها بشأنها وتفطر أيام العادة ثم تقضيها فيما بعد، وهذا أمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {قد كتبه الله على بنات آدم} .(273/23)
فائدة في قوله تعالى: (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)
هذا يقول: أنقل إليكم هذه الفائدة من كتاب "في ظلال القرآن" في تفسير قوله تعالى {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:25] كذاب: أي لم يلق عليه الذكر.
أشر: شديد الطمع في اختصاص نفسه بالمكانة؛ وهو الاتهام الذي يوجه به كل داعية، الاتهام بأنه يتخذ الدعوة ستاراً لتحقيق مآرب ومصالح، وهي دعوة المطموسين الذين لا يدركون دوافع النفوس، ولا محركات القلوب.
تعليق: أهل الزيغ يسيرون على نهج واحد؟ نعم.
كما قال الله تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] هذه يأخذها اللاحق عن السابق، يتوارثونها كابراً عن كابر.(273/24)
مقولة: (الهدية لا تهدى ولا تباع)
السؤال يقول: وبعد هل هذا حديث (الهدية لا تهدى، أو لا تعطى ولا تباع) ؟
الجواب
أبداً.
الهدية من حق الإنسان إذا أهدى له هدية أن يهديها لا لمن شاء، أو يبيعها، أو يتصرف فيها، وهذا ليس بحديث، وليس معناه -أيضاً- بصحيح.(273/25)
بخاخ الأوكسجين للصائم
السؤال
يقول لي شيخ كبير أنه يصوم رمضان -ولله الحمد- إلا أنه يعاني من مرضٍ في صدره ويستخدم بخاخة أكسجين تساعد على التنفس، فهل يجوز استخدامه وهو صائم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إن كان هذا البخاخ لا يحتوي إلا على الهواء فقط، فالهواء من المعروف أنه لا يفطر.
أما إن كان في هذا البخاخ بودرة، أو أشياء من هذا القبيل، فهذا إذا اضطر إلى استخدامها فإنه يفطر بذلك وعليه أن يقضي.(273/26)
اقتراح بمواضيع محاضرات
السؤال
حبذا لو أخذتم درساً يتعلق بمكارم الأخلاق؛ كالكرم، والحلم، والصبر، والشهامة.
وأيضاً درساً عن هذه الآية {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} [آل عمران:17] وآية الأحزاب {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب:35] ؟
الجواب
هذا اقتراح جيد، لكني دائماً أتمنى من الإخوة الذين يقترحون دروساً معينة أن يعطوها بعض التفصيل.
مثلاً الأخ أعطانا في ورقة صغيرة سبعة موضوعات، أنا أذكر أحد الشباب كتب لي عن موضوع الكرم بالذات نحو خمس أوراق وتكلم فيها عن مشاهدات، وملاحظات، وبعض الأشياء، وبعض القصص، وبعض اللفتات المهمة التي يستفيد منها من يريد إلقاء الدرس وجزى الله الأخ المقترح خيراً.(273/27)
الوفاء بالنذور
السؤال
إني أقسم بالله أن أصوم كذا من الأيام إن قمت بمعصية من المعاصي، ثم أفعل هذه المعصية ثم أقسم على أن أصومُ هكذا.
أريد أن تبين لي هل أصوم هذه الأيام أم أقوم بالكفارة؟
الجواب
أما إن كنت نذرت؛ وهذا يقع فيه الكثير، خاصة أصحاب القاذورات الأخلاقية، فينذر لله نذراً إن فعل كذا أن يصوم.
فالذين يقعون -مثلاً- في الفواحش، أو في العادة السرية.
ينذر لله -بعدما يتوب- إن وقعت فيه مرة أخرى أن أصوم شهرين متتابعين -مثلاً- ولا يفكر في صعوبة ما التزم به، فإذا نذر فإنه يجب عليه الوفاء بالنذر، وليس له عذر أبداً إلا أن يكون مريضاً لا يستطيع الصيام، فإذا كان يعذر في ترك الصيام الفرض عذر في ترك صيام النذر؛ لأن النذر فرض واجب.
لكن يا أخي النذر لا يأتي بخير، لا تعود نفسك النذر أبداً، فاستغفر الله، وتب إليه، وأسأل الله تعالى أن يتوب عليك، ووبخ نفسك، وأقبل على الطاعة.
أما النذر فلا تحاول أن تستخدمه، ولا تكثر منه، ولا تظن أن هذا النذر هو الذي يمنعك من فعل المعصية.
أما إذا كانت المسألة مجرد قسم، فإن استطاع أن يصوم فعليه أن يصوم، وإلا فإنه يوفي، أي: عليه أن يبر بقسمه فيطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم كما هو المعروف في كفارة اليمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] .(273/28)
صرف الزكاة للجهاد
السؤال يقول: لقد نسي كثير من الناس الجهاد الأفغاني، فلا يتابعون أخبار المجاهدين، ولا يمدونهم بأموالهم، مع أن الجهاد يمر بأشد مرحلة من مراحله، إذ يواجه تكالب قوى الشر من الداخل والخارج، ومحاولة القضاء على الجهاد، وحل القضية الأفغانية حلاً سلمياً يكون فيها القضاء على الإسلام، كما أن المجاهدين يعدون العدة لفتح مدينتي جلال أباد وكابل.
فلو حدثتم الناس عن واقعهم وما يعيشون من مقاطعة اقتصادية من كل دول العالم، وحثثتم الناس على مساعدتهم ومد يد العون لهم.
كما نأمل بيان هل يجوز دفع الزكاة لهم، وإن كان سيتأخر وصولها عن وقت وجوب الزكاة؟
الجواب
نعم.
يجوز دفع الزكاة لهم ولو تأخر وصولها؛ فالمهم هو خروج الزكاة من ذمة من وجبت عليه.
ويمكن للإنسان أن يوصل هذا المال إلى من يثق به من الإخوان، وطلبة العلم الذين يذهبون إلى هناك بأنفسهم، أو يبعثون من يثقون به ويوصلونها إلى الجهات المسئولة المستحقة كالفقراء والأيتام والأرامل والمساكين وغيرهم، أو تصرف في مجالات الجهاد التي يطمئن إلى أنها مجالات نظيفة وسليمة، وهي بحمد الله لا تزال قائمة في أفغانستان وغيرها.(273/29)
الأكل في نهار رمضان لغير المتبين
السؤال يقول: استيقظت عائلة بأكملها عند الخامسة والنصف، أي: بعد الإمساك بأكثر من نصف ساعة، إلا أنهم كانوا يحسبون أن الساعة الرابعة والنصف، فأكلوا وشربوا وبعد إمساكهم تبين لهم أنهم على خطأ، أعليهم قضاء أم ماذا؟
الجواب
إذا كان حصل لهم لبس، -مثلاً- نظروا في الساعة، أو ما أشبه ذلك والتبس عليهم الأمر فظنوها الرابعة والنصف، أو كما هي العادة في استيقاظهم فأكلوا وشربوا فليس عليهم في ذلك شيء إن شاء الله، لأنه في حكم من أكل أو شرب يظنه ليلاً فبان نهاراً فليس عليهم القضاء.(273/30)
حجز المكان في المسجد
السؤال
ما رأيك فيمن يأمر أحداً بأن يضع مشدة في الصف الأمامي، أو قلماً، أو كتاباً بحيث يضمن حجز المكان فلا يستعجل بالحضور إلى المسجد، علماً بأنه يوجد في المسجد من أحق منه؟
الجواب
لا.
ليس في المساجد حجز، فما بقى إلا المساجد يصار بها إقطاعات!.
فالمسجد لمن سبق، اللهم إلا في حالة واحدة، إذا كان هناك مسوغ -مثلاً- وسبب معين يدعو إلى تخصيص فرد، أو إنسان كان في المسجد وأراد الخروج أيضاً لغرض -مثل- من أراد قضاء حاجته مثلاً، أو ما أشبه ذلك، أو طرأ له طارئ فذهب ووضع شيئاً في مكانه فهذا لا بأس به، أما أن الإنسان -مثلاً- يحجز هذا المكان فهذا لا ينبغي.(273/31)
مد الرجلين والمصحف في الأمام
السؤال يقول: ما رأيك فيمن يمد رجليه وأمامه مصاحف، فما واجب من وراءه؟
الجواب
ينبغي أن يُعلَّم، تكريماً لكتاب الله تعالى ألا يمد قدمه إلى المصحف بحيث يكون المصحف إلى ظهر قدمه.(273/32)
قراءة القرآن في رمضان
السؤال
أيهما أفضل قراءة القرآن في رمضان وختمه، أم مراجعة الحفظ؟
الجواب
كل ذلك حسن وينبغي أن يجعل وقتاً لهذا ووقتاً لهذا.(273/33)
التعامل مع الوالد قاطع الرحم
السؤال يقول: والدي -هداه الله تعالى- لا يصلي مع الجماعة إلا في الجمعة، ويشرب الدخان، وهو قاطع لرحمه، ويجافي أقرباءه وأرحامه لأتفه الأسباب، بل حتى بلا أسباب، ويشتمهم ويسبهم عند أولادهم وهم براء مما يقول، ولا يكلمنا نحن أولاده ويجافينا، ولا نسمع منه الكلمة الحسنة، ولا يريد منا أن نصل أقاربنا الأقربين؛ لأنه لا يريدهم، فهل يجوز لي أن أطيعه وأقاطعهم، مع العلم أنني لا أستطيع أن أناصحه، ولا يستطيع أحد غيري أن يناصحه؛ لأنه لا يقبل المشورة ولا النصيحة.
فما رأيكم أرشدونا، فإني في ضيق من ذلك أنا وأهلي جميعاً، وليس الشكاية للإخبار بالحال، والشكاية إلى الله تعالى، مع العلم بأن والدتنا تأمرنا بصلة الأقارب؟
الجواب
لا.
عليك أن تصل أقاربك ورحمك وتحسن إلى جيرانك، وكذلك والدك عليك أن تحسن إليه، وتبر به، وتحسن صحبته ما دام بين أظهركم، وتدعو الله تعالى له بالهداية، وتخدمه بقدر ما تستطيع، ولا تيأس منه أبداً، ربما الكلمة التي كتب لوالدك أن يهتدي بها لم يسمعها إلى الآن، وقد يكون قدر أن تخرج من فمك أنت بالذات فلا تيأس أبداً، إنَّ الله تعالى يرد الحياة إلى الأجساد الميتة قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] .
فتكلم معه، وذكره بالله، وإذا رأيت أنه قد أغلظ لك في القول، أو رد كلامك، فادعُ له بالخير، واستغفر له، ولا تغلظ له بالقول، واصبر عليه حتى وقت آخر تجد نفسيته هادئةً ومستعدة للتقبل ونفسيته سليمة فتخاطبه آنذاك.(273/34)
تسوية الصفوف في الصلاة
السؤال
أرجو تنبيه الناس إلى أهمية تسوية الصفوف في الصلاة، فإن الكثير من الناس قد تركوا هذه الشعيرة؟
الجواب
إن أطول ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقوله للناس بعد الإقامة، وقبل تكبيرة الإحرام، أنه كان يأمرهم بالاستواء، وتسوية الصفوف، ووصل الصف الأول فالأول، ويقول: {من وصل صفاً وصله الله} .
فكل هذه الأشياء من الأمور المشروعة في الصلاة؛ من تسوية الصفوف ورصها، وإتمام الصف الأول فالأول، والتقارب في الصفوف -أيضاً- فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ساووا بين الصفوف وقاربوا بينها} .(273/35)
التعامل مع المغتاب
السؤال يقول: هناك إنسان يسبني في المجالس عند الفرص وأنا غائب، برغم أنني لم أرتكب ذنباً في حقه أبداً؟
الجواب
إذا كان ذلك كذلك، فأنت على خير وكأنما تسفه المل -وهو الرماد الحار- ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا تعامله بالمثل، أحسن إلى من ظلمك ولا تخن من خانك، لا تعامله بالمثل بل احلم عليه، واستغفر له، وادعُ له وهذا هو الكرم، وهذه هي الرجولة.(273/36)
حمل السواك باليد وقت الصلاة
السؤال يقول: ما حكم من يمسك السواك بين أصابعه أثناء الصلاة، وهذا يفعله الكثير خاصة من كبار السن؟
الجواب
لا ينبغي هذا، بل إذا كان -مثلاً- في صلاة التراويح ويريد أن يسوك بين كل ركعتين فمن الممكن أن يضع السواك أمامه ثم يتسوك على عجل.(273/37)
الإعداد
السؤال
لماذا لا يعمل أهل هذه البلاد المسلمة بالاستعداد والتدريب قبل أن يهاجمهم أعداء الإسلام؛ حتى يمكنهم الدفاع عن النفس على الأقل، كما أنه يجب علينا نشر الإسلام؟
الجواب
يا أخي أنت ما رأيت هذه الملاعب الطويلة العريضة هداك الله! وهل تريد استعداداً أعظم من هذا؟! وهل تريد سواعد أقوى من سواعد هؤلاء الإخوة الذين يقضون جل وقتهم في التدريب على الكرة؟!(273/38)
حكم الزواج من أموال الزكاة
السؤال يقول: أنا شاب أريد العفاف بالزواج، علماً أني موظف في إحدى الدوائر الحكومية وأتقاضى مرتباً بسيطاً ولي مدة تقريباً لا تتجاوز السنة وأنا أشتغل في عمل؟
الجواب
إذا كنت لا تجد المهر وتكاليف الزواج وأبوك -أيضاً- لا يملكها، فإنه يجوز لك أن تأخذ من الزكاة، وهناك الجهات التي تصرف المساعدة للمتزوجين، كلجنة مساعدة الراغبين في الزواج، والشيخ عبد الله أحد أعضائها بعد استكمال الشروط، وكذلك بعض الإخوان وطلبة العلم يمكن أن يساعدوا بعد استكمال الشروط.(273/39)
طلب محاضرات دعوية
السؤال
مجموعة من الشباب ومن الإخوة في منطقة ساجل، يذكرون أنهم يشتاقون إلى لقاء المشايخ والإخوان، وأنهم في أشد العطش لمثل هذه المحاضرات والدروس، ويعربون عن أسفهم أنهم بالقرب منا ولا يحتاجون إلى عناء ولا مشقة، ولماذا لا يقوم الإخوة هنا بزيارتهم، علماً بأن المنطقة كبيرة جداً والناس بحاجة إلى من يوجههم، وليس هناك علماء ولا دعاة، وأنتم ولله الحمد كثيرون، علماء ودعاة؟
الجواب
نعد هؤلاء الإخوة كما وعدنا الإخوة في منطقة الشمال -أيضاًَ- أن نعرض طلبهم على الإخوان والمشايخ، ونوصله إلى مكتب الدعوة، ولعل الله تعالى أن يبارك بالجهود وينفع بالأسباب.(273/40)
حكم الذهاب إلى الدجالين
السؤال يقول: أرجو أن تبين لنا حكم الإسلام في امرأة كانت تصوم وتصلي جميع الفروض في وقتها، إلا أنها كانت تذهب إلى الدجالين الذين يسرقون الناس، ويقيدونهم عن استخراج أعمال مكتوبة لهم من قبل أناس آخرين، أو يفيدونهم؟ فهل هذا يعتبر شركاً في الله وقد ماتت على هذا، وتم ذلك منها عن جهل، فهل يمكن لأبنائها عمل شيء لها لعل الله أن يغفر لها هذا الذنب؟
الجواب
نسأل الله أن يغفر لها، ويعين أولادها على كثرة الاستغفار لها، وعلى بذل ما يمكن من المال والصدقة عنها؛ فإن الصدقة عن الميت ممكنة، وتصل بإذن الله تعالى باتفاق أهل العلم.
فعلى أولادها أن يكثروا لها من الاستغفار، ومن الصدقة عنها، والله تعالى يتولانا ويتولاهم ويتولاها برحمته.(273/41)
دعوة للتبرع للجنة الزواج
لجنة مساعدة الراغبين في الزواج، هي لجنة يقوم عليها مجموعة من المشايخ منهم: الشيخ عبد الرحمن العجلان -رئيس المحاكم-، والشيخ صالح العليان، والشيخ عبد الله الجاسر، ومجموعة من المشايخ في هذا البلد، وهي تقوم بجمع المال من الزكاة ومن الصدقات، ومساعدة الشباب الذين رغبوا في الزواج وهم فقراء، بعد استكمال الشروط الكاملة؛ والتي منها: تزكية لهم من بعض أئمة المساجد، أو طلبة العلم المعروفين.
وهذا عمل جليل جداً؛ لأن فيه مساعدة الفقير، وفيه إعانة على إعفاف الشباب، خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن.
وهم يطلبون منكم مساعدتهم بالمال سواء بالزكاة، أم بالتبرعات والصدقات.
ونطلب من الإخوة أن يقوموا بجمع هذه الأموال، كما نطلب من الإخوة أن يوصلوا ما لديهم إلى هنا، والذي ليس لديه شيء فيمكن أن يوصله في أيام قادمة بأي وسيلة إلى هذه اللجنة المباركة.
وهي بادرة طيبة في هذا البلد، ونرجو أن تحذو حذوها بلاد أخرى، وهي -أيضاً- موجودة في بعض البلاد الأخرى كمدينة جدة مثلاً، وهناك بداية لهذا المشروع الطيب.(273/42)
الذهاب للملاهي
السؤال يقول: ما حكم دفع النقود في الألعاب الكهربائية؛ التي تسمى الملاهي التي موجودة في بعض الأسواق؟ وهل يجوز أن آخذ أولادي الصغار إليها، أفتونا مأجورين؟
الجواب
في الواقع أن هذه الألعاب إن نظرنا إليها من حيث الأصل فليست محرمة لأصلها، ولكنني لا أملك إلا أن أنبه بعض الإخوة الذين يذهبون بأنفسهم، أو بأولادهم، أو بأهلهم إليها سواء كانت في داخل البلد، أو في خارجه، إلى أنه يرتادها كثير من مرضى النفوس، وضعاف القلوب الذين يريدون أن يصطادوا في الماء العكر، ويحدث من جراء ذلك مضايقات وإيذاء للشباب، وكذلك يحصل أمور لا تحمد عقباها.
فتركها أولى، وإن ذهب الإنسان إليها فعليه أن يكون متحفظاً منتبهاً، ولا يترك أولاده بمفردهم في مثل هذه الأماكن التي لا تخلو من بعض ضعاف النفوس كما ذكرت.(273/43)
التعامل مع المعاكس
السؤال يقول: لي صديق يستخدم جهاز التلفون لمعاكسة النساء، ماذا أعمل تجاهه علماً بأنَّ بعض النساء يقمن بالاتصال معه.
بماذا تنصحوني تجاهه؟
الجواب
عليك أن تنصحه وتبين له مغبة مثل هذا العمل، وهناك كتيب صغير "رسالة إلى المعاكسين والمعاكسات" يمكن أن توصله إليه، وهناك -أيضاًَ- بعض الأشرطة، ويكفي بأن تذكره بقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فهو مسؤول يوم القيامة عن هذه الأقوال، ولعل الله تعالى أن يهديه ويشرح صدره لما تقول.(273/44)
عداوة النصارى للإسلام
السؤال يقول: ذكرت أن النصارى هم أعداء الإسلام، وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن، وقال: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] فكيف يتم الجمع؟
الجواب
هذه الآية نزلت في الذين تابوا وآمنوا من النصارى، الذين ذكر الله تعالى عنهم أنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع إلى آخر الآية.(273/45)
الدعوة في الرحلات إلى البر
السؤال يقول: هوايتنا الخروج إلى البر، ونقوم بالدعوة إلى الله هناك، ونخطب في الجمع أحياناً، ونجد أريحية تامة في ذلك وانشراح صدر، وتكون رحلاتنا ممتعة جداً.
نرجو حث إخواننا الشباب اغتناماً للفرص، أن إذا خرجوا إلى البر أن يقوموا بالدعوة، وحبذا لو خصصت أحد الدروس العلمية بما يتناسب وطبيعة أهل تلك المناطق؟
الجواب
هذا العمل طيب وجيد.
والإنسان يتقي الله تعالى ما استطاع بالكلمة الطيبة من خطبة، أو نصيحة، حتى إذا كان ذاهباً إلى رحلة في البر وفيها متعة وفيها أنس، ومع ذلك فيها خير وفيها دعوة.
ويا ليت أن الشباب يأخذون على عاتقهم مثل هذا العمل، ولا يحتقر الإنسان نفسه، بل يقوم بما يستطيع ولا يظن أن الدعوة مقصورة على العلماء فقط، أو على الدعاة المعروفين، بل كل إنسان منا مطالب بما يستطيع، حتى من لا يستطيع أن يتكلم يمكن أن يقوم بنشر الكتاب، أو نشر الشريط ويكون شريكاً في الخير بهذا.(273/46)
طريقة إخراج التلفاز من البيت
السؤال يقول: أنا شاب أبلغ من العمر (23) وأنا ملتزم، وأجالس الملتزمين كثيراً، ولكن يوجد في منزلنا تلفزيون ولم أهتم بإخراجه اهتماماً جدياً.
علماً أنني أنا أكبر من في المنزل، وأبي يأتي إلينا قليلاً، ولكن لا أتوقع أنه يقف عقبة في طريقي عند إخراجه، أما الذي يقف فهو أمي التي تقول: لا دخل لك فيه، فدعه يشاهده الأطفال والبنات؟
الجواب
إنَّ كثيراً من الأطفال ينشغلون بالتلفاز عن إيذاء أهلهم؛ ولهذا يرتاح الأهل إلى وجود هذا الجهاز، فعلى الشاب الذي يريد إخراجه أن يسلك السبل الآتية: أولاً: أن يشغل إخوانه الصغار بالأمور التي تنفعهم.
ولا بأس أن يركبهم في سيارته فيتجول بهم أحياناً، أو يخرج بهم إلى البر، أو يجلس معهم في البيت في بعض اللعب المباحة، أو في بعض المسابقات، أو في بعض الدروس المفيدة، ويعلمهم دينهم، ويقرأ عليهم القرآن والحديث، ويعلمهم طريقة الوضوء وطريقة التيمم وطريقة الصلاة وغير ذلك من الأشياء، ويجري مسابقات لهم في تلك في الأمور ويجعل فيها جوائز بحيث يشغل وقت فراغهم.
حتى يصبح التلفزيون لا يوجد عنده أحد يشاهده أصلاً؛ لأن وقت هذا الشباب مشغول بمثل هذه الأمور المفيدة.
ثم عليه أن يوجد في نفوس الصغار شعوراً بضرر هذا الجهاز؛ شعوراً عملياً من خلال ضرره على أبصارهم، وضرره على قلوبهم، وخطط الأعداء في هذا الجهاز في تدمير البيوت، وأنها مؤامرة تدار بكل بيت لتجعله ركاماً من تراب.
وهكذا حتى يصبح الصغار مقتنعين بأن هذا الجهاز ضرر، ولا يرغبون في وجوده، ولا يطالبون بذلك ولا يحتجون على إخراجه.
وبعد ذلك يقوم بإخراجه في وسط هادئ وعدم معارضة، حتى لو اعترضت الأم لا يضيق بعد ذلك.(273/47)
رسالة من حركة المقاومة الإسلامية حماس
- يقول: الحمد لله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] والصلاة والسلام على رسوله القائل: {لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوهم قاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك.
قيل يا رسول الله: أين هم؟ قال: ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس} رواه الإمام أحمد في مسنده.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إخوان لكم مرابطون في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس يرفعون راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويرفضون الصلح مع اليهود والاستسلام لأعداء الله، ويطلبون منكم أن تؤدوا حقهم عليكم؛ وهذا الحق يتمثل في ثلاثة أمور: أولاً: الدعاء لهم بظهر الغيب؛ وخاصة في الأيام المباركة، وحث أئمة المساجد على ذلك.
ثانياً: الإعلام بقضيتهم وإظهارها من على المنابر؛ حيث إن الإعلام متكتم، وعلى كل منكم أن يظهر إسلامية المعركة.
ثالثاً: الدعم المالي، وحث الناس على ذلك؛ حيث لا يوجد من يدعمهم إلا إخوان لهم في الله؛ وتعلمون ما للمال من دور في استمرار عملهم، وتثبيتهم، وتمكينهم في الأرض.
بارك الله فيكم، ونفع بكم.
- تعليق: هذا مضمون رسالة موجهة من حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين حماس إلى كل مسلم في هذه الأرض، ونحن ندعو الله تعالى أن ينصرهم، ويمكن لهم في الأرض، ويهلك عدوهم، ويستخلفهم في الأرض فينظر كيف يعملون.
اللهم انصرهم يا حي يا قيوم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أنقذ بيت المقدس من رجس اليهود، اللهم أنقذ بيت المقدس من رجس اليهود، اللهم من أعان اليهود إعانة مادية، أو معنوية، فافضحه يا حي يا قيوم واكشف عيبه للمسلمين وعجل بهلاكه يا حي يا قيوم.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، وانصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان، وانصر إخواننا المجاهدين في الجزائر.
اللهم إن المسلمين يدعونك بالنصر لإخوانهم في هذا الشهر المبارك فلا تردهم خائبين، اللهم عجل لهم بالفرج يا حي يا قيوم إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.(273/48)
تحرك الأرض والشمس
السؤال يقول: وزع على أولادنا بالمدارس منشور بأن من يدعي أن الأرض تتحرك فقد خرج من الإسلام.
فما رأيكم في مثل هذه الأقوال؟
الجواب
أقول: لا حول وقوة إلا بالله، أصبح من أهون الأمور أن يحكم على الناس بالكفر والخروج من الإسلام بأشياء لم تثبت ثبوتاً قطعياً لا في كتاب ولا في سنة، ولم يقل بها أحد من أهل العلم.
لم يقل أحد من أهل العلم إن من قال: إن الأرض تتحرك فقد خرج من الإسلام.
صحيح.
قد قال الشيخ عبد العزيز -حفظه الله-: إن من قال: بثبوت الشمس فهو كافر؛ لأنه معارض لظاهر القرآن.
فالله تعالى يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38] .(273/49)
التلفاز وخطره
السؤال يقول: أرجو أن تقترح توزيع شريط: استجيبوا لربكم.
وهو منوع، وهذا الشريط يتكلم عن التلفاز وأخطاره وبعض فتاوى العلماء في حكم اقتنائه، وهو شريط جيد ومؤثر حسب علمي، علماً بأنه يوجد عند بعض التسجيلات؟
الجواب
هذا الشريط عموماً جيد، وإن كنت أتحفظ على بعض النقول فيما يتعلق بموضوع الإسبال.
أقول: أما بالنسبة لموضوع التلفاز -مثلاً- نعم نحن ننصح الناس بإخراج التلفاز من بيوتهم، لكننا لا نوافق أبداً أن يقوم خطيب ومتكلم، يقول: إن الذي في بيته تلفاز فهو ديوث -مثلاً-، هذه كلمة صعبة، ولا ينبغي أن تطلق، الناس الآن أصبحوا يسمعون كلامنا، وكلام الخطباء، وكلام الدعاة، ويقيسونه ويزنونه ويعجبون بحسنه، ويستقبحون قبيحه، وربما يسمعه الكبير والصغير، والأمير والوزير، وأصناف شتى من الناس وطبقات مختلفة.
فينبغي أن نتحرى في استخدام العبارات المعقولة الطيبة الملائمة، التي تؤدي المقصود دون أن توصل إلى مفاهيم خاطئة، أو تجعلهم يسيئون الظن بنا وما أشبه ذلك.(273/50)
الانشغال بلعب الكرة
السؤال يقول: طالعتنا الأخبار المقروءة والمنظورة عن إقامة مباريات الدوري في هذه البلاد في رمضان المبارك بلياليه، وهذه المباريات قد وجد بها عدة سلبيات: منها: وجود الطبول، والأغاني، والأهازيج، وكذلك كشف بعض العورات، والصد عن ذكر الله، والأعظم من ذلك هو تهوين عظمة هذا الشهر في نفوس الشباب.
أرجو إلقاء الضوء على مثل هذا؟
الجواب
هذه إحدى الخطط، وحتى يكون كلامنا دقيقاً يوجد من بين من يكونون في هذه المباريات، ومن بين من يكون في هذه النوادي أناسٌ أخيار وطيبون؛ وإنما بقوا رغبة في تقليل الشر، أو في إيجاد الخير ونشره بين زملائهم.
ومن يوجدون في تلك الأماكن، وقد رأيناهم ورأينا كثيراً منهم، وزارونا وأيدناهم على أن يقوموا بجهودهم في الدعوة إلى الله تعالى بوسط تلك الأماكن.
لكن لا شك أن الكرة بشكل عام وعلى المستوى العالمي هي إحدى خطط الغرب، وإحدى الخطط الجهنمية؛ لشغل الناس عن معالي الأمور بمثل هذه القضايا.
واليهود الذين يخططون للهيمنة على بلاد الإسلام كلها؛ يهمهم كثيراً اشغال الشباب بلعب الكرة والبلوت وغير ذلك، في الوقت الذي يسعى اليهود فيه إلى اقتناء أفتك الأسلحة النووية والذرية، والحصول على أسرار التسليح المتطورة في أمريكا، ومحاربة المسلمين في اقتصادهم، وفي أخلاقهم وفي كل شيء.(273/51)
طلب من أهل البادية
السؤال
نحن أبناء البادية خصص لنا بعض المشايخ وفقهم الله بعض النصائح والتوجيه، ومن بين المشايخ: عائض القرني نور الله قلبه في رسالته لأهل البادية، ونحن في لهف شديد لرسالة منك، نأمل أن تكون قريباً إن شاء الله؟
الجواب
عندي مجموعة من الرسائل سبق أن نوهت بها إلى طبقات شتى من المجتمع، وسوف ألقيها إن شاء الله ضمن الدروس العلمية العامة التي نسأل الله تعالى أن يديمها، إنه على كل شيء قدير وأن ينفع بها.(273/52)
تغطية وجه المرأة في الصلاة
السؤال
ما حكم تغطية الوجه في الصلاة للمرأة؟
الجواب
إذا كانت المرأة في الصلاة، وهي معزولة عن الرجال فالأولى أن لا تغطي وجهها.
أما إن كانت بحضرة الرجال الأجانب؛ فإنه يجب عليها أن تغطي وجهها سواء كانت في الصلاة أو غيرها.(273/53)
الالتزام الحقيقي
السؤال يقول: هناك كثير من الشباب استقام شيئاً ما، وترك الكثير من المحرمات -إن لم يكن جمعيها- ووضع نفسه من الملتزمين، وإذا نظرت إلى أوقاته ماذا يفعل بها، فإنك تحتار كثيراً؛ فتجده قد يشاهد المسلسلات، ويتابع المباريات، وكثير الجلوس مع أصدقائه السابقين المنحرفين.
وإذا سألته عن علاقته بالقرآن؛ فتجد أنه يقرأ الجرائد، وصفحات الرياضة، أكثر من القرآن وكتب العلم.
فأرجو أن توجه كلمة من قلبك إلى هؤلاء المتشوقين إلى النصائح العلمية، وأن تخبرهم عن أهمية القرآن وفضله، وأن يستثمروا أوقاتهم في أشياء تنفعهم؟
الجواب
يا أخي يكفيك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول (الم) حرف؛ ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} .
السؤال
هل هذا الأجر يكون لمن قرأ حتى كتب أهل العلم؟ الجواب: لا.
فهذا من باب أولى لمن قرأ الكتب العادية التي تضر ولا تنفع له.
فكيف بمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويترك قراءة القرآن -مثلاً- ويذهب لقراءة الصفحات الرياضية، التي ليست فيها إلا ما يدمي القلوب، ويحزن النفوس؟! والله إن الإنسان إذا قرأ ووقعت عينه على جريدة رياضية، أو على بعض الصفحات الرياضية في صحفنا فسيشعر بالحسرة تمزق قلبه؛ فكيف ونحن الآن نشعر بأننا مهددون من خصوم يهود ونصارى وعلمانيين وغيرهم، مع ذلك يوجد من بني جلدتنا من يتحالف معهم بشكل مقصود، أو غير مقصود، فيشغل شبابنا وبناتنا بمثل هذه الأمور؟! فما هذا الهوس الكروي الذي يطل علينا من صفحات الصحف بعد أن أطل علينا في الشوارع وفي الملاعب؟! والأندية! وكيف نتصور من شاب يقال: إنه ملتزم، ويشتغل بمثل هذه الأمور.
يا أخي، الالتزام ليس مظهراً فقط! لا يكفي في الالتزام أن تكون ملتحياً، لا! ولا أن تقصر ثوبك! وإن كانت هذه الأمور مشروعة ومطلوبة؛ لا بد مع الالتزام أن يكون قلبك مقبلاً على الله تعالى.
والله تعالى وصف عباده الصالحين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:19-20] فاحرص أن تكون من هؤلاء يا أخي، وبارك الله فيك وهداك الله.(273/54)
السنة الحسنة
السؤال يقول: أريد منك أن توضح لنا معنى الحديث {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء} ؟
الجواب
المقصود من سن في الإسلام سنة حسنة؛ أي: من دعا الناس إلى فعل الخير، فقد يغفل الناس عن بعض الطاعات فيذكرهم بها أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بمناسبة أنه دعا إلى الصدقة فجاء رجل بصرة من المال تعجز يده عن حملها فتصدق بها، فلما رآه الناس تحركت أريحياتهم فتصدقوا.
فنحن نقول: من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة حسنة فكذلك الحال.(273/55)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
إنَّ كثيراً من الناس عندما يذهب إلى العمرة يكون سلبياً؛ فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، وهناك منكرات لا يحصيها إلا الله، خاصة وقت التراويح والقيام.
فنرجو توجيه الناس إلى هذه الشعيرة الهامة
الجواب
نحن نطالب الشباب الأخيار الملتزمين إذا ذهبوا إلى هناك، نطالبهم بعمل واحد لا يشق عليهم، فهو ينفعهم ولا يضر غيرهم، وهو: أن يذهبوا مثنى وثلاث ورباع إلى الأسواق، وفي الأماكن حول الحرم، وعند تجمعات الشباب، وحول أماكن كبينات الهاتف، وما أشبه ذلك من الأماكن التي هي مظنة حصول الاختلاط، وحصول ما لا تحمد عقباه، ووجود بعض ضعاف النفوس الذين يستغلون الزحام، أو وجود -أيضاً- بعض النساء المتكشفات والمتبرجات، أن يذهبوا إلى هناك؛ لا يحملون عصياً، ولا يحملون كلمات حارة، فمجرد وجودهم سيكون صمام أمان بإذن الله، مع وجود الكلمة الطيبة والنصيحة والتذكير بالله، وإن رأوا أموراً مذمومة نهوا عنها وأنكروها، فإن لم يزلها ذلك؛ فإنهم يوصلونها إلى الجهات المختصة؛ كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ التي نسأل الله تعالى أن يرزقها الحياة.(273/56)
السواك للمرأة
السؤال
هل السواك سنة في حق المرأة؟
الجواب
نعم هو سنة في حق المرأة والرجل.(273/57)
مشروع مقترح
السؤال يقول: بعض الأشخاص توجد عنده أشرطة تبقى بعد الانتهاء منها بدون فائدة.
ما رأيكم لو اقترحتم أن أي شخص لديه أشرطة، أو استغنى عنها، يكتب أو يسجل عليها: أخي المسلم يرجى بعد الانتهاء منها إهداءها؛ يعني أن الإنسان الذي عنده كتب، أو أشرطة استغنى عنها ولا يحتاجها أنه يمكن أن يهديها، أو يكتب عليها هذه العبارة، ويهديها إلى بعض من يحتاجونها؟
الجواب
لا بأس بذلك، هذا مشروع طيب.(273/58)
الدعاء للاّعبين
السؤال يقول: أعلنت الصحف عن وفاة أحد اللاعبين؛ وهو لاعب له جمهور عريض في جدة، وأرجو الدعاء له، وسوف يكون للدعاء أثر ملموس؟
الجواب
نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته، ويغفر لنا وله.
ونقول: اللهم ارفع درجته، واخلفه في أهله، واغفر لنا وله يا رب العالمين، ووفق إخوانه أصدقاء وزملاءه وسائر اللاعبين في هذه البلاد وفي جميع بلاد الإسلام إلى سلوك الطريق المستقيم، وأن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم.
وبالمناسبة قرأت خبراً يقول: إنه قد تم القبض على لاعب كبير في الجزائر من أبرز اللاعبين، وذلك لأنه متدين، ومن المؤيدين لجبهة الإنقاذ، فسبحان الله العظيم.(273/59)
قراءة القرآن بدون تدبر
السؤال
هناك كثير من الشباب يسرعون في ختم القرآن دون تدبر، ولا تمعن، فهل يكون في ذلك بأس؟
الجواب
على كل حال قراءة القرآن خير من الصمت، لا أقول فقط خير من الكلام فيما لا فائدة منه، بل هي خير من الصمت حتى ولو كانت بدون تدبر، ولكن الأولى والأفضل أن يتدبر الإنسان القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] .(273/60)
واجب السلطان
السؤال
سمعنا كثيراً عما ينذر بخطر كبير؛ ومن ذلك ما يحدث في من يقبض عليهم رجال الهيئة ويعترفون بجرائم خطيرة تنذر بخطر على المجتمع، إلا أن الذهول يصيبنا حين نعلم أن من المسؤولين من يطلق سراحهم لسبب، أو لآخر، ثم يعاقب رجال الهيئة أو يوبخوا، فهل من تعليق على ذلك؟
الجواب
نسأل الله تعالى أن يهدي القائمين على الهيئات وعلى غيرها في أمور المسلمين إلى أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي المنكر، فإن الحاكم والسلطان لم يوجد أصلاً إلا لإقامة الدين، وسياسة الدنيا به، فمهمة السلطان والحاكم هي: حراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين.
وبأسلوب آخر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس ثمة مهمة أخرى غير هذه؛ فهي تشمل كل مصالح الناس في دينهم ودنياهم، ولا شك أن العناية بأرزاق الناس من المعروف، ومحاربة الغش من المعروف، ومحاربة الجريمة من المعروف، والعمل على تحقيق الدفاع الاقتصادي من المعروف، والحفاظ على أمن الناس من المعروف، والحرص على إصلاح اجتماع الناس وعلاقاتهم الاجتماعية من المعروف، والسعي إلى تحقيق التقدم العلمي والصناعي من المعروف، وكل ألوان الخير الديني والدنيوي فهو من المعروف الذي أمر الله تبارك وتعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ألوان الشر من ظلم الناس، والاعتداء عليهم، وإهانتهم، وبخس حقوقهم، أو الاعتداء على أعراضهم، أو نهب أموالهم وخيراتهم، أو التضييق عليهم في أرزاقهم، أو الاعتداء عليهم، أو سجنهم، أو غيبتهم، أو توبيخهم، أو ظلمهم، أو الكذب عليهم، أو تزوير ما فعلوا، أو غير ذلك فهو كله من المنكر الذي نهى الله تعالى عنه ورسوله.
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين إلى أن نقوم بهذه الشعيرة؛ شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا لم نقم بها، فإن الله تعالى قد قال: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] .
ولله أوس آخرون وخزرجُ، والله تعالى يقول: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] أذلة على المؤمنين؛ فإذا رأوا الإنسان الخير الصالح ذلوا له، وأكرموه، وتواضعوا له، وأحبوه في الله عز وجل.
وإذا رأوا الإنسان الكافر، أو الفاسق، فإنهم أعزة عليه، لا يذلون له، ولا يهونون أمامه، عكس ما يصنعه كثير من الناس اليوم، فهم أُسود على إخوانهم المسلمين خاصة من الضعفاء؛ فإن رأوا عليهم مظهر التدين والصلاح زادوا في الضغط عليم، وإيذائهم، والسخرية منهم بالقول وبالفعل.
نسأل الله العفو والعافية.(273/61)
الدعاء بالمراجعة
السؤال
أنا شاب -ولله الحمد- قد منَّ الله عليَّ بحفظ القرآن الكريم، وبعد أن انتهيت من حفظه انشغلت في أمر من أمور المسلمين، ولم أستطع أن أضبطه الضبط التام.
أرجو أن تدعو لي أن لا ينتهي شهر رمضان إلا وقد تم ضبطه، وأن يكون حجة لي يوم القيامة؟
الجواب
نعم.
نسأل الله تعالى أن يوفقك لحفظ القرآن ومراجعته، وأن يكون القرآن حجة لك، لا حجة عليك.
ولكن أعنا مع هذا الدعاء، أعنا بشيء من الوقت تخصصه لمراجعة القرآن الكريم، وتضبط ما حفظت سواء أفي رمضان أم في غيره.(273/62)
التلبس ببعض سلبيات الماضي
السؤال يقول: أبلغ من العمر ما يقارب عشرين عاماً، وكنت سابقاً منحرفاً شيئاً ما، لكن في الوقت الحاضر أحسست بأنني ملتزم، ولكن عندي بعض الملاحظات التي لم تتغير مثل: حب الرياضة، ومشاهدة بعض المسلسلات، وقد أجلس مع بعض الأصدقاء، أرجو أن توجه لي كلمة لعل الله أن يهديني بها، وكذلك إخواني الذين هم مثلي؟
الجواب
أدعو هؤلاء الإخوة إلى الإدمان على حضور الدروس العلمية والمحاضرات لعلهم أن يسمعوا فيها، وكذلك سماع الأشرطة وقراءة بعض الكتيبات اليسيرة؛ لعلهم يجدون فيها ما يقوي إيمانهم ويبعدهم عن مثل هذه الأشياء التي زالوا يقيمون عليها.(273/63)
من تاب تاب الله عليه
السؤال يقول: كنت منحرفاً لكن ليس لأنني فعلت شيئاً من الكبائر، لكنني كنت أتكلم بالكلام السيء، نظراً لأني كنت أرافق بعض الشباب غير الملتزمين، وأنا الآن التزمت والحمد لله، لكن الشيطان يلاحقني في كل مكان، حتى وكأنه يكلمني ويقول لي: بأنك تذهب إلى المسجد للرياء والسمعة، فلا أدري هل تقبل توبتي؟
الجواب
نعم.
من تاب تاب الله عليه، وعليك أن تكثر إن كنت ظلمت، أو تكلمت في عرض أحد، أن تكثر من الاستغفار له وتكثر من الكلام الطيب الذي يكفر الله تعالى به عنك.
مثل: ذكر الله، خاصة كلمة لا إله إلا الله فإنها: أطول الذكر، وأطول الكلام، والإكثار من قراءة القرآن -أيضاً- والاستغفار، والله تعالى غفور رحيم، أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه.(273/64)
الدعوة إلى دعم المجاهدين
السؤال
أرجو حث الناس على مساعدة إخوانهم في فلسطين، وبيان ما هم فيه من ظروف سيئة، وأن الجهاد هناك يحارب؟
الجواب
الجهاد يحارب في فلسطين، وكلمة الحق تحارب في فلسطين كما يحارب الجهاد في أفغانستان والجزائر وفي كل بلد ترفع فيه راية لا إله إلا الله، وإخوانكم في فلسطين وغيرها محتاجون إلى دعمكم المالي؛ فأدعو الإخوان إلى دعمهم ومساعدتهم.(273/65)
منظار المعدة في نهار رمضان
السؤال يقول: دخل والدي المستشفى في نهار رمضان وقد كشفوا عليه بالمنظار، بحيث أدخلوا أنبوباً عن طريق الفم إلى المعدة علماً أنهم لم يضعوا في هذه المعدة أي مواد مفطرة، وإنما ذلك للكشف، مع أنه لم ينزل قيء، فهل هذا مفطر؟
الجواب
والله ما دام دخل عن طريق الحلق ووصل إلى المعدة، فأرى أنه لا يستخدم مثل هذا في نهار رمضان أبداً، وأرى لوالدك أن يقضي يوماً غيره.
والله تعالى أعلم.(273/66)
إقامة الصلاة بالميكرفون
السؤال
الإقامة بالمكبر تسبب تهاون الناس وتأخرهم.
نرجوا التوضيح؟
الجواب
هي قد تسبب تهاون بعضهم لكن قد تسبب إسراع بعضهم الكسالى، الذين ربما تفوتهم بعض الصلاة، فأرى أنه لا بأس أن يقيم الإنسان بميكرفون (المكبر) حتى ينبه من حوله إلى الإسراع وإلى المبادرة إلى الصلاة.(273/67)
أجر قيام الليل
السؤال
هل يكفي أن يصلي الإنسان حتى يحصل على أجر قيام ليلة؟
الجواب
نعم.
إن شاء الله تعالى.(273/68)
التوكيل في الأذان أحياناً
السؤال يقول: ما رأيكم في مؤذن في مسجد يوكل من ينوبه في بعض الأحيان، وذلك ليحضر مثل هذا الدرس؟
الجواب
إذا كان التوكيل في حالات قليلة، وفي حاجة ومصلحة ظاهرة فلا حرج في ذلك إن شاء الله.(273/69)
توبة العلماني
السؤال يقول: ما رأيك في توبة العلماني أتقبل توبته أم لا؟
الجواب
نعم.
إذا تاب إلى الله توبة صادق ة ونصوحاً، وأظهر الإيمان، وبدأ يكتب عن الدين وينتقد المفسدين، فمن تاب تاب الله عليه، والله يتوب على الكافر، ويتوب على الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ويتوب على المشركين فكل من تاب تاب الله عليه.(273/70)
الصبغ بغير السواد للمرأة
السؤال يقول: ما حكم صبغ الشعر بغير اللون الأسود بقصد الزينة لا بقصد التشبه بالكفار؟
الجواب
إذا اجتنبت المرأة السواد، فلا عليها أن تصبغ شعرها.
لكن لا ينبغي أن يكون صبغ شعرها ديدناً لها، كل يوم تحدث له لوناً جديداً، وتمشطه بألوان شتى، وتحاكي في ذلك الصبغات الموجودة عند نساء الكفار.(273/71)
الحناء للمرأة
السؤال
ما حكم عدم وضع الحناء في اليدين، وهل الحديث الذي ينسب للرسول عليه الصلاة والسلام، والذي فيه: (أن امرأة توفيت وليس في يديها الحناء) وعند ذلك قال الرسول عليه السلام: (انظروا فإن كان في يديها حناء أم لا، فيرى إذا كان عندها ولم تضع الحناء لم يصلَّ عليها) ؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، ووضع الحناء أمر جائز وهو من جملة الزينة.(273/72)
أهمية الثبات على الهداية
السؤال يقول: الرجاء التنبيه على أهمية الثبات على الهدى والالتزام، وعلى أهمية الرفقة الصالحة، والحذر الشديد من الرفقة السيئة، خصوصاً الشباب الصغار الملتزمين، كيف لا، وكثير من الشباب تجده ملتزماً، ثم يستخفه الشباب المنحرف، ومن ثم يبتلى.
فرجاء التنبيه على أهمية الثبات، وسؤال الله عز وجل الثبات، وفقكم الله الكريم الوهاب؟
الجواب
لا شك أن الثبات على أمر الهداية لا يقل أهمية عن الهدى والهداية بذاتها.
فإن الإنسان قد يعرف طريق الهداية ثم ينحرف والعياذ بالله فيجعل الله تعالى كما قال: {صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] .
فلا يقل أهمية عن الحصول على الهداية ثبات الإنسان عليها، والله تعالى قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] .
فعلى العبد أن يتقي الله تعالى، ويسأل الله تعالى الثبات بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويسعى إلى الحصول على وسائل الثبات، التي من أهمها: أن يعلم أن الأمر كله بيد الله، وأنه ليس بيده شيء، وأنه لم يحصل على الهداية بقوته وحوله، وإنما بحول الله تعالى وقوته، فعليه أن يكثر من سؤال الله تعالى، وعليه أن يكثر من الاستغفار، وعليه أن يعلم أنه ليس بيده شيء إلا أن يوفقه الله تعالى لذلك.
كما أن عليه أن يكثر من الأعمال الصالحة؛ فهي مثل الأشجار التي يغرسها الإنسان في التربة حتى تضمن عدم انتقالها، أو ذهاب الريح بها إلى موضع آخر.
وصحبة الأخيار من أهم وسائل الثبات.(273/73)
الإعجاب بالعمل
السؤال
في كثير من الأحيان حينما أعمل عملاً من الأعمال كالصلاة والصيام وغير ذلك يداخلني الإعجاب بعملي، هذا محمودٌ، أم مذمومٌ؛ وإذا كان مذموماً فأرجو أن ترشدوني إلى الطريق الصحيح لتجنب هذا؟
الجواب
أما العمل الصالح بذاته، كالصوم والصلاة فهو محمود ولا شك، وأما الإعجاب فلا شك أنه مذموم، العجب بهذا العمل مذموم، وكيف تعجب بهذا العمل والله تعالى هو الذي وفقك إليه وحرك همتك له وقيضه لك ورزقك الإقبال عليه، وهو الذي خلق كل الجوارح التي استخدمتها في هذا العمل، وهو الذي خلق القلب الذي اتجه إلى هذا العمل، وهو الذي خلق الإنسان الذي ذكر {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] وهو الذي أبعدك عن الأعمال السيئة، ووفقك للأعمال الصالحة؛ فكل ذلك منه وكرمه، فينبغي للعبد أن لا يعجب بعملٍ عمله.(273/74)
قراءة الفاتحة للمأموم
السؤال
ما هو القول الراجح في قراءة الفاتحة في التراويح، على أن الإمام لا يسكت؟
الجواب
لا يلزمك أن تقرأ الفاتحة على القول الراجح من أقوال أهل العلم، بل قراءة الإمام تكفي من خلفه؛ فإن سكت قرءوا وإن قرأ أنصتوا، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإذا قرأ-يعني الإمام- فأنصتوا} قال الإمام مسلم: هذا حديث صحيح.(273/75)
حديث: (من صام يوماً في سبيل الله)
السؤال
{من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً} ؟
الجواب
الحديث هو: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً} والحديث هو في الصحيح من حديث أبي سعيد.(273/76)
الجلوس في صلاة التراويح
السؤال
إذا جلس المأموم حتى يركع الإمام في التراويح فهل يعد ممن قام ليلة؟
الجواب
إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له ذلك، فإن صلى قائماً كتب له الأجر كاملاً، وإن صلى قاعداً فله نصف أجر، كما جاء في الحديث: {صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم} .(273/77)
من فاته الميقات في العمرة
السؤال
من أي المواقيت يحرم من نوى العمرة لكنه وصل جدة قبل أن يحرم؟ وهل تسن تحية المسجد في الحرم قبل أداء العمرة أم هل يجب الشروع في العمرة دون حاجة للسنة؟
الجواب
لا تسن لأن الطواف هو تحية للمسجد، وبعد الطواف سوف يصلي ركعتين، فلا حاجة أن يصلي ركعتين تحية للحرم ما دام يريد أداء العمرة.
أما من ذهب إلى جده فعليه أن يحرم إذ حان الميقات، سواء أكان في الطائرة أم في غيرها.
وفي الطائرة يعلنون عن قرب الميقات؛ فيقولون: باقي ربع ساعة، أو عشر دقائق على الميقات، فعليه أن يحرم.
أما إن وصل جدة؛ فعليه أن يخرج إلى الميقات وهو رابغ أو ما يحاذيه.(273/78)
خروج النساء إلى الأسواق
السؤال
يقول أرجو توجيه كلمة للنساء ولأولياء الأمور توضحون فيها المخاطر الناتجة عن التسوق ليلاً؟
الجواب
نعم.
الخروج النسائي إلى السوق، ينبغي أن يقيد للحاجة، فلا تخرج المرأة إلا لحاجة.
أما إن كان خروجها لمجرد التسوق، أو الفسحة، أو قضاء وقت الفراغ، فهذا مذموم.
وإذا خرجت، فينبغي أن يخرج معها وليها، وأيضاً أن يخرج معها فيحفظها، ويكون قريباً منها، ويكون في ذلك بُعدٌ عن أن تنهبها عيون الذئاب الجائعة، أو تمتد إليها ألسنتهم، أو أيديهم بالسوء.
وإذا أمكن أن يقوم الرجل بقضاء حاجات أهله بنفسه؛ فإن ذلك أحوط وأولى، وإذا قدر أن الرجل خرج بأهله إلى السوق؛ فينبغي أن تخرج المرأة بعيدة عن الطيب، وبعيدة عن لبس الملابس الجميلة، أو المثيرة الجذابة في شكلها وهيئتها، أو الملابس الضيقة، بل تلبس ملابس فضفاضة، وملابس غير ملفتة للنظر، وبعيدة عن الطيب.(273/79)
مساكين الحرم
السؤال
من هم مساكين الحرم؟ فهل كل من يتسول في الحرم يعد من مساكينه؛ وأقصد: من المساكين الذين تجب لهم الفدية؟
الجواب
هم الموجودون في الحرم، سواء أكانا من أهل الحرم، أم كانوا من الطارئين عليه من غيرهم ممن يظهر عليهم الفقر والمسكنة.(273/80)
دروس الشيخ فهد الحربي
السؤال يقول: ما المانع الذي يمنع الشيخ فهد الحربي من مواصلة دروسه المحركة للقلوب؟ هل المانع شخصي؟ أم هل هو خارج عن إرادته؟ وإذا كان خارجاً عن إرادته، فما دوري ودور إخواني الشباب تجاه الشيخ؛ فله مكانة في قلوبنا جميعاً؟
الجواب
أما المانع؛ فإنه خارج عن إرادته، فقد منع من إلقاء هذه الدروس من قبل الجهات الرسمية في هذا البلد.
وسبق أن بينت أن هناك جهوداً مبذولة، ولكن ليس هناك مانع أن تقوم أنت وغيرك من الإخوة بما تستطيعون من الجهد، ومن الجهد؛ مخاطبة الشيخ وبقية المشايخ في هذا البلد في السعي إلى إزالة تلك العقبات.(273/81)
حمل المرأة للطفل إلى المسجد
السؤال يقول: ما حكم من تستقبل الأحذية؛ بحيث تضعها أمامها، أو تضع طفلها النائم أمامها؟
الجواب
الأولى أن تضع الحذاء وراءها، أو بين قدميها، أو تصلي وهي لابسة الحذاء؛ إن كان هذا لا يؤذي من حولها.
وكذلك وضع طفلها النائم؛ فتضعه في المكان الذي تطمئن إليه فيه، ويكون بعيداً عن إيذاء الآخرين، وإن أمكن أن يكون طفلها لا يأتي معها أصلاً؛ وأمكن أن يبقى في بيتها ويؤجر من يقوم عليه كان هذا أولى، وإن بقيت هي مع أطفالها في البيت وصلَّت ما كتب لها فهذا خير.(273/82)
لبس القفازين أثناء الصلاة
السؤال
لبس القفاز أثناء الصلاة؟
الجواب
جائز.(273/83)
التأخر عن الإمام في الرفع من السجود
السؤال
ما حكم من تطيل السجود بعد الإمام للدعاء؟
الجواب
لا ينبغي، يجب أن تنهض مع الإمام، أو بعده بيسير.(273/84)
المداومة على القنوت في غير رمضان
السؤال
ما حكم المداومة على صلاة القنوت في غير رمضان؟
الجواب
يعني إذا كان السؤال عن الوتر؛ فنعم الوتر مشروع في كل وقت.(273/85)
تقبيل الأيدي بعد الدعاء
السؤال
تقبيل الأيدي بعد الدعاء؟
الجواب
تقبيل الأيدي بعد الدعاء ليس له أصل قط.(273/86)
رفع الصوت بالبكاء أثناء الدعاء
السؤال
ما حكم رفع الصوت بالبكاء أثناء الدعاء؟
الجواب
إذا غلبها البكاء، ولم تستطع كتمه فلا شيء عليها، فإن استطاعت فعليها أن تكتمه ما استطاعت.(273/87)
النذر بقيام الليل
السؤال
امرأة نذرت؛ إذا نزلت بيتاً ملكاً سوف تقوم ببناء مسجد في منزلها.
ونذرت أن تقوم الليل، ووضعت المسجد وصلت به أياماً ثم تركته، وهي تقوم الليل أحياناً؟
الجواب
عليها أن تقوم الليل دائماً ما دامت نذرت ذلك؛ ولو أن تقوم بثلاث ركعات من الوتر كما نذرت والتزمت بذلك.(273/88)
فضل الطعام
السؤال
عندنا جيران إذا فضلت فضلة من طعامهم أتوا بها، ونحن -والحمد لله- لسنا بحاجة إليها؟ فهل لنا ردها أم لا، أفتونا؟
الجواب
إن قلتم ليس لنا بها حاجة فليبحثوا عمن هو أحق بها وأحوج فلا حرج، وإن أخذتموها وأعطيتموها من يحتاجها فلا حرج -أيضاً- وقد يكون هذا أولى من أجل جبر خواطرهم.(273/89)
الخشوع في الصلاة
السؤال يقول: إني شاب أحب الدين والمتدينين، لكن قلبي قاسٍ، وإذا صليت وجدت فكري شارداً وتنتهي الصلاة وأنا لا أفطن لشيء منها؟
الجواب
{ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت} وقال: {وإن العبد لينتهي من صلاته ما كتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها، سدسها، سبعها، ثمنها، تسعها، عشرها} والحديث في "السنن" وهو صحيح، فعليه أن يستحضر قلبه في الصلاة ما استطاع، ويدافع وسواس الشيطان، ويقبل على صلاته، ويبكر إليها، ويحسن إليها، ويصلي ما استطاع، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويبعد الشواغل عن قلبه، ويحرص على الإقبال على العبادة في كل وقت، وما دام أنه يحب الدين والمتدينين فهو إن شاء الله تعالى إلى خير.(273/90)
التحرك الدعوي في المدينة
السؤال يقول: ما رأيكم لو نقوم نحن الشباب بجولات هادفة لدعوة إخواننا أهل الأرصفة والشوارع، ودعوتهم إلى الله؟ أليس هذا العمل جيداً؟ فلماذا أنتم لا تقومون بتكوين جماعات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وأنتم القادة ونحن العاملون؟
الجواب
سبق أن دعوت الإخوة في مسجد المحيسني في درس بعنوان: (خمسة مقترحات) إلى مثل هذا العمل، أن يقوم الإخوة مثنى وفرادى وثلاث ورباع -أيضاً- في جولات على إخوانهم في الشارع الأخضر؛ وهو جواركم وربما كثير منكم لا يعرف الشارع الأخضر: هو الذي يظاهر هذا المسجد امتداده ذراعه الشمالي يسمى الشارع الأخضر؛ نسبة إلى خضيرى فيما يبدو.
وهناك شارع يسمى: الشارع الأصفر وهو في شمالها الصفرة.
وهناك شارع يسمى: الشارع الأبيض أيضاًَ وهو شارع يمتد شمالاً وجنوباً في الصفرة.
فعلى الإخوة أن يرتادوا هذه الأماكن وغيرها يزوروا هؤلاء الشباب ولا يطيلوا البقاء عندهم فيثقلوا عليهم؛ ولكن جلسة خمس دقائق، وبسمة طيبة، وكلمة طيبة، ودعوة إلى الله، وإهداء كتاب، وشريط، ودعوة إلى مشاركتنا في الصلاة في هذا المسجد، وتذكير لهم بإخوانهم، وما أشبه ذلك من الأمور التي تحرك قلوبهم وأن تحسنوا الظن بهم؛ ففكرهم سليم وفيهم خير كثير.
وندعو الإخوة أن يخرجوا إلى هذه الأماكن؛ أماكن تجمع الشباب، ويزوروهم ويتحدثوا معهم، ويبلغوهم سلامنا، وسلام إخوانهم في هذا المسجد، ودعاءنا لهم بأن الله تعالى يبارك لهم في أوقاتهم وشبابهم، ويحفظهم في أنفسهم، وفي دينهم وفي عقولهم وفي أموالهم وفي أعراضهم، ويقيهم شر عدوهم ويبلغوهم سلامنا ودعاءنا ويتكلم معهم بالكلام الطيب المفيد.(273/91)
أخذ القرآن الموقوف على المسجد
السؤال
ما حكم أخذ القرآن من المسجد وهل في ذلك إثم؟ مع أنني كنت قد أخذته.
الجواب
إذا كان هذا المصحف وقفاً في المسجد فلا ينبغي إخراجه، ومن أخرجه فعليه أن يعيده إلى المسجد.(273/92)
رفع الصوت بقراءة القرآن
السؤال يقول: لقد ذكرت في كتابك "وقفات للصائمين" صفحة (40) بالوقفة (10) أن رفع الأصوات عند قراءة القرآن ليس من سمة المؤمنين، بل هو منكر فما هو حد رفع الصوت؟ والذي دعاني لذلك أننا فهمنا أنا لا، نرفع أصواتنا مطلقاً، فإن كان كذلك فاعلم أن في هذا مشقة على من تعلم رفع الصوت؟ وكذلك بعدم رفع الصوت سوف يكون بعض الناس كسولاً؟ كذلك سيحصل تداخل لما يحفظ الإنسان المسلم لكتاب الله؟
الجواب
لا، في الواقع لم أقل هذا الكلام -الذي نقلته عني- في الكتاب.
وإنما خلاصة الكلام الذي ذكرته أنه إن كانت الأصوات متداخلة بحيث لا يشوش بعضها على بعض، ومستوى رفع الصوت واحد تقريباً، وكل إنسان يقرأ وهو مرتاح لا يشوش عليه من حوله؛ هذا لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {إني لأعرف منازل الأشعريين إذا نزلوا بالليل، وإن لم أكن رأيت منازلهم بالنهار من أصواتهم بالقرآن} وإنما الذي نهيت عنه أن بعض الناس يرفع صوته بالقرآن رفعاً بليغاً؛ يكون مخالفاً للأصوات الأخرى المختلطة فيشوش بذلك على من حوله، أو يكون منفرداً؛ فيرفع صوته رفعا بليغاً -أيضاً- فيشوش على الآخرين الذين يقرءون خفية، أو يقرءون بصوت غير مرتفع، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: كما في الحديث الذي رواه أصحاب "السنن" وسنده صحيح {كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض} يعني لا يشوش بعضكم على بعض.(273/93)
دعاء الاستخارة
السؤال يقول: دعاء الاستخارة من السنن التي يجهلها بعض المسلمين؛ وأنا من ضمنهم، فأرجو أن تبين لنا الصفة الشرعية؟ وهل يؤتى بالدعاء قبل أن يعزم الإنسان على الأمر؟ أم هل يقال بعد ذلك؟
الجواب
أما دعاء الاستخارة فقد رواه البخاري في "صحيحه" من حديث جابر {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، فيقول: إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسمي حاجته- خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به} هذا هو الدعاء، وهو مشروع في الأمور التي يتردد فيها الإنسان، لا يتبين له فيها وجه الخير، ويتردد فيها فيطلب من الله تعالى أن يوفقه لما هو الخير.
وهذه الصلاة تصلى في أي وقت، اللهم إلا في وقت من أوقات الكراهة، فلا يصليها في وقت الكراهة إلا إذا احتاج إلى ذلك كما لو كان هناك أمر قد يفوت.(273/94)
دعاء في ختام المجلس
اللهم اعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعنا ولا تعن علينا.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى.
ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وقائدنا وسائقنا إليك وإلى جنات النعيم.
اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم اجعلنا ممن يقيم حروفه وحدوده، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده.
اللهم يا حي يا قيوم، اللهم يا حي يا قيوم، يا الله، يا من لا إله إلا هو ولا رب سواه، يا واحد يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، نسألك بأنك أنت الأول، وأنت الآخر، وأنت الظاهر، وأنت الباطن، وأنت بكل شيء عليم، ونسألك بأنك أمرتنا بالدعاء، ووعدتنا بالإجابة، ونسألك يا حي يا قيوم، بأنك على كل شيء قدير، وأنك بكل شيء عليم، أنك تعلم أحوالنا وترى مكاننا وتسمع كلامنا.
اللهم إنا نسألك لإخواننا المضطهدين في كل مكان: اللهم إنا نسألك أن تعجل لهم بالفرج يا حي يا قيوم، اللهم عجل لهم بالفرج يا حي يا قيوم، اللهم أنزل عليهم السكينة والإيمان، يا رحيم يا رحمن.
اللهم انصرهم يا كريم، اللهم انصرهم يا كريم.
اللهم فرج كرباتهم، اللهم فرج كرباتهم، اللهم من كان منهم مسجوناً ومعتقلاً فأذن له بالخروج من معتقله وسجنه يا كريم، ومن كان منهم مطارداً مشرداً فأذن له يا حي يا قيوم أن يأمن على نفسه وأهله وبلده ووطنه، ومن كان منهم فقيراً فاغنه، ومن كان منهم جاهلاً فعلمه، ومن كان منهم ضالاً فاهده، ومن كان منهم ذليلاً فأعزه يا حي يا قيوم.
اللهم مكن للمسلمين في كل مكان، اللهم مكن للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم لا تجعلهم فتنة للقوم الكافرين ونجهم برحمتك من القوم الظالمين.
اللهم إنا نستغيث بك على من تسلطوا على رقاب المسلمين وأعراضهم في أي مكان من الأرض يا حي يا قيوم: أن تنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم من آذى المسلمين أو حاربهم في أي مكان من الأرض يا حي يا قيوم: فعجل له بالهلاك.
اللهم أقر عيون المسلمين بهلاكه، اللهم أقر عيون المسلمين بهلاكه.
اللهم أقر عيون المسلمين بهلاكه.
اللهم إنا نسألك بوجهك الكريم ألا تحجب هذا الدعاء، اللهم لا تحجب هذا الدعاء بذنوبنا يا حي يا قيوم.
اللهم من آذى المسلمين أو وقف في طريقهم، أو حال بينهم وبين تحكيم شريعتك والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأفرح قلوبنا يا حي يا قيوم بهلاك عاجل له.
اللهم فرق شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم سلط عليهم، اللهم افضح أمرهم، اللهم أفقرهم، اللهم أذلهم، اللهم أفقرهم وأذلهم يا حي يا قيوم.
اللهم انصر إخواننا المسلمين المجاهدين في كل مكان، اللهم وفقهم لتحكيم شريعتك، والعمل بكتابك وسنة رسولك، والدعوة إلى التوحيد يا حي يا قيوم.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في الجزائر، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في الجزائر.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أريتريا، وفي كل مكان من الأرض يا حي قيوم.
اللهم ارفع ما يعانيه المسلمون من الفقر، وما يعانيه المسلمون من الذل، وما يعانيه المسلمون من الهوان، وما يعانيه المسلمون من العطش، وما يعانيه المسلمون من الجهل، وما يعانيه المسلمون من المرض.
اللهم أنزل عليهم من بركتك ورحمتك يا حي يا قيوم يا واسع المغفرة يا من خزائن كل شيء بيده، يا من إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون.
نسألك ألا ترد هذا الدعاء.
اللهم لا ترد هذا الدعاء بذنوبنا وبما كسبت أيدينا إنك على كل شيء قدير.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(273/95)
أثر الأفلام على الشباب الإسلامي
تحدث الشيخ عن الإعلام وأنه مستغل لهدم القيم الإسلامية، ثم عقد مقارنة بين بعض وسائل الإعلام وتفاوت خطرها، ثم عدد أخطارها الشخصية والاجتماعية والدينية والمادية والخلقية والصحية بوضوح، ثم عدد بعض الوسائل لمحاربتها منها التوعية والزجر القانوني، وإيجاد البديل، ثم أجاب الشيخ عن الأسئلة والمشاكل الاجتماعية التي تواجه الفرد في حياتة شخصياً واجتماعياً.(274/1)
الإعلام وكيد أعداء الإسلام
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فيا إخواني الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أيها الإخوة: إن الصراع بين الإسلام وخصومه صراع قديم، يبدأ منذ الخصومة الأولى بين آدم -عليه السلام- وبين إبليس، ولن ينتهي إلا بنهاية وجود الإسلام على ظهر الأرض، وذلك في آخر الزمان وقُبيل قيام الساعة، ولقد كان أعداء الإسلام يواجهون الإسلام في ميادين المعارك، فوجدوا أن هذه المعارك الطاحنة معارك خاسرة، قضت على شبابهم، وأفنت الأخضر واليابس منهم، فبدءوا بكيد الإسلام على الحيلة، كما يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله.
من أبرز مظاهر هذا الكيد، تلك النافذة الإعلامية المتمثلة في المسلسلات والأفلام سواء أكانت أفلاماً تُعرض بواسطة أجهزة التلفزة في العالم الإسلامي، أم كانت بواسطة ما يُسمى بالفيديو.(274/2)
الأفلام قاعدة واستثناء
حين أتحدث عن هذا الأمر، فإنني أقول بادئ ذي بدء إن لكل قاعدة استثناء، ونحن نقول: إن معظم الأفلام المعروضة في الساحة هي أفلام هابطة منحرفة تهدم ولا تبني، وتفسد ولا تصلح، وهذه القاعدة العامة لها استثناءات، فقد يوجد شيء منها يكون بناء ولكن هذا هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ويقررها.
وهذه الأفلام البناءة أفلام معدودة على الأصابع؛ إما أن تكون أفلاماً علمية بحتة، وإما أن تكون أفلاماً تتحدث عن أوضاع معينة، وتربط المسلمين بعضهم ببعض، وإما أن تكون أشياء إرشادية ووعظية، أو ما أشبه ذلك، ويبقى السيل الذي يكتسح الساحة الفنية في هذا المجال، هو سيل تلك الأفلام الهابطة، لكن لا بد من هذا الاحتراز، حتى لا يقول قائل إن في كلامي شيئاً من التعميم.(274/3)
ضرورة الحديث عن هذا الخطر
إنه فعلاً اختراق، اختراق لأخلاقيات هذه الأمة وقيمها ودينها، حين تتسلل هذه الأفلام إلى قعر البيوت، ويصبح من الصعب التحكم فيها أو منع الناس من مشاهدتها.
إخوتي الكرام: قد يقول قائل أو يستغرب من خوض طلاب العلم في الحديث عن مثل هذه الأمور! نحن بعيدون عن مثل هذه القضايا وهذا هو الواقع! فالمتحدث إليكم، كأي واحد منكم ربما يَندُر أن يشاهد في حياته شيئاً من هذه الأشياء، لذلك فنحن لا نعيش هذا الهمَّ كما هو في الواقع.
مع أننا لو ألقينا نظرة على المجتمع الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، لوجدنا أن هذه الأفلام ذات تأثير بليغ في صياغة أخلاقيات الشباب، وعقولهم وحياتهم وسلوكهم، ولوجدنا أن كثيراً من المظاهر والظواهر والسلبيات التي نُعاني منها في المجتمع لم تنشأ من فراغ.
ومن الصعب جداً أن نتجاهل مثل هذا الأمر الخطير المؤثر في واقعنا ومجتمعاتنا وشبابنا؛ لأن طلاب العلم والناس الصالحين بعيدون عن مثل هذه الأمور.(274/4)
الفارق بين التلفاز والفيديو
ولا شك أن الفارق بين التلفاز وبين الفيديو كبير، وإن كانا من فصيلة واحدة.
فنحن نلاحظ مثلاً: أن اهتمام المُخرِجِين واهتمام الدُور التي تقبع وراء هذه الأعداد الهائلة من الأفلام والمسلسلات بأفلام الفيديو يزيد على اهتمامها بالتلفاز، وذلك من حيث الجاذبية وشد نظر المُشاهد، واستخدام وسائل التشويق والتلوين، وغير ذلك.
ثم إننا نجد أن الفيديو يكون على رغبة المُشاهد، فهو يشاهد ما يشاء من الأفلام، يختار من هذه البضائع الكاسدة ما يوافق مزاجه وذوقه دون أن يتدخل أحد في تحديد ما يمكن أن يشاهده هذا الإنسان، وكذلك هو يشاهد هذه الأفلام في أي وقت يشاء، دون أن يتدخل أحد في تحديد الوقت الذي يشاهد من خلاله هذه المسلسلات، وهو يستمر على مشاهدة هذا الفيلم حتى ينتهي، بخلاف ما يحدث في أجهزة التلفاز فإن وقت هذه المسلسلات محدود وهي تُعرض على فترات في كل يوم أو أسبوع بحسب طبيعة المسلسل أو الفيلم، يُعرض جزء من هذا الفيلم، قد يستغرق عشر دقائق أو أكثر أو أقل، ثم ينقطع إلى الفترة اللاحقة، وبذلك يضعف ارتباط المشاهد نسبياً بما يشاهده بالتلفاز، وربما لا يتمكن من متابعة جميع الحلقات الماضية، وربما تكون ظروفه النفسية مختلفة حين يشاهد الحلقة الثانية والثالثة من هذه المسلسلات مثلاً، إضافة إلى أن الرقابة على الفيديو أصعب منها على التلفاز، وإذا كان من الممكن أن يوجد رقابة قوية على جهاز التلفاز تتحكم في المادة المعروضة، سواءً أكانت هذه المادة تمثيليات ومسرحيات، أم كانت مادة ثقافية أم كانت أي مادة أخرى فإن الأمر أصعب بالنسبة للفيديو.
فإن الرقابة على هذه الأعداد الهائلة من الأفلام التي تُمطر الساحة بها تلك الدور، أمرٌ يحتاج إلى جهود جادة ومستمرة، وفي هذا من الصعوبة ما فيه بالقياس إلى الواقع الذي نعيشه، لا بالقياس إلى الواجب الذي يجب أن يكون، إضافة إلى سهولة تداول الأشرطة والأفلام في المدارس ومن خلال اللقاءات، وغير ذلك، لهذا نجد أن كثيراً من الناس قد أصبحوا يسمرون أعينهم أمام الفيديو على هذه الأفلام، وربما يسهرون إلى ساعات متأخرة من الليل، في حين أن كثيراً منهم قد اصبحوا لا يشاهدون التلفاز إلا قليلاً أو في مجالات محددة، لقد أخذ الفيديو كثيراً من مشاهدي التلفاز.(274/5)
بث القنوات وخطره
وهذا لا يعني أن التلفاز قد انتهى دوره إلى الأبد، فإن ما نسمعه الآن -وقد أصبح حقيقة واقعة فعلاً- من أن الدول الغربية كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وسائر الدول، قد أصبحت تتنافس في مجال الأقمار الصناعية، وعبر هذه الأقمار سوف تبث إلى العالم، خاصة العالم الإسلامي أعداداً هائلة، حتى إنه خلال فترة وجيزة سوف يوجد في الفضاء ما يربو على مائة وعشرين قناة، بإمكان المشاهد في كثير من بلاد العالم الإسلامي مشاهدتها والنظر إليها.
هذا الأمر ربما يجعل الفيديو هو الآخر قد رُكن، ولم يعد له الدور الذي يؤديه الآن، وأقبل الناس على التلفاز من جديد، لكن لا لمشاهدة برامج التليفزيون في البلاد الإسلامية والعربية، ولا لسماع البرامج الثقافية المفيدة إذا وُجدت، ولا لسماع الأخبار -مثلاً- أو البرامج الدينية، وإنما لالتقاط هذا البث الذي يبث من أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا أو غيرها، وهذا خطر داهم، لا شك أنه يحتاج إلى تظافر الجهود في سبيل معالجته ووقاية المجتمعات الإسلامية من شر هذا الخطر، الذي سمته مجلة اليمامة في أحد أعدادها بالاختراق!(274/6)
أضرار أفلام الهدم
ثم إنني حين أتحدث عن خطر هذه الأفلام وضررها، لست أزعم أنني سوف أحصر هذا الخطر، فإنني إن استطعت أن أحدثكم عن عشرة أضرار، أو خمسة عشر ضرراً، فإنني أعتقد أن أضرار هذه الأفلام هي إلى المائة أو المائة والخمسين أقرب منها إلى العشرة، أو إلى الخمسة عشر!! وكما يقول الحبر ابن عباس رضي الله عنه وقد سئل عن الكبائر أسبع هي؟ فقال: [[هي إلى السبعين أو السبعمائة أقرب]] لكن ما سأذكره هو غيضُُ من فيض، وقليلٌ من كثير.
إخوتي الكرام: سوف أَعُدُّ هذه الأضرار واحداً بعد آخر؛ رغبةً في أن يكون الموضوع متكاملاً إلى حد ما، وأرجو أن تتحملوا الحديث عن مثل هذا الموضوع.
فمن أضرار مشاهدة هذه الأفلام والعكوف عليها وعندها:(274/7)
الأضرار الصحية
الضرر الرابع عشر: هي الأضرار الصحية، ولابد من الإشارة إليها، فطول المشاهدة بتسمير العينين أمام هذه الشاشة، وما فيها من ألوان وإثارة تؤثر كثيراً في العين وتضعف البصر، وقد تسبب للمشاهد العشاء الليلي، أو غيره من الأمراض، وكذلك طول الجلوس أمام هذه الشاشة، وامتداد الأعصاب مع المَشَاهد المعروضة -سواء كانت أفلام رعب أم كانت أفلاماً أخرى- يؤثر تأثيراً كبيراً في أعصاب الإنسان، وفي قدرته على التحمل وفي قوة جسمة، وكذلك مشاهدة هذه الأفلام تدعو الإنسان إلى السهر الكثير كثير من مُشاهديها لا يبدءون بمشاهدتها إلا بعد الحادية عشرة، وربما يستمر الواحد منهم ساعات، وهو يشاهد هذه الأفلام، فيُصاب بالسهر، والسهر له آثار سيئة على جسم الإنسان وصحته، كما هو معروف، هذه بعض الأضرار الصحيحة المباشرة.
أما الأضرار غير المباشرة، فهي التي تتم عن طريق المتعة الحرام، عن طريق السفر إلى بلاد الإباحية وما قد يقع للإنسان من أمراض جنسية، عن طريق الوقوع في المخدرات وأضرارها الصحية المعروفة.(274/8)
الأضرار المادية
أخيراً فثمة أضرار مادية كبيرة على الفرد والمجتمع من مثل مشاهدة هذه الأفلام، أما على الفرد، فتجد الفرد مشتركاً في محل، وقد يكلفه هذا الاشتراك ثلاثة آلاف وأربعة آلاف ريال سنوياً، وتجد هذا الإنسان يشتري كثيراً من الأفلام بمبالغ كبيرة، إضافة إلى شراء الأجهزة، التي تتطور يوماً بعد يوم، وتشاهد في وسائل الإعلام إعلانات متكررة عن أجهزة جديدة تشُد أنظار الناس، فتجد الإنسان ينتقل من نظام إلى نظامين إلى ثلاثة أنظمة وهكذا يظل الإنسان يُتعب جيبه وراء هذه الأشياء، أما الضرر العام -ضرر المجتمع- فمن خلال المبالغ الطائلة التي تدفع لإنتاج هذه الأفلام، وشراء امتيازها وغير ذلك.
هذا غيض من فيض، من الأضرار العقائدية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والفردية والاجتماعية.
وبناءً على هذه الأضرار، أدعو كل واحد منكم إلى أن يفكر فيها جدياً، وينظر في مدى تحقق هذه الأشياء ووقوعها، فإذا اقتنع بذلك، فإن علينا أن ننتقل إلى خطوة أخرى، وهي أن يكون كل فرد منا حرباً على هذه الأفلام بكل وسيلة.(274/9)
الأضرار الاجتماعية
الضرر الثالث عشر: يتمثل في الأضرار الاجتماعية، كانفصام الروابط بين أفراد المجتمع والأسرة، والعقوق الاجتماعي وقطيعة الرحم، وزرع العداوات بين أفرد الأسرة الواحدة؛ فالأب يصور على أنه عدو لأولاده، والرجل يصور على أنه عدو للمرأة، والأولاد أيضاً يصورون على أنهم أعداء يتربصون الدوائر بآبائهم! ولا غرابة فهي تصور مجتمعات قد يكون واقعها قريباً من ذلك، ومثل ذلك ما يقع من تشويه مسألة تعدد الزوجات من خلال الأفلام والمسلسلات، فقد حدثني أفراد يتابعون هذه المسلسلات، أنه لا يكاد يعرض فيلم فيه قضية تعدد الزوجات، إلا وينتهي الفيلم بالفشل الذريع، والتهكم بهذا الإنسان الذي عدد، ومآل زواجه إلى الفشل ومشاكل اجتماعية واقتصادية، وهروب وإلى آخره! لماذا؟ لأنه تزوج اثنتين، لكن بالمقابل كل هذه الأفلام لا تُمانع في أن يقيم هذا الإنسان عشرات أو مئات العلاقات مع الحبيبات والعشيقات والخليلات، وهذا من الانتكاس الخطير، وهو يذكرني بطرفة رواها الشيخ عبد الحليم محمود -رحمه الله- شيخ الأزهر السابق، يقول: إنه في إحدى البلاد الإسلامية التي يمنع فيها تعدد الزوجات، تزوج رجل بامرأتين، ووضع كل واحدة منهما في منزل، فثارت خصومة بينه وبين أحد أصدقائه، فتوعده هذا الصديق بأنه سوف يرفع أمره إلى الجهات القضائية، وإلى الجهات المختصة، ويكشف هذه الجريمة "أقولها جريمة في نظرهم" التي ارتكبها هذا الإنسان، وهو أنه تزوج اثنتين، وفعلاً نفذ هذا الصديق القديم ما هدد به، وبلغ الجهات المختصة أن فلاناً عنده زوجتان، فثارت ثائرة هذه الجهات، وأجلبت بخيلها ورجلها، وصارت ترصد حركات هذا الإنسان وأنفاسه بصورة دقيقة، حتى قبض عليه فعلاً متلبساً بجرم مشهود، حيث كان يتردد على هذا البيت وذاك البيت، وأحضر وأجريت التحقيقات معه، ولكن كان الرجل ذكياً، فلما حققوا معه قال لهم: أنتم تعجلتم وأخذتموني بما لم أفعل، المرأة الأخرى ليست زوجة لي، وإنما هي عشيقة وصديقة، أتردد عليها لمجرد الصداقة! فقالوا له: فعلاً نحن أخطأنا وتعجلنا، وكان يجب أن نتأكد قبل أن نستدعيك، وقدموا له اعتذراً عما فعلو وأطلقوا سراحه!!!!(274/10)
التهيئة لانتشار المخدرات
الضرر الثاني عشر: وهو خطر ملموس في واقعنا القريب، وهو أن هذه الأفلام فرصة لانتشار المخدرات بين الشباب، وقد كثر الجدل حول علاقة المسلسلات والأفلام المعروضة بانتشار المخدرات في البلاد الإسلامية، ولكن الرأي الذي يكاد أن يتفق عليه معظم الباحثين، هو أن وسائل الإعلام تساعد على انتشار الميول الإجرامية للأشخاص الذين توجد لديهم استعدادات لهذه الميول، وليس كل من شاهد، معناه أن يتحول إلى مدمن مخدرات، وليست وسائل الإعلام بريئة أيضاً، بل هي في موقع وسط، فهي تساعد أصحاب الميول الإجرامية على تعاطي المخدرات وترويجها وتهريبها.
وهناك عدة وسائل لتضليل المشاهدين وإغرائهم بالمخدرات، من هذه الوسائل: أن يعرض الفيلم تعاطي المخدرات على أنه وسيلة للإثارة الغريزية، فكثيراً ما ينخدع الناس بدعوى أن تعاطي المخدرات يقوي وينشط الإنسان ويحرك الغريزة لديه، فيتعاطاها الإنسان لهذا الغرض بسبب التضليل الإعلامي، وقد يكون التضليل عن طريق أن تُعرض هذه المخدرات بصورة توحي للمشاهد بأنها مقبولة اجتماعياً، وليس هناك ما يدعو إلى الحذر منها.
وفي إحصائية في مصر تبين أن أكثر من (60%) من مدمني الحشيش يعتقدون أنه ليس بمحرم ولا مكروه أيضاً!! وهذه نسبة كبيرة جداً، ولا شك أن هؤلاء ضحايا لوسائل كثيرة: إحداها وسائل الإعلام التي قد تُصور لهم الحشاشين على أنهم مقبولون اجتماعياً، وأنهم لم يفعلوا ما يُخالف القيم والأخلاقيات التي يقوم عليها المجتمع.
ومن الوسائل التي تغري مشاهد الأفلام بتعاطي المخدرات: أن التحذير من المخدرات قد يُعرض بصورة مغرية، فقد يُعرض فيلم -مثلاً- لتحذير الشباب من تعاطي المخدرات، لكن هذا الفيلم يعرض من خلاله كيفية صناعة هذه المخدرات! كيفية تهريبها! فمن باب الفضول وحب الاستطلاع وحب المغامرة التي توجد عند بعض الشباب، قد يجرب الشاب نفسه في هذا الميدان، فيقع ضحية المخدرات، وضحية الأفلام قبل ذلك.
إن أفلام المغامرات شجعت الكثيرين على الاستمرار في تهريب الحشيش، وإن (32%) من أفراد أُجريت عليهم دراسة، يؤكدون أنهم يقلدون بعض المشاهد التي يشاهدونها في الأفلام في تعاطيهم المخدرات!! أي: قرابة الثلث من مجرمي المخدرات هم ضحايا الأفلام!! وبذلك نعلم أن الحرب على المخدرات يجب أن يصاحبها حرب على الأفلام المنحطة الفاسدة التي تُغري الشباب بالانحراف.
وفي دراسة لأحدهم في لبنان، وافق واحد وأربعون بالمائة (41%) على أن التلفزيون يؤدي إلى انتشار الجريمة!! وفي القاهرة تم ضبط أفراد من إحدى البلاد العربية، وبحوزتهم مخدرات يريدون أن يروجوها، وبالتحقيق معهم تبين أنهم قد شاهدوا فيلماً مشهوراً وهو فيلم "الباطنية" وأن لقطات هذا الفيلم جذبتهم، ودعتهم إلى تقليدها في تهريب المخدرات وترويجها.(274/11)
خلخلة ارتباط الفرد بمجتمعه
الضرر الحادي عشر: هو خلخلة ارتباط الفرد بمجتمعه وربطه عاطفياً بمجتمعات أخرى يشاهدها، فهو يشاهد ما يسمونه بالحرية، سواء أكانت حرية -فيما يزعمون- سياسية أم غيرها.
يقول عبد الله بن خميس وهو يتحدث عن الحرية في الشعر: حُريةً زعموها واسْمُها لغةً فوضى وسِيَّانَ جاءوا الحقَ أم جَاروا فهي في الحقيقة فوضى وليست حرية، لكن هكذا يتصور كثير من الشباب المخدوعين بمثل تلك المجتمعات.(274/12)
صرف الشباب عن التحصيل العلمي المثمر
الضرر العاشر: فهو صرف الشباب عن التحصيل العلمي المثمر، سواءٌُ أكان الاهتمام بالتحصيل العلمي في المجال الشرعي الذي تحتاجه الأمة أكثر مما تحتاج إلى الطعام والشراب والهواء الذي تتنفسه، أم كان الاهتمام بالتحصيل العلمي في المجالات الحيوية التي يحتاجها المسلمون في مجال الطب، وفي مجال الهندسة، وفي مجال العلوم الطبيعية وغيرها من العلوم؛ فالأمة الإسلامية محتاجة إلى كل ذلك، والشاب المشغول بهذه الأمور؛ أعني: المشغول بالمسلسلات ومتابعتها والأفلام، لا يمكن أن يشتغل بالتحصيل العلمي الجاد.
وأضرب لذلك مثلاً: لو أنك أعطيت هذا الشاب قصة غرامية، أو قصة بوليسية، من هذه الروايات التي تُغرق المكتبات، بل الدكاكين في كثير من الأحيان! قصةً ليس فيها إلا الإثارة والمتعة، وربما الجنس! فإن هذا الشاب سيجد نفسه ليس بحاجة إلى قراءة هذه القصة؛ لأن قراءة القصة يكلفه النظر لهذه القصة، ويكلفه حملها باليد، وأن يكون على جِلسة معينة، وهو ليس على استعداد لذلك كله، لسببٍ هو: أنه سيجد هذه القصة وما هو أكثر منها إثارة وجاذبية ومتعة معروضة أمامه في الشاشة، بصوت وصورة وتلوين! فيشاهد القصة نفسها على الشاشة، وهو متكئ على كنب، وإن كان يدخن فسيدخن بدون أية كلفة أو تعب، فأي شيء إذن يدعوه لقراءة هذه القصة مع ما فيها من المتعة والجاذبية والإغراء؛ "أعني الإغراء المنحرف".
إذاً كيف سيقرأ هذا الشاب كتاباً شرعياً؟! كيف سيقرأ كتاباً علمياً جافاً جاداً ليس فيه من الجاذبية إنما فيه من العلم الذي يخاطب الاستطلاع عند الإنسان؟! لاشك أن الشاب سيجد نفسه مصروفاً عن ذلك كله.(274/13)
تربية النشء على الاستهتار
الضرر التاسع: هو تربية النشء على الاستهتار بالحياة وعدم الجدية لمواجهة تحدياتها الفردية والجماعية، فأنت تجد من يدمن مشاهدة هذه الأشياء يفر من مشكلاته والصعوبات التي تواجهه في نفسه إلى مشاهدة هذه المشاهد، وإذا كان لا يستطيع أن يُواجه المشاكل الشخصية له، فكيف يواجه المشكلات التي يواجهها المجتمع، أو التي تواجهها الأمة؟! كيف يستطيع أن يفكر في التحديات الحضارية والعلمية والاقتصادية التي تواجهها الأمة الإسلامية بأكملها؟! لا شك، أن من عجز عن مواجهة مشكلاته الشخصية، هو عن مواجهة مشكلات الأمة أعجز وأعجز.
وبذلك تُصبح هذه الأفلام نهراً يصُبُّ في بحرٍ كبير، ويلتقي مع روافد كثيرة سخرت لمسخ اهتمامات الشباب وتحويلهم إلى شباب هامشيين، لا هم لهم إلا اللعب، واللهو، والمشاهدات الرديئة، والمجالس الضائعة، والكرة! وبصفة عامة لا هم لهم إلا الاشتغال بسفاسف الأمور!(274/14)
التشبه بالمشركين في أقوالهم وأفعالهم
الضرر الثامن: أن هذه الأفلام هي قناةُُ خطيرة للتشبه بالمشركين والفجار في أقوالهم وأعمالهم، وكثيراً ما نجد من يقلد حركات المغنين والممثلين أو أصواتهم، أو يردد كلمات رُبما لا يفهم معناها، وأكثر من ذلك من يقتني صور الممثل الفلاني أو الممثلة الفلانية في جميع المناسبات، ويحتفظ بها في ألبوم! ويعتبرها من مقتنياته النفيسة التي يفاخر بها! وقد لوحظ أن هناك فئة ليست بالقليلة في الخليج -كما ذكرت بعض الإحصائيات والدراسات- تقوم بتقليد المغني المسمى " بوب مارلي " أو " مايكل جاكسون " أو غيرهم، في حركاتهم وأقوالهم وغير ذلك.
وما أكثر ما تشيع بين الفتيات مثلاً تسريحة معينة، أو زي معين، بسبب أن المغنية الفلانية أو الممثلة الفلانية ظهرت بهذا الزي، أو بهذه التسريحة! وهذا يجعل المجتمعات الإسلامية سوقاً حرة مفتوحة الأبواب على مصاريعها، لكل ما يأتي من تلك البلاد من عادات وتقاليد وتسريحات وتقليعات، وأزياء وأخلاقيات وغيرها، وكأن هذا المجتمع بلا أخلاق، بلا دين، بَلْ وَبِلا عادات! أيها الإخوة: أية مقاومة تلك المقاومة التي يمكن أن توجد في نفسية الشاب أو الفتاة حين يثور الصراع بين أمرين: -وأرجو أن ننتبه لذلك- الصراع بين تعليمات وتوجيهات إسلامية، تلقاها بصورة عادية من خلال المدرسة، أو من خلال البيت، بدون عناية، وبدون تشويق، وبدون استخدام للوسائل الجذابة المثيرة، وبصورة هي تقليدية في كثير من الأحيان، بل وبصورة ضعيفة؛ لأن الذي يوجهه هو الآخر يحتاج إلى من يوجهه إذ يثور الصراع بين هذه الموروثات والآثار الإسلامية من جهة، وبين هذا التيار الهائل من الأخلاق والعادات والتقاليد التي اكتسحته من خلال الأفلام المثيرة الموجهة والمؤثرة والمغرية من جهة أخرى؟! لاشك أن الحرب بهذه الصورة تنتهي غالباً بانتصار هذه التقاليد التي أتت من الغرب، لكن لا شك أن الإيمان يثور في النفوس، والدعوة باقية وقائمة، ولست بهذا أقول إن الشر يتغلب على الخير، كلاَّ! لكنني أعرض الصورة الواقعة، التي يمكن أن يتصورها كل واحد منا.(274/15)
انتشار الرذيلة
الضرر السابع: هو خطر انتشار الرذيلة في البلاد المسلمة عن طريق هؤلاء الذين يبحثون عن المتعة الحرام، أو السفر إلى البلاد الكافرة، والبحث عن المتعة الحرام هناك، ولا شك أنكم جميعاً تسمعون أو تقرؤون ما تنشره الصحف والتحقيقات، عن أوضاع كثير من الشباب هناك، بما فيهم الشباب من الدول الخليجية وغيرها، وبعضهم في أعمار الزهور، في عمر الخامسة عشرة أو أكبر من ذلك بقليل، وبالمقابل قد تجد منهم من بلغ من الكبر عتيا، ورُد إلى أرذل العمر! وإنه لمن المحزن أن يحدثني أحد الشباب اللذين يترددون إلى هناك لأعمال طيبة للإغاثة وغيرها: أنه رأى رجلاً كبير السن يزيد عمره على الستين، وقد مات في بانكوك التي جاء إليها من إحدى الدول العربية المحافظة؛ إذ أصبح يحتسي كئوساً من الخمر بكثرة، ولما أصابه القيء ذهب يتقيأ في دورة المياه، فسقط هناك، ومات في هذا المكان القذر شر ميتة! -نسأل الله السلامة والعافية!(274/16)
التشبه بأديان مخالفة للإسلام
الضرر الخامس: من تأثير هذه الأفلام: هي التأثيرات والإيحاءات ذات التوجه الديني المخالف للإسلام؛ فإن كثيراً من الممثلين ومَنْ وراءهم هم إما من اليهود، وإما من النصارى، وإما من غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ولذلك تجد في كثير من هذه الأفلام -مثلاً- قضية التماثيل وعبادتها والركوع لها والحلف بها، وقضية الصلب وتعليق الصلبان والكنائس، إلى غير ذلك، وإذا كنا نجد أن كثيراً من الشباب؛ حتى الذين تربوا في بيئات التوحيد والإيمان إذا ذهبوا إلى البلاد المنحرفة، كما حدثني بعضهم، ممن تاب الله عليهم؛ فإنهم يجارون أهل تلك البلاد في عاداتهم، فلا تستغرب أن تجد شاباً تعرفه يدخل الحانات وقد علق الصليب في رقبته، أو علق تمثالاً أو غيره أو حلف به أو ركع له، وقد حدثنا شهود عيان بذلك كله!! والذين يشاهدون مثل هذه المشاهد عبر الشاشة يتلقون تمهيداً قوياً لتقبل مثل هذه الأشياء والخضوع لها؛ ولذلك تجد تأثيراتها على مُشاهديها في أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم.(274/17)
تفجير كوامن الشهوة في الإنسان
الضرر السادس: هو تفجير كوامن الشهوة في النفس الإنسانية، وما من إنسان إلا وركبت فيه الغريزة، فهو حين ينظر إلى الأجساد العارية، ينظر إلى الرقص، والاختلاط، والحركات الخليعة، يسمع عبارات الحب والغرام والتأوهات، بل ما هو أشد وأبعد من ذلك، تثور الغريزة في نفسه، وتبلغ قمتها وأوجها، وحينئذٍ فهذه الغريزة لا بد لها من إشباع، ولنتصور كيف يشبع الشاب هذه الغريزة التي ثارت من خلال هذه المشاهد!!! بطبيعة الحال إذا كان إنساناً عنده دين وورع وخوف من الله عز وجل، فسيعود إلى الله تعالى، ويحاول أن يُشبع غريزته بالطريقة الحلال، لكن الغالب أن الإشباع يتم بإحدى الطريقتين:- الأولى: إما بأن يبحث الإنسان عن الإشباع المحرم من خلال البيئة التي يعيشها، وبذلك تكون هذه الأفلام صنعت منه إنساناً مجرماً يبحث عن الجريمة حيث كانت، وقد يُكلفه البحث عن الإشباع المحرم الكثير!! وبذلك يكون انضم إلى قافلة الشباب المنحرفين المجرمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
الثانية: وسيلة الإشباع عن طريق السفر إلى البلاد الإباحية والتمتع باللذات المحرمة هناك حيث الجنس والمخدرات والإيدز والضياع، بل وحيث عشش الجواسيس الذين يصطادون الشباب المسلم، ويجندونه لخدمة أعداء الإسلام.(274/18)
زعزعة الثقة بالعقيدة الإسلامية
الضرر الأول: زعزعة ثقة الشاب في عقيدته، فإنه حين يرى مجتمعاً مُتفسخاً يتمتع بألوان اللذائذ المادية، يبدأ الشاب يفكر جدياً في مصداقية تلك القيود التي تمنعه من مشاركة هؤلاء القوم فيما هم فيه، وحينئذ يبدأ الشاب يفكر بعاطفته لا بعقله، إن الشاب الذي يعيش في مجتمع محافظ إلى حد ما، ويمنعه واقعه في هذا المجتمع، وما تلقاه من توجيهات وإرشادات يمنعه من ممارسة كثير من الانحرافات الأخلاقية، يرى عبر الشاشة ما يخالف ذلك، فحينئذ يدرك أنه قد ضحى (أو هكذا يتصور له) أنه قد ضحى بشيء كبير ومهم بالنسبة له؛ من أجل التمسك بهذه القيم والأخلاق.
فيبدأ يفكر هل فعلاً هذه القيم والأخلاق حقيقية، وتستحق أن يضحي من أجلها بشهواته وغرائزه وعواطفه؟ وهذا قد يقود الشاب إلى مهاوي الشكوك والوساوس والتردد.
وبذلك قد توجد لنا مثل هذه المشاهدات أنواعاً من الشباب، فقد تُوجد لنا شاباً ملحداً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر! وما أسهل أن تفترس الشيوعية مثل هذا الشاب! لذلك نجد فعلاً أن الشيوعيين يستخدمون الإثارة والفساد الخلقي كمصيدة يقتنصون من خلالها الشباب في كثير من البلاد، وذلك أن الشاب إذا وقع في مهاوي الرذيلة سهُل اقتناصه، فإن لم يصل الشاب إلى أن يكون شيوعياً ملحداً، فقد يتحول إلى إنسان متردد في دينه، إن فعل ما يفعل من الأوامر الدينية، فصلى أو صام أو حج، فإنه يفعل ذلك بنفسية المتردد الذي يقول كما كان أبو العلاء المعري يقول: قال المنجمُ والطبيبُ كِلاهُما لا يُبعثُ الثقلان، قُلتُ: إليكُمَا إن صَحَّ قولُكما فلستُ بخاسرٍ أو صَحَّ قولي فالخسار عليكُما فربُما يفعل ما يفعل، لا بروح المؤمن الذي ينتظر الجزاء من الله عز وجل لكن بروح الإنسان الذي نشأ على أشياء، وتربى عليها، وصعُب عليه أن يتخلص منها، وهو يقول: يمكن أن يكون الأمر صحيحاً! وبناءً على ذلك قد يُمارس بعض هذه الأشياء أو يؤديها بهذه الروح الخاوية.
وعلى كل حال فهو سيواجه الدين والشريعة بتبلد إحساس وموت ضمير، وكأنه رأى الناس يفعلون شيئاً ففعل مثل فعلهم.
هذه سلبيةٌُ كبيرة، وقد يترتب على هذه السلبية سلبية أخرى، وهي أن الإنسان يفقد الغَيرة على الدين، الغيرة على العرض، الغيرة على الأخلاق، لكثرة مشاهدة ما يخالف ذلك وينافيه، وكيف لا يحدث ذلك؟! والشاب يعيش مُعظم وقته مُسمَّر العينين في مثل هذه المشاهد المنحرفة، التي تُخاطب الإنسان بأحط ما فيه؟ تخاطب غرائزه في الأعم الأغلب منها، وكيف لا يحصُل ذلك ومعظم هذه الأفلام قد جاءتنا من بلاد العالم الآخر، العالم الإباحي، من هوليود وغيرها من مراكز صناعة وتوزيع ونشر هذه الأفلام، التي يُعشش فيها اليهود ويبيضون هناك ويفرخون، وبناءً عليه لا نستغرب حين نسمع قول القائل: اليهود وراء كل جريمة!، وإن كان في هذا القول من المبالغة ما فيه.
كيف لا يفقد الشاب الغيرة على الدين، والغيرة على العرض، والغيرة على الخلق، وقد أصبح يعيش مُعظم وقته مع أولئك الإفرنج الذين عُرفوا منذ القرون القديمة، بأنهم شعوبٌ إباحية؟! ولعلكم تسمعون كثيراً من الأمهات في مجتمعاتنا، إذا دعت على طفلها، خاصةً إذا حدث منه عدم التزام بما يعودونه عليه من الأمور التي يريدونه أن يعتادها فيما يتعلق بالتبول، فكثيراً ما تدعو الأم على طفلها بالإفرنج! وما الإفرنج إلا مرض الزُهري، الذي ينتشر عند الإفرنج بسبب الإباحية الجنسية المتفشية عندهم منذ زمنٍ بعيد.
وقد أصبح هذا الأمر خبراً، بعد أن تروع العالم على واقع الأخبار والإحصائيات التي تتحدث عن غول العصر! وهو "الهربس" و"الإيدز" مرض فقدان المناعة، الذي أصبحت ضحاياه تُعد بالملايين في كثير من تلك البلاد، وأصبح خطراً داهماً يهدد تلك المجتمعات.
أقول: كيف لا يفقد الشاب غيرته على دينه وعرضه وأخلاقه، وهو يقضي معظم وقته في مشاهدة أفلامٍ ومسلسلات صادرة عن تلك المجتمعات؟!(274/19)
زعزعة الثقة بأخلاق الإسلام
الضرر الثاني: وهو زعزعة ثقة المُشاهد بأخلاقيات الإسلام، إذ يستملح حركات القوم وعاداتهم وأعمالهم ولغتهم، ويستهجنُ ما عداها، ولذلك نجد أنه جاء عن السلف، التحذير من تعلم رطانة الأعاجم مثلاً، أو الدخول عليهم في أعيادهم، فإن السخطة تنزل عليهم! إنَّ تَعلُّم لغة أولئك القوم بغير غرض، بل بقصد تقليدهم، يخفي نفسية مهزومة، تُخفي نفسية الإنسان الذي يعتقد أن كل ما عند الأعداء حسن وجيد وجميل، وأن كل ما عنده هو رديء ومتأخر ومتخلف، لذلك عقد الإمام العلامة ابن خلدون في مقدمته فصلاً في اقتداء المغلوب بالغالب.
إن الإنسان الذي يُكثر من مشاهدة هؤلاء القوم يستملح حركاتهم ويستعذبها حتى تصبح جميلة في عينه! وبناءً على ذلك يفقد الثقة بِأخلاق المسلمين وعاداتهم ولغتهم، ويصبح مربوطاً شعورياً وعاطفياً بأولئك الأقوام.(274/20)
نشوء قيم ومفاهيم مخالفة للإسلام
الضرر الثالث: فإنه نتيجة لذلك ينشأ عند المشاهد قيم جديدة، ومفاهيم جديدة، وأخلاق جديدة، فيبدأ يتساءل: لماذا لا تخرج المرأة في مجتمعنا من بيتها؟! لماذا لا تمشي المرأة سافرة؟! لماذا لا تختلط المرأة بالرجل؟! لماذا هذه الحواجز القوية بين الجنسين؟! لماذا يظل الدين هو المُهيمن على حياتنا؟! وتبدأ مثل هذه التساؤلات تثور في نفسية الشاب! لماذا؟! لأنه غُرس في قلبه، وزرع في قلبه قيم جديدة، ومفاهيم جديدة، وبطبيعة الحال هذا الإنسان الذي تربى على هذه المفاهيم، هو فرد في المجتمع، وهو في الغد مدرس أو موظف أو مُقنن يسن التنظيمات والتشريعات، وهو أب، ومسئول، ومن خلال ممارسته لهذه الأعمال الكثيرة في المجتمع سوف يبدأ يُطبق وينفذ تلك القيم والأخلاقيات التي اقتنع بها وآمن بها من خلال مشاهداته الكثيرة، وفي هذا من الخطورة ما فيه(274/21)
إقرار الرذيلة كأمر واقع
الضرر الرابع: فلنتصور أن أعداداً كبيرة من المجتمع آمنت بهذه القيم الجديدة والأخلاقيات الجديدة والمعايير الجديدة التي تلقتها من خلال الشاشة، فإننا سنجد بعد فترة أن المجتمع تحول إلى مجموعة من هؤلاء الأفراد، فكثُرت المخالفات والتجاوزات والانحرافات، وحينئذٍ كيف سيكون المجتمع؟! ولأضرب لذلك مثلاً: حين يكون المجتمع مجتمعاً محافظاً ملتزماً بالإسلام، فتخرج امرأة واحدة سافرة الوجه في الشارع وهي من أهل البلد، تجد أن الناس يسلخونها ويزلقونها بأبصارهم، وكل إنسان ينظر إليها، فالإنسان المتدين ينظر إليها شزراً واحتقاراً واستنكاراً، لظهورها بهذا المظهر المخالف لتعاليم المجتمع ولما يُمليه الإسلام، والإنسان المنحرف ينظر إليها بأية نفسية، قد ينظر إليها بنفسية المُعجب، وقد ينظر إليها بنفسية الإنسان الذي يشاهد شيئاً غريباً في المجتمع، فَيَنْشَدُّ إليه، المهم أن الأبصار تزلقها، فسرعان ما تُحس هذه المرأة بأنها بحاجة إلى أن تختفي عن الأنظار وتنزوي، ولا تعود إلى ما فعلت مرة أخرى، لكن حين تكثر هذه الظاهرة، وتخرج امرأة واثنتان وثلاث وأربع وعشر، فتصبح هذه الظاهرة عاديَّة، حينئذٍ سوف يشعر كثير من أفراد المجتمع بأنهم أمام ظاهرة يصعب مقاومتها، ويصبح هذا الوضع لا يسترعي الانتباه، ولا يشدُ نظر أحد، بل هو طوفان مكتسح، يعتقد الكثيرون أنه لا مرد له، وما الذي يحدث بعد ذلك؟ الذي يحدث هو أن يشعر الجميع أنهم -وهنا مكمن الخطر أيها الإخوة- بحاجة إلى سن أنظمة وقوانين وتشريعات جديدة تتلاءم مع هذا الواقع الجديد، وهكذا يتطور الأمر، من كونه خطأ يشعر الجميع بأنه خطأ إلى كونه أمراً واقعاً وبدأنا نلتمس المسوغات والمبررات لوجوده وعدم مقاومته.
ولا تستغربوا -أيها الإخوة- هذا الأمر، فإن النفوس قد تألف ما هو أشد وأعنف من ذلك.
أيها الإخوة أرأيتم لو حدثتكم أن في بلاد العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، في كثير من البلاد المجاورة حانات يُباع فيها الخمر علناً، وتُحمى بقوة القانون والسلطة، وموقف الكثيرين ممن لا يعرفون هذا الأمر لا شك سيكون موقفهم موقف الاستغراب والاندهاش!! كيف؟! أمة مسلمة تحمي أم الخبائث بقوة القانون!! ويزداد اندهاش الإنسان إذا حُدث أن في تلك البلاد الإسلامية، التي تُعلن أن دينها الإسلام؛ ودستورها القرآن، وغالبية أهلها -إن لم يكن كلهم- من المسلمين، مواخير وبيوتاً للدعارة والبغاء، توضع عليها اللافتات، وتخضع للرقابة الصحية، وتنظمها الجهات المسئولة! لا شك أن الجميع سيقولون: إن هذا ضربٌ من الخيال، وإنه لا يوجد حتى في بلاد الكفر! فكيف يوجد في بلاد الإسلام؟! نعم؛ لأن هذا الأمر غريب ولم يوجد؛ أصبحت النفوس تتقزز منه، وتشمئز حين تسمعه.
لكن أسألكم مرةً أخرى: ما موقفنا حين نسمع أن في بلاد العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه بيوتاً تحارب الله عز وجل، وتتعامل بالمعاملات الربوية المحرمة التي هي أشد من الزنا، وأشد من شرب الخمر؟؟ وكيف لا تكون أشد، والله عز وجل يقول: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] لكن هذا الأمر، لم يعد يلفت نظر أحد! لماذا؟! لأنه أصبح أمراً واقعاً، بل تحولت القضية إلى مسار آخر، تحولت القضية إلى أن أصبحنا نبحث عن فتاوى ومسوغات، وكلام لبعض أهل العلم، أو كلام لبعض أهل الجهل أيضاً، فالمهم شيء يبيح لنا أن نتعامل بهذه المعاملات الربوية.
ولذلك أصبح يوجد بين المسلمين اليوم من يكتبون النشرات، ويلقون المحاضرات، ويأخذون كلام أهل العلم، ككلام ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، وفلان وفلان ويحاولون أن يجيروه ويوظفوه، للهدف الذي يسعون إليه، وهو محاولة إباحة الفوائد الربوية، مع أن خلاصة الكلام في مسألة هذه الفوائد، أنها محرمة بإجماع الفقهاء، وقد ورد فيها عشرات الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها، فليس فيها مجال للكلام والأخذ والرد، وفارق كبير بين إنسان يأخذ الربا ويقول: أستغفر الله، وبين إنسان يأخذ الربا ويقول: هذا حلال، أحل من الماء البارد! فرقٌ وأيُّ فرق بين هذين!! ولذلك قال الله عز وجل {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] قال أهل العلم من عاد يعني: إلى استباحة الربا وإلى القول بأن البيع مثل الربا، فأولئك أصحاب النارِ هم فيها خالدون.
لكن لماذا بدأنا نبحث عن المسوغات؟؟ لأن الربا أصبح أمراً واقعاً في حياة الأمة الإسلامية؛ لأسباب كثيرة جداً ليس هذا مجال بسطها، فتحول كثير من المهزومين فكرياً إلى البحث عن مسوغات.
وهكذا الشأن فيما يتعلق بموضوع هذه الأخلاقيات والقيم الجديدة التي بثتها هذه الأفلام، تتحول من كونها أخطاءً نستغفر الله منها إلى كونها واقعاً نلتمس له المسوغات والمبررات، ولذلك ستجد من يُنادي (باسم الإسلام!) بإباحية الاختلاط، وستجد من ينادي (باسم الإسلام!) بإباحية السفور والتبرج، بل ستجد من ينادي باسم الإسلام! ويقول: إن قضية اللباس قضية عُرفية تخضع لعادات المجتمعات، فإذا تعارفت المجتمعات على لباس مُعين، وأصبح مألوفاً، فلا شيء فيه، وإذا قال إنسان مثل هذا القول، حتى ولو كان أُمياً، لا يفك الحرف -كما يقولون-، فإن كثيراً ممن يصطادون في الماء العكر، يَفرحون بهذه الفتوى، ويحولون هذا الإنسان إلى عالم جليل، حر الفكر، مجدد!! يضفون عليه من الهالات ما يجعل الناس يتقبلون كلامه، ولذلك تكون مثل هذه الفتاوى أيضاً فرصة لمن يحبون الظهور بأقرب وسيلة وبأقرب طريقة.
يكفيك أن تصدر كلاماً أو مقالاً حول قضية من هذه القضايا المقررة في المجتمع فتنكرها، وتقرر شيئاً مخالفاً للأصول فيها، حتى يفرح بذلك الكثير من المهزومين، ويصفقوا لك وينشروا اسمك بكل وسيلة.(274/22)
وسائل علاج انتشار الأفلام
أيها الإخوة أُحب أن أختم حديثي إليكم بالإشارة العابرة إلى العلاج الذي يمكن أن تواجه به الأمة المسلمة هذا الخطر الداهم، سواء خطر الأفلام أم خطر البث من خلال القنوات والأقمار الصناعية، والعلاج يطول الكلام فيه، لكنني سوف أشير إشارة عابرة إلى ثلاث وسائل أعتقد أنها مهمة:(274/23)
التوعية
الوسيلة الأولى:- وهي وسيلة التوعية وضرورة قيام كل فرد منا وكل جمعية أو مؤسسة بدورها في توعية المجتمع بأضرار هذه الأشياء وخطرها، حتى يحذرها الناس، ووسائل التوعية كثيرة(274/24)
الحد منها بواسطة الدولة
الوسيلة الثانية من وسائل العلاج:-أن الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وعلى رغم أن هذه الحرب فعلاً حرب ضارية إلا أنه لا يعني أن الوسائل الرسمية في مقاومة هذا الخطر غير مجدية، كلا! فنحن نجد أن بالإمكان تحديد -مثلاً- الأجهزة التي يقتنيها الناس، وبالإمكان التحفظ على هذه الأشياء ومقاومتها بوسائل رسمية كثيرة، وإن كنت أقول وأوافق الآخرين على أن هذه الوسيلة وحدها لا تكفي.(274/25)
إيجاد البديل
الوسيلة الثالثة: وهي وسيلة مُجدية كثيراً لو نجحنا فيها فعلاً، وهي أن يقوم المسلمون أفراداً وجمعيات ومؤسسات وأجهزة رسمية في إيجاد البديل المراد، إيجاد المادة الإعلامية الناجحة التي تشُد أنظار الناس من خلال برامج ثقافية، ومن خلال عروض ومشاهد تربوية تبني الأخلاق بصورة جذابة مثيرة، تستخدم الوسائل التي استخدمها الأعداء، وتستخدم التقنية التي استخدموها في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وفي سبيل نشر الإسلام، وفي سبيل مقاومة الرذيلة، وفي سبيل تحديث الناس بالأخطار التي تهددهم، هذه الوسيلة وسيلة مهمة فعلاً؛ لأن الناس لو وجدوا مادة فيها الإثارة وفيها الفائدة والمتعة لأقبلوا عليها، لكن لا يجدون البديل، فيعكفون على هذه الأفلام المنحرفة، وهذا واجب ليس محصوراً على وسائل الإعلام وأجهزة الإعلام، بل هو منوط بكل إنسان يستطيع أن يقدم شيئاً في هذا المجال.(274/26)
الأسئلة(274/27)
العمل في بيئة فتن
السؤال
يقول إنني شاب ملتزم وأعمل في إحدى الدوائر العسكرية، ومُلزم بالعمل بالسوق التجاري، ويحصل لي مضايقات وفتن داخل السوق من ناحية النساء، وطلبت من مرجعي أن ينقلني لعمل غير السوق، فرفض ذلك عدة مرات فما الحل؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً!
الجواب
أولاً لا شك أن هذه بادرة طيبة من الأخ أن يشعر بالخطر على دينه فيعمل على التخلص من هذه الفتنة بكل وسيلة، ثم أقول: إن كان الأخ يعمل عملاً يتعلق بحماية المجتمع من الانحراف الأخلاقي، وهو يستطيع أن يُجاهد نفسه في هذا السبيل، ويتقي شر هذه الفتن، فأنصحه بالبقاء فيما هو فيه، ومقاومة هذه المفاسد والمغريات، كما لو كان يعمل -مثلاً- في محاربة الاعتداء أو التعرض للنساء أو ما أشبه ذلك، فإن وجوده وهو ذو خلق ودين وغَيرة أفضل من وجود غيره ممن لا يمتلك الأمر نفسه.
أما إن كان الأمر غير ذلك؛ فإن عليه أن يعمل ما وسعه على التخلص من هذا الأمر، فإذا وصل الحد إلى أنه لا يستطيع أن يخرج من هذا الميدان، ولا بد أن يعمل في نفس المكان، فحينئذٍ عليه أن يقارن: إن كان الخطر الذي يهدده خطراً قائماً فعلاً بحيث إنه يحس أنه قريب من الجريمة، وقد يقع فيها، فأنصحه بأن يترك هذا الأمر حتى ولو استدعى الأمر أن ينتقل من وظيفته إلى وظيفة أخرى مشابهة، فإن كان يستطيع أن يجاهد نفسه، جاهد نفسه وصبر ودعا الله عز وجل حتى يجعل الله له مما هو فيه فرجاً ومخرجاً.
وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(274/28)
تائب لكنة يظل يتذكر الأفلام الهابطة
السؤال
ما رأيكم يا فضيلة الشيخ في شاب كان يشاهد الأفلام الهابطة، ولكنه أقلع عن ذلك، ولكن لا تزال هذه الأفلام تعيش في ذاكرته، ويقوم باسترجاعها تخيلاً، فهل من طريق يسلكه لإبعاد ذلك عن مخيلته؟
الجواب
أولاً: قد يكون استرجاعه لهذه الأشياء بسبب طول عهده معها، وكثرة مشاهدته لها، وهذا يوضح لنا عواقب الإدمان على مشاهدة هذه الأفلام، من خلال صورة عملية لإنسان كان ضحية لها، ثم تاب الله عليه، فأعتقد أن الوقت -بإذن الله- كفيل بإضعاف استرجاعه لهذه المشاهد إذا استمر وتشبث وتمسك بتوبته إلى الله عز وجل.
الوسيلة الثانية: أن من الضروري أن يحرص هذا الإنسان على الإكثار من الأعمال الصالحة، فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] .(274/29)
أفلام الأطفال
السؤال
وهذا سؤال يقول إن الأفلام الكرتونية التي تعرض للأطفال مملؤة بالسموم العقائدية، فكيف الخلاص منها بالنسبة للأطفال، وما هو البديل؟
الجواب
أما كيفية الخلاص منها والبديل فإنه يوجب علينا عدة أشياء: أولاً: نرجع إلى دور الأب، والأخ الأكبر في المنزل مع الأطفال الصغار، كثير منا يهملون الصغار عند فترة الطفولة، وهي فترة مهمة جداً في فترات العمر، وكلنا يذكر أن ما حفظناه وتلقيناه في الصغر لا يزال يعيش معنا، وكما يقال: العلم في الصغر كالنقش في الحجر؛ لذلك لا بد من العناية بالأطفال الصغار، لا بد من سرد القصص لهم لتربيتهم مسابقات، رحلات ثانياً: يحصل الاستفادة من بعض الأشرطة التي توجه إلى الأطفال الصغار، فإن هناك أشرطة في الساحة، وأعني أشرطة تسجيل كاسيت -كما يقولون- موجهة للأطفال وفيها قصص وحكايات، وأناشيد وأشياء قد تكون نافعة لبعض الأطفال، ثم هناك قصص صغيرة -أيضاً- للأطفال الذين هم أكبر من ذلك بقليل في سن المدرسة الابتدائية، ممن يستطيعون القراءة، وهناك قصص كثيرة جداً في المكتبة الإسلامية للأطفال منها كتب محمد موفق سليمة وغيره يمكن الانتفاع بها.(274/30)
مشاهد المسلسلات هل تقبل صلاته؟
السؤال
فضيلة الشيخ ما رأيك في شخص يرى هذه المسلسلات وغيرها وهو يصلي، فهل نقول لهذا الشخص لا تقبل صلاتك؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وأنت لم تنهك صلاتك عن هذا، وهي متابعة الأفلام؟
الجواب
لا ينبغي أن يقال له ذلك؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، وبناءً على ذلك فليس صحيحاً أنه ليس له صلاة، ولن تقبل صلاته، لكن ينبغي أن نقول له: إن الصلاة التي تؤديها هي صورة وليست حقيقة، وإن عليك أن تُعيد النظر في صلاتك، فتحاول أن تصلي صلاة شرعية بخشوعها وخضوعها وركوعها وسجودها، وذكرها وحضور قلبك فيها، وطهارتك لها وتقدمك، حتى تؤدي هذه الصلاة أثرها في قلبك وفي حياتك، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فليس من المنطق السليم أن نخرجه من المسجد لنقول له: "لا صلاة لك لأنك تشاهد هذه الأفلام"، لا! بل الأمر السليم أن نحاول أن ندعم هذا الجانب الإيجابي، وهو محافظته على الصلاة، حتى يتغلب على الجانب السلبي في حياته ووقوعه في مثل هذا الانحراف.(274/31)
مشكلة الزواج
السؤال
فضيلة الشيخ أنا أجزم أن الزواج هو الحل الوحيد لدرء المفاسد والمغريات، ولكن إذا رفض الوالدان بزواج الشاب، وهو في سن الواحدة والعشرين، فما نصيحتك في ذلك؟
الجواب
في الحقيقة -يا إخوة- الشاب حين يشعر بأن قضية الزواج قضية حيوية ضرورية له، وأنها أساسية في حياته في مرحلة معينة، فإنه حينئذٍ يجب أن يتغلب على جميع العقبات التي تواجهه، عقبات اقتصادية، مشكلة البيت، مشكلة الوالدين، مشكلة البحث عن الزوجة، إلى آخر قائمة المشكلات التي يفترضها الكثيرون، الله عز وجل يقول: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] .
جميل جداً أن الشاب يفكر في الزواج، وهو في مثل هذا السن، أو قبل ذلك بقليل، أو بعده بقليل، ويبحث عن ذات الدين التي تُسبب عفافه وبعده عما حرم الله عز وجل وغض بصره عن المناظر المؤذية التي تواجهه في كل مكان، وإذا اقتنع الإنسان بهذا الأمر، فإن الرجل الجاد يستطيع أن يتغلب على المشكلات عن طريق التفكير فيها، وبإمكان الإنسان أن يُقنع والديه بكل وسيلة؛ فإن لم يستطع فيمكن أن يسلط عليهما من أهل العلم أو من الأقارب أو من الزملاء من يقنعهم بضرورة هذا الأمر، وأعرف كثيراً من الشباب واجهوا هذه المشكلة، وكان الأب يخيل إليه أن هذا الابن لا يزال صغيراً؛ لأنه يعرفه منذ الطفولة، فلا يُحس أنه كبر وأصبح رجلاً، فيخيل إليه أنه لا يزال صغيراً، ولذلك لا يقتنع بفكرة الزواج، لكن إذا رأى أنها ضرورة وأن الشاب ألح بها غَيّرَ رأيه.
أعرف كثيراً من الشباب واجهوا هذه المشكلة من والديهم، ثم خضع الوالدان لرغبة هذا الابن.(274/32)
تضخيم دور اليهود
السؤال
يناقش الشيخ في قوله إن مقالة "إن اليهود وراء كل جريمة" مقالة مبالغ فيها، فلماذا قال الشيخ: إن هذه الكلمة مبالغ فيها؟
الجواب
نعم، أقول: كلمة مبالغ فيها، وهذا مبني على رأي أو تصور أن المسلمين اليوم ضحايا تضليل إعلامي من جوانب عديدة، ومن التضليل الإعلامي أننا أصبحنا نضخم دور اليهود، حتى كأنهم إلهٌ على كل الأمور قدير، وهذا خطأ، أو كأنهم اخطبوط يتغلغل في كل مكان، أحياناً نتصورهم بصورة خيالية، أضرب لكم مثلاً: وهذا المثل كلنا ننساق وراءه، يقولون: إن تيودور هيرتزل المسمى بنبي الصهيونية، لما عقد المؤتمر اليهودي الأول في بازل بسويسرا، خرج من المؤتمر، فقال له الصحفيون: ماذا صنعتم في هذا المؤتمر؟ قال: صنعنا في هذا المؤتمر الكثير، ولكنني أُلخص أعمال المؤتمر في كلمة واحدة، في هذا المؤتمر قامت دولة إسرائيل، سوف تشاهدونها بعد خمس سنوات أو بعد خمسين سنة، لكنها ستقوم وفعلاً بعد خمسين سنة من المؤتمر قامت دولة إسرائيل!! إذاً هيرتزل كان يقرأ في الغيب، حين ادعى هذه الدعوة العريضة، كلا! القضية ببساطة في نظري أن اليهود أنفسهم، بعد ما قامت دولة إسرائيل، اختلقوا هذه الحكاية، حتى يُظهروا زعمائهم وعظمائهم بمظهر بطولي خارق، ويجعل الأمم الأخرى ومن يسمونهم بالأمميين مكبلين؛ لأنك حين تشعر أن عدوك قوي ومتمكن ومتغلغل وأنت ضعيف، وليس بيدك أي إمكانية تستسلم له، وهكذا وقع ذاك فتجد المسلمين يتصورون أن اليهود وراء الإعلام العالمي كله، وأن الاقتصاد العالمي كله بيد اليهود، وأن سياسة العالم كلها يديرها اليهود، وأن التعليم في العالم كله في يد اليهود، وهكذا أن العالم كله أصبح يهودياً، وهذا التصور -أقول- مبالغ فيه، فاليهود نجحوا في كثير من المجالات، فقد نجحوا في مجال الاقتصاد، وفي مجال الإعلام، ولعل من نجاح اليهود في مجال الإعلام، أن أغرقوا الساحة بكتب كثيرة، عشرات الكتب، تتحدث عن اليهود ودور اليهود، وقد قرأت بعض هذه الكتب في مقتبل عهدي بالقراءة، فأذكر أنها كانت تعرض صورة هي خيالية أذكر مثلاً كتاب حكومة العالم الخفية، أحجار على رقعة الشطرنج لـ وليام غاي كار، اليهود خلف كل جريمة، المفسدون في الأرض، فعشرات بل مئات الكتب، تبين لك أن اليهود هم خلايا سرية متغلغلة في العالم كله.
وكتاب أحجار على رقعة الشطرنج يقول: إن هناك جمعية داخل الماسونية، اسم هذه الجمعية النورانيون، وهم جمعية سرية داخل جمعية الماسونية ومتغلغلون وفيهم وفيهم إلى آخره، ويصور أن الذين يتخذون القرارات في العالم في أمريكا وروسيا وفرنسا وأنحاء العالم هم اليهود، وأن هناك أربعة أفراد أو أربعين يديرون العالم من اليهود!! وأن التوراة صنعها اليهود!! والأنظمة صنعها اليهود! والمنظمات صنعها اليهود! والعقائد الأرضية أو المذاهب الأرضية صنعها اليهود! هذا التصور مبالغ فيه، من نجاح اليهود في مجال الإعلام، أنهم بثوا حول برتوكولاتهم ومخططاتهم التي تحدثوا عنها، والبروتوكولات المشهورة قد يكون لها أصل، لكن ليس هناك أدلة عملية قطعية على أن البروتوكولات هذه، -فعلاً- من وضع حكماء اليهود، وأنهم يحاربونها ويحرقونها ويتعقبون كل من وراءها، فاليهود وصفهم الله عز وجل في القرآن الكريم، بِأنهم قوم ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، وأنهم لا قيام لهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران:112] فينبغي أن نضعهم في إطارهم الصحيح، صحيح هم الآن أقلية مسيطرة وذات نفوذ في العالم، لها نفوذ اقتصادي، لها نفوذ إعلامي، لها دولة تتحدى الدول المجاورة في تقدمها العلمي والحضاري، أو ما يسمونه بديمقراطيتها وغير ذلك، لكن مع ذلك هم أمة آيلة إلى الزوال، وسيطرتهم إلى الفناء والانهيار، ولا ينبغي أن نتعدى بهم طورهم وقدرهم.
وتعجبني في هذا المجال كلمة جميلة قالها أحد علماء المسلمين.
قال: اليهود لا يصنعون الأحداث لكنهم يستغلونها، وهذه كلمة فعلاً تُحلل لكم كثيراً من المواقع، استغلوا مثلاً الثورة الفرنسية، استغلوا أحداثاً كثيرة، لكن لا يعني أنهم هم صنعوا الثورة بأنفسهم، والكلام في النقطة هذه يطول ولعله يكون له فرصة أخرى، إن شاء الله.(274/33)
الأفلام العلمية الموجهة
السؤال
ذكرت أن الأفلام العلمية من الأفلام المستثناة، علماً أن هذه الأفلام تدعو إلى الشيوعية؟!
الجواب
ليس صحيحاً أنها مطلقاً تدعو إلى الشيوعية؛ لأن الأفلام العلمية تختلف، منها أفلام علمية بحتة، ومنها أفلام قد تكون علمية موجهة، وربما هذه التي كان يقصدها الأخ السائل.
أي أن أعداء الإسلام قد يستغلون ما يعرضونه من قضايا علمية في سبيل نشر شيء معين، لكن يبدو أننا -أحياناً- قد نبالغ في تصور مثل هذه الأمور، ومن الممكن الاستفادة من بعض هذه الأشياء بشيء من الحذر، وأما الأفلام التي يثبت فعلاً أنها أفلام موجهة وصاحبة فكرة معينة، فهذه لا شك أنه يجب الحذر منها من باب أولى.(274/34)
دور المدرس
السؤال
نحن الآن في كلية متوسطة، فأرجو توضيح دور المدرس تجاه هذا الخطر؟
الجواب
المدرس يقف على رأس القائمة في المسئولين من أفراد المجتمع لمقاومة هذا الخطر، إذا كنا نتحدث عن دور كل فردٍ منا؛ دورك في المنزل، دورك في الحي، دورك في المدرسة، دورك في المجتمع، دورك من خلال الوسائل الإعلامية الممكنة.
فالحقيقة أن كل فرد منا يجب أن يؤدي دوره، أرأيتم -مثلاً- كون الواحد منا ربما لا يدري ماذا يجري في البيت، قد يشتري جهاز تلفاز وفيديو، ويخيل إليه أن أولاده وبناته قوم صالحون، فيترك لهم الحبل على الغارب، وربما لو قام بحملة تفتيشية مفاجئة، لوجد في غُرفهم وحقائبهم ومقتنياتهم مجلات وأفلاماً خلاف ما كان يتوقع! فلماذا يكون الأب آخر من يعلم -كما يقولون-؟ يجب أن يكون للإنسان شخصية في المنزل، وليست الشخصية في المنزل مجرد المراقب "شرطي"، لا! شخصية التربية قبل ذلك، شخصية الإعداد والبناء؛ لأن الإنسان إذا تربى تربية جيدة، فهو حينئذٍ بناء قوي مسلح لا يمكن اختراقه ولا اقتحامه، إنما يقتحم الشيطان وجنوده هذه المباني الهشة الواهنة الواهية، التي ربما كانت ستسقط لو لم يخترقوها، فدورنا دور التربية، ودور الرقابة أيضاً، في المنزل، في المدرسة، في الحي، في المجتمع كله، وكذلك المشاركة في الوسائل الأخرى التي تقاوم مثل هذه الأفلام.
قد يوجد من بيننا -مثلاً- من يستطيع أن يشارك مشاركة فعالة في هذا المجال، عنده موهبة خاصة، عنده إمكانية أن يكتب نصوصاً مفيدة ليقدمها للناس، فهذا ينبغي أن يشارك في هذا المجال، فالقضية في الواقع ليست مشكلة فرد، وإنما هي مشكلة أمة، تحدي أمة وهذا هو الخطر، قد يوجد فرد يحس بالمشكلة، لكنه يصفق ويقلب كفيه ولا يستطيع أن يصنع شيئاً، فالأزمة أزمة أمة بِأكملها، وليست أزمة فرد فقط.(274/35)
العادة السرية
هذا السؤال كان بديهياً، وكُنت محتجاً على إدراجه ضمن الأسئلة، لكن الزملاء قالوا: حتى يقرأ الشيخ أفكار الحاضرين، يعرض عليه هذا السؤال ويجيب عليه.
السؤال
هل العادة السرية من ذلك؟
الجواب
ليست من الطريق الحلال؛ لأن الله عز وجل قال في الآية السابقة: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] ومعنى الآية ظاهر، أن الله عز وجل جعل وسائل الإشباع ثلاث: الأولى: الزواج، وهو مباح.
الثانية: ملك اليمين، وهو مباح أيضاً.
الثالثة: من ابتغى وراء ذلك وهو محرم، ومن فعله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] فما وراء ذلك، يدخل فيه كل طريقة لإشباع الغريزة من غير ما أحل الله عز وجل، الزنا مثلاً، والعياذ بالله العادة السرية، اللواط، وكل شيء حرمه الإسلام يدخل تحت قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:7] .(274/36)
حكم التلفاز
السؤال
ما حكم التلفاز؟ وإذا كان محرماً فكيف أقوم بإخراجه من البيت؟
الجواب
لعل الأخ سمع وقرأ في الصحف والمجلات ما يهدد البلاد الإسلامية من خطر القنوات الغربية التي تبث عبر الأقمار الصناعية، والتي تبث خصيصاً للعالم الإسلامي -وهي موجهة إلى شباب الأمة الإسلامية- وبناء عليه فإنني أسأل كل واحد يقتني هذا الجهاز قد تقول أنت الآن: إنني أتحكم في هذا الجهاز، والذي يعرض فيه هو مواد فيها فائدة، فيها برامج مفيدة، فيها برامج دينية، فيها كذا فيها كذا، لكن ما هو جوابك حين يصبح هذا الجهاز يستقبل مواداً مختلفة، تبثها لك دول العالم الفاجرة؟ ما موقفك حينئذٍ؟ لا شك أنك مكتوف الأيدي، وهذا يؤكد أن على كل إنسان أن يحرص على إخراج هذا الجهاز من بيته، أما مسألة حكم التلفاز، فالحقيقة أنني أعتقد أن السؤال يحتاج إلى إعادة صياغة؛ لأنه هل السؤال عن الآلة نفسها، أم هل هو على المادة المعروضة؟ الحقيقة أن الكلام في المادة المعروضة، فالمادة المعروضة تختلف، فإذا شاهد الإنسان مادة مباحة، مثل: أن يشاهد الأخبار، أو يشاهد برامج مفيدة، أو مواد ثقافية نافعة، فهذا لا شيء فيه وهو جائز، أما مشاهدة الأمور المحرمة وصور النساء أو سماع الأغاني أو ما أشبه ذلك، فهذا محرم بكل حال، لكن نظراً لأنه لا يمكن فصل هذا عن ذاك، فإن الرأي السليم هو أن يبتعد الإنسان عن هذا الجهاز بالكلية، ويبذل جهده جاهداً لإخراجه من منزله.(274/37)
حكم المسلسلات الإسلامية
السؤال
ما رأيكم في رؤية الأفلام والمسلسلات الإسلامية التي تُعرض على الشاشتين الصغيرة والكبيرة؟
الجواب
لعله سبقت الإجابة على هذا السؤال ضمن السؤال الذي قبله نقول: فحتى المسلسلات الإسلامية، حكمها حكم غيرها، فالمادة إذا كانت مباحة فهذا أمرٌ جائز، وإذا كانت المادة محرمة فهذا محرم.(274/38)
الطريق الحلال لإشباع الغريزة
السؤال
لقد قلت في محاضرتك، إن المسلم عندما تثور غريزته، فإنه يشبعها بالطريق الحلال ما هو طريق الحلال الذي يشبع للمسلم غريزته؟
الجواب
هذا معلوم بالضرورة، الطريق الحلال هو أحد الطريقين: الطريق الأول: هو الزواج.
الطريق الثاني: في ملك اليمين: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] صحيح لا يوجد الآن ملك اليمين ولكن ما المانع أن يوجد فيما بعد، فنحن نعلم أن الإسلام له جولة قادمة منتصرة بَشَّرَ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبر بها، وإذا قامت حرب إسلامية بين الإسلام وخصومه، فمن طبيعة هذه الحرب أن يكون لها أسرى يسترقون بسبب الكفر الذي هم فيه، وبذلك يعود الرق بصورة طبيعية، فإذا وجد هذا في أي عصر أو في أي مكان سواء كان في الماضي أم في المستقبل فهو طريق مشروع، أما ما سواهما فكما قال الله عز وجل: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] .(274/39)
حكم بيع الأفلام والمجلات المنحرفة
السؤال
ما حكم بيع الأفلام والمجلات التي تحمل صوراً فاضحة؟
الجواب
لا شك أن الله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما أننا نعلم جميعاً مثلاً أن بيع الخمر حرام لأنها حرام، فكذلك يجب أن نعلم أن بيع كل شيءٍ حرمه الله عز وجل، فهو لا يجوز، فبيع هذه الأفلام لا يجوز، والكِسب الذي يكسبه صاحب المحل من وراء هذا الكسب يأكله سحتاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أيما جسدٍ نبت على سحتٍ فالنار أولى به} .
ولذلك فإنني أنادي الإخوة المصلين الذين يترددون على المساجد، وهم في الوقت نفسه يروجون في أوساط المسلمين مجلات خليعة أو أفلاماً خليعة، أو يبيعون الدخان، أو غيره من الأشياء المحرمة إلى أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم فلا يأكلوا شيئاً حراماً، وفي أزواجهم وأولادهم فلا يطعموهم شيئاً حراماً، وهذا المال يَمْحَقُهُ الله عز وجل، ويُبارك في المال الحلال الطيب ولو كان قليلاً.(274/40)
الرد على من يقول: بيع المجلات يجلب الزبائن
السؤال
ما الرد المنطقي الوجيه على من يقول بِأن بيع المجلات أو بيع الدخان يجذب الزبائن، واستبعاد مثل هذه الأشياء يبعد الزبائن؟
الجواب
الرد هنا أن نسأل الأخ: ما المقياس الذي يجعلك تفعل شيئاً أو تتركه؟ إن كنت تعبد الله عز وجل، فهذا شيء، وإن كنت تعبد الدينار والدرهم والهوى؛ فهذا شيء آخر، فمن كان يعبد الله عز وجل فلابد أن ينصاع لأوامر الله، ولو كلفه ذلك الكثير، ولو ضحى في سبيل الله بالكثير، أليس المسلم يخرج الزكاة؟ الزكاة شيء أنت تعبت في تحصيله ومع ذلك تخرجه، وتعطيه لإنسان لم يسع في تحصيله؟! أليس المسلم يجلس وقتاً يصلي، وهذا الوقت لو استخدمه في تجارة أو غيرها لربما استفاد من خلاله مالاً؟! أليس المسلم يذهب للحج، ويتعرض لأخطار في الطريق ويبذل وقتاً قد يستفيد منه في مجال آخر؟! لماذا يفعل هذا؟! لأنه مسلم، وهذا مقياس الإسلام، فنقول كذلك، ولو فرض أن ما تقوله صحيح في أن مثل هذه الأشياء تجذب الزبائن؛ فإن هذا لا يعني أنها حلال، بل هي محرمة بكل حال.
ثم هناك أمرٌ آخر: وهو أن الزبائن الذين تجذبهم إليك هذه الأشياء، هم في الغالب أُناس أموالهم ليست طيبة، وربما يكون في أموالهم رِبَا، ولذلك تجد كثيراً ممن يتعاطون مثل هذه الأمور في خسارة، وقد سمعت أن كثيراً من أصحاب محلات الفيديو يشكون الخسارة المادية، وهذا يدُل على أن هذا المال مالُُ محقه الله عز وجل، فلا يستفيدون من ورائه شيئاً.(274/41)
وسائل التغلب على البث المنحرف
السؤال
كيف يمكن التغلب على البث عبر الأقمار الصناعية، مع أنه ليس من المقدور السيطرة أو التشويش عليها؟
الجواب
أعتقد أنني أشرت إلى هذا إشارة عابرة في نهاية الكلمة إلى أهم الوسائل في ذلك.(274/42)
حسن الخلق
حسن الخلق مما يقرب الإنسان إلى الله ويرفع درجته، ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أجل إتمام مكارم الأخلاق.
وقد بيَّن لنا بسيرته أروع الأمثلة في حسن الخلق مع الناس كلهم قريبهم وبعيدهم، مع أصحابه ومع أعدائه.
وهناك أخلاق أربعة هي أصل لما وراءها من الأخلاق الفاضلة، وهي الصبر والعفة والشجاعة والعدل.
فلا بد للمسلم وخاصة الداعية، من أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة ويطبع نفسه عليها، ويستعين على ذلك بالمجاهدة والمحاسبة.(275/1)
مكانة الأخلاق في كتب السنة
الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فحسن الخلق مما يقرب العبد من الله تعالى، ويثقل موازينه يوم القيامة، وفي هذا الدرس تقرأ أهمية حسن الخلق، ونماذج من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتقرأ كيف تتحلى بالأخلاق الفاضلة.(275/2)
موضوع الأدب في كتب السنة
أيها الإخوة! إن موضوع الأخلاق في الإسلام موضوع يبدأ ولا ينتهي، فهو موضوع طويل، ويكفي أن نلقي نظرة على الآيات الواردة في شأن الأخلاق، لنجد أنها تمثل جانباً كبيراً من القرآن الكريم، أو نلقي نظرة على الأحاديث النبوية التي حث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق، أو أمر فيها بخلق معين لنجد أنه ما من كتاب من كتب السنة إلا وتجد فيه باباً خاصاً بعنوان (باب الأدب) أو ما أشبه ذلك؛ يذكر فيه هؤلاء الأئمة المصنفون بعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأخلاق، بل إنك تجد كتباً كثيرة خُصصت لهذا الموضوع.
على سبيل المثال: ألف الإمام البيهقي كتاب الآداب، وألف الإمام السفاريني كتاب غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، وألف غيره من الأدباء والمتأخرين كتباً كثيرة خاصة في هذا الموضوع.(275/3)
اختصار موضوع الأدب
لذلك فإنني أجدني مضطراً إلى أن أختصر هذا الموضوع، والاختصار دائماً له سلبيات منها: أنه قد لا يأتي على بعض القضايا المهمة التي ينتظرها المستمع لمثل هذا الموضوع، فأقول أولاً: إن هدف الرسالات السماوية هو التزكية، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين يدعو الله عز وجل يدعوه أن يبعث في ذريته رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، وقد أجاب الله دعوته عليه الصلاة والسلام فبعث في الأميين هذا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى في حقه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] .
وامتن سبحانه وتعالى علينا جميعاً ببعثة هذا النبي المختار عليه الصلاة والسلام فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151] .(275/4)
إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق
وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بالهدف من بعثته، وحدده تحديداً واضحاً بقوله في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي في شعب الإيمان، والبخاري في الأدب المفرد، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} والحديث صحيح الإسناد، وقد رواه مالك في الموطأ بلاغاً بلفظ: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} وهذه هي الصيغة المشهورة على ألسنة الناس: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} .
والحديث وإن كان رواه مالك باللفظ الأخير بلاغاً أي: أن مالكاً قال: بلغني؛ فإسناده عند مالك منقطع إلا أن الإمام ابن عبد البر قال: وهو متصل من طرق صحاح عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحين يحدد الرسول عليه الصلاة والسلام هدف البعثة بهدف واحد: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} ليس المعنى بطبيعة الحال أن الإسلام فقط بعث لإقامة الأخلاق بين الناس، إذ أن المتبادر من معنى كلمة الأخلاق بين الناس هو المعاملة فيما بينهم، فالمقصود بالحديث أحد أمرين: إما أن يكون هذا خرج مخرج التأكيد على أهمية الأخلاق كما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {الحج عرفة} أي أن الوقوف بعرفة من أركان الحج، ولا يتم الحج إلا بها، وإما أن يكون المقصود بالأخلاق معنى أشمل مما هو متعارف عليه بين الناس، فيكون معنى الأخلاق يعني معاملة العبد مع ربه، ثم معاملته مع نفسه، ثم معاملته مع الخلق، أي: معاملته مع الحق، ومعاملته مع الخلق، وبهذا المعنى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبعث فعلاً إلا لتقويم أخلاق الناس مع ربهم أولاً: اعتقاداً، وعبادة، ثم مع الخلق ثانياً، وهذا المعنى الثاني أقرب وأليق وأنسب، وهو معنى صحيح كما لاحظتم.(275/5)
من هديه صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي حدد للرسول صلى الله عليه وسلم مهمته في التزكية، وحدد هو نفسه صلى الله عليه وسلم مهمته بتتميم صالح الأخلاق؛ ننظر ماذا كان هديه في الأخلاق قولاً وعملاً، لا شك أن ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر شيء مهم، ويكفي أن أشير إلى بعض الأحاديث القولية بجانب هديه العملي في الحث على الخلق الحسن.
روى عنه أبو الدرداء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما من شيء أثقل في ميزان العبد من خلق حسن، وإن الله يُبغض الفاحش البذيء} والحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وروى الترمذي أيضاً وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج} والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً أحلت إليها فيما سبق فلا داعي للإطالة بسرد شيء منها.(275/6)
من هديه العملي
أما هديه العملي فيكفي أن تراجع سيرته، وتنظر كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل الناس كلهم، كيف كان يعامل أزواجه، وكيف كان يعامل أقاربه، وكيف كان يعامل أصحابه، وكيف كان يعامل أعداءه أيضاً، وإذا كان لا بد من سرد نماذج من هديه العملي صلى الله عليه وسلم، فلنقف قليلاً عند بعض المواقف التي لا تمثل إلا شيئاً يسيراً، منها: ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم استدان من رجل مالاً، فجاء الرجل يتقاضى من النبي صلى الله عليه وسلم، فأغلظ له القول، فهمَّ به أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً} وكان إذا استلف من أحد شيئاً أضعف له في الوفاء، ودعا له، وقال: {إنما جزاء السلف الجزاء والحمد} .
حتى أن يهودياً استدان منه الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن حبان وأبو الشيخ وغيرهما واسم هذا اليهودي زيد بن سعنة فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحل الأجل، وقال: يا محمد أوفِ بحقي، فإنكم يا بني عبد المطلب قومٌ مطلٌ -أي: أهل مطل، تماطلون في دفع الدين وسداده- فقام إليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فهموا به فنهاهم أيضاً، وورد أنه قال لعمر: {كنت وإياه أحوج إلى غير هذا منك، كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالرفق} أو كما قال صلى الله عليه سلم فقال هذا اليهودي: ما من علامة من علامات النبوة أُثرت إلا وجربتها وبلوتها فوجدتها فيك، إلا ما ورد عن هذا النبي الخاتم أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد جربتها فيك الآن؛ فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وهذا الحديث قال فيه ابن حجر في الإصابة رجاله موثقون إلا أنه ذكر اختلافاً في أحدهم، وللحديث شاهدٌ آخر.
وذكر أبو الشيخ في كتاب الأمثال " {أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه عليه الصلاة والسلام -وكان جزل العطية يعطي الوادي من الإبل أو من الغنم، ويعطي البدرة من الذهب أو من الفضة، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر صلى الله عليه وسلم- فأعطى هذا الأعرابي، ثم قال له: هل رضيت؟ هل أحسنا إليك؟ قال: لا، ما أحسنت، ولا أجملت.
وكان في حضرة أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم -ومن المعلوم- مكانته عندهم عليه الصلاة والسلام وشدة تقديرهم له فغضبوا، وهموا بالأعرابي فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعوه، ثم انفرد به فأعطاه، فقال: هل رضيت؟ قال: لا، ثم أعطاه الثانية، فقال: هل رضيت؟ قال: لا! ثم أعطاه الثالثة، قال: رضيت؟ قال: نعم! فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال: إن في نفوس أصحابي شيئاً فلو أخبرتهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال لهم: إن هذا الأعرابي أعطيناه فزعم أنه رضي، أفكذلك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهلٍ، ومن عشيرة خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام مؤدباً معلماً لأصحابه: إنما مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل شردت عليه ناقته فجعل الناس يتبعونها، فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي -لأنه كلما تبعها الناس أسرعت وأمعنت في الهرب، والرجل أخبر بناقته- فقال: أيها الناس خلوا بيني وبين ناقتي، فجعل يجمع لها من قمام الأرض حتى ردها إليه هوناً هوناً، حتى لانت واستقامت، وإنكم لو قتلتم هذا الرجل حين قال ما قال لدخل النار} ".
فهذه نماذج موجزة قصيرة في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس، وفي حسن خلقه معهم.
وبإمكان أي فرد منا أن يرجع إلى الكتب المصنفة في شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، ككتاب شمائل النبي صلى الله عليه وسلم للإمام الترمذي، وكتاب الشمائل المحمدية لـ ابن كثير، وكتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي الشيخ، والجزء الأول من كتاب زاد المعاد، وغيره من كتب السيرة النبوية ليجد أمثلة كثيرةً جداً بهذا الباب، وليس هذا بغريب، فقد وصفه الله تبارك وتعالى بقوله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] .(275/7)
تزكية الله لنبيه
فما بالك بمن وصفه ربه بهذه الصفة، وأكدها بـ (إن) وباللام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وجاءت (خلق) منكَّرة للتعظيم، ثم زاد أن وصف هذا الخلق بأنه عظيم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وهكذا روى مسلم في صحيحه عن سعد بن هشام أنه سأل عائشة: ما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: {أما تقرأ القرآن؟! كان خلقه القرآن، ثم قرأت قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] } كان خلقه القرآن يحرم ما حرم، ويحل ما أحل، ويأتمر بأمره، وينتهي عن نهيه، ويؤمن به، ويدعو إليه صلى الله عليه وسلم، فليس بغريب أن تحدث منه هذه الأعمال العظام التي هي أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو سرٌ من أسرار اختياره.
انظر إلى قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهو أحد كبار علماء اليهود في المدينة، ولكنه كان رجلاً منصفاً باحثاً عن الحق، فلما سمع بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: {ذهبت إليه فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب} -والحديث رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح، أي: أنه قرأ على محيا النبي صلى الله عليه وسلم آيات الصدق والبر والوفاء فسمعته يقول: {يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام} والشاهد قوله: عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.
انظر الحادثة الأخرى المعبرة التي رواها النسائي وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين فتح مكة أهدر دم مجموعة من القرشيين الذين كانوا يعلنون العداء للإسلام وللرسول عليه الصلاة والسلام، ويسبونه صلى الله عليه وسلم ويغدرون به، وكان منهم عبد الله بن أبي السّرح، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من وجد هؤلاء القوم أن يقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وكان عبد الله هذا أخاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فجاء به عثمان خلف ظهره، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستأمنه، فوقف بين يديه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لهذا الرجل، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم فطلب منه الأمان ثانية، وثالثة، فأمنه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: {ألا رجل فيكم قام حين رآني سكت فقتله فقالوا: يا رسول الله هلاّ أومأت إلينا} -أي: لو أشرت مجرد إشارة ولو بعينك لابتدره أي واحدٍ منا فأجهز عليه، فورد أن النبي صلى الله عليه قال: {ما ينبغي لنبيٍ أن يكون له خائنةُ الأعين} يعني: حتى الإشارة بالعين يتجنبها النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فظاهره وباطنه سواء، فلا يستعمل أساليب اللف والدوران، وطرق الساسة في الاحتيال والتأويل، وما وقع المسلمون -في هذا العصر ومنذ عصور- من كثرة التأويل في الاعتقاد، والأقوال، والأعمال، والمواقف، بل هو واضح كل الوضوح صلى الله عليه وسلم في مواقفه بحيث لا يجد أعداؤه عليه مطعنة.
لذلك لما بعث تحير القرشيون ماذا يقولون فيه، لأنهم لا يجدون أي ثغرة يمكن أن يتسللوا من خلالها، فيطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الناس كلهم الذين يعرفونه يشهدون بصدقه، وعدالته، وكرمه، وجوده وحسن خلقه، حتى كان يعرف في الجاهلية بالأمين عليه الصلاة والسلام، فهذا جانب من هديه القولي والفعلي صلى الله عليه وسلم في مجال الأخلاق، وهكذا أرشد أمته صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأخلاق، وحذرهم من سفاسفها.(275/8)
أصول الأخلاق
والأخلاق كثيرة جداً، وقد جمع الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين أصولها في أربعة أخلاق: الأول: خلق الصبر الذي يحمل الإنسان على التحلي بالحلم، وكظم الغيظ، وكف الأذى، وما أشبه ذلك، فالأصل الأول هو الصبر.
والأصل الثاني: هو العفة، وهي التي تحمل الإنسان على الانكفاف عن الرذائل، والتعلق بالمعالي والأمور الكبار.
والأصل الثالث: وهو الشجاعة، وهي التي تحمل الإنسان على العزة، والكرم، والجود، والبذل، وتنهاه عن المواقف التي فيها تهور، أو فيها غضب، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه وقت الغضب} .
وقد رواه أئمة آخرون بلفظ: {ليس الشديد الذي يغلب الناس، إنما الشديد الذي يملك نفسه} كما في لفظ ابن أبي الدنيا وغيره، فليست الشدة في أن يكون الإنسان قوياً مع الناس غالباً أو مغالباً لهم، إنما الشدة هي أن يستطيع الإنسان الامساك بزمام نفسه، ويلجمها بالعلم والحلم، ويُقْدِمُ إن كان الأمر يقتضي الإقدام، ويحجم إذا كان الأمر يقتضي الإحجام.
والأصل الرابع من أصول الأخلاق: هو العدل مع النفس ومع الناس، ومن العدل أن يكون الإنسان معتدلاً مع النفس ومع الناس، ومن العدل أن يكون الإنسان معتدلاً في أخلاقه، فإن كل خلق حسن فهو مكتنف بخلقين ذميمين، فالإنسان إذا أفرط انتقل إلى خلق ذميم، وإذا فرَّط انتقل أيضاً إلى خلق ذميم.
خذ مثلاً الشجاعة: الشجاعة خلق حسن لكن إذا بالغ الإنسان في الشجاعة وتعدى، ماذا يسمى هذا الخلق؟ يسمى تهوراً، وهو خلق مذموم؛ لأن الإنسان يقدم في مواقف لا ينبغي فيها الإقدام، وإذا قصر الإنسان عن الشجاعة، ماذا يكون الخلق الذي اتصف به؟ الجبن، والجبن أيضاً خلقٌ مذموم.
مثلٌ آخر الحلم: الحلم خلق حسن مطلوب، لكنه إذا زاد عند الإنسان وتعدى تحول إلى الذلة والمهانة، وإذا نقص تحول إلى نوع من الغضب وشدة الانفعال.
مثلٌ ثالث: الكرم والجود: الكرم خلق حسن فاضل مطلوب لكن إذا زاد الكرم وتعدى تحول إلى إسراف وتبذير، وإذا نقص تحول إلى بخل وحرص وشح، وهكذا كل خلق مكتنف بخصلتين ذميمتين إفراطٌ أو تفريط، والتوسط والاعتدال هو المطلوب، فهذه أصول الأخلاق الأربعة، وكل الأخلاق التفصيلية تندرج إما تحت أصل من هذه الأصول، أو تكون مشتركة بين أصلين من هذه الأصول.(275/9)
كيف نتحلى بالأخلاق الفاضلة
والنقطة الأخيرة التي أحب أن أقف عندها ولعلها من أهم ما يشغل بال الكثير من الشباب في هذا العصر هي: ما هو السبيل إلى الوصول إلى الأخلاق الفاضلة؟ كيف يتمكن الإنسان من التحلي بالأخلاق الفاضلة؟ وكيف يتمكن من التخلص من الأخلاق الذميمة؟.
من المعلوم أن الإنسان مجبول على كثير من الخصال والأخلاق، سواء أورثها عن آبائه أم تلقاها بحكم البيئة التي عاش فيها وانطبعت في نفسه، وهذا أمر معروف لا يجادل فيه أحد على الإطلاق، ويكفي أن تتذكروا الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن ابن عباس في قصة وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أشج عبد القيس: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} ، وفي بعض الروايات: {أنه صلى الله عليه وسلم ذكر له أن الله جبله على هذين الخلقين فقال الرجل: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب} إنما الذي في صحيح مسلم هو قوله: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} وما هو الفرق بين الحلم والأناة؟ الحلم: هو العقل، ولذلك يقال هؤلاء قوم ذوو أحلام، أي: أصحاب عقول.
أما الأناة: فهي التريث في الأمور وعدم الاستعجال فيها.
والحديث يدل على أن الإنسان يجبل -أحياناً- على خصال حميدة، ويجبل أحياناً على خصال قد لا تكون حميدة، والأمثلة على ذلك كثيرة، فما هو السبيل إلى دعم الأخلاق الحميدة الفاضلة في الإنسان؟ وما هو السبيل إلى التخلص من الأخلاق المذمومة المطبوعة فيه؟ أولاً: مغالبة الطبيعة دائماً ليست بالأمر الهين، وبكل حال ندرك أن الإنسان إذا كان شديد الانفعال -مثلاً- وذا جهاز عصبيٍ حاد، فمن الصعب أن يتحول بين عشية وضحاها إلى رجل حليمٍ واسع الصدر ومتأنٍ وهادئ، هذا أمر مسلم به، لكن أيضاً من الأمور الذي يجب أن تكون مسلّمة: أن من الممكن أن يصل الإنسان إلى التهذيب في كثير من أخلاقه، فمن الممكن أن تتهذب كثير من الخصال المذمومة عند الإنسان.
وما هو الدليل على أن الخصال المذمومة عند الإنسان يمكن أن تتهذب؟ الدليل الواضح الجلي الذي لا يجادل فيه أحد أنه وردت نصوص كثيرة جداً في القرآن الكريم، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تأمر بأخلاق فاضلة كالكرم والجود والصبر والشجاعة والحلم وغيرها، وبالمقابل وردت نصوص قرآنية ونبوية كثيرة جداً تنهى عن أخلاق سيئة كالشح والبخل والحسد والحقد والغضب والجبن وغيرها.
ومن المعلوم أنه لا يكلفنا الله سبحانه وتعالى بأمر لا نستطيعه ولا نطيقه، ولو كانت الأخلاق جبلة مركوزة يستحيل تغيرها لما كان لهذه النصوص معنى، لأن المفطور على الأخلاق الفاضلة سوف يمارسها بحكم الجبلة، وكذلك المفطور على الأخلاق السيئة لا سبيل إلى تغييرها، فدل ذلك دلالة واضحة على أن الإنسان يمكن أن يهذب كثيراً من الأخلاق، صحيح أنه من الصعب أن يغير الإنسان مرة واحدة كثيراً من الأخلاق؛ لكن من الممكن أن يهذبها ويصل إلى مستوى محمود فيها.
والخطوات أو الوسائل التي يمكن أن يخطوها الإنسان إلى هذا المرتبة كثيرة نمهد لها بمثلٍ ضرَبه أهل العلم بذلك: مثل الإمام ابن القيم -رحمه الله- وهذه الأخلاق الفطرية التي ترجع إلى جبلة مركوزة في النفس بتيار جارف من الماء (سيل أو نهر) مكتسح يمشي بسرعة هائلة، وهذا النهر إذا وصل إلى مدن أو قرى أو مزارع، فإنه يكتسحها فيأتي على الأخضر واليابس، فعلم الناس بأن هذا السيل آتٍ، فاختلفت مواقفهم من ذلك، فمنهم من يحاول أن يجفف منابع هذا النهر الذي يخرج منها؛ فكلما سد هذا الماء من جانب انفجر عليه الماء من جانب آخر، فضيع وقته في هذه المحاولة العابثة التي لا تنتج شيئاً، فهذا صنف من الناس يحاول أن يغالب الفطرة والفطرة غلابة.
الصنف الثاني: حاولوا أن يضعوا السدود المنيعة الحصينة التي توقف هذا السيل إذا جاء، فتوقف السيل حين كان قليلاً، لكن حين كثر عمَّ وطمَّ واكتسح هذه الحصون والسدود الموضوعة، ثم علا هذه المدن والقرى والمزارع والعمران فأهلكها.
الصنف الثالث من الناس: وهم الصنف المحمود الموفق وهم الذين عملوا أولاً على إيجاد الطرق والوسائل والمعابر التي يمكن أن يسلكها هذا الماء؛ فيستفيدون منه دون أن يوقفوه، بل جعلوه يمشي كما هي طبيعته الجريان والاندفاع، جعلوه يمشي ويندفع في طريق نافع، ولا مانع أن يضعوا حينئذٍ سدوداً لما زاد أو فاض منه، لكن مع السدود توضع المعابر التي يسلكها الماء ليكون حينئذٍ نافعاً، يسقى منه الحرث والزرع والمواشي، وينتفع به الناس في وسائل الانتفاع.
وكل إنسان منا فيه هذا وهذا، فيه أخلاقٌ حميدة فاضلة جُبِلَ عليها وورثها عن أهله، وتلقاها في بيئته، وفيه أيضاً أخلاقٌ مرذولة سيئة جُبِلَ عليها، وورثها عن أهله، وتلقاها في بيئته، وعلى الإنسان ألا يكثر من التنقيب عن أخلاقه الذميمة إذا لم تكن ظاهرة بينة، فإن من أكثر من التنقيب عن الأخلاق السيئة في نفسه شُغِل بها، كما قال بعض الشيوخ: [إن الأخلاق السيئة في النفس كالحيات والعقارب في الطريق، فلو أن المسافر بالطريق مثلاً شغل نفسه بالبحث عن الحيات والعقارب في الطريق لما قطع طريقاً وما حقق نفعاً، لكن عليه أن يستمر في طريقه فإذا عرضت عليه حية أو عقرب قتلها ثم مشى في طريقه] وهكذا السالك إلى الله، الداعية العابد، طالب العلم عليه أن يسلك طريق الإسلام فإذا عرض له خلق ذميم في نفسه في هذا الطريق سعى إلى إزالته والقضاء عليه.(275/10)
وسائل إصلاح أخلاق الإنسان
وأذكر الآن أربع وسائل أرى أنها مفيدة فائدة كبيرة في إصلاح أخلاق الإنسان ورفع مستواه في هذا الجانب.(275/11)
الإبدال للأخلاق الذميمة
الوسيلة الرابعة والأخيرة: هي وسيلة الإبدال، وأعني بها أن الإنسان -كما أسلفت في مطلع الحديث عن هذه الفقرة- فيه دائماً خصال حسنة وفيه خصالٌ مذمومة، فعلى الإنسان الذي يشكو في نفسه خلقاً ذميماً معالجة هذا الخلق الذميم بالوسائل السابقة وغيرها؛ وعليه بالمقابل أن يحرص على تنمية الأخلاق الفاضلة في نفسه، وتعميقها وتوسيع ميدانها، والتركيز عليها حتى تكبر في نفسه، فتغطي على بعض الأخلاق الرديئة.
هب -مثلاً- أن فيك خلقاً فاضلاً هو الحلم كما مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس، فاحرص على قراءة سير الحلماء والكتب في الحلم والاستفادة من التجارب التي تمر بك حتى تحاول أن تعمق هذا الخلق الحميد في نفسك، ليصبح طابعاً بارزاً مميزاً، افترض -مثلاً- أن عندك خلق حب الإحسان إلى الناس، وحب خدمتهم، احرص على تنمية هذا الخلق وعلى أن تقوم بأي عمل تقصد من وضعه الإحسان إلى الناس وخدمتهم، ليس بحكم الطبيعة والجبلة فقط بل أن تقصد عمداً أن تقوم بالأعمال التي تحسن بها إلى الناس ولو كانت أعمالاً شاقة، أو تكلفك شيئاً، دون أن تنتظر من الناس جزاءً أو شكوراً أو أن يردوا عليك مقابل هذا الأمر بل أن تبذل دون انتظار الجزاء من الناس، وإنما تنتظر من الله عز وجل، فأنت حينئذٍ تمارس طبيعة جبلية ترتاح لها، لأن الإنسان الأريحي الكريم ينشط ويفرح بالعطاء، كما قال أحد الشعراء في مدح أحد الكرماء يقول: تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله أي: هذا الرجل الكريم إذا جئت تطلب منه شيئاً يتهلل ويفرح، حتى كأنك أنت الذي تعطيه ما تسأله، فهو يفرح -كما قال بعضهم في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام- أشد من فرح الآخر بما يأخذ، فالإنسان إذا كان عنده خلق الإحسان إلى الناس يحرص على تنمية هذا الخلق ودعمه وتوسيعه؛ حتى يغطي من الأخلاق المذمومة ويشغل كثيراً من وقت الإنسان وحياته ونشاطه، وقل مثل ذلك أيضاً في أي خلق فاضلٍ آخر يمكن أن يوجد عند الإنسان، فبهذه الوسائل وغيرها يستطيع الإنسان أن يعظم ويزيد من الأخلاق الفاضلة الحميدة في نفسه، ويوسع رقعتها في حياته، ويستطيع أن يقلل ويقلص الأخلاق الذميمة في نفسه، ويضعف من دورها وتأثيرها في حياته.(275/12)
الخلاصة
والوسائل الأربع هي بالترتيب: أولاً: المجاهدة.
ثانياً: المحاسبة.
ثالثاً: تعلية الإنسان الأخلاق الفاضلة، وإيجاد مصارف مناسبة مشروعة لها.
رابعاً: هي إبدال الأخلاق الفاضلة بأخلاق ذميمة، وتركيز الإنسان على الجوانب الخيرة الموجودة في نفسه.
الوسائل الأربع هي: الوسيلة الأولى: المجاهدة، أي: مقاومة الإنسان المواقف التي تثيره وتحرك فيه الأخلاق المذمومة.
الوسيلة الثانية: المحاسبة، أي: بعد انتهاء الأعمال يحاسب الإنسان نفسه، ويحرص على أن يكون منصفاً كل الإنصاف أما غير المنصف فلا يستفيد من المحاسبة إلا العذر لنفسه، والبحث عن المسوغات التي تبرر للإنسان هذا الموقف.
الوسيلة الثالثة: التعلية، أي: أن يحرص الإنسان على أن يرفع هذه الجوانب الفطرية ويصرفها في جوانب مشروعة.
الوسيلة الرابعة: الإبدال: وهي أن يحرص الإنسان على تبديل الأخلاق الحسنة بأخلاق مذمومة، وعلى أن يركز على الجوانب الإنسانية في شخصيته وفي خلقه، ويعطيها دوراً كبيراً في حياته.
فهذا ما أحببت أن أقوله، وأخيراً وفقني الله وإياكم بالخلق الحسن والصلاح في القول والعمل والاعتقاد، وجزاكم الله خيراً، وأرجو أن تكونوا استفدتم إن شاء الله، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(275/13)
رفع الإنسان الأخلاق الفاضلة وصرفها إلى الخير
الوسيلة الثالثة: هي تعلية رفع الجوانب الفطرية عند الإنسان، ففي الإنسان خصال فطرية مفطور عليها، مغالبتها مستحيلة؛ لكن الوسيلة المناسبة هي أن يحرص الإنسان على أن يصرف هذه الجوانب الفطرية الغريزية في مصرف مفيد ونافع، أو على الأقل في مصرف مباح.
الإنسان -مثلاً- عنده طبيعة الغضب، هذا الغضب يمكن أن يكون غضباً في ذات الله عز وجل إذا انتهكت حرماته، غضباً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غضباً ينتج القيام بالأعمال والمشاريع التي تنفع الناس، فهذا صرف هذه الناحية الغريزية الفطرية مصرفاً محموداً دون أن يعمل على قطع المنبع من أصله.
ناحية أخرى مثلاً: حب الظهور -واسمحوا لي بهذا المثال لأنه قد يكون هناك مناقشة- فبعض الناس يحب أن يظهر وأن يمدح، وأن يشار إليه بالبنان، حب الظهور يمكن أن يؤدي بأناس -كما نعلم في الواقع- إلى أن يحرصوا على أن يقوموا بأعمال سيئة منافية لما عليه المجتمع الفاضل، فيحرصون -مثلاً- على نشر الأشياء السيئة، فيهمه أن يعرفه الناس، ويتكلموا فيه حتى ولو كان باللعنة، كما يعرف الناس الشيطان حيث يلعنونه ويستعيذون منه، فهذه خصلة فطرية إذا تحولت والعياذ بالله إلى انحراف في نفس الإنسان تدمر الإنسان، وتدمر المجتمع من حوله، لكن حين يوجد إنسان متدين وصالح يعرف في نفسه هذا الخلق بطبيعة الحال: عليه -أولاً- أن يجاهد نفسه في تهذيب هذا الخلق وإصلاحه.
وعليه -ثانياً- أن يجاهد نفسه في إصلاح النية بحيث لا يكون دافعه إلى أي عمل من الأعمال الصالحة حب الظهور والثناء، لأنه حينئذٍ ليس له إلا ما نوى، وما له في الآخرة من خلاق، وفي الحديث الصحيح قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من طلب العلم ليتصدر به في المجالس أو ليصرف به وجوه الناس إليه فالنار النار} وفي الحديث الآخر: {لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} والحديث رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم بإسناد صحيح.
فحب الظهور إذا هذبه الإنسان يمكن أن يكون وسيلة نافعة، لأن هناك مجالات كثيرة لا يستطيع الإنسان الذي يكره الظهور ويبالغ في كراهيته أن يفيد فيها، فالإنسان الصالح الذي حاول أن يصلح نيته يجد ميداناً لممارسة الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر والنهي والإصلاح في المجتمع، وخدمة الناس ونفعهم بطريقة صحيحة تتوافق مع طبيعته وجبلته التي فطر عليها، دون أن تتحول إلى صورة عكسية كما سبق، ودون أن يكون هذا هو هدفه المقصود أصلاً، فيتحول علمه والعياذ بالله إلى عمل من أجل الدنيا.
ولما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة قال: {من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن} وذلك لأن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فلا مانع أن يعمل الإنسان على معالجة هذا الخلق بطريقة تدريجية مناسبة، وعلى صرفه في الميدان المناسب، وقل مثل ذلك في أي خلق آخر.(275/14)
المجاهدة
الوسيلة الأولى: هي وسيلة المجاهدة، والمجاهدة نافعة في كل أمر بما في ذلك الأخلاق، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه على حملها على الخلق الحسن، وكفها عن الخلق الذميم، والخلق يتضح في مواقف معينة، فلا يعرف الإنسان أنه سريع الغضب وحاد الطبع إلا إذا وجد موقفاً يثير هذه الناحية فيه وحينئذٍ يعرف الناس منه هذا الأمر.
وقد تمكث مع إنسان زمناً طويلاً لا ترى إلا أنه رجل وديع ولطيف هادئ وحسن الخلق؛ فإذا به ينقلب في موقف من المواقف إلى إنسان هائج منفعل، يحطم ما أمامه ولا يبالي بشيء، وقد ينطق بما لا يريد أن يتكلم به، أو يتصرف تصرفاً يندم عليه كما هو معروف من شأن الغضوب، فالإنسان يعرف أو يظهر خلقه في مواقف يمكن أن يقال: إنه وجد فيها مثيرات تثير هذا الخلق في نفس الإنسان، فحينئذٍ على الإنسان أن يحرص على التحلي بالمجاهدة والصبر في مثل هذه المواقف التي تثير هذا الخلق المذموم عنده، يحرص على ضبط نفسه في موقف الغضب -مثلاً- يحرص على مجاهدة نفسهِ بالبذل إذا كان بخيلاً، وبالمجاهدة يستطيع الإنسان أن يصل إلى نتيجة طيبة بالتأكيد، فالله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] .
ولا شك أن الحصول على الخلق الفاضل من أسباب الهداية قطعه الله على نفسه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فالخلق الفاضل نوع من الهداية يصل إليه الإنسان عن طريق المجاهدة؛ لكن في كثير من الأحيان يجاهد الإنسان فينجح في بعض المواقف السهلة اليسيرة، فيأتي موقف يفقد الإنسان توازنه، فيهدم جميع ما بنى في الماضي، ويعود إلى طبيعته وسيرته الأولى، وحينئذٍ يقول الإنسان: لا فائدة، أنا حاولت وحاولت، وأخيراً انظر ماذا كانت النتيجة؟! صحيح أنني نجحت في موقف أو موقفين أو ثلاثة؛ لكن لم أنجح في المواقف الحقيقية التي تتطلب مجاهدة، فحينئذٍ يقال: على الإنسان ألا ييئس، والمجاهدة لا تعني أن يجاهد الإنسان مرة، بل تعني أن يجاهد كل مرة حتى يموت، ويلتزم بالآداب النبوية الواردة مثلما ورد -مثلاً- في شأن الغاضب أنه يتوضأ، وإن كان قائماً قعد، وإن كان قاعداً اضطجع، وما أشبه ذلك.(275/15)
المحاسبة
والوسيلة الثانية: وسيلة المحاسبة، والمحاسبة تكون بعد الفعل، فالإنسان الذي يحاسب نفسه يصل إلى خير كثير في سائر أموره، ولذلك أقسم الله عز وجل بالنفس اللوامة، وورد عن الحسن البصري وغيره أنهم قالوا: [[إن نفس المؤمن التي تلومه وتحاسبه: ما أردت بهذه الكلمة؟ ما أردت بهذه الأكلة؟ ما أردت بهذه الخطوة؟ أما الكافر والمنافق فهو يمضي قدماً لا يلوي على شيء]] ولذلك قال بعض السلف: [[إن الإنسان المتقي هو الذي يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه]] كما روى ذلك الترمذي عن ميمون بن مهران قال: [[العبد لا يبلغ أن يكون متقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه]] .
فعلى الإنسان أن يكون محاسباً لنفسه، والمحاسبة لا تعني بالضرورة كما يتصور بعضهم أن يكتب ورقة ويضعها عند رأسه، فيسأل نفسه عند النوم ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟ المحاسبة أمر داخلي، ومن القضايا المهمة المميزة للأخلاق في الإسلام أنها تنبع من داخل الإنسان، ومن ضميره، وليست أشياء مفروضة عليه من الخارج، بل هي أمور تنبعث من الداخل، فالإنسان إذا عود نفسه أن يحاسبها على المواقف وعلى الأخطاء تلافت هذه الأخطاء.
بعض الناس دائماً يصور نفسه أنه هو المصيب في جميع المواقف، وأن غيره هو المخطئ، فتجده سواء إذا انفرد بنفسه أو إذا خلا ببعض خاصته قال: فلان قال لي كذا، وفلان تصرف معي كذا، فصور أن الناس كلهم جناة ومخطئون عليه، وأنه هو الشخص الوحيد الذي نزه عن الأخطاء والعيوب، حتى لا يكاد يقع منه خطأ، وإن لم يقل هذا بلسان مقاله فإنما قاله بلسان حاله، فعلى الإنسان أن يكون محاسباً لنفسه، ويتهمها -أيضاً- في المواقف، ويحاول أن يكون منصفاً إذا راجع، وفائدة المحاسبة أنك حين تقع في خطأ تتداركه في المستقبل، وتعمل على أن تتلافاه؛ وحين تجاهد نفسك في موقف من المواقف فتفشل في هذه المجاهدة لصعوبة الموقف عليك؛ فإن المحاسبة كفيلة بأن تذكرك بأنه يجب أن تتعظ بالموقف السابق، وإذا تكرر الموقف السابق لاحقاً، فيجب عليك أن تلتزم بجانب القصد والاعتدال والخلق الحسن، ولا شك أن أي إنسان حين يحاسب نفسه مرات ومرات على هذا الأمر لا بد أيضاً أن يصل فيها إلى نتيجة محمودة.(275/16)
أسئلة(275/17)
كيف نحقق الشجاعة في الداعية
السؤال
فضيلة الشيخ كيف يحقق الداعية خلق الشجاعة الأدبية، وكسر الهيبة من نفسه، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
كيف يحقق الداعي خلق الشجاعة، أولاً: إن كانت الشجاعة موجودة في الأصل عنده؛ لأنها قد توجد أحياناً لكن بحكم أن الإنسان لا يستعملها فقد لا يدرك أنه شجاع، فإذا جرب الإنسان وجد أن عنده إمكانيات للشجاعة الأدبية، فعليه حينئذٍ أن ينفض الغبار عن هذا الخلق المركوز فيه، ويحرص على الشجاعة الأدبية، أي مثل الوقوف أمام الناس ومثل الخطابة، والكلام، والأمر، والنهي في المواقف العامة، والقدرة على أن يتحدث الإنسان مع الناس، ولو كان في مجلس عام، ولو على غير انتظار، ومثل الرد على إنسان أخطأ بأسلوب مناسب، وعدم الهيبة الكبيرة من الناس، فهذه الأشياء مطلوبة، أما إن كان يعرف الإنسان من نفسه أنه ليس كذلك، ولم يفطر على مثل هذا الأمر، فإن التجربة تثبت أن بإمكان الإنسان أن يصل إلى كثير من هذه الأشياء عن طريق التدريب والممارسة.
فمثلاً الوقوف أمام الناس للخطابة أو للكلمة أو حتى للصلاة والأمر والنهي أمر قد يهابه الكثير منا بالفعل، ولو جرب الإنسان نفسه في المواقف الصغيرة؛ ففي الفصل - مثلاً- يحرص الإنسان في درس التعبير أو الإنشاء إذا وجد فرصة أن يتكلم، ولو كلمة يسيرة، وأن يضبط نفسه بحيث يتكلم بهدوء، فلا يسرع فيقع في خطأ! فربما يجعله لا يحاول مرة أخرى، ويرتب ما سيقول، ثم المدرسة ثم في مثل هذه التجمعات المشتركة، وإذا تدرب الإنسان، وترقى شيئاً فشيئاً، وجد أن هذه الأشياء التي يمكن أن يمارسها بعد ذلك بشكل عادي جداً، فيتكلم في الملأ كما يتكلم في الخلاء، ويتكلم وأمامه أعداد غفيرة من الناس كما لو كان بمفرده، ولا يجد في ذلك أي صعوبة، وصحيح أنه قد يكون عنده في نفسه الوقت هيبة من أمر آخر لم يتدرب عليه.
وأضرب لذلك مثلاً في شيء من العجب: بعض الإخوة قد يكونون أساتذة في المدارس، فتجد أن الواحد منهم يقف أمام ستين أو سبعين طالباً أو مائة طالب، وربما في الجامع -أحياناً- يلقي أمامهم الدرس، وهم على مستوى عالٍ من المعرفة، والعلم، والخلق، فلا يجد في ذلك أي حرج، ويجد أنه أمر عادي يمارسه بكل يسر وسهولة، فإذا انتقل الشخص نفسه إلى مسجد فيه عشرون أو عشرة من العوام الذين لا يفقهون شيئاً، فأراد أن يقوم أمامهم ليتكلم بكلمة أصابه ما قرب وما بعد، وأصبح يحسب حسابات كثيرة لهذه الوقفة، وربما يتردد مرة، وثانية، وثالثة، ويقدم مرة ويحجم مرة، وهذا كله موجود، فهذا عجيب؛ لأنه تدرب أن يقف أمام مائة من طلاب جامعيين - مثلاً- بسهولة؛ لكن يجد صعوبة أن يقف أمام عشرة من العوام؛ لأنه لم يعتد ذلك، ولأن الطلاب -مثلاً- في المدرسة أصلاً ينتظرون مجيئه، وينتظرون أن يتكلم، فمن الطبيعي عندهم أن يتكلم أما أولئك فالغالب أن قيامه ومجيئه أمر غير معروف لديهم، وهذه لها ناحية.
فالإنسان الذي يفقد الشجاعة الأدبية، هو الذي يبالغ في النظر إلى ما عند الناس، وإلى ردود فعل الناس، وإلى ماذا سيقول الناس، وإلى نظرات الناس، فتوجد هذه الأشياء عنده هيبة عن الوقوف أمامهم، أما إذا استطاع الإنسان أن يكسر هذا الحاجز، ويعطي الناس قدرهم الطبيعي ولا يضخمهم؛ فحينئذٍ ستزول هذه الأشياء كلها بإذن الله.(275/18)
علاج الغضب
السؤال
فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ما هي الأشياء التي تذهب الغضب عن الإنسان أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
الأشياء التي تذهب الغضب عن الإنسان كثيرة منها أمور نفسية وقلبية، إذا حاول الإنسان أن يحققها في نفسه، فإنه يكون أكثر هدوءاً، وأبعد عن الغضب والانفعال، مثل: أن يدرك دائماً ويتذكر آثار الغضب، ونتائجه السيئة، ويتذكر النصوص الواردة بالنهي عنه، ويتذكر أنه يدرك بالحلم وسعة الصدر ما لا يدرك بالغضب، وغير ذلك من الأمور التي إذا صار الإنسان يكررها على خاطره وعقله جعلته يكون حذراً؛ لكن الغضب جمرة تتقد في جوف ابن آدم، فلذلك لا بد من معرفة وسائل آنية حين يثور الغضب في الإنسان كيف يقاومه، فمن ذلك: أن يتوضأ الإنسان لأن الوضوء يطرد الشيطان، ويبرد هذا الغضب، وهذه الحرارة المنبعثة من قلب الإنسان، ثم عليه أن يشغل نفسه بأعمال أخرى كأن يشتغل بصلاة أو ذكرٍ أو قراءة؛ لأنه حينئذٍ لا يعطي مجالاً لنفسه لزيادة غضبه.
وأخيراً فإن من أهم الوصايا التي ينبغي أن يوصى بها من يعلم عن نفسه الغضب أن يدرب نفسه، ويجاهدها، ويربيها على أن لا يتصرف في حال الغضب وأي تصرف، وإذا استطاع الإنسان أن يربي نفسه على هذا الأمر فإنه يكون قد قضى على جزء كبير جداً من آثار الغضب.
كم من إنسان طلق زوجته في حال الغضب، وهذه الزوجة رفيعة المقام عنده، ثم أصبح يقلب كفيه ويتأوه ويتأسف على ما بدر منه، وكم من إنسان في حالة غضب قتل، أو وقع في كلمة ربما أوبقت دنياه وآخرته، فعلى الإنسان أن يدرك أن من واجبه أن يمسك عن القيام بأي تصرف في حالة الغضب والانفعال، ومما يعينه على أن يوقف أي تصرف -كما سبق- أن يشتغل بأعمال أخرى كالصلاة مثلاً؛ لأنه حينئذٍ لا يدع لنفسه مجالاً لتنفيذ ما همَّ به في حالة الغضب.(275/19)
الغضب على الأهل فقط
السؤال
فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ إن من صفاتي الغضب الشديد خاصة على إخواني، أما في خارج البيت فأتماسك، وأرد على السيئة بالحسنة في الحالات التي تحتاج إلى الشدة فما نصيحتكم لي جزاكم الله خيراً؟
الجواب
حقيقة هذه الحالة غريبة -فعلاً- لأن المعروف عند الناس أن الكثير منا مع الناس حسن الخلق، تجده مع إخوانه من أفضل الناس خلقاً وسماحة، محبوباً لدى الجميع، فإذا جئت للبيت وجدته أسداً كاسراً، فيتكلم على هذا، ويضرب هذا، ويعاقب هذا، ويتكلم في حق هذا والجميع يهابونه ويخافونه، فهذا هو الوضع الغالب، وذلك لأن إقامة الإنسان مع زملائه مهما تطل فهي محدودة، فيغلب عليه طابع -لا أقول المجاملة- لكن طبيعة العلاقة المؤقتة توجب نوعاً من الاحترام المتبادل.
أما في البيت فلكثرة مقامه فيه، وعدم حرصه على أن يكسب ثقة ورضا من فيه، تجد أنه قد يفعل ما يفعل.
فما يشير إليه السائل أمر يستغرب في نظري، أما موقف الإنسان مع زملائه حينئذٍ فكما سبق في السؤال الذي قبله أن الإنسان عليه أن يحرص على أن يجاهد نفسه في هذه المواقف، ويتدرب على الحلم، ويقرأ سير الحلماء ومواقفهم، ويحرص على أن يتأسى بها، ويطلب من زملائه أن ينبهوه على ما قد يصدر منه مواقف وأخطاء، ويحرص على تجنب المواقف التي تثير فيه الغضب أصلاً، وهناك مواقف تعلم أنت أنها تثيرك فاحرص على أن تتجنبها حتى لا توجد المادة التي تدعو إلى هذا الغضب والانفعال، ثم أخيراً أين أنت من الاستغفار؟! فإن الإنسان مهما يكن فهو خطّاء، والله عز وجل وصف المتقين بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] .(275/20)
وصية في الاقتصاد
السؤال
قال صلى الله عليه وسلم: {إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى} ما معنى الحديث، أفيدونا أفادكم الله؟.
الجواب
المعنى أن في ذلك وصية بالقصد والاعتدال، لأن الإنسان إذا كان على دابة وهو يريد أن يقطع سفراً بعيداً فإنه لو أجهد الدابة في ذلك السفر، وأسرع في المشي، وحرمها من الرعي -مثلاً- وما تحتاجه، فإن هذه الدابة قد تقطع به مسافة طويلة في وقت وجيز، ثم تقعد وتعجز عن مواصلة السير وقد تهلك، فيصبح لا هو قطع الأرض التي يريد أن يقطعها ووصل إلى ما يبتغي، ولا هو حافظ على هذه الناقة وحفظها من الهلاك والتلف.
والإنسان المقتصد إذا كان في طريق فسار سيراً معتدلاً، وأعطى الدابة حقها من الطعام والشراب والراحة، فإنه يصل إلى ما يريد مع المحافظة على الظهر والمركوب، فيكون حصل الحسنيين بخلاف الأول فإنه فقد الحسنيين، فهذا إشارة إلى مشروعية الاقتصاد في كل أمر؛ في أمور العبادة وفي أمور الدنيا.(275/21)
أفضل كتاب في الأخلاق
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما هو أفضل كتابٍ يتكلم عن الأخلاق؟
الجواب
الكتب التي تتحدث عن الأخلاق كثيرة أشرت أثناء المحاضرة إلى شيء منها، سواء بما يتعلق في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، أم بالأخلاق المطلوبة إجمالاً في الإسلام، ومن الكتب المفيدة التي أنصح إخواني بقراءتها كتاب أشرت إليه وهو: غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب فهو كتاب شامل، كثير الفوائد والمنافع، ومن الكتب المفيدة المناسبة لعامة القراء كتاب خلق المسلم للغزالي، وكذلك ينبغي الحرص على قراءة الكتب التي تتحدث عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في معاملة الناس، ومواقفه، ومنها كتاب مختصر شمائل النبي صلى الله عليه وسلم للإمام الترمذي، وهو كتاب مطبوع بتحقيق الألباني نسخة ليست بالكبيرة، وبإمكان أي إنسان أن يقرأها خلال يوم أو يومين، ويستفيد مما فيها.(275/22)
تكلف الأخلاق
السؤال
فضيلة الشيخ: هل ترى أن يتكلف الإنسان ما ليس من طبعه؟ وما حدود هذا التكلف؟ وكيف يترتب الثواب والعقاب على كون الأخلاق جبلة أو اكتساباً؟
الجواب
التكلف هو نوع من المجاهدة التي ذكرتها ضمن الوسائل، فإن الإنسان الذي يحمل نفسه على أمرٍ ليس من طبعه، لا شك أنه يجد في ذلك من العناء ما لا يجده ذلك الإنسان الذي يقوم بالعمل ذاته بمقتضى فطرته وجبلته، فالتكلف وارد، وينبغي ألا يسمى تكلفاً، بل هو تطبع، والحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، فعلى الإنسان أن يحرص على تعويد نفسه الأخلاق الحسنة حتى تصبح عادة له.
أما مسألة الثواب، والعقاب أو مسألة الثواب بالنسبة للخلق الحسن، فالذي يظهر -والله أعلم- أنها مترتبة على النية والقصد؛ فإذا كانت نية الإنسان صالحة أجر على ما عمل، سواء عمله بمقتضى الفطرة والجبلة، أم تكلفه.
لنفترض أن إنساناً عمل عملاً يتناسب مع طبيعته، ولكنه فرح بهذه الطبيعة الموجودة فيه؛ لأنه يدرك أنها طبيعة ملائمة لما جاء به الشرع، فصار -كما سبق- يكثر من الإحسان إلى الناس وصلتهم وخدمتهم؛ لشعوره بأن هذا الأمر الموافق لطبيعته هو أيضاً محبوبٌ لله ورسوله، فمثل هذا الإنسان يؤجر على هذه الأشياء التي هي من طبيعته -كما سبق في قصة الـ أشج عبد القيس - أما لو فعلها الإنسان وهو لا ينوي بها خيراً ولا ينتظر أجراً من الله عز وجل ففي أجره حينئذ نظر، وقد ورد في صحيح مسلم {: أن عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان، وكان رجلاً في الجاهلية كريماً محسناً، يصل الرحم، ويحسن إلى المساكين هل ينفعه ذلك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يا عائشة إنه لم يقل يوماً من الدهر ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين} فدل على أن هذه الأشياء بمجردها لا تكفي حتى ينضم إليها أصل الإسلام، لأن غير المسلم لا يؤجر على ما عمل، ثم كلما قويت فيه النية، وظهر فيه القصد زاد فيها الأجر.(275/23)
المزاح والأخلاق
السؤال
فضيلة الشيخ: ما رأيك في بعض الشباب الذين هداهم الله إلى دينه وهم شباب متدينون، ولكنهم مع الأسف كثيرو المزاح؛ مما يؤدي إلى سوء أخلاقهم، فهل يؤثر ذلك في دينهم، أفيدوني أفادكم الله وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
من أصول الأخلاق العدل، والعدل -كما سبق- يشمل أن يدرك الإنسان أن كل خلق فاضل يكتنفه خلقان ذميمان فمثلاً: تقطيب الإنسان، وجفاؤه، واكفهراره في وجوه الناس يولد البغضاء والكراهية، وهذا خلق ذميم ممقوت، وكذلك المبالغة في البشاشة والهشاشة والضحك والممازحة هي خلق ذميم، يولد المهانة وانحطاط قدر الإنسان عند الناس، وزوال الهيبة والتقدير، وينتج آثاراً مذمومة منها: أولاً: أنه يؤدي إلى وقوع الإنسان في المحظور؛ لأن الإنسان إذا استبد به المزاح والضحك والانشراح لذلك، وطرب لمثل هذه الأشياء، ربما يصدر منه من المواقف، والأقوال، والأعمال ما لم يكن يصدر منه بغير تلك الحال، وعلى سبيل المثال: حين تجلس مع أحد أصدقائك فتباسطه في الحديث والمزاح حتى يغلب الضحك، في مثل هذا الظرف قفزت في ذهن هذا المازح نكتة تناسب المقام، ومن المناسب جداً أن يوردها؛ لأنها ستكون دليلاً على أنه يتقن المزاح، وستكون -فعلاً- موضع إعجاب وتقدير زميله أو زملائه الحاضرين، حينئذٍ تجد أن لديه دافعاً ليقول هذه النكتة، ولو كانت ثقيلة، ولو كانت تتعلق بالإسلام، أو بالقرآن، أو كانت سخرية بشخص معين معروف، أو ما أشبه ذلك، ولو أدت إلى نتائج أسوأ من هذه، فتجد أنه يصعب عليه حينئذٍ أن يحكم لجام نفسه، ويمنعها عن الانطلاق في هذا الأمر.
ثانياً: من الآثار الضارة للمزاح: أنه يؤدي أحياناً إلى تفرق الأحبة، وينشر البغضاء بينهم، وما أدى إلى ذلك فهو ممنوع، كما قال عز وجل {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91] .
فدل على أن من مقاصد الشريعة إيجاد المودة والمحبة بين المؤمنين، ومنع وسائل الشيطان في زرع وسائل البغضاء بينهم، فكل ما أدى إلى العداوة والبغضاء بين المؤمنين فهو محرم شرعاً، فإذا أدت كثرة المزاح إلى ذلك كانت ممنوعة.
ومن المعلوم أن كثرة المزاح -غالباً- قد تؤدي إلى مثل هذا، فعلى الإنسان أن يقتصد في هذا الأمر، وإذا وجد من نفسه أن من طبيعته المزاح فليقرأ في تراجم العلماء، والصالحين، والأئمة، الذين خلد التاريخ ذكرهم، وأن منهم من كان يميل إلى المزاح، وله نكتٌ محفورة محفوظة ما زال الناس يتندرون بها.
فـ الأعمش -مثلاً- اقرأ ترجمته تجد من طرائفه ما لا يزال موضع تندر الناس؛ لكن يكون ذلك بقصد وقدر، فيشغل الإنسان نفسه بمعالي الأمور بحيث يكون المزاح وخفة الظل طابعاً معروفاً عند فلان، لكنه ما تعدى حده، ولا طغى على الجوانب الأخرى الموجودة فيه.(275/24)
العزلة عن الناس
السؤال
ذكرت في محاضرة سبقت بعنوان "المفاضلة بين الخلطة والعزلة" أن من أسباب جواز العزلة كون المرء كثير الشر قليل الخير إلى الناس، فمتى يستطيع المرء أن يقرر بشكل واضح اتصافه بذلك، وبالتالي يسلك طريق العزلة؟
الجواب
الأصل عند جماهير أهل العلم أن في المسلم هو الخلطة وليس العزلة، وإنما العزلة استثناء، لذلك إذا أشكل على المسلم الأمر ولم يتبين له أيهما أصلح في حقه؛ فعليه أن يحرص على الخلطة؛ لأنها أقرب إلى تحقيق مقاصد الشارع، ثم إن هذا الأمر اجتهاد لا يمكن البت أو الحسم فيه، والإنسان إذا راقب نفسه باعتدال يجب أن يقوم الإيجابيات والمنافع الحاصلة من مخالطته للناس، وبمقابلها يقوِّم السلبيات والمضار الحاصلة من هذه المخالطة، فينظر بعين العدل والإنصاف والاعتدال أيهما أكثر فيعمل بذلك.
فبعض الناس يميل بطبيعته إلى تعظيم الجوانب السلبية، وهذا في الحقيقة من المرض إن صح التعبير، فيميل إلى التضخيم في نفسه وفي حياته وفي حياة الآخرين، فتجده يركز على السلبيات دائماً يعلمها ويذكرها، وإذا تحدث عن نفسه، فإنما يذكر الجانب السلبي، وينسى الجانب الإيجابي، فيقول: أنا إنسان ليس عندي قيام ليل، وأنا شخص مقصر، وأنا كذا وأنا كذا، وينسى الجوانب الإيجابية في نفسه، ينسى أنه عنده رغبة أكيدة في تحصيل الخير والوصول إلى منازل الصالحين، وإن قصرت همته مثلاً، فينسى أنه ذو ملكة قوية في تحصيل العلم، وينسى أنه يحب الصالحين ويجلّهم ويفرح برؤيتهم، وينسى أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فينسى كثيراً من الخصال المحمودة في نفسه، ويفطن للخصال المذمومة، ويصبح عنده نوع من التشاؤم، أو مقت النفس الذي يؤدي به إلى ازدراء نفسه وتأخيرها عن مواقف الخير والنفع، وربما يدعوه إلى العزلة عن الناس، فعلى الإنسان أن تكون نظرته متزنة ومعتدلة، فإن لاحظ أنّ عنده شيئاً من عدم الاعتدال، فعليه حينئذٍ أن يستنير بآراء المقربين له من الناس ممن يعرفونه بكثرة احتكاكهم معه ومخالطتهم له، سواء من الأقران أم من الشيوخ أم من غيرهم.(275/25)
أخلاق النبي لماذا لا نطبقها؟!
السؤال
فضيلة الشيخ: نقرأ ونسمع الأحاديث والقصص الثابتة والصحيحة عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نحفظها عن ظهر قلب، ولكن تبقى المشكلة في تجسيد تلك الأخلاق في واقع المسلم اليومي، فما السبب وما هي الوسائل لتحقيق ذلك؟
الجواب
هذا جانب من الإسلام، وجانب من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، جانب الأخلاق، وكل الإسلام، لو نظرت في القرآن الكريم ونظرت في السنة ستجد أنها بالنسبة لواقعنا الذي نعيشه أقرب إلى المثل منها إلى الواقع، بسبب تخلف المسلين قروناً طويلة، وعوامل عديدة أثرت فيهم حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، فالأسباب كثيرة، وليس هذا مجال لذكرها؛ لأن الأخلاق -كما ذكرت- جزء من الإسلام، وجزء من تعاليم القرآن، فما أصابها هو جزء مما أصاب القرآن من كونه لم يبق منه عند كثيرٍ من المسلمين إلا رسمه، وجزء من مصيبة الإسلام في كونه لم يبقَ منه عند كثيرٍ من المسلمين إلا اسمه.
فالأسباب هي الأسباب، أما الوسائل: فلقد أشرت إلى شيءً منها، ولعل من المهم أن ندرك جميعاً أن الخير يعدي، والشر يعدي فإذا وجد عندنا جميعاً الرغبة أكيدة لإصلاح أخلاقنا والارتفاع بمستوانا إلى المنزلة التي يحبها الله تبارك تعالى لنا ويرضاها؛ فإنه سيحصل لنا من ذلك شيء كثير، وسيرانا غيرنا ويقولون: ليتنا فعلنا ما فعل فلان وفلان، فيتمنون هذا الخير وما يزالون حتى يرتقوا إلى المستوى ذاته، ولذلك تجدون اليوم -بحمد الله- بسبب وجود الإقبال على الخير في أوساط الشباب؛ أن الأمر أصبح يتناهى حتى لدى كثيرٍ من الأوساط التي لم يكن يُظن أن يبلغها من كبار السن، ومن الناس الموغلين في الانحراف، ومن أصحاب الاتجاهات الفكرية المنحرفة وغيرهم، وكذلك الشر يتنامى فحين ينتشر -مثلاً- داء ذميم سواء أكان جسدياً أم خلقياً بين الناس؛ تجد أنه ينتشر كانتشار النار في الهشيم حتى يصبح عند الناس أمراً مشهوراً مألوفا بينهم، فعلينا أن نحرص على أن نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر، وعلى أن ننشر بين الناس -حيث حللنا- الدعوة إلى الخلق الحسن، والدعوة إلى الإسلام كله دون تفريقٍ بين أجزائه.(275/26)
معنى: كان النبي خلقه القرآن
السؤال
أنا أعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن فما معنى ذلك؟
الجواب
هذا أيضاً أمر بشكل مجمل، أي أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية كانت ترجمة لما في القرآن الكريم من أوامر وتوجيهات وتعليمات، فحياته صلى الله عليه وسلم وخلقه وأمره ونهيه وفعله وتركه هو ترجمة عملية لما في القرآن الكريم، لذلك ذهب الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة إلى أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إنما اقتبسها عليه الصلاة والسلام واستنبطها من القرآن الكريم نفسه، فهي راجعة إليه، وبكل حال فالمعنى أن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي تطبيق عملي أو مذكرة تفسيرية لما جاء في القرآن الكريم.(275/27)
خائنة الأعين
السؤال
فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: كيف تكون الإشارة بالعين مخالفة للأخلاق، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
الإشارة بالعين -كما في الحديث- لا يلزم أن تكون مخالفة للأخلاق مخالفة تامة، أو منافية لها، بل قد يكون لها ما يدعو إليها في حالات معينة خاصة؛ لكن قصدت أن أشير إلى عظمة المستوى الذي وصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق، حيث ترفَّع حتى عن الإشارة بالعين، مع أنه ما ورد ما يدل على تحريمها -مثلاً- إذا كانت إشارة يقصد من ورائها الوصول إلى أمر مطلوب أو مباح، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة وضوح شخصيته، وبُعده عن أي وجه من أوجه التأويل، أو الاحتيال؛ تَرَفَّعَ صلى الله عليه وسلم حتى عن هذا، لذلك حصَّل المستوى الذي جعل أعداءه على كثرتهم وشدة خصومتهم لا يجدون ما يعيبونه به صلى الله عليه وسلم، وهكذا يجب على الداعية، خاصة في هذا العصر؛ لأننا نجد أن هذا العصر كثرت فيه القالة عن كثيرٍ من الدعاة.
فتجد كثيراً من الناس يتناولون سير الدعاة والمصلحين ويعيبونهم بالحق تارة، وبالباطل تارات، وقد يقع فعلاً من بعض الدعاة أخطاء، فيستغلها بعض المغرضين، كما تجدون على سبيل المثال أن كثيراً من الناس يقعون في أعراض المشايخ، ويقولون: المشايخ -مثلاً- عندهم مجاملة ومداراة، والمشايخ عندهم كثرة أموال وحب الدنيا، والمشايخ فيهم، المشايخ في أولادهم شيء من الانحراف، إلى غير ذلك من الأشياء التي هي في غالبها باطل، وفي أقلها قد تحمل شيئاً من الحق؛ لكن في المشايخ والعلماء أضعاف أضعاف أضعافها من الخصال المحمودة لا تذكر عند هؤلاء القوم، وفي غيرهم من الناس أضعاف أضعاف أضعافها من الخصال المذمومة لا تُذكر، فهناك من الناس من لا يُذكر إلا فضله وحسنه، وهناك من لا يذكر إلا ما فيه من العيب ولو قل؛ فلذلك الداعية في مثل هذه الظروف عليه أن يحرص على أن يكون واضحاً تمام الوضوح في شخصيته، قدر الإمكان حتى لا يكون هناك أي مدخل للناس للوقيعة فيه، أو النيل من شخصيته.(275/28)
الفرق بين المراء والجدال
السؤال
فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: ما الفرق بين المراء والجدل، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
قد يكون هناك فروق عديدة، والذي يظهر لي -والله أعلم- أن المراء قد يتعلق بمحاولة الإنسان أن ينتصر في مسألة؛ كي يثبت بذلك مقامه عند الناس أنه انتصر على خصمه في هذا الأمر، فيماري، أي حتى يرى الناس أن فلاناً انتصر في هذه الخصومة، أما الجدل فهو نوع من المناظرة بين اثنين في مسألة لا يلزم أن يكون على الملأ، أو أن يكون بقصد أن يعلم الناس أن فلاناً تغلب على فلان في هذه الخصومة، هذه إحدى الفروق.
ومن الفروق أيضاً أن المراء مذموم كله، ولعل هذا الفرق مبنيٌ على الفرق الأول، أما الجدل فمنه مذموم ومنه محمود، فالجدل بالتي هي أحسن محمود كما صرح بذلك القرآن الكريم.(275/29)
لكي ينتصر الإسلام
تحدَّث الشيخُ عن حالة العرب قبل الإسلام، وكيف تغيرت بعد البعثة، وكيف نظَّم النبي صلى الله عليه وسلم علاقة الفرد بالقبيلة، والعكس، واهتمامه في بناء شخصية الفرد بعيداً عن التقليد، وتحميل الفرد المسئولية الشخصية في تعلم دين الله -عز وجل- وأن تزكية النفس والعمل بذلك العلم والاهتمام بقضايا المسلمين من تزكية النفس، ثم تكلم عن أهمية التحدث والتعاطف والتبيين للناس عن قضايا المسلمين، واتباع الأقوال بالمواقف بقدر الإمكان، ثم تكلم عن أهمية توحيد الجهود في سبيل الدعوة إلى الله، وتجاوز الخلافات، وأن تكون الدعوة جدِّية وعامة إلى جميع الناس بمختلف مستوياتهم.(276/1)
تغيير الإسلام لحالة العرب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل وانقطاع من السبل، فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى، وجمع به بعد الفرقة وأغنى به بعد العيْلة، فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، صلاةً وتسليماً دائمَين إلى يوم الدين، عليه وعلى أصحابه والتابعين الأبرار الأطهار.
أما بعد: أيها المسلمون: إن الله تعالى أنعم على هذه الأمة ببعثة خاتم الرسل؛ فجعلها خاتم الأمم، كما كان نبيها خاتم الرسل -عليه وعليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام- فبعث الله تعالى هذا النبي المختار في أمةٍ كان كل همها، وشغلها تتبع أصول أذناب الإبل في هذه الصحراء القاحلة، وأنها كانت ترابط وراء الضِّبَبَة تأكل وتشرب من ماء هذه الصحراء، ثم لا همَّ لها بعد ذلك أبداً، فصوَّت فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وصاح فيها بنداء (لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله!) فرفعت إليه رءوسها وفتحت له عيونها، وأصغت له آذانها واهتدت بهداه، فكانت بذلك خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله عز وجل وتجاهد في سبيله، فخرجت من هذه الصحراء القاحلة؛ لتقول لأساتذة المدنية وشيوخ الحضارة في فارس والروم: جئناكم لنخرجكم، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة العيش، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.(276/2)
أثر التوحيد فيهم
إن هذا النبي الذي بُعث في هذه الأمة كان من أعظم ما أهدى هو التوحيد الذي عرف به الإنسان معنى إنسانيته، وكرامته، ذلك الإنسان الذي لم يكن له معنىً في الجاهلية، وكان يرضى أن يُطأطِئ رأسه لإله من حجر أو شجر أو صنم، فيعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم للإنسان ليعلمه أن (لا إله إلا الله) ولا معبود بحق سواه، وأنه لا يجوز أن يُطأطِئ رأسه إلا لله عز وجل، فلا يسجد لغيره ولا يعبده سواه، مخلصاً له الدين ولو كره الكافرون، فأوجد فيه روح العزة ومعنى الحمية وسر الشجاعة والإنسانية، حتى علَّم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الأعزل -الإنسان الفقير- ألا يذل ولا يخضع لشيءٍ من متاع الدنيا، وكيف يذل لغير الله عز وجل؟! وكما قال الشاعر: تأبى عقيدتنا تأبى أصالتنا أن يصبح العرب أشتاتاً وقطعانا فلا لشرق ولا غرب نطأطِئها بل ترفض الجبهة الشماء إذعانا فأصبح هذا الأعرابي الذي كان بالأمس يركض وراء إِبِلِهِ وغَنَمِهِ، وكلُّ هَمِّه من الدنيا ملبس أو مطعم أو مشرب، أصبح هذا الإنسان عزيزاً ومرفوع الهامة ويناطح السحاب، فلا يذل إلا لله عز وجل! وليس لديه أي استعداد أن يهادن أو يداهن في دين الله عز وجل حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في ضمن دروس العزة، والكرامة التي ألقاها على هذه الأمة العظيمة: {من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون نفسه أو دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد} .
فعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يكون أبِيَّاً ورفيعاً وقوياً وعزيزاً ومنيعاً، وأن لا يكون همه هذه الحياة الدنيا، ولا بد أن يكون للإنسان وراء هذه الحياة معنى فوق هذه الدنيا، وألا يكون الإنسان تراباً فحسب، بل هو حفنة من التراب عانقها هدي السماء، فارتفعت وسمت وشمخت؛ فأصبحت أعظم من كل معاني البشرية؛ لأنها ارتبطت بهدي الله عز وجل ونور الوحي النازل من السماء؛ فأصبح الإنسان بذلك مرفوع الهامة وشامخ الأنف، لا يذل لغير الله عز وجل طرفةً أو لحظة.(276/3)
أهمية الفرد في المجتمع
ولم يسمح النبي صلى الله عليه وسلم للقبيلة أن تهدر قيمة الفرد، كما لم يسمح للفرد أن يعتدي على القبيلة أو المجتمع أو الدولة، بل جعل هذه الأشياء كلها تسير جنباً إلى جنب، فلا قيمة لقبيلة أفرادها مجموعة من الضعفاء والاتباع المقهورين والأذلاء، الذين لا يرون لأنفسهم قيمة ولا كرامة، ولا قيمة لفردٍ لا ينتسب إلى ذلك المجتمع الإسلامي الكبير الذي يتعاون أفراده على البر والتقوى ولا يتعاونون على الإثم والعدوان.(276/4)
بناء الشخصية القوية للمسلم بالعلم
لقد جاء الإسلام ليحمل الإنسان كل مسئوليته على كافة المستويات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يخاطب الفرد ليحمله مسئوليته على كافة الأصعدة، مسئوليته أولاً: في تعلم العلم الشرعي، أصولاً وفروعاً، عقيدةً وأحكاماً، فلا يكون الإنسان مقلِّداً، أو تابعاً، رضي أن يهدر عقله ويهدر إدراكه؛ ليكون تابعاً ومقلداً لفلان دون حجة ولا بصيرة ولا هدى ولا كتاب منير.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر العذاب الذي يصيب الإنسان الفاجر أو الكافر في قبره؛ بيَّن أن من أعظم أسباب هذا العذاب أن يكون الإنسان مقلداً في دينه، فلم يتعب في الدين، ولم يجتهد في استخدام الحجج والبراهين، ولم يستخدم هذا العقل الذي أنعم الله تعالى به عليه في الوصول إلى الحق بالدليل الشرعي من آيةٍ أو حديثٍ أو إجماع، وإنما رضي أن يكون مجرد مقلد لفلان وفلان، فقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم - أن: {الإنسان إذا وضع في قبره يقال له: مَن ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟} فالمؤمن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ يسأل سؤالاً رابعاً: ما علمك؟ ومِن أين حصلت عليه؟ أحصلت عليه بالهوى، والتقليد؟ أم حصلت عليه بالبحث والاتباع؟ فيقول المؤمن، أو الموقن: قرأت كتاب الله فآمَنت به وصدقته.
إذاً هو علمٌ مبنيٌ على التحري، ومبنيٌ على الدليل، ومبنيٌ على الاتباع، ومبنيٌ على الحجة من كتاب الله تعالى، أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أجهد الإنسان نفسه في طلب العلم، وثنى رُكَبَه في مجالس الذكر، واستمع إلى: (قال الله) و (قال رسول الله) وأعمل عقله حتى وصل إلى الهداية وظفر بها فتمَسَّكَ بها، وعَظَّ عليها بالنواجذ، ولهذا نجح في الاختبار العظيم والكبير يوم يُوَسَّد في قبره، ويتخلى عنه كل أحبابه وأصحابه وأولاده وأتباعه، ويبقى وحيداً إلا من عمله الصالح.
أما الكافر أو المنافق الذي كان لا يعرف الدين حقيقة في هذه الدنيا، أو يقلد الناس دون حجة ودون تبصر، ودون أن يستخدم هذه الجوهرة العظيمة التي أعطاها الله إياه -وهي العقل- في معرفة دين الله تعالى، وفهم النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والوصول إلى الحق، ولو كان يردد في هذه الدنيا العبارات، والكلمات والألفاظ، دون أن يعِيَها فإنه يخفق في الاختبار، فيقول: هاها هاها لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، إذاً كان يقول ويردد دون وعي وبصيرة، ودون أن يحرك إنسانيته أو يستخدم مواهبه، إنما كان مجرد مقلد لفلان وفلان؛ فيخفق، ولا يتذكر ما كان يقوله في الدنيا، فيقول: لا أدري! كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، فيضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحةً يسمعها مَن يليه إلا الثقلان، ولو سمعها الإنس والجن لصعقوا من هول ما يسمعون.
فيا أخي الكريم: صوِّر نفسَك وأنت في هذا الموقف الصعب والعسير، وأنت تتعرض لهذا الابتلاء الكبير في ذلك الموقف الخطير، الذي لن ينفعك فيه مال ولا جاه ولا سمعة ولا شهرة، ولا فلان ولا علان، إنما ينفعك شيءٌ واحد هو: علمٌ نافع أو عمل صالح، فهل تلقيت دين الله تعالى بالحجة والبرهان والدليل؟ أم تلقيت من فلان وعلان؟ وهل اهتممت بهذا الدين وتتبعت أحكامه؟ أم اكتفيت بالموروثات الاجتماعية التي قد تكون صواباً في بعض الأحيان، وقد تكون خطأً في أحيان أخرى، ونحن نرى اليوم مع الأسف الشديد أن الكثير من المسلمين يتعصبون لهذه الموروثات، ويتحمسون لها ويركضون وراءها، ويتناصرون من أجلها أكثر مما يتحمسون لبعض الأحكام الشرعية التي يسمعونها من أفواه العلماء والدعاة والمحدثين.
إذاً لقد جعل الله تعالى عليك أنت بالذات مسئولية شخصية في تعلم دين الله تعالى، ومعرفة أحكام ما أنزل الله على رسوله بالأدلة الشرعية، ولا يغنيك أن تكون مجرد مقلد أعمى دون أن تبحث عن دليل أو حجة، فلا يكفي أن تكون مقلداً لما نشأت عليه في مجتمعك.(276/5)
أهمية تزكية المسلم لنفسه
إن الإسلام حملك مسئولية شخصية في وجوب تزكية نفسك بهذا العلم، فأي معنى أو قيمة لعلم يكون محصوراً في نفسك وعقلك ولم يتحول إلى علم نافع بل هو علم مجرد؟! وكثيراً ما نواجه في مجتمعنا أشخاصاً إذا تكلموا كانوا كالفلاسفة، يعرفون ويتحدثون وربما يستشهدون بالنصوص، وربما يقولون: قال فلان وعلان.
لكن إذا أتيت إلى واقعهم الشخصي في عبادتهم، وفي علاقاتهم بأهلهم، والوضع البيتي والمنزلي الذي يعيشون فيه، والوضع الاقتصادي والاجتماعي؛ لَوَجَدْت هؤلاء الأشخاص أبعد ما يكونون عن تمثل والتزام هداية السماء في تزكية أنفسهم، وتزكية من حولهم؛ فكم من إنسان قد يتكلم بالحق في لسانه، لكنك حينما تنظر إلى سلوكه الشخصي تجد شيئاً آخر، وحين تنظر إلى بيته تجد ألوان المعاصي والمنكرات، وتجد أهله وذريته وأولاده في وادٍ آخر، فلم يتعاهدهم بالهداية ولم يعلمهم، بل ولم يمنعهم من الحرام، فأتاح لهم كل وسائل الفساد وكل وسائل الاتصال بالعالم كله، وهو يقول: هل هؤلاء على مستوى أن يميزوا الطيب من الخبيث؟ نعم، كانوا على مستوى تمييز الطيب من الخبيث؛ لو أنك تعاهدتهم، وعلمتهم، وربيتهم، وهذبتهم، وأدبتهم، ووضعت لهم الموازين المستقيمة التي يستطيعون أن يميزوا بها بين الحق والباطل، والهدى والضلال، أما أن تتركهم لعوادي الزمن وخِطَط الأعداء، فيسمع في التلفاز الكثير، ويسمع في المذياع الكثير، ويقرأ في الجريدة الكثير، ويسمع في المدرسة، ويجالس قرناء السوء، وربما أنه يشاهد أفلام الفيديو -مثلاً-، بل أنه يطَّلِع على القنوات الفضائية التي تُبَث من أنحاء العالم، ومنها قنوات تنصيرية، ومنها قنوات جنسية، ومنها قنوات تخريبية، ومنها قنوات تنقل لنا قاذورات العالم كله، وما فيه من خير وشر، ثم تترك لهذا العقل الغض والبسيط الذي لم ينضج ولم يملك إمكانية التمييز وتقول: إنه قادر، فإن الأمر حينئذٍ يكون كما قيل: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماءِ أو تجد هذا الإنسان الذي قد يفهم بعض النصوص في تعاملاته التجارية، أنه قد يأكل الربا وقد يأكل الحرام، وقد يغش، وقد يخدع، وقد يأخذ أموال الآخرين، أو يعتدي على أراضيهم، أو يأخذ أموالهم بالباطل، ومع ذلك يلتمس لنفسه ألف عذر أن مِن حقه أن يفعل ذلك كله.
فأين التزكية إذن؟ وأين العلم الذي يجيده في لسانه؟ والله تعالى يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] .
فلابد أن تزكي نفسك ثانياً بهذا العلم، وهذه التزكية لا يغني فيها أحدٌ عن أحد، ولا ينفع فيها قريب عن قريب، ولا أبٌ عن ابنه، ولا زوج عن زوجه، قال تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] وقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .(276/6)
الاهتمام بقضايا المسلمين
إن الإسلام لم يقنع منك أن تكون عالماً بالشرع فقط، أو أن تضيف إلى ذلك تزكية نفسك تزكية شخصية، وتزكية أولادك وزوجتك، ومن ائتمنك الله عليهم فحسب، بل عليك أن تضيف إلى هذين الأمرين أمراً ثالثاً، يعتبر عربون دينك وإيمانك، وانتسابك إلى (الإسلام) هذا الاسم الشريف العظيم، وإلى هذا المجتمع الكبير، المجتمع المسلم.
هذا الأمر هو: أن تكون متحمساً لقضايا المسلمين، متعاطفاً مع أمورهم، فلا تعتقد أن ما يصيب المسلم في المشرق أو في المغرب قضية خارجية لا تعنيك، أو شأن خاص بدولة من الدول، بل تعتقد أن من علامة صدق الإيمان في قلبك؛ أن يتحرك المؤشر كلما سمعت خبراً؛ فإن كان الخبر ساراً تحرك المؤشر بالفرح والسرور، وإن كان الخبر مزعجاً تحرك المؤشر بالحزن والتعاطف مع قضايا المسلمين بقدر ما تستطيع، وأنت تستطيع الكثير، ولو لم تستطع إلا الكلمة الطيبة لكانت الكلمة الطيبة صدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن الذي يَحُول بينك أن تتحدث عن قضايا المسلمين وهموهم؟! أو تشاطرهم أفراحهم وأتراحهم وأحزانهم، أو تعمل على توعية من حولك بما يعانيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من ألوان الاضطهاد والتنكيل؛ التي تبدأ بمحاولة نقلهم عن دينهم إلى دين آخر سواء أكان هذا الدين هو النصرانية، أم كان هذا الدين هو العلمانية، أم كان هذا الدين هو الإعراض عن دين الله عز وجل والجهل به، وهو ما نشهده في كثير من الشعوب الإسلامية التي تحمل (بطاقة مسلم) أو هوية مسلم، لكنك حين تسأله، تجده يجهل كل قضايا الإسلام بدْءاً بقضية التوحيد، وشهادة أن محمداً رسول الله التي أصبح من المسلمين من يجهلها، وانتهاءاً بالأحكام الشرعية التي لا يفهم الكثير منها إلا أقل القليل، ومروراً بتجهيل المسلمين لأمور دنياهم؛ ليصبحوا عالةً على عدوهم فهم يستوردون من عدوهم كل شيء، ويعتمدون على عدوهم في كل شيء.
لا أقول في السلاح فقط، بل يعتمدون على عدوهم في الثوب الذي يلبسونه، والنعل الذي ينتعلونه، والسيارة التي يركبونها، والبيت الذي يسكنونه، والورق الذي يكتبون فيه، والقلم الذي يكتبون به، وكل وسائل الحياة التي يحتاجون إليها، فأصبحوا عالةً على عدوهم، فأمسك العدو بِخِناقِهم، وأصبح المسلمون في كثير من البلاد يحكمهم نصراني، فيجعل التعليم لأبناء النصارى، ويجعل الوظائف لأبناء النصارى ويجعل البعثات العلمية لهم ويجعل المواقع الحساسة لهم.
أما المسلم فأصبح حظه فقط هو: أن يكون مستهلكاً ومستعمَراً ومهَجناً وليس له من الأمر شيءٌ قليل أو كثير، وانتهاءاً بالتضييق عليه ومحاولة تصفيته جسدياً، والقضاء عليه بما يسمى بالتطهير العرقي الذي يعمد إلى القضاء على المسلم حتى وإن كان ضعيفاً، وحتى لو كان مسلماً جاهلاً، ولو كان مسلماً لا يقدم لدينه أي شيء، فأصبح الكفار لا يطيقون من يحمل اسم محمد أو علي أو صالح أو يحمل في هويته أنه مسلم، أو ينتسب إلى عروقٍ إسلامية، ولو كان لا يَمُتُّ للإسلام بأدنى صلة، وهم يقتلون المسلم بالهوية اليوم في عدد من البلاد القريبة والبعيدة.
فلابد أن تتحدث عن هذه القضايا، ولابد أن تشاطر المسلمين بالكلمة الطيبة على أقل تقدير، والكلمة الطيبة منك لا تكفي؛ لأنك أكثر من ذلك، فتملك المشاركة الحقيقية، المشاركة بالمال -مثلاً- في قضايا المسلمين، فمثلاً: نكبة المسلمين في الصومال التي نستطيع أن نقول: إنها نكبة القرن، وإن الصومال اليوم هو أفقر بلد في العالم، وأنه يعيش كارثة وأزمة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً، تهدد بإبادة شعب بأكمله من الوجود.
أتعلم لماذا؟ صحيحٌ أن الجانب القَدَرِي في هذا واضح وهذا قضاء الله تعالى وقدره، ومسألة الجفاف لا يد لأحد فيها، ولكن ثَمَّت سببٌ آخر: هو أن أصابع النصارى واضحة فيما يجري، فالصومال هو البلد الأفريقي الوحيد الذي يسكنه المسلمون فقط (100%) مسلمون، ولا يوجد فيها نصراني واحد، ولم يكن فيه قبل بضع سنوات كنيسة واحدة، فعَمِل النصارى على تمزيق هذا البلد، وقسموه إلى خمسة أقسام واستعمروه، وحاولوا أن يسلطوا عليه الأعداء بعد الخروج منه حتى أثاروا النعرات القبلية، ومازالوا يخططون ويكيدون ويمكرون مكر الليل والنهار، حتى أصبحت الصومال تواجه هذه الأزمة الخانقة التي تعيشها اليوم، واستطاع النصارى أن يستغلوا هذه الكارثة بمحاولة تنصير أعدادٍ كبيرةٍ من المسلمين رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً.
يقول أحد المسلمين -وهو يبكي-: والله لقد كنا يوماً من الأيام نسأل الله -ونحن في قلب الصحراء- أن لا نرى بأعيننا نصرانياً أو كافراً على وجه الأرض، فإذا بنا اليوم نفرح؛ لأننا نجد النصراني؛ لأننا نجد عنده الغذاء والدواء والكساء.
والله لقد كنا يوماً من الأيام إذا وجدنا إناءً أكَلَ فيه نصراني أو شَرِبَ؛ غسلناه سبع مرات إحداهن بالتراب، كما نفعل إذا شرب فيه الكلب، أما اليوم فقد أصبحنا نَهشُّ للنصارى ونَبشُّ، ونستقبلهم بالبشر والترحاب؛ لأننا أصبحنا نجد عندهم الإغاثة التي لم نجدها مع الأسف عند إخواننا المسلمين، وأصبح ما يزيد على مليوني مسلم يتعرضون إلى عملية جادة تستهدف تحويل الصومال إلى دولة نصرانية.
فأنت تستطيع حين تسمع هذا أن تشارك بالمال، أو تؤدي بعض شكر نعمة الله تعالى عليك بالزكاة أو غيرها من الصدقات، التي قد تطعم بها جائعاً أو تكسو بها عرياناً، أو تعالج بها مريضاً، أو يهدي الله بها رجلاً واحداً يتعرض للتنصير والتكفير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {تصدق رجل مِن ديناره، ومِن درهمه، مِن صاع بُرِّهِ، من صاع تَمْرِهِ} حتى قال - عليه الصلاة والسلام -: {فاتقوا النار ولو بشق تمرة} .
إذاً لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو كان ذلك شق تمرة، أو ريالاً واحداً، فأنت لو تصورت أن ألف مليون مسلم اليوم، أو ألف ومائتي مليون مسلم، لو أن كل واحد منهم تخلى عن ريال فقط؛ لكان معنى ذلك أننا جمعنا في حملة واحدة ملياراً ومائتي مليون ريال، كم سوف تنفع هذه الأموال بإذن الله تعالى؟! لكن المشكلة العظيمة أن الكثير تخلوا عن دورهم ولو كان دوراً محدوداً، أو قليلاً، وظنُّوا أن المطالبة بالإنفاق، وأن المطالبة بالبذل هي مسئولية الأغنياء فقط، كما تخلوا عن دورهم في الدعوة والهداية، وظنوا أن الدعوة والهداية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مسئولية العلماء فقط، أو الدعاة، أو مسئولية الخطباء فقط، ونسوا أن الله تعالى حين خلقنا جميعاً خلقنا بشراً مسئولين، وحين أنزل الدين لم يقل أبداً إن الدين مسئولية فئة خاصة، ولا مسئولية طبقة معينة، وإنما جعل مسئولية هذا الدين على عاتق كل واحد منا، سواء أقام بها وحفظها أم ضيعها، فهو مسئول عنها أمام الله تعالى، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] .
أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم للقيام بما ائتمنَّا عليه، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(276/7)
المشاركة بالنفس في قضايا المسلمين
إن من ألوان المشاركة أيها الأخ الكريم أن تشارك بنفسك؛ فإن المسلمين اليوم يتعرضون لحملات تقتيل وتشريد في بلاد شتى، وهم في أمس الحاجة إلى أن نقول لهم: إننا معكم.
ولكن هذه الكلمة بذاتها لا يمكن أن تنقذ إنساناً من القتل، ولا يمكن أن تخرجه من الأزمة التي يعيشها، فلماذا لا نُتْبِعُ القولَ بالعمل؟! ونصَدِّقُ كلامَنا بأفعالنا؟! فنعبر للمسلمين حقيقةً عن تعاطفنا معهم، ووقوفنا إلى جانبهم، وأن مشاعر الأخوة الإسلامية التي أقامها هذا الدين لا تزال تتحرك في صدورنا، ولا تزال تعتمل في نفوسنا.
إنَّ العدو قد أفلح في إقامة الحواجز بين المسلمين؛ فأصبحنا لا نشعر بهموم المسلمين البعيدين كما نشعر بهم من حولنا، وأصبحوا هم يَشُكُّون في صِدْق أخوتنا لهم، ويَشُكُّون في تعاوُنِنا معهم، فلقد رأوا أن الذين يقفون إلى جانبهم في كل المواقف غالباً هم النصارى أو غير المسلمين، أما المسلمون فطالما صاحوا! ثم صاحوا! ولا مجيب: لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً ولكن لا حياة لمن تنادي! ولو ناراً نفختَ بها أضاءتْ ولكن أنتَ تنفُخ في رمادِ! أنتم جميعاً سمعتم ورأيتم بأعينكم المأساة التاريخية التي يشهدها المسلمون في البوسنة والهرسك، إنها عملية إبادة تصرح وسائل الإعلام الغربية بأن القرن كله لم يشهد لها مثيلاً، فهل فعلاً أن المسلمين لا يستطيعون أن يصنعوا لإخوانهم في يوغسلافيا شيئاً؟! أقول: كلا.
ثم كلا.
والله الذي لا إله غيره لو أن المسلمين شعروا بالمسئولية لاستطاعوا أن يصنعوا من الهزيمة في يوغسلافيا نصراً، ومن الذل عزاً ومن القهر تمرداً، ليس على الصرب الملاعين الكفار فقط؛ بل على الصليبية العالمية ممثلة في الأمم المتحدة، والدول الكبرى التي تقف وراءها.
إن الغرب يزعجه كثيراً أن يسمع كلمة جهاد، ولو شعر الغرب أن المسلمين يتنادون إلى دعم إخوانهم المسلمين في البوسنة والهرسك، وأن هناك أعداداً من المسلمين وقفَتْ إلى جانبهم؛ تعلمهم، وتصبرهم، وتثبتهم، وتعز مواقعهم ومواقفهم، وتدعو الله لهم بالنصر، وتدعمهم بما تستطيع، لشعر الغرب أنه مهدد في قلب أوروبا، ومهدد بخطر كبير، ولسارع إلى حل المشكلة؛ خشية أن تصل إلى أمور لا يستطيع حلها، لكن المسلمين في كثير من الأحيان يشعرون بأنهم عاجزون، وأنهم مكتوفوا الأيادي على حين أنهم يستطيعون أن يعملوا الكثير.(276/8)
المشاركة الوجدانية مع قضايا المسلمين
أيها الأحبة، لنفترض جدلاً أنك لا تستطيع أن تتكلم، ولا أن تعمل، ولا أن تبذل المال، ولا أن تقف بنفسك مع إخوانك معلماً وداعياً ومرشداً ومصبِّراً، إنك تستطيع ولا بد أمراً بعد ذلك ألا وهو المشاركة الوجدانية، فقدم لي الدليل العملي على أنك فعلاً تشعر بمشاعر المسلمين! أثبت لي أنك لست شامتاً تسخر مما يحدث للمسلمين! وقدِّم الأدلة المادية على أن روح الأخوة الإسلامية لم تَمُتْ في قلبك.
إن المشاركة الشعورية والوجدانية هي أحد الأشياء التي نحتاج إليها كثيراً، ولو لم تعمل فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه، وهو في معركة تبوك يقول لهم: {إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حَبَسَهُم العذر} فلنفترض أنك معذور، لا تستطيع أن تتكلم لأنك أبكم، ولا تستطيع أن تنفق لأنك فقير، ولا تستطيع أن تشارك بنفسك لأنك مريض، ولا تستطيع أن تعمل شيئاً: أثبت لنا أن عندك قلباً يحزن لآلام المسلمين ويفرح لفرحهم، أثبت أن لديك مشاركة وجدانية مع إخوانك في كل مكان، وأثبت أن روح الأخوة لا تزال تعمل في قلبك! يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً إنا أقمنا على عذر نكابده ومن أقام على عذر كمن راحا هذا الشعور الوجداني في قلبك، سيتبعه تمني، وسيتبعه -على أقل تقدير- دعوة ترفعها في الهزيع الأخير من الليل إلى رب العالمين تفتح لها أبواب السماء.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما يدريك ما صنع الدعاءُ سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجل وللأجل انقضاءُ إن الأمة التي قوام أعدادها ألفٌ ومائتا مليون، هل تعتقد أنه لا يوجد فيها واحد مستجاب الدعوة؟! هل تظن أن أرحام النساء عقِمَت أن تلد شخصاً تقياً ولياً؛ لو أقسم على الله لأبره؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبر قسمه} نحن نجزم يقيناً أن في هذه الأمة من الأولياء من لو دعوا الله لأجابهم، ولو استسقوا المطر من السماء لسقاهم شراباً طهوراً، ولو سألوا الله تعالى لم يَرُد سؤالَهم، ولو أقسموا على الله تعالى لأبرهم، فأين هؤلاء؟! لماذا لا نحرك همم الناس: العجائز، والأطفال، والصغار، والكبار، والسذج، والمغفلين، والجهال، والمتعلمين، والجميع لنقول لهم ادعوا الله، وإذا دعوت الله فادعُ لنفسك أولاً، ولا تُلام على هذا، ولكن أضف إلى هذا أن تدعو لغيرك كما تدعو للوالدين وللأقربين وللعلماء وللدعاة، فتدعو لإخوانك المسلمين في كل مكان أن يفرج الله عنهم كروبهم، ويزيل عنهم همومهم، ويُأمِّنهم من خوف، ويطعمهم من جوع، ويرويهم من ظمأ، وقبل ذلك كله أن يعلمهم من جهل، وأن يبصرهم في دينهم.(276/9)
الدعوة إلى هذا الدين
إن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ربَّى هذه الأمة على هذه المعاني، فربَّاها على المسئولية الشخصية في طلب العلم الشرعي والتعب وراء تحصيله، وربَّى هذه الأمة على التزكية بهذا العلم للنفس وللغير، وربَّى هذه الأمة على مسئولية المشاركة، وأن تكون هذه الأمة جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: {مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فلابد إذاً من دعوة لهذه الأمة، دعوة إلى الدين كله لا إلى بعضه؛ فلا ندعو إلى بعض الدين، ونغفل عن بعضه كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] إننا لا نقبل تجزيء الإسلام أو علمنته، فالدين جاء ليُعلِم الإنسان كيف يتوضأ؟ وكيف يصلي؟ وكيف يبيع ويشتري؟ وكيف يحكم؟ جاء هذا الدين ليهيمن على حياة الإنسان كلها دقيقها وجليلها، ولا يجوز التفريط بشيء من الدين، أو اعتقاد أن جزءاً من الحياة غير داخل في مسألة الهداية الربانية، ولابد أن تكون الدعوة إلى الدين لا إلى الهوى، فالدين واحد، أما الأهواء فهي شتى، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48] فيجب أن ندعوا إلى دين الله كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، لا ندعوا إلى أمزجتنا، ولا إلى رغباتنا، ولا إلى أهوائنا، ولا إلى آرائنا الشخصية، وإنما ندعو إلى دين الله، أما آراؤنا فإننا قد نعرضها، ولكننا لا نلزم بها أحداً؛ لأنها تحتمل أن تكون خطأ وأن تكون صواباً، والرايات المرفوعة اليوم كثيرة، والكثير منها ينادي إلى القرآن والسنة، ولا شك أن الدعوة إلى الكتاب والسنة دعوة خير ودعوة تامة كما في الدعاء: (اللهم! رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة) .
والخلاف اليوم بين المسلمين كثير، وربما الكثير منه خلاف شخصي، ناتج عن اختلاف الطبائع وتفاوت المَلَكات، ويمكن تجاوز هذا الاختلاف بأن نقوم بعمل واحد لخدمة هذا الدين، قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] .
ولابد أن تكون دعوتنا إلى الدين فوق مستوى أن ندعو إلى لافتةٍ أو راية خاصة، أو حزب خاص، أو شخص معين، وإنما نحن نهتم بالدين وندعو إلى الدين، ولا يهمنا بعد ذلك أي جنس تكون، وأي لون تكون، وأي اسمٍ تنتحل، فإن المهم هو أن تكون ملتزماً بحقيقية الدين ومظهره وجوهره.
فلابد أولاً: أن نقوم بدعوة جادة إلى دين الله عز وجل، ولابد ثانياً: أن تكون هذه الدعوة موجهة للأمة كلها، فليست الدعوة إلى الإسلام حكراً على طائفة خاصة من المثقفين مثلاً، أو من الأذكياء، أو من الطلاب والشباب، أو من الدعاة، كلا، الدين نزل إلى الجميع، والأعرابي الذي يركض وراء إِبِلِه، أو يرعى غَنَمَه، قد نزل الدين له.
وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه لدعوتهم.
وقد يتساءل البعض: وماذا يستفيد الإسلام من أعرابي في الصحراء؟! أو مزارع في بستانه؟! فأقول: دَعْكَ من
السؤال
ماذا يستفيد الإسلام من هذا الرجل؟! لكن اسأل ماذا يستفيد هذا الرجل من الإسلام؟ يكفيه أن ينقذه الله تعالى من النار، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على يهودي، وهو في مرض الموت فقال له: قل: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) فنطق بها، ثم مات، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده، وهو يقول: {الحمد لله الذي أنقذه من النار} .
هذا الرجل اليهودي الذي أسلم لم يقدم للدين شيئاً، لكنه قدم لنفسه؛ فالدين جاء لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ووقايتهم من عذاب السعير ومن سخط الله تعالى؛ لأنهم سيحظون برضوان الله تعالى، فالذي يهمنا أن ننقذ الناس بدين الله تعالى، ولو لم يقدموا لدين الله تعالى شيئاً، ثم إن هذا الأمر جانب من تعظيم الإسلام لقدر الإنسان.(276/10)
بالهداية يَعْظُمُ قَدْرُ الإنسان عند الله تعالى
فالإنسان إذا اهتدى كان له شأن كبير وقدر عظيم عند الله عز وجل مهما رَخُصَ في نظر الناس، وقد هَبَّت الريح في يوم من الأيام فلَعِبَت بـ عبد الله بن مسعود، وكان قصير القامة نحيف الساقين، فضحك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من دقة ساقيه؟ والله لهما في الميزان أثقل من جبل أحد} .
ثم إنك لا تدري في أي طعامك البركة، فما يدريك أن هذا الأعرابي الذي تحقره، أو هذا الفلاح الذي لا تقيم له وزناً، أو هذا العامي المشغول بتجارته، أو هذا الإنسان الساذج المغفل الذي لا تعبأ به، ما يدريك أن هذا الإنسان عظيمٌ عند الله، أو صادق القلب، أو مخلص النية، أو ذا دعوة مستجابة؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ابغوني ضعفاءكم هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم واستنصارهم} .
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودَمِّر أعداءك أعداء الدين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم ارض عن صحابته وعن التابعين وتابع التابعين إلى يوم الدين، وعنا معهم يا أرحم الراحمين.
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وراقبوه، واحذروا أسباب سخطه فإن طاعة الله تعالى وتقواه خير زاد.
والسلام عليكم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(276/11)
خصائص الطائفة المنصورة
تطرق الشيخ لخصائص الطائفة المنصورة، فذكر شمائلها وصفاتها وبيان حاجة الأمة الماسة إلى هذه الطائفة، كما أنه يحتوي على تعريف بهذه الطائفة، وتبيين للفرق بينها وبين الفرقة الناجية.(277/1)
طبقات الفائزين
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وخيرته من خلقه، نبينا محمد النبي الأمي، الذي بعثه الله تبارك وتعالى هادياً ونذيراً, فهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وأنا بدوري أشكر الإخوة القائمين على هذا المسجد وعلى نشاطاته، وعلى دعوتهم الكريمة لإلقاء هذه المحاضرة, وإضافة إلى ما تفضل به أخي مقدم هذه المحاضرة، فإنني أحب قبل أن أدخل في صلب الموضوع، الذي أردت أن أقوله لكم, أن أشير إلى قضية سبق أن تحدثت عنها في محاضرة بعنوان طبقات الفائزين وخلاصة تلك المحاضرة أن الفائزين من المسلمين على ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: من تحقق لهم وصف الإسلام فحسب، ممن ينطقون بالشهادتين, ويؤدون الصلوات إجمالاً, ولا يرتكبون ما يخرجهم من الملة, فهؤلاء في الجملة ناجون، ومن أهل الجنة, وإن عذبوا في النار بقدر ذنوبهم ومعاصيهم, وهذه دائرة واسعة.
الطبقة الثانية: وأضيق منها دائرة تسمى الفرقة الناجية وهي تخص أولئك الذين التزموا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة الصحيحة، والسلوك، والبعد عن مخالفته عليه الصلاة والسلام, وهم الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم {من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي} .
الطبقة الثالثة: وداخل هذه الدائرة الوسطى دائرة ثالثة، وهي أضيق منها وهي دائرة الطائفة المنصورة, والتي يضاف إلى كونها من الفرقة الناجية، أنها تميزت بخصائص ومميزات هي موضوع محاضرتنا الليلة.(277/2)
الإسلام نزل ليبقى
أيها الإخوة: الإسلام نزل يوم نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، نزل ليبقى ويخلد إلى قيام الساعة, وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] رايات الإسلام لا زالت خفاقة مرفوعة, وسيوفه لا تزال مشرعة, وهذه عقيدة يجب أن تستقر في نفوسنا، الإسلام نزل ليبقى.
الناس الذين جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم باقون، لذلك فإن الدين باقٍ, والعالمون الذين بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة لهم, هم باقون، ولذلك فإن الدين باقٍ إلى أن ينتهي الناس، وينتهي آخر إنسان على هذه الأرض، وحينئذٍ تنتهي الرسالة والنبوة، ومهمة الأنبياء والمرسلين.(277/3)
الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة
لن يقوم بأمر هذا الدين، ويرفع رايته، ويجاهد في سبيله، إلا الواثقون بنصر الله جل وعلا، الواثقون بوعده، المطمئنون إلى مستقبل الإسلام, هذه القضية يجب أن تستقر في نفوسنا, ومن بديع بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره لنا في بقاء هذا الدين، وأن المستقبل له, وأنه خالد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها, أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا في أحاديث كثيرة ببقاء الجهاد في سبيل الله إلى قيام الساعة.
الجهاد المسلح -مثلاً- في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد فتح مكة: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا} , هذا الحديث يؤكد بقاء الجهاد, وفي المقابل أن الهجرة من مكة إلى المدينة انتهت بفتح مكة، حيث أصبحت دار إسلام, فإن الجهاد باقٍ، لذلك قال: {ولكن جهاد ونية} , أي: أن الجهاد باقٍ والنية باقية, وكما أن عبادة الله تعالى بالنية الصالحة والقصد الحسن باق, فكذلك الجهاد باقٍ, باقٍ من حيث التشريع، بمعنى أنه غير منسوخ, ولا يستطيع أحد أن ينسخ الجهاد, لا حاكم، ولا رئيس، ولا سلطان، ولا أمير، ولا ملك، ولا هيئة، ولا مؤسسة، ولا جهاز، ولا ميثاق الأمم المتحدة، ولا غير الأمم المتحدة, لا يستطيع أحد أن ينسخ شرعية الجهاد، التي فرضت بنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة المحكمة، التي لا يرتاب فيها أحد.
لذلك لو أنكر أحد فرضية الجهاد وشرعيته, فإنه يبين له، فإن أصرّ فإنه يقتل كافراً بالله العظيم؛ لأن الجهاد من الشرائع الظاهرة المتفق على مشروعيتها على سبيل الإجمال، فالجهاد باقٍ من حيث التشريع، كما أنه باقٍ من حيث الواقع, فإن هذه الأمة لا يمكن أن تفقد المجاهدين أو الداعين إلى الجهاد, بل شأن هذه الأمة كما قال الأول: إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول(277/4)
أحاديث بقاء الجهاد
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بقاء الجهاد في أحاديث أخرى، تكاد أن تصل إلى حد التواتر، بل هي متواترة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} وفي روايات {الأجر والمغنم} يعني: الخير الموجود في الخيل هو الأجر للمجاهد، والغنيمة التي يحصل عليها من عدوه وهذا الحديث ثبت عن جماعة من الصحابة، في الصحيحين والسنن وغيرها، وهو حديث متواتر, وهو يدل على بقاء الجهاد, فإن الخيل آلة من آلات الجهاد, وبقاؤها يدل على بقاء الجهاد، وليس المقصود الخيل فقط, بل إما أن يكون المقصود كل آلة تستخدم للجهاد، في كل عصر بحسبه, فحين كان الخيل آلة الجهاد، وفي حين آخر يكون الجهاد بالمدفعية والدبابة والطائرة والصاروخ, وحيناً يكون الجهاد بوسائل أخرى, وقد يعود الأمر، ويعود في آخر الزمان إلى أن تكون الخيل والسلاح الأبيض -كما يسمى- هو آلة الجهاد، ولذلك جاء في أحاديث الملاحم التي تقع قبل قيام الساعة أنهم يقاتلون بالخيول والسيوف، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أحد الأحاديث لـ مسلم قال: {بينما هم علقوا سيوفهم بشجر الزيتون} يعني: المجاهدون الذين فتحوا القسطنطينية قد علقوا سيوفهم بشجر الزيتون {فصاح بهم صائح أن الدجال قد خلفكم في أموالكم وأهليكم} وفي حديث آخر لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الشرطة الذين يشترطون على الموت، ويقاتلون الروم, قال: {إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم} , فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم على الخيول، فهذا لا يمنع أنه في آخر الزمان تعود الأمور إلى ما كانت, وليس ببعيد أن تتغير أوضاع البشر، وأن تتغير هذه الحضارة التي تهيمن عليها, ولو بعد مئات السنين، أمور الله أعلم بها، فهي قضايا في علم الغيب لا يعلمها إلا الله, لكن ليس بمانع أن يحدث هذا, ويعود الناس للقتال بالسيوف والخيل، وغيرها من الوسائل القديمة.
وبعض أهل العلم يقول: هذا تعبير عن الوسائل التي تستخدم في كل عصر، ولو لم يكن المقصود به السيف أو الخيل, المهم أن قوله عليه الصلاة والسلام: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم} يدل على بقاء الجهاد؛ لذلك قال الإمام الترمذي قال الإمام أحمد: فقه هذا الحديث أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة مع البر والفاجر.
وكذلك الإمام البخاري بَوَّبَ في صحيحه على هذا الحديث بقوله: باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر.(277/5)
تقديم الاهتمام بالعمل على النية(277/6)
الطائفة المنصورة هي التي تقود حركة الجهاد
هذه الطائفة المنصورة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي تقود حركة الجهاد في الأمة، في كافة الميادين, وترسم خطى المسلمين إلى هذا الجهاد، وإن لم يلزم أن تتفرد هذه الطائفة المنصورة بالجهاد دون غيرها, وفي حدث من الأحداث الكبرى, كأحداث الساعة التي يعيشها المسلمون اليوم, والمفاجآت التي لم تكن لهم، أو لكثير منهم في حساب, في كل أزمة سياسية أو عسكرية تمر بالمسلمين، يتلفت المسلمون وهم في حيرة لا يعلم مداها إلا الله, يريدون أن يصنعوا شيئاًَ، لكنهم بحاجة إلى قيادة تقول لهم: الطريق من هاهنا, فيتلفتون فلا يجدون إلا الطائفة المنصورة, هنا يتجلى زيف القيادات السياسية التي تتاجر بالشعارات، وتستخدم البهرج, والتهريج الإعلامي لخداع الناس وتضليلهم, فيوماً تعلن الجهاد، وآخر تعلن السلام, ويوم ثالث تقوم بحركات عشوائية هنا وهناك باسم العروبة، وأخرى باسم الإسلام، وأخرى أيضاً باسم القومية, فينكشف زيف هذه القيادات، وتتجلى حقائقها, وتفقد الأمة الثقة بها, وهذا يزيد من حيرتها فإذا بالطائفة المنصورة ترفع الراية وتقول للناس: الطريق من هاهنا.
لهذا دعت الحاجة إلى تمييز خصائص هذه الطائفة المنصورة ومعرفتها، حتى يلتف المسلمون حولها من جهة، وحتى يحرص كل مؤمن على أن يكون مشاركاً في هذا العمل الجليل، الذي تتصدى له الطائفة المنصورة، وأن يكون فرداً من أفرادها.(277/7)
أحاديث الطائفة المنصورة مع أحاديث بقاء الجهاد
وفي إطار بقاء الجهاد المسلح في هذه الأمة، تأتي أحاديث الطائفة المنصورة, التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه {لا يزال في أمتي طائفة منصورة، قاهرة لعدوها، ظاهرة عليه، غالبة، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، إلا ما يصيبها من اللأواء والجهد، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم ظاهرون على الناس} وفي بعض الطرق: {إلى يوم القيامة} , وفي بعضها: {إلى قيام الساعة} , وهذا الحديث متواتر.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرون حديثاً أو أكثر, كلها في هذا الإطار، ولذلك حكم العلماء بأنه حديث متواتر، فثبوته قطعيٌ لا شك فيه, وممن صرح بذلك الإمام ابن تيمية، والسيوطي والزبيدي، والكتاني، وغيرهم.
فهو حديث قطعي ثابت، وبالتالي فإن ما دل عليه من بقاء الطائفة المنصورة أمر ثابت، وهذا خبر يَسَرُ كل مؤمن.
خبره صلى الله عليه وسلم عن بقاء الجهاد المسلح، هو من باب الأولى، خبر عن بقاء ألوان الجهاد الأخرى, فإذا كنا نعلم أن الجهاد المسلح باقٍ في الأمة إلى قيام الساعة, علمنا من جراء ذلك أن أنواع الجهاد الأخرى باقية من باب الأولى, الجهاد بالدعوة، وبالتعليم، وبالتربية، وجهاد المنافقين، والجهاد السياسي، والجهاد المالي، والجهاد الاجتماعي, وألوان المجَاهَدات في الأمة باقية, فكأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالأعلى على الأدنى, يعني: ما دام الجهاد بالسيف، وهو ذروة سنام الإسلام باقية إلى قيام الساعة, فمعناه أن ألوان المَجاهَدَات الأخرى باقية هي الأخرى إلى قيام الساعة.(277/8)
خصائص الطائفة المنصورة
لذلك أقول: إن الطائفة المنصورة تتميز بخمس خصائص أو سمات أو صفات:-(277/9)
الخاصية الخامسة: الصبر
عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن من ورائكم أيام الصبر, الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للصابر فيهن أجر خمسين يعملون مثل عملي} وجاء في بعض الروايات, يا رسول الله! منهم؟ قال: {بل منكم} , والحديث رواه أبو داود والترمذي , وقال الترمذي حديث حسن غريب, وهو في الواقع ضعيف، ولكن له شاهد آخر عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه بنحوه، رواه المروزي بسند مرسل رجاله ثقات, وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه عند الترمذي وغيره, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمان، القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر} إنسان ماسك جمرة في يده, ماذا يحدث؟ يحس بألم النار ولهبها، فيقول: الآن أتركها الآن ألقيها، ولكنه يتصبر حتى يصبره الله عز وجل, ومن يتصبر يصبره الله: وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلا الطائفة المنصورة هم أئمة الأمة بصبرهم، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] , قال سفيان بن عيينة رحمه الله: أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤوساً.
فالمعنى الحقيقي للصبر أنه حبس النفس، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه البخاري وغيره {ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} , الصبر يكون في البأساء والضراء وحين البأس.
من الناس مَن قد يصبر في الشدة, إذا خاض المعركة يصبر صبراً جميلاً, لكن إذا أقبلت عليه الدنيا وجاءته الدنيا، والأموال، والمراتب، والجاه العريض؛ فإنه قد لا يصبر وقد ينسى, ومن الناس من يصبر في هذا ويصبر في ذاك, لكن إذا جاءته الشدة فإنه لا يستطيع أن يصبر ويتماسك، لهذا رَبَّى الله تعالى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة على الصبر, والعربي فيه أريحية وقوة وشهامة ومروءة، كان لا يصبر على الضيم.
ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد فالعربي كان بطبيعته لا يقبل الذل, يموت دون كرامته, لكن لما جاء الإسلام رَبَّى في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أين يصبروا؟ وقال لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] , فكان الواحد منهم يسحب في الشارع على وجهه، ويوضع في الرمضاء وتوضع الصخرة على ظهره, ويجره الصبيان يلعبون به، ويبصق في وجهه، ويؤذى ويقتل، ويأتي أبو جهل إلى أحدهم فيضرب زوجته في موضع العفة فيقتلها, ويشردونهم ويأخذون أموالهم، وينشرون ضدهم الإشاعات, وكل ذلك كانوا يواجهونه بالصبر الجميل.
وعندما جلسوا ثلاث عشرة سنة يصطلون بهذه النار, نضجوا نضجاً صحيحاً، فحينئذٍ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] , {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] إلى آخر الآيات, فلما علم الله -تعالى- صدقهم وصبرهم، وأنهم لما قيل لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] كفوا أيديهم, بعد ذلك أذن لهم بالقتال، ثم أمرهم به، ونصرهم على عدوهم نصراً مؤزراً.
فمن الصبر أن تصبر على الشدة والصعوبة، وأن لا تتحرك بدافع الحماس المجرد، أو كما يقول بعضهم: أقف مكتوف الأيدي! إذا نزلت به مصيبة أو تصدى له عدو! لا يا أخي! لا تقف مكتوف الأيدي, هناك شيء اسمه الصبر؛ الصبر عبادة، تتعبد الله بالصبر, وهناك شيء آخر اسمه الدعاء، والدعاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {هو العبادة} , فهذا كله من الصبر، الذي يتميز به أفراد الطائفة المنصورة، وليس صبوراً من ينفعل ويفجر المواقف بحجة أن لا يقف مكتوف الأيدي, كما سبق "كفوا أيديكم" {ليس الشديد بالصرعة} .
الخاتمة:- هذه أبرز خصائص هذه الطائفة، في حدود ما ظهر لي، وما علمت، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم, وأن يكتب على أيدينا وأيديهم نصر الإسلام في كل مكان, وأن يقر أعيننا وأعينكم بارتفاع كلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله, وأن يكتب لهذه الأمة النصر والتمكين على عدوها في كل مكان، وأن يخذل أعداءها حيث كانوا, إنه على كل شيء قدير.
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك, اللهم اهدنا واهدي بنا, اللهم انصرنا على القوم الكافرين لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين, اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(277/10)
الخاصية الرابعة: أن هذه الطائفة ظاهرة إلى قيام الساعة
ظاهرون على الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما معنى الظهور؟ يبدو لي أن معنى الظهور يمكن أن يطلق على ثلاث معانٍ، كلها يحتملها الحديث, وكلها من خصائص الطائفة المنصورة.
المعنى الأول: الظهور بمعنى الوضوح والبيان, تقول: هذا شيء بيّن، أي ما فيه لَبْسٌ ولا خفاء, بمعنى أنهم معروفون، مثل الشمس، مثل القمر، وهل يخفى القمر؟! لا يخفى, فطبيعة المهمات لالطائفة المنصورة تقتضي أنهم معروفون؛ لأنهم يتحركون في وسط الأمة, فهم جزء منها، يتحركون من خلالها, لذلك أصبحوا معروفين مشهورين، فهم أشهر من نارٍ على علم, ليسوا يعملون في الظلام, وبضاعتهم يعرضونها في النهار، على مرأى ومسمع من الناس, القريب والبعيد, والعدو والصديق, بضاعتهم ظاهرة مكشوفة، ليس فيها لَبْسٌ ولا خفاء.
ولذلك فإنهم يشكلون تلاحماً قوياً, وهذا معنى أرى أنه في غاية الخطورة والأهمية بالنسبة للداعية إلى الله عز وجل, يجب أن نتفطن لها, أن هذه الطائفة المنصورة جزء من الأمة، جزء من المجتمع, صحيحٌ أنها متميزةٌ بخصائص, لكن لا يعني هذا أن الطائفة المنصورة تستعلي على الأمة, وتنظر إلى الأمة شزراً, تنظر من علو، تتسلط على الناس! لا, الطائفة المنصور تحاول أن تشتبك مع الناس, ليس اشتباكاً، أن تواجههم، بل تختلط معهم, تكون جزءاً منهم، فهي وهم كالجسد الواحد, وخذ بعض النصوص الشرعية التي تؤكد هذا المعنى.
مثلاً: التصدي لهموم الناس المعيشية القريبة, فالناس يحتاجون إلى من يتصدى لهمومهم, فعندهم قضايا مادية، فقر ومشكلات معينة، أو حاجات مادية، وظروف يعانونها، وصعوبات يواجهونها في الحياة, وضرائب تفرض عليهم, أشياء يجدون صعوبةً في التعامل معها, هذه قضايا قريبة تهم كل إنسان، حتى وإن كان متديناً أو غير متدين, لذلك فإن الاهتمام بهذا الهم الذي يستطيع أن يسميه هماً جمهور الناس، هو أيضاً جزء من هم الطائفة المنصورة, حاجات الناس ومطالبهم الدنيوية التي يريدونها, هي جزء من مهمة الطائفة المنصورة, وجزء من الإحسان.
ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن في أحاديث كثيرة بعض الحقوق للمسلم على المسلم, مثل رد السلام, وعيادة المريض, وتشميت العاطس, ونصر المظلوم, حتى جاء في حديث أبي سعيد الخدري وغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا قُدِّسَت أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} فالأمة التي تسلط فيها الظالمون والضعيف لا يستطيع أن يأخذ حقه, فهذه الأمة ليست أمة مقدسة، أمة آيلة إلى الزوال والفناء, وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بمناسبة قصة، وهي أن أم سلمة ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم قصة عجيبة رأتها في الحبشة قالت: يا رسول الله! حين كنا مهاجرين في الحبشة, جاءت امرأة عجوز تحمل قربة من الماء على ظهرها, فجاء شاب طائش مراهق, وضرب هذه القربة من وراءها، فسقطت منها، وسقطت العجوز, وهي مسكينة لا تملك طولاً ولا حولاً ولا قوة, فقامت ونظرت إلى هذا الشاب, وقالت له: ستعلم يا غُدَر، إذا نزل الله لفصل القضاء، كيف يكون جزاؤك, فتعجبت أم سلمة من كلام هذه المرأة، وإيمانها، ومعرفتها بأن الله ينزل يوم القيامة لفصل القضاء بين الناس! وأخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم, فأقرها وقال: {صدقت لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف حقه غير متعتع} , وفي أحاديث أخرى: {إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم, فقد تُوُدِّعَ منها} , وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها ضعف، إلا أنه يشد بعضه بعضاً ويوجد ما يشهد لها.
إذاً: دفع الظلم عن الناس، ونصر المظلوم، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} قالوا: يا رسول الله! هذا نصره إذا كان مظلوماً، -إذاً عرف الأولون بالبديهة أن المظلوم ينصر على من ظلمه- فكيف أنصره ظالماً؟! قال: {تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره} تمنعه وتحجزه من الظلم فإن ذلك نصره.
إذاً: المسلمون يعرفون أن نصر المظلوم من حقوق المسلم على المسلم, رفع الظلم عنه، وإعانة المحتاج، ورد السلام، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، واتباع الجنائز, إذاً فهموم الناس اليومية ينبغي أن يشتغل بها أفراد الطائفة المنصورة، ويحرصوا أن يكونوا جوار الناس في هذه الهموم.
جانب آخر: فيما يتعلق باحتكاكهم بالناس: الطائفة المنصورة جزء من هذه الأمة، ظاهرون معروفون مشهورون, الوضوح في شخصياتهم، بحيث يعرفهم الناس ويثنون عليهم, وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً فمُرّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً, -فقالوا: هذا رجلٌ يقوم الليل, وقال آخر: هذا يصوم النهار, وقال آخر: أما إنه بار بوالديه, وقال رابع: كان محسناً لجيرانه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت وجبت} , ثم مُرّ بعد ذلك بجنازة أخرى فأثني عليها شراً, قال أحدهم: هذا مؤذٍ لجيرانه, وقال آخر: عاقٌ لوالديه, وقال ثالث: لا يشهد الصلاة مع الجماعة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت وجبت} قالوا: يا رسول الله! ما وجبت؟! قال: {هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة, وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت عليه النار, أنتم شهود الله في أرضه} , وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله رجل: كيف أعرف يا رسول الله إذا كنت محسناًَ أو غير محسن؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا قال لك جيرانك أنت محسن فأنت محسن} , وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مسلم يموت، يشهد له أربعة بالخير, إلا قبل الله تعالى شهادتهم فيه وغفر له ما لا يعلمون} قالوا: يا رسول الله! وثلاثة؟ قال: {وثلاثة} , قالوا: واثنان؟ قال: {واثنان} , ثم لم نسأله عن الواحد.
إذاً: شهادة الناس لأفراد الطائفة المنصورة بالخير هي جزء من خصائصها ومميزاتها وسماتها, وكيف شهد الناس لهم بالخير؟ لأنهم معلنون لدعوتهم، ومظهرون لها, ومعروفون بين الناس, يتحركون في وضوح النهار، مثل الهواء الطلق, فيعرف الناس بلاءهم وجهادهم، ويثنون عليهم بذلك.
جانب ثالث: ثناء هؤلاء الأفراد على المحسنين من الناس أياً كانوا: فكما ذكرت ليس أفراد الطائفة المنصورة أمة مستعلية، تنظر إلى الناس بالعلو، وتحتقرهم؟! كلا, بل هم رفيقون بالناس، حريصون على هدايتهم, ولذلك وهم يتحسسون آلام الأمة، وإذا وجدوا صواباً قالوا: هذا صواب, في صحيح البخاري أن رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب الخمر, فيؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فيجلده, فأوتي به يوماً, وهم في المنزل فجلدوه بالجريد والنعال نحو من أربعين, وفي رواية قال رجل: (لعنك الله) أو لعنه الله, ما أكثر ما يؤتى به! كل مرة يأتينا وهو سكران, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تعينوا الشيطان على أخيكم، أما إنه ما عُلِم إلا أنه يحب الله ورسوله} , فالرسول صلى الله عليه وسلم يلقننا درساً عظيماً في الدعوة, وأسلوب التعامل مع الناس, الآن: نحن مع رجل فاسق، قد يكون تاب في حين شربه للخمر؛ لأنه يشرب الخمر وهي من الكبائر، وهو مصر عليها أيضاً, ولعله تاب فتاب الله عليه, لكنه كان مرتكباً فسقاً، إن لم نقل فاسقاً فإنه مرتكب فسقاً ولا شك, وهذا كثير في نظر الكثيرين، بأنهم يهدرون كل ما له من حسنات, ولا يعتبرونها شيئاً, ولذلك لعنوه, فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {لا تعينوا الشيطان على أخيكم} ثم أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالخير الذي يعلمه فيه، أنه يحب الله ورسوله.
إذاً: الطائفة المنصورة إذا وَجَدَتْ طيباً هنا أثنت وقالت: هذا شيء طيب, فيجب أن يستمر ويبارك ولا يُزال, وإذا أحسن شخص, قالوا: أحسنت؛ لأنهم شهداء, والشاهد يجب أن يذكر الحسن والقبيح, ولهذا فإن الطائفة المنصورة منفتحة على الناس، والأمم، والجماعات, حتى على الطوائف والأحزاب، فإذا وجدنا -مثلاً- في أمة من الأمم، أو جماعة من الجماعات، أو حزب من الأحزاب، أو مؤسسة فيها شر, لكن فيها جانب خير أصابوا فيه، نقول لهم في هذا الموضع: أحسنتم, وهذا أمر تشكرون عليه، ويكون هذا ذريعة بأن ندعوهم إلى تبديل النقص الموجود عندهم, فإنك إذا أثنيت على الإنسان انفتحت نفسه لقبول الحق الذي تحمل، وقبول النصيحة منك.
جانب رابع: يتعلق في اختلاط هذه الطائفة بتلك الأمة, وهو أنهم ينزلون بدعوتهم إلى واقع الناس, ليسوا في بروج عاجية، يقولون: من يريدنا يأتي! لا, فهم ينزلون بالدعوة إلى واقع الناس, ينزل الداعية إلى البيت، فيدعو الوالدين والإخوة والأخوات بكافة الوسائل, وينزل إلى المسجد، فيدعو الناس، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, ويعلمهم القرآن والسنة، وما أنزل الله على رسوله, ينزل بالدعوة إلى الحي، وإلى العائلة والأسرة التي ينتسب إليها, إلى زملائه الذين يدرسون معه، أو يعمل في الوظيفة معهم، بحيث إن الدعوة أصبحت روحاً يسري في الأمة كلها ويتخللها, وهذا جزء من الظهور الذي تتميز به الطائفة المنصورة, أما أنني لا أقول: إنه يلزم كل فرد بذلك, لكن الطائفة المنصورة إجمالاً، هذا جزء من عملها ومهمتها, فهي كالتاجر الماهر الذي عنده بضاعة يريد أن يسوقها, تجد أنه يستطيع -على أقل تقدير- أن يبث دعاية ناجحة لبضائعه, لذلك في البلاد الغربية يدفعون أحياناً مئات الملايين على دعاية واحدة لسيارة, لماذا؟ لأنهم يعرفون أن هذه الدعاية، وإن بذلوا فيها ما بذلوا, إلا أنها تعود عليهم بالأرباح الطائلة الهائلة, وبعملية حسابية يدركون أنهم رابحون بهذه الدعاية.
كذلك الداعية يستطيع أن ينشر بين الناس بضاعته, بحيث يقبلون عليه عن رضا وطواعية واختيار, أو هو مثل الطبيب الرحيم، الذي لا يجلس في مكتبه ويقول: المريض متى شاء يأتيني! بل إذا وجد في الناس موتاً عاماً ومرضاً فإنه يخرج من مكتبه، وينزل إلى واقع الناس، فيدخل هذا البيت ويُمَر(277/11)
الخاصية الثالثة: أنها المجددة للدين في هذه الأمة
هذا أحد المعاني في حديث ثوبان السابق، أنه صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر الأئمة المضلين ذكر الطائفة المنصورة, وكأنه صلى الله عليه وسلم ذكر معنيين متقابلين, فكأن الحديث يقول لك: هذه الأمة فيها جهتان متصارعتان, من جهة أئمة مضلين, وحينما نقول: أئمة مضلون، ليس بالضرورة الساسة والحكام فقط, الحكام منهم أئمة مضلون، والمسئولون منهم أئمة مضلون, والصحفيون منهم شخصيات مضللة, إذاً بشكل عام، وقل مثل ذلك في المفكرين, وفي الأساتذة، وفي من تنظر إليهم الأمة, على أنهم قيادات لها, الأشخاص البارزون الذين تتردد أسمائهم في المجالس والمجامع، ويعرفهم الخاص والعام، والصغير والكبير, هؤلاء بمجموعهم أئمة منهم مضلون, ومنهم أئمة يهدون بأمرنا فالإمامة نوعان، لذلك قال الله تعالى عن فرعون وقومه {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41] , وقال: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] , وقال هاهنا في ذكر الأئمة الضالين المضلين قال {وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين} هذا طرف يقابل هذا الطرف ويجاهده ويناوشه، الطائفة المنصورة، وهم الأئمة الهداة المهتدون, الذين يقاومون عوامل الفساد في الأمة، ويجددون الدين لهذه الأمة, ويحاولون دفع الغربة بقدر ما يستطيعون, لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره, عن أبي هريرة، وسنده حسن، قال عليه الصلاة والسلام: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} , ونحن الآن نعيش بدايات قرن جديد، عندما يقول: {على رأس مائة سنة} ليس بالضرورة أنه رأس مائة سنة أي: يوم أو شهر أو سنة, بل قد يكون سنوات, أي: عشرون سنة في أول القرن تعتبر رأس القرن, يعني بدايته, بداية القرن الجديد, عشرون سنة في آخره تعتبر رأسه، بمعنى نهايته, والرأس يطلق على البداية وعلى النهاية.
إذاً: نستطيع أن نقول: أواخر القرون وأوائل القرون التي بعدها هي المناطق التي تبرز فيها حركات التجديد في هذه الأمة, وتزيل ما علق بالدين من انحراف, وهذا التجديد الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء على ثبوته, وهذه بشارة أخرى جديدة، وهذا الحديث على الرغم أن له إسناداً واحداً، وهو إسناد حسن, إلا أن الأمة والعلماء أجمعوا، أولهم وآخرهم، على أن هذا الحديث صحيح، وتلقوه بالقبول، ونقل جماعةٌ الإجماع على تصحيحه.
إن التجديد عمل جبار، عمل عظيم، يتناول الأمة في جميع مجالاتها, ويتناول الأمة في جميع بلادها, لذلك لا يتصور خاصة في القرون المتأخرة -كما يظن الناس- أن المجدد شخص واحد, قد يكون من أبرز المجددين الأشخاص المشار إليهم، لكن قد يكون في كل بلد أفراد وآحاد من الناس، وفي أمور مختلفة، فمنهم دعاة، وعلماء، ومصلحون، ومنهم أصحاب أصناف كثيرة من الخير، لا ينحصرون تحت اسم واحد, ولا تحت شخصٍ واحد بالضرورة, فالتجديد عمل عظيم, يحتاج إلى طوائف من الناس، يقومون بهذه المهمة الجليلة.
وهنا أود أن أنبه في هذا المجال إلى سر لطيف مهم, وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا -كما أسلفت في مطلع الكلمة- أن هناك فرقة ناجية, هذه الفرقة الناجية قد يكون منها أفراد آثروا العزلة -فمثلاً- إنسان وصالح ومستقيم، على عقيدة السلف الصالح ليس عليه ما يعاب, لكنه إنسان إذا جالس الناس، واحتك بهم، وخرج إلى الأسواق، وسمع الإذاعات، والأخبار, فإنه يصاب بضرر عظيم, ويتكدر تكدراً شديداً، ويصبح مزاجه متعكراً إلى الآخر، لا يستطيع أن يعمل شيئاً, وأعصابه مشدودة, وربما يفسد لو أراد أن يعمل شيئاً لشدة حساسيته, فهذا الإنسان يقول: أنا -والله- رأيت أحسن ما لي أن أعتزل هذه الأمة؛ أصلي مع الجماعة، ثم أذهب إلى بيتي؛ لأنني لو أنكرت المنكر كنت سبباً في زيادته, وإذا سمعت الأشياء أصابني تشاؤم، وأصابني غيظ شديد، فرأيت العزلة خير لي, قد يكون هذا مصيباً, يعتزل الناس ويدع الناس من شره, هذا الإنسان هل نستطيع أن نقول: إنه من الفرقة الناجية أم لا نصفه؟ نصفه, لأنه ما عليه مأخذ, لكن هل نستطيع أن نصفه أنه من الطائفة المنصورة؟! لا, الأقرب والأظهر أننا لا نصفه, لأنه لا يقوم بجهد, لأن النصر حليف الإنسان، يجاهد فَيُنْصَر, لكن هذا لا يقوم بجهد، اعتزل الناس، فهو من الفرقة الناجية، وهو إلى خير, بل هو من خير الناس, لكن لا يعد من أفراد الطائفة المنصورة، الذين يجاهدون في الواقع، ويعملون على إقامة الإسلام، وإحياء شعائره، وتجديد ما اندرس من أمر الدين.
إذاً عرفنا أن الطائفة المنصورة جزء من الفرقة الناجية, والفرقة الناجية وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها: {من كان على ما أنا عليه وأصحابي} , إذاً ليست مهمة المجددين في هذه الأمة أن يأتوا بدين جديد, ولا أنهم يخرجون عن إجماع الأمة بآراء شاذة، وأقوال غريبة منكرة, يزعمون فيها أنهم مجتهدون مجددون! لا, بل إن مهمة المجددين تتلخص في أمور: الأول: أنهم يعودون بالأمة إلى السمت، والهدي الأول، إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ولذلك قال الإمام مالك لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
الثاني: أن عند المجددين ميزاناً ومقياساً يسعون لجر الأمة إلى هذا الميزان, عندهم منارة شاهقة، هي الجيل الأول جيل الصحابة والتابعين, يجرون الأمة إلى محاولة أن تكون في مثل هذا الجيل, ليس المعنى مثلها في المباني والمراكب والملابس, إنما مثلها في الحقائق، وفي فهم الدين، وفي طريقة التعامل مع النصوص, وطريقة التعامل مع الواقع, فهم يعملون على تحويل الأمة إلى مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنهم يعملون على تنزيل الوقائع الجديدة في الأمة على النصوص الشرعية, بمعنى أن الأمة في كل عصر يتجدد عندها مشكلات كثيرة, خذ مثلاً: العصر الذي نعيشه, لو أتيت في المجال الطبي لوجدت آلاف المسائل الجديدة، التي يتكلم عنها الأطباء اليوم، ما كان الناس يعرفونها قبل مائة سنة, مثل القضايا مثل العلاج ونقل الأعضاء، وقضايا أطفال الأنابيب، وأشياء كثيرة جداً في المجال الطبي, الطبيب يقول: أنا يمكن أن أعمل عملية لكنني أحتاج إلى فتوى شرعية.
ننتقل إلى المجال الاقتصادي -مثلاً- تجد في المجال الاقتصادي معاملات وأساليب، وطرائق جديدة حادثة استخدمت تقنية العصر، وبعضها من عقول الناس، وبعضها أمور تحتاج أن يجتهد فيها علماء الأمة.
تنتقل إلى مجال التصنيع, وإلى التربية, أو إلى أي مجال، تجد ما يسميه الفقهاء بالنوازل، التي تحتاج أن يجتهد فيها علماء, ويبينوا حكم الله تعالى وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظنون ويعلمون في هذه النوازل, هذه هي مهمة المجددين، وليست مهمتهم أن يأتوا بدين جديد, ما عرفه المؤمنون، ولا سبقهم إليها أحد من العالمين.(277/12)
الصفة الأولى: أنها على الحق
لذلك وصفها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث {بأنها على الحق} وفي بعضها {بأنها قائمة بأمر الله} , وفي بعضها {بأنها على الدين} , وكل ذلك معناه واحد, وهو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويشمل ذلك أموراً منها: 1- الاستقامة في العقيدة, فالطائفة المنصورة هم أهل السنة والجماعة، الذي ليس لهم اسم يعرفون به إلا أهل السنة والجماعة, ليسوا جهمية، ولا مرجئة، ولا قدرية، ولا خوارج، ولا روافض, وليس لهم اسم يعرفون به إلا الانتساب للسنة والجماعة, وهم ينحازون إلى السنة, حين ينحاز الناس إلى البدعة.
2- الاستقامة على السلوك, بحيث يبتعد كل فرد منهم عن الانحراف في مسلكه، أو التردي في مهاوي الشهوات, أو الوقوع في أسباب الفسق والمعصية لله جل وعلا.
3- الاستقامة في تحصيل أسباب النصر المادية والمعنوية, فإن هذا جزء من الدين, وليست الطائفة المنصورة تقول: نحن جديرون بالنصر والتمكين؛ لأننا مؤمنون مسلمون صادقون, وتترك الإعداد المادي والمعنوي! كلا, بل هي تعرف أن من ضمن الاستقامة على الدين، والقيام بأمر الله جل وعلا، أن تأخذ الأهبة والعدة, المعنوية والمادية فتستعد بكل ما تستطيع، وتستخدم أرقى وأطول ما تفتَّقت عنه قرائح الناس, ووسائل العصر، من الطرق والأسلحة المادية، وغير المادية، ووسائل الوصول إلى الناس، وطرائق الدعوة، في القيام بالواجب الذي كلفها الله تبارك وتعالى به, فهذا جزء من الاستقامة التي تميزت بها, إضافة إلى استقامتها في القيام بالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذاً الخاصية الأولى: أن هذه الطائفة المنصورة على الحق، على الدين، مستقيمة عليه, لم يجتمعوا على أنهم من وطن واحد، ولا لأنهم من قبيلة واحدة، ولم يتعصبوا لاسم تحزبوا عليه، ولا لراية رفعت، ولا لشخص يدورون في فلكه, بل تذوب عندهم الأسماء والرايات والأشخاص, وينصهرون جميعاً بحيث إنهم يدورون مع الحق حيث دار, فالحق معهم يدور، وهم يدورون مع الحق, بهم عرف الكتاب, وبه عرفوا, ما يعرفون إلا بهذا، ولا يعرف الحق إلا من قبلهم وبواسطتهم, فالناس يحتاجون إليهم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب.(277/13)
الخاصية الثانية: أنها قائمة بأمر الله جل وعلا
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها قائمة بأمر الله, وهذه من أبرز خصائصهم، أنهم ليسوا يعيشون لأنفسهم، ولا لزوجاتهم، ولا لأولادهم فحسب, ولا لتجاراتهم وشركاتهم ومؤسساتهم، وإن كانوا كغيرهم يريدون ذلك ويحتاجون إليه, وهم أيضاً مطالبون بأن يضربوا بسهم فيه, لكنهم يعيشون لأكبر من ذلك, يعيشون للأمة كلها, يعيشون للجهاد، يعيشون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, يعيشون للدعوة إلى الله عز وجل, لذلك -وهذا سر خطير يجب أن نتنبه له- كانوا هم سبب بقاء الأمة ودفع العذاب عنها، كما قال الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116-117] , تأمل لهذا النص القرآني العظيم: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود:116] من هم أولو البقية؟ أولو البقية في هذه الأمة هم الطائفة المنصورة؛ لأنهم هم الذين ينهون عن الفساد في الأرض ويرفعون الراية، ويخطون الطريق, هم أولو البقية, لذلك لما ذكر الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود:116] عقب عليه في الآية التي بعدها في قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فهذه سنن إلهية, ووعود ربانية، يجب أن نؤمن بها، كما أننا نؤمن بما نرى أو نسمع أو نحس بحواسنا, يجب أن نؤمن أنه ما كان الله عز وجل ليهلك القرى، والمدن، والدول، والشعوب، والأمم، وأهلها مصلحون, لاحظ ما قال: صالحون! لا, ولم يقل: أهلها مسلمون, ولا عابدون، وإنما قال: مصلحون ولأَمْرٍ مَا عبر الله عز وجل هاهنا بالإصلاح لا بالصلاح, لأن المدار على وجود المصلحين, بمعنى أنه لا يمكن أن تخلو أمة من الأمم من عوامل الفساد والهدم والتخريب, سواء من صرعى الشهوات، أو من صرعى الشبهات, الذين يعملون فيما وسعهم لتدمير الأمة، حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجد مثلاً المنافقون، الذين يكيدون في الليل والنهار ويتتبعون عورات المؤمنين, ووجد -أيضاً- بعض الذين يقعون في المعاصي والشهوات، فيقع أحدهم في زنا، أو سرقة، أو شرب خمر، أو تخلف عن جهاد، أو ما أشبه ذلك، لكن كانت الغلبة والقوة والتمكين لأولي البقية من الصالحين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, الرافعين لراية الجهاد والدعوة, لذلك أنجى الله الأمة، ونقلها من نصر إلى نصر ومن تمكين إلى تمكين، ومن عز إلى عز.
وهكذا تظل الأمة محفوظة، ما دام فيها طائفة منصورة، ينهون عن الفساد في الأرض, فإذا زالت هذه الطائفة حق أمر الله تعالى على الأمة.
متى تزول هذه الطائفة؟! زوال هذه الطائفة له حالتان: 1- زوال جزئي: بمعنى تزول هذه الطائفة من مكان، مثلاً: دولة من الدول, سُلِّط عليها الظالمون، والطاغون والعلمانيون، فساموا المسلمين سوء العذاب, وزجوا بهم في غياهيب السجون, وسيطروا على أجهزة الإعلام والتعليم، والمناهج، والأوضاع الاجتماعية والسياسية, ولعبوا بمقدرات الأمة, فأصبح الخيرون ما بين شريد وطريد، وقتيل وأسير, هنا يمكن أن نقول: إن هذه الدولة، قد حق عليها عذاب الله عز وجل؛ لأن الطائفة المنصورة الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر، قد فقدت منها, وهذا زوال جزئي، في دولة معينة، ورقعة معينة.
2- زوال كلي: وهذا يستحيل أن تخلوا الأمة من وجود هذه الطائفة المنصورة، إلى أن يبعث الله الريح الطيبة في آخر الزمان, فتقبض أرواح المؤمنين، ثم تقوم الساعة, لذلك فإن من حكمة الله عز وجل أن الساعة لا تقوم إلا بعد أن يرسل الله تعالى ريحاً طيبة كريح المسك، مسها مس الحرير, فتقبض أرواح المؤمنين المجاهدين -الطائفة المنصورة- بكل سهولة ويسر, وينجيهم الله تعالى من معاناة الشدائد والأهوال, ومشاهدة العلامات الكبرى، ورؤية الزلازل والأهوال، التي يراها الناس عند قيام الساعة, فرحمة بهم يبعث الله تعالى تلك الريح، فتقبض أرواحهم، فإذا ماتوا هنا خلت الدنيا من الطائفة المنصورة، فحق عليها أمر الله فدمرها تدميراً.
إذاً: السر الذي به بقاء الأمة وبقاء الدولة هو وجود الطائفة المنصورة، التي تقوم بأمر الله عز وجل, ومن جانب آخر تستطيع أن تقول: إن السر الذي يحفظ الله تبارك وتعالى به الدول هو الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فمتى تخلت الدولة أو الأمة عن ذلك سلّط الله عليها الأعداء, ولو كان هؤلاء الأعداء شراً منها، فقد يهلك الله الظالمين بالكافرين, أو بمن هم أظلم منهم وأفسق وأطغى.
لكن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة, إنما يقوم بها ويتولى كبرى مهمتها أفراد الطائفة المنصورة, لهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو داود بسند صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تبارك وتعالى زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها -يعني صغر له الأرض وقربها وأظهرها له، فرأى النبي مشرقها ومغربها- وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها} وهكذا امتد ملك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أكثر مما امتد في جهة الشمال والجنوب, وهذا مصداق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما تشهد بذلك الوقائع التاريخية: {وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض -يعني ملك كسرى وقيصر- وإني سألت ربي عز وجل ألا يهلك أمتي بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن الله عز وجل قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد, ولا أهلك هذه الأمة بسنة بعامة} لا يهلك هذه الأمة بعذاب الاستئصال، الذي يأتي عليها ويدمرها عن آخرها! فالإسلام باقٍ نزل ليبقى, وهذه عقيدة يجب أن تستقر في أنفسنا: {ولا أهلك هذه الأمة بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً} يعني: تسليط العدو الخارجي، اليهود، النصارى، الشيوعيين، المجوس، لا يكون إلا بعد أن يدب الخلاف في داخل الأمة، ويقتل المسلم أخاه المسلم، ويتلاقى المسلمان بسيفيهما، ويسبي المسلم أخاه, فحينئذٍ يسلط الله تعالى عليهم عدواً من خارجهم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم، بعدما ذكر هذه الوعود الإلهية قال: {وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين} وهذا نموذج من الغربة، التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها سوف تحصل لهذه الأمة، وهي الأئمة المضلون، الذين يستخفون بهذه الأمة، ويضحكون بعقولها، من خلال وسائل الإعلام, ومن خلال طرائقهم في التضليل والخداع، وقد تجلت لنا في هذا الوقت أكثر مما تجلت في أي وقت مضى, ورأينا كيف يضحك هؤلاء المضللون المضلون، ليس بعقول السذج والبلة والمغفلين والصبيان، لكن بعقول الرجال الكبار، وبعقول من قد يكونون أحياناً من الدعاة العاملين: {وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين, وإذا وقع السيف فلا يرفع إلى يوم القيامة، ولن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام -يعني فئات وجماعات- من أمتي الأوثان} ثم قال صلى الله عليه وسلم، بعد هذا الغربة كلها، أئمة مضلون, وأناس لحقوا بالمشركين، ذهبوا إلى ديارهم وصاروا معهم يقاتلون معهم، أو ينصرونهم، أو ما أشبه ذلك {وحتى تلحق فئام من أمتي بالمشركين} أي: في ديارهم ومرابعهم وأماكنهم: {وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} سواء كانت الأوثان المادية كاللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى, أو الأوثان المعنوية التي هي عبارة عن أشخاص من لحم ودم، كما كان يقول الشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله: أمتي كم صنمٍ مجدته لم يكن يحمل طهر الصنمِ! فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهمِ بعدما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء، التي ستحدث للأمة قال: {ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} فبيَّن عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أموراً: 1-أنه مهما وجدت الغربة فالطائفة المنصورة باقية لا تزال إلى قيام الساعة.
2-بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق, أنه مهما أصاب الأمة من عوامل الضعف والانحراف وأن بعض الطوائف من الأمة لحقت بالمشركين, وطوائف أخرى عبدت الأوثان, وطوائف ثالثة سارت عرضة للتضليل الإعلامي, فمع ذلك كله فإن الأمة لا يمكن أن يأتيها عذاب يستأصلها على آخرها, بل لا يزال فيها من يرفع راية الحق، ويدافع الظلم والظالمين, ويحفظ الله تبارك وتعالى بهم الأمة من الاستئصال والهلاك التام.
إذاً أبرز ميزة لهذه الطائفة كما ذكرت، وهي الميزة التي تميزت بها، واختصت بها، وعرفت بها, هي أنها تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالنيابة عن الأمة كلها, لذلك قال الإمام ابن تيمية في مواضع من كتبه وبالأخص في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم بعد أن ذكر احتمال أن توجد الجاهلية في مكان معين، أو في أمر معين، أو في شريعة معينة, قال: فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تزال من أمته طائفة منصورة, وقال في موضع آخر: فأما بقاء الإسلام غريباً ذليلاً في الأرض كلها قبل قيام الساعة فلا يكون هذا.
إذاً لا يمكن أن تستحكم الجاهلية في الأمة كلها, ولا يمكن أن يبقى الإسلام غريباً ذليلاً في الأرض كلها قبل قيام الساعة.
وبهذا نعلم أنه حينما يعبر كثير من المفكرين الإسلاميين في هذا العصر "جاهلية القرن العشرين" ينبغي أن نقيد ذلك بأن المقصود جاهلية زمان ومكان معين,(277/14)
الأسئلة(277/15)
من هم الطائفة المنصورة
السؤال
فضيلة الشيخ: هل الطائفة المنصورة تكون على شكل تنظيم جماعي؟ أو على شكل فردي يوجد في مناطق متعددة؟
الجواب
الطائفة المنصورة أعم من هذه اللافتات، وأعم من هذه الأطر التي يتعامل بها الناس, الطائفة المنصورة جزء من الأمة كما ذكرت, تلتقي على الحق، ليس لها راية تعرف بها, ولا اسم تتميز به بالضرورة, ولا بلد تنتمي إليه ولا قبيلة تنحاز إليها, ولا مصلحة دنيوية، قوم تحابوا في ذات الله، وتآخوا على غير أرحام بينهم, بل هؤلاء الأفراد، لهذه الطائفة ليسوا في بلد واحد, ولا أصحاب تخصص واحد, وليسوا بالضرورة متعارفين، قد يكون في هذا البلد أفراد طائفة منصورة يجاهدون, وفي بلد آخر أفراد طائفة منصورة يجاهدون, وبعضهم لا يعرف بعضاً, فليسوا محصورين بتنظيم معين أو تشكيل معين، أو لافتة معينة، أو راية معينة, بل هم أعم من ذلك كله, منهم العلماء والفقهاء، ومنهم الشجعان والمقاتلون، ومنهم أصحاب الخير الكثيرون، كما ذكر الإمام النووي , يدخل في ذلك أصحاب وأصناف كثير من الخير، منهم الطبيب، ومنهم المهندس, ومنهم المعلم، ومنهم المربي، ومنهم التاجر، ومنهم ومنهم.(277/16)
أهمية التوكل والارتباط بالله عز وجل
السؤال
فضيلة الشيخ: لقد نسي الناس في هذا الوقت، وفي هذا العصر, عقب هذه الأحداث، التوكل على الله عز وجل، والدعاء، والارتباط بالله جل وعلا, فما تعليقكم حول هذا الموضوع؟
الجواب
التوكل شرط للإيمان: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] , و"إن" شرطية, فالتوكل شرط للإيمان, لذلك المؤمن لا يكترث للجموع التي تجمع ضده, أرأيت نبي الله شعيباً عليه الصلاة والسلام؟ حين جمعوا له، وهددوه وتوعدوه، لم يخضع لهذه الأشياء، ولم يمتلئ قلبه بالرعب منها، بل قال لهم: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71] , {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] .
فالقلب الذي خلا من التوكل على الله عز وجل أصبح خواء، وأصبح مهباً للشائعات والأقاويل والمخاوف, ولذلك انظر المنافقين؛ لأنهم لا إيمان عندهم, كيف كانوا يتعاملون مع الأحداث؟! يقول الله عز وجل {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] , المنافق عندما يسمع أحداً يعلن الجهاد, يقول: هذا الآن يريدني, أيضاً لما جاءت الأزمات، معركة الأحزاب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11] , هنا تميزت المواقف، هنا بانت الحقائق، وظهرت الأمور، فأما من في قلوبهم زيغ وريب ونفاق فاضطربت قلوبهم واهتزت: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] , محمد يعدنا قصور كسرى وقيصر, والواحد منا لا يستطيع أن يذهب ليقضي الحاجة؟! أما المؤمنون فصقلت الأحداث قلوبهم وثبتتها، فآمنت وتوكلت على الله عز وجل وفوضت إليه, ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] .
انظر كيف الفارق بين قلوب المؤمنين وقلوب المرتابين، أو المنافقين، أو ضعفاء الإيمان, ولذلك تجد الناس فعلاً في هذه الأوقات بالذات، ظهرت حقائق كثير من الناس, فأصبح الواحد يركض يمنةً ويسرة، ويحسب كل صيحة عليه, يذهب إلى الأسواق يشتري المؤن والأكياس والسكر والشاي، وأشياء تكفيه لسنوات, حتى يتسبب في أزمة! وتجد الإنسان يسارع في تحويل العملة! وبعضهم يشتري سبائك من الذهب, وبعضهم يحزمون الأمتعة ليغادروا! ولعل من الأسباب أيضاً في ذلك غياب التثبيت والتسكين من المؤمنين, ولذلك فإني أقول: واجب العلماء، والخطباء والدعاة، وأئمة المساجد، والصالحين، واجبهم أن يسكنوا الناس ويثبتوهم، ويهدءوا قلوبهم, ويطمئنوهم، ولا يجعلونهم نهباً للإشاعات والإذاعات المرجفة المبطلة, التي تضخم الأحداث، وتهز القلوب، وتفزع النفوس، خاصة إذا كثر قيل الناس وقولهم وكلامهم، وفيهم الرجل والمرأة، والكبير والصغير، والعاقل وغيره.
فينبغي أن نتوكل على الله عز وجل ونفوض الأمر إليه, ونقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، حينما يأوي الواحد إلى فراشه: {اللهم وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك, آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت} وإلا ما معنى أن الإنسان يقول بكرة وعشية: حسبنا الله ونعم الوكيل, ثم يتوكل على غير الله! أو يحتسب على غيره وما معنى أن يقول الإنسان في صلاته ودبر الصلاة: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ثم يأخذ من غير الله، فيعتقد أن الأخذ والعطاء والمنع والضر، بيد غير الله عز وجل! لا! أبداً! ينبغي أن تعرف أن الخلق كلهم بيد الله تعالى وما هم إلا أسباب ووسائل يجري الله تعالى، الأمر على أيديهم إذا شاء، لذلك قال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] مثلاً الطبيب الذي عالجك, ليس هو الذي شفاك، الله الذي شفاك، وأجرى الشفاء على يد هذا الطبيب، وفرق بين من يشفى ويقول: والله الطبيب شفاني, ويرسل بطاقة شكر, وبين من يقول: الحمد لله، من قلبه وهو يشعر أن الشفاء من الله, أنا لا أعترض على رسالة شكر للطبيب، لكن أقول مع إرسال بطاقة الشكر للطبيب يجب أن تعرف أن الذي عافاك حقيقة هو الله, فيجب أن تبالغ في شكره بقدر ما تستطيع.
وخلاصة ما يمكن أن أقوله باختصار: أن من ضمن المعاني التي ضمرت في نفوس المسلمين -مثل ما ضمر عندهم معنى العبادة مثلاً- معنى القضاء والقدر, ضمر في نفوس المؤمنين، ومعنى الجهاد, فأصبحنا إذا سمعنا كلمة الجهاد لا نفهم منها إلا حمل السيف، أو الرشاش، أو البندقية والقتال, وهذا قصر للأمر على بعض أفراده، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كما في حديث فضالة بن عبيد وغيره, وهو حديث صحيح {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه} , فالجهاد شامل, هناك جهاد النفس, وجهاد المنافقين, والكفار, والظالمين، وجهاد الشيطان, فهي أنواع من الجهاد, وكلها تحتاج إلى جيوش من الناس تجاهد, فليس هناك شيء جديد لواقع المسلمين في موضوع تسلط المنافقين, في كثير من المجالات، والمؤسسات، والدوائر، والوسائل الإعلامية، والمواقع، بل والدول، تسلط المنافقون منذ سنين, إذاً لماذا لم نعلن الجهاد؟ وفتحنا جبهات لجهاد المنافقين, جهاد المنافقين ليس بالسيف, بل جهادهم بالحجة والعلم والمناقشة، والنزول إلى الميدان, وبكشف ألاعيبهم وفضحهم بها.
ومن جانب آخر الجهاد أنواع: الجهاد بالمال، الجهاد بالنفس، الجهاد باللسان، وكل هذه ألوان من الجهاد, فليس صحيحاً أن الجهاد فقط أن يذهب الإنسان ويلقي بنفسه في المعركة, هذه صورة من مئات الصور المتصورة في الجهاد، وأقول للشباب المسلم خاصة: ينبغي أن نعيد النظر في فهمنا للجهاد, ليس الجهاد هو القتال, الجهاد أعم من ذلك بكثير, وألوان الجهاد ومجالاته كثيرة, والأمة لم يطرأ عليها جديد في واقع حياتها، فيما يتعلق بالجهاد بالمفهوم الأعم الواسع, والذي أحذر منه أن يتحول هذا المعنى العام للجهاد إلى معنىً خاص عند كثير من الشباب هو عبارة عن استجابة لثورة حماس مؤقتة، هنا أو هناك, تنتهي وتذهب أدراج الرياح.(277/17)
كيف يتعامل أهل السنة مع الناس
السؤال
يتعرض أهل السنة والجماعة في العالم الإسلامي إلى ضغوط مختلفة، ومن أهم هذه الضغوط دعوتها إلى السكوت عن المخالفات لعقيدة أهل السنة والجماعة، وتمريرها تحت شعار عدم إثارة الخلاف بين المسلمين, وهذا أهم معاول هدم هذه العقيدة في النفوس وانتشارها, فما رأيكم في هذا الموضوع؟
الجواب
بيان الحق لا بد منه, وليس بيان الحق سبباً في الفرقة، وإن كان سبباً في الفرقة فلا يمنع من بيانه ولو افترق الناس, فإن الناس افترقوا بالكفر والإيمان: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] , ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس, يفرق بين الحق والباطل, والقرآن سماه الله تبارك وتعالى فرقاناً، يفرق بين الحق والباطل, والإيمان والكفر, والهدى والضلال.
فأهل السنة والجماعة عليهم أن يقوموا بدورهم في بيان الحق, بل وفي بيان ما عارضه وخالفه أيضاً: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] , فاستبانة سبيل المجرمين وإظهارها وإيضاحها هو جزء من مهمة أهل السنة والجماعة, ولا شك أنهم يواجهون في سبيل ذلك العنت واللأواء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هنا واجبهم الصبر على ذلك والثبات, وسلوك الطريق المناسبة، والحكمة وهي وضع الشيء في موضعه, فإن الإنسان أحياناً قد يقول الحق ويقبل منه, وقد يقول آخر الحق نفسه ولا يقبل، وذلك مرجعه إلى الأسلوب.
ولعلي أضرب على ذلك مثلاً يسيراً في قضية جزئية نعيشها جميعاً: يوماً من الأيام زرت إحدى البلاد فقال لي بعض الشباب المتحمسين: إن أساتذة المدرسة الفلانية عندهم معاصٍ، فهم يحلقون لحاهم، ويطيلون ثيابهم ويرتكبون المخالفات, وبعضهم يشربون الدخان, وعجزنا عنهم, لكننا نصحناهم ونصحناهم، ولا يريدون منا أن ننصحهم, يتكلمون علينا، ويعيبوننا وغير ذلك , لو نبهتهم إلى هذا، وقُدِّر أنه كان عندي كلمة في المدرسة نفسها فأخذت على نفسي أنني لا بد أن أتكلم عن هذه الأمور، لكن بطريقة غير مباشرة, فتحدثت عن أمور كثيرة: من أمور الشباب، ومشاكلهم، وأوضاعهم، والمخاطر التي تهددهم في القريب والبعيد, والمخططات المرسومة ضدهم، إلى غير ذلك, حتى اطمأن الحضور، وشعروا بأن هذا الكلام يحتاجون إليه, بعد ذلك تحدثت عن قضية التشبه بالمشركين وخطورتها، وأهمية استقلالية الأمة المسلمة، في عقيدتها، ومظهرها، واقتصادها، وإعلامها، وسياستها، وأن هذا ضرورة لكل أمة، سواء للمسلمين أم لغيرهم, ثم ضربت أمثلة على الانهزامية الموجودة في الأمة المسلمة، هذه الأمثلة أمثلة جزئية كثيرة، لو أخذنا أي تقليد أو عادة أصبحت أمراً مألوفاً لا يكاد ينكره أحد, لوجدناه أمراً مأخوذاً.
انظر مثلاً: مظهر حلق اللحية! من أين أخذنا هذه العادة؟! من الكفار! انظر -مثلاً- قضية أنواع الملابس، قضية طرائق المعاملة والأساليب, إلى غير ذلك, كل هذه الأشياء تقاليد وعادات أخذناها عن الكفار, وهي صحيح جزئية, وقد ينظر إليها بعضهم على أنها صغيرة، لكن إذا ربطناها بالأصل الأكبر، أنه إن نظرنا إلى هؤلاء على أنهم سادة، وأصبحنا نقلدهم كما يقلد الصغير الكبير, والطفل والده, والتلميذ أستاذه وجدنا أنها تشكل انهزامية للأمة يجب أن نكون حرباً عليها, فما أن انتهيت من المحاضرة, إلا وجدت أن الأساتذة كلهم مسرورون من هذا الكلام، مع أن فيها عيب لهم وتصريح إنكار ما هم فيه, حتى قال لي بعضهم: إنك أنكرت علينا هذه الأشياء بطريقة مناسبة, في حين أن بعض الطلاب أو بعض الشباب الصغار ينكرون بطريقة غير مقبولة, حتى أن أحدهم يقف على المنبر مثلاً, فيقول: إن الذي يحلق لحيته فيه كذا وكذا وكذا.
, ويذكر أوصافاً صعبة، وبشعة وما وردت في الكتاب ولا في السنة، وقد يفهمها الناس على غير وجهها.
والحق إذا أتى به الإنسان بطريقة مهذبة، متدرجة حكيمة، فإنه قد يكون هذا مدعاة لقبوله, هذا من جهة.
الجهة الثانية: إذا تحدث الإنسان في أمور عدة، كان هذا مدعاة للقبول أيضاً, بعض الناس يقولون عن أهل السنة والجماعة في بلد من البلاد -مثلاً- أنتم يا أهل السنة ما تعرفون شيئاً, ما عندكم إلا قضايا معينة تتكلمون عنها, أما أمور مشاكل الأمة، وبلاياها ومصائبها، وقضايا الاقتصاد والاجتماع، والسياسة، فأنتم غافلون عنها, والصحيح أن أهل السنة هم أولى الناس بالكلام عن هذه القضايا, فأهل السنة في كل بلد ينبغي أن يتصدوا للمنكرات أياً كانت, وفي أي مجال كانت, بحيث إنه ما يكون همهم مقصوراً في جانب معين، يعيبهم الناس باقتصارهم على هذا الجانب, بل يجاهدون عبر جميع الميادين، وفي جميع المجالات، ومن خلال جميع القنوات والوسائل الممكنة.(277/18)
معنى حديث: كلها في النار إلا واحدة
السؤال
فضيلة الشيخ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة} فهل الفرق الأخرى مخلدة في النار؟ أرجو توضيح هذا الحديث؟
الجواب
كلا.
بل الأصل أن هذه الفرق من الأمة المسلمة, ولذلك قال: {ستفترق أمتي} فعدها الرسول صلى الله عليه وسلم من أمته, وإنما قوله: {في النار} يعني: يعذبون في النار , كما قال عليه السلام: {إذا التقى مسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار} فليس المعنى أن القاتل والمقتول مخلدان في النار, لكنهما يعذبان فيها, وقد توعد بالنار عليه الصلاة والسلام على ذنوب كثيرة, بل في القرآن الكريم الوعيد بالنار على ذنوب كثيرة، ليست من المعاصي التي يكفر بها، لكن معنى في النار: يُعَذَّبُ -ما شاء الله تعالى- ثم يخرج منها, فالأصل أن هذه الفرق ليست من الكفار المخلدين في النار، بل هم من المسلمين الذين مصيرهم إلى الجنة، وإن عذبوا في النار بقدر ذنوبهم أو بقدر بدعهم.(277/19)
تعريف بحزب البعث العربي الاشتراكي
السؤال
فضيلة الشيخ: نرجو تعريف حزب البعث العربي الاشتراكي, وتوضيح معتقده وأهدافه؛ لأن أغلب الناس اليوم لا يعرف عن هذا الحزب شيئاً، ويعده ضمن الأمة المسلمة؟
الجواب
سوف تعرف الكثير -إن شاء الله- من خلال الصحافة والإذاعة وغيرها, عن حزب البعث العربي الاشتراكي.
لكن باختصار يناسب المقام, فإن حزب البعث حزب تكون في الشام والعراق، يدعو إلى بعث الأمة العربية، فيما يزعم، وإحيائها من رقدتها على ضوء الأصول، والمبادئ القومية والاشتراكية, فهو يؤمن بالقومية، يعني جمع وتوحيد كلمة الأمة العربية، يهودها، ونصاراها، ومسلميها وغيرهم, ويؤمن بالمبادئ الاشتراكية المعروفة, ويؤمن بالأساليب الثورية، بأساليب القوة, في تحقيق مبادئه وأهدافه, وقد تحول هذا الحزب من حزب حقيقي كان يحمل مبادئ في عصر أو في وقت من الأوقات، مبادئ يجمع الناس عليها ويدعو إليها, إلى مطية وأهواء ومطامع , أما في الشام فقد تحول إلى مطية أهواء ومطامع النصيريين العلويين، الذين امطتوا هذا الحزب وتخلخلوا فيه, حتى بقي ظلاً لا حقيقة له, وأصبح الحكم للنصيرية العلوية في حقيقتها, كما أنه تحول إلى حد كبير في العراق إلى مطية لمطامع شخصية.(277/20)
دعاء القنوت عند النوازل
السؤال
هل دعاء القنوت عند النوازل والمصائب وارد في صلاة المغرب والعشاء والفجر, أو فقط في صلاة الفجر؟ وما الحكم لمن دعا بالقنوت في صلاة المغرب؟ جزاكم الله خيراً
الجواب
القنوت وارد، قنوت النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب، وفي العشاء، وفي الفجر، وفي غيرهما أيضاً, وذلك فيه كلام كثير لأهل العلم، منهم من قال: يشرع مطلقاً -كما هو مشهور عند الشافعية- ومنهم من قال: لا يشرع مطلقاً, ومنهم من قال: بالتفصيل, فقال: يقنت عند النوازل الكبرى التي تنزل بالأمة، وأكثر ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم القنوت في صلاة الفجر, فقد مكث صلى الله عليه وسلم شهراً يقنت على قبائل من العرب قتلوا بعض أصحابه, ثم ترك القنوت بعد ذلك, أما قول أنس لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا, فإن المقصود بالقنوت حينئذٍ طول الوقوف بعد الركوع, أنه عندما كان يرفع رأسه من الركوع أطال الوقوف، يقول: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماء وملء الأرض وملئ ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد, لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد, ولا يمنع أن يدعو سراً بينه وبين نفسه، سواء أكان إماماً أم منفرداً أم مأموماً, فإن هذا من مواضع الدعاء كما ذكر ابن القيم وغيره.(277/21)
الجمع بين حديثي لا تزال طائفة من أمتي وبدأ الإسلام غريباً
السؤال
فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة} وقوله صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ} ؟
الجواب
الجمع يسير, ويحتمل وجهين: أ- الإسلام بدأ غريباً, ويعود غريباً، فإن نظرنا إلى الغربة بمعنى غربة مطلقة نهائية, فلا إشكال؛ لأننا عرفنا أنه في آخر الزمان يبعث الله ريحاً طيبة، فتقبض أرواح المؤمنين, ولا يبقى في الأرض من يقول: الله الله, لا يبقى إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة, وهذه لا شك نهاية الغربة، لذلك جاء في حديث حذيفة وهو عند ابن ماجة وسنده صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {يدرس الإسلام -يعني: في آخر الزمان يندرس وينمحي- كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى، ما صلاة، ولا زكاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، حتى لا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون: لا إله إلا الله, أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها} , فقال صلة بن زفر لـ حذيفة: ما تنفعهم لا إله إلا الله؟! فأعرض عنه, فلما رددها عليه ثلاثاً, قال: يا صلة تنجيهم من النار؛ لأنهم لا يعرفون غيرها وذلك مبلغهم من العلم.
ب- فإن نظرنا إلى الغربة بمعنى قلة الأنصار والأعوان، وهذا الاحتمال الثاني, فهذا أيضاً لا إشكال فيه, فنعلم أن الإسلام بدأ برجل، لذلك قال بعض أهل العلم: الإسلام بدأ برجل وينتهي برجل, يعني في بداية العهد النبوي الرسول عليه الصلاة والسلام كان معه حر وعبد, أبو بكر وبلال، وخديجة وعلي , أربعة، بعضهم يقولون: مكثت يوماً أو يومين وأنا ربع الإسلام, يعني المسلمين أربعة وهو واحد منهم.
وفي آخر الزمان لا شك أن الطائفة المنصورة يقل أفرادها, ويضعف شأنهم حتى ينتهوا وذلك عن طريق الريح التي ذكرت.(277/22)
أخطاء في النية
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن أهمية النية في العمل، وعن تحسين النية، وأن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن، واشتراك النية بين العبادات والمباحات، وكذلك مسألة تداخل المقاصد مع النية الصالحة، سواء كانت مقاصد دنيوية لا بأس بها أو مقاصد رياء وسمعة، وحذر عن التكلف في النية، والوسوسة فيها، وختم بالإجابة على الأسئلة.(278/1)
أهمية النية في العمل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70] .
أما بعد: فموضوع حديثي إليكم هو عن النية، والأخطاء التي تقع فيها.
والمصيبة أن الحديث عن النية يحتاج إلى نية، وهذا لا نشك فيه؛ فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن النية فيما نقول ونعمل ونسمع، وألا يؤاخذنا بذنوبنا ولا بما كسبت أيدينا.(278/2)
معنى النية
أما المقصود بالنية: فهي القصد والتوجه الذي يرمي إليه الإنسان من خلال أعماله، يستوي في ذلك نية العمل ونية المعمول له، فنية العمل تميز بين نية العبادة من العادة، أو نية المعمول له، ومن يريد الإنسان بعمله، هل أراد الله -تعالى- أم أراد غيره.
إن النية من أعظم العبادات وأجل القربات، حتى قال الإمام ابن حزم رحمه الله: النية سر العبودية وروحها، وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، إذ هو بمنزلة الجسد الذي لا روح فيه، فهو جسد خراب، ومع هذه الأهمية العظيمة للنية فإن الكثير من الناس يغفلون عنها، وقد تجد الكثيرين يتنافسون في الأعمال؛ كالتبكير إلى الصلاة -مثلاً-، وكثرة قراءة القرآن، أو قيام الليل، أو الصدقة، وهذه لا شك من الأعمال الفاضلة التي يؤجر عليها الإنسان، لكن هذه الأعمال مفتقرة إلى نية، فإذا خلت من النية لم يكن لها ثمرة، بل على العكس تصبح ضرراً على صاحبها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن النية تنفع الإنسان بذاتها، فإذا نوى الإنسان العمل الصالح ثم لم يتمكن منه رزقه الله تبارك وتعالى ثواب ذلك العمل، كما في أحاديث كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، والسبب في تنافس الناس في الأمور والأعمال الظاهرة، وعدم تنافسهم في النية والقصد: أن النية محلها القلب، فلا يدري أحد عن أحد ما نيته وما قصده، فيقل فيها التنافس، وإلا فإن الإنسان لو تأمل لأدرك أن النية هي الرحى التي تدور عليها الأعمال، وأن العناية بتصحيح النية وإصلاحها يجب أن يكون أعظم من العناية بتصحيح الأعمال الأخرى وتكثيرها؛ لذلك أمر الله تعالى في كتابه بالإخلاص في العبادة في مواضع كثيرة ليس هذا موضع بسطها، ويكفي أن الله تعالى عد الإخلاص هو الدين فقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] فالإخلاص لله في العبادة هو دين القيّمة، وهو الدين الذي بعث به جميع الأنبياء والمرسلين، وهو دعوة الناس إلى إخلاص العبودية لله تعالى، وهذا هو لب النية: أن يقصد الإنسان في عبادته وعمله وجه الله عز وجل.
ولذلك تعجبني الكلمة التي ذكرها أحد العلماء وهو الإمام عبد الله بن أبي جمرة يقول: (وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النية ليس إلا) يقول: (فما أتي كثير ممن أتي إلا من تضييع ذلك) إذاً فـ ابن أبي جمرة يقترح على الفقهاء أن يكون من بينهم من يتفرغون لتعليم الناس قضية النية، وتصحيح النية، ومعنى النية، والسبيل إلى إصلاحها، وأحكامها، وما يتعلق بها، وهذا من فقهه رحمه الله؛ لأن النية شأنها عظيم، حتى أن العلماء لما تكلموا عن حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي رواه أئمة الحديث كـ البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد والدارمي ومالك في الموطأ، وغيرهم، وهو حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} منهم من عده ربع الإسلام، ومنهم من عده ثلث الإسلام؛ وما ذلك إلا لأن مدار الأعمال كلها على النية؛ ولهذا فـ ابن أبي جمرة رأى أن يتفرغ من الفقهاء من يعلم الناس النية، كما تفرغ من يعلم الناس كيف يصومون، وكيف يصلون، وكيف يحجون.
كذلك يجب العناية كثيراً بإصلاح القلوب، وتصحيح المقاصد، وتربية الناس على النية الحسنة في كل شيء.(278/3)
الاهتمام بالعمل أكثر من النية
كان سفيان الثوري رحمه الله يقول عن سلفه من الأئمة والعلماء: كانوا يتعلمون النية كما تتعلمون العمل أي أن الناس منذ القديم أولعوا بتعلم الأعمال أكثر من ولعهم بتعلم النيات، وخذوا على سبيل المثال واقعنا نحن الذي نعيش فيه، ربما يكون أكثرنا يستطيع أن يقوم ليصلي صلاة هي الصلاة الشرعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يضع يديه، وكيف يركع، وكيف يسجد، وماذا يقدم، وماذا يؤخر، وطريقة القعود في التشهد الأول، وطريقة القعود في التشهد الأخير، وكيفية السلام، وهذه الأشياء لا أريد التقليل من شأنها من أجل الرفع من شأن النية، كلا، فهذه سنن، وبعضها واجبات، بل وبعضها أركان لا تتم الصلاة إلا بها، ويجب على الإنسان أن يتعلم ما تقوم به صلاته وعبادته، هذا لا إشكال فيه.
لكنني أقول: إن بعض الناس؛ بل بعض طلاب العلم -أحياناً- يهتمون بهذه الأمور أو ببعض الجزئيات فيها أكثر بكثير مما يهتمون بقضية النية، فقد تجد طالب علم -مثلاً- يعتني عناية بليغة بكيفية تحريك الأصبع في التشهد، ويعتني عناية بليغة كيف يضع يديه أثناء السجود، وكيف يرفع يديه بالتكبير، وتعلم هذه أمور -كما ذكرت سابقاً- تعلم مطلوب، لا أحد يستطيع أن يقلل من أهمية هذه الأمور، لكن بلا شك أن هناك سنناً زاد الناس في الاهتمام بها، وغفلوا عن ما هو أهم منها، وهو العناية بإصلاح القصد والنية.
وليس هدف هذه الموضوع أن أتكلم عن النية، وأهمية النية، والنصوص الواردة فيها فهذا له مجال آخر، إنما الكلام عن أخطاء في النية.
ولذلك فإنني سوف أصحبكم في هذا الحديث في رحلة أرجو أن تكون غير مملة -إن شاء الله- في ذكر بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في موضوع النية، وأقول: أرجو أن تكون غير مملة؛ لأن من عادة الناس أنهم حين يستمعون إلى موضوعات علمية يتطرق إليهم الملل، فهم بحاجة إلى من يحرك عواطفهم، وينقلهم من نكتة إلى قصة، إلى طرفة، إلى خبر، إلى شعر، إلى غير ذلك.
ولكنني أوثر في كثير من الأحيان -أو هكذا طبيعتي- أنني أميل إلى الموضوعات التي يكون لها طابع علمي مفيد للمستمع، ولو كان فيه بعض الإثقال الذي يتطلب أن يوطن الإنسان نفسه على الاستماع، وسوف أطرح هذه الأخطاء على شكل أسئلة ترد من بعض الناس.(278/4)
إصلاح النية أمر غير مستحيل
بعض الناس يتساءل ويقول: أنتم تطالبون بإصلاح النية، ونحن نعلم أن النية من أعمال القلب، وأعمال القلب ليس للإنسان عليها سلطان، فلو كانت النية باليد لكان كل واحد منا يجعل نيته من أفضل النيات، لكن هذا أمر بيد الله تعالى.
وهذا لاشك أنه تساؤل خطأ.
لماذا هو خطأ؟! خطأ أولاً: لأن الله تعالى كلفنا بأن نصلح نياتنا، والله تعالى لا يكلف عباده بما لا يطيقون، فالتكليف بما لا يطاق غير وارد في الإسلام، لا يكلفنا الله إلا بما نستطيع، كما قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فلما كلفنا الله تعالى وأمرنا بإصلاح النية، عرفنا أن إصلاح النية ممكن وليس مستحيلاً.(278/5)
كيفية إصلاح النية
أما كيف يمكن إصلاح النية؟ فسوف أضرب لكم أمثلة أخرى في غير موضوع النية؛ حتى يتضح الأمر، يقول الله عز وجل على لسان يعقوب عليه السلام أنه قال لبنيه لما حضرته الوفاة: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] والسؤال نفسه قد يرد هنا، قد يقول قائل: هل الموت على الإسلام بيدي؟ الموت بيد الله، لذلك فقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] كيف يكون؟! ومثل ما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل} فقد يقول قائل: هل الموت بيدي حتى أذهب إلى المدينة لأموت فيها؟! هذا أمر لا أستطيعه، أو لا أطيقه.
فنقول الجواب على ذلك: أن المطلوب من الإنسان ما هو داخل في حدود الطاقة والاستطاعة، فحين يأمرنا الله عز وجل أن لا نموت إلا ونحن مسلمون، فمعنى هذه الآية أن الله تعالى يأمرنا بأن نستقيم على الإسلام في حال الحياة، ونحرص على القرب من الله عز وجل، ونتعرف إلى الله في الرخاء؛ حتى إذا نزلت بنا كربات الموت وسكراته كان الله معنا يحفظنا ويثبتنا، فلا نموت إلا ونحن مسلمون، فيكون المطلوب من الإنسان إذاً هو السبب، الذي يستطيع به أن يصل إلى ما أمره الله تعالى به، ومثله الموت بالمدينة -مثلاً- فإن الإنسان حين يذهب إلى المدينة ويستقر فيها، ويسكن فيها، يكون فعل السبب الذي به يحقق {من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل} لكن ربما يحصل للإنسان عارض بسفر أو غيره فيموت وهو في مكان آخر بحادث أو بغير حادث، هذا ليس أمراً مقطوعاً به.
ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه {كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل} لما جاء ذكر الفتن قال: {كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل} أي افعل السبب، كف يدك عن قتل المسلمين والظلم والاعتداء؛ حتى إذا وقع عليك القتل تكون مظلوماً لا ظالماً، ومقتولاً لا قاتلاً، فحين يأمرنا الله تعالى بإصلاح النية يأمرنا بأن نفعل الأسباب والوسائل التي تؤدي إلى صلاحها.
إذاً فالتحكم في النية ممكن وليس محالاً أو صعباً، وذلك من خلال معالجة الإنسان لقلبه، وتذكر أسماء الله تعالى وصفاته، ومعرفة ما له من الكمال، ومعرفة الدنيا وهوانها، وأنها لا تستحق أن يعمل من أجلها، ومعرفة الجنة ونعيمها التي يستحق أن يتعب الإنسان في سبيل تحصيلها، ومعرفة النار وعذابها التي يستحق أن يهرب منها الإنسان بكل ما أوتي من قوة.
إلى غير ذلك من المقاصد، والمعاني، والأسباب التي لما يسعى الإنسان في تحصيلها تكون سبباً في إصلاح نيته.
هذا هو السؤال الأول الذي قد يرد، ويمثل الخطأ الأول، إذ يظن بعض الناس أن لا سبيل إلى إصلاح النية.(278/6)
إصلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن
هناك خطأ آخر، وهو كثير اليوم، خاصة في أوساط الذين يرتكبون بعض القاذورات والمحرمات والمنهيات، فإذا سمعوا من ينهاهم أو يأمرهم أويذكرهم؛ أشار أحدهم إلى صدره، وقال: التقوى هاهنا، ويضرب صدراً منتفخاً، ويقول لك: التقوى هاهنا، ثم يقول: ربما تجد إنساناً ملتحياً مقصراً لثوبه، ومع ذلك يرتكب المعاصي، ويأكل أموال اليتامى ظلماً، وقلبه ممتلئ بالحقد والحسد، وأنا -ولله الحمد- قلبي نظيف وطاهر، وليس في قلبي غل على أحد، ولا آكل مالاً إلا من حلال، فالتقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، أو أكثر من ثلاث مرات.
هكذا يقول بعض الناس! فنريد أن نبحث في نصوص القرآن والسنة هل ما يقول هؤلاء يمكن أن يكون صحيحاً أو لا يمكن أن يكون صحيحاً؟ وباستقراء نصوص الكتاب والسنة يتبين أن هناك تلازماً بين الظاهر والباطن، فإذا صلح الظاهر فهو دليل على صلاح الباطن، وإذا صلح الباطن فلابد أن يصلح الظاهر.
لذلك نفى الله تعالى الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه الظاهرة فقال الله عز وجل عن الذين يدّعون الإيمان ثم يوالون الكفار: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81] فنفى عنهم الإيمان لأنهم يوالون الكفار بالابتسامة، وبالمحبة، وبالتواد، وبالتلطف، وبكشف أسرار المؤمنين، وبإعانتهم على المسلمين، إلى غير ذلك من صور الموالاة.
فنفى عنهم الإيمان لانتفاء لوازمه الظاهرة، وكذلك في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] فنفى عنهم الإيمان؛ لموادتهم أعداء الله عز وجل، والأمور كلها تدور على القلب، ولا بأس أن نستشهد بالحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .
إذاً فالحديث نص على أن الجسد يدور على هذه المضغة، فإذا صلحت هذه المضغة صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، فإذا رأيت إنساناً ظاهره الصلاح، وسيماه الخير، والاستقامة، ويتردد على الجماعة في المساجد، وكلامه طيب، ولسانه رطب بذكر الله، وقصير الثوب غير مسبل، مرسل لشعره اتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومحسن إلى الناس، ومتجنب لإساءتهم؛ اكتشفت من خلال هذه الأعمال الظاهرة أن هذا الإنسان صاحب قلب سليم.
وعلى العكس من ذلك حين ترى إنساناً مظهره مظهر سوء، يجر ثوبه خيلاء، ويشتم هذا، ويسب هذا، ويلطم هذا، ويعتدي على الناس، ويؤذيهم في أموالهم وأعراضهم وأمورهم، ويسيء إلى جيرانه، ويتكلم على والديه، ويأكل الربا، ويترك الجمعة والجماعة، ويحلق شعر لحيته، ويطيل شاربه، ويدخن، عرفت من خلال هذه الظواهر بأن هذا الإنسان صاحب قلب مريض، وهذا المرض خرج من القلب وفاض إلى الجوارح.
إذاً في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، فالذي يقول: التقوى هاهنا.
نقول له: نعم، التقوى في الأصل هاهنا، لكنها مثل الشمس إذا خرجت لابد أن تنتشر أشعتها في كل مكان، فالذي عنده تقوى في قلبه لابد أن تنتشر آثار التقوى في جوارحه؛ فيتكلم بالكلام الطيب، ولا يأخذ ويعطي إلا الطيب، ولا يمشي إلا إلى طيب، ولا يتصرف إلا بطيب.
ومن فقد التقوى في قلبه ظهرت آثار فقدان التقوى في جوارحه.
وهذه هي النقطة الثانية أو السؤال الثاني الذي يمثل الخطأ الآخر أن بعض الناس يريدون أن يفصلوا بين النية وبين العمل، ونقول لا يمكن الفصل بين النية وبين العمل، لذلك كان الحديث الذي يقول: {نية المؤمن خير من عمله} ضعيفاً، لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النية والعمل متلازمان.
وإن كانت نية الإنسان العمل الصالح يثاب عليها ولو لم يعمل هذا العمل؛ لأن النية في ذاتها عمل، فالنية عمل، وهي شرط لتصحيح العمل.(278/7)
النية في العبادات والمباحات
السؤال الثالث الذي يمثل خطأ عند كثير من الناس: وهو أن بعض الناس يظنون النية في العبادات فقط، فيقول لك -مثلاً-: أنا ممكن أن أنوي نية طيبة إذا أردت أن أذهب للمسجد، أو أذهب للعمرة أو للحج، أو صوم رمضان، لكن هل معقول أن أنوي النية الطيبة وأنا أذهب لأفتح الدكان في التجارة -مثلاً- أو أنا أذهب لأدرس في المدرسة، أو ما أشبه ذلك من المقاصد؟! هل يمكن أن أنوي النية الطيبة في هذه الأمور؟! أقول: نعم، النية الطيبة تتصور في كل عمل، اللهم إلا أن يكون العمل محرماً، أما الأعمال التي ليست محرمة فتتصور فيها النية الطيبة، وهي تنقلب بالنية الطيبة إلى عبادات يثاب عليها الإنسان.
ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم الأعمال والصدقات، قال: {وفي بضع أحدكم صدقة -والبضع: هو الفرج، يعني في جماع الرجل لزوجته صدقة- قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! -استغرب أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام- قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم.
قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر} وهذا ما يسميه بعض أهل العلم "قياس العكس" فكما أن الإنسان لو وضع هذه الشهوة في حرام أثم بذلك، كذلك حين اختار طريق الحلال، وأعرض عن طريق الحرام كان له أجر بهذا العمل.
خذ على سبيل المثال: اللباس.
قد يلبس الإنسان ثوباً جميلاً، فيكون مثاباً بهذا العمل، وهو ثوب جميل يتزين به للناس، ويفرح به؛ لأن الإنسان يحب ذلك بطبيعته غالباً.
إن هذا الثوب الجميل الذي يلبسه قد يثاب عليه، كيف؟! لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم -أيضاً- {إن الجنة لا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً} .
والرجل والمرأة في ذلك سواء، بل المرأة على سبيل الخصوص تعنى بتحسين ملابسها وثيابها وتنويعها أكثر بكثير مما يُعنى بذلك الرجل، ولذلك تجد أن لباس الرجل غالباً هو الأبيض، خاصة في أيام الصيف، أما بالنسبة للمرأة في الصيف والشتاء وفي جميع الأوقات تجد أن لها من الملابس الملونة والمنوعة والمزوقة والمزركشة ما لا يأتي عليه العد والحصر.
فالمهم هذه فطرة عند الإنسان يستوي فيها الجميع، حتى الصبيان والصغار يفرح الواحد منهم بأن يلبس ثوباً جميلاً، ومع ذلك قد يؤجر عليه، فالصحابة قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يجب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس} إذاً ليس من الكبر أن تحرص على جمال ثيابك، وحسن بزتك، وجمال حذائك، وحسن هندامك وهيئتك أمام الناس، فليس هذا من الكبر بسبيل، إنما الكبر هو شيء في القلب أي بطر الحق وغمط الناس، فيترتب عليه أن يرفض الإنسان الحق، ويبخس الناس أشياءهم، ويتعاظم في عين نفسه، ويستكبر في نفسه.
إذاً اللباس يمكن أن يكون عملاً يؤجر عليه الإنسان، وخذ مثلاً آخر: الطيب -مثلاً- قد يتطيب الإنسان، وهو أمر يحبه كل فرد منا، ومع ذلك يؤجر على هذا الطيب، الذي وضعه في ثيابه أو شعره أو بدنه؛ لأنه أراد من وراء الطيب ألا يجد الناس الذين يخالطونه رائحة كريهة منه، وأراد من ورائه ألا يتأذى به من يصلي إلى جواره، وأراد من ورائه ألا يتعرض الناس له بالغيبة أو بالتنقص؛ وهذا أمر قد يأثمون بسببه؛ فأراد دفع الإثم عن الناس، ودفع الغيبة والتنقص عن نفسه؛ فأجر بهذا العمل الذي هو في الأصل قد يقال أنه مباح، وقد يقال -أيضاً- أنه سنة؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(278/8)
حرص السلف على استحضار النية
كان كثير من السلف يحرصون على استحضار النية في جميع أمورهم، حتى قال سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله: يسرني أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في الأكل والنوم، فهكذا تربوا، أن يكون للإنسان نية فيما يأكل، أو نية حين ينام، وهذه النية التي كانوا يحرصون عليها في الأعمال المباحة، التي تقلب المباح إلى عمل قربة يؤجر عليه الإنسان، هذه النية لا تحتاج إلى تكلف، بل هي تكون من القلب الموصول بالله عز وجل، فكل قلب ارتبط بالله، وراقب الله أصبحت النية تنبعث منه.
لذلك يعجبني قول الإمام الشافعي -رحمه الله- وهو يعلم الناس العلم، وينشره بينهم، ويؤلف ويكتب، ويتحدث- يقول: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي منه شيء، الله أكبر ما أعظم هذه الكلمة! والله إن كل من وقف أمامها يدرك عظمة هذا الإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن ألا ينسب إلي منه حرف ويقول أيضاً: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يظهر الله الحق على لسانه، على النقيض من الكثير من الناس تجد أنه قد يناظر شخصاً وهو يتمنى أن يخفق خصمه، وأن تظهر الحجة له عليه؛ حتى ينتصر.
لكن الشافعي لقوة إخلاصه كان يقول: ما ناظرت أحداً وناقشته وجادلته إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه؛ لأنه كان في مناظراته طالب حق ما كان طالب علو في الأرض ولا فساد.
وليبشر مثل هذا بما أعد الله تعالى لهم {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] وكأن النية تنبعث منهم عفوية وتلقائية، دون أن يحتاجوا إلى أن يتكلفوها.(278/9)
التنطع في استحضار النية
بخلاف أقوام من المتأخرين أصبح الواحد منهم يحاول أن يتكلف النية تكلفاً يخرج بها عن حدود المشروع إلى نوع من الهوس المرفوض.
وأذكر أن الإمام أبا حامد الغزالي -غفر الله لنا وله ورحمه الله- في كتاب إحياء علوم الدين ذكر بعض الطرائف والقصص من أخبار هؤلاء، وفي الواقع هو ذكرها على سبيل الاستحسان، ولكنها في الواقع تذكر على سبيل التندر، لا على سبيل الاستحسان.
فمما ذكر من هذا الباب: أن بعضهم كان إذا أراد أن يأكل قبل أن يأكل اللقمة يقول: نويت أن آكل هذه اللقمة لله، ثم يضعها في فمه، فإذا أراد أن يأكل الأخرى قال: نويت أن آكل هذه اللقمة لله، ثم يضعها في فمه، وهذا لا شك تكلف شديد.
وذكر عن آخر أنه قال لزوجته: هات المشط.
يريد أن يسرح شعره -طلب من زوجته مشطاً- فقالت له: والمرآة؟ -وأعطيك المرآة أيضاً-؟ فسكت قليلاً، ثم قال: والمرآة.
فقال له رجل ممن حوله يا فلان، لماذا توقفت قليلاً قبل أن توافق على أن تحضر زوجتك المرآة؟! قال لم أكن قد هيَّأت في قلبي نية لطلب المرآة، فلما عرضتها علي انتظرت النية، فلما هيأ الله لي النية في طلب المرآة طلبتها، وهذا هو والله عين التكلف.
وحكى الغزالي -أيضاً- أنه لما مات الحسن البصري، لم يحضر محمد بن سيرين جنازته -هكذا يقول- فقيل له: لماذا لم تحضر جنازة الحسن البصري؟ قال: لم تتهيأ لي نية.
ونقل عن رابع أنه قال: أنا منذ شهر أجاهد نفسي في إحضار نية لعيادة رجل، فلم تصح لي النية بعد.
يعني رجل مريض منذ شهر ما زاره، لماذا ما زرت جارك المريض يا فلان؟ قال: والله أنا لي منذ شهر أجاهد نفسي على أن أوجد نية صالحة لزيارته، لكن حتى الآن ما حصلت النية.
هذا تنطع في العبادة، وتنطع في النية، ولا شك يترتب على هذا ترك الأعمال الصالحة؛ بحجة أنه ما توفرت النية بعد.
إذاً النية ليست حاجة يجب أن تستدعى -هكذا- عند الحاجة إليها، النية أمر ينبعث من القلب، فقلب المؤمن المرتبط بالله تعالى آلياً تكون أعماله المباحة في الغالب مقصود بها وجه الله تعالى، فمتى ما استحضر هذا الأمر في قلبه كفى، ولا يحتاج إلى أن يتنطع الإنسان في إحضار النية من أجل هذه الأكلة، ومن أجل هذه الشربة، ومن أجل هذا النومة، ومن أجل هذه الزيارة، ومن أجل هذه الكلمة؛ لأن هذا لا شك هو عين التكلف والتنطع الذي نهينا عنه.
ومن طريف ما يروى في ذلك: أن رجلاً من الصالحين لبس قميصاً مقلوباً على عكس ما يلبس، فكان جيب هذا القميص إلى الوراء -مثلاً- ومشى بدون علم، وهو غافل، فلما كان في عرض الطريق استوقفه بعض المارة وقالوا له: يا فلان، قميصك مقلوب.
فنظر فوجد الأمر كما ذكر، فهم ليخلع القميص حتى يقلبه، ثم تراجع عن ذلك، وقال: إنني لبست هذا القميص بنية لله تعالى، فلا أريد أن أغير هذه النية فأقلب القميص بنية للناس، وترك القميص على حاله، ولا شك أن هذا العمل -كما ذكرت- هوس مرفوض عند من يعقلون أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنية لا تحتاج إلى هذا التكلف والتنطع -كما سيأتي- لا في العبادات، ولا في غيرها.
إذاً السؤال الذي يمثل الخطأ الثالث: هو أن بعض الناس يتصورون أن النية لا تكون إلا في العبادات، والواقع أن النية تكون في العبادات كما تكون في الأمور المباحة.(278/10)
تعدد المقاصد في النية
الخطأ الرابع الذي يقع فيه بعضهم: أنهم قد يعملون العمل الصالح؛ لكن تتعدد المقاصد الحسنة عنده، فربما صلى الواحد منهم فيقول: أنا صليت ابتغاء رضوان الله، وطمعاً في الجنة، وخوفاً من النار، ورغبة إلى النظر في وجه الله الكريم يوم القيامة، وحباً لله، وأنساً بذكره والقرب من مناجاته، فهل يصح أن أصلي بهذه النيات المتعددة أم لابد من توحيد النية؟ ويظن بعضهم أنه لابد من توحيد النية.
والصواب أنه لا بأس أن يتعبد الإنسان بنيات متعددة إذا كانت هذه النيات كلها حسنة، والمقصود بها وجه الله والدار الآخرة، كأن يصلي -كما ذكرت- لله؛ طمعاً في الجنة، وخوفاً من النار، وحباً في الله وذكره، وأنساً بقربه، وما أشبه ذلك.
فهذه الأشياء لا تعارض بينها، بل كلها ممكنة، وبعضها يعضد بعضاً.(278/11)
التعبد بقصد حصول الكرامات
كما أنه لا يجوز أن يكون المقصود بالعبادة أن تفتح على الإنسان أمور الغيب والكرامات التي قد تحصل، فبعض العباد قد يعبد الله طويلاً من أجل أن يحصل له كرامة، هو يسمع أن فلاناً سافر إلى المكان الفلاني بدون طعام ولا زاد ولا راحلة، وفلان رأى كذا، وفلان رأى كذا من الكرامات، فقال: أتمنى أن يحدث لي مثل ما حدث لفلان وفلان.
فصار يتعبد، ويصوم النهار، ويقوم الليل من أجل يحصل له كرامة -أي أمر خارق للعادة- مثل: أن يكلمه ميت مثلاً، أو يصل إلى مكان بعيد في مدة وجيزة، أو ما أشبه ذلك.
فهذا مما لم نؤمر أن نتعبد من أجله، بل إن الإنسان الذي يتعبد من أجل هذا العمل لا يحصل له، ولذلك يقال أن أحد الناس سمع حديث أن من تعبد الله تعالى أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة على لسانه، فصار يتعبد أربعين يوماً حتى يرى ينابيع الحكمة من لسانه، وإذا بهذا الرجل لا يستطيع أن يتكلم إلا بكلام يشبه كلام مسيلمة الذي كان يعارض به القرآن.
فشكا إلى أحد الناس فقال له: أصلاً أنت لم تتعبد لله أربعين يوماً، إنما تعبدت للحكمة؛ فلم يتحقق فيك الشرط، لذلك لم تظهر ينابيع الحكمة على لسانك! إذاً لا ينبغي للإنسان أن يتعبد من أجل حصول الكرامات، ولعل مما يدخل في هذا الباب أن بعض الناس يعبد الله؛ طمعاً في أن يرى رؤيا صالحة، فتجده يتعبد ويصلي ويذكر الله من أجل أن يرى في المنام رؤيا صالحة يسر بها أو يتحدث بها.
ولا شك أن الرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن، لكن يعطيها الله من يشاء، ويعطيها الله من تأهل لها، والتأهل لها يكون بالعبادة التي يقصد بها وجه الله، لا يقصد بها أن ترى رؤيا صالحة، أو ترى كرامةً من الكرامات تحصل لك؛ بل اعبد الله لطلب مرضاته وثوابه، والخوف من عقابه، وهذه الأمور كلها قد تأتي تبعاً وقد لا تأتي، فمن المعلوم أن الكرامة -كما ذكر أهل العلم- قد تحصل للمفضول ولا تحصل للفاضل، فهي مما لا ينبغي للإنسان أن يسعى في طلبه.(278/12)
العمل من أجل ثناء الناس
الأمر الذي لا يجوز في النية: هو أن يعمل الإنسان العبادة بقصد كسب ثناء الناس، كأن يصلي -مثلاً- من أجل أن يمدحوه، أو يثنوا عليه، فهذا لا شك لا يجوز، لذلك يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} وقد ورد عند الطبراني بسند صحيح -كما يقول ابن حجر -: أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة من أجل أن يتزوج امرأة كان اسمها أم قيس، فهاجر هذا الرجل ليس من أجل الله، إنما هاجر من أجل أم قيس، من أجل سواد عيون أم قيس، فتزوج بها؛ فكانوا يسمونه مهاجر أم قيس.
وروى الزبير بن بكار أن هذا القصة هي سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} ورجحه ابن تيمية -رحمه الله- ولذلك جاء في الحديث: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة (يعني مثل أم قيس) ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه} فهذا المهاجر ليس له من هجرته إلا أم قيس التي ظفر بها.
وأذكر قصة ذكرها ابن الجوزي في تلبيس إبليس وهي قصة عجيبة فعلاً، يقول -عن وهب بن منبه -: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله تعالى عبادة صحيحة، وفي يوم من الأيام كان هذا العابد جالساً في مجموعة من مريديه وأصحابه وخلانه، فالتفت إليهم وقال: لقد هربنا إلى عبادة الله تعالى خوفاً من الطغيان، والله إني لأخشى أن نكون وقعنا في هذه العبادة في طغيان، حيث أصبحنا نفرح بأن يوقرنا الناس، ويقدرونا، ويقاربونا في السعر والبيع والشراء من أجل عبادتنا.
يعني يقول: أصبح الواحد منا -نحن العباد- يفرح بأن يعظمه الناس، ويقبلوا رأسه، ويكرموه لأنه عابد، ويفرح إذا جاء إلى دكان خفضوا في قيمة البضاعة من أجله.
فقال: أخشى أن يكون هذا طغيان في عبادتنا لله عز وجل.
فهو يلوم نفسه ويوبخها، فتعجب الناس من هذه الكلمة.
ومن فقه هذا العابد وكثرة مراقبته لنفسه، وصاروا يتناقلون هذه الكلمة منه، حتى وصلت إلى الحاكم أو الأمير أو السلطان، والأمراء عادة يحبون أن يشاهدوا أمثال هؤلاء الصالحين ولو كان فيهم فساد وانحلال، لكن يحبون أن يروا أهل الصلاح ويقتربوا منهم، خاصة في الأزمنة الماضية.
فركب الأمير لينظر إلى هذا العالم، ويقف عنده، ويستفيد منه.
فعلم العابد بأن الأمير قد ركب إليه؛ فخاف أشد الخوف.
قال: الآن الأمير ركب من أجل أن يأتي إلي!! هذا ربما يؤدي بي إلى أن أرتكب والعياذ بالله أخطاء أكبر من ذلك في موضوع النية، وقد تنتقل نيتي في العبادة إلى نية الحصول على الدنيا، وكسب ثناء الناس، ومجيء الأمراء إلى بيتي، وما أشبه ذلك.
فخاف خوفاً شديداً؛ فأراد أن يحتال لرد الأمير، وكان هذا الرجل كثير الصيام جداً، فلما علم بقرب الأمير قدم مائدة من الطعام الموجود عنده -خبز وما أشبه ذلك- وبدأ يأكل بنهم، فلما جاء الأمير ووقف على بابه قال للناس: أين الرجل الذي ذكر لي عنه من العبادة ما ذكر؟ قالوا: هو هذا.
والرجل يأكل بنهم، فسلم عليه الأمير، فرد على الأمير رداً ضعيفاً، واستمر في أكله.
فقال: هذا الذي يمدح؟ قالوا: نعم.
قال: هذا لا خير فيه.
وانصرف الأمير وتركه.
فلما انصرف رفع الرجل يديه إلى السماء وقال: الحمد لله الذي نجاني من هذه الفتنة.
انظر كيف تغلب الرجل على خوف حبوط عمله بإرادة الدنيا، وإرادة ثناء الناس ومدح العامة، وتقرب السلاطين منه، وما أشبه ذلك.
إذاً فالعبادة لا يجوز أن يكون المقصود بها الدنيا، ولا يجوز أن يكون المقصود بها ثناء الناس.(278/13)
التكلف في استحضار النية
الخطأ الخامس الذي يقع فيه بعض الناس هو: أن بعضهم يتكلفون استحضار النية، سواء أكان ذلك في العبادة أم كان في غيرها، ويعجبني الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما قالوا: إن النية تحدث في القلب بمجرد علم الإنسان بما يريد أن يعمل، فإذا علم الإنسان ماذا يريد أن يعمل فإن النية تأتيه ضرورة، حتى لو أراد دفعها فإنها لا يمكن أن تندفع.
ولذلك لو كلف الناس أن يدفعوا النية عن قلوبهم فلا يمكن أن يدفعوها.
ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أنك إذا سمعت المؤذن، ثم خرجت من بيتك إلى المسجد، ووقفت في الصف، لماذا جئت إلى هذا المكان؟ هل أتيت من أجل أن تشتري أو تبيع أو تزور صديقاً؟ أتيت لتصلي، هذا مكان معد للصلاة، مخصص للصلاة، فبصورة طبيعية ضرورية أنت لم تأت إلى هذا المكان إلا للصلاة، وبذلك لا تحتاج إلى أن تقول أستحضر النية أو لا أستحضر النية، فأنت -أصلاً- لماذا جئت إلى هنا؟ جئت لتصلي، هذا كاف.
فإذا سمعت المؤذن ثم أتيت، وفتحت صنبور الماء وغسلت يديك، فلماذا تفعل هذا؟ تفعله للوضوء، وهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى تكلف استحضار النية.
بعض الموسوسين يتكلف استحضار النية، فيصعب عليه هذا الأمر، حتى يؤدي به والعياذ بالله إلى ألوان من التكلف، يشك الإنسان في عقل من يفعله، أو على الأقل يشك في فقهه ودينه، ويعتقد أنه إما أن يكون مخبول العقل أو جاهلاً بأمور الدين.
هذه النية لا تحتاج إلى استحضار، لا تحتاج إلى تكلف؛ لأنه كما ذكر العلماء أنه من علم ماذا يريد أن يعمل جاءته النية تلقائياً، اللهم إلا في حالات معينة، مثلاً: لو فرض أن إنساناً عليه جنابة، واليوم الجمعة ونسي أنه مجنب، ودخل يغتسل -في دورة المياه- للجمعة لا للجنابة، أو دخل يغتسل للتنظف، وقد نسي أن عليه جنابة، هذا صحيح أنها لا تجزئه؛ لأنه غابت عنه نهائياً قضية الجنابة، لكن مجرد تذكره أن عليه جنابة، وأنه يغتسل الآن هذا كاف.
ومثله: -مثلاً- لو فرض أن هناك إنساناً كافراً أسلم الآن، وأردنا أن نعلمه كيف يتوضأ، فقام محمد ووقف أمامه وقال له: الآن أريك كيف الوضوء.
فغسل يديه، وتمضمض، واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه وأذنيه، وغسل قدميه، وقصده أن يعلم الكافر كيف الوضوء، وقد نسي أن عليه حدثاً.
هنا أيضاً يمكن أن تكون النية غابت في هذا الحال، ولا يرتفع الحدث إلا بنية كما هو رأي جمهور العلماء، وهو الصحيح إن شاء الله.
أما فيما عدا ذلك من الحالات، كإنسان متذكر أن عليه حدثاً ويأتي ليتوضأ أو يغتسل هذا كاف، ولا يحتاج إلى أن يتكلف ويتنطع في استحضار النية كما يفعل بعض الموسوسين.
وقل مثل ذلك في الصلاة، يقوم الواحد فكلما رفع يديه تراجع، كلما ملأ صدره بالهواء ليقل: "الله أكبر" تراجع، ثم انتفض، ورجع مرة أخرى وهو رافع يديه، وثالثة ورابعة، حتى يصبح مظهراً مزرياً والعياذ بالله، ويسيء إلى الدين في الواقع، والمتدينين مع أنه أمر لا يؤجر عليه، لا هو عبادة، ولا قربة، ولا يؤجر عليه، بل يسبب بغض العبادة عند هذا الإنسان، وبعضهم يضطر إلى الجهر بالنية حتى يدفع هذا الوسواس، فإذا أراد أن يجهر انعقد لسانه، حتى ذكر بعضهم نكتة أن أحد هؤلاء قام ليصلي في الجماعة، فصار يقول: (نويت أن أصلي الظهر) .
وكل كلمة يرددها عشرات مرات (أربع ركعات، فريضة الوقت، أداء، أداء) كلمة أداء هذه عجز يقولها (أدا، أدا) فقال له رجل بجنبه: نعم، أذاءً لله، ولرسوله، وللمؤمنين.
هذا ليس أداء وإنما هو أذاء، وفعلاً هذا يؤذي كثيراً من الناس، فإذا صلى بجنبك إنسان موسوس فلا يهنأ الإنسان بصلاته، ولا يدري ماذا قال.
فأنا أوجه من خلال هذه الكلمة نصيحة للإخوة الموسوسين: أن يخافوا الله في أنفسهم، ولا يقبلوا هذا الوسواس بحال من الأحوال.(278/14)
علاج الوسواس
ويقول الغالب منهم: كيف أتخلص من الوسواس؟! أصلاً هذا الوسواس من تلاعب الشيطان وتلبسه بك، فما عليك إلا أن ترفض هذا الأمر، وتكون مثل غيرك من الناس، يكفي أنك ناوٍ أن تذهب إلى المسجد فهذه النية كافية، وناوٍ أن تتوضأ هذا كافٍ، ولا داعي لأن تقول: أستحضر النية مقارنة للتكبير، أو قبل التكبير بيسير، أو ما أشبه ذلك.
هذه أمور كلها معروفة بالبديهة، إنسان دخل رمضان، وقام قبل صلاة الفجر بساعة؛ قام من أجل ماذا؟ هل قام ليسافر أو ليعد بحثاً؟! لا قام من أجل أن يتسحر ويصلي ويصوم، هذا كافٍ في نية الصيام، ولا داعي للتكلف في هذه الأمور.
والمؤسف أن بعض الذين كتبوا في هذه الأمور من الفقهاء، قد يتسببون في وقوع الناس في بعض التكلف في النية، ببعض التشقيقات والتفريعات والتطويلات التي يذكرونها، فأذكر -مثلاً- أن ابن الحاج في المدخل والكتاب مفيد على كل حال، لكن لكل جواد كبوة، لما تكلم عن نية الصلاة -مثلاً- ذكر أن الإنسان يمكن أن ينوي بخروجه إلى الصلاة (160) نية، يعني وأنت خارج للصلاة تنوي أنك سوف تكبر، وسوف تقرأ الفاتحة، وتركع، وتقوم، وتسجد، وتتشهد، وتسلم، وكذا، وكذا مائة وستين، لا أدري كيف جمعها! تنوي بخروجك من البيت إلى المسجد مائة، وحتى أكون دقيقاً يقول: مائة وتسعاً وخمسين نية، حتى أن من العجيب أنه قال: أنك إذا خرجت إلى المسجد -الله يغفر لنا وله- يستحسن أن تأخذ معك سكيناً.
ولماذا يأخذ سكيناً؟ قال: لأنه يمكن أن يلقى في طريقه شاة مريضة، وقد قاربت الموت، فيذكيها بهذه السكين، فيكون نوى إذا وجد شاة يذكيها، ويكون حصل بذلك نية العمل الصالح.
إذاً الإنسان يمكن أن يلقى في طريقه إلى المسجد اثنين يتخاصمان فيحتاج إلى الصلح بينهما، ويمكن أن يرى حريقاً فيحتاج إلى أن يطفئه، وممكن أن يجد -مثلاً- حوادث كثيرة إذا أراد أن يتصور الإمكانيات العقلية، فهذا كله من التكلف الذي نهى الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما التكلف في الأمور المباحة فقد أشرت فيما سبق إلى جوانب كثيرة من هذا التكلف.(278/15)
أشياء تخالط النية الخالصة
الخطأ الخامس الذي يقع فيه بعض الناس: هو الخطأ المتعلق بوجود نية أخرى مصاحبة لإرادة وجه الله تعالى.
يعني كون الإنسان يعمل العبادة لوجه الله، لكن يخالط ذلك نية أخرى، وهذه قضية خطيرة، ويقع فيها الخلط من كثير من الناس، فلابد أن ألقي عليها بعض الضوء، وهي تقريباً من أواخر النقاط التي أريد الوقوف عليها.
فأولاً الأشياء التي تخالط نية الإنسان بإرادة وجه الله تعالى نوعان:- النوع الأول: الرياء.
وهو أن ينوي الإنسان بأصل العبادة غير الله تعالى، كان ينوي -مثلاً- مدح الناس وثناء الناس، والسمعة الحسنة، وكسب الجاه والمكانة بين الخلق، كمن يصلي من أجل الناس، أو يصوم من أجلهم، أو يحج، أو يتصدق حتى يكتب اسمه في الجرائد والنشرات وغيرها، أو ما أشبه ذلك، فهذا الرياء ما حكمه؟(278/16)
حدوث الرياء أثناء العمل
لكن هنا أمور يجب التنبه لها حتى لا يقع الخطأ: لو أن إنساناً في أصل عمله أراد وجه الله تعالى، لكن طرأ الرياء عليه فيما بعد، يعني: قام يصلي لله، وعندما قام يصلي رأى الناس ينظرون إليه فارتاح بذلك وداخله رياء، ورغبة في أن ينظر الناس إليه، ويثنوا عليه بهذا العمل، وداخله الرياء.
فهاهنا ذكر جماعة من أهل العلم أن هذا لا يحبط العمل، كما ذكره العز بن عبد السلام، والإمام ابن القيم، بل نقل عن الإمام أحمد، وابن جرير الطبري، وغيرهم من أهل العلم أن هذا لا يحبط العمل لكن يقلل من أجره.
كذلك إذا كان الرياء ليس في أصل العمل، حتى لو كان من البداية، لكن في صفة العمل، مثلاً في الصلاة: هناك إنسان يصلي سواء أرآه الناس أم لم يروه، لكن لما رأى الناس ينظرون إليه حسن الصلاة وطولها وصلحها وجملها من أجل عيون الناس الذين يرونه، فهاهنا القول الراجح الذي رجحه العلماء السالفون ومثلهم -أيضاً- ابن رجب والسمرقندي: أن هذا العمل لا يحبط أيضاً، وإنما الزيادة التي صارت من أجل الناس هي التي تحبط، أما أصل العمل الذي عمله لله فهو -إن شاء الله- باق.
ولا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين هذا الإنسان وبين من عمل العمل كله لوجه الله تعالى.
هذا في موضوع الرياء، وهو القسم الأول من الأشياء التي تخالط إرادة الإنسان، أي أن يريد بما يعمل وجه الله، ويريد ثناء الناس ومدح الناس، ويريد الجاه والمكانة عند الناس.
هذا هو النوع الأول مما يخالط إرادة وجه الله بالعمل.(278/17)
حالات الرياء
ذكر الإمام الغزالي ثم الصنعاني أن هذا الرياء له أربع حالات:- الحالة الأولى: أن يكون قصد الإنسان بهذا العمل الرياء المحض، يعني لم يعمل العمل أصلاً إلا من أجل الناس، وهذا لا خلاف فيه عند أحد من أهل العلم أن عمله مردود وحابط بل هو عليه كما قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} [الماعون:6] ويقول الله عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريئ وهو للذي أشرك} وفي لفظ: {تركته وشركه} ويوم القيامة يقول الله عز وجل للذين كانوا يراءون في الدنيا {اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً} .
الحالة الثانية: أن يكون قصد بالعمل الرياء ووجه الله، فأراد الأجر وأراد كذلك المدح من الناس في الوقت نفسه، لكن إرادة الرياء أغلب، يعني (70%) من الدوافع من أجل الناس، و (30%) من أجل الله، وهذه النسبة لمجرد الإيضاح، وإلا فليس هناك مقياس ترمومتر يقيس النية أنها سبعون أو ستون، فإذا كان الأغلب أنه فعل ذلك من أجل الناس فهذا العمل رياء وحابط ولا يقبل من الإنسان.
الحالة الثالثة: أن يستوي الطرفان فيكون قصده وجه الله ومدح الناس بنسبة متعادلة، يعني (50%) من أجل الله و (50%) من أجل الناس، فيقول الغزالي: هذا لا له ولا عليه، ليس عليه أجر ولا إثم أيضاً، أو نقول الأجر الذي حصله يدفع الإثم الذي حصله، فيتاكفآن ويتساقطان.
الحالة الرابعة: أن يكون قصده وجه الله أكثر وقصد الناس يأتي ضمنه، يعني (70%) لوجه الله، لكن (30%) لوجه عبيد أو زيد من الناس، فهذا له أجر على هذا العمل، وإن كان عمله أقل أجراً بكثير ممن أخلص لوجه الله.
هل هذا التقسيم الذي ذهب إليه الغزالي والصنعاني وجماعة من أهل العلم تقسيم صحيح؟ أكثر أهل العلم يقولون: لا، ثم لا، ثم لا.
بل العمل الذي يتقرب به إلى الله تعالى، وأراد الإنسان به رياءً ولو بنسبة معينة فإنه لا يقبل، فلو أراد وجه الله بنسبة (90%) وأرد الناس بنسبة (10%) في وقت واحد، وفي أصل العمل فإن هذا العمل لا يقبل، كما هوصريح النصوص السابقة، وفي القرآن الكريم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] والحديث القدسي {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} بغض النظر عن نسبة هذا الشرك قليلة كانت أم كثيرة، لذلك لو وقع الإنسان -أيضاً- في الشرك الأكبر ولو بعبادة واحدة أُحبطت جميع أعماله، كذلك من وقع في الرياء في عمل معين فإن الرياء وإن قل يحبط هذا العمل، هذا إذا كان الرياء في أصل العمل.(278/18)
اشتراك النية الصالحة بالمباحة
النوع الثاني: هو أن يريد الإنسان بعمله أمراً دنيوياً مباحاً، يعني أراد وجه الله، لكن مع ذلك أراد أمراً دنيوياً مباحاً، وذلك مثل إنسان حج إلى بيت الله الحرام؛ لأنه تاجر يبيع في مكة، البضائع على الحجاج، لكنه لا يخادع الحجاج، ولا يضحك عليهم، ولا يبخس حقوقهم، ولا يستغل ظروفهم الصعبة، بل يبيع بالطريقة الشرعية، فحج، وفي الوقت نفسه أراد الحج وأراد البيع.
فهذا أجمع أهل العلم على أن حجه صحيح، وأنه لا شيء عليه في هذا، وقال كثير من المفسرين -لو صح عن ابن عباس - أنه في هذا نزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198] فقالوا: هذه نزلت فيمن أراد الحج وأراد التجارة.
ومثله إنسان ذهب إلى الجهاد في أي بلد إسلامي، مثلاً ذهب إلى الجهاد في أفغانستان.
يا فلان: لماذا ذهبت لتجاهد في أفغانستان؟ قال: والله أنا ذهبت لإعلاء كلمة الله ومقاتلة الكفار، لكن لا شك -أيضاً- كان عندي قصد آخر.
ما هذا القصد الآخر؟ قال: والله كان عندي أن أحصل على شيء من الغنائم التي نصيبها من الكفار، وعندي أمل كبير أن الله سبحانه وتعالى سيرزقنا منهم كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو أريد أن أحصل على أمة من نساء بني الأصفر، من نساء الروس، تكون أمة عندي فأتزوجها، هذا من مقاصدي أيضاً.
هذا أيضاً لا بأس به ولا يضر، ولا نشك مطلقاً بأن الذي حج للحج فقط أو غزا لإعلاء كلمة الله فقط أنه أعظم أجراً بكثير من الذي حج ليحج وليتاجر أو غزا ليرفع كلمة الله وليحصل على مغنم، لكن أيضاً التجارة وطلب الحصول على مغنم لا يؤثر في أصل إرادة وجه الله تعالى.
هناك أمثلة عديدة لهذا الموضوع من واقع حياة الناس، ربما يتساءل عنها الكثيرون، فأحببت أن أشير إليها، وهي تنقص من أجر الإنسان وقيمة عمله، لكنها لا تحبط العمل، ولا تعد محرمة.
مثلاً: أحد الشباب تجده يصوم الاثنين والخميس، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً.
لماذا؟ قال: لعدة أسباب، أنا أصوم -من الأسباب- أصوم بالدرجة الأولى لوجه الله؛ لما ورد من النصوص في فضل صيام هذه الأيام، وأتحرى صيامها.
لكن أيضاً عندي أمر آخر: وهو أنني أصوم من أجل الصحة؛ لأن الصوم فيه صحة ثابتة، ومعلومة لدى الأطباء، فحاولت أن أعمل هذا العمل لوجه الله، ورأيت أنه يفيدني -أيضاً- في مجال الصحة، إضافة إلى ما ورد في الحديث أن الشاب إذا لم يستطع الباءة فعليه بالصوم، حديث ابن مسعود المتفق عليه {من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} .
فنقول لا بأس بهذا العمل، ولكن كان الأفضل أن تنوي بصيامك وجه الله فقط، دون أن تدخل في ذلك مقاصد دنيوية أخرى، وإن كانت هذه المقاصد مباحة.
مثال آخر: إنسان شديد البر بوالديه، يا فلان لماذا هذا البر بوالديك -ما شاء الله، تبارك الله-؟ قال: والله نعم، الحقيقة أنا أبر بوالدي لأسباب، أهمها وأولها: ما أعلم من نصوص القرآن والسنة في حق الوالدين، التي تجعل كل من قرأها لا يملك إلا تقدير الوالدين والقيام ببعض حقوقهما التي يستطيع، ومما دفعني إلى الالتزام بذلك -أيضاً- أنني أعلم من خلال التجربة، والقراءة في بعض الكتب أن الإنسان الذي يبر والديه يبره أبناؤه، فأنا أريد أن يبر بي أبنائي، لذلك أبر بوالدي.
فليس هناك مانع من هذا العمل، ولكن الأكمل أن ينوي في بره بوالديه وجه الله تعالى فقط دون أن يدخل في ذلك الرغبة في أن يبر به أبناؤه.
كذلك إنسان كثير العبادة والذكر والدعاء والصلاة، سُئل لماذا تفعل هذا؟ قال: والله أنا أفعل لأن الله تعالى أمر به، فهي عبادة أمر الله تعالى بها، وأيضاً أجد أن هذه الأعمال فيها سعادة، وراحة، وطمأنينة بال، وهدوء قلب، وهذا أمر يفقده كثير من الناس من غير المتعبدين، فأنا -أيضاً- أطلب بهذه الأعمال مع رضوان الله وطلب ثوابه، والخوف من عقابه، أيضاً أطلب السعادة القلبية، والراحة النفسية.
هذا مطلب دنيوي مباح، لكن لو قصد بعبادته وجه الله فحسب؛ كان هذا أكمل وأتم وأعظم أجراً لعبادته.
إنسان آخر -أيضاً- يعبد الله تعالى ويطيعه، يقصد وجه الله تعالى، ويريد مع ذلك أن يرزقه الله الذرية والمال، وينعم عليه، أخذاً من قوله تعالى في سورة نوح على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] هذا العمل لا بأس به، لكن الأكمل أن يقصد بعبادته وعمله وجه الله تعالى وحده.
وهناك مثال يتكرر كثيراً في أوساط الشباب: شاب يدرس، عنده تخوف شديد أدراسته لوجه الله أم لغير الله؟ يقول: أخشى أن أكون مرائياً أو يكون عملي لغير الله تعالى.
فنقول: ينظر الإنسان هل قصده الرياء بالدراسة؟ فهذا لا شك أن الرياء يحبط العمل -كما سبق- لكن إن كان قصده بالدراسة عملاً دنيوياً أو أمراً دنيوياً وهذا الأمر الدنيوي لا ينافي أن يكون قصده وجه الله تعالى، فهذا في نظري -وهو نظر قاصر لا شك- أنه لا يحبط العمل أو يؤثم صاحبه، لكن الأكمل ألا يكون.
مثال ذلك: طالب تخرج من الثانوية العامة، قال: أنا الآن على مفرق الطرق، لا أدري أأذهب إلى كلية الطب والهندسة، أم إلى كلية الشريعة، أنا في الواقع -ولله الحمد- عندي إمكانيات كبيرة، عندي قدرة على الحفظ، وعندي قدرة على الاستنباط -ولله الحمد- فهذا كله من فضل الله -هذا كلام الطالب- وأرغب في الواقع أن أدرس علوم الشريعة لأنفع المسلمين وأفيدهم، وأنفع نفسي أيضاً، لكني أخاف من شيء وهو النية! فأقول أذهب لدراسة الطب؛ لأني -أيضاً- أريد وظيفة مثل غيري من الناس، أريد الشهادة التي أتوظف بها، فأخشى أن أكون بعملي بالدراسة في كلية الشريعة -مثلاً- درست من أجل الشهادة، أو من أجل الوظيفة.
ففي نظري نقول لهذا الإنسان: كلا، أنت الآن ستدرس على كل حال، ولو ذهبت لتدرس في كلية الطب -مثلاً- كانت الوظيفة التي ستحصل عليها أعظم -يعني من حيث الراتب- من الوظيفة التي ستحصل عليها حين تتخرج من الشريعة، فأنت الآن حين تذهب إلى الشريعة هذا الاختيار المحدد للشريعة لم يكن لغرض دنيوي، بل كان لغرض ديني، وهو أن تريد أن تنفع الناس، وتنفع نفسك بتعلم علوم الدين والتفقه فيها، وإنما الشهادة أمر مشترك في جميع الكليات التي كنت ستدرس فيها، فاختيارك الشريعة -مثلاً- على غيرها أمر لا حرج فيه، وهذا أيضاً لا يعني أن الإنسان يسلم بهذا الأمر، بل ينبغي أن يعمل على تصحيح نيته بقدر ما يستطيع، فكلما صفت نية الإنسان كان هذا أكثر في تحصيله، وأدعى إلى توفيق الله تعالى له.
كما أن هذا لا يعني التقليل من الكليات الأخرى التي يدرس فيها الطلاب، بل المسلمين بحاجة إلى الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والعالم الاجتماعي المسلم، وعالم النفس المسلم، وجميع التخصصات المباحة التي يحتاج المسلمون فيها إلى متخصصين، والفقيه المسلم يحيل إلى الطبيب أحياناً، وإلى المهندس أحياناً أخرى، فالمجتمع يحتاج إلى جميع هؤلاء، وإنما هو مجرد مثال.(278/19)
ترك العمل خوف الرياء
الخطأ السادس هو مرتبط بما قبله في موضوع الرياء، لكني أعُدُّه مستقلاً لأهميته: وهو أن كثيراً من الناس خوفاً من الرياء يتركون الأعمال، فيترك مثلاً إمامة الجماعة، وخطبة الجمعة، والتدريس في المسجد، والوعظ والإرشاد، والتبكير إلى المسجد، وقراءة القرآن، وهذا كله حدث، يقول: أنا أخاف من الرياء؛ لأن الرياء بدأ يداخل النفس.
والواقع أن إمكانية تخلص الإنسان من جميع الواردات التي قد ترد على قلبه أمر متعذر، فلا يزال الإنسان في جهاد حتى يموت، والشيطان يحاول أن يشكك الإنسان في نيته، ويوقعه في نيات ومقاصد لغير الله تعالى.
إذاً الذي يظن أنه سوف يتخلص من الرياء واهم، لكن ترك العمل خوف الرياء لا يجوز.
خاصة الأعمال الواجبة، لذلك يقول القاضي عياض -رحمه الله-: ترك العمل من أجل الناس رياء، كما أن العمل من أجل الناس شرك.
ما معنى هذه الكلمة؟ هذه الكلمة معناها -كما يقول الإمام النووي -: إن من أراد أن يعمل عملاً صالحاً ثم تركه خوف الرياء من الناس، فإنه يكون مرائياً بهذا الترك؛ لأن الترك من أجل الناس، فكما أن العمل من أجل الناس هو رياء أو شرك، كذلك الترك من أجل الناس هو الآخر رياء أيضاً.
إذاً من أراد أن يعمل عبادة ثم تركها من أجل الناس فقد وقع في الرياء -كما يقول القاضي عياض والنووي وغيرهما- كما أن من عمل العمل من أجل الناس فقد أشرك أو راءى، وأما -والكلام لا يزال للنووي- من ترك العمل من أجل الناس علناً ليعمله في الخفاء فهذا لا بأس به.
وفيما يتعلق بكلام النووي أرى إن كان المقصود ترك عمل مخصص، يعني إنسان مثلاً أراد أن يصلي الراتبة في المسجد، ثم نظر والناس ينظرون إليه، وخشي أن يدخل في قلبه الرياء فقال: أصليها في البيت.
هذا صحيح، والأفضل أن يصليها في البيت أصلاً، لكن لو كانت عبادة مطلقة أو نافلة مطلقة ليست مخصصة نقول: صل هنا، وصل في البيت.
ولا تباعد بينهما، ولا تناقض بينهما.
وأنا في الواقع أفضل ألا يترك الإنسان أي عمل من الأعمال من أجل الناس؛ لأن هذا قد يدخل الإنسان في متاهة ليس لها نهاية، والأفضل أن يعود الإنسان نفسه عدم النظر إلى الناس مطلقاً، وهذا ممكن بالتعود، وهو أمر مجرب، فعود نفسك أن تتجاهل الناس سواء أمدحوا أم ذموا أم نظروا أم أعرضوا، فلا تلتفت إلى هذه الأمور، وإذا ورد إلى قلبك شيء من ذلك ادفعه بالوسائل الممكنة، أما أن تترك شيئاً من أجل الناس أو تعمل شيئاً من أجل الناس فهذان كلاهما ممنوع، لذلك يقول ابن حزم -رحمه الله- في كتابه القيم الأخلاق والسير في مداواة النفوس يقول: لإبليس في ذم الرياء حُبالة، فكم من إنسان ممتنع من فعل خير خشية أن يظن به الرياء.
ويقول ابن حزم -رحمه الله-: فإذا طرقك شيء من ذلك فامض على فعلك فهو شديد على الشيطان.
فالوصية التي ينصح ابن حزم بها الإنسان: أنه إذا خطر في بالك أن تترك العمل من أجل الناس فامض في هذا العمل، فإن مضيك في هذا العمل شديد على الشيطان، وإلا فلو تركت العمل خوف الرياء لعرض لك الشيطان عند كل عمل صالح تعمله؛ لأنه قد علم منك هذا الضعف، وقد حدثني جماعة من الشباب أن هناك من ترك التبكير إلى المسجد، يقول: أخاف الرياء.
وترك قراءة القرآن يقول: أخاف الرياء.
وترك الإمامة؛ يقول: أخاف الرياء.
وترك تدريس وتعليم القرآن الكريم خوف الرياء، إلى غير ذلك!! ثم إن كثيراً من الأعمال إذا عملها الإنسان مرة أو مرتين أو ثلاث وأربع واستمر عليها قلَّ الخوف من الرياء.
فمثلاً: أول مرة يقوم الإنسان ليعظ في المسجد فتكون المخاوف من الرياء كبيرة؛ لأنه يحس أنه يقوم بعمل جليل، فيأتيه الشيطان فيقول رياء! رياء! رياء! لكنه بعد أن يتعود على إلقاء الكلمات في المساجد يضعف عنده الخوف من الرياء، وهذا أمر مجرب، خاصةً إذا كان يجاهد نفسه على الإخلاص؛ فيعينه الله تعالى على ذلك.
ومما يدخل في هذا الباب -أيضاً- ما ذكره ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين: أن بعض الناس يكون في بيته لا يعمل الأعمال الصالحة، فإذا صحب بعض المتعبدين انبعثت نفسه إلى العبادة، فيخشى أن يكون هذا من الرياء؛ فيترك العمل! أنا -مثلاً- لا أقوم الليل في بيتي، لكن سافرت مع بعض الصالحين في حج أو عمرة فرأيتهم يقومون الليل؛ فوجدت في نفسي دافعاً لقيام الليل، وبدأت أقوم، جاءني الشيطان؛ وقال: أنت تقوم رياء! بدليل أنك لما كنت في المنزل ما كنت تقوم الليل، إنما تقوم من أجل فلان وفلان.
هل هذا الكلام صحيح؟! لا، ليس بصحيح على إطلاقه، بل نقول: إن الذي جعلك لا تقوم الليل -أصلاً-؛ أنك في المنزل تنام على فراش وثير، وإلى جوار زوجة حسناء، وربما تستعمل من الأشياء الكثيرة التي تجعل نومك ثقيلاً، ويصعب عليك الاستيقاظ، ولا تجد من يعينك، لكن لما ذهبت في السفر؛ فليس هناك الفراش الوثير، ولا الزوجة الحسناء، وربما يجد الإنسان شيئاً من البرد أثناء نومه -مثلاً- إن كان في وقت الشتاء، إضافة إلى أنه وجد عوامل تساعده على الاستيقاظ مثل هؤلاء الصالحين؛ فانبعثت نفسه إلى العبادة لوجه الله.
فعليه أن يقوم ويتعبد ولا يبالي، لكن لو كانت -فعلاً- عبادته من أجل الناس بحيث إذا كانوا لا يعلمون بصلاته ما صلى.
يعني: لو كان -على سبيل المثال- مصاحباً لإنسان أعمى لا يدري هل هذا يقوم أو لا يقوم، فلم تنبعث في نفسه دوافع العبادة، لماذا؟! لأنه يقول: لا يراني؛ فلا داعي أن أقوم.
هذا لا شك أنه رياء محض ومن النفاق.
هذا ما أحببت أن أحدثكم به، وأرجو الله تعالى أن ينفع بها من قرأها، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(278/20)
الأسئلة(278/21)
النية في طلب الرزق
سؤال آخر: سافرت من بلدي إلى بلد آخر لطلب الرزق، وأنوي ألا أنفق من مالي هذا إلا في مرضاة الله.
فهل هذه النية تحتاج إلى تصحيح؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
أما هذه النية التي ذكرت أنك تنوي ألا تنفق إلا في مرضاة الله، فهذه نية حسنة وصالحة.(278/22)
النية مع الراتب
السؤال
عندما يكون للإنسان نية في إمامة المسجد، فهل المكافأة تشوش عليه النية؟
الجواب
إن كان هدفك النية، والمكافأة جاءت تبعاً فلا بأس بذلك.
أما إن كان قصدك أصلاً الراتب فهذا لا يجوز.(278/23)
ثناء الناس على المخلص
السؤال
قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: رجل يحب ثناء الناس عليه.
فقال: {تلك عاجل بشرى المؤمن} ما رأيك بهذا؟
الجواب
نعم، الحديث في صحيح مسلم عن أبي ذر {الرجل يعمل العمل، فيعلم به الناس، فيثنى عليه فقال صلى الله عليه وسلم: تلك عاجل بشرى المؤمن} لكنه ما عمل من أجل الدنيا، إنما هذا أمر جاء تبعاً.(278/24)
الفرح بمحمدة الناس
السؤال
بعض الأحيان عندما أقوم بعمل صالح ونية خالصة لله، ثم يحمدني الناس ويعجبون بي، أجد في نفسي فرحاً لهذه المحمدة وهذا العجب.
فهل يفسد هذا الأمر نيتي؟
الجواب
كلا، ما دامت نيتك خالصة لله في الأصل فهذا لا يضرك، بل هو كما قال عليه السلام: {عاجل بشرى المؤمن} .(278/25)
تأخير صلاة الفجر
السؤال
رجل تخلف عن صلاة الفجر لغلبة النوم، وإذا نصحته يقول: أصلي إذا قمت للدوام الساعة السادسة والنصف.
الجواب
هذا لا يجوز.
تأخير الصلاة عن وقتها بغير عذر يعد من كبائر الذنوب، ويجب على الإنسان أن يقوم في الوقت ويصلي، وإذا تعذر بأنه لا يستطيع القيام نقول له: هب أن عندك موعداً في الطائرة الساعة السادسة، كيف كنت ستصنع؟ لا شك أنك كنت ستضع الساعة المنبهة على الوقت وتطلب من الجيران إيقاظك وتطلب من زوجتك إيقاظك، ومع هذا كله سوف تستيقظ قبل أن يحدث هذا كله، أي قبل الموعد بربع ساعة ستستيقظ، وسيكون نومك غير هنيء، فكل ساعة تتقلب وتستيقظ، لماذا؟ لأنك مهتم.
فلو كان للصلاة عندك هم لأيقظك هذا الهم، وعليك أن تنظر في قلبك.(278/26)
إدراك تشهد الجمعة
السؤال
ما حكم نية من أدرك التشهد الأخير من صلاة الجمعة؟ أفيدونا رحمكم الله.
الجواب
أكثر أهل العلم على أن من أدرك من صلاة الجمعة ركعة أتمها جمعة، ومن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً، ولعل الدليل الذي يصح الاستدلال به هو ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر} وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة} فنقول من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة، ومن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً.(278/27)
الطهارة في البركة
السؤال
إذا كنت في بركة ولست طاهراً فهل يجوز أن أنوي الطهارة؟ وهل تكون الطهارة صحيحة؟
الجواب
إذا كنت تقصد الغسل، فإذا نويت رفع الحدث الأكبر بذلك كفاك، وتتمضمض وتستنشق، أما إذا كنت تقصد الوضوء فلا بد أن تغسل أعضاءك، التي هي أعضاء الوضوء، فتتمضمض، ثم تستنشق، ثم تغسل وجهك، ثم يديك، ثم تمسح برأسك وأذنيك، ثم قدميك.(278/28)
الشك في الأهل
السؤال
أنا شاب متزوج، وسمعت قول بعض الناس: " بشر الزاني بخراب البيت ولو بعد حين " وقد فعلتها في أيام المراهقة، لكن تبت إلى الله عز وجل وتزوجت، والذي أخشى منه: أن الشك دائماً يراودني في أهلي؛ مع أن زوجتي طيبة جداً، ولم ألاحظ عليها شيئاً، لكن الشك والغيرة تقتلني.
فهل من حل؟
الجواب
هذا العذاب الذي تعيشه الآن لعله تكفير من الله تعالى لذنبك السابق أو لذنوبك السابقة، ولعل الله أن ينقذك من هذا العذاب الذي تعيشه.
ولا يجوز لك أن تشك في زوجتك ما دامت طيبة، فالشك الذي ليس له مبرر إنما يدل على فساد الشاك نفسه، وأما هذا القول الذي سمعته فليس له أصل وليس بصحيح، أو على الأقل ليس على عمومه؛ فقد يقع هذا في حالات معينة، أما أخذ الناس على عمومه فهو غلط، وينبغي لك ألا يراودك الشك في زوجتك، مع أن الاحتياط مطلوب في جميع الأحوال.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(278/29)
الجهر بالنية عند الشافعي
السؤال
هل صحيح أن التلفظ بالنية جاء من أقوال الإمام الشافعي رضي الله عنه؟ ومن الذي نشر؟ نرجوا التوضيح.
الجواب
ليس بصحيح، فالأئمة الأربعة متفقون، بل جميع العلماء متفقون على أنه لا يشرع، أي لا يستحب الجهر بالنية فضلاً عن إعلانها ورفع الصوت بذلك.
أما الإمام الشافعي فقد غلط من نسب ذلك إليه، وإنما الشافعي قال: إن الصلاة ليست كالصيام، الصلاة لا تدخل إلا بذكر، أو إلا بقول هذا نص قول الشافعي.
فظنوا أن القول يعني النية، والمقصود من الإمام الشافعي تكبيرة الإحرام، وليس النية، ولذلك لا يشرع للإنسان أن يتلفظ بالنية أصلاً، بل النية محلها القلب.(278/30)
رؤيا العلماء في المنام
السؤال
هل رؤيا العلماء من الرؤيا الصالحة؟
الجواب
إن رأيت العلماء على هيئة حسنة كأن تكون تأخذ من هذا العالم شيئاً أو تستفيد منه، أو كان هذا العالم يرش عليك طيباً أو ما أشبه ذلك فهذا حسن.(278/31)
حكم شرب القهوة
السؤال
ما حكم شرب القهوة؟ لأن من العلماء القدامى من لا يقول بجواز شربها.
الجواب
نعم، لكن حدث الإجماع بعد ذلك على حلها، فلا خلاف في جوازها، فاشرب من القهوة ما شئت من غير إسراف ولا مخيلة.(278/32)
تحويل النية في الصلاة
السؤال
أتحويل النية جائز أم لا -خاصة في النوافل-؟ فمثلاً لو دخلت في الصلاة ونويت أن أصلي الظهر ثم غيرت نيتي، حيث إني كنت منفرداً فرأيت جماعة سيدخلون في الصلاة فحولت نيتي.
الجواب
تحويل النية يختلف، وله أحوال، فأما نية الفريضة فلا يجوز تحويلها مطلقاً، لا إلى فريضة أخرى ولا إلى نافلة، فلو دخلت في صلاة الظهر-مثلاً- ثم نويت تحويلها إلى صلاة العصر فحينئذ تبطل هذه الصلاة، شريطة ألا تكون موسوساً ترد عليك هذه الأشياء ثم تقول قطعت الصلاة، إنما الإنسان الطبيعي السوي، يعني: الكلام هذا خاص للأسوياء، وليس للموسوسين، فلا يجوز قلب نية الفرض إلى فرض آخر، هذه واحدة.
أما قلب نية الفرض إلى نفل مطلق -يعني: دخلت في صلاة الظهر ثم نويت أن تقلب نية صلاة الظهر إلى نافلة مطلقة- فهذا جائز.
أما قلب نية النافلة إلى فرض فهذا لا يجوز مطلقاً بلا خلاف، يعني: إنسان دخل -مثلاً- بنية النافلة، ثم بعد أن صلى ركعة قال: لا، لعلي أجعلها فريضة.
هذا لا يجوز مطلقاً، ولا تصح منه.
كذلك تحويل النافلة إن كانت نافلة مطلقة -تحويلها إلى نفل مقيد لا يجوز، مثل: أن تدخل بنية صلاة مطلقة ثم قلت: لا أريد، سأجعلها وتراً.
فهذا لا يجوز.
أما لو دخلت في نية نفل مقيد، ثم قلت: أحوله إلى نفل مطلق.
فهذا جائز.(278/33)
تحسين نية المدرس
السؤال
كيف يحسن المدرس الذي يدرس علماً دنيوياً -مثل: الكيمياء والرياضيات وغيرها- النية ويصلحها وهو يتقاضى أجراً على عمله؟ أينوي بها تخريج المهندس المسلم، والطبيب المسلم؟ أم كيف؟
الجواب
أما كيف يحسن المدرس نيته فأولاً: مدرس الفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرهم، كلهم لهم هدف قبل إيصال المعلومات إلى أذهان الطلاب، هدف إصلاح الطلاب، وتربية أخلاقهم ودينهم، وهذا أهم ما يجب أن يوجد في نفس كل مدرس، أن هدفي تربية الطالب قبل أن يكون هدفي حشو ذهنه بالمعلومات، وهذا يجعل نيتك حسنة في هذا العمل.
ثانياً: أنه لا بأس أن يكون هدفك أن تبين للطلاب أنه من الممكن أن يوجد إنسان متخصص في هذه العلوم وهو متدين أيضاً، فلا تناقض بين الدين وبين العلم.
ثالثاً: أن يكون من هدفك أن تخرج الطبيب المسلم أو المهندس المسلم كما ذكرت.
وقد يكون هناك نيات صالحة غير هذه.(278/34)
طرق دفع الرياء
السؤال
ما هي الطرق التي تجعل نية طالب العلم خالصة لوجه الله تعالى؟
الجواب
الأسباب التي تجعل نية طالب العلم خالصة لوجه الله تعالى، وتبعد عنه الرياء كثيرة.
فأقول: لدفع الرياء أسباب كثيرة من أهمها: أن يتذكر الإنسان عظمة الله تعالى، وأنه هو الذي يستحق أن يعمل من أجل كسب مرضاته، فإذا علم العبد ما لله تعالى من صفات الكمال والجمال والجلال علم أنه لا أحد يستحق أن يعبد ويعمل من أجله إلا الله تعالى.
إذاً فتعظيم الله في قلبك من أسباب دفع الرياء، وفي مقابل ذلك من أسباب دفع الرياء: معرفة المخلوقين وضعفهم، وأنهم لا يملكون للإنسان ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
ومن أسباب دفعه: أن يعلم العبد ما أعد الله تعالى للمخلصين يوم القيامة، من الأجر العظيم، والنعيم المقيم، وأنه لن يحصل على ذلك إلا بإخلاص النية والقصد، وبالمقابل يعلم ما أعد الله تعالى للمرائين، إذ تجعل أعمالهم هباءً منثوراً ويقول الله تعالى: {اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء} .
ومن أسبابها أيضاً: أن يعلم مصير المرائي في الدنيا، فإن المرائي في الدنيا يكشفه الله -تعالى- عاجلاً غير آجل، لذلك قال العلماء ما أضمر عبد سريرة في قلبه إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وعلى فلتات لسانه؛ فيفتضح المرائي ولو بعد حين، فلا يحصل له ما يريد، أي أن المرائي إذا راءى من أجل أن يكسب مدح الناس فإن الله يفضحه، فيعلم الناس أنه مراءٍ.
ومن طريف ما يروى في ذلك ما حكاه الأصمعي: أنهم كانوا جالسين جماعة في مسجد يتحدثون في العلم، فجاء أعرابي فصلى ركعتين فحسنهما وأطالهما، فلما سلم قال له الأصمعي: ما أحسن صلاتك! قال: لا، ومع ذلك أنا صائم الآن، ولله الحمد.
فتبسم الأصمعي.
وإذا بأعرابي آخر يستمع إلى هذا الرجل فأنشأ يقول: صلى فأعجبني وصام فرابني نح القلوص عن المصلي الصائم صلى فأعجبني: يعني أول مرة لما كانت الصلاة أعجبتهم.
وصام فرابني: لما أخبره أنه الصائم فهذا سر لا داعي لكشفه.
نحي القلوص عن المصلي الصائم.
وأيضاً من طريف ما يروى في ذلك: ما نقله بعضهم عن أحد الأمراء، وهو طاهر بن الحسين أنه كان عنده جليس يقال له أبو عبد الله.
فقال له طاهر بن الحسين: يا أبا عبد الله، منذ متى قدمت العراق.
قال: قدمت العراق منذ عشرين سنة، وأنا صائم منذ ثلاثين سنة.
فتبسم طاهر بن الحسين وقال له: يا أبا عبد الله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن اثنتين، وهو يوبخه في ذلك على الرياء.
(سألناك عن مسألة فأجبتنا عن اثنتين) .
ومن أسباب دفع الرياء: أن يحرص العبد على إسرار العبادة وإخفائها.
وموضوع إسرار العبادة موضوع طويل، من أحسن من تكلم فيه الإمام العز بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام"، وذكر أن العبادات تنقسم إلى أقسام منها: ما شرع الجهر فيه كالأذان والإقامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، فهذه لا بد من الجهر فيها.
ومنها: ما شرع فيه الإسرار أصلاً، كالقراءة في الصلاة مثلاً، فهذه المشروع فيها أصلاً هو الإسرار.
ومنها: ما تختلف.
فيشرع فيها الجهر حيناً والإسرار حيناً، كالصدقة.
فهذا إن كان الإنسان ممن لا يقتدى به فالأفضل في حقه الإسرار أيضاً؛ لدفع الرياء.
وإن كان ممن يقتدى به فيشرع له أن يجهر بها ويعلنها حتى يدعو الناس إلى الصدقة أيضاً.(278/35)
التلفظ بالنية في النسك
السؤال
كثيراً ما نسمع من بعض الناس في التلفظ بالنية عند عقد نسك الإحرام (اللهم إني نويت نسك كذا) ؟
الجواب
كثير من أهل العلم يقولون: إن نية الدخول في النسك من الأشياء المستثناة، فيجوز الجهر بها، وربما احتجوا بذلك بما ورد من الأحاديث في إعلان النبي صلى الله عليه وسلم نوع النسك الذي نواه، وكذلك أصحابه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، من حديث عمر رضي الله عنه: {أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة} وكان يهل صلى الله عليه وسلم إذا انبعثت به راحلته، وكذلك أصحابه، أي يهلون، يقولون مثلاً: لبيك عمرة وحجة، أو لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج، أو لبيك حجاً.
فأخذ من هذا أكثر الفقهاء جواز التلفظ بالنية فيما يتعلق بالنسك، وقال آخرون: لا، لا يجوز التلفظ بالنية، وإنما هذا ليس تلفظاً بالنية، فالنية في القلب، وهو ينوي الدخول في النسك حتى لو لم يتلفظ بلسانه، ثم يستحب له بعد ذلك أن يلبي بنسكه فيقول: لبيك حجاً، أو لبيك عمرة، أو لبيك عمرة وحجا.(278/36)
معالجة الوسواس
السؤال يقول: إني أحبك في الله، وأسأل الله أن يطيل عمرك.
أما بعد: فإني أتشدد في الوضوء، وأغسل يدي ثلاث مرات، وأضيع كثيراً من الماء بسبب أنني غير متأكد من غسلها جيداً، وكذلك جميع الأعضاء.
فما هو الحل؟
الجواب
أقول الدعاء بإطالة العمر مجرداً لا ينبغي؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {خيركم من طال عمره وحسن عمله} فطول العمر قد يكون مذموماً، فكثير من الناس كانوا يشتكون من طول أعمارهم كما قال لبيد: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد وقال آخر: إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان إنما يدعوا الإنسان بطول العمر مع حسن العمل.
الحل أن تترك هذا العمل، وتتوضأ وضوءاً معتدلاً، وتبتعد عن الوسوسة، والنظر هل يبلغ العضو أو لم يبلغ، فإن لم يبلغ أعيد مرة ثانية.
ومن الطريف في ذلك أن أبا الوفاء بن عقيل الحنبلي، وهو من أئمة الحنابلة، صاحب كتاب الفنون وهو كتاب عظيم، يقال: إنه يصل إلى مئات المجلدات، ومع الأسف الكتاب معظمه مفقود، ويعتبر من أذكياء العالم، جاءه رجل وقال له: إنني أنغمس في البركة، ثم أقول: لا أدري هل اغتسلت أم لا! فقال له: اذهب، فأنت ليس عليك صلاة، ولا عليك وضوء، ولا غسل ولاشيء.
قالوا له: كيف يا إمام -رحمك الله-؟! قال: هذا مجنون! إنسان ينغمس في البركة ولا يدري أهو اغتسل أم لا! هذا مجنون! ولذلك ذكر العلماء كـ الجويني، وابن القيم، والنووي، أن الوسواس لا يكون إلا من خبل في غريزة العقل أو جهل بالدين.
وهناك أسباب أخرى أسباب كثيرة، منها أن الوسواس -أحياناً- قد يرجع إلى سبب عضوي، وقد يرجع إلى حالة نفسية، وقد يرجع إلى أمور أخرى.
على كل حال لقد سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع في محاضرة بعنوان "رسالة إلى موسوس" بإمكان الأخ أن يسمعها.
والنصيحة الذهبية التي أنصح بها جميع الموسوسين: أن عليهم أن يتخذوا من أنفسهم موقفاً حازماً وحاسماً، على مدى أسبوع أو عشرة أيام أعلن حالة الطوارئ على نفسي، وأرفض جميع صور الوسواس مهما كان الأمر، ومهما أجلب عليك الشيطان، وقال لك: أنت لم تصل! أنت كافر! يمكن أن تموت وتدخل النار! مهما أوقد الجمر تحتك اصبر، وبعد أقل من أسبوع -أحياناً- ستجد أن الوسواس قد زال بالكلية.
وأنا أقول: قد جربت هذا مع عدد كثير من الشباب ونجح ولله الحمد، حتى أن بعضهم يزول منه بالكلية.
لكن يحتاج ذلك إلى أمر واحد: هو أن تقوي عزيمتك خلال أسبوع أو عشرة أيام في رفض جميع صور الوسواس مهما أجلب عليك الشيطان بخيله ورجله، فإذا أخفقت في هذا، فليس هناك داع أن تطرق أبواب الناس يوماً بعد يوم، لا تضيع الوقت على نفسك والناس.(278/37)
أخطاء شائعة في الصيام
تكلم الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن مواضيع مهمة شائعة بين الناس: عن الصيام وأحكامه، فبدأ بما انتشر عن بعض الناس من أن الامتناع عن الطعام من الليل للشخص موجب دخوله في الصيام، وعرض على مسائل مثل حيض المرأة ومنعه أو تطهرها فجأة، وعن الجنابة قبل الفجر، وحكم العاجز عن الصيام، وأثر السواك وخروج الدم على الصائم، ثم ختم حديثه بدعوة إلى التبرع للمسلمين المنكوبين في البوسنة والهرسك.(279/1)
الامتناع عن الطعام والشراب قبل الفجر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأتباعه وأصحابه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فقد ذكرتُ في آخر ليلة من الدروس التي كنت ألقيتها في مسجد الشيخ محمد المحيسني، أحكاماً تخص الصوم، وكان آخرها ما يتعلق ببعض الأخطاء المشهورة عند الصائمين، وقد ذكرت من هذه الأخطاء: أولاً: اللزوم قبل الفجر، وأن بعضهم يلزم أو يستاقد -كما يعبر العوام- قبل الفجر، ثم يظن أنه لا يصح له أن يأكل أو يشرب بعد ذلك حتى ولو أعجبه طعام أو شراب.
والصواب أن للصائم أن يأكل ويشرب ويفعل ما شاء من المباحات إلى أن يطلع الفجر، كما قال الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ(279/2)
حيض المرأة بعد غروب الشمس
ثانياً: أن كثيراً من النساء تعتقد أنها إذا حاضت قبل صلاة المغرب، أو بعضهن تعتقد أنها إذا حاضت قبل العشاء فإن صومها غير صحيح، حتى ولو كانت قد غربت الشمس عليها وهي طاهرة! والصواب أن المرأة إذا غربت الشمس وأذّن المغرب عليها وهي طاهر، فصومها صحيح، سواء أصلت المغرب، أم أتاها الحيض قبل الصلاة، أم صلت العشاء، أم أتاها الحيض قبل الصلاة، فصومها صحيح في هذه الأحوال كلها، وبعض النساء تقول: لم أدر إلا بين المغرب والعشاء حينما نظرت فوجدت أنني قد حضت، ولا أدري متى أتاني الحيض؟ فلم أكن أعلم أني حضت قبل ذلك، فهذه المرأة أيضاً صومها صحيح؛ لأن الأصل أن يومها قد تم لها، ويحتمل أن الحيض ما نزل عليها إلا في تلك اللحظة التي نظرت إلى نفسها فيها.(279/3)
وقت الفطر في السفر
ومن الأخطاء المشهورة عند الناس أيضاً: أن بعضهم يعتقدون أنهم إذا نووا السفر، حق لهم الفطر حتى قبل أن يسافروا فعلاً، والصواب أن الصائم لا يجوز له أن يفطر، لا على أكلٍ، ولا شربٍ، ولا جماعٍ، ولا غير ذلك، إلا إذا سافر فعلاً، ولهذا قال الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] أي: متمكن من السفر واقع فيه، أما مجرد نية السفر، فإنها لا تبيح للإنسان أن يترخص برخصه.(279/4)
دخول الفجر والإنسان جنب
ومن ذلك أيضاً -وهو مما يكثر السؤال عنه- أن بعض الرجال والنساء يظنون أن من أدركه الفجر وهو جُنب فإن صومه غير صحيح، وهذا باطل، فإن الإنسان إذا أخر الغسل، إلى ما بعد طلوع الفجر لا يضره ذلك، ما دام أنه قد لزم ترك الطعام منذ طلوع الفجر، فلا يضره تأخير الغسل سواء كان الغسل لجنابة، أو حيض، أو نفاسٍ، أو ما أشبه ذلك، وقد جاء في الصحيحين والسنن والموطأ من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم {كان يدركه الفجر وهو جنبُُ من جماعٍ غير احتلامٍ ثم يغتسلُ ويصوم} ، فمن أخر الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر فلا شيء عليه.
وها هنا أيضاً سؤال وهو: أن بعض الناس قد يؤخر الغسل والصلاة إلى ما بعد طلوع الشمس أحياناً، فما حكم هذا؟
الجواب
أما بالنسبة للصوم، فصومه صحيحُُ لا شك في صيامه، لا شك في صحته، ولكنه آثم مؤاخذ بتأخير الصلاة، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] .
وواجب أن الإنسان يصلي الفجر مع جماعة المسلمين، ولا يجوز له قط أن يؤخر الصلاة إلى بعد طلوع الشمس؛ فإن وقت الفجر يمتد إلى طلوع الشمس، فمن كان مسافراً أو معذوراً بترك الجماعة فليس معذوراً عن تأخير الصلاة عن وقتها، بل من أخر الصلاة عن وقتها لغير عذر، فقد أتى باباً من أبواب الكبائر.
وبعض أهل العلم يشدد في ذلك أيما تشديدٍ على من أخر الصلاة إلى ما بعد خروج وقتها، فعلى الإنسان أن يحرص على أداء الصلاة في وقتها بكمال طهورها وخشوعها وركوعها وسجودها، أما مسألة الصيام فلو أن الإنسان أخر الغسل أو أخر الصلاة فإن صومه صحيح، ولا تعلق للصوم بالطهارة.
ومن ذلك أيضا أن كثيراً من النساء تسأل.(279/5)
تعمد المرأة إيقاف الحيض في رمضان
السؤال
عمن تناولت مانعاً من موانع الحمل، أو موانع الحيض، فتوقف عنها الدم في رمضان، وقصدها في ذلك أن تواصل الصيام مع المسلمين أو أن تصلي معهم أو أن تعتمر، فما حكم ذلك؟.
الجواب
أن هذا العمل جائز، إذا كان لا يضر بصحة المرأة، فإنه يجوز لها أن تتناول مانعاً من موانع الحيض، حتى تواصل الصيام أو تواصل الصلاة مع الناس أو حتى تعتمر، فلا حرج عليها في ذلك إن شاء الله، وإن لم تفعل فهو خيرٌ لها وأفضل وتركت الأمر على طبيعته، وهو أصح لبدنها، وأبعد للعادة والحيض من الاضطراب الذي يصيب كثيراً من النساء.
ومما ينبغي أن يعلم أيضا أن المرأة إذا تناولت مانعاً ثم توقف عنها الدم؛ فإنها تصوم حينئذٍ، وصومها صحيح، وليس عليها صيام ذلك اليوم أو تلك الأيام فيما بعد، فإذا صح صومها في ذلك اليوم، ولم يأتها دم منذ طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فمن الذي يقول أن عليها أن تقضي ذلك اليوم بعد رمضان؟ هذا لا يصح أبداً، بل هو صوم صحيح كاملة شروطه، فلا حاجة لقضائه، ولا يشرع؛ بل لا يجوز قضاؤه، وإنما إن أحبت أن تتنفل بما شاءت فلها ذلك، أما ذلك اليوم، فصيامه صحيح، ولا قضاء عليها.(279/6)
العاجز عن الصيام
ومن هذه المسائل أيضاً مسألة من عجز عن الصيام، لمرض لا يرجى برؤه أو لكبرٍ في سنه وهرم وشيخوخة، فإن مثل هذا الإنسان إن عجز عن الصيام أو وجد في ذلك مشقة شديدة فعليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ كما قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] .
وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنه أن هذه الآية في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وما في معناهما، فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً، وهذا الإطعام يستوي فيه أن يطعم كل يوم بيومه، أو أن يؤخر ذلك إلى ما بعد نهاية شهر رمضان، فإن ذلك سيان، وسواء أأطعمهم طعاماً مطبوخاً جاهزاً أم أطعمهم غير ذلك، فلا بأس بهذا، وينبغي أن يراعى ما يكون أحب للفقراء وأدعى إلى قضاء حوائجهم.
أما بقية هذه المسائل المتعلقة بالأخطاء المشهورة فمنها:-(279/7)
تبييت نية الصيام من الليل
أولاً: أن بعض الناس يسمعون أنه لا بد من تبييت النية من الليل لصيام الفرض، وهذا صحيح؛ فإن صيام الفريضة كصوم رمضان والنذر والكفارة لا بد فيها من تبييت النية، أي: لا بد أن ينوي الإنسان من الليل أنه سوف يصوم غداً، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عُمَر المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} والحديث الآخر في السنن وهو صحيح: {لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل} لكن بعضهم يعتقد أن تبييت النية لا بد فيه أن يستيقظ قبل الفجر، فلو أن أحدهم نام في الساعة الثانية عشرة ليلاً أو في الواحدة ليلاً، ثم لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، ظن أنه لا يجزئه صيام ذلك اليوم، يقول: لأنني لم أبيت الصيام من الليل، وينسى هؤلاء أو يجهلون أن الليل يدخل بغروب الشمس، ثم إن بعض هؤلاء يجهلون أيضاً معنى تبييت النية، ويبالغون في ذلك ويدخل عليهم الوسواس, والصواب أن المسلم الذي جرت عادته بصيام رمضان فهو لم يفطر منه شيئاً قط، يكفيه أن يخطر الصوم على باله، فإن هذا يصير ناوياً للصيام مستحضراً له، فهو ما نوى الفطر وقطع الصوم، وإنما نوى أن يصوم لله تعالى منذ دخول الشهر، وهذه نيته، أما المبالغة في ذلك والإسراف والوسوسة، فإنها من كيد الشيطان الذي ينبغي للإنسان أن يسعى في دفعه ما استطاع.(279/8)
السواك في رمضان
ثانياً: أن كثيراً من الناس يتجنبون السواك في نهار رمضان كله، وهذا خطأ؛ لأنه لا تعارض بين السواك والصيام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسِّواك عند كل صلاة} والحديث الآخر: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسِّواك عند كل وضوءٍ} إذاً فالصواب أنه يشرع للصائم أن يستاك كما يشرع لغيره، أما في صلاة الفجر وفي صلاة الضحى، وما أشبهها فهو مشروع عند سائر أهل العلم، وكذلك الوضوء في أول النهار، وما أشبه ذلك مما يقع قبل الزوال، أما ما يقع بعد الزوال، فقد ذهب بعض أهل العلم أنه لا يشرع، لحديث علي رضي الله عنه: [[إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي]] يعني استاكوا في أول النهار ولا تستاكوا في آخره، لكن هذا الحديث -حديث علي رضي الله عنه- ضعيف جداً، فقد رواه البيهقي والدارقطني وغيرهما، وسنده في غاية الضعف، فلا يحتج به، وقد عارضه حديث آخر وهو إن كان ضعيفاً أيضاً، إلا أنه خير من حديث علي رضي الله عنه وهو: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم} ويغني عن هذين الحديثين قوله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} أو {عند كل وضوء} فيدخل في ذلك الصلاة والوضوء للصائم وغير الصائم، قبل الزوال وبعد الزوال، فيدخل في هذا الحديث السواك لصلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، والوضوء لهذه الصلوات كلها.(279/9)
مواضع السواك
وكذلك يستحب للإنسان أن يستاك في مواضع أخرى، فإن المواضع التي يشرع للصائم وللإنسان أن يستاك فيها ستة مواضع:- الموضع الأول: عند الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: {عند كل صلاة} .
الموضع الثاني: عند الوضوء لقوله عليه الصلاة والسلام: {عند كل وضوء} .
الموضع الثالث: عند قراءة القرآن، وقد جاء في هذا أحاديث عن علي وغيره رضي الله عنه: {إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك} وهذه الأحاديث لا يخلو شيء منها من مقال، ففيها ضعف.
الموضع الرابع: عند دخول المنزل، لما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: [[أنها سئلت بأي شيء يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك]] .
الموضع الخامس: عند تغير رائحة الفم، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في سنن النسائي وغيره بسند صحيح: [[السواك مطهرة للفم مرضاة للرب]] ففي قوله مطهرة للفم دليل على أن السواك يشرع لتطهير الفم وتنظيفه.
الموضع السادس: هو عند الاستيقاظ من النوم، لحديث حذيفة المتفق عليه {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من النوم يشوص فاه بالسواك} إذن ينبغي للإنسان أن يستاك في هذه المواضع الستة سواء أكان صائما أم كان غير صائم.
أما ما يظنه بعضهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لخلوف فم الصائم أطيب عند الله -تعالى- من ريح المسك} وأنه يعارض ذلك أن يستاك الإنسان، فهذا ليس بجيد: أولاً: لأن الخلوف هو من المعدة، وهو رائحة تنبعث من المعدة بسبب خلوها من الطعام؛ وليس من الفم، إذا فالسواك لا يزيل الخلوف ولا مدخل له فيه.
ثانياً: أن كثيراً من العلماء قالوا: إن هذه الرائحة هي عند الله تعالى، {لخلوف فم الصائم عند الله تعالى} بل جاء في بعض الأحاديث {يوم القيامة} .
إذاً لا تعلق لذلك بأمور الحياة الدنيا، والسواك لا يضر ذلك؛ بل هو يزيد رائحة الفم عند الله تعالى طيباً إلى طيب، فإن السواك أيضا هو مما يرضي الله عز وجل، وهو مما أمر الله -تعالى- به على لسان رسوله صلى الله عليه الصلاة والسلام.(279/10)
بقاء أثر السواك في الفم
وأما إذا بقى في فم الإنسان شيء من أثر السواك فعليه حينئذٍ أن يزيله، دون أن يفضي به ذلك إلى وسوسة، فإن كثيراً من الناس يشقون على أنفسهم، ويبالغون، ويشددون، فيشدد الله تعالى عليهم، وربما يبتلون بألوانٍِ من البلايا والمصاعب؛ بسبب مبالغتهم في ذلك، فيبالغ الواحد منهم -مثلاً- في إخراج بقايا السواك من فمه، أو يبالغ في إخراج بقايا الطعام من بعد السحور من فمه، أو يبالغ في إخراج حتى الريق من فمه، فإذا تعقد ريقه حاول إخراجه، وشق على نفسه، وبعضهم يجد مشقة عظيمة في المضمضة والاستنشاق، وكل ذلك من الآصار والأغلال التي وضعها الله تعالى عن هذه الأمة، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] .
فكل الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة قد وضعها الله عن هذه الأمة، فينبغي علينا -عباد الله- أن نيسر على أنفسنا وغيرنا في هذه الأمور.(279/11)
خروج الدم من الصائم
ثالثاً: أن بعض الناس يظنون أن خروج الدم من الجرح ولو كان دماً يسيراً يفسد الصيام؛ بل بعضهم يظن أنه إذا جرح -حتى ولو لم يخرج الدم ولم يتجاوز موضع الجرح- يظنون أن ذلك يفسد الصيام، وهذا أيضاً غير صحيح، ولا دليل على ذلك، ولعل بعض الناس فهموا ذلك من مسألة الحجامة، وقاسوه عليها، والأمر مختلف؛ فإن هذا الجرح الذي أصاب الإنسان هو عن غير تعمد؛ بل قد يكون الجرح وقع عليه من غير قصد، فلا يؤثر؛ لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالقيء: {من استقاء عامداً فَلْيَقضِ، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه} والحديث رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح، كما قال ابن تيمية رحمه الله، وغيره من أهل العلم، فإذا تعمد الإنسان القيء بيده، بأصبعه، أو بشم شيء، تعمد ذلك من أجل أن يقيء، فهذا عليه القضاء، أما من ذرعه القيء وأصابه من غير قصد، سواء أكانت امرأة حاملاً أم كان رجلاً أم غير ذلك، أو شم روائح من غير قصد، فحصل منه القيء، فهذا عليه أن يخرج ما في فمه، وصومه صحيح، وهكذا الحال بالنسبة للدم، فحتى على القول بأن الحجامة وهي: إخراج الدم عن طريق المحجام أنها تفطر الصائم، فإن الجرح الذي يصيب الإنسان من غير قصد، ويكون الدم فيه يسيراً، وربما لا يتجاوز موضع الجرح، فإن ذلك لا يفطر الصائم.(279/12)
الحجامة
أما بالنسبة للحجامة؛ فقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الحجامة تفطر الصائم، ونقل هذا عن جماعة من الصحابة، وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه وغيره، وقال به الإمام أحمد -رحمه الله- وجماعة من الأئمة والسلف، ومن أقوى أدلتهم قوله صلى الله عليه وسلم: {أفطر الحاجم والمحجوم} .
وذهب جمهور أهل العلم، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وجماعة قبلهم من الصحابة والتابعين، فهو مذهب أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وأم سلمة وجماعة من التابعين، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، والثوري وغيرهم، فهؤلاء يرون أن الحجامة لا تفطر الصائم، وأن قوله صلى الله عليه وسلم: {أفطر الحاجم والمحجوم} منسوخ بأدلة كثيرة قوية منها: فعله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم} ومثله حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم: {أرخص في الحجامة للصائم} وقوله رضي الله عنه "أرخص في الحجامة" دليل على أن هذا الحكم كان قبله منع، فإن الرخصة تكون بعد عزيمة وبعد منع، فالظاهر -والله تعالى أعلم- أن الحجامة لا تفطر الصائم، وعلى الإنسان أن يحرص ألا يحتجم في نهار رمضان؛ من أجل الخروج من الخلاف وإبراء الذمة واطمئنان القلب، فإنه لا حرج عليه قط عند أحد من أهل العلم أن يؤخر الحجامة إن احتاج إليها أن يؤخرها إلى الليل.
ومثل ذلك أيضاً: ما يسمى اليوم بالتحليل، فإذا كان يمكن تأجيل التحليل إلى الليل، أعني تحليل الدم، فهو أولى من أجل براءة الذمة، لكن لو كان ذلك غير ممكن فحلل الإنسان الدم في نهار رمضان فإن صومه صحيح، ولا قضاء عليه ما دام لم يفطر, أما إن أفطر فإن بعض التحليلات يقولون له: لا بد أن نأخذ الدم وأنت صائم، ثم نأخذه وأنت مفطر، فحينئذٍ لا يجوز له أن يحلل في نهار رمضان، بل عليه له أن يؤجل التحليل إلى الليل، اللهم إلا أن يكون ذلك لازماً ولا بد منه لضرورة، فحينئذٍ يحلل؛ وعليه أن يقضي ذلك اليوم الذي أفطر فيه، هذا مع أن التحليل هو في الغالب دم يسير لا يقاس بالحجامة التي يخرج فيها من المريض دمٌ كثيراٌ.
إذاً الخلاصة في هذه المسألة: أن خروج الدم من الصائم بجرح لا يؤثر في صيامه -إن شاء الله تعالى-.
أمَّا الحجامة فبعض أهل العلم قال: إنها تفطر؛ استدلالاً بحديث: {أفطر الحاجم والمحجوم} والجمهور قالوا: لا تفطر؛ استدلالاً بحديث ابن عباس {احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم} وبحديث أبي سعيد الخدري {أرخص النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة للصائم} , أما بالنسبة للتحليل فإنه لا يفطر، وإن أمكن تأجيله إلى الليل فهو أحوط وأولى.(279/13)
دعوة للتبرع
أيها الإخوة هذه هي معظم المسائل المتعلقة بالأخطاء المشهورة بالنسبة للصائمين، وقبل أن أغادر هذا المكان، أود أن أقول لكم: إننا سنعمل في كل ليلة على أن نجمع على ما تيسر من أموال المسلمين؛ لدعم ومساعدة إخوانهم في كل مكان، وفي هذه الليلة سوف يتم الجمع بعد نهاية صلاة التراويح مباشرةً لصالح إخوانكم المسلمين في البوسنة والهرسك، وأرجو منكم -أيها الإخوة والأخوات- أن تبذلوا ما تجود به أنفسكم في هذا السبيل، فإن الأمر عظيم والخطب جليل، والكارثة التي ألمت بالمسلمين هناك لا تكاد توصف، أما بالنسبة لكم أنتم أيها الرجال، فلتعلموا أن أمثالكم من الرجال الأشداء الأقوياء هناك يتحرقون إلى قطعة سلاح يدافعون بها عن أنفسهم، وعن أعراضهم، وعن بلادهم، فلا يستطيعون، وفي البوسنة والهرسك أكثر من مائة ألف شاب أقوياء؛ الواحد منهم لو أردت منه أن يهد جداراً لفعل، لكنه لا يملك قطعة سلاح يدافع بها عن نفسه، وربما لو تمكنوا من عشرات الملايين من الدولارات لاستطاعوا أن يحرروا كل شبر في بلادهم.
والله لتسألن عن هذا الأمر أيها الأحبة، فعليكم أن تقفوا مع إخوانكم في الدعم بقدر ما تستطيعون، أما أنتن -يا معشر النساء- فلكن أن تتذكرن الكلام الذي قلناه مراراً؛ أن أكثر من مائة وعشرين ألف مسلمة قد انتهكت أعراضهن بالاغتصاب؛ بل أحيانا بالاغتصاب الجماعي، من هؤلاء الوحوش الخنازير، أعداء الإسلام النصارى الصليبيين، أكثر من مائة وعشرين ألف فتاة ما بين السادسة إلى السبعين من عمرها، منهن أكثر من ستين ألفاً حوامل!! وإذا حملت المرأة احتجزوها في معسكرات حتى لا تتمكن من إسقاط الحمل!! يريدون أن تلد وتنجب أولاداً من النصارى حتى يلاحقها الذل والعار إلى الموت.
وبالأمس نشرت الصحف مجموعة لرجال ونساء عراة من المسلمين في معسكرات الأسراب، لم يبق من واحدهم إلا جلد على عظم، وهم يمشون مثل الكلاب على أقدامهم وركبهم وأيديهم مطأطئي الرءوس ترهقهم الذلة وتغاشهم الكآبة، ووراءهم جنود الصرب، أسلحتهم مشهرة إلى رءوس المسلمين، يطلبون منهم أن يزحفوا زحفاً طويلاً بهذه الطريقة، وعلى الجليد والثلج، وفي وسط المخاوف، وكل من أبدى تردداً أو عجزاً أو ضعفاً أو لم تحمله رجلاه فإنهم يصوبون السلاح إلى رأسه، لقد تخلى العالم كله عنهم وبقيتم أنتم يا أهل التوحيد، يا أهل لا إله إلا الله، فيجب عليكم أن تقفوا معهم، اصدقوا الله تعالى.
إنني أعجب! وحق لي أن أعجب أن نطالبكم بالبذل، ثم ننظر ما حصيلة هذا الجمع في مسجد ضخمٍ كبيرٍ كهذا المسجد المبارك، يحضره ألوف بل ربما عشرات الألوف، فإذا نظرنا وجدنا أربعين ألف ريال، سبحان الله حتى الزكاة يجوز أن تدفعها لهؤلاء المسلمين، والنهاية أربعون ألف ريال، ما الذي يجعل النصارى وهم أهل شرك وتثليث وإلحاد ولا يرجون من الله شيئاً، ومع ذلك يجمعون مئات الملايين من الدولارات؟! وأنتم أيها المسلمون تتراجعون وتتأخرون! ما الذي يجعل أولاد النصارى يأتون من روسيا؟! وقبل أمس جاء في الصحف أن أكثر من عشرة آلاف شاب أرثوذوكسي من النصارى من القوميين المتعصبين الروس، ينضمون إلى القتال في صفوف الصرب، يشدون عزائم إخوانهم من أهل الكتاب، أما المسلمون؛ فعدد المسلمين الذين يقاتلون هناك إلى جوار إخوانهم يقدر بالمئات!! دعك من القتال بالنفس، نحن لا نطالبك الآن أن تجاهد بنفسك، إنما نطالبك أن تجاهد بمالك، وما نريده منك ليس مائة ريال أو ألف ريال، بل نقبل منك حتى الشيء اليسير {ولا تحقرن من المعروف شيئاً} .
وأنتِ أيتها المسلمة لا تحقري من المعروف شيئاً ولو من حُليِّكُنّ كما قال صلى الله عليه وسلم: {والمرء في ظل صدقته يوم القيامة} .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {سبق درهمٌ ألف درهم} , {وإنما الأعمال بالنيات} ولو ريالاً، فإن فيه خيراً كثيراً -إن شاء الله- لكني أطالب أهل الغنى والجدة واليسار أن يتقوا الله تعالى في إخوانهم، والله ثم والله لسوف تسألون عنهم، يستصرخون بكم ويستنجدون ويصيحون، والعالم الغربي الكافر يجد نفسه مضطراً إلى أن يظهر الغضب والانزعاج، ويقف ولو إعلامياً إلى جوار المسلمين؛ ثم يخذلهم إخوانهم المسلمون!! أعرف ماذا يقول بعضهم! يقولون: المسألة طالت وما بأيدينا شيء، هذا أمره عند الله تعالى ولو طالت نحن لا نطالبك بشيء من نفسك: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُم ْ} [النور:33] .
وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] .
نحن نقول لك أخرج الزكاة يا أخي، أنت تعطي زكاتك لفلان، وقد يكون محتاجاً ولكن ما هي حاجته؟! سيشتري أشياء إضافية للمنزل أو ما أشبه ذلك، وربما عليه ديون قابلة للتأجيل، وربما يكون بعض الكماليات، وربما امرأة تشتري بها ذهباً تتجمل به أو تجمل به بناتها، ولكن أمامك الآن ناس يموتون جوعاً وعطشاً ومرضاً في الصومال، وأمامك مصائب أمم بأكملها، وكوارث حلت بشعوب تقدر بالملايين، أفلا تعقل؟! أفلا تدرك؟! أتقيس مأساة فرد بمأساة أمة؟!! ومصاب بيت بمصاب شعب بأكمله.
إنني أطالبكم أيها الإخوة المسلمون وأيتها الأخوات المؤمنات: أطالبكم مجدداً أن تصدقوا الله تعالى في هذه الليلة بالذات، ولعله ألا يخرج الواحد منكم -بإذن الله تعالى- إلاَّ وقد غفر له بصدقة نوى بها وجه الله تعالى، لا يعلم بها أحد، تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] وربما ينصر الله إخوانكم المسلمين بهذا المال، وأؤكد لكم أننا وغيرنا من الذين يجمعون التبرعات نستطيع بحمد الله تعالى أن نوصلها إلى المسلمين هناك، وتسد فاقاتهم وفقرهم، ونشتري بها الأطعمة، والحليب، والملابس، والأغذية، والأكسية، والسلاح، وكل شيء ممكن بالمال، كل شيء ممكن المشكلة الوحيدة هي المال! ويا معشر النساء: أدعوكن إلى الصدقة ولو من حليكن، وأنبه بعض الشباب أنه بمجرد أن تنتهي صلاة الوتر عليهم أن يقفوا على الأبواب، ويحرصوا على جمع ما تجود به نفوس إخوانهم، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا في هذه الساعة المباركة وفي هذه الليلة المباركة، لكل من تصدق وأنفق مما يستطيع ولو بالقليل، أن يجعل الله تعالى ذلك له صحةً في بدنه، وطولاً في عمره، وسعةً في رزقه، وعافيةً وعفواً في الدنيا والآخرة، وصلاحاً في ولده، وسعادةً في قلبه، ورفعاً في درجاته؛ إنه تعالى على كل شيء قدير.
الخاتمة: اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تُعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أصلحنا يا مصلح الصالحين، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(279/14)
الأسئلة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين(279/15)
صلاة المسافر وراء إمام مقيم
السؤال
أنا كنتُ مسافراً وجئت إلى مسجد أهله مقيمون، ووجدت الإمام في التشهد الأخير وعندما سلم قمتُ وجئت بركعتين فقط؟
الجواب
لا! بل عليك ما دمتَ اقتديت بإمامٍ مقيم أن تأتي بأربع ركعات، لقوله عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح: {فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا} فأنت فاتك أربعُ ركعات، ولذلك قال السائل لـ ابن عباس: [[أكون بـ مكة، فكم أصل إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: تصلي ركعتين]] فدل على أنه كان مستقراً عندهم أن المسافر إذا كان مع إمامٍ مقيم، فإنه يصلي وراءه أربع ركعات في الرباعية، ولا يقصر الصلاة معه، وهذا مذهب كثير من أهل العلم خلافاً للإمام مالك رحمهم الله تعالى أجمعين.(279/16)
حكم العمرة لإمام يتعطل المسجد لذهابه
السؤال
ما رأيكم في من يذهب إلى الديار المقدسة للعمرة وهو إمام ويترك جماعة المسجد؟
الجواب
عليه أن يحرص إن ذهب أن يجعل في المسجد من ينوب عنه، ويقوم مقامه، وأنصح ألا يكثر الإخوة الذهاب، بل لو أن الإخوة جلسوا في بلادهم، وذهب الواحدُ يوماً للعمرة لكان هذا أولى.(279/17)
انشغال الناس عن رمضان باللهو واللعب
السؤال
مضى ثلث هذا الشهر تقريباً، ولا يزال بعض الناس على ما هم عليه من الذنوب والمعاصي وتضييع الوقت من غير فائدة، فهل من كلمةٍ توجيهية تلقيها لهذه الفئة من الناس؟
الجواب
أذكر الإخوة بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن أبي موسى وأبي هريرة: {أن النبي عليه السلام صعد المنبر وقال: آمين وآمين وآمين قالوا: يا رسول الله، قلت آمين قال: جاءني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، قل: آمين قلت: آمين} فما بالك بإنسان دعا عليه جبريل، وأمّن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يتب الإنسان في رمضان فمتى يتوب؟؟ إذا كانت يا أخي: أيام ومواسم الطاعات وغيرها عندك سواء، فمتى يستيقظ قلبك؟؟! إذا كانت الجمعة فرصة لك، وأنت لا تفكر بأن هذا يومٌ فاضل، ويومٌ فيه خلق آدم، وفيه أهبط من الجنة، وفيه تقوم الساعة، وفيه وفيه وفيه ساعةٌ تجاب فيها الدعوة، وفيه تشرع كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإنما تتذكر فقط أن يوم الجمعة يوم إجازة، وترتكب فيه بعض الذنوب والمعاصي التي لا ترضي الله، ومثل ذلك هذا الشهر الكريم.
لا تذكر من ذكرياته إلا أن الليل وقتٌ للعب الكرة، سواء أكان ذلك في الملاعب، أم مشاهدة اللاعبين على شاشة التلفاز، وما قصَّرت رعاية الشباب فقد أعدت لشبابنا في هذا الشهر خمسة عشر مباراة طيلة خمسة عشر يوماً من أيام هذا الشهر! وأما بالنسبة للشباب الذين لم يستطيعوا الحضور، فالوسائل والإمكانيات تتيح أن تنقل لهم هذه المباريات حيةً على الهواء، ليستمتعوا بمشاهدتها طيلة ليالي هذا الشهر الكريم، أما في النهار، فهم مشغولون بالدراسة أو بالعمل، ولك أن تتصور بقية اليوم، فمتى يجد الواحد وقتاً لقراءة القرآن، أو لذكر الله، أو للتفكير في أمور الآخرة، أو حتى لمصلحته الدنيوية؟! والله المستعان!! أسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(279/18)
حكم الأكل مع أذان الفجر
السؤال
ما حكم الأكل مع أذان الفجر وما مقدار الوقت الذي يجوز فيه ذلك؟
الجواب
بالنسبة للأكل: يأكل الإنسان ويشرب إلى طلوع الفجر، فإن كان هناك مؤذن يؤذن على الوقت، فإذا سمعتَ صوته في أول الأذان، فعليك أن تمسك، أما إن كان المؤذنون يحتاطون ويبكرون دقيقة أو دقيقتين، فعليك أن تأكل بمقدار هذه الدقيقة أو الدقيقتين.(279/19)
بدعة عشاء الوالدين في العشر الأواخر
السؤال
ما رأيكم في عشاء الوالدين الذي يقام في العشر الأواخر؟
الجواب
هذا ليس له أصلٌ، لكن الصدقة مشروعة عن الوالدين وغيرهم، وليس في الصدقة اختلافٌ كما قال بعض السلف؛ فبإمكان إنسان أن يتصدق عن نفسه أو عن والديه بمالٍ أو طعامٍ أو عشاءٍ يعطيه الفقراء والمساكين، أو ما أشبه ذلك.(279/20)
التعاون على البر والتقوى
السؤال
لو نبهت الإخوة الحضور بأن كل واحدٍ منهم عليه واجب نحو إخوانه، فلو كل واحدٍ منهم قام في مسجد الحي الذي يسكن فيه، وجمع التبرعات للمسلمين، لحصل من ذلك خيرٌ كثير؟
الجواب
هذا سبق أن نوهتُ به، وأدعوك أنت يا أخي! يا صاحب هذه الرسالة! أن تكون من أول المبادرين إلى هذا العمل، فأنت -إن شاء الله- شريكٌ في الأجر، لأنك دللت على خير، والدال على خير له مثل أجر فاعله، لكن عليك أيضاً أن تكون مسارعاً إلى الخيرات.(279/21)
الذهاب بالعائلة إلى مكة ودخول الخادمة الكافرة مكة
السؤال
هل تنصح بالذهاب إلى مكة للعوائل، وما حكم ذهابهم بالخادمة الكافرة؟
الجواب
لا أنصح بذلك بالنسبة للعوائل، اللهم إلا أن يكون معهم من يحفظهم، ويضبط أمورهم، ويقضي حاجاتهم، ويتابعهم جيداً، فإن أوضاع البلد الحرام في هذا الشهر لا تخفى على الكثيرين من اختلاط الشباب والفتيات، وكثرتهم في الحرم، وخارج الحرم، وفي الأسواق، والأزقة، بل وفي الشقق والعمائر والفنادق وغيرها، وقد اطلعنا واطلع غيرنا من ذلك على أشياء كثيرة، توجب على أولياء الأمور الذين يكون عندهم شباب مراهقون أو بنات مراهقات ألا يذهبوا بهم، اللهم إلا أن يكون الذهابُ ليومٍ واحد يقضون فيه العمرة، ويحققون فيه الفضيلة الواردة في صحيح البخاري: {عمرة في رمضان تعدل حجةً} ثم يعودون، أما كونهم يقضون الشهر كله، أو العشر الأواخر هناك، ويترك الأب الحبل على الغارب لأولاده، ولا يدري أين ذهبوا، ولا أين جاءوا، ويكون هناك تسوق في الشوارع وذهاب وإياب، ولقاءات، وأعداد كبيرة عند الهواتف واتصالات، ورسائل متبادلة، وأمور كثيرة، فإن هذا لا شك ربما يكون الأمر فيه خلاف ما ذهب الإنسان إليه، ويكون كمن بنى قصراً وهدم مصراً، وكذلك بعض الشباب، وقد أعجبني بعضهم ممن نظر الأوضاع فلم يطق صبراً فعاد؛ لأنه وجد هناك بعض المغريات والفتن.
من اللائي لم يحججنَ يبغينَ حسبةً ولكن ليقتلن البريء المغفلا أما الذهاب بالخادمة الكافرة فلا يجوز، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] .
يؤسفني أن أحد الإخوة يقول: إن قريبةً له رأت امرأة في الحرم، لما أقيمت الصلاة، قالت للخادمة: قومي فاخرجي، فقامت الخادمة وخرجت، قالت لها: لماذا؟ قالت: لأنها كافرة، أريد أن تخرج حتى تقضى الصلاة! لم يكتفوا بإدخالها مكة، بل أدخلوها إلى المسجد الحرام، وهؤلاء ارتكبوا عدة ذنوب: أولاً: استقدام امرأة بدون محرم.
ثانياً: إدخال الكافرة إلى جزيرة العرب.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} .
ثالثاً: أنهم أدخلوها مكة، والله تعالى يقول: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَام} [التوبة:28] ومكة كلها حرم.
رابعاً: أنهم أدخلوها إلى المسجد نفسه.
وهذه الأشياء كلها مما نهى الله تعالى عنه.(279/22)
السواك لقراءة القرآن
السؤال
ذكرتم أنه لم يصح في التسوك قبل قراءة القرآن حديث، فهل نجعل السواك قبل القراءة من المستحبات وليس من السنن؟
الجواب
قد جاء في مجموعة أحاديث، وبعض أهل العلم رأى أن بعضها يقوي بعضاً، ويشد بعضها بعضاً، ومنها حديث: {إن أفواهكم طرق القرآن؛ فطيبوها بالسواك} وعلى كل حال، فالسواك من فضائل الأعمال، ولا حرج في أن يستاك الإنسان قبل الصلاة.(279/23)
الجماع في صيام التطوع
السؤال
ما رأيكم في من جامع امرأته عارفاً بصيامه وهو في صوم التطوع يوم الاثنين والخميس مثلاً؟
الجواب
من جامع امرأته في صوم تطوع فلا شيء عليه؛ فالمتطوع أميرُ نفسه، وليس عليه في ذلك شيءٌ، وإن أحب أن يقضي بدله يوماً آخر، فيتطوع يوماً أخر، فهذا حسن، ولو لم يفعل فليس عليه شيءٌ، أما من جامع امرأته وهو في رمضان، فإنه قد أتى ذنباً عظيماً، وعليه أربعة أمور: الأول: أن يمسك بقية اليوم؛ لأنه أفطر من غير عذر.
الثاني: أن يتوب إلى الله تعالى توبةً نصوحاً؛ فإن هذا من الكبائر.
الثالث: أن يقضي يوماً مكانه كما ذهب إليه أكثر أهل العلم.
الرابع: عليه الكفارة وهي: عتق رقبة، فإن لم يستطع أو لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ولو أفطر فيهما يوماً واحداً من غير عذر، لزمه أن يستأنف الشهرين من أولهما، فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكيناً، وهذه الكفارة على الترتيب على رأي جماهير أهل العلم، خلافاً للإمام مالك، أما من كان صومه قضاءً لواجب، مثل إنسان قضى يوماً من رمضان في شوال، ثم أفطر، فهذا آثمٌ أيضاً، فإن من شرع في أداء صومٍ واجب، ولو لم يكن من رمضان، كالقضاء، أو الكفارة، أو النذر، فإنه لا يجوز له أن يفطر في ذلك اليوم.(279/24)
جواز فطر المسافر
السؤال
لقد ذهبتُ إلى الرياض وأنا صائم، وشق عليَّ ذلك اليوم، وبعد رجوعي شربتُ شيئاً، لما في ذلك من أثر الصداع، فما رأيكم في صومي هذا؟
الجواب
ما دمت مسافراً فبإمكانك أن تفطر؛ فإن الله تعالى قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
وما دمت قد أفطرت، فعليك قضاء ذلك اليوم الذي أفطرته.(279/25)
نصح الابن لأبيه
السؤال
أبي رجلٌ موسر وآتاه الله تعالى مالاً وأُحب له ما أحب لنفسي؛ فما هي السبيل التي أستطيع أن أسلكها معه حتى يكثر من الصدقة والبذل في سبيل الله ودعوة الناس إلى الخير؛ لأنني أحس أنه قد يقبض يده عن هذا الخير العظيم، وفقنا الله وإياكم للخير
الجواب
عليك أولاً بكثرة الدعاء له، ثم عليك أن تكلمه في ذلك بالكلمة الطيبة، وأن تكون عاملاً معه في عمله، حتى يقتنع منك ويرتاح إليك ويقبل رأيك، ثم عليك أن تسلط عليه بعض الأخيار الذين يدخلون معه مدخلاً حسناً، ويقنعونه بعمل الصالحات.(279/26)
الاحتلام في نهار رمضان
السؤال
من احتلم في نهار رمضان أيصح صومه أم لا؟
الجواب
الاحتلام في نهار رمضان أي: أن يرى الإنسان وهو نائم شيئاً، فتخرج منه شهوته، هذا الاحتلام لا يفطر الصائم، وعليه إذا استيقظ أن يغتسل، ولا شيء عليه.(279/27)
الطيب والبخور للصائم
السؤال
الروائح الطيبة هل تفطر، مثل دهن العود وغيره؟
الجواب
الروائح الطيبة لا تفطر، فالرائحة ليست من المفطرات، لكن إن كان لهذه الرائحة جرم، مثل الدخان الذي يتصاعد من البخور، فعلى الإنسان أن يتجنب أن يقربها من أنفه أو يشمها.(279/28)
معجون الأسنان
السؤال
ما حكم معاجين الأسنان؟
الجواب
معاجين الأسنان لا تفطر الصائم، إذا اكتفى بأن يغسل بها فمه، وينظف به أسنانه، وعليه بعد ذلك أن يخرجها من فمه، ولا يصل إلى حلقه شيءٌ منها.(279/29)
تتبع المصلين للإمام الحسن الصوت من أجل الخشوع
السؤال
من يصلي عند إمامٍِ جيد الصوت من أجل صوته، ويحاول أن يخشع في الصلاة، ولكنه يخشع قليلاً ثم ينصرف إلى الدنيا، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
نعم؛ لا حرج للإنسان أن يذهب إلى المسجد الذي يظنه أقرب إلى الخشوع، ليس عليه في ذلك شيء، بل يرجى أن يكون له في كل خطوةٍ حسنة إن شاء الله تعالى، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم.
أما بالنسبة للخشوع، فأولاً: الخشوع مما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107-109] .
وذكر الله تعالى هذا في صفات المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون1-2] .
ولكن ما هي الأسباب التي تمنعنا من الخشوع؟ لعل من أعظم الأسباب: كثرة المعاصي!! قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين14-15] .
فبعض الناس: إذا اجتمع قلبه وقربت دمعته، جاءه الشيطان يركض، فصور أمام عينيه معصيته يوم كذا وكذا، فتفرق الخشوع من قلبه وزال عنه، حتى إن عينه لا تبض بقطرة، فهذا من شؤم المعاصي والذنوب، فعليك أن تقاومها وتحاربها.
ثم إن الخشوع وحده لا يكفي، ولهذا الله تعالى ذكر وجوهاً خاشعة، وقال: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية4-7] .
فالخشوع لابد معه من إيمان، ولابد معه من اتباع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولابد معه من إحسان، ولابد معه من عمل، حتى يكون هذا الخشوع مؤثراً.(279/30)
خطورة الخدم والخادمات والسائقين
السؤال
ما رأيك في كثرة الخدم والخادمات والسائقين في هذا المجتمع وغيره؟ ومن الملاحظ أن هذا الأمر لم يعط حقه من التحذير مع بيان أخطاره في المجتمع؟
الجواب
نعم هذا خطرٌ عظيم وتأتينا اتصالات وأخبار وأسئلة فظيعة من الجرائم التي تقع في داخل البيوت، من كبار وصغار السن، من الرجال والنساء؛ بسبب كثرة الخدم والخادمات ومجيء النساء بدون محارم، وعدم التوقي منهم، وجعلهم في البيوت، واطلاعهم على الأسرار وسهولة اتصالاتهم الهاتفية، واستقبالهم لمن شاءوا وخروجهم متى شاءوا، واختلاط الرجال بالنساء، وخلوتهم معهن، واختلاط النساء الخادمات بأهل المنزل، وتزينهن أحياناً! وقد تكون المرأة جاءت من مكان بعيد منذ سنوات وهي بعيدة عن زوجها أو حتى غير متزوجة أحياناً، وهي امرأة فيها ما في غيرها من النساء، من الغريزة التي ركبت، وكذلك أهل المنزل قد يكون فيهم الشباب الأغرار ويحصل من جراء ذلك خطرٌ شديد، ويتحمل وزر هذا الأمر وحوبته ومغبته بالدرجة الأولى من تسبب في ذلك، ومن هؤلاء أولياء الأمور من أهل البيوت والآباء وسواهم ممن سهلوا هذه المهمة أو أذنوا بها، أو سمحوا بوجودها أو ساعدوا عليها.(279/31)
الجمع من غير خوف ولا سفر
السؤال
ما رأيك في شرح الحديث الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الظهر مع العصر، وجمع المغرب مع العشاء، من غير عذرٍ أو مرض؟
الجواب
الحديث ليس كذلك من غير عذرٍ، ولكن فيه كما رواه ابن عباس: {من غير خوفٍ ولا سفر -وفي رواية- ولا مرض وسئل عن ذلك ابن عباس رضي الله عنه، فقال: أراد ألا يحرج أمته} فدل على أنه فعل ذلك لدفع الحرج عنهم، وجماهير أهل العلم على أنه لا يجوز جمع الصلاة إلى الأخرى، إلا لحاجةٍ أو عذرٍ، إما مرض أو سفر أو خوف أو ريحٌ شديدة، أو ما أشبه ذلك من الأسباب المبيحة لجمع الصلاة إلى الصلاة الأخرى.(279/32)
حادث شنيع في مساجد الرياض
السؤال
هل صحيحٌ ما يقال أنه في بعض مساجد الرياض قد كتب كلام فيه سبٌ لله سبحانه وتعالى؟ وما يفعل تجاه هؤلاء؟
الجواب
نعم، هذا صحيح! وقد كتب به إليَّ بعض الشباب الذين أعرفهم وهم ثقات، وشاهدوا هذه الكتابات بأعينهم، وفيها سب لرب العالمين في محاريب المساجد والعياذ بالله تعالى! ويبدو أنها في أكثر من مسجد، وهذه قد تكون حدثت من الذين يحاربون الله ورسوله، ويستفزون المسلمين، ويحاولون أن يثيروا مشاعرهم خاصةً في هذا الشهر الكريم، وإذا كان هذا حدث فمن شخصٍ مجهول، وفي مكانٍ خاص، وهو لا شك من الأمور الفظيعة العظيمة التي تكاد السماوات أن تتفطر منها، وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، نعم، أقول ذلك؛ لأن الله تعالى قال هذا فيمن ادعو لله تعالى ولدا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:88-92] أقول: إن الكلام الذي كتب أبشع وأفظع وأشنع مما قاله النصارى في حق رب العالمين، وأعظم وأطم مما قاله اليهود في حق رب العالمين، فإن لله وإنا إليه راجعون! ثم إنني أقول: إن هناك أشياء كثيرة مما ينبغي للمسلمين أن يحتسبوا عليها الآن، وأن يعلنوا إنكارها، قبل أن يسلط الله تعالى عليهم، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم، فإن هذا الإعلام الذي يغير أخلاق المسلمين وعقائدهم صباح مساء من خلال التلفاز والإذاعة والجريدة والمقالة، ويحارب الكلمة الهادفة الصادقة بكل وسيلة، إنه من أعظم المنكرات التي يجب على كل مسلم أن يحتسب عليها، وكذلك الربا الذي شاع وانتشر في بلاد المسلمين، وأصبحت بيوته أعظم البيوت، وأصبحت تناطح السحاب أحياناً بارتفاعها وقوتها، وكأنها قلاع أعدت لحرب الله تعالى ورسوله.
ومع ذلك قلما نسمع خطبة في التحذير من الربا، أو درساً في النهي عنه، أو بياناً يوجه المسلمين إلى تركه، وقلما نسمع صوتاً ناصحاً يطالب وبقوة بوجوب تحويل الاقتصاد إلى اقتصادٍ شرعيٍ إسلاميٍ لا شبهة فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278-279] .
أمةٌ يحاربها الله تعالى: كيف تفلح؟! كيف تنجح؟! كيف يستقيم اقتصادها؟! كيف تنتصر على عدوها؟! كيف تجتمع كلمتها؟!(279/33)
التهاون بالصلاة
السؤال
أنا أحب الشباب الملتزمين، لكنني أتهاون بالصلاة كسلاً، وأريد أن أتوب وأرجع إلى عملي الصالح ادع لي بالتوفيق والتوبة الصالحة؟
الجواب
نسأل الله تعالى: أن يوفقك ويتوب علينا وعليك إنه على كل شيءٍ قدير، لكن مع ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ربيعة بن مالك: {أعني بكثرة السجود} عليك أن توطن نفسك على العبادة والصلاة، وتصحب الجلساء الصالحين، وعليك أن تكثر أنت من دعاء الله تعالى؛ فإنه لن يدعو لك أحدٌ أنصح لكَ من نفسك، والله تعالى قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] .
فقبل أن تطلب يا أخي الكريم! أن ندعو لك عليك أنت أن تدعو لنفسك دعاءً صالحاً، وإياك إياك أن تكون ممن ذكر الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49-50] .
فعليك أن تدعو أنتَ لنفسك وتصدق الله تعالى.(279/34)
الذهاب إلى الجهاد دون إذن الوالدين
السؤال
ما رأيكم في الذهاب إلى البوسنة والهرسك للجهاد، هل يستأذن الإنسان والديه، علماً بأنهما لم يوافقا على ذلك، لقد وجهت السؤال أكثر من مرة إليكم، السائل مسلمٌ من مصر؟
الجواب
لا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين، وفي الحديث الصحيح أن رجلاً جاء من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: {أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد} .
وفي روايةٍ أنه قال: {يا رسول الله جئت إليك من اليمن، وتركت أبواي يبكيان قال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما} .
وفي صحيح البخاري أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن أفضل الأعمال؟ قال: {إيمانٌ بالله ورسوله، قيل: ثم أيٌ؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أيٌ؟ قال: الجهاد في سبيل الله} .
لكن بإمكان الأخ أولاً أن يذهب إلى الدعوة هناك والتعليم، فإنهما من أعظم ألوان الجهاد، وهم أحوج ما يكونون إلى من يعلمهم دين الله عز وجل، فقد خرجوا من جحيم الشيوعية التي سيطرت عليهم أكثر من أربعين سنة، كما أنه بإمكان الأخ أن يجاهد معهم بالمال.
وقد كتب بعض الإخوة ورقةً يقول فيها: لو أن بعض الشباب قاموا بجمع التبرعات من أحيائهم، أو جماعة في مسجدهم، أو زملائهم في العمل، وأقول: هذه فكرةٌ طيبة جداً، لنفرض أن ألفاً من الإخوة الذين يستمعون إلى هذا الكلام الآن، جند كل واحدٍ منهم نفسه أن يجمع ما استطاع من التبرعات خلال هذا الشهر، إما من جماعة المسجد الذي يصلي فيه، أو من زملائه في الفصل، إذا أخذوا الراتب إن كان ثمة راتب، أو من أقاربه، أو يذهب إلى بعض التجار ويطلب منهم حتى لو كانوا لا يعرفونه، فأقلهم سوف يعطيه ألف ريال على الأقل من باب المجاملة.
فإذا كان ألف شاب، جمع لنا كل واحدٍ منهم ألف ريال، فمعنى ذلك أننا جمعنا مليون ريال بكل سهولةٍ ويسر، وعلى الإنسان ألا يحقر من العمل الصالح شيئاً.(279/35)