تحقيق الرحمة بالعصاة
ومن أعظم حكم الله تعالى في خلق المعصية: تحقيق الرحمة بالعصاة، فأنتم تجدون، ونجد هذا في نفوسنا، أن الإنسان إذا كان مستقيماً وظل أشهراً على حاله من الاستقامة والطاعة والإخبات لله جل وعلا، وهو كما يقع في رمضان في النهار صائم وفي الليل قائم ومن قراءة القرآن إلى تسبيح إلى صدقة إلى عمرة، فيكون له إشراق وإيمان وقرب من الله تعالى، فإذا رأى العاصي فإنه ينفر منه، ويبغضه، ويمقته، ويقسو عليه، حتى إن من الناس من يدعو على العصاة بأن الله تعالى يهلكهم، ويأخذهم، ويبتليهم، وهكذا يقسو عليهم ويشتد، حتى إنه لو استطاع أن يقتلهم لقتلهم؛ ليحول بينهم وبين المعصية، فإذا كتب الله تعالى أن يقع العبد في شيء من معصية الله تعالى، أدركه ذل المعصية، وأدركه من الله تعالى روح، فأدرك أن هؤلاء الذين وقعوا في المعصية أحوج إلى الرحمة في بداية الأمر منهم إلى القسوة، مع أن هذا لا يمنعه من أن يقيم حدود الله تعالى عليهم، فإن كانوا قد وقعوا فيما حرم الله واستحقوا عقاباً أو تعزيراً أو حداً أو توبيخاً فعل، ولكنه مع ذلك يفعل بروح الذي يرحمهم، ويخصص لهم من وقته ما يدعوهم به إلى الله تعالى، ويتمنى لهم الشفاء العاجل، وبدلاً من أن يدعو عليهم أصبح يدعو لهم بالهداية، ويدعو لهم بالصلاح، ويدعو لهم بأن يوفقهم الله تعالى للإقلاع عما هم فيه من المعاصي، فينتقل من القسوة والغلظة إلى مقام الرحمة والشفقة على هؤلاء، والحرص على إنقاذهم مما هم فيه، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع ما لقي من المشركين، حتى إنهم أخرجوه من مكة بلده، وحاربوه وطردوه، حتى إن أبا سفيان لما أسلم، ألقى قصيدة أمام النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: لعمرك إني يوم أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني على الله من طرّدته كل مطرد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {نعم أنت طردتني كل مطرد} أخرجوه من بلده صلى الله عليه وسلم، وشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، وأدخلوا حلق المغفر في وجنتيه الطاهرتين عليه الصلاة والسلام، فقال: {كيف يفلح قوم شجوا نبيهم} وسقط عليه الصلاة والسلام في الحفرة، ومع هذا كله عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح عن ابن مسعود قال: {كأني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه} الله أكبر! وهو يمسح الدم عن وجهه، هل يقول اللهم العنهم اللهم اخذلهم؟! لا! يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} كالمعتذر لهم، لا يريد أن يعاجلهم الله تعالى بالعقوبة، لعل الله أن يتوب عليهم، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة لما أخرجوه إلى الطائف حاربوه حتى خرج إلى الطائف فذهب إلى الطائف فلقَّوه شر لقاء، حتى قال قائل منهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟! وقال آخر: إذا كنت أنت صادق فأنا أمزق ثياب الكعبة، وهكذا ردوه شر رد، وأساءوا إليه، ثم أغروا به غلمانهم وصبيانهم وسفهاءهم يلحقون به في الشارع، ويضربونه بالحجارة، حتى أدموا عقبيه الطاهرتين صلى الله عليه وسلم.
فما وجد أحداً ينصره من البشر، وما وجد أحداً يأويه، حتى أوى عليه الصلاة والسلام إلى حائط، ثم رجع أدراجه إلى مكة يائساً منهم، وحينئذ أظلته غمامة، وكان صلى الله عليه وسلم في شبه غيبوبة من الحزن الذي لحقه؛ لأنه أصابه همٌ عظيم.
دعوة الله ودعوة السماء ورسالة الحق تُرَدُّ هذا الرد السيئ؟! وأصابه عليه الصلاة والسلام من ذلك غم شديد، قال عليه الصلاة والسلام: {فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب وإذا سحابة قد أظلتني فنزل منها ملكان، وإذا بجبريل فسلم عليَّ وقال: يا محمد، هذا مَلَك الجبال، فسلم عليه ملك الجبال، وقال: يا محمد، إن الله تعالى سمع قول قومك لك وما ردوا عليك فمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلان بمكة-؛ -لأن أهل مكة هم السبب في كل ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم- إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، -أي: تذهب مكة في خبر كان هي ومن فيها-، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -وقد استأنى بهم- بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا} الله أكبر! الله أكبر! {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] .
فالمهم: أن العبد يدرك بمعصيته الرحمة للعصاة، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضرابه من الأنبياء والمرسلين، فلم يكونوا بحاجة إلى أن يذوقوا المعصية حتى يرحموا العصاة، ويدعوا الله تعالى لهم بالتوبة، وأن يغفر الله تعالى لهم، ويوفقهم للإقلاع عنها، فلم يكونوا بحاجة إلى ذلك، أما سائر البشر فإن كثيراً من الناس إذا غلب عليه التعبد والصلاح والتقوى والورع، ربما جفا في حق العصاة، حتى إنك تجد اليوم من الناس من يشتد على العصاة إلى حد أنه يخرجهم من الملة والعياذ بالله وقد رأيت بعيني، وسمعت بأذني، من غلاة الناس من يكفر أهل المعاصي بمعاصيهم، وهذا الإنسان الذي يكفر بالمعصية، مثلاً يكفر الزاني فهذا الإنسان لو كُتِبَ عليه بسبب ضعفه وجبلته وتسلط الشيطان عليه والهوى وانتشار الفواحش، لو كتب عليه أن ينظر نظرة حرام، أو يخاطب امرأة بكلمة حرام، أو يُقَبِّلْ أو يقع فيما هو فوق ذلك، لربما أعاد حساباته السابقة، وأعرض عما كان يقوله في شأن كفر أهل المعاصي.(240/8)
تحقيق الذل والانكسار للعبد
ومن حكم الله تعالى في خَلْقِ المعصية: تحقيق الذل والانكسار للعبد، فإن العبد لو أتى الله تعالى بأعمال الثقلين من الطاعات والقربات، فإنه لا يمكن أن يدخل على الله تعالى إلا من باب الذل والانكسار، لذلك قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: ومن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
أنت لا تدخل على الله لأنك تقول: والله لقد أتيت -الآن- بما أستحق به الجنة! لا.
ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذِّبوا فبعد له أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فأنت لا تدخل الجنة؛ لأنك صليت الصلوات الخمس، ولا لأنك صمت رمضان، أو حججت البيت الحرام، أو تصدقت أو فعلت، ووالله الذي لا إله غيره لو قضيت حياتك من يوم عقلت، إلى أن تموت راكعاً ساجداً قائماً، ذاكراً لله عز وجل ما كنت مستحقاً للجنة بذلك، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل} .
إذاً لا تدخل الجنة بأعمالك، إنما تدخلها برحمة الله تعالى، وأعظم ما يتأهل به العبد لرحمة الله تعالى والجنة، هو مقام الذل والانكسار بين يدي الله تعالى.
ولذلك قد يتحقق -أحياناً- للعاصي من الذل والانكسار الشيء العظيم، حتى إن العاصي إذا كان في قلبه شيء من الحياة، ينظر في نعم الله تعالى، فيقول: أنا الآن أبارز الله بالمعاصي، نَفَسِي يتردد بإذن الله تعالى، ورزقي من فضل الله تعالى، ومعيشتي الهنيئة من الله تعالى ووظيفتي من الله تعالى وتوفيقي من الله تعالى وكل ما عندي من الله، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] وأنا والله لست أهلاً لشيء من ذلك، فينظر في نفسه فيهضمها ويعرف قدرها، ويدرك عظيم نعمة الله تبارك وتعالى عليه، فيقع له من ذلك شيء عظيم، حتى يكون شأنه مثل شأن شاب نشأ في حجر والده مدللاً يغذيه أبوه بأطيب النعم في الصباح والمساء، ولديه سيارة فخمة، وملابس جميلة، وخدمات متكاملة، وهذا الشاب لو أستطاع أبوه أن لا يهبَّ عليه النسيم والهواء لفعل، فيومٌ من الأيام خرج هذا الشاب فلقيه أعداء فأمسكوا به وقبضوا عليه، وسجنوه، ووضعوه في الحديد، وأصبحوا يضربونه، ويعطونه بدلاً من الطعام الذي كان يغذى به الضرب بالسياط، فيضربونه بالسياط صباحاً ومساء، ولا يزالون يوقدون تحته من جحيم الأذى والتعذيب والاضطهاد، حتى إن هذا الشاب إذا تذكر الأيام التي قضاها في كنف والده هطلت دموعه، وسالت وبكى، وقال: رحمة الله عليك يا أبي، أين أنت حتى ترى ما أنا فيه الآن، بعد أن أخذني العدو واختطفني من بين يديك؟! رحمة الله عليك يا أبي، ونظر الشاب وهو يتأمل ما كان عليه في عهد والده، وما صار إليه الآن وهو في قبضة عدوه، فإذا بأبيه يُقْبِلُ من بعيد، وما زال حتى رآه وتحقق أنه والده، فإذا بهذا الشاب يقوم سريعاً وهو يصرخ وينتحب ويبكي، ويلقى بنفسه بين يدي والده، ويقول له: يا أبت كيف لو رأيت ما صنعوا بي؟! كيف تبدل سروري هماً، كيف تبدل نعيمي عذاباً؟! كيف لو رأيت يا أبي ما فعلوا بي؟! ويبكى حينئذ ويشهق، ويضم والده إليه.
هل تتوقعون أن والده -وهو الذي يحبه- سوف يركله برجله ويتخلى عنه، ويقول: لا شأن لي بك، كلا، بل إنَّ والده سوف يمسك به، ويحفظه ولا يدعه لعدوه بحال من الأحوال، ولله المثل الأعلى، فكذلك العبد إذا انكسر بين يدي الله، وانطرح، وعفر وجهه بالتراب، ودمع لله عز وجل، وذل وافتقر، فإنه يدخل على الله تبارك وتعالى من أوسع الأبواب.
ولذلك يقول بعضهم: أنين المذنبين، خير من زجل المسبحين.
وهذا الكلام ليس صحيحاً على الإطلاق، وهو ينسب إلى بعض الصوفية، يقولون: (أنين المذنبين خير من زجل المسبحين) يعني: بكاء العاصي وهو يتوب، ويندم ويحزن، وهو ساجد لله تعالى، خير من تسبيح المسبحين، فهذا ليس صحيحاً، لكنه -أحياناً- يكون صحيحاً، ومتى يكون صحيحاً؟ يكون صحيحاً إذا كان المسبح معجباً بعمله، وفخوراً بطاعته، فيقول: والله أنا فعلت وفعلت، أنا ولله الحمد البارحة صليت كذا ركعة، وصليت الفجر مع الجماعة، ولم يدخل أحد المسجد قبلي، وبعد الفجر في المسجد حتى تطلع الشمس، ثم ذهبت إلى حلقة علم، أنا ولله الحمد كامل، أنا سمعت واحداً يقول: أنا كامل فماذا عليَّ من العيوب؟.
أحدهم زاره رجل وهو طريح الفراش في المستشفى، فقال: يا فلان طهور، تكفير ذنوب إن شاء الله، قال: تكفير ذنوب، هل أنا مذنب حتى تكفر ذنوبي؟! والعياذ بالله فالإنسان إذا كان صاحب طاعات، ولكنه يمنّ على الله بطاعته، ويرى أنه فعل شيئاً، فهذه الطاعات قد تكون وبالاً عليه، والعاصي الذي ينكسر بين يدي الله بمعصيته خير من المطيع الذي يعجب بعمله ويدل على الله تبارك وتعالى بعمله.(240/9)
أنواع العصاة
العصاة نوعان: فانظر على أي جنب تميل، انظر من أي الصنفين أنت؛ لأننا كلنا إلا من رحم الله عصاة، لكن الشأن كل الشأن في أي الصنفين، وفي أي القائمتين سوف تصنف نفسك.(240/10)
المنهمك في المعاصي
الصنف الأول: إنسان منهمك في المعاصي لا حيلة فيه، إنسان موغل في المعاصي، لا ينتقل من معصية إلا إلى معصية أخرى، ولا يلتفت إلى توبة، ولا إلى ندم، ولا إلى إقلاع، بل إن هذا الإنسان والعياذ بالله كلما حصلت له معصية، فكر في غيرها، ومثل هذا يقال في شأنه ما كان يقوله السلف: المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت، فالمعاصي بريد الكفر، هذا صنف.(240/11)
العاصي التائب
والصنف الثاني: عاصٍ يتوب ثم يراجع نفسه، يذنب ثم يراجع نفسه، ثم يقع، ثم ينهض، مثل إنسان يمشي في طريق فيعثر ويسقط، ثم يقوم ويمشي، ثم يعثر مرة أخرى، ثم يقوم ويمشي، وهكذا فهو قريب ممكن التدارك.(240/12)
معالم الأصناف
كيف تعرف من أي الصنفين أنت؟ تعرف ذلك من خلال ثمانية معالم أريد أن أقف عندها وقفات يسيرة، لعل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بها.(240/13)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الْمَعْلَمْ الثاني: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن العاصي يجب عليه أن يحتسب، بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مثل ما يجب على غيره، فلا يعني وقوعك في معصية أن تعطى صلاحية بأن تقع في معصية أخرى، مثلاً أكل الربا معصية لا إشكال فيه، بل هو كبيرة من الكبائر، وحرب لله ورسوله، فإنسان يأكل الربا ويتعاطى الربا، ورأى آخرين يأكلون الربا، فقال: والله أنا مثلهم (وكلنا في الهوى سوى) فلا يصح أن أقول لهم شيئاً، أقول: لا يجوز هذا؛ بل يجب عليك أن تقول لهم: إنَّ الربا محرم، وإن أكلتم أنتم، وأكلته أنا فهو حرام، فيجب عليه أن يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وإن كان هو واقعاً في المنكر، أو تاركاً للمعروف، ولذلك قال بعض حذاق أهل العلم: واجب على من يتعاطون الكئوس، أن ينهى بعضهم بعضا، أي: إنَّ الجماعة الجالسين في مجلس يشربون الخمر لا يقول: خذ هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر ففي هذا الباب أربعة أمور، أولها: فعل المعروف، والثاني: الأمر به، والثالث: ترك المنكر، والرابع: النهي عنه، وإخلاله بواحد لا يسوغ له الإخلال بآخر.
وهذا الكلام وإن كان يبدوا غريباً لدى الكثير منكم إلا أنه إن لم يكن إجماعاً لأهل العلم، فإنه رأي الجماهير والكافة من أهل العلم من الخلف والسلف فوقوع الإنسان في المعصية لا يعني أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يأمر وينهى لكن بالأسلوب المناسب، كما قال الشاعر: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد؟! وإن كان الأولى والأصل أن الإنسان يبدأ بنفسه، قبل غيره، كما قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] وقال الشاعر: يا أيها الرجل المعلم غيره هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت وقتدى بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتى مثله عار عليك إذا فعلت عظيم صحيح نحن نقول: اترك المعصية وانه عنها، لكن لا نقول: إذا فعلتها لا تنه عنها، فإذا فعل إنسان المعصية، نقول: انه نفسك وانه غيرك.
فمثال بسيط يوضح القضية ويزيل الإشكال، لو أن أباً ابتلي بشرب الدخان، ثم وجد أن ولده الذي عمره اثنا عشرة سنه أصبح يدخن، أو خمس عشرة سنه، أو ست عشرة، لايقول: والله هذا مثلي لا أستطيع منعه وأنا أدخن، لا! بل يأتي له ويقول: يا ولدى أنا أبوك وأنصح الناس لك! ولا يمكن أن تجد في الدنيا أبر بك مني، وأنا ابتليت بشرب الدخان؛ لأني لم أجد من يوجهني وينصحني، والآن أحاول أن اتركه ولكن عجزت، أما أنت فما زلت في بداية الطريق، فابتعد، واحذر واترك هذا الشيء، ومثله قضية المخدرات، أو أي معصية أخرى يقع فيها الإنسان.
فالْمَعْلَمْ الثاني: الذي يميز العاصي الذي هو على سبيل النجاة والاستقامة، من العاصي الهالك الذي لا حيلة فيه إلا أن يشاء الله، هو أن يقوم العاصي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والاحتساب على نفسه وعلى غيره.(240/14)
استعظام المعصية
الْمَعْلَمْ الثالث: هو أن يستعظم المعصية وإن كانت صغيرة، يعني لا يستهين بالمعصية، ولا يقول: الأمر هين ولله الحمد بسيطة، كلمة خرجت من لسان، أودرهم دخل جيبي من حرام، أو إساءة، أو ظلم يسير، فلا يستهين بالمعصية وإن كانت يسيرة، فإن الداء اليسير إذا أهمله الإنسان قد يورده القبر، فلا تنظر إلى هون المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، فهذه المعصية وإن كانت هينة في نظرك، إلا أنها عظيمة في جنب الله تبارك وتعالى.(240/15)
عدم استمراء المعصية
الْمَعْلَمْ الرابع: هو أن لا يستمرئ الإنسان المعصية بالنظر إلى من دونه، مثلاً: إنسان واقع في معصية من المعاصي، يقول: أنا الحمد لله على ما عندي من المعصية أهون من فلان بن فلان، فإذا كان هناك إنسان -مثلاً- مبتلى بالنظر الحرام، فالذي يبين أنه على جادة الاستقامة، أن يوبخ نفسه ويلومها ويخوفها من ذلك، ويقول لها: يا نفس اعلمي أن النظر الحرام هو أول مدارج الزنى والوقوع في الفواحش، كما قال الأول: كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر يضر مهجته ما سر مقلته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر فيوبخ نفسه على النظر الحرام، ويحاول أن يتوب، لكن المشكلة إذا كان الإنسان يقول: النظر بسيط -والحمد لله- أنا أنظر وكل الناس ينظرون إلى الحرام، والمشكلة فلان والعياذ بالله يتعدى النظر إلى محاولة إقامة علاقات مع النساء، وفلان والعياذ بالله يسافر إلى الخارج ويرتكب الموبقات، وينغمس في الملذات والشهوات المحرمة، فإذا كان الأمر كذلك، معناه يمكن للإنسان أن يصل إلى نهاية الحضيض وهو لا يدري.
وحتى الإنسان الذي يسافر إلى الخارج، وينغمس في الملذات والمحرمات، ويقع في أحضان المومسات، حتى هذا الإنسان يمكن أن يقول: والله الحمد لله أنا في خير بالقياس إلى الناس الذي بجواره، فهؤلاء كفار، ممن لا يعرفون الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يصلون، وأنا على الأقل أصلي الصلوات الخمس، وإن كانت عندي معاص.
وكذلك الإنسان الواقع في ترك الصلوات الخمس، وهي من أعظم الكبائر، بل تركها بالكلية كفر وردة، يقول: الحمد لله أنا عندي أصل التوحيد عندي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداًً رسول الله، والمشكلة اليهود والنصارى، الذين لا يعرفون الله، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
إذاً لا ينبغي للإنسان أن يستمرئ المعصية، وينظر إلى من هو أشد منه عصياناً لله تعالى، كلا! بل يجب أن ينظر إلى من هو أشد منه طاعة لله عز وجل.
كما أنه في شأن الدنيا، يجب أن ينظر إلى من دونه، حتى لا يزدرى نعمة الله تعالى عليه، فما بالنا نقيس بمقياسين، ونكيل بمكيالين! فتجد الواحد منا في الدنيا ينظر إلى المترفين والأغنياء، والكبراء ويقول: لو أن لي مثل مال فلان، ويا ليت عندي مثل فلان وفلان بن فلان، ولكن عندما يأتي أمر الدين تجد الواحد منا يأخذ بأقل الأمر! إذاً المعلم الرابع: هو أن لا يستمرئ الإنسان المعصية، ويستهين بها، ويقيس نفسه بمن هو أشد معصية لله تعالى منه، لا.
بل يجب أن ينظر إلى من هو أشد طاعة لله تبارك وتعالى منه، وذلك مهوىً إن وقع فيه الإنسان فهو مهوى بعيد القرار يؤدى بالإنسان والعياذ بالله إلى النار وبئس المصير.(240/16)
القنوط من رحمة الله
المعلم الخامس والوقفة الخامسة: ألاَّ يؤدي به الأمر إلى القنوط من رحمة الله تبارك وتعالى واليأس منه، فإن القنوط كفر، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] وقال: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] وهذا من أعظم أضرار المعصية، أن المعصية قد توقعك في القنوط من رحمة الله تعالى، فتجرك إلى أمر أعظم منها وهو القنوط من رحمة الله تبارك وتعالى، والقنوط كثيراً ما يتسرب إلى أذهان العصاة.
اتصل بي يوماً من الأيام أحد الشباب وهو يبكي، ويقول: عندي معصية أقع فيها ثم أتوب، فعرفت ماذا يعني بهذه المعصية، وهي من معاصي الشهوات، فربما أنه يستخدم ما يسمونه بالعادة السرية، فقال: إن الأمر تطور عندي، قلت: كيف؟ قال أصبحْتُ مع كثرة وقوعي في هذا الأمر ثم توبتي، ثم وقوعي، أصبح عندي يأس، حتى إني إذا فعلت ذلك لا أغتسلُ من الجنابة، من شدة حقدي على نفسي، وبغضي لها، ومقتي لها -لاحظ كيف جاء القنوط إلى النفس- يقول: ثم إذا لم أغتسل قلت: كيف أصلي؟! لا داعي لأن أصلى وأنا على غير طهارة، قال: فصرت أترك الصلوات والعياذ بالله وأنا في قلبي حرارة، وفي قلبي يقظة، وفي قلبي بعض الإيمان، وحزن عظيم، لكن الأمر تعدى به إلى الطرف الآخر، فصار عنده قنوط أدى به والعياذ بالله إلى الانهماك في معاصٍ أخرى لا تقاس بالمعصية الأولى التي وقع فيها.
فالذي يدفع القنوط عن الإنسان أشياء: أولها: أن يدرك أن القنوط ذنب أعظم من الذنب الأول، فإن القنوط كفر وضلال، وهو أعظم من الذنب الذي وقعت فيه، فإذا وقع الإنسان في حرام فإن هذا الحرام أهون من القنوط من رحمة الله، فإن قنطت، معناه انتقلت من معصية إلى كفر، فإذا عرفت أن القنوط كفر وضلال؛ فإنك حينئذ تثق بالله تعالى، ولا تقنط من رحمته.
الثاني: مما يدفع القنوط عن العبد: معرفته بسعة رحمة الله تبارك وتعالى، فإن الإنسان لو عرف سعة رحمه الله تبارك وتعالى ما قنط من رحمته أحد، ولطمع في رحمته كل أحد، حتى الكفار لو علموا بسعة رحمة الله لطمعوا في رحمته، حتى الشيطان عندما يرى كثرة الرحمة يوم القيامة يتخيل أنه يمكن أن تدركه، وهيهات هيهات أن تدرك الرحمة كافراً مات على الكفر، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: {إني حرمت الجنة على الكافرين} كما في صحيح البخاري، لكن المقصود أن الإنسان القانط هو جاهل بالله تعالى، لم يعرف حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته، فإن الله تعالى واسع المغفرة، يقول كما في الحديث القدسي: {يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لغفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} ذلك أن الله تعالى عفو غفور رحيم، يحب العفو ويتجاوز عن عباده.
وفي الصحيحين {أن رجلاً من بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه، فلما حضرته الوفاة قال لأولاده: أي أب كنت لكم؟! قالوا: نِعْمَ الأب كنت لنا، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، وليس لي عند الله من خلاق، فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديد الهواء فَذُّرُّونِي فيه، والله لإن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به كما أوصى، فأمر الله تعالى هذا الإنسان فاستوى خلقاً بشراً سوياً، جمع الله بأمره وحكمته، وقدرته هذا الإنسان من البر والبحر وأجواف الحيتان والطيور وغيرها فاستوى، فقال: يا عبدي ما حملك على ما فعلت، ما حملك على ذلك، كونك تطلب من أولادك أن يحرقوك ويسحقوك ويَذَّرُّوك في يوم شديد الريح، قال: مخافتك يا رب، فغفر الله تبارك وتعالى له} إن ربك واسع المغفرة، ولو أردت أن أذهب بعيداً في النصوص الشرعية قرآناً وسنة في سعة رحمة الله تعالى لطال المقام، وإن كان العبد لا ينبغي أن ينساق فقط مع هذه النصوص، بل يمسك الميزان من الوسط، كما قال الله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] .
إذاً لا تحفظ الأولى، وتنسى الثانية، إن ربك سريع الحساب، وإنه لغفور رحيم، فالله تعالى غفور رحيم، وهو تعالى شديد العقاب، فضع هذا أمامك، وهذا أمامك، فإذا رأيت أنك مقبل على المعاصي ومندفع ومسرع، ضع لوحة مكتوباً فيها (شديد العقاب) حتى تكون هذه اللوحة عبارة عن (فرامل) وضوابط تمنع الإنسان، فإذا رأيت أنك مقلع عن المعصية، وفي قلبك يأس وقنوط وتخشى أن يتسرب إليك ذلك، فضع أمامك لوحة مكتوباً بها (إن ربك واسع المغفرة) حتى تنجر إلى الله تعالى، وتؤمن به، وتدعوه، وتثق بسعة رحمته تبارك وتعالى.
ولذلك يقول بعض الشعراء القدماء وقد أسرف على نفسه وأصاب في هذا البيت، يقول: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم ربي دعوت كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم وعندنا شاعر نبطي مشهور شعبي، له قصيدة إيمانية قوية من ضمنها يخاطب ربه جل وعلا ويقول: لو كان ذنبي راجح بالجبال عفوك عظيم ليس ذنبي عديله لاحظ الفقه يقول: الآن ذنبي عظيم فعلاً، لكن عظم ذنبي لا يمكن أن يقاس برحمتك وعفوك، لا يمكن أن نضع هذا في كفة وهذا في كفة، لا يعادل هذا بهذا، كيف يعادل فعل العبد بفعل الرب جل وعلا، وهذا صحيح، فمهما تبلغ ذنوب العبد فإن الله تعالى ما دام لقيه عبده بالتوحيد، فإن الله تبارك وتعالى يغفر له على ما كان منه ولا يبالي، بالشروط المعروفة.
والأمر الثالث الذي يمنع العبد من الوقوع في هوة القنوط هو: أن يتذكر كثرة المكفرات، فإن الله تعالى جعل للذنوب مكفرات كثيرة: منها الأعمال الصالحة، ومنها الابتلاء بالأمراض، وتضييق الرزق، ومنها الاستغفار، ومنها تشديد سكرات الموت عليه عند الموت، ومنها مكفرات كثيرة جداً، ومنها الأعمال الصالحة، فهذه الأشياء إذا فعلها العبد فإنها تكون سبباً في تكفير ذنوبه وغفرانها.(240/17)
الإكثار من الحسنات
الْمَعْلَمْ السادس: الذي يميز العاصي الذي على شفا هلكة، من العاصي الذي هو قريب النجاة والانفكاك من معصيته، هو: الإكثار من الحسنات، قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ما سبب نزول هذه الآية؟ سببها عجيب! ففي الصحيح {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه في نفر من أصحابه، فقال: يا رسول الله إني رأيت امرأة في أقصى المدينة فعالجت منها، وأتيت منها ما يأتي الرجل من امرأته إلا أنني لم أقع فيها -أي: كلمها وقبلها وضمها، لكنه لم يزنِ بها، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم نادماً تائباً، وجلس في مجلسه حزيناً أسيفاً كسيفاً، وقال: يا رسول الله الأمر كذا، وكذا، وكذا، وهو يريد من الرسول عليه السلام أن يقيم عليه كتاب الله إذا كان عليه حد أو عقوبة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأقيمت الصلاة، فقام الناس وصلوا، وبعد الصلاة رجع الرسول عليه السلام إلى مجلسه ورجع الرجل، فقال: يا رسول الله الأمر كذا، وكذا، وكذا، وأعاد عليه السؤال! فقال: صليت معنا الآن؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد غفر لك.
وأنزل الله تعالى قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) قال: يا رسول الله ألي خاصة؟! انظر: إنه عاص ومع ذلك يسأل إن كان الأمر له وحده؟! قال النبي عليه السلام: لا بل لأمتي كلها عامة} وذلك أن الحسنات توضع في الميزان يوم القيامة، والسيئات توضع في الميزان الآخر، فمن رجحت حسناته فهو من أهل الجنة.
فسابقٌ، راجحٌ ميزان طاعته، ومجرمٌ كثرت آثامه، فالناس أصناف منهم السابق الذي رجحت حسناته على سيئاته، فإن أكثر الإنسان من الأعمال الصالحة حتى لو فرض أن معاصيه لم تغفر ولم تكفّر، فإن هذه الأعمال الصالحة ترجح المعاصي يوم القيامة، هذا وجه.
والوجه الثاني: أن الأعمال الصالحة تكون سبباً في تكفير ذنوبه، وغفرانها، وستر عيوبه، ولذلك فإننا نجد أن الرسول عليه السلام ذكر كثيراً من الأعمال التي هي كفارات.
في الواقع أن الإنسان إذا قرأ الأحاديث الواردة في الكفارات يتعجب! ويقول الإنسان الذي يريد النجاة: والله ما له عذر أبداً كل شيء له كفارة، خذ على سبيل المثال ولا الحصر في ذلك، كتب صنفت في ذلك أذكر منها على سبيل المثال كتاب ابن حجر الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة خذ على سبيل المثال الوضوء، ثبت في الصحيحين {أن العبد إذا توضأ الوضوء الشرعي خرجت خطاياه مع آخر قطرة من الماء، وإذا توضأ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله 00000ثم صلى ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه} هذا الوضوء مثلاً مكفر للذنوب.
خذ مثلاً آخر: الصلاة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام {الصلوات الخمس مكفرات لما بينها إذا اجتنبت الكبائر} .
انتقل مثلاً إلى الصيام، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام {أن رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما} .
العمرة: ذكر النبي عليه الصلاة والسلام {أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما} .
{الحج: كفارة يهدم ما كان قبله} كما في صحيح مسلم، ويكفر الذنوب، {ومن حج حجاً مبروراً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} كما في الصحيحين.
خذ مثلاً: متابعة المؤذن وأقرب عمل متابعة المؤذن ورد: {أن الإنسان إذا قال مثل ما يقول المؤذن، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سأل الله الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم، غفرت ذنوبه} .
والمصافحة: عمل يسير، تلقى أخاك المسلم فتتبسم في وجهه وتصافحه، جاء في حديث عن أبي يعلى وصححه ابن حبان {أن المسلم إذا لقي أخاه فصافحه تحاتت ذنوبهما، ولم يتفرقا حتى يغفر الله تبارك وتعالى لهما} أعمال كثيرة وكثيرة لا يحصيها العد، كلها كفارات للذنوب، ولكن هذه الكفارات كلها مقيدة بشرط وهو إذا اجتنبت الكبائر، ولذلك قال في صحيح مسلم: {ما لم تؤت كبيرة} وفي لفظ: {إذا اجتنبت الكبائر} ولذلك يقول الإمام ابن عبد البر: إن جمهور أهل السنة والجماعة على أن هذه الأعمال المذكورة إنما تكفر الصغائر، أما الكبائر فإنه لا يكفرها إلا التوبة النصوح إلى الله جل وعلا.
المهم ألا يجلس الإنسان أسير الخطايا، ضعيف الهمة، واهن العزم، لا يعمل الطاعات، يقول أنا إنسان ما أصلح لشيء، وبعض الناس يقول: أنا لا أصلح لشيء، أنا عاص، أنا مسرف، ولو تعرفون ما عندي، لو، لو، لو، يا أخي! احمد الله تعالى أن الله سترك: يقول الشاعر: أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح فإذا المستور منا بين ثوبيه فضوح ويقول الآخر: والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليّ من يلقاني كلنا ذلك المذنب، وكلنا ذلك الخطأ، كما في الحديث الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون} قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
فكلنا خَطَّاء، لكن لا ينبغي للخطايا أن تقعد بنا عن أن نكفر بالأعمال الصالحة، بل زاحم المعصية بالطاعة عندك، وإذا كنت في معصية لا تقل: أنا مبتلى بها وعجزت أن أقلع منها، عندك طاعات كثيرة، تستطيع أن تشغل نفسك بها، أحسن إلى الناس، وجاهد في سبيل الله، ومر بالمعروف، وانه عن المنكر، ساعد في أعمال البر، وكما قال الرسول عليه السلام فيما معنى الحديث: {أبواب الخير كثيرة} مر بالمعروف، وانه عن المنكر، وامش إلى الصلاة، وقل كلمة طيبة، إلى آخره.(240/18)
المجاهرة بالمعاصي
الْمَعْلَمْ السابع: هو كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل فيصبح وقد ستره ربه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا! وقد بات يستره ربه وأصبح يكشف ستر الله تبارك وتعالى عليه، فإن الاستتار بالذنب أيها الإخوة! من أسباب العافية والتوبة، وقوله (معافى) أي: تنالهم العافية والمغفرة والرحمة، فهم أهل؛ لأن يغفر الله لهم برحمته وكرمه وجوده، إلا المجاهر الذي يعلن المعصية، فإن هذا الإنسان لا يعافى والعياذ بالله إلا إذا تاب وأقلع، وذلك لأسباب: من أهمها: أن المجاهرة تلويث للمجتمع، فالمجاهر لم تعد معصيته حكراً عليه، وبالعكس.
المجاهر يقول بأعلى صوته: للناس تعالوا لنجاهر، مثل الإنسان الذي ينشر حاجات مسمومة في الهواء، إذا أستنشقها الناس أثرت فيهم وضرتهم، وربما أودت بهم إلى الهلاك، فهو عنصر هدم وتخريب، ومعول دمار للمجتمع، ولذلك ذنبه عظيم جداً؛ لأنه لم يقتصر على نفسه، بل تعداه إلى المجتمع، بل إنك في بعض الأحيان تقول: يمكن أن المجاهر لا يؤمن بتحريم هذا الذنب، كيف يؤمن بتحريم المعصية وهو إذا جلس مع زملائه قال: والله أنا فعلت كذا، ويعتبر أن هذا من المروءة والفتوة والقوة والرجولة، وأنه فعل وذهب وخدع وضحك وأكل الحرام، وشرب الحرام، وارتكب الحرام، وجهر بالمعاصي، وبارز الله تعالى بالذنوب، ويعتبر هذا رجولة، ومروءة وقوة، هل هذا يؤمن بأن الزنا حرام؟! هل هذا يؤمن بأن الربا حرام؟! لا.
لو كان يؤمن لستر على نفسه، وما أظهر هذا الأمر، ولم جاهر به.
ومن أعظم صور المجاهرة والعياذ بالله أن الإنسان قد لا يكتفي بالكلام فقط، أو نقل الأمر، بل ينقل الصوت والصورة كما يقال، فبعض الذين ابتلوا بالمعاصي الكبار، قد يصل الحال به إلى أن يصور هذه المعصية وهو يتعاطاها ويفعلها، وينشر هذا أمام الناس ويفخر به والعياذ بالله ويعتبر هذا من كمال الرجولة، هذا من أجل أن يثبت شخصيته، مثل الطفل الصغير -أحياناً- إذا لم يربَّ، فإنه يعتبر التدخين من عوامل الكمال في الشخصية، وأنه دليل على أنه صار رجلاً، وأنه صار كبير.(240/19)
التوبة
الْمَعْلَمْ الثامن: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] فالتوبة واجبة من جميع الذنوب والمعاصي، ومستحبة من فعل المكروه، وترك المستحب، والله تعالى أمر بها، فهي واجبة على الفور، حتى {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله ويتوب إليه في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة} يحسب له سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي، وكان يكثر عليه الصلاة والسلام أن يقول في ركوعه وسجوده: {سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي} يتأول القرآن، ولذلك جاء في صحيح مسلم {أن رجلاً من بنى إسرائيل عصى، فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي فغفر الله له، فوقع في المعصية مرة أخرى، فقال ربي إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، فوقع في المعصية الثالثة، قال ربي إني أذنبت فاغفر لي، فقال الله: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك} إذاً أيها العاصي، لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله تعالى، واستغفاره، لكن إذا قلت: استغفر الله، فاستغفر الله من قلب محروق بألم المعصية، استغفر الله بقلب يأكله الندم أكلاً، أما أن تقول: استغفر الله، وأنت منهمك في معصيتك، فهذا الاستغفار كما قال بعضهم -يحتاج إلى استغفار- كما قال الشاعر: أستغفر الله مِنْ أستغفر الله من كلمةٍ قلتها لم أدرِ معناها وذلك لأن الإنسان لا ينبغي أن يعتمد فقط على أن الله تعالى غفور رحيم، أو على مثل هذه القصة التي سقتها، فينهمك في المعاصي، ويقول: يغفر الله لي، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169] فهذا لا يجوز، هذا ليس منهج الخائف من الله، فالمؤمن في قلبه توبيخ، وفي قلبه حرارة، وفي قلبه إيمان، يقول له: لا.
إذا هم بالمعصية، أما إذا رأيت الإنسان كلما بان له طمع، أو تيسرت له معصية تقحّم عليها، فاعلم أن هذا الإنسان قلبه شديد المرض، ويوشك أن يموت، ولذلك نقول: حين تتوب، أو تستغفر، أو تعمل الأعمال الصالحة، لا يمكن أن تجزم جزماً قاطعاً بأن هذا الوعد النبوي، أو الإلهي تحقق لك، من يدريك أن الله قبل منك عملك؟! يقول بعضهم: والله لو أعلم أن الله قبل مني تسبيحة واحدة لتمنيت أن أموت الآن؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] لكن ما يدريك؟! يمكن عملك يُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوب ثم يضرب به وجهك، لأنه لم يتحقق فيه الإخلاص، ولم تتحقق فيه النية الصادقة، ولم يكن فيه متابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد تستغفر ولا يغفر لك، وقد يعرض عنك الله تعالى بوجهه بسبب لا تعلمه، أو تعلمه أنت في نفسك، فالعبد يكون بين الخوف والرجاء.(240/20)
الولاء لمن
الْمَعْلَمْ الأول: أن تنظر الولاء عندك، أهو للطاعة وأهلها، أم للمعصية وأهلها، فإن العاصي إذا كان على سبيل الاستقامة والصلاح، فإنه وإن عصى الله تعالى إلا أن ولاءه وحبه وقلبه مع الطاعات، ومع أهل الطاعات، ولذلك فإنه كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره مَنْ تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة والشافعي -رحمه الله- يقول هذا على سبيل التواضع، لكن نحن نقوله على سبيل الحقيقة: أحب الصالحين ولست منهم، أنا عاص لكن أحب الصالحين؛ لأنه يجب أن أكون مثلهم، فإن قعدت بي همتي، وإن قعدت بي ذنوبي، فلا أقل من أن أحبهم، وأرجو أن أنال بهم شفاعة، وأكره أمثالي، وأكره من بضاعته المعاصي، وإن كنا سواءً في البضاعة، ولذلك يقول الشيخ أبو الحسن الندوي في بعض كتبه: إن هناك شاعراً هندياً كان مسرفاً على نفسه في المعاصي، يشرب الخمر ويتعاطى المحرمات، وكان منهمكاً وموغلاً في المعصية، ولكنه مؤمن مسلم، ويصلي الصلوات الخمس، ويحب الله ورسوله، فيوماً من الأيام كان عنده شابٌ عربي شيوعي ملحد والعياذ بالله فكانوا جالسين في الفندق في مقهى، يتعاطون الكؤوس، ويحتسون الخمر، ويتكلمون في شتى الشئون، ولا شأن لهم بالدين، فالمهم أن هذا الشاب العربي الشيوعي قام وبدأ يسب الرسول عليه الصلاة والسلام وينال من قدره، ويقول الندي: وكان هذا الشاعر الهندي ثملاً، يعني ليس صاحياً فالخمر قد لعبت برأسه، ولكنه لما سمع سب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب الدين، يقول: اهتز واضطرب وزأر كما يزأر الأسد الليث الهصور، وقام وأخذ حذاءه وبدأ يضرب هذا الشاب، وينتحب ويبكي، ويقول: نعم شربنا الخمر وأخطأنا وأسرفنا وعصينا، لكن لم يبق لنا إلا حب الله ورسوله، والإيمان بالله ورسوله، وأنت تريد أن تنال من الله ومن رسوله في حضورنا، قال: فما زال يضربه حتى فقد هذا الشاب وعيه، وأظن هذا الشاعر تاب إلى الله تعالى وأناب وأقلع مما كان يفعله.
إذاً المهم: أن يكون العاصي يتذكر أن ولاءه يجب أن يكون لله جل وعلا، وقبل ذلك أذكر القصة التي تعرفونها جميعاً قصة أبي محجن الثقفي، فقد كان أبو محجن الثقفي يشرب الخمر في الجاهلية قبل الإسلام ويتغنى بها، حتى قيل عنه أنه كان يقول: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتى عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها يريد ممن يدفنه أن يدفنه إلى جنب كرمة، لتروي عظامه بعد موته، فلما أسلم تاب الله عليه، لكنه بقي مصراً على شرب الخمر، فجلد مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، ولم توجد فائدة فالرجل مصر، وفي الأخير حبسه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في العراق وكان يحارب الفرس في العراق، فحبس أبا محجن الثقفي، وذهب يقاتل في القادسية هو والمسلمون معه، وأبو محجن الثقفي كان مأسوراً في الحبس والقيد في رجله، فكان ينظر من النافذة والجيش المسلم يقاتل الفرس، والسهام والسيوف تلمع، والرؤوس تتساقط، والدماء تسيل، وأبو محجن يقلب رأسه ويبكي، ثم بدأ ينشد ويقول بينه وبين نفسه: كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة فقد تركوني واحداً لا أخا ليا لله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا فشعر بأن المعصية قد أقعدته عن هذا الموقف الشريف، ثم صاح أبو محجن بزوجة سعد بن أبي وقاص وقال لها: [[تعالي، فجاءته، وقالت له: ما بك يا أبا محجن، قال: لي طلب، قالت: وما طلبك؟ قال: فكي قيدي وأعطيني هذا الفرس، فرس سعد بن أبي وقاص، لأنه كان مريضاً وفرسه مربوطة، ودعيني أقاتل فإن مت فشهيد -إن شاء الله- وإذا نجاني الله فإني أعطيك عهد الله وميثاقه أن أعود حتى تضعي القيد في رجلي مرة أخرى، فترددت المرأة بعض الشيء، ثم أقدمت وفكت قيده وأعطته الفرس، فذهب وتلثم، وخاض المعركة لا يدع شاذة ولا فاذة في المشركين إلا أصابها، يضربها بسيفه، وكان فارساً قوياً لا يُشقُ له غبار، فكان سعد بن أبي وقاص ينظر في المعركة ويتعجب ويقول: الفرس فرسي والطعن طعن أبي محجن، ولكن أبا محجن في الحبس، من هذا الفارس الذي لا نعرفه؟! فلما انتهت المعركة رجع سعد إلى زوجته يقص لها القصة ويقول: حصل في المعركة كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، ومن ضمن ما قص لها، قصة هذا الفارس الملثم الذي لا نعرفه، قال: كأنه أبو محجن على فرس كأنها فرسي، فتبسمت سلمى زوجة سعد وقالت: هو والله أبو محجن، وهي والله فرسك، وأخبرته الخبر، فقدم أبو محجن إلى سلمى ورجع وقيدته، فقام إليه سعد وفكه بيده، وقال: اذهب -والله- لا أجلدك في الخمر أبداً، قال أبو محجن: وأنا -والله- لا أشرب الخمر أبداً]] .
إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم سعد بن أبي وقاص، فلما حلف لا أجلدك في الخمر أبداً، تاب الله على أبي محجن، فقال: وأنا والله لا شربت الخمر أبداً.
إذاً أبو محجن كان واقعاً في معصية، وهي الخمر لكن لِمَنْ كان ولاؤه؟ أقول: كان ولاؤه لله ولرسوله وللمؤمنين، وكان يتمنى صباح مساء أن ينتصر الإسلام، ويتمنى أن يهراق دمه في سبيل الله عز وجل، فلم تجعله المعصية في صف الفساق أو العصاة أو المنافقين أو الكافرين، كما يقع مع الأسف الشديد لكثير من عصاة المسلمين في هذا الزمان، ربما أصبح العاصي إذا رأى الإنسان الطيب المستقيم لا يحبه، لماذا؟ يقول يذكرني أيام الطهر والنقاء والصلاح والاستقامة، أو يشعرني بالنقص والضعف الذي أنا فيه، كيف يكون واحداً من أولادي أحسن مني؟! يذهب إلى المسجد قبلي! ولا يشاهد التلفاز، ولا يتعاطى الربا، ويقصر ثوبه، وأنا ابن ستين أو سبعين سنة أعمل الأشياء هذه، فتجد أنه يبغض صاحب الطاعة من أجل أنه يذكره بما كان عليه من الطاعة، أو ما يجب أن يكون عليه، ويشعره بالنقص الذي هو واقع فيه!! إذاً لم يعد ولاؤه لله ورسوله وللمؤمنين وأصحاب الطاعة، بل أصبح ولاؤه لأهل المعصية.
وقد جرّت المعصية أقواماً من الناس إلى أن يتحالفوا على هذه المعصية، من أجل إغراق المجتمع في بحر من المعاصي، فيود الواحد منهم أن تكون المعصية ديناً عاماً، مثل السارق الذي عُلِّمَ بابه باللون الأحمر، فذهب وعَلَّمَ أبواب الناس كلهم باللون الأحمر؛ حتى لا يتميز من السارق، فهو يتمنى أن يكون الناس كلهم عصاة؛ حتى لا يتميز هو من بينهم، وحتى تكون المعصية تتحقق له بسهولة، فاليوم هو يخشى أن يُتَخطف! فهو يعصي لكن يخاف من السلطة، ويخاف من أن ينكشف، ويخاف من والديه، ويخاف من زوجته، لكن يتمنى أن يكون الناس كلهم عصاه، كما قال الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] إذن الْمَعْلَمْ الأول: اسأل نفسك لمن ولاؤك، هل هو لله ولرسوله وللمؤمنين وأهل الطاعة؟ أم هو لأهل المعصية والفجور والنفاق؟!(240/21)
الأسئلة(240/22)
وسائل غض البصر
السؤال
بعض الشباب يقولون: إنهم ينظرون إلى النساء كثيراً ويعلمون أن هذه معصية، لكن هل هناك وسائل تساعدهم في الابتعاد عن هذه المعصية؟
الجواب
مسألة النظر من أخطر الأشياء؛ لأن النظر هو الخطوة الأولى وإذا تحققت الخطوة الأولى اعتبر هذا الإنسان قد تُوُدّع منه؛ لأنه إذا نظر أصبح يعجب بالمناظر ويقول: هذا جيد، وهذا غير جيد، وهذه حسناء جميلة، وهذه ليست كذلك، فأصبح يتذوق ويميز، وبعد ذلك يصبح يتابع، وبعد النظر والتذوق إذا أعجبه شيء أصبح يركض وراءه، فإذا تيسر له بعض الأسباب وقع فيه، وأسباب المعصية اليوم ممكنة في أي مكان، ولذلك فإن الشارع شدد كثيراً على قضية النظر، لأن الإنسان إذا تهدم عنده هذا السور، وانكسر هذا الباب والعياذ بالله يخشى عليه أنه لا يتوقف إلا في نهاية القرار؛ لذلك النظر هو الحصن الأول الذي ينبغي للإنسان أن يدافع عنده، يجاهد بقدر ما يستطيع، لا تقول: أنا استسلمت للشيطان في النظر، لا.
دافع النظر ثم دافعه ثم دافعه، يقول الشاعر: فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر هل كل من نظرت إليها مثلاً سوف تحصل لك بالحلال الذي يحبه الله تعالى، حتى بالحرام، لا تحصل لك، إنما حصلَّت الإثم والحسرة والندامة، وما استفدت شيئاً، لا في دينك ولا في دنياك، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه في البعد عن الأماكن التي توجد فيها المناظر المثيرة والجذابة، ولا يذهب الشاب للأسواق، ويتلفت يمنة ويسرة، وينبغي أن يعود نفسه على غض البصر، وإذا اعتاد ذلك الأمر سَهُل بالنسبة له فتألفه النفس.(240/23)
فعل المعصية مع كراهيتها
السؤال
أنا شاب أفعل المعصية لأنني في سن المراهقة، ولا أفعلها لأنني أحبها، فما الحكم يا فضيلة الشيخ؟
الجواب
الذي في سن المراهقة إذا كان بالغاً فهو مكلف عند الله تعالى، فالشاب البالغ الذي عمره خمس عشرة سنة، أو الذي قد أنزل، أو نبت شعر عانته، هذا مكلف يؤاخذ مثل ما يؤاخذ غيره وهو مسؤول، بغض النظر عن قضية المراهقة.
وقضية المراهقة -مع الأسف- طوِّلت كثيراً من قبل علماء النفس وعلماء التربية، ودندنوا حولها حتى أصبحوا خاصة من غير المسلمين، يتخيلون الإنسان ويلتمسون العذر لأصحاب المعاصي، ويقولون: هذا مراهق لا تؤاخذوه، بل بالعكس.
أين أنتم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في سن المراهقة؟! فقد كانت تسفك دماؤهم في المعارك! وكانوا يتسابقون إلى القتال في سبيل الله! وتعلموا العلم، والآن -والحمد لله- حفاظ القرآن كلهم في سن المراهقة، وفي سن المرحلة المتوسطة والثانوية حفظوا القرآن الكريم، وعمار حلقات العلم في هذه المملكة وغيرها غالبهم الآن في هذه السن، هذه أهم واثمن وأعظم سن يمكن أن يستفيد منها الإنسان، فكيف تضيع في المعصية؛ لأنك في سن المراهقة، على الإنسان أن يستعين بالله جل وعلا، ويحرص على كثرة الصيام؛ فإن من أهم الموانع من المعصية، غض البصر، كذلك قراءة القرآن، وكثرة الذكر والتسبيح، والتهليل، ومصاحبة الصالحين، وإذا تيسرت له أسباب الزواج فليعمل على تحقيقه.(240/24)
العلاقة بين لا إله إلا الله000والصلاة
السؤال
كيف نجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وبين قوله عليه الصلاة والسلام: {من قال لا إله إلا الله دخل الجنة} ؟
الجواب
قوله عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} هذا حديث صحيح رواه أصحاب السنن بسند صحيح، ومثله ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة} فنقول: من ترك الصلاة بالكلية فهو مرتد عن الإسلام، إنسان لا يصلى أبداً لا في الليل ولا في النهار، ولا جمعة ولا جماعة، ولا في رمضان ولا في غيره، وتمر به السنوات لا يصلى، هذا مرتد عن الإسلام، ولو قال: أشهد أن لا إله إلا الله في اليوم عشر مرات، أما إنسان يصلي لكنه كسول مقصر، يصلي ويغفل، وقد يفوت وقتاً أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يحكم علية بالردة والكفر، أما الحديث الآخر: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة} فإن لا إله إلا الله من المعلوم أنها ليست مجرد كلمة، أرأيت لو ذهبت للطبيب وقلت عندي صداع فكتب لك نوع من العلاج أي نوعاً من العلاج المسكن، هب أنه كتب لك مثلاً (نوفالجين) أو (أسبرين) فذهبت إلى البيت وأصبحت منذ أن خرجت من عند الطبيب وأنت تقول: إسبرين إسبرين في اليوم مائة مرة، هل يشفى رأسك؟! هل يزول الصداع؟! لا يزول، ولا بد تذهب للصيدلية وتشترى العلاج وتتعاطاه على حسب وصفات الطبيب، وستشفى بإذن الله تعالى، كذلك شهادة أن لا إله إلا الله، معناها أشهد أن لا إله إلا الله فلا يستحق أن أعبده إلا الله، فإذا كنت تكذِّب هذه الشهادة في اليوم خمسين مرة لا يصبح لهذه الشهادة معنى بالنسبة لك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(240/25)
شؤم المعصية
السؤال
فضيلة الشيخ هل شؤم المعصية يلحق بصاحبه حتى بعد توبته وما المخرج من ذلك؟
الجواب
التوبة أنواع: هناك توبة نصوح صادقة تامة، هذه لا يلحق العبد بعدها شؤم المعصية، بل يقلب الله تعالى سيئاته حسنات كما قال الله عز وجل: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي قلبت سيئاته حسنات يوم القيامة، فلما عرف أنها قلبت حسنات، صار يطالب بسيئات كبيرة كان قد عملها ولم تذكر في الكشف، فيقول: يا رب عملت ذنوباً لا أراها ها هنا، يطالب بها لأنه عرف أنها أصبحت في صالحه، فإن كانت توبةُ العبد توبةً نصوحاً فإن الله تعالى يقلب سيئاته حسنات، لكن إن كانت توبة العبد توبة مشوبة، توبة فيها ضعف، فقد يلحقه بعض أثرها وأهم ما يلحقه من أثرها على حسب خبرتي الضعيفة، أنه قد يلحقه ذلك في نفسه، وقلبه، وبعض خلقه، فإن بعض الذين وقعوا في المعاصي إذا تابوا منها تبقى آثارها في سلوكهم، وفي أعمالهم، وفي أخلاقهم، وفي نفوسهم لا تكون شخصياتهم على الاستقامة التامة، وهذا من آثار المعصية، لكن كلما صدقت توبة العبد ضعف هذا الأثر وزال.(240/26)
العقوبة في الدنيا
السؤال
فهمت من كلامكم يا فضيلة الشيخ أن العقوبة في الدنيا ما هي إلا جزاء لفعل المعصية، فهل هذا فهم صحيح يا فضيلة الشيخ؟
الجواب
ما يصيب الإنسان في الدنيا من مصائب أنواع: منه ما يكون عقوبة على ذنب فعله، كما قال الله عز وجل: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] وقال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ومنه ما يكون لغرض آخر، مثل أن يكون لرفع درجات هذا الإنسان، أو لابتلائه لتمكينه، كما يقع للأنبياء والمرسلين عليهم السلام، فهؤلاء أشد الناس بلاء، مع أنهم أهل الطاعات وليسوا أهل معاص، فلماذا اشتد بلاؤهم؟ لأن الله تعالى يجعل لهم مقامات عليا يبلغونها بهذا الابتلاء، ولأنه تعالى يبتليهم ليمكنهم.(240/27)
الفرق بين الكافر والفاسق والعاصي
السؤال
هذا السائل يريد التفريق بين العاصي، والفاسق، والكافر، هل هناك فرق بينهم؟
الجواب
المعصية من حيث الأصل عامة، تطلق على كل ما يخالف أمر الله تعالى، فيدخل فيه المعصية الصغيرة والكبيرة، والكفر.
كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23] فالمعصية هنا المقصود بها الكفر لا شك، لأنه لا يتوعد بالخلود بالنار إلا على كفر، فالمعصية أشمل.
أما الكفر فهو: معروف، يعني الردة والخروج عن الدين بالكلية، مثل أن يعبد الإنسان الصنم، أو يسب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ينكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة.
أما الفسق فهو: ما دون ذلك من المعاصي التي يرتكبها الإنسان، ولا تكون كفراً مخرجاً من الملة، فهذه فسق وليست كفراً.(240/28)
جزاء من لم تلتزم بالحجاب
السؤال
هل من المعقول أن تدخل المرأة النار بسبب أنها لم تلتزم بالحجاب؟
الجواب
بالنسبة للأدلة على وجوب الحجاب، فهذه سبق أن ذكرتها في أكثر من مناسبة، وفي بعض الكتب وغيرها، لكن مسألة أن تدخل النار، نحن لا نحكم لأحد بجنة أو نار، ما دام المسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويؤدي الصلوات الخمس، فهو إن شاء الله من أهل الجنة، وإن عذب ما عذب، لكن هل يصبر الإنسان أن يعذب بالنار ولو للحظة واحدة، وفي الواقع ما دمنا مؤمنين بالنار، فليس عندنا استعداد إذا كان الأمر بأيدينا أن نقترب منها، فضلاً عن أن نقاسي حرها ولو للحظة واحدة، ومن الذي يستطيع أن يضع رجله على الجمر باختياره ولو للحظة، فكيف نتهاون بالمعصية لأن الواحد لا يخلد بالنار؟!(240/29)
الدعاء على أهل المعاصي
السؤال
هل يجوز أن ندعو على أهل المعاصي؟
الجواب
أما على أهل المعاصي إجمالاً دون تعيين فنعم، كما ورد أن النبي عليه السلام لعن العصاة، فقال: {لعن الله السارق، لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه} ولعن النبي صلى الله عليه وسلم أصنافاً من أهل المعاصي، لكن على سبيل الإجمال من أجل ردع الناس عن الفعل، أما الدعاء على عاص بعينه، على فلان مثلاً لا ينبغي، بل ينبغي الدعاء لهم بالهداية والصلاح، وأن يتوب الله تبارك وتعالى عليه، كذلك ينبغي الدعاء لعموم العصاة، بأن يتوب الله تبارك وتعالى عليهم مما ابتلاهم بما هم فيه.(240/30)
دخول الجنة برحمة الله ثم بعمل الرجل
السؤال
فضيلة الشيخ كيف نجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: {لن يدخل أحدكم عمله الجنة} وقول الله جل وعلا في كتابه: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ؟
الجواب
العمل الذي يعمله الإنسان يؤهله لرحمة الله تعالى، ورحمة الله تعالى هي التي بها يدخل العبد الجنة، فلو حُسِبَ عملُ الإنسان مجرد حساب مادي، لا يمكن أن يكون مقابل الجنة، إنما عملك يجعلك أهلاً لرحمة الله، وبرحمة الله تعالى تدخل الجنة، وبالتالي فإن العمل واضح تأثيره، فأنت ما استحققت الرحمة إلا بعملك، لكن العمل ليس هو مقابل الجنة، ليس ثمناً لها وعوضاً عنها كلا.(240/31)
هموم أخرى للمرأة
هذا الدرس فيه بيان لبعض هموم المرأة، وكيف يمكن تفاديها وعلاجها.
كما أنه يحتوي على ذكر قصص واقعية تدل على ما تلاقيه المرأة من الهموم والمآسي.
وهو عبارة عن جواب ناجع للكثير من تساؤلات المرأة.
إضافة إلى التحذير من بعض الصحف التي تهدف إلى إفساد المرأة.(241/1)
موجز الدرس
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ.
هذا يوم الأحد العشرون من شهر ربيع الآخر من سنة 1412هـ وهذا هو الدرس الثاني والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة.
أيها الإخوة والأخوات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا الدرس هو حديث حول "هموم أخرى للمرأة" وتحت هذا العنوان تنطوي عدة عناوين داخلية، هي كالتالي: 1- تجاوب.
2- أقوى من الحب.
3-المرأة المظلومة.
4- هل أصبح الطلاق ألعوبة.
5- جولة في إحدى المدارس الثانوية.
- الصباحية تقول: "في بيتنا قمر 14 مكسوف".
7- قصة مكالمة هاتفية.
8- بشرى لسيدات منطقة ما.
9- بين الحلال والحرام.
10- الزوجة الأولى تعلن احتجاجها.
11- أبوة وعقوق.
12- خولة تتحدث عن الدعاة.
هذه هي العناوين العامة.(241/2)
تجاوب
لقد اكتشفت من خلال حديثي السابق شدة أهمية هذه الموضوعات المتعلقة بالمرأة، ولا أدل على ذلك من شدة التجاوب معها، أن عشرات الرسائل والأوراق والاتصالات تناقش ما طرحته سابقاً، أو تتحدث عن هموم جديدة.
ليس مهماً أو لازماً أو ضرورياً أن يقتنع الناس جميعاً بكل ما نقول ويتقبلوه، لكن المهم أن يدخل ما نقول حياتهم، ويكون نقاشهم حوله وترتفع أصواتهم ويعلو ضجيجهم، وبذلك نكون أفلحنا في إيصال أشياء إلى الناس يتحدثون عنها، وهي أمور بكل حال ذات جدية وأهمية.
ولقد اكتشفت أيها الأحبة أن من ظلم المرأة اعتقاد أنه من الممكن أن نتكلم في درس أو درسين عن هموم المرأة، فإن المرأة كما يقال: نصف المجتمع، والحديث عنها حديث يطول، وقد جاءتني أكوام هائلة من الأوراق والرسائل والاستبيانات، والأمور التي تحتاج إلى حديث مطول، ولذلك قررت أن أقدم لكم في هذه الليلة نتفاً متفرقة، تعبر لكم عن جوانب متفرقة أيضاً من الموضوع، على أنني أعدكم إن شاء الله، وأعدكن أيتها الأخوات! أن نناقش موضوعات متفرقة في المرأة بين وقت وآخر، في هذه الدروس العلمية التي تقام في كل أسبوع من مساء كل أحد ليلة الإثنين في هذا المكان، فنجعل فيها موضوعات متعلقة بالمرأة، ونعالجها بشكل واضح ومستفيض.(241/3)
وصول الكثير من الرسائل
فمثلاً جاءتني رسائل عديدة تتكلم عن عالم الموضة -كما تحدثت عنه- وبعض الملابس غير الساترة، مثل الملابس التي تكون بدون أكمام، وهو ما تسميه النساء بالجابونيز، وما فيها من كشف لذراع المرأة وعضدها، بل وجزء من صدرها وإبطها إذا رفعت ذراعها، وهذا موجود عند عدد من النساء.
بل جاءني قبل قليل من يحدثني أن هناك أعداداً من النساء، أصبحت تلبس الملابس الشفافة في مناسبات وغيرها، وأمام النساء، حتى ترى من ورائها ملابسها الداخلية، وهذا في الواقع أمر يؤذن بشر مستطير، وهو نهاية ما يمكن أن تتصور من الانحدار نحو الهاوية.
يقول أحدهم في رسالة له: من المضحك والمبكي أن امرأةً لبست مشبكاً، وقد وضعت فيه اللمبات الصغيرة، ووضعت تحت المشبك بطارية (حجر) في أحد الأسابيع القريبة بدأ الأطفال يمشون خلفها ويتضاحكون، فوضعت المرأة يدها على المشبك وأطفأت هذه اللمبات فذهبوا، وعندما جلست على الكرسي مدَّت يدها إلى ذلك الموضع وأضاءت الأنوار.(241/4)
رد على المسيرة النسائية
ينبه آخر إلى أنه في مثل هذا اليوم، بل بالأمس السبت، قامت المسيرة النسائية، وقد حدثني بعضهم أن هناك احتفالات خاصة بتلك المناسبة في بعض المواقع، وأتمنى أن لا يكون هذا الخبر صحيحاً، وإن كنت أقول: إنه مما يُسعدنا أن نكتشف أن مثل تلك الأشياء التي كانت شراً في ذاتها، إلا أنها كانت خيراً كبيراً، وكشفت مدى ما يوجد في هذا المجتمع من التجاوب مع الخير وأهله، وكراهية الشر وأهله، والتمسك بآداب الدين، حتى من أناس يظن أنهم من آخر من يغضب للدين أو يثأر له، فلو كان جائزاً أن نسدي الشكر لأسديناه لأولئك، على ما كشفن لنا من دخيلة هذا المجتمع، لا أقول: كشفن لنا، بل كشفن لأنفسهن ولغيرهن.
فقد قرأت مقالة لإحدى النساء في هذا البلد، تتكلم عن تلك المسيرة وما يتعلق بها، وتنتقدها من حيث التوقيت، وأنها لم تكن في وقتها المناسب.
كما أن العالم الغربي اكتشف ما ينطوي عليه هذا المجتمع من تمسك، وإصرار واستعداد للبذل في سبيل الدين، وهذا له تأثير كبير جداً في نوعية تعاملهم مع ذلك المجتمع.(241/5)
أقوى من الحب
كثيراً ما يتذمر الناس من تلك المسلسلات، التي هي مدارس لتعليم الحب والغرام، وتدريب الشباب من الجنسين، على فن الاتصال بالآخرين ذكوراً وإناثاً.(241/6)
مسلسل في التلفاز
وقبل فترة اتصلت بي إحدى الأخوات، تتحدث عن برنامج عرض في التلفاز بعنوان "أقوى من الحب" وتقول: إنه قامت بتمثيل دور المرأة في ذلك البرنامج، أو في ذلك المسلسل نساء من بعض البلاد العربية، لكنهن يتحدثن بلهجة محلية، وكأن هذا محاولة للتأكيد على أهمية وجود العنصر النسائي المحلي في تلك المسلسلات وضرورته، وقالت لي: إنه في أحد الأدوار كان الرجل يقبل يد المرأة التي ظهرت في المسلسل على أنها خالته، فتقول: قلت لامرأة بجانبي وأنا مذهولة! انظري كيف يحدث؟! فقالت لي: ماذا في الأمر هذه خالته.
وهي تظن المسكينة أنها فعلاً خالته، مع أن هذا لا يتعدى أن يكون إلا دوراً تمثيلياً.
فقالت: لا إله إلا الله، إلى هذا الحد، هذا كل ما أتذكره من تلك المكالمة.
وبالأمس القريب جاءتني رسالة من بعض الأخوات، يذكرنني فيها بتلك المكالمة التي حدثت، وأنني قلت لتلك الأخت: الله المستعان، ماذا في أيدينا، وماذا عسانا أن نعمل؟ فيقلن: إن تلك الأخت النشطة في الاتصال على المشايخ، وتبليغهم بالمنكرات التي تراها، تأثرت من هذا الرد، وولت طيلة تلك الليلة وهي تبكي وتقول: إلى هذا الحد وصلت أمور المسلمين، وأنها كانت في رحلة بعد ذلك للعمرة، حيث حَصَلَ لها حادث سيارة توفيت فيه، وغادرت هذه الدنيا وهي في عز شبابها، ويسألوننا الدعاء لها، وإني أسأل الله تعالى أن يتغمدها برحمته، ويسكنها فسيح جناته، ويعظم أجرها على بلائها وجهادها، وأن يكثر من أمثالها في أوساط النساء المسلمات، من الداعيات الغيورات المتحركات، فما أشد حاجتنا إلى مثل هذه النوعية من النساء!(241/7)
المرأة المظلومة
ماذا عسانا أن نقول عن رجل عنده مجموعة من البنات، ربما وصل بعضهن إلى سن الأربعين أو قاربت، وهو لا يزال يصرف عنهن الخُطَّاب، ربما من أجل الاستفادة من الراتب التي تتقاضاه إحداهن على رأس الشهر لقاء عملها في التدريس، أو في غير التدريس، إنها جريمة نكراء تقشعر منها الأبدان والجلود، وإن هذا الأب في نظري مجرم كبير، ربما استمتع في حياته بأربع زوجات أو أكثر، ومع ذلك يحول بين فلذات أكباده وبين مطالبهن الشرعية العادلة في الزوج الذي يعفها ويحصنها، ويرزقها منه الله تعالى الذرية الصالحة بإذنه، إنني لا أستطيع أن أفهم كيف تحول هذا الأب إلى وحش كاسر، ذي مخالب وأنياب! وفتح فمه ليلتهم لحوم بناته ويكسر عظامهن.(241/8)
الخشية من الله
أما يخشى هذا الإنسان -إن صح أنه إنسان- أما يخشى أن تنطلق من إحدى بناته دعوة بالليل الساكن، تشق أجواء الفضاء، وتفتح لها أبواب السماء، فتهد أركانه وتدمر حياته، وتوبق دنياه وآخرته، وتجعله يلقى الله تعالى وهو عليه ساخط، فيقول له: ادخل النار مع الداخلين؟ أما يخشى ذلك وهو يقرأ كتاب الله، ويعلم عقوبة الظالمين، هل عدمت مشاعر الدين عند هذا الإنسان، إن صح أنه إنسان؟! الدين الذي جاء لحماية حقوق الناس، وتحقيق سعادة الجنسين من خلال تلبية نداء الفطرة المشتعل في قلوب الجميع، وإذا افترضنا أن مشاعر الدين والتدين قد ضاعت في هذا الإنسان، وأن الخوف من الله تعالى قد زال عنه، فهل وجد في قلبه بقية من إنسانية ورحمة؟! تلك الرحمة التي تستشعرها الوحوش الكواسر، فتحنوا على أولادها وتحوطها وتحميها، وتوفر لها الطعام والشراب، وإذا افترضنا أيضاً أن الإنسانية فقدت من هذا الإنسان كما فقد منه شعور التدين الصحيح، الذي يجعل الإنسان يخاف من ربه، فهلاَّّّ وجد عنده شيء من حياء من الناس الذين تتناوله ألسنتهم، وتكرهه قلوبهم، ويمقتون منه جشعه الذي أوصله إلى التأكُّل بحرمان بناته من أعظم نعيم دنيوي.
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] .(241/9)
الجشع والطمع عند الآباء
هذا النعيم الذي امتن الله تعالى به على عباده، تحول بين بنتك وبينه، رغبةً في أن تأخذ راتبها في نهاية الشهر؛ ألا بؤساً لهذا المال الذي تدخله إلى جيبك، إنه سحت ومال حرام، إنني أوجه دعوة إلى هذا الأب، قبل أن يسخط الله عليه، فتحيق به أفعاله المنكرة السيئة، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وقبل أن تصل بناته إلى سن اليأس، وربما قاربن أو كدن، فيحرمن من الذرية الصالحة، وأتساءل أين المجتمع من مثل هؤلاء الخبثاء، الذين يمارسون جريمة من أبشع الجرائم الاجتماعية على الإطلاق؟! ويفتحون الأبواب على مصراعيها -شاءوا أم أبوا- لألوان الرذيلة والفساد العريضة في المجتمع؟!(241/10)
حرمة عضل النساء عن الزوج
هل نقف نحن جميعاً موقف المتفرج من إنسان يقف في وسط الطريق مشهراً سلاحه، يقاتل المارة ليأخذ بيده ما في جيوبهم من المال؟! ألا فليعلم وليقرأ هذا الأب، ومن كان على مثل شاكلته، قول الله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:232] .(241/11)
المسلمون كلهم أكفاء
ثم ماذا عسانا أن نقول أيضاً، عن قريب يتدخل في مسألة زواج إحدى بنات أخيه، أو خاله، أو عمه، من شاب متدين صالح، حافظ للقرآن، تعرفه الأسرة منذ طفولته، وتربى في بيتهم، وهو قد يكون إماماً في مسجد أو مدرساً في حلقة أو أستاذاً في مدرسة.
إنه رجل صالح يشهد له الجميع، ثم يتدخلون ويعترضون على هذا الزواج، الذي كاد أن يتم، ووجدت أسبابه ومقدماته لماذا؟ لأن هذا الشاب من طبقة أخرى.
نحن لا ندعو إلى إثارة مشكلات في الأسر لهذا السبب، وكل إنسان يستطيع أن يجد من يريد، ومن تناسبه ممن حوله، وممن لا يكون في زواجه منها، أو اقترانه بها، أي إثارة لمشاكل اجتماعية، لكنني أتعجب أشد العجب، لشدة تمسك الناس ببعض القضايا العادية، التي لا علاقة لها بالدين! والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] .
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم في أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء(241/12)
انقلاب الموازين
وتجد هؤلاء أنفسهم يتساهلون، وربما منعوا الفتاة من شخص كالذي ذكرْتُ، وزوجوها بشخص فاسق منحرف، وربما يكون شخصاً تاركاً للصلوات مع الجماعة، وربما يكون سيئ الخلق، فيؤذيها ويعذبها ويقهرها، وكل يوم، أو أسبوع، أو شهر، وقد ردها إلى أهلها في مشكلة جديدة.
فسبحان الله! ما أدري ما هو السر في ذلك! تغضب المجتمعات وتقوم البيوت، وتتحرك العواطف، حين يخرج الإنسان على عادة اجتماعية، ولكن الجميع يلوذون بالصمت العميق، وربما يكونون مؤيدين مباركين حينما تريد الفتاة أن تتزوج بإنسان منحرف أو ضال! وقد يكون صاحب فكر هدام، وقد يكون في بعض الأحيان غير مسلم، وقد سمعت بنفسي أناساً من أسر عريقة، ومع ذلك يقول بعضهم: ما الصلاة؟ وما الغسل من الجنابة؟ وربما يكون زوج بامرأة مؤمنة صائمة قائمة إلى هذا الحد، وهذا والعياذ بالله الكلام الذي قاله كفر بالله العظيم، فما أحد غضب، ولا أحد تحرك، لكن يغضبون ويتحركون، إذا خرقت العادات الاجتماعية، نحن على أقل تقدير نقول: عاملوا هذه كما تعاملون تلك.
حتى إنني سمعت امرأة تقول وتدعو على قريب لها، تسبب في عدم إتمام مثل هذا الزواج: " أسأل الله تعالى أن يحول بينه وبين نعيم الجنة، كما حال بيني وبين من أتمنى وأحب أن أتزوج منه".
فسبحان الله! أنت ظالم متدخل فيما لا يعنيك، ما تخشى أن هذه الدعوة تصادف باباً مفتوحاً، خاصة وأن المرأة قد تكون مظلومة! تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم(241/13)
هل أصبح الطلاق ألعوبة؟
تشاجرت مجموعة في موضوع، فقال أحدهم للآخر: طلق إن كنت صادقاً، فقال عليَّ الطلاق من زوجتي أن الأمر كذا وكذا، ثم يأتي هذا الرجل بعد ذلك إلى زوجته، الجالسة بانتظاره، وقد وضعت يدها على خدها، ويقول لها: يا فلانة اجمعي أغراضك، فسوف أبعث بك إلى أهلك، أو يذهب إلى أبواب العلماء والفقهاء يبحث عن فتوى.
يقول الله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231] .
لقد قال كثير من المفسرين: آيات الله هي الطلاق، ولا يجوز للإنسان أن يتخذها هزوا، ويجعل أيمان الطلاق ألعوبة في لسانه، يحلف بأيمان الطلاق بكرة وعشية، وعلى أتفه الأسباب قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231] .(241/14)
قصة رجل حلف بالطلاق
نزل ضيوف على رجل فهمُّوا بالخروج، فألح عليهم بالبقاء، وهو رجل فيه كرم العرب وأريحيتهم وشهامتهم، فرفضوا البقاء، فصاح بهم: عليَّ الطلاق لن تخرجوا من البيت، قالوا: نحن نريد أن نذهب، فقال: انتظروني قليلاً، ودخل البيت ثم خرج ومعه كلاشنكوف (بندقية) وقال: والله أي واحد منكم يخرج، فإنني سوف أفرغ هذه الرصاصات في صدره، فجلسوا وسكتوا، واضطروا إلى أكل الطعام، وأمسك الرجل بزوجته واستسلموا لما يقول.
وهكذا نجح الكلاشنكوف (البندقية) بطلقاته فيما لم ينجح فيه الطلاق، وهذه قاعدة إذا أردت التهديد بإمكانك التهديد بالقوة بدلاً من التهديد بالطلاق.(241/15)
الحكمة من مشروعية الطلاق
أيها الإخوة! أنه لا يجوز لإنسان أن يستخدم الطلاق في مثل هذه الأمور، فالطلاق إنما شرعه الله تعالى لحل مشكلة قائمة بين الزوجين، ويكون استمرار حبل الزوجية فيها ضرراً بهما معاً أو بأحدهما لا يمكن احتماله.
فشرع الله تعالى الطلاق لإنقاذ الزوجين، أو أحدهما من حياة لا يطيقونها، وذلك بعد أن تفشل جميع الحلول الممكنة، على مستوى التفاهم بين الزوجين مثلاً، أو على مستوى الأسرة، يقول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء:35] ثم على مستوى القضاء، وحينئذٍ يلجأ الرجل إلى الطلاق، أو تلجأ المرأة إلى المطالبة بالطلاق.(241/16)
الطلاق من الشيطان
ورد في حديث صححه أو حسنه أهل العلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن أبغض الحلال عند الله الطلاق} والحديث رواه البيهقي والحاكم وأحمد وغيرهم، وفيه كلام، وبعضهم أوصله إلى درجة الحسن.
ومما يشهد بثبوت الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الشيطان ينصب عرشه على البحر ثم يبعث سراياه، فأقربهم منه منزلة هو أكثرهم إفساداً، فيأتي رجل فيقول: مازلت بين يديه وما صنعت شيئاً، يتوب ويستغفر، فيأتيه أحدهم فيقول: مازلت بهذا الإنسان حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيدنيه ويقربه ويقول أنت أنت أنت} أي أنت الذي فعلت العمل الجيد العظيم، وأنت الذي تستحق أن أقربك وأدنيك، فهذا يدل على أن الطلاق في الأصل من أمر الشيطان، وأن الله تعالى يبغضه، إلا إذا كان الأمر يدعو إلى ذلك، فإن الطلاق يكون واجباً في بعض الحالات، وقد يكون مستحباً، وقد يكون مباحاً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون حراماً، تجري فيه الأحكام الخمسة كما يقال.(241/17)
حالات الطلاق في المجتمع
إذاً الطلاق قرار يدرس بعناية، ويضع حداً للمعاناة بين الزوجين، تكون مقاساة الطلاق عليهما -مع أن الطلاق كتجرع السم- أهون وأيسر من استمرار الحياة الزوجية، وليس الطلاق قراراً يكون في نزوة طائشة، أو انفعالٍ مؤقت، يطلقه الإنسان في غيبة عقله، أو انشداد أعصابه.
والمؤسف جداً أيها الإخوة! وأيتها الأخوات! أن المجتمع مشحون بهذا وذاك، فهناك فعلاً من يطلّق لظروف خاصة لابد منها، ويكون الطلاق حينئذٍ قراراً سليماً، وهناك الكثيرون، بل لعلهم الأكثرون من يطلق في حالة غضب أو انفعال، دون أن يكون قراره هذا مدروساً، ودون أن يعطي الموضوع حقه من التفكير والتأمل والنظر، ولعل غالبية من يطلقون هم من الصنف الأول، وعلى كل حال فالطلاق ليس قضية محلية، بل هو قضية عالمية، وقد قرأت في إحصائية في أمريكا وغيرها، أن نسبة الطلاق تصل أحياناً إلى أكثر من 80%.
كما أنني أقول: ومن المؤسف أن الناس يجهلون في كثير من الأحيان الأسباب المؤدية إلى الطلاق، وقد يفعلونها بمحض إرادتهم واختيارهم، دون معرفةٍ بها، والحديث عن الأسباب المؤدية إلى الطلاق حديث يطول، ولعله موضوع لأحد الدروس القادمة.(241/18)
جولة في إحدى المدارس الثانوية
بعض الأخوات كتبن استبياناً أو أسئلة ووزعنها على مجموعة من الطالبات، على نمط الاستبيان الذي سبق أن وزع على مجموعة كبيرة من الشباب، وقدمت للإخوة المستمعين نتيجة الاستبيان السابق، في محاضرة أو درس كان عنوانه "هكذا يصنع الفراغ".
وقد قمن تلك الأخوات بعمل الاستبيان، وهو عبارة عن أوراق وزعت على أكثر من ستمائة طالبة بإحدى المدارس الثانوية، لمعرفة مدى المستوى الشرعي والأخلاقي والثقافي للبنات، وسأتحدث أيضاً عن هذا الاستبيان بصورة أكثر تفصيلاً إن شاء الله في وقت لاحق، لكنني أرى أن أنقل لكم الآن بعض المقتطفات، وقد أُجري هذا الاستبيان على نوعيات شتى وجنسيات مختلفة، وأقسام مختلفة، وهو يتحدث عن أسئلة كثيرة من أهمها التي لفتت نظري، قضية سؤال يقول: ما هي طموحاتك في المستقبل؟(241/19)
الطموحات المشرقة
هناك مجموعة كبيرة وهي الأغلبية، وإن كان لم يتيسر لي ذكر رقم دقيق، وهذا لابد أن يكون في المستقبل إن شاء الله، الغالبية تتمنى أمنيات حسنة وحميدة، فهناك -مثلاً- من تقول: أتمنى أن أكون مدرسة، سواء مدرسة للمواد الشرعية أو غيرها، لتخدم دينها، ولتصلح حال الطالبات، ولتصبح قدوةً حسنةً، وهناك من تتمنى أن تتزوج وتجلس في بيت الزوجية، وهناك من تتمنى أن تتزوج وتنجب 12 ولداً أو أكثر، وهناك من تتمنى أن تكون مشرفة اجتماعية، أو متعلمة بلغة من اللغات، لخدمة الدعوة إلى الله، أو تتمنى أن تكون داعية إلى الله عز وجل فتدعو بنات جنسها، وهناك من تمنت أن تكون طبيبة، حتى تقوم بعلاج النساء، وتمنع كشف المرأة على الرجل هذا جانب، وهو جانب على كل حال مشرق.
هناك آمال وطموحات عامة لا تتعلق بالفتاة في ذاتها، مثل أن تتمنى بعضهن أن تعود الأمة الإسلامية إلى ما كانت عليه، أو تتمنى أن تعود القدس إلى حظيرة المسلمين.
وفي مقابل ذلك هناك عدد قليل ومحدود يعد على الأصابع من ضمن الـ "600" فتاة، هو عبارة عن أمنيات غريبة، وفي صراحة كاملة أقول: لم أجد ما يمنعني من أن أقول هذه الأمنيات! لماذا؟ لأنني تأكدت أن كثيراً من الأخيار لا يدرون ماذا يجري في المجتمع؟ بيوتهم طيبة من حولهم، أخيار طيبون، ولذلك فهم غير عارفين بما يجري في المجتمع.
فلو مثلاً سئلوا: ما هو تأثير الإعلام على البيوت، وعلى النساء؟ هزوا رؤوسهم وقالوا: ليس هناك كثير يذكر، وظنوا أن الأمر فيه مبالغة، وأحسوا أن الأمر سهل، فرأيت أن أعطيكم هذه النماذج، ولو كانت صغيرة وقليلة ونادرة، لكنها سوف تلفت أنظاركم إلى أمور كثيرة، منها إدراك تأثير الجوانب السيئة، سواء من الإعلام أم غيره على عقول النساء.
الأمر الثاني: أن يفتح الإنسان عقله وقلبه وعيونه على بيته، وعلى ما حوله، لئلا يكون في بيته أشياء وأشياء، وقد لا يدري عنها؛ لأنه بالغ في حسن الظن والثقة المفرطة.
فمثلاً: هناك أمنية غريبة وهي عاديه بطبيعة الحال، تقول: أتمنى أن أرحل عن هذه الدنيا في أسرع وقت ممكن.
لأن الدنيا ليس فيها خير ولا حتى في الناس! هذه طبعاً أمنية امرأة متشائمة، وقد تكون تعيش ظروفاً نفسية معينة.
هناك حبات قليلة جداً كما ذكرت، مثلاً واحدة تتمنى أن تعمل في مجال التصوير، وثانية تتمنى أن تكون سكرتيرة أو محاسبة في بنك، وثالثة تتمنى أن تكون شرطية، ورابعة تتمنى أن تكون مضيفة طيران، هذه أيضاً من مجلة سيدتي، لأنها في العام الماضي عملت استبياناً وتقريراً عن المضيفات.
وأخرى تتمنى أن تكون مغنية.
أجد صعوبة كبيرة في أن أقول: وراقصة، يجب أن نعرف أن مثل هذه العينات موجودة في المجتمع، ولا أعتقد أبداً أنه من المصلحة أن نتجاهل مثل هذه الأوضاع، ولو كانت قليلة؛ لأن القليل إذا لم نتصد له الآن يصبح كثيراً، وما يدريك فقد يكون من النساء اللاتي قد يراهن الإنسان، ويحسن الظن بهن، تكون عندها مثل هذه الأفكار، إذا لم يكن هناك توجيه وتوعية وإرشاد ورقابة وتصحيح للأوضاع، كما أود أن أعقب أن بعض الفتيات قد لا تكون الكلمات اللاتي يقلنهن كلمات صحيحة من قلوبهن بقدر ما تكون أحياناً نوعاً من الاستفزاز.
وهذه الأساليب معروفة بالعناد، خاصة عند الشباب الذكور والإناث في مثل هذه السن، فهي ربما لا تقصد الحقيقة أنها تتمنى أن تكون كذا، بقدر ما تريد أن تستفز من عملت الاستبيان، أو تثيرها، أو تعاندها فقط، فربما يكون هذا من باب العناد، لكن على كل حال أمر معبر، وقد يكون من بين هؤلاء النساء، من يكون لها قريب أخ أو أب أو قريب صاحب اتجاه فكري منحرف، ولذلك إحداهن تمنت وقالت: أتمنى أن أكون موظفة في معهد الإدارة العامة، وما أدراك ما معهد الإدارة العامة، وربما يكون من هؤلاء من هي ضحية للإعلام، والجهود التخريبية في المجتمع، وهي جهود كثيرة، لا كثرها الله.(241/20)
مشاكل الفتيات الأسرية
ومن ضمن الأسئلة هناك سؤال يقول: هل تعانين من مشكله في الأسرة؟ واحدة من الأخوات تقول: ما لكم علاقة بمشكلات أسرتي، وأخرى تقول: لا.
لكن قولوا: ما شاء الله، خشية أن تصاب بالعين، وثالثة تقول: نعم، وهذا كثير طبعاً، فما سر تلك المشاكل الأسرية؟ مثلاً من أسباب المشاكل الأسرية: قد تعاني البنت من زوجة أبيها التي تؤذيها وتضطهدها، وتشوه صورتها عند أبيها، وتضايقها، وقد تصفها بما ليس فيها.
وقد تعاني البنت من مشكلة بسبب تدينها وهم يضارونها ويضايقونها، ويرفعون أصوات الأغاني من المذياع، أو من التلفاز، وربما يعارضونها في الحجاب، ومجموعة ثالثة تعاني مشكلة أسرية بسبب الخلافات المتكررة والمستمرة بين الوالدين.(241/21)
مخاطر تهدد البيوت
إذاً لابد من مواجهة المخاطر التي تهدد البيوت؛ فإن هذه المخاطر تهدد استقامة الفتاة؛ فإن الفتاة التي تعيش في بيئة صالحة مستقرة تكون أقرب إلى الخير والصلاح، والفتاة التي تعيش في أسرة محطمة، أو ممزقة، هي أقرب أن يتلقفها شياطين الجن والإنس.(241/22)
عدم الاستقرار العائلي
فمثلاً: من المخاطر التي تهدد البيوت عدم الاستقرار للعائلة، وما يحدثه من مصاعب نفسية وآلام للجنسين، لكن البنت لا تستطيع أن تتحمل هذه الأشياء كما يتحملها الولد، وهذه المصاعب التي تسبب قلقاً هي الطريق للانحراف، وغالبية المنحرفين هم من بيئات غير مستقيمة وغير مستقرة، فمنهم من يخرجون حاقدين على المجتمع، ويسعون لتحطيم المجتمع بكل وسيلة! أو يخرجون متمردين على قيود المجتمع كما يسمونها وعلى أخلاقياته وعلى تقاليده التي يعتقدون أنها هي السبب فيما يعانونه وما يواجهونه.(241/23)
التفكك الأسري
من مخاطر الأسر أيضاً التفكك الأسري الذي يجعل البنت دون رقابة، مثلاً: بنت عند أم مطلقة، أبوها لا يدري ما يكون شأنها، ولا يدري كيف تخرج، وكيف تدخل، ولا متى تدخل، ولا متى تخرج، وبمن تتصل، وماذا تعمل بالبيت، وماذا تعمل في المدرسة، وماذا تحمل في حقيبتها، وهل تخرج إلى السوق أو لا تخرج، وهل تستخدم الهاتف! فتمارس ما تشاء وتقيم العلاقات مع من تشاء، دون رقيب ولا حسيب، دون أن يكون هناك أحد يوجهها أولاً، ثم يراقبها ثانياً.(241/24)
خطر الثقة المفرطة
هناك أيضاً قضية الثقة المفرطة، وهذا أمر ملحوظ جداً، فيعطي الأب بنته ثقة مفرطة جداً، لماذا؟ إن سر هذه الثقة المفرطة أنه يرى البنت خجولة أمامه، وهو يعرفها منذ أن كانت طفلة بريئة، ليس لديها سوى أفكار الأطفال، وبراءة الأطفال في عينيها وتصرفاتها، فهو لا يزال يتعامل معها بتلك العقلية السابقة، إنها طفلة لا يخطر ببالها ما يخطر ببال الأخريات، ويتعامل معها من هذا المنطلق، ويرى أنها تستحي منه، ويحس أن هذه هي شخصية البنت، وهذه هي عقليتها وهذا تفكيرها، والواقع أن للبنت شخصية أخرى ووجهٌ آخر، لا يستطيع الأب أن يدركه تماماً، إلا إذا كان يتميز بوعي وعقل وإدراك وفهم.(241/25)
خطر أجهزة الإعلام
هناك قضية أجهزة الإعلام من التلفاز والفيديو والمجلات، وبعضهن قد تعتكف على التلفاز ساعات، وعلى الفيديو، فإذا توقف التلفاز، أو رأت برامج لا تعجبها، انتقلت إلى الفيديو، وتطالع كثيراً من المجلات، وهناك أكواماً كثيرة في مكتباتنا التي تخاطب المرأة، وبعناوين غريبة جداً، وتتحدث عن موضوعات أغرب، وسأتحدث عن موضوعات أغرب، وسوف أذكر عينه -بعد قليل- من هذه الصحف والمجلات.(241/26)
خطر قرينات السوء
هناك قرينات السوء، تأثيرهن تأثير بالغ جداً، ففي المدارس قد يكون هناك شِلل، أحياناً تكون واحدة سيئة فتجمع حولها مجموعة من الفتيات وتغرر بهن، فتقوم بتوزيع الصور مثلاً، سواء أكانت صور إخوانها أم صوراً للشباب أم صور لاعبين، وتقوم بتشجيع النوادي، وتحثهم وتثير هذه القضايا معهم، حتى تشغل بال البنات، وقبل قليل سلمني أحد الإخوة ورقة صغيرة فيها مقال صحفي من جنس ما ذكرت، عن فتيات يتكلمن عن اللاعبين ويتكلمن عن التشجيع! فقد تتحدث معهن عن أرقام الهواتف، وهواتف الشباب، وتتكلم عن طريقة الاتصال إلى غير ذلك، فتغري بكل حال وتسهل سبل الاتصال بالشباب، وأقول: في بعض الأحيان ربما تغري بالفاحشة، وربما تنشد أشعاراً وقصائد يعف اللسان عن ذكرها، يكون فيها إثارة لمشاعر الأخريات، والوقوع في شراك المفسدين والمفسدات.(241/27)
الصباحية تقول: في بيتنا قمر 14 مكسوف
الصباحية: هي جريدة يومية تصدر من الشركة السعودية للتوزيع، وليس بغريب أن نتحدث عن الصباحية التي تصدر من الشركة السعودية، التي تصدر مجلة سيدتي مثلاً، وقد همت يوماً من الأيام أن تصدر قمر 14، التي هي مسمار في نعش هذا المجتمع لو صدرت، لكن الله سبحانه وتعالى وأدها بحوله وفضله وقوته، فلم تصدر ولم تنتشر، فالصباحية قد كتبت قبل أيام قليلة مقالاً بعنوان في "بيتنا قمر 14 مكسوف، وجه جميل وعيون ناعسة" ولعل هذا الكلام يؤذي مشاعركم، لأن هذه الجريدة تباع يومياً في مكتباتنا، وربما يكون من بينكم من يشتريها، ويضعها أمام بناته حتى يقرأنها.(241/28)
التغزل بالأوضاع الجيدة
أما في هذه الجزيرة فلا زال هناك فصل بين الجنسين في مجالات كثيرة، ولست ممن يهوى كثرة التغزل بأوضاعنا الجيدة؛ لأنني أعتقد أننا إذا كثرنا من التغزل بأوضاعنا الجيدة، معنى ذلك أنه سوف تتغير هذه الأوضاع، ونحن لا زلنا مقتنعين أننا لا زلنا أفضل من غيرنا، وأحسن من غيرنا، وهذا ليس مقياساً صحيحاً، يجب أن يكون مقياسنا: ما مدى التزامنا بالإسلام؟ وأيضاً ما مدى تمسك المجتمع بما هو عليه، هل هو يتقدم إلى الأمام، أم يتراجع إلى الوراء؟ هناك تجاوزات كثيرة تدعو إلى التأمل.(241/29)
خطوات الاختلاط وإقراره
الخطوة الأولى التي نخافها ونخشاها: أننا نجد تجاوزات هنا وهناك، في عدد من الجامعات في هذه البلاد، وفي كليات الطب بالذات، وفي المستشفيات كلها بدون استثناء، وفي كثير من الأعمال الحكومية المتنوعة، وهذه مرحلة أولى لاختلاط الرجل بالمرأة؛ لأنه يوجد فرص كثيرة للاختلاط، وأحياناً يوجد اختلاط لابد منه على حسب طبيعة العمل.
بعد ذلك سيتطور الأمر -إذا لم يرحمنا الله ويقوم أهل الغيرة بمعالجة هذه الظواهر والقضاء عليها- بأن تكثر هذه التجاوزات وهذه الأخطاء، حتى تصبح أشياء كثيرة تضغط على مصدر القرار، لكي يصدر قرارات تتلاءم مع الوضع الجديد من أجل حفظ القرار؛ لأن القرار حتى يكون قراراً محترماً يجب أن يراعي.
فمثلاً: إذا كثر الاختلاط وصارت ظاهرة فإنه تلغى قضية منع الاختلاط حتى يكون الاختلاط أمراً مقراً لمقتضى النظام، وليس أمراً مخالفاً للنظام، بعد ذلك تفتح الأبواب على مصراعيها، وينتقل الاختلاط إلى مؤسسات أخرى، وإلى جميع أجهزة المجتمع ومؤسساته، وأخيراً ترتفع الأصوات المؤيدة لشرعية هذا الاختلاط، سواء تحدثت عن الشرعية من الناحية الدينية، مثلما نقرأ بعض الفتاوى لبعض العلماء من أكثر من بلد، يقولون: إن الاختلاط ليس به بأس، بل إن رجلاً يقول: إن المرأة السافرة أفضل عند الله من المرأة التي تغطي وجهها، فيحاولون أن يصوغوا مثل هذه الأمور بصور شرعية، وبعضهم بصور علمانية؛ كأن يقولون مثلاً: هذه أشياء معروفة، ومنتشرة لدى الناس، وأنها قضايا أصبحت لا مجال لمخالفتها، وأن المجتمعات كلها تقرها، وليس هناك ما يجعلكم تتحكمون بهذه الأشياء القديمة.(241/30)
عدم الاختلاط مرض نفسي
إذاً في نظر هؤلاء المرضى يعتبرون أن عدم اختلاط الفتاة مع زملاء العمل مرضاً نفسياً، ويعبرون عنه بالانطواء، ويذهبون إلى دكتور بجامعة عين شمس، ودكتور في جامعة الأزهر، ليتكلموا عن هذا العلاج، ويقولون: إن هذا مرض يدل على أن الإنسان لا يستطيع إقامة علاقات مع الآخرين، ولا يستطيع أن يتكيف معهم.
إذاً كما قال الله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] فنحن ندرك ماذا يريد أعداء هذه الأمة، وماذا يريد أعداء المرأة؛ يريدون أن تكون المرأة متعة لهم على قارعة الطريق، أقل ما يستمتعون به منها أن يستمتعوا بنظرة، وكلمة، وابتسامة، وضحكة عالية على حد تعبيرهم، وهذا لا يمكن أن يقنعهم بحال من الأحوال، ولكنه هو المعبر والطريق الذي يتسللون منه إلى الأمور الأخرى، التي يتمنونها ويحبونها، فهم يريدون أن تتحول هذه الأمة إلى نمط المجتمعات الغربية.
وفي أمريكا لا تكاد توجد فتاة متزوجة وهي محافظة على عفافها وعذريتها، وهكذا تقول الإحصائيات، لابد أن تكون قد ارتكبت الفاحشة، وإذا وجد خلاف ذلك في حالات قليلة، ذهبوا بالبنت إلى المستشفى لعلاجها من هذا المرض النفسي، هكذا يتحدثون، وهكذا يقولون، وقد قرأت في بعض الصحف الغربية مقابلات مع بعض النساء من بلاد محافظة، ممن كن عرضة لعقوبات بسبب أعمال غير أخلاقية، كأعمال الفساد والبغاء والدعارة، فكن يتكلمن عن أن المجتمع لا يحقق طموحاتنا، والمجتمع يقف عقبة أمام أمنياتنا، والمجتمع يقيدنا، ويقف ضدنا يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] .
أيها الإخوة: يجب أن نتنبه إلى نقطة مهمة وهي قضية محاولة تطبيع الاختلاط في العلاقات بين الرجل والمرأة في هذا المجتمع، كل المجتمعات العالمية الآن الرجل والمرأة فيها سواء في كل مكان، وهناك حالات خاصة، فمثلاً هناك جامعات وفنادق للنساء في الغرب، لكنها ظاهرة غريبة بدأت تبرز الآن، أما الأصل عندهم فهم يعاملون المرأة والرجل على حد سواء من غير تمييز، إلا في أشياء محدودة، مثل أن المرأة أقل راتباً من الرجل، فهي تأخذ مثلاً (60%) من راتب الرجل.(241/31)
فتاة منطوية
إذاً من خلال هذا الكلام يكون اتصال البنت بالرجل عندهم أمر طبيعي?! والبنت التي لا تتصل بالرجال والزملاء والشباب هذه البنت عندها عقدة انطواء، وعندها مرض، ولذلك تستحق أن يذهب بها إلى الطبيب النفسي.
وهكذا فعلت الجريدة لتوفر عليك عناء الذهاب بابنتك إلى طبيب، هي قدمت لك استشارة من أخصائي، فبعنوان "منطوية" تتنقل إحدى الأمهات لنقطة أخرى وتقول: "ما يؤرقني هو انطواء ابنتي وبعدها عن الحياة! فهي تحب الوحدة! وملامحها دائماً حزينة! تكره الاختلاط بزميلات وزملاء المدرسة! لا تقوم برحلات مع أصدقائها، تفضل صحبة أخواتها للنزهة، إذاً التي لا تحب أن تذهب مع أخواتها تعد معقدة منطوية!! ثم سئل أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس عن هذه الظاهرة السلبية في نظرهم، فقال: "إن مشكلة الشخص الانطوائي أنه عاجز عن إقامة علاقات ناجحة مشبعة، هذه هي نقطة ضعفه الأساسية، هو غريب عن الناس وعن نفسه، فنجد أنه يعاني بروداً وكسلاً في عواطفه، إنها عواطف خاملة لا تتحرك ناحية الناس، ولهذا فهو لا يملك إمكانية الاقتراب والتعارف، وتعاطفه محدود جداً، إذ لا يعنيه الآخرون، ولا تعنيه أفراحهم ولا أحزانهم، منشغل فقط بنفسه وأفكاره وأحلامه غير الواقعية، فصاحب الشخصية الانطوائية لا يبدو على وجهه أي تغير أو انفعال، ولا يبتسم إلا قليلاً، ولا يضحك بصوت عال، ولا يعلق على شيء بمرح، بمعنى أنه لا يعبر عن عواطفه لأي إنسان" ويضيف الدكتور: "أنصح الأهل بعدم دفع أطفالهم للاختلاط بالآخرين".(241/32)
قيود
ثم وضعوا عنواناً سموه (قيود) وتتحدث فتاة أخرى عن مرحها وحبها للحياة، وتقول: "أنا في سن الانطلاق والمرح أحب الحياة، ولا أشعر بخجل أو بسخونة أو باحمرار وجهي، عندما تتجه الأنظار نحوي، فالفتاة لابد أن تتمتع بجرأة لمواجهة الحياة والناس?! ولكني أجد المجتمع يرفض انطلاق الفتاة ومرحها.
إذاً هؤلاء يحاولون أن يثيرون عند الفتاة روح التمرد على المجتمع والخروج على ما يسمونه هم: قيوداً، وإغراء الفتاة بأن تحمل مثل هذه الأفكار، وأقول لك: إذا وصلت هذه الأفكار إلى ابنتك مثلاً، وقرأتها وهي في هذه السن، أي مشاعر سوف تدور في رأسها؟ وأي عاطفة سوف تتحرك في قلبها؟ وأي أخلاقيات سوف تمليها عليها هذه الكلمات؟ وتقول إحداهن: "أن والدتي تمنع خروجي للنزهة، بحجة أن المجتمع يرفض خروج البنت للنزهة، ويسمح لها فقط بالذهاب للمدرسة والجامعة?! وإنني أتساءل لماذا كل هذه القيود؟ " وأخرى تقول: "أنا أبلغ من العمر 17 سنة، أكون دائماً موضع إعجاب الناس وزملاء المدرسة، أحب الضحك، أخرج باستمرار لأمارس هواية الجري?! لي زملاء وأصدقاء من الجنسين لا أجد تحرجاً في معاملاتي مع الشباب".(241/33)
مقالة الصباحية
والآن اسمع ماذا تقول هذه الجريدة? وما هي الرسائل التي تحملها هذه الجريدة: "هل تتصورون أن القمر مصاب بالانطواء والخجل، هذا ما يحدث مع بنت 14 ذلك الوجه الخجول، والغصن الطري، والعيون الناعسة، فلماذا يصيبها الانطواء وهي قمر 14.
رغم أنني (واحدة تقول) ما زلت طفلة بضفائر، إلا أن شكلي يقول غير ذلك، كرهت الاختلاط بزميلات وزملاء المدرسة والنادي".
لاحظت تطبيع الاختلاط بين زملاء وزميلات، أمر عادي داخل المدرسة والنادي هذه الكلمات قالتها فلانةٌ -ذكروا الاسم- أما فلانة فقالت: "إني حائرة بين طبيعتي الهادئة الرزينة وطبيعة زميلتي التي تتمتع بجرأة ليس لها حدود، وتفعل كل ما تمليه عليها نفسها، حتى ولو كان يضر بسمعتها?! والذي أزعجني أن هدوئي وخجلي موضع سخرية من صديقاتي، حتى والدتي تحاول أن تخرجني من هدوئي وانطوائي، لأساير من هم في مثل سني".(241/34)
قصة مكالمة هاتفية
التليفون في البداية عند بعض الفتيات والفتيان، وسيلة للتسلية -تسلية الفراغ كما يزعمون ويعتقدون- لكن رحلة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، والشيطان يبدأ بخطوات، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] الشيطان أذكى مما تتصور لا يأتي دفعة واحدة، يبدأ بك بخطوة واحدة معقولة، خطوة قد تكون مسلمة لديك، خطوة واحدة فقط، مكالمة هاتفية أو تفكير أو محاولة أو أي شيء من هذا القبيل، وبعد ذلك ينتقل بك إلى خطوة أخرى، والذي بدأ الخطوة الأولى يصعب عليه أن يتراجع عن الخطوة الثانية، لذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21] تضرب الرقم المطلوب وقد يكون الرقم غير مطلوب، لكن يضربه بشكل عشوائي أو عفوي، وبعضهم يمسك بدليل الهاتف ويبدأ بضرب الأرقام بالتسلسل، حتى يقع على ما تريد أو ما يريد، فالفتاة تقع على صوت رجل والعكس صحيح، وأحياناً قد يقع على يد امرأة كبيرة السن وقد تدعو عليه؛ لأنه قد آذاها، فهل ترضى لنفسك أن تنتقل من شتيمة إلى شتيمة ومن دعاء إلى دعاء، وقد يدعو عليك أناس أخيار فضلاء، وتكون هذه الدعوة سبباً في حبوط عملك والعياذ بالله، أو في فساد دنياك، أو آخرتك، وربما دعا على والديك أيضاً، فربما تجد إنساناً غير عاقل يدعو على هذا الإنسان الذي أزعجه، وعلى والديه ويشتمه، ويكون الإنسان قد تسبب في شتم أبيه، وتسبب في شتم أمه، ومع المحاولة والاستمرار قد يجد ما يناسبه، وقد يكون أحياناً صاحب سوء، متربصاً ذئباً مخادعاً، المكالمة تتكرر ببراءة كما يقول أحدهم، فإذا كانت المسألة مسألة براءة لماذا لا تكلم رجلاً مثلك؟! وأنتِ إذا كانت المسألة مسألة براءة لماذا لا تكلمين فتاة مثلك؟! فما معنى أن نتحدث عن البراءة، والمرأة تبحث عن رجل، والرجل يبحث عن امرأة، الشيطان كما أسلفت طويل النفس، يبدأ بقضية أحلام الزواج، ويقنعها بأن الشاب يريد أن يتزوجها، ولكي تحظى عنده هي بالقبول، وتحصل عليه، وتحقق هذا الحلم الذي وقع في خاطرها أن تتزوج به، فإنها تحس أنها يجب أن تجامله، ولا تعكر عليه مزاجه، ولا ترد له طلباً، لأنها تخشى أن يغير رأيه فيها، فهي تسعى إلى إرضائه حتى يتزوجها فعلاً، فإذا طلب منها شيئاً وافقت، طلب منها أن تتحدث في أمر من الأمور وافقت، طلب أن يراها استجابت بأسلوب أو بآخر ودون علم أهلها بطبيعة الحال، وهناك حالات أعرفها، أن هذا الإنسان يترك البنت بعد أن أخذ منها أعز ما لديها، وبعدما لطخ سمعتها، وداس كرامتها بقدميه، ثم يتخلى عنها ويتركها باكية وهو يضحك، لينتقل منها إلى غيرها.
وقد أجاد الشاعر حين وصف مثل هذه الظاهرة بقصيدة جميلة يقول: إن المعاكس ذئبٌ يغري الفتاة بحيلة يقول: هيا تعالي إلى الحياة الجميلة قالت: أخاف العار والإغراق في درب الرذيلة قال الخبيث بمكر لا تقلقي يا كحيلة إنا إذا ما التقينا أمامنا ألف حيلة متى يجيء خطيب في ذي الحياة المليلة لكل بنت صديق وللخليل خليله للسوق والهاتف والمـ لهى حكايات جميلة ألا ترين فلانة ألا ترين الزميلة وإن أردت سبيلاً فالعرس خير وسيلة وانقادت الشاة للذئب على نفس ذليلة فيا لفحش أتته ويا فعال وبيلة حتى إذا الوغد أروى من الفتاة غليله قال اللئيم وداعاً ففي البنات بديلة قالت ألما وقعنا أين الوعود الطويلة قال الخبيث وقد كشر عن مكر وحيلة كيف الوثوق بغر وكيف أرضى سبيله من خانت العرض يوماً عهودها مستحيلة بكت عذاباً وقهراً على المخازي الوبيلة عار ونار وخزي كذا حياة ذليلة من طاوع الذئب يوماً أورده الموت غيلة(241/35)
مجرد المعاكسة هي جريمة
وعلى كل حال إذا فرضنا أنه لم يحدث شيء، فإننا نعتبر أن مجرد المعاكسة عبر الهاتف هي جريمة في حد ذاتها، وفي الغرب تتم ممارسة كل الأعمال، حتى أعمال الدعارة من خلال الهاتف، فلذلك أعجب -أيها الإخوة- ولكم أن تعجبوا معي!! لا أدري ما معنى أن يضع كل إنسان في بيته جهاز هاتف، دون أن يكون هناك رقابة؟ لا ليس الأمر كذلك، بل ويضع في غرفة ابنته هاتفاً خاصاً بها، ويدعها تتصرف فيه كما تشاء، ليس هذا فقط، بل وهذه البنت لم تتلق أي قدر من التربية والتوجيه، ولم يرسل إليها في يوم من الأيام كتاباً طيباً، أو شريطاً طيباً، ولا سمعت منه موعظة، ولا رباها ولا أدبها، وكل ما في الأمر أنه أطعمها، وألبسها وكساها، ثم اشترى لها هذه الأشياء وتركها تعمل ما تشاء.
ظلم -يا أخي- لابنتك أن تتركها في الحياة بمفردها، فتاة في سن المراهقة، تجربتها محدودة، تتركها في الحياة بمفردها، ويتفرد بها الذئاب من شياطين الإنس، الذين تمرسوا وتدربوا على كيفية اقتناص الصيد، بطريقة قد لا تخطر لك على بال، وقد أخذ كل واحد منهم كرساً كما يقولون، وأصبح يجيد فنه، ولا يزال يغزل للفتاة حتى يلقيها على وجهها دون أن تعي ودون أن تشعر.(241/36)
ثلاث دقات وثلاث ساعات
هذه كلمة أقرؤها بالنيابة عن إحدى الأخوات: ترى هل أصبح الوقت عدواً للمرأة، وأصبحت المرأة عدوة للوقت؟! إليك التفاصيل أختي المسلمة فلا تتسرعي.
إحدى النساء قامت وتوضأت، وصلت ثلاث ركعات، وكل ذلك لم يستغرق أكثر من خمس دقائق، ثم دخلت على عجل إلى غرفتها، ماذا تظنين يا أختاه! وكم من الوقت استغرقته تلك المرأة في مدة دخولها الغرفة للذهاب إلى حفل زفاف في أحد الفنادق، استغرقت ثلاث ساعات ونصف متواصلة! نعم ثلاث ساعات كاملة، قضتها داخل الغرفة تصفف شعرها، وتصبغ وجهها، وتعطر جسمها، وتختار ملابسها، نعم ثلاث ساعات، ثم خرجت كالطاووس، أو اسمحي لي أن أقول: كالديك الرومي، ثم ذهبت برفقة صديقاتها إلى الحفل، ووقفت هناك أربع ساعات ونصف كاملة متكاملة! هكذا تكون قد ضيعت حوالي ثمان ساعات في أمر يجب ألا تحضره أصلاً، لأنه حفل في فندق قد يجر عليها كثيراً من الشبهات والخوض في المحرمات.
هذا الوقت يا أختي في الله! هو أمانة في أعناقنا، هل تصدقين أن البلدان الأخرى -البلدان الصناعية- تصدر من هذه الثلاث الساعات عشرات الكتب، وتسجل عدداً من براءات الاختراع، وتبث مئات من نشرات الأخبار، وتصنع كميات هائلة من الإنتاج؟! وهل تصدقين أن الإنسان في هذه الدول يكون قد قرأ كتاباً فازداد ثقافة وعلماً، فسبقك يا أختي بعلم، أو حيلة، أو ذكاء، أو خبرة، أو معرفة، ليبقى هو في الطليعة وتبقين أنت في ذيل القافلة! اسمعي يا أختاه! قصصاً في مجتمعاتنا شديدة الغرابة، وقفت امرأة تسلم على صديقاتها، فوقفت معها أكثر من نصف ساعة في كلام فارغ، تناولت أخرى الهاتف وتحدثت مع صديقاتها فاستغرقت المكالمة أكثر من ساعة، نعم صدقيني، المكالمة الداخلية أكثر من ساعة، تحدثت عن كل أنواع الأزياء، الموضة، الماكياج وصالونات حلاقة الشعر والرحلات والحفلات والعطور! امرأة أخرى جلست أمام التلفاز، وضيعت أكثر من ست ساعات على مسلسلات فارغة، أما لو حدثتك عن السهرات، والحفلات المكلفة، وغير ذلك مما يضيع فيها الوقت، فسوف تعلمين عند ذلك لماذا نحتل نحن مؤخرة الركب، فعودة إلى الدين يا أختاه!(241/37)
ما هي النتيجة
أقول لكم -أيها الإخوة-: لقد حصل أكثر من مرة أن يتصل بي بعض النساء، ويتحدثن عن أنواع من هؤلاء الشباب، أخذ منها كل شيء، حتى المال أحياناً يأخذه منها، ومناها بكل شيء، ثم ذهب وتركها ولم تأخذ منه شيئاً قط، ثم بعد ذلك صحت ووعت، ولكنها مسكينة صحت على صدمة عنيفة من هؤلاء، لا تدري ما تقول، فقدت شرفها، وفقدت كرامتها، وفقدت أنوثتها، وكم هي كارثة أن يحدث هذا الأمر! ثم تتلفت الفتاة فلا تجد حولها غير عار، كيف تواجه أهلها؟ وكيف تواجه بيتها؟ وكيف تتزوج؟ وكيف تعيش؟ وربما تكون البداية مكالمة هاتفية، وضحكة أو ابتسامة، أو مجاملة، لكن الأمر يجر بعضه بعضاً، كما قال الشاعر: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر(241/38)
بشرى لسيدات منطقة ما
حصلت على ورقة أقرأ عليكم منها تقول: بشرى لسيدات منطقة كنا نفترض ونقول: إن كان ولابد من وجود جمعيات نسائية في مجتمعاتنا الإسلامية، فلابد أن يكون دور هذه الجمعيات هو رفع مستوى المرأة، من حيث وعيها بدينها، وتعريفها بأحكام الإسلام، وبما يجب عليها فيما يتعلق بالطهارات وبالمعاملات وبالعبادات، وكيفية التربية، وتزويدها بالثقافة التي تحتاجها، وتزويدها بما تحتاج في أمور بيتها، وفيما يتعلق أيضاً بالخبرات المنزلية التي تكونها كامرأة تحتاج إليها في مستقبلها القريب، وفي حياتها الزوجية، ولم نكن نتصور أن الجمعيات النسائية لا تعرف إلا في مجال الأزياء والتسريحات، وقد ركبت الموجة، وأصبح همها هو الإعلان عن هذه الأشياء، فبإمكانك سيدتي تعليم المكياج -هكذا تقول البشرى- وفن قص الشعر، والتريكو، والكورشيه بدقة، ومهارة في فترة قصيرة، على أيدي خبيرات متخصصات، إذاً انضمي للدورات، كما تعلن عن تعليم الخياطة والأشغال اليدوية والتطريز، فانظمي إلى الدورات الحرة.
إذاً لا بارك الله في هذه الجهود، التي كنا نتصور أنها جهود موفقة لإصلاح وضع المرأة في المجتمع، ولا أعتقد أن المرأة تحتاج من يعلمها مثل هذه الأشياء، فأين الدورات لتحفيظ القرآن الكريم؟! وأين الدورات العلمية الشرعية؟! وأين الدورات للفقه؟! وأين الدورات لتعليم المرأة كيف تربي أطفالها؟! كل ذلك لا يكاد يوجد إلا في القليل النادر والغالب مثل هذه الأشياء والله تعالى هو المستعان، ولا أدري هل هذه هي مهمة الجمعيات النسائية التي تكاثرت في المجتمع؟ هل توافق المرأة لو فرغها أحد من محتواها ومضمونها، وإنسانيتها وعقلها لتصبح مجرد دمية؟ كل ما فيها شكلها وشعرها وثوبها!! على كل حال لا يستغرب ذلك؛ فإننا نجد أن كثيراً من الجمعيات النسائية في البلاد الأخرى، كانت أوكاراً للفساد، ونواد لداعيات الرذيلة.(241/39)
الزوجة الأولى (زوجة الطبيب) تعلن احتجاجها
هذه الرسالة جاءتني من إحدى الأخوات، تتحدث عن تعدد الزوجات، وقد رأيت أن أقرأ عليكم على عجل؛ لأن الأخت بليغة، وقد أفلحت الأخت في كتابتها، وفيها من براعة الأسلوب، وجودة التصوير، ما لا يستطيع الرجل أن يتكلم عنه؛ لأنها تتكلم من واقع زميلاتها ومن حولها، تقول: (كثر في هذه الأيام الدعوة من علماء المسلمين ومشايخهم، إلى الرجال عامة، طلب تعدد الزوجات، حيث أنه مباح، ومرغب فيه شرعاً لما في ذلك من مصالح جمة، تعود على المجتمع المسلم بأسره بكل خير، ولا نكران في ذلك -وهذا اعتراف من امرأة شابة تؤمن بالله تعالى القائل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ولكن الواجب علينا جميعاً أن نقول سمعنا وأطعنا- المشكلة في نظري كامرأة لا تكمن أن زوجي أو غيره سوف يأتيني بضرة، المشكلة ماذا سوف يكون حاله بعد هذا؟ كان قبل زواجه الثاني زوجاً لي فقط، وأباً لأبنائي فقط، ولكن بعد هذا الزواج أصبح لي نصف زوج، ولأولادي نصف أب، ولست واحدة في هذه المشكلة، ولكن أمثالي كثيرات جداً، الجميع يعترضن على الزواج الثاني؛ لأنه لا يقوم على العدل، ومع كثرة الدعوة إلى التعدد، إلا أن الدعوة إلى العدل قليلة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وإن كان الله تعالى يقول: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] .
فإن رجال مجتمعنا فهموا هذه الآية على أنها قبولٌ لعذرهم، وتبرئة لهم من الذنب، وتزكية من عدم العدل، وإذا احتججنا عليهم بقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] فإن الجميع يقول: أنا قادر على العدل، وهيهات هيهات أن يكون هذا الكلام صحيحاً، نحن نرى مآسي أسرية، يتمزق لها قلب من كان له قلب، ولو كان قلبه مثل الحجر، فمثلاً هناك في مجتمعنا من يغلق على أم أولاده باب المنزل، وكأنه لم يعش معها يوماً واحداً، وكأنه لم يعرف هؤلاء الأطفال من قبل! بل ويدعو عليهم بأقسى الدعوات! وهناك من يحطم الزوجة الأولى أمام الثانية، مما يصيبها بالذل والهوان، ويكسر قلوب أطفالها، يتسبب في حقدهم على والدهم! كأن يقول للزوجة الأولى: أنا ليس لي فيك رغبةً، إن أحببت البقاء مع أولادك أهلاً وسهلاً وإلا مع السلامة! لماذا هذا العرض في هذا الوقت المتأخر بالذات؟ لماذا لم يكن من قبل هذا الجمع الكبير من الأولاد؟ ضع نفسك في مكانها، ماذا سوف تختار من الخيارين المُرَّين؟ امرأة شابة وأم أطفال كثيرين، هل أذهب وأتركهم تلعب بهم العواصف، لا يجدون من يوجههم الوجهة السليمة أم أبقى معهم عرضة للفتنة! أخرج إلى السوق وأرى الرجال بغير إرادتي، أو أرى شاباً، أو أخا الجيران، أو أي شاب يجذبني، أنا شابة مثله، أريد زوجاً يعفني وفي مجتمعنا من يكون له مجموعة من الأولاد، ولا يعرف عنهم أهم الأشياء، أين يدرسون، وهل يصلون، وهل يصومون، وأين يذهبون، وهل البنات تستعملن الهاتف، وكيف يستعملنه، ومع من يتحدثن، وهل البنت تذهب للمدرسة حقاً، أم أين تذهب، ومن هي زميلاتها، وماذا عن تنظيم وقتها ماذا وماذا وماذا وكيف؟! لقد سمعت أن 25 حفلة زفاف سوف تقام لرجال عندهم نساء، والله إني حمدت الله تعالى واستبشرت خيراً أنهم سوف يتزوجون، ولم نسمع أنهم سوف يسافرون إلى بلاد الفساد، فهذه أيضاً نعمة من الله عز وجل إذا تعمقنا في التفكير، وأصدقك القول: إنني فيما مضى من الوقت كنت أحب الدعاء للإسلام والمسلمين، وأقوم آخر الليل أدعو للمسلمين، ولكني هذه الأيام شغلت بنفسي، أقوم آخر الليل أدعو لنفسي، أن يصلح الله لي زوجي، ولا أفقد اهتمامه بي أنا وأطفالي) إلى آخر ما قالت هذه الأخت الكريمة.
على كل حال المقصود هو لفت نظر الأزواج إلى أنه في حالة وجود شيء من تعدد الزوجات، فإنه ينبغي أن يراعي الإنسان في ذلك العدل قدر ما يستطيع.(241/40)
أبوة وعقوق
بلا شك أن الزوجية وسيلة إلى تحصيل السعادة الزوجية، التي يبحث عنها الإنسان والمتعة، فضلاً عما تنتجه من إنجاب الذرية الصالحة من الأولاد والبنات، وهو من أعظم ما يسعد به الرجل والمرأة، أحياناً الأطفال يملئون البيت صراخاً وضجيجاً، وفي المقابل يملئونه سعادة وعذوبة وحناناً، وبعض البيوت التي ليس فيها أولاد كأنها قبور مغلقة على أهلها، خاصة إذا كانت الحياة الزوجية عادية، ليست راسخة العلاقة، ولا عميقة الود، ولا فياضة العواطف، ولذلك كان الشاعر القديم يتطلع إلى بناته ويقول: لولا بنيات كزغب القطا رددن من بعض إلى بعض لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض(241/41)
عمر الأميري يصور فرحه بأطفاله
وقد أفلح الشاعر عمر الأميري في تصوير فرحه بأطفاله، وعبثهم في المنزل، وحزنه لفقدهم، وفقد صخبهم وضجيجهم: أين الضجيج العذب والشغب أين التدارس شابه اللعب أين الطفولة في توقدها أين الدمى والأرض والكتب أين التشاكس دونما غرض أين التشاكي ماله سبب يتزاحمون على مجالستي والقرب منى حيثما انقلبوا يتوجهون بسوق فطرتهم نحوي إذا رغبوا وإن رهبوا فنشيدهم بابا إذا فرحوا ووعيدهم بابا إذا غضبوا بالأمس كانوا ملء منزلنا واليوم يا لليوم قد ذهبوا في كل ركن منهم أثر وبكل زاوية لهم صخب في النافذات زجاجها حطم في الحائط المدهون قد ثقبوا فالصحن فيه بعض ما أكلوا في علبة الحلوى التي نهبوا في الباب قد كسروا مزالجه وعليه قد رسموا وقد كتبوا في الشطر من تفاحة قضموا في فضلة الماء الذي سكبوا إني أراهم حيثما اتجهت عيني كأسراب القطا سربوا هذا الروح الذي جعله الله تعالى في قلوب الأبوين للأبناء، يقابله في الإسلام بر وحنان وعطف، حتى إن الولد أو البنت يقدر والده وأمه أكثر مما يقدر نفسه، وهذا كثير جداً، وقد يضحي الولد أو البنت بحياته من أجل الوالدين حتى إنني أعرف من البنات، ومن الأولاد، من ترك الزواج من أجل القيام على أمه، أو على أبيه، وأعرف بنفسي حالات من هذا القبيل، في المقابل انظر ماذا يجري في بلاد الغرب من قطيعة، يظهر لك من خلال هذا الخبر الطائر.(241/42)
صور من العقوق
مجلة الرابطة في العدد (320) تذكر خبراً عن محاولة امرأة نصرانية، عمرها خمسة وخمسين سنة الانتحار داخل إحدى الكنائس، أنجبت سبعة أبناء، وسهرت على تربيتهم إلى أن كبروا وتعلموا، ثم هاجروا جميعاًََََ إلى خارج البلاد، وتركوها وحيدة مع زوجها العجوز, ولم يسأل عنها أحد منهم طيلة السنوات الماضية, أصيبت من جراء ذلك باكتئاب نفسي، دفعها إلى محاولة الانتحار بشرب سم الفئران، إلا أن ممن في الكنيسة نقلوها إلى مركز الإسعاف، وقد عثر في حقيبتها على ثلاث رسائل، واحدة موجهة إلى زوجها، والثانية إلى أبنائها، والثالثة إلى راعي الكنيسة, تطالب الأم في هذه الرسائل بضرورة التئام الأسرة، والعمل على نشر المودة والحب بين الأفراد، وإزالة هذه القطيعة التي تدمر الحياة الغربية.
ولذلك نجدهم في الغرب يهتمون بالكلاب، ويفضلونها على أولادهم، فالأب مستعد أن يتخلى عن ولده، لكنه ليس مستعداً بحال من الأحوال أن يتخلى عن الكلاب! فالكلاب عندهم أولى من الولد، وقد ذكرت هذا لبعض الظرفاء فذكرني بالحديث الضعيف، الذي يقول {لأن يربي أحدكم جرو كلب في آخر الزمان خير من أن يربي ولداً لصلبه} والحديث بكل حال ليس صحيحاً فلا يعمل به.(241/43)
قصيدة لابن الرومي
ويعجبني كثيراً قصيدة ابن الرومي، وهو يرثي أحد بنيه محمداً، لما توفي وله عدة أبناء، قال قصيدة من عيون الشعر، يبكي فيها ولده، ويقول مخاطباً عينيه: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي فجودا فقد آوى نظيركما عندي محمد ما شيء توهم سلوةً لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد أرى أخويك الباقيين كليهما يكونان للأحزان أورى من الزند وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدنا يكون الفاجع البين الفقد لكل مكان لا يسد اختلاله مكان أخيه من صبور ولا جلد(241/44)
خولة تتحدث عن الدعاة
وأخيراً وليس آخراً هذه إحدى الأخوات تتحدث إلى الدعاة، وقد بعثت إليَّ بهذه الرسالة، وورقة مصحوبة، تطلب مني أن أقرؤها من خلال إحدى الدروس، وقد كتبتها إلى الشيخ عبد الوهاب الناصر حفظه الله- تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: قرأت كتاب (رسائل إلى الأحبة) للشيخ عبد الوهاب الناصر، فتساءلت، لماذا هذا الشيخ حريص علينا؟ بل حريص على المجتمع من الدمار وسوء الخاتمة؟! هل له هدف مادي أو دنيوي أو معنوي، يسعى إليه؟! فها هو ينصح أصحاب محلات الفيديو بإغلاق محلاتهم، فهل هو يريد من الناس أن يتجهوا إلى محلات أخرى؟ سرعان مازال هذا الشعور عندما رأيته يذكر الطبيب المسلم، في تلقين المحتضر الكلمة الخالدة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فماذا يطمع في هذا الرجل المحتضر، الذي قد يموت عن قريب، هل يريد أن يكسب زبوناً؟ لا والله لا يريد أن يكسبه زبوناً، بالمعنى المادي الذي انتشر بين الناس، لكن خوفه عليه ومحبته له وغيرته على دينه وخوفه من الله، ورجاءه رحمة ربه، هو الدافع والدافع الوحيد، فإلى هذا الحد يا علماءنا وشيوخنا تحبوننا! وإلى هذا الحد تخافون علينا من الله، إننا لمقصرون في حقكم ولم نكافئكم ولو برد السلام عليكم، وأنتم الذين تسلمون علينا، وتخافون علينا، وتدعون لنا في ظهر الغيب، ولا نملك إلا أن نكافئكم على صنيعكم ولا نستطيع، ولكننا ندعو الله تعالى لكم بالخير والسداد، وأن يجازيكم على ذلك خير الجزاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته" هذه على كل حال نموذج لتذكير مجموعة من الناس.(241/45)
الأسئلة(241/46)
فتوى ابن عثيمين في شراء الأسهم
السؤال
هناك سؤال آخر عن أسهم البنوك، وعن الشركات الأخرى مثل الشركات الزراعية من سابك ومبرد، وشركات أخرى كثيرة، كشركة صافولا.
هذه فتوى حول شراء الأسهم قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى مبيناً حكم المساهمات في البنوك وغيرها: الفتوى: 1- إذا كانت المساهمة في بيوت الربا، مثل البنوك؛ فإنه لا يحل لأحد أن يساهم فيها، وذلك لأنها إنما أنشئت وقامت على الربا، وما يكون فيها من المعاملات على الحلال فإنها معاملات قليلة، بالنسبة للربا الذي يمارسه أهل البنوك.
2- أما إذا كانت المساهمات فيها يراد بها الاتجار بصناعة، أو زراعة، أو ما أشبهها، فإن الأصل فيها الحل، ولكن فيها شبهة؛ وذلك لأن الفائض عنده من الدراهم يجعلونه في البنوك، فيأخذون عليه الربا، وربما يأخذون من البنوك دراهم ويعطونهم الربا، فمن هذا الوجه نقول: إن الورع ألا يساهم الإنسان في هذه الشركات، وإن الله سبحانه وتعالى سوف يرزقه إذا علم من نيته أنه إنما ترك ذلك تورعاً وخوفاً من الوقوع في الشبهة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه} ولكن ما الحال إذا كان الإنسان قد ساهم، أو كان يريد المساهمة دون أن يسلك الطريقة الأفضل وهي طريق الورع، فإننا نقول الحل في هذه الحال: أنه إذا قدمت الأرباح، وكان فيها قائمة تبين مصادر هذه الأرباح فما كان مصدره حلال فإنه حلال، وما كان مصدره حراماً مثل أن يصرح بأن هذه من الفوائد البنكية، فإنه يجب على الإنسان أن يتخلص منها بالصدقة بها، لا تقرباً إلى الله، ولكن تخلصاً من إثمها؛ لأنه لو نوى التقرب بها إلى الله فهي لم تقربه منه؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، ولم يسلم من إثمها؛ لأنه لم ينو التخلص منها، أما إذا نوى التخلص منها فإنه يسلم من إثمها وربما يؤجر على صدق نيته وتوبته.
وإن كانت هذه الأرباح ليس فيها قوائم تبين المحذور من المباح، فإن الأولى والأحوط أن يخرج الإنسان نصف الربح، ويبقى نصف الربح له حلال؛ لأن المال المشتبه بغيره إذا لم يعلم قدره فإن الاحتياط أن يخرج النصف، لا يَظْلِم الإنسان ولا يُظْلَم.
نقلا عن خطبة الجمعة بتاريخ 11/4/1412بمسجده وهي مسجلة في شريط بعنوان (قولنا في الأسهم) فليرجع إليه.
وبناءً على ذلك نقول لمن يسأل عن شركة صافولا، أو سابك، أو غيرها: أن الأولى والأحوط والأفضل في حقهم ألا يساهموا أو يشاركوا، لكن إذا حصل وأن ساهموا وشاركوا، إما قبل أن يعلموا، أو لأنهم لم يسلكوا مسلك الأولى والأحوط والأفضل، فإنه يقال لهم: إذا ظهرت الأرباح فإن ظهرت معها قوائم تقول مثلا (10%) من هذه الأرباح صادرة نتيجة للفوائد الربوية، أو فوائد بنكية، فيجب أن يتخلصوا من هذه (10%) والباقي لهم حلال، أما إذا لم يعلموا مقدار الربح الذي جاء عن طريق البنك، ولم تظهر قوائم بذلك، ولم يعرفوا عن طريق الاتصال بالشركة مثلاً، فإن الأفضل والأحوط في حقهم أن يخرجوا نصف الربح (50%) منه على سبيل الاحتياط ليأخذوا نصف الربح وَيَدَعُو النصف لأنه لا يمكن ترجيح أحد الطرفين على الآخر.
هذا وأسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق والسداد.
خاتمة: ذكرت لكم أنني سوف أتكلم عن موضوعات المرأة، وعندي أشياء كثيرة وكثيرة جداً، وصلتني من الإخوة وأكثرها من الأخوات أيضاً، وبالمناسبة فإني أسدي لهن ولهم جزيل الشكر والدعاء على مشاركتهم، وحرصهم وتفاعلهم، وتعاطفهم مع مثل هذا الموضوعات، وهذا يبشر إن شاء الله أنه لا يزال في مجتمعنا خير كثير وخيرات كثيرة، ونحمد الله تعالى على ذلك، ونسأل الله أن يكثرهما، ويبارك في جهودهم وفي أعمالهم، ويوفقهم لصالح القول والعمل، وسوف تكون إن شاء الله دروس كثيرة مجالاً لمثل هذه الموضوعات بين حين وآخر، ولعله لا يخلو شهر أو شهرين من موضوع يعالج بعض القضايا النسائية.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم اغفر لنا واعف عنا، اللهم أصلح ظاهرنا وباطننا، وسرنا وعلانيتنا، يا حي يا قيوم! اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا، اللهم لا تفضحنا بعيوبنا، لا حول ولا قوة إلا بك، يا حي يا قيوم! اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا، ولا تفضحنا بعيوبنا، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا، ولا تفضحنا بعيوبنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وإن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء، وتهدي من تشاء، وأنت ولينا، فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
اللهم اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، إنك على كل شئ قدير، اللهم وأصلحنا وأصلح بنا، إنك على كل شئ قدير، اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا الله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.(241/47)
حكم المساهمة مع البنوك العاملة بالمملكة
السؤال
هل تجوز المساهمة مع البنوك العاملة بالمملكة، أمثال البنك السعودي الأمريكي، والبنك السعودي التجاري المتحد، والتي طرحت أسهمها الآن للاكتتاب العام، وغيرها من البنوك؟ أفيدونا جزاكم الله عنا ألف خير؟
الجواب
لا تجوز المساهمة في البنوك الربوية، كما لا تجوز المعاملات الربوية مع البنوك وغيرها؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان، والله سبحانه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2] .
بسم الله والحمد لله: ما ذكر أعلاه من الجوابين عن حكم المساهمة في البنوك، المنقولين من مجلة الدعوة فهو صحيح، وقد صدر مني ذلك، والله ولي التوفيق.
قاله الفقير إلى عفو ربه عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، عفا الله عنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أله وصحبه، عبد العزيز بن عبد الله بن باز حرر في 8 ربيع الآخر سنة 1412هـ.(241/48)
حكم من يرفض دخول الكتب الإسلامية والأشرطة إلى بيته
السؤال
ما رأيك في رب بيت يرفض الكتب الإسلامية والأشرطة أن تدخل إلى بيته، ويقول الأب: لازم أن أطلع عليها، ويقول السائل: أن أهل البيت -مثلاً- لا يعرفون مثل حكم التدخين، والغناء، والتلفاز، والفيديو، حيث إنها موجودة عنده، ولا يريد أن يعرفوا الحكم؟
الجواب
والله هذه مشكلة، يريد منهم أن لا يعرفوا أن التدخين حرام حتى لا ينتقدوه في ذلك، لا؛ الواقع أنه ليس من حقه أن يمنع دخول هذه الأشياء، ويا ليت أننا نستخدم قوتنا وإمكانيتنا في منع دخول التلفاز، والفيديو، والمجلات الخبيثة إلى البيوت، والبومات "الصور السيئة"، ومنع دخول مجلات الأزياء، والأشرطة الغنائية الخبيثة، وصور الرجال مع الفتيات في الحقائب المدرسية، وما أشبه ذلك، أما مثل الكتب والأشرطة الإسلامية، فهذا في الواقع خير، ليس صحيحاً أنها تسبب للبنت أي مشكلة بالواقع، خاصة إذا كانت أشرطة من علماء ودعاة معروفين، إنها تربي البنت تربية سليمة، وتصحح أوضاعها.(241/49)
حكم بيع وشراء أسهم البنوك
فتوى: هذه الفتوى حول موضوع كثر السؤال عنه جداً في هذه الأيام، ورأيت أن اقرأ هذه الفتوى؛ لأنها تضع حداً لمثل تلك التساؤلات الكثيرة، إنها عن حكم شراء وبيع أسهم في بنوك الربا العام، هذه أسئلة حول هذا الموضوع، أجاب عليها سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز السؤال يقول: ما حكم شراء أسهم البنوك وبيعها بعد مدة، بحيث يصبح الألف بثلاثة آلاف مثلاً وهل يعتبر ذلك من الربا؟
الجواب
لا يجوز بيع أسهم البنوك ولا شراؤها، لكونها بيع نقود بنقود وبغير اشتراط التساوي والتقابض؛ ولأنها مؤسسات ربوية لا يجوز التعامل معها لا ببيع ولا شراء، لقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2] ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء} رواه مسلم في صحيحه وليس لك إلا رأس مالك.
ووصيتي لك ولغيرك من المسلمين هي الحذر من جميع المعاملات الربوية والتحذير منها، والتوبة إلى الله سبحانه مما سلف من ذلك؛ لأن المعاملات الربوية محاربة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومن أسباب غضب الله تعالى وعقابه، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276] وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ولما تقدم من الحديث الشريف.(241/50)
معارضة الزواج المبكر
السؤال
ما رأيك فيمن يعارض الزواج المبكر، حيث أنني وجدت من أبي معارضة على زواجي، حيث أنني في العشرين من عمري؟
الجواب
ما شاء الله! أنت في العشرين ومع ذلك الزواج المتأخر متى يكون؟! الزواج المبكر في العشرين معقول، لا أقول: لا، لكن الزواج المبكر يكون حتى بأقل من ذلك، فإن المرأة إذا نضجت وأكتملت أنوثتها أصبحت تتطلع إلى الرجل، وأصبح من الممكن أن تقوم بحقوقه وطموحاته وتطلعاته، وربما يكون المسارعة في تزويجها، وكذلك المسارعة في تزويج الشاب في أول حياته، خاصة بعد الاطمئنان إلى الطرف الآخر أنه مناسب يكون هذا من أهم أسباب درء الفتنة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: {إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد مبين} تكون فتنةٌ في الأرض؛ لأن تأخير الزواج مدعاة إلى أن هذه العواطف المكبوتة عند المرأة والرجل تذهب إلى مصرف غير صحيح.(241/51)
مطالبة بإلغاء جريدة الصباحية
السؤال
هذه تطالب بإلغاء جريدة الصباحية، وأمثالها من الصحف الأخرى.
الجواب
في الواقع هناك حل يسير على من يسره الله عليه، لو كنا صادقين في معالجة هذه الظواهر، وقد قلته بالمجلس سابق، من هو الذي يشترى هذه الصحف؟ ومن الذي يتعاطها؟ ومن الذي يدفع المال ليشتريها؟ من هو الذي يجعل الكميات المطبوعة منها تزداد يوماً بعد يوم؟ والله بإمكاننا يا إخوة! أن نجعل هذه الجريدة تتكدس أكواماً في البقالات ثم يرجعونها إلى أصحابها، وبالتالي تتوقف عن الصدور، بإمكاننا أن نفعل ذلك لو كان مجتمعنا مترابطاً ومنزهاً ومؤمناً بالله حق الإيمان، ولو كانت كلمتنا واحدة، ولو استخدمنا سلاح المقاطعة.
المجلة التي تكلمت عنها هي جريدة الصباحية، أو غيرها من الصحف، لو قمنا بمقاطعتها، وعدم شرائها بحال من الأحوال، وإعلان الحرب عليها، ودعوة الناس الآخرين إلى مقاطعتها، اعتقد أنها تلقائياً سوف تتوقف عن الصدور، ولكن المشكلة أننا نحن نغذيها بأموالنا وبجيوبنا وبإقبالنا عليها وبقراءتنا لها، مع أنه ينبغي أن تكون هناك ضغوط، واتصال بالصحف مثلاً، ولا نيأس.
جاءني قبل فتره أحد الإخوة بمقال في جريدة كويتية، وهو مقال سيئ يتكلم عن الدعاة، فقلت له: يا أخي! جزاك الله خيراً، اتصل بصاحب الجريدة، فقال: لا ينفع، قلت: جرب، فاتصل به وتحدث معه وهاتفه، فاستجاب لذلك ووعده خيراً، فقال ذلك الصحفي للأخ المتصل به: أنا وجريدتي تحت تصرفك، وأقسم بالله أن أي مقال ترسله لي رداً على ما كتبته سوف أنشره بكامله دون تعديل.
لماذا لا نتصل نحن بمثل هؤلاء؟ ولماذا لا نحادثهم؟ ولماذا لا نطالبهم؟ ولماذا لا نعلن لهم اعتراضنا على ما يكتبون، وعلى ما يقولون، وعلى ما ينشرون؟! كذلك يمكن أن يكون هناك اتصالات من طلبة العلم والعلماء، بالجهات الإعلامية المختصة، لمنع هذه المطبوعات التي تعارض قيم هذا المجتمع التي قام عليها، وتكامل بنيانه على أساسه.(241/52)
برنامج لتعليم المرأة في بيتها
السؤال
ما رأيك في برنامج لتعليم المرأة في بيتها خاصة التي لم تدرس، فيكون مع أهلها ومع نفسها، وهل تجعل لها في البيت أخاً ترجع إليه في أمورها الخاصة؟
الجواب
هذه فكرة ضرورية، أن يكون في البيت برنامج لتعليم النساء ما يحتجن إليه في أمور الدين، تعليمهن كيفية الوضوء، كيفية الغسل، والطهارة، وأحكام الحيض، وأحكام النفاس، وأحكام الصلاة، وأحكام الذكر، وأحكام القرآن، وطرائق التربية، وأمور العقائد، وأركان الإيمان: الإيمان بالله، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالملائكة، وبالجنة والنار، وبالكتب، وبالنبيين، وبالقدر، والتحذير من الأشياء المنحرفة.
تربية المرأة، وتعليمها تحتاج إليه في أمور دينها ودنياها، في كل هذه الأشياء، كذلك تعليمها أركان الإسلام، وفي الدرجة الأولى الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وما تحتاج إليه من ذلك كله، ويكون لها أخ ترجع إليه في ما أشكل عليها.(241/53)
تزويج البنات بالشباب الملتزم
السؤال يقول: ما أحسن تزويج بناتنا بالشاب الملتزم!!
الجواب
أقول هذا بعد معاناة ومشاهدة لألم وحرقة أخواتنا اللاتي في يد شباب منحرفين، من سهر، وشرب، وترك للصلاة، حتى أعرف إحداهن وهي تعض أصابع الندم، وتلقي باللائمة على أهلها، من تزويجها من هذا الشاب، وتتمنى زواجها من أحد الشباب المتدينين.
أقول هذا عظة وعبرة لإخواني المسلمين، وأخواتي المسلمات، على كل حال هذه شهادة نعتز بها من إحدى الأخوات، ونرجو أن يعتبر الباقون بالذاهبين، فلا شك أن تزويج الأب ابنته من رجل سكِّير مثلاً أو فاسد أمر في غاية السوء، يسكر في ليله، فيتأخر مع زملائه، ويضربها ويؤذيها، وهو غير صاحٍ، ويتربى أولاده وأطفاله على مثل هذه الأمور، وطالما عانت البيوت من مثل هذه المشاكل، التي تبدأ ولا تنتهي، لأن المرأة بعدما تورطت في الزواج ما عادت القضية مجرد رأي، فالمرأة قبل أن تتزوج، من الممكن أن ترفض هذا الإنسان ولكن لما تتورط معه في أولاد، وتصبح قضية الفراق صعبة جداً، فينبغي أن ينتبه لذلك.(241/54)
مشاركة من امرأة مطلقة
هذه رسالة أخرى تقول: السلام عليكم ورحمة الله أما بعد فأنا امرأة مطلقة من رجل منذ حوالي ست عشرة سنة، وأتيت من هذا الرجل بنتاً، ثم قدر الله لي أن أتزوج رجلاً آخر، فابنتي كبرت وأصبح أبوها يحضرها لي تزورني، ومنذ ثلاث سنوات تقريباً منعها من زيارتي، وإذا زرتها منع أهلها أن يمكنوني من رؤيتها، ويهدد ويتوعد إن أنتم جعلتموها ترى ابنتها لأغضبن عليكم، ويمنع البنت من مكالمة أمها بالهاتف، فماذا يمكن أن أعمل تجاه هذه المشكلة، مع العلم أنه تقدم لها الخطاب ولكن أباها منعها من الزواج، وأخذ حريتها مع أمها، ويقوم بضربها إن رأت، أو كلمت على أمها هاتفياً ويتوعد على ذلك؟
الجواب
نسأل الله العافية والسلامة هذا أب ممسوخ القلب، ممسوخ الفطرة، ميت الضمير، عديم الإحساس، من يحول بين البنت وبين أمها! الأم التي فرحت بها، وكأن الدنيا كلها في يدها، يوم وضعت هذه الطفلة الوليدة بين يديها وكانت كما قالت المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان صدري لها وعاء؛ وحجري لها حواء} ثم لما كبرت وطلق أمها، يحول بينها وبين أمها، ويمنعها من الاتصال بها، ويمنعها من زيارتها، ويمنعها من مكالماتها بالهاتف، أنا والله لا أدري أي مشاعر يعيشها مثل هؤلاء؟! لم أكن أتصور أن قسوة القلوب، وجمود الأحاسيس، تصل بإنسان إلى هذه الدرجة! يعني تحول بين امرأة وبين أمها.
نحن يا إخواني إذا رأينا قطة تموء وتتحرك وتصيح تبحث عن طفلها، الواحد يعطف ويتأثر، فما بالك بإنسان كائن حي مكرم عند الله عز وجل، وله مكانة وله قدر وله منزلة، تحول بين البنت وأمها، من أين سوف تستقي هذه البنت الحنان؟ ومن أين سوف ترضع البنت الخبرة؟ وأين سوف تتعلم أمور الحياة؟ ألا تدري أيها الأب! أن هناك كثيراً من البنات تبلغ هذا السن وتتجاوزه، والله ما عندها من الخبرة أقل القليل، وقد يكون هذا السبب في وقوعها في أمور كثيرة جداً، وعندي من ذلك خبر يطول الكلام به، أن بعض الفتيات تجهل بديهيات في الحياة الزوجية، منهن فتيات لا تعرف قضية الحيض، وما تدري كيف الحيض، ولا أحكام الحيض! وفتيات لا تعرف البكارة، وأنها ميزة للفتاة، وأنه ينبغي المحافظة عليها! لا تدري هذا، ومنهن من لا تعرف كيف تتعامل مع زوجها، وأمور قد تكون عندي وعندك بديهية واضحة، لكن البنت إذا لم تعلم من أين تعلم فمن سوف يعلم البنت هذه الأمور؟ ثم من سيرضع البنت من طفولتها، ويعلمها في كبرها العطف والحنان والشفقة إذا لم تكن أمها؟ هذا من جهة.
من جهة أخرى هذه الأم من سيسد الفراغ الموجود في قلبها لبنتها؟ للبنت خانة في قلب الأم لا يسدها إلا هذه البنت، فالأم تتطلع إلى بنتها, ووالله إني أعتقد كما قلت قبل قليل، أن أماً محرومة من رؤية بنتها تتألم على بنتها، وتحاول أن تتصل بها بكل وسيلة، ثم يحال بينها وبينها، فترفع دعوة إلى رب العالمين؛ لأنها لا تملك مسألة الذهاب للقاضي، ومسألة الشكوى في كثير من الأحيان تطول وتعرض، ويدخلها مجال لف ودوران، وحيل وألاعيب، وتنتهي أن المرأة أو الإنسان ييأس ويترك الأمر، ولكن هناك باب لا يغلق أبداً، باب رب العالمين، إذا دعت دعوة صادقة وكانت محقة فيها، والله تحيط بك هذه الدعوة، والله يحيط بك، والله قد يحرم الإنسان من أغلى ما يملك، قد يعاقب في دنياه، وقد يعاقب في آخرته، فليتق الله أولئك الآباء، وليعطفوا على أبنائهم، وليتقوا الله تعالى في أنفسهم، فإنهم إن ضروا فإنهم يضرون أنفسهم، وإن أسرفوا فإنما يسرفون على أنفسهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:23] بغيك على نفسك، وظلمك إنما هو لنفسك؛ وإلا فإن الآخرين قد يستطيعون أن يتجاوزوا هذه العقبات، التي تضعها أنت أمامهم، عقبات للأسف الشديد ليست من عدو كاشف عن عدائه، بل من عدو في ثياب الأصدقاء! ومنهم عدو أعظم الخطب قربه له فيهم فعل العدو المفارقِ فاتقوا الله أيها الآباء! راعوا الله تعالى في هذه الأمانات التي وضعها في أيديكم.(241/55)
مشاركة من امرأة مسلمة
مشاركة/ هذه إحدى الأخوات تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لإيجاد صحوة منضبطة في أوساط النساء لابد من الآتي، وذلك من وجهة نظري الخاصة:- 1.
أن تعي المرأة المسلمة دورها في بناء المجتمع المسلم، بدءاً من المجتمع الصغير ألا وهو الأسرة.
2.
أن تدرك عند سماع التوجيهات الخاصة بالمرأة، أنها هي -وليست غيرها- المخاطبة بذلك النصح والإرشاد.
3.
أن تنتقل عند سماع الخطب والمواعظ من طور الروتين إلى درجة الوعي الجدي، أي من السماع أثناء الانشغال في ذلك إلى تخصيص ساعة أو ساعات في ذلك.
4.
أن يكون هناك تطبيق عملي دون النظري إلى الأخريات على حساب تعليم الشرع.
5.
الاعتزاز بالدين والافتخار بالتمسك به، وتطبيقه على أرض الواقع.
6.
الابتعاد عن وسائل الهدم والإغراء المتمثلة في التلفاز، والفيديو، والمجلات الهابطة، والجرائد.
7.
أن تبعد المرأة المسلمة عن كل ما يشوب دينها في أي مجال، سواء كانت هذه الشوائب ظاهرة الآن أم لا وخاصة الطالبة.
هذا ما أملاه علي خاطري المعبر، عما أحس به في قلبي، وأرجو من الله العلي الحكيم، وإن كان نزراً يسيرا أن يجعله مشاركة مني في هذا الهم الكبير في صناعة الحياة، والله الموفق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وتطلب قراءة هذه الرسالة، التي تحسبها من القلب، وهي إن شاء الله من القلب، ونرجو أن تكون من القلب إلى القلب، وها أنا قد قرأتها وبقي عليكم معاشر الأخوات العمل والتطبيق.(241/56)
حديث الروح
هذا الدرس حديث محب إلى أحبابه، حديث معلم مشفق إلى طلابه، بعد غياب عنهم استمر ثمانية أشهر، وهو يتكلم في جوانب مختلفة تتعلق بالدعوة إلى الله تعالى.(242/1)
ترحيب وإشادة واعتذار
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه الذين قضوا بالحق وكانوا يعدلون.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] .
ربِّ لك الحمد لا أحصي الجميل إذا نفثتُ يوماً شكاة القلب في كرب فلا تؤاخذ إذا زل اللسان وما شيء سوى الحمد في الضراء يجمل بي لك الحياة كما ترضى بشاشتها فيما تحب وإن باتت على غضب رضيت في حبك الأيام جائرةً فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب(242/2)
الترحيب بالجمع الحاضر
أيها الأحبة: أود أن أرحب بكم ترحيباً حاراً، يتناسب مع هذا الجمع الغفير، الذي حضر في هذا المسجد، لحضور مجلس من مجالس العلم، والقعود في روضة من رياض الجنة، لكن الدهشة تعقد لساني وأنا أرى هذا الجمع يضيق به الرحب، فتموت الكلمات في فمي قبل ميلادها، خاصة وأنا أرى أمامي عدداً كبيراً من أصحاب الفضيلة المشايخ، وأهل العلم وأساتذة الجامعات ورجال الدعوة والإصلاح، من هذا البلد ومن غيره، فمعذرة -أيها الأحبة- لكم جميعاً، إن عيي اللسان وعجز البيان.(242/3)
الفرحة بوجود المشايخ
أحبتي في الله: يشهد الله تعالى أنني أفرح بمثل هذا الجمع، لكن لغيري أفرح به، لو كان احتشد لسماع صوت داعية من دعاة الحق النابهين، كأمثال الشيخ الكريم عائض بن عبد الله القرني، أو الشيخ عبد الوهاب الناصر، أو الشيخ سعيد بن زعير، أو الشيخ ناصر العمر، أو الشيخ سفر الحوالي، أو الشيخ صالح الونيان أو غيرهم من أصحاب الفضيلة وأهل العلم، أما أن يكون احتشد لسماع ما عندي، فهذا والله يحزنني ويضايقني، وذلك لعلمي أني لا أملك الشيء الذي جاءوا يطلبونه، ووفدوا من أجله، وإنني أحوج إلى هذا الشيء منهم، وكما قال أحدهم: (فاقد الشيء لا يعطيه) ومع ذلك فإنه لا يفوت لي أن أشيد بمعنى كبير من معاني هذا الحضور إلى حلق العلم، ومجالس الذكر، فإن هذه الجموع جاءت لتعلن بحالها ومقالها، أن الأمة لم تعد تلك اللاهثة وراء التوافه من الأمور، ولم تعد تلك الجموع الساذجة، التي تبدأ همومها وتنتهي عند مباراة كرة، أو سهرة في غناء، أو حفلة لا طائل من ورائها، لكنها أصبحت أمة تعنيها قضيتها وتهمها هويتها، وتسعى إلى حيث تظن أنها تجد العلم والدعوة والكلمة.
فهنيئاً أيها الإخوة لكل وافد إلى روضة من رياض الجنة، تتنزل فيه الرحمات، وإلى حيث يباهي الله تعالى ملائكته، وينزل رحمته ويقول: {هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} .
أيها الإخوة: يشهد الله تعالى أنني أتيت إلى هذا الموقع، وكل ما أتمناه أن أكون ممن يقول الله تعالى له: {هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} فأكون غير شقي بمجالستكم ومقابلتكم لعل رحمة الله أن تنزل فتعمني وتعمكم أجمعين، وتحية أيها الأحبة، لكل شاب آثر الجد في حياته على العبث، وآثر العمل على اللهو، وآثر الدعوة والإصلاح على الضياع والغفلة.(242/4)
هذه المجالس أثر نبوي
أيها الإخوة: إن هذه المجالس التي نجلسها والدروس التي نتحدث فيها ونعقدها، هي أثر نبوي وهدي محمدي، نقتفي فيه أثر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم كان يجمع أصحابه إليه ليصل الأرض بوحي السماء، ثم كان أصحابه من بعده على إثره، فكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يجلس بأهل الكوفة كل خميس، ومثله كان أبو هريرة رضي الله عنه في المدينة وابن عباس في مكة، ومعاذ في الشام وهكذا، ثم ورث هذه المهمة الجليلة النبيلة علماء الإسلام، جيل بعد جيل، ورعيل بعد رعيل، وأمة إثر أمة، يأخذ الآخِر عن الأول.
أيها الأحبة: إن كل بضاعتنا، آية محكمة أو سنة ماضية، أو علم ينتفع به، وما كانت مجالس العلم في المساجد يوماً من الأيام، مجالس لهو ولعب، ولا مجالس عبث ومتعة، ولا مجالس سفه ولذة، وإنما يقفو فيها الدعاة أثر أنبياء الله ورسله، ينادي كل منهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] أما غير هذا فليس من بضاعتنا، وقد رضي الدعاة كلهم.
من عاجل الدنيا بهذا الفرح الغامر المتصل الذي يعمر قلوبهم، فيحسون به في كل بسمة صدق، وفي كل رعشة طرف، وفي كل تحية، وكل كلمة، وكل خطوة، بل وفي كل غمضة عين، فإذا رأوا أرباب الدنيا، وما هم فيه من الكد والنكد والهم المقعد المقيم، انطلقت ألسنتهم بعفوية تامة، وأيديهم مرفوعة إلى السماء تقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم به، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا.(242/5)
الدعاة ملوك على الأسرة
إن الدعاة إلى الله تعالى يركبون اليوم وفي كل يوم ثبج هذا البحر المتلاطم اللجي، ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الغزاة الذين يركبون البحر مجاهدين في سبيل الله حين رآهم في منامه، فاستيقظ وهو يضحك أنه قد رأى أناساً من أمته ملوكاً على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة، غزاة في سبيل الله تعالى، والدعاة إلى الله لا يرضون أبداً أن تكون الدنيا كلها جزاء لبعض ما عملوه وقدموه، فضلاً عن أن تكون جزاء لكل ما عملوه وقدموه، فلئن كان لهم على جهادهم في سبيل الله تعالى أجر في الآخرة، فهم لا يبيعون أجرهم من الآخرة بعاجل الدنيا، ولا يبيعون الذهب بالخزف، ولئن كانوا محرومين من الأجر، فما فاتهم من أمر الآخرة لا يعوض بثمن، ولا ينفع بعده أن يملكوا الدنيا وما فيها، فهم قد رضوا بالدار الآخرة، حين رضي غيرهم بالدنيا، قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] .(242/6)
سبب توقف الدروس
كان آخر درس انعقد في هذا المسجد المبارك، هو برقم (34) وكان بعنوان (الشريط الإسلامي ما له وما عليه) وكان بتاريخ (1/6/1411هـ) ، وحصل بعده التوقف بسبب السفر، ثم الامتحانات إلى غير ذلك من الأسباب التي هي غير خافية عليكم، إن المدة التي فصلت بين هذا الدرس الذي نعقده الآن، وبين ذاك الدرس هي ثمانية أشهر بالكمال والتمام، بقي شهر واحد لتصبح تسعة أشهر، ولو كان ذلك كذلك لصح فيها قول العقاد في قصيدته المشهورة، التي ألقاها على ضريح سعد حينما خرج من السجن، وكان يقول في مطلعها:- إلى الذاهب الباقي ذهاب مجدد وعند ثرى سعد مثاب ومعهد إلى مرجع الأحرار في الشرق كله إلى قبلةٍ فيها الإمام موسد خرجت له أسعى وفي كل خطوة دعاء يؤدى أو ولاء يؤكد وشاهدي من تلك القصيدة: قوله:- وكنت جنين السجن تسعة أشهر وهأنذا في ساحة الخلد أولد ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجى وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد وما غيبتني ظلمة السجن عزمة فما كل ليل حين يغشاك مرقد وما غيبتني ظلمة السجن عن سنىً من الرأي يتلو فرقدا منه فرقد عداتي وصحبي لا اختلاف عليهم سيعهدني كلٌ كما كان يعهد إنها معان كبيرة، فهو يقول: إن المرء العاقل اللبيب يكتسب كل يوم ميلاداً جديداً لخبرة وتجربة تحنكه لموقع قدمه، وإن المرء الجاهل يدفن في كل يوم بألوان من الجهالات، وسوء الرأي وخطأ التدبير.
ويقول: إن غيابة السجن لم تحطم عزيمتي، بل زادتني قوة ومضاء، فليس كل ليل يغشاك فرصة للنوم والرقاد، ويقول: لن يغير ما حدث لي شيئاً مما كنت عليه، فأعدائي وأصدقائي سيجدوني كما عهدوني لا اختلاف عليهم، فما أجمل ما قاله العقاد في قصيدته هذه.(242/7)
التردد في اختيار العنوان
أيها الأحبة: على أنني أشكركم على هذا الحضور المعبر كما أسلفت من هذا البلد، ومن بلاد ومناطق أخرى، إلا أنه يقلقني أن أرى هذا الجمع أمامي، فهذا الجمع ما حضر إلا ليسمع شيئاً ثميناً سميناً، وهذا الشيء الثمين السمين لا أملكه ولا أستطيعه، فلعل كرمكم الذي دعاكم إلى هذا الحضور، أن يدعوكم إلى أن تلتمسوا العذر لأخيكم في هذا الوقت وفي كل وقت، وقد خاطرت نفسي -أيها الأحبة- كثيراً فيما أتحدث به إليكم في هذه الجلسة الافتتاحية الحافلة، فلم أجد من المناسب أن أعالج موضوعاً خاصاً محددا، ً كما هي العادة في هذه الدروس، ولكني وجدتها فرصة للإفضاء إليكم بمجموعة من الخواطر والأحاسيس المتأججة في نفسي، وإن كانت متفرقة متناثرة، فالحديث -كما تقول العرب- ذو شجون.
ثم احترت في العنوان الذي يجمع شتات هذا الحديث فأطل علي اختيار الإمام ابن الجوزي رحمه الله وقال لي ليكن عنوان حديثك (صيد الخاطر) ولكن سبقه حسن تعبير محمد إقبال رحمه الله في قصيدته (جواب شكوى) فقال: بل حديث الروح فكان عنوان هذه الجلسة (حديث الروح) .
حديث الروح للأرواح يسري فتدركه القلوب بلا عناء هتفت به فطار بلا جناح وشق أنينه صدر الفضاء ومعدنه ترابيٌ ولكن جرت في لفظه لغة السماء لقد فاضت دموع العشق مني حديثا كان علوي النداء فحلق في ربا الأفلاك حتى أهاج العالم الأعلى بكائي(242/8)
جهود المشايخ في عودة الدروس
أيها الأحبة: وفي الوقت الذي أشكر فيه جميل مشاعركم وكبير جهودكم في عودة هذه الدروس إلى ما كانت عليه، فإنكم دون شك تدركون أنكم كنتم تصنعون شيئاً ترونه أنتم نافعاً للأمة، أو لأفراد من الأمة، وإنني إذ أقدر اجتهادكم وجهادكم وبلاءكم، أقدر أيضاً جهاد أولئك الأئمة الأفاضل النبلاء الذين كان لهم بلاء أي بلاء، وعلى رأسهم سماحة الوالد الإمام العلامة بقية السلف الصالح الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله، وفضيلة الشيخ العالم الداعية الموفق محمد بن صالح العثيمين، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن العجلان، وأمثالهم من مشايخ كُثر، لا يحضرني عدهم وحصرهم ولا أنسى منهم أيضاً الشيخ صالح الفوزان، والشيخ صالح اللحيدان، وغيرهم من كبار شيوخنا، ممن بذلوا جهودهم في عودة هذه الدروس ومشاركتنا ومشاركتكم جميعاً في ذلك.(242/9)
مفاهيم ضرورية(242/10)
تصورات ممكنة لخدمة الإسلام
أيها الأحبة: إننا نحتاج إلى مجتمع كل أفراده عقائديون، ليس فيهم من يكون انتسابه للإسلام انتساباً صورياً، ليس فيهم عضو شرف كما يقال، أو متفرج أو صفر على الشمال، أو مسلم بالمجان، هذا لا يكون ولا يجوز، ولا يجوز أبداً أن نظل نردد كل ما سمعنا خطباً يلم، أو مصيبة تنزل، أو منكراً يقع، أو معروفاً يختفي، أين فلان؟ ماذا عمل فلان؟ أين الشيخ الفلاني؟ أين العلماء أين الدعاة؟ لا؛ بل يجب أن تقول أين أنا؟ والسؤال أنت ماذا فعلت؟ وماذا قدمت؟ وما هو دورك الذي اطلعت به كفرد من أفراد المسلمين؟ نريد منك - بارك الله فيك- المشاركة الإيجابية، ولو بكلمة طيبة، ولو بدعوة صادقة في جوف الليل، بل ولو بخفقة قلب حزين يعبر عن الأسف لمصائب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
إن الأمة -أيها الأحبة- تنهار حين تضع مستقبلها في يد فرد واحد، مهما كانت منزلته، بل يجب أن تمارس الأمة وجودها في كل فرد من أفرادها.
ولو تصورنا الأفراد الإيجابين، الذين يمارسون ويؤدون مشاركتهم في هذا الأمة، لو تصورناهم عشرة ملايين فقط من بين مليار مسلم، كما يقال في الإحصائيات الرسمية، فماذا يمكن أن نتصور، كيف يمكن أن تكون الأحوال؟ لو أن كل فرد من هؤلاء الملايين العشرة في رقعة الإسلام من شرقها إلى غربها، لو أنه أشترى في الشهر نسخة من كتاب مفيد، ثم قرأه وأهداه؛ كان معنى ذلك أننا أوصلنا مضمون هذا الكتاب إلى عشرين مليون مسلم، في شهر واحد ولو أنه اشترى شريطاً واحداً فسمعه، وأسمعه أهل بيته، لكان معنى ذلك أن مستمعي هذا الشريط، لايقلون عن خمسين مليون مسلم في أسبوع أو شهر واحد، ولو أنَّ كل واحد منهم خاطب بالدعوة إلى الله تعالى، وساهم بنشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة، لدى ثلاثة أفراد فقط، لكان معنى ذلك أننا خاطبنا بالدعوة ثلاثين مليون إنسان في وقت واحد، من الذي يعجز عن ذلك؟! قل لي بالله عليك أي مؤسسة في الدنيا مهما عظمت جهودها، وكثرت وتضخمت إمكانيتها، تستطيع أن تجند مثل هذا العدد الهائل من المراسلين، أو أن تطبع مثل هذا العدد الهائل من الكتب، أو أن توزع مثل هذا العدد الهائل من الأشرطة، أين جهود المؤسسات التنصيرية التي تدعو إلى النصرانية، والمدعومة بالأعداد الهائلة من المنصرين، وبالأموال الطائلة، إن جهودها عند هذا العمل الإسلامي العظيم لا تعد شيئاً مع أن هذا العمل الكبير يمكن أن يقوم بجهودي وجهدك فحسب.
إن طالب المدرسة الابتدائية، يستطيع أن يوفر من ريال المقصف الذي يدفع له يومياً، أربع ريالات في الشهر، يشتري بها كتاباً أو شريطاً يستفيد منه، ثم يدعو به غيره، ولو أن كل مسلم من هؤلاء الملايين العشرة الذين اعتبرناهم إيجابيين، لو أنه أنشأ مشروعاً تجارياً متواضعاً، لا يتعد رأس ماله خمسين ألفاً، لكان معنى ذلك أن المسلمين يمتلكون عشرة ملايين مشروع تجاري، ولما صار المسلمون من الشعوب المتخلفة الفقيرة، بل شديدة الفقر التي أصبح يطلق عليها في هذا الوقت حزام البؤس، وكثير منهم لا يجد قوت يومه، وربما يموت عشرات الألوف من المسلمين جوعاً في مشارق الأرض ومغاربها.
دعنا من هذا كله، لنفترض أن إنساناً لا يريد أن يساهم بهذا ولا ذاك، أو لايطيق هذا ولا ذاك، لدينا أمر آخر، لو أن هؤلاء الملايين العشرة تصورنا أنهم قاموا في جوف الليل في ليلة واحدة، فدعوا الله دعوة صادقة من أعماق قلوبهم، لا يدعونه فيها بطلب دنيا، وإنما يدعون الله تعالى أن يرفع عن المسلمين البلاء الذي يحل بهم في المشرق والمغرب، وأن يفرج عن المسلمين مايحل بهم من الكربات، هل تتصور عشرة ملايين قلب صادق مخبت بعيون دامعة، وألسن متضرعة وأكف مرفوعة يدعون الله تعالى بدعوة واحدة، هل تتصور أن الله تعالى يمكن أن يرد دعاءهم؟ أظن هذا والله من سوء الظن بالله، ولا يمكن إلا أن يكون الله تبارك وتعالى أعلم من بين هؤلاء الملايين العشرة الذين هم صفوة المسلمين، والله أعلم أن يكون من بينهم من لو أقسم على الله لأبره، فأين الدعوات الصادقة؟! وأين القلوب الملهوفة؟! وأين النفوس التي أمضَّها الألم مما أصاب المسلمين ونزل بهم من الأحوال التي يطول عنها الحديث؟! إن الجهد المتواضع الذي يبذله أفراد كثيرون، أجدى على الأمة بكثير من جهد فردي يقوم به قلة من الناس، مهما تعاظم جهدهم ونما، والجهد الذي يقوم به الكثير أعظم بركة وأعظم أثراً وأبقى وأمنع من كيد الخصوم، من الذي يستطيع أن يمنعك من شراء كتاب، أو توزيع شريط واحد، أو مخاطبة فرد واحد بالدعوة إلى الله تعالى؟! لست أنكر يا أخي أننا بدأنا نلمس شيئاً من الإيجابيات التي ندعو إليها، وهذا التفاعل والمشاركة التي نطمح إليها، بدأنا نحس شيئاً من ذلك يجعلنا أن نردد مع الشاعر المسلم محمد إسماعيل قصيدته الجميلة المعروفة التي هي بعنوان: (قبول السماء) والتي يقول فيها: بدأنا نمزق ثوب العدم ونلطم بالحق وجه السدم بدأنا كما بدأ الهالكون إذا السور في جانبيهم ألم بدأنا كما بدأ التائهون رمى الفجر في ناظريهم علم بدأنا كما انتبه الغافلون على صيحة من هدير القمم بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا العذاب وفينا السقم وفينا قبور طوال الأنين عليها الردى ليله مدلهم وفينا الظلام منيف الفساد يعشعش فيه خراب الذمم وفينا الكرامة مرجومة كمحصنة لوثتها التهم وفينا المذلة للغاشمين كأنا ولو لم يشاءوا خدم وفينا النفاق عطور تساق وفي زهرها فاتكات النقم وفينا الجياع وفينا لهم قلوب متيمة بالصمم وفينا التعبد للجائرين نصلي لمن جار أو من ظلم تباركت يا رب، هذا الجحيم من الذل ما كابدته أمم! ولكن يا ترى، متى تصل الأمة المسلمة إلى مستوى كيد عدوها الجاثم في بلادها؟! وعلى أرضها الممسك بخناقها، والمتعجرف الذي لا يعرف إلا الرفض، على حين تعلمت الأمة المسلمة المرونة حتى أصبحت بمرونتها، تستطيع أن تجعل رأسها مكان رجليها.
إن كل يهودي في الدنيا مجند لخدمة إسرائيل، وبذلك تمكنت أن تملك أخطر أسرار الأسلحة النووية، والكيماوية وما يسمى بأسلحة الدمار الشامل، حيث تفيد بعض التقارير الحديثة أن إسرائيل تملك نحو مائتي قنبلة نووية، ولست أدري بالضبط لمن يعدون هذا السلاح، في الوقت التي ترتفع فيه أصوات المنادين بالسلام، لكن المهم على أي حال أنهم جادون في عصر لا يحترم الكسالى، وأقوياء في عصر لا يحترم الضعفاء.
أحبتي: إن من مظاهر البداية الحسنة، أن المجالس أصبحت تعمر كثيراً بالكلام المفيد، والحوار الجاد مهما كان إتجاه هذا الكلام أو ذاك الحوار، لم يعد هم الناس محصوراً في الصيد أو في الرياضة أو في الفن، بل تعدى ذلك وأصبحوا يتكلمون كثيراً بالكلام المفيد النافع، ومن مظاهر تلك البداية الحسنة، تكاثر الأشجار المثمرة في حقل الإسلام، وكلما قطعت شجرة أنبت الله تبارك وتعالى عنها عشراً، حتى قال أحد المناوئين للدعوة الإسلامية، قال هؤلاء كالشيب في الشعر إذا اقتلعت واحدة خرج بدلها عشر.(242/11)
سعة أبواب الخير
أيها الأحبة: أمر ثالث: فمجالات الدعوة إلى الله مجالات واسعة، لا تحدها الحدود والسدود، ولا تحول دونها الحوائل والقيود، والداعية الصادق لا يتوقف عن دعوته، ما دام دمه يجري في عروقه، فالدعوة نبضه وحياته وخفق فؤاده، والداعية الصادق هو من إذا ضاق عليه طريق شق لخدمة دعوته ألف طريق؛ وإذا أُغْلِقَ في وجهه باب، فتح لخدمة دينه ألف باب.
وقد جاء الإسلام يعلمنا الكثير أيها الأحبة، وعلى سبيل المثال قف قليلاً وتأمل هذه النصوص النبوية، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: {يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله، فقلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها، قال: فقلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قال: قلت يا رسول الله: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك} .
فهناك مستويات شتى تبدأ بالجهاد في سبيل الله والإيمان به، الذي فيه بذل الروح ونزف الدم، وعقر الجواد وتنتهي بأن تكف شرك عن الناس، فهو صدقة منك على نفسك، وبين ذلك مراحل ومراحل قال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] وكل إنسان يضع نفسه في الموضع الذي يرى أنه يطيقه ويستطيعه، حتى أولئك الذين تأصلت فيهم السلبية وعجزوا، يكفي أن يكفوا شرهم عن الناس، وهذه صدقة منهم على أنفسهم، ولم يكن أبو ذر رضي الله عنه -بحال من الأحول- واحداً من هؤلاء، بل كان من أهل البذل والتضحيات الجسام، لكنه يسأل هذا السؤال تواضعاً لله عز وجل وتعليماً لمن وراءه، وإدراكاً أن الإنسان الواحد قد يكون في حال من الأحوال، صاحب بذل وتضحية في سبيل الله، وفي حال أخرى قد يدركه شيء من الضعف، فيقعد عن بعض العمل.
وهناك حديث آخر عن أبي ذر رضي الله عنه، قال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق} من هو الذي لا يملك الابتسامة الصادقة التي تكسو وجهه، فتكشف عن قلب لا يحمل لإخوانه المسلمين، إلا الحب والوداد، ولا يتمنى لهم إلا السعادة والتفوق، وليست البسمة الصفراء، التي تخفي وراءها الغدر والخديعة، {ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، وتبسمك في وجه أخيك صدقة} .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة} وفي رواية {ولو ظلفاً محرقاً} أي تتصدق المرأة لجارتها ولو بظلف شاة، ولو كان الظلف محرقا أيضاً، فإنه لا يجوز لها أن تحقر هذه الصدقة لأختها المسلمة، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة} وكل هذه الأحاديث صحيحة.
ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين: (باب كثرة طرق الخير) وساق أحاديث كثيرة جداً، تدل على أن أبواب الخير كثيرة غير محصورة، وأنه لا أحد يقول: لا أستطيع، بل كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهو يستطيع أن يصنع الكثير، شريطة أن يكون عنده إيمان بالله، ثم عنده ثقة بما أعطاه الله تبارك وتعالى وأنعم عليه.(242/12)
نماذج لخدمة الدين
إن مجالات خدمة الدين -أيها الأحبة- واسعة سعة الهمة والإرادة التي يتحلى بها المسلم، وكم من باب يعرض عنه الإنسان زهداً فيه فيسوقه الله تعالى إليه برغمه وربما بكيد خصمه، وأضرب أمثلة سريعة لبعض المشاركات الإيجابية المتواضعة التي عرفها المسلمون في أزمنة شتى.
قال الذهبي رحمه الله في ترجمة الإمام أحمد من كتابه تاريخ الإسلام، عن صالح بن أحمد عن أبيه أنه قال: [[لما صرنا إلى الرحبة، جاء رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له هذا أحمد بن حنبل، فقال الرجل للجمال الذي يحمل الإمام أحمد على رسلك أرفق! فتوقف الجمال، فقال الرجل يا هذا؟ -يخاطب الإمام أحمد الرجل المجاهد في سبيل الله الذي كان يرفع راية أهل السنة في وقته، وكان رمزاً ونموذجا للصبر عليها، فهذا الرجل يرى أن له مشاركة ومساهمة في هذا الباب، إن لم يقف ذاك الموقف لم يعجز أن يقف أمام الإمام أحمد - ويقول له: يا هذا! ما عليك أن تقتل ها هنا وتدخل الجنة، ثم قال أستودعك الله ومضى]] فتعجب الإمام أحمد من هذا الموقف، وسأل عن الرجل فقيل له: هذا رجل من ربيعة من البادية يعمل الشعر في الصحراء، في رواية أخرى أن الإمام أحمد كان يقول: [[ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر، أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في الرحبة، قال يا أحمد: إن يقتلك الحق تمت شهيداً، وإن تعش تعش حميداً، قال: فقوى قلبي بذلك]] .
وفي بعض الروايات أن لصاً كان في السجن قال للإمام أحمد: [[والله يا إمام إنا لنجلد في متاع سرقناه لا يساوي درهمين، مثل ما تجلد أنت على قضية دينية، فاصبر واحتسب، قال: فقوي الإمام أحمد بذلك]] ونموذج آخر من المشاركة والمساهمة، خطب السلطان نور الدين خطبة حث الناس فيها على الجهاد، وألهب حماسهم في مقاومة أعداء الإسلام، فسمعته امرأة من المؤمنات فتلفتت فلم تجد لها شيئاً تستطيع أن تجاهد به، تقول الرواية التاريخية: فنظرت المرأة وأحست أنها هي المخاطبة دون غيرها، فما كان منها إلا أن قطعت ضفيرتها وبعثت بها إلى السلطان نور الدين، وقالت ليكن هذا لفرسك، وقل للرجال: إن كنتم عجزتم عن القتال فهلموا واقعدوا في بيوتنا ودعونا نقاتل.
ولا أريد أن نناقش هذه الرواية من الناحية الفقهية، أكانت هذه المرأة مصيبة حين قطعت شعرها أم لا؟ أكانت هذه المرأة تصلح أن تخرج للجهاد أم لا؟ فليس المقصود أن نقتدي بهذه المرأة في تفصيل ما عملت، لكن المقصود أن ندرك أن كل واحد منا يجب أن يشعر أنه هو المخاطب قبل غيره، بوجوب أن يبذل ما يستطيع لهذا الدين.(242/13)
أهمية الكتاب والشريط
أمر آخر: لقد علمنا الله تبارك وتعالى أن نتواضع في تقديرنا للأمور، فقال سبحانه: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] وقال: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فالإنسان قد يدرك شيئاً من الحاضر، لكن كثيراً ما يغيب عنه المستقبل، وعلى سبيل المثال: يقدر الناس في هذا الوقت قيمة الدرس المسجل في شريط، فيقولون: الشريط يسمعه الجميع، ويوزع منه عشرات وربما مئات أو ألوف أو عشرات الألوف وهذا لا شك صحيح، ولعلي ممن قال مثل هذا الكلام في مناسبتةٍ، ولكن الناس أيضاً قد يقللون من قيمة الكتاب مثلاً؛ لأنه يخاطب فئة معينة في المجتمع، مع أننا نقرأ في الإحصائيات، أن بعض الكتب قد يوزع منها في بلد واحد، وربما في غضون شهر واحد أو شهور ما يزيد على مليون نسخة، خاصة لدى الأمم المحبة للقراءة والاطلاع، وقد ينسى الكثيرون أن الكتاب أطول عمراً من الشريط، وقد تنتفع به أجيال وأجيال وأجيال، ولا يزال العلماء الذين دونوا علمهم في الصحائف أحياء بيننا بعلمهم وتراثهم، ومن ذا يجهل أثر الإمام ابن تيمية أو تلميذه الإمام ابن القيم على تفكير المسلمين في كل مكان، مع أنك لو ذهبت إلى أماكن التسجيلات، لم تظفر ولو بشريط واحد لهذا ولا لذاك، إنني لا أقلل من قيمة الشريط، ولكني أقول: ربما أدى استغراق بعضهم في إعداد المادة العلمية المسجلة التي يحتاجها جمهورهم المباشر، ربما أدى ذلك إلى غفلتهم أحياناً عن المادة المكتوبة التي تحتاجها الأمة في كل مكان، وقد تحتاجها أجيال الأمة في حاضرها ومستقبلها، وعلى كل حال فالخير لنا جميعاً فيما يختاره الله -تعالى- لنا، واختيار الله لنا أعظم وأفضل من اختيارنا لأنفسنا قال الشاعر: لا تُدبِّر لك أمرا فأولو التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكا(242/14)
أهمية الوقت واستغلاله
ومع ذلك فإنني أرى من واجبي بهذه المناسبة، أن أضع بعض المفاهيم الضرورية بين أيديكم أولها: لم تكن هذه الأيام بل الشهور التي مضت لتضيع سدى، على قوم عرفوا معنى الحياة، ونافسوا في استدراك لحظاتها العابرة والتهابها قبل فواتها، فأما أنتم فلكم بحمد الله تعالى من حضور مجالس العلماء العامرة، وحلقات الوعظ ومتابعة ما يَجِدُّ من الأشرطة والكتب، ما يحفظ عليكم أوقاتكم، ولم يكن من الحزم بحال من الأحوال، أن يضيع لفرد واحد منكم فصاعداً ولا دقيقة واحدة من وقته في انتظار الإفراج، عن درس أو محاضرة، فالوقت كما قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي: [سريع التقضي، أبي التأتي، بطيء الرجوع]] والله تعالى لم يجعل الاستمساك بالدين، ولا البحث عن العلم مربوطاً بوجود شخص بعينه مهما كان قدره، حتى ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الصعاليك المفلسين من أمثالنا، وفي الأمة بحمد الله تعالى من الرجال المخلصين، والدعاة الصادقين، والعلماء العاملين، ما تقوم بهم الحجة في كل وقت وحين، فالحمد لله رب العالمين.
إنه ليسوؤني أن يكون عشرة فقط من أفاضل الطلاب، توقف تحصيلهم العلمي لتوقف الدروس، فإن معنى ذلك في لغة الحساب ضياع ثماني سنوات من عمر فرد واحد، وهي فترة يستطيع الفرد المخلص الجاد أن ينجز فيها الكثير الطيب المفيد، أما بالنسبة لي فقد تسنى لي في هذه الفترة، فترة التوقف التي دامت ثمانية أشهر إنجاز ما يزيد على ثلاثمائة صفحة من دروس بلوغ المرام، أرجو أن تكون محققة محررة وما يسرني أن لي بها حمر النعم، فضلاً عن إعداد مجموعة من الكتب والمؤلفات والمقالات التي أسأل الله تعالى أن يرزقني فيها الإخلاص والصواب، وأن يجعلها خالصة لوجهه نافعة لعباده، إنه على كل شيء قدير.(242/15)
البذل قدر المستطاع
أيها الأحبة: نقطة رابعة: إن من الخطأ أن تتصور أنك لكي تدعو يجب أن تكون على مستوى خاص، وإعداد خاص، بل يجب أن يكون كل فرد منا داعياً ومدعواً في ذات الوقت، وموجِهاً وموجَها، ومتعلماً ومعلماً، وهذا سر من أسرار الكلام، وهذا سر من أسرار الكمال , وأود أن اقارن، مقارنة سريعة بين صورتين: الصورة الأولى: صورة الجيل الأول من المسلمين الذين كانوا كما يريد لهم الإسلام، كيف كانوا؟ خذ منهم نموذجاً واحداً، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائم، إذ أوتيت بقدح لبن، فشربت حتى أرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم} وفي الحديث الآخر أيضاً قال: {بينما أنا نائم إذ رأيت الناس وعليهم قمص، وعلى عمر قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين} .
إذاً: عمر في الذروة من العلم والدين، وفي وقت من الأوقات أصبح عمر بن الخطاب أمير المؤمنين تدين له رقاب كل الموحدين في مشرق الأرض ومغربها، ويوماً من الأيام كان يرقى على المنبر، أشرف مكان معد للحديث والخطابة، منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما يقول للناس: [[اسمعوا وأطيعوا]] فيقوم رجل من عامة المسلمين، فيشير إليه بيده ويعترض حديثه ربما قال عمر قولاً، فيعترض عليه بعض الحاضرين، حتى إنه في القصة المشهورة، قام عمر فنهى الناس عن المغالاة في صداق النساء، فقامت امرأة واعترضت عليه وقالت إن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] فطأطأ عمر رأسه وقال: [[كل الناس أفقه منك يا عمر وأعلم منك]] وفي رواية قال: [[أخطأ عمر واصابت امرأة]] وهذه الرواية قال فيها السيوطي اسنادها حسن، واستشهد بها ابن تيمية في غير موضع كما في كتابه المعروف رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وبغض النظر، فنحن نملك عشرات القصص، فشخصية كـ عمر لا يأنف أن يعترض عليه أي رجل من عامة المسلمين، ولو كان الرجل المعترض بدون تاريخ، ولو كان ليس له سوابق، ولو كان غير معروف، ولو كان نكرة من النكرات.
فإذا تكلم سكت عمر حتى ينتهي من قوله، ثم ربما وافقه عمر على ما قال، أو بين له ما أشكل عليه، مع أنه في الذروة علماً وعملاً ودعوة وسؤدداً، وفي الجانب الآخر، لم تكن قضية الإسلام قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بل كانت قضية كل مسلم، وكل مسلمة، فلم يكن هناك رجل أو امرأة أو فتى أو كبير أو صغير من المسلمين، إلا تعنيه قضية الإسلام، حتى الأطفال والصبيان كانوا يؤدون دورهم، فيستقبلون المجاهدين بالأناشيد التي تثير الحمية والنخوة والحماس، كما كانوا يقولون: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ولذلك لا تقرأ ترجمة رجل من رجال الصدر الأول، أو من رجال التابعين إلا وتجد له من المناقب كذا وكذا، فهو حضر غزوة كذا، أو قتل واستشهد في كذا، أو أنه روى من الأحاديث كيت، أو كان له من المواقف ما له، إذاً كان ذلك العصر مملوءً بالرجال، وبالبطولات المتزاحمه، ولم يكن أحد منهم يرضى أن يكون انتسابه للإسلام انتساب شرف، عضو شرف، ولا أن يكون صفراً على الشمال، ولا أن يكون متفرجاً بل كل واحد منهم كان له مشاركة، كبيرهم وصغيرهم، هذا في جانب.(242/16)
سلبيات تخلي المسلمين عن واجبهم
فإذا انتقلت إلى الصورة المعاكسة، وهي صورة مع الأسف نعانيها في واقعنا هذا، ماذا تجد؟! تجد أن أكثر المسلمين اليوم تخلوا عن واجبهم وأسندوا مهمة الواجب الدعوي والعلمي والسياسي إلى غيرهم، فصرنا نعيش سلبيات متعددة من جراء ذلك.(242/17)
الاعتزاز والثبات على الدعوة
وإنني بهذه المناسبة أيضاً، أشكر أولئك الإخوة والأخوات الذين تجاوبوا مع ذلك المطلب وذاك، فزودوني بما لديهم من ملاحظات وانتقادات، وزودوني بما لديهم من مقترحات وموضوعات، يرون أنها متواضعة في نظرهم، لكن قد تكون كبيرة نفيسة مهمة في نظر غيرهم، كما أنني أشكر أولئك الذين يسدون النصيحة في أي أمر أو شأن أو ينبهون على خطأ، فإننا لانهلك أبداً، إلا إذا خُلي بيننا وبين أنفسنا.(242/18)
المعركة مع الحساد والأعداء
ولعلي أيضاً لا أنسى أن أشكر أولئك الذين ينالون من الآخرين حسداً من عند أنفسهم، أو بغضاً للحق وأهله، وقد قال الشاعر: عداتي لهم فضل عليّ ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا ولا ينتظر هؤلاء ولا أولئك الدخول معهم في معارك هوائية، فهم في واد ونحن في واد، كما لا ينتظرون أن يتوقف الدعاة عن دعوتهم، رعاية لخواطرهم أو حرصاً على قلوبهم، فقد وطن الدعاة أنفسهم على ما هو أعظم من ذلك وأهول، كيف وهم يسمعون قول الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] وكيف وهم يسمعون قول الحق تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وكيف وهم يسمعون قوله جل وعلا: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] ولقد آمن الدعاة إلى الله عز وجل في كل زمان ومكان، بأن الإبتلاء سنة إلاهية لا حيلة في دفعها، وقد واجهها النبيون والصديقون والصالحون فصبروا عليها، كما آمن الدعاة بأن الخصومة بين الحق والباطل باقية ما بقي الليل والنهار، باقية ما بقي في الأرض مسلم واحد ينطق بكلمة لا إله إلا الله! وآمنوا أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] كما آمنوا بأن العاقبة للتقوى، وأنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
أيها الأحبة: لقد رأينا وسمعنا وقرأنا مصداق ما أخبر الله تبارك وتعالى به مما يقوله أهل الكتاب والذين أشركوا من الأذى الكثير، رأينا وسمعنا وقرأنا ذلك، مما سود الغربيون صفحات مجلاتهم وصحفهم بالحديث عن الصحوة ورجالها في هذا البلد، ولا ننتظر منهم إلا أن يقولوا ما قالوا، ونحن نعتبر ما قالوه عن الصحوة ورجالها ودعاتها تزكية لهذه الصحوة ولرجالها ولدعاتها، وآية على صدق أتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل لنبية عليه الصلاة والسلام: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43] , وإنني إذ أعتبر نفسي -أيها الأحبة- متطفلاً علىموائد الدعاة إلى الله تعالى لصيقاً فيهم، وأشهد أني لست منهم على الحقيقة، إنني أجد الشجاعة أن أقول بالنيابة عنهم شهادة صدق، أعلمها من كل من عاشرته منهم، إن أحد هؤلاء الدعاة يفرط في دنياه من أجل غيره، ويكره أن يتولى أمر اثنين فصاعداً، ومع ذلك فهم أشد الناس عزوفاً عن المجد والشهرة والرياسة والمنصب، على أنهم أسرع الناس إلى البذل والفداء , وأكثر الناس تضحية بنفوسهم، وأموالهم إذا دعا داعي الجهاد، فمن الذي رويت ربوع أفغانستان بدمائهم؟ ومن الذين ضمخوا تراب الجزائر؟ من الذين ضحوا على ثرى فلسطين؟ إنهم الدعاة إلى الله عز وجل، الذين يسرع الواحد منهم إلى حتفه، وهو لا ينتظر أن يذكر في جريدة ولا مجلة، ولا أن يقام له احتفال وإنما همه أن يكون احتفاله عرساً: {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] همهم أن ينالوا شرف الشهادة في سبيل الله تعالى، وهم مع هذا وذاك صبر على الأذى، كرام النفوس، لا يجزون السئية بمثلها، بل يعفون ويصفحون ويقولون إذا ضاق الرحب الفسيح: (حسبنا الله ونعم الوكيل) .(242/19)
قصة الهدهد
بل أين نحن من قصة هذا الهدهد الذي ذكره الله في كتابه، وهو طائر أعجم إنه في كتاب الله تعالى داعية إلى التوحيد ناهٍ عن الشرك، فهو حين رأى ما رأى وتوعده نبي الله: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20] قال الهدهد: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:22-25] فهو يستغرب كيف هؤلاء يعبدون غير الله تعالى، ويسجدون لغيره، فيأتي يتحدث حتى مع نبي الله عليه الصلاة والسلام، يقول: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] وهذه أعجوبة، لأن الهدهد لم يمنعه قلة شأنه، أن يخاطب نبي الله بهذا الأسلوب، {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] عندي خبر لم يصل إليك ماهو؟ {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل:22] هؤلاء القوم يعبدون غير الله تعالى: {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:24] فحذارِ حذارِ أن تقعد بك همتك عن المنافسة في هذا السبيل.(242/20)
قلة المشاركين في جهاد الدعوة
السلبية الأولى: أن المشاركين في جهاد الدعوة والإصلاح أصبحوا قليلاً، بل كما قيل:- وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل لأن عموم الناس اعتبروا المسئولية على غيرهم، واعتبروا أنهم ليسوا أكفاء لذلك، وأن مستواهم لا يؤهلهم، فاعتبروا أن الدعوة مهمة أشخاص معدودين، وأن التعليم مهمة أفراد معدودين، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له رجاله، أما الباقون فأقبلوا على دنياهم وتركوا أمر الدين لهؤلاء الناس، وهذه لا شك سلبية كبيرة.
والأمر الآخر: أن من تصدى للدعوة والإصلاح والتعليم، أصبح في كثير من الأحيان يشعر قولاً وعملاً وأن فوق النقد، وأنه له قداسة تمنع المساس به، أو تقديم النصح له، لأن الأمة أصبحت ترجع إلى أفراد فقط، في كل مجالاتها وفي كل شؤونها في دينها أو دنياها، فأصبح هؤلاء الأفراد من طول ما أسندت إليهم الأمة المهمات، من طول ما اعتمدت عليهم، أصبح هؤلاء الناس يشعرون بشيء من الذاتية أو الشخصية، وأن النقد غير لائق بالنسبة لهم، ولا شك أن المنهج السليم أن يقال لكل من يملك شيئاً يستطيع أن يقدمه: تفضل قدم ما لديك، وكونك الآن تقدم ما لديك، كلمة أو موعظة أو مقالة أو قصيدة أو أي شيء تشارك فيه لخدمة دينك، فكونك تقدم ما لديك لا يعني أنك أصبحت شخصاً مستقلاً، ولا يمكن أن تتعلم من غيرك، بل لا مانع أيضاً أن تكون الآن خلال عشر دقائق معلماً وموجهاً وناصحاً وواعظاً، وتكون في بقية اليوم والليلة خلال ثلاث وعشرين ساعة وزيادة، أن تكون متعلماً ومسترشداً ومتفقهاً من غيرك، لا مانع من هذا أبداً، وبالتالي فليس أحد ممن يتصدى للدعوة والإصلاح بمنجاة من أن يقع في خطأ، وليس معصوماً ولا مانع من تقويمه وتصويبه بأي وسيلة مناسبة وملائمة، وإنما هلكت الأمة يوم أن صودرت الأمة كأفراد، واختزلت في فرد واحد، وقديماً قال حافظ إبراهيم: رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها.(242/21)
قلة المواقف الدعوية
أيها الإخوة: أين المواقف، كموقف الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، الذي يسلم الآن، وخلال ربع ساعة يتحول من كافر إلى مسلم داعية إلى الله تعالى، لم يعش سنين طويلة يقول: أتعلم أو أتفرغ للعلم، أو ما أشبه ذلك، بل مجرد مانطق بالشهادة أعلنها صريحة مدوية في مكة وكان داعية وذهب إلى قبيلته، وأسلموا عن آخرهم، أين المسلم الذي يشعر بهذا الشعور؟ بل أين المسلم الذي يحس بإحساس أولئك النفر من الجن، الذي ذكر الله خبرهم، {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الاحقاف:29] لم يقل ولوا إلى قومهم مسلمين ولا مخبرين، وإنما تحولوا من كفار إلى مسلمين دعاة إلى الله عز وجل، تعتمل في قلوبهم مشاعر الدعوة والنذارة والتخويف، ولهذا كانوا يخاطبون قومهم بكل حرارة وإشفاق ووجل: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الاحقاف:32] أين المشاعر التي توجد في نفوس هؤلاء، من مشاعر كثير من المسلمين اليوم، الذين قد يكون عمر الواحد منهم ثلاين أو أربعين أو خمسين سنة، ومع ذلك ما فكر وما سأل نفسه هذا السؤال، أي جهد قدمته لهذا الدين؟ أي مشاركة؟ ما هو موقعك وما مقامك وما بلاؤك في الإسلام؟ هذه أسئلة يجب أن تطرحها على نفسك، ويجب أن تحس أنك أنت بذاتك المخاطب دون غيرك.(242/22)
الدعوة إلى النصح والنقد الهادف
إننا جميعاً يجب أن نكون من دعاة النقد الهادف، الملتزم بأدب الشرع الساعي إلى التصحيح على كافة الأصعدة، ونحن دعاة الإسلام، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من دعاة الإسلام، يجب أن نكون أرحب الناس صدوراً بالنقد، وأقدر الناس على تقبله واحتمال مرارته -إن كان له مرارة- كما أننا جميعاً يجب أن نكون من دعاة المشاركة العامة من الجميع، كل بحسب طاقته في هذا السبيل، فإنني أذكر أيها الإخوة أنني سبق أن طرحت عدة اقتراحات، وأرى من المناسب، وأنا أتحدث إلى هذا الجمع الطيب الكبير، أن أعيدها، منها فكرة المراجعات، وهي دروس مخصصة لمراجعة الاجتهادات التي قدمها الإنسان يوماً من الأيام، ثم تبين له أنها تحتاج إلى تصحيح أو تعديل.
الفكرة الثانية: هي فكرة المشاركة من الآخرين باقتراح موضوعات للدروس أو تقديم ما لديهم حولها من عناصر أو أفكار أو توجيهات إلى غير ذلك.(242/23)
الدعوة وظيفة العمر كله
أيها الأحبة الكرام الأفاضل: إن جميع العقبات والصعاب التي تواجهنا، يجب أن لا توهن من عزيمتنا في الدعوة إلى الله تعالى، فإن الدعوة إلى الله والعمل في سبيله، وظيفة العمر كله، وليست محددة في زمن ولا ظرف ولا حال، فالمسلم قد لبس عدة العمل للدين ولا يضعها إلا بالموت، قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] .(242/24)
نوح عليه السلام
فهذا نوح عليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} [نوح:6] إلى قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:9] إذا كان هذا الرجل الصالح قد استغرق الليل والنهار، فماذا بقي من حياته لم يصرفه في الدعوة إلى الله تعالى؟! وإذا كان استخدم كافة الوسائل والأساليب والطرائق، فجهر بالدعوة حيناً، وأعلنها وأسر بها حيناً، وخافت، فلم يجدِ هذا ولا ذاك، فماذا بقي من الوسائل والطرائق لم يسلكه نوح عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى الله عز وجل؟!(242/25)
الدعوة حتى في لحظات الموت
بل إن أنبياء الله ورسله وهم أئمتنا وسادتنا وقادتنا في هذا المجال وفي كل مجال، لم يغفلوا عن الدعوة إلى الله تعالى، حتى وهم في لحظات الموت قال الله عز وجل: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] فلم تلهه سكرات الموت وغصصه وآلامه أن يتعاهد بنيه، بدعوة التوحيد ويطمئن إلى الغرسة التي غرسها، والبذرة التي بذرها، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الرسل وخاتمهم، يموت وهو ينادي: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} لا يكاد يفيض به لسانه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.(242/26)
حاجة المسلمين إلى الدعاة والعلماء
والمسلمون -اليوم أيها الأحبة- أحوج ما يكونون إلى الدعاة لتبصيرهم بحقيقة دينهم، والتأكيد على مسؤولية انتسابهم إلى هذا الدين، وهذا الغثائية في الملايين من المسلمين الجغرافيين بحاجة إلى أن يعيش العلماء والدعاة حالة استنفار دائم، ليزيلوا عن العقول الصدى، ويطردوا عن النفوس الوهن، ويعالجوا القلوب من ذلك المرض الذي ألم بها، ويُشعِروا الأمة كلها بحقيقة الدين الذي تحمله، وبالتبعات الملقاة على عاتقها، ولذلك فإن الدعاة والعلماء اليوم في وضع أصبح من المتعين والمتأكد عليهم، أن ينظروا إلى هذا الأمر الذي تعانيه الأمة، فيهبوا أفراداً وجماعات، ليبثوا في هذه الأمة ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يسع عالماً أو داعية أن يتذرع بأي عذر كان، ولا أن يتحجج ولا أن يتعلل بأي حجة في القعود والتحلل من هذا العهد، الذي أخذه الله تبارك وتعالى على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتمونه.
إنه لايملك أحد كائناً من كان أن يحول بين عالم أو داعية وبين بلاغ رسالات الله تعالى إلى عباده، بل لا يسع أحداً عالماً كان أو داعيةً مسلماً، أن يقدم قول أحد كائناً من كان، أو أمره على قول الله تعالى أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر {بلغوا عني ولو آية} وهذا أمر يقتضي وجوب التبليغ على كل من يملك شيئاً، يعلم أن الناس بحاجتة، حتى ولو لم يكن عالماً مشاراً إليه بالبنان، فواجب علينا جميعاً أن نبلغ ما علمناه من دين الله تعالى وشرعه، ولو كانت آية محكمة من كتاب الله تعالى أو حديث عن رسوله صلى الله عليه وسلم، أو حكماً تعتقد أن الناس يحتاجون إلى بيانه.
أيها الأحبة: لا يسعني في نهاية هذه الجلسة الطيبة المباركة، إلا أن أزجي جميل الشكر، لكل صاحب كلمة أو مهاتفة أو رسالة أو دعوة بظهر الغيب، مع أنني علم الله لا أستحق منكم هذا التبجيل وهذا الدعاء، وإن كنت وأقول مرة أخرى أجد أثر ذلك في حياتي، أجده في مواقف كثيرة، ييسر الله تبارك وتعالى فيها ويرزق ويستر شيئاً يعلم الإنسان أنه ما تأهل له ولا استحقه بنفسه، إلا بفضل الله تعالى وبرحمته، ثم بدعاء المخلصين الصادقين، الذين حملوني على حسن الظن وأخذوني به، عاملني الله تعالى وإياهم بلطفه وشملني وإياهم بكرمه.(242/27)
يوسف عليه السلام
وهذا نبي الله يوسف عليه السلام، لا يغفل عن دعوته حتى وهو مُلقى في غياهب السجن، يرسف في قيوده وأغلاله، فيستغل الفرصة ليخاطب أصحاب السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:40] حتى وهو في السجن يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الشرك، ويقوِّض ما قام عليه دينهم ودعوتهم، ويبين لهم وهاء ما هم عليه.(242/28)
الأسئلة(242/29)
دورنا تجاه الدعوة
السؤال
ماهو دورنا تجاه الدعوة، رغم أنني لست من المحبين للقراءة، ولكني أتيت لهذا المسجد لتكثير سواد المسلمين، مع العلم أنني لست مثقفاً، ولست على مستوى أخلاق الداعية؟
الجواب
يا أخي نحن نريد أن نتخلص من هذا الهجاء الذي يبدأ ولا ينتهي، وأعتذر إليكم ما قلت عن نفسي أثناء المحاضرة، فيعلم الله أنني ما قلته لذاته، وما كان بُودي أن أقوله، لأن الإنسان أحياناً قد يجد نفسه مضطراً أن يقول بعض الكلام لمناسبة معينة يدركها هو وقد يدركها غيره أحياناً، وإلا فإني أرى أنه لا ينبغي أن نذم أنفسنا ونكثر من ذم أنفسنا لأسباب: منها أن هذا الذم أحياناً قد يظهر بصورة المدح، فقد يذم الإنسان نفسه أحياناً ويقصد أن يمدحها، فيكون المدح بما يشبه الذم.
أمر آخر: أن كثرة الذم للنفس قد تؤدي بالإنسان إلى ترك العمل، وإذا كان الإنسان سيذم نفسه ويعمل فالأمر هين، إذا كان ذمك لنفسك بأنك لست ولست، يتبعها أن تقوم بعمل فهذا شيء طيب، أما إذا كان هذا الذم والهجاء لنفسك سيتبعه قعود وتكاسل فإن هذا لايليق منك بحال.(242/30)
المشاركة في المراكز الصيفية
السؤال
يريد الأخ نصحية بالمبادرة إلى المشاركة الصيفية؟
الجواب
فأقول: المراكز أحد أوجه النشاط في هذه الإجازة، ولا شك أنها من المجالات التي ينبغي للشباب أن يعمروها ويستفيدوا من ألوان النشاط الذي يقام فيها.(242/31)
مشكلة التأثر الوقتي
السؤال
إن فكرة قراءة الكتاب واستماع الشريط ومن ثمّ إهداءه، لهي فكرة في غاية الإيجابية والتأثير الدعوي، ولكن قد يتأثر بعضهم أثناء المحاضرة، ثم ينسى العمل والتطبيق، فما رأيكم في توجيهاً توجيه مباشراً، والبدءُ بالعمل في أقرب يوم بعد هذا المحاضرة؟
الجواب
الكلام الذي يقول الأخ يمكن أن يبلور بصورة عملية، وهي: أن كل واحد في حيه أو في مسجده، أو مدرسته يستطيع أن يجمع مالاً، أو اشتراكاً من بعض الناس، ويوفر لهم كل شهر أو نصف شهر كتاباً أو شريطاً بأموالهم هم، لكنه يختاره ويوفر عليهم قيمة الشراء، أو يكون شريط مخفضاً، وبذلك يكون هذا الكلام انتقل من كونه كلاماً نظرياً، إلى كونه كلاماً عملياً.(242/32)
تجعيد الشعر
السؤال
يقول في المذكرة التي وزعت على شكل أسئلة عن حكم تجعيد الشعر، قلت: أن الحكم الجواز، انطلاقاً منكم إلى اللفظ العربي، أما فتياتنا فيفهمن ذلك أن التجعيد هو التشبه بالكافرات، حيث تجعل شعرها مكسراً منتفشاً على شكل مزري، ولكن التقليد وتزيين الشيطان، ما رأيكم يا شيخ؟
الجواب
أما كون التجعيد جمالاً وليس بجمال، فإنني في الواقع لست خبيراً بالتجميل، فأستطيع أن أحكم عليه بهذا أو ذاك، أما كونه حراماً؛ فإن التحريم يحتاج إلى دليل، وقد نص الفقهاء على جوازه، والتجعيد معروف، فالتجعيد في الأمس هو التجعيد في اليوم، وإن اختلفت طرائقه ووسائله، واعتبار أنه خاص بأمة من الأمم فيه نظر، فإن هذه الأشياء تنتشر بسرعة ويتداولها الناس، وتكون عادات متداولة ليست خاصية مميزة لشعب من الشعوب، أما أنني قلت في الجواب الذي أشار إليه الأخ أن التجعيد جائز إذا لم يكن على سبيل التشبه بالكفار احتياطاً من مثل هذا الفهم الذي أشار إليه السائل.(242/33)
المشاركة في الحياة
السؤال
كيف يكون للإنسان دور بارز في المجتمع، في جيمع شؤون الحياة من دعوة وغير ذلك، أفيدونا؟
الجواب
كل إنسان ينطلق من الموقع الذي فيه من الإمكانيات، والمواهب التي أعطاه الله إياها، ولا أستطيع أحدد دورك، بل أنت تحدد دورك من خلال مواهبك، فقد تكون شاعراً، وقد تكون خطيباً، وقد تكون واعظاً، وقد تكون قوياً في الحق، وقد تكون موظفاً في مجال، وقد تكون خطاطاً أو رساماً، قد تكون شيئاً آخر، وقد تكون تملك موهبة لا يملكها غيرك، تساهم، كما أن هناك قدر مشترك من الواجب يحمله الجميع، ولا بد أن يقوم كل واحد منا به.(242/34)
الصلاة بين الأذانين
السؤال
قام أناس وصلوا بعد الأذان، مع أنهم كانوا قبل الأذان جالسين بوقت طويل؟
الجواب
نعم هذا ورد في حديث متفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، لمن شاء} والأذانين: الأذان والإقامة، فيشرع للإنسان ما بين الأذان والإقامة أن يصلي ركعتين.
أسأل الله تعالى أن يجعل هذا الإجتماع، اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولامنا شقياً ولامحروماً، وأن يعز بنا جميعاً الإسلام والمسلمين، وأن ينصر بنا دينه، ويعز بنا كلمته وأولياءه، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله تعالى حمداً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبد ورسوله، إمامنا وهادينا وقدوتنا، محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه ودعى بدعوته، وعمل بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(242/35)
دلالة الناس على الخير
السؤال
كيف السبيل الصحيح لدلالة الناس على الخير، وهل خدمة الناس إذا كان فيها شهرة من الرياء؟
الجواب
الرياء: هو شعور في القلب وليس عملاً، بمعنى أن الإنسان قد يعمل العمل لوجه الله، وقد يعمله رياءً، ويكفيك أن الله تعالى قال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} [الماعون:4-6] فقد يعمل الإنسان العمل الصالح والعبادة المحضة رياء، فتكون سبيلاً له إلى النار، وقد يعمل الإنسان العمل الذي هو في أصله ليس عبادة، كأن يحسن إلى أحد، أو يخدم أحداً، أو يساهم في تقديم خدمة أو مصلحة دنيوية لأحد، ويكون قصد بذلك وجه الله تعالى فيثاب على ما نوى، وفي الحديث: {وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} .(242/36)
قعود بعض طلبة العلم عن الدعوة
السؤال
هناك عدد من طلاب العلم البارزين، المتفرقين في أنحاء البلاد ومع ذلك، فلا يزالون يقللون من شأنهم، وبعضهم يحذر من عوامل أخرى، أرجو توجيهاً لهؤلاء وتذكيرهم لا سيما والحاجة في هذا والوقت قد مست؟
الجواب
أعجب أنه فعلاً لا يزال هناك بعض طلبة العلم، بل كثير منهم لم يقوموا بواجبهم في الدعوة إلى الله تعالى، إن من الصدق مع أنفسنا، أن أقول أيها الإخوة: لقد تأملت في واقع الدعاة المعروفين، الذين عرفهم الناس، وحضروا دروسهم ومحاضراتهم، فلم أجد أنهم أفضل من غيرهم، ممن قد يكونون بعيداً عن الأضواء، ولا يزالون يعيشون في الظل, وإنما عُرف هؤلاء لأنهم تصدوا للأمر وبذلوا ما يستطيعون، فأقبل الناس عليهم وهناك الكثير من الدعاة إلى الله تعالى وطلبة العلم، ممن يملكون العلم الغزير، ويملكون العلم الواضح، ويملكون القدرة على الحديث، ومع ذلك فإنهم لا يزالون يتأخرون بشتى الحجج، منهم من يتأخر بحجة أن الساحة ملأى، وفي الواقع أن هذا وهم كبير، فإن الساحة فارغة ووالله الذي لا إله غيره، لو جُمع الدعاة الصادقون المخلصون من مشارق الأرض ومغاربها في بلد واحد، لما غطوا حاجتهم، فما بالكم والأمة تعيش فقراً في كل بلد؟! ولقد ذكرت في بعض المناسبات أنني ذهبت إلى أندونيسيا، وهو بلد فيه أكثر من مائة وعشرين مليون مسلم، فتساءلنا عن العلماء فلم نجد إلا عدداً من العلماء، يعدون بعدد الأصابع الواحدة، وذهبنا نزور بعضهم فجيء لنا بأفضلهم وخيرهم وأسلمهم عقيدة وأصحهم، وجيء لنا به يحمل على نقالة لايستطيع أن يتحرك ولا أن يمشي، فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، كم يملك النصارى من الدعاة، وكم يملكون من المؤسسات؟ وكم يملكون من الوسائل؟ والمسلمون لا يملكون إلا هذا العدد القليل، وفيهم من عوامل الضعف والكِبَر ما فيهم، فمتى يشعر أولئك الدعاة وطلبة العلم بواجبهم؟ ومتى يقومون بدورهم؟ بعضهم قد يتعلل بحجة الخشية من فساد النية، فأقول هذا دليل على صلاح نيته، لأن كونه يبتعد عن الأضواء خشية فساد النية، هذا دليل على صدقه وإخلاصه، عليه أن يتقد ويتوكل على الله عز وجل، ثم إنه لا يسع مسلماً أبداً أن يترك العمل الصالح خشية فساد النية وسوءتها، بل عليه أن يعمل الصالحات، ومع ذلك يحرص على صلاح نيته، ويقول الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} وآخرون قد تقعد بهم عوامل أخرى وكلها في الواقع من تزيين الشيطان، وربما طاب لبعضهم القعود، وآثر السلامة.
أقول أيها الأحبة: أقول بلهجة واضحة صريحة كلنا والله يَسرُّه أن يجلس في بيته وبين أولاده، بعيداً عن هموم الناس ومقابلتهم، وتحمل ما قد يصدر منهم، وقيلهم وقالهم وحديثهم، وأخذهم وعطائهم، لكن لا يجوز في حال من الأحوال، أن نعتزل في بيوتنا وبين أولادنا، أو في مكتباتنا وندع أمر الأمة لمن نعتقد جميعاً أنه لن يقوم بها، فكثير من هؤلاء الدعاة وطلبة العلم يدركون أن الأمة، قد أثر فيهم الضجيج الإعلامي الفاسد، بل لوسألت أحدهم حتى عن بعض من يتصدرون للتدريس والتعليم والخطابة والوعظ، لأبدوا عليهم بعض الملاحظات، وقالوا: عليهم كيت وكيت، فما دمت ترى أن عليهم ما عليهم، فلِمَ لا تشارك يا أخي رعاك الله في هذا السبيل وهذا المضمار؟! ولماذا لا تسد هذا النقص الذي تشعر به؟! هل تعتقد أنك سوف تعيش عمرين، عمر للنقد والملاحظة، وعمراً للعمل والدعوة؟! إن الإنسان يصبح ولا يمسي، ويمسي ولايصبح، فعلينا أن نخاف الله تعالى في أنفسنا وفي هذه الأمة، بل علينا أن نخاف الله تعالى في الأمانة التي حملنا إياها يقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] أنتم جميعاً خلفاؤه في الأرض، {جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام:165] فمنكم من هو أغنى من بعض، ومنكم من هو أعلم من بعض، ومنكم أعقل من بعض، وأذكى من بعض، وبعضكم أفصح من بعض، وبعضكم أشجع من بعض، وكل من يملك ما لا يملكه غيره من المال أو الغنى أو الشجاعة أو العلم والبيان أو غيرها، فإنه يطالب بالقيام بأمر الله عز وجل، بما لا يطالب به من لا يملك نفس الأمر، أرأيت التاجر الذي يملك الملايين الطائلة، أتكون زكاته كزكاة من لا يملك إلا مبلغاً بسيطاً؟! وكذلك من يملك شيئاً من العلم ليس الزكاة كزكاة الجاهل أو العامي، أو المبتديء في العلم، فعلينا أن ندرك أن ما أعطانا الله تعالى من المواهب، هي أمانات يبلونا الله تعالى فيها، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48] .(242/37)
جلسة رمضانية في البدائع
عن رمضان والفوائد التربوية العظيمة التي يريدها الله تعالى من هذه الشعيرة، تحدث الشيخ في هذا الموضوع؛ مبيناً سرعة مرور الأيام وتقلبها ذاكراً بعض الواجبات المتحتم القيام بها في هذا الشهر، والأمور التي يقصر فيها كثير من الناس في شئونهم الشخصية والعائلية والتعبدية والاجتماعية في هذا الشهر المبارك.(243/1)
سرعة مرور الأيام والليالي
نحمد الله تعالى حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه، كما يحب ويرضى، فهو مستحق الحمد وأهله، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] .
أحبتي الكرام ربما لا يسمح وقت هذا الشهر الكريم بمزيدٍ من العناية بمثل هذه المجالس، ولكن حسبكم وأنتم تعكفون في مثل هذا المكان الطيب أن تسمعوا اسم الله جل جلاله، فتذكروه وتوقروه وتحمدوه وتكبروه، أو تسمعوا اسم نبيه محمد، فتصلوا وتسلموا عليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، فيكتب لكم بذلك أجر، ويرفع لكم به قدر، ويحط عنكم به وزر نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الأبرار الأخيار الأطهار أيها الأحبة: هذه جلسة رمضانية في هذه الليلة، ليلة الثالث من رمضان -ليلة الجمعة- في هذا المسجد في البدائع، وهذه الجلسة الرمضانية -أيها الأحبة- سوف أتحدث فيها على عجل وإيجاز مراعاة لظروفكم وأوقاتكم عن عدد من الدروس التي لا بد أن يخرج بها المسلم في رمضان، ثم أدع الفرصة إذا كان ثمة أسئلة يرى عرضها وطرحها للإجابة عليها.
فأول ما يقف عنده الإنسان وهو يتسامع بخير شهر رمضان هو أن يتعجب من سرعة مرور الأيام والليالي وكرورها، فما أن يودع الإنسان شهراً حتى يستقبل آخر، ويطوي من ذلك أياماً ثم أسابيع ثم شهوراً، وإذا بالعام الثاني يأتي وكأنه لمحة بصر أو خطفة برق! فسبحان من يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين! البرد يسلمك إلى حر، والحر يسلمك إلى برد، والعمل يسلمك إلى إجازة، والإجازة تسلمك إلى عمل، والشهر يسلمك إلى آخر، وهكذا أيام وليالٍ تمر وتكر، وإنما هي مراحل ينتقل الإنسان عبرها إلى قبره ومستقره إلى أن يأذن الله تعالى ببعث الناس من قبورهم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] .(243/2)
حب الحياة يورد الموارد المهلكة
أيها الأحبة: لو تأملنا لوجدنا أن حب الحياة أورد كثيرين الموارد المهلكة، فكم من إنسان تلجلجت كلمة الخير في فمه واحتجبت وتوقفت! بل ونطق وجهر بالباطل الذي يعلم هو في قرارة نفسه أنه باطل لا يرضي الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه سيسخط عليه أيضاً عباد الله الصالحين، ولكنه نطق وربما جهر به، لا لشيء إلا تشبثاً بهذه الحياة وحباً لها.
وكم من إنسان فر من المعركة خوفاً من الموت، فقد تكون هذه المعركة معركة السلاح التي تتلاقى فيها السيوف ولها بريقٌ ولمعان، وتنزف فيها الدماء، وتتطاير فيها الرءوس، فربما فر منها وهو يرجو الحياة والبقاء، ويخاف أن يأتيه حتفه فيها، أو قد يكون فر من المعركة الكبرى: معركة الإسلام مع خصومه وأعدائه شحاً بالحياة وبخلاً بها.
وإنما شَحَّ وبَخل؛ لأنه لم يفقه معنى الحياة، ولم يفقه سر تغير الأيام والليالي وتبدلها وتحولها؛ وأن الإنسان كما لو كان في قطار يسير به سيراً وعلى ظهر هذا القطار الإنسان الغافل، والإنسان اليقظ، والنائم، والصاحي، والعاقل والمجنون وغيرهم.(243/3)
هوان الحياة الدنيا
ولو تأمل الإنسان وتبصر لوجد أن حقيقة هذه الدنيا أقل من أن يتعب الإنسان وراءها أو يضحي بشيءٍ في سبيلها، فقد كانت الحياة هينةً، لا أقول فقط عند الذين يؤمنون بالله تعالى والدار الآخرة، ويرجون ما عند الله، فهؤلاء -نعم- هانت عليهم الحياة، فبذلوا في سبيل الله تعالى الحياة رخيصة، وكان الواحد منهم يخوض المعركة وروحه على راحته، يلقي بها في مهاوي الموت ولا يبالي! يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود بل كانت الحياة رخيصة حتى عند الذين عقلوا أمورهم عقلاً صحيحاً، فقد كان كثير من العقلاء -حتى في جاهليتهم قبل الإسلام وحتى في هذا الزمان- لا يفهمون من معنى الحياة إلا معنى العزة والكرامة والقوة، فإذا آلت الحياة إلى معاني الذل والمهانة؛ كان الموت عندهم خيراً منها، وكانوا يقولون: (موتٌ في عز خير من حياة في ذل) ويقول آخر: الموت لا يكون إلا مَرَّةْ والموتُ خيرٌ من حياةٍ مُرَّة(243/4)
مواقف الناس تجاه سرعة الأيام والليالي
وأنت تجد كثيراً من العوام والخواص إذا قيل: ما شاء الله! أُعلِنَ رمضان، قال: سبحان الله! ما أسرع الأيام والليالي! كأنه أمس! وهكذا في كل مناسبة يقولون هذا الكلام، لكن يظل هذا الكلام مجرد كلماتٍ تداعب شفاههم، ولا يتحول إلى عقيدة في قلوبهم، وإلى مُسيِّر لأعمالهم، وإلى ضابط وحاكم لتصرفاتهم؛ بحيث تجد الإنسان قد فقه معنى الحياة، فأصبحت الحياة عنده هي الجهاد في سبيل الله، وقليلٌ من الناس من يكونون كذلك.(243/5)
قيمة الأعمار بما أنجز فيها من الأعمال
يا أخي الكريم: كم من إنسان لو حسبت عمره بميزان الأيام والليالي والساعات لوجدته قصيراً! فلان عاش ثلاثين أو أربعين سنة، ولكنها مليئة بجلائل الأعمال، وبالبطولات والتضحيات، مليئة بالجهاد، وبالعلم، مليئة بالعمل، وبالدعوة؛ ولهذا كانت هذه السنوات كبيرة في ميزان الله تعالى، عظيمةً عند العقلاء! وربما ظل هذا الإنسان حياً في ذاكرة التاريخ تتسامع به الأجيال، جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، مع أنه لم يعش من زمانه إلا سنين قصيرة.
وكم من إنسان قد يكون من المعمَّرين وبحسبك أن تقرأ كتاب المعمرون والوصايا لـ أبي حاتم السجستاني، فقد ذكر فيه أسماء المعمرين، ولو تصفحت هؤلاء المعمرين لم تجد منهم إنساناً يذكره التاريخ بالفضل إلا أقل القليل! أما الباقون فلا يعرفون إلا بأنهم طالت أعمارهم، كما يكتب في الجرائد أحياناً أن فلاناً مات عن مائة وثلاثين سنة أو مائة وأربعين سنة، وهذا بحد ذاته لا يحمد ولا يذم، إنما الذي يحمد ويذم هو العمل الذي ملأ به الإنسان هذه السنين، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فلا أدري -أيها الأحبة- متى يصحو الإنسان من تقلبات الأيام والليالي، وكرور الشهور بعد الشهور، ومرور الأعوام بعد الأعوام؛ حتى ينتبه إلى أن الحياة ليست هي الساعات فحسب، وإنما الحياة هي الأعمال التي تسجل لهذا الإنسان! والله يا إخوتي! إنها لحسرة وندامة للإنسان منا أن يموت ثم لا يسمع به أحد، ولا يعرفه أحد، ولا يثني عليه أحد، ويمحى اسمه من سجل الأحياء، ويمحى من سجل التاريخ؛ فلا يذكر بشيء.
وأسوأ من ذلك أن يذكر بشر، أو يُدعَى عليه، أو يُسَبَّ، أو يذم بالحق، أما الذم بالباطل فلا يضير.
فالسؤال الذي يطرح نفسه عليك الآن: إذا مت -وأنت ميت لا محالة- فما هو العمل الذي قدمته وسوف تذكر به؟ هل سيثنى عليك بخير؟ هل سيمدحك الأخيار شهود الله في أرضه؟ هل ستكون قد تركت وراءك علماً نافعاً: كتاباً، دروساً، محاضرات، أعمالاً، جهاداً، كلمة حق قلتها في مناسبة، طلاباً خرجتهم تذكر بهم ويدعى لك بسببهم وينفعون الناس، أولاداً صالحين تذكر بهم، أموالاً أنفقتها في سبيل الله؟! أم أنك سوف تموت ويطوى ذكرك وتخمل، ولا أحد يعرف عنك شيئاً؟! إذا مِتُّ كان الناس صنفين شامتٌ وآخرُ مثنٍ بالذي كنتُ أصنعُ(243/6)
متاعب الدنيا تهون إذا قيست بالآخرة
إن الواحد منا -وهو يصوم- يتذكر وقد مسه ألم الجوع والعطش أن ما يلاقيه الإنسان من حرمان في هذه الحياة يهون جداً إذا قيس بأمر الدار الآخرة، فالذين ينظرون إلى الدنيا فحسب تخطئ حساباتهم كثيراً، تخطئ من وجوه عديدة، وإليك بعض الأمثلة:(243/7)
الدنيا ليست مقياساً للحق أو الباطل
الدنيا ليست هي الفارق أو المقياس للحق والباطل: فأنت تجد مثلاً أن من الأنبياء من قتل، ومنهم من ضرب، ومنهم من أوذي، ومنهم من شرد، ومنهم من طرد منهم من قتل كيحيى وزكريا، ومنهم من أوذي كما أوذي موسى في سمعته، وسبُّوه في خلقته، واتهموه بما هو منه براء، ومنهم من سجن كما سجن يوسف عليه الصلاة والسلام، وخرج عليه السلام من السجن ليكون على خزائن الأرض: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] .
والرسول صلى الله عليه وسلم أخرج من بلده، وأوذي وعُيِّر وسب، وكسرت رباعيته وشُجّ وجهه، وألقي السلى على ظهره صلى الله عليه وسلم ثم كانت العاقبة لهم.
فالدنيا ليست مقياساً للحق والباطل، فكون النصارى أرباب الصليب من الأمريكان والفرنسيين والبريطانيين والشرقيين أيضاً كونهم الآن يملكون نفوذاً، ويملكون سلاحاً ويملكون قوة, ويملكون بطشاً، لا يعني هذا أن الحق معهم، وكون المسلمين الآن -خاصة المسلمين الصادقين- مستضعفين حتى في بلادهم، ربما كلمة الحق يبخل بها عليهم، ولا يملكون من القوة ما يملك عدوهم، ولا يملكون من وسائل الإعلام ما يملك عدوهم لا يعني هذا أن الحق أصبح باطلاً أو أن الباطل أصبح حقاً، لا! ليس هذا هو المقياس في فترة محدودة من الزمان، بل {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] .
وكما يقول الله تعالى في قراءة: {قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146] قتل أتباعه.
والقراءة الأخرى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران:146-148] .
إذاً، من الخطأ أن تعتقد أن مقياس الحق هو القوة، لا! قد تكون القوة مع الباطل، قد تكون القوة مع اليهود كما هو الحاصل الآن، قد تكون القوة مع الكفار، قد تكون القوة مع المنافقين، ولكن: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197] .
وحتى في الدنيا نفسها فإن الله تعالى وعد -ووعده حقٌ- أن جنده هم الغالبون، ولكن أين جنده المخلصون الذين تخلصوا من شهوات الدنيا، وتخلصوا من الشح، وتخلصوا من رغبات أنفسهم، وتخلصوا من مطامعهم، فخلصت قلوبهم لله عز وجل؟! هؤلاء هم المنصورون بنص القرآن: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] .(243/8)
التربية على الزهد في الدنيا
عندما كانت الدنيا ليست هي المقياس تعبد الله تعالى جنده وأولياءه بألوان من الإعراض عن الحياة الدنيا كالصيام مثلاً، حيث يمسك الإنسان عن الصيام طيلة النهار، وهو لا يقبض مقابل ذلك في الدنيا شيئا البتة، وقد تكون الظروف في كثير من الأحيان تتيح للإنسان ألا يصوم -لو أراد ألا يصوم- دون أن يلقى على ذلك جزاء في الدنيا أيضا، ولكنه يترك الطعام والشراب وهو في متناول يده ابتغاء ما عند الله تعالى، لأنه يؤمن بأنه توجد دار آخره ينبغي أن يستعد لها، كما يستعد ليومه وغده.
ومثله الإحرام سواء بسواء! فإن المحرم يمتنع مثلاً عن ألوان من الزينة كالتطيب وإزالة الشعر وقص الأظافر ولبس المخيط، وغير ذلك من ألوان الترفّه التي يمتنع عنها المحرم، ومن ذلك أيضاً النكاح: عقد النكاح، والجماع ومقدماته، يمتنع عن ذلك كله؛ لأنه يؤمن أن هناك داراً آخرة تتطلب أن يستعد لها الإنسان كما يستعد ليومه ولغده في هذه الدنيا سواء بسواء.
ومثله أيضاً الزهد وهو أمر تعبد الله تعالى به عباده أن يزهدوا في فضول المباحات التي لا يحتاجون إليها في الدنيا ولا تنفعهم في الدار الآخرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الزهاد يقول: {مالي وللدنيا؟! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها!} .
فهذا درس آخر وفائدة ينتفع بها المؤمن: إن الدنيا ليست هي المقياس في كل أمر، بل المقياس هو الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] والكلام في هذا الموضوع يطول لكن المقصود الإشارة فحسب، وإلا فيكفيك أن تعلم أن الآخرة سرمد لا نهاية لها، وأن الدنيا مداها الزوال والفناء، وهب أن الإنسان عاش ما عاش كما قال الشاعر: إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهرمه الشتاء إذا بلغ الفتى ستين عاماً فقد ذهب المسرة والهناء هب أنك عشت مائتي عام، فكان ماذا؟ موسى عليه الصلاة والسلام جاءه ملك الموت عند الموت فلطمه، فرجع ملك الموت إلى ربه، فقال: يا رب بعثتني إلى عبدٍ من عبادك لا يريد الموت، فرد الله تعالى إليه عينه، وقال له: اذهب إلى موسى فقل له: ضع يدك على متن ثور، فإن لك بكل ما غطت يدك: بكل شعرة سنة، فذهب ملك الموت إلى موسى وقال له ذلك، فقال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فما دام أنه لا بد من الموت فالآن، ثم دعا الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر والحديث في صحيح البخاري.
وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ فمن العارِ أن تكون جباناً الشجاع يموت بأجله، والجبان يأتيه حتفه ولو كان في أقصى غرفة من بيته، فلا الشجاعة تقلل الأجل، ولا الجبن يؤخره، ولا كون الإنسان يضحي في سبيل الله تعالى ويبذل ما يبذل؛ لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق.(243/9)
تكدر نعيم الدنيا لغير المؤمنين وصفاؤه للمؤمنين
مثال ثالث: نعيم الدنيا لغير المؤمنين هل تعتقد أنه صفا لهم؟! هل تعتقد أن هذا الذي يتقلب على ألوان النعيم في الدنيا وهو غير مؤمن هل تظن أن نعيم الدنيا صفا له؟! لا! إن أشباح الموت تطارده، ولهذا فهو كل فترة يذهب إلى كشف طبي من ألوان الكشوف، ومع ذلك مخاوف الموت تطارده، فإذا أحس بصداع في رأسه؛ قال: ها! ربما يكون هذا سرطاناً في المخ! وإذا أحس بأشياء في جسده؛ قال: قد يكون هذا مرض الإيدز! لأنه يعرف حقيقة حساباته، ويعرف ماذا يصنع، ويعرف أنه قد تعرض لسخط الله، وقد ارتكب ألوان الموبقات والجرائم.
فتجد أن شبح الموت يطاردهم وينغص عليهم عيشتهم، كما قال بعض السلف: [[فضح الموت الدنيا، فلم يُبْقِ لذي عقل فيها نظراً]] فهو سر سلّطه الله تعالى على العباد عامة وعلى المترفين والمتكبرين خاصة، فهو يتسلل إليهم بهدوء حتى وهم في أقصى قصورهم، وفي خواص غرفهم، ودون أن يطلب إذناً من الحجاب ولا من الجنود، ودون أن يملك أحد إزاءه رداً ولا حجباً ولا تأخيراً ولا صرفاً ولا عدلاً، فيتسلل ويقطف أرواحهم، ثم يغادرهم وقد تركهم جثثاً هامدة لا حراك بها، كما ترك الفرعون من قبل، يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] .
إذاً حتى نعيم الدنيا لا يصفو لغير المؤمنين، أما المؤمن فمهما يكن مقتصراً في هذه الدنيا فهو يشعر بلذة في الدنيا عاجلة فضلاً عن لذة الآخرة، ولهذا كان بعض الصالحين يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" وهذا يشمل جنة التعبد، جنة الإقبال على الله تعالى والأنس بذكره، لكن أيضاً من ضمن ذلك أنه حتى نعيم الدنيا من الأكل والشرب، ونعيم السكن الطيب، ونعيم الزوجة لا يتمتع به على حقيقته إلا الخيرون، ولهذا والله! ذهب الأخيار بخير الدنيا والآخرة! لماذا؟ لأن الموت لا يشكل بالنسبة لهم قضية خطيرة! لماذا؟ لأن الواحد منهم يجعل الموت نصب عينه، فيستعد له، هذا من جانب.
ومن جانب آخر؛ فإن الواحد منهم يقول: الحمد لله! أنا -إن شاء الله- معي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنا محافظ على الصلوات الخمس، وأنا -إن شاء الله- إن ذهبت إلى الدار الآخرة، فإنني أقدم على ربٍ رحيم كريم أرجو رحمته وأخشى عذابه، فيكون في قلبه اطمئنان، لا يكون الموت بالنسبة له شبحاً رهيباً مرعباً، وإن كان الإنسان من طبيعته أنه يكره الموت، كما في الصحيح من حديث عائشة وأبي هريرة: فكلنا يكره الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله فرح بذلك، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، أما الكافر فإنه يبشر بسخط الله، فيكره لقاء الله ويكره الله تعالى لقاءه} فحتى إن أردت بالمقياس الدنيوي فنعيم الدنيا لا يصفو لأهل الدنيا أبداً؛ إنما يصفو للصالحين البررة الأخيار الأطهار.(243/10)
إنما يربح المجاهدون
خذ مثالاً آخر وهو عكس هذا: المطاردون في الدنيا وهم كثير، هل يضيرهم ذلك شيئاً إذا كانوا في الآخرة من أهل الجنة وممن حصل على رضوان الله تبارك وتعالى؛ فأسلمه ذلك إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟! لا! لا يضيرهم، بل يودون يوم القيامة أن أجسادهم قرضت بالمقاريض، يتمنون أن العذاب الذي أصابهم كان أشد وأنكى وأصعب وأوجع؛ لأن الأجر الذي أعطاهم الله تعالى إياه نظير صبرهم ورضاهم بذلك في ذات الله تعالى جعلهم يستعذبون في سبيل الله تعالى كل مُرٍ، ويَستحْلُون من أجل الله تعالى كلَّ علقم، فواحدهم يقول: ربي لك الحمد لا أحصي الجميل إذا نفذت يوماً شكاة القلب في كرب فلا تؤاخذ إذا زل اللسان فما شيء سوى الحمد في الضراء يجمل بي لك الحياة كما ترضى بشاشتها فيما تحب وإن باتت على غضب رضيت في حبك الأيام جائرة فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب شكراً لفضلك إذ حملت كاهلنا مما وثقت بنا ما كان من نوب فكل ما يلقاه المؤمنون في سبيل الله تعالى من أذى وسخرية وتكذيب، من تسلط وسجن، وتشريد، من طرد وحرمان ومضايقة، كله عذب لذيذ!! يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء!} الغرباء الذين يلقون من الناس السخرية والصد والتعذيب والتكذيب والسجن والإيذاء والاستغراب والإنكار، وألوان المضايقة، هؤلاء وعدهم المصطفى عليه السلام بطوبى، أي بالخير الكثير الطيب في الدنيا فهم يجدون في الدنيا، نعيماً في قلوبهم، ويتقلبون -ولو كانوا يتقلبون على جمر الغضا- على فرش الحرير والديباج في حقيقة الأمر؛ لأن قلوبهم تعيش في سعادة.
ومن مقدميهم وزعمائهم الكبار الإمام ابن تيمية رحمه الله، الذي كان ينتقل من سجن إلى سجن ومن بلاء إلى بلاء، وطالما أوذي وضرب، حتى ضايقه الناس مرة في مصر في الشوارع وكادوا يضربونه، وسجن مرات في مصر، وسجن في الشام، بل مات وهو في السجن!! ماذا كان يقول؟ ما قال: سئمت من هذه الحياة التي لا أمل فيها في انتصار، ولا أمل فيها بفرج، لا! قال لما أقبل على السجن: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] فالداخل إلى السجن في نظرهم أنه يدخل إلى الضيق والظلمة والحبس، هذا في نظر الناس عذاب، ولهذا قال باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
أما باطن السجن بالنسبة للشيخ وأمثاله فهو رحمة، فيه الأنس بذكر الله، والقرب من الله، والتفرغ لذكر الله وقراءة القرآن وطلب العلم النافع، وقال رحمه الله كلمته المشهورة: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري! حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي في سبيل الله تعالى شهادة" إذاً، المقياس ليس دنيوياً محضاً وليس مادياً بحتاً، بل المشردون المطرودون لا يضيرهم ذلك إذا كانوا من أولياء الله ومن أهل الجنة.(243/11)
المترفون إنما هم في متاع قليل
المنعمون في الدنيا إذا كانوا من أهل النار ماذا ينفعهم نعيمهم؟! ماذا تنفعهم لذة ساعة؟! ما تنفعهم القصور إذا صاروا إلى القبور؟! ماذا تنفعهم الأرصدة إذا ذهبوا إلى الدار الآخرة بلا رصيد؟! وماذا تنفعهم الأموال والأولاد والكراسي والمناصب؟! وماذا ينفعهم الجاه العريض في الدنيا إذا كانوا قد خرجوا من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة، ولم يكونوا قدَّموا من الخير عملاً صالحاً؟! ولهذا قال الله عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] .
متاع قليل! أين فرعون؟! أين هامان؟! أين قارون؟! أين النمرود؟! أين كسرى؟! أين قيصر؟! ذهبوا ولم يبق منهم إلا أسماؤهم وأعمالهم وآثارهم يذمون بها ويشتمون ويلعنون بها إلى يوم يبعثون.
بل حتى ملوك المسلمين وخلفاؤهم الذين توسعوا في ملاذ الدنيا، وبنوا القصور وعمروها وشيدوها، وجمعوا الأموال، وحشدوا الجنود، وفعلوا ما فعلوا أين هم؟! أين قصر الحمراء، ومن بناه؟! أين قصر بني أمية في دمشق؟! كلهم ذهبوا، ولم تبق إلا آثار درست، تقول للعقلاء: اعتبروا واتعظوا! بالله! سل خلف بحر الصين عن عربٍ بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وإن تراءت لك الحمراء عن كثبٍ فسائل الصرح: أين العز والجاه؟! وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عَمَّنْ بناه لعل الصرح ينعاهُ هذي معالمُ خرسٌ كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه إني لأشعر إذ أغشى معالمهم كأنني راهب يغشى مصلاه الله يعلم ما قلبتُ سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداد تحدَّاهُ ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراهُ ذهبت الآثار، ذهبت الأسماء، والقصور، ذهبت الأموال والجيوش والجنود، لم يكن هؤلاء الجنود يستطيعون أن يسعفوا حاكماً أو ملكا أو جباراً، ولا أن يحولوا بينه وبين قدر الله النافذ لا محالة! فالحساب ليس حساباً دنيوياً بحتاً.
ومن كان في الآخرة من الضالين الكافرين الفاسقين، فلا ينفعه أن يكون في هذه الدنيا من المنعمين، وفي صحيح مسلم يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: {يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في العذاب صبغةً، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما رأيت خيراً قط! ولا مر بي نعيم قط!} لحظة واحدة من عذاب الجبار جل وعلا تنسي الإنسان كل ما كان في هذه الدنيا قد أكل، وكل ما قد شرب، وكل ما ركب، وتنعم، وكل ألوان اللذائذ التي يتسابق فيها المتسابقون ويتنافس فيها المتنافسون، فهل يعي هذا الدرس من رمضان أقوامٌ قد رتعوا في النعيم إلى أذقانهم، وتخوضوا في مال الله تعالى بغير حق، وتسلطوا على عباد الله فاستضعفوهم واستغلوهم، وتجبروا وتكبروا وظلموا، ونسوا الواحد الأحد الذي يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؟!(243/12)
الانتصارات في رمضان
كثيراً ما نسمع ونقول: رمضان شهر الانتصارات، فإذا أردنا أن نعدد الانتصارات هذه قلنا: معركة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، وكذا وكذا، لكن أين انتصارات رمضان في هذه السنوات؟! أين انتصارات رمضان في هذه الأزمنة المتأخرة؟! هل عقمنا فأصبحنا مثل التاجر الذي أفلس فأصبح يفتش في دفاتره القديمة؟! ليس عندنا أمجاد نتكلم عنها الآن، وليس عندنا انتصارات في هذا الوقت، أين انتصاراتنا في رمضان في هذا العام؟! قد يتحدث بعضنا عن انتصار العرب على إسرائيل والذي كان في رمضان، وهذا قد يعتبر لوناً من ألوان النصر، الله تعالى أعلم به على كل حال.
لكنني أقول: نعم، أما على مستوى انتصارات الأمة فلعل من الحق أن نتصارح ونقول: الأمة لا تنتقل في حقيقة الأمر الآن إلى انتصارات على عدوها؛ لأنها لم تخض المعركة مع عدوها بعد.
الأمة الآن دون مستوى أن تخوض المعركة، فضلاً عن أن نقول: إنها انتصرت، أقول هذا كأمة عدوها الأكبر هم اليهود والنصارى؛ العدو التاريخي المتقرر شأنه في القرآن والسنة والذي كان عبر التاريخ ينازلنا ويصاولنا ويجاولنا.(243/13)
انتزاع الشباب من الفساد إلى المسجد
كما أنه انتصار كذلك في أنه ينتزع وينتشل في كل عام من وهدة الفساد والانحلال أعداداً من شباب المسلمين وفتياتهم؛ فينقلهم إلى المساجد، وإلى حلق الذكر، وإلى دروس العلم؛ فيكونون من الصالحين الأوابين الأواهين المستقيمين.(243/14)
انتصار على محاولات التفريق
كما أن رمضان أيضاً انتصار على محاولات تمزيق وحدة الأمة وتفريق صفها، ولذلك نجد أن الناس يجتمعون في رمضان، فتتآلف قلوبهم في المساجد، يجتمعون على ذكر الله، وصلاة التراويح، والقيام، والإفطار، والسحور، فيكون في ذلك جمع لقلوبهم وحشدٌ لقواهم، فكأن كل يوم من رمضان يوم جمعة؛ يجتمع فيه المسلمون يسمعون ذكر الله ويسبحونه وتأتلف قلوبهم.
ولذلك نجد أن المسلمين المضطهدين والمضيق عليهم في أكثر من بلد يفرحون برمضان، إذا كانوا لا يجتمعون في سائر السنة إلا مرة في الأسبوع وهو يوم الجمعة، أما في رمضان فإنه يتاح لهم أن يجتمعوا فيه كل ليلة ويتدارسوا أمورهم، ويتفقوا على ما يرون الاتفاق عليه، ولعل المسلمين في هذا العام المستضعفين والمضطهدين في الجزائر يجدون في شهر رمضان متنفساً لهم.(243/15)
ارتفاع المعنويات وتحقيق الولاء والارتباط بالعلماء
كما أن رمضان يمنح المسلمين من ارتفاع المعنويات وقوة النفوس وعمق تحقيق الولاء للدين وأهله ما لم يكن لهم عهد به في غير رمضان، مثلاً: إقبال الناس على معرفة أمور دينهم، على الاستفتاء ومعرفة الأحكام الشرعية يتضاعف في رمضان عما كان عليه من قبل، وهذا لون من ألوان ربط الناس بعلمائهم، ليعرفوا منهم أحكام دينهم ويعيدوهم إلى صوابهم وهو بالتالي جزءٌ من تحقيق الولاء لهذا الدين وأهله ونزع الولاء عن الكافرين واليهود والنصارى والعلمانيين والمنافقين وغيرهم.
مثال آخر: الدعم المادي؛ فإن الناس تقبل نفوسهم على الصدقة والإنفاق في رمضان في أعمال الخير ومجالاته للفقراء والمساكين والمجتاجين في كل مكان ما لا يكون في غيره، ولعل أولى من يعطى في هذا الشهر المسلمون المحتاجون في أنحاء العالم، فإن المسلمين اليوم أحوج ما يكونون إلى القرش الذي تبذله أنت، ومجالات الإنفاق كثيرة، لكن هذا أحدها.
مثال ثانٍ: مجالس الوعظ فإنها تكثر في رمضان، وتمتلئ بها المساجد، ويكثر إقبال الناس عليها، وما ذلك إلا لون من دعوة الناس إلى تجديد الولاء لهذا الدين وأهله وحملته والالتفاف حولهم والإقبال عليهم.
الحضور الكثير في المساجد في صلاة التراويح والقيام، ولعل رأس ذلك ما يشاهده كثيرون من التواجد في الحرم المكي، فإنك ترى ألواناً وأصنافاً من الناس من مشرق الأرض إلى مغربها، ومن البلاد التي يضيق فيها على المسلمين نجد أن لها أعداداً كبيرة تأوي إلى هذا الحرم الذي جعله الله تعالى حرماً آمناً، فالمسلمون من أقاصي بلاد الدنيا يأتون إلى هنا فيجدون الأمن، ويجدون الأمان، ويجدون المحبة، وما مجيئهم هنا لمال، ولا لجاه، ولا لدنيا، وإنما جعل الله تعالى قلوبهم تهفو لهذا البيت.
وكون قلوبهم مرتبطة بهذا البيت فهم يعرفون أن تقديسه ليس لأنه أحجار، فقد كان عمر يقبل الحجر الأسود نفسه ويقول: [[إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك]] .
إذاً، فمجيء المسلمين من أنحاء الأرض وأصقاعها وأطرافها إلى هذا المكان الطاهر إنما هو إعلان العاطفة والولاء لهذا الدين وإعلان الحب لأهله، وإعلان أن هذه القلوب تلتف وتصطف حول من يرفع شعار "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وحول من ينادي بكلمة التوحيد، وحول من ينادي بنصرة المسلمين في كل مكان.
ولهذا كان حقاً علينا -ونحن أهل بيت الله وأهل حرم الله- أن نغيث الملهوف في كل مكان، وكان حقاً علينا أن نرفع راية النصرة لكل مسلم مستضعف في مشرق الأرض ومغربها، وكان حقاً علينا أن ننصر تلك المرأة التي صوتت في عمورية تقول: (وامعتصماه) ولكن أقول: واأسفاه:- رُبَّ وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليُتَّم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم تكسرت تلك الأصوات، وخفتت تلك النداءات، وبحت حلوقهم وهم يصرخون ويصرخون وينادون، منهم من هدمت عليهم المساجد، ومنهم من يموت جوعاً، ومنهم من حيل بينه وبين بيوت الله، ومنهم من يجبرون على الكفر علانية، ويدرسون في مدارسهم ما لا يرضي الله، ومنهم ومنهم صاحوا ثم صاحوا ثم صاحوا، وأخيراً خفتت أصواتهم، وكثيرٌ منهم دُسُّوا تحت التراب لا أحد يلتفت لهم ولا أحد يكترث لما يصيبهم! أين منظمات حقوق الإنسان؟! أين الأمم المتحدة؟! أين المنظمات الدولية التي تعلن أنها بذلت جهوداً كبيرة من أجل وقاية اثنين أو أربعة من البيض؟! وهم يتحدثون علانية أن كثيراً من مخيمات اللاجئين المسلمين من الصوماليين وغيرهم في إفريقيا وفي غيرها من بلاد الدنيا أنهم يعيشون أوضاعاً مأساوية للغاية، وأنهم يقفون -كما سمعت بأذني في إذاعات غربية- طوابير تمتد إلى اثنتي عشرة ساعة من أجل الحصول على الماء فقط! وأي ماءٍ يحصلون عليه؟! ماء ملوث في كثير من الأحيان! وما مقداره؟ لا يكاد يغطي ولا ربع احتياج الإنسان العادي من الماء يومياً! هذا يقع كله على مرأى ومسمع من العالم.
العالم الذي يقول إنه عالم متحضر، إنه عالم يهتم بحقوق الإنسان ويُعْنَى بالشرعية الدولية، ولا أدري أي شرعية دولية هذه التي ترضى أن تنتهك حقوق الإنسان بمجرد أنه مسلم، ولا أدري أية شرعية هذه التي لم تعد تحرص على إخفاء سوءتها وستر عيوبها؟! لأنها عرفت أننا نحن المسلمين آخر من يعلم، وأننا لا نثأر لإخواننا المسلمين في أي بلدٍ، فقد أفلح الاستعمار في تمزيقنا من خلال هذه الحدود والسدود، وأفلح في شغلنا، بل أفلح أن تتحول أسلحتنا إلى صدور إخواننا في أكثر من مكان.
فأقول: رمضان فرصة لأن يرفع معنوية المسلم ويربطه بأخيه المسلم، وأن يذكره بآلام المصابين والمستضعفين والمنكوبين في كل مكان.(243/16)
الصيام انتصار للحق وللتقوى
لكن هذا لا يمنع أن نتحدث عن ألوان دون ذلك من الانتصار، مثلاً: في حقيقة الأمر أن صيام رمضان انتصارٌ كبير يسجل في كل بلد، بل في كل بيت، بل في كل نفس تصوم لله تعالى؛ لأن رمضان انتصارٌ للحق في نفسك، وانتصار للتقوى في قلبك، فأنت تطيع الله تعالى فتمسك عن أمرٍ؛ فدواعي الشهوة تقول لك: هلم إليَّ، فتقول: معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي، فتقلع عن الطعام والشراب والشهوة التي منعك الله تعالى منها في نهار رمضان، وهذا انتصار.(243/17)
الانتصار على الشياطين
ثمة انتصار آخر، وهو انتصار العبد على الشيطان، فإن الشياطين يسلسلون في رمضان فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون فيه في غير رمضان، ولذلك تجد أن كثيراً من أصحاب المعاصي يقبلون على الله ويقلعون عما كانوا عليه، وهذا أيضا ًانتصار آخر.(243/18)
الانتصار على النفس
هناك انتصار ثالث، وهو الانتصار على شهوات الدنيا وملذاتها وعلى أهواء النفس، وهذا مؤذنٌ بالنصر الكبير؛ فإن الإنسان الذي استطاع النصر على نفسه فيمتنع عما تحب وتهوى طاعة لله تعالى؛ يرشحه ذلك أن ينتصر على عدوه في المعركة الكبرى؛ معركة الإسلام مع خصومة.(243/19)
التغريب والتخريب
هناك أيضاً انتصار من نوع آخر، وهو أن شهر رمضان انتصار على محاولات التخريب والتغريب التي تغزو العالم، وتحاول طمس معالم الدين نعم! رمضان انتصارٌ على محاولات التغريب والتخريب، فمثلاً: الأعداء يحاولون أن يغيروا المجتمع الإسلامي والمجتمع العربي، ويطمسوا الهوية الإسلامية في بلاد المسلمين، ويحاولون أن تتحول بلاد الإسلام إلى صورة من النمط الغربي، وقد قطعوا في ذلك شوطاً كبيراً خاصة وأجهزة الإعلام بأيديهم، لا أقول العالم الإسلامي فقط، بل العالم كله.
وقد أخبرني اليوم بعض الإخوة أنه قد رأى القناة التلفزيونية التي تبث من روسيا وتغطي روسيا ويستقبلها الناس بالأقمار الصناعية والأقراص حتى في هذه البلاد مع الأسف، وقد وضعت الأقمار في أكثر من موضع منها بعض المواقع الحساسة كالمستشفيات وتستقبل المحطة الروسية، فماذا في المحطة الروسية؟ في المحطة الروسية بضاعة غربية لكن بلهجة روسية، البضاعة أمريكية، لكن اللغة روسية، وأما المستقبلون هنا فهم من المسلمين، وهناك من الروس في بلادهم وهم المستهدفون أصلاً، ماذا يقدم الأمريكان والغرب للروس؟ يعلِّمونهم كيف يعملون في المطبخ، ماذا تصنع المرأة في المطبخ ويعلمونهم ماذا تصنع المرأة في المرقص، ويعلمونهم ماذا يصنعون في مناسبات الولائم والعزائم والأفراح والزواجات والتجمعات، ويعلمونهم كيف يصنعون طعامهم وشرابهم، ويشرحون لهم تفاصيل الحياة ودقائقها، ويبينون لهم كيفية قص الشعر، ويوضحون لهم كيفية صناعة الزي أو الثوب الذي يلبسونه! لماذا؟ لأنهم مصممون على تحويل المجتمع الروسي الذي هو تركة الاتحاد السوفيتي مصممون على تحويله تماماً إلى مجتمع غربي يحاكي المجتمع الأمريكي أو البريطاني أو الفرنسي.
فهم من خلال هذا الغزو الإعلامي الكاسح يحولون المجتمع إلى مجتمع غربي، والعالم الإسلامي مستهدف منذ زمن بعيد من خلال البث التليفزيوني؛ من خلال الصحف والمجلات، من خلال الغزو البشري المباشر، آلاف بل مئات الآلاف من الجنود المجندين والمجندات؛ ليسوا بالضرورة الذين يلبسون الألبسة العسكرية، بل قد يكونون خبراء وقد ويكونون موظفين، وقد يكونون تجاراً وقد يكونون مبشرين علانية ودعاة إلى النصرانية وإلى التنصير وإلى التخريب والتغريب، هذه الجموع الغفيرة وهذه الوسائل الضخمة تستهدف أن تزيل آثار الإسلام في المجتمعات.
وقد رأينا هذا واضحاً جداً، فرأينا أن المسلمين في بلاد الإسلام قد أصبح الزي الرسمي للفتاة الذي تذهب به للمدرسة ثوباً إلى ما فوق الركبة، ورأينا أن الفتاة المسلمة لا أقول اليهودية أو النصرانية، لا! بل المسلمة رأينا أنها تمشي بثياب لا تستر إلا نصف فخذها، وقد ظهر شعرها ووجهها ونحرها وذراعاها وعضداها، وجزء من صدرها وساقاها، وجزء من فخذيها! وهي تمشي بثياب ضيقة هكذا في الشارع، أو في المدرسة، أو في المطعم، أو في أي مكان، فضلاً عن المرقص أو مكان السينما أو الملهى.
فإذا سَمِعَت المنادي للصلاة ينادي ذهبت إلى المسجد، فوجدت في المسجد ثياباً مخصصة، تلففت بها ثم صلت، فإذا انتهت من الصلاة خلعت هذا الثوب، ورجعت إلى ما كانت عليه في عملها السابق.
إذاً هنا أفلح العدو في تغريب المجتمع، وهو يحاول في هذا المجتمع بالذات؛ لأنه لا يزال يتشبث ببعض أخلاقيات الإسلام وقيمه وسلوكياته، فالغرب يركز على هذا المجتمع بالذات، لمحاولة تغريبه وتغييره، ولكنه لن يفلح بإذن الله تعالى ولن يصل إلى ما يريد، فإذا جاء رمضان تغير كثير مما كانوا يصنعون، تغيرت أخلاقيات الناس، تغيرت عاداتهم، تغيرت اتصالاتهم، أقبلوا على الذكر وعلى المساجد حتى في البلاد التي تأثروا فيها، كبلاد تركيا مثلاً أو ماليزيا، أو أندونيسيا، أو بلاد المغرب أو غيرها من البلاد تغير الناس كثيراً وأقبلوا على المساجد وعلى الذكر، وأصبحت الخمور لا تدار علانية، وأصبح الناس لا يمشون في الشوارع كما كانوا بالأمس، إلا وعليهم آثار التدين.
فرمضان من الشعائر والمعالم التي لا تزال تصارع جهود أعداء الإسلام وتقاومها، يشبهها في ذلك الأذان باعتباره شعيرة من الشعائر الظاهرة، فبعض البلاد إذا دخلتها لا تجد آثار الإسلام فيها إلا في المآذن، فإذا جاء وقت الصلاة سمعت ضجيج المآذن، فعرفت أن هذا بلد إسلامي! أما فيما سوى ذلك فلا تكاد تميزه عن غيره من البلاد بشيء، فرمضان انتصار على محاولات التغريب والتخريب.(243/20)
أهمية صلاح المجتمع
الأهمية الكبرى لصلاح المجتمع، هناك فرق بين المجتمع الصائم والمجتمع المفطر، ألم ترَ أنك حين تريد أن تصوم يوماً نافلة تجد التعب! لأنك تذهب إلى المدرسة فتجد الناس مفطرين، وتذهب إلى السوق فتجد الناس مفطرين، وتأتي إلى المنزل فتجد الناس مفطرين، وتذهب للمسجد فتجد الناس مفطرين، فتحس بأنك الوحيد، فيجد الإنسان ثقلاً في صوم النافلة، فمن يصم نفلاً يجد صعوبة فيه.
لكن إذا صام فريضة وجد أن أضعف الناس إيماناً يصوم؛ ويقول: الحمد لله لا أجد أي تعب؛ لأن المجتمع كله صائم؛ فهو إن ذهب إلى العمل وجدهم صائمين، أو ذهب للبيت وجدهم صائمين، في المسجد وجدهم صائمين، في السوق وجدهم صائمين، إلى أصدقائه وجدهم صائمين، كل المجتمع يصوم؛ ولهذا لا يجد الناس مشقةً في الصيام، وهذا أمر يشاهده كل إنسان، وهو أمر محسوس تماماً.
إذاً، هذا يكشف لك عن أثر المجتمع في صلاح الفرد وإعانته على القيام بالواجبات، ولذلك يجد المسلمون الذين يصومون -مثلاً- في بلاد الغربة صعوبة؛ لأن المجتمع لا يراعيهم، فالمجتمع غير صائم، وهو لا يراعيهم في برامجه، في أوقات الدراسة، في أوقات العمل، في أي شيء، فيجدون في ذلك مشقة وصعوبة لا يجدها المسلم الذي يصوم في مجتمع صائم.
وهذا يصدق على كل القضايا السلوكية الأخرى، فالإنسان حينما يبحر -كما يقال- ضد التيار يجد صعوبة أن يسبح ضد التيار، إذا مشى أمتاراً دفعه التيار إلى الوراء عشرات الأمتار، إذا كان المجتمع فاسداً فكيف للإنسان أن يتعفف ويتطهر ويصلح ويستقيم؟ يكف بصره عن الحرام، يكف سمعه عن الحرام، يكف لسانه عن الحرام، لا يأكل إلا حلالاً! أنى له بذلك والمجتمع من حوله كله يقول له: هيت لك تعال؟! وهذا يؤكد على أهمية أن نكون كلنا يداً تعمل على وقاية المجتمع وإصلاحه وحمايته من ألوان الفساد الذي يراد به.
يا أخي! الذي يبذل مجهوداً بسيطا لمحاولة منع المجلة الخليعة من بقالة الحي -هذا نقول له: جزاك الله خيراً! والذي يبذل مجهوداً آخر لمحاولة منع التدخين في مكان ما -نقول له: شكر الله لك! والذي يحرص على إخراج جهاز التلفزة من البيت وقاية للأسرة -نقول له: أحسنت أحسنت! جهد مبرور! والذي يحرص على أن يكون مجتمع المدرسة -مثلاً- مجتمعاً صالحاً يتنفس فيه الطلاب هواءً طلقاً نظيفاً نقول له: نعم ما فعلت! ونعم ما قدمت للإسلام وللمسلمين! وهكذا ينبغي أن نكون كلنا يداً تعمل ليكون الهواء الذي يتنفسه أبناؤنا في المجتمع هواءً نظيفاً، والماء الذي يشربونه نقياً، والأكل الذي يأكلونه طيباً، وأعني بذلك أن نحرص أن يكون مجتمعنا مجتمعاً إسلامياً لا تقع عين الناشئ فيه على ما يسخط الله تعالى، وإلا فكما قيل: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوهُ.(243/21)
العناية بصلاح الباطن
ضرورة العناية بصلاح الباطن: فالصوم في حقيقته عبادة باطنة قبل أن يكون عبادة ظاهرة، وذلك من وجوه: أولها: أنه يفتقر إلى النية، فلا بد للصوم من نية، وبالنسبة للفرض لا بد أن تبيت النية من الليل خلافاً للنافلة على ما هو معروف مقرر في كتب أهل العلم، والنية عمل باطن، فلو أن إنساناً أمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بغير نية لم يكن له أجر، ولم يكن هذا هو الصوم الشرعي، والنية عبادة باطنة محلها القلب.
أمر آخر: أن الصوم سر بين العبد وربه، كما قال الله تعالى: {إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به} فلو أن إنساناً أراد أن يفطر لاستطاع أن يفطر دون أن يعلم بذلك أقرب الناس إليه، حتى زوجته لا تدري بذلك، ولكنه يمتنع حتى في خلوته فضلاً عن جلوته؛ خوفاً من ذي الجلال والإكرام، ورعايةً لحق الله تعالى إذاً فالصوم عبادة باطنة.
الأمر الثالث: أن الصوم يقتضي منك تبعات، فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عما حرم الله عز وجل، وهذه أيضا أمور كلها تعتمد على ما في باطن الإنسان.(243/22)
العبادات شرعت لإصلاح القلوب
لا يكفي للصلاح مجرد الالتزام بالمظهر فحسب، بل لا بد من العناية بالقلوب وإصلاحها، وتذكر أن العبادات كلها إنما شرعت لإصلاح القلوب، فالصيام مثلاً شرع لصلاح القلب، وفرقٌ بين صائم تجده صام سمعه وبصره ولسانه فهو خاشع متعبد منفق أواب قارئ للقرآن ذاكر لله تعالى غاض لبصره، وبين آخر صائم ولكنه إما نائم، أو سهران على ما حرم الله من الأصوات والصور، أو مشتغلٌ بأعراض الناس، أو يسب ويشتم، أو يرفع صوته بالبذاءة على أهله وعلى زملائه في العمل وعلى المراجعين وعلى غير ذلك، أو يهمل عمله ولا يقوم به، أو يؤذي جيرانه؛ فلا يزيده الصيام إلا سوءاً وبعداً وإعراضاً وقسوة في قلبه.
خذ مثالاً آخر: العمرة وهي من الأعمال التي يكثر الناس من فعلها في رمضان، هناك فرقٌ بين معتمر ذهب لذكر الله تعالى والطواف بالبيت العتيق، وتعظيم شعائر الله، وتعاهد مقامات إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذكر الله وطلباً للأجر {الصلاة فيه بمائة ألف صلاة} كما في صحيح البخاري، وبين آخر ذهب إلى العمرة فعلاً، لكن ذهب: إما للفخر، وإما عادة، وإما للترفيه والتسلية، أو ذهب مع أهله استجابة لطلب البنين والبنات! فيذهب هناك للأحاديث والكلام، وتنويع المآكل والمشارب والمطاعم، وربما يذهب الأولاد والبنات والأسرة، فيتركهم هناك في مثل تلك الأجواء التي هي فرصة بلا شك مع الإهمال لحصول لقاءات بين البنات والأولاد في الشوارع بعد صلاة الفجر: في المصاعد، في اللقاءات عبر النوافذ، عبر البلكونات، عبر الهواتف، بل عبر الركوب في السيارات، وقد رأينا وسمعنا وعرفنا من ذلك شيئاً كثيراً يندى له الجبين.
وكثير من الآباء يذهبون ويهملون أولادهم وأسرهم هناك، وربما لا يراهم قط، وربما يمنع الأهل من الذهاب إلى الحرم ثم يتركهم في الشقة لا يدري ماذا يصنعون، ولا ماذا يعملون، ولا إلى أين يذهبون، وربما يذهبون للأسواق كثيراً؛ فالبنات يقولون: الأم لها أغراض، ونحن لنا أغراض أخرى، والشباب كذلك، والشوارع ممتلئة وكثير من شوارع مكة ضيقة أزقتها، فيحصل من جراء ذلك شر مستطير، وقد يقع في هذا بعض الخيرين والخيرات، وأقولها بلسان عربي مبين ولا أقولها عن توقع أو ظن، فما بالك بمن لم يتربوا أصلاً على أجواء طيبة؟ ولم يتلقوا توجيهاً سليماً، وقد يكون في نفوسهم مرض الشهوة، وقد يكون في قلوبهم هيجان، وقد يكون فترة المراهقة والشباب مع الإهمال والترك، فيحصل من جراء ذلك شيءٌ كثير.
الحج أيضاً: هناك فرق بين من حج إرادة وجه الله وتطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وقوله صلى الله عليه وسلم عن عائشة وهو صحيح: {إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله} فرق بينه وبين من يحج إما للربح المادي لأنه حج عن فلان بآلاف مؤلفة، أو من أجل الرياء والسمعة، أو للسياحة، أو للاستطلاع، أو لغير ذلك من المقاصد، فينبغي التفطن إلى أن هذه العبادات والأعمال إنما شرعت لإصلاح القلوب، وينبغي ألا تحجب عما شرعت له وأن نقبل على إصلاح قلوبنا في هذا الشهر الكريم، فهو موسم مبارك لمن أراد أن يتقرب من ربه عز وجل؛ فإن القلب يكون فيه إقبال، ويكون فيه انكسار، والنفس يكون فيها برود عن المعصية وإقبال على الطاعة، والشياطين قد سلسلوا فما الذي يحول بينك وبين الله عز وجل؟! فأقبل على الله تعالى؛ فإن الله تعالى يقول: يا باغي الخير أقبل وهلم، ويا باغي الشر أدبر.
الخاتمة: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ أن يتقبلنا في هذه الليلة أجمعين، ويمحو عنا ما سلف من الذنوب والخطايا، وأسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب، أن يغيث قلوبنا بذكره وشكره وحبه، وأن يجعل حياتنا مليئة بجلائل الأعمال المقربة إليه، وأن يكتب لهذه الأمة النصر المبين، وأن ينقذ المستضعفين في كل مكان، وأن يفك أسر المأسورين ويرفع الضر عن المضطرين، وأن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأن ينصر من دعا إلى تحكيم شريعته ورفع رايته.
اللهم انصرنا على أعدائنا، اللهم انصرنا على شهوات أنفسنا، اللهم انصرنا على شياطيننا، اللهم وفقنا لما يرضيك من الأقوال والأعمال، اللهم اجعلنا ممن استهداك فهديته، واستنصرك فنصرته، واسترحمك فرحمته، وسألك فأجبته، اللهم لا تحجب دعاءنا بذنوبنا يا حي يا قيوم، اللهم اغفر لنا ذنوباً حجبتنا عن بابك، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغث المستضعفين في كل مكان، اللهم أرنا في الكافرين والمستكبرين يوماً أسود كيوم فرعون وقومه، اللهم أرنا في خصومك وخصوم دينك يوماً أسود، اللهم عجل عليهم بعذابك وبأسك يا حي يا قيوم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم عجل بالفرج والنصر للمسلمين في كل مكان، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الكافرين، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(243/23)
لا قيمة للعمل الظاهر من دون صلاح القلب
فكل عملٍ ظاهرٍ لا بد له من رصيد، وإلا لم يكن له قيمة، وقد قال الله تعالى عن الكافرين الذين فسدت بواطنهم بالمرة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] .
ولما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان وكان رجلاً كريماً جواداً محسناً في الجاهلية، يتصدق ويكرم الضيوف وغير ذلك، قالت: يا رسول الله أينفعه ذلك؟ قال: {لا يا عائشة! إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} فلا ينفعه ذلك.
ولما سأل عدي بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عن أبيه -وكان جواداً شهيراً، وهو حاتم الطائي الذي يضرب به المثل- هل ينفعه ما فعل؟ قال: {إن أباك أراد أمراً فبلغه} أي أراد الدنيا فحصلت له الدنيا والسمعة، وما له عند الله في الآخرة من خلاق!(243/24)
خطورة أمراض القلوب
فأمراض القلوب أخطر من أمراض الأبدان بكثير، وربما تفلح بسهولة في تحويل مظهر الإنسان إلى مظهر مستقيم، ولكنك تحتاج إلى جهود مضاعفة لتحويل قلبه إلى قلب سليم! والله تعالى ما جعل النجاة في الآخرة لمن أتاه ببدن سليم أبداً، أبداً!! وإنما قال على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .(243/25)
إهمالنا لقلوبنا
بالله علينا أيها الأحبة كم منا من يتعب في إصلاح قلبه؟! وكم منا من يتعب في إصلاح قلوب الآخرين؟! وكم من خطبة ألقيت في هذا المجال؟! وكم من محاضرة؟! وكم من كتاب؟! أقول: قليل، بل أقل من القليل، وربما نجد أن كثيرين منا يتحمسون، ولكن لغير أعمال القلوب! خذ مثالاً: -وقد هممت أن أفعل هذا الأمر- لو جمعنا الأوراق التي توزع في المساجد مثلاً، وتلصق بالأبواب وتنشر في مجتمعات الرجال والنساء ماذا نجد؟ سنجد أن أكثر من 90% منها تعالج أمراضاً سطحية ظاهرية، هي منكرات بلا شك، ومعالجتها مطلوبة، وبذل السبب في ذلك مطلوب، ومن فعله فهو مأجور ولكن لماذا لم نعطِ الجانب الثاني المتعلق بصلاح الباطن، بصلاح السريرة، بصلاح القلب، لم نعطه إلا 10% أو أقل؟! لماذا لا تتجه الجهود إلى تأليف الكتب وإلقاء الدروس والمحاضرات والخطب والنشرات وبذل الجهود المضاعفة في مخاطبة قلوب الناس وإصلاحها وعلاجها من أمراضها؟ كم كتاباً رأيت في علاج الحسد أو نشرة مختصرة، أو في علاج الكذب، أو في الدعوة إلى صلاح القلب، أو فيما يتعلق بأمور السرائر والتي عليها المعول؟!(243/26)
صلاح الظاهر لا يكفي
لذلك نقول: أيها الأحبة لا يكفي صلاح الظاهر عن صلاح الباطن، ولا يكفي لأن نحكم عليك بأنك صالح -مثلاً- أن تعفي لحيتك، أو تقصر ثوبك لا يكفي هذا فقط، وإن كان هذا مطلوباً بلا شك، فمجرد الالتزام بالمظهر فحسب لا يكفي، فقد يلتزم الإنسان بمظهر طيب ويكون كذاباً! يكذب كذبات لا أول لها ولا آخر، وقد رأينا من هؤلاء أصنافاً -لاكثرهم الله- ويغتر بهم الناس لما هم عليه من صلاح الظاهر فتسير أكاذيبهم والعياذ بالله سير الشمس، وتبلغ الكذبة من أحدهم الآفاق، ويتحدث الناس بها لا يشكون ولا يرتابون في أنها حقٌ؛ لأن الذي تكلم بها ثقة، وما أدراك أنه ثقة؟! قال: ما شاء الله! تبارك الله! شكله كذا وصفته كذا، فهذا لا يكفي، الالتزام بالمظهر لا يكفي.
وكم من إنسان قد يكون مظهره حسناً، ولكنه إذا خلا بمحارم الله تعالى انتهكها! فقد يكون والعياذ بالله مدمناً على صغيرة، وربما يكون مقارفاً لفاحشة، وربما يكون مغرماً بالدنيا وحب المال من حلال أو من حرام، فربما أكل الربا، وربما سرق، وربما غش، وربما خان، وربما أكثر من اليمين بغير حق في بيعه وشرائه، وربما ألوانٌ وألوانٌ من المعايب، ومن أعظم ذلك الحسد والحقد الذي يأكل قلوب كثيرٍ من الناس أكلاً ولو كان ظاهرهم الصلاح.(243/27)
الأسئلة(243/28)
مشروع الشريط والكتاب
السؤال
فضيلة الشيخ! قد أنشئ أيضاً بالبدائع مشروع الدعوة إلى الله عز وجل بتوزيع الكتاب الإسلامي، وقد وزعنا منه حتى هذا اليوم أكثر من مليون ونصف كتاب في داخل المملكة وخارجها، ونعلم أن جميع إخواننا وفقهم الله يفرحهم هذا ويثلج صدورهم، ولكننا نريد منهم دعماً مادياً ومعنوياً، فالمشروع يكاد يتوقف إن لم يسرعوا بالتبرع، وإيداع المال في حساب هذا المشروع، ومادمنا في زمن شهر رمضان، في شهر الخيرات والبركات فنطلب من فضيلة الشيخ أن يحث الإخوة على التبرع في هذا الأسبوع وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أيضاً هذا المشروع اطلعت عليه وعلى بعض آثاره وثماره، وهو مشروع رائد حقاً؛ لأنه يخاطب المسلمين في كل مكان، ومشروع رائد؛ لأنه يهتم بنشر الكتاب والشريط، والله يا إخواني! -الحديث كما يقال ذو شجون- لو تساءلنا الآن: كم مؤسسة تنصيرية في العالم تشتغل لنشر كتاب الإنجيل والكتب التنصيرية، في البلد الواحد؛ بل في بلادنا؟ اليوم وصلتني ورقة وزعت في المستشفيات أيضاً تدعو للتبرع لمؤسسة تنصيرية في الفلبين، أما نحن فحتى الآن لا أعلم أن هناك مؤسسة مهمتها نشر الكتاب والشريط الإسلامي وتوزيعه في أنحاء العالم الإسلامي كعمل خيري! لا أعلم أن هناك مؤسسة تخصصت لهذا الغرض! وإن كان المشروع الذي ذكره الشيخ محمد يعتبر بداية ناجحة وأيضاً خطوة رائدة في هذا السبيل، وأنا أدعوكم أيها الإخوة إلى المشاركة بطباعة الكتب والأشرطة أو مساعدة الإخوة بالمال، والكتب التي يطبعونها كتب مفيدة ونافعة وتوزع في أنحاء العالم الإسلامي، كما إنني أقول للإخوة: إنني أيضاً من خلال المكتب الذي يعمل فيه عدد من الإخوة المتعاونين على استعداد للتعاون مع هؤلاء الإخوة في مثل هذا المشروع، سواء بإمدادهم بالكتب والأشرطة أو ببعض ما يحتاجونه من المال، وأقول هذا حثاً للإخوة الآخرين على المشاركة والمساهمة في مثل هذا المشروع الخيِّر: {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(243/29)
المستوصفات النسائية
السؤال
كما لا يخفى على فضيلتكم فقد أنشئ بحمد الله مستوصف خيري في البدائع خاص بالنساء، ولا يدخله الرجال مطلقاً، ولكن الشائعات قد انتشرت عنه، ويتكلم فيه حتى بعض الأخيار وللأسف! فما تعليق فضيلتكم على ذلك؟
الجواب
الحقيقة نحن سمعنا بهذا الخبر منذ شهور، فقلنا هنيئاً للإخوة في البدائع ما سبقوا إليه، فإنهم هم السابقون ونحن -إن شاء الله- على الأثر لاحقون، ومثل هذا المشروع مشروع عملي؛ تكلمنا كثيراً وتكلم الخطباء والدعاة والمصلحون عن أوضاع المستشفيات، وما فيها من مآسٍ يندى لها الجبين.
وعندي والله رسائل يعجب الإنسان إذا قرأها ولم تدمع عينه، سيقال: إن في قلبه قسوة.
آخر رسالة وصلتني؛ امرأة تقول: إنها بينما كانت في حالة الوضع وقد شرط زوجها ألا يأتيها إلا نساء فوافقوا له على ذلك، ففي أثناء الوضع وهي لا تستطيع أن تتحرك إذا بالطبيب رجل يأتي وقد كشفت عن سوءتها تماماً، فهي كيوم ولدتها أمها!! تقول: كاد أن يغمى عليها، لكن ليت القضية انتهت عند هذا الحد! بل بعد قليل إذا بمجموعة من طلاب المعهد يأتون؛ لأنهم مع هذا الدكتور حتى يتدربوا على بعض الأعمال الطبية، ولا بد من تدريب عملي، فيقفون في مثل هذا الموضع الصعب العسير!! قضايا وأمور في الواقع تنادي علينا أننا أشباه الرجال ولا رجال! لأن المسألة ليست مسألة كلام يقال، المسألة مسألة تطبيق عملي ومؤسسات، وإذا كانت وزارة الصحة تقول: إن إنشاء مستشفى خاص بالنساء أمر متعذر أو متعسر، فنحن نقول: إن همم الرجال تزيل الجبال!! أين الأثرياء؟! أين الإداريون؟! أين الأطباء؟! أين أصحاب الهمم؛ حتى يقيموا مستوصفات ومستشفيات نسائية 100%؟! ونحن مستعدون وكل الناس أن يدفعوا أموالهم حفاظا على أعراضهم: أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال وستجد هذه المستشفيات إقبالاً كبيراً من الناس مهما كانت الأسباب، ومهما كانت الظروف.
أما تلك الأقاويل فإنه لا يلتفت إليها، وينبغي أن يُعْرَف أن أي مشروع سيتعرض لقيل وقال وهمزات! حتى يقوم على قدميه ويستوي على ساقه ويصبح أكبر من أن تعلق به الشائعات والأقاويل والكلمات التي ترمى من هنا ومن هناك.
مع أنني أقول: إن النقص من طبيعة البشر، والكمال أمرٌ صعب، والوصول إليه أيضاً لا يتم بين يوم وليلة، فعلينا حين نقوم بمثل هذه المشاريع وهذه الأعمال -وإن شاء الله سوف تقام مثل هذه المشاريع في أكثر من مكان- أن ندرك أنها سوف تسير قدماً إلى الأمام، وتتلافى النقص يوماً بعد آخر، وهي ترحب دائماً وأبداً بأي نقدٍ بناء هادف أو ملاحظة صحيحة مدروسة موضوعية، بعيداً عن التشهير والتجريح، وبعيداً عن دعايات المغرضين الذين قد ينشرون الأقاويل لغرض أو لآخر.
ونحن ندرك أن مثل هذا العمل له أعداء وخصوم كثيرون في كل مكان وسيتكلمون عنه، لكن هؤلاء لهم شأن آخر، أما المخلصون الناصحون فباب المناصحة مفتوح من خلال الملاحظات الموضوعية، والحقائق والأشياء التي يقترحونها ويرون أن الحاجة إليها ماسة.
وأنا على ثقة أن الإخوة القائمين على مثل هذا المشروع هنا، والقائمين على مثل هذا المشروع في أماكن أخرى، -فإن له نظائر في عدد من البلاد- أنهم من أحرص الناس على الوصول إلى الكمال، وعلى تلافي أية ملاحظة وتكميل أي أمر يرى أن مثل هذه المؤسسات بحاجة إليه.
وأنا لا أملك إلا أن أزجي الشكر والدعاء للإخوة القائمين على هذا المشروع فهم سباقون، وهذا فخر لهذا البلد وسابقة تشكر لهم.
ثم إنني أقول: ينبغي أن نكون كلنا أعواناً لمثل هذا المشروع؛ من استطاع أن يعين، فعليه أن يعين وأنا أعتبر أنه من العون الإقبال على هذا العمل، الإقبال عليه إعانة له ودعم، وشكر القائمين عليه دعم، والدفاع عنه دعم، ومساعدته بكل وسيلة دعم.
وينبغي أن تكون داعماً لكل عمل خيري، لا تقف أمام العمل الخيري! كن مساعداً له بالقول أو بالفعل، وإن لم تساعد بالفعل فساعد بالقول، وإذا لم تساعد بالقول فأقل ما نريده منك أن يسلم منك الخير، وأن تسلم منك الأعمال الخيرية، فلا تنتقدها ولا تنتقصها بشيء.(243/30)
الغربة
السؤال
فضيلة الشيخ! كلنا يعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء!} هل نحن الآن في غربة الإسلام؟ أي هل عادت غربة الإسلام في وقتنا الحاضر؟ كما أرجو حث الحاضرين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب
أما الغربة فنعم: وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلا فهذا زمان الغربة، وهذا زمان من أزمنة غربة الدين، ولكن يلاحظ في ذلك أمور: أولاً: أن هذه الغربة قد تندفع كما اندفعت الغربة الأولى، والذي أخبرنا بأن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً أخبرنا -عليه الصلاة والسلام- بأن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، وهناك خط اسمه خط الغربة، ويقابله خط آخر اسمه خط التجديد هذه واحدة ثانياً: أن الغربة درجات وليست درجة واحدة، وكما أن الليل يأتي تدريجياً حتى تظلم الدنيا ويستحكم، فكذلك النهار فإنه ينبثق شيئاً فشيئاً، وما يزال الإسفار حتى تشرق الشمس على الدنيا كلها، فالآن نحن في زمن غربة لكن لم تستحكم الغربة استحكاماً تاماً، فإن الغربة تستحكم، كما قال بعض أهل العلم: "إن هذا الدين ينتهي بواحد كما بدأ بواحد".
تستحكم الغربة تماماً في آخر الزمان حين لا يبقى إلا أفراد قلائل، إن قالوا لم يسمع لقولهم، وإن أمروا لم يطاعوا، وإن نهوا لم يطاعوا، وإن دعوا لم يستجب لهم، أي لم يستجب الناس لدعوتهم، فحينئذٍ يرحمهم الله تعالى فيقبض أرواحهم، فلا يبقى إلا شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، فذلك هو زمان الغربة المستحكمة التامة التي أخبر عنها الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً في أحاديث.
أما مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي أحد الوسائل لدفع الغربة، وقد تكلمت عن هذا الموضوع في كتاب سيخرج إن شاء الله في نهاية هذا الشهر عنوانه "من وسائل دفع الغربة"، وخصصت فيه فصلاً مطولاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو من أقوى وسائل دفع الغربة، لأننا إذا سكتنا عن المنكرات استحكمت وصارت عرفاً مألوفاً معروفاً ينشأ عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، فمن أنكره قيل له: "أنكرت مألوفاً معروفاً" أو "أنكرت السنة" أيضاً؛ لأن الناس تعودوا عليه وعرفوه، ولكن نقاومه حتى لو لم نستطع إزالته.
بعض الناس إذا تكلم خطيب عن الربا قال له: يا أخي! لماذا تتكلم عن الربا وهذه البنوك ببناياتها الضخمة ومؤسساتها وموظفيها وأعمالها تحارب الله تعالى ورسوله، وهي ضاربة الجذور في التربة ومأذون بها، بل محروسة بقوة السلطان وبقوة السلاح وبقوة الإذن، فلماذا تتكلم؟ لا! يا أخي تكلم ولو لم يأتِ من كلامك إلا أن يظل الناس يعرفون أن هذا الربا حرام، لكان ذلك مسوغاً للكلام وعدم الصمت، فضلاً عن أنه كما قال الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] .(243/31)
نصيحة للنساء
السؤال
إحدى الأخوات تقول: أرجو توجيه نصيحة إلينا نحن النساء، وكذلك أرجو توجيه أزواجنا على عدم إشغال أوقاتنا في رمضان بتنويع الأكل حتى لا يذهب الوقت علينا هدراً؟
الجواب
أما بالنسبة للنصيحة فإنني أقول: إن كل كلام يوجه إلى الرجل، فالمرأة فيه شريكة الرجل، وقد جاء في الحديث الذي رواه النسائي وغيره -وسنده حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما النساء شقائق الرجال} والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] فكلُّ ما يؤمر به الرجل تؤمر به المرأة أيضاً.
ونحن ندعو أخواتنا المؤمنات -فقد أصبحنا نسمع ونعلم بحمد الله تعالى أن الصحوة قد فشت فيهن وانتشرت مثلما هي عند الرجال، وربما أكثر من ذلك- إلى مضاعفة الجهد في الدعوة إلى الله وإصلاح البيوت ونشر الخير في أوساط النساء من بنات جنسهن؛ فإن المرأة هي أحد المعابر التي يخطط الغرب لاستخدامها في تخريب المجتمع وإفساده، وقد كانوا يقولون: "إن كأساً وغانية تصنع بالشعوب ما لا تصنعه الجيوش" ويقصدون بالغانية المرأة، وفعلاً لو تأمل الواحد منا رجلاً أو امرأة لوجد أن المجتمع إذا فسدت النساء من الصعوبة بمكان أن يستقيم الرجل، كيف يستقيم الشاب -مثلاً- إذا كان يرى المرأة متبرجة في كل مكان وهي تقول له كما سبق: هيتَ لك!! الصعوبة حينئذٍ كبيرة وهو يسبح ضد التيار كما أسلفت، ولذلك فإن المرأة على ثغرة كبيرة جداً في المجتمع وينبغي أن ينبري للدعوة إلى الله مجموعة من النساء الفاضلات العاملات الداعيات همهن الدعوة إلى الله وجمع بنات جنسهن على الخير، تعليم القرآن وتحفيظه، تربية النساء، الدخول إلى البيوت، عقد المجالس، إقامة حلقات تحفيظ القرآن، نشر الكتاب، نشر الشريط إلى غير ذلك من الوسائل.
وأيضاً تستطيع أن تقوم بدور آخر كبير، وهو مواصلة الدعاة، والخطباء، وطلبة العلم، والمحاضرين، والمشايخ بكل ما يوجد في مجتمعات النساء مما يحتاج إلى كلام، أو يحتاج إلى حديث، أو يحتاج إلى حكم أو بيان؛ حتى يكونوا على علم، وحتى يساعدوا في إصلاح هذه الأوضاع وتقويم معوجها بقدر ما يستطيعون.
أما ما يتعلق بعمل المرأة في البيت: أولاً: ينبغي أن تعلم أنه حتى عملها في منزلها هو جزءٌ من طاعتها لربها ومقربٌ لها إلى الله عز وجل، و {إذا أطاعت المرأة زوجها، وصامت شهرها، وأدت فرضها؛ دخلت جنة ربها} كما وعد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأين الأخت التي تشعر وهي تجهز البيت لزوجها، أو تعد له الطعام، أو حتى تتجهز له بنفسها، لتبعده عما حرم الله، وتشبع بصره ورغبته التي ركبها الله تعالى فيه أنها تمارس بذلك عملاً دنيوياً وفي الوقت نفسه هي تتقرب به إلى الله تعالى وترجو به جنات الله تعالى ورضوانه؟! هذا لا بد منه، لكن الله تعالى يحب العدل في كل شيء، فلا يجوز أن يكون رمضان بالنسبة لنا كما قال بعض الصالحين: "أنتم تشربون الأسطال، وتأكلون الأرطال، وتعملون عملاً بطال، وتزعمون أنكم أبطال".
هذا لا يكون أبداً، فرمضان فرصة للاعتدال في الأكل وفي الشرب وفي غير ذلك، ونحن لا ندعو إلى مزيد من التقشف ولا نلزم الناس به لا! ولكننا نقول: إن الله تعالى يحب العدل، وكون المرأة مثلاً منذ طلوع شمسها إلى الغروب، وربما إلى هزيع من الليل وهي مشتغلة بإعداد الإفطار، ثم بإعداد العشاء، ثم بإعداد السحور وألوانه ووجباته، ولا بد أن تغير، فتطبخ اليوم ما لم تطبخه بالأمس، واليوم ضيوف، وغداً كذا، وبعد غد كذا! أين وقت الصلاة؟! أين وقت الذكر؟! أين وقت قراءة القرآن؟! ثم إذا كان عندها أطفال أيضاً! إلى غير ذلك، فالعدل مطلوب في مثل هذه الأمور، وينبغي أن يتفاهم الزوجان في ذلك على أمر وسط لا إفراط فيه ولا تفريط.(243/32)
أحداث الجزائر
السؤال
وردت كثير من الأسئلة تسأل عن أوضاع إخواننا المؤمنين الصادقين في الجزائر؟ وما هي آخر أخبارهم؟ وما تعليق الشيخ على كلمات رئيسهم في حل جبهة الإنقاذ؟
الجواب
شكر الله أخي الشيخ محمد وبارك الله فيه، وشكر الله لكم مشاعركم، وأسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتحابين بجلاله، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وما أحببتم إلا قلباً يحبكم، وإن كنت لا أعتقد نفسي حرياً بذلك، ولكن أقول كما قال الصديق رضي الله عنه: [[اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون]] .
أما عن أحوال إخواننا المسلمين في الجزائر، فلعل من آخر الأنباء ما سمعتموه البارحة من قرار حل الجبهة وقد أصدر هذا القرار رجل وامرأتان ممن لا ترضون من القضاة، الذين تلقوا أوامر قبل أن تعقد الجلسة أصلاً لمثل هذا الأمر.
ولم يكن منتظراً من قوم ضايقوا الإخوة المسلمين هناك، وضيقوا عليهم وحاصروهم، وحالوا بينهم وبين المنابر، حتى صُلِّيت الجمعة ظهراً في كثير من المواقع، وحتى امتلأت السجون بأكثر من خمسة وثلاثين ألف سجين، وفتحت لهم معتقلات في الصحراء في وسط الشمس الحارة والهجير الذي يخشى عليهم من شدته أن يصل الحال ببعضهم إلى الوفاة، وفي ظل أوضاع سيئة، وفي ظل تآمر عالمي، وصمت وتآمر عربي أيضا، كل ذلك لقيه إخواننا، ومع ذلك صبروا واحتسبوا، ونرجو الله تعالى أن يكتب ذلك في ميزان أعمالهم.
وأقول أيها الإخوة: إذا لم نغضب لإخواننا المسلمين فسلامٌ على الدنيا وكما قيل: فأف على أرض تقيم بغيرها فليس بها للصالحين مُعرَّج إذا لم يكن ثمة قلوب تخفق بحبهم أو تأسى لهم، أو تحزن لما أصابهم، ولم يكن ثمة ألسنٌ تلهج بالذكر والدعاء الصادق المخبت، إذا لم يكن ذلك، فهي كارثة كبرى أن تمزقت أوصال المسلمين وتقاطعوا فيما بينهم، فلم يعد أحد يشعر بمصاب آخر.
وصور نفسك يا أخي الكريم لو أن عدواً داهمك في بيتك وفي أسرتك وفي بلدك، وحال بينك وبين المسجد -نسأل الله ألا يكون ذلك- وضايقك وصادر مالك، وقضى على إنجازاتك، وحطم جهودك، وحال بينك وبين عبادة ربك، ثم انتظرت من المسلمين الذين يقدر عددهم بألف مليون أو يزيدون -كلمة عزاء، وقفة مناصرة، مساعدة، تأييد- فلم تجد إلا صمت القبور! ماذا كنت تصنع؟! كنت تصاب بالإحباط، وكنت تقول: ما هؤلاء المسلمون؟ من هؤلاء الساكتون؟ أفهؤلاء المسلمون؟ أبداً تكذبني وترجمني الحقائق والظنون!! ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم -يا عبادَ الله- إخوانُ لمثل هذا يذوبُ القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمانُ أين نصرة المظلوم؟ مما أخذه الرسول عليه الصلاة والسلام، من حق المسلم على المسلم نصرة المظلوم، دعك من كونه داعية للإسلام، ودعك من كونه حيل بينه وبين تطبيق الشريعة.
القضية قضية نصرة المظلوم، أخرجوا من ديارهم وسجنوا بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله! والعالم كله لم يذكر للجبهة الإسلامية للإنقاذ لم يذكر لها ذنباً، اللهم إلا ذنباً واحداً أنها فازت في الانتخابات؛ لأن الشعب الجزائري أيدها وعرف أنها تدعو إلى تحكيم الشريعة، وهو ما ضحى إلا من أجل تحكيم الشريعة: وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شَكَاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها لكن أيضا هناك تعليق على قضية حل الجبهة، يقول أحد زعماء الجبهة وقد سمعته: الإسلام أكبر من الجبهة وقبل الجبهة وبعد الجبهة، إن حلوا الجبهة، فإنهم لا يستطيعون أن يحلوا الإسلام، الإسلام والمطالبة بقيام دولة إسلامية في قلب كل مسلم -لا أقول: في الجزائر- بل في بلاد العالم كلها، والإسلام الآن منذ أربعة عشر قرنا وهو يقاوم العوادي جاء الصليبيون بقضهم وقضيضهم، وأقاموا في هذه البلاد فماذا صنعوا؟ ما هي إلا فترة حتى استعاد المسلمون قوتهم فواجهوهم في مواقع ضارية وجعلوهم عبرة؛ حتى أسروا رئيسهم وهو الفرنسيس أو غيره، ووضعوه في دار معروفة بالمنصورة في مصر، فكان شاعرهم يقول: قل للفرنسيس إذا جئته مقالةً من ناصحٍ بَرٍّ فصيحْ دارُ ابن لقمان على حالها والقيدُ باقٍ والطواشيُّ صبيحْ أي إذا رغبتم فعاودوا، فالذي صنعناه بكم في الأمس نصنعه بكم اليوم، وجاء التتار بقوة مذهلة وأعداد كأنهم البحر الهادر، لا يعرف أولهم من آخرهم، قوة متوحشة اجتاحت ما وراءها، جاءت من بلاد الترك ومن وراء بلاد الترك، فكانوا يقضون على الأخضر واليابس، وأصيب المسلمون باندهاش من جراء تلك القوة، ولكن ما هي إلا سنوات حتى استيقظ المسلمون واستعادوا قوتهم، فنازلوا التتار في مواقع حتى أن التتار أنفسهم أسلم منهم عدد كبير، كما قال محمد إقبال رحمه الله: باغتت التتار فأدركتها من الإيمان عاقبة الأمان فأسلم منهم من أسلم، ثم قام المسلمون عليهم وانتصروا عليهم نصراً مؤزراً في معارك تاريخية فاصلة معروفة أيضاً.
الإسلام الذي بعث به محمدٌ عليه السلام عمره الآن أربعة عشر قرناً وزيادة، ونود أن نخبر خصوم الإسلام في كل مكان أن الإسلام دين معمر إلى قيام الساعة!! احشدوا ما أردتمو من بنودٍ وارفعوها على حراب الجنودِ ثم سوقوا لنصرها زمر الأنـ ـعام من كل جاهل وحَقودِ فالأباطيل للزوال وإن أمهـ ـلن والحقُّ وحدَه للخلودِ وإنه لموعد غيب لم نره، ولكنه آتٍ قريب ولتعلمن نبأه بعد حين! المقدم: سلمانُ! كنتُ أرى الأبياتَ قد عجزتْ عن الثناء وهاهي اليوم قد قالتْ يا شيخنا كم حباك الله من أدبٍ معين وعلم يشفى الساكتْ(243/33)
توجيهات للشباب
لا بد للداعية إلى دين الله -عز وجل- من البصيرة في علمه، حيث إن الناس يتفاوتون في المواهب والقدرات، بل وحتى الأحكام الشرعية قد تختلف بسبب أوضاع بعض الناس وقدراتهم المالية والجسمية، ولهذا فلابد من التعامل مع حديثي العهد بالالتزام بأسلوب يختلف عن غيرهم، ومن ذلك تلبية بعض رغباتهم وعدم التشدد عليهم بالانضباط، وللدعاة في ذلك أسوة حسنة بتصرف النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان يوم فتح مكة، ومع الأعرابي الذي أراد الهجرة فرده.(244/1)
ضرورة البصيرة في الدعوة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، الشاب السالك في طريق الدعوة إلى الله جل وعلا، يحتاج إلى بصيرة في أمر دعوته، فلا ينبغي له أن يمضي قدماً في هذا الطريق دون أن يتبصر ويراجع نفسه بين الحين والحين، ويعرض نفسه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وليعرف ما كان به من صواب فيزداد منه، وما كان به من خلاف ذلك فيبتعد عنه ويحاذره، لأن الخطأ يسرع إلى الفرد وإلى المجتمع ما لم يكن هناك مراجعة وتصحيح واستعداد نفسي للتخلي عن الأخطاء، والتمسك بالفضائل والأشياء التي تثبت الأحداث والوقائع أنها صواب.(244/2)
الطريقة المثلى لاكتساب البصيرة
ولذلك يجدر بالداعية إلى الله سبحانه وتعالى خاصة إذا كان في مثل حالكم وشأنكم من حفظة كتاب الله والحريصين على مدارسة القرآن أن يجعل من القرآن الكريم والسنة النبوية نبراساً، ويُعْمِل فيها عقله وفكره، بحيث يكون له نظران: النظر الأول: إلى النص الشرعي، وهو نظر تأمل وتدبر واستنباط، ليفهم النصوص ومعانيها وما تدل عليه.
والنظر الثاني: إلى الواقع الذي يعيشه، وهو نظر مراجعة وتحليل وتأمل؛ ليعرض هذا الواقع على ما فهمه من الكتاب والسنة فيصححه على ضوء ذلك الفهم.(244/3)
شرط هام للاستفادة من القرآن والسنة
والإنسان إذا عود نفسه أن يقف عند الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويستنبط منها الدروس والعبر، يستفيد كثيراً خاصة حين يتجرد من المقاصد الشخصية أو من الآراء المسبقة، بحيث لا يكون نظره في القرآن والسنة نظر إنسان كوّن رأياً يريد أن يبحث عن دليل له، لا! إنما نظره نظر مستسلم للنص، يريد أن يفهم ما يدل عليه النص؛ ليطبقه على الواقع.(244/4)
النصوص الشرعية لا تختص بأصحابها
إننا نعلم -أيها الإخوة- أن القرآن الكريم لم يكن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً مكتملاً من أوله إلى آخره ليتلوه على الناس، بل نزل منجماً على حسب الوقائع والأحداث: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [الإسراء:106] فنزل القرآن مفرقاً بحسب الوقائع، يقع في المجتمع حادثة، فينزل القرآن الكريم يعالج هذه الحادثة، لكن أمد النص أوسع من الحادثة، ولذلك يقول الأصوليون: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بمعنى أن القرآن حين ينزل، أو توجيهات الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً وإن كان لها سبب محدد معروف للمجتمع المدني في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن النص يعالج هذه الحادثة إلى يوم القيامة وإلى قيام الساعة.(244/5)
وقفات مع حديث الأعرابي والهجرة
: {ولذلك فإنني سوف أقف معكم في هذه الجلسة مع حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع نظر وتأمل في هذا الحديث من جهة، ثم نظرة إلى الواقع من جهة أخرى، وعرضه على ذلك الحديث، تطبيقاً للمبدأ الذي ذكرته قبل قليل.
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الهجرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ويحك! إن شأن الهجرة لشديد، فهل لك من إبل تؤدي حقها؟ قال: نعم! قال: فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله لن يترك من عملك شيئاً} .(244/6)
حال الأعرابي
هذا الرجل أعرابي من سكان البادية، ليس من السابقين الأولين، ولا المهاجرين المعروفين، ولا من الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان، بل هو أعرابي من البادية جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان السؤال الذي وجهه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتعلق بشعيرة عظيمة هي الهجرة إلى الله ورسوله.(244/7)
مكانة الهجرة
والهجرة أمرها عظيم حتى إن الرسول صلى الله عله وسلم قال: {لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج تطلع الشمس من مغربها} فالهجرة شأنها عظيم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72] .(244/8)
رد الرسول على الأعرابي
فالرجل كان يسأل عن الهجرة، لكن الرسول المربي المعلم صلى الله عليه وسلم ما أمره بالهجرة، وإنما قال له: "ويحك"، وكلمة "ويح" توحي بالتوجع لإنسان وقع في هلكة، أو يخشى عليه الوقوع في هلكة، {ويحك! إن شأن الهجرة لشديد -يعني أعظم من أن تطيقه- فهل لك من إبل تؤدي حقها؟ قال: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام:، فاعمل من وراء البحار} والمقصود بالبحار: هي القرى والمدن، أي: اعمل في بلدك ما دمت تؤدي الزكاة وتقيم الصلاة، فإن الله لن يترك -أي: لن يقصك- من عملك شيئاً.
الوقفة التي نقفها أمام هذا الحديث هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينزل الناس منازلهم، ويعطي كل إنسان من التوجيه بقدر طاقته، أرأيتم لو كان عند إنسان منا مصباح كهربائي، له نسبة معينة أو طاقة معينة، فربط هذا المصباح بتيار كهربائي أقوى منه، ماذا تكون النتيجة؟ النتيجة أنه يحترق! وكذلك العكس: لو ربط بتيار كهربائي أضعف منه، فإنه لا يؤدي طاقته كاملة، بل قد لا يؤدي طاقته بالكلية -أحياناً-.(244/9)
معاملة الرسول للناس على قدر طاقتهم
الناس يختلفون في مواهبهم، وقدراتهم، وما أعطاهم الله عز وجل، فالقعود بالإنسان عن طاقته ظلم له، وكذلك تحميل الإنسان فوق ما يحتمل إنما يكون كالجمل الذي إذا ثقل عليه الحمل، فإنه يبرك ولا يستطيع المسير، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يأمر الناس بالهجرة، ويدعوهم إليها، لكن لما جاء هذا الأعرابي، قال له: {اعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً} لأنه قد يكون مصير هذا الأعرابي لو هاجر، مثل مصير ذلك الأعرابي الآخر الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً، فلما أقام في المدينة استوخمها، وأصابته الحمى، فتضايق من المدينة، وجاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أقلني؛ أقلني بيعتي، يريد أن ينسحب من الموضوع، فلما رفض الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة ولم يبالِ، فقال الرسول صلى الله عليه سلم: {المدينة تنفي خبثها، وتنصع طيبها} .
إذاً فكل إنسان له طاقة ينبغي أن يعامل على ضوئها، فلا يزاد له فيظلم ويحمل ما لا يطيق، ولا ينقص منه فلا يؤدي ما يمكن أن يقوم به.(244/10)
حديث آخر يعضد ما سبق
هذا الفهم -أيضاً- يعضده حديث، آخر هو حديث أبي موسى الأشعريى رضي الله عنه، وهو حديث متفق عليه أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {على كل مؤمن صدقة، قالوا: يا رسول الله! فإن لم يستطع؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق -ما عنده مال، يكتسب، يبيع، يشتري، يحمل، يزرع، فينفع نفسه ويتصدق بما بقي- قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، (وفي لفظ: فليعمل بالمعروف) فقالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليكف شره عن الناس؛ فإنها صدقة منه على نفسه} .
يعني من الممكن أن يصل الحالة بفلان إلى أن تقول: فلان يكفي منه أن يكف شره، لكن في إنسان لا يكفي منه أن يكف شره، بل المطلوب منه أكثر من ذلك بكثير؛ ولذلك -أيضاً- قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد لما سئل: أي الناس خير؟ قال: {مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله -هذا أفضل الناس- قيل: ثم أي؟ قال: رجل معتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه، ويدع الناس من شره} والآخر إنسان لا يستطيع أن يقوم بواجب الجهاد في سبيل الله بنفسه وماله، هو أضعف من ذلك، ولو اختلط بالناس ضر وأصاب الناس من شره، فكفاه أن يدع الناس من شره، ويتفرغ لعبادة ربه، والقيام بما أوجب الله عليه، هذه طاقته.(244/11)
اختلاف الواجب من الناحية الشرعية
وحتى من الناحية الشرعية: يختلف الواجب من إنسان لآخر، وأضرب لكم مثلاً مادياً ملموساً: إنسان عنده أموال طائلة ملايين أو بلايين الريالات، هل مقدار الزكاة الواجبة عليه مثل مقدار الزكاة الواجبة على إنسان لا يملك إلا مبلغاً بسيطاً، هل مقدار الزكاة متفق في الحالين؟ فالزكاة تزداد بحسب كثرة المال الذي أعطاه الله للإنسان، حتى يصل الإنسان إلى حالة لا يجب عليه فيها زكاة، متى ذلك؟ إذا لم يبلغ ماله نصاباً، فلا زكاة عليه ما لم يبلغ نصاباً فمن شروط وجوب الزكاة: بلوغ النصاب.
والكلام نفسه يقال في أشياء أخرى، مثلاً: العلم، إنسان عامي لا يعرف من الدين إلا ما لا بد له منه من القضايا الكلية، هل المطلوب من هذا العامي أن يفتي ويجتهد في النوازل التي تنزل بالأمة؟ لا! إنما لو تدخل في هذا الأمر لكان مقحماً نفسه فيما لا يصلح له وفيما ليس له بأهل، لكن لما تأتي إلى عالم آخر أعطاه الله من العلم في القرآن والسنة والفهم والبيان والقدرة والقبول ما لم يعط غيره، أليس من الواجب عليه أن يقوم بزكاة هذا العلم الذي أعطاه الله جل وعلا بالفتوى والتعليم ونفع الناس؟ لا شك أن هذا هو الواجب، فاختلف الواجب الشرعي بحسب ما أعطى الله هذا العالم من العلم.
عندك إنسان -مثلاً- أعطاه الله عقلاً وذكاءً، وآخر دون ذلك، فهل يطالبون شرعاً؟ كل إنسان يطالب بما يستطيع {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .(244/12)
واقع الدعاة حيال ما سبق
وقد يكون هذا الأمر من حيث النظر المبدئي بديهياً لا يحتاج إلى إطالة، لكن لو انتقلت لتنظر في واقع الدعاة إلى الله في هذا الوقت لوجدت أنهم قد يغفلون عن هذه الناحية، وربما يكون المعلم أو الداعية أو الشيخ -أحياناً- يريد من طلابه أن يصبحوا كلهم عبارة عن قالب واحد طولاً وعرضاً لا يختلفون فيه! وهذا متعذر؛ لأن الناس لا يمكن تشكيلهم بهذه الصورة، بل إن بعض الدعاة أو بعض المعلمين، أو بعض المربين ربما يفرض على طلابه برنامجاً يكون سبباً في نكوص بعضهم! بمعنى أنه يطلب ضريبة باهظة، قد يستطيع أن يؤديها من الطلاب واحد أو اثنان أو عشرة، لكن توجد مجموعة لا يملكون دفع هذه الضريبة، ولذلك يتراجعون ولا يستمرون في الطريق.(244/13)
مثال من حلقات التحفيظ
خذوا مثلاً:- مسألة حفظ القرآن الكريم، هذا هدف من الأهداف التي يسعى إليها الطالب والمعلم، أن يوجد من الطلاب من يحفظون القرآن الكريم، لكن لما يكون عندي مجموعة من الطلاب، ربما يكونون حديثي عهد بصلاح واستقامة، بالأمس كانوا مع هؤلاء الشباب التائهين في تيار الفساد والانحلال، فمن يوم وضع الواحد قدمه في بداية طريق الاستقامة، بحث أين يجد الشباب الطيبين؛ قيل له: تجدهم في حلقات حفظ القرآن الكريم، جاء إلى الحلقة، ومن أول يوم جاء فيه عرف أنه لا بد أن يحفظ غداً -مثلاً- صفحة من القرآن الكريم، ولا بد أن يلتزم بالحضور في شكل معين، ولا بد أن يكون عنده نوع من الأدب والوقار والسمت في الدخول والخروج، وإذا كان هناك مثلاً اجتماع لطلاب الحلقة أو سفر أو غير ذلك؛ لا بد أن يكون ضحكه بقدر، ولا بد أن يلتزم بالوقار، فيستأذن في أشياء كثيرة من شيخه، فيشعر أنه أمام وضع لا يستطيع أن يتحمله منذ البداية، فربما عاد أدراجه إلى السابق كما هي، لماذا؟ لأنه كلف بدفع ضريبة لا يملكها، وكان ينبغي أن يسهل أمامه سبيل الالتزام بالإسلام.(244/14)
كيفية التعامل مع حديث العهد بالهداية
فإذا من الحكمة إذا وجدت إنساناً في بداية طريق الهداية، أن تشعره بأن الهداية إلى الله عز وجل وإلى طريق الخير لا تكلفه أشياء كثيرة هذا من الحكمة؛ لأنك لو أردت أن تسافر مع إنسان في طريق، فإنه من الخير أن تقول له: هذا الطريق إن شاء الله ميسر، ومع الجد والعزم سوف يكون الأمر سهلاً، وخلال أيام قليلة سنصل… الخ، حتى تُهوِّن أمامه الطريق.
وهذا هو الواقع بالنسبة لطريق الإسلام، لأن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] تشعره بأنه لن يخسر شيئاً كثيراً إذا استقام، قد يكون هذا الشاب -مثلاً- في زمان فساده وانحرافه رائد مجموعة من السفهاء في أعمال الفساد والانحلال والضياع، فلا بأس أن تشعره بأنه يستطيع أن يؤدي دوراً طيباً مع زملائه وينفعهم، فمثلما كان جباراً في الجاهلية، يجب أن يكون له دور في الإصلاح، فلا يكون جباراً في الجاهلية خواراً في الإسلام! بالأمس كان مقلقاً للحي بأكمله، واليوم عندما استقام واهتدى صار يخفي رأسه، ولا أحد يدرك وجوده، ولا ينتفع منه، لا يصلح هذا، إذا كان عند هذا الإنسان -مثلاً- طموحات معينة، تلبى هذه الطموحات ولا تحطم، تلبى لكن بصورة معتدلة؛ لأن الاعتدال مطلوب في كل شيء.(244/15)
تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان يوم الفتح
انظر -مثلاً- إلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة.
جاء أبو سفيان، وهذا له قصة طويلة جداً، وفيها عبر وعجائب، وهي قصة صحيحة، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحبس أبو سفيان، يحبسه العباس بن عبد المطلب عند حطم الخيل، أي في طريق الخيل خيل المسلمين- حتى يرى قوة المسلمين، فكلما مرت به قبيلة من القبائل، معها راياتها أو ألويتها وجنودها، انبهر أبو سفيان! فيسأل: من هؤلاء؟ فيقول العباس: هذه قبيلة كذا، هذه مزينة، هذه جهينة، هذه بني سليم، فيقول أبو سفيان: مالي ولبني فلان؟ مالي ولمزينة؟ مالي ولجهينة؟ مالي ولهؤلاء؟ ما الذي جاء بهم؟ وكأنه لا يعنيه أمرهم، حتى جاءت كتيبة المهاجرين والأنصار، وكانت تسمى الخضراء لكثرة السلاح فيها، لا يرى منهم إلا الحدق لا يُرى إلا عيونهم، فقال: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون والأنصار.
قال: يا عباس، والله ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة! أي هؤلاء ما لأحد بهم طاقة، ولا يقف في وجوههم أحد، ثم التفت إليه وقال: يا عباس والله لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه العباس أو نخسه بيده قال: ويحك يا أبا سفيان إنها النبوة، قال أبو سفيان: فنعم إذن، كأنه سلم وما سلم.(244/16)
ضرورة الرفق بالمهتدين
فهذا يوحي ويدل على أن الإنسان إذا كان له في زمان صبوته وانحرافه طموح، وعنده مواهب، وله رغبات ينبغي ألا تحطم، وألا يحس من أول يوم يسلك طريق الهداية أنه مضطر إلى أن يلتزم بنظام رسمي معين، وروتين معين، وأدب شديد، ربما يصعب عليه الالتزام به، لا ينبغي أن نضع عواقب وعقبات أمام إنسان يريد أن يهتدي، قد يكون من بين هؤلاء المهتدين إنسان يقال له مثلما قال عليه الصلاة والسلام للأعرابي: {اعمل من وراء البحار} فليس من المفروض أن يكون كل الناس حفاظاً للقرآن الكريم أو طلاباً للعلم الشرعي، نعم! ينبغي أن ينفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين، لكن ليس كل الناس هكذا، من الناس من يقال: يكفي منه أن يستقيم، يكفي أن يكف شره عن الناس، ومن الناس من هو فوق ذلك، فالله عز وجل فضل بعضهم على بعض في الدنيا كما قال عز وجل: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21] وكذلك مكانة الناس في الآخرة بقدر فضائلهم في الدنيا، وخيار الناس في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، فينبغي أن يكون لدى المربي والمعلم والمنشئ سعة بال على المبتدئين، فيطلب من كل إنسان منهم بقدر ما يستطيع، ولا يحمل الشخص الذي لا يملك قدرة فوق ما يستطيع، فيعجز عن هذا الحمل وينوء به، وربما يكون سبباً في انحرافه.(244/17)
تأليف النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان
المهم أن أبو سفيان أسلم بعد ذلك وتشهد، شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يطلب الأمان لقريش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن} لماذا أبو سفيان بالذات؟ لأن أبا سفيان رجل يحب الفخر! والرسول عليه الصلاة والسلام مثلما كان يعطي المؤلفة قلوبهم من الأموال حتى يسلموا، أعطى -مثلاً- عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وعباس بن مرداس، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل حتى يسلموا، ويلين قلوبهم للإسلام ويتألفهم على الخير بهذا اللعاع من الدنيا؛ كذلك يمكن أن يغري الإنسان للإسلام ويلطف قلبه بشيء آخر من أمور الدنيا، لأنه ليس كل الناس يحبون المال -فقط- فبعض الناس السمعة والمكانة أحب إليهم من المال، فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام بالنسبة لـ أبي سفيان قال: {من دخل دار أبي سفيان فهو آمن} .
فـ أبو سفيان راح لقريش يخبرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إليهم، وأنه على مشارف مكة فقال الناس: ما وراءك؟ قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، الرجل ذكر أشياء تتعلق به هو!! فقال له الناس: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؟! دارك تسعة عشر أو عشرين أو مائة، لكن بقية الناس أين يذهبون؟ قال: {ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن} فذهب الناس إلى بيوتهم وإلى المسجد.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام حين خص أبا سفيان، ليس لسابقته في الإسلام، ولا لمزيد جهاده وبلائه في الإسلام، فهو حديث عهد بالإسلام، لكنه رجل يحب الفخر، فعلم الرسول عليه الصلاة والسلام أن من تأليف قلبه على الإسلام أن يقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وما خسر الإسلام شيئاً بذلك، بل كسب، ولذلك أسلم أبو سفيان وحسن إسلامه، ومثل كثير من هؤلاء المؤلفة قلوبهم، أسلموا وحسن إسلامهم.(244/18)
ما يترتب على عدم الرفق بمن هو في بداية الطريق
حدثني أحد الأشخاص، قال: إنه يعرف شباباً في الحي كانوا يأتون إلى مكان في المسجد لقراءة القرآن وطلب العلم؛ يجلسون فيه، لكن لم يكن لديهم إمكانية أن يستمروا في الحفظ والحضور والطلب والمراجعة، وما أشبه ذلك، فكان عندهم شيء من التساهل في ذلك، وبطبيعة الحال ربما أن الأستاذ أو المعلم لم يكن يطالبهم بشيء أو يلزمهم أو يعاتبهم عليه، لكن- أدبياً - يخجل الطالب منه، يقول: إذا حضر رأى جميع زملائه قد قاموا بجميع الواجب إلا هو فخجل، فأحب أنه إما أن يقوم بالواجب كله كغيره أو يترك هذا الميدان؛ لئلا يصبح مشاراً إليه بالبنان بأنه إنسان كسول ومقصر وغير قائم بما يطلب منه، فظل هؤلاء يتناقصون شيئاً فشيئاً حتى ابتعدوا عن طريق الخير، واستلمهم قرناء السوء؛ حتى صاروا معروفين في حيهم وحارتهم بالفساد والانحلال، وقضاء أوقاتهم في لعب الكرة، والتفحيط في الشوارع، وإيذاء المارة، وربما وقعوا في شرب الدخان، وغير ذلك من المعاصي والفواحش والموبقات.
فلا بد أن يدرك الداعي إلى الله جل وعلا والمعلم أنه أمام أعداد كبيرة من الناس، وأن كل إنسان عنده من الإمكانيات ما ليس عند غيره، فهناك من عنده مواهب سواء في الحفظ، أو في طلب العلم، أو في الخطابة، أو في الشعر، أو في الكتابة، أو في أي موهبة وهبها الله، وهؤلاء في حاجة شديدة إلى من يتعهد هذه المواهب ويسقيها وينميها؛ لتستخدم في سبيل إعزاز الإسلام ونصره.
وفي المقابل هناك من هم دون ذلك، من يحتاجون أن يقادوا إلى طريق الخير رويداً رويداً، ويساقوا إليه سوقاً لطيفاً لا عنيفاً، حتى تألف قلوبهم الخير، وتستسلم له، ويستقر في نفوسهم؛ ولا يلزم أن يتحولوا إلى علماء أو حفاظ أو أئمة أو ما أشبه ذلك، بل كل إنسان يغترف بحسب إنائه؛ فالخير مثل البحر الذي ليس له ساحل ولا نهاية، والناس مثل القوم الواردين على هذا الماء ليغترفوا منه، كل إنسان يغترف بحسب الإناء الذي معه، فالذي معه إناء كبير يأخذ ماءً كثيراً، والذي معه إناء صغير يأخذ ماء قليلاً، وربما يوجد إنسان ليس معه إناء، فيكتفي بأنه ينقع غلته ويأخذ ما يحتاجه لوضوء أو شرب، ثم يدع الباقي.
هذه خاطرة مرت بذهني وأنا أراقب حال بعض الدعاة إلى الله جل وعلا، وأقرأ بعض النصوص المتعلقة بهذا الموضوع كما أسلفت، فأحببت أن ألقيها بين أيديكم، وأترك المجال بعد ذلك إذا كان أحد منكم لديه إضافة، أو تعليق، أو -أيضاً- سؤال، فيمكن أن نستفيد منه في الدقائق الباقية!!(244/19)
الأسئلة(244/20)
معالجة العجب
السؤال
يقول: الذي أصيب بمرض العجب، ما هو الحل الأمثل إن أمكن لهذا المرض؟
الجواب
العجب أو الإعجاب بالنفس لا شك أنه مرض خطير، ومؤد إلى حبوط العمل، والعلاج لمرض العجب ولسائر الأمراض القلبية يكون أولاً: بالمجاهدة، وهي مجاهدة في مجال القلب بدفع هذا الأمر عن نفسه؛ لأنه ربما يخطر الخاطر عند كثير من الناس، لكن الفرق أن هناك من يستقر عنده هذا الخاطر، ويفرح به ويستجيب له، وهناك من يأبى هذا الخاطر ويدفعه عن نفسه، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم كما أن على الإنسان إذا تأكد أن عنده عجباً في نفسه أن يبتعد عن المجالات التي تثير هذا العجب، ويحرص على أن يؤدي الخير، ويجاهد نفسه في عدم الظهور، فمثلاً: موضوع الصدقة، قد يكون من المناسب أحياناً أن يتصدق الإنسان ويعلن الصدقة، لماذا؟ لقصد أن يحث الناس على الصدقة، ويحرك غريزتهم إلى البذل والعطاء؛ لأن الناس إذا رأوا الذي يعمل الخير تشجعوا أن يعملوا مثل عمله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} ما معنى: {من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة} ؟ معناه عَمِلَ عَمَلَ خَيْرٍ مشروعٍ مثل: الصدقة، أو التعلم، أو الدعوة، أو الجهاد، أو نحو ذلك، فرآه الناس فانتبهوا، فتحركت فيهم دواعي الخير، فعملوا مثل عمله.
لكن إنساناً آخر إذا أعلن الصدقة وجد في نفسه العجب والغرور، فنقول له حينئذ: يفضل أن تتصدق سراً حتى تطمئن إلى خلوص نيتك.(244/21)
الكتب التي تستنبط منها الدروس
السؤال
ما هي الكتب التي يمكن أن يؤخذ منها دروس لتلقى على الطلاب؟
الجواب
الكتب كثيرة في الواقع، فمن الكتب كتب التفسير، فإن الإنسان يمكن من خلال قراءته آية من كتاب الله جل وعلا، أن يراجع كتب التفسير في هذا الآية، ثم يتأملها ويكتب فيها بعض الدروس والعبر والوقفات التي يستفيد منها الطلاب، كذلك كتب الحديث النبوي، فإنه قد يقرأ حديثاً، ثم يراجع شروح هذا الحديث في الكتب المعتمدة، ويتأملها ويستخرج منها دروساً يلقيها على الطلاب، كذلك كتب التراجم -كما أسلفت- قد يكتب ترجمة راوٍ من الرواة، ويستخرج منها دروساً وعبراً، لأن الناس يستفيدون من حياة الآخرين ويجدون فيها أسوة وقدوة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك! نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(244/22)
اختلاف أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
ذكرت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون في بعض الحالات مستحباً إذا قام به من يكفي، وقد أمر الله بخسف القرية وأمر أن يخسف بالعابد.
الجواب
يجب على طالب العلم أن يحرر الأدلة التي يستدل بها، فقصة العابد هذه ليست صحيحة، التي فيها أن الله قال: إنه لم يتمعر وجهه فيَّ قط، كما أن هذا العابد -على فرض صحة هذه القصة- كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة له فرض عين، لأنه هو الوحيد في القرية الذي يعلم ويعبد الله، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة له فرض عين وليس فرض كفاية، أي أنه واجب وليس مستحباً.(244/23)
ضرورة التربية
السؤال
الإنسان مطالب بالتكامل التربوي قبل المجال العلمي، ووجود أشخاص لهم قوة في الحفظ والقراءة، ويتناسى التربية، أقصد أن يغتر بقوته العلمية، ومن ثم يزول توجيه المدرس عنه تلقائياً لأنه يحس أنه رجل قد اكتمل نوعاً ما؟
الجواب
هذا ينبغي أن يتنبه إليه، فالإنسان قد يكون عنده شيء من المعرفة؛ فربما يفرح بما عنده من العلم، كما قال الله عز وجل: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] فالفرح بما عند الإنسان من العلم يحول بينه وبين الاستفادة من الغير، وقد قال بعض السلف كلمة حكيمة، يقول: [[لا أحد أقل من أن يفيد، ولا أحد أكبر من أن يستفيد]] يعني أكبر الناس علماً قد يستفيد من طلابه، وأقل الناس علماً قد تجد عندهم فائدة تخفى عليك، فالحذر الحذر من أن يغتر الإنسان بما عنده من المعلومات جمعها من هنا وهناك، ويخيل إليه أنه أصبح في غنى عن الآخرين، وأنه ليس بحاجة إلى التوجيه من زملائه وأقرانه، فضلاً عن شيوخه وأساتذته.(244/24)
التعامل مع النفسيات
السؤال
يقول: قد يؤثر إعطاء الشخص ما يريد من أماكن بارزة وهو في بدايته إلى تربية الرياء في نفسه؟
الجواب
هذا قد يوجد، لكن الاعتدال خلق نفيس جداً، لا تقول: قد يؤثر فيه الرياء، وبالتالي تجد أنك تقمعه فتؤثر فيه خلقاً معاكساً، لأن كل خصلة خيرة الإفراط فيها والتفريط مذموم، فالفضيلة محاطة برذيلتين إما إفراط أو تفريط، وكلاهما مذموم، فقد يوجد إنسان عنده رياء، وفي مقابل ذلك قد يوجد شخص آخر ليس عنده رياء، ولكن عنده ضعف وازدراء شديد لنفسه يمنعه من القيام بالواجب، وهذا موجود، فأنت ربما تمنعه خوفاً عليه من الرياء، لكنه يكون سبباً في وقوعه في خلق آخر ذميم وهو احتقار النفس وازدراؤها احتقاراً شديداً يمنعه من القيام بالواجب، والاعتدال مطلوب في هذا، فتعطيه قدراً من المكانة تحاول فيه أن يسدد ويقارب فلا هذا ولا هذا.(244/25)
غفلة الداعية عن طلب العلم
السؤال
هذا يقول: ما رأيك في بعض الشباب ممن يهتمون بالدعوة وهم غافلون عن طلب العلم والحفظ؟
الجواب
لا شك أن الدعوة إنما هي إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالداعي يجب أن يكون متشبعاً بفهم القرآن والسنة والعلم النافع حتى يفهم ما يدعو إليه، وحتى لا يقع في الخطأ، فكم من إنسان غلب عليه الحماس في الدعوة إلى الله عز وجل فصار يدعو إلى أمور ربما لا تكون صحيحة، وربما يدعو إلى بدعة وهو يظنها سنة، وربما يدعو إلى خطأ وهو يظنه صواباً، ولكن لا يعني هذا أن يقول إنسان: أنا أريد أن أتفرغ لطلب العلم، فإذا حصلت العلم انتقلت إلى الدعوة إلى الله، لأن العلم لا يمكن أن تحصله كله حتى الموت، لكن: {بلغوا عني ولو آية} فادعُ وتَعلَّم وعَلَّم.(244/26)
الدعوة الفردية
السؤال
ما رأي الشيخ في أن يقوم الداعية- إذا وجد شلة من شلل الفساد - بالجلوس مع كل واحد منهم على انفراد، ومخاطبته، بدل الجلوس مع الشلة كلها في جلسة واحدة.
الجواب
إذا كانوا مجموعة يلتقون على سهر، ولهو، ولعب، ومعاصي، ووضع الإنسان في باله أن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يقف مع نفسه قليلاً، وينظر في حال هذه المجموعة ويصنفهم، فيجد أن هناك مجموعة منهم أقرب إلى الخير، وإمكانية الاتصال بهم أيسر من غيرهم، فيبدأ بهؤلاء، ولا مانع أن يبدأ بواحد، على شكل صلة أو زيارة، أو جلسة يتحدث معه ويزيل الكلفة التي توجد -أحياناً- في النفوس، بحيث يخرج ذلك الإنسان مرتاح من مجلسه، ثم إن أمكن أن تهديه كتاباً، أو شريطاً مفيداً، أو تتحدث معه في بعض القضايا شيئاً فشيئاً، وتستمر على هذا الأمر، وتبدأ -أنت أو غيرك- بخطوة مماثلة مع شخص آخر منهم، فيبدو لي أن أخذهم فرادى أفضل من مخاطبتهم جميعاً، لأنه كما قيل: الكثرة تغلب الشجاعة! فإذا دخل الإنسان بينهم وهو واحد وهم مجموعة، فهنا قد يتألبون عليه ويعترضون، فهذا يلقي كلمة، وهذا يلقي كلمة، وهذا يسخر، وهذا يستهزئ، فتضيع الفائدة، وربما يخرج الإنسان بانطباع غير حسن عن هؤلاء، كذلك فإن هذا الداعي إلى لله ربما يتأثر منهم، وبدلاً أن يجرهم إلى طريق الخير قد يجرونه إلى طريقهم، خاصة إذا كان ضعيفاً، كما أنه قد يكون عند إنسان منهم نوع استجابة، لكن إذا رأى إصرار زملائه تجاهل ما يحس به في نفسه من الرغبة إلى الخير، فأخذهم على شكل أفراد قد يكون أجدى في كثير من الأحيان.(244/27)
التدرج في القراءة
السؤال
ما رأيك فيمن يكثر من قراءة القصص الأدبية ذات الطابع الإسلامي، لأنه حسب زعمه مولع بالقراءة منذ صغره؟
الجواب
إذا كان الإنسان في زمن صبوته مولعاً بقراءة ما هبَّ ودبَّ من القصص والكتب وغيرها، فهداه الله إلى طريق الخير، فهل من السليم أن يستمر على قراءة هذه القصص والكتب الأدبية، لكنها ذات طابع إسلامي؟ أرى أن هذا الأمر بالنسبة له حسناً لأنه يتناسب مع قراءته السابقة، لكن ينبغي مع ذلك أن يحرص على أن يمرن نفسه على قراءة الكتب الأخرى المفيدة النافعة التي تشرح له أصول دينه: ككتب العقيدة الصحيحة، وكذلك التي تشرح له أحكام دينه الفرعية: ككتب الفقه والحديث ونحوها، ولا بأس أن يقرأ -مثلاً- كتب التاريخ والتراجم وغيرها؛ لأن فيها متعة وجاذبية، وفي نفس الوقت فيها فائدة كبيرة علمية وعملية للإنسان، لا بأس أن يتدرج الإنسان في سياسة نفسه، النفس تحتاج إلى سياسة في كل شيء: في العبادة، في القراءة، في أمور الأخلاق، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح البخاري: {ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله} وفي الحديث الآخر: {العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، والفقه بالتفقه} فيحتاج الإنسان إلى أن يسوس نفسه، ويعودها، ويمرنها على الخير شيئاً فشيئاً، حتى تلين ويسلس قيادها له.(244/28)
تفاوت السن بين المدرس والطالب
السؤال
توجد حلقة تحفيظ فيها مدرس صغير السن بالنسبة لمن يدرسون فيها، مما يؤدي لتضايقهم، فبماذا تنصحون الجميع؟
الجواب
في نظري أن من شروط نجاح المعلم: أن ينظر إليه تلميذه نظرة ارتياح وإعجاب؛ فإن الإنسان إذا لم يكن معجباً بشيخه، مرتاحاً إليه، فقد لا يستفيد منه، مهما كان عنده من العلم، ولذلك من المهم أن يكون الأستاذ أو المعلم أو مدرس الحلقة أعلى مستوى من طلابه في الجملة، فإذا كان الطالب أكبر من شيخه بكثير، فهذا في الغالب يحول دون التعلم والاستفادة، ويوجد حالات -لكنها قليلة- يكون للطالب فيه أريحية لا يبالي، بل إنه قد يتلقى عن تلميذ من تلاميذه، فهناك من درس في المدرسة الابتدائية، وظل هو يدرس في المدرسة الابتدائية، ولكن طلابه ترقوا حتى صار منهم من يدرس ربما في أعلى المراحل، فقد يدرس التلميذ أستاذه الذي كان يدرسه في الماضي، بعض الأساتذة عنده أريحية، وعنده قوة نفس، بحيث إنه لا يتضايق من ذلك، ولا يجد فيها أدنى حساسية، وهذه نعمة كبيرة، لكن من يوجد فيه هذا؟! فالغالب في الناس أن الكبير يصعب أن يتلقى عن الصغير، ولذلك أرى أن مثل هؤلاء الطلاب ينبغي إذا كانوا كباراً، وفارق السن واضح بينهم وبين معلمهم أن يحالوا إلى حلقة أخرى، أو تنشأ لهم في الحي حلقة يكون مدرسها مناسباً لهم، أو أن يكون هناك حل ثالث، ليس ضرورياً أن يلتحقوا في حلقة بمسجد إذا كان هناك من يستطيع أن يوجههم بطريقة أخرى، فيمكن أن يكون هذا بديلاً.(244/29)
تنوع أبواب الخير
السؤال
ما تعليقكم على أنه من الممكن لكل إنسان أن يعمل بحسب قدرته في الدين كما في حديث {يصبح على كل سلامى صدقة} وذكر عدة أمور منها الأمر بالمعروف ومنها مساعدة المحتاجين وغيرها.
الجواب
الحديث لا يعني أن هذه أشياء ينوب بعضها عن بعض، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بالذات كان يتكلم عن الصدقات، والصدقة أول ما تطلق ماذا يفهم منها؟ المال الصدقة المالية، فالرسول عليه الصلاة السلام يقول: {على كل مؤمن صدقة} أي بالمال، هذا في الأصل، {قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق} فإذا لم يكن عنده، فهنا نقول: مفهوم الصدقة يكون أوسع، فأعمال الخير التي يعملها تكون له صدقة إذا احتسب فيها، مثل: إعانة ذي الحاجة الملهوف، أو إرشاد الأعمى في أرض الضلالة، أو حمل الكل، أو هداية المنحرف، أو الكلمة الطيبة، أو البسمة في وجه أخيك المسلم، أو إفراغك من دلوك في دلو أخيك، أو إيثارك له بالخير على نفسك، أو حملك لإنسان على سيارتك أو راحلتك، أو ما أشبه ذلك من أنواع الصدقات التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعض هذه الصدقات مستحب، وبعضها واجب، والواحد منها قد يكون في حالة مستحباً وفي حالة أخرى واجباً، فمثلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قد يكون ليس بواجب في حالات، وذلك إذا وجد من يقوم بهذا العمل وقام بالفرض، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، هنا لا يجب عليك أن تأمر وتنهى ما دام غيرك قد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الراجح: فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقي، فما دام من يأمر وينهى موجوداً فقد زال الوجوب، لكن بقي الاستحباب، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر حينئذ؛ إما وجوباً في حالة عدم وجود من يأمر وينهى، أو استحباباً إذا وجد من يأمر وينهى، وفي الحالين فهذا صدقة من الإنسان على نفسه، وصدقة من الإنسان على من أمره بالمعروف أو نهاه عن المنكر، لأن من الصدقة على الإنسان: الإحسان إليه في أمور الدين والدنيا، بل إن الإحسان إليه في أمور الدين أعظم من الإحسان إليه في أمور الدنيا، فإن الإنسان لو مات جوعاً، ولم يجد من يطعمه لقمة يسد بها جوعته، وكان هذا الإنسان مسلماً كان مصيره إلى الجنة، لكن لو كان هذا الإنسان شبعان ريان، يعيش في القصور الفارهة، وكان غير مسلم، فلم يجد من يرشده إلى الطريق الصحيح، ثم مات لكان مصيره إلى النار، ولذلك الله جل وعلا يقول: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] يعني: ضرر الإنسان في دينه وفتنته عن دينه أشد من قتله، لأنه قد يقتل شهيداً فيكون مصيره إلى الجنة، فالإحسان إلى الإنسان في أمر دينه أعظم وأفضل عند الله جل وعلا من الإحسان إليه في أمر دنياه.(244/30)
تقييم الطلاب
السؤال
كيف يمكن تقييم الطالب ذي الهمة العالية من الآخر ذي الهمة الدنية؟
الجواب
الإنسان قد لا يستطيع أن يحدد دائماً أن هذا يكفي منه كذا، وهذا يكفي منه كذا، إلا من خلال المجالسة الطويلة، وربما يقع أحياناً مثل ما قال الشاعر: ترى الرجل نحيفاً فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور بعض الناس بطبيعته إذا قابلته أول مرة، وجدت أنه متحرك ويذهب يقترح ويتكلم، وخيل لك أن هذا الإنسان مهم وطالب علم، ويمكن أن ينفع الله به، لكن إذا استمرت المجالسة، تبين لك أن هذا الإنسان مثل الطبل -كما يقال- يقرع فيسمع له صوت من بعيد لكن ليس له حقيقة! وبعض الناس على النقيض من ذلك، أول ما تراه يخيل إليك أن هذا إنسان خامل وهادئ، ولا يمكن أن ينفع أحداً، لكن كلما ازددت قرباً منه بان لك أن الرجل عنده عقل، وسمت، وعلم، وفهم، وإخلاص، وحفظ، فلأول وهلة لا يستطيع الإنسان أن يحكم على طلابه، لكن مع المجالسة، والمعاشرة، والذهاب، والإياب، والمحادثة تتبين مواهب الرجال، فالإنسان يبذل الخير للناس بكل ما يستطيع، لكن بعد فترة وجد أن هناك أناساً لا يتحركون من أماكنهم في الحفظ ضعفاء، قد يحفظ الواحد منهم شيئاً يسيراً، ثم لا يستطيع مراجعته، وقد يخطئ، فلا يستطيع أن يسير مع زملائه على حسب المنهج، وكذلك في مجال الأعمال الخيرية، والرجل ليس لديه قدرة على الاستيعاب والفهم، فيه ضعف في فهمه واستيعابه فمثل هذا يدرك أن له قدراً من الاستيعاب بقدر ما يستطيع، يبذل له من الخير بطاقة معينة ولا يطالب بأكثر من ذلك.(244/31)
كيفية التعامل مع المتحمس
السؤال
كيف يمكن أن يتعامل المربي مع شخص جديد في الهداية، ولديه حماسة زائدة عن اللزوم؟
الجواب
نعم! إذا وجدت من المهتدي إلى الله تعالى إقبالاً على الخير، فينبغي أن تواجه هذا الإقبال بالتشجيع، وبعض المربين أو المعلمين قد لا يشجع هذا المقبل بحجة أنه يقول: إنني أعرف أن هذا حماس عنده سوف يزول، فلا داعي أنني اندفع معه، والواقع أن هذا ليس بجيد؛ لأن هذا الإنسان المقبل إذا فتر بدأ يعلل ويفسر فتوره بأن فلاناً حطمني، ولما أتيت إليه واجهني بكذا وكذا.
فينبغي إذا وجدت من المقبل إلى الله جل وعلا حماساً أن تشجعه على ما هو بصدده، لكن إذا وجدت أن عنده خطوات غير جيدة، فيمكن أن تنبهه إلى هذه الخطوات، وإذا منعته عن أمر فتحاول أن تعرض عليه وتذكر له ما يكون بديلاً عنه، بحيث إن هذا الإنسان يكون مشغولاً بالخير، فإذا رأيت أن هذا الإنسان يفكر في أمر غير جيد أو غير مناسب؛ فلا تقل له: هذا لا يصلح ثم تتركه! بل إما أن توافق على ما ذكر وتعطيه بعض التوجيهات، لأنه قد يكون مصيباً فيما اقترحه عليك، لكن أنت بسبب ضعف التجربة لم تتقبل هذا الاقتراح، وإن كان غير مصيب، فاذكر له أمراً آخر يستطيع أن يستثمر فيه ما وهبه الله تعالى، ويكون فيه الصواب والسداد؛ لأن الفراغ داء قاتل بالنسبة لمثل هذا الإنسان.(244/32)
معاملة الطالب المبتدئ في حلقات العلم والحفظ
السؤال
هل يؤثر الوافد الجديد على المجموعة السابقة في الحفظ وما واجب المعلم إزاء ذلك؟
الجواب
هذا قد يقع - أحياناً - أن هذا الوافد الجديد قد يؤثر على المجموعة، والإنسان إذا وضع هذا الشاب بينهم، فينبغي له أن يقتدي بأضعفهم، فيراعي حاله، ولذلك فبإمكانه أن يضع هذا الشاب الجديد ومن كان على شاكلته في حلقة أخرى، سواء قام بها هو، أو وكل بها أحد الطلاب البارزين، أو تعاهدهم على انفراد، أو جعلهم يشاركون في أمور معينة، حتى يتيسر لهم الجو المناسب، فإنني أرى أن بقاء هذا الشاب الجديد المهتدي المبتدئ خارج هذه المجموعة التي التزمت خطاً منذ سنين بالحفظ، والمراجعة، والضبط، والحضور، أن بقاءه خارجهم قد يكون أفضل له في حالات كثيرة من دخوله معهم وهو لا يستطيع أن يجاريهم، فربما يحدث له نوع من النكسة نتيجة لذلك، وربما يخيل له أن هذا هو الطريق الوحيد للهداية أن يكون مثل هؤلاء، وما دام لا يستطيع إذن فليعد إلى ما كان عليه من قبل، فليبحث المعلم لهذا المبتدئ عن حل آخره دون أن يقحمه مع هذه المجموعة التي سبقته في مجال الحفظ، والمراجعة، وطلب العلم ونحو ذلك.(244/33)
توجيهات لطالب العلم
تحدث الشيخ عن طلب العلم وضرورة الاستمرار فيه وفي الدعوة إلى الله عز وجل، وأيهما غير مرتبط بزمان أو مكان أو شيخ أو كتاب، وختم بذكر فائدة التأليف وثمرته.(245/1)
حقيقة طلب العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] أما بعد:- ففي هذا اليوم السبت، مطلع شهر شعبان نستأنف هذه الدروس، بعد انقطاع طويل وقد كان انقطاع هذه الدروس.
أولاً: بسبب الامتحانات والاستعداد لها، ثم بسبب الإجازة، ثم بسبب امتداد هذه الإجازة وتأجيل الدراسة، مراعاة لهذه الفتنة والغمة التي ألمت بالأمة، التي نسأل الله عز وجل أن يكفي المسلمين شرها، وأن يجعل عاقبتها إلى خير، وأن يرد كيد عدونا في نحره، فلذلك حصل التأجيل.
ولاشك أن تأجيل هذه الدروس لم يكن بالأمر المستحسن عند جميعنا، لا معلماً ولا متعلماً، وذلك لأن الوقت ثمين، والعمر يمضي، وما مضى لا يعود، والعلم -كما هو معروف- بحر زاخر، لا يدرك بيسر وسهولة، فكان طالب العلم حرياً وجديراً بالدأب والاستمرار والمواصلة، لذلك كان التأخير ليس أمراً هيناً على النفس، إنما هو مراعاة لظروف عامة، لابد من مراعاتها.
وقد كتب الله عز وجل بفضله ومنِّه وكرمه أن نستأنف هذه الدروس في هذا اليوم، أما بالنسبة للدروس الأخرى المسائية، فقد رأيت بعد طول تفكير في الموضوع أن من المصلحة أن تؤجل أيضاً؛ بحيث تبدأ دروس المسجد الجامع في وقت واحد، وذلك لمصالح لعلها ظاهرة لا تخفى عليكم.
وعلى كل حال فإنني في هذا اليوم أحببت أن أجعله مقدمة لهذا الدرس، وألا نتناول فيه شيئاً، وبإذن الله تعالى سنبدأ غداً في القراءة من الصحيحين، من صحيح البخاري وصحيح مسلم.
ومن أجل التذكير فيما يتعلق بصحيح البخاري: نستأنف من الحديث الذي وقفنا عليه غداً إن شاء الله، وبالنسبة لصحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {من قتل نفسه بشيء عذب به} فنستأنف منه غداً إن شاء الله.
ونظراً لأن الوقت عندنا طويل، لكون معظم الإخوة من الطلاب أو المدرسين الذين ليس لديهم في هذه الأيام دوام؛ فإننا سوف نزيد المقدار شيئاً ما فنجعلها في الأصل خمسة أحاديث من , البخاري، وخمسة أحاديث من مسلم؛ على أنه إذا طال الحديث كما هو معتاد يراعى طوله.
أما إذا كان من الأحاديث القصيرة أو شبه القصيرة، فإنها تكون خمسة أحاديث، فإذا كانت متوسطة كانت أربعة، وإذا طالت فكل شيء بحسبه، المهم أن المقدار الأصلي من الأحاديث المحفوظة يكون خمسة من البخاري وخمسة من مسلم للسبب الذي ذكرته، وهو أن معظم الإخوة ليس لديهم دوام، فلا بأس لو امتد الدرس بعض الشيء، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن كثيراً من الإخوة الشباب يشتكون وجود الفراغ لديهم، خاصة في الضحى بسبب عدم وجود دراسة أو عمل يرتبطون به، فيستفاد من هذا الفراغ في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يكون في هذا عون لنا على تدارك ما مضى، خاصة ونحن مقبلون على الشهر الكريم شهر رمضان المبارك نسأل الله تعالى أن يبارك لنا في شعبان، وأن يبلغنا رمضان، ويعيننا على صيامه وقيامه ويرزقنا فيه القبول والإجابة فيكون في زيادة المقدار إلى هذا الحد، نوعاً من الإعانة على تدارك ما فات، أو ما قد يأتي من الانقطاع بعض الشيء.
وأود أن أنبه إلى أمر مهم جداً، ألا وهو أن العلم والدراسة ليست أمراً مؤقتاً مربوطاً بالمناسبات، يتوقف عنده طالب العلم، أرأيت المسلم هل يتوقف عن عبادته لربه عز وجل؟! كلا! بل هو يعبد ربه قائماً وقاعداً وعلى جنب، وفي كل الظروف والأحوال.
وكل حالة لها عبادتها التي تخصها، كما قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: الموت، أما قبل ذلك فالإنسان متعبد: إن كان صحيحاً فله عبادة، وإن كان سقيماً أو مريضاً فله عبادة أخرى، وإن كان غنياً فله عبادة، وإن كان فقيراً فله عبادة، وإن كان عزيزاً فله عبادة، وإن كان ذليلاً فله عبادة، وإن كان قوياً فله عبادة، وإن كان ضعيفاً فله عبادة وهكذا، كل حال من تقلبات الإنسان له فيها تعبد.(245/2)
طلب العلم عبادة
طلب العلم -لاشك- أعظم وأرقى أنواع العبادات، فليس محصوراً بحال معينة يتوقف عندها، ليس محصوراً -مثلاً- في حالة كون الإنسان طالبا، فإذا تخرج وصار معلماً أو أستاذاً، أو جلس في المسجد للطلاب أيضاً- انتهى من طلب العلم وأصبح يعلم، كلا! بل هو لا يزال طالباً للعلم مادام حياً.
أيضاً ليس طلب العلم محصوراً بوقت من الأوقات، وينتهي ويتوقف بزوال هذا الوقت، أو بظرف من الظروف.
فمثلاً: إذا توقف الدرس لظرف أو لآخر فليس معنى هذا أن الطالب يتوقف عن تحصيل طلب العلم، بل على العكس من ذلك! فهذا مدعاة إلى أن يثابر الطالب ويلح ويصر على طلب العلم وتحصيله بكل وسيلة.(245/3)
أهمية الحرص والمثابرة
وذلك أن أهم أساس بعد التوكل على الله عز وجل والاعتماد عليه في طلب العلم، يعود إلى كون الإنسان بذاته حريصاً مثابراً وحرص الإنسان يظهر ويتجلى في أمور كثيرة: منها الجهد الشخصي في طلب العلم، وفي كون الطالب يقرأ ويبحث ويتابع ويسأل؛ وإلا فإن الإنسان قد يحضر الدرس ويخرج منه دون أن يصل إلى شيء أو يحصل على شيء.
وإنني أعلم وأعرف بعض كبار السن طالما جلسوا إلى العلماء وقرءوا الكتب، بل منهم من قرأ بعض الكتب الفقهية مرات كثيرة على علماء فطاحل جهابذة كبار، ومع ذلك إذا جلست معه وذاكرته أحسست أنه لم يحصل على شيء يذكر! وما السبب؟ السبب أن مجرد الحضور لا يكفي، صحيح أن الحضور فيه بركة، وفيه خير، ويكتب له أجر، ويكتب -إن شاء الله- مع الذاكرين، ويسجل له هذا المجلس، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه فيصلي عليه، ويذكر الله تعالى فيذكره ويسبحه، وقد يحصل على شيء، لكن مع ذلك ما لم يكن دؤوباً في نفسه، عنده نهم في طلب العلم، فإنه يفوته خير كثير.(245/4)
الطالب المثابر
طلب العلم ليس محصوراً في مجلس ينقطع بانقطاعه، بل يجب أن يكون طلب العلم هماً في قلبك، يتقلب معك حيثما كنت.(245/5)
الطالب المثابر والإجازة
في الإجازة تجد الطالب يقرأ الكتب، وهاهنا أطرح عليكم سؤالاً ولا أنتظر إجابته، لكن فقط حتى يعرف طالب العلم الجاد نفسه، أنه في هذه الإجازة التي ربما طالت -وإن كانت للإجازة هذه ظروفها الخاصة التي قد لا تقاس على غيرها- لكن بصفة عامة يسأل الطالب نفسه كم قرأ من كتاب في هذه الإجازة؟ ويسأل نفسه أيضاً سؤالاً آخر: كم سمع من شريط؟ فإن الشريط من أسباب تحصيل العلم ولا شك، ويسأل نفسه: كم كتب من بحث في مسألة كبيرة أو صغيرة؟ ويسأل نفسه: كم ذاكر العلماء وطلبة العلم من مسألة؟ فإذا وجد الطالب أنه في هذه الإجازة قد قرأ عشرة كتب، ما بين كبير ومتوسط ورسالة صغيرة، وسمع ما يزيد على ثلاثين أو أربعين أو خمسين شريطاً، وكتب أربعة أو خمسة بحوث، ما بين بحث متوسط وكبير وصغير، وذاكر العلماء في عشرات المسائل التي أشكلت عليه أثناء قراءته أو في حياته اليومية، أو من أسئلة الناس له، فسجلها ودونها، وسأل أهل العلم عنها مشافهة مباشرة أو بالهاتف أو بأي طريق، وسجل أجوبتها وحفظها؛ فإن هذا ما فاته شيء.
بل قد تكون الإجازات -أحياناً- سبباً في تحصيله لعلم ما حصله في غيرها؛ لأنه خلال الدوام المعتاد مشغول بحضور الدرس، وحفظ ما يتطلب الحفظ، ومذاكرة ما يتطلب المذاكرة، ومراجعة ما يتطلب المراجعة، فلا تتاح له فرصة للقراءة ولا للسماع، ولا للمذاكرة ولا للبحث، أما في الإجازة فقد أتيح له من ذلك كله شيء كثير، فهذا سؤال يسأل الطالب نفسه.(245/6)
الطالب المثابر والهمة العالية
هناك فرق كبير بين طالب يعد نفسه ليكون طالب علم، ويسد ثغراً وحاجة تعيشها الأمة، وبين آخر إنما يحضر لمجرد البركة! أنا أقول: حتى الحضور لمجرد البركة فيه خير كثير، ومن لا يحضر إلا للبركة، فليحضر حتى للبركة يكتب له أجر المجلس، وينفع ويشجع إخوانه على الحضور بلا شك، لكن -أيضاً- الإنسان يجب عليه أن يتنافس في الطاعات مع غيره وأن يتسابق معهم، وأن يكون لديه طموح، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: {إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى؛ فإنه أعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن عز وجل} فعلى الإنسان أن يكون طموحاً، لا يكفيه الحضور لمجرد الحضور، بل الحضور ليعد نفسه ويهيئها لأمر جلل وكبير.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل(245/7)
وسائل الدعوة إلى الله
الدعوة إلى الله عز وجل، هي كالعلم ليست مما يتوقف أو ينقطع أو يوقف بحال أو بآخر؛ لأنها جزء من حياة الإنسان! فما دام النفس يتردد، فإنه يستطيع أن يقوم بواجبه ودوره بكل حال؛ وذلك لأنه كما أن من الخطأ -مثل ما أسلفت لكم- أن يتصور طالب العلم أن العلم محصور في الحلقة وهذا خطأ كبير، كذلك من الخطأ أن يتصور طالب العلم أن الدعوة محصورة مثلاً: في كلمة أو محاضرة يلقيها، فإذا توقف عنها لسبب أو لآخر، توقف عن الدعوة، لا! فالوسائل في الدعوة لا تنحصر أبداً.(245/8)
الكلمة الطيبة
من وسائل الدعوة أيضاً: الكلمة الطيبة في أية مناسبة، فأنت -مثلاً- لست موظفاً تتوقف عن الوظيفة في إجازة، أو قد تفصل عن الوظيفة لسبب أو لآخر فتنتهي، لا.
الدعوة تجري في دم الإنسان وعروقه وتتردد مع نفسه، وتكون في سويداء قلبه، فحيثما انقلب انقلبت معه، ولذلك الداعية -مثلاً- قد يكون تاجراً فيدعو وهو يبيع أو يشتري، وقد يكون طالباً فيدعو وهو يتعلم أو يدرس، وقد يكون معلماً فيدعو وهو يعلم، وقد يكون بأي حال من الأحوال، مهما تصورت من وظائف الدنيا وأعمالها، فلك أن تتصور هذه الوظيفة، وأن صاحبها يمكن أن يستخدمها أفضل استخدام للدعوة إلى الله عز وجل.(245/9)
كثرة وسائل الدعوة
إن وسائل الدعوة ليست منحصرة في وسيلة أو وسيلتين أو عشر وسائل، يتوقف الإنسان عنها، فالداعية يتصور أن مجاله الدنيا كلها، وأرض الله واسعة! ليس الداعية مربوطاً بأسلوب معين، ولا بطريقة معينة، ولا ببلد معين، ولا بظرف معين، ولا بوظيفة معينة، بل هو إذا كان صادقاً مع الله، فكل الدنيا مجاله، وكل الأساليب المباحة والطرق المتاحة التي لا تحريم فيها فرصة له يستفيدها ويستثمرها في الدعوة إلى الله عز وجل.(245/10)
التأليف
إذا انصرف الإنسان مثلاً عن محاضرة، انصرف إلى التأليف، والتأليف فيه من الخير والبركة ما ليس في درس أو محاضرة أيضاً، لأنه أبقى منها! ونحن الآن لا نستذكر مثلاً من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دروسه التي كان يعقدها في مسجد دمشق أو غيره، ولا جلساته التي جلسها في مصر أو سواها، إنما الذي بقي لنا من علم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الكتب العظيمة التي دونها وسطرها وأملاها، فكتبها عنه تلاميذه، فهي التي بقيت عبر القرون وتلقاها عنه الناس، وانتفعوا بها أعظم انتفاع؛ فالتأليف من أعظم وسائل الدعوة وأجلها خاصة إذا لم يكن مجرد جمع من هنا ومن هنا، بل كان جمعاً واعياً ومستفاداً ومضافاً إليه ومناسباً للناس.(245/11)
أهمية الاستمرارية وتجاوز الظروف
ما أحوجنا -أيها الإخوة- إلى أن ندرك هذه الأمور حق الإدراك؛ حتى نحسن تصور الأشياء ونحسن التعامل معها، ولا نكون أسرى لظروف خاصة أو أوضاع معينة، أو يكون الداعية منا أو طالب العلم مثل بعض الأشياء المعلبة وغيرها، التي تكون محددة بصلاحية معينة، فإذا انتهت هذه الفترة انتهت صلاحيتها! بل يعد الطالب نفسه والداعية ليكون طالب علم في كل الظروف وداعية في كل الظروف في حال الحرب وفي حال السلم.
هو طالب علم وداعية لا يمنعه هذا ولا ذاك من أن يواصل اجتهاده في طلب العلم، واجتهاده في الدعوة، وإن حالت ظروف معينة دون عمل معين دون حلقة -مثلاً- فإنها لا تحول دون طلب العلم، ولا تحول دون الدعوة.
وكذلك كونه انشغل في فترة من الفترات بأمر معين: إنكار منكر، أو مقاومة فساد، أو محاربة بدعة أو ضلالة، أو فئة ظالمة باغية، تريد بالمسلمين سوءًا أو شراً، هذا لا يمنع من أنه يضع في اعتقاده أن أمامه طريقا مستقيماً لابد أن يحافظ عليه دائماً.
فمن الخطأ أن يتصور كثير من الناس أو بعضهم الأمور على غير وجهها، وأن ينسوا طريقهم في غمرة حدث معين أو أحداث معينة، ويظنوا أنهم شغلوا عنه بغيره كلا!!(245/12)
نماذج في ديمومة الدعوة وطلب العلم
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعدهم كانوا وهم في أصعب الظروف لا ينسون مذاكرة العلم؟!(245/13)
الإمام أحمد بن حنبل
ومن بعد الصحابة والتابعين والسلف كان الإئمة كما حصل للإمام الطبري؛ وكما حصل للإمام أحمد حين قال لابنه عبد الله: ذاكرني بحديث طاوس الذي فيه أن الأنين يكتب، فجاءه وقرأه عليه من كتاب، فترك الإمام أحمد الأنين، وهو في مرض الموت! وهكذا الإمام الطبري كان له قصة مشابهة.
بل إن قبل ذلك كله أسوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، لو رجعت وقرأت الوصايا التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مرض موته، وجدتها كلها علماً وتعليماً، حتى إنه عليه الصلاة والسلام همَّ أن يكتب لهم في مرض الموت كتاباً!(245/14)
عمر بن الخطاب
وربما ذكرت لكم يوماً من الأيام قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- وهو في مرض الموت- وكيف كان يعلم ويتعلم، فيقول للغلام الأنصاري: [[ارفع إزارك؛ فإنه أتقى وأبقى وأنقى، أتقى لربك وأبقى وأنقى لثوبك]] وكيف كان يذاكر الصحابة في مسائل من مسائل الميراث والفرائض، ويقول: [[إنه بدا له فيها رأي إن رأوا أن يتبعوه]] ويقول له عثمان رضي الله عنه: [[إن نتبع رأيك فهو رأي حسن، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك -يعني أبا بكر - فنعم ذو الرأي كان]] .(245/15)
خطورة الاعتقاد بانحصار الدعوة أو العلم في أسلوب معين
فتوقفنا عن الدرس لفترة أو عن الدروس، أو توقف غيرنا، وإن كان مكروهاً بادي الرأي إلا أنه محمود العاقبة؛ لأنه جعل الطالب يتجه إلى أشياء كان قد أجَّلها، وجعل المعلم يتجه إلى أشياء كان قد أجلها، فأثمر من وراء ذلك خيراً كثيراً، فلا يبالغ الإنسان في حب شيء، ولا يبالغ في كراهيته، وإن كان مجبولاً بطبعه على حب ما يعتقد أنه يكون سبباً في المصلحة، وكره ما يعتقد أنه سبب في المفسدة.
أود أن أقول لكم أيها الإخوة: إن هذا الكلام الذي أتحدث به إليكم الآن ليس كأي كلام، بل إنني أعني ما أقول، وأقصد أن يفهم طالب العلم أن طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل ليست محصورة في زمان معين، ولا محصورة في مكان معين، ولا محصورة بطريقة معينة تتوقف بتوقفها، وإن كان الأمر كذلك فنحن في بلاء ومحنة!(245/16)
تجدد الأساليب بحسب الظروف
إياك أن تتوقع أو تعتقد أن الدعوة رهن بأساليب وطرائق مخصوصة تتوقف بتوقفها! أو تظن أن طلب العلم أيضاً محصور بحلقات الدرس أو أشخاص يتوقف بتوقفها! بل عليك دائماً وأبداً أن تتذكر كلمة عمر رضي الله عنه، لما حصلت له القصة مع أبي موسى الأشعري، فقال: أدخلوا كاتب هذا الكتاب يقرؤه في المسجد، قال له أبو موسى: يا أمير المؤمنين! إنه لا يدخل المسجد، قال: ولم؟ أجنب هو؟! قال: لا! إنه نصراني، فغضب عمر ونهى عن استخدامهم، وقال كلمته المشهورة في هذه القصة أو في غيرها: [[مات النصراني والسلام!]] .
تصور نفسك في أي وضع أنك يجب ألا تكون مأسوراً لوضع معين، يكون زواله سبباً في تعطل عملك، أياً كان عملك، بل تكون دائماً وأبداً حريصاً على أن يكون لديك من أنواع ووسائل وطرائق الدعوة وطلب العلم ما يجعل إيقافك عن الدعوة أو عن طلب العلم أمراً من المحال إلا أن يشاء الله.
لماذا؟ لأنك إذا توقفت عن طريق، فتحت لنفسك ألف طريق، وإذا انقطعت عن حلقة، توجهت لأكثر من حلقة، والسبل كثيرة جداً؛ فما دام النَّفَس يتردد، ومادامت الروح باقية، فأنا طالب علم، وأنا داعية!(245/17)
إيقاف الأعداء للدعوة أو العلم مرهون بانحصار الأساليب
إذا كان طالب العلم أو الداعية مربوطاً بأساليب خاصة وطريقة خاصة لا يتعداها، فنحن في بلاء ومحنة؛ لأن معنى ذلك أنه يسهل توقف هذه الأساليب، أو إيقافها، أو اعتراضها، أو حربها، وبالتالي معناه أنه يمكن أن تتوقف الدعوة، أو يتوقف طلب العلم، لا! بل طلب العلم والدعوة يجب أن يكونا قبل كل شيء هماً في قلبك، وشعوراً راسخاً في نفسك، وأنك طالب علم في كل الظروف، وداعية في كل الأحوال أما كيف؟! فلا كيف! لا يعنينا كيف تطلب العلم، وإن كانت الطريقة تحديدها والبحث عن أحسن سبلها حسن، لكن إذا سد على الإنسان باب، فتح الله عز وجل له ألف باب، خاصة إذا كان شخصاً مثابراً جاداً صادقاً عازماً.
وربما صحت الأبدان بالعلل وكما يقول العرب: (الحاجة أم الاختراع) فيفكر الإنسان في ألف وسيلة ووسيلة، يعوض بها نفسه عما قد يكون حرم منه بسبب أو بآخر.(245/18)
من روائع الأمثلة في مواجهة الظروف
وكما قال الله عز وجل على لسان شعيب عليه السلام لما رد على قومه حين قالوا له ولمن معه: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:88-89] .
فيكون عند الداعية إصرار أنه عرف طريقه وأصر عليه، وما كان له أن يتخلى عن هذا الطريق: طريق طلب العلم، والجهاد به، والدعوة إليه، والصبر عليه؛ ما دامت روحه في بدنه، وما دام نفسه يتردد! {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] حتى إنه كما قال أبو ذر رضي الله عنه: [[لو وضع السيف على رقبتي، وأنا أظن أني أنفذ لكم شيئاً من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنفذته إليكم]] .(245/19)
قصة شيخ الإسلام
أرأيت شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: (ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري! حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، قتلي شهادة، وسجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة) .
إذاً شيخ الإسلام رحمه الله لم تكن دعوته ولا تعليمه ولا تعلمه مرهوناً ببلد معين، يخشى أن يفارقه فينتهي أبداً! فهو إذا كان في الشام يعلم، وإذا ذهب إلى مصر عقد الحلقات، وجلس للناس يعلمهم أيضاً، ولا يرى في هذا ولا في ذاك حرجاً؛ فأرض الله واسعة، والمؤمن يسيح في أرض الله، ويقوم بواجبه فيها، ولم يكن رحمه الله يرى أن دعوته أو تعليمه أو تعلمه محصوراً بظرف أو حال معين، بل إن أسوأ ظرف تتوقعه وهو أن يكون في السجن، يعتقد هو أنه مجال للدعوة ومجال للتعليم وتدارك ما فاته! ولهذا أقبل رضي الله عنه في آخر عمره على قراءة القرآن الكريم، وأكب عليه -خاصة وهو في السجن-انكباباً عظيماً، حتى إنه ندم على بعض ما مضى من عمره، وتمنى أنه بادر وسارع إلى قراءة القرآن ودراسته، وعني به أكثر مما عني بغيره أول الأمر، فهذا دليل على أن هذه الخلوة التي حصلت له نفعه الله تعالى بها، وفتح عليه من ألوان الفتوح- خاصة في كتاب الله عز وجل - ما لم يكن له به علم من قبل.
بل إنه يعد حتى قتله محمدة؛ لأنه بالنسبة له شهادة في سبيل الله، يسعى المسلم إليها ويدعو الله أن يرزقه إياها، فكيف يفر منها! وفيها من الدعوة والتعليم ما ليس في الكلام؟! وربما إنسان تكلم كثيراً وكتب كثيراً، ولكن لم يكن لكلامه ولا لكتابته الوقع والأثر العظيم، فلما روى كتابته وكلامه بدمه، عرف الناس أنه صادق، وأنه لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً، وأنه ليس متاجراً بالكلمة ولا مجرد مهرج يقول ليملأ الفراغ.
فصدَّقوا ما قال، وأعادوا النظر فيما كتب، واعتبروا به، وكتب الله تعالى له من التأثير ما لم يكن من قبل، فروى حروفه بدمائه! وكما قال أحد الكاتبين: (إن كلماتنا وأفكارنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها ورويناها بالدماء انتعشت حية وعاشت بين الأحياء) .(245/20)
قصة خبيب
وكما حصل لـ خبيب بن عدي رضي الله عنه كما في القصة المعروفة لما كان مأسوراً بمكة، حتى وهو يصلب على الجذع ليقتل، ما قال: انتهت الفرص وما بعد القتل شيء! لا، بل فكر أنه حتى في هذه الحالة عنده وسائل كثيرة جداً في الدعوة إلى الله ونصرة الإسلام، كيف؟! مثلاً: قصة الغلام الذي دخل عليه يعطيه الموسى الذي كان يريد أن يستحد به، فأجلس الغلام في حجره وقبله، وقال له: [[لعمرك ما خافت عليك أمك حين أرسلتك إليَّ]] ثم أطلقه! وهذه كانت دعوة كبيرة جداً من خبيب، وكأنه قال للمرأة ما معناه: إن المؤمن لا يغدر ولا يخون، وكنت أستطيع أن أقتل هذا الغلام، وآخذ بثأري وأنا حي، ولكني لم أفعل، فكان في هذا من الأثر على المرأة الشيء العظيم.
بعد ذلك لما أخرجوه قال: إن رأيتم أن تدعوني أصلي ركعتين فعلت، فتركوه فصلى ركعتين أتمهما وأحسنهما؛ ولم يطل خشية أن يظنوا أنه أطال خشية الموت، وقال: لولا أن تظنوا أنني إنما أطلت خوفاً من الموت لأطلت أولاً: صلى ركعتين، وهذه عبادة، ثم جعلهم يفكرون جيداً في هذا الأمر الذي يقبل عليه وهو في هذه الحالة، ومرة أخرى أيضاً أقبل عليهم ودعا: [[اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق على الأرض منهم أحداً]] فكانت هذه الدعوة انتصاراً للدين الذي يحمله، والدعوة التي قتل من أجلها.
وقد حقق الله تعالى ما دعا به؛ فما منهم أحد إلا أصيب، إلا أفراداً قلائل ممن من الله تعالى عليهم بالإسلام، وتداركوا هذه الدعوة.
أرأيت كيف استطاع خبيب بن عدي أن يقوم بواجبه في الدعوة إلى الله تعالى، وهو مأسور بمكة محكوم عليه بالقتل؟! أرأيت كيف قام بواجبه في الدعوة وهو يصلب إلى جذع نخلة وتصوب إليه السهام، ليقتل؟! وليست المسألة مسألة خبيب بن عدي أو غير خبيب بن عدي، وهكذا كل داعية جاد صادق يستحيل أن يضع الناس في طريقه السدود والعقبات والموانع، وقد يضعون العقبات، لكنهم لا يستطيعون أن يوقفوه، ولا يستطيعون أن يضعوا الموانع والسدود أمامه أبداً مهما حاولوا!(245/21)
خلاصة الدرس
الخلاصة: إن الدعوة ليست موقوفة على زمان معين، ولا ظرف معين، ولا مكان معين، ولا حال معين، بل الطالب والداعية يجب أن يكون طالباً وداعية في كل ظرف، وفي كل حال، وفي كل طبق، وفي كل مرحلة، وإلا فليعلم بأنه سيتوقف؛ لأن العثرات كثيرة، والعقبات كثيرة، حتى من داخل النفس.
وقد يتوقف الطالب؛ لأنه تخرج وانشغل وابتعد، وقد يتوقف الطالب لأنه تزوج، وقد يتوقف الطالب لأنه حصل عنده ظروف في بيته، وقد يتوقف لأنه حصل عنده ظروف نفسية، وقد يتوقف بسبب ظروف عامة في المجتمع أو الأمة، وقد يتوقف لسبب أو لآخر، ما لم يكن طلب العلم والدعوة شيئاً يجري في عروقه، فإن الطالب قد يتوقف.
هذه ذكرى آليت أن أقولها لكم؛ لأنني أعتقد أن هذا الوقت وقتها، لأسباب وملابسات كثيرة لا تخفى على أحد منكم، وأرجو منكم أيها الأحبة - أن تكون لكم دائماً على بال وعلى اعتبار، وأن نكون طلاب علم ودعاة في كل ظرف، وفي كل لحظة، وفي كل بلد، وفي كل حال لا نربط هذا بشيء من ذلك؛ حتى نضمن بإذن الله تعالى أن نستمر على هذا الأمر، مع أن العبد لا يستغني أبداً عن الدعاء: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك} .
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار يا رب العالمين! اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً وهدياً وتوفيقاً وثباتاً يا رب العالمين.
اللهم إنا نبرأ إليك من حولنا وقوتنا، لا حول ولا قوة إلا بك! اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وعقلاً واعياً، وتوبة نصوحة، وثباتاً في الأمر، وسداداً في الرأي، وقنا شح أنفسنا، وتول أمرنا, وأصلح شأننا، ووفقنا لما تحب وترضى، وكن لنا معيناً في كل خير يا حي يا قيوم، اللهم اجمع قلوبنا على طاعتك، اللهم اجعلنا من المتحابين فيك، اللهم انفع بنا هذه الأمة التي طالت حاجتها إلى العلماء والمخلصين، اللهم انفع بنا هذه الأمة، اللهم اجعلنا نجوماً تضيء لها الطريق، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم صل على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(245/22)
تعب السعداء وتعب الأشقياء
لا بد من التعب في حياة الإنسان فقد خلق الإنسان مفطوراً على الكدح والنصب، وفرق -وأي فرق- بين تعب المؤمنين السعداء في حالهم ومآلهم وبين تعب العصاة الأشقياء في حالهم ومآلهم، وهذا الفرق ملحوظ في عدة جوانب إنما يلمسها من نور الله بصيرته، وفي هذه المحاضرة نبذه جليلة منها.(246/1)
التعب من ضرورات الحياة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: لا شك أنكم في مثل هذا الوقت قد تحسون بشيء من التعب بعد ما تلقيتم العديد من الدروس والبرامج، ووفقتم بالعديد من الأعمال، ولكن جلوسكم في هذه اللحظات احتساباً وطلباً للأجر والفائدة، وحرصاً على سماع ما قد ينفعكم، لا شك أنه من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل.
ورب كلمة يسمعها الإنسان تكون سبباً في سعادته في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة: الموضوع الذي أريد أن أتحدث إليكم فيه، هو بعنوان: (تعب السعداء وتعب الأشقياء) وهناك حقيقة مهمة لا بد من التذكير بها في البداية، وهي أن الله عز وجل حين خلق الخلق كتب عليهم أنهم لا بد أن يتعبوا في هذه الدنيا، ويلقوا فيها من الكد والكدح والكبد ما يلقون، فمقل ومستكثر، يقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] .
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] .
ويقول تعالى -مخاطباً آدم عليه السلام-: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] .
فالحياة الدنيا لا بد فيها من التعب والجهد، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وسائر طبقات الناس، كل منهم لا بد أن يكون له نصيبه من التعب، ولكن هذا التعب يتفاوت من شخص لآخر -كما سيظهر جلياً في هذا الحديث.
كما أنه من المعلوم أن الناس ينقسمون نتيجة لهذا التعب إلى قسمين: فواحد يتعب ويشقى لإسعاد نفسه، وفكاكها، وإعتاقها، وآخر يتعب ويشقى في سبيل تكبيل نفسه بالقيود، وإيباقها، وإتعاسها، وإشقائها.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم -لما ذكر جمع خلق الإنسان في بطن أمه وإرسال الملك- ذكر أن الملك يكتب فيما يكتب: رزق الإنسان، وأجله، وعمله وماذا بعد؟ وشقي أو سعيد.
إذاً فالإنسان لا بد أن يكون من أحد فئتين: إما من الأشقياء وإما من السعداء.
والفرق بينهما كبير، يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105] ليس هناك حل ثالث -أيها الإخوة- الذي لا يكون سعيداً فهو شقي، فمنهم شقي وسعيد.
ثم انظر في مصير هؤلاء وهؤلاء، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ.
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 106، 107، 108] .
هذا الشقاء وهذه السعادة هي نتيجة عمل الإنسان في هذه الدنيا، هذا الجهد الذي يبذله الإنسان على ظهر الأرض، هذا العمل الذي لا بد أن يبذله كل إنسان، نتيجته أن يكون المرء شقياً أو سعيداً.
وقد أبرز النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الطُّهور شَطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد الله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك} .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} تأمل وتفكر في معنى هذه الكلمة الأخيرة: (كل الناس يغدو) الأصل أن كل الناس يشتغلون، ويتحركون، كل الناس يغدون، لكن نتيجة هذا الغدو، نتيجة هذا العمل، نتيجة هذا الكد تختلف، (فبائع نفسه فمعتقها) أي بالطاعات، فهذا هو الذي يغدو في طاعة الله، يتعب في عبادة الله، يصرف جهده وهمه في سبيل مرضاة الله، فهذا قد أعتق نفسه.
أما الآخر: فهو الذي يغدو في معصية الله، فيوبق نفسه بالمعاصي، ويهلكها بانتهاك الحرمات والمحرمات.
هذه القضية يجب أن تكون واضحة لدى كل فرد منا، إذا كنت تتعب في الطاعة فلا تظنن أن غيرك في المعصية آنس مرتاح، لا يبذل جهداً ولا كداً، كل ما تراه من تعب السعداء في الطاعة، فاعلم أن الأشقياء يتعبون أضعاف أضعافه في المعصية.(246/2)
أهم الفروق بين تعب السعداء وتعب الأشقياء
لكن شتان بين تعب وتعب ونريد أن نقف باختصار على أهم الفروق بين تعب السعداء وبين تعب الأشقياء:(246/3)
تعب السعداء مآله إلى النعيم، بخلاف الأشقياء
ثم هناك الفرق الأكبر، وهو: ما يلقاه السعداء في قبورهم من النعيم، ثم ما يلقونه في الآخرة من السعادة والسرور وألوان اللذة؛ التي لا تخطر لهم على بال.
وأعظم من ذلك كله النظر إلى وجه الله الكريم في جنة عدن، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] .
أما الكفار فهم محرومون من ذلك كله، ومن أعظم الحرمان الذي أصيبوا به: حرمانهم من النظر إلى وجه الله، ولذلك قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ليس ذلك فحسب، ليس الأمر هو حرمانهم من النعيم، بل هم يقاسون من ألوان العذاب ما يقاسون، حتى إنهم يطلبون أقل طلب، يطلبون أن يخفف عنهم يومٌ من العذاب، فلا يجابون إلى ذلك، يطلبون الموت فلا يجابون إلى ذلك، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] وكما يقول الشاعر: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا {يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78] .
يطلبون أن يخفف عنهم يوم من العذاب: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] هم لا يستطيعون أن يدعوا، أو يئسوا من الدعاء؛ فصاروا يلتمسون من الخزنة أن يدعوا الله عز وجل أن يخفف عنهم، ما طلبوا أن يقالوا بالكلية، إنما طلبوا التخفيف فقط يوماً من العذاب: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:50] أي في الدنيا، {قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إلا فِي ضَلالٍ * إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:50-51] .
إذاً إن كان الله عز وجل قد كتبك من السعداء، فأنت سعيد في الدنيا بطاعة الله، بلذة المناجاة، بالأنس بقرب الله عز وجل، سعيد حتى بما تلقى من الأذى في سبيل الله، وبما تجد من التعب في الطاعة، سعيد بكل معاني السعادة، سعيد عند الموت بالبشرى، سعيد في قبرك بما ترى من النعيم، سعيد عند البعث، سعيد بعد الحساب.
وهذا هو جزاء المؤمنين الذين قرروا أن يقضوا حياتهم على وفق ما يرضي الله عز وجل، وإن تعبوا، ونصبوا، وحرموا أنفسهم من اللذات، وإن حرموا أنفسهم مما يتمتع به أبناء جنسهم من الأشياء الدنيوية والشهوات العابرة، جزاءً من جنس العمل.
وأما من كان من الأشقياء، فهو شقي في الدنيا بالتعب في معصية الله، شقي في جسمه، شقي في قلبه، شقي عند موته، شقي في قبره، شقي عند البعث، شقي عند الحساب، شقي بعد الحساب: {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] .
جعلني الله وإياكم من السعداء في طاعته، وكفاني وإياكم شر أنفسنا، ووفقني وإياكم لما يجب ويرضى، وأعانني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصبرني وإياكم على طاعته وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمداً وآله وصحبه.(246/4)
تعب السعداء في طاعة الله، والأشقياء في معصيته
الفرق الأول بين تعب هؤلاء وتعب أولئك: أن تعب السعداء: تعب في طاعة الله ومرضاته، فيحصل التاعب أو العابد فيه على الأجر والرضوان من الله تبارك وتعالى، فهو قربة وطاعة.
ولذلك لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الكفارات في حديث معاذ وابن عمر وغيرهما، وفي أحاديث كثيرة جداً، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكفارات التي يكفر بها عن الإنسان ما اقترفه من الذنوب والخطايا، ماذا ذكر صلى الله عليه وسلم في الكفارات؟ ما هي الكفارات؟ في أحاديث كثيرة، كما في حديث معاذ قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما خرج على أصحابه يوماً من الأيام لصلاة الفجر، وقد تأخروا جداً حتى كادت الشمس أن تطلع، فجاء فصلى بهم صلاة تَجَوَّز فيها -أي خففها- ثم التفت إلى أصحابه صلى الله عليه وسلم، فقال: {إنني بعد أن صليت -صلاة الليل- رقدت رقدة خفيفة، فرأيت ربي عز وجل في أحسن صورة؛ فقال لي: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟} الملائكة في ماذا يختصمون؟ {قلت: الله تعالى أعلم! قال: فوضع الرب تبارك وتعالى يده بين كتفي حتى وجدت بردها في صدري؛ ثم قال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فعلمت ما بين السماء والأرض، فقلت: يختصمون في الكفارات، والدرجات، والدعوات فقال: وماالكفارات؟ -تعرفون ماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم -الكفارات هي نقل الأقدام إلى الجمعات -وفي رواية: إلى الجماعات أي إلى المساجد- وانتظار الصلاة بعد الصلاة -وفي لفظ: والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على الكرهات} وهذا هو الشاهد: إسباغ الوضوء على الكرهات، وفي بعض ألفاظ الحديث: {وإسباغ الوضوء على الصبرات} فما هو المقصود بالكرهات؟ يحتمل أحد معنيين: المعنى الأول: إسباغ الوضوء في حالة حصول ما يكرهه الإنسان، من هم أو غم أو حزن أو مصيبة أو ما أشبه ذلك، ولذلك ورد الأمر لمن غضب أن يتوضأ.
فيكون المعنى: أن يتوضأ الإنسان ويفزع إلى الوضوء والصلاة إذا نابه أمر يكرهه، كما في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] .
والمعنى الثاني: -وهو الأقرب- أن يكون إسباغ الوضوء على الكرهات، يعني: أن يتوضأ الإنسان للصلوات حتى في حال شدة البرد.
ولذلك جاء في الرواية الأخرى (على الصبرات) والصبرات: هي جمع صبرة، وهي شدة البرد، فيكون المعنى أن إقدام الإنسان على الوضوء بالماء البارد في حال شدة البرد على الرغم من أن نفسه تكره هذا الأمر، إقباله على هذا الأمر طلباً لمرضاة الله هو من كفارات الذنوب.
ومثله: المشي إلى المساجد خاصة في الظلمات، وفي شدة البرد -أيضاً- ومثله: حبس النفس عن الخروج من المسجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة.
وحرمان الإنسان نفسه مما تحب من الاشتغال بأمور الدنيا ومجالسة الأصحاب والأهل والأولاد وغير ذلك مما تألفه النفوس.
فهذه الأشياء لما كان فيها مشقة على النفس وتعب وآلام، جعل الله عز وجل فيها كفارةً لذنوب الإنسان، وهذا هو الأمر الأول المتعلق بتعب السعداء، أن تعبهم لا يخلو من أحد حالين: إما تكفير معصية، أو رفع درجة.
ولذلك في الحديث الصحيح: {أن الإنسان إذا مشى إلى المسجد، كانت خطواته: إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة} فتعب السعداء هو: تكفير لذنوبهم ورفع لدرجاتهم.
أما تعب الأشقياء، فهو: على النقيض من ذلك هو تكثير لذنوبهم وخطاياهم ومزيد إثم لهم، ولذلك لما ذكر الله تعالى الكفار وما أعطوا من المال في هذه الدنيا، قال: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] .
وفي الآية الأخرى -لما ذكر الإملاء لهم- قال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] .
وفرق بين إنسان يتعب في طاعة الله، وآخر يتعب في معصية الله، إنسان يتعب في فكاك نفسه، وآخر يتعب في رق نفسه وإيباقها، هذا هو الفرق الأول.(246/5)
تعب السعداء يصحبه لذة وسرور، بخلاف الأشقياء
الفرق الثاني: أن تعب السعداء لأنه تعب في الطاعة يلقى السعداء في الدنيا العاجلة قبل الآجلة، يلقون في قلوبهم من السرور والنعيم -الناتج عن معاناة التعب في طاعة الله- يلقون ما يزيل عنهم هذا التعب، بل ما يحول تعبهم إلى لذة وسرور.
ولذلك الإنسان قد يقاسي قيام الليل -مثلاً- وخاصة في بداية توجهه لهذه العبادة، ويجد مشقة في هذا الأمر، ولكن بعد ما يتدرب على هذا الأمر ويعتاد؛ تألفه نفسه، حتى يصبح يجد من اللذة بالقيام ومواجهة البرد الشديد والوضوء بالماء البارد، ثم الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، ومناجاته بالعبادة بالقرآن وبالذكر وبالدعاء، يجد من اللذة في ذلك ما لا يجده غيره من اللاهين واللاعبين والنائمين ومن أصناف الناس.
حتى إن بعض العلماء يقول: (إن لي ورداً بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس -من القرآن والذكر ومناجاة الله عز وجل- لو لم أقم به ما استطعت أن أقوم بأعمالي في سائر يومي) .
فهو يجد لهذا الورد من الأثر المقوي لقلبه ولنفسه والدافع له ما يشعر بأنه لو تخلف عن ورده لسبب أو لآخر؛ لعجز عن القيام بأعماله الأخرى من أعمال العبادة والدعوة والعلم والتعليم، ومن أعماله الدنيوية التي لا بد له منها.
وكلكم تعرفون كلمة بعض العباد الذي كان يقول: [[لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف]] .
هذا -أيها الإخوة- ليس تمثيلاً ولا كلاماً يقال، بل هم شعروا من الأنس واللذة لمناجاة الله عز وجل ما جعلهم يحتقرون الدنيا، يحتقرون أهل الدنيا، يحتقرون ما عليه المشتغلون بالدنيا -مهما يكن في أيديهم من المال والسلطان والجاه والمنزلة والرئاسة وغيرها- لأنهم يشعرون أنهم في وادٍ، وهؤلاء القوم في وادٍ آخر.
فالسعداء يتعبون في العبادة فيجدون لذة العبادة عاجلاً غير آجل، وهذه اللذة التي يجدونها إنما هي عُرْبون للسعادة الأخروية التي وعدوا بها.
ولذلك وعد الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكراناً وإناثاً بأن يحييهم حياة طيبة، فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] فهذا من الحياة الطيبة التي وُعِدَ بها المؤمنون.
أما الأشقياء والتعساء: فإنهم لا يجدون في قلوبهم نتيجة تعبهم إلا الشقاء والكبد والتعب! وقد يقول قائل: وما هو التعب الذي يلقاه هؤلاء الأشقياء في دنياهم؟ فأقول: إن هذا التعب كثير، ولكن خذ بعض الأمثلة من هذا التعب الذي يلقاه أولئك الأشقياء: الشقي يشعر -أولاً- بأن تعبه في معصية الله، فإذا انتهى من لذته أياً كانت هذه اللذة، وذهب شعوره بها، بقيت الحسرة في قلبه.
ولذلك كان الشاعر يقول وهو ينصح ابنه: إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل فهو إذا كان ممن ينتسبون إلى الإسلام يشعر بأنه وقع في معصية، فإذا انتهى تلذذه بهذه المعصية بدأ قلبه يوبخه، وضميره يعاتبه، فشعر بالإثم وبالذنب العظيم، فأصابه نتيجة لذلك شيء غير قليل من الشقاء.
كذلك قد يترتب على هذه المعصية التي وقع فيها: مصائب دنيوية يصيبه الله عز وجل بها في نفسه أوفي أهله أو في ماله أو في غير ذلك، تجعل حياته كلها تنغيصاً.
تسمعون -مثلاً- عن الأمراض الجنسية الفتاكة التي انتشرت في العالم اليوم: كالهربس والإيدز وغيرهما.
وهذه الأمراض ليست جديدة، بل قد كان العالم يتحدث قبلها عن أمراض كثيرة، مثل: أمراض الزهري والسيلان وغيرها من الأمراض الجنسية التي تكلم عنها الأطباء.
فالإنسان حين ينتهي من هذه اللذة العابرة التي هي أسرع ما تزول، قد يصاب بمثل هذه الأمراض الفتاكة التي تفسد عليه حياته، وتهدم جسمه، وتهدم عمره، فينتهي أجله شر نهاية، وتقول له نفسه: (بينما الناس الصلحاء يقتلون شهداء في المعارك، في الذب عن دينهم أو عن أعراضهم أو عن أخلاقهم، أنت تموت شر ميتة في سبيل لذة عابرة) فيشعر بالخزي والعار نتيجة لذلك.
وقد يسلط الله تعالى عليه مصيبة في ماله، حيث يبذر هذا المال في أوجهه المحرمة، حتى ينتهي ماله الذي تعب في جمعه، ينتهي في هذا السبيل المحرم، فيصبح هذا الإنسان شقياً من وجهين: شقياً -أولاً- في جمع هذا المال، ثم شقياً -ثانياً- حين فرقه في معصية الله تعالى.
وقد يسلط الله تعالى عليه نتيجة معصيته فضيحة تلازمه إلى آخر الدهر، سمعت من بعض الثقات قصة حقيقية، يقول: إن رجلاً وامرأة قامت بينهما علاقات محرمة، ونكح هذا الرجل هذه المرأة نكاحاً محرماً، حتى حصل الحمل نتيجة لذلك، وخشيت هذه المرأة من الفضيحة، فصارت تداري هذا الأمر عن أقرب الناس إليها: عن أمها، وأبيها، وتخشى إن علموا بذلك أن يقتلوها وأن يحصل شيء لا تحمد عقباه.
فاحتارت ماذا تصنع، ولكنها كانت ذات حيلة، فكتمت الأمر عنهم، وفي يوم من الأيام كانت مع أبيها في سفر، وأبوها ربما يكون مغفلاً لا يدري من الأمر شيئاً، فلما نام أبوها شعرت بآلام المخاض وهي آلام شديدة، فتحيرت ماذا تصنع، والمرأة عادة في مثل هذه الحالة تحتاج إلى أن يكون بقربها نساء: أمها أو طبيبة أو غيرهن من النساء لكن الموقف يختلف بالنسبة لهذه المرأة، فذهبت من أبيها مكاناً قصياً حتى ولدت بعد جهد جهيد وبعد ما عانت من الآلام ما عانت، ثم واجهت بعد ذلك مصيبة أخرى بأي وجه تقابل أباها الذي تركته قبل دقائق دون أن يعلم بذهابها؟! كيف تقابله ومعها طفل صغير؟! هذا موقف صعب! ومن قبل كانت مريم البتول الطاهرة عليها الصلاة والسلام، وهي التي برأها الله عز وجل، وجعل لها آية بينة على قومها، مع ذلك واجهت صعوبة في مواجهة قومها بهذا الأمر، حتى كانت تقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] مع ما جعل الله عز وجل لها من الآيات البينات، وما وضع في قلبها من الروح والطمأنينة، ومع ما جعل في ابنها من المعجزات، التي منها: نطقه في المهد وإقامته الحجة على بني إسرائيل.
مع ذلك كله واجهت مريم عليها السلام ما واجهت، فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] فهذه المرأة لم تجد بداً من أن تقتل ابنها، وهو وإن كان ابناً غير شرعي لها إلا أنه ابنها الذي خرج من بطنها، والذي كان في رحمها تسعة أشهر، ولا بد أنها تحس نحوه بالحنان كما تحس أية أم نحو ابنها بالحنان.
ومع ذلك تخنقه بكلتا يديها والدموع تسيل من عينيها، ثم تحفر له في جذع الشجرة وتدفنه لئلا تفتضح جريمتها.
ويأبى الله عز وجل إلا أن ينكشف الغطاء، ويبين الأمر، ويعرف صاحبها الذي شاركها في هذا الفعل، وينكشف فعلها بابنها، وتبين آثار الجريمة أولها وآخرها.
فالصور والأشياء والنتائج التي يمكن أن تترتب على هذا التعب الذي تعبه الإنسان في المعصية كثيرة جداً.
ولذلك لا تتصور -أخي الشاب- وأنت تحرم نفسك من الأشياء المحرمة، تحرم نفسك من مشاهدة الأفلام الجنسية الهابطة، من مشاهدة المسلسلات المنحرفة، من النظر إلى النساء، من عقد الصداقات المحرمة، من السفر إلى بلاد الكفار، من تمتع العين والقلب برؤية الصور الجميلة، لا تظن وأنت تحرم نفسك من ذلك كله أنك في شقاء، وأن الذي أجاب داعي الشيطان، وأملى لنفسه في هذه الأمور في سعادة، لا تظنن ذلك، بل تأكد أنك تجد من لذة حرمان نفسك من هذه المعاصي، وشعورك بالترفع، وشعورك بأنك نجحت في المجاهدة، تجد في نفسك وفي قلبك من اللذة الشيء العظيم.
وذلك الإنسان الذي أتبع نفسه هواها في هذه الأمور يجد من الشقاء والتعاسة والألم وتوبيخ الضمير ما لا يخطر لك على بال.
حتى حدثني بعض من رأى هؤلاء الشباب، قال: والله لقد رأيت أحدهم وهو يجلس مع بعض النسوة، ثم يغادرهن إلى مكان آخر ليبكي بأعلى صوته، يبكي لأنه يجد في قلبه داعي الإيمان، ويجد في قلبه شعوراً بالخطيئة، فيتألم لذلك، وقد يسيطر عليه هذا الشعور، فيعبر عنه بالصراخ والبكاء، والأمر كما قال الشاعر: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر فهذا الشيء الذي يسر العين -هو يضر القلب ويؤثر فيه، فهذا هو الفرق الثاني بين تعب السعداء وتعب الأشقياء: أن تعب السعداء يصحبه لذة وسرور في القلب، وأما تعب الأشقياء يصحبه ألم وتعاسة وشقاوة في القلب.(246/6)
تعب السعداء مؤقت ينتهي بالموت، بخلاف الأشقياء
الفرق الثالث: أن تعب السعداء مؤقت، فهو ينتهي بالموت، حيث يجد الإنسان عند الموت من التثبيت والبشرى إن كان من المؤمنين ما بينه الله عز وجل في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30-31] .
أما الأشقياء فإنهم على شقاوتهم في الدنيا يجدون عند الموت من النذر والعلامات على شقاوتهم ما يجعلهم يموتون شر ميتة، ثم يجدون في قبورهم وفي الآخرة ما يصدق ذلك.
والحياة الدنيا مهما تطل فهي قصيرة، وهذا وحده كاف في أن يجعل الإنسان يشعر أنه -ولو أطبقت عليه الشقاوة في الدنيا من كل جانب- ما دامت هذه الشقاوة تنتهي بالموت، فإنها تحتمل في سبيل الله عز وجل.
ولذلك فإن الإنسان عند الموت لا بد أن يشعر بالألم والندم، فإن كان مؤمناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان فاسقاً أو عاصياً ندم ألا يكون نزع من معصيته.
ولذلك أيضاً فإن الإنسان في يوم القيامة يستقل كل تعب لقيه في سبيل الله عز وجل، حتى إنه لو قضى حياته كلها في شقاء وفي ألم، ويضرب بالسياط ويواجه ألوان المذلة في سبيل الله، إنه يستقل ذلك إذا رأى ثوابه يوم القيامة.
ولذلك ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {يؤتى يوم القيامة بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة، فيصبغ في النعيم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت شراً قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ أي في الدنيا، فيقول: لا والله يا رب، ما رأيت شراً قط! ولا مر بي شدة قط!، ويؤتى بأشد أهل الدنيا نعيماً من أهل النار، فيصبغ في العذاب صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت خيراً قط! ولا مر بي نعيم قط!} .
صبغة واحدة في النعيم أنست المطيع كل شقاء الدنيا، وصبغة واحدة في العذاب أنست العاصي جميع لذات الدنيا، وهذا هو القول المبين الذي لا شك فيه ولا امتراء.
فكل ما تلقاه -أيها المطيع- في سبيل الله فهو هين في جنب الله عز وجل، وهين بالقياس ما سلمت منه من العذاب، وهين بالقياس إلى ما لقيته من النعيم.(246/7)
السعيد يجد من توفيق الله ما ينسيه هذا التعب، بخلاف الشقي
الفرق الرابع: أن المطيع والسعيد يجد في الدنيا من توفيق الله عز وجل له وتيسيره ما ينسيه هذا الشقاء، فهو ممن تكفل الله عز وجل بدفع كربتهم وإزالة غربتهم.
ولذلك لما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته في مكة، ورمته قريش عن قوس واحدة، وأساءت إليه، قيض الله عز وجل له عمه أبا طالب، فكان يدفع عنه ويحميه ويقف دونه، حتى يقول في قصيدته المشهورة مخاطباً قريشاً، ومبيناً استعداده للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال والأهل والولد، يقول: كذبتم -وبيتِ الله- نبزْى محمداً ولما نُطَاعِنْ دُونَهُ ونُنَاضِلِ ونُسْلِمَهُ حَتىَّ نُصَرَّعَ حوله ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ رجل كافر يعلن أمام الملأ من قريش أنه لا يمكن أن يسلم إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقتل دونه، ويذهل عن أولاده وعن أزواجه وعن أمواله، وهو كافر! لكن الله سخره لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وهكذا أصحابه كان الله يقيض لهم من يحميهم ويجيرهم، كما قيض الله ابن الدغنة والمطعم بن عدي وغيرهم من كفار قريش لحماية أصحابه.
ثم لما ذهب الصحابة المهاجرون إلى الحبشة قيض الله عز وجل لهم النجاشي حال كفره -ثم هداه الله للإسلام- فحماهم حتى كان يقول لهم: [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي]] وكلمة شيوم بالحبشية معناها: آمنون، [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم]] ورَدَّ رسولي قريش اللذين جاءا في طلبهم.
ثم قيض لهم الأنصار الذين عقدوا البيعة على استقبالهم، حتى كان الأنصار رضي الله عنهم يتنازعون في إيواء المهاجرين، حتى لم ينزل واحد من المهاجرين على واحد من الأنصار إلا بقرعة، وحتى آثروهم بالأموال والزوجات، وبذلوا في سبيل نصرتهم وإيوائهم ما ذكره الله عز وجل بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
وهذا ليس خاصاً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل تجد من العلماء والدعاة من قيض الله عز وجل له -سواء من المؤمنين أو من الكفار أحياناً- من يعينه وينصره.
يذكر التاريخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن قازان التتري لما هجم على بلاد المسلمين وأهلك الأخضر واليابس والحرث والنسل والبلاد والعباد، اتفق مجموعة من مشايخ الشام على الخروج إليه ومحادثته، ومحاولة أخذ الأمان لأهل الشام منه.
فخرج ابن تيمية رحمه الله مع مجموعة من العلماء، فلما دخلوا على قازان تصدر ابن تيمية للحديث، وتحدث بكلام قوي بليغ؛ وقال له: (يا قازان! أنت -وأنت تزعم أنك مسلم) وكان قازان من الحملات التترية التي تدعي الإسلام، أما أجداده الأوائل: هولاكو وغيره فكانوا كفاراً وثنيين (يا قازان! أنت -وأنت تدعي الإسلام- قد أفسدت بلاد المسلمين وأسأت إلى المسلمين ما لم يفعله أجدادك الوثنيون الذين كانوا لا يدعون الإسلام ولا ينتسبون إلى الدين لا شكلاً ولا حقيقة) وظل يتكلم عليه بكلام ساخن قوي، دون هيبة أو وجل، حتى أَجَلَّه قازان وعظمه، وقال لترجمانه الذي كان يترجم كلام ابن تيمية: قل لهذا الشيخ يدعو لي، قل له: يدعو لي!! فرفع ابن تيمية يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كان عبدك هذا -ويشير إليه بأصبعه- خرج وجاء إلى هذه البلاد مقاتلاً في سبيلك فأيده وانصره، وإن كان خرج رياء وسمعة، وفي سبيل توسيع رقعة أرضه، وتوطيد سلطانه، وإيذاء بلاد المسلمين، وإهلاك العباد -وظل يذكر الأوصاف الموجودة فعلاً في قازان - فأهلكه وأهلك جنده، وانتقم منه، واكف المسلمين شره، وظل يدعو عليه، وقازان رافعٌ يديه إلى السماء يؤمن على دعاء الشيخ، دون أن يعرف ماذا يقول إلا أن الترجمان يترجم كلامه.
ثم خرجوا من عنده، فقال المشايخ للشيخ ابن تيمية رحمه الله: إننا لا نريد أن نصحبك؛ لأننا نعرف أن هذا السلطان الطاغي سوف يرسل إليك في الطريق من ينتقم منك، فقال ابن تيمية رحمه الله: وأنا -أيضاً- لا أريد أن أصحبكم، فذهب العلماء في طريق وذهب هو في طريق آخر.
يقول أحد هؤلاء العلماء، وهو الذي يروي القصة: (فأما ابن تيمية رحمه الله فإنه لم يصل إلى دمشق إلا في وسط حراسة كوكبة من فرسان التتر الذين ثارت في نفوسهم الحمية والأريحية، وأعجبوا به وبشجاعته، فذهبوا يحرسونه حتى أوصلوه إلى بيته في دمشق، أما نحن فسلط علينا مجموعة من العيارين فشلحونا وأخذوا ما بأيدينا!) وهذا أنموذج للتعب الذي يبذله السعداء فيقيض الله عز وجل لهم في الدنيا من يعينهم وينصرهم ويذهب عنهم آثار هذا التعب.
ولكنا نجد في حياتنا اليوم أن كل تعب يبذله الإنسان في سبيل الله فإنه يلقي جزاءه عاجلاً غير آجل.
ويحدثني أحد الشباب الذين ذهبوا للدراسة فيأوروبا أن هناك رجلاً أسلم من الأوروبيين وحسن إسلامه، وصار حريصاً على تطبيق شعائر الإسلام كلها، حريصاً على أن يظهر إسلامه ويعتز به أمام الكفار دون خجل أو حياء أو تردد، حتى لو لم يكن هناك مناسبة، فإنه يحرص على أن يفتعل المناسبات ليظهر إسلامه.
يقول: فأعلن في أحد المؤسسات الحكومية في تلك البلاد الكافرة عن وجود وظيفة فتقدم لها، فسأله المقابل عن بعض الأمور ومن ضمنها قال له: هل تشرب الخمر؟ قال: لا أشرب الخمر، لأنني قد أسلمت، وديني يمنعني من معاقرة الخمر وشربها.
قال: هل تتخذ الخليلات والصديقات؟ قال: لا؛ لأن دين الإسلام الذي أنتسب إليه يُحَرِّمُ عليًّ ذلك، ويقصر علاقتي على زوجتي التي نكحتها بمقتضى شريعة الله عز وجل.
وخرج وهو شبه يائس من أن ينجح في هذه المسابقة!! ولكن النتيجة كانت أن جميع هؤلاء المتسابقين -وكان عددهم كبيراً- فشلوا ونجح هو وحده في هذه المسابقة.
فذهب إلى الشخص الذي أجرى معه المقابلة، وسأله قائلاً: كنت أنتظر أن تحرموني من هذه الوظيفة عقاباً لي على مخالفتكم في دينكم، وعلى اعتناق الإسلام، ولكنني فوجئت بأنكم قبلتموني ورددتم أبناء دينكم من النصارى، فما هو السر في ذلك؟ فقال له: إن الشخص المرشح لهذه الوظيفة كان يشترط فيه أن يكون شخصاً منتبهاً في جميع الحالات، حاضر الذهن، والشخص الذي يتعاطى الخمر لا يمكن أن يكون كذلك، فكنا نترقب شخصاً من الأشخاص الذين لا يشربون الخمر، ونظراً لتوفر هذه الخصلة فيك فقد وقع الاختيار عليك لهذه الوظيفة! وكل واحد منا قد يجد في حياته -مثلاً- كبيراً أو صغيراً، يصدق هذه القاعدة: (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) .
فتعب السعداء يصحبه في هذه الدنيا لطف من الله عز وجل، بأن يقيض لك سواء من المؤمنين أو من غيرهم، من يكون عوناً لك على ما تلقاه من الجهد والتعب.
أما تعب الأشقياء فليس كذلك، فإن الله عز وجل يسلط بعضهم على بعض، ويسلط عليهم من المؤمنين من يكون سبباً في شقائهم وعذابهم.
ومن الأمثلة على ذلك ما شرعه الله عز وجل من الجهاد الذي يقتل فيه الكفار وتسبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم غنيمة في سبيل الله، فهذا نوع من العذاب الذي سلطه الله عز وجل على هؤلاء الكفار بأيدي المؤمنين.
ولذلك يقول الله عز وجل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] .(246/8)
الأسئلة(246/9)
الأُنْس بمناجاة الله
السؤال
يقول: فضيلة الشيخ، أحياناً يجد الشاب الملتزم في نفسه شيئاً، ويضيق صدره حتى إنه لا يجد له فرجاً إلا أنه ينفرد بنفسه ويبكي، ولو سألته عن السبب، لم تجد عنده إجابة لأنه لا يعرفه! فهل لذلك الشيء أسباب لا نعرفها؟
الجواب
الأخ أشار إلى حالة نفسية قد تنتاب بعض الناس -أحياناً-، لكن دون أن يشير إلى هذه الأشياء التي يجدها الشخص في نفسه.
فإن كانت القضية مجرد ضيق يحسه الإنسان في صدره -أحياناً- فينفس عن نفسه بالبكاء دون وجود أسباب لا ظاهرة ولا غير ظاهرة بالنسبة له، فهذا قد يكون راجعاً إلى خصائص فردية يتميز بها هذا الشخص.
فبعض الناس قد يكون عنده أشياء في نفسه إما عن طريق تربيته في الصغر، أو أمور وراثية، أو تأثيرات معينة، تركت في نفسه ذنوباً وآثاراً جعلته يحس -أحياناً- بهذا الإحساس الغامض الذي لا يجد فرجاً له إلا بالبكاء.
وإن كان هناك أسباب فلا بد من معرفة هذه الأسباب، وهذه الأفكار أو الخواطر التي تخطر في القلب، والعمل على إزالتها.
وبكل حال، أقول: إنني لم أفهم من السؤال إلا القضية الأولى، وهي أن بعض الشباب قد يكون عنده أشياء نفسية وضيق في صدره -أحياناً-، لكن الله عز وجل قال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .
فالمؤمن يجد أنسه وفرجه ولذته وقرة عينه وسروره بالدعاء وبالذكر وبقراءة القرآن، وعلينا أن ندرب أنفسنا على هذا الأمر، فمن نعمة الله علينا أن الله سبحانه لم يتركنا في هذه الحياة لأنفسنا، وإنما امتن علينا ببعثة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وبإنزال هذا القرآن الذي هو بين أيدينا نقرؤه في كل حال، ونوقن بأننا نقرؤه كما كان محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة يقرءونه دون زيادة ولا نقصان، فكلام الباري عز وجل هو الشفاء لأمراض قلوب العباد.(246/10)
طرق توجيه الأهل للخير
السؤال
يقول: فضيلة الشيخ، ما هي الطريقة الفضلى في توجيه الأهل في البيت إلى التزام الحشمة وعدم الظهور في المظاهر التي لا ترضي الله جل وعلا؟.
الجواب
من نعمة الله سبحانه أن كثيراً من الشباب بدءوا -لا أقول يفكرون بالاستقامة، فهذا أمر ظاهر- لكن بدأ الشاب المستقيم يفكر كيف يؤثر في البيت الذي يسكنه، وهذا ليس غريباً؛ لأنه جزء من الواجب الملقى على عواتقنا، فيجب على كل شاب منا أن يفكر أولاً: هل له أثر في البيت أم لا؟! وكم هي مصيبة أن يكون بعضنا لا يعرف البيت إلا للأكل والشرب والنوم، ثم تجده في خارج البيت نشطاً متحركاً داعية إلى الله عز وجل، أما في داخل البيت فليس له دور يذكر، والأقربون أولى بالمعروف، والواجب على كل فرد منا أن يسائل نفسه هذا السؤال، وأن يفكر: ما هو الدور الذي يمكن أن أقوم به؟ أما عن الطريقة، فأقول: إن من أهم الوسائل هي أن يبني الشاب شخصية قوية في البيت، بمعنى أن يكسب احترام أهل البيت من الأبوين والإخوة والأخوات.
وكسب احترامهم لا يكون بالعصبية والانفعالات التي تصدر من بعضنا -أحياناً- بدون حساب، أو أن يكون الشاب داخل بيته إمبراطوراً يصدر الأوامر يمنة ويسرة، ويريد من الجميع أن يكونوا جنوداً منفذين، فإذا تخلف أحد في التنفيذ صَبَّ عليه الكلام السيئ، هذا لا يُكسِبُ الإنسانَ الاحترامَ.
إنما يعرف الإنسان حقوقه وحدوده وواجباته، ويحترم الآخرين، ويحاول أن يؤدي الخدمات الممكنة لأهل البيت، وأن يحتفظ بشخصيته، فلا يذيبها في مواقف غير صحيحة، وأن يجعل جزءاً من وقته وقفاً على البيت في خدمة الأبوين ومساعدتهم والقيام بشئونهم، وكذلك الإخوة والأخوات.
ومن كان يكبره من الإخوة فيجب عليه أن يحترمه ويقدره ويطيعه، ومن كان يصغره فعليه أن يرحمه ويحسن إليه ويتلطف معه.
وبهذه الطريقة يبني الشاب له شخصيةً قويةً في البيت، ثم يستفيد من هذه الشخصية في التوجيه، عن طريق الأشرطة والكتب الإسلامية، وقراءة الكتب النافعة -مثلاً-.
فإن الشاب حين يكون صغيراً ويتحدث مع أهله في بعض الأمور، قد لا يقبلون منه، خاصة وأنهم يعرفونه منذ الطفولة، لكن لما يأتيهم بكتاب في أية قضية يريد أن يقنعهم بها ويختار موضوعاً مكتوباً قد كتبه بعض العلماء أو المشايخ؛ فيقرؤه على أهله، فيكون لهذا الكلام من التأثير والواقع أكثر مما لكلامه لو تكلم معهم بنفسه.
وعليه أن يحرص على إزالة المنكرات الموجودة في البيت، والعمل على إخراجها بالطريقة المناسبة، وإن كان له إخوة يحرص على ربطهم بأصدقاء طيبين في المدرسة أو في الحي أو في المسجد أو في غير ذلك.
وهكذا حتى يترك الشاب أثراً في بيته، وبالتجربة يتبين أن كثيراً من الشباب يستطيعون أن يؤثروا لا أقول في إخوتهم وأخواتهم فقط؛ بل حتى في الإخوة الكبار، بل حتى في الوالدين، وتجد بعض البيوت انقلبت من بيوت منحرفة -تماماً- إلى بيوت صالحة، وأصبح أهلها صالحين بتأثير أحد الأبناء الذي قد يكون هو أصغر الأولاد أو من أصغرهم.
فعلى الإنسان ألا يحتقر نفسه لكن لا بد من مراعاة الوقت، وأنه لا يمكن أن يغير الإنسان بيته بين يوم وليلة.
وأقول كلمة أخيرة: بالنسبة لأخواتنا الموجودات في بيوتنا، فإن لهن علينا حقاً أكثر من غيرهن وذلك لأسباب:- أولاً: أن المرأة في بلاد الإسلام كلها وفي بلادنا خاصة تتعرض لحملة شعواء من قبل دعاة تحرير المرأة المندسين في أجهزة الإعلام، في الصحف، في بعض المؤسسات، في المجتمع، والذين يحاولون بكل وسيلة إخراج المرأة المسلمة من بيتها، وخلع الحجاب عنها، وجعلها تختلط بالرجل في ميدان العمل، وفي كل مكان، ولهم في ذلك خطط ليست بالسهلة، وقد كشفها الله عز وجل بقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] فهذا سبب.
السبب الثاني: أن الرجل قد يلقى التوجيه في مجالات عديدة؛ فالشاب يلقى التوجيه في المدرسة، ويلقى التوجيه في المركز، وفي المخيم، وفي المسجد، وفي كل مكان، لكن المرأة لا تجد نفس التوجيه، وقلما تسمع الموعظة، هذا سبب آخر.
وثمة سبب ثالث: وهو أن المرأة تختلط ببنات جنسها، والنساء يشيع لديهن التقليد، تقليد بعضهن لبعض، فتجد المفاخرة بين النسوة في الملابس، وفي الأزياء، وفي الحلي، إلى آخره وهذا من أهم أسباب انتشار العادات والتقاليد المنحرفة عند الفتيات.
أخذناها عن طريق التقليد بسبب عدم وجود الحصانة، فإذا أفلح الشاب في أن يجعل من بيته محضناً لتربية المرأة المسلمة، والتركيز على أخواته، وإعطائهن الكتب والأشرطة، وتنمية الاعتزاز لديهن بالإسلام، فنعم ما فعل! أحياناً قد تجد فتاة عندها تدين لكنها تستحي من إظهار هذا التدين، وهذا خطر عظيم، فيجب أن ننمي عند الفتاة -كما ننمي عند الفتى- الشعور بالاعتزاز بالدين، والاستعلاء به على من ليس كذلك، وإعلانه ودعوة الناس إليه والتأثير عليهم.
ولذلك تجد أن المرأة -مثلاً- الأمية أو المتعلمة تعلماً بسيطاً إذا وجدت فتاة جامعية متدينة ومحتشمة ومتمسكة بالإسلام وبالأخلاق الإسلامية؛ فإنها تعجب بها وقد تقتدي بها؛ لأن كثيراً من النساء عندهن أن التدين والتمسك بالأخلاق الإسلامية والحشمة كأنها موروثات جيل مضى.
فلا بد أن نركز على عنصر النساء في بيوتنا، ونعطيهن من الاهتمام أكثر مما نعطي غيره، وإذا صلحت المرأة في البيت أماً وأختاً، وصلح الإخوة، فهم الذين يؤثرون في البيت، وبإمكانهم القضاء على جميع المنكرات الموجودة فيه.(246/11)
الوسائل المعينة على التحرز من المعاصي
السؤال
يقول: فضيلة الشيخ، ما هي الأشياء التي تمكن الإنسان من التحرز من اقتراف المعاصي خاصة النظر إلى النساء أو الصور وغيرها؟
الجواب
هناك قضية أو قاعدة مهمة، وهي: أن جميع جوارح الإنسان إنما هي عبارة عن جنود وخدم للقلب، وقد قرر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة بقوله في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه في حديث الشبهات، قال في آخره: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .
فالجسد كله تابع للقلب، فالقلب المريض بالشهوات يملي على الجوارح أن تشتغل بخدمته، فتجد الجوارحَ منساقةً وراء هذه الشهوات، سواء بالنظر أم بالحركة أم بالهم أم بالبطش أو بغير ذلك.
وكذلك القلب النقي الخالي من المرض بالشهوة تجد الجوارح منصرفة عن هذه الشهوات، فعلى الإنسان الذي يريد صرف جوارحه عن الشهوات أن يعالج قلبه أولاً.
وقد يقول: وكيف أعالج قلبي؟ فأقول: إن القلب مثل الإناء، لا بد فيه من التخلية ثم التحلية، فلا بد أولاً: أن تفرغ قلبك من المواد الفاسدة، تحرص على طرد وإبعاد المعاني والأفكار والمواد الفاسدة من قلبك.
ثم تحرص على تحليته وتزيينه وتحسينه بالمعاني والواردات والأفكار الصالحة، مثلما ما لو كان عندك إناء مملوء بمواد سيئة أو بمواد غير ذات قيمة كالتراب -مثلاً- ثم أردت أن تضع في هذا الإناء شيئاً مفيداً ونافعاً كالعسل -مثلاً- فلو وضعت العسل في هذا الإناء المملوء بالتراب، لانسكب العسل يمنهً ويسرةً؛ ولم يبق في الإناء منه شيء.
لكن لا بد أن تزيل ما في الإناء، تخلي الإناء من هذه المواد الفاسدة الموجودة فيه؛ حتى يصبح محلاً قابلاً للأشياء الصالحة، ثم تضع فيه العسل أو غيره.
فعلى المرء أن يشتغل بإصلاح قلبه عن طريق العبادات والأذكار ومناجاة الله عز وجل، وإلزام نفسه بأوراد من ذلك، لا تتخلف مهما تكن الظروف.
ثم عن طريق إشغال سائر أوقات حياته بالنشاطات المفيدة مع القرناء الصالحين الذين يعينونه على هذا الطريق؛ لأنه لا بد لك من رفيق في هذا الطريق، وإلا فربما انفرد بك الشيطان، فأضلك بزيادة أو نقصان.
وباستمرار الإنسان في هذا الأمر سيجد أن نفسه تلين له شيئاً فشيئاً، لكنه لن يجد أنه قد وفد إلى نهاية المطاف، وسلم من وسوسة الشيطان، لأن هذا المبلغ أو هذه المرتبة لم يصل إليها إلا النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال كما في الصحيح: {ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير} .
فمن عدا الرسول صلى الله عليه وسلم فقد سلط عليه الشيطان يكيد له، وحتى وأنت في فراش الموت ستجد كيداً ومحاولة ووسوسة من الشيطان، فلا تظن أن الطريق ينتهي أبداً: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] والإنسان ما لم يمت على الإسلام، أي ما دام حياً فهو في خطر، الحياة كلها خطر ولا بد، لكن على الإنسان أن يعتصم بالله عز وجل، ويجاهد نفسه في مرضاة الله، وهذا هو المجاهد، ويهجر الخطايا والذنوب، وهذا هو المهاجر.
والله عز وجل تكفل لهذا بالهداية، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] .(246/12)
تحرير الأرض أم تحرير الإنسان
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذه المحاضرة القيمة عن مسألة ارتباط تحرير الأرض بتحرير الإنسان، وأن تحرير الإنسان هو ركيزة تحرير الأرض الذي لا يمكن حدوثه إلا بتحرير الإنسان، وذكر تحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وأمثلة لتلك العبودية، فذكر عبودية بعض الناس للمال وللمنصب والجاه وللحياة وللوطن وللعبادات وغيرها من المعبودات، وذكر عبادة بعضهم للطواغيت، وذكر أنها -أي الطواغيت- تعددت في هذا الزمن فدخلت في أمور كثيرة وكثرت أدواتها كالاقتصاد والأمن والإعلام.(247/1)
بيان الشيخ ابن باز
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل، وانقطاع من السبل، فبصر به من العمى، وهدى به من الضلالة، وجمع به بعد الشتات والفرقة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
هذه ليلة الإثنين الثالث والعشرين من شهر جمادى الآخرة لعام (1412هـ) ، وهذا الجمع المبارك ينعقد في جامع الصالحية بمدينة عنيزة عمرها الله تعالى بالإيمان والتقوى، ولذلك كان هذا التوقيت مناسبًا لأن يضم هذا المجلس إلى سلسلة الدروس العلمية العامة التي يسر الله تعالى لي إلقاءها منذ سنوات، ويكون رقم هذا الدرس فيها الثاني والخمسين، وهذا لأمور اعتبارية كثيرة لا مجال للإطالة فيها.
موضوع هذه المحاضرة -أيها الأحبة- (تحرير الأرض أم تحرير الإنسان) وبين يدي هذه المحاضرة لي كلمة وتعليق على بيان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز؛ ولذلك فإنني أعتقد أن البيان والتعليق عليه والدرس أو المحاضرة سوف يستغرق الوقت كله، فلا أظن أنه يبقى لدينا ثمة وقت للإجابة على الأسئلة فأستميحكم العذر لذلك.
أيها الأحبة: الدعاة بحمد الله تعالى موجودون في كل زمان ومكان، وفي هذا البلد الطيب المبارك خرج نباته بإذن ربه؛ فأينعت وأثمرت شجرة الإسلام دعاة كثراً، نسأل الله تعالى أن يكثرهم ويبارك في جهدهم.(247/2)
النقاط التي يشملها البيان
هذا نص البيان، وهو يشتمل على النقاط التالية:- أولاً: مدح الدعاة والثناء عليهم والإشادة بجهودهم وتزكية أعمالهم، وأنهم من أهل السنة والجماعة الذين بذلوا وسعهم ووقتهم وجهدهم في توعية الناس، وتنظيم الدروس والمحاضرات وتأليف الكتب، وكفى الدعاة فخراً وشرفاً أن يكون من يشهد لهم في عيار سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي هو رأس علماء أهل السنة في هذا العصر، ولعله إمام الأئمة في هذا الزمان في الجرح والتعديل.
ثانياً: أن هذا البيان يشتمل على الرد على خصوم هؤلاء الدعاة من المنتسبين إلى طلبة العلم، وتخطئة ما فعلوا وما قالوا، ودعوتهم إلى التوبة مما فعلوا وإلى التكفير عن ذلك ببيان يزيل ما علق في نفوس الناس مما قالوا.
ثالثاً: أن في ذلك الرد على المستغربين والعلمانيين والملاحدة وغيرهم، الذين اشتهر عنهم الوقيعة في الدعاة والتحريض عليهم.
رابعاً: أن فيه بيان الأسلوب الصحيح للشباب -للعامة من الشباب- وغيرهم أن يقبلوا على طلب العلم النافع والدعوة إلى الله تعالى، وعلى العمل والعبادة التي تقربهم إلى الله، وأن يتركوا الكلام في فلان وفلان واتهام النيات، وتقويم الأعمال وغير ذلك.
خامساً: أن فيه بيان الأسلوب الصحيح -أيضاً- في الحوار والنقاش، البعيد عن التهجم والتجريح واتهام النيات وغير ذلك، وهذه الأصول العامة ينبغي أن نعض عليها بالنواجذ دائماً وأبداً، وأن نتكلم عنها، كما أنني أنصح الإخوة من الدعاة والخطباء في أنحاء البلاد؛ بل في كل أنحاء العالم الإسلامي أن يجعلوا مثل هذا البيان مادة لخطبتهم في الأسبوع القادم، مع التعليق عليه وبيان أبعاده ومراميه وأهدافه، وأن المقصود فيه الدفاع عن الدعاة إلى الله تعالى وطلبة العلم وبيان مكانتهم في الناس، وأنه لا يجوز الوقيعة فيهم ولا النيل منهم.
وكل هذه الأشياء تكلم عنها الشيخ -حفظه الله- بأسلوب الناصح الحكيم المشفق الذي لا يريد للجميع إلا الخير والصلاح، ولا يهدف إلا إلى أطيب هدف وأحسن مقصد، فنسأل الله تعالى أن يجزيه عنا جميعاً وعن المسلمين خير الجزاء، ومثل هذه الأمور التي تكلم عنها سماحة الشيخ قد سبق أن بينت شيئاً منها بالتفصيل في عدد من الدروس والمحاضرات مثل (أدب الحوار) و (المراجعات) وغيرها.(247/3)
لمن يوجه البيان؟
قد غص بهذه الدعوة ودعاتها ورجالها الأفذاذ؛ طوائف من الناس أذكر منهم على سبيل المثال لا على سبيل الحصر طائفتين:- الطائفة الأولى: العلمانيون والمستغربون، سواء أكانوا من المتنفذين في مناصب دبلوماسية أم سياسية أم غيرها، أم من المتربعين على عروش الصحافة، الذين يستغلون مناصبهم للتشهير بالدعاة والطعن فيهم، وهؤلاء -دائماً وأبدًا- يرفعون عقيرتهم بالتخويف من الدعاة، ودق ناقوس الخطر القادم الذي يهدد البلاد والعباد، ويهدد بانشطار الوحدة الوطنية -زعموا- وتشتيت الأمة، وتمزيق البلاد وإحداث الحروب الأهلية، إلى غير ذلك من الدندنات التي طالما روجوا لها وأشهروها، وخوفوا بها وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم؛ ليزعزعوا بذلك الثقة بالدعاة، ويوجدوا الخوف منهم في نفوس الجميع حكامًا ومحكومين، وخابوا وخسروا في ذلك، فإن الأمة أعرف بدعاتها ورجالها وشبابها وأبنائها؛ فالأمة أعرف بهم منهم، وهيهات هيهات أن ينخدع الناس بدعاويهم الباطلة وأكاذيبهم وحيلهم! وهم يعرفون هؤلاء الدعاة على سبيل الحقيقة، والأمة قد قالت كلمتها بالأمس واليوم وغدًا في هؤلاء الدعاة، وما نتائج الانتخابات التي سمعنا عنها في الجزائر إلا مثال واحد فقط من آلاف الأمثلة التي تقول لنا صباح مساء إن الأمة تعرف الدعاة حقيقة، والأمة حين تعود لنفسها فإنها لن تختار عن الدعاة بديلاً، ولن ترضى فيهم قيلاً، ولن تسمح فيهم قول الشاني والمبغض والعدو الكاشح الذي ما عرفته الأمة داعية، ولا عرفته مجاهدًا مناضلاً، ولا عرفته عابداً، وإنما عرفته في أماكن أخرى.
وهذا الصنف الأول طالما تحدثوا وتكلموا، وزعموا أنهم فعلوا ذلك حتى لا تكون فتنة، وما الفتنة إلا ما قالوا وما زعموا وما أبرموا وما كتبوا وما تحدثوا.
أما الصنف الثاني: فهم بعض ضعفاء النفوس، وقد يكون من بينهم المنتسبون إلى شيء من الدعوة أو العلم، لكنهم شرقوا لسببٍ أو لآخر، إما لاجتهاد خاص بهم، وإما لحسد قام في نفوسهم أو لغير ذلك من الأسباب، فتكلم منهم من تكلم في أعراض جماعة من الدعاة المشهورين، كالداعية الكبير سفر بن عبد الرحمن الحوالي، والداعية الكبير الدكتور ناصر بن سليمان العمر، والداعية الكبير الشيخ عائض بن عبد الله القرني، وأمثالهم من الدعاة المعروفين المشهورين، فتكلم فيهم طائفة بما تكلموا به، وحاولوا أن يشوهوا هذه الصورة المثالية الجميلة في نفوس الناس، وتسمع بعض الناس إلى بعض الأشرطة أو إلى بعض الأوراق أو بعض الكتابات، أو بعض المجالس التي خصصت للنيل من هؤلاء الدعاة، وربما سمع الكثير من الناس مثل هذا الكلام، ولعل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وهو من هو في علمه وجلالته وفضله الذي ينطبق عليه قول الشاعر: كأنه وهو فرد من جلالته في عسكر حين تلقاه وفي حشم فهو الرجل الذي عرفته الأمة -دائماً وأبداً- متصدياً لقضاياها ومتحمساً لها؛ فقد ترامى إلى مسمعه ما ترامى إلى سمع الآخرين من نيل العلمانيين والمستغربين، ونيل بعض ضعفاء النفوس من الدعاة فهاله ذلك وأزعجه وآذاه، فآلى على نفسه إلا أن يقول كلمته كما هي عادته، ومن ثم أصدر هذا البيان الذي تسامع الناس به في كل مكان.(247/4)
نص البيان
(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد: فإن الله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن البغي والظلم والعدوان، وقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بما بعث به الرسل جميعاً من الدعوة إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، وأمره بإقامة القسط، ونهاه عن ضد ذلك من عبادة غير الله، والتفرق والتشتت والاعتداء على حقوق العباد، وقد شاع في هذا العصر أن كثيراً من المنتسبين إلى العلم والدعوة إلى الخير، يقعون في أعراض كثير من إخوانهم الدعاة المشهورين، ويتكلمون في أعراض طلبة العلم والدعاة والمحاضرين، يفعلون ذلك سراً في مجالسهم، وربما سجلوه في أشرطة تنشر على الناس، وقد يفعلونه علانية في المحاضرات العامة في المساجد، وهذا المسلك مخالف لما أمر الله به ورسوله من جهات عديدة منها: أولاً: أنه تعد على حقوق الناس من المسلمين؛ بل من خاصة الناس من طلبة العلم والدعاة، الذين بذلوا وسعهم في توعية الناس، وإرشادهم وتصحيح عقائدهم ومناهجهم، واجتهدوا في تنظيم الدروس والمحاضرات وتأليف الكتب النافعة.
ثانياً: أنه تفريق لوحدة المسلمين وتمزيق لصفهم، وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة، وأبعد عن الشتات والفرقة وكثرة القيل والقال فيما بينهم؛ خاصة أن الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة المعروفين بمحاربة البدع والخرافات، والوقوف في وجه الداعين إليها، وكشف خططهم وألاعيبهم، ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين من أهل الكفر والنفاق، أو من أهل البدع والضلال.
ثالثاً: أن هذا العمل فيه مظاهرة ومعاونة للمغرضين من العلمانيين والمستغربين، وغيرهم من الملاحدة، الذين اشتهر عنهم الوقيعة في الدعاة، والكذب عليهم، والتحريض ضدهم فيما كتبوه وسجلوه، وليس من حق الأخوة الإسلامية أن يعين هؤلاء المتعجلون أعداءهم على إخوانهم من طلبة العلم والدعاة وغيرهم.
رابعاً: أن في ذلك إفساداً لقلوب العامة والخاصة، ونشراً وترويجاً للأكاذيب والإشاعات الباطلة، وسبباً في كثرة الغيبة والنميمة، وفتح أبواب الشر على مصاريعها لضعاف النفوس، الذين يدأبون على بث الشبه، وإثارة الفتن، ويحرصون على إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا.
خامساً: أن كثيراً من الكلام الذي قيل لا حقيقة له، وإنما هو من التوهمات التي زينها الشيطان لأصحابها وأغراهم بها، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] والمؤمن ينبغي أن يحمل كلام أخيه المسلم على أحسن المحامل، وقد قال بعض السلف: (لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً) .
سادساً: وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم -فيما يسوغ فيه الاجتهاد- فإن صاحبه لا يؤاخذ به ولا يثرب عليه إن كان أهلاً للاجتهاد، فإذا خالفه غيره في ذلك كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن؛ حرصاً على الوصول إلى الحق من أقرب طريق، ودفعاً لوساوس الشيطان وتحريشه بين المؤمنين، فإذا لم يتيسر ذلك ورأى أحد أنه لابد من بيان المخالفة؛ فيكون ذلك بأحسن عبارة وألطف إشارة، ودون تعرض للأشخاص، أو اتهام للنيات أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور: {ما بال أقوام قالوا كذا وكذا} .
فالذي أنصح به هؤلاء الإخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة ونالوا منهم، أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم أو تلفظت ألسنتهم به، مما كان سبباً في إفساد قلوب بعض الشباب، وشحنهم بالأحقاد والضغائن، وشغلهم عن طلب العلم النافع، وعن الدعوة إلى الله بالقيل والقال والكلام عن فلان وفلان؛ والبحث عما يعتبرونه أخطاء للآخرين, وتصيدها وتكلف ذلك، كما أنصحهم أن يكفروا عما فعلوه من كتابة أو غيرها مما يبرءون فيها أنفسهم من مثل هذا الفعل، ويزيلوا ما علق بأذهان من يستمع إليهم، وأن يقبلوا على الأعمال المثمرة التي تقرب إلى الله وتكون نافعة للعباد، وأن يحذروا من التعجل في إطلاق التكفير أو التفسيق أو التبديع لغيرهم بغير بينة ولا برهان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما} [متفق على صحته] .
ومن المشروع لدعاة الحق وطلبة العلم إذا أشكل عليهم أمر أن يرجعوا إلى العلماء ليبينوا لهم جلية الأمر ويوقفوهم على حقيقته، ويزيلوا ما في أنفسهم من التردد والشبهة، عملاً بقول الله عز وجل في سورة النساء: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] .
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، ويجمع قلوبهم وأعمالهم على التقوى، وأن يوفق جميع علماء المسلمين وجميع دعاة الحق لكل ما يرضيه وينفع عباده، ويجمع كلمتهم على الهدى، ويعيذهم من أسباب الفرقة والخلاف، وينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين) .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وبعد ذلك الختم.(247/5)
استغلال العلمانيين للبيان
وسوف أتلو عليكم هذا البيان على كل حال بعد دقائق -إن شاء الله تعالى- ولكني تعجبت أشد العجب حينما رأيت أن بعض الناس صاروا يتساءلون عن هذا البيان، ما سره وما سببه وما مقصده؟! وزال عجبي حينما علمت أن أجهزة الإعلام قد تكلمت عن هذا البيان ونشرته في الإذاعة والصحافة والتلفاز، وبعض الصحف خاصة خضراء الدمن الشرق الأوسط؛ نشرت له بعنوان مثير، كأنها التقطت منه كلمة واحدة (ابن باز ينهى عن التكفير والتفسيق على رءوس المنابر) فأخذت كلمة، وتجاهلت بقية الخطاب ومضمونه كله وهدفه وفحواه، ونسوا أن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وأن خطاب الشيخ في واد، وهم في واد، فهم من مرضى النفوس الذين لا يأخذون إلا ما يعجبهم وما يروق لهم ويدعون ما سوى ذلك، ومع ذلك هم -دائماً وأبداً- يتشدقون بالموضوعية والعدل والإنصاف، وزال عجبي لأن ثقة الناس -سبحان الله- بأجهزة الإعلام ضعيفة جداً، فإذا أعجبوا بالشيء ثم رأوه نشر واهتمت به أجهزة الإعلام شكوا فيه؛ وقالوا: لابد أن وراء الأكمة ما وراءها، والصواب أن الأكمة هذه المرة ليس وراءها شيء، وإنما وراءها قلب صاف لسماحة الوالد الكبير الشيخ عبد العزيز، أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته في هذه الساعة المباركة أن يطيل في عمره، وأسأل الله تعالى أن يتقبله في عباده الصالحين، وأن يمتعنا به، وأسأل الله تعالى أن يعظم له الأجر، والمثوبة وأن يغفر له إنه على كل شيء قدير، فإن الشيخ عبد العزيز -حفظه الله- إنما أصدر هذا البيان لهذا السبب الذي ذكرته لكم.
إذاً: هذا البيان موجه إلى طائفتين، الأولى: العلمانيون المستغربون الذين طالما سمع الناس أصواتهم بل فحيحهم فهم كالأفاعي: إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب الفئة الثانية: هم بعض ضعفاء النفوس، الذين أكل الحسد قلوبهم فصاروا يتكلمون في أعراض الدعاة للنيل منهم، قد سلم منهم اليهود، وسلم منهم النصارى، وسلم منهم العلمانيون، وسلم منهم أصناف الكفار، وصاروا يقولون عن بعض الدعاة والعياذ بالله إنهم أخطر من اليهود والنصارى -أسأل الله العفو والعافية وأعوذ بالله من انتكاس القلوب ومرضها- فجاء خطاب الشيخ عبد العزيز ليضع حداً لمثل هذه التقولات، ويقول كلمة الحق في مثل هذه الأمور، ويعيد الطمأنينة والسكينة إلى بعض القلوب التي أصابها ما أصابها من جراء مثل ذلك الكلام، وأتلو عليكم خطاب سماحة الشيخ، ثم أتلوه بتعليقات يسيره -أيضاً-.(247/6)
تحرير الإنسان أولاً
أما حديثي إليكم هذه الليلة فلابد أن أقف عند عنوانه (تحرير الأرض أم تحرير الإنسان) والعنوان: هو عبارة عن سؤال، ولو أردت أن أسبق الأحداث وأعطيكم المحاضرة ملخصة في كلمة واحدة لقلت لكم: الجواب هو الإنسان أولاً.
قبل أن نتكلم عن تحرير الأرض، ومع كلامنا عن تحرير الأرض -كل الأرض- الإسلامية التي احتلها الكفر أو احتلها النفاق؛ يجب أن نعلم أن حجر الأساس في تحرير الأرض هو الإنسان، فإذا وجد الإنسان الصادق المؤمن؛ فمعنى ذلك أننا سرنا بخطوات صحيحة إلى تحرير الأرض الإسلامية سواء الأرض التي احتلت منذ اكثر من ستمائة سنة كبلاد الأندلس أم أرض فلسطين أم أرض أفغانستان أم الجمهوريات السوفيتية الإسلامية في الاتحاد السوفيتي الذي انحل، أم جميع بلاد الإسلام التي احتلها اليهود أو الشيوعيون أو المنافقون.
إذاً: لابد أن نتكلم عن تحرير الإنسان قبل أن نتكلم عن تحرير الأرض، فنتكلم عن الإنسان أولاً، أما ما يتعلق بتحرير الأرض فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وموسى عليه الصلاة والسلام يقول لقومه لما قالوا: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129] والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فالأرض يجب أن تخضع لحكم الإسلام.(247/7)
أسس النظام الدولي الأمريكي
أما النظام الدولي المطروح الآن الذي تنادي به أمريكا، فمن الواضح أنه نظام يقوم على أساس فرض تسلط أمريكا على العالم، ويتدخل حتى في القرارات المحلية والقرارات الداخلية للدول -كل الدول- بشكلٍ يدعو إلى الاشمئزاز، ويؤكد أن الشعوب وأن الدول كلها وإن سكتت لفترة زمنية معينة من باب الضرورة، إلا أنها لا يمكن أن تصبر على هذه الأطماع الغربية التي لا يمكن أن تنتهي وأن تقف عند حد.
فهذه الشعوب المبتلاة بالظلم والطغيان الأمريكي، والتسلط والاستكبار الأمريكي، هي الأخرى تحمل نفس الطموحات ونفس الأطماع، فإذا كانت المسألة مسألة تسلط شعب على شعب فما الذي يجعل الشعب الأمريكي يتسلط على الشعب الياباني -مثلاً- أو على الشعب الأوروبي، أو على الشعوب الإسلامية والعربية، أو على الشعوب الروسية -مثلاً- كلا، ليس هو أحق منها بالتسلط.
أما حين تكون القضية قضية دين فإن الجميع يذعنون له ولابد؛ ولذلك أتلو عليكم هذا الخبر الذي نشرته صحيفة الواشنطن بوست عن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق يقول: (انتقد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق فكرة الرئيس جورج بوش (الأب) عن النظام العالمي الجديد باعتبار أن تحقيقها مستحيل -وقال- لقد أعجبت كثيراً ببراعة وثبات الرئيس في بناء التحالف.
ولكن لا تتوافر إمكانية أن يحقق النظام العالمي الجديد، التوقعات المثالية التي عبر عنها الرئيس -يقول-: وأنا أشك في كون هذه التوقعات تعكس بدقة ما حدث في أزمة الخليج -وأضاف- أن صانعي السياسة الأمريكيين لابد أنهم أدركوا أن النظام العالمي الجديد لا يمكن بناؤه وفقاً لمواصفات أمريكية، وأمريكا لا تستطيع أن تغذي بالقسر إحساساً عالمياً بروح جماعية حيث لا يوجد هذا الإحساس.
والسيطرة الأمريكية لا يمكن أن تدوم -وقال- إنه لو تم غزو الكويت بعد سنتين من الآن؛ لكانت ميزانية الدفاع الأمريكية تقلصت إلى درجة تعيق نشر قواتها بكثافة فيما وراء البحار، والاقتصاد الأمريكي لا يستطيع إلى ما لا نهاية دعم سياسة هي في الأساس تدخل من جانب واحد) .
إذاً: صانعو السياسة الأمريكية أنفسهم يدركون أن هذا النظام الدولي الجديد لا يمكن أن يدوم لأنه تدخل من طرف واحد، ولأنه يحمل قدراً كبيراً من الصلف والتسلط والطغيان الأمريكي؛ الذي يريد أن يستبد بخيرات الشعوب، ويريد أن يكون مصدر القرارات واحداً في العالم هو البيت الأبيض وليس الأمم المتحدة، فإن الأمم المتحدة ما هي إلا دمية ولعبة بيد أمريكا، فإذا أرادت أن يكون القرار معيناً كان كما تريد هي وأذعن لها الآخرون؛ لذلك أصبح التبرم والتضايق والتململ حتى في الدول الكافرة من هذا الصلف والتسلط الأمريكي؛ لأنه نظام عالمي ولكنه بشري يقوم على أساس تميز الجنس الأمريكي، وأنه جنس ليس له مثيل ينبغي أن يذعن له العالم وأن يسلم له القيادة.(247/8)
أسس النظام الدولي الإسلامي
والنظام الدولي الممكن الصحيح الذي يقبل به الإسلام هو النظام التالي: أولاً: الوحدة الإنسانية باعتبار أن الناس كلهم من آدم، لا يتميز جنس عن جنس ولا لون عن لون، فالإسلام يرفض كل دعاوى التمييز العنصري، فاليهود -مثلاً- يؤمنون بنظرية الشعب المختار، يعدون أن بقية الشعوب ما هي إلا حمير خلقت ليركبها شعب الله المختار، وكلما نفق منهم حمار ركبوا حماراً آخر، والألمان يؤمنون بالدم الجرماني المتميز، فيجب أن يحكم الشعوب ويقف في رأس القائمة، والرجل الأوروبي والأمريكي الأبيض يعد أنه متميز عن بقية الشعوب فهو رقم واحد، وما زال هناك -حتى اليوم- مظاهرات في أمريكا وغيرها تنادي بالاعتراف بالتفرقة العنصرية، وأنهم لا يمكن أن يقبلوا أن الأبيض والأسود على قدم المساواة، وقديماً كانوا يعلقون لوحات، مكتوب فيها: ممنوع دخول السود والكلاب.
وهذا الكلام لا يزال قائماً حتى اليوم، فهم الآن يعملون مظاهرات كثيرة في أنحاء العالم الغربي تطالب باعتراف دساتيرهم بالتفرقة العنصرية بين الإنسان الأبيض وبين غيره من البشر، لكن دون أن يكون هناك عنف أو قسوة.
إذاً الإسلام يؤمن بأن البشر كلهم لآدم وآدم من تراب، وأنه لا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهمُ من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء ثانياً: الوحدة الإيمانية على أساس الدين وحده، وهذه الوحدة تتجاوز وحدة الأرض ووحدة الدم ووحدة اللون ووحدة العرق، وهي منطقة الاختيار؛ لأن الإنسان لا يختار لونه ولا جنسه ولا عرقه ولا بلده؛ وإنما يختار الدين الذي يدين به، فالوحدة الإيمانية هي الأساس للوحدة العالمية؛ لأن هذه الوحدة الإيمانية ينبغي أن تكون مهيمنة على الوحدة الإنسانية أو الوحدة البشرية، وعلى هذا الأساس يقوم النظام الدولي الوحيد الذي يمكن أن يعترف به الإسلام، وهذا النظام في الوقت ذاته هو النظام العادل الذي لا يحابي جنساً أو عرقاً أو لغة أو مذهباً على الإطلاق؛ لأن الناس كلهم في ميزان الله تعالى سواء، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] وفي الآية الأخرى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] .(247/9)
تحرير الأرض المسلمة من طغيان الكفر والنفاق
وحين نتحدث -نحن- عن تحرير الأرض يتبادر إلى الذهن -على كل حال- الأرض الإسلامية التي اجتاحها طوفان الكفر الصريح المكشوف، فمثلاً: الطغيان النصراني الذي اجتاح العالم أو جزءاً من العالم الإسلامي، فاحتل -مثلاً- الأندلس أو احتل أجزاء من أرض الفلبين أو احتل أراضي كثيرة للمسلمين؛ كانت يوماً من الأيام أرضاً إسلامية.
أو الطغيان والكفر اليهودي الذي احتل فلسطين وغيرها.
أو الطغيان الشيوعي الأحمر الذي احتل الأراضي الإسلامية في الجمهوريات السوفيتية سابقاً، وأرض أفغانستان إلى غير ذلك.
فيضربون الأمثلة بهذه الأشياء: الأندلس والجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي وفلسطين وأفغانستان، وهذه الأمثلة أو النماذج هي التي تستدر مشاعر المسلمين وتلهب حماسهم وتحرك غيرتهم، ولعل الشعر هو المعبر عن ذلك، فأنت حين تقرأ الشعر تجده يتكلم عن هذه الأراضي المفقودة لا غير.(247/10)
فقدان الإسلام في الأندلس
فمثلاً أرض الأندلس استأثرت بقدر كبير جداً من مشاعر الشعراء وأقوالهم: فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين جيان وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن تبكي الحنيفية السمحاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان على بلاد من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران حتى المآذن تبكي وهي جامدة حتى المنابر تبكي وهي عيدان حتى المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان هناك
السؤال
ما هو الذي فقد من الأندلس؟! هل فقدت شوارعها؟! هل فقدت قصورها الباذخة المذهبة؟! هل فقد أهلها؟! أم هل فقدت مساجدها؟! فالمساجد لا تزال قائمة؛ والقصور والشوارع، والناس هم الناس، وإنما الذي فقد شيء واحد هو الإيمان.
إذاً لم يكن عمل النصارى في بلاد الأندلس تهجيراً وطرداً للمسلمين ليغادروها إلى بلد آخر، مثلاً ولم يكن قتلاً فقط، وإنما كان بالدرجة الأولى تكفيراً، أي: حملاً للناس على الكفر بالقوة؛ فمن أدان لهم وكفر تركوه، ومن أصر على إسلامه قتلوه؛ لذلك تجد ما يسمى بالمورسيين ومحاكم التفتيش التي كانت تضطر الناس اضطرارً إلى الإعلان عن الكفر وتغيير أسمائهم إلى أسماء نصرانية، فالذي فقد من الأندلس -إذاً- ليس أرضها ولا مزارعها ولا مبانيها ولا حتى مساجدها ومنابرها، كلا! إنما الذي فقد هو شيء واحد وهو الإسلام.(247/11)
الاحتلال الصليبي للشام
ننتقل إلى الشام التي احتلها الصليبيون زماناً أيام الحروب الصليبية وهيمنوا عليها، حتى بيت المقدس احتلوه، وحولوه إلى مكان اسطبلات لخيولهم، وبكى المسلمون دماءً ودموعاً على أرض الشام، أرض المحشر والمنشر، وعلى أرض الإسراء التي احتلها الصليبيون، وما زالت كتب التاريخ تحتفظ بكثير من الشعر الذي بكى فيه المسلمون تلك البلاد.
أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيب فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب وكم من مسلم أمسى سليباً ومسلمة لها حرم سليب وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا! أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب!! بكى الشاعر واستصرخ المسلمين، وحرك همهم إلى تحرير بلاد فلسطين وبلاد الشام من كيد الصليبيين، وهكذا كان.(247/12)
الاحتلال الشيوعي للجمهوريات
ننتقل إلى مثال ثالث: وهي الجمهوريات الإسلامية التي احتلها الاتحاد السوفيتي وضمها بقوة إلى امبراطوريته التي تفككت عما قريب، وهذه الجمهوريات هل علم بها أحد؟ هل بكاها أحد؟ حتى بكاء الشعراء وحنينهم اختفى، وأنينهم لا يسمع، وهاهنا يثور العجب، لماذا سكت المسلمون؟! ولم يشعروا بهذه الحركة الكبيرة؟! جمهوريات ضخمة، حتى إن بعضها نسبة سكانها يعادل نحو (8%) من نسبة سكان الاتحاد السوفيتي بأكمله، وجمهورية كازاخستان وغيرها، والجمهوريات التي ولدت كبار الأئمة والعلماء والعظماء، بما فيهم أصحاب السنن؛ عدد منهم كانوا من تلك البلاد التي ضمت إلى الاتحاد السوفيتي، وقتل إستالين نحو ستين مليوناً غالبيتهم من المسلمين، حتى إنه توجد بعض الشعوب مثل الشيشان -شعب إسلامي- لم يتعرض شعب للإبادة أكثر منه، حتى توقعت بعض المصادر أنهم قد أبيدوا وانتهوا من التاريخ ومن الوجود، فإذا بهم يظهرون الآن أقوى مما كانوا، يقولون: نحن الآن قواتنا ثلاثون ألفاً مستعدون أن يموت منا عشرون ألفاً في سبيل أن نعيش أحراراً بعيداً عن هيمنة طاغية آخر.
المهم أين المسلمون حين ضمت هذه البلاد إلى روسيا؟! لماذا لم يتحركوا؟! أين مشاعر الشعراء؟! أين بكاؤهم؟! بل أين دموعهم؟! أين أحاديثهم؟!
الجواب
لعل أهم سبب هو انحسار الإسلام من النفوس، فالإسلام انحسر من النفوس، وأصبح المسلمون يقتطع من بلادهم أجزاء عزيزة ولا يتحركون، خاصة ذلك الوقت الذي كان وقت الظلمات، زمن الفترة لا أقول قبل الإسلام لكن قبل الصحوة وقبل اليقظة الإسلامية.
السبب الثاني: عدم وجود الروابط الدينية العميقة بين أولئك المسلمين وبين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها خاصة في العالم الإسلامي؛ ومركزه أرض الحجاز وأرض الشام وما حولها.(247/13)
الاحتلال اليهودي لفلسطين
ولذلك كان من سوء حظ اليهود كما يقول بعضهم اختيارهم فلسطين ليقيموا فيها؛ لأنها أرض في قلب العالم الإسلامي وهي أرض فيها المسجد الأقصى الذي تهفو إليه مشاعر المسلمين، ويشكل رابطة إيمانية وشعورية دائماً وأبداً، وكل مسلم يحفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد} وهو في الصحيحين، وذكر منه المسجد الأقصى، وكذلك جاء في الحديث الصحيح أن الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة.
إذاً: هناك روابط إسلامية عميقة تربط المسلمين بفلسطين وتربط فلسطين بالمسلمين في كل مكان؛ وهي الأرض المباركة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] .
الأرض التي باركنا فيها للعالمين: فهي أرض مباركة بارك الله تعالى فيها وبارك حولها وفيها الكثافة الإسلامية الغنية، وحولها الكثافة الإسلامية الغنية، وهي قريبة من الوسط قريبة من مركز الثقل في العالم الإسلامي؛ ولذلك كان حظ اليهود تعيساً حين اختاروا فلسطين، ومازال المسلمون مشاعرهم وقلوبهم تهفوا إلى فلسطين، وتتحدث عنها وتحن إليها؛ ولذلك لا يمكن أن يقر لليهود فيها قرار، ولهذا تجد أن الشعراء طالما تغنوا بفلسطين وتكلموا عنها، وهناك مئات بل آلاف الدواوين وفيها عشرات الآلاف من الأبيات الشعرية والقصائد الجميلة التي تتغنى بفلسطين وتحن إليها، وتتكلم عن جرائم اليهود فيها: خلت فلسطين من أبنائها النجب وأقفرت من بني أبنائها الشهب طارت على الشاطئ الخالي حمائمه وأقلعت سفن الإسلام والعرب يا أخت أندلسصبراً وتضحية وطول صبر على الأرزاء والنوب ذهبت في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلسمن قبل في الحقب وطوحت ببنيك الصيد نازلة بمثلها أمة الإسلام لم تصب ودواوين الشعراء من مصر والشام والعراق وفلسطين وغيرها كانت ومازالت تملأ رفوف المكتبات، حتى النصارى من أهل الشام وفلسطين طالما تغنوا بفلسطين وتكلموا عليها وعنها لأن لهم فيها علاقات، ولهم فيها وجود، ولهم فيها ارتباطات، فهناك فارق إذاً حيث إن فلسطين من حيث موقعها ومن حيث مكانتها الدينية تختلف كثيراً عن تلك الجمهوريات البعيدة التي لم يكن للمسلمين بها اتصال كبير.
فارق آخر: وهو أن العمل الذي جرى في فلسطين هو كان إحلال شعب مكان شعب آخر، فاليهود يتنادون من أنحاء العالم للهجرة لطرد المسلمين منها، وإحلال شعب اليهود الداعر الفاسق مكان الشعب المسلم في فلسطين.
وشعب اليهود بطبيعته حين يأتي إلى فلسطين لا يأتي لها كأي قطعة أرض، لا؛ بل إنه متدين يأتي إلى فلسطين وبكونها حائط المبكى وبكونها أرض الميعاد، وبكونها أرض النبوءات، فهو يختار هذه البقعة اختيارًا دينيًا وهو شعب متدين؛ ولذلك كانوا يقولون: ليس اليهود هم الذين حفظوا التوراة، لكن التوراة هي التي حفظت اليهود.
أي: إن تمسك اليهود بالتوراة وحرصهم عليها هو الذي ضمن لهم البقاء والاستمرار والوحدة والقوة، وجعلهم على رغم التحدي والكيد والضربات الشديدة الموجعة التي وجهت إليهم يحتفظون بعنصريتهم وقوميتهم ويتجمعون بين وقت وآخر، فيحفظهم ذلك من الذوبان كما ذاب الجرمان -مثلاً- في الأوروبيين، وكما ذاب التتر في المسلمين حين غزوهم، ومن الملفت للنظر أن فلسطين صغيرة المساجد جداً، لكن الدماء تسيل حولها بغزارة عبر القرون وهذا يؤكد لك أنها أرض غالية، وأن إقامة اليهود فيها إقامة محدودة مهما أوهموا أنفسهم أو أوهمهم غيرهم بخلاف ذلك.(247/14)
الاحتلال الشيوعي لأفغانستان
أرض أخرى نتكلم عنها كثيرًا وهي أفغانستان، وأفغانستان قد احتلها مائة وخمسون ألف خبير سوفيتي -كما تقول بعض الإحصائيات- انتشروا فيها وفي مراكزها، لكن قبل ذلك قامت حكومة شيوعية من نفس البلاد -كما هو معروف- تنادي وتقوم على أساس شيوعي ماركسي، تدعوا روسيا للتدخل، فحين سيطر الشيوعيون حولوا الحياة في أفغانستان إلى جحيم لا يطاق؛ ولذلك كانت أفغانستان نمطًا فريداً بين الأمثلة السابقة كلها تقريبًا، كانت نمطًا فريدًا لأنه ليس هناك شعب في أفغانستان بدلاً من شعب آخر، لا، إنما هو الشعب نفسه انقسم إلى مسلمين وإلى شيوعيين، فاحتل الشيوعيون أو قاموا بالهيمنة على الحكم وسيطروا عليه، وحاولوا تحويل الحياة إلى حياة شيوعية، ثم هب الشعب الأفغاني للمقاومة والمدافعة والقتال على ما هو معروف.
فهذا نمط فريد، وكان المتوقع ألا يحدث شيء؛ لأن كثيراً من الثورات قامت في العالم الإسلامي، ونحن نعرف في العراق وفي سوريا قامت ثورة بعثية منذ زمن طويل، وحكمت الناس بالحديد والنار، وملأت السجون بالمسلمين والعلماء، وغيرت أخلاق الناس وعقولهم وعقائدهم، وسلطت أجهزة الإعلام على مسخ الإنسان المسلم، ونجحوا في ذلك إلى حد بعيد وما حصل شيء يذكر.
أما في أفغانستان فالذي حصل هو أمر مختلف تمامًا، والسبب أنه رصدت مجموعة من الأسباب قد لا تكون هي كل الأسباب:- أولاً: أنها قضية جديدة نسبياً، فهي منذ اثنتي عشرة سنة فقط، واثنتي عشرة سنة، فترة غير كافية أن ينسى المسلمون دولة مثل أفغانستان، هل يمكن أن ينسى الإنسان عضوًا مقطوعًا منه بهذه السهولة؟! لا، وبالمقارنة تجد اليهود أو المتهودين من العرب والغرب كذلك يطمعون أن يكون المسلم قد نسي أرض فلسطين، التي هي في الأصل أرض إسلامية، يطمعون الآن -وإن لم يكن يطمعون بذلك من قبل- لأنهم يعتبرون أن المدة الطويلة التي مضت كافية، لكن في ظل مشاعر الإحباط واليأس التي يعيشها المسلمون الآن وتحت تسلط الأنظمة الخيانية يمكن أن تحدث أشياء كثيرة؛ ولهذا ظنوا وتصوروا أنه يمكن جدًا أن ينسى المسلمون أن فلسطين كانت يوماً من الأيام أرضاً إسلامية، أما أفغانستان فالمدة قريبة؛ فلذلك لا يزال الجرح نازفًا جديدًا.
السبب الثاني: هو طبيعة موقع أفغانستان من نواحٍ عديدة، فهي على أقل تقدير مسرح للصراع منذ زمن طويل، وفي الفترة الأخيرة كانت بوابة على العالم العربي والإسلامي بالنسبة لروسيا، وفي نفس الوقت كانت مسرح الصراع بين النفوذ الروسي وبين النفوذ الأمريكي الذي يقع في أفغانستان وما حولها؛ لذلك كان هناك -على الأقل- تأييد من أمريكا للمقاومة الأفغانية، فلما سقط الاتحاد السوفيتي تخلت أمريكا أو أعلنت تخليها وإن لم تكن تدعمهم دعمًا حقيقيًا من قبل، لكن تخلت حتى عن الدعم الإعلامي، أو الدعم في المحافل الدولية.
السبب الثالث: هو راية الجهاد التي رفعت قوية في أفغانستان، فكان يقف في مقدمتها مجموعة من العلماء والدعاة المعروفين والمشهورين الذين كانوا على صلة بالعالم الإسلامي، واستقطبت تلك الراية الجهادية شعب أفغانستان المهاجر، واستطاعت بالثقة التي كسبتها داخل أفغانستان، والثقة التي كسبتها في العالم الإسلامي، أن تجعل من قضية أفغانستان قضية حية فاعلة مؤثرة لا يمكن أن ينساها المسلمون، فهي تعيش في مشاعر الكبار والصغار والشيوخ والأطفال -فضلاً عن الشباب المتوثب المتحمس- حتى إن الطفل جهاد يدفع قيمة السندوتش الذي أعطته أمه له من أجل أنه سمع داعيًا ينادي للتبرع لأفغانستان، وهذا مجرد نموذج صغير وقد ساعد على ذلك -أيضاً- وجود قدر كبير من الروابط بين أفغانستان والعالم الإسلامي، فلم تكن أفغانستان تعيش عزلة كالجمهوريات السوفيتية المجاورة لها التي ضمها الاتحاد السوفيتي إليه.
السبب الرابع: هو أن قضية أفغانستان تكونت وتفاعلت في زمن الصحوة الإسلامية بعدما زال عن المسلمين الغبش الذي كانوا يعيشونه، وحصل هناك شيء من الانتعاش الإسلامي، فكانت أفغانستان متنفسة للمضطهدين في كل بلاد العالم الإسلامي، كما كان رجال الصحوة وشبابها وقود هذه الحرب الشرسة التي لم تتوقف بعد، ويقدر عدد القتلى فيها بنحو مليون -نسأل الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله- أما الأموال التي ضاعت فحدث ولا حرج، ولا نقول ضاعت فهي إن شاء الله محسوبة عند الله تعالى بنيات أهلها المخلصين، ولعله من أمارات التخلف لدى المسلمين ألا نملك نحن الآن رقماً إحصائياً دقيقاً عن عدد القتلى، ولا نملك -أيضاً- رقماً إحصائياً دقيقاً عن قيمة الأموال، ومجموع الأموال التي صرفت في هذا السبيل، وكان المفروض أن نملك رقمًا عن هذا وذاك وعن غيره.
وبالمقابل فقد كانت قضية أفغانستان -لأنها جزء من إنجازات الصحوة إن صح التعبير- صورة عكسوا عليها السلبيات الموجودة في الصحوة الإسلامية.
مثلاً التشرذم والتشتت والتفرق الذي يصل -أحياناً- إلى حد التقاتل والتطاحن على نحو ما حصل في كنر، وقبلها حصل في مواقع ونقاط عديدة في أنحاء أفغانستان.
قضية ثانية: قضية الارتجالية وعدم وجود التخطيط الدقيق، وعدم وجود الدراسات العلمية المصاحبة لأي خطوة سواء أكانت خطوة عسكرية أم خطوة سياسية؟! قضية ثالثة: المبالغة الإعلامية، وعدم القدرة على التزام الموضوعية في الأخبار والتحليلات والتوقعات بشكلٍ جيد، وكذلك عدم القدرة على نقد الذات ومراجعة المواقف والتصرفات بشكل صحيح منصف وشجاع، وهذه جوانب من السلبيات لا أقول موجودة في أفغانستان؛ بل هي موجودة في عقولنا نحن المسلمين وفي حياتنا وفي شخصياتنا جميعًا، وانعكست على أي عمل نقوم به سواء أكان في أفغانستان أم غيرها.(247/15)
احتلال المنافقين للبلاد الإسلامية
إذاً نحن الآن أمام عدد من البقاع الإسلامية التي احتلها الكفار كالأندلسو أفغانستان وفلسطين والجمهوريات التي كانت في الاتحاد السوفيتي، فهذه عدد من الرقاع، لكننا نقارن ذلك فنجد أن الرقعة الإسلامية أصبحت نهباً للمنافقين الذين احتلوها بغير سلاح، وليس بالضرورة عن طريق الثورات، فقد هيمنوا على العالم الإسلامي باسم العلمانية تارة، وباسم الوحدة الوطنية تارة أخرى، وباسم نظرية الحق التاريخي الذي يخولهم ذلك مرة ثالثة، ولا بكاء ولا دموع على هذه الأرض الإسلامية التي أصبحت تحكم بالمنافقين؛ بل أصبح ذلك الواقع واقعاً شرعياً في نظر الكثيرين، ولعله -أحياناً- يكون مثيراً للدهشة أنك تجد المسلمين يعيشون تناقضاً ليس له حد.
قال لي مرة أحد الإخوة -وهو زعيم من زعماء المجاهدين في بلد ما-: بلدنا ينقسم إلى قسمين، قسم حر، وقسم محتل.
فقلت له: وما هو الفرق؟ قال: إننا نقوم بأعمال الآن في القسم المحتل، فنقوم مثلاً بتفجير أماكن السينما والدعارة وأماكن الفجور والفساد وغير ذلك بعدما نهدد أهلها مرة ومرة؛ وبعد ذلك نقوم بالتفجير في الأرض المحتلة، فقلت له: والأرض المحررة ماذا يقع فيها؟ هل فيها هذه الأشياء؟ قال: نعم فيها بيع الخمور، وفيها السينما وبيع الفيديو، وفيها أماكن الدعارة، وفيها أنماط الفساد كأي بلدٍ آخر.
قلت له: إذاً أنتم تحررون هذه البلاد وتذهب الأرواح في سبيلها من أجل ماذا؟! من أجل أن تصبح مثل تلك الأرض الحرة يباع فيها الفساد ويباع فيها الهوى والدعارة، ويمارس فيها حرب الله ورسوله علانية؟!! ما هذا التناقض الذي نعيش فيه؟! هذا التناقض هو -واضح جدًا- أنه إذا حكم كافر صريح معلن اسمه -مثلاً- اسم كافر نصراني أو يهودي ودينه كافر وتاريخه كفري، ثار المسلمون وضجوا، لكن إذا حكم منافق يحمل اسماً إسلامياً ويحمل جنسية إسلامية أو جوازاً إسلامياً فإن الجميع يذعنون ويسكتون؛ لأنه جزء من الوطن يحكمهم باسم العلمانية وباسم الديمقراطية، وباسم الوحدة الوطنية وبغير ذلك من المسميات، فصار هذا الواقع واقعاً شرعياً في نظر الكثيرين ويلتمسون له المعاذير بكل وسيلة، وهؤلاء المنافقون الذين حكموا في طول بلاد الإسلام وعرضها يعلنون في كثير من الأحيان أهدافاً ولا يحققونها، والمسلمون يفتنون على أيديهم في كل عام مرة أو مرتين؛ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
وطالما رفع هؤلاء -مثلاً- شعار الدين والحكم بالإسلام وتحكيم الشريعة الإسلامية وعدم الخروج عنها قدر أنملة فإذا هم يحكمون بنظام الغرب من خلال هذا الكلام، ولعل جزءاً منكم كانوا يسمعون منذ زمن أن عقيد ليبيا أعلن زماناً من الأزمنة أنه سوف يطبق الإسلام، وبدأ بالزكاة وبعض الحدود، وجمع أموال الناس باسم الزكاة، ثم صادر أموالهم وزج المسلمين في غياهب السجون، وصار من يصلي صلاة الفجر مع المسلمين لا يدرى أين مصيره، فالقتلى عشرات الألوف والداخل في هذه السجون مفقود والخارج منها مولود، والعالم كله يعرف أخبار المشردين والهاربين من جحيم العقيد الذي كان يوماً من الأيام يرفع شعار الإسلام، فأعلنوا الحكم بالدين والدعوة إليه وغير ذلك، وحققوا بعض الإصلاحات الشكلية الوهمية، وإذا بهم وراء ذلك يسنون السكاكين للقضاء على المسلمين، والإجهاز على البقية الباقية من الروح الإسلامية في نفوسهم.
أعلنوا قضية الوحدة وما أكثر الوحدات التي أعلنوا عنها في المشرق والمغرب والشمال والجنوب بين مصر وسوريا، وبين المغرب وليبيا، وبين المغرب والجزائر، وبين المغرب وتونس، وبين المغرب والسودان، وبين المغرب وليبيا، ومصر، وبين ألوان من الوحدة ودعاوى عريضة ومؤتمرات ومؤسسات، وجهود ولقاءات، ولجان وغير ذلك، وما زال العالم الإسلامي والعربي لم يشهد عبر تاريخه الطويل ألواناً من الشتات والفرقة مثلما يشهده الآن.
وتحدثوا عن الرفاهية التي سوف يؤمنونها، وإذا بهذه الرفاهية التي ترفع تارة باسم الاشتراكية، وتارة باسم إصلاحات مالية، وتارة باسم تخفيض الرسوم والضرائب، إلى غير ذلك؛ أصبحت الرفاهية التي ينادون بها ليست سوى مساواة الأغنياء بالفقراء عن طريق إفقار الغني؛ وأن يكون المال دولة بين فئة خاصة من ذوي النفوذ أو من أصحاب رؤوس المال، أو من الحاشية والبطانة أو من غيرهم، ممن لا هم لهم إلا ملء جيوبهم وبطونهم، أما بقية الشعوب فهي مسحوقة ليس لها من الأمر شيء ولا تجد القوت الذي تأكله، وهذا أمر مراد؛ لأن سياسة التجويع تجعل الإنسان يقع في هذا الطوابير الطويلة الموجودة في أنحاء العالم الإسلامي، في انتظار الخبز -مثلاً- وفي انتظار لقمة العيش، ليس لديها -أي: الشعوب- وقت للتفكير للإسلام، ولا أن تضحي في سبيل الدين ولا أن تهتم بأمور المسلمين؛ لأن من الطبيعي أن الإنسان إن كان مشغولاً ببطنه وبحقوقه الخاصة فليس لديه وقت أن يفكر بغيره، وربما الإنسان يلهو حتى عن ولده وعن زوجه وعن أمه وعن أبيه بنفسه، فكيف سيفكر في الأبعدين؟ فهذه سياسة التجويع وراءها ما وراءها، المهم: أنهم رفعوا شعار ترفيه الشعوب باسم الاشتراكية تارة، وباسم الإصلاحات المالية تارة أخرى، وبأسماء وألوان كثيرة، والنتيجة التي تعرفها الشعوب كلها أن العالم الإسلامي هو أفقر منطقة في العالم كله، حزام البؤس، والعالم الرابع ففي بلاد كشمير وبنجلادش وغيرها يموت الناس جوعًا لا يجدون لقمة العيش، الأطفال يتفوّرون، ومستوى دخل الفرد أضعف مستوى في العالم كله، وغالبية الشعوب الضعيفة هي من الشعوب الإسلامية التي تملك أغلى وأثمن ثروة في العالم.
إذاً هؤلاء تكلموا ونادوا الناس وخدعوهم باسم الدين تارة وباسم الوحدة الوطنية تارة، وباسم تحقيق الانتصارات والمكاسب على العدو تارة، وباسم تحقيق الرفاهية للمواطن تارة، وكل ذلك فشل.
إذاً فقد هؤلاء مبرر وجودهم، فلا بد أن يبحثوا عن تلوين آخر أو طريقة أخرى.(247/16)
طريق تحرير الأرض
نعود إلى قضية الأرض الإسلامية التي احتلها الكافر أو احتلها المنافق كيف السبيل إلى تحريرها؟ أولاً: نحن لا نعترض على تحرير أرض الإسلام من أعداء الدين -من الكفار والمنافقين- على الإطلاق، ولا شك أن الذي يقول: أنا علماني -مثلاً- وقد أجروا في مرة من المرات مقابلة مع ياسر عرفات فقال: أنا أريد أن أحكم فلسطين بالعلمانية.
ونحن نقول: هذا العلماني يجب إقامة الحرب عليه كما يجب إقامة الحرب على اليهودي سواء بسواء، ولا فرق عندنا بين كفر اليهودي وكفر العربي، فالكفر كله ملة واحدة، ونحن نعتقد أن تحرير الأرض الإسلامية ليس من أجل شيء إلا من أجل أن تحكم بدين الله وشرعه فقط، أما أن تحرر لتحكم -بالعلمانية- مثلاً أو بالاشتراكية فإن هذا أمر لا يكون في حس المسلم أبداً.
تحرير الأرض الإسلامية مطلب شرعي بل هو واجب في عنق كل قادر مستطيع، وقد أجمع العلماء على وجوب مدافعة الكفار عن أراضي المسلمين، على كل من يستطيع ذلك بنفسه أو ماله أو بهما معًا.
بل أبعد من هذا، ليس فقط تحرير الأرض الإسلامية التي احتلها الكافر والمنافق كلا؛ بل إن شعيرة الجهاد التي لا يملك أحد إسقاطها لا تملك أمريكا ولا إسرائيل ولا يملك عملاؤها من العرب إسقاطها؛ بعد أن أثبت الله تعالى وأثبت الرسول صلى الله عليه وسلم دعائمها، وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في خطاب صريح أن الجهاد لا يزال قائمًا إلى قيام الساعة، هذا الجهاد أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قائم إلى قيام الساعة؛ وذلك من خلال الإعلان -أحياناً- عن بقاء رجال الجهاد المدافعين الذين يحملون رايته؛ وهم الطائفة المنصورة، والحديث في ذلك متواتر، وأحياناً أعلن بقاء الجهاد من خلال بقاء الآلة وهي الخيل التي يعقد في نواصيها الخير إلى يوم القيامة؛ والحديث في ذلك -أيضًا- متواتر؛ ومثله السيف والرمح الذين بعث بهما الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر في سنن أبي داود: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة} .
وقال في آخر الحديث: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي} ومن عجيب رحمة الله تعالى بأوليائه -هذا استطرد على أي حال- أن يكون هذان المعنيان متواتران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى بقاء رجال الجهاد وبقاء آلة الجهاد في أيديهم تثبيتاً لقلوب المؤمنين وتطميناً لهم؛ بل أعجب من ذلك أن الله تعالى أثبت هذا المعنى وأورده في لفظ صريح في القرآن الكريم وذلك في قول الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] .
وقد فسر العلماء هذه الآية بتفسيرات، قيل: الذين يأتي بهم الله تعالى إذا ارتد الناس عن دينهم فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قيل: أبو بكر ومن معه قاتلوا المرتدين، قال ذلك قتادة والضحاك والسدي والحسن البصري، وقيل: أبو موسى الأشعري وقوم من أهل اليمن، وقد صح هذا مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق، وقيل: هم أهل القادسية أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس، وأجمع وأصح ما قيل في ذلك هو ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [[هذا وعيد من الله أنه من ارتد منكم عن دينه سيبدل الله خيراً منهم]] .
أي: أن الآية عامة في كل زمان وفي كل مكان، كلما حصلت حادثة ردة قيض الله تعالى قوماً بهذه الصفة، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يحبهم ويحبونه يقاتلون في سبيل الله ويجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم، فـ أبو بكر وأصحابه نموذج، وأهل اليمن نموذج، وأهل القادسية نموذج، والسنة قائمة أمس واليوم وغداً {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] .
فهذا وعيد في طياته وعد -كما هو واضح- بأن هذه الراية المحمولة لا يمكن أن تسقط أبداً: إذا ما راية رفعت لحرب تلقاها عرابة باليمين إذا مات فينا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول والمهم: أن هذا الجهاد قائم بحكم الله وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تملك قوة في الدنيا، وأؤكد على هذا المعنى لأن كثيراً من القلوب داهمها اليأس، والذي يؤمن بهذه المعاني لا يمكن أن ييئس أبداً، فالله يقول لك: إن الأمر باق، وأنت تشك، والرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد لك أن حملة الجهاد وقواد المعارك الفاصلة باقون إلى قيام الساعة، وأن آلة الجهاد باقية أيضاً، وأنت تشك؟! نعوذ بالله من الحور بعد الكور، أو أن نرتاب في أمر الله تعالى وخبره، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.(247/17)
مهمة الجهاد
هذا الجهاد الباقي ما هي مهمته؟ مهمته تحرير الأرض الإسلامية من سلطة الكافرين والمارقين والمنافقين؛ بل مهمته أبعد من ذلك فمهمته تحرير الأرض كلها حتى الأرض التي لم يسبق أن احتلها المسلمون أو فتحوها -وبالأصح الأرض التي لم يسبق أن فتحها المسلمون- تحريرها من سلطة الطغاة المستكبرين {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137] وبمعنى آخر -كما أسلفت- إقامة النظام الدولي الإسلامي الذي يظلل الأرض كلها، فالجهاد ليست مهمته فقط إنقاذ الثروة الإسلامية من ابتزاز أمريكا وحلفائها وشركائها فحسب؛ بل مهمته تمكين المسلمين من حقوقهم الاقتصادية المشروعة حتى في أموال المنافقين والكفار؛ ولذلك سمى الله تعالى ما يعود على المسلمين من أموال الكفار فيئاً {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:7] لأنه أفاء أي: أرجع إلى أهله وأصحابه الأصليين، وهم المسلمون، فأما ما يكون نتيجة الحرب القائمة بين المسلمين والكفار فهذه غنائم أمره واضح لا إشكال فيه، وأما في السلم فالمسلمون يضربون الجزية على الكفار على حسب التفاصيل المعروفة في كتب الفقه.
إذاً تحرير الأرض الإسلامية مطلب شرعي عادل، لا! ليس الأمر كذلك فقط؛ بل تحرير الأرض كلها من سلطة الكفار مطلب شرعي عادل.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يقدم المسلمون في كل يوم مزيداً من الأرض ومزيدًا من الثروة ومزيداً من التنازلات لأعدائهم؟! لماذا تنقص الأرض الإسلامية من أطرفها يوماً بعد يوم؟! ولماذا يلهث المسلمون وراء مشاريع السلام الموهوم؟! ولماذا يغالطون أنفسهم ويضلون شعوبهم ويخدرونها فيرسمون ويصورون لها بأن العالم الآن يعيش مرحلة لم تعهد من قبل ولم يعرفها التاريخ؟! مرحلة الشرعية الدولية، وما أدراك ما الشرعية الدولية القائمة على أساس العدل والإنصاف والسلام.
من يجهل تاريخ الأمريكان وماذا عملوا -مثلاً- بالهنود الحمر كأقرب مثال؟! ومن يجهل تاريخهم مع الشعوب التي هيمنوا عليها، بل أي آلة للحرب وأي آلية للجاسوسية يملكونها الآن؟! وأي أخلاقيات تؤمن بها الـCI
الجواب
مثلاً الذي هو جهاز المخابرات الأمريكية؟! ويكفيك أن تقرأ فقط كتاب كنت رئيسًا لـ CI
الجواب
لـ آلن دالاس الرئيس السابق للمخابرات المركزية الأمريكية؛ لتنظر بعض ما أمكن الاعتراف به من ألوان الألاعيب والحيل التي تكشف لك أنهم يحاولون أن يجعلوا العالم كله لعبة في أيديهم، لماذا تنتقص الأرض الإسلامية من أطرفها، لماذا توظف أموال المسلمين في غير صالحهم؟! ولماذا يستفيد عدوهم من الفرص التاريخية الكبيرة التي قد لا تعوض وقد لا تتكرر؟! على سبيل المثال قرأت قبل أيام خبراً تعجبت أن أجهزة الإعلام لم تلتفت له، يقول: رصد فقدان عشرة كيلو من اليورانيوم المخصب من الاتحاد السوفيتي أي: المعامل الذرية في الاتحاد السوفيتي، فقدت عشرة كيلو من اليورانيوم المخصب، إلى هذا الحد! ومرَّ الخبر بهدوء، قالوا: احتمال أنه يكون غلط في الحسابات! وهذا يدل على ضعف الاهتمامات أو ضعف العناية الأمنية في هذه المصانع، انتهى الأمر عند هذا الحد، أين ذهبت هذه العشرة كيلو؟! مفاعل نووي كبير تقايض وتفاوض إسرائيل دول الكومنولث الجديدة -الآن- من أجل شرائه، وعشرات الآلاف من المهاجرين اليهود يأتون الآن إلى إسرائيل على حين لا يكترث المسلمون لما يجري، ولا ينتفعون من هذه الفرص العظيمة التي تقع هناك، هل هم أقل عدداً؟ هل هم أقل ثروة؟! هل هم أضعف؟! هل هل؟! الجواب في نظري يمكن تلخيصه في كلمة واحدة يجب أن تسترعي اهتمامكم؛ لأنها كلمة مهمة وهي عقدة المحاضرة، كلمة "الإنسان مستعبد".(247/18)
ألوان العبودية
الإنسان المسلم مستعبد بأنماط شتى من العبوديات والأوصاف التي تثقله وتبعده عن المسير، ولتحقيق جميع الأهداف التي نصبوا إليها ونتمناها أفراداً وجماعات ودولاً وأمة لتحقيق جميع الأهداف لابد أن نمر بالمرحلة الأولى: وهي مرحلة تحرير الإنسان، تحرير الإنسان من العبودية لغير الله تعالى، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
إذاً: يجب أن يكون الهدف الأكبر والأسمى لكل أعمالنا وأقوالنا وجهودنا يصب في بحر تحرير الإنسان من عبودية غير الله تعالى، وهذا الإنسان هو الذي يمكن أن يصنع الفتوح ويصنع الاقتصاد ويصنع السياسات ويصنع ألوان الانتصارات التي نحلم بها، والله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
والأصنام التي يرزح تحتها الإنسان كثيرة، فالصورة البدائية للأصنام هي: شجرة أو حجر يعبده الإنسان، يضعه ويصلي إليه ويسجد له، ويدعوه ويستقسم أمامه بالأزلام فيما يريد من أمر؛ إن كان يريد سفراً أو زواجاً أو حرباً أو سلماً أو غير ذلك، وقد كان العرب الأولون يفعلون ذلك، وما زالت هذه الصورة البدائية على الرغم من أن عقل الإنسان قد كبر لكن ما زالت هذه الصورة موجودة بصورتها الساذجة، موجودة في أماكن كثيرة من العالم كله؛ بل حتى الشيطان يوجد من يعبده -الآن- ويسمون عبدة الشيطان في أماكن عديدة في العالم، لكن ثمة أوثان كثيرة أخرى غير هذا الوثن يمكن أن يأن تحتها الإنسان ويخضع لعبوديتها.(247/19)
عبودية الجاه والمنصب
والعبودية للشهرة والجاه والمنصب والكرسي بحيث إن الإنسان يفقد كرامته وإنسانيته في سبيل الوصول لذلك، ثم يظل يجاهد للمحافظة على ما وصل إليه من جاه أو منصب أو كرسي أو شهرة، فيجاهد للمحافظة عليها كل لحظة بألوان من التذلل والمجاملة لا تنتهي، وربما بان الشيب في مفرق الإنسان وهو يجاهد للحصول على الوزارة -مثلاً- ثم مات وهو مستميت في المحافظة عليها، وكم من إنسان ضحى بصداقات وعلاقات ومروءات، بل ضحى بأحكام شرعية وحلال وحرام في سبيل الوصول إلى ذلك!! وكم نجد من ألوان هذه العبوديات والشهوات لكثير من الكبار والصغار، كل قوم من الناس ابتلوا بنوع من العبودية فهذا ابتلي بعبودية المال مثلاً، وهذا ابتلى بعبودية الكرة! وهذا ابتلي بعبودية المنصب، وهذا ابتلي بعبودية الشهرة، وكل إنسان قد يزدري الآخرين ويتعجب كيف هذا يركض وراء الشهرة! والذي يركض وراء الشهرة يتعجب كيف هؤلاء يركضون وراء الكرة، والذي يركض وراء الكرة يتعجب كيف هؤلاء يركضون وراء المنصب! والواقع أن المسلم الذي من الله تعالى عليه باليقظة والبصيرة يضحك من هؤلاء جميعاً، ويقول: كيف يركض هؤلاء جميعاً وراء عبوديات ويتركون عبوديتهم للواحد الديان جل جلاله؟!!(247/20)
عبودية المال
من ألوان العبودية، عبودية الإنسان للمال وقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم الخ} فسماه عبدًا لهذه الأشياء كيف لا يكون عبداً لها وهي كل قلبه وهمه، فمن أجل المال يقيم العلاقات والصداقات، ومن أجلها يكرر المجاملات، ومن أجلها يسكت عن الجرائم والمخالفات، ومن أجلها يقطع رحمه ويعق والديه ويهمل زوجته وولده، ومن أجلها يسهر الليالي؛ بل يحرم -أحياناً- من الراحة في نفسه وفي طعامه وفي شرابه وفي منامه.
وهل رأيت عبداً أكثر إخلاصاً وأكثر تفانياً وأكثر سهراً وأكثر استماته من عبد المال؟! ما الذي أذل أعناق الرجال؟! ما الذي وأد الكلمة الحرة في أفواههم؟! ما الذي لقنهم دروس النفاق والتذلل والمجاملة؟! إلا عبوديتهم للمال وقد نسي الكثيرون قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] فأصبحوا وإن قالوا هذا بألسنتهم؛ إلا أنهم يعتقدون في قلوبهم أن الضار النافع والمعطي المانع الرازق هو فلان، فيتقربون إليه بسائر أنواع التقربات التي لو تقربوا بها إلى الله تعالى لرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ورزقهم في الدنيا حلالاً طيباً، وكانت الجنة في الآخرة مثواهم، ولحققوا ما يريدون مع حفظ كرامتهم وعزتهم وإنسانيتهم لكن أكثر الناس لا يعلمون!! وإن ما يحول دون تحقيق الأهداف -كما ذكرت لكم قبل قليل- أن يصبح كثير من المسلمين أسرى للمال وللقمة العيش التي يبحثون عنها؛ لذلك ينشغلون بها عما يجب من انشغالهم بأمور دينهم وآخرتهم.(247/21)
عبودية العادة
ومن ألوان العبودية: العبودية للعادة، والعبودية للوضع الراهن، وهذه من أكبر العبوديات التي ووجهت بها دعوة الإسلام -دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام- فكل نبي قام يقال له: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس:78] وكم حرص الناس على حفظ سلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم أكثر من حرصهم على دينهم، ولعلك تجد -وهذا مثل صغير حتى يكون الكلام واقعياً- لعلك تجد الأسرة -اليوم- من المسلمين يزوجون الفاسق فلا يعترض أحد، ولا يقاطع هذا الزواج أحد لكنهم حين يزوجون إنساناً آخر غير ذي نسب تثور القبيلة عن بكرة أبيها، وتعترض بألوان الاعتراض بالقلب واللسان واليد، وكم شرق الناس بألوان من الخير والدعوة والمعروف، وضاقوا بها ذرعاً وحاربوها؛ لأنها غير مألوفة وغير معهودة لديهم ولم تكن موروثة من الآباء والأجداد.
ويقولون عن الواحد منا كذا، وقد رأينا من الآباء والأجداد كذا، ولم نر مثل هذه الأعمال، ويستغل رجال الإعلام المزور هذه العاطفة عند الناس للمحافظة على الموروث، فيشغبون في وجه كل داع بأنه سوف يغير المألوف ويمزق المجتمع، وأنه يضل الآباء والأجداد، وبالتالي فهو مشكوك في ولائه للمجتمع، ومن قبل كانت قريش تقول للناس: إن النبي صلى الله عليه وسلم يسفه الأحلام ويضل الآباء والأجداد، وقوم نوح كانوا يقولون: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [نوح:24-25] فيثيروا مشاعر الناس في مقاومة الداعية بمثل هذه الأساليب.(247/22)
عبودية الوطن
العبودية الخامسة: العبودية للأرض والوطن، يقول أحدهم: وطني لو شغلت في الخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي وآخر يقول: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا أي شهادة وأي فتاب وأنت تدير وجهك إلى وطنك قبل أن تديرها إلى البيت العتيق؟!! فيجعلونه أحياناً قسيماً لله عز وجل، فيقولون الدين لله والوطن للجميع -كما ذكرت لكم- وأحياناً يجعلونه قسيماً للدين، وهكذا يقاتلون من أجل الوطن فالتربية عندهم هي إعداد المواطن.
والواقع أن الوطن لا يجني من وراء ذلك شيئاً، فما هو الوطن في الحقيقة؟! هل هو التراب فقط؟! أم هو الإنسان؟! أم ماذا؟ هنا يحتاج أنك تحلل كلمة وطن إلى عناصرها الطبيعية، وتنظر ماذا جنت هذه العناصر من هذه الدعاوى، أن كل شيء من أجل الوطن، والخدمات كلها تقدم للوطن، وفي الواقع أنه لا يصل للوطن منها إلا الشيء اليسير.
ومن العبودية -أحياناً- طبق النظرة تجد الإنسان يتصور أن الدنيا كلها هي من حوله فقط، فلا يفكر في حاجات غيره من إخوانه البعيدين، أما حاجات الأقربية فإنه يكترث لها، مثل: الحاجات المادية؛ بل حتى الحاجات الدعوية، فنلاحظ -مثلاً- أننا نكون مأسورين للمجتمع فلا ندرك حاجة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ بل حاجة العالم إلى الإسلام إنما همنا مقصور على حاجة من حولنا، والواقع أن المسلم والداعية بشكل خاص ينبغي أن يتحرر من أسر الإطار المحيط به، وأن يفكر بأحوال المسلمين في كل مكان، وأن يفكر في العالم وكيف يمكن أن يوصل دعوة الإسلام إليه.(247/23)
العبودية للحياة
أخيرًا العبودية للحياة: قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] وهم اليهود، يعني أي حياة مهما كانت، حياة الذل والخوف والهوان والعبودية وغير ذلك، المهم يريدون الحياة بأي ثمن لأنهم أصبحوا عبيداً لها.
ومن الطريف أني أذكر مقابلة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في إذاعة مونتكارلو أثناء أحداث الخليج فتكلم هو عن تضحيات المسلمين وبذلهم وفدائهم -أي الفدائيين- وقال: إنهم يجاهدون وإنهم إلخ، والدليل قول الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] فقلب الآية هو يظن أن الآية مدح لهؤلاء، والواقع أن الآية ذم لمقابلهم وهم اليهود بأنهم أحرص الناس على حياة مهما كانت حياة الذل.
ما هي الأشياء التي تجعل الواحد منا يخاف؟ لماذا يخاف؟ يخاف إما على المنصب وإما على المال أو الحياة، فإذا كان عنده إيمان بأن الله تعالى هو الضار النافع والمعطي والمانع والمحيي والمميت والخافض الرافع، ومقاليد الأمور كلها بيده، فله مقاليد السماوات والأرض، وهو مقدر الأقدار ومكور النهار على الليل، ومكور الليل على النهار، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك، وإن اجتمعوا على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك أو عليك، فما هو الذي يجعل الإنسان يحجم ويجمجم ويحمحم، ويحسب الحسابات الطويلة العريضة ويتهيب من كل شيء؟! إذاً: لابد من تحرير الإنسان من العبودية لغير الله تعالى بحيث يكون عبداً لله تعالى، لكن ما هي الوسائل؟ أقول: هذا كلام يطول وسأضرب لك مثالاً واحداً فقط: خذ -مثالاً- الصلاة؛ فأول ما تكبر تقول: الله أكبر، فإن كل الأشياء وكل الأصنام، وكل العبوديات تسقط، ويبقى الله تعالى وحده فهو الكبير المتعال، ثم بعد ذلك ماذا تقول؟ تقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
فتعترف بأنك قد أقررت والتزمت بهذا المنهج الذي يجعل الحياة عبودية لله لا للطاغوت، ثم تركع لله، فتسبحه وتسجد لله، وتجلس لله وتدعوا الله وتذكر الله، حتى إنك لو تأملت كل الأدعية، بل والأذكار -مثلاً- لما يرفع المصلي رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد ملأ السماوات والأرض، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، هذا الدعاء ماذا يعني؟ يعني: الاعتراف بأن الأمور كلها لله وأن الخلق ليسوا إلا بشراً ضعافاً مهازيل، يجري الله تعالى على أيديهم ما يشاء، فلا تخف منهم ولا ترهب، وكن إنساناً واثقاً بالله عز وجل حكيماً، وإياك إياك أن تغلبك المخاوف فإنك تعيش شقيًا في حياتك، ولا تعمل شيئاً أبداً.
والحياة لا تقاس -أيها الأحبة- بعدد السنوات، لا! وإنما تقاس بحجم الإنجازات، وكم من إنسان كان عمره أربعين سنة وخمساً وثلاثين أو ثلاثين ومع ذلك خلد في الدنيا ذكره وأعظم في الآخرة أجره، وبالمقابل كم ممن هم بيننا -الآن- ممن أعمارهم في السبعين والثمانين والتسعين والمائة، ومع ذلك لا يعلم بهم أحد، ولا يلتفت إليهم أحد؛ لأنهم عاشوا لأنفسهم فقط، فلنتحرر -أيها الإخوة- من العبودية لغير الله، ومن العبودية لأنفسنا، ولنتحرر من المخاوف والأوهام ومن العقد التي تملأ قلوبنا، وتعشش في أفكارنا، وتجعل الواحد منا ظلاً واهناً ضعيفاً لا يقدر على شيء، ولا يحمل شيئاً، ولا يتحمل مسئولية، ولا يقدر على شيء، يفرق حتى من ظله، فالعبودية إلى لله تعالى عز وكرامة وشرف وقوة وشجاعة.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم تحقيق العبودية له، وأن يخرج من قلوبنا العبودية لغيره، من إنسان أو حجر أو شجر أو دنيا أو غيرها، وأسأل الله تعالى أن يجعل قلوبنا معمورة بحبه، والتأله إليه والشوق إلى لقائه في غير ضراء مضرة ولا فتنته مضلة، اللهم يا حي يا قيوم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
وفي الأخير أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم ويتب عليكم إنه هو الغفور الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(247/24)
عبودية الإنسان لنفسه
نمط آخر عبودية الإنسان لنفسه، أشار الله تعالى في مواضع من القرآن إلى عبودية الإنسان لنفسه فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] فعبودية الإنسان لنفسه تتخذ صوراً وأنماطاً شتى، منها -مثلاً- تعظيم النفس، والكبرياء، والعجب، والغرور الذي كان أصلاً في إبليس لما أمره الله تعالى بالسجود وكان يقول: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فأبى واستكبر وتعاظم في عين نفسه، ويقابل هذا الكبر والغرور في نفس الإنسان يقابله ازدراء الآخرين واحتقارهم؛ ولهذا فالشيطان حينما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12] بالمقابل قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] إذاً هو ادعى لنفسه القوة والخيرية، وادعى لآدم النقص وأنه مخلوق من طين، واستكبر فكان هذا من عبوديته لنفسه؛ ومن تعظيمه لنفسه ولهذا حكم الله سبحانه وتعالى عليه بالخلود في النار هو ومن تبعه من الجنة والناس أجمعين.
بل تصل عبودية الإنسان لنفسه إلى حد ادعاء الألوهية، وقد قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ما أكثر المتألهين وما أكثر الذين يفرحون بأن يمدحهم الناس بأوصاف الألوهية، وقد كان الحاكم بأمره يحضر الحفلات الكبيرة، فيقوم شاعره ابن هاني العبيدي فيقول له: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار والحاكم بأمره يهز رأسه طرباً وعجباً من هذا المديح، وكانوا يعتقدون فعلاً -العبيديون- يعتقدون في حاكمهم أن الألوهية والعياذ بالله قد حلت فيه.
والطغيان والتسلط لا يقف عند حد أبداً، فينظر الإنسان إلى نفسه كأنه من طينة غير طينة الناس، وأن الناس تنتهي مهمتهم عند التسبيح بحمده والتقديس له؛ بل يكفيهم شرفاً أن يصلوا إلى هذه الرتبة.
ومن أمثلة عبودية الإنسان لنفسه، عبوديته للشهوة في كافة صورها، شهوة الجسد -مثلاً- والركض وراء المرأة ووراء الشهوة، فتجدون -مثلاً- شاعراً كـ نزار قباني كل شعره في المرأة حتى إنه له ديواناً اسمه (أشهد أن لا امرأة إلا أنتِ) وهو بذلك يضاهي كلمة المسلمين التي يقولونها: أشهد أن لا إله إلا الله.
فعبودية الإنسان للشهوة تجعله رقيقاً لها يركض وراءها ويجعل روحه وماله بل ودينه والعياذ بالله يذبح على مذبح هذه الشهوة العارمة التي لا بد أن يحدها.(247/25)
الطاغوت
فمن ألوان ذلك -مثلاً- عبودية الإنسان للطاغوت، الطاغوت المتنفذ الذي أصبح يملك اليوم كل شيء من الألف إلى الياء، عكس ما كان بالأمس، فمثلاً: لو قارنت بين الحياة اليوم والحياة بالأمس لوجدت أن الحياة في القرون السابقة كان يمكن أن يسيطر الطغاة على جانب واحد فقط من الحياة، فرعون -مثلاً- سيطر على جانب واحد وهو القوة، بعد ذلك قد يكون للناس فرص كثيرة جداً أن يتعرفوا فيها بخاصة أنفسهم إلى حدٍ ما، لكن في هذا العصر لم تعد القضية قضية هيمنة على المال فقط أو هيمنة على القوة والسلطة فقط، لا، بل أصبحت هيمنة -كما يقول أحد الكتاب- من شهادة الميلاد إلى شهادة الوفاة، فمثلاً: تجد أن الحياة محاطة بشبكة متصلة لا تنقطع أبداً.
من ألوان المهيمنات: الإعلام -مثلاً- المرور، العمارة، الزراعة، التصنيع، الطب، التجارة، المهن العامة المختلفة، السفر، الإقامة، الأمن …إلخ كل شئون الحياة أصبحت محكومة مضبوطة، بالطبع ضبط أمور الناس ليس مذموماً بذاته، ضبط الأمور محمود، ولابد من ضبطها، بل الإسلام إنما جاء لضبط الأمور، وقد كان من الأشياء التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن تسير الضعينة من صنعاء إلى حضرموت سير الراكب لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، فالضبط مطلب إسلامي عادل أيضًا.
لكن هنا الكلام أنه حين يكون الطاغوت متحكمًا في مثل هذه الأمور، بل يتحكم فيما وراء الحدود، ونحن نعلم أن هناك -الآن- ما يعرف بالبوليس الدولي أو (الإنتربول) الذي يلاحق من يسميهم بالمجرمين، وقد كان مطلوباً منه أن يلاحق جماعة من الدعاة الهاربين من تونس وغيرها في كل مكان، فضلاً عن الوثائق، وفضلاً عن الجواسيس الذين يلاحقون الإنسان ويكونون معه كالظل في كل مكان، فضلاً عن شراء الذمم من صحف وإذاعات ومراكز تلفزة في العالم؛ لتسبح بحمد فلان وفلان من الناس.
فإذا كان الحكم صالحاً، فهنا حدث ولا حرج؛ لأن كل هذه الأشياء سوف توظف لصالح الإنسان في تصحيح عقله وفي تصحيح قلبه ومشاعره، وحفظ كرامته، وتحقيق إنسانيته، وتمكينه من العبودية لله تعالى، وتمكينه من التحرر من الطواغيت كلها، وتقوية عزيمته، وتمكينه من المشاركة، وبنائه؛ وهذه إمكانيات وفرص هائلة جداً لو تأملتها لا تنتهي أبداً.
وبالمقابل فإذا كان فاسدًا فإن هذه الأشياء كلها تتحول إلى وسائل تعظيم فلان وحاشيته، وتسخير كل هذه الإمكانيات الهائلة لاستعباد الناس وتذليلهم للعبودية للطاغوت.
فالتعليم -مثلاً- يلقن الإنسان أن فلاناً هو الحاكم المنعم، وهذه النعم لو شاء لحجبها، فيكون ذلك تصريحاً ويكون تلميحاً، ويكون شعراً ويكون نثراً، وفي كل مقررات التعليم ومراحله بحيث لا يتصور حتى الطفل الصغير الحياة بدونه، وهكذا تسخر إمكانيات أمة لفرد أو لحزب يعتبر أن الأمة لا قيام لها إلا به، تبجله وتعظمه وتنفخ فيه حتى يبدو كأنه جزء لا يتجزأ من الحياة؛ وأن الحياة بدونه عبث، ثم لا يبرز في هذا المجال ولا ينجح إلا من يقدم رسوم وحقوق العبودية لهذا الطاغوت؛ وهو أخوه الإنسان؛ لأن القضية ليست قضية منافسة شريفة، ولا قضية قدرات عقلية، ولا قضية مستويات علمية، وليست بكد اليمين ولا بالكسب، وإنما بحسب التقرب من هذا الطاغوت، وبحسب القدرة على النفاق وتقديم قروض وفروض الطاعة والولاء، أما الشهادات وأما الإمكانيات وأما غيرها فهي شيء آخر.
ولذلك لا تستغرب أن تهاجر العقول الإسلامية من الشام والعراق ومصر وبلاد كثيرة إلى أوروبا لتخدم الكفر الصراح هناك على رغم أنوفها، وقد يكون فيهم الأخيار ولم يجدوا في بلادهم المناخ المناسب لتحقيق ما يريدون.
والإعلام -خذوه مثالاً آخر- فالإعلام مسخر، ولكن لو كان صالحاً لكن مسخراً لتحرير الإنسان من كل العبوديات، وبناء عقله وبناء قلبه، وإصلاح مشاعره، وربط الأمة بأصولها التاريخية، وتمجيد الجوانب المشرقة الإيمانية في الأمة، وعلاج النواحي السلبية بطريقة معينة، لكن الواقع أن الإعلام الفاسد اقتصر على تمجيد الحاكم والثناء عليه، والتستر على أخطائه وتعبيد الناس له -للفرد أو للحزب- فهو في الواقع زور؛ ولذلك لفت نظري قبل زمن وفي أثناء أحداث حرب الخليج يقول: إن هناك ستة آلاف طفل في الأردن يحملون اسم صدام.
ستة آلاف طفل ولدوا أثناء الأحداث -تقريباً- يحملون اسم صدام! هذا دور الإعلام وتأثيره، وفي المعسكر الآخر لقد سمعتم جميعاً من سموا أولادهم باسم جورج بوش.
إذاً: هذا دور الإعلام إنه يمسخ عقول الناس ويجعلهم مستعبدين لهذا الطاغية أو ذاك؛ لذلك تجد أن الطغاة عندنا ليس لهم لون وليس لهم عرق، فالطاغية هو الطاغية سواء أكان عربياً أم أجنبياً، أمريكيًا أم روسياً، كلهم طغاة.
كلهم سوف يذهبون جميعاً كلهم عن ثراك سوف يزول لكن الواقع أنه يمارس مسخ العقول، ولا ينجح -أيضاً- في الإعلام (الإعلام المزور) الذي يخدم الطاغوت إلا من يكون أكثر تطبيلاً وتضليلاً ومدحاً، ولا يختار من يكتب للناس أو يحررهم إلا من يكون بمواصفات معينة، وربما أبرز الإعلام شخصاً واحداً وتجاهل الآلاف بل عشرات الآلاف ممن هو في مثل مواهبه وفي مثل شهادته وفي مثل مستواه؛ بل هم أفضل منه بكثير.
خذوا مثالاً ثالثاً وهو الاقتصاد، فتجد في الاقتصاد -على سبيل المثال- التأميم الاشتراكي، فالتأميم جزء من الاشتراكيةوهي: مصادرة الممتلكات وجعلها فيما يزعمون ملكاً للدولة، وفي الواقع أنه ليس ملكا ًللدولة وإنما هي ملك لشخص الحاكم الذي ينهبها، والذي تصب كل هذه الأشياء -أخيرًا- في جيبه أو جيب ولده أو جيب حزبه، أو جيب من هم من حاشيته ممن يجيدون له فن المديح والثناء، فتضيع مصانع الدولة، وتضيع إمكانياتها، وتضيع مناهجها، وتضيع مزارعها، وتضيع كل مواردها باسم التأميم الذي لا يسمح للفرد أن يملك شيئاً ويجعل كل هذه الأشياء مؤممة ملكًا للدولة، هذا في جانب فينعم فرد لييئس الآخرون.
وبالمقابل تجد أن من قضية استخدام الاقتصاد لتعبيد الناس قضية تعميق التطبيق الرأسمالي في حياة المسلمين، بقصر الفرص الحقيقية للاستثمار، وللإنتاج على أفراد معدودين يملكون المال والمؤسسات والشركات ويتمتعون بالتسهيلات العديدة التي لا يتمتع بها غيرهم، وربما يكون البقية، إما مسحوقون أو أنهم على حسب الأحوال أو على أحسن الأمور قد يكون بعضهم من المساهمين الصغار.
خذ مثالاً رابعاً: الأمن، فمهمة الأمن في الأصل حفظ حياة الناس، والمحافظة على أعراضهم وعلى أسرارهم وعلى ممتلكاتهم وعلى أمورهم وعلى مكتسباتهم، لكنه يتحول في ظل هيمنة الطاغوت إلى التمهيد للسلطان -هذا الطاغوت في الأرض- وزرع روح الخوف والقلق لدى من لا يرضاهم، فهم في عالم من الأشباح يعيشون، وفي فراش من الوساوس يتقلبون: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] .
وقد كان الناس في كثير من البلاد يتهيبون من مجرد الإشارة إلى الشرطي بالإصبع يقول: إذا أشرت إليه يقطع إصبعك، بمعنى تربية الناس على روح الخوف، وهذا ليس من الأمن، وإنما الأمن في ظل تنفيذ شريعة الله تعالى وحكمه، ومن خلال هذه الهيمنة لن يكون هناك تعليم أو إعلام أو اقتصاد أو أمن على سبيل الحقيقة.
فالمهم أن من تتوفر فيهم شروط العبودية للطاغوت فسوف يحظون بقدر كبير من المكاسب، وكلما كانوا أكثر نفاقاً وصفاقة كان هذا أدعى لنجاحهم، وأما الذين يوجد عندهم قدر من الاستقلالية-مثلاً- أو الكرامة أو العزة الإنسانية، أو تمييز في شخصياتهم تكون الأبواب كلها مغلقة في وجوههم؛ بل تسخر كل الإمكانيات الهائلة في مقاومتهم والتشهير بهم وشن الحرب عليهم.
ولأن من الخطورة بمكان أن ينفلت الزمان، أو يتنفس الناس هواء الحرية فيرتبك الأمر؛ تكون العيون ساهرة لمقاومة أي بادرة من هذا السبيل، ولذلك كان فرعون يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:54] .
انظر كيف التناقض يقول في البداية: إنهم شرذمة قليلون -أي: قلة- وما دام أنك تعترف يا فرعون أنهم قلة لماذا يخيفونك ويزعجونك؟ وأنت الذي تقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فتقول: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55-56] أي: أنه منزعج وهو من هو في قصره وصولجانه وغطرسته وحوله الخدم والحشم والأعوان يقول: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:55] فالغيظ يغلي في قلبه ومراجل الحقد في نفسه، ومع ذلك يقول: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] ووراء هذه الكلمة من فرعون من الجيوش المجندة لمراقبة هؤلاء وملاحقتهم والتضييق عليهم وإيذائهم وحربهم ومقاتلتهم أخيراً.
وهكذا يبدو الأمر واضحاً من خلال هذه الأمثلة، فالعبودية لله تعالى في جانب تستغرق كل الحياة: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فالصلاة والنسك والموت والحياة لله تعالى في حس المسلم وما خُلق الإنسان إلا ليعبد الله عز وجل، فالعبودية لله تشمل كل أمور الحياة.
وليس من الإسلام مقولة: (مال قيصر لقيصر وما لله لله) لا! وليس من الإسلام مقولة: (الدين لله والوطن للجميع) لا! الإسلام أن يخرج قيصر وما له شيء؛ الأمر كله لله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ} [آل عمران:154] فقيصر ما له شيء، إما أن يكون عبداً ذليلاً مربوباً لله تعالى يأتمر بأمره فيسمع ويطيع، وهنا يكون عبداً من عباد الله ويسلب عنه هيلما(247/26)
نثار الأخبار
تكلم الشيخ في هذه المادة عن أحوال متفرقة حول العالم الإسلامي وذكر بعضاً مما يحل بالبوسنة والهرسك، وطاجكستان، والفلبين، وأفغانستان، والأكراد، ثم تكلم عما يسمى بالحوار الإسلامي النصراني، وبين مضاره وأخطاره.(248/1)
أحوال المسلمين في العالم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة الكرام من المستمعين والمستمعات: إنني استمهلكم لأتحدث إليكم في ذلك الموضوع الذي وعدت (دلوني على سوق المدينة) أما اليوم فإن ثمة مجموعة من الأحداث فرضت نفسها وتحت عنوان (نثار الأخبار) .
أيها الأحبة جراح المسلمين اليوم كثيرة، وإذا قال قائلٌ، وإذا تحدث متحدث عن الأخبار فماذا عساه يقول عن أخبار المسلمين، هل تظنه سوف يحدثك عن جحافل الفتح التي تضرب في شرق الأرض وغربها؟ أم تراه سوف يحدثك عن حلقات التعليم؟ أم سوف يحدثك عن مؤسسات الدعوة؟ أم سوف يحدثك عن برامج الإعلام التي تقوم للإسلام وتدعو إليه؟ إن هذا كله من الممكن أن يكون، ونحن جميعاً يجب أن نكون متفائلين، لأن الله عز وجل وعدنا بنصر هذا الدين، ولكن هذا التفاؤل لا يجوز أبداً أن يحجبنا عن واقع الحال المرير الذي يعانيه المسلمون هنا وهناك، إنني سوف أحدثكم من جديد عن جراح المسلمين في البوسنة، وقد وصلني هذا اليوم تقرير من أخينا فضيلة الدكتور/ صالح السلطان، وقد ذهب إلى هناك، ثم عن مأساة المسلمين في طاجكستان وهي مأساة لا زالت دماؤها تنزف وتنزف، ثم عن مأساة إخواننا المجاهدين العرب في بيشاور وقد أودعوا في غياهب السجون، ثم عن مصيبة المسلمين ومأساتهم في جنوب الفلبين، وقد جاءني منهم من جاءني أمس، وحدثني عما تتفطر له الأكباد، ثم عن مصيبة المسلمين الأكراد في العراق أو إيران أو تركيا، بل عن مأساة المسلمين الأكراد في بلاد الغرب حيث يلاقون ألوان التغيير والتنصير، أما فلسطين ومصر والجزائر، فالأمر فيها أكبر من أن يتسع له هذا الوقت فضلاً عن بعض الأخبار التي سمعها الجميع وتطلَّب الأمر التعليق عليها.(248/2)
الفائدة من ذكر الأخبار
إن الكثير من الإخوة يتساءلون إلى متى نردد مثل هذه الأخبار؟ وإلى متى نمضغ مثل هذه الأقوال؟ فأقول لك أيها الأخ الكريم؛ ولكِ أنتِ أيتها الأخت الكريمة: يكفيني بالنسبة لي أن أفرغ بعض مشاعر الأسى التي يعتصر بها قلبي بين يدي، فالإنسان إذا تحدث في مشكلة ما، ربما خفت عليه وطأتها وهان عليه ألمها، فمجرد حديثي عن هذا الموضوع يزيل بعض الألم الذي أشعر به في قلبي، تقول لي: وأنا ما هو دوري؟ فرغ هذه الشحنة من الآلام لدى من تعرف ومن لا تعرف من أهل وأصدقاء وجيران وزملاء، حتى تتسع دائرة المعنيين بقضية الإسلام، وحتى يكون هذا الهم هماً عاماً يسكن في قلوب الجميع، ثم حول هذه المشاعر إلى مشاركةٍ حقيقية تبدأ أولاً بتذكر قول الباري -عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] إن الله تعالى مدحهم وأثنى عليهم؛ لأن عيونهم فاضت بالدموع حين عجزت أيديهم أن تفيض بالمال، فليس على هؤلاء سبيلاً، إنما جعل السبيل على الذين يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف.(248/3)
المطلوب منك أيها المسلم
نحتاج منك أيها المسلم أولاً: أن تكون هذه المشاعر الملتهبة في فؤادك، وهذه الدموع النازفة من عينيك، زاداً لك أي زاد! وثانياً: لو لم يكن من ثمرة بعد ذلك إلا الدعاء، والدعاء خيرٌ كله، وهو عبادة لله عز وجل كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وسنده صحيح: {الدعاء هو العبادة} ويقول أيضاً: من لم يسأل الله يغضب عليه} فلو لم نظفر منك بعد حزن القلب ودمع العين، إلا بدعوة صادقةٍ تطلقها وأنت ساجد الله عز وجل فإن ذلك مما تملكه، ثم هي دعوة لأخيك بظهر الغيب، وإذا دعا المسلم لأخيه في ظهر الغيب كان ذلك مظنة الإجابة، وقال له الملك: ولك بمثل، وهو جهد يملكه كل أحد، وإذا عجزنا أن نوفر السلاح لإخواننا المحاصرين في سراييفو أو في سربنتشا، أو في غيرها، فإننا لا نعجز أن نوفر لهم الدعاء، وإذا لم نجد المال في جيوبنا، فإننا نجد الدعوات الصادقة تنبعث من قلوبنا، والنصر والرزق إنما يأتي بالدعاء وفي صحيح مسلم: {أبغوني ضعفاءكم هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم} فانتصاركم بدعائهم واستنصارهم ثم إن كنت من أصحاب الأموال، فإننا ندعوك إلى جمع التبرعات عن نفسك وغيرك، وقد دعوناك بالأمس دعوة للإنفاق، فها نحن اليوم نقول: أدخل يدك في جيبك، ثم أخرج ما استطعت من مالٍ في سبيل الله عز وجل تدفع به ميتة السوء نن نفسك، وتدفع به البلاء عن أهلك وولدك، وتدفع به عن بلدك ما مس بلاد الإسلام كلها أو جلها، وفي نهاية هذا اللقاء سوف أدعوكم إلى جمع التبرعات لمن تسمعون من إخوانكم المسلمين، فجودوا لهم يجد الله تعالى عليكم، وهو القائل {يا ابن آدم أنفق أنفق عليك} .
ثم إنني أدعوك إلى التغطية الإعلامية، فإن الكثير من الناس يجهلون مثل هذه الأمور، بل أصبح هناك اليوم من يستكثر علينا أن نتحدث في مثل هذه القضايا، أو يريد من المسلمين أن يدفنوا رؤوسهم في الرمال وفي الرماد، وألاَّ يعلموا مصاب إخوانهم ولا يألموا له ولا يتحدثوا عنه في قليلٍ ولا كثير، إنه يريد أن يقتل المسلمون على حين لا يعرف الآخرون من إخوانهم عن ذلك قليلاً ولا كثيراً، إنه يعلم أن قتل المسلم اليوم في البوسنة أو طاجكستان، تبعه أو يتبعه غداً قتل المسلم في بلادٍ إسلامية عربية، ويتبعه غداً الالتفاف على المسلمين حتى في البلاد التي بارك الله تعالى فيها وجعلها مهبط رسالاته ومنطلق شريعته، فهم يعلمون أن التداعي والتنادي لأولئك المسلمين المقتلين هناك سوف يوقظ القلوب في كل مكان.
ولهذا يريدون أن تتم العملية في غيبة المسلمين جميعاً، ودون أن يكون هناك حتى مجرد التغطية الإعلامية لما حل بالمسلمين، أما نهاية المطاف وأعلى وأغلى ما نطمح منك هو أن تجود بنفسك.
يجود بالنفس إن ضنَّ البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود نعم تستطيع أن تجند نفسك للمشاركة الحقيقية وتحمل السلاح للدفاع عن إخوانك المسلمين، وقد حمله طائفة ونخبة من شباب المسلمين والعرب أمس في أفغانستان، ثم في البوسنة والهرسك! وبلاد المسلمين في طاجكستان أو في الفلبين، أو في غيرها هي محتاجة إلى ذلك المسلم الذي يجود بنفسه ليس فقط ممن يحمل السلاح المادي ليصوبه إلى صدور الكفار، بل ممن يحمل سلاح العلم ليزيل به الجهل عن المسلمين، أو يحمل سلاح الدعوة ليجمع به كلمة المسلمين على الحق، ولمن يعلم شيئاً ليعلمه المسلمين سواء كان طباً، أم علماً شرعياً، أم علماً دنيوياً، أم غير ذلك مما يحتاجه المسلمون.(248/4)
الجرح النازف في البوسنة والهرسك
أيها الإخوة: إن ذلك التقرير الذي وصلني عن البوسنة والهرسك من أخينا الدكتور صالح السلطان وصلني في هذا اليوم، وقد قدم له بمجموعة من الأقوال والأخبار وهي: أولاً: إن على المسلمين أن يلقوا بأسلحتهم ويسلموا لنا، وإلا فسنساعدهم لكي يذهبوا إلى الآخرة التي يتحدثون عنها.
(يقول ذلك القائد الصربي في البوسنة الجنرال ملابيتش) .
ثانياً: إن علينا أن نفهم أن السيد حسب الله لاتوف رئيس البرلمان الروسي هو مسلم وأن يلسن هو نصراني (يقول ذلك مجلة كرواتية أسبوعية) .
ثالثاً: إن سقوط سربنتشا سيكون المفتاح لإقامة صربيا الكبرى، وسيمزق كل اتفاق دولي حول البوسنة، إن الموقف الدولي عاجز عن لجم صربيا وعصاباتها (تقول ذلك مندوبة C.
N.
N في البوسنة الشرقية) .
رابعاً: إن سقوط سربنتشا يعني سقوط الاتفاقات المعقودة في البوسنة، وسيدمر السلام الدولي (يقول ذلك: الرئيس البوسني علي عزت) .
خامساً: لقد استطاعت صربيا ومع التخاذل الدولي والأوروبي بحشد القوات الدولية لخدمة مصالحها في البوسنة (يقول ذلك: التليفزيون الإيطالي هناك) .
سادساً: إننا مضطرون للهجوم على المسلمين لندفع عن المسيحيين الصرب خطرهم ومذابحهم التي يتعرض لها إخواننا الصرب، ونراهم حيث يقوم المسلمون المتعصبون بتقتيل وتدمير المدنيين وممتلكاتهم ونهب بيوتهم.
(يقول ذلك تلفزيون بلجراد) .
بالجمع بين هذه الأقوال وبين الصورة الحزينة التي تبثها شاشات العالم بأسره عن الأوضاع المأساوية التي تردت حال إخواننا من مسلمي البوسنة، يمكن لنا أن نزداد قناعةً فوق قناعتنا بأن ما يجري اليوم على أرض البوسنة هو حرب ضد الإسلام وحده، فهم لا يريدون أن تقوم للإسلام قائمة في هذه المنطقة، وإن ما يجري هو تنفيذ لمخطط صليبي قديم قائم على أساس القضاء على المسلمين، وقد تم الاتفاق عليه بين قوى الصليب شرقها وغربها، لمنع وجود أي كيانٍ إسلاميٍ في أوروبا، وأن الخطة الأخيرة التي اضطر الرئيس علي عزت - رئيس البوسنة على التوقيع عليها ما هي إلا إحدى خطوات تلك المؤامرة التي يراد لها أن تكون مرحلة تنتهي بأندلس أخرى لمسلمي البوسنة! يقول المطلعون إن الرئيس علي عزت قد صرح بعد عودته من نيويورك، وبعد توقيعه على الأوراق الخاصة بخطة "فانس أو ين" فقال: إن الحرب مستمرة، فلا تلقوا السلاح، وإن وقعت مضطراً فإنني على قناعة تامة أنهم يدبرون لنا أمراً ما.(248/5)
دور روسيا في البوسنة والهرسك
ومن الأخبار هنا أن روسيا تلعب دوراً خبيثاً في المنطقة يتمثل في التالي يتمثل في تحذير أمريكا من الخطر الإسلامي وتبيان أن المصلحة في مناصرة صربيا والحيلولة دون اتخاذ قرارات ضدها، ومن المعلوم أن مجلس الأمن قد قرر تأجيل التصويت على اتخاذ عقوبات ضد صربيا لمدة أسبوعين استجابة لطلب روسيا التي هددت باستخدام ما يسمى بحق الفيتو، ولذلك لم يتخذ ما يسمي بمجلس الأمن الدولي أيّ قرارٍ ضد المعتدين الإرهابيين المتطرفين الصرب.
ثانياً: إرسال حوالي خمسين ألف جندي في صورة مدنيين إلى مناطق الصرب في كرواتيا والبوسنة من الجنود الروس؛ ليقاتلوا إلى جوار إخوانهم من أهل الكتاب.
ثالثاً: إرسال الأسلحة والذخائر إلى صربيا! رابعاً: مرابطة ممثل روسيا الخاص في البلقان في بلجراد والبوسنة للتخطيط للصرب، ومعاونتهم في كثير مما يخدم مصالحهم! خامساً: إرسال الوفود المتلاحقة برلمانية وشعبية وحكومية، وكل مرة يرسلونها إلى بلجراد للتأييد، ومرة إلى كرواتيا للمراوغة والتهديد، والكل متفقٌ على عدم رفع لحضر الأسلحة عن البوسنة، ولن يمكن المسلمين من الدفاع عن أنفسهم، والكل يهدد بالمزيد من العقوبات على صربيا وحلفائها، على الرغم من عدم جدوى تلك العقوبات، وعلى الرغم من أنَّ ليس ثمة أمل بإيجاد عقوبات حقيقية ضدها.(248/6)
أخبار الجبهات
أولاً: الاشتباكات بين مسلمي البوسنة والكروات الكاثوليك الذين يستغلون الظروف الصعبة التي يمر بها المسلمون للاستيلاء على الأسلحة والمواد الداخلة للبوسنة وسرقة الأموال، وقتل بعض العرب والمسلمين الداخلين لمساعدة إخوانهم هناك، كل هذه التصرفات إضافةً إلى الوقاحة التي وصلت بالكروات إلى حد محاولة إمدادهم بالكهرباء دون مقابل وبالفحم الحجري، ودفعوا بالمقاتلين المسلمين ذلك للتفكير الجدي بالتصدي لهذه العصابات وتأديبها، وعلى الرغم من نتائج هذه الاشتباكات التي كان من نتائجها قطع الطريق بين كرواتيا والبوسنة، إلا أنها مع ما فيها من ضرر لا تخلو من خيرٍ في توحيد صفوف المسلمين وتجميعهم وتعرفيهم بعدوهم وتشجيعهم للتصدي للصليب، ونزع الخوف من قلوبهم، ورفع الذل من نفوسهم، إن الاشتباكات الأخيرة وقعت بين المسلمين والكروات وهي مستمرة إلى الآن، على الرغم أن الطريق مغلقة والخوف ينتاب النصارى أكثر وأكثر! ثانياً: لا زالت مدينة سربنتشا محاصرة، ولا زال المسلمون يدافعون عنها رغم التهديد الصربي والمحاولات المستمرة في احتلالها بأقل الخسائر حيث يكثفون القصف، ويدخلون مجموعات من القوات الدولية الكندية للمرابطة فيها، وغالب القوات الكندية ترجع إلى أصولٍ صربية، وقد تم إخلاء أعداد كثيرة من المدنيين من هذه المدينة بالسيارات ومات منهم قسم كبير في الشاحنات بالاختناق، وبقي في البلدة حوالي ستين ألف مسلم.
إن هذه المدينة تشهد الآن قصفاً متواصلاً من الصرب، وهم على مسافة بضع كيلو مترات من مركز المدينة، وقد نشر في تلفزيون العالم كلها صور بشعة فظيعة للأوضاع التي يعانيها المسلمون هناك، بل نشر كبار السياسيين الغرب من أمريكا وبريطانيا وغيرها وهم يقولون: إن هذا الأمر الذي نشهده، وحشية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، ويقولون كما صرحت بذلك " تاتشر " وهي رئيسة وزراء بريطانيا السابقة للتلفزيون الدانمركي وقالت وصوتها يتهدج: إنني أشهد مأساة لم أكن أتوقع أن العالم كله يطيق صبراً عليها، ومع ذلك فإن مناطق البوسنة تشهد نقصاً حاداً في المواد الغذائية، ولا زال الصرب يقصفون المناطق المختلفة في البوسنة، وفي كرواتيا متحدين ما يسمى بالمجتمع الدولي الصامت، والواقع أن المجتمع الدولي هو الذي أعطى للصرب الضوء الأخضر ليقوموا بهذه العملية، ثم أعطاهم مهلة أسبوعين ليتمكنوا من القضاء على المسلمين، وإسقاط سربنتشا وهي مدينة إستراتيجية، وسقوطها يعني تمهيد الطريق لوجود ما يسمى بصربيا الكبرى، وبرغم النقص الحاد في الذخيرة والسلاح والطعام، إلا أن الروح المعنوية للمقاتلين المسلمين عالية جداً، وهم واثقون من نصر الله عز وجل نسأل الله تعالى أن ينصرهم.(248/7)
من مآسي سربنتشا
أما فيما يتعلق في سربنتشا فقد هرب الكثير من أهلها إلى توزلى، وتزاحموا في الصالات الرياضية الواحد على الآخر، والنفس على النفس، وهم في ضيق وكرب عظيم لا يعلمه إلا الله، أما الجرحى فهم لا يحصون، تنقلهم الشاحنات، يقول الدكتور: وقد رأيت امرأة كبيرة السن ينزلونها من شاحنة يتناولونها واحد بعد الآخر كما يتناولون الكراتين، وهي مريضة جريحة، كما رأيت رجلاً عجوزاً يبكي بعد أن أعطي قطعة من الخبز وبدأ يأكلها وغيره كثير، فإلى الله المشتكى، الناس يهربون على الأقدام، وعلى العربات التي تجرها الدواب، والقتلى في الشوارع لا يجدون من يواريهم.
وأخيراً رأيت صورة تدمي القلب أطفالٌ فقدوا أبصارهم وشوهت وجوههم بسبب إلقاء القذائف، وقد غطيت وجوههم وعليها آثار الدماء، وهم يمدون أيديهم لأمهاتهم، والأمهات يذرفن الدموع والحسرات، ومشاهد مفزعة محزنة مؤلمة، وفي الختام يقول لكم الدكتور: لا تنسوا هؤلاء المنكوبين من الدعاء، وحرضوا المؤمنين على ذلك فإنهم في محنة وكربةٍ وشدةٍ وخوف وجوع لا يعلمه إلا الله.
أخوكم الدكتور/ صالح محمد السلطان.
إنها مأساة ليس لها مثيل، تقع على مرأى ومشهد من العالم الذي أصبح يتلذذ بنقل هذه الصور ليس عبر الإذاعة، بل عبر التلفاز أيضاً حية في أحيان كثيرة ينقلها، أو عبر صور تنشر في الصحف والمجلات، ثم لا يملك العالم إزاء ذلك إلا أن يخدر مشاعرنا بهذه التصريحات التي قد ألفناها واعتدنا عليها، فلم تعد تهز لنا وجداناً، ولا تحرك لنا قلباً ولا كثير فينا أي شعور، إن العالم كله يشارك في هذه الجريمة، فأنتم تعلمون أن العالم قد فرض عزلةً اقتصادية على صربيا ومع ذلك سمح لها سراً بالتجارة مع إيطاليا، ومع رومانيا، ومع كل جيرانها، بل ومع ألمانيا ومع مصر، فإن صفقات البضائع التجارية رائحة غادية بين مصر بلد أربعين أو خمسين مليون مسلم والتي سلط عليها العلمانيون، وبين صربيا التي تقتل المسلمين صباح مساء.
أما ذلك الحصار المفروض على المسلمين، حيث لا يصلهم السلاح فهو حصار صادق، حصار مخلص ومنذ رمضان لم يكد يصل إلى المسلمين من السلاح إلا أقل القليل، فإنهم محصورون حقاً لا يستطيعون أن يحصلوا على السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم، أو عن أطفالهم، أو عن أزواجهم، وأنتم ترون هذه المشاهد وتسمعون بها، ومع ذلك العالم يكتفي بمجرد التهديد.
فيا أيها المؤمنون لا تنسوا إخوانكم في البوسنة والهرسك؛ فإنهم يقاتلون عن أعراض وعن نفوس، وعن بلاد لو سقطت في أيدي الصرب ربما لم يذكر اسم الله تعالى في تلك البلاد ونسأل الله تعالى ألا يقع ذلك.(248/8)
الجرح النازف في طاجكستان
أما المأساة الثانية فتقع هناك في طاجكستان، وقبل أسبوع زارنا الأخ الكريم سيد قوام الدين، وهو رابع أربعة يعتبرون مسئولين عما يسمى بحزب النهضة الإسلامية هناك، وهو الحزب الإسلامي الوحيد القائم، وقد تحدث إلينا بحرارة ومرارة عن المأساة التي يعانيها المسلمون هناك، ورأينا بأعيننا بعض النماذج وقرأنا بعض الأخبار.(248/9)
تاريخ طاجكستان
طاجكستان البلد الإسلامي العريق الذي شهد الفتح تحت قيادة قتيبة بن مسلم الباهلي سنة (94هـ) خلال خلافة الوليد بن عبد الملك، والذي يعرف أو يقع ضمن ما يعرف ببلاد ما وراء النهر، حيث نهر جيحون الذي يفصل بين طاجكستان وأفغانستان، وتجاورها تركستان الشرقية التي تخضع حالياً للحكم الشيوعي الصيني، كما تجاورها أوزباكستان وقرقيزيا وأفغانستان، ومن المعلوم أن جميع الجمهوريات السوفيتية قد تخلت عن الشيوعية.
أما الجمهوريات الإسلامية فهي الوحيدة التي ظلت ترزح تحت حكم شيوعي كافر، حتى طاجكستان على الرغم من أن الشيوعيين في طاجكستان قد أيدوا الانقلاب الذي قام ضد الحكومة الإصلاحية، والتي كانت في موسكو سابقاً، إلا أنهم قد غفروا لها الخطيئة العظمى في نظرهم بالنظر إلى أن الخطر الإسلامي أعظم وأكبر، ولذلك أيد الإصلاحيون والقوميون والشيوعيون والغربيون على حدٍ سواء أيدوا وجود الشيوعية في الجمهوريات الإسلامية سواءً في طاجكستان أو أوزباكستان أو في غيرها.(248/10)
مآسي المسلمين في طاجكستان
لقد حكم المسلمون بالحديد والنار طوال فترة الحكم الشيوعي السابق، فهدمت المساجد والمدارس، أو حولت إلى حانات للخمور والدعارة، وقتل العلماء والشباب، حتى قدر عدد القتلى المسلمين في الجمهوريات أثناء حكم الطاغية إستالين بما يزيد عن عشرين مليون مسلم، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي سيطر على مقاليد الحكم في طاجكستان الحزب الشيوعي بقيادة رحمن نبيوف مدة من الزمن، ثم خرجت الجماهير المسلمة إلى ساحة تسمى بساحة الحرية ما يزيد على ثلاثمائة ألف مسلم، وظلوا أكثر من شهرين يطالبون بالحكم الإسلامي وبسقوط الشيوعية، وفعلاً سقطت الشيوعية مرة أخرى، وقامت حكومة ائتلافية عينها الإسلاميون في الغالب مع بعض الأحزاب الديمقراطية المناوئة للشيوعية، وكان ذلك في أواخر سنة (1412هـ) ، ولكن هذه الفرحة لم تدم، حيث تحالف الشيوعيون والقوميون والغرب، بل اليهود الذين بعثوا بالإعانات في كراتين الحليب وصناديق الإغاثة، وكان من جراء ذلك أن عاد الشيوعيون إلى السيطرة على الحكم، وارتكبوا الجرائم الوحشية في حق ذلك الشعب المسلم، كما فعل أشياعهم من قبل، وهذه بعض الإحصاءات لما وقع للمسلمين هناك.
ذكرت مصادر حكومية: أنها أحرقت أكثر من مائة وخمسين ألف منزل، وقتلت خمس وعشرين ألف شخص بما يسمونهم بالمعارضة، وعندما سُئلوا: لماذا تقتلون الأطفال والنساء وتحرقون المنازل؟ قالوا -أي: رجال الحكومة: اسألوا آباءهم وأزواجهم هم تركوا هؤلاء لنا، ونحن نتصرف فيهم كما نريد، إذا كان لهم قيمة عندهم فلماذا يتركونهم لنا؟ ذكرت إحدى المجلات الروسية اسمها مجلة جازيت في مقال لمراسلها بعنوان (الحرب الأهلية: الدم والموت والتعذيب في طاجكستان) : أن عدد القتلى يتراوح بين عشرين إلى ستين ألفاً، وأن عدد المفقودين حوالي مائة وخمسون ألفاً، أما عدد اللاجئين فهم حوالي نصف مليون نسمة تقريباً، أما مصادر حزب النهضة فيما نشرت وفيما سمعت بأذني، إنها تقول: إن عدد القتلى مائتا ألف نسمة، أما عدد اللاجئين فيزيد عن نصف مليون لاجئ، أما عدد المفقودين فيقارب عدد القتلى، ومعظم أوجزء من هؤلاء القتلى في الغابات وبعضهم أغرقوا في نهر جيحون، حتى يقول لي الأستاذ سيد قوام الدين: لقد أخرجنا بأيدينا أكثر من ألف جثة من النهر ممن اغرقوا فيه، وكثيرٌ منهم من الشباب، ومن حفاظ القرآن، ومن طلبة العلم وبعضهم يقول: من طلابي الذين كنت أدرسهم.
لقد تحول نهر جيحون إلى بركة حمراء تسبح فيها جثث طافية بالآلاف، مما يذكرنا بما فعله المغول في بغداد حيث تحول نهر دجلة إلى نهر أحمر يجري دماً من دماء المسلمين، ورغم حملات الإبادة الشاملة التي تقوم بها الحكومة فإنها لن تستطيع السيطرة على الأوضاع، ولن تثبت دعائم الاستقرار، بل نستطيع أن نقول، على حسب المعلومات الشفهية التي وصلت: إن أكثر من نصف طاجكستان هو في أيدي المجاهدين وهم متحصنون في الجبال، وعددهم يزيد على حسب المصدر السابق على مائة ألف مجاهد مسلم، وهم يحاربون بقوةٍ وبسالة، وقد استطاعوا أن يقتلوا عدداً من الجنود الروس الذين تدخلوا في طاجكستان، وعدداً من جنود الجمهوريات المجاورة من أوزباكستان وغيرها من الشيوعيين فضلاً عن جنود الحكومة الطاجيكية.
قامت الحكومة بتوزيع الأسلحة على الموالين لها الموجودين في المناطق الجبلية للحيلولة دون سيطرة المسلمين عليها ومازالت حملات القصف التي يقوم بها طيران أوزباكستان مستمرة على مواقع المسلمين في المناطق الجبلية، وقد تحقق هذا الأمر بعد مشاهدة الطائرات التي أسقطها المجاهدون، أما يد الروس فما زالت قوية ومؤثرة في الأحداث، وهي متمثلة في دعم الحكومة الحالية، والوقوف معها، ومدها بالسلاح، وحماية حدودها الجنوبية تجاه أفغانستان، وإنني أقول: لعل تدخل روسيا اليوم في طاجكستان يكون سبباً في سقوطها كما سقط الاتحاد السوفيتي أمس يوم تدخل في أفغانستان، لقد تدخل الاتحاد السوفيتي في أفغانستان في الوقت الذي لا تزال فيه تحتفظ ببعض قواته، ولا زالت القوة الغربية قائمة موجودة تحاربه وتناوئه، والمسلمون كانوا أضعف منهم بكثير، أما اليوم فقد تدخل الروس في طاجكستان والمسلمون اليوم أقوى منهم بالأمس، والمسلمون اليوم يأوون إلى أفغانستان، حيث يجدون في قندز وغيرها من المناطق في الشمال مأوى للاجئين والمهاجرين وتنظيم المجاهدين، ولعلهم يجدوا دعماً من إخوانهم الأفغان، ولعل ذلك يكون سبباً في توحيد كلمة الأفغان وزوال الخلاف فيما بينهم.
إن المقاومة الإسلامية مستمرة في الجبال، وهناك استعدادات لمقاومةٍ طويلة الأمد استفادت من قربها الجغرافي كما ذكرت، خصوصاً إذا وصلتهم مساعدات من إخوانهم المسلمين، أما الطرق الجبلية الموصلة لمناطق المسلمين، فقد دُمِرَ معظمها، وقد أصبح الوصول إليها بالسيارات أمراً صعباً، وهناك ضغوطٌ أمريكية على حكومة باكستان وأفغانستان بعدم مساعدة اللاجئين؛ خوفاً من اشتعال المنطقة بالجهاد في سبيل الله عز وجل وهذا أحد الأسرار في ضغط أمريكا على باكستان، حتى إنه بالأمس جاءت مجموعة من الخبراء الأمنيين الأمريكان إلى باكستان للتحقيق في قضايا الإرهاب، تريد أن تحقق مع العرب، وتريد أن لا تتحول طاجكستان إلى أفغانستان أخرى.(248/11)
وضع اللاجئين في قندز وما حولها
أولاً: الفقر الشديد وما يتبعه من جوع خصوصاً وأن كثيراً من اللاجئين قد استولى قُطَّاع الطرق على المؤن التي كانوا حملوها.
ثانياً: كثرة الوفيات بين الأطفال، نظراً لسوء التغذية.
ثالثاً: كثرة حالات الإجهاض للحوامل، لنقص التغذية أيضاً.
رابعاً: انتشار ظاهرة التسول لمن أقام في المدن وما قد يتبعه من عادات ضارة كالتدخين والمخدرات والمفاسد الأخلاقية.
خامساً: انتشار الأمراض خصوصاً الحصبة والدفتيريا والتهاب الكبد.
سادساً: تكدس بعض اللاجئين في مدارس وأماكن غير صالحة للسكن، وهي أيضاً مختلطة مما قد ينتج عنه آثار اجتماعية خطيرة.
سابعاً: معيشة كثير من اللاجئين خاصة في أفغانستان في خيام بالية ضيقة تفتقر لأدنى الحاجات الإنسانية خصوصاً مع شدة البرد في تلك المناطق.
ومن آثار المأساة أولاً: القتل والتشريد لمئات الألوف من المسلمين.
ثانيا: امتلاء السجون بالمسلمين وتردي أوضاعهم فيها، وذكرت المصادر أنه قد تم تسميم عداداً كبيراً منهم.
احتراق بعض المساجد، وقد ذكر شهود عيان: أن الشيوعيين قد أحرقوا المصاحف وبالوا عليها -والعياذ بالله - إمعاناً في الكفر وحقداً على الإسلام وأهله، وقد ذكر هذا الأستاذ قوام الدين نفسه، ثم هناك حصار اقتصادي على المسلمين مع إغلاق الحدود مع الدول المجاورة.(248/12)
صور من المجازر والمآسي
ذكرت بعض المصادر أن كل رجل ملتحٍ فهو عرضة للقتل؛ لأنه متهم بالانتساب إلى حزب النهضة، وكذلك كل شخص يشتبه أنه في المظاهرات التي كانت تطالب بتحكيم الإسلام فهو مهدور الدم وبيته عرضة للتدمير.
الصحفي الإسلامي بدر كمال قتلوا ابنته وعمرها ثمان سنوات وولده أربع سنوات.
وكذلك الأستاذ مريض عضو حزب النهضة قتلوا أسرته كاملة وزوجته ومجموعة من الأولاد.
قتلوا أيضاً مائة وثمانين شخصاً في قرية واحدة؛ لأنهم كتموا وجود أحد الشباب من حزب النهضة بينهم، وقطع الآذان المشتبه فيهم، وقد رأى مراسلنا كما يقول التقرير بعض الإخوة مقطوعي الآذان، وذكرت صحيفة روسية أن قائداً شيوعياً يتباهى بقوله: إنه قطع أذن كل واحد من الإسلاميين، وقال ملوحاً بالسكينة: إنهم أقوياء لحد أنك تقطع أذنه وهو لم يغمض له جفن، فأنا من أجل لينين مستعد لقطع رأس أي إنسان.
في كومانكيز هناك حفرة مملوءة بالمياه القذرة قد ألقي فيها عشرون من المسلمين أحياء، وتركوهم حتى ماتوا، ثم ساقوا مجموعة من المسلمين الأسرى فيما بعد وأجبروهم على إخراج الجثث المتعفنة من الماء، ثم أعدموهم ورموهم في نفس الحفرة.
قتلوا في إحدى القرى سبعة عشر شيخاً في السبعين والثمانين لا بسبب، إلا أنهم من العلماء أو حتى من المسلمين، ومن هؤلاء الشيخ يوري باي خالوف الذي يبلغ من العمر أربعاً وثمانون سنة، لقد رآهم وهم يحرقون مسجداً فاستنكر هذا العمل فأطلقوا عليه خمس رصاصات، ومنعوا عنه أي مساعدة حتى مات! القاضي أكبر ترى جان زاده استغله الشيوعيون، ولم يتخذ موقفاً حاسماً من الأحداث، فاستفادوا منه لتدعيم موقفهم، ثم أرادوا التخلص منه فهرب ومع ذلك لم تسلم عائلته من التصفية، فقد قتلوا سبعة عشر فرداً من أسرته! لقد هجم الشيوعيون على إحدى المديريات وقتلوا الشيوخ والنساء، واغتصبوا من بقي منهن أحياء، ولم يرحموا الأطفال، وبعد ذلك أحرقوا المنازل! أهالي مديريتين في جنوب البلاد هربوا من منازلهم باتجاه نهر جيحون الذي يفصل بين أفغانستان وطاجكستان عند غابة كثيفة ضخمة، ذهبوا ليختبئوا فيها من الشيوعيين، فجلسوا فيها شهراً وزيادة حتى مات الكثير منهم من قلة الأكل، وبعد ذلك علم بهم الشيوعيون، فدخلوا عليهم وكان عدد الأهالي يزيد على خمسين ألف نسمة من المسلمين، فأخذوا يذبحون من يقع في أيديهم، ويرمونهم في النهر، والذي يهرب في اتجاه النهر تحصده المدافع الرشاشة الروسية الحامية للحدود، حتى زاد عدد القتلى من هذه القرية عن عشرة آلاف نسمة في يوم واحد من النساء والأطفال والشيوخ الذين لا حول لهم ولا قوة! ثم إن مجلة المجتمع نشرت في عددها رقم (1830) مجموعة من الصور البشعة لهذه المعاناة التي يعاينها المسلمون مثلاً: المرحلة الأولى: وهي مرحلة وجود المسلمين في طاجكستان ذكرت فيها مجموعة من المآسي ذكرت قول الأخت رزق ضياء الدين من إحدى الولايات تقول: المأساة التي واجهتها وعشتها لا أستطيع التعبير عنها، فالذي شاهدته بنفسي قتلهم الشيوعيون يزيدون على ألف شخص، لقد دخل الشيوعيون هذه القرية، وبدءوا أول ما بدءوا بحرق البيوت وجمع النساء والأطفال على حدة، والرجال على حدة ثم إنهم أطلقوا النار على الرجال فقتلوهم جميعاً، وأخذوا يذبحون الأطفال أمامنا، وفور انصراف الشيوعيين بعد تدمير البيوت هربنا إلى أفغانستان بملابسنا التي تستر أجسادنا فقط، وذلك طلباً للنجاة والأمن وحفاظاً على أعراضنا، إلى آلام أخرى وصور عديدة.
أما المرحلة الثانية: وهي بعدما خرج المسلمون وفروا بدينهم إلى نهر جيحون، ثم ما وراءه ثم هناك صور أخرى من المأساة تتمثل: أولاً: في هذا النهر الذي تتجمد حافتاه بالليل من شدة البرودة، فهؤلاء عندما يصلون إلى النهر يكونون عرضة لقصف الشيوعيين كما حدث، وأحياناً يقصفونهم وهم في القوارب أو على ضفة النهر الأخرى في أفغانستان، ويعبر هؤلاء المنكوبون النهر بواسطة قوارب جلدية منفوخة، وبعض القوارب الخشبية التي يتسلل بها الأفغان لمساعدتهم ويتم ضم قاربين أو أكثر إلى بعضها، ولنقل بعض سيارات المهاجرين وأبقارهم وأمتعتهم التي تمكنوا من إيصالها إلى النهر، ولقد أجرت المجلة مقابلة مع مجموعة من المصابين، وهذا نداء من إخوانكم المهاجرين الطاجيك في شمال أفغانستان، يقول: مع المذابح الرهيبة وحملات الإبادة التي يتعرض لها المسلمون في طاجكستان على أيدي الشيوعيين هاجر إلى الشمال حتى الآن ما يقرب من ربع مليون أو أكثر، وأرسل إلينا هذه الاستغاثة إخواننا المسلمون في كل مكان بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، مباشرة تعاود المد الإسلامي في طاجكستان لكي يطيح بالحكومة الشيوعية، وقام المسلمون بالسيطرة على زمام الأمور في عاصمة البلاد في دوشابني، ولكنَّ أعداء الإسلام لم يقبلوا بهذا، فقامت روسيا وحكومة أوزباكستان الشيوعية بإرسال الجنود والدبابات والطائرات دعماً للشيوعيين، وقد تسبب هذا في قتل وتشريد جموع المسلمين حيث تمكن الشيوعيون من السيطرة مرة ثانية وبالقوة على زمام الأمور، وقاموا بعد ذلك بأعمال الإبادة والتدمير حقداً على الإسلام والمسلمين، وكان أول ما بدأ به الشيوعيون في حملتهم المساجد والمدارس الشرعية التي بناها المسلمون في خلال السنتين الماضيتين، فأحرقوا المئات من هذه المساجد والمدارس، وقتلوا الكثير من علماء الدين وحفاظ القرآن في دوشابني وغيرها، كل هذه الجرائم تنفذ دون اتهام أو محاكمة أو مسائلة، وقد مد بطش الشيوعيين في الحكم الظالم والباغي على البلاد نتيجة لهذه المذابح الوحشية الدامية التي امتدت إلى القرى الآمنة، وإلى جموع الشعب عامة، فقد اضطر مئات الألوف من المواطنين للهجرة حفاظاً على أرواحهم وأعراضهم، فمئات الألوف من الأطفال والنساء والشيوخ، اضطروا إلى الخروج من ديارهم إلى الجبال في شرق جمهورية طاجكستان حيث لا يوجد سوى الجليد والصقيع، وقد بلغ العدد الكلي للمهاجرين هناك مليون نفسٍ يعانون من البرد والجوع، وحتى المساعدات الدولية القليلة والتي خصصت لهم لم تصلهم، لأن الشيوعيين يأخذونها ويوزعونها على أتباعهم في دوشابني؛ لأن الطريق الذي يربط شرق العاصمة تسيطر عليه القوات الشيوعية.
أما بقية أفراد الشعب الذي هاجر جنوباً، فعددهم يبلغ أربعمائة ألف تقريباً، وقد حوصروا في هذه المنطقة لمدة ثلاثة أشهر لا تصل إليهم لوازم الحياة الضرورية من الغذاء والكساء والدواء، وقد مات نتيجة لهذا كثيرٌ من الأطفال، ورأى الناس الأمهات يحفرن في الأرض حفراً عميقة يضعن أطفالهن فيها ثم يغطين الحفرة بأجسادهن وقد وجد بعض هؤلاء الأمهات وقد تجمدن من شدة البرد، وقبل أسبوعين قام الشيوعيون بالهجوم على هؤلاء المحاصرين الفقراء الذين اضطروا لاختراق الأسلاك الشائكة وعبور نهر جيحون والدخول إلى أفغانستان، وقد مات غرقاً في نهر جيحون عشرة آلاف مهاجر، كل هذا يحدث ولا نجد من يدافع عن قضيتنا أو حتى يسمع بها.
إن الشعب المسلم في طاجكستان يتعرض للإبادة بأيدي الشيوعيين الحاقدين، الشيوعية التي رفضها العالم كله بما في ذلك روسيا منبع الشيوعية، لكنهم يجدون العون والاعتراف في طاجكستان؛ لأنهم يقتلون المسلمين ويخرجونهم من ديارهم، نحن نطالب المسلمين أجمع أن ينظروا إلى قضيتنا، وأن توقف هذه المجازر والإبادة للشعب الطاجيكي الأعزل المسلم الذي سلبت جميع حقوقه وقتل أبناؤه ودمرت دياره، ونطلب من المسلمين في كل مكان بالإسراع في بحث قضيتنا حتى يتم تدارك الموقف قبل أن تضيع من المسلمين كما حدث في الأندلس سابقاً، ويحدث الآن في فلسطين والبوسنة.
والله ولي التوفيق وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.(248/13)
إخوانكم المسلمون والمهاجرون الطاجيك في شمال أفغانستان
أيها الإخوة: إن المهاجرين والمجاهدين في أمس الحاجة إلى عونكم، وإنها قضية جديدة تتطلب منكم الدعم العاجل.
أما القضية الثالثة: فهي على مسافة ليست بعيدة من هناك في بيشاور، حيث بقايا المجاهدين العرب والمسلمين الذين بذلوا دماءهم رخيصةً في سبيل الله وقاتلوا بالأمس في أفغانستان وضربوا أروع الأمثلة، ثم التفتت عليهم الحكومات الإسلامية والعربية، ومن ورائها الحكومة الطاغية النصرانية الصليبية الحاقدة أمريكا التي تحرك تلك الدمى من أجل الضغط على المسلمين.
إن أمريكا لا تريد أن يقوم حكم إسلامي في أفغانستان، ولا يقوم حكم إسلامي في طاجكستان، بل ولا أن يقوم جهاد إسلامي هنا أو هناك، ولهذا تتكتم على تلك الأخبار، وتدعم القتلة في طاجكستان وتكف يدها لدعم حكومة باكستان وتهددها بأنها سوف تُدْرِجباكستان ضمن الدول التي تدعم الإرهاب، لماذا؟ إن باكستان آوت بقايا المسلمين الذين جاهدوا أمس على جبال أفغانستان، وهذه رسالة من إخوانكم إلى المشايخ الفضلاء والدعاة الكرام، إلى جميع الغيورين الذين أزعجتهم ما نشرته وسائل الإعلام حول الأوضاع التي تمر بها بيشاور وباتوا يتساءلون عن صحة ما يجري.
أولاً: نشكر للجميع غيرتهم، ونفيدهم بما يلي: إنه في يوم الثلاثاء، فوجئنا بهجوم رجال الأمن الباكستاني، لمنازل الإخوة العرب، وتربصوا بهم عند المساجد والطرقات، بل واقتحموا عليهم في آخر الليل وأفزعوا أهاليهم وأطفالهم.
لقد كان الاعتقال في صورة استفزازية حيث حشد الإخوة في معتقلات ضيقة متسخة، في الغرفة الضيقة يسجن أربعون من الإخوة بحيث لا يستطيع أحدهم أن يمد رجله فضلاً على أن ينام، ومن أراد أن يرتاح فإنه يقف، وقد شمل الاعتقال كل العرب من غير تعليل أو إبداء سبب، مع أن إقامة الكثير منهم طبيعية ورسمية وسارية المفعول بصفة نظامية، هؤلاء الشباب الذين تركوا أوطانهم وأموالهم وأحبابهم وجاءوا يحملون أرواحهم على أكفهم يبتغون الموت مظانه نصرةً للدين وإعلاءً لكلمة الله عز وجل {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] رجع الباقون منهم بعد أن واروا أجساداً طاهرة في التراب، رجعوا وهم يحملون جراحاتهم، ومنهم من فقد يده، ومنهم من فقد رجله، ومنهم من فقد عينه، رجعوا يحملون جراحاتهم وهمومهم، وقد كان حقهم أن يكرموا وينزلوا منازلهم، وإذا بهم يفاجئون أنهم بين سجينٍ وقابعٍ في داره يتوقع هجوم رجال الأمن، وتركت كثيرٌ من الأسر تسامر الليل حيث عائلهم خلف قضبان الحديد والله المستعان.
أما الوضع القائم الآن، فإنه قد خرج بعض الإخوة من السجن بنفسية محطمة للمعاملة السيئة التي قوبلوا بها بعد أن استخرجت لهم تذكرة أو كفالة مالية، وبقي آخرون متحفظ عليهم لا يدرى ما الله تعالى صانع بهم.
أما يوم الأربعاء (22/10) فقد عادت الاعتقالات من جديد والوضع يؤذن بالخطر، نسأل الله العافية وحسن العاقبة، وقد تحرك بعض الدعاة والعلماء لاستنكار هذا العمل، وأصدرت الجماعة الإسلامية في باكستان بياناً استنكرت الوضع، وقد نشر في بعض الصحف، ومستقبل هذا يشير إلى أبعاد خطيرة منها: أولاً: إن بعض المعتقلين من الإخوة العرب الذين تطالب الحكومات العلمانية بهم في مصر والجزائر وغيرها، ومعلوم أن هناك تنسيقاً أمنياً بين باكستان ومصر وأمريكا، وأن أمريكا تضغط على باكستان من أجل تسليم هؤلاء إلى تلك الحكومات، ولو سلم إلى حكومتهم فمن المعلوم ماذا سوف تكون العاقبة.
الأمر الثاني: خشية أن يكون هناك مواجهة بين الأمن الباكستاني وأولئك الإخوة العرب، وهذا أيضا أمر خطير ويعود ضرره على المسلمين.
الأمر الثالث: هو تفرق هؤلاء الإخوة وتشتتهم في تلك البلاد، وفي بلادٍ كثيرة لا يستطيعون أن يجدوا فيها المكان الطيب الذي يأمنون فيه على دينهم وعلى أخلاقهم.
وهذه -أيضاً- رسالة من جمعية إحياء التراث، وأقرأ جانباً منها فقط يقول: جاءت الاعتقالات بعد تحذير أمريكي بضرورة إخراج العرب من باكستان أو وضع باكستان في قائمة الدول المساندة للإرهاب.
ثانيا: في ألمانيا تم توقيع اتفاقية لتسليم المجرمين بين باكستان ومصر، وعلى إثرها قامت مصر بتسليم قائمة تحوي خمسة وأربعين اسماً مطلوب تسليمهم، منهم من حكم عليه غياباً بالإعدام؛ لمشاركته في الجهاد الأفغاني، وينتظر وصوله إلى مصر، ليوقع عليه الحكم.
ثالثاً: تعهدت مصر لباكستان بالتوسط لدى أمريكا بعدم إدراجها قي قائمة الدول الداعمة للإرهاب! رابعاً: حملة الاعتقالات يقوم بها رجال الشرطة مع المخابرات، بعد تعدي المفوضية العامة للمهاجرين والتي تتعامل مع العرب والمؤسسات العاملة لخدمة الجهاد الأفغاني طوال العشر سنوات الماضية، فلم يسلم من الاعتقال أحد من العاملين أو غيرهم! خامساً: تم التنسيق مع السفارات العربية والغربية في إسلام أباد ولتعمل حتى الساعة الثانية عشرة مساءً لتجيب عن أي استفسار فيما يتعلق بجوازات سفر الإخوة المأسورين، حتى أن قسم الشرطة اتصل مباشرةً بالسفارة الأمريكية؛ لإعطائه معلومات عن أحد الإخوة المأسورين هناك، وأعطيت المعلومات خلال عشر دقائق فقط، وقد تم التعامل مع الإخوة بالصورة التي أشرت إلى جانبٍ منها الآن، هذا الوضع هو وضع مأساوي وسيئ، ونحن نطالب الجميع بإن يكون لهم دور سواء في تصعيد هذه القضية في المجال الإعلامي عبر الخطب والمحاضرات والدروس، أو في إصدار البيانات التي تشجب وتدين ما حصل وتبين الواجب اتخاذه في حق هؤلاء، في تلك البرقيات التي ترسل إلى حكومة باكستان لتكف عن مثل العمل الذي قامت به، أو في دعم هؤلاء الإخوة ومساعدتهم بكل وسيلة ممكنة، ومن ذلك دعمهم بالمال، لأنهم في أمس الحاجة إليه.
أيها الإخوة: إن العالم اليوم يلتفوا عن المسلمين، فأنت ترى أمريكا اليوم كيف تدخلت بشكل مباشر، وبعثت الخبراء إلى باكستان، ولكنها لم تفعل مثل ذلك بالنسبة للصرب، وكأن الإرهاب الذي يمارسه الصرب، حيث يقومون بأعمال فضيعة يعجز اللسان عن وصفها، كأن هذا الإرهاب ليس إرهاباً، وليس اعتداءً، وليس انتهاكاً لحقوق الإنسان، إنما الإرهاب الحقيقي هو الذي يقوم به المسلمون.
أقول لكم أيها الإخوة وسوف تذكرون ما أقول لكم: إن أمريكا هددت السودان بأن تجعلها على قائمة الدول التي تدعم الإرهاب، بل لعلها أدرجتها، لماذا؟ لأنها قاتلت النصارى في الجنوب، وإن أمريكا تريد أن تجعل منظمة حماس الإسلامية الفلسطينية ضمن المنظمات الإرهابية لماذا؟ لأنها تقاوم الاحتلال اليهودي لبلاد المسلمين، وإنني أعتقد -والله أعلم- أنه سوف يكون اليوم الذي يقال فيه للمسلم البوسني الذي يدافع عن بلده ويدافع عن دينه ويقاتل الصرب أو كرواتيا المعتدين، ألقِ السلاح وإلا سوف تدرج ضمن المنظمات الإرهابية، التي يتحالف العالم كله على قتالها، سيقع هذا إن دامت الأمور على ما هي عليه.
إن دام هذا ولم يحدث له غير لم يبك ميت ولم يفرح بمولود ولكننا نسأل الله عز وجل أن يحول بين أعداء الإسلام من النصارى وبين ما يشتهون، ونسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يشغلهم بأنفسهم، وأن يشغلهم باقتصادهم المنهار، وأن يشغلهم بأمنهم القلق، وأن يسلط عليهم الجماعات والمنظمات الإرهابية من داخل بلادهم وخارجها، فتجعلهم ينهمكون بهمهم الداخلي، وبمشاكلهم الداخلية عن أن يلاحقوا المسلمين في كل مكان.(248/14)
الجرح النازف في الفلبين
أما الجرح الأخر في نثار الأخبار: فهو في جبهة تحرير بلاد مورو، وفي مناطق الشمال، وفي مناطق الجنوب من الفلبين حيث يوجد ملايين المسلمين هناك، وحيث توجد جبهة تحرير بلاد مورو الإسلامية التي يرأسها الشيخ سلامات هاشم وهو أحد العلماء المعروفين بسلفية عقيدته ووضوح منهجه، وهم يقومون بحركة جهاد منذ عشرات السنين، يقاومون حكومةً نصرانيةً هناك.
إن عدد المسلمين يزيد على اثني عشر مليوناً وهم يتعرضون لعملية الإفناء المنظم من قبل الحكومة الفليبينية التي ضمت بلادهم إليها ظلماً وغدراً، وهم يطالبون بالاستقلال من تلك الحكومة، وإننا نجد -أيها الأحبة- أن دولاً كثيرة قامت، فقامت دولة للصرب، وقامت دولة للكروات، وقامت دول كثيرة، وقامت جمهوريات كثيرة فيما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي وهي كلها جديدة، أما المسلمون فقد حيل بينهم وأن يكونوا دولة مستقلة سواء في جنوب الفلبين أو في غيرها.(248/15)
بعض صور مآسي المسلمين في الفلبين
لقد هجمت حكومة الفلبين بالأسلحة الفتاكة بالقتل والذبح والاغتيال والتعذيب، حتى بالموت والتشريد والنهب واغتصاب الأرض، وحرق البيوت والمدارس والمساجد، وإتلاف الحقول والمزارع والأشجار المثمرة، وقتل كل شيء حتى الدواب، وإتلاف كل شيء يمت بصلة للفرد المسلم ووجود المجتمع الإسلامي هناك.
وهذه بعض معاناة المسلمين: قام جنود راموس الصليبيون بعمليات إرهابية ضد المسلمين الآمنين خلال الانتخابات، ومعظم ضحايا هؤلاء الجنود من الأطفال والنساء وكبار السن الذين لا يستطيعون الفرار أو الدفاع عن أنفسهم، وهذه بعض الأمثلة: أطلقوا النيران على مجموعة من الشباب الآمنين أثناء تجمعاتهم العادية في مدينة كوتباتو وقتل شابان وأصيب عددٌ منهم، وما ذنبهم إلا أنهم يقولوا ربنا الله، وكان ذلك في يوم الجمعة في السادس والعشرين من شهر رمضان.
ثانياً: وضعوا قنبلة يدوية في أحد مكاتب الموظفين وانفجرت القنبلة وقتلت ثلاثة من الموظفين المسلمين وأصيب عددٌ منهم، وليس ثمة من سبب لهذا إلا أنهم مسلمون، وكان ذلك -أيضاً- في يوم الجمعة! ثالثاً: وضع أحد الجنود بعض المواد المتفجرة في حقيبة شاب مسلم، ثم فتشه واتهمه بأنه من مجاهدي جبهة تحرير بلاد مورو الإسلامية وأنه يقوم بالتخريب، ولذلك كانت الحقيبة في يده ثم قاموا بعد ذلك بالقضاء عليه.
رابعاً: ألقى جنود راموس النصارى قنابل على المسلمين الآمنين في مديرية سلطان قدورات وقد قتل إثر هذا الانفجار أربعة من المسلمين الأبرياء، وأصيب عدد كثير منهم، ومن بين المقتولين فتاة مسلمة عمرها عشر سنوات، ورجل مسلم عجوز عمره خمس وسبعون سنة، وألقوا القنابل على هؤلاء بدون سبب سوى أنها مناطق إسلامية؛ وأنهم متمسكون بدينهم، علماً أن هناك وعياً ويقظة للمسلمين بحمد الله هناك! المعارك مستمرة اليوم بين جنود سلطة الكفر النصارى وبين المسلمين المنتسبين إلى جبهة تحرير بلاد مورو الإسلامية، من هذه المعارك معارك في محافظة باسيلان حيث تصاعدت بين المجاهدين والحكومة بقيادة الشيخ سلامات هاشم، وأما جنود راموس في هذه المحافظة فإنهم لم يتوقفوا عن قتل المسلمين الآمنين، وحرق بيوتهم، وتدمير قراهم، فوقف المجاهدون بوجههم واضطروا إلى اللجوء إلى أسلوب الكر والفر، أو ما يسمى بحرب العصابات؛ وذلك لضعف الإمكانيات؛ وعدم وجود ما يسمى بالسلاح الثقيل لديهم، ومع ذلك فقد تمكنوا -بحمد الله- من إلحاق خسائر كبيرة برجال العدو خلال تلك المعارك التي وقعت في آخر شهر رمضان وحتى في يوم العيد، وبعد ذلك قتل من جنود العدو حوالي ستة عشر جندياً، وأصيب عدد منهم، واستولى المجاهدون على خمس عشرة قطعة من السلاح.
أما في محافظة كوتا باتو فقد تجددت المعارك بين المجاهدين وجنود الحكومة في أكثر من مديرية، وذلك بعد عيد الفطر مباشرة، وهجم المجاهدون المسلمون على مركز لجنود العدو في يوم عيد الفطر، ورغم أنهم لم يستولوا على المركز إلا أنهم ألحقوا بالعدو خسائر كبيرة في الرجال، وقتلوا عدداً كبيراً من الجنود، وفي نفس اليوم نشب قتال بين المجاهدين المسلمين وبين مجموعة من مليشيات النصارى الحكومية بالمحافظة نفسها، وقتل خمسة من العدو، واستولى المجاهدون على ثلاث بنادق، وأيضاً هجم المجاهدون على مركز في مليشيا النصرانية في إحدى القرى بالمحافظة واستولوا على المركز، وهرب رجال الميليشيات تاركين وراءهم جثث رفاقهم الخمسة مع أسلحتهم وعدتهم العسكرية.
وهناك -أيضاً- معارك في محافظة لاناو الجنوبية، وفي محافظة أجوسان، وفي محافظات أخرى.(248/16)
نداءٌ من جبهة مورو
وهذا نداء من لجنة الإعلام الخارجي بجبهة تحرير بلاد مورو: نداء إلى علماء المسلمين وقادتهم وعامتهم، نتوجه إليكم بالسلام والدعاء والتوفيق في الدنيا والآخرة، ونناديكم عبر ذلك البيان ونناشدكم بحق الإسلام، وأخوة الإيمان، المساعدة العاجلة، والمساعدة الكريمة لسد احتياجات المجاهدين الضرورية من الطعام والدواء والملابس، المجاهدين الذين يبذلون الروح والدم والولد من أجل إعلاء كلمة الله وعقيدة التوحيد، ثم من أجل المستضعفين في الأرض، وتمسكهم بهذه العقيدة، كما نناديكم ونناشدكم بالدعاء إلى الله بالنصر لإخوانكم المجاهدين لإعلاء كلمة الله هنا وفي كل مكان، والله يجزيكم الجزاء الأوفى.
كذلك الأستاذ سلامات هاشم له نداء يقول: ندعوكم إلى دعم إخوانكم المجاهدين الفقراء قبل أن تتكرر مأساة اخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، وحتى لا تفقد أمتنا الإسلامية جزءاً من أرضها كما فقدت الأندلس بالأمس وغيرها، ونؤكد لكم أن لدينا رجالاً متمرسين في الجهاد ونحسبهم مخلصين والله حسيبهم، ولكن مشكلتنا الفقر الشديد المنتشر في بلاد مورو منذ أن وقعت تحت نيران الحكم الصليبي، وإننا على يقين أن الله ينصر دينه ويهزم الكفار المعتدين الظالمين، وأن راية الحق سترتفع إلى الأبد بإذن الله تعالى، والله على كل شيء قدير، وهو بذلك جدير، وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: إن من الجدير أن أقول لكم: إنني سألت بعض الإخوة الذين هم على صلة بالجهاد، كم عدد المجاهدين هناك؟ فقالوا: إن عدد المجاهدين يزيد على مائة ألف مجاهد، ولكن مشكلتهم النقص، فحاجة المجاهدين هناك تزيد عن ستة ملايين ريال سعودي، ولو ظفروا بهذا المبلغ لاستطاعوا أن يحصلوا على السلاح من قبل المهربين الدوليين ومن قبل بعض الحكومات الإسلامية القريبة منهم، والتي قد تسمح أو تغض الطرف عنهم، فعلى إخواننا المسلمين أن يدعموا المجاهدين في الفلبين، وخاصة أن قضيتهم قضية قديمة وهي في نفس الوقت قضية منسية.
أيها الأحبة هذه المآسي وبقي في الجعبة كثير، ومع ذلك فليعلم العدو والصديق أننا نحمل قلوباً ملؤها الثقة المطلقة بوعد الله عز وجل والتي لا تقبل التردد، ولا التراجع، ولا سوء الظن برب العالمين.
إننا على ثقة من وعد الله عز وجل وإن نصر الله آتٍ، بل وإن وعد الله قريب، وإن هذه المحن والكوارث التي تلاحق المسلمين هنا وهناك إنما تكون من أجل أن لا يكون التحرك للإسلام نصيب فئة أو طائفة أو جماعة أو كوكبة من العلماء والدعاة، بل من أجل أن يتحرك المسلمون كلهم ومن أجل أن تتنادى الشعوب، ومن أجل أن تصقل على نار الفتنة، ومن أجل أن تتحول هذه الآلام إلى كير يزيل الخبث ويبقى الذهب النقي الخالص الإبريز.(248/17)
استراحة
ومن أجل أن لا نسترسل مع الآلام أفضل الكلام بقصيدة جميلة للشاعر الفلسطيني الفذ الأستاذ محمود مفلح في ديوانه (إنها الصحوة) يقول: في يدينا يفيء هذا الزمان نحن فيه السطور والعنوان إن خطونا فللمكارم نخطو أو نطقنا فللخلود البيان نحن مَنْ عَلَّمَ السحائب جوداً فتهادت في غرسها الغدران أبجدياتنا طموح وعزم وإخاءٌ وألفةٌ وأمانٌ نحن إسلامنا عظيمٌ عظيمٌ لا تداني إسلامنا الأديان ما عرفنا سوى العدالة نهجاً وسوانا دروبهم طغيان إن كبا في الطريق يوماً حصانُ فغداً ينهب الطريقَ الحصانُ وقدة الصيف في الدماء حريق ولدى الثار يزخر البركان عندما تصقل العقيدة شعباً لا سجون تبقى ولا سجان علمتنا ألاَّ نكون عبيداً وعدو الإسلام هذا الهوان إن في أرض الليوث الضواري ومداراتنا لها العقبان نحن في ساعة الملمَّات موجٌ كاسح المد ما له شُطآن إن تكن تاهت السفينة يوماً فلقد جاءها الفتى الربان مسلم صاغه الوجود وجوداً بين عينيه تشرق الأوطان صقلته الآيات حتى تراءى مثل سيفٍ زاده اللمعان يتقي الله في الرعية يخشى موقفاً فيه ينصب الميزان ظلمة الليل لن تطول علينا ولدينا نبراسنا القرآن فيه نبض الحياة فيه الأماني فيه أيامنا الوضاء الحسان فيه عزٌ وفيه هدىٌ ونصر وسواه الضلال والخسران كم يريدون أن يظل مهيضاً لا جناح يقوى ولا طيران كم يريدون أن يقول سواه وهو لا منطق له لا لسان حاولوا بالأذى اغتيال المثاني ليت شعري هل يطفأ الإيمان غاب عن مسرح الحياة زماناً وعلى المسرح الجبان الجبان فإذا الناس قاتلٌ وقتيلٌ وإذا الكون شقوةٌ ودخان ثم جاءت بشائر الله تترى وأطلت بخيلها الفرسان في يدينا رسالة الله للناس وفينا الإيمان والإحسان قد رحلنا من الجفاف وجئنا مطراً إنَّ رملنا ظمآن وعبرنا مضايق الحزن حتى غادرتنا بصمتها الأحزان وتلاشت على الطريق زيوفٌ وتداعت بكبرها الأوثان(248/18)
أحزان الأكراد
أيها الإخوة: إخوانكم المسلمون الأكراد يعانون منذ عشرات السنين في العراق وفي تركيا وفي إيران بل وفي معظم البلاد، فقلَّ بلد تقع فيه مصيبة إلا وللأكراد يكون فيها نصيب، ولعل من آخر ذلك أذربيجان أن هناك مجموعة من الأكراد عندما نال على يد الأرمن النصارى ما نالهم كان للأكراد من ذلك نصيب، وقد جاءتني رسالة تحكي جانباً من المأساة.(248/19)
الأكراد في أمريكا ينصرون
وعندي رسائل تحكي جوانب أخرى فهذه رسالة من أحد الإخوة في مدينة ناشفل في إحدى الولايات في أمريكا، وهو المسئول الاجتماعي بالمركز الإسلامي هناك، يقول: أحيطكم علماً بأننا نعاني معاناة كبيرة، ونشفق إشفاقاً عظيماً؛ لما نراه يحدث يومياً لإخواننا الأكراد الموجودين هنا في مدينة ناشفل في ولاية تنيسي والذين تحتويهم الكنائس في محاولة جادة لتنصيرهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويقول: هؤلاء الأكراد فيهم خير كثير وحب كبير للإسلام واعتزاز به، هذا الشعور لمسناه فيهم بحكم احتكاكنا وتعاملنا معهم، والحمد لله فهم يفرحون عندما نزورهم في منازلهم، ويحاولون تقديم كل ما لديهم، وهم فقراء ولكنهم كرماء، والأطفال يستقبلوننا بعيون ترى فيها الأسى والبؤس، ولكن مع ذلك يبتسمون لنا ويبدءوننا بعبارة: السلام عليكم، ومما يسعدنا جداً الوعي الذي نراه فيهم، وهو يتمثل في كرههم الشديد للكنيسة، الآباء والأمهات يطلبون منا أن ندعو الله تعالى أن يحفظ عليهم إسلامهم، وأن ينقذ أطفالهم من براثن الكنيسة التي تخطط في سبيل فصل الآباء عن الأبناء، ومن ثم تقوم باحتضان الأطفال وتنصيرهم بكل يسر وسهولة.
ثم يقول: بعد الطرح السريع الذي قدمناه لكم في هذه الرسالة، والذي نهدف من ورائه إلى إبراء الذمة أمام الله تعالى، فإن هذا الأمر ليس من السهل أن يتحمل أعباءه أفرادٌ قلائل حتى وإن كانوا مخلصين.
وعليه نفيدكم بأننا الآن نبحث عن مكان يكون عبارة عن مدرسة تحوي هؤلاء الأطفال، والبالغ عددهم أكثر من أربعمائة وخمسين طفلاً تتراوح أعمارهم بين الرابعة والرابعة عشرة.
إننا نحاول شراء المكان، ولا يخفى أن بعض العلمانيين من الأكراد والمقيمين هنا، تحاول الكنيسة استعمالهم للحيلولة بين تلك العائلات المحافظة وبين المسلمين في هذه المدينة.
إن هؤلاء الأطفال الأبرياء الجاهزة عقولهم لتقبل أي عقيدة لن يستطيعوا مقاومة الإغراءات التي يحتاجها أي طفل، فإليكم يا من ننظر إليكم دائماً على أنكم أصحاب العقيدة الصحيحة، وأصحاب الأيدي المتوضئة، وأصحاب القلوب النابضة بالإيمان الصادق -ونحسبكم كذلك- نناشدكم الله، وهذا خطاب لكل طلبة العلم والدعاة والعلماء؛ بل ولكل المسلمين، ألا تتركوا إخوانكم وأخواتكم وأبناءكم لقمةً سائغة للحاقدين على الإسلام والمسلمين، وكل ما نتمناه أن يكون هذا الموضوع من الموضوعات التي يهتم الجميع بها.
إنه من الطبيعي جداً أن يكون الطريق ليس مفروشاً بالورود، فنحن نخطو هذه الخطوة ونواجه مخططات نصرانية مدروسة، ولا نخفي أن هناك أهدافاً ترمي إليها الكنيسة من جراء المساعدات التي تقدمها، وهذا الشيء لمسناه بأنفسنا في المجموعة العلمانية حيث أنهم يدعون بالخير ويشكرون الكنيسة أمامنا، ومع إقراري بأن هذا خطأ -يقول أحد الإخوة- لكنني في قرارة نفسي أتخيل أن كثيراً من الناس لو كان مكانهم لتصرف التصرف نفسه، فإن الإنسان يعاني ويتألم وهو يرى أخاه المسلم يضحك ولا يهمه أمره، يموت أو يحيا وهو يعطي فلذة كبده لأعدائه حتى يتعطفون عليه ويهتمون به.
يقول أحدهم: اضطررت لإرسال ابنتي حتى تتعلم الرقص مقابل مبلغ وقدره خمسون دولاراً، وأنا أشتغل في خمارة تارة، أو أبيع لحم الخنزير تارة أخرى تحت ضغط الكنيسة.
يقول: أصبحت أكره الإسلام والمسلمين، وخاصة العرب منهم، وهذا الشعور كله زرعته الكنيسة، ونجحت للأسف الشديد فيه أيما نجاح، أتريدون أن تعرفوا أيها المسلمون النتيجة؟ يقول أحدهم: لقد تركت الصلاة نهائياً، بعد أن عملت فترة في محل لبيع الحرام، وأصبحت لا أعترف بأي تشريع ينسب إلى الإسلام، أما ابني الآن فهو يعتبر نصرانياً لا يعرف من الإسلام إلا عبارة السلام عليكم، لديه صديقة أمريكية يحضرها معه إلى بيتي هذا، يقول والده ولا يستنكر ذلك منا أحد، أما ابنتي فهي كاسية عارية لا تعترف بالحجاب بتاتاً، وزوجتي كذلك تحمل نفس الأفكار، أصبحت أذهب إلى بيوت الأكراد الجدد، وأقوم بنفس الدور الذي قامت به الكنيسة، غير أنني أتحدث لغة قومي، ونجحت في إبعادهم عن المسجد وعن المسلمين، وأخذتهم إلى الكنيسة والتي لها الفضل الوحيد في بقائي حياً حتى الآن.
أيها المسلمون! لا تلوموني إذا سمعتم بقصتي، وإنني موقن تماماً بأنكم لن تصنعوا شيئاً غير الكلام، وسأقف في وجوهكم جميعاً لأنكم ظالمون، وأنتم الذين ساهمتم مع الكنيسة في تدميري وتدمير أسرتي.
يقول أخونا المسلم الذي بعث لي بهذه الرسالة: ما الذي سيحدث بعد قراءتكم لهذه القصة، والتي هي واقعة داخل كل أسرة كردية؟ إنه ليس أمامي حل إلا أن أضع هذه المشكلة أمامكم، وأنتم جميعاً مسئولون أمام الله عز وجل عن تقديم كل ما تستطيعونه قبل فوات الأوان، اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد، نسأل الله العلي القدير أن ينصرنا على أعداء دينه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.(248/20)
الكويت واستقبالها لجورج بوش
هذا كله يجري في الوقت نفسه تقع مصيبة من المصائب إلى جوارنا.
فهذه رسالة وصلتني لمن سمى نفسه مسلم مخلص غيور يقول بعد المقدمة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: لا أدري كيف أسطر هذه السطور من رسالتي التي أرسلها إليكم وأنا أداوي جرحاً غائراً من الذل في قلبي، من الغثاء الذي نسمعه ونراه من وسائل الإعلام الحكومية والشعبية الكويتية للأسف، وليس الأمريكية بالطبع، مرارة وحرارة وذلة وهوان ما بعده هوان، نعم! إنها تغني بمقدم رئيس أمريكا السابق جورج بوش وتقول: خوش حياك الله يا جورج بوش كل شعبنا ناداك كل شعبنا حياك، اسمك من ذهب منقوش يا مستر بوش قلوب مفروشة لك يا رسول السلام يا صاحب الشهامة، يا من وقف معنا حين خذلنا بعض إخواننا يا منقذ مجد الكويت يا منقذ حضارة الآباء والأجداد يا حامي مستقبل الأولاد والأحفاد بهذه الأبيات الشعرية الرنانة والكلمات الشركية وغيرها يستقبل، وكل ذلك على حساب عقولنا وأموالنا ودمائنا، فقد دفعنا الفاتورة كاملة غير منقوصة، بل كنا وما زلنا ندفع مع جيراننا من أهل النفط فاتورة الاقتصاد الأمريكي المنهار، وأولاً وأخيراً فإننا ندفع الفاتورة من ديننا وأخلاقنا، إننا نطالبكم أن تتحدثوا عن هذا الموضوع في دروسكم وخطبكم وتنبهوا عنه، فنخشى أن يتكرر هذا الأمر في بلدان أخرى، وإنني أشكر هذا الشاب المسلم المخلص الغيور من أرض الكويت، وأقول للإخوة جميعاً في الكويت وغيرها: إن مثل هؤلاء كثيرون بحمد الله في الكويت، ممن تغلي قلوبهم، وتنزعج نفوسهم، وتضيق صدورهم ذرعاً بهذا الذي يجري، ولكن لا حول لهم ولا طول، وهو قرار حكومي نافذ! ولعل من الأخبار التي تتعلق بذلك وتدلك على مبالغ التكاليف التي صرفت ما نشرته بعض الصحف ومنها جريدة الشرق الأوسط وإن كنت لا أشتريها ولا أنصح بشرائها، ولكن هذه قصاصة يقول: إنه بدأت الزيارة متأخرة بأربعة وعشرين ساعة عن الموعد الأساسي، وذلك بسبب خلل فني طرأ على الطائرة التي وضعتها الكويت تحت تصرفه، وكانت الطائرة التابعة للخطوط الجوية قد اضطرت للهبوط بعد حوالي ساعة من إقلاعها من مطار هيوستن بعد سقوط جزء من جناحها -إنها طائرة معدة بعناية ولكن الله عز وجل قدَّر أن يوجد هذا الخلل في جناحها الأيسر فسقطت، وكان ذلك خلال بعض المطبات الهوائية المفاجئة- وقالت المتحدثة: إن الحادث مر بسلام، وقال المتحدث باسم الرئيس: إن الطائرة أصيبت بعطل ميكانيكي، وإن الرئيس وعائلته قد غادروها بعد لحظات من هبوطها في مطار هيوستن، وقال: إن الطائرة كانت نقلته هو وزوجته وابنه وزوجة، وولده ولديها مع عدد آخر من المساعدين والمرافقين، وأنها كانت ستتوقف في واشنطن؛ لينضم إليها وزير الخارجية السابق جيمس بيكر والرئيس السابق لهيئة موظفي البيت الأبيض وكان الديوان الأميري قد أعلن عن تأجيل الزيارة ليوم واحد، بعد أن تم تأمين طائرة جديدة تابعة للخطوط الجوية الكويتية لنقل الرئيس، وأعلن أن برنامج الزيارة لم يتغير لكن المواعيد عدلت لملائمة التعديل الذي طرأ على موعد الوصول، وقد دفعت بطبيعة الحال مئات الآلاف، بل ملايين الدولارات بما يسمى عاصفة الحب الذي استقبلت الكويت بها الرئيس الأمريكي، وقد جاء من جراء ذلك عبارات غريبة تدل على مدى ما وصلت إليه عقول الكثيرين، وقصائد وأغاني حتى باللغة الإنجليزية، وغنت مطربة كويتية شهيرة مثل ذلك بلغة غربية إنجليزية ترحب بالرئيس، وأقيمت الاحتفالات، وصف الطلاب والطالبات على جوانب الطرق، وعلقت الصور على جنبات الطرق أيضاً، وكان هناك أشياء من هذا القبيل.
يقول بعضهم ما نشر في جريدة الأنباء: أبلغ الرجل العظيم بوش أنَّ صورة وإعلام أمريكا العظمى والصديقة محفورة في قلوبنا، إضافة تتصور في ديواناتنا وصالات منازلنا، بل على سياراتنا، هناك مطالبة بمنح الرئيس بوش الجنسية الكويتية، بل ويكون منحها حقاً مكتسباً لذريته من بعده، وماذا يستفيد بهذه الجنسية؟ اقتراح أن يقام له نصب تذكاري يليق بمكانته ومقامه.
ويضيف الكاتب: ويستطيع الرئيس أن يقدم حجر الأساس لهذا النصب -يعني: يوضع له تمثال في موضع بارز من الكويت- يأمل ألاَّ يتخلف كويتي واحد عن الخروج من منزله الذي أعاده له بوش لتحية هذا الرجل الشريف الشهم.
العنوان بخط عريض (عساك سالم ما قصرت) نقدم لك الحب نيابة عن نصف سكان العالم في الشرق، حيث اشتركت في تحريرهم من العبودية الفكرية والسياسية بعد سبعين عاماً من اليأس، اللجنة التحضيرية لجمعية النفع العام دعت المواطنين للتوافد إلى ساحة العالم رافعين الأعلام والشعارات والصور وليحتفل الجميع بمقدم هذا الرجل لأرض الكويت الحرة.
الكلمات كثيرة هذا أهونها: بلقاك هذا يوم عيد ويهتف بالحب والتمجيد أنت صفحة خالدة في تاريخ الكويت، شكراً أبا عبد الله يوم زيارتكم للكويت يوم عزيز علينا، طالما تطلعنا بل تلهفنا، نقولها بكل صدق وإخلاص مرحباً بفخامة الرئيس والأرض التي تطأها قدمك ستسمع همسها وهي تقول مرحباً بأبي عبد الله العزيز الكريم كل هذا لا أقول فقط نشر في صحف كويتية، بل ينشر ويدخل إلى هذه البلاد، ويشترى ويوزع بين الناس دون أن يجد من ينكره، مع أن في ذلك الكلام الكثير منه من ألوان التعظيم لهؤلاء النصارى المشركين، ونسبة الأعمال إليهم ونسيان الفواصل الشرعية التي تفصل بيننا وبينهم، بل والجهل والغباء السياسي، وتصور أنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل سواد عيوننا.
على كل حال أترك هذا الموضوع على خطورته، لأن عندي موضوعين يجب التكلم عليهما:(248/21)
الدعوة الإسلامية وتضييق الخناق
الموضوع الأول: يبعث عن الأسى والأسف، وإذا كنا تحدثنا قبل قليل عن الكويت وكيف صرفت الملايين لاستقبال الرئيس الأمريكي وصرفت أيضاً ملايين أخرى من أجل حديقة الحيوان في لندن، في الوقت الذي يموت فيه المسلمون جوعاً وعطشاً وفقراً وقلة ذات يد، فإن من المؤسف أكثر وأكثر أننا نجد في الوقت الذي تحارب فيه الدعوة إلى الإسلام في كثير من البلاد، تجد بعض الفرص في بلاد أخرى، وتستطيع أن تثبت الدعوة نفسها في قوتها وجدارتها وإقبال الناس عليها، أنه يصلني هذا اليوم تعميم سري للغاية من مدير تعليم البنات بإحدى مناطق الشمال وأنا أترك هذا الأسبوع ذكر اسمه؛ رغبة في أن يعلن توبته إلى الله عز وجل ويصدر تعميماً مشابهاً ينقض فيما قال وإلا سوف يكون لنا وله شأن، هذا التعميم عجيب وغريب، ويدل على أن قضية الدعوة أصبحت لا بواكي لها، وكل من يريد أن يثبت جدارته أو إخلاصه فعليه أن يعلن الحرب ضد الدعوة والدعاة والمخلصين رجالاً أو نساءً بغض النظر عن النظم وعن القوانين والأوضاع والصلاحيات، وإذا أثبت ذلك، دل هذا على أنه إنسان مخلص وصادق يقول: الأخت المكرمة مديرة مدرسة السلام عليكم.
لوحظ في بعض المناطق في الآونة الأخيرة ظاهرة عقد اجتماعات دينية نسائية في المنازل وقصور الأفراح كما أن بعض هذه الاجتماعات مقتصرة على عدد من النساء في أحد المنازل، كما أن هذه الاجتماعات غير معلن عنها، وتجمع فيها التبرعات، ونظراً لخطورة هذه الاجتماعات كونها سرية وغير معلنة، وقد تستغل في نشر أفكار ومبادئ خارجة عن مفهوم الوعظ الديني -يعلن هذا المدير ومن وراءه خوفهم من ماذا؟ خائفين عن الإسلام، لتنتشر مبادئ وأفكار خارجة عن مفهوم الوعظ الديني، الله أكبر على الغيرة- يقول: خارجة عن مفهوم الوعظ الديني، حتى لا تصرف التبرعات التي تجمع في غير الأعمال الخيرية، للإطلاع وإفهام المدرسات بعدم عقد أي اجتماعات دينية نسائية غير مرخص لها لاعتماد مضمونه بكل دقة وحرص! صورة لكذا صورة للتوجيه التربوي لملاحظة ذلك، لما يستجد وهل سبق وأن عقد اجتماعات مثل ذلك للإفادة، صورة للوحدة الصحية، صورة للكلية المطورة، صورة لمندوب كذا صورة للإفادة بما يستجد، صورة لكل مدرسة ابتدائية، متوسطة، ثانوية، معهد معلمات، ومعهد تدريب، لمكتب فرع التوحيد بكذا، لمديرة مدرسة كذا الخاصة، صورة لكل روضة حتى رياض الأطفال، صورة للمتابعة، صورة للصادر العام.
في أي بلدٍ نحن نحارب الدعوة بهذه الطريقة، مجموعة نساء خمس أو عشر أو عشرين اجتمعن في بيت واحدة منهن يقرأن القرآن، هذا الأمر بموجب هذا التعميم الذي قرأته عليكم هل هذا مسموح أو ممنوع؟ ممنوع ولا يجوز! وفي هذه الحالة يعتبر هؤلاء عرضة للمساءلة، وحتى الجهات الرسمية كتعليم البنات وغيرها تعمم على موظفيها ألاَّ يقوموا بمثل هذا العمل، بل وتسأل هل سبق وأن أقيم مثل هذا العمل؟ من أجل إقامة وإعداد التقارير لذلك ومحاسبة ومراقبة ومساءلة من يفعله.
إننا نعلم أن النصارى يقيمون أعياداً واحتفالات، وعندنا في ذلك وثائق، ويقيمونها بكل بجاحة ويقال: هذه مساكنهم الخاصة وهذه بيوتهم، ولا يمكن منعهم منها، بل يقيمون عباداتهم، وفي بعض الإسكانيات الرسمية، ويقال: هذه أمور خاصة لم يعلنوا بها بعد، أفلا يحق للمسلمين والمسلمات أن يجتمعوا على ذكر الله، وعلى القرآن وعلى السنة النبوية، وعلى طلب العلم النافع، ما هي الأفكار والمبادئ التي يمكن أن تنتشر؟ هل عهدنا وأسألكم بالله هل عهدتم حرباً لالصوفية بهذه الصورة؟ هل عهدتم حرباً للبدعة بهذه الصورة؟ هل عهدتم حرباً للفساد بهذه الصورة؟ إني أحلف بالله وأنا على اطلاع بأمور كثيرة أنني لا أذكر نموذجاً آخر لحرب أي شيء بمثل هذه الدقة والتحري والتعميم والملاحقة والمتابعة والتدقيق والحرص الشديد.
أفنريد أن نكون محاربين لله عز وجل ورسوله ولدين الله عز وجل؟!!! إني أدعو الجميع إلى أن يتوبوا إلى الله عز وجل وأن يكفروا عما فعلوا، وأن يعلموا أنه والله الذي لا إله إلا هو لا عزة لهم إلا بالإسلام، ووالله الذي لا إله إلا هو إن كل من يحارب الله ويحارب دينه ويحارب الدعوة، فهو مغلوب، والله إنه مغلوب، والله إنه مغلوب، لا ينصر من حارب الله عز وجل ليبشروا إن أصروا على هذا الأمر بالخيبة والخسارة والبوار، وأن يجعل الله تعالى بأسهم بينهم، وأن يسلط عليهم عدوهم، أو يسلط عليهم صديقهم.
إن العبد لا يأمن أن ينزل عليه عقاب الله وعذابه صباحاً أو مساءً بكرة أو عشية، إذا حاربنا الله عز وجل في الوقت الذي نرى الإعلام فيه بحال يحتاج الكلام عنها إلى تفصيل، ونرى الانحلال والفساد، ونرى التساهل حتى مع الأعداء الحقيقيين، ثم نجد هذه الحرب الضروس لبعض الفتيات المخلصات، فتلاحق وتؤذى، وتعرف أن البنت لها كرامة، فإذا استدعيت أو سجنت يوماً أو حقق معها الرجال، فإن كثيراً من الآباء يقولون: ما لنا في الدعوة، ومالنا في حِلَق تحفيظ القرآن، ومالنا في الدروس، ومالنا في العلم، إجلسي في بيتك ولا نريد شيئاً من ذلك فالله المستعان(248/22)
الحوار الإسلامي المسيحي
أما القضية الثانية: فأظن أن الوقت ضاق عنها لكني أشير إليها باختصار: وهي قضية ما يسمى بالحوار الإسلامي المسيحي، وهي أيضاً قضية خطيرة نشرت في صحفنا المحلية، نشرتها جريدة الندوة يوم الإثنين الثالث عشر من شوال، ونشرتها قبل ذلك في اليوم العاشر، وتحدثت عن الخبر في اللقاء المشترك بين بعض ما يسمونهم برجال الدين المسلمين ورجال الدين النصارى في اللقاء المسيحي الثامن، وكان من ضمن الشخصيات التي حضرت كما يقول علي جاد الحق شيخ الأزهر، وعصمت عبد المجيد، وبعض الدكاترة، وقال الدكتور موك وزير خارجية النمسا إن الحوار يعقد تحت شعار السلام للبشرية، ويهدف إلى تقريب وجهات النظر بين المسلمين والمسيحيين، والبحث عن الجذور المشتركة، وتجاوز الخلافات الشكلية، وعن الخلافات بين المسلمين والنصارى، وهذا نصراني لكن المشكلة في المسلمين الذين شاركوا، فهو يقول: إن الخلافات شكلية بين الإسلام والنصرانية ولكنها ترسخت بمرور الوقت نتيجة النتائج التاريخية السلبية التي شهدت العلاقة بين العالمين، وقال: إن الحوار يجئ في وقت مناسب لتصحيح الصورة التي تحاول وسائل الإعلام العالمية أن ترسمها من خلال الأحداث الدائرة في البوسنة والهرسك، وأشار أن الإسلام والمسيحية أعطيا درساً كبيراً في التعايش عبر التاريخ.
هذا كلام وزير فرنسي نصراني لا يعنينا، لكن المؤسف أن يصدر لقاء مشترك من المسلمين والنصارى، يقول: الإيمان بالله الخالق الرحيم، والتعاون في مواجهة تحديات الإلحاد، وإدانة الممارسات القمعية والتصفيات العرقية في البوسنة والهرسك.
إن ذلك التعاون في مواجهة تحديات الإلحاد، والإيمان بالله الخالق الرحيم يوهم بأن الله الذي يؤمن به المسلمون هو إله النصارى، والواقع أن النصارى يؤمنون بالثالوث: الأب، والابن، وروح القدس، كما حكى الله عنهم، قالوا: {إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة:73] وقالوا: {إن الله هو المسيح بن مريم} [المائدة:72] أما المسلمون فليسوا يؤمنون بإله مجرد لا يعرفونه لا، هم يؤمنون بالله، ويعرفون الله تعالى بأسمائه وصفاته رباً إلهاً معبوداً حكيماً عليماً له الأسماء الحسنى والصفات العليا، ولا يمكن أن يكون الله الذي يؤمن به المسلمون ويعبدونه هو الثالوث الذي يؤمن به النصارى، وهذا تلبيس وتدليس وتضليل للشعوب الإسلامية.
وكل من شارك في هذه المؤامرة سوءٌ من رابطة العالم الإسلامي، أو من الجامع الأزهر، أو من المفتين في مصر أو في غيرها أو من غير ذلك، فإنهم يكونون مشاركين في هذا.(248/23)
تعليق على الحوار
إن مثل ذلك هو نوع من جعل المسلم البسيط يشعر أن النصارى منه قاب قوسين أو أدني، ونحن نعرف اليوم أن النصارى أصبحوا يعلنون ما يسمونه بالإسلام العيسوي، ويقيمون كنائسهم على نمط المساجد، ويضعون فيها المنائر أحياناً، ويطبعون الإنجيل بطريقة القرآن على شكل صور القرآن، بل ويقرءونه بطريقة قرآنية، ويقدمون المنصرين على أنهم علماء وشيوخ، ويسمون الواحد منهم الشيخ عبد الله أو الشيخ محمد، ويخاطبون المسلمين فيضلونهم، وقد انخدع بهم الكثير من المسلمين فضلاً عمن دخلوا في النصرانية عن قناعة أنهم خرجوا من الإسلام ودخلوا إلى النصرانية.
هناك في الصومال أو في الأكراد، وفي جميع بلدان الدنيا من خرجوا من الإسلام ودخلوا في النصرانية دون أن يشعروا، وهذه اللقاءات تمثل حجراً في هذا السبيل؛ لأنها توهم المسلم المغفل بأنه ليس بين النصرانية والإسلام فرق، وكلها أديان سماوية معترف بها، مع أن المسلم الحق يعلم بأن النصرانية دين محرف منسوخ، وأن النصراني كافر، ولو مات على نصرانيته فهو من أهل النار قطعاً، ولا يحق له دخول الجنة، ولا يرحمه الله عز وجل لأنه مشرك، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] ويقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وهكذا قال عيسى عليه السلام للنصارى: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] وهم يقولون: إله واحد ثلاثة أقانيم: الأب، والابن، وروح القدس يؤمنون بهذا كله، ويؤمنون بالشرك، ويجعلون مع الله إلهاً آخر، كما قال الله عز وجل {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] .
ومع ذلك ينخدع بعض المسلمين، أو بعض الذين يمثلوا أهواء السياسة ومصالحها، فيلتقوا معهم في حوار، ويصدرون بياناً مشتركاً يحمل مثل هذه العبارات الفضفاضة! يجب أن يقيم المسلمون مؤتمراً عالمياً دورياً يرفضون فيه ذلك، ويستنكرون فيه إلزام النصارى على دينهم، ويدعونهم إلى الإسلام، ويقولون لهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] ويجب أن يقيم المسلمون مؤتمراً عالمياً يتنادون فيه ليشجبوا أعمال النصارى الذين يقتلون المسلمين ويتنادون لذلك في البوسنة والهرسك، وفي الصومال، وفي طاجكستان، وفي الفلبين، وأستطيع أن أقول وبكل وضوح: لا يوجد بلد يقتل فيها المسلمون إلا والنصارى طرف مباشر أو غير مباشر في ذلك.
نعم! إن العالم الغربي النصراني يتحالف ضد المسلمين، فهو يضغط على الحكومات من أجل التضييق على المسلمين، ومن أجل اتخاذ قرارات لصالحهم، ويضغط على الحكومات من أجل التمكين للنصارى، بل ويستخدم كل إمكانياته في تشويه صورة الإسلام، وما أحداث نيويورك عنا ببعيد؛ حيث استغلها الإعلام الغربي لتشويه صورة الإسلام الحقيقية.
ومع ذلك فإنني أقول لكم: إن في النية -إن شاء الله- وفي أقرب فرصة، هناك حديثاً بعنوان (حديث إلى الغرب) وسوف نخاطب فيه هؤلاء الغرب البغاة الجناة بلفظٍ صريح، ونطرح لديهم مجموعة كبيرة من الأسئلة الموجودة في ذهن كل مسلم، ونقول لهم كلمة الحق التي أمر الله عز وجل بها، فإنه لا تجوز المداهنة في دين الله تعالى نسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان.
اللهم انصر دينك وكتابك، يا حي يا قيوم، اللهم انصر سنة نبيك، اللهم انصر عبادك الصالحين، اللهم انصرنا في الفلبين، وانصرنا في الجزائر، وانصرنا في فلسطين، وانصرنا في مصر، وانصرنا في طاجكستان، وانصرنا في البوسنة والهرسك، وانصرنا في كل مكان، اللهم انصرنا فوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم إن المسلمين قد عجزوا فقوهم يا حي يا قيوم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم على من بغى عليهم، اللهم عجل لهم بالفرج يا حي يا قيوم، اللهم لا أمل إلا فيك ولا نصر إلا من عندك، فانصرهم يا ناصر المستضعفين، اللهم عجل لهم بالنصر، اللهم ارحم ضعفاءهم، اللهم ارحم أطفالهم، اللهم ارحم نساءهم، اللهم ارحم شيوخهم، اللهم ارحم قتلاهم، اللهم ارحم جرحاهم، اللهم ارحم قلوبنا التي أمضها التعب والألم يا حي يا قيوم، اللهم ارحمنا، اللهم عاملنا بعفوك يا حي يا قيوم، اللهم عجل بالنصر للمسلمين، اللهم أثلج صدورنا وأقر عيوننا بنصر لدينك يا رب العالمين.
اللهم إنك تعلم أننا ندعوك ونحن نعلم أن المسلمين قد عجزوا عن دعم إخوانهم إلا بأقل القليل، اللهم إننا ندعوك وأنت تعلم أن كل ما نريد ونفرح به هو نصر لدينك وإعلاء لشريعتك، وإحياءً لسنة نبيك، ورفع لمكانة عبادك المؤمنين، اللهم إنا ندعوك وأنت تعلم أنا لا نريد من ذلك رفعة أشخاص بأعينهم، ولا رايات في عينها ولا جهات بذاتها، وكل همنا نصر دينك وإعلاء شريعتك والدعوة إلى سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إن كنت تعلم ذلك فإنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، وأنت الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وأنت الذي هو على كل شيء قدير، وأنت الذي بكل شيء عليم، وأنت الذي له الأسماء الحسنى وله الصفات العليا، إنا نسألك بأسمائك وصفاتك أن تسلط البأس والذل على أعدائك في كل مكان، اللهم بيتهم في هذه الليلة يا حي يا قيوم، ومزقهم شر ممزق، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم أنزل عليهم بأسك، اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك يا إله الحق يا أرحم الراحمين، اللهم أفرح صدورنا بذلهم يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم الآفات والأمراض والعقوبات يا رب العالمين، اللهم سلط بعضهم على بعض، اللهم شتت شملهم، اللهم خالف بين قلوبهم، اللهم فرق ذات بينهم.
اللهم سلط بعضهم على بعض، اللهم وجه سلاح بعضهم على بعض، اللهم انج المسلمين منهم يا رب العالمين، اللهم انج المسلمين المستضعفين، اللهم لا تكلهم إلى أحد من خلقك، اللهم لا تكلهم لأحد من خلقك، اللهم إن أبواب الناس قد أغلقت وبابك مفتوح فيا واحد يا أحد يا كريم يا جواد يا واسع العطاء يا حي يا قيوم استجب لنا في إخواننا المسلمين، اللهم انصرهم في كل مكان يا رب العالمين، اللهم لا تكلهم لأحد من خلقك اللهم لا تكلهم إلى الناس ولا إلى أحد منهم يا حي يا قيوم، اللهم عجل لهم بالنصر، اللهم وحد صفوف المجاهدين المسلمين، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم أصلح قلوبهم، اللهم اجعلهم مخلصين لك، اللهم اجعلهم عاملين بكتابك، اللهم اجعلهم داعين إلى شريعتك، اللهم انصرهم وانصر بهم يا حي يا قيوم.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم اجمع كلمتهم ووحد صفهم، اللهم أغث الملهوفين والمستضعفين، وأخرج المسجونين، وفك أسر المأسورين، وأغني الفقراء، وأطعم الجياع، وأروِ العطاش، وقوي الضعفاء، وعَلِمِّ الجهال إنك على كل شيء قدير، اللهم يا رب يا الله دعوناك، فهذا هو الدعاء ومنك الإجابة، فإنا نسألك ونتوسل إليك بكل وسيلة مشروعة، نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العليا، ونتوسل إليك بأفعالك العظيمة التي سلفت منك، يا ذا الفضل العظيم، يا حي يا قيوم، يا واسع العطاء، ونتوسل إليك بأنا مسلمون نشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك، اللهم إنا نتوسل بذلك كله أن لا ترد دعاءنا، ولا تغلق دونه أبواب السماء في هذه الساعة المباركة يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(248/24)
نص الحوار
يقول الخبر ولا بأس بذكره لأنه خبر صحفي، فنحن لا نذيع سراً وقد نشر في جريدة الندوة، يقول: وقد مثل الجانب الإسلامي في هذا الحوار كل من: معالي الدكتور/ محمد معروف الدواليبي من المملكة العربية السعودية.
ومعالي الأستاذ/ كامل الشريف من المملكة الأردنية الهاشمية ومعالي الشيخ عبد الله من موريتانيا.
وسعادة الدكتور/ حامد الرفاعي من المملكة العربية السعودية.
وسعادة الدكتور/ عبد الستار أبو طالب مدير مكتب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي السعودية.
وسعادة الدكتور/ حسن الأهدل مدير إدارة المطبوعات في الرابطة.
سعادة الدكتور/ بهيج ملاحويج من أسبانيا.
ونشر أيضاً في الصحيفة السعودية ولم أسمع أحد استنكره، يقول: وانطلاقاً من الاعتقاد المشترك بإلهٍ واحد، ورغبة منا في تحسين العلاقات بين الناس، ونود التأكيد على قناعتنا بأن الإيمان يفرض علينا تحسين العلاقات بين بني البشر، كما ندرك تماماً أن التغيرات الهامة التي تمر بها الإنسانية في السنوات الأخيرة، ونشهد للمرة الأولى في التاريخ تجربة الوحدة العالمية للشعوب، وكذلك تجربة مصيرها المشترك، وفي هذه الأيام فإننا مسلمون ومسيحيون نتلاقى في كافة دروب العالم، ومن خلال مسيرتنا المشتركة نحو أهدافنا نشعر بالحاجة للحوار على الرغم من بروز النزاعات المتعددة في لقاءاتنا الكثيرة على مدى التاريخ، غير أنه بفضل العزيز الجبار احتل الحوار موضع المجابهة، ومع إحرازنا لتقدم واضح خلال العقود الأخيرة إلا أن الطريق ما زال طويلاً، ونحن مصممون على المضي فيه، إذ أننا مقتنعين أن الحوار أحد الأساسيات في الجنس البشري، وفي هذا الصدد فإن جلساتنا لم تعتمد على النظريات فحسب، بل قصدنا -أيضاً- بحث الاعتبارات العلمية لكل موضوع مطروح، فخلصنا إلى النتائج التالية: أولاً: في هذا العالم الذي يشهد تزايداً في غير المؤمنين نعلن نحن المسلمين والمسيحيين إيماننا بالإله الخالق الرحيم، وبالمقدرات الغيبية للإنسان.
-لا يشهد العالم تزايداً في عدد غير المسلمين، بل إن الشيوعية سقطت، والملحدون الآن قلوا وضعفوا ويجب على المسلمين بعد ذلك أن ينتقلوا من حرب الشيوعية والإلحاد إلى حرب النصرانية التي تعلن حربهم في كل مكان، هذا تعليق من عندي-.
ثانياً: نقبل التحدي الموجه إلينا من قبل الملحدين من كثير من المعاصرين، ونعلن بأننا سنعمل متعاونين في مواجهة هذا التحدي وفق منطلقاتنا الإيمانية، وبكل السبل التي تناسب روح العصر.
ثالثاً: نحن بحاجة إلى معرفة مشتركة أكثر صحة ونبلاً تبعدنا عن عدم الثقة المتبادلة فيما بيننا وتحملنا نحو الاحترام المتبادل، بحيث يصل بنا هذا الاحترام إلى تعاون طموح في كافة الميادين الممكنة.
رابعاً: نشعر بالألم لقيام بعض الصراعات المسلحة في بعض عالمنا.
خامساً: نطالب أن يتم للخوض والاعتراف بحق الحرية الدينية، وحرية التعبير وحرية التعليم وحرية الضمير، ونطالب أيضاً بحريات أقليات في البلاد التي تدين فيها الأغلبية بديانة أخرى.
سادساً: نشعر بواجبنا ومسئوليتنا للقيام بأعمال مشتركة لتفادي النزاعات الدينية والسياسية عن طريق الخطوات المشتركة من قبل المسلمين والمسيحيين.
سابعاً: لقناعتنا بالحاجة إلى الحوار بين الأديان، نعلن رغبتنا بزيادة فرص اللقاء على مستوى المؤسسات أو على مستوى الأفراد، ولهذا نطلب من المؤسسات التي قامت على تنظيم هذا اللقاء أن تدرس إمكانية تكثيف اللقاءات والتوصل إلى الالتزام بعقدها بصورة دورية.
ثامناً: والمشاركون في اللقاء الإسلامي والمسيحي يحمدون الله العزيز الجبار لقيام هذا اللقاء، ونريد أن نؤكد إيماننا أمام العالم الغير إيماني، كما نعلن التزامنا مع كافة الأفراد في حل المشكلة.
تاسعاً: اتفق الطرفان لعقد لقاءات دورية على هذا الحوار.
عاشراً: اتفقنا على ضرورة تشكيل سكرتارية مشتركة.
حادي عشر: اتفقنا على تأصيل قيم ومنطلقات في الحوار الإسلامي المسيحي عند الأجيال.
ثاني عشر: بذل الجهد من قبل كل طرف وبالوسائل المناسبة؛ لتخفيف حدة التوتر في مناطق التماس المشتركة بين المسلمين والنصارى -بين المسلمين والمسيحيين-كما يعبرون.
ثالث عشر: إدانة انتهاك حقوق الإنسان.
رابع عشر: الإهابة بالمنظمات الدولية والمؤسسات الثقافية.
أي: من أجل أن تولي قضايا حقوق الإنسان ما تستحقه.(248/25)
بين الصورة والحقيقة
تنقسم الأعمال إلى حقائق وصور، فالحقائق هي: معرفة فوائد هذه الأعمال وتطبيقها بإيمان وانتظار لوعد الله فيها، والصور هي: اتخاذها عادة يقوم بها الإنسان بشكل روتيني يخلو من قوة وهمة تدفعه للمعالي، وفرق بين مجتمع الصحابة مجتمع الحقائق، ومجتمعنا مجتمع الصور، فالمطلوب هو الحرص -أولاً- على تحويل العلم إلى عمل، ثم تحويل العمل إلى حقائق بدل كونه صوراً -كما هو حاصل كثيراً والله المستعان.(249/1)
فائدة المخيمات
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد: أيها الإخوة: أحييكم في بداية هذا المخيم المبارك، وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل هذه الأيام والليالي التي نقضيها خيراً لنا في ديننا ودنيانا، وأن يجعلها وسيلة للود والمحبة وتحقيق الأخوة فيما بيننا، وأن يجعلها فرصة للتدرب على الأخلاق الإسلامية التي وصف الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بها، فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29] .
أيها الإخوة: لقد عشنا سنة مضت في مخيم كهذا المخيم، ولا زالت ذكرى تلك الأيام التي قضيناها فيه ماثلة في أذهاننا، وما دفع الإنسان إلى المشاركة في هذا المخيم إلا ما رآه في تلك الأيام من التجاوب، والمحبة، والود، والأخوة التي جعلت الإنسان ينسى جميع الأشياء التي خلفها وراءه، ويعيش لحظات من الأخوة الإسلامية، والصفاء، (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، ثم لم يجدوا إلا أن يجالدونا عليه بالسيوف لجالدونا عليه) .
فالحمد لله الذي جعلنا من أهل هذه الخصال، ومن أهل هذه الصفات، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيدنا منها وأن يعيننا على أنفسنا.(249/2)
الفرق بين الصورة والحقيقة
أيها الإخوة: موضوع هذه المحاضرة -كما سمعتم- هو بعنوان: (بين الصورة والحقيقة) ولا أحب أن أتحدث طويلاً؛ لأن الحديث قد يكون فيه نوع من الملل، ولذلك فيمكن أن أتحدث بعض الوقت، لأترك فرصة لبعض الأسئلة التي قد تدور في الأذهان، وجوهر الموضوع الذي أريد أن أشير إليه إشارة عابرة، هو أننا نعاني -نحن المسلمين- في هذه الأيام بل ومنذ فترة طويلة، نعاني من وجود الصورة وغياب الحقيقة.
فصور الأعمال، والأقوال، والعقائد، موجودة عندنا، لكن حقائقها غائبة عنا، والعبرة دائماً هي بالحقيقة وليس بالصورة، فتمثال الأسد ليس أسداً، فلا يُخاف، ولا يُرهب، إنما الذي يُرهب هو الأسد الحقيقي، والصورة التي من خشب لا تحكي الحقيقة المشاهدة، والأمور التي جاءنا بها النبي صلى الله عليه وسلم سواء من أمور الإيمان، أم من أمور العبادات، أم من الأقوال، أم من الأفعال، لم يكن المقصود منها مجرد صورتها الظاهرة، وإن كانت الصورة الظاهرة مطلوبة، لكن كان المقصود الحقيقي هو الحقيقة نفسها، ولأضرب على ذلك بعض الأمثلة: لقد طلب الله سبحانه وتعالى منا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه سلم أن نؤمن به، وبملائكته، وكتبه، ورسله، ونؤمن باليوم الآخر، وما فيه من جنة ونار، ونؤمن بالقدر، وبالموت، هذه الأشياء طلب منا الله سبحانه وتعالى الإيمان بها، وقطعاً -والحمد لله- أن كل مسلم لا يشك في هذه القضايا من حيث الشك العقلي، فهو مقتنع بها، وما صار مسلماً إلا بذلك، لكن انظر وقارن: هذه الأشياء -التي نحن بحمد الله جميعاً مؤمنون بها- فستجدها هي نفسها الأشياء التي كانت الأجيال الأولى من المؤمنين أيضاً مؤمنة بها، فانظر كيف فعلت هذه الأشياء في واقعهم، ثم انظر كيف فعلت في واقعنا، تدرك أننا نحن نعيش الصورة، وهم كانوا يعيشون الحقيقة.(249/3)
الحقيقة عند الصحابة
كان الرجل من الصحابة -مثلاً- يأتي من الجاهلية، جاهلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، غير مؤمن بشيء من أمور الدين، ولا بأخلاق، ولا بخصائص جميلة، فيقف أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيخبره الرسول عليه الصلاة والسلام بأمور الإسلام والإيمان، وما يجب عليه، وخلال جلسات قليلة، أو ساعات قليلة، نجد هذا الإنسان قد انقلب خلقاً آخر، وتغير تغيراً جذرياً، تغير في سلوكه، وفي أخلاقه، وفي شخصيته، وفي نظراته، وفي تصرفاته، حتى كأنه هو ليس الشخص السابق، ولذلك صار يظهر منهم البطولات التي يقف الإنسان أمامها مبهوراً وهو يقرؤها على صفحات الكتب -مثلاً-، يستغرب كيف وصل بشر من البشر إلى هذا الحد، وأحياناً خلال فترة قصيرة جداً.(249/4)
قصة حرام بن ملحان
انظروا على سبيل المثال للقصة التي حكاها لنا الإمام البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أقف عندها مستغرباً ومتعجباً.
{بعث الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من أصحابه إلى أناس يدعونهم إلى الله سبحانه وتعالى، وكان من هؤلاء الصحابة: حرام بن ملحان، وهو خال أنس بن مالك، فذهبوا إلى هؤلاء القوم، فلما اقتربوا منهم، قال لهم حرام بن ملحان: دعوني أنا أذهب رسولاً إلى هؤلاء القوم طليعة لكم، فذهب إليهم، ووقف أمام زعيمهم، وهو: عامر بن الطفيل يدعوه إلى الله، ويبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبين له، ويقرأ عليه القرآن، وبينما كان هذا الرجل -وهو حرام بن ملحان - مستغرقاً في شرح الإسلام لهذا الكافر العنيد، جاء رجل من خلفه؛ فأشار إليه هذا الكافر أن اقتل حرام بن ملحان.
وكان من عادة العرب حتى في كفرهم وجاهليتهم، أنهم لا يقتلون الرسل، وهذا عرف سائد عندهم، لكن لما صارت المعركة بين الإسلام والكفر، نسي العرب كل عاداتهم، وتقاليدهم في سبيل حرب الإسلام؛ فأشار عامر بن الطفيل -هذا الكافر العنيد- إلى رجل خلف حرام بن ملحان يأمره بأن يطعنه، واسم الرجل الطاعن: جبار بن سلمى، فجاء جبار هذا وأخذ الخنجر وسدده إلى بطن حرام بن ملحان وهو يتكلم، وفوجئ بهذا، فظهر الدم وبقوة، وانفجر من بطنه} هذا موقف -إلى الآن- طبيعي.
لكن الأمر الذي تقف عنده مستغرباً، وخاصة حين تعلم أن القصة صحيحة -كما قلت لكم- وفي صحيح البخاري، أن حرام بن ملحان لما فار الدم من جوفه استقبل الدم بيديه هكذا، حتى امتلأت يداه من الدم، ثم نثره على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة]] سبحان الله! الدنيا والحياة هي كل شيء، هي رأس مال الناس، هذا الرجل الآن وهو يغادر الدنيا، يقول: (فزت ورب الكعبة) لماذا فاز؟ لأن الدنيا عنده ليست كل شيء، فهو مؤمن، يدرك أن الدنيا ليست إلا مرحلة إلى الآخرة، ويدرك أن الميتة التي ماتها في سبيل الله هي مهر دخوله الجنة -بإذن الله- ولذلك قال: (فزت ورب الكعبة) إلى الآن والقصة -كما قلت- لكم في البخاري.
تذكر بعض المصادر الأخرى، أن الرجل الذي طعن حرام بن ملحان وهو جبار بن سلمى، وقف مستغرباً، كيف أن هذا الرجل الآن يلفظ أنفاسه، ويغادر الدنيا، ويترك زوجته، وأولاده، بل ويترك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا، في الحياة، يغادرها إلى الآخرة، ومع ذلك يقول: فزت ورب الكعبة، لماذا؟! بماذا فاز؟! هذا الإنسان إذاً لابد أن عنده إيمان حقيقي بشيء آخر وراء هذه الدنيا، جعله يفرح بالموت في سبيل الله، وما زال هذا الشعور يلح على جبار بن سلمى القاتل حتى أسلم، وحسن إسلامه.
هذه الصورة -أيها الإخوة- لماذا حصلت؟ حصلت لأن حرام بن ملحان شأنه في ذلك شأن الصحابة كلهم، وشأن الأجيال التالية لهم: من التابعين، والمؤمنين، والعلماء، والصالحين، كانوا يعيشون الإيمان حقيقة في قلوبهم، أما نحن فهذه الصورة لا تتكرر إلا قليلاً؛ لأن الإيمان عندنا صورة وليس حقيقة، فنحن مؤمنون بأن هناك جنة وناراً، ومؤمنون بأن الإنسان لابد أن يموت، ولابد أن يكون مصيره أحد الأمرين ولا محالة، لكن الفرق: أن إيماننا صوري، وأن إيمان حرام بن ملحان حقيقي.(249/5)
الصورة عندنا
لينظر كل واحد منكم، ويتأمل في نفسه!!(249/6)
الإيمان بالجنة
لو أنك تذكرت -مثلاً- الجنة، ضع في ذهنك أو تصور الجنة، وقد وصف الله لك الجنة، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وهو العليم الخبير: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] فحينما يذكر لك الله وصف الجنة، لابد أن هذا الوصف دقيق جداً، وأيضاً هو وصف كما قال الله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة:25] .
فلا يمكن لأحد أن يتصور الجنة تصوراً حقيقياً كما هي، إنما يُقرِّبُها، وإن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إنما لا يمكن للإنسان أن يتصور ما في الجنة أبداً، مهما يبلغ به من الخيال لا يمكن أن يتصور هذه الجنة، ثم تصور أن هذه اللذات التي في الجنة، وأعظمها رضوان الله، ولذة النظر إلى وجهه الكريم، هذه اللذات لا يحول بينك وبينها إلا أن تموت، أنت الآن قد تكون سعيداً في حياتك بعض السعادة، لكن هذه السعادة الكلية الموعودة للمؤمنين، لا يحول بينك وبينها إن كنت مؤمناً إلا أن تموت فقط.
فلو سيطر هذا الشعور سيطرة حقيقية على الإنسان لكان يقلب نفسه ظهراً على عقب، ولأصبحت الحياة عند الإنسان مرحلة عادية، وتكررت البطولات التي كنا نسمعها في التاريخ عن آبائنا وأجدادنا.(249/7)
الإيمان بالموت
تصور معي نموذجاً آخر للفرق بين الصورة والحقيقة: قضية الموت: الموت يؤمن به حتى الكفار، وقد حكى الله عنهم في القرآن أنهم يقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [المؤمنون:82] فالكافر نفسه يعرف أنه سيموت، وأنه سيكون تراباً -فضلاً على الموت- ومع ذلك جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع وذكر منها ويؤمن بالموت} .
فهل يوجد أحد لا يؤمن بالموت؟ فمن حيث العقل لا يوجد أحد إلا ويؤمن بأنه سيغادر هذه الدنيا، بما معناه أنه سوف يموت، إذاً ما هو المطلوب منا؟ ماذا يريد منا الرسول عليه الصلاة والسلام حين يطلب منا أن نؤمن بالموت؟ ما دام أنَّا عارفون أن الموت واقع، بل والكفار أيضاً عارفون أن الموت واقع، فلماذا اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نكون مؤمنين أن نؤمن بالموت مثلما نؤمن بالبعث بعد الموت.
أقول: ما هو الشيء الذي يطلبه منا الرسول عليه الصلاة والسلام؟ يطللب منا ذلك لأمرين: الأول: أن نؤمن بما يحصل بعد الموت، -على سبيل المثال- بعذاب القبر، بنعيم القبر أيضاً، بفتنة الملكين في القبر هذا شيء.
والأمر الأساسي المطلوب منا -أيضاً- أن تَحوَّل القناعة بالموت عندنا من صورة إلى حقيقة، هي الآن موجودة عندنا هي عند غيرنا من الناس، لكن وجودها صورة فقط، من حيث العقل أنا عارف أني سأغادر الدنيا، لكن يوجد فرق بين إنسان عارف أنه سوف يفارق الدنيا، فيقول: هات، دعني أعب من اللذات عباً، ودعني أستمتع بالملذات؛ فإن العمر قصير، مثلما يقول عمر الخيام في رباعياته وغيره من الفساق، الذي يقول: (هات اسقني من الخمر، واعطني من اللذات، لأتمتع لأن العمر قصير) .
فرق بين إنسان يؤمن بالموت بالطريقة هذه، وبين إنسان يؤمن بالموت من منطلق أن الموت هو بداية وليس نهاية، أن الموت بداية للمراحل الحقيقية من الآباد والآمال التي لا تنتهي.
ومن هنا يكون الموت دافعاً له ليعمل، ويجاهد في سبيل الله، يجاهد نفسه، ويجاهد من حوله، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يتعلم، إلى آخره.
فالفرق بين الصورتين في ذلك، صورة الموت كحقيقة واقعة موجودة في أذهان الجميع، لكن تحَوُّل هذه الصورة إلى شعور في القلب، ويقظة في الضمير هي المطلوبة.(249/8)
حقيقة الصبر عن الشهوات
ولذلك ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم -ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله-: {رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله} .
هذا الرجل يعيش حقيقة الخوف من الله، ولذلك كف عن المعصية.
وفي قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، حتى إن كل واحد منهم دعا الله بعمله الصالح، فأحدهم قال -ما معناه: {إنه كانت له ابنة عم يحبها كأشد ما يكون الحب، فاحتاجت في يوم من الأيام فطلبت منه مالاً، فأبى إلا أن تخلي بينه وبين نفسها؛ ولأنها كانت محتاجة فاضطرت إلى ذلك، فلما أعطاها المائة دينار أو أكثر من ذلك، وجاء إليها، قالت له: يا فلان؛ اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه} فتذكر، فابتعد عنها وترك عندها الدراهم، ما الذي دفعه؟! الآن الدافع قوي إلى الفاحشة، رجل شاب أمامه امرأة شابة جميلة يحبها وقد خلت بينه وبين نفسها، كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: امرأة ذات منصب وجمال، وهي التي دعته إلى نفسها -أيضاً- ومع ذلك كله وُجِد عند هذا الرجل مانع أقوى من هذا الدافع، وجد عنده قوة إيمان تحول بينه وبين مقارفة هذه المعصية.
انظروا إلى سورة يوسف عليه الصلاة والسلام: رجل في قصر الملك -قصر العزيز - في بلد لا يعرفه أحد فيه، وهو في منتهى الجمال، وفي حيوية الشباب، تأتيه امرأة العزيز وهي لابد أن تكون جميلة، وهي سيدته التي تأمره فلا يستطيع أن يعصي لها أمراً، وهو لا يخاف من فضيحة دنيوية؛ لأنه لا أحد يعرفه، ومستبعد أن يفتضح الأمر، ومع ذلك كله تراوده عن نفسها وتبذل له الأساليب والحيل وتهدده بالسجن، ومع ذلك يقول: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] هل كان يوسف -مثلاً- ليس عنده حيوية الشباب؟ أبداً، يوسف كغيره من الناس، ويثور في نفسه ما يثور في نفس غيره، وقد ركب الله في نفس كل إنسان أن يكون عنده ميل إلى المرأة، لكن قوة الإيمان جعلته يستعلي على كل هذه المغريات ويثبت بتوفيق من الله {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] .
إذاً، الإيمان الذي يمكن أن يدفع إلى الأعمال الصالحة، وإلى الرجولة، وإلى البطولة، والإيمان الذي يمكن أن يحجز الإنسان عن المعاصي والموبقات، ليس هو الإيمان الصوري الذي نحفظه بألسنتنا، (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) ليس ترديد هذا الكلام هو الذي يجعل الإنسان يمتلك الدافع القوي إلى الطاعات، والمانع القوي عن المعاصي والموبقات؛ إنما الإيمان الذي يدفع الإنسان إلى عمل الخير، ويحجز الإنسان عن العمل السيئ، هو أن تتحول هذه الكلمات إلى حقائق في القلب، ويصبح الإنسان يرى ويتصور الآخرة كأنها رأي العين، ويعلم أن الله يراقبه حيثما كان، وهذه التي وصفها الرسول عليه الصلاة والسلام حينما قال في تعريف الإحسان {أن تعبد الله كأنك تراه} .(249/9)
استشعار المراقبة
تصور -يا أخي- لو أنك -فعلاً- تشعر أن الله يراقبك، تصور للحظة فقط هذا المشهد، أنت ذاهب وآيب، تصور أن الذي أبدعك، وأوجدك في هذه الدنيا، منّ عليك، وأعطاك النَفَسَ الذي تتنفسه، والماء الذي تشربه، والطعام الذي تأكله، الذي أنعم عليك بكل شيء؛ تصور أنه يراقبك، وقد قال لك: افعل كذا واترك كذا، بأي نفسية سوف تعصيه، وبأي نفسية سوف تخالف أمره، الحقيقة أن مع الإيمان القوي يبعد جداً أن يقع الإنسان في معصية، أو أن يخالف عن طاعة؛ لأنه يشعر -فعلاً- بالرقابة الإلهية، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه بها أبصارهم وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن} هل معنى ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئاً من هذه المعاصي يكون قد كفر وخرج من الإسلام وهو يعلم أنها حرام هل يكفر؟ لا يكفر كفراً أكبر، لا، إنما المقصود أن حقيقة الإيمان خرجت من قلبه -حقيقة الإيمان بمعنى كمال الإيمان- الإيمان القوي الرادع عن فعل المعصية، خرج من قلبه في تلك اللحظة، ومعنى ذلك أنه لو تصور -فعلاً- وهو يزني أن الله يراه، هل يمكن أن يقع هذا العمل؟ أبداً؛ لكن في لحظة المعصية غاب الإيمان الحقيقي من القلب، وبقيت الصورة، ولذلك -أيضاً- ورد عن ابن عباس أنه قال: [[إن العبد إذا زنى ارتفع الإيمان من قلبه حتى يكون فوق رأسه كالظلة، فإذا تاب رجع إليه]] إذاً الإيمان الحقيقي هو الذي يخرج أو يغيب أثناء فعل المعصية، فإذا تاب الإنسان من فعل هذه المعصية، وأقلع منها، عاد إليه الإيمان.(249/10)
الحرص على تحويل العلم إلى عمل
ولذلك أقول: إننا -أيها الإخوة- ليست حاجتنا الآن فقط إلى أن نعلم -وإن كان العلم مطلوب بلا شك- لكن حاجتنا -أيضاً- إلى أن نحقق ما نعلم، بمعنى أنك أنت الآن تصلي الصلوات الخمس، وربما تحدث نفسك كثيراً بأني أريد أن أدرب نفسي على أن أقوم أصلي من الليل -مثلاً- هذا طيب، وصلاة الليل مطلوبة بلا شك، لكني أقول: وأنت تفكر في أنك ستقوم الليل، أو سوف تزيد من النوافل التي ستصليها، فكر في أمر آخر: الفرائض التي تصليها هل تؤديها بصورة حقيقية أم أنها شكل صوري فقط؟ الذي أعتقد أنه لو أديت الفرائض بشكل حقيقي، سوف تسهل عليك النوافل، وسوف يسهل عليك القيام، بل سوف تصبح العبادات عندك لذة بعدما تجاهد نفسك على ذلك؛ لكن لأنك تؤدي الفرائض بشكل صوري أكثر مما تؤديها بشكل حقيقي؛ ضعف تأثيرها، انظر معي في صفات المصلين في القرآن الكريم، قال تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:22-34] هذه صفات المصلين، فأعظم صفة وصفهم الله بها أنهم المصلون (إلا المصلين) ثم ذكر باقي الصفات، كلنا نصلي -والحمد لله- لكن نفتقد كثيراً من الصفات، لأن الصلاة عندنا تحولت من حقيقة إلى صورة.(249/11)
تحويل الأعمال من صور إلى حقائق
فالأمر الذي أدعو نفسي إليه وأدعوكم ثانياً إليه، أن نحرص على أن نحول أعمالنا من صور إلى حقائق، لا مانع من زيادة العمل، ومضاعفة العبادة، والذكر؛ لأن هذا مما يساعد على تحويل الصورة إلى حقيقة، لكن يجب أن نركز في جهاد قلوبنا، لنستطيع أن نحول إيماننا -أقصد بالإيمان معناه الكامل الذي يشمل الإيمان القلبي، ويشمل نطق اللسان، ويشمل عمل الجوارح- نحول هذه الأشياء كلها من كونها صوراً إلى كونها حقائق، هذا ما أحببت أن أقول في هذه العجالة السريعة، وأستغفر الله لي ولكم.(249/12)
الأسئلة(249/13)
في تفسير (وهَمَّ بها)
السؤال
ما هو المقصود بقوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] .
أرجو التوضيح؟
الجواب
العلماء والمفسرون، درج كثير منهم على أن يفسروا (الهم) هنا بمعنى غير متبادر، فيقولون -مثلاً- كما سمعتم ربما في القصيدة المشهورة: وهمت به لكماً وهم بضربها يقول: هي همت به تريده، وهو هم بها يضربها، ويقصدون من وراء ذلك أنهم ينزهون يوسف عليه السلام من ذلك باعتباره نبياً مرسلاً أن يهم.
ولكن الذي يبدو -والله أعلم- أن الآية على ظاهرها، وأن يوسف عليه السلام حصل منه ما أخبر الله بقوله: (وهمَّ بها) على ما يتبادر من ظاهر المعنى، وما معنى الهم؟ الهم: هو حديث النفس، أو هو نوع من حديث النفس، وهذا أمر ليس هناك ما يدل على أنه لا يمكن أن يقع من يوسف عليه السلام أو من غيره، فهذا الذي يظهر من معنى قوله: (وهمَّ بها) ولذلك لما وصف الله سبحانه وتعالى أصحاب الجنة قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] .
فهذا الإنسان الذي خاف مقام ربه هل حصل في نفسه هوى أو لم يحصل؟ حصل لكن هل استجاب لهذا الهوى؟ لا، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] والهوى: تحرك في نفسه، لكن الفرق هنا بينه وبين الإنسان الذي أتبع نفسه هواها، أن ذلك الإنسان كلما هوي شيئاً فعله، أما المؤمن فإنه ينهى النفس عن الهوى، فيدور الهوى في نفسه فيعصيه، وهذه ميزة المؤمنين، وهذا ما يبدو لي أنه قرره عدد من العلماء المحققين، أيضاً بقية الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فالظاهر ما قررت، (همَّ بها) يعني: جاس في نفسه حديث بهذه المناسبة حينما أقبلت عليه، ولكن لا يعني ذلك أنه عزم على فعل المعصية؛ لأن هذا لا يفهم من كلمة (وهمَّ بها) نعم فالهم -كما قلت-: هو نوع من حديث النفس دون العزم، -فمثلاً- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ولقد هممت أن آمر بالصلاة} يعني هم ولم يفعل، حدثته نفسه بهذا الأمر لكن لم يفعل.(249/14)
مجاهدة النفس
السؤال
فضيلة الشيخ! ما هو الذي يعين على سلوك هذا السبيل الذي يؤدي إلى الحقيقة؟
الجواب
هذا موضوع طويل، المعين على سلوك هذا السبيل، يمكن أن أقول: لو تحدثنا عن هذا السبيل لكان مجال تطبيقه هو حياة المسلم كلها؛ لأن المؤمن لا يزال في جهاد من يوم أن يبلغ سن التكليف إلى آخر لحظة من عمره، وهو في جهاد، هذا الجهاد المطلوب هو الذي به تتحول الصورة إلى حقيقة، وربما أكثركم سمع أشياء كثيرة جداً بهذا المجال: الصلاة مثلاً، قراءة القرآن، صحبة الطيبين، طلب العلم، كثرة الذكر، الكف عن المعاصي، إلى غير ذلك من الأعمال التي تقوي الإيمان.
ولكن هناك أمر آخر هو الذي ربما أشرت إليه إشارة عابرة، وهو: مجاهدة القلب، التذكر، تذكر هذه المعاني بحيث أحرص على تربية نفسي على هذه الأمور، فأحياناً تمر بك لحظات مثلما ذكرت، تتصور بها الجنة، ونعيم الجنة، وأنه لا يحول بينك وبين الاستمتاع بهذه الأشياء إلا الموت فقط، فلما تسيطر هذه الفكرة عليك تجد أنها -فعلاً- حركت قلبك.
العذاب -أيضاً- عندما تمر بك لحظات تتفكر بعذاب جهنم وكيف حجم العذاب، وطاقة الإنسان، أو عذاب القبر -مثلاً- وأنه لا يحول بين هذا الإنسان وبين هذا العذاب إلا أن يموت.
هذه الأشياء التي تجعل المعاني تتحول إلى حقائق في القلب في الحقيقة، ولذلك أقول لا تيأس حاول ثم حاول ثم حاول ثم حاول، وإذا حصلت على أدنى النتيجة فافرح بها؛ لأن الشيطان يأتي الإنسان وهو يحاول الترقي والصعود فيقول له: أنت بذلت جهدك، وحاولت وحاولت -مثلاً- حاولت أن تخشع في الصلاة ولم تنجح، حتى يقنع الإنسان، فيقول له: اجعل نفسك مثل غيرك، صلِّ كصلاة غيرك ولا تحرص على العناية بالنية.
بل ربما يكون للشيطان مدخل أخطر من هذا، أنا اقو ل لكم هذا وأنا أتوقع أن يكون عدد منا يأتيه الشيطان من هذا المدخل، يقول لك: الشيطان عندما تبدأ تفكر في هذه الأمور وتعد نفسك للخوف من الله، وتذكر الجنة والنار، يبدأ الشيطان -أحياناً- يلقي إليك بعض الوساوس، وبعض الأوهام، وبعض الشبهات في قلبك، فيقول لك الشيطان بالطريقة هذه، يقول لك: الطريق مخيف، اجعل إيمانك مثل إيمان العوام، لا تفكر أو تحاول أن تحول الإيمان إلى إيمان حقيقي؛ لأن هذا خطأ يمكن أن يؤدي بك إلى أن تتخلى عن الإيمان بالكلية، أحياناً يأتي الشيطان من هذا المدخل، ولا أدري هل هو واضح أم لا؟ أيضاً وللمزيد من الإيضاح: عندما يرى الشيطان أنك توجهت إلى تحويل إيمانك إلى حقيقة وحاولت ملئ قلبك بالمعاني الإيمانية -مثلاً- تبدأ تتذكر عظمة الله ومخافة الله فعندما يأتي الشيطان فيلقي في قلبك شبهة من الشبهات الكثيرة، التي مازال الشيطان يلقيها في قلوب الناس، فإذا رأيت أنت أن الشيطان جاءك من هذا الطريق وألقى هذه الشبهة، ضعف عزمك، جاءك الشيطان وقال لك: ربما يكون هذا الطريق الذي بدأت به الآن، طريق تحقيق الإيمان، يجعلك تفكر في أمور كثيرة، وتوسوس في أمور كثيرة، حتى يزول إيمانك، وتترك تحقيق الإيمان، ويرجع الإيمان كإيمان العوام، يصلون، ويصومون، ويقرءون وهكذا.
فيخيفك الشيطان بالوساوس عن مواصلة الطريق، وهذا ليس بغريب؛ لأن هذه مهمة الشيطان، لكن المؤمن لا يقبل هذه الوسوسة، ويدرك أن الله عز وجل وعدنا وعداً قاطعاً في القرآن الكريم بأن نتيجة الجهاد ليست هذه، بل نتيجة الجهاد -قطعاً- هي الهداية، وهذا أمر قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وهذا وعد، والله لا يخلف الميعاد، المهم أن تجاهد -أولاً- وأن تجاهد في الله، فيكون جهادك لله وفي الله، وإذا حققت لنفسك هذين الأمرين فاقطع قطعاً بأنه سوف يتحقق لك الأمر الثالث، وهو: (لنهدينهم سبلنا) وإذا حدث لك نقص في الهداية، فاعلم أنه بسبب نقصٍ في المجاهدة عندك، أو بسبب نقصٍ في النية -أيضاً- لأن الإنسان قد يجاهد نفسه في أعمال الخير، ولكن لا يكون جهاده لله تماماً، يمكن أن يكون جهاده لأجل الشهرة، قد يطلب الإنسان العلم طلباً جاداً، ولو فتش في قرارة قلبه لوجد أنه يريد في المستقبل أن يكون عالماً يشار إليه بالبنان، يقال له العالم فلان بن فلان، فهذا وإن جاهد إلا أن الجهاد ليس متحققاً بالشرط الثاني وهو: فينا (جاهدوا فينا) -أي: في الله- فحقِّق الأمرين: الأمر الأول أن تجاهد -فعلاً- وتبذل الجهد، الأمر الثاني: أن يكون جهادك في الله لا من أجل فلان ولا من أجل أمر آخر.(249/15)
تخفيف العيوب
السؤال
فضيلة الشيخ! أنا شاب أحب أن ألفت انتباه إخواني وزملائي إليَّ، فأجمل نفسي وأتشوق بالكلام، وأظهر قراءتي لهم، ولا أمتثل لأمر إخواني؛ لأني أحس أني لو أطعتهم في كل شيء لأصبحت لا قيمة لي، علماً أني أحب أن أكون عالماً ومثقفاً وعابداً، وقد أعمل بعض الأعمال التي تقرب من هذه الأشياء؟
الجواب
نعم، الأخ يشير إلى نَواحٍ معينة قلما يخلو منها إنسان، فكلنا فينا عيوب، ونسأل الله أن لا يفضحنا، ولو علم الناس أو علم كل إنسان ما في الآخر من العيوب لربما ما وجدت الإخوة الحقيقية، لكن من رحمة الله أنه يستر على عباده في الدنيا، وإن شاء الله إذا ستر الله على عبده في الدنيا، فهذا مدعاة إلى أن يستر الله عليه في الآخرة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر أنه قال: {إن الله يدني عبده المؤمن يوم القيامة منه، فيقول له: أتذكر ذنب كذا، أتذكر ذنب كذا، أتذكر ذنب كذا، فيقول: نعم يا رب، لا ينكر منها ذنباً واحداً، فيقول الله عز وجل أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} فنحمد الله الذي سترنا، ونسأله أن يجملنا بستره إلى يوم أن نلقاه، بل وأن يسترنا -أيضاً- في يوم القيامة، يوم تبلى السرائر.
وأقول للأخ: ما دام أن الأمر هكذا، كل إنسان عنده عيوب، فالمفروض أن الإنسان يسوس نفسه سياسة حكيمة، ومن السياسة الحكيمة للنفس، أن الوصول للكمال لا يتم دفعة واحدة، وإنما يتم عن طريق محاولة تقليل العيوب، ومحاولة تكثير الإيجابيات والحسنات، فإذا رأيت في نفسك خصلة طيبة فنمِّ هذه الخصلة.
مثلاً: تحب العلم، هذه خصلة طيبة نمِّ هذه الخصلة واعَتْنِ بها.
تحب القراءة، تحب العبادة، هذا عمل عظيم، نمِّ هذه الخصلة، والخصال التي تنتقدها على نفسك حاول أن تقلل منها، وحاسب نفسك، وما رأيت شيئاً أجمل وأعظم للإنسان من محاسبته لنفسه، حتى بعد أن ينتهي الموقف، نفترض أنك في موقف من المواقف تصرفت تصرفاً معيناً وانتهى الموقف، لابد أن تراجع الحساب، وتتذكر هل كان موقفي جيداً أم ضعيفاً؟ وماذا كان يجب أن أفعل؟ لكي تستفيد أنت من أخطائك.
إذا كان الإنسان مطلوباً منه أن يستفيد من أخطاء الآخرين، فما المانع أن يستفيد من أخطائه هو؟ فكل موقف يمر بك حاول أن تتذكره بعد فواته، وانظر ما هو الأجدر بك؟ هل كان الأجدر أن تفعل كما فعلت؟ أم أن تفعل فعلاً آخر أجمل منه وأحسن؟ وبذلك تستطيع أن تقلل من عيوبك وأخطائك وتكثر من حسناتك وفضائلك، حتى يطغى الخير على الشر، والرجل الطيب ليس ملكاً من الملائكة، لا، إنما هو رجل تغلب حسناته على سيئاته، تغلب خصال الخير فيه على خصال الشر، لا أكثر.(249/16)
ميزان معرفة العمل
السؤال
الحمد لله وبعد، قد يصعب على المرء معرفة حقيقة أعماله، أو بعضها: أهي من قبيل الصورة أم من قبيل الحقيقة، فهل هناك ميزان ثابت يمكن أن نحاكم إليه أعمالنا؟
الجواب
نعم، هناك ميزتان، ولعلي أشرت إليها وهما أن الأعمال الحقيقية تترك أثراً، والأعمال الصورية لا تترك أثراً، اللهم إلا قليلاً جداً، فأنت إذا صليت وانتهيت من الصلاة، اسأل نفسك، أنت قمت بعبادة ووقفت بين يدي الله، لكن بعد ما أنهيت الصلاة هل تحس بأن قلبك تغير وازداد أم لا؟ إذا لاحظت أن فلاناً الذي دخل بالصلاة هو فلان الذي خرج من الصلاة، ربما كان قبل الصلاة يفكر بأمر منكر، حتى في أثناء الصلاة يفكر فيه، وبعد الصلاة لا زالت النفس تدعوه إلى هذا المنكر، إذاً الصلاة هنا صورة وليست حقيقة، لكن إذا كنت أحس إذا خرجت من الصلاة -فعلاً- أحس بانتعاش بقلبي، وأحس بيقظة، وأحس بحرارة من الإيمان ولو شيئاً قليلاً، فهذا دليل على أن الصلاة فيها شيء من الحقيقة، ولو بعض الحقيقة.
انظروا أيها الإخوة: المسلمون كانوا يصلون صلاة الخوف وهم في وجه العدو، ويركعون، ويسجدون، أو يومئون، مما يوحي أن الصلاة أمر عظيم لا يشغل عنه شيء، فكيف بالإنسان منا وهو يصلي بحال الأمن والاطمئنان، وتوفر كل ما يحتاجه، ومع ذلك لا تجتمع الهموم والهواجس عند الإنسان إلا في الصلاة، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان إذا أقيمت الصلاة أقبل حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا} هذا هو الحاصل، يحول الشيطان بينك وبين صلاتك حتى إنك -أحياناً- لا تستذكر الصلاة إلا عند التسليم أو قرب التسليم، وأحياناً يتذكر الإنسان أنه غافل عن الصلاة وهو -مثلاً- في التشهد الأخير، فيقول: هذه الصلاة انتهت، ليس هناك فائدة أن أخشع فيها، لكن في الصلاة القادمة.
أقول: لا، حتى لو لم تمتثل بالخشوع في الصلاة إلا قبل التسليم وأنت تدعو بالدعاء: (أعوذ بك من عذاب جهنم) حاول أن تستدرك الباقي، وحاول أن تستحضر معنى ما تقول: فهذا ميزان لا يخطئ في الفرق بين الحقيقة والصورة، الأعمال الحقيقية تترك أثراً على الإنسان والأعمال الصورية لا تترك أثراً.(249/17)
زيادة الإيمان ونقصانه
السؤال
من نعم الله تعالى علينا أننا نتأثر بما يقال، ولكن هذا التأثير قد يكون وقتياً عند بعضنا، فما هو الطريق إلى المحافظة على هذا التأثير وفقك الله؟
الجواب
أما الطريق للمحافظة على هذا التأثر، فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لما جاء حنظلة إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر نافق حنظلة، قال أبو بكر: وما ذاك؟ قال: والله إنا نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال نسمع القرآن والذكر؛ فإذا خرجنا من عنده خالطنا الأولاد، والأموال، والضيعات ونسينا كثيراً، فقال أبو بكر: وأنا والله كذلك، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو تكونوا في كل حال كما أنتم عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات أو في أفواه السكك} .
فالإنسان لا يمكن أن يستمر على حال من الإشراق والارتفاع، الإنسان له خط -كما يسمونه بياني- أحياناً يرتفع وأحيان ينخفض، وهذا أمر يجب أن لا نتضايق منه، بل قد قرره الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {لكل عابد شرة -الشرة هي الحدة والارتفاع- ولكل شرة فترة} يعني: كل عابد له حالة يرتفع فيها ويلين قلبه ويشرق، وله حالة فترة يفتر فيها ويضعف ويتحول إلى حال طبيعي أو أضعف من حال طبيعي، {فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى بدعة فقد هلك} المهم أن يكون عندك حد أدنى لا تنزل عنه أبداً، فإذا وجدت من نفسك خفة فاستجب لها واعبد الله واقرأ، وإذا رأيت من نفسك فتوراً أيضاً لا تتضايق، حاول أن ترفع نفسك قدر ما تستطيع، وتدرك أن هذا أمر طبيعي.
ومما يعين الإنسان على أن يكون قوياً في كل حال أن يكثر من مجالس الذكر، فما دام أن الله رزقك قلباً متقبلاً للخير، فيجب أن تكثر من سماع الذكر، وسماع الوعظ، وسماع القرآن، بحيث يكون الغالب عليك هو أن تكون نفسك مرتفعة، وقابلة للخير، ومتأثرة مما تسمع.(249/18)
المداراة وعدم تطبيق الحقائق
السؤال
كثير من الناس يردد أن هذا العصر هو عصر الماديات وليس عصر الحقائق، وأن الحقائق لا تنفع في هذا الوقت، بل لا بد من المجاملة في جميع نواحي الحياة، ويصعب تطبيق الحقائق؛ لأن المرء يفقد مقوماتٍ كثيرة في مقومات الحياة؟
الجواب
بوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه (باب: ما جاء في مداراة الناس) فنحن بدلاً من كلمة المجاملة قد نجد كلمة المداراة، كلمة أدق في التعبير، ووضع تحت هذا الباب حديثاً عن عائشة رضي الله عنها {أن رجلاً من الأعراب استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة هو! فلما دخل الرجل، هش الرسول صلى الله عليه وسلم في وجهه واستقبله ورحب به، فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله! قلت في هذا الرجل ما قلت، ثم بششت في وجهه! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إن من شر الناس من تركه الناس أو من ودعه الناس مخافة شره} .
فمداراة الناس مطلوبة ولا تنقض الحقائق، والإنسان لا بد أن يكون حكيماً في تصرفاته، ولا شك أن الناس في هذا الزمان ابتعدوا عن الخير والحق، وضعف إيمانهم، وكثرت الانحرافات عندهم، فلو جاء إنسان يريد أن يحمل الناس على طريق لا ينحرف قيد أنملة، ربما لا يستفيد من الناس؛ بل ربما أنه ينفرهم.
فالمطلوب من الإنسان أن يحرص على تنمية نفسه وترقيتها، وفيما يتعلق بالناس يأتيهم بالأسلوب اللين الحكيم اللبق، وإذا كان مطلوباً المجادلة بالتي هي أحسن مع غير المسلم فمن باب أولى مع المسلم أن تلاينه، وتلاطفه، وتأتيه شيئاً فشيئاً.
فمثلاً: لو لاحظت على إنسان معصيتين، إحداهما: صغيرة، والأخرى: كبيرة، قد يكون من غير المناسب أن تأتي له وتقول له: يا أخي! أنت عندك كذا، وعندك كذا، فتسرد عليه مجموعة من المعاصي، وكأنك تقول له: إنك مجموعة من الأخطاء، فربما لا يقبل منك شيئاً أبداً، لكن اذهب إليه وتحدث معه، وأثنِ عليه ببعض الخصائص التي فيه، وكل إنسان لا يخلو من خير ولو خصلة من خير، امدحه بالخصلة هذه، اثنِ عليه بالخصلة هذه، أو بموقف طيب له، فإذا شعر أنك قد أنصفته ذكرت له الخصلة الكبيرة التي وقع فيها، فإذا استجاب لك، بعد فترة يمكن أن تذكر له الخصلة الصغيرة وهكذا، فالمداراة والأسلوب اللين لا شيء فيه، والحقيقة يمكن يكون قصد السائل أمراً آخر غير هذا، فما فهمت من السؤال إلا هذا.(249/19)
الاستمرار على المجاهدة
السؤال
فضيلة الشيخ، أنا أحمد الله على المحافظة على الصلوات، ولكن الصلاة صورة، وأقول بعد الانتهاء من الفريضة: سوف أجعل الصلاة القادمة حقيقة، ولكن بدون فائدة؟
الجواب
قلت قبل قليل: لا تيأس، وموضوع المجاهدة ليس بالأمر البسيط؛ لأنه أمر يتعلق بالقلب، والتعامل مع القلب ليس بالسهل، وليس بإمكاني أن أحشو قلبي علماً، وإيماناً، وإخلاصاً، وإلا كان كل واحد منا ملأ قلبه بهذا، ولكن تجاهد كثيراً وتحصل على شيء، قد يكون في مقياسك قليل، لكنه في الحقيقة عظيم جداً، يعني قطرة من إيمان في قلب واحد منا قد تسعد هذا الإنسان في دنياه وأخراه.(249/20)
انتزاع النفس من البيئة الفاسدة
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا حدثتني نفسي في فعل معصية، فما هو السبيل لكبت هذا التفكير وإبعاده؟ أرجو الجواب بوضوح وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا همت النفس بالمعصية فَتَذكَّرَ أن الله يراك حيثما كنت، ولست مستطيعاً أن تعصي الله إلا في أرض الله، ولن تستعمل هذه المعصية بجوارحك إلا بما خلق لك الله ووهبك، تذكَّر أن الله عز وجل قادر عليك وعلى الانتقام منك في هذه المعصية، فحينئذ ستجد نفسك تقلع عن هذه المعصية.
لكن قد يكون تفكيرك بهذه الأشياء ما وصل إلى أعماق القلب، وقد يكون الدافع إلى المعصية أكبر، إذا كان الدافع إلى المعصية كبير والرادع عنها من الإيمان ضعيف، تغلبت جيوش المعاصي على جيوش الإيمان، وهذا أمر بدهي معروف، ولابد أن تفكر لماذا انتصرت نفسك عليك؟ لماذا انتصر الشيطان عليك ودعاك إلى الوقوع في هذه المعصية لنقص إيمانك.
إذاً: اعمل على زيادة هذا النقص في الإيمان، كما أن هناك أنواعاً من المعاصي يدرك الإنسان لماذا دعته نفسه للوقوع فيها.
فمثلاً: الإنسان -أحياناً- يعرض نفسه للمعصية، قد يجلس أحياناً مع أناس يحرضونه عليها، قد يضع نفسه في مواضع تدعوه إلى الإثارة، فهذه الأنواع من المعاصي، لا بد أن تنتزع نفسك من البيئة الفاسدة.
الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أراد أن يتوب، كان من ضمن الوصية التي أوصاها له العالم: هناك أناس بأرض كذا فاذهب إليهم، فذهب إليهم ومات في الطريق، ما هو الهدف من كون هذا العالم أوصاه أن ينتقل من بلده إلى بلدة فلان، فإن فيها قوماً يعبدون الله، لماذا؟ ليبتعد؛ لأن هذا الإنسان قتل تسعه وتسعين نفساً مما يدل أن عنده شيئاً من الجريمة المتأصلة في نفسه، فما دام هو في أرض سوء فإنه لا يستطيع أن يتخلص منها.
لكن لو انتقل من هذه الأرض إلى أرض أخرى يعبد الله فيها لساعده الجو على الخروج من هذا المأزق.
والحمد لله رب العالمين.(249/21)
إنكار المنكر
الفريضة التي استحقت بها هذه الأمة الخيرية على الناس هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومع هذا فهي فطرة فطر الله الناس عليها، ولهذه الفريضة مقياس في معرفة المعروف والمنكر، ولتركها عقوبات كثيرة وخطيرة، وفي هذا الدرس المبارك تجد أن الشيخ حفظه الله قد فصَّل في هذه النقاط مع ذكر صفات الآمر والناهي وبعض النماذج له.(250/1)
مقياس المعروف والمنكر
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ويقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري: {من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} .
أيها الإخوة: حول هذا الموضوع ألقي الضوء على مجموعة من النقاط المهمة، وإن كان الوقت لا يتسع لكل ما يتعلق به.
فأولاً: ما هو المقياس، في معرفة المعروف والمنكر؟ كيف يعرف الإنسان المعروف من المنكر؟ المعروف: مأخوذ من المعرفة، وهي في أصل اللغة العربية: اسم لما يعرفه القلب ويطمئن إليه وتسكن له النفس، ولذلك سمي المعروف معروفاً لأن النفوس تألفه وتسكن إليه، وتطمئن إليه، وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله من طاعته والإحسان إلى عباده.
والمنكر: هو اسم لما تنكره النفوس وتنبو عنه، وتشمئز منه ولا تعرفه، فهو ضد المعروف، وهو أيضاً اسم جامع لكل ما عرف بالشرع والعقل قبحه، من معصية الله تعالى وظلم عباده.(250/2)
الجاهلية النسبية
ومع ذلك فإن هذه المجتمعات، لا يمكن القول بأنها مجتمعات جاهلية مطلقاً -كما يقول بعض العلماء والمفكرين المسلمين- لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أنه لا يزال في المسلمين من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال الله عز وجل: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] وهذه آية عامة شاملة، وقد بينها الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة التي منها الحديث المتواتر: {أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة منصورة -وإنما سماها منصورة لأنها مجاهدة، فالنصر من ثمرات الجهاد، وهي تجاهد على أمر الله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله ولا يضرها من خذلها ولا من خالفها} .
ولذلك لا يمكن القول بوجود جاهلية مطبقة في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، في زمان ما إلا قبيل قيام الساعة، حين يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا قبضته، فحينئذٍ يبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر، ويتسافدون تسافد الحمر، يفعلون الفواحش على قارعة الطريق، وأفضل إنسان في ذلك الوقت إذا جاء وهم يفعلون الفاحشة، قال: يا فلان لو اعتزلتم الطريق، لو ما فعلتم الفاحشة في وسط الطريق على الأقل اعتزلوا هذا الطريق، وهؤلاء تقوم عليهم الساعة.
وهنا تلاحظون سراً عظيماً من أسرار هذه الشريعة، هذا السر هو: أن الله عز وجل، أنزل القرآن، وبعث الرسل، وأوجد هذه الكعبة، وأبقى هذه الطائفة المنصورة، لتحقيق الحجة على الناس، وإقامة الدين والشعائر، فإذا تعطلت منافع هذه الأشياء أذن الله بزوالها، وحينئذٍ يبعث الله ذا السويقتين، من الحبشة، فيهدم الكعبة ويستخرج كنزها، لأنه لم يعد من يحج ولا يعتمر ولا يصلي إلى الكعبة، ويرفع الله هذا القرآن من المصاحف وصدور الرجال حتى لا يبقى في الأرض منه آية، ويبعث الله ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، لأنه لم يعد يوجد من يسمع لهم ولا من يستجيب، وبعد ذلك تقوم الساعة، المقصود أن مجتمعات المسلمين لا يزال فيها من يهدي بالحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.(250/3)
عرف الناس متقلب
ومن خلال هذين التعريفين الموجزين تلاحظون: أولاً: أن المقياس في معرفة المعروف والمنكر ليس هو عرف الناس وتقاليدهم والأمر الشائع بينهم، فإن عرف الناس متقلب، وقد يعرف الناس اليوم شيئاً ويألفونه ويعتادون عليه، وينكرونه غداً، وقد ينكرون اليوم شيئاً ويقومون ضده ثم يستسلمون له غداً ويألفونه ويعملون به، فالمقياس في تحديد المعروف والمنكر هو الشرع وليس العرف، وكم جرى في أعراف الناس من المنكرات الكبيرة.
أرأيت -مثلاً- إعفاء اللحية إنه معروف في عرف الشرع، أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما في الصحيح، لكن قد يشيع عند الناس ضد ذلك من إزالة الشعور وحلقها، فيصبح إعفاء اللحية في بعض البيئات والمجتمعات، أمراً منكراً مستغرباً، لم يعتده الناس ولم يألفوه.
أرأيت تشمير الثياب ورفعها إلى ما فوق الكعبين أو إلى منتصف الساق أو إلى ما دون الركبة، هذا أمر ثبت في الشرع، ولكن كثيراً من المجتمعات لا تعرف هذا الأمر، إنما تعرف إطالة الثياب وإرخاءها وإسبالها، خاصة في الرجال، أما النساء فعلى العكس من ذلك، فإذا رأوا رجلاً قد رفع ثوبه إلى نصف الساق أو دون ذلك أو فوقه؛ بدأوا يتغامزون ويتناظرون وقد يتضاحكون، فهذا معروف بالشرع، لكنه منكر في بعض البيئات والمجتمعات.
أرأيت احتجاب المرأة هو أمر عرف بالشرع قرآناً وسنة أنه ثابت ومعروف، لكن قد يجهل بعض المسلمين هذا الأمر في بعض المجتمعات، فإذا رأوا امرأة قد تسترت وتحجبت، ضحكوا منها! وقالوا: ما شأن هذه المرأة تمشي وكأنها خيمة؟ وكما قال بعضهم، وقال آخرون: هذه المرأة إنما تسترت لأنها دميمة، فتريد أن تستر قبحها عن الناس.
في مثل تلك المجتعمات أصبح منكراً يستغرب فاعله، وعلى الضد من ذلك، كم من منكر أصبح مألوفاً ومعروفاً في بعض المجتمعات.
الغناء -مثلاً- حين يقوم إنسان يحرم الغناء ويذكر الأحاديث الصريحة فيه، تجد كثيراً من الناس يفغرون أفواههم ويفتحون عيونهم مستغربين! هذا الغناء الذي نسمعه في الإذاعات وأجهزة التلفاز وأشرطة التسجيل، وربما يسمعون -أحياناً- من بعض المنتسبين إلى العلم من يبيحه، لا يقع في آذانهم قط أنه منكر، بل قد ألفوه وعرفته نفوسهم وسكنت إليه، فصار في عرفهم معروفاً، وهو في الشرع منكر.
أرأيت الربا الذي شاع وذاع بين المسلمين في بنوكهم وصارفهم ومؤسساتهم حتى لا يكاد يخلو منه إلا القليل، وأصبح الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء فيما أخذ من حلال أو من حرام؟} حين يتحدث الإنسان عن تحريمه، أو عن تحريم بعض صوره الشائعة عند الناس، تجد كثيرين منهم يفاجئون ويستغربون، وقد يرمون هذا المتحدث بالعظائم؛ لأنه يستنكر أمراً ألفوه وعرفوه واطمأنت إليه نفوسهم، فصاروا لا يظنون إلا أنه عين المعروف، وهو في الشرع منكر.
أرأيت الصور، وخاصة الصور الخليعة من صور النساء الفاتنات التي انتشرت بين المسلمين اليوم عبر الكتاب والمجلة والشريط والمسرحية، أو التمثيلية، أو غيرها هذه الصور التي أصبحت تقابل عين الإنسان في الطائرة، في السيارة، في البقالة، في البيت، في السوق، في المدرسة، في كل مكان، حين ينشأ عليها الإنسان ويألفها تصبح عادية في نظره، وحين يسمع إنساناً يقول: إن النظر إلى صور النساء في المجلات والأفلام وغيرها لا يجوز! يستغرب ذلك، ويقول: هذا مسكين، إن الناس اليوم يعانون من النظر إلى الفواحش والمشاهد الجنسية المؤذية واللقطات.
ولا أقول -كما يقول بعض المتفائلين-: المخلة بالحياء، بل اللقطات التي تقضي على الحياء وتئده، وتراهم يقولون: الناس مشغلون بهذه الأشياء بينما هذا الإنسان لا زال يتحدث، عن منع النظر إلى الصور، صارت القضية معروفة عند كثير من الناس، لماذا؟ لأن القضية انتشرت وذاعت وشاعت، فأصبحت تقابل الإنسان في كل مكان فتَطبَّعَ عليها واعتادها، وأصبح لا يستنكرها.
وهكذا تبرج النساء والاختلاط وغير ذلك من المنكرات، قد يعتادها الناس في مجتمع ما، فتصبح في عرفهم معروفاً، لكن عرف الناس لا يغير الشرع، ولهذا ينبغي أن نلاحظ من خلال تعريف المعروف والمنكر، أن المعروف: هو ما عرف بالشرع والعقل حسنه، لأن كل ما جاء به الشرع فالعقل يدل عليه، كل ما جاء الشرع بتحسينه، فالعقل يدل على تحسينه، العقل السليم والفطرة السليمة، وأن المنكر: هو كل ما دل الشرع والعقل على قبحه وفساده، وكل ما جاء الشرع بتقبيحه، فالعقل يدل على تقبيحه.
أما أعراف الناس فلا عبرة بها؛ لأن أعراف الناس قد تصبح سقيمة في وقت من الأوقات، فترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً.
الأمر الآخر الذي يلاحظ من خلال هذه التعريف، أن الأصل في المجتمع المسلم أنه يعرف المعروف ويقره ويرضاه ويأمر به، وأنه ينكر المنكر ويرفضه ويأباه وينهى عنه، هذا هو المجتمع السليم.(250/4)
الأصل في المجتمع المسلم معرفة المعروف وإنكار المنكر
وإذا أردت أن تعرف مدى سلامة مجتمع ما أو فساده، فطبق عليه هذه القاعدة: إذا وجدت هذا المجتمع يشمئز من المنكرات، فينكرها ويحاربها، فهذا دليل على سلامته في الجملة، فإذا أُشْرِب هذه المنكرات وتقبلها بسهولة، فاعرف أنه مجتمع منحل.
ولذلك كان أسلم المجتمعات هو مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يعرفون المعروف وينكرون المنكر، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الأثر الصحيح الذي رواه الحاكم وغيره قال: [[ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح]] .
ثم ضرب لذلك مثلاً بأن المسلمين -أعني الصحابة-، اتفقوا على اختيار أبي بكر للخلافة، فحينئذ عُلم أن هذا أمر يحبه الله ويرضاه، ولهذا أصبح من جملة عقائد أهل السنة والجماعة تفضيل أبي بكر على من عداه من الصحابة، والإقرار بأنه أول الخلفاء الراشدين، ومن بعده عمر كذلك، ثم عثمان ثم علي، هذا مثال لهذه القاعدة.
ولهذا أجمع المسلمون على قبول إجماع الصحابة رضي الله عنهم وأنه حجة فيما بينهم وبين الله، فإذا اتفق الصحابة على أمر، أصبح المسلمون من بعدهم متعبدين بهذا الأمر وهو من ضمن الأدلة الشرعية، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين.
ولذلك كان الإمام مالك رحمه الله يأخذ بعمل أهل المدينة، فما وجد عليه عمل أهل المدينة في القرن الأول اعتبره من ضمن الأدلة الشرعية، وهذا أصل خاص بالإمام مالك، وكان رحمه الله يفسر ذلك بأن عمل أهل المدينة إنما هو على النبوة.
أما عمل الأمصار الأخرى فإنه على أوامر الملوك، وكذلك المجتمعات الخالفة من بعدهم، ما كان من هذه المجتمعات يقبل المعروف ويرضى به ويدعو إليه، فهو مجتمع سليم، وما كان يرفض المعروف ويأباه ويقر المنكر فهو منحرف.
وحين تلقي نظرة تحاول أن تطبق فيها هذه القاعدة على المجتمعات الإسلامية اليوم، تجد أن هذه المجتمعات بلا شك تتفاوت تفاوتاً كبيراً، ولكن يغلب على هذه المجتمعات في الجملة، أنها تتقبل المنكرات وتألفها وتنتشر بين أفرادها بشكل سريع ذريع، ما أسرع -مثلاً- ما تنتشر الموضات والأزياء الأجنبية في أوساط النساء، بمجرد ظهور مغنية أو ممثلة أو فاجرة أو داعرة بزي معين، لا يمر غير وقت قصير إلا وتجد هذا الزي قد شاع وذاع، وأصبحت نساء المؤمنين تتبارى عليه، وتتنافس فيه، وما إن تظهر مغنية أو ممثلة أو داعرة بتسريحة معينة من تسريحات الشعر، إلا وتجد المسلمات خلفها يطبقن ما رأين تطبيقاً دقيقاً أميناً، وما إن تجد شباب الغرب، يسيرون خلف تقليد من التقاليد، إلا وسرعان ما ينتشر بين شباب المسلمين.
هل نعتقد أن الظواهر التي نلاحظها في شبابنا اليوم في ملابسهم، في طريقة شعورهم، في طريقة تصليحهم لسياراتهم، في بعض الظواهر التي قد تشيع -أحياناً- بين الشباب، هل نعتقد أنها نشأت من فراغ؟ كلا، إنها أشياء يلاحظونها في المجتمعات الكافرة، سواء حين يسافرون إلى تلك المجتمعات ويشاهدونها عياناً، أو من خلال الأفلام والمسرحيات التي تعرض الأوبئة الموجودة في بلاد الروم أمام أعين نظارة المسلمين، وقد تكون -أحياناً- نوعاً من الخدع في التصوير، فيغتر بها شبابنا ويطبقونها مثلما يقع في ما كان منتشراً ما يسمى بعملية (التفحيط) وغيرها! هل نعتقد أن انتشار هذه الأشياء، أمر طبيعي؟ كلا، إنه يدل على وجود فراغ في عقول ونفوس هؤلاء المسلمين، وانحراف يجعلها قابلة للمنكر.(250/5)
الأمر والنهي فطرة عند الناس
أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية التي أحب الوقوف عندها، فهي: ضرورة الأمر والنهي، وباختصار فإن الأمر والنهي فطرة في نفس كل إنسان، حتى لو كان يعيش بمفرده معتزلاً الناس لا بد أن تأمره نفسه وتنهاه، فإما أن تأمره نفسه بالمعروف وتنهاه عن المنكر، أو تأمره بضد ذلك، ولهذا كان الناس يقولون: (نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر) وإذا اجتمع اثنان فلا بد أن يتآمرا ويتناهيا، وإذا اجتمع جمع من الناس، فالشأن كذلك، لكن لهم ثلاث حالات:- الحالة الأولى: أن يتآمروا بالمعروف، ويتناهوا عن المنكر، وهذه هي الحالة التي وصف الله بها المؤمنين: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] .
الحالة الثانية: أن يأمروا بالمنكر، وينهوا عن المعروف، وهذه حال مَنْ؟ هذه حال المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] .
الحالة الثالثة: هي خليط، يتآمرون بمعروف وبمنكر، ويتناهون عن بعض المعروف وعن بعض المنكر، فيقع منهم حق وباطل، ويلتبس هذا بهذا، وهذا حال المقصرين والعصاة والمسرفين على أنفسهم ونحوهم.
وتلاحظون في الآيتين السابقتين: التفريق بين المؤمنين والمنافقين، قال الله تعالى في شأن المؤمنين: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] وقال في شأن المنافقين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] وهذا في باب الرأي قد يتساءل الإنسان، كان الذي يتوقعه الإنسان أو يظنه ربما يسبق إلى ذهنة، أن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض أمتن.
ولذلك قد يعبر عنها بـ (من) قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وأن علاقة المنافقين بعضهم ببعض أقل.
ولذلك يعبر عنها بـ (أولياء) لكن الله تعالى قال في محكم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وقال عن المنافقين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:71] والسر في ذلك مما يظهر والله أعلم أن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض ليست علاقة تناصر على الباطل، إنما هي علاقة اتفاق على الدين الذين يدينون به {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] .
ولذلك يتوالون فيه، أما المنافقون فهم لا يتوالون من أجل دين ولا من أجل عقيدة، وإنما يتوالون ويتناصرون بالباطل، فكلما ذهب بعضهم إلى شيء وافقه الآخرون عليه مهما كان، فلذلك قال تعالى: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:71] .
والمقصود أن الأمر والنهي ضرورة بشرية، وكل إنسان لا بد أن يأمر وينهى ويُؤْمر ويُنْهى، إما بخير أو بشر أو بأمر مختلط من هذا وذاك، ولذلك يجب أن نعلم أن المجتمع إما أن ينتشر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما أن تكون الأخرى وهي أن ينتشر فيه الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، أو الأمر ببعض المعروف وببعض المنكر، والنهي عن بعض المعروف وبعض المنكر.(250/6)
غياب يترتب على غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهذه قضية تلاحظونها، بعض الناس إذا رأوا غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اليوم في مجتمعات المسلمين يظنون أن المشكلة -فقط- هي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد انتهى أو ضعف، والواقع أن المشكلة مضاعفة، لأنه إذا ضعف الأمر بالمعروف قوي الأمر بالمنكر، وإذا ضعف النهي عن المنكر قوي النهي عن المعروف، والأمثلة التي أشرت إليه سابقاً تؤكد هذا الأمر.
حتى في السنن التي وضعها الله في المجتمعات (السنن الاجتماعية) ، مثلاً: ربما أكون مثلت بموضوع التبرج والتستر، لنفترض أن مجتمعاً من المجتمعات، يحافظ على الشروط الإسلامية لحجاب المرأة ولباسها، فإذا وجدت امرأة أو اثنتان متبرجتان، وجدت المجتمع كله ضد هذه الظاهرة، يحاربها، حتى الذين قد يكون ليس لديهم دين، يحاربونها لأنها تعتبر ظاهرة شاذة في المجتمع، ولذلك سرعان ما تتلاشى هذه الظاهرة، لماذا؟ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوي في هذا المجتمع، والغلبة هي لهما، لكن اعكس الصورة، وتصور مجتمعاً يشيع فيه التبرج كمجتمعات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد رأيناها وسمعنا عنها، تجد أن العرف السائد في المجتمع أن الفتاة تخرج إلى المدرسة، وإلى السوق، وإلى جميع أعمالها، وقد لبست ثوباً يظهر ذراعيها، وعضديها، وساقيها، فضلاً عن الوجه والشعر والرقبة والنحر، وهذا هو اللباس المعتاد الشائع، فإذا رأيت امرأة قد سترت شعرها، وذراعيها، وساقيها، اعتبرت هذا الأمر غير مألوف في ذلك المجتمع، تصور كم تعاني هذه المسلمة في مثل تلك المجتمعات؟! كم تعاني من الكلام من الأبوين، من الزميلات في المدرسة، من القريبات، في المناسبات والزواجات، في الشارع كم تعاني؟! تعاني الأمرين؛ لأنها تسبح ضد التيار -كما يقال- إذاً المجتمع له قوة، فإما أن تكون قوته أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وأخذاً على يد السفيه، أو تكون العكس، نهياً عن المعروف وأمراً بالمنكر.
وهذه قضية ينبغي أن ينتبه لها، إن المجتمعات لها خط بياني صاعد أو نازل، إذا نزل المجتمع بدأ يهبط، لاحظ أن هبوطه لا يقف عند حد.
ولذلك شرع الإسلام موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا نلاحظ قضية في غاية الأهمية في هذا الموضوع، وهي أن أصل وجود المنكر قليل مُسْتَخْفٍ، هو أمر طبيعي مألوف، ليس بغريب، حتى في أفضل المجتمعات وأكثرها استقامة على أمر الله ورسوله: مجتمع الصحابة، وهو المقياس -كما أسلفت- ومع ذلك كان فيه المنافقون، الذين قال الله عنهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] وكانوا موجودين، والمسلمون أنفسهم منهم من يواقع بعض المعاصي، وفي الصحيحين من ذلك أشياء.
مثل قصة الرجل الذي زنى، وهو ماعز بن مالك رضي الله عنه، فتاب توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، ومثله الغامدية التي جادت بنفسها لله عز وجل، ومثلهم الرجل الذي أصاب من امرأة ما دون الزنى، لكنها حالات نستطيع أن نقول عنها: إنها فردية، ولذلك فهي مستترة مستخفية.
ولذلك -أيضاً- انظر! كيف موقف الواقع في المنكر نفسه، ما أسرع ما يستيقظ ضميره، وما أسرع ما يتوب إلى الله عز وجل، ولا يحتاج إلى متابعة ورقابة، رقابته قلبه، خوفه من الله عز وجل، يقوده إلى أن يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! زنيت فطهرني، يعرض عنه الرسول ذات اليمين عليه الصلاة والسلام، ويأتي إليه من قبالة وجهه، يعرض عنه ذات الشمال يأتي إليه، أربع مرات في مجلس واحد: يا رسول، زنيت فطهرني، فيقول عليه الصلاة والسلام: بك جنون} هل هو سكران؟ لا هذا ولا ذاك، لم يقام عليه الحد.
وأعجب من ذلك المرأة! تشهد على نفسها بالزنا، ثم يأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تلد، لأنه عندما رأت أنه يريد أن يردها، قالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، أي هي عارفة ما هو مصيرها، ما جاءت وهي لا تدري ماذا سيفعل الرسول عليه الصلاة والسلام بها، بل تعرف مصيرها، وأنها سترجم.
ثم تأتي وتقول: يا رسول، زنيت فطهرني، فترى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يردها وتقول: وهي تريد أن تقطع الطريق: يا رسول الله، كأنك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله إني لحبلى من الزنى، قال عليه الصلاة والسلام: {أما لا، فاذهبي حتى تلدي} ذهبت تسعة أشهر، يمكن أن يقول قائل: لما جاءت أول مرة كانت حرارة الندم في قلبها، لكن تسعة أشهر وهي لا زالت يقظة الضمير، بعد تسعة أشهر تأتي بالصبي.
فيقول صلى الله عليه وسلم: {اذهبي حتى تفطميه} أيضاً ربما جلست سنتين أو أقل من ذلك، حتى فطمته، ومبالغة منها في إثبات أنها فطمته، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده كسرة خبز، وقالت: يا رسول الله! لقد فطمته، فيأمر بالصبي إلى بعض الأنصار ويرجمها، إن هذا يدل على قوة الإيمان في نفوسهم، أي: كانوا رجالاً حتى حين يقعون في المعصية، فيسارعون بالتوبة والإقلاع والندم، الذي يجعلهم يفعلون مثل هذه الأفعال.
إذاً: مجرد وجود معاصٍ قليلة مستترة أمر عادي، وبعضهم يشبهون هذا بما يقوله الأطباء والمراقبون على الصحة العامة، حينما يقولون: إن هذا المجتمع سليم من الأمراض، هل يقصدون أن هذا المجتمع جميع أفراده أصحاء (100%) ، كلا! إنما يقصدون الأمراض العامة، والأوبئة الفتاكة والمعدية، وأنها ليست موجودة، أما وجود حالات مرضية فهو أمر طبيعي في أي مجتمع من المجتمعات.(250/7)
عقوبات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والأمر الخطير أن يعلن أصحاب المنكر بمنكرهم، هذا الخطير، ولا يستحوا من إظهاره، وإذا وجد هذا، ثم لم ينكر، فاعلموا ماذا يكون الأمر حينئذٍ، ولذلك أبين هذه النقطة في المسألة الثالثة، وهي: عقوبات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضريبة كبيرة لا بد أن تدفعها المجتمعات، ويجب ألا نغتر بوقت محدود يعيشه الإنسان، -أحياناً- يسمع الإنسان عن العقوبات، فيرى من حوله، فلا يجد بوادر عقوبات ظاهرة، فيخيل إليه أن هذا الكلام يقال لتخويف الناس وشدهم، وقد لا يكون كلاماً حقيقياً.
لكن هذه نظرة السطحيين من الناس، أو الذين لا يستنيرون بنور الوحي، أما الذين يستنيرون بنور الوحي، فإنه يقف عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه عن زينب بنت جحش رضي الله عنها، {أن النبي صلى الله وعليه وسلم دخل عليها فزعاً، وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! انتبهوا! يا إخوة لهذا الحديث، فقال عليه الصلاة والسلام:- نعم، إذا كثر الخبث!} لاحظ! سنة من سنن الله لا يمكن أن تتخلف، ليس بين أحد من عباد الله وبين الله تعالى عقد ولا عهد إلا هذا الإسلام، وإلا فسنة الله ماضية، والله لا ينفع إنساناً أنه يعيش في جزيرة العرب، ولا ينفعه أن يكون قرشياً، فضلاً عن أن يكون عربياً، إنما ينفعه أن يلتزم بأوامر الله تعالى ويجتنب نواهيه، وإلا فالأرض لا تقدس أحداً: {ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} نعم، إذا كثر الخبث، هذا الحديث يضع أيدينا على مجموعة من العقوبات للمجتمعات التاركة لهذه الشعيرة العظيمة، والشريعة المحكمة.(250/8)
الاختلاف والتناحر
من العقوبات: الاختلاف والتناحر داخل المجتمع الواحد، وهذه من أنكى العقوبات وأعظمها، لأنها تجعل المجتمع عرضة للانهيار والانهزام أمام العدو الخارجي، والتفرق يكون إذا ابتعد الناس عن شريعة الله، لأن شريعة الله تجمع الناس، تجمع الأهواء المتفرقة، لكن إذا انحل ارتباط الناس بشريعة الله، أصبح كل إنسان يتبع هواه، وأهواء الناس ليس لها ضابط فيتفرقون.
ومن المآخذ اللطيفة التي تلاحظ في هذا الباب، أي نموذج من نماذج التفرق، لو لاحظت في عدد غير قليل من المجتمعات، أذكر أن بعض الصحف كانت تنشر منذ سنوات خبراً أو سلسلة من الأخبار المتتالية، تقول هذه الأخبار: إن هناك في إندونيسيا، حيث تشيع المنكرات -وهي على قدم وساق من الفواحش، والفجور , والبغاء، والخمور، والتبرج وغيرها، كما في كثير من بلاد الإسلام الأخرى- قالت تلك الأخبار: إن هناك مجموعة من الناس لا يعرف من هي؟ بدأت تتصيد المجرمين خفية وتضحي بهم، فإذا وجدوا من إنسان -مثلاً- أنه يقوم على بيت دعارة، أو منكرات علنية أو فساد ظاهر، فإنهم يقضون على هذا الإنسان، وظلت الأخبار متتالية لفترة غير قليلة عن مثل هذا.
هذا خبر يمكن أن نقرأه ونمر عليه سراعاً، نسمع اليوم عن أخبار تجري في عدد من البلاد الإسلامية، في مصر -مثلاً- وغيرها.
أن بعض الغيورين المتحمسين يقومون بأعمال إنكار بعض المنكرات، مثلاً: أعلن في جامعة، أظنها جامعة أسيوط عن حفل غنائي مختلط، فيه ما فيه، الله أعلم ما فيه، فقام عدد من الطلاب ضد هذا المنكر، وأتوا المكان، واستطاعوا أن يدخلوا بقوة، وحطموا آلات الفسق والمنكر والغناء، ومنعوا إقامة الحفل في تلك الليلة، هذا الخبر يعتبرونه على أنه حدث مخل في الأمن إلى آخره.
وقد يتطور الأمر، قد يحصل تعجل من هؤلاء الناس واندفاع، هذا نموذج للتفرق الذي يحصل في المجتمع بسبب ترك الأمر بالمعروف، وبسبب عدم وجود قنوات رسمية شرعية يستطيع المسلم من خلالها أن يمارس أو يطبق ما يدين الله به من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يجد الوسيلة والقناة الشرعية، فتفرق الناس في مداخل وطرقات كثيرة متعرجة.
لكن لو وجد الإنسان طريقاً شرعياً للإنكار، بل ولبعض الإنكار، لو كان يستطيع أن ينكر بلسانه، ويقف ضد هذا المنكر، لكان من الممكن ألا يلجأ إلى مثل هذه الطريقة، وهذا الطريقة تُوجد تفرقاً كبيراً في المجتمع الواحد، سواء في طريقة الإنكار، أم في نتائجه، أم في الموقف منه، إلى غير ذلك، فيحصل التفرق والاختلاف في داخل المجتمع ويتفاقم الأمر، هذا نموذج -فقط- من نماذج الاختلاف الذي يحصل في المجتمعات بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينبغي أن ننتبه جيداً لهذا.
وبالمناسبة أذكر قصة، ذكرها الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي قصة طريفة: فقد ذكر أن هناك بيتاً في بغداد كانت فيه منكرات، كان فيه عزف وطبل، وأصوات غناء، فجاء أناس إلى هؤلاء ونصحوهم مرة ومرتين وثلاثاً، فأصروا على ما هم عليه، فجاء رجل من الصالحين، وكان ذا صوت حسن عذب لتلاوة القرآن، فطرق الباب عليهم وأمرهم ونهاهم، فلم يطيعوه، فماذا صنع؟! جلس على باب الدار في السوق، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وسمى وبدأ بصوته العذب الشجي يتلو آيات من القرآن الكريم، فتجمع الناس حوله وهم يبكون خاشعين لهذه الآيات المؤثرة المزلزلة، وقد تكون آيات مناسبة للموقف، مثل الآيات التي فيها الوعيد بالآخرة، وما فيها من الأغلال والنكال للعصاة، أو فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ما أشبه ذلك، ثم جاء أهل المنكر خجلين مما هم فيه، وكسروا مزاميرهم وطبولهم، واعتذروا إلى هذا الرجل وإلى الناس، ولم يعودوا إلى فعلهم.
ومثل هذا، ما حصل أن أحد طلاب العلم سمع بأن في مكان ما احتفالاً غنائياً يجتمع فيه أعداد كبيرة من الشباب، وهو شخص له مكانته، فما كان منه إلا أن أتى إليهم فنصحهم فما امتثلوا، فجلس في مكان قريب مجاور لهذا الأمر، وبدأ يتحدث بصوت جهوري وحوله مجموعة قليلة من أصحابه، فمازال الناس يكثرون وهو يتحدث حديثاً عاطفياً مؤثراً، حتى تجمعت أعداد كبيرة، ثم ترك أولئك ما كانوا فيه، أو ما عزموا عليه من الغناء، وجاءوا يستمعون وتأثروا، وأمكن زوال المنكر بطريقة أفضل مما يفعله كثير من الناس من التعجل وإزالة المنكرات بأسلوب قد يضاعف هذا المنكر.
الأمر الذي أريد أن أقوله: إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسبب تفرق المجتمعات.(250/9)
عدم إجابة الدعاء
هناك عقوبة أخرى أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي: أن الله تعالى لا يستجيب لأولئك العاصين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأننا نقول: إن هؤلاء الناس إذا عذبوا -كما هو معروف- لجأوا إلى الله عز وجل: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] حتى المشرك إذا مسه الضر لم يدع غير الله، فالمؤمن والمسلم من باب أولى، فحين ينزل العذاب عقوبة لهؤلاء القوم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أين يتجهون؟ يتجهون إلى الله عز وجل يدعونه، لكن بعد خراب البصرة، كما يقال، ولهذا لا يستجيب الله لهم.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم عذاباً من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم} والحديث رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح وله شواهد كثيرة، عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما، "ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"، إلا أن يعودوا إلى الله تبارك وتعالى عودة صادقة، ويقوموا بما أخلوا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيرفع الله تبارك وتعالى ما بهم، فلا بد أن ننتبه إلى هذه العقوبات التي تنتظر كل مجتمع تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وحين أقول: تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أعني المفهوم الشامل لهذه الكلمة، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له دوائر كثيرة، تبدأ من الإنسان نفسه، من أمره نفسه، بالمعروف ونهيها عن المنكر، مروراً بالبيت، والجيران في الحي، والزملاء في العمل، وانتهاء بالمجتمع الواسع الكبير، كل إنسان بحسبه، وبحسب طاقاته وإمكانياته.
الموضوع مهم، والوقت ضيق، وجمعاً بين الأمرين أختصر النقط الباقية ليبقى وقت ولو يسير للأسئلة بناء على رغبة الإخوة.(250/10)
تسليط الأعداء
من العقوبات: تسليط الأعداء، فإن الله تعالى قد يبتلي المجتمع المهمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يسلط عليهم عدواً خارجياً، فيؤذيهم ويستبيح بيضتهم، وقد يأخذ بعض ما في أيديهم، وقد يتحكم في رقابهم وأموالهم، وقد بلي المسلمون في تاريخهم وبنماذج من ذلك، ولعل من النماذج المعروفة ما وقع للمسلمين في الأندلس، وهم كانوا أمة قوية عزيزة منيعة الجانب، فلما شاعت بينهم المنكرات بلا نكير، سلط الله عليهم النصارى، حتى آل الأمر بهم إلى الصورة التي يذكر الشاعر فيها كيف أن ملوكهم وسادتهم، كانوا ينادى عليهم في أسواق الرقيق، وهم يبكون وينوحون، يقول:- فلو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الوجد واستهوتك أحزان ويقول قائلهم -وهو من آخر ملوك الطوائف- يخاطب نفسه: ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال وما حدث في فلسطين، من تسلط اليهود، وطردهم للمسلمين، وتنكيلهم بهم، حتى صارت أخت الأندلس، وذهبت -كما يقول القائل-: ذهبت في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلس من قبل في الحقب وطوحت ببنيك الصيد نازلة مثلها أمة الإسلام لم تصب.(250/11)
انكماش الخير
والعكس بالعكس يؤدي إلى انكماش الخير واستخفائه.
ولذلك قال عمر بن عبد العزيز الخليفة الملهم، حين كتب كتاباً إلى أمير المدينة وأمره أن يأمر علماء المدينة بأن يجلسوا لإفشاء العلم في المساجد، قال: [[وليفشوا العلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً]] هذه عقوبة كبرى، وأي عقوبة أشد من أن ينتكس المجتمع، فيصبح المعروف عنده منكراً، ويصبح المنكر عنده معروفاً! وأي عقوبة أشد من أن المسلم يعاني ما يعاني في تطبيق شعائر الإسلام وهو بين قوم مسلمين.(250/12)
نزول العذاب
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى غيره، يتعداه إلى أمر آخر، وهو نزول العذاب الإلهي، وهو الإهلاك {أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم إذا كثر الخبث} ولهذا بوب الإمام مالك في مؤطئه: (باب ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة) وساق تحت هذا أثراً عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أنه قال: [[كان يقال إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة]] أي لا يعذب المجتمع كله بعمل مجموعة من أفراده أو طبقة أو طائفة منهم، لكن -والكلام لا يزال لـ عمر بن عبد العزيز فيما ينقله عن السلف-[[ولكن إذا عملوا المنكر جهاراً؛ استحقوا العقوبة كلهم]] وقد نتساءل أية عقوبة هذه؟ هذه العقوبة أن لا يموت هؤلاء الناس إلا أن يصيبهم الله بعذاب، كما في حديث جرير أيضاً عند أبي داود: {ما من قوم يكون فيهم رجل يعمل بينهم بالمعاصي، يستطيعون أن ينكروا عليه، ثم لم ينكروا، إلا عمهم الله بعقاب من قبل أن يموتوا} وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وصححه وأبو داود وغيرهم، روي مرفوعاً وموقوفاً، أن أبا بكر رضي الله عنه قال: [[أيها الناس إنكم تسمعون هذه الآية وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقاب} ]] .
وكما ذكرت فالحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، والراجح أنه موقوف، لكن له حكم المرفوع، لأنه مما لا يقال بالرأي، والله أعلم.(250/13)
الأزمات الاقتصادية
من العقوبات التي يمكن أن تنزل: الأزمات الاقتصادية التي تحل بالمجتمعات، والناس قد يفسرون الظواهر تفسيراً مادياً، الأزمة بسبب كذا، وبسبب كذا، بسبب حروب مادية، والمؤمن الذي يؤمن بالقضاء والقدر، ويؤمن بما جاء في سنة الرسول صلى الله وعليه سلم يلحظ كثيراً من الأمور، قد يكون لها سبب مادي، لكن وراء السبب المادي سبب شرعي وقع الناس فيه، أو خضعوا لسنة من السنن الكونية، فالأزمات الاقتصادية التي تحل بالمجتمعات هي من العقوبات.
وقد تصل هذه الأزمات في بعض المجتمعات الإسلامية إلى حالة من الفقر يرثى لها، حتى إنك تجد أن الإنسان يتعب وراء لقمة العيش فلا يجدها، وهذا يؤدي بهم إلى أنواع من التقصير الشرعي -أيضاً- لأن الإنسان إذا انشغل بالبحث عن لقمة العيش قد ينسى كثيراً من أوامر الدين -أيضاً- فيعاقب -أيضاً- بعقوبة أخرى حتى في دينه، والمنكرات سلسلة إذا بدأ الإنسان فيها تسلسلت بعضها وراء بعض.(250/14)
كثرة الخبث
العقوبة الأولى: عقوبة السكوت على المنكرات إذا ظهرت هي: كثرة الخبث، لأن المنكر وإن فعله قليل من الناس إذا أعلنوه، فهذه بداية خطيرة، لأنه دليل على قوتهم وتمكنهم من جهة، وهم بذلك يقولون للناس: اقتدوا بنا وقلدونا.
ولذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19] ثم إن انتشار هذا المنكر يغري الآخرين بتطبيقه والإسراع إليه ويقلل من خطورته في نفوسهم، فأول ما يرى الناس المنكر تجدهم يشمئزون منه، ويتحدثون عنه بقلوب محزونة، لكن بعد أشهر تجد الأمر أصبح عادياً وسكت الناس عنه، وشغلوا بما هو أعظم منه، وشيئاً فشيئاً تصبح هذه المنكرات تتطبع في نفوس الناس، يألفها الناس ويتربون عليها فتكثر عندهم.
إذاً: العقوبة الأولى إن إظهار المنكر يؤدي إلى كثرته وانتشاره في المجتمع.(250/15)
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند جماهير أهل العلم فرض كفاية، وهذا هو الصحيح لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] أي إذا قامت هذه الأمة يعني طائفة أو جماعة، سقط عن الباقين وأصبح في حقهم سنة، لكن يشترط أن يكونوا منا تتحق بهم الكفاية، أي: يكفون في إقامة هذه الشريعة والشعيرة، وذهب الإمام ابن حزم إلى أنه فرض عين.(250/16)
فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب قوة الولاية
إن كل إنسان بحسب ولايته، لأن من عادة الناس أن يلقوا بالمسئولية على غيرهم، وما أسهل أن نلقي بالمسئولية على غيرنا بل حتى أحياناً نقول على أعداء الإسلام، على الاستعمار، على المستشرقين، على اليهود، ما أسهل أن نلقي باللائمة على الآخرين، وأحياناً نلقي باللائمة على العلماء والأمراء، لأنهم يستطيعون ذلك ونحن خرجنا منها أبرياء! لكن لو تأتي إلى بيت الواحد منا قد تجد فيه عشرات المنكرات، وكأنه ينتظر أن يأتي أحد المسؤولين والعلماء حتى يخرجوا المنكرات من بيته.
ومن الطريف يحدثني أحد الإخو: ة أنه رأى رجلاً في الشارع ومعه امرأته سافرة في السيارة، قال: فوقفوا عند أحد المحلات في طرف البلد، فاستغربت هذا الأمر، فأتيت إلى هذا الرجل وسلمت عليه، وقلت له، لماذا؟! قال: يا أخي، والله لعلك تأتي وتكلمها، يقول -بكل جدية- يقول: لأني رأيته يصلي الضحى، أي نزل من السيارة وفرش السجادة يصلي، فأغراني هذا بأن أعاتبه مما رأيت من سفور امرأته، قال: لعلك تكلمها! أي: ما بقي إلا أن يأتي الناس ويكلموا زوجتك، وأمروها بالمعروف وينهوها عن المنكر، ما بقي إلا هذا! أقول: من السهل أن نلقي بالمسئولية على الآخرين، لكن الشيء الذي يجب أن نعلمه، أن كل إنسان عليه مسئولية بحسبه.
فإن كنت -مثلاً- مدير مؤسسة، مدير مدرسة، رئيس قطاع أو شعبة أو قسم، فإنك مسئول عما تحتك، وإذا كنت لا هذا ولا هذا، فأنت رب أسرة، تحتك زوجة وأولاد، أنت مسئول عنهم أن تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وهذا لابد منه، فهو فرض عين عليك؛ لأنه داخل في سلطتك، ومثل ذلك أنه يتعين على من نُصبوا لهذا الأمر، وهم رجال الحسبة الذين كلفوا من قبل ولاة الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر بقدر ما يستطيعون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، هذه حالات ثلاث يتعين فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(250/17)
متى يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضاً عينياً
وحتى مع القول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فإنه يصبح فرضاً عينياً على كل إنسان في حالات معينة، وهي كالتالي:- الحالة الأولى: إذا لم يعلم بالمنكر غيرك، فأنت مطالب حينئذٍ بالإنكار، لأنه لا يقوم بالكفاية غيرك.
الحالة الثانية: إذا لم يستطع تغيير المنكر إلا أنت، أو إلا فلان من الناس، أصبح واجباً عليه أن يغيره، على سبيل المثال: هناك منكرات تشيع في طبقة معينة من طبقات المجتمع، يمكن أن يغيرها كل إنسان، لأنهم أناس ليس لهم ثقل ومكانة، فأي إنسان يستطيع أن يأمرهم وينهاهم وينكر عليهم، لكن هناك علية القوم من الوجهاء والتجار والمسئولين وغيرهم، ليس في مقدور كل إنسان أن ينكر عليهم، إلا إذا كان ذا مكانة وقوة، فيتعين عليه حينئذٍ أن ينكر؛ لأنه لا يستطيع الإنكار غيره.
الحالة الثالثة: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على كل من ولاه الله تبارك وتعالى أمراً من أمور المسلمين، بدءاً بالسلاطين الذين ائتمنهم الله تبارك وتعالى على رقاب الأمة، فإنهم إنما وضعوا من قبل الشرع، وإنما شرع الإسلام الولاية العظمى لهذا الغرض، لتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا غير، وكل مصلحة يحتاجها الناس تدخل في المعروف، وكل مفسدة يخافها الناس تدخل في المنكر، سواء كانت من أمورهم الدينية أم الدنيوية.(250/18)
صفات الآمر والناهي
نقطة أخرى -ربما تكون خامسة حسب ترتيبنا- وهي تتعلق بصفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وأهم الصفات أربع:- الصفة الأولى: العلم، لا بد أن يعلم أنه منكر حتى ينكره، وأن هذا معروف حتى يأمر به، وأن يعرف الطريقة المثلى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلابد من العلم، ومن أنكر بجهل فقد يفسد أكثر مما يصلح، بعض الجهال ينكرون مالم يألفوه.
صليت يوماً من الأيام إلى جوار بعض العوام، فتنفلت راتبة الفجر، ثم تناولت المصحف لأقرأ شيئاً من القرآن، فالتفت إلي وقال: لا يصح هذا، لابد إذا انتهيت من الصلاة تسلم على من يمينك، ثم تسلم على من شمالك، ثم ترفع يدك وتدعو بما تريد، ثم تقرأ، فقلت له: سبحان الله! هل تعلم دليلاً ورد في مشروعية سلام الإنسان إذا انتهى من النافلة على من يمينه أو على من شماله؟! قال: لا، والله ما أدري، قلت: هل تعلم دليلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في مشروعية واستحباب رفع اليدين بعد صلاة النافلة؟! قال: لا، والله ما أعلم، قلت له: لماذا تنكر إذاً؟! فقال: علمني -جزاك الله خيراً- فأخبرته إن هذه الأشياء أقل ما يمكن أن نقول أنها ليست سنة ينكر على من تركها، أي هي مترددة بين أمرين، إما أن تكون مباحة، أو تكون غير مستحبة، وفى هذا الموضع بالذات، وإلا فأصل السلام مشروع، وأصل الدعاء مشروع، لكن التزام ذلك عَقِبَ صلاة النوافل فيه نظر، فلابد أن يكون المُنْكِر عالماً على الأقل بما ينكر وبما يأمر.(250/19)
الرفق والحلم
الشرط الثاني: وهو الرفق والحلم، بحيث يغير بحكمة وبدون تشنج أو انفعال؛ قد يجعله لا يفلح في إنكار المنكر، بل قد يتضاعف المنكر، والمنكرات -أحياناً- إذا رآها الإنسان يفور دمه، مهما يكن من الانضباط، فيحتاج إلى قدر من الرفق والحكمة وتدريب النفس على هذا الأمر، وإلجامها بلجام مراعاة المصالح وعدم الاندفاعات العاطفية.(250/20)
العدل
الشرط الثالث: العدل مع من ينكر عليه، فقد تنكر على إنسان فتجور عليه؛ لأنه قد يكون عنده منكر واحد وعنده عشرة أشياء معروفة، فتجد أنك قد نسيت كل هذه الفضائل ولم تعرف إلا هذا المنكر، لكن إذا كنت عادلاً، تقول له: يا أخي! أنت رجل فيك فضل وخير، وأشهد لك أنك محافظ على صلاة الجماعة، فيك كذا وكذا، لكن:- لم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام يا ليتك تترك هذا الأمر حتى يحصل لك -إن شاء الله- خير كثير، فتكون عادلاً في معرفة فضائله وعدم النسيان، وكذلك عادلاً لو ترتب على ذلك أمور أخرى، فلا تظلمه وتجور عليه، وأحياناً قد يترتب على الإنكار أن القضية تطول وقد تصل إلى المحاكم -أحياناً- لذا عليك أن تكون عادلاً بحيث تقول الحق ولو على نفسك.(250/21)
الصبر
الصفة الرابعة: وهي الصبر، وإلا فقد ينزعج الإنسان ويجزع فيترك الأمر والنهي، فهذه الصفات، منها: صفات أو صفة قبل الفعل: وهي العلم، ومنها صفات مع الفعل: وهي الحلم والرفق والصبر، ومنها صفات تكون مع الأمر والنهي وبعده وهي أيضاً: الصبر والعدل.(250/22)
نماذج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نقطة أخيرة: أختم بها الحديث، وهي: نماذج سريعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه لا تخلو من طرافة، وفيها قدوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.(250/23)
أبو سعيد الخدري
خرج مروان بن الحكم وكان والياً على المدينة، في يوم أضحى أو فطر، كما في حديث أبي سعيد الخدري في البخاري، وكان ثمة منبر بناه كثير بن الصلت، خارج المدينة لصلاة العيد، فجاء مروان ليرتقي المنبر، ليخطب بالناس في يوم العيد، فقام إليه أبو سعيد الخدري وجبذه وجره وتله بقوة، إلى أين؟ فشد مروان يده من أبي سعيد وارتقى المنبر ثم خطب، فلما انتهى، قال له أبو سعيد: [[خالفت السنة]] أو قال له: [[غيرتم والله]] فقال: يا أبا سعيد: [[قد ترك ما تعلم]] ما تعهده وتخبره من كون الصلاة قبل الخطبة ترك، تركه الناس؛ لأن معاوية رضي الله عنه -أيضاً- قد خطب قبل الصلاة، [[فقال له: قد ترك ما تعلم، قال أبو سعيد: والله إن ما أعلم خير مما لا أعلم -لأنه لا يعلم إلا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم- فقام مروان يعتذر منه، وقال له: إننا إذا أخرنا الخطبة بعد الصلاة خرج الناس، فلم يستمعوا إلينا، فقدمها حتى يستمع الناس إليه]] .
وهذا دليل على أن الناس قد يصابون بنقص في أمور دينهم، فيجرهم النقص إلى نقص آخر، فغفلة الناس وإهمال المجتمع لاستماع الخطبة؛ جعل الله عز وجل يسلط عليهم ولاة يخطبون قبل الصلاة! لاحظ هذا يُصْدُق على ما ذكرت قبل قليل من العقوبات، فكون الناس لا يستمعون الخطبة، سلط الله عليهم بذلك أمراء يخطبون قبل الصلاة، كـ مروان بن الحكم.
مرة أخرى قام مروان في أحد الأعياد، وجاء ليرتقي المنبر ويخطب، فقام إليه رجل -وهذه الرواية في صحيح مسلم عن طارق بن شهاب - وقال له: يا مروان [[خالفت السنة]] باسمه الصريح: يا مروان فقال له مروان: [[قد ترك ما هنالك]] قال أبو سعيد -معلقاً على الموقف-: أما هذا فقد قضى ما عليه -قام بما يجب عليه- سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} ولذلك كان التغيير بالقلب واجباً على كل إنسان -بلا خلاف- (وذلك أضعف الإيمان) ، لماذا أنكر هذا الرجل علناً؟ لعدة أسباب: أولاً: لأن المنكر كان علانية، فمن أعلن بالمعصية أعلنّا له بالإنكار، ومن أسرّ بالمعصية، أسررنا له بالإنكار.
ثانياً: لأن هذا الرجل الذي أنكر على مروان، كان رجلاً -كما ذكر الإمام النووي - معتزاً بظهور قبيلته وقوته ونفوذه فما كان يخاف، أي له مكانة ووجاهة.
ثالثاً: لأن أبا سعيد -والله أعلم- سبق أن أنكر على مروان فأصر، وحينئذٍ استدعى الأمر أن يعلن له بالإنكار، إضافة إلى أسباب أخرى.(250/24)
محمد بن المنكدر
نموذج آخر: ذكر ابن أبي زيد القيرواني في كتاب الجامع، أن محمد بن المنكدر وأصحابه كانوا يخرجون إلى الشوارع، يأمرون الناس بالمعروف وينهونهم عن المنكر، وقد أوذوا في ذلك من قبل السلطان، فهذا عالم يخرج بطلابه إلى الأسواق، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيلقاهم الأذى من كل الناس.(250/25)
ابن تيمية
نموذج ثالث: شيخ الإسلام ابن تيمية كان يخرج بطلابه إلى الأسواق، فيكسرون آنية الخمر، ويشققون قربها، ويهريقونها، ويكسرون ما يجدون من الطبول وآلات اللهو، وقد خرجوا إلى جبل النُصيرية فأدبوا النصيريين، وألزموهم شعائر الإسلام الظاهرة، وكان لهم في ذلك جهد معروف في التاريخ، ذكره ابن كثير وابن رجب وغيرهما من الذين ترجموا لشيخ الإسلام ابن تيمية.
أعجب من هذا كله، أن ابن تيمية استطاع أن يكسب قلوب الناس، بصدقه ونصحه، وبذله الجهد حتى في مصالح الناس الدنيوية، كما قال الذهبي: أنه كان يتعب في خدمة الناس ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، بلسانه وقلمه، وجاهات، وإصلاح، وخدمة، ونفع، ودفع ظلم، وما يستطيع.
ولذلك كان له نفوذ كبير في نفوس الناس، هذا الأمر جعله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على مستوى رفيع، ذهب إلى السلطان المملوكي في مصر، لما جاء التتار إلى بلاد المسلمين، وقد رأى أن سلطان مصر قد أبطأ في المجيء إلى الشام، فقال له: -انظروا الأسلوب الذي يتكلم به ابن تيمية -: إن كنتم قد أعرضتم عن الشام، وتركتموه فإننا -لاحظوا الضمير- نجعل له من يحوطه ويحميه في زمن الخوف ويستغله في زمن الأمن، ثم تلا قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .
فجاء السلطان إلى الشام، وكان من ضمن ما قال له -أيضاً- أنه قال: لو قُدر أنكم لستم حكام الشام، ولا ملوكه، واستنصركم أهله؛ وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وملوكه، لا يسعكم إلا الخروج، وجاء معهم فجاءوا وكان رضي الله عنه ورحمه يخرج مع الناس في المعارك، ويثبت قلوبهم بالوعظ والتذكير والآيات والأحاديث حتى انتصر المسلمون، وكان يقول لهم: إنكم منصورون، فيقولون له: يا إمام، قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وهكذا كان فعلاً.
والأمثلة والنماذج في هذا الباب كثيرة، أكتفي منها بما سبق وأرجو الله أن يجعلنا جميعاً من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والحافظين لحدود الله، والله تعالى أعلم.(250/26)
الأسئلة(250/27)
إقامة الحدود
السؤال
أصدرت امرأة في مصر كتاباً، اعترفت فيه بالزني، هل يرى فضيلتكم أنه يجب تطبيق حد الزني عليها، لمجاهرتها بهذا الفعل؟
الجواب
قبل هذا السؤال لابد من تحديد الجهة التي سوف تقوم بتنفيذ العقوبة.(250/28)
علاج الربا
السؤال
ذكرتم فضيلة الشيخ أن الربا قد انتشر في هذا الزمان، وهذا صحيح، ولكن ألا ترون أن هناك بعض التقصير من علماء المسلمين، حيث لم نسمع عن اجتماع للبحث عن بدائل للاستثمار والتمويل، حسب أصول الشريعة الإسلامية؟
الجواب
إذا كان الأمر مجرد اعتراف بتقصير علماء المسلمين فهذا حق، وما أظن أنه يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان، علماء المسلمين مقصرون، خاصة خبراء الاقتصاد، بل إنه يمكن أن يقال: أين خبراء الاقتصاد الذين يجمعون بين العلم الشرعي الصحيح وبين المعرفة بالجوانب الاقتصادية المعاصرة، ووسائل الاستثمار وطرقه، أشياء كثيرة، هؤلاء قلة وذلك أن الأمة الإسلامية بدأت تفيق.
ولذلك يلتفت الإنسان الواعي إلى كثير من الجوانب فيجد فيها نقصاً، ويجد فيها تقصيراً، هذا موجود، لكن لعل البوادر -إن شاء الله- تشير إلى أن هناك وعياً، ويكفي أن تلاحظ مثلاً واحداً: عدداً من البنوك -الآن- بدأت تطرح عمليات تجارية ومضاربات وغيرها، وتتحدث عن أنها ليست ربوية، وأنها وفق الشريعة الإسلامية، لماذا؟ لشعورهم بأن صاحب المال المسلم، أراد وبدأ يفكر ألا يستثمر ماله إلا في طريق الحلال، وهذه بداية جيدة تعني -والله أعلم- أن أي مشروع استثماري أو غيره إسلامي سينجح لإقبال الناس عليه، ويبقى دور خبراء الاقتصاد من المسلمين في مثل العمل الذي أشار إليه الأخ، وأسأل الله أن يوفقهم لذلك.(250/29)
مجلات الأزياء النسائية
السؤال
إن هناك بعض النساء ينظرن إلى مجلات الأزياء، ولكن ليس بقصد مطالعة هذه الخلاعة، ولكن بقصد أن ترى الموديلات الموجودة فيها، أرجو الجواب على ذلك؟
الجواب
هذه المجلات الواردة من أنحاء الدنيا، والتي تعرض أمام ناظري المسلمة أزياء الفتاة البريطانية أو التايلاندية أو الفلبينية أوغيرهن من الكافرات، لا يسوغ لمسلمة أن تشتريها، ولا أن تقتنيها، ولا أن تتشبه بها أصلاً، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حكم أن: {من تشبه بقوم فهو منهم} فأخذ الأزياء وتسريحات الشعر من المشركين والكفار واليهود والنصارى لا يجوز، وتقليدهم ومحاكاتهم في ذلك حرام، وكذلك يحرم على المسلم، صاحب المكتبة -مثلاً- بيع مثل هذه المجلات الهدامة، التي فيها مظاهر فاضحة، وصور عارية أو شبه عارية، وفيها إثارة للشباب وتحريك لغرائزهم.(250/30)
إذا ترتب ضرر دنيوي
السؤال
ما هو رأي الشرع إذا كان القيام أو الأمر بالمعروف يأتي بالضرر الدنيوي للإنسان، مثال لذلك في بلادي كون الإنسان ملتحٍ يعتبر ذلك تهمة في حد ذاته، ناهيك عن المصاعب التي تواجهه في حياته وعمله، سواء كان موظفاً أو له عملٌ آخر، وقس على موضوع اللحية أموراً أخرى، فما موقف الشرع في حالة كهذه؟
الجواب
أولاً: قول الأخ السائل (رأي الشرع) أي هو بين أمرين، إما أن يسأل عن رأي المتحدث، رأي المتكلم فهو رأي، وأما أن يسأل عن حكم الشرع، لأن ما جاء في الشرع لا يعتبر رأياً، وإنما هو حكم، ثم المثال الذي ضربه الأخ لا ينطبق على السؤال، لأن السؤال عما إذا كان الأمر بالمعروف يأتي بالضرر الدنيوي، أما السؤال فهو عن فعل المعروف، ولذلك أترك السؤال وإن كان في ظني هو المقصود، وأجيب على الجزء الأول، وهو إذا كان الأمر بالمعروف يأتي بالضرر الدنيوي للإنسان.
فإذا كان الإنسان يخاف على نفسه، أو على ولده، أو على ماله، خوفاً يقرب من التحقق والوقوع، فله أن يترك هذا الاحتساب، خاصةً إذا لم يكن فرض عين عليه شخصياً، لكن كثيراً من الناس اليوم مبتلون بالجبن والهلع، فيظنون أن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يحدث لهم ذلك.
والواقع أنه لا يضيرهم شيئاً أن يأمروا أو ينهوا، وخاصة إذا كان الإنسان يأمر بالحكمة وبالكلمة الطيبة، أظن أنه في أي دولة من دول الدنيا، سواء في الدولة التي ينتمي إليها الأخ أو غيرها، حتى الدول الكافرة، حتى دول اليهود والدول النصرانية، إذا كان إنسان يتكلم بالكلام الطيب، وينكر المنكر بلسانه، فلا أحد يعترض عليه، يقول، يتكلم، لا يوجد مانع، صحيح أنهم لا يسمحون له أن ينكر بالقوة، وهذا معروف، أما أن ينكر بلسانه فهذا ممكن في معظم الأحيان.(250/31)
إنكار المنكرات في البيوت
السؤال
تكثر المنكرات في منزلنا ويبقى المرء أمام خيارين: إما أن يجلس مع أهله في وجود المنكرات، أو يترك الجلوس مع أهله ويترك المنكر، فما العمل في نظرك في هذه المشكلة التي تواجه كثيراً ممن يريدون أن ينكروا المنكر؟
الجواب
أولاً: سددوا وقاربوا، فالإنسان الحكيم يراعي أن يوفق بين التزامه بالشرع، وبين ما يقتضيه وجوده في المنزل، فآخر الحلول أن يقال للإنسان: اخرج من بيتك، هذا آخر الحلول، لكن الأصل أن تبقى في منزلك، وتحرص على أن لا توجد في الأوقات التي تكون المنكرات فيها موجودة، وإذا بقيت فلا تستجب لهذا المنكر، أي إذا سمعت منكراً بأذنك، وأنت لم تقصد سماعه ولم تصغ له، فلا عليك في هذا، من حيث السماع، لكن يأتي عليك واجب شرعي من حيث الإنكار، إنما أتكلم الآن عن موضوع موقف الشاب في بيته، هل يبقى مع وجود المنكر أو يخرج فيترك الأهل؟ لكن نأتي للنقطة الثانية: وهي أن يقوم الشاب بمسئوليته في بيته، في الإصلاح، في الدعوة، لا تبق سلبياً تأكل وتشرب وتنام في المنزل فقط! {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] حاول أن تؤثر في أهلك، في إخوانك، في أخواتك، وسبق أن ذكرت مراراً أن هناك حوادث كثيرة يعرفها الجميع، يتغير البيت كله بسبب واحد من الأولاد اهتدي، فأثر على أخيه الآخر، ثم على أخته، ثم على أخته الأخرى، ثم على الأم، ثم على الأب، ثم أخرج التلفاز، وسُفِّر السائق، وسُفِّرتْ الخادمة، وبقي البيت بيتاً نظيفاً، أُخرجت الأغاني، ودخلت الكتب والمجلات الإسلامية، الأشرطة المفيدة، وحلقات العلم والذكر، والسبب هو بتوفيق الله فرد واحد.
فليجعل الإنسان من مهمته إصلاح هذا البيت، وتغييره جذرياً، بتعيير نفوس أهله وتعريفهم بالمنكر والمعروف، وهذا أمر يحتاج إلى نوع من الصبر، والوقت، والأناة، وسعة البال، فإذا قدر أن الإنسان استفرغ وسعه في هذا الطريق ويئس، حينئذ ليس أمامه إلا الخروج -كما أسلفت- فليبحث مثلاً عن قرينة صالحة، ويستقل في بيت، ويبني هذا البيت بناء إسلامياً.(250/32)
ترك الأمر والنهي للمشاكل
السؤال
لقد كنت في زمن من الأزمان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فحدثت لي بعض المشاكل مما حدا بي إلى أن أترك هذا الأمر، وليت الأمر اقتصر على هذا، بل شعرت بنقص في الإيمان مما جعلني أعتقد أني بدأت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الوقت المفروض، وأقصد بهذا الوقت هو ازدياد الإيمان والشعور بحلاوته، حتى إذا حصلت بعض المشاكل، لا تؤثر في سير الشخص على هذا الطريق؟
الجواب
أولاً: معرفة دوافع الإنسان أمر ليس متيسراً، حقيقة الدوافع التي تدفع الإنسان لأي عمل من الأعمال، فالإنسان الذي يراقب نفسه بدقة يستطيع أن يعرف دوافعه أحياناً، وأحياناً أخرى قد يكون عند الإنسان دوافع خفية لا يعرفها، على أي حال ربما يكون ما ذكره الأخ الآن نموذج لما أسلفت من أن الإنسان إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يمكن أن يبقى كذلك، بل ربما يتحول إلى استساغة المنكر، ثم إلى والعياذ بالله فعل المنكر وترك المعروف، وربما يتحول إلى الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وهذا كما يقع في شأن مجتمعات يقع في شأن الأفراد.
ولذلك على الأخ أن يأمر نفسه بالمعروف، يستدرك، ويصلح بيته، ويأمر من حوله بالأسلوب الحسن، بالكلمة الطيبة، بالموعظة، وبالرسالة أو بالاتصال الهاتفي أو بأي وسيلة، ولو لم يغير بالأساليب التي قد تكون جرت له مشاكل كما قال فيما مضى، حتى لا يكرر نفس المشكلات، وربما الإنسان يستهلك -أحياناً- في مجالات معينة، فمجالات خدمة الإسلام واسعة لا تنتهي عند حد.(250/33)
المصلحة والمفسدة
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يجاري مجتمعاً ما على بعض تقصيرهم، والتنازل عن بعض السنن دون الوصول إلى الواجبات، وذلك لكسب مودتهم وارتياحهم لكي يتمكن من دعوتهم إلى الطريق المستقيم؟
الجواب
الإنسان يدعو بالقدوة، وينظر إلى الدين على أنه كل لا يتجزأ، أعني أن الدين كله دين وكله شرع، وهو يريد أن يدعو الناس إليه أصولاً وفروعاً وواجبات وسنناً، ولذلك ظهور الإنسان أمام الناس بالمظهر المتبع للسنة، قد يكون نوعاً من الدعوة، لكن -أحياناً- بعض السنن تكون غريبة على بعض البيئات، أو بعض الأشخاص، وهو يريد أن يدعو هذا الإنسان أو ينكر عليه منكراً عظيماً، أو يأمره بمعروف عظيم تركه، ويرى أنه لو فعل أمامه هذه السنة، لترتب على ذلك فوات ما هو أعظم منها، فها هنا يدخل باباً واسعاً ومهماً للغاية، خاصة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو باب المصالح والمفاسد، وهذا الباب له قواعد وأصول.
فمثلاً: يترتب على ذلك بعض المفسدة أن يترك سنة من السنن، وإن رأى أن هناك مفسدة أعظم ولا مصلحة أو المصلحة أقل، ترك هذه المصلحة القليلة تجنباً للوقوع في المفسدة، مثل: لو كان سيرتكب محرماً، وفى نفس الوقت قد يكون المنكر الذي سيغيره قد يكون أقل مما وقع فيه أو مثله أو أكثر لكن أمله في الإصلاح ضعيف، أما إذا تساوت المصلحة والمفسدة فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة -كما يقال- وتطبيق هذه المصلحة يختلف من شخص إلى آخر، وهناك ميدان رحب للاجتهاد، لكن الأصل أن الإنسان لا يرتكب محذوراً شرعياً.(250/34)
إنكار المُواقِعْ للمنكر
السؤال
فما رأي الشرع فيمن أقام على معصية وهو في الخفاء وهو في موقع القدوة، ويعترف بأنها معصية وأنه عاص لله تعالى، ثم يخرج وينكر هذه المعصية وينصح الناس بتركها، فهل يجوز له ذلك؟
الجواب
هذه من المسائل التي اختصرتها لضيق الوقت، وهي: الفاسق أو العاصي أو الواقع في المنكر، أيحتسب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أم لا؟ والجواب: نعم! حكمه كغيره من المسلمين، هذا القول الصحيح الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، أن الإنكار عليه واجب ولو كان واقعاً في المعصية، ولذلك يقول ابن عطية في كتابه المحرر الوجيز، يقول: الإجماع على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب لمن أطاقه وأمر بمعروف، وأمن الضرر على نفسه، وليس من شرط الآمر والناهي أن يسلم من جميع الذنوب والمعاصي، ثم قال: وقال بعض الأصوليين: حق على من يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً.
وقال بعض السلف -أظنه الحسن البصري -: لو لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر، إلا من كان سالماً من ذلك، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى أحد عن منكر، قال الإمام مالك -تعليقاً على هذا-: من ذا الذي ليس فيه شيء، من هو سالم من المنكرات والمعاصي؟! والدليل على هذا أن تعلم أن الله أمرك بأربعة أشياء:- فعل المعروف، والأمر به، وترك المنكر، والنهي عنه، والإخلال بواحد من هذه الأمور لا يبيح لك في شرع الله ودينه أن تخل بالآخر.
وهذه القضية ظاهرة، ولهذا يقول الله عز وجل عن بني إسرائيل بعد أن ذكر لعنهم قال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] أليس العتاب لهم الآن لأنهم لم ينتهوا عن المنكر الذي فعلوه؟! إذاً كان يجب عليهم أن يتناهوا عن المنكر وهم يفعلونه، كان يجب عليهم أن يتناهوا عن المنكر الذي فعلوه، وهذه قضية استغرب أن كثيراً من الناس حين يسمعونها يتعجبون منها، يا سبحان الله!، هل تقصيرك ووقوعك في المنكر يجيز لك أنك تقع في معصية أخرى وهي ترك النهي عنه، من قال هذا؟! طبعاً بعض الناس قد يتمسكون بأدلة يفهمونها فهماً على غير وجهها، مثل {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] ومثل {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] ومثل حديث أسامة {في الرجل الذي يلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، يقولون: يا فلان مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} والحديث في الصحيحين.
والجواب: أن هذه الأدلة فهمت على غير وجهها، فمعنى قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] أن الإنسان لا يصح أن يقول ما لا يفعل، كأن يدعي شيئاً ليس فيه، فيقول: قاتلت، جاهدت، فعلت، وهو لم يفعل، فإن الله يمقت على الإنسان أن يدعي ما لا يفعل: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] .
أما الآية الأخرى في بني إسرائيل والحديث، فإن العقوبة ليست لأنهم أمروا بالبر أو لأن الرجل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا!، إن عقوبة بنى إسرائيل لأنهم نسوا أنفسهم، فعذبوا لأنهم وقعوا في المنكرات، وعقوبة الرجل لأنه كان يأتي المنكر ويترك المعروف، إذاً: العقوبة ليس لأنه أمر ونهى، وإنما لأنه فعل المنكر وترك المعروف، فلينتبه لهذا.
وأضرب أمثلة تقرب الموضوع لكم: افترض أن والياً أو مسئولاً في جانب من جوانب الحياة، أو في مكان ما، يقع في بعض المعاصي، قد يشرب الخمر؛ فهل شربه للخمر يجعله يسمح للناس أن يشربوا الخمور في الشوارع، أو في بيوتهم، هل يقول أحد بهذا؟! ما قال أحد من المسلمين بهذا -أبداً-!، فيجب عليه أن يمنع الناس وينكر عليهم، ولو كان في ذاته واقعاً فيها.
مثلاً: أب في بيته واقع في معصية، لنفترض التدخين -مثلاً- أو سماع الغناء، أليس واجباً عليه أن يمنع أبناءه؟ بل يجب عليه أن يقول لهم: يا أبنائي! أنا وقعت في هذا المنكر، وعسى الله أن يتوب عليَّ، وربما الخروج منه صعب بعد أن تورطت، ولكن أنتم ما دمتم بعيدين فانجوا بأنفسكم ولا تتورطوا في هذا الأمر، لكن يشترط ألا يكون على سبيل السخرية، أما أن يقوم أحد بإعطاء الآخر كأس الخمر، ويقول له: تفضل، اشرب ترى هذا حرام، هذا يسخر.
بل يلومون أنفسهم: إنما نحن مخطئون، عسى الله أن يتوب علينا، هذا لا شك في تحريمه، نحن مقرون بذنوبنا، وما أشبه ذلك، فهذا يكون إنكاراً بلطف على نفسه وعلى من حوله.(250/35)
مفاهيم خاطئة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما معناه {إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وعندما نسمع هذا الحديث ونعرضه على واقعنا، فإننا نجد فيه تطابقاً نوعاً ما، فهل آن أوان إصلاح النفس والاكتفاء بذلك؟
الجواب
الحديث: صحيح، ولكن ظن السائل أنه متطابق مع الواقع، وهذا غير صحيح، وهذا الحديث يطول الكلام عنه، هذا بحد ذاته موضوع مستقل، لكن أشير إلى أن هناك قاعدة عامة: أن الناس إذا أرادوا تقويم واقع ما، أو الحديث عن هذا الواقع يتفاوتون، فبعض الناس يبالغ في التفاؤل، حتى لا يرى إلا الجانب المشرق، لا يرى إلا الأشياء الطيبة، وبعض الناس يبالغ في التشاؤم حتى لا يرى إلا الأشياء السيئة والرديئة، وبعضهم يضرب لهذا مثلاً، فيقول: إن اثنين أحدهما متفائل والآخر متشائم، عُرض أمام أعينهما كأس، نصفه ماء - فيه ماء إلى نصفه- فتجد المتشائم يقول: هذا الكأس نصفه فارغ، وتجد المتفائل يقول هذا الكأس نصفه ملآن، والحقيقة واحدة، والإنسان الثالث معتدل المزاج، ينظر نظرة متوازنة، فيقول: هذا الكأس نصفه فارغ ونصفه ملآن.
والمقصود بذلك أن من الناس من ينظر اليوم للمجتمع، فيقول: يا أخي! المجتمع ولى وأدبر وانتشرت المنكرات، ثم يذكر لك قصص شباب، وقصص انحراف جماعية وفردية وكذا، حتى تَسْوَدّ الدنيا في عينيك، ولا يهنأ الإنسان -أحياناً- بعيشه إذا سمع مثل هذه الأخبار.
وآخرون -إذا جلسوا- ذكروا لك قصص الخير والصلاح، وفلان اهتدى، وفلان استقام، والمدرسة الفلانية والمكان الفلاني، والمسجد الفلاني، وذكروا لك من قصص الدعاة والعلماء وطلاب العلم والمشايخ، ما يبهج النفس، وهذا موجود في العالم كله.
ولذلك أسأل السائل وغيره سؤالاً: إن الذي يدعو إلى الله عز وجل، هل يجد من يستجيب له أو لا يجد؟ لا أعتقد أن أحداً يقول: لا يجد، وهذا دليل على أنه ما وصلت القضية إلى إعجاب كل ذي رأي برأيه، بمعنى أن الضابط في ذلك؛ متى يُتْرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ الآن ألسنا عرفنا وجوبه بالقرآن والسنة والأحاديث المحكمة الصريحة؟ بلى، ولكن متى نخرج عن هذا الوجوب المحكم الظاهر المستيقن؟ لا نخرج إلا بيقين -أيضاً- ومتى يحصل اليقين بأنه ليس عليك أن تأمر ولا تنهى؟ الجواب: وهو الضابط إذا صرت في حال تأمر فلا تطاع، وتنهى فلا تطاع، وعملت على ذلك بما تستطيع من الوسائل والأساليب والحيل، فما استجيب لك.
حينئذٍ أنت في حِلٍ من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا متى يكون؟ كما أسلفت في أول الحديث: هذا لا يكون في مستوى الأمة كلها إلا قبيل قيام الساعة، وبعد قبض أرواح المؤمنين، لا يكون في الأمة كلها إلا في ذلك الوقت، فانتبهوا لهذا حتى لا تطيش الموازين في نفوسنا.(250/36)
أنتم شهداء الله في الأرض
تحدث الشيخ عن حديث: {أنتم شهداء الله في الأرض} فتناوله من جوانب عديدة، وضح بها كيفية تعليم النبي أصحابه، وهل هذا الحديث يخص الصحابة، أم يعم المسلمين، ثم وضح أشياء ينبغي على المسلم أن يكتسب بها ثناء المسلمين، وذلك من أنواع الصبر والصلة والإحسان، وتحمل الأذى والصبر عليه، ثم ذكر أمثلة ممن أثنى عليهم المسلمون عبر التاريخ، كعمر، والأئمة الأربعة، وبعض علماء العصر كابن باز، وخلال ذلك ذكر أنه ينبغي ألا نحكم لفرد بعينه بجنة ولا نار، وأخيراً حكم غيبة الفاسق المجاهر.(251/1)
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد الذي حمل الرسالة وبلغها، وأقام الحجة ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى بلغ البلاغ المبين.
لله تلك اللحظات والساعات التي كان يقضيها خير البرية بين أصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار! وما أطيب الأرض التي وطئتها أقدام هؤلاء القوم الطيبين الطاهرين -مكة والمدينة- خير بقاع الأرض وأحبها إلى الله عز وجل!!.
كان صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه ويلقنَهم من دروس الحكمة والعلم بالقول والفعل، ما يعجز الأولين والآخرين من البشر، فإن الله عز وجل آتاه الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً، كان صلى الله عليه وسلم يوماً جالساً مع أصحابه، فقال كما رواه عمر بن الخطاب، وذكره البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: {ما من أحد منكم يشهد له أربعة بالخير إلا أدخله الله الجنة فقال رجل: وثلاثة يا رسول الله؟! قال: وثلاثة، قال: واثنان؟ قال: واثنان، قال عمر رضي الله عنه: ثم لم نسأله عن الواحد} .
فعلمهم صلى الله عليه وسلم بالقول، أن أي امرئ شهد له أربعة من المؤمنين بالخير أو ثلاثة أو اثنان، فإن الله عز وجل يدخله الجنة، أما الواحد فلم يسألوه عنه؛ لأنهم أدركوا أنه إذا لم تقبل شهادة الواحد في أمور الدنيا، في التجارات والبيع والشراء، في الأراضي، فكيف تقبل شهادة الواحد على صلاح الإنسان، ليكون أهلاً لدخول الجنة؟ ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عن الواحد.
ولما لقنهم هذا الدرس القولي البليغ، الذي فيه من الحكم والمعاني والأسرار ما سوف يتجلى لنا شيء منه الآن، أحب صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم الدرس نفسه بصورة عملية.
ففي صحيح البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: {كان يوماً جالساً بين أصحابه، فمرت جنازة -مُر من أمامهم بجنازة- فأثنى الناس على صاحب هذه الجنازة خيراً- قال أحدهم: فلان نِعْمَ الرجل، كان يشهد الصلاة مع الجماعة، قال الآخر كان محسناً إلى جيرانه، قال ثالث: كان وصولاً للرحم، وقال رابع وخامس وسادس، ويبدأ الثناء عليه من هذا وهذا وهذا- فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت} .
وما هي إلا لحظات حتى تمر جنازة أخرى، وإذا بالمدح ينقلب ذماً قال رجل: هذه جنازة فلان بئس الرجل، كان لا يشهد الصلاة مع الجماعة، قال الآخر: كان مؤذياً لجيرانه، قال الثالث: كان قاطعاً لرحمه عاقاً لوالديه، قال رابع: كان أكّالاً لأموال الناس بالباطل، وقال خامس وسادس وسابع.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت} ويتساءل الصحابة رضي الله عنهم.
فيسأله عمر بن الخطاب يا رسول الله ما وجبت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: {أما الأول فأثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وأما الثاني فأثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه} وفي رواية أبي داود {بعضكم على بعض شهداء} وهكذا تركها صلى الله عليه وسلم كلمة خالدة، {أنتم شهداء الله في أرضه} .(251/2)
وقفات مع حديث أنتم شهداء الله في أرضه
أيها الإخوة المؤمنون: لنا أربع وقفات في أربعة معالم، لنجلس في هذا المجلس الذي نتذكر فيه شيئاً من هديه صلى الله عليه وسلم، شيئاً من أدبه الذي كان يحلى به أصحابه رضي الله عنهم.(251/3)
من هم شهداء الله في الأرض؟
أما الوقفة الأولى: فمن المخاطبون في هذا الحديث {أنتم شهداء الله في أرضه} من هم؟ مما لا شك فيه أن شهادة الكفار غير مقبولة، لأن الكافر مبغض للمؤمنين بكل حال، والله عز وجل يقول في شأنهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32] .
فالكافر قد انقلبت الموازين في نظره، فالمهتدي المؤمن عنده ضال، والمستقيم عنده منحرف، والصالح عنده طالح، فلا عبرة بكلامه يقول عز وجل عن الكافرين: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:72] .(251/4)
حرمة التألي على الله بالمغفرة أو بعدمها
إذاً الناس شهداء الله في أرضه، لكن لا ينبغي أن يحكموا على إنسان بالجنة، ولا يحكموا على آخر بالنار، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في، صحيح مسلم وغيره؛ {أن رجلاً من بني إسرائيل كان عابداً، فكان يأتي إلى رجل آخر من الفساق الفجار فينهاه عن معصيته فيقول له: خلِّ بيني وبين ربي ولا يستجيب له، فقال هذا الرجل العابد: والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت له وأحبطت عملك} .
أنت أيها العابد أحبط الله عملك، لماذا؟ لأنك مغرور، مغرور معجب بعملك، ما الذي جعلك تحكم بأن الله لا يغفر لفلان، الله عز وجل لا يعلم ما عنده إلا هو، ربما يعمل إنسان عملاً عظيماً يخيل إليه أنه به يدخله الجنة، ثم يجعله الله هباء منثوراً، لأنه دخله رياء أو عجب، أو غرض دنيوي، وربما يعمل الإنسان عملاً يسيراً يخيل إليه أنه لا شيء، ويدخل بهذا العمل الجنة.
يُروى أن زبيدة لما ماتت رآها رجل في المنام فقال لها: (ما فعل الله بك؟ فقالت: كدت أهلك، ولكن الله رحمني بركعتين كنت أصليهما قبل الفجر) ركعتان كانت تصليهما، كانت سبباً في إنقاذها من الهلاك.
أما الأعمال الأخرى وهي أعمال كثيرة، والإحسان إلى الناس وو إلخ، فربما لم يكن لها من المنزلة ما لهاتين الركعتين، ولذلك يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: (اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحاً، وإذا ما هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحاً) فربما تعمل عملاً يسيراً يكون سبباً في نجاحك، والعكس بالعكس، ربما يعمل الإنسان عملاً عظيماً، ثم يتوب منه، فيكون سبباً في نجاته؛ لأنه كلما تذكر هذا العمل زاد من أعماله الصالحة.
وربما يعمل عملاً سيئاً يسيراً ويستهين به، فيكون سبباً في هلاكه، فلا يعلم ما عند الله إلا الله، إنما نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، هذا المعلم الأول.(251/5)
شهادة الكافر والفاسق
إذاً فالكافر لا تقبل شهادته على مؤمن في الدنيا والآخرة، بل إن شهادة الكفار على المؤمنين هي شهادة عكسية؛ فإذا رأيت الكفار يسبون مؤمناً ويشتمونه، فاعلم أنه رجل صالح، وإذا رأيتهم يمدحون إنساناً ويثنون عليه، فالغالب أنه رجل منحرف؛ لأنهم إنما يذمون إنساناً لاستقامته على الخير، وصلاحه وفلاحه وورعه وتقواه، وكذلك الفساق؛ فإننا نعلم أن الفاسق لو شهد على ريال أو دجاجة، أو شبر أرض أو ما دون ذلك، أمام محكمة من محاكم الدنيا، فجاء رجل وقال هذا الإنسان فاسق، هذا لا يصلي مع المسلمين، هذا يأكل أموال الناس بالباطل، هذا يأكل أموال اليتامى ظلماً، هذا يتعاطى السحر، هذا عاق لوالديه، ما قبلت شهادته.
وإذا كانت شهادته لا تقبل على ريال، أو على دجاجة، أو على شبر أرض، فكيف تقبل على صلاح إنسان أو فساده.
فلا تقبل شهادة الفساق؛ لأن الفاسق هو أيضاً في الغالب يحب نظراءه وأشباهه، ويقول بعض الخبراء في العصور المتأخرة: إن الإنسان المنحرف يكره الإنسان الصالح لماذا يكرهه؟ يكرهه لأنه يذكره بالصلاح، الذي كان يجب أن يتحلى به، والفطرة التي كان يجب أن يكون عليها، فكأنه يحسده على ما آتاه الله من فضله فيغمزه ويتكلم فيه.
وقد حدثني بعض شيوخنا أنه كان هناك أحد المشايخ المعروفين في البلد، وكان شيخاً عالماً عابداً تقياً، فذات يوم لحق به أحد الفساق الدعار الفجار وقال له: يا فلان والله إني لأبغضك، فقال: تحلف بالله، قال: والله إني لأبغضك.
فقال: جزاك الله خيراً ثم ذهب هذا العالم إلى السوق، وكان الناس في وقت جوع وشظف في العيش، فاشترى له كسوة وشيئاً من القهوة وشيئاً من الشاي، وبعض الحاجيات الضرورية ووضعها -صرها- في هذه الكسوة، ثم أهداها إليه، وقال له: هذه عن البشارة التي بشرتني بها أمس، ما البشارة؟ قال: بشرتني أنك لا تحبني، أنا مصيبة عندي لو كنت تحبني؛ لأني أعرف أنك لو كنت تحبني لكان معنى ذلك أنني مثلك وعلى شاكلتك، فلما أبغضتني زاد أملي ورجائي في نفسي، أن يكون فيّ شيء من الصلاح سبب بغضك.
فالفاسق لا يقبل كلامه، ولا تقبل شهادته أيضاً على الصالحين الخيرين المستقيمين، ولذلك جاء في بعض ألفاظ الحديث {المؤمنون شهداء الله في أرضه} والفاسق لا يستحق أن يوصف بأنه مؤمن، هل نقول على الفاسق بأنه كافر؟ كلا، إذا كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلي مع الجماعة، أو يصلي ولو في بيته، ولا يرتكب مكفر ولا ناقضاً من نواقض الإسلام، فنحن لا نكفره، لكن لا نعطيه وصف الإيمان على الإطلاق، فنقول مؤمن، لا إما أن نقول: مؤمن ناقص الإيمان، أونقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
فلفظ الإيمان لا يطلق إلا على إنسان لا يظهر أمور الفساق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {المؤمنون بعضهم على بعض شهداء، المؤمنون شهداء الله في أرضه} .
إذاً من هم الذين تقبل شهادتهم؟ من هم شهداء الله في أرضه؟ هل هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط؟ قال بعض أهل العلم: نعم هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط، لكن هذا قول لا يعبأ به، بل لا يدل عليه دليل، والظاهر أن الحديث عام في كل إنسان صالح مستقيم، فالخيرون الصالحون المصلون الذين يترددون على المساجد، ويعرفون بالخير، ولا يعرف منهم فسق، إذا أثنوا على إنسان خيراً، كان هذا دليلاً على أنه من أهل الجنة، وإذا أثنوا على إنسان شراً كان هذا دليلاً على أنه من أهل النار، ويدخل في ذلك الرجال والنساء على حد سواء.(251/6)
الفرق بين الشهادة بالصلاح، والشهادة بنيل الجنة أو العكس
لكن لا ينبغي أن نقطع لإنسان أنه من أهل الجنة، ولا نقطع لآخر أنه من أهل النار، وإليكم هذين المثالين أيضاً، وقعا في عهده صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين {أن عتبان بن مالك رضي الله عنه، وكان رجلاً من الأنصار، وكان رجلاً ضخماً -كبير الجسم- ففي آخر عمره ضعف بصره، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله إنني قد ضعف بصري وأحب أن تأتي إلى بيتي فتصلي في مكان اتخذه مصلى-تصلى في موضع من البيت حتى أصلي فيه، أتخذه مصلى في داخل البيت- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غداً آتيك، فلما كان الغد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الضحى، ومعه نفر من أصحابه، أبو بكر وعمر وأنس بن مالك ومحمود بن لبيد وغيرهم، فدخلوا إلى عتبان رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين تحب أن أصلى؟ فقال: في هذا المكان، وأشار رضي الله عنه إلى مكان، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى بأصحابه -كانت صلاة الضحى- ولما صلى جاءوا إلى مكان وجلسوا فيه، فحبسهم عتبان رضي الله عنه على طعام صنعه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما أكلوا الطعام بدأوا يتحدثون.
فذكر أحدهم رجلاً من أهل المدينة، اسمه مالك بن الدخشم، فقال: واحد ذاك رجل لا يحب الله ورسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن لا شهادة له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، فقام رجل آخر، وقال يا رسول الله، إنا نرى وجهه إلى المنافقين -الرجل توجهه وعلاقته وحياته أكثرها إلى المنافقين ومعهم- فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الجزم؛ بأن هذا الرجل لا يحب الله ورسوله، وقال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله} فَيُفْهَمُ من ذلك أنك تثني على الإنسان بالخير، إن كان من أهل الخير، أو تثني عليه بالشر، إن كان من أهل الشر، لكن لا تحكم له بأنه لا يحب الله ورسوله، أو أنه من أهل الجنة أو من أهل النار.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الحكم على مالك بن الدخشم، بأنه لا يحب الله ورسوله، ففي المقابل استمع إلى هذه القصة، لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، كان معه ثلة من المهاجرين الطيبين الأخيار الأطهار الكرام، منهم رجل من قريش زاهد عابد، هو عثمان بن مظعون، أبو السائب رضي الله عنه وأرضاه، كان رجلاً من عُبّادِ الصحابة، فلما هاجر، كان المهاجرون أقل من الأنصار.
ولذلك تنافس الأنصار في المهاجرين، كل واحد أو كل بيت من بيوت الأنصار يقولون: لا!، نحن نريد فلاناً، منافسة في الخير، كل بيت من بيوت الأنصار يقولون: نريد نصيبنا من المهاجرين، من غير المعقول أن يذهب بنو فلان وبنو فلان بالمهاجرين، ونحن لا يصيبنا أحد منهم، فلما تشاحوا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم قرعة، أقرع بينهم، فتقول أم العلاء الأنصارية كما في صحيح البخاري، تقول: طار لنا عثمان بن مظعون أي وقع في سهمنا عثمان بن مظعون فجلس عندهم، وكان يصوم النهار، ويقوم الليل.
حتى إنه هَمَّ بأن يتبتل، هَمَّ بأن يترك الزواج ويترك الدنيا ويتفرغ للعبادة، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولذلك جاء في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: {نهى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون عن التبتل، ولو أذن له لاختصينا} كلهم كانوا يحبون العبادة، لو أذن له النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتركوا الدنيا والزواج وتفرغوا للعبادة.
لكن منعهم من ذلك وحجبهم عنه، حتى أن زوجة عثمان بن مظعون كما في الصحيحين جاءت إلى بعض أمهات المؤمنين، جاءت عند عائشة، وكانت متبذلة -ملابسها متواضعة لا يظهر فيها أي اهتمام بهيأتها- لما خرجت سأل النبي صلى الله عليه وسلم عائشة من هذه؟ قالت: هذه زوجة عثمان بن مظعون، فسألها: لماذا كانت متبذلة؟ قالت: إنها تقول أن عثمان ليس له حاجة فيها.
ليس له حاجة في الدنيا، ليس له سبيل إليها، فهو مشغول بعبادته وصلاته، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه عن ذلك، وأمره بأن يعطي كل ذي حق حقه، هذا الرجل العابد، مات في أول أزمنة الهجرة، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالسلف الصالح، فقال: {نعم السلف الصالح لنا عثمان بن مظعون} ؛ لأنه من أول من مات من المهاجرين.
المهم في القصة {عثمان بن مظعون يجود بنفسه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو فيه من الضيق -ضيق الاحتضار وفزع الموت وثِقل النزع- نزل النبي صلى الله عليه وسلم وطأطأ رأسه وقبله، ثم بكى صلى الله عليه وسلم، فقالت أم العلاء الأنصارية رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله تترحم على عثمان بن مظعون وتقول: شهادتي عليك، لقد أكرمك الله فشهدت، لكن شهدت بماذا؟ شهدت بأن الله أكرمه فما أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام- وقال لها: ماذا قلت؟ قالت: شهادتي عليك يا أبا السائب لقد أكرمك الله قال: لها صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟! قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فمن يكرمه الله إذا لم يكن عثمان بن مظعون رجل من خيرة الناس من عباد الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني والله وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، وإني لأرجوا له خيراً} .
فأفهمها صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يرجو ويخاف، نرجو الخير للمحسنين، ونخاف الشر والنار والعذاب على المنحرفين والفاسقين، لكن لا نحكم لهم {إني لأرجو له الخير} ثم قال: {إني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم} ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] {فلما قال لها ذلك صلى الله عليه وسلم حزنت حزنا شديداً، ثم نامت فلما كانت في المنام، رأت عثمان بن مظعون على أحسن حال، ورأت له عيناً تجري في النوم، فجاءت إلى سول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك عمله} العين التي رأيتها تجري له في المنام عمله الصالح، يظل يدر عليه بعد وفاته.(251/7)
الحرص على مودة المسلمين
أما المعلم الثاني: فإن الحديث يدل دلاله واضحة، على أن الإنسان المسلم يجب أن يحرص على كسب مودة المسلمين عموماً، ممن يشهدون أن لا إله إلا الله، وخاصة ممن يترددون على المساجد، ويصلون الجماعة، وكيف يكسب الإنسان مودة الناس؟ يكسب الإنسان مودة الناس بطرق كثيرة اقتصر منها على ستة وسائل:-(251/8)
كف الأذى
الوسيلة الرابعة: كف الأذى عنهم، وقد جاء أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له يا رسول الله: أي العمل أفضل قال: {إيمان بالله وجهاد في سبيله} قال: فأي الرقاب أفضل قال: {أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها} أي إذا أردت أن تعتق رقبة فالأغلى والأنفس هو الأفضل، قال أرأيت يا رسول الله، إن ضعفت عن بعض العمل-أنا إنسان ضعيف قد لا أستطيع أن أفعل لا هذا ولا هذا ولا هذا فماذا أصنع؟! فالإسلام ما نزل لطبقة خاصة من الناس، الإسلام نزل للناس كلهم، فلذلك قال: {أرأيت يا رسول الله إن ضعفت عن بعض العمل -ما أستطيع أن أعمل- قال النبي صلى الله عليه وسلم: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك} والحديث رواه البخاري ومسلم.
وأبو سعيد أيضاً يقول: {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أفضل الناس؟ قال: رجل مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله} ولا شك أنه أفضل الناس الذي يضحي بماله ونفسه، قال: ثم ماذا؟ قال: {رجل معتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه ويدع الناس من شره} هذا إنسان فيه شر إذا اختلط بالناس يسيء إليهم، يسيء إليهم بالقول والفعل ويعتدي عليهم، فيقال له يا أخي: الأفضل أن تعتزل، لأنك تؤذي الناس، بقولك وفعلك (يعتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره) وفي لفظ {ليس من الناس إلا في خير} أي الناس كلهم لا يعرفونه إلا في خير، ولابد إذاً من الكف عن أذى الناس.(251/9)
الصبر على الأذى
الأمر الخامس: هو الصبر على ما تلقاه من أذى الناس، فالناس لابد فيهم من أذى، كل واحد منا أيها الإخوة هو (مُؤذِي ومُؤذَى) في نفسه؛ لأن طبيعة الاجتماع قد تجعلك تفعل عملاً لا تقصد به.
إلا الخير، لكن يكون بالنسبة لبعض الناس غير موفق، ربما تجتهد مع إنسان وتحسن إليه فيما تظن، لكن ما وقع هذا الإحسان في موقع الإحسان، على سبيل المثال قد تقدم له أمراً، فيفسر هذا الشيء تفسيراً غير صحيح ويحمله في نفسه، فالناس مختلفون في طباعهم وعاداتهم وأمورهم، فكل إنسان يصدر منه أذى إلى غيره، وكذلك يصدر من غيره الأذى إليه.
فكذلك لابد من الصبر على الأذى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد وغيرهما وهو حديث صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على آذاهم} كأن المعنى إذا خالطت الناس، لابد أن تلقى منهم أذى، -أذى كثير- من ألوان الأذى: الأذى الدنيوي، حينما نكون جيراناً ويصبح بين أولادي وأولادك شيئاً من الشجار، الذي يحدث عادة بين الصبيان، هذا قد يتطور إلى مشكلة عندنا، لكن حين يكون عندنا إيمان ومعرفة بحقوق الإخوان والجيران، نصبر ونتحمل هذا الشيء، ونعرف أنه قد يكون عند الجار مثل ما عندك وأشد، وكذلك حينما نكون شركاء في الأرض في تجارة في شيء يحصل بيننا مثل ذلك، وكذلك الإخوان في البيت الواحد يحصل بينهم شجار.
فلابد من التحمل والصبر {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} .(251/10)
عدم سؤال الناس
أما الأمر السادس والأخير: من وسائل جلب وكسب مودة الناس فهو: أن لا تنافسهم في الدنيا، ولهذا جاء في الحديث {ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس} والإمام الشافعي رحمه الله كان يقول: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إليَّ عذبها وعذابها يقول الإمام الشافعي لقد جربت الدنيا يا إمام! أخبرنا ما هي؟ قال:- فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجنبتها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها ولذلك تجدون معظم المشاكل بين الناس، بسبب الخصومات الدنيوية؛ فإذا استطاع الإنسان منا ألا يتعلق بالدنيا تعلقا كبيراً، فليفعل، نحن لا نقول دع الدنيا وراءك، الإنسان لابد له من شيء من الدنيا، لكن لا يتعلق بها، لا تكون الدنيا كل همه؛ لأن الإنسان إذا صارت الدنيا كل همه، فربما يكون فقره بين عينيه، ولا يأتيه من الدنيا بكل حال إلا ما كتب له، فلابد من التقلل من الدنيا وخاصة إذا كان الإنسان يريد الإصلاح في أوساط الناس، أن يعرفه الناس بأنه رجل متخلٍ عن الدنيا ليس له فيها همة ولا طمع.
النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان شأنه مع الدنيا؟ اسمع هذه القصة العجيبة، وهي في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام صلى بأصحابه، صلاة العصر، فلما سلم قام مباشرة وذهب مسرعاً إلى بيته، فتعجب الناس، العادة أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا صلى استغفر وسبح والتفت على أصحابه وذكر الله، ثم جلس بينهم، وتحدث معهم وذكّرهم، هذه المرة لما سلم على اليسرى قام مسرعاً إلى بيته، فلما جاء استقبله أصحابه، خيراً يا رسول الله، قال: {ذكرت شيئاً من تبر كان عندي، فأحببت أن أوزعه بين الفقراء والمحتاجين} (ذكرت شيئاً من تبر) أي: من ذهب، ما أحب صلى الله عليه وسلم أن يجلس حتى ينتهي من التسبيح، ثم يذهب ليفرق هذا المال، بل ذهب بسرعة وأخرجه وأعطاه لغلام عنده ليوزعه على الفقراء.(251/11)
القيام بحقوق الناس
السبب الثالث: من أسباب كسب مودة الناس القيام بحقوقهم، وحقوق المسلمين كثيرة! يكفي منها أن تعلم ما حدده النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب في البخاري ومسلم قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع -بماذا أمرنا؟ - أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإبراز المقسم، ونصر المظلوم، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الدعوة} .
هذه سبع خصال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه وهي من الأمور التي توجب المودة والألفة بين المسلمين.
فرد السلام جاء في حديث عند محمد بن نصر المروزي، في تعظيم قدر الصلاة وغيره، أن من سلم على إنسان ولم يرد عليه رد عليه الملك، ولعن هذا الذي لم يرد السلام، إذا تعمد ترك السلام.
ولا شك أن رد السلام واجب، وكذلك تشميت العاطس، إذا حمد الله أن تقول له: يرحمكم الله، وكذلك أجابه الداعي إذا دعاك إلى وليمة عرس، وليس في هذه الوليمة معصية، ولا غناء محرم، ولا اختلاط، ولا تصوير، ولا غير ذلك من المنكرات، فيجب إجابته وتطييب خاطره بذلك، كذلك نصرة المظلوم، ويكون نصره بالقول وبالفعل.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن ماجة: {لا قُدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} لما ذهب المسلمون إلى الحبشة، ذكرت أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قصة غريبة قالت: يا رسول الله! رأيت امرأةً عجوزاً تحمل على ظهرها قربة من الماء تسقي، فمرت بشاب -شاب من هؤلاء الشباب المراهقين، الذين يتسكعون في الشوارع، ويؤذون الخلق- فلما رآها هذا الشاب وهي عجوز مسنة تعرض لها، ثم دفعها، فسقطت، فسقطت قربتها، فماذا صنعت هذه المرأة؟ لم تستطع أن تشكي إلى أحد، ولكنها قامت وقالت لهذا الشاب: ستعلم يا غُدر -يعني يا غادر- إذا نزل الله لفصل القضاء كيف يكون جزاؤك! فتعجبت أم سلمة مما رأت، وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: {صدقت، صدقت، لا قُدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه} والأمة إذا ما كان فيها من يأخذ فيها حق المظلوم، وينصره بالقول وبالفعل، فهي إلى هلاك وفناء وزوال، فالظلم سبب خراب الأمم وديارها، وضلالها وضياعها.
وكذلك زيارة المريض وعيادته وما فيها من تسليه، ومن ترويح، ومن إزالة الهم عن قلبه، وتطييب خاطره، بل ورد في الحديث الصحيح {أن من زار مريضاً لم يحضر أجله ثم قال: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا شفاه الله عز وجل} فتزور أخاك المسلم وتجلس عنده خمس دقائق تكون {في خَرْفَةِ الجنة حتى ترجع} كما في الصحيحين، أي خير أعظم من هذا؟ عمل قليل وخير كثير.
وكذلك اتباع الجنائز، علاقتك بأخيك المسلم لا تنته بموته، بل حتى في الآخرة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فلذلك حتى بعد موته يشرع أن تشيعه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه {ومن تبع جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قالوا يا رسول الله وما القيراط؟ أو وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين} وفي لفظ عند مسلم {أصغرهما مثل أحد} فمثل هذه الحقوق تؤديها لإخوانك المسلمين.
وفي حديث آخر حديث أبي هريرة في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه} .
الجزاء من جنس العمل، تنفس عن المؤمن كربة في الدنيا، يجازيك الله بجنس عملك، فينفس عنك كربة، لكن ليست من كرب الدنيا فقط، بل حتى من كرب يوم القيامة، وهي أهوال عظام وشدائد جسام، لا يعلمها إلا من عاشها.
تعين المسلم وتيسر عليه، ييسر الله عليك في الدنيا والآخرة، ألست تعلم أيها المسلم، أنه سيمر بك عسر في الدنيا؟ الصحيح قد يمرض، والغني قد يفتقر، والكبير قد يزول قدره ومكانه، فالدنيا لا بقاء لها ولا دوام، ولنفترض أنك بقيت صحيحاً قوياً غنياً ثرياً متمكناً إلى الموت، أليس الموت أعظم كربة في الدنيا، فإذا أردت الله عز وجل يكون معك في تلك الكربة، يثبتك بالقول الثابت ويرحمك، فأحسن إلى إخوانك المسلمين، ابحث عن الكربات ونفِّسّها، يسر عن المعسرين، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.
فإذا وجدت إنساناً وقع في خطأ فاستر عليه، إلا أن يكون هذا الإنسان مجرماً محترفاً، كما نجد في كثير من المجتمعات، بعض الناس الذين يسعون في الأرض فساداً، كمروجي المخدرات، مروجي الأفلام الخليعة -مثلاً- دعاة الجرائم، يبيعون الخمور للناس، يسعون بين الناس بأسباب الفساد، ويحاولون نشر هذه الأشياء، ومثلهم السحرة والمشعوذين، فمثل هؤلاء يجب على كل إنسان أن يسعى في فضحهم بكل وسيلة، هذه الوسيلة الثالثة لكسب مودة الناس: أداء حقوقهم.(251/12)
حسن الخلق
أما الوسيلة الأولى: التي تكسب بها مودة الناس فحسن الخلق، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وعن عائشة رضي الله عنها في مسلم {أنها سئلت ما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم: فقالت للسائل: تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خلقه القرآن} .
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يرتل على أصحابه صباحاً ومساءً أحاديث حسن الخلق، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: {ألا أخبركم بأحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون} .
ومرة أخرى {يجلس صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فيقول له رجل: يا رسول الله، ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فيكون الجواب منه صلى الله عليه وسلم: تقوى الله وحسن الخلق وما أكثر ما يدخل الناس النار؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: الفم والفرج} .
وهكذا يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه بحسن الخلق، ويبين لهم أن العبد يبلغ بحسن الخلق كما في حديث أبي الدرداء، وهو عند الترمذي بسند صحيح {يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم} درجة الصائم الذي لا يفطر ودرجة القائم الذي لا يفتر.
فحسن الخلق ذو مكان عظيم في الإسلام، فبشاشة الوجه وطلاقته، ولين الكلام، ولين الجانب، هي من الأشياء التي تحببك إلى الناس، وتقربك إلى الله عز وجل، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حصر المهمة التي بعث بها في حسن الخلق، فقال: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} .
وفي لفظ {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} والحديث رواه مالك في الموطأ، وابن سعد والبيهقي في الشعب، وغيرهم وهو حديث صحيح.
فالأخلاق على جانب كبير من الأهمية، في تحبيبك إلى الناس، وتحبيبك قبل ذلك إلى الله عز وجل، فالله يحب الإنسان اللطيف الوديع الهادي الخلوق البشوش، وهذه كلها صدقات منك على الناس، ليست الصدقة أن تخرج من جيبك مالاً، وتعطي الفقير وأنت مكفهر في وجهه عابس، كلا، بل هذا من الصدقة -المال من الصدقة- ومن الصدقة أن تلقى أخاك بوجه طلق، وتتبسم في وجهه، وتهش وتبش له، وتحسن إليه فهذا حسن الخلق.(251/13)
الإحسان إلى الناس
الأمر الثاني: الذي يحببك إلى الناس ويجعلك تكتسب مودتهم، هو الإحسان إليهم، الإحسان والرسول صلى الله عليه وسلم يلقننا من دروس الإحسان شيئاً عجيباً، فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث شداد بن أوس الذي رواه مسلم: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته} أي نفترض أن الإنسان يريد أن يذبح ذبيحة، فهنا الإسلام يطالبك بأن تكون محسناً لهذه الذبيحة وأنت تذبحها.
فمثلاً: لا تحد الشفرة أمام الذبيحة، ولا تؤذيها، بل اجعل السكين حادة حتى تزهق روحها بسرعة، ولا تذبح واحدة أمام الأخرى، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم، وكل سبب من أسباب الإحسان إلى الذبيحة مطلوب، وهذه الذبيحة بعد خمس دقائق سوف تكون انتهت، وهي حيوان لن يلقاك يوماً من الأيام، ويحقد عليك أو يسألك لماذا ذبحته بهذه الطريقة أو تلك؟! ومهما آذيته فهو سوف تزهق روحه بعد دقائق، ومع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرك بأن تحد شفرتك، وتريح ذبيحتك.
وخذ مثلا آخر: رجل مستحق للقتل؛ إما لأنه قتل نفساً بغير حق، أو لغير ذلك من الأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر من يقتله بأن يحسن القتلة -يعني طريقة القتل- وإذا كان الإسلام يأمرك بأن تحسن إلى الذبيحة، وتحسن إلى القتيل، فما بالك بغير ذلك؟ ما بالك بالإحسان إلى غيره من سائر الناس؟ بل أعجب من ذلك وأعجب، أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أصحابه بتلك القصص العجيبة، التي تهز النفوس يوماً من الأيام، يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: {إن امرأة من بني إسرائيل أصابها العطش، فذهبت حتى وجدت بئراً فنزلت فشربت، ثم صعدت فوجدت كلباً يلهث الثرى من شدة العطش، فقالت هذه المرأة: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغني} ولذلك الإنسان إذا بلغه الجوع والعطش تذكر المحتاجين، والشاعر من قبل كان يقول: لعمري لقدماً عضني الجوع عضةً فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا والله عز وجل أرشدنا وأمرنا بالصيام، حتى نتذكر الفقراء والمحتاجين، هذا من أسرار الصيام فنحسن إليهم.
المهم أن هذه المرأة قالت: {لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزعت خفها ونزلت إلى البئر ثم ملأت الخف بالماء وعضته بفمها وتمسكت بيدها وصعدت البئر، ثم سقت الكلب} وكانت بغية زانية، تتاجر بعرضها، فلما حصل منها هذا العمل الذي هو في نظرنا بسيط، {شكر الله لها، فغفر لها} ولعل الله تاب عليها، فأقلعت عما كانت عليه.
انظر كيف تكون قيمة الإحسان، الإحسان إلى كلب، فما بالك بالإحسان إلى مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، كيف يكون قدره عند الله عز وجل؟.
وفي مقابل ذلك أخبرنا صلى الله عليه وسلم، عن المرأة الإسرائيلية الأخرى، التي ذكر لما كان يصلي الكسوف، والحديث في الصحيحين، أنه كسفت الشمس، فصلى صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وأطال الصلاة، فتقدم أثناء الصلاة، ثم تكعكع وتراجع إلى الوراء، فلما سلم قال له أصحابه: يا رسول الله! رأيناك تقدمت ثم رأيناك تكعكعت -يعني تراجعت إلى الوراء- فقال عليه الصلاة والسلام: {أما حين رأيتموني تقدمت فإني رأيت الجنة في عرض هذا الجدار فهممت أن آخذ منها قطفاً من عنب، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ثم عرضت لي النار حتى قلت: يا رب! وأنا فيهم؟ -يعني خشي أن تأكل النار المدينة في ذلك العصر- فقال: يا رب! كيف تعذبهم وأنا فيهم} ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أنه رأى فيها ورأى فيها، ورأى فيها صاحب المحجن، وهو رجل يسرق الحجيج بمحجنه، وذلك أن معه عصا في نهايتها محجن، فيضعه في متاع الحاج، ثم يجره فإذا فطن الحجاج له، قال: أنا ما علمت، إنما تعلق هذا بمحجني، وإذا لم يفطنوا له سرقه، فيقول: {رأيته متكئاً على محجنه} ورأى عمرو بن لحي الذي سيب السوائب، وجلب الأصنام إلى جزيرة العرب، رآه يجر قصبه -والعياذ بالله يجر أمعائه في نار جهنم- وهو أول من سيب السوائب، قال: {ورأيت امرأة تخمشها هرة، حبستها هذه المرأة، لا هي أطعمتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} فماتت فدخلت فيها النار.
إذاً يا مسلمون! الإحسان إلى القطط والكلاب والحيوانات، هذا له مكانه عند الله عز وجل، فما بالك بالإحسان إلى المسلمين؟ ما بالك بالإحسان إلى أصحاب لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ ما بالك بالإحسان إلى المترددين على المساجد، والمحافظين عليها؟! لا شك أن له عند الله فضل عظيم.(251/14)
نماذج من المشهود لهم بالخير(251/15)
ابن باز
انظر على سبيل المثال سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز كل الدنيا تحبه، من عرفه ومن لم يعرفه، القريب والبعيد، فإذا جاء إلى مكان اجتمعت حوله القلوب، يتكلم بكلام يسير وألفاظ معدودة ولا يتنطع ولا يتوسع، لكن مع ذلك كلامه على القلوب كالمطر على الأرض، وإذا جاء إلى مكان حف به الناس، هذا يسأله وهذا ينظر إليه، وهذا يسلم عليه، وهذا يدعو له، فلا يصل من سيارته إلى المكان الذي يريد، إلا بعد كلفة وعناء، قلوب الناس تحف به.(251/16)
عبد الله بن المبارك
هذا يذكرني بالقصة التي حصلت لـ عبد الله بن المبارك، وكان من علماء السلف، ذكر العلماء كـ الذهبي وغيره، أن هارون الرشيد خرج إلى الرأفة، زار بلداً من بلاده، وكان موكب هارون الرشيد يسير في اتجاه، معه الجنود والشرطة والخدم والأعوان إلى آخره، وأم ولد -أمة- عند هارون الرشيد، وجدت أن موكب هارون الرشيد يسير في هذا الاتجاه، والناس يتجهون إلى مكان آخر قالت: إلى أين يسير الناس؟ فالعادة أن الناس يستقبلون الأمير الخليفة، ما بال الناس يسيرون في اتجاه آخر؟ فقيل لها عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث -يعني في العلم- قد قدم إلى الرأفة، فالناس قد انجفلوا إليه، وثار الغبار وتقطعت النعال وعبد الله بن المبارك ليس معه شُرط، ولا أعوان ولا خدم، ولا حاشية، ولا، ولا ما معه إلا حماره الذي يركبه، وربما يكون معه واحد أو اثنان أو ثلاثة من تلاميذه، والناس منجفلون إليه، وتعجبت هذه المرأة، وقالت: هذا والله هو الملك، هذا والله هو الملك، لا ملك هارون الرشيد، الذي يقاد الناس إليه بالسياط، كالشرط والأعوان، فالناس تحف قلوبهم بالإنسان الصالح المحسن إليهم، الحريص على مصلحتهم الدينية والدنيوية.(251/17)
عمر بن عبد العزيز
انظر على سبيل المثال عمر بن عبد العزيز كيف حزن الناس في مقتله؟ وكيف أجمعوا على الثناء عليه ومدحه؟ ولا زال الناس إلى اليوم يذكرون عهد الخليفة العادل خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز.(251/18)
الأئمة الأربعة
انظر الأئمة الأربعة: أحمد والشافعي ومالكاً وأبا حنيفة، كل الدنيا تجمع على أن هؤلاء الأئمة لهم قدرٌ عظيم، ومكانة وجلالة وفقه وعلم، فتجد أن الناس كلها تقلد، إما الشافعي أو مالكاً أو أبا حنيفة أو أحمد، في الأصول والفروع في الدين، وما ذلك إلا لما منحهم الله عز جل من الصدق والإخلاص والإيمان، فالناس شهداء الله في أرضه.
الإمام أحمد لما مات حضر جنازته مئات الألوف، حتى إنهم قدروا بما يزيد عن مليون، الذين حضروا جنازته في بغداد، وصار زحام شديد حتى إن بعض الناس مات من شدة الزحام، وكان في وقت حياته يقول لأعدائه وخصومه قولوا لهم: [[الموعد بيننا وبينكم الجنائز] فمن خصوم الإمام أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، لما مات ما حضر جنازته إلا ثلاثة فقط.
الإمام أحمد لما مات حضر جنازته مئات الألوف، الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية لما مات رحمه الله، حضر جنازته كذلك أعداد هائلة من الناس، وخرجت النساء تنظر في الأسطح، وفتحت الأبواب ليتوضأ الناس في كل مكان، وازدحمت الشوارع والأزقة والطرقات والمقابر، وظل الناس أفواجاً بعد أفواج يترددون على المقبرة أياماً {أنتم شهداء الله في أرضه} ولا زلنا نجد إلى اليوم، أن العلماء الصادقين، يحبهم الناس ويُلهمون مودتهم ما هذا؟ كل المسلمين تجتمع قلوبهم على العلماء الأجلاء، الذين عرف عنهم العلم والعمل والصدق والإخلاص.(251/19)
عمر بن الخطاب
إخواني الكرام: المعلم الثالث: من معالم هذا الحديث أن نتذكر واقع كثير من الناس الذين طبقوا هذا الحديث، أو انطبق عليهم هذا الحديث، نحن نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي روى لنا قوله صلى الله عليه وسلم {ما من مسلم يشهد له أربعة إلا أدخله الله الجنة} لما طعن عمر رضي الله عنه وأرضاه، في قصته الشهيرة، نقل من المسجد -وقد طعن في محراب المسجد- وكان الذي طعنه قد اختفى في الظلام، ولما جاء عمر وسوى الصفوف وقال: استوا وكبَّر، تقدم إليه أبو لؤلؤة وطعنه ثلاث طعنات في بطنه، فخر صريعاً، وهو يقول: (قتلني الكلب قتلني الكلب) فتقدم عبد الرحمن بن عوف وصلى بالناس، وقرأ بهم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] وسورة النصر أو نحوهما، ثم حمل عمر رضي الله إلى بيته فخرج، فقال للناس: انظروا من قتلني، فخرج الناس ينظرون فكان هؤلاء لا يمرون على نفر من الصحابة، إلا وجدوهم مفجوعين؛ حتى كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل ذلك، كلهم فجع في مقتل عمر رضي الله عنه.
هذا أنموذج من قوله صلى الله عليه وسلم {أنتم شهداء الله في أرضه} الناس يدخلون أفواجاً على عمر كل واحد يدخل، يا أمير المؤمنين جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فعلت وفعلت وفعلت، حتى يدخل عليه ابن عباس ويثني عليه خيراً [[هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي وهو عنك راض، ثم كنت وزير صدق لـ أبي بكر، ثم وليت فأحسنت]] [[أتشهد لي بهذا يا بن عباس]] فيقول: نعم.
يأتي علي بن أبي طالب فيشهد له، يأتي غلام من الأنصار شاب، فيثني على عمر خيراً.
فلما ولى هذا الشاب وجد عمر ثوبه طويل، فقال: [[ردوا عليَّ الفتى -فلما ردوه عليه- قال: يا ابن أخي ارفع إزارك، فإنه أبقى وأتقى وأنقى]] يلقي الحكمة حتى وهو في الموت، اتقى الله عز وجل، وانقى للثوب، وأبقى له، أي يبقي مدة أطول، مما إذا كان نازلاً يصيب الأرض.
عالم المسلمين كله فجع بمقتل عمر، بل إلى اليوم كل مسلم إذا قرأ قصة مقتل عمر رضى الله عنه بكى وحزن وتأثر، وبعد عمر رضى الله عنه نجد مثل ذلك في كثير من الناس.(251/20)
غيبة المجاهر بفسقه
المعلم الرابع والأخير: هو الإشارة إلى أن الإنسان أو الناس يجوز لهم غيبة المجاهر بفسقه، فإذا عرفنا في المجتمع إنساناً مجاهراً بفسقه وانحلاله داعياً إلى الضلال، سواء كان من دعاة المذاهب الفاسدة، كالشيوعية والاشتراكية والعلمانية والقومية والحداثة، وغيرها من المذاهب المنحرفة.
أو كان داعياً إلى الشهوات كمروجي المخدرات كما أسلفت، أو مروجي الفواحش، أو مروجي الأفلام السيئة، أو الدعاة إلى أبواب جهنم أياً كان، فمثل هؤلاء غيبتهم مشروعة، ويجب الكلام فيهم وفضحهم أمام الناس، حتى يحذر الناس من شرهم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان جالساً، وعنده أبو ذر فمر رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: {ما رأيك في هذا؟ قال يا رسول الله: هذا رجل من أشراف الناس، هذا رجل حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، ثم مضى رجل آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ قال يا رسول الله: هذا رجل من ضعفاء الناس، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا -يعني الأخير الضعيف- خير من ملء الأرض مثل هذا} .
الموازين عند الله تختلف عن الموازين عندنا، قد يكون إنسان له عندنا قدر كبير، وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة، {يؤتي بالرجل السمين العظيم يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة} ويؤتي بالرجل الضعيف كـ عبد الله بن مسعود، وله في يوم القيامة من الثقل، ما ليس للجبال، ساقاه أثقل من جبل أحد في الميزان.
الموازين عند الله تختلف عن الموازين عندنا، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أثنى الناس عليه شراً قال: {وجبت} ولم يعاتب أصحابه على أنهم وقعوا فيه، وقالوا فيه: بئس الرجل فيه كذا، وفيه كذا، وفيه كذا.
فإذا كان الإنسان فاسقاً معلناً فسقه، فليس له قيمة ولا كرامة، وقد ورد في ذلك أحاديث لكنها لا تصح، مثل: {من خلع جلباب الحياء لا غيبة له} ومثل حديث {} وهذه الأحاديث عند البيهقي وغيره، لكن فيها ضعف، وإنما الكلام في الضالين والمنحرفين، وغيبتهم وتحذير الناس من شرهم مطلوبة.
أيها الإخوان: ينبغي أن نحرص على ثناء الناس بالأعمال الصالحة، وخاصة أهل الخير والصلاح والاستقامة؛ فإنهم شهود الله في أرضه: {وما من مؤمن يشهد له أربعة من الصالحين بخير إلا أدخله الله الجنة، وقال: قد قبلت شهادتكم فيه وغفرت له ما لا تعلمون} .
أسأل الله لي ولكم الصلاح والتوفيق في عاجل أمرنا وآخره، وخير أيامنا يوم نلقاه، وآخر كلامنا في الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم ويتوب عليكم إنه هو الغفور الرحيم.(251/21)
الأسئلة(251/22)
التوبة والفتن
السؤال يقول: شاب يتوب ثم يرجع عن توبته بسبب الفتن، هل يجوز أن يترك مكان الفتن إلى غيره، وخاصة إذا كانت الفتنة في البيت؟
الجواب
ينبغي على الشاب أن يبحث عن قرناء صالحين يشدون من عزيمته، ويعينونه على تجنب هذه الفتن ويقوونه، وإن كانت في البيت، بل ربما يكون بقاؤه في البيت سبب لأن ينشر الفضيلة في البيت، ويؤثر فيه بالأسلوب الحسن، لكن عليه أن يتكئ على مجموعة من الأصدقاء الطيبين الذين يساعدونه على الخير والصلاح.(251/23)
الأضحية عن الميت
السوال: هل إذا مات الميت له أضحية أم لا؟
الجواب
لا بأس بالأضحية عن الميت والحي، خاصة إن كان الميت قد أوصى بهذا، فيجب أن تنفذ وصيته.(251/24)
وضع جريدة على القبر
السؤال
ما حكم وضع الجريدة الخضراء فوق القبر؟
الجواب
في حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: {إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر- أي لا يتنزه كما في رواية أخرى- من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة} وهذا دليل على أن النميمة وأن عدم التنزه والتنظف من البول من أسباب عذاب القبر، {ثم أخذ صلى الله عليه وسلم: جريدة رطبة وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا} وهذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا جاء في لفظ آخر أنه قد يخفف عنهما بشفاعته.(251/25)
زكاة الذهب
السؤال
يقول السائل: بسم الله الرحمن الرحيم، أعلمك يا شيخ أني أحبك في الله ونعلمك يا شيخ أننا نحتاج مثل هذه الدروس والمحاضرات راجين من الله أن يوفقكم لزيارتنا زيارة شهرية أو نصف شهرية حسب الاستطاعة، أما عن السؤال: فهو عن زكاة الذهب من اشترى ذهباً على فترات متفرقة فكيف تكون الزكاة فيه؟ هل تكون على الحول من مدة كل كمية أو كيف؟
الجواب
أما محبته فأحبه الله الذي أحبني فيه، والحب بين المؤمنين من أفضل الأعمال، ومن أسباب محبة الله تعالى للعبد، وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأبسند صحيح، عن أبي إدريس الخولاني ضي الله عنه قال: [[دخلت مسجد دمشقإذا فيه فتى براق الثنايا، وإذا الناس حوله، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه فيه، قال فلما كان من الغد هَجّرت -يعني بكرت- فوجدته قد سبقني في التهجير ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته فأتيته من قبل وجهه، فقلت له إني أحبك في الله، قال: آلله، قلت: آلله؟ قال: آلله؟ قلت: آلله، قال: آلله؟ قلت: آلله أي يستحلفه بالله ثلاثاً إنه صادق قال: نعم.
قال: فأخذ بحبوة ردائي فجذبني إليه، وقال لي: أبشر أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى: {وجبت محبتي للمتحابين فيّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ، ووجبت محبتي للمتباذلين فيّ} ]] الحب في الله والمجالسة في الله، والتزاور في الله، والتباذل والتعاطي في الله، كل هذا مما يسبب محبة الله تبارك تعالى للعبد، وإذا أحب الله عبداً فهو من {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] إذا أحبك الله فنم، فالمخاوف كلهن أمان، فينبغي أن نحرص أن نتحاب في الله تبارك وتعالى، ونتعاطى الحب في الله، والكلام الطيب والتزاور في الله، والتآخي في الله، والتناصح في الله، حتى يحبنا الله عز وجل.
أما طلب الأخ أن أزوره أو أزوركم كل شهر، أو كل نصف شهر، فهذا متعذر لأن الإنسان بحكم ارتباطه ما بين ارتباطات بالعمل، إلى بعض الأعمال والدروس وغيرها، إلى بعد المسافة، كل هذا يحول دون ذلك، لكن لعلها أن تتحقق ولو زيارة حولية، من الحول إلى الحول، حتى لا ينسى بعضنا بعضاً، وأفيدكم أيها الإخوة: بأن حضور مثلكم في مثل هذا الاجتماع، وتشجيعكم ودعوتكم غيركم، مما يشجع على الزيارة، فإن الإنسان إذا جاء ووجد القبول ووجد الإقبال، ووجد الرغبة فإن هذا يدعوه إلى أن يكرر الزيارة، فجزاكم الله خيراً على جلوسكم وزيارتكم لهذا المكان، وجعلنا وإياكم من المتجالسين فيه، والمتزاورين فيه.
وأما السؤال عن الذهب، فإن الأخ يبيع بالذهب كما هو ظاهر السؤال، فالذهب حينئذ يعتبر من عروض التجارة، فإذا حال الحول على المبلغ المالي عند الإنسان، زكّاه، وكل مبلغ حال عليه الحول عنده أخرج زكاته.(251/26)
الجهاد مع عدم الإستئذان من الوالدين
السؤال
يقول إن لي أخاً استشهد في سبيل الله دون مشاورة والديه، وكثير من الناس من يقول: لن يدخل الجنة لأنه عاق إنه عاق عاص لوالديه، فما تعليقكم على هذا؟
الجواب
هذا نستغفر الله تعالى له، ونرجو الله له الجنة والمغفرة، بسبب أنه بذل مهجته في سبيل الله عز وجل، وجاد بنفسه وقد قيل: يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود أما عصيانه لوالديه فإن الله عز وجل جعل حق الوالدين كبيراً، وأمر بطاعتهما حتى وهما مشركان، فقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] ولكن لعل الله أن يغفر له فإن الله واسع المغفرة، وينبغي لأخيه ولغيره ممن يعرفه ولأصدقائه أن يكثروا له الاستغفار والدعاء.(251/27)
وضع اليدين في الصلاة ورفع الثوب فوق الكعبين
السؤال
كثير من بعض الشباب الملتزم يكون ثوبه إلى نصف ساقه، أو أقل ويجعل يديه في الصلاة تحت الرقبة بقليل، ودرسنا في المدارس أنها توضع تحت السرة، ولا نعلم أين الصحيح، والحركات هذه كلها تجلب الغيبة والسخرية للشباب الملتزم، وسمعت بحديث يقول: {رحم الله امراً كف الغيبة عن نفسه} نرجو توضيح هذه الأمور، وما هو الأفضل في اتباعه؟
الجواب
سؤال جيد، أما بالنسبة لليدين أصح ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه يضع اليد اليمنى فوق اليسرى فوق الصدر، هذا هو أصح الأوضاع، وهناك قول آخر: أنها توضع فوق السرة، وقول ثالث: أنها توضع تحت السرة، وبعض المتأخرين يقولون: ترسل إرسالاً، لكن أصح ما ورد: هو أن توضع اليمنى فوق اليسرى فوق الصدر، والأمر في ذلك واسع، فما ينبغي أن نجعل قضية وضع اليمنى فوق اليسرى فوق الصدر قضية كبيرة، ونجعلها هي الفيصل بيننا وبين الناس؛ لأننا إذا أحدثنا بيننا خصومة من أجل هذه القضية، قد لا يتقبل منا أشياء أعظم من ذلك.
لكن بالمقابل على الآخرين أن يتعلموا السنة، ألا ينكروا ما لا يعلمون، فإن علماءنا -مثلاً- كالشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن العثيمين والشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، والشيخ الألباني وغيرهم، من جهابذة العلماء في هذا العصر، كلهم يقولون: بأن اليد توضع اليمنى فوق اليسرى فوق الصدر، فلا ينبغي لأحد أن يستنكر هذا الأمر أو يستغربه.
لكن بعض الناس يرفعون أكتافهم أيضاً في الصلاة، ويطأطئون رؤوسهم فيبدو مظهرهم مظهر مثير، وهذا ينبغي أن يتجنبه الشاب، بل ينبغي أن يكون وضعه طبيعي، أكتافه في وضعها الطبيعي، ورأسه في وضعها الطبيعي، وبصره في موضع السجود، ويداه فوق صدره، وحينئذ لا يكون شكله مثيراً، ولا مدعاة للسخرية، ولا ينبغي أن نثير مشكلات في مثل هذه القضية.
أما المسألة الأخرى: وهي مسألة الثوب، فالسنة في الثوب أولاً: لا يجوز أن يكون الثوب أسفل من الكعبين، لقوله صلى الله عليه وسلم {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} رواه البخاري وإن جعل الإنسان ثوبه إلى نصف الساق فهذا سنة، أو دون ذلك بقليل فهذا أيضا سنة، لكن الذي أنصح به الشباب أن يجعلوا ثيابهم طبيعية الحال، بحيث تكون فوق الكعبين، ولا تكون مرتفعة ارتفاعاً يثير السخرية، ويدعو إلى استنكار الناس؛ لأننا نعلم من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك الأمر الأفضل من أجل تأليف قلوب الناس، -مثلاً- الرسول عليه الصلاة والسلام لماذا ترك هدم الكعبة؟ كان يقول لـ عائشة، كما في البخاري من حديث جابر {لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة، وجعلتها على قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين، باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه} لماذا لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ حتى يجلب مصلحة أعظم، وهذه المسألة سأتحدث عنها الليلة المقبلة في حديث مفصل، وسأترك إن شاء الله مجال للأسئلة والمناقشة والتعليقات من الإخوة، بحيث نصل فيها إلى نتيجة مفيدة للجميع بإذن الله تعالى.(251/28)
حكم التوسل
السؤال
ما حكم الذي يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالصالحين بعده؟ وهل هذه المسألة محل خلاف بين العلماء؟
الجواب
الصحيح من أقوال العلماء: أنه لا يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا بأحد من الصالحين إلى الله عز وجل، فلا يجوز أن تقول مثلاً: اللهم إني أسألك بنبيك صلى الله عليه وسلم، أو اللهم إني أسألك بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم، أو اللهم إني أسألك بفلان، أن تغفر أو ما أشبه ذلك، هذا لا يجوز، ولذلك لما احتبس المطر عن المسلمين في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، وخرجوا إلى المصلى يستسقون، قال عمر [[اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بـ العباس، قم يا عباس] فقام العباس وقال: [[اللهم إنا خلق من خلقك، نواصينا بيدك ليس بنا غنى عن رحمتك إلى آخر ما دعا] فنزل المطر.
ولذلك عمر رضي الله عنه ما استسقى بالنبي صلى الله عيه وسلم، ما استسقى به بعد موته، أما في حياته فكانوا يتوسلون به، بمعنى أنهم كانوا يطلبون منه الدعاء، فيقولون: استغفر لنا يا رسول الله! ولذلك لا بأس أن تأتي إلى رجل صالح، فتقول له: استغفر لي لا بأس بذلك.
أما أن تتوسل به حياً أو ميتاً إلى الله عز وجل، فهذا لا يجوز كما يقع عند كثير من الناس: يا رب بجاه المصطفى، وبعضهم يقولون في القصائد: يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم وهذا كله لا يجوز.(251/29)
الحلف بالنبي عند الإمام أحمد
السؤال
هل صح عن الإمام أحمد بن حنبل أنه أجاز الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وما حكم الذي يدعو لهذا الأمر؟
الجواب
أما الحلف بغير الله ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} وقال صلى الله عليه وسلم: {لا تحلفوا بالطواغيت ولا بآبائكم} } ونهى عن الحلف بالأمانة، والحلف بالكعبة، فالحلف بغير الله لا يجوز، وهو شرك أصغر أو كفر أصغر.
ولا يصح عن الإمام أحمد أنه أجاز الحلف بغير الله عز وجل، ولا عن غيره من العلماء المعتبرين، فإن الحلف بغير الله شأنه ما سبق، فلا يجوز الحلف بغير الله أو بغير أسمائه أو صفاته، وإنما يجوز لك أن تحلف بالله أو بأسمائه أو صفاته.(251/30)
مقالة (النساء يحلفن وهن الكاذبات)
السؤال
فضيلة الشيخ {النساء فيهن ثلاث خصال من اليهود: يحلفن وهن الكاذبات، ويتظلمن وهن الظالمات، ويمنعن وهن الراغبات} هل هذا قول مأثور أم حديث؟
الجواب
هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو من كلام بعض الناس، وليس على إطلاقه ففيه حق وباطل، وإطلاق هذا التنقص على النساء مجملاً هو من عادات الجاهلية، الذين يزدرون المرأة وينسبون إليها كل عيب وكل نقص.
فإن قوله في هذه الكلمة: (إنهن يحلفن وهن الكاذبات) ليس على إطلاقه، بل من النساء من لا تحلف، أو لا تحلف إلا وهي صادقة، وعكس ذلك من الرجال، من يحلف بالله وهو كاذب، ومن النساء مريم، وآسية امرأة فرعون، وخديجة وعائشة وأسماء وفلانة وفلانة من أمهات المؤمنين، ومن سيدات نساء أهل الجنة، ومن الفاضلات، بل قد ذكر صلى الله عليه وسلم: {أنه كمل من النساء أربع: آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وفاطمة وخديجة} .
وكذلك قوله: (يتظلمن وهن الظالمات) ففي كثير من البيئات المرأة مظلومة، قد يظلمها زوجها، وقد يظلمها أبوها، فيعضلها ويمنعها من الزواج، أو يأخذ مهرها بغير حق، وقد يظلمها حتى ابنها أحياناً، فليس على الإطلاق أنهن الظالمات، بل هن مظلومات أكثر منهن ظالمات، وهذا من أسباب ضعف المرأة، فإن الضعيف يتعرض للظلم أكثر من القوي، فلأن الرجل قوي يصدر منه الظلم أكثر.
وأما (أنهن يتمنعن وهن الراغبات) فهذا ليس أيضاً على إطلاقه، وقد يكون الرجل أحياناً أقوى شهوة وأكثر غريزة من المرأة، ولذلك تجد الرجل يتزوج بأربع، وهذا أيضاً دليلاً قطعياً على أن الرجل أقوى غريزة من المرأة، فالعلماء تكلموا في هذه المسألة، ولم يصلوا إلى نهاية، وهذه قد تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، ومن امرأة إلى أخرى، أو من رجل إلى آخر، فهذا الكلام ليس على إطلاقه.(251/31)
احتجاب المرأة عن أقارب الزوج
السؤال
ما حكم الذي يحبس زوجته عن الأغراب، أو يحجب زوجته عن الأغراب، ولا يحجبها عن الأشقاء والجيران، علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم، حذر من هذا الأمر، نرجو من فضيلتكم نصيحة الشباب المسلم في هذا الشأن؟
الجواب
نعم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال كما في الصحيح: {إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ -والحمو هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه ونحو ذلك- فقال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت} أي الحمو أخطر من الأجنبي.
وهذا ملموس في الواقع، فإن أخاك يدخل في البيت باستمرار، ويرى المرأة ويعرفها، ويسهل وجود علاقة بينهما أو إعجاب، وكثيراً ما نقرأ في القصص والأسئلة التي تقدم للعلماء والمشايخ وغيرها، والمشاكل التي تعرض أنه يوجد علاقة خفية بين الزوجة وبين أخ زوجها.
هذا كثير ما يقع، ولذلك على الإنسان يا إخوة ألا ينخدع، ولا يتساهل، بعض الناس يقول هذا من سوء الظن، لا، هذا ليس من سوء الظن، لكن هذا مراعاة ومعرفة بطبيعة الإنسان.
الإنسان بشر ضعيف لا يتمالك، بطبيعته ضعيف، ولذلك في الحديث الصحيح في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خرج يوماً فرأى امرأة في السوق فدخل إلى زوجته زينب فجامعها صلى الله عليه وسلم، ثم قال لأصحابه: إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأت أهله -فليأت امرأته- فإن معها مثل الذي معها} مع زوجتك مثل المرأة التي أعجبتك، فجامعها حتى يزول هذا الدافع الذي فيك.
فالإنسان هذا طبعه، فيه ميل إلى النساء، وبطبيعة الإنسان أيضاً، أحياناً الشيء الذي يمنع منه يميل إليه، فقد يدفعه الشيطان إلى شدة ملاحظة المرأة، التي تكون أجنبية عنه، وتحرم عليه وتتحجب منه، أكثر مما يدفعه إلى النظر إلى زوجته التي تحل له.
يحدثني بعض الشباب أنهم كانوا في ماضي أيامهم الغابرة، ابتلوا بمشاهدة الأفلام المحرمة السيئة فيقول: إذا كان هناك مشهد مكشوف مفضوح فإنه لا يلتفت إليه ولا يهتم به، لكن إذا كانت المرأة متسترة بعض التستر، تكون الدوافع للنظر إليها أكثر، فالإنسان إذا منع من شيء يكون الدافع إليه أقوى، فلا ينبغي للإنسان أن يتساهل مثلاً في حجب زوجته عن إخوانه، وبني عمه وأصدقائه وأقاربه وجيرانه، بل ينبغي أن ينتبه إليهم أكثر مما ينتبه إلى غيرهم.(251/32)
حكم تارك الصلاة
السؤال
هل تارك الصلاة مخلد في النار؟
الجواب
تارك الصلاة بالكلية الذي لا يصلي مع الجماعة، ولا في بيته كافر بالله العظيم، على أصح قولي العلماء، وهذا إجماع من الصحابة رضي الله عنهم ففي سنن الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن شقيق رضي الله عنه قال: {لم يكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة} وعند الحاكم من حديث أبي هريرة وعند المروزي من حديث جابر أيضاً نحو ذلك، فإجماع الصحابة قائمٌ على أن تارك الصلاة كافر، وكيف لا يكون كافراً، وقد نطق الرسول صلى الله عليه وسلم بكفره؟! أي كيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كافر، ونحن ما نتجرأ أن نقول بأنه كافر.
في صحيح مسلمعن جابر {بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة} وفي الحديث الآخر في السنن عن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} ولذلك الله عز وجل قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] وسيأتي إن شاء الله مزيد حديث عن هذه المسألة في المحاضرة التي ذكرت.(251/33)
الحكم بالنار على المعين
السؤال
إذا كان رجل عابداً لله، وسأله أحد أصحابه وهو يقول: هل يدخل النار المطربون والمخنثون؟ فقال: إذا لم تتغير حالهم سيدخلون النار! فما حكم ذلك؟
الجواب
الحكم على الناس يا أحباب له أنواع: هناك حكم على الفرد، وهناك حكم على النوع، أما الحكم على الفرد: فهو أن تحكم على فلان بن فلان، بأنه في النار، أو بأنه كافر، وهذا من أخطر الأمور وأعظمها عند الله عز وجل، فأحذر نفسي وأحذركم، ثم أحذركم من الحكم على فرد معين مهما بلغ، الله عز وجل ما جعلك وكيلاً على عباده، تكفر فلان وتضلل فلان، وتدخل فلان الجنة، وتدخل فلان النار، لا تحكم لمعين بالجنة ولا بالنار، إلا من حكم له الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الحكم على الطائفة: أو على النوع: كأن تقول مثلاً، أكلة الربا في النار، الفساق في النار، العصاة في النار، العاق لوالديه في النار، الذي يتعاطى الغِناء والطرب واللهو في النار، دون أن نخص أحداً بعينه، فهذا لفظٌ عام، ولذلك جاء لعن هؤلاء، فيمكن أن نقول: لعن الله الفساق، لعن الله الزناة، لعن الله المرابين، لعن الله الظالمين الذين يظلمون الناس، لعن الله الذين يشهدون شهادة الزور، لكن لا تدعو على شخص بعينه؛ لأن هذا الإنسان قد يوجد فيه ما يجعله من أهل النار، وفي المقابل يكون هناك أشياء لا تعلمها أنت سببت أن الله غفر له، إما عنده أعمال صالحة، أو أنه أصابته مصائب دنيوية كفر الله بها عنه من خطاياه، أو أنه كثير الاستغفار، أو أنه يدخل في شفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أو شفاعة بعض الشافعين، أو في رحمة أرحم الراحمين، فلا تحكم لفرد معين مهما كان الأمر، أما الكافر الذي تعلم أنه مات على الكفر، هذا نحكم بأنه كافر، وقد جاء في بعض الأحاديث والآثار {حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار} .(251/34)
إقامة شعائر الإسلام
السؤال
إذا رأيتُ شخصاً يقيم شعائر الإسلام، فهل نستطيع أن نحكم عليه بأنه مؤمن؟
الجواب
إذا رأينا شخصاً يقيم شعائر الإسلام فهو مسلم، ونحن إنما نأخذ الناس بظواهرهم ونكل سرائرهم لله عز وجل، وهذه قضية معروفة معلومة، والإنسان لا يطالب بالكشف عن سرائر الناس ولا بالتحري عنهم، إنما يأخذ بما ظهر له، فإذا عرفنا أن هذا الإنسان يتردد على المسجد، ويقيم الشعائر فهو مسلم وهو مؤمن أيضاً، باعتبار أنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، ولا يطالب الإنسان إلا بما ظهر منه.(251/35)
شروط الشهادتين
السؤال
فضيلة الشيخ: قلت أن من قال لا إله إلا الله حرمت عليه النار، وهذه الكلمة أليس لها شروط فأنت بكلمتك هذه تجعل الناس يتكلون عليها، فإذا كان لها شروط أرجو أن تذكرها للناس؟
الجواب
الحقيقة السائل أخطأ أنا ما قلت ذلك، إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكرت لكم ما قال رسول الله والحديث متفق عليه، حديث عتبان بن مالك {إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله} ؛ ولأن المحاضرة ليس مجالها مجال الكلام عن الشهادتين -بل سوف نتكلم عن هذا إن شاء الله في محاضرة في الليلة بعد القابلة، كما قد يعلن عنها فإنني لم أتعرض للكلام عن موضوع الشهادة وشروطها- وإلا فمن المعلوم أن الشهادة لا تكفي أن يقولها الإنسان بلسانه؛ فإنه أولاً لابد مع شهادة أن لا إله إلا الله من شهادة أن محمداً رسول الله، ولابد من معرفة معناهما، ولابد من العمل بمقتضاهما، وقد ذكر العلماء أن لشهادة أن لا إله إلا الله سبعة شروط: علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها هذه سبعة شروط لشهادة لا إله إلا الله فلابد من العلم بمعناها واليقين والإخلاص والصدق والمحبة والانقياد والقبول، وعلى كل حال، لا إله إلا الله تترجمها أعمال الإنسان، أما من يقول لا إله إلا الله بلسانه، ويعبد غير الله، أو لا يعبد الله، فهذا لا تنفعه لا إله إلا الله، وكل إنسان يبتغي وجه الله بهذه الكلمة ويقولها من قلبه؛ فإنه لا بد أن يعمل بمقتضاها، أضعف مقتضيات لا إله إلا الله -يعني أضعف الإيمان- أن الإنسان مع نطقه بهاتين الشهادتين ومعرفته بمعناها، أن لا يرتكب مكفر من مكفرات الإسلام، أو ناقضاً من النواقض، لا يسخر بالإسلام مثلاً لا يسخر بالسنة، لا ينكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، وأن يقيم الصلاة؛ فإنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.(251/36)
اتخاذ الله شهوداً في الأرض
السؤال
إن الله لا يحتاج شهوداً لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه يعلم بكل شيء ولا يخفى عليه شيء، فكيف يتخذ الله شهوداً؟ أو كيف يتخذ شهداء؟
الجواب
الشهادة المذكورة في الحديث، بل وفي القرآن الكريم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] ليس سببها العلم الذي يحصل بشهادة هذا الشاهد، كلا! فالله عز وجل هو مقدر الأشياء قبل أن تقع، فهو العليم بها قبل وقوعها وبعد وقوعها، والله عز وجل لا يُنْبّأ بشيء لا يعلمه في السموات ولا في والأرض ولا يخفى عليه خافية سبحانه، وإنما المقصود بالشهادة الإشارة إلى أن المؤمن هو من امتلأت أذنه من ثناء الناس عليه في الدنيا قبل الآخرة، وأن المنافق أو الفاسق هو من امتلأت أذنه من ذم الناس له في الدنيا قبل الآخرة؛ لأن الإسلام دين العمل الاجتماعي، يأمر بالإحسان وحسن الخلق والجود والكرم وبصلة الرحم، وببر الوالدين وبالصدقة، فلذلك إذا حقق الإنسان الإسلام حصل له ثناء الناس، فكان هذا علامة على أنه من أهل الجنة، ولذلك في اللفظ الآخر، في الحديث عند الحاكم وابن حبان وغيرهما، أنه إذا قال أربعة من الناس عن هذا الرجل أنه رجل صالح، فيه كذا وكذا وكذا، قال الله عز وجل: {قد قبلت شهادتكم فيه، وغفرت له ما لا تعملون} أي: هم يحكمون بحسب الظاهر لهم من شأن هذا الإنسان، وإلا فليس المعنى أن الله عز وجل يحتاج إلى شهادة هؤلاء الشهود، كما أن الشهادة على الفاسق من كمال عدل الله عز وجل، ولذلك يوم القيامة، يأتي أناس يشهدون على هذا الفاسق، فيقول: يا ربي أنا ما أقبل شهيداً إلا من نفسي، حتى الملائكة لا يقبل شهادتكم، فيختم الله تعالى على فيه، وينطق جوارحه، فيتكلم لسانه ويده وقدمه وفرجه بما كان يعمل في الدنيا.
فذلك قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] فإذا شهدت ونطقت خلي بينه وبين الكلام، فيقول هذا الكافر لأعضائه: سحقاً لكُنَ وبعداً، فعنكن كنت أجادل وأناضل، فهذا من كمال عدله جل وعلا.(251/37)
أمراض الشباب وعلاجها
تحدث الشيخ عن أمراض الشباب وعلاجها، وابتدأ الدرس بالكلام عن القلوب وكأنه يشير إلى إمكان استعداد الشباب لتقبل تعاليم القرآن والسنة، ثم ذكر أهمية فترة الشباب بالنسبة للمرء وأسباب ذلك وأنها مما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة، وفصل في بيان الانحرافات والأخطار التي تواجه الشباب وكيفية مواجهتها ضارباً بذلك مثلاً رائعاً بقصة مصعب بن عمير رضي الله عنه.(252/1)
انقسام القلوب تجاه القرآن
الحمد الله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد: فقبل أن أدخل في هذا الموضوع وهو الحديث عن الشباب ورسالته في الحياة، والعقبات التي تعترض سبيله، أحب أن أقف قليلاً عند قول الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] نعم، لو أُنزل القرآن على جبل لتصدع من خشية الله تبارك وتعالى وهذا كلام الله تبارك وتعالى، ولكن هذه القلوب البشرية يتنزل عليها القرآن فتنقسم إلى قسمين:(252/2)
قلوب أقسى من الحجارة
القسم الأول: القلوب التي لهت وغفلت، فلم تعتبر بعبر القرآن، ولم تتعظ بآياته، فهذه القلوب قست حتى صارت أشد قسوة من الحجارة، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] .(252/3)
قلوب ثابتة بالإيمان
أما القسم الثاني: فهي القلوب التي وعت عن الله سبحانه وتعالى، وفهمت آياته واعتبرت بها واتعظت، فهذه القلوب صار بها من قوة الإيمان، واليقين، والثقة بالله تعالى، والاطمئنان إليه، ما يجعلها أثبت من الجبال.(252/4)
وقفه عند قوله تعالى: (وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً)
يقول الله تعالى وهو يذكر النار وأهلها فيقول: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً} [الكهف:100] نعم كأنك ترى هذا المشهد أمامك والناس يموجون في بعض، والنار قد عرضت وقربت وأعدت بحيث يراها هؤلاء وأولئك.
ثم يذكر الله عز وجل لمن عرضت هذه النار ولمن أعدت؟ فيقول: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف:101] أي: للكفار.
أليس للكفار آذان يسمعون بها؟! أليس لهم أعين يبصرون بها؟! بلى.
لهم آذان يسمعون بها، ولهم أعين يبصرون بها، ولهم قلوب يعقلون بها أمور دنياهم، ولكن المنفي عنهم هو السماع الذي يؤثر في الاتعاظ، والعمل، والاعتبار، ومشكلتنا -أيها المسلمون- دائماً ليست في أننا لا نعلم، بل نحن نعلم كثيراً من الأشياء ولكننا لا نعمل، ولا نتعظ بها، فيكون حكمنا في ذلك حكم من لا يعلم بها أصلاً.(252/5)
الإيمان بالموت
انظروا إلى الأمور التي يعلمها الصغير والكبير، والعالم والجاهل، كلنا نعلم بأننا لا محالة سوف نغادر هذه الدنيا في يوم من الأيام على رغم أنوفنا كارهين، ومثلما نرى نحن الأموات يغدو الناس بهم إلى المقابر، فسوف يُغدى بنا ويراح ويرانا غيرنا، وهذه سنة الله في الدنيا منذ أن خلقنا الله تبارك وتعالى جيل يأتي وجيل يذهب، وحتى الكفار لا يطمعون في البقاء في هذه الدنيا، فهم يعلمون أنهم ميتون، ولذلك يقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] فهم يقرون بالموت لكنهم ينكرون البعث بعد الموت، ولكن هل نفعهم علمهم بالموت؟ لا لم ينفعهم، ولذلك يحق لنا أن نقول: إن الكفار كافرون بكل شيء، حتى بالموت.
كيف نقول عنهم أنهم كافرون به؟ وهم يرون أبناءهم وأقاربهم يموتون! لسنا نحن الذين نقول عنهم ذلك، ولكن يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يؤمن بالله؛ ويؤمن بي، وأن الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر} فالإيمان بالموت من شروط الإيمان، بل من أركان الإيمان، فما معنى الإيمان بالموت؟ ليس معنى ذلك أن يعرف الإنسان أنه سوف يموت، فهذا يشترك فيه المسلم والكافر، إنما معنى ذلك: - أن تدرك أنه بقضاء الله وقدره.
- وأن تدرك أن لك أجلاً لا يتقدم ولا يتأخر.
- وأن تدرك أن بعد الموت إما النعيم أو العذاب.
- وأن يصبح هذا الأمر يقيناً في قلبك؛ بحيث إنك إذا هممت بعمل خير فدعتك نفسك للقعود فتذكرت الموت نشطت له وتحركت له نفسك، وكلما هممت بعمل سوء فتذكرت الموت كففت عنه وأقلعت، فهذا معنى الإيمان بالموت.
فلهذا يقول الله عز وجل عن الكافرين: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف:101] فهم يسمعون هذه الآيات، ولكنهم يتأذون بسماعها، ويضيقون بها، ومن ثم لا يعتبرون بها.
وفي الصحيح [[أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي في مكة قبل الهجرة، وكان رجلاً أسيفاً إذا قرأ القرآن يبكي، فتجتمع حوله نساء قريش وأطفالهم يعجبون من أبي بكر وخشوعه في القراءة وبكائه، فغضب عليه المشركون وقالوا لمن أجاره: انظر إلى أبي بكر، فإما أن يكف عنا، وإما أن نرد إليك جوارك فإنا خشينا أن يفتن نساءنا وأطفالنا]] فهم يسمعون القرآن، ولكن ليس سماع تفهم وتدبر، وليس سماع المسلم الذي يعلم أن هذا الخطاب من الله تعالى إليه، كما يقول ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه: [[إذا سمعت قوله: (يا أيها الذين آمنوا) فألق -أو أرعِ- لها سمعك فإنه إما خير تؤمر به وإما شرٌ تنهى عنه]] .
هذه وقفة عند قوله تعالى: ((وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً)) [الكهف:101] .(252/6)
وقفة عند قوله: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)
قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103-104] .
فهؤلاء كفار قطعاً؛ لأن الله عز وجل عقب على ذلك بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] .
ولكن يوجد في المسلم -أحياناً- شعبة من هذا، فيعمل عملاً يظن أنه على خير ويكون ممن يظن أنه يحسن صنعا، وليس كذلك، ولذلك ختم الله تعالى هذا الآيات بقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] .
فلابد في العمل من شرطين: أولاً: أن يكون صالحاً، وهذا يعني المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ألا يشرك بعبادة ربه أحداً، فلا يكون العمل من أجل الرياء، ولا من أجل السمعة، ولكن لوجه الله، وابتغاء ثواب الله، ورجاء لقائه، فلنؤمن بأن الله عز وجل قد أقام علينا الحجة بالقرآن وليس لأحد عذر؛ فقد أنزل الله عز وجل القرآن، وأقام الحجة على كل إنسان.(252/7)
أهمية فترة الشباب
إن الموضوع الذي أحب أن أتحدث فيه هو ما يتعلق بالشباب، وهذا الموضوع ليس بالغريب، فكلنا أحد رجلين: إما إنسان كان شاباً فيما مضى من عمره.
أو إنسان هو شاب الآن فنحن جميعاً بحاجة إلى هذا الكلام.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان سوف يسأل يوم القيامة عن أربعة أشياء منها: {عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟} والشباب جزء من العمر تُسأل عنه أيها الإنسان مرتين أمام الله تبارك وتعالى.
الأولى: باعتباره جزء من العمر.
والثانية: سؤالاً خاصاً عن هذا الشباب خاصة، فعلام يدل هذا الأمر؟ هذا يدل على أمرين: الأول: أهمية العمر بالنسبة للإنسان.
والثاني: أنه كل رأس ماله؛ ولذلك إذا عُرض الكفار يوم القيامة أيضاً ورأوا النار، بل ووضعوا فيها فذاقوا من حرها وسمومها وعذابها، قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] ماذا يطلبون؟ يطلبون هذه الأيام، ولا يتمنون إلا هذه الأيام التي نعيش فيها نحن الآن، ولكن هيهات! لقد انقضت الدنيا بأيامها، ولذلك يأتيهم الجواب الذي لا رجعة عنه، بقول الله تعالى لهم سؤال "توبيخ وتقريع": {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] من عمره الله عز وجل حتى بلغ سن التكليف وعرف الله والرسول صلى الله عليه وسلم وعرف الإسلام؛ فقد قامت عليه الحجة، وقد عمر ما يتذكر فيه من تذكر.
فلا يلزم أن يكون العمر ستين أو سبعين سنة، وإن كان الإنسان كلما عمر كلما زادت الحجة عليه؛ ولذلك في الحديث الآخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة} يعني زاد العذر واكتمل، وإلا فالإنسان الذي بلغ سن التكليف، وعقل الإسلام، وعرف الله وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة، إن مات مسلماً دخل الجنة، وإن مات كافراً فإلى النار.
فالأمر خطير جد خطر! كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] أي لا أمل في الرجوع إلى هذه الدنيا، فهم يطلبون هذه الأيام والليالي التي نعيشها نحن الآن، فيا سبحان الله! كيف سيطرت الغفلة على قلوبنا؟ وكيف سيطر الركض وراء الدنيا علينا حتى أصبحنا في شبه حلم؟ سبحان الله! هذا العمر من أعجب آيات الله، لو نظرت إلى نفسك من الذي جاء بك إلى هذه الدنيا؟ ومن الذي منحك هذا النفس الذي يتردد؟ ومن الذي أعطاك هذا القلب وهذا العقل؟ إنه الله -سبحانه تعالى- وإنه لم يعطك إياه إلا للابتلاء والامتحان، وبقدر ما يستفيد الإنسان من هذه النعم في الدنيا في معرفة الله، ودينه والعمل بذلك، يسعد في الدنيا والآخرة، وبقدر ما يضيع من ذلك يجلب لنفسه الشقاء في الدارين.(252/8)
خصوصية فترة الشباب بالسؤال عنها يوم القيامة
إذا كان الإنسان يُسأل عن عمره يوم القيامة، ويُسأل عن شبابه بصفة خاصة، فإن لنا أن نتساءل: ما هو السر في تخصيص الشباب بالسؤال عنه مرتين؟ أقول -والله أعلم-: إن السر في ذلك يرجع إلى أمور أذكر منها أمرين فقط: الأمر الأول: أن فترة الشباب هي فترة القوة، والحيوية، والقدرة على العمل، ولذلك نجد أن الشاب إذا اقتنع بأمر بذل الغالي والرخيص في سبيله، حتى يبذل نفسه في ذات الله عز وجل.
الأمر الثاني: أن فترة الشباب هي أيضاً الفترة المعرضة لكثير من الشواغل، والنزعات التي تجذب الإنسان إلى الشر وتبعده عن الخير، وهذا أمر مترتب على المسألة الأولى، فلأن فترة الشباب هي فترة القوة والحيوية والنشاط، يكون العقل فيها متحركاً، والجسد، والقلب كذلك؛ فإن لم يتحرك إلى الخير تحرك إلى الشر.(252/9)
الانحرافات التي يتعرض لها الشباب
الإنسان في فترة الشباب معرض لكثير من الانحرافات، إن لم يجد البيئة التي تعينه على طاعة الله، وهذه الانحرافات ثلاثة هي: الانحراف الأول: وهو ما يتعلق بحركة عقل الشباب، فالشيطان يوحي للإنسان بعض الشبهات التي يزينها له ليصده عن سبيل الله عز وجل، ولذلك تجد كثيراً من الشباب قد يعاني من بعض الوساوس والشبهات، وهذا مرض إذا لم يعالجه الإنسان بالعلم، والمعرفة، وسؤال العلماء، فهذا خطر قد يودي بإيمان المرء.
الانحراف الثاني الذي يهدد الإنسان في مرحلة الشباب بسبب حركة جسمه، وحيويته: هو مرض الشهوات، ولذلك تجد الشاب معرضاً للافتتان والانحراف، وتتحرك الغريزة في نفسه بشكل كبير، فإذا لم يحصن نفسه ضد ذلك بالحصون القوية فهو على خطر عظيم.
الانحراف الثالث: هو من جهة حركة القلب، وأعني بها أن الشاب قد يصلح ويهتدي فيعبد الله، فيبالغ في هذه العبادة حتى يصل إلى درجة الغلو، والغلو دائماً ضرر كالنقص.(252/10)
المخرج من الانحرافات
وهنا قد يقول القائل: وما هو المخرج من ذلك كله؟ فأقول: أما فيما يتعلق بالشبهات التي تواجه الإنسان فإن علاجها يكون بأمور: الأمر الأول: هو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فقد يكون الأمر الذي يعرض لك ليس شبهة حقيقية، وإنما هو من نوع الوسواس، فإذا أكثر الإنسان من الاستعاذة بالله انصرف الشيطان عنه وابتعد.
الأمر الثاني: هو العلم النافع، فيحرص الإنسان على معرفة القرآن والسنة، وعلى مجالسة العلماء، وعلى علاج هذه الشبهات التي انقدحت في قلبه بحسب نوع الشبهة.
أما فيما يتعلق بمرض الشهوة: فإنه مرض في منتهى الخطورة لأسباب: الأمر الأول: شدة ثوران الغريزة عند الشباب.
الأمر الثاني: كثرة المهيجات التي تثير هذه الغريزة عند الإنسان، فقد يكون الإنسان صالحاً في نفسه، لكن إذا التفت يمنة ويسرة فوجد من الصور الخليعة ما يثيره ويحركه؛ فإنه عندئذ يحتاج إلى جهد كبير ليتخلص من ذلك؛ ولأن هذا ليس هو موضوع الحديث الأصلي فإنني لن أطيل في علاج هذه الشهوات ولكني أقدم نصيحة ثمينة هي التي أوصى الله تبارك وتعالى بها المؤمنين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] فغض البصر هو الدواء الناجع، فأنت إذا أطلقت بصرك رأيت من المناظر ما يؤثر في قلبك، وإذا تأثر القلب فإن الأمر خطير، ومرض القلب سواء أكان مرضاً حسياً أم معنوياً ليس كأمراض الجوارح، والقلب كالإناء والجوارح تصب فيه، فما تراه بعينك، وما تسمعه بأذنك، وما تلمسه بيدك، وما تمشي إليه برجلك أثره في قلبك، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وإذا ذكرت الله بلسانك تأثر قلبك وخشع، وإذا تكلمت بكلام الفحش تأثر قلبك سوءاً وقسوة، وإذا نظرت بعينك في آيات الله وتأثرت بها وجدت إيماناً بالله.
لكن والعياذ بالله إذا نظرت إلى المحرم فإنه يورث قلبك حسرة دائمة فقديماً قيل: كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر فهذه النظرة العابرة التي يخدعك بها الشيطان بطريقة أو بأخرى -أحياناً-، يقول لك: نظرة سريعة ولا تتوقف، انظر واصرف بصرك، هذه النظرة البسيطة هي كالشرارة التي قد تحرق مدينة بأكملها ومعظم النار من مستصغر الشرر.
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر نعم والله، إن النظرات سهام مسمومة مهما صغرت، وإن الإنسان الذي يستطيع أن يكف بصره عن الحرام سيجد في قلبه من الرَوح واللذة ما لا عهد له به، وفي الحديث {النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه خشية لله أورثه الله عز وجل إيماناً يجد لذته في قلبه} سبحان الله! هذه لذة الطاعة، إذا أنت صرفت بصرك ثم أيقنت أنك لم تصرفه إلا لوجه الله، نشط الإيمان في قلبك، ولكن إذا عاودت النظر ثم صرفت بصرك -وأنت بحمد الله مؤمن- بدأت نفسك توبخك على هذا العمل، وبدأ ضميرك يعاتبك عليه، فيكون الإنسان في عذاب دنيوي، وكذلك إذا لم تتداركه رحمة الله تبارك وتعالى فهو في عذاب أخروي.
فأعظم وصية يوصى بها الشاب وغير الشاب هي أن يصرف بصره، بل أن يغض بصره عما حرم الله؛ لأن غض البصر يقطع الداء من أصله، لكن لو أطلق الإنسان بصره فنظر فوقعت هذه الصورة في قلبه، فيصبح والعياذ بالله في حال قد يصعب عليه علاجها، وكم نعرف في تاريخ هذه الأمة من الناس الذين أطلقوا العنان لأعينهم؛ فرأوا هذه المشاهد والمناظر المؤثرة فمرضت قلوبهم وأجسادهم والعياذ بالله، وخسروا دنياهم وربما خسروا أخراهم -أيضاً- بسبب نظرة واحدة، فالحذر من أن نستعمل هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا وهي نعمة البصر فيما حرم الله علينا.(252/11)
العقبات التي تواجه الشباب
إن الشاب المستقيم المهتدي إلى طريق الله تبارك وتعالى لابد له من عقبات تعترض سبيله وهذه العقبات على أنواع:(252/12)
العقبات الذاتية
النوع الأول: العقبات الذاتية: أي العقبات التي هي من ذات الإنسان؛ كأن تسيطر عليه شهوة أو شبهة أو غير ذلك، وهذه علاجها بما ذكرت.(252/13)
العقبات الخارجية
النوع الثاني من العقبات هي: العقبات الخارجية: وهي التي تواجه الإنسان من خارجه، ومن أهم هذه العقبات: أن يكون الوسط المحيط بالإنسان لا يساعده على الاستقامة والصلاح، كأن يكون الإنسان في بيئة منحرفة، أو فيها بعض الانحراف، فيصبح حين يذهب أو يعود يجد المنكرات والمعاصي، والأشياء التي تصده عن طريق الصلاح وتدعوه إلى طريق الرذيلة والانحراف، فيواجه الإنسان صعوبة في الاستقامة على هذا الطريق، وقد يكون الأمر أخطر من ذلك، وذلك كما لو كان الوسط القريب، وبيئة الإنسان وبيته لا يعينه على الطاعة، فهنا يواجه الإنسان صعوبة كبيرة ولا شك، وهذا الأمر ليس بغريب، فلقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجهون من أهليهم الأمرّين، ولو نظرنا إلى أنموذج من حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأينا من ذلك العجب العجاب.
فهذا مصعب بن عمير -رضي الله تعالى عنه- كان هذا الفتى أعطر شاب في مكة، وكان يعيش في بيت من بيوت الترف والبذخ والثراء، حتى كانت أمة تلبسه أحسن الثياب، وتطعمه أحسن الطعام، وتشتري له أنواع الطيب، حتى إذا أوى إلى فراشه وضعت أمه شيئاً من الطعام عند رأسه ليأكله، فلما أعلن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة، وتلا القرآن، وتفتحت القلوب لهذه الدعوة، وصلت أنباؤها إلى هذا الشاب المنعم والمدلل مصعب بن عمير، وكان شاباً سليم الفطرة، وصافي القلب، فسمع آيات القرآن فتأثر بها، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يقيم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأمره أن يتلو عليه شيئاً من القرآن فبكى وشهد شهادة الحق، ثم ذهب إلى بيته، وكتم خبر إسلامه عن أمه، وصار يصلي ويقرأ القرآن ويدعو سراً، ولكن شعرت أم مصعب بأن في نفس فتاها أمر يشغله عنها؛ ولأنها امرأة جاهلية، ظنت بأنه تعلق بأمر من أمور الدنيا، إما بفتاة أحبها، أو بغير ذلك، فحاولت أن تعرف ماذا في نفس فتاها، فسمعت أخيراً بأن فتاها قد أسلم واتبع هذا الدين وتابع محمداً صلى الله عليه وسلم على دينه، فغضبت أشد الغضب، وأقسمت عليه أن يترك هذا الدين، أو لتفعلن به ولتفعلن، فلم يلن له عزم، ولم تنثن عريكته لذلك.
فمنعت أمه عنه المال والطعام والشراب الذي كانت تعطيه له فلم يؤثر فيه ذلك، حتى اضطر هذا الشاب المنعم الذي لم يتعود حياة الشظف، أن يهاجر مع المسلمين إلى الحبشة، وهناك وجد من متاعب الطريق، ولأواء الغربة ما لم يكن له به عهد، ولكنه تحمل كل ذلك في ذات الله عز وجل.
ثم رجع المسلمون الذين هاجروا من الحبشة إلى مكة بعد ما سمعوا بإسلام قريش، فكان هذا الشاب يمشي في مكة وعليه ثياب لا تكاد تستره، حتى أقبل يوماً على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه تأثر وبكى، وقال: {والله لقد رأيت هذا الشاب في مكة وما فيها شاب أعظم عند أبويه نعيماً منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير وفي حب الله ورسوله} .
وهاجر هجرته الثانية إلى المدينة وظل يعاني من الفقر، والغربة -وإن لم يكن غريباً فهو مع إخوانه ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم- حتى قتل شهيداً رضي الله عنه، انظروا كيف فانظروا الله عز وجل لهذا الشاب الأجر العظيم، فلما قتل كما يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه فيما رواه البخاري في صحيحه يقول: {خرجنا نبتغي وجه الله فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير قال: لما مات لم يجدوا له شيئاً يكفنونه فيه إلا ثوباً قصيراً إن غطي به رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي به رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر -هكذا مات هذا الشاب الصالح ولم يأكل من أجره شيئاً- قال خباب رضي الله تعالى عنه: ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها} .
ومثل ما تحدث خباب رضي الله تعالى عنه تحدث عبد الرحمن بن عوف، فقد كان من أغنياء الصحابة وأثريائهم، [[وفي يوم من الأيام قُدِّمت له مائدته وفيها ألوان الطعام، فلما قدموها له تذكر ما تذكر فبكى وأجهش بالبكاء، وأمر برفع هذه المائدة، فقالوا له: لماذا يرحمك الله؟ ما أصابك؟ قال: تذكرت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإن منهم من مات ولم يأكل من أجره شيئاً، -وذكر مصعب رضي الله عنه- وتذكرت ما صرنا إليه فأخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا]] .
والمقصود أن كون الإنسان يواجه في سبيل الله ما يواجه، ليس من الغريب، بل الغريب أن لا يقع ذلك، ويحق لكل إنسان منا؛ لا يجد أذى في سبيل الله أن يراجع إيمانه، فقد يكون في إيمانه ضعف؛ لأن الله عز وجل وضع لنا قاعدة في القرآن الكريم أن المؤمن لابد أن يفتن ويبتلى، ويمتحن، كما في قوله تعالى {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3] فالإيمان يمكن أن يدعيه كل إنسان، ولكن المحك الذي يصدق عليه إيمان العبد أو يكذب، هو الامتحان في ذات الله، فإن صبر فذلك علامة إيمانه، وإن ضعف أو وهن أو تردد، فهذا علامة ضعف إيمانه.(252/14)
واجب الآباء تجاه أبنائهم
إن من واجبنا كآباء أن نحرص على أن نهيء لأولادنا الجو الطيب الذي يستطيعون من خلاله أن يمارسوا إيمانهم كما ينبغي، وإن من واجبنا أن نشجعهم على توجههم إلى الله، فإن من الأشياء العجيبة والغريبة أن يتجه الشاب إلى ربه، ولا ينحرف يمنة ولايسرة، وفى الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة} .
ليس من الغريب أن يهتدي الشيخ؛ لأنه قد كبر وشاب وعرف قرب الأجل، فهو يستعد لآخرته، ويستعد للموت وما بعد الموت، ولكن صلاح الشاب أمر محبوب إلى الله عز وجل أشد من صلاح غيره، ولذلك يعجب الله عز وجل منه ويحبه، فمن واجبنا أن نحب من يحبه الله، وأن نحرص عليه، وأن ندرك أن من واجبنا أن نشجع كل شاب رأينا فيه ولو بعض الصلاح، وإننا نرى والحمد لله في مشارق الأرض ومغاربها توجهاً إلى الله تعالى، ففي كل بلد من بلاد المسلمين، ترى عدداً كبيراً من الشباب وقد صلحوا، واستقاموا واهتدوا وابتعدوا عن الرذيلة، وهذه من البشارات التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي الحديث الصحيح المتواتر الذي روي عن أكثر من واحد وعشرين صحابياً، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} وفى لفظ {لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلا ما يصيبهم من اللأوى} أي: لا يضرهم خلاف المخالفين، ولا عناد المعاندين، ولا خذلان الخاذلين، وإن كانت اللأوى تصيبهم كما تصيب الأنبياء وأتباع الأنبياء، ولكن هذه بشارة نبوية أن هذه الأرض لا يمكن أن تخلو من قوم صالحين يقيمون هذا الدين، ويرفعون هذه الملة، ويكونون حجة لله على عباده كما في الحديث: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين} إنهم ليسوا قله، وليسوا أفراداً مشتتين، لا، بل هم قوم ظاهرون، لهم تأثير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله {لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} .
وهؤلاء هم الذين وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، فقد قال في الحديث الصحيح الآخر: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي} .
ووعد الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء بأن يظهر الله تعالى الدين على أيديهم، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} قال العلماء: إن (مَنْ) في هذا الحديث لا تعني فرداً واحداً بالضرورة، بل قد يكون المجدد فرداًن وقد يكونون أفراداً كثيرين في كل مكان، منتشرين في أنحاء الأرض، منهم من يجدد أمر هذه الأمة بالعلم، ومنهم من يجدده بالعمل، ومنهم من يجدده بالجهاد، ومنهم من يجدده بغير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها المسلمون.
فمن واجبنا أن ندرك مقتضى وعد الله، ومقتضى وعد رسوله صلى الله عليه وسلم وأن نشجع هذه البذرات التي تتجه إلى الله عز وجل وندعو الله لها بالتثبيت والسداد والتوفيق، وأن نكون ممن استجاب لأمر الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] .(252/15)
موقف الشباب من المنكرات
أما موقف الشاب من المنكرات التي تواجهه في حياته؛ فإن الشاب يجب أن يتدرع بالصبر والحكمة، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه} والإنسان يدرك بالرفق ما لا يدرك بالشدة، فعليه أن يكون رفيقاً ليناً مع أهله، وأبويه وإخوانه وجيرانه وزملائه، ولكن لابد أن يقول كلمة الحق بهذا الرفق، فكلمة الحق لا تضيع أبداً؛ فإنها مثل البذرة التي يلقيها الإنسان في الأرض، فقد تسفي عليها الرياح وينساها صاحبها؛ لكن يأتي المطر بعد حين فيحييها فتنبت بإذن الله، وهكذا كلمة الحق، فلا تيأس منها ولو كان الإنسان منحرفاً أو بعيداً عن الخير، ألق كلمة الحق إليه واجعلها مقرونة باللين والخلق الحسن والابتسامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} وستجد لها من الأثر أضعاف ما تجد لغيرها.
كما أن من واجب الشاب ألا يكون سلبياً تجاه المنكرات التي يجدها، فكثيراً ما تسمع من الناس من يقول: إن المنكرات قد شاعت واتسعت وعمت، ولا أستطيع أن أغير منها شيئاً، فأقول: إن كل إنسان حتى لو كان لا يستطيع الكلام؛ فإنه يستطيع أن يغير بقدر ما يستطيع، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وأول أثر للتغيير هو على نفس الإنسان المغير؛ لأنك إذا رأيت المنكر ولم تحاول تغييره مرة، ثم مرة، ثم مرة، استسلمت له نفسك، واستساغه قلبك، حتى لا يعود منكراً عندك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبه خردل} أي من رأى المنكر ولم يغيره ولم ينكره قلبه فليس في قلبه إيمان ولا مقدار حبة خردل.
فالمؤمن لا بد أن يغير المنكر ولو بالقلب، ولكن هذا التغيير الموجود بالقلب يمكن للإنسان أن يلقيه بالأسلوب المناسب، فإذا رأيت بإنسان معصية وإن كانت مما شاع وذاع في المجتمع-فألقِ الكلمة الطيبة بالأسلوب الطيب ثم اتركها، ستقول: إنه لن يستجيب لي، فأقول: سوف يأتي من الغد إنسان آخر فيقول مثل هذه الكلمة، ويأتي بعد شهر إنسان آخر فيقول مثل هذه الكلمة، حتى يستيقظ قلب هذا الإنسان، فيقول كل الناس أمروني بالخير، أنا محاسب مثلهم، ومسئول مثلهم، وهنا يستيقظ قلبه ويقلع بإذن الله عن المنكر، ولو افترض أن هذا لم يقع فنقول: أنت أيها المنكر قد برئت ذمتك، وتعودت على أن تكون إيجابياً في الخير، وعودت نفسك على الخير وعلى الإنكار، وهذا بحد ذاته كافٍ، والله سبحانه لا يسألك عن النتائج، ولكن يسألك عن الأعمال.
وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يهدي شباب المسلمين، وأن يأخذ بأيدينا وأيديهم إلى ما يحب ويرضى، وأن يكتب على أيديهم الخير في مشارق هذه الأمة ومغاربها، وأن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل، وأن يصلح أحوالنا.
وأصلي وأسلم على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أله وأصحابه أجمعين.(252/16)
الأسئلة(252/17)
لا استقامة إلا بأمر بمعروف ونهي عن منكر
السؤال
هل تتم استقامة المسلم بغير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب
لا.
لا تتم استقامة المسلم بغير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرته لكم سابقاً أن من لا ينكر على الإطلاق، ليس في قلبه من الإيمان حبة خردل، وهذا حديث صحيح في صحيح مسلم، {وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل إيمان} وفى رواية: {وذلك أضعف الإيمان} والأضعف ليس بعده أضعف منه، فالإنسان الذي لا يأمر ولا ينهى مطلقاً ليس بمؤمنٍ بمطلقاً، بل الدين كله هو الأمر والنهي: أولا: تأمر نفسك، فهذا أمرٌ ونهي.
ثانياً: تأمر من كان تحتك، ومن ولاك الله أمرهم، فهذا أمر ونهي.
ثالثاً: تأمر جيرانك، وزملاءك في العمل، وغير ذلك، فهذا أمر ونهي، أما أن يصبح المعروف والمنكر على حد سواء لا يفرح لهذا ولا يتغير لهذا، فهذا دليل على أن أضعف الإيمان قد فقد من قلبه، ومع الأسف الشديد أن الإنسان يرى تكاسل المسلمين في هذا الزمان عن الأمر والنهي، حتى إن الأمور التي كان الناس في السابق يشمئزون منها من قبل ويتحدثون عنها في المجالس؛ أصبحت شائعة ذائعة لا ينكرها منكر، وإن أعظم الأسباب في ذلك هو تهاون الناس، وأن بعضهم يزين لبعض هذا، والمثل يقول: (إذا كثر الإمساس قل الإحساس) فأول ما يرى الإنسان -مثلاً- المجلة السيئة تباع في مكتبة أو في دكان، يتأثر لذلك ويغضب، ويقوم على صاحب الدكان فيقول له: لا يجوز لك وأنت مسلم، كيف تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟ لكن عندما يراها مرة أخرى ومرات يصبح هذا الأمر عنده عادياً، فمن واجبنا أن نأمر وننهى، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة.(252/18)
حكم الشريط الإسلامي
السؤال
أنا شاب أحب الاستماع إلى الأشرطة الإسلامية، وقد نفعني الله بها كثيراً، وقد سمعت فضيلة الشيخ " ابن باز " حفظه الله يقول: إن الذي يقول: إن الاستماع إلى الأشرطة الإسلامية من البدع، هذا من الصد عن سبيل الله، بل هو جاهل مركب، نسأل الله أن يرد عليه عقله، هذه نشر للعلم، ونعمة كبيرة، والحمد لله الذي أنعم بها على المسلمين، وهي مثل الكتب والنشرات التي تنشر، وينتفع بها المسلمون إلى آخر الكلام، قال ذلك في شريطه " التحذير من البدع " إلا أن والدي لا يسمح لي أن أحمل شريطاً أو أستمع إليه، أرجو توجيه كلمة تقنع بها والدي، أثابكم الله؟
الجواب
أقول: ليس لي مع كلام فضيلة الشيخ " عبد العزيز بن باز " حفظه الله كلمة، فكل إنسان منا هو باحث عن الحق، وليس نهي والديك لك عن ذلك إلا من باب التماس الخير، والحرص عليك، ولكن لا يلزم أن يكون كل إنسان مجتهدٍ مصيباً للحق في كل مسألة، ولا شك أن هذا من حرص الآباء على أبنائهم، وربما أن بعض الآباء لم يعرفوا هذه الأشرطة، إلا من الأشرطة التي ينشر فيها الأغاني التي لا يجوز استماعها، فأما إذا عرف الوالد أن هذه الأشرطة أشرطة -كما تقدم السائل- إسلامية، وفيها علم، أو قرآن، أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه لن يجد في ذلك إن شاء الله حرجاً.(252/19)
كيفية الدعوة إلى الله
السؤال
عندما أرى بعض الشباب المنحرف أحب أن أدعوهم إلى الله، إلا أن بعضهم عندما يدخل إلى المسجد لا يجلس لاستماع الذكر، وفى الجمعة لا يأتي إلا قرب انتهاء الخطبة، أي لا يسمع من المواعظ إلا قليلاً، فما هي أفضل الطرق إلى دعوتهم والحالة هذه أثابكم الله؟
الجواب
أفضل طريق في نظري هو المصاحبة، فالجليس يؤثر على جليسه، (والقرين بالمقارن يقتدي) ولما بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم، كان أول من آمن به أبو بكر الصديق، وكان صاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضل طريقة هي الصحبة التي تؤثر في الإنسان، بحيث يرى من خلقك وعملك، وصلاحك، ما يدعوه إلى الخير ويرغبه فيه، ثم إعطاء هذا الشاب بعض الكتب والأشرطة المفيدة، وبالذات الأشياء التي يجد الإنسان الرغبة في سماعها وقراءتها، -فمثلاً- كتب القصص الإسلامية الطيبة، التي تحكي حياة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وحياة المؤمنين من قبلهم، هذه الكتب القصصية يجد الشاب الرغبة في اقتنائها وقراءتها، وهى أيضاً مؤثرة جداً أكثر من تأثير الكلام المجرد، وأكثر من تأثير الكتب الفكرية التي تتحدث عن موضوعات مختلفة، ويحرص كذلك على ربط هذا الشاب بالقرناء الطيبين الصالحين؛ ليحيطوا به ويملأوا وقت فراغه؛ لأن الفراغ هو أخطر مشكلة تهدد الشاب؛ لأنه إذا عاش في فراغ سيجد من الأشرار من شياطين الإنس والجن ومن الوسائل المتاحة ما يصده عن سبيل الله، فملء فراغ هذا الشاب بالزيارات المتبادلة والكتب والأصدقاء الطيبين وغيرها هي من الوسائل الناجعة المجربة في هذا السبيل.(252/20)
العمل في مرفق فيه نساء
السؤال
فضيلة الشيخ، أنا أعمل بالمستشفى، وسؤالي: هل العمل بالمستشفى فيه إثم حيث يوجد الاختلاط بالممرضات، والنظر إليهن، مع أن الشخص يغض بصره بقدر المستطاع، ولا ينظر إلا إذا دعت الضرورة في مجال العمل، مع العلم بأن دراستي لا تخدمني إلا بالمستشفى؟
الجواب
الأخ الفاضل أشار إلى أنه يعمل في المستشفى، حيث يوجد أعداد كبيرة من النساء الكاشفات لوجوههن، ولشعورهن في كثير من الأحيان، وأشار إلى أنه لا ينظر إلا بقدر الضرورة والحاجة من جهة، ومن جهة أخرى أنه بحكم دراسته لا يستطيع أن يعمل إلا في هذا المجال، فأنا أقول: إذا تحققت هذه الشروط التي ذكرها السائل في سؤاله، فلا يظهر لي في ذلك بأس -إن شاء الله-؛ إذا استطاع الإنسان أن يغض بصره، ولا ينظر إلا بقدر الحاجة، وعرف أن نفسه لا تتأثر بهذا الأمر تأثراً قد يودي به إلى الانحراف والعياذ بالله، ورأى أنه لا يمكن أن يعمل إلا في هذا المجال بحكم شهادته؛ فإنني أقول: إن المسلمين -بلا شك- بحاجة إلى مثل هذا الإنسان في مثل هذه المجالات، فلا أرى بأساً في هذا إذا تحققت الشروط التي ذكرها في سؤاله.(252/21)
كتب يقرؤها الشباب
السؤال
ما الكتب التي تنصح الشباب بقراءتها على اختلاف مستوياتهم؟
الجواب
كل مستوى له كتب تناسبه، فمن الكتب التي تناسب الإنسان المبتدئ في القراءة، ما أشرت إليه من القصص والكتب الإسلامية التاريخية، التي تطلع الشاب على أمجاد آبائه وأجداده المسلمين، ومن أحسن هذه الكتب: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والكتاب الذي أرى أنه مناسب في هذا المجال هو مختصر تهذيب سيرة ابن هشام " لـ عبد السلام هارون " أو مختصر السيرة للإمام محمد بن عبد الوهاب أو غيرها من كتب السيرة النبوية المختصرة.
ثم سير الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ومن الكتب التي أشير إليها كتاب صور من حياة الصحابة، ثم صور من حياة التابعين كلاهما للباشا، وكذلك كتاب شهداء الإسلام في عهد النبوة للنشار، فهو كتاب طيب، ومن الكتب المفيدة جداً والتي أنصح الشاب بقراءتها وتكرارها، بل وأنصحه أن يقرأها على أهله كتاب رياض الصالحين للإمام النووي، وهذا كتاب مفيد نافع، جمع فيه مؤلفه -جزاه الله خيراً- عمدة الأحاديث النبوية في أمور الدنيا كلها، وهناك كتب أخرى في التربية والتحذير من كيد الشيطان ووسوسته، منها كتاب تلبيس إبليس لـ ابن الجوزي، ومنها كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان للشيخ الإمام ابن قيم الجوزية، وهناك كتب أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.
والحمد لله رب العالمين.(252/22)
الفرق بين العجب والثقة بالنفس
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك خيط رفيع بين الثقة بالنفس والعجب، هلاَّ وضحت ذلك، جزاكم الله خيرا؟
الجواب
نعم هناك خيط رفيع بين فالتفقه بالنفس والعجب، الثقة بالنفس هي: أن يحرص الإنسان أن يمارس ويؤدي الواجبات المنوطة به، ويعمل ما يستطيع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الواجبات، والقيام بالأعمال التي هي داخلة في ضمن العبادة من حيث الجملة.
أما العجب فأن يفعل الإنسان هذه الأعمال فيقول في قرارة نفسه: أنا استطعت أن أفعل هذا العمل، إذاً أنا أفضل من غيري، والناس ينظرون إليَّ، فيظن أنه أفضل من غيره، وأنه يملك ما لا يملك غيره، فهنا يقع الإنسان في العجب، والعجب محبط للعمل والعياذ بالله كما أن الرياء محبط للعمل.
والفرق بين العجب والرياء -والله أعلم: أن الرياء يكون في أثناء العمل، فأنت تصلي، أو تتكلم، أو تقرأ، فترى غيرك ينظر إليك فيصيبك الرياء، لذلك تحسن وتكثر من صلاتك أو من عملك ليمدحك الناس بذلك، فهذا هو الرياء، أما العجب فأن يكون الإنسان بعد أن يعمل العمل مزهواً بنفسه، ومختالاً، وأقول: إن العلاج الناجع لهذه الأشياء هو في الحقيقة بسيط جداً ويسير على من يسره الله عليه.
أَلاَ تعرف أن كل نعمة صغرت أو كبرت فهي من الله، وليس لك يد فيها، إن كان العجب من الإنسان بماله فماله من عند الله، وإن كان بجماله فهو من عند الله، وإن كان بذكائه فهو من عند الله، وإن كان بنسبه فهو من عند الله، فأنت أيها الإنسان ماذا عندك؟ هل يختار الإنسان أن يولد -مثلاً- طويلاً أو قصيراً، غنياً أو فقيراً، ذكياً أو غبياً، لا يختار قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] فالله عز وجل هو الذي خلق الخلق، واختار منهم من شاء لما شاء، فوالله لو خلقنا الله عز وجل جميعاً على غير هذا الحال لما كان لنا في الأمر شيء، فإذا عرفت أن الأمر محض امتنان من عند الله فكيف تتكبر؟! أهذا شكر نعمه الله عليك؟!.
كذلك إذا كان الإنسان يعمل الخير أو يعمل العمل الصالح، فكيف يتكبر بهذا العمل أو يعجب به؟! ألا تدري أن الذي وجه قلبك إلى هذا العمل هو الله؟! وفى ذلك يقول الشاعر: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر يعني إذا شكرت نعمه الله عليك بالعبادة والعمل الصالح، فالعبادة والعمل الصالح نعمة أخرى تحتاج إلى شكر بمضاعفة العمل، فإذا شكرت وضاعفت العمل؛ فهذه المضاعفة نعمة جديدة تحتاج إلى شكر، والشكر يحتاج إلى شكر، فلا تزال بحاجة إلى الزيادة والمضاعفة حتى تلقى الله سبحانه وتعالى، ولو تسرب إلى قلب الإنسان شيء ولو يسير من الكبر فهو على خطر عظيم، ولذلك يحكى عن الإمام أحمد أنه وهو في مرض الموت كان يقول: بعد بعد -وكأنه كان في غيبوبة- فلما أفاق قالوا له: يا إمام! ماذا عرض لك كنت تقول: بعد بعد، فقال: إن الشيطان عرض لي فكان يقول: نجوت يا أحيمد نجوت يا أحيمد فأقول له: بعد بعد، يعني: ما نجوت، وما دام النفس يتردد في الإنسان ما نجا، فلا يوجد مسوغ يجعل الإنسان يعجب بعمله.(252/23)
عقوق الوالدين
السؤال
بعض الشباب هداهم الله يسيئون معاملة والديهم ويلعنونهم ويعتدون عليهم، وإذا أمرهم والدهم خرجوا من البيت ولم يرجعوا، حبذا لو وجهتموهم جزاكم الله خيراً.
؟
الجواب
إن بر الوالدين أمر عظيم، وتعرفون جميعاً القصة التي رواها الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما {عن العابد الذي كان يعبد الله من بنى إسرائيل، فدعته أمه وكان يصلي فقالت له: اخرج، فقال: يا رب! أمي وصلاتي، وبعد قليل دعته أمه مرة أخرى، فقال يا رب! أمي وصلاتي، ثم دعته مرة ثالثة، فقال: أمي وصلاتي، وظل في صلاته ولم يجبها، فسخطت عليه، ودعت الله عز وجل ألا يمته حتى يرى وجوه المومسات، أي: الزواني والعياذ بالله فأجاب الله تبارك وتعالى دعاءها، وكانت هناك امرأة حسناء من بنى إسرائيل فتحدث الناس عن صلاح جريج وعبادته، فقالت: إنني أستطيع أن أضله، فأعطوها إن فعلت ذلك كذا وكذا، فحاولت بكل وسيلة فلم يلتفت إليها واستمر في عبادة ربه، فخرجت من عنده فوجدت راعياً يرعى الغنم فمكنته من نفسها، فحملت، فقالت لبنى إسرائيل لما ولدت: هذا من جريج، فذهبوا إليه وأنزلوه من صومعته، وهدموها، وضربوه، وقالوا: زنيت، وهذا الولد منك، فقال: أين الغلام؟ فقالوا: هذا هو، فقال: من أبوك؟ فأنطقه الله فقال: أبي الراعي، فتأثر الناس، وعجبوا وزادت ثقتهم بهذا العابد، وقالوا له نبني لك صومعة من ذهب فقال: لا أعيدوها كما كانت من طين} والشاهد من القصة أن الله عز وجل يجيب دعاء الأب إذا دعا على ولده بحق.
وأنا أقول: إن من علامة رضا الله عن الأبناء أن يرضي عنهم والديهم، فليتجنبوا رفع الصوت على والديهم، أو الكلمات التي لا تليق، أو عدم إطاعة الأمر، وليحرصوا على قضاء حوائجهم، ولا تخدعهم أنفسهم فيقول القائل منهم: إنني أنشغل بدراستي، أو بتعليمي، أو غير ذلك، فإنه لو نظر في نفسه لوجد أنه يضيع الكثير من الوقت بغير طاعة، فليصرف هذه الأوقات في قضاء حوائج الأهل، هذا من جهة.
أما من جهة الآباء فإنكم أيها الآباء حريصون على صلاح أبنائكم، وعلى أن يدخلهم الله الجنة، بل إن حرص الوالد على مصلحة ابنه قد تفوق حرصه على مصلحته هو.
ففي الصحيح عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-: {أن امرأة فقيرة جاءت تسألها وكان معها بنتان، فأعطتهما عائشة ثلاث تمرات، فأعطت الأم هذه البنت تمرة وهذه تمرة وأخذت الثالثة لتأكلها، فأكلت كل من البنتين التمرة التي معها ومدت يدها لأمها، فأخذت الأم هذه التمرة من فمها وقسمتها لهذه نصف ولهذه نصف، فلما رأت عائشة هذا المنظر عجبت منه، وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: من ابتلي من هذه البنات بشيء فصبر كنت أنا وهو في الجنة} فأقول: إن هذا جزء من حرصكم على أبنائكم، فحرصكم يتجلى أولاً على أن تساعدوهم أن يكونوا بارين بكم، ورحم الله أباً أعان ابنه على بره، فاجتهدوا أن تتلطفوا معهم، وأن تأمروهم بما لا يشق عليهم وأنتم إن شاء الله على هذا الأمر مأجورون، وأن تقدروا ظروفهم، فيكلف الابن بما يطيق، وتراعى ظروفه، ويتجاوز الأب عن بعض الأخطاء التي قد يراها؛ لأن الشاب في مرحلة ربما لو تذكر الإنسان حاله وهو في هذه المرحلة لقدر كثيراً من الأشياء.
فالشاب في مرحلة فيها شيء من الطيش، والعجلة، وأحياناً شئ من السفه، فيتطلب من الأب أن يقدر هذا الأمر، وأن يكون رؤوفاً رحيماً به، فلا يكلفه إلا بما كان في إمكانه، ويتغاضى عن بعض الزلات، وهو إن شاء الله عز وجل مأجور.(252/24)
الأسباب المعينة على قيام الليل
السؤال
يقول: أنا الحمد لله تعالى شاب مستقيم، أحافظ على الصلوات والسنن الرواتب، وتلاوة القرآن، إلا أنني أعاني من عدم القدرة على قيام الليل، وأود أن يوفقني الله إلى القدرة على التهجد، فلا أصلي الوتر في أول الليل بل أقوم آخر الليل فأصليه مع التهجد، إلا أنني لا أستطيع إلا نادراً، فما هو الحل وما هي الطريقة التي تساعدني على قيام الليل -جزاكم الله خيراً-؟
الجواب
أقول: لا شك أننا نعلم جميعاً فضل قيام الليل، وما ورد فيه من الآيات والأحاديث، ووجود مثل هذا الشاب الذي يعزم مثل هذه العزيمة من نعمة الله تعالى على هذه الأمة، وأنها فيها الخير حتى يأتي أمر الله.
أما الطريقة التي تعين الإنسان على قيام الليل، فإنني أقول: أولاً: إن الإنسان إذا عرف من نفسه أنه لا يستطيع القيام في آخر الليل فالحزم أن يوتر من أول الليل، وليطل في هذا الوتر قدر ما يستطيع، فيصلي ما شاء الله له، ثم يختم بالوتر قبل أن ينام، فهذا كما صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: {أوصاني خليلي بثلاث: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام} فمن كان يعلم أنه لا يستطيع القيام آخر الليل إلا نادراً، فالحزم له أن يوتر من أول الليل بعد أن يصلي ما كتب الله له، وفي بعض الأحيان قد يستغل الشيطان هذه الرغبة عند الإنسان ليصرفه عن الوتر في أول الليل، فيقول له الوتر آخر الليل أفضل حين يبقى ثلث الليل الآخر، فينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا، فلا يزال يغري الإنسان بأن يؤخر الوتر إلى آخر الليل مع أن الإنسان قد يكون متعباً لا يستطيع أن يقوم، ففي مثل هذه الحالة على الإنسان أن ينتبه لهذا الأمر، وأنه قد يكون خداعاً من خداع النفس أو الشيطان؛ فيصلي أول الليل.
أما كيف يستطيع الإنسان أن يقوم آخر الليل، فإن من أعظم الوسائل المعينة على ذلك هي أن ينام الإنسان مبكراً، فإذا نام مبكراً استطاع أن يقوم آخر الليل، كما أن عدم إكثار الإنسان من الأكل يخففه ويعينه على القيام، والله سبحانه تعالى إذا علم من العبد صدق النية، فليبشر هذا العبد بالخير أولاً: أن الله سوف يعينه على القيام ولكن عليه ألا ييأس.
الأمر الآخر: إنني أعتقد أن هذا الإنسان الذي نام على هذه النية أنه في صلاة حتى ولو لم يستيقظ، خاصة إذا كان ممن إذا استيقظ فتعار من الليل قال: {لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير} وورد في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:6] أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد إذا مرض أو سافر كتب له ما كان يعمله مقيماً صحيحاً} فكذلك إذا حالت بعض الحوائل دون قيام الإنسان وكانت عزيمته متوفرة على ذلك، فليبشر من الله بخير، والله عند حسن ظن عبده به.(252/25)
علاج من صعب عليه الزواج في الوقت الحاضر
السؤال
أنا شاب سالك طريق الحق، ولكن لدي مشكلة تتعارض مع الطريق الصحيح، وهى أنني لم أتزوج بعد، فتراودني نفسي إلى المحرمات، وتعرفون خطرها وشدتها عند الشاب، فكيف السبيل الذي يساعدني على عدم تسلطها علي، علماً بأنني لا أستطيع الزواج في الوقت الحاضر؟
الجواب
سبقت الإشارة إلى إجابة هذا السؤال خلال الكلمة التي تقدمت بها، وهي الحث على غض البصر، وأنا أقول مرة أخرى: إننى لم أجد علاجاً لهذا الموضوع عند كثير من الناس أفضل من غض البصر؛ لأنه يقطع الداء من أصله، ويجعل الإنسان يوطن نفسه على عدم النظر، أما إذا أطلق الإنسان نظره -وإن كان متزوجاً أو كبيراً- فإنه والله على خطر عظيم، هذه نقطة.
النقطة الثانية فيما يتعلق بموضوع الزواج، أقول: إن هذا الموضوع من المشكلات الخطيرة التي تواجه الشباب -فعلاً- ولقد رأيت كتابة لبعض الشباب الذين يواجهون هذه المشكلة، وقد كتب إلى أحد الشيوخ يشكوا إليه ما يعاني، ليس هو فقط، بل وجموع كثيرة من الشباب، فيشير إلى أن كثيراً من الشباب - هدانا الله وإياهم- يواجهون هذه الشهوة الفطرية، ويجدون صعوبة في توفير متطلبات الزواج، من المهر إلى البيت إلى غير ذلك، فإذا حصّل الإنسان منهم مبلغاً قليلاً من المال فإنه يستغله في الإجازات وفي السفر إلى البلاد الأخرى، التي يرتع فيها الإنسان ويسرح ويمرح كما يحلو له، إننا نجد اليوم أن الكفار الذين لا يؤمنون بالإسلام؛ أصبحوا يدقون ناقوس الخطر ويشيرون إلى أن أممهم وحضاراتهم في خطر عظيم، ولا شك أنكم سمعتم بالأمراض التي انتشرت نتيجة العلاقات المحرمة التي نتجت بين الشباب والشابات في البلاد الكافرة، مما يسمى بالهربس، والإيدز، وغيرها، وهى عقوبة إلهية، ولم يعرف لها علاج، ونهايتها الوفاة، وسببها كما قالوا العلاقة الجنسية غير المشروعة، ولا يزال العلماء هناك عاجزين عن معرفة كنه هذا المرض وعلاجه.
ونقول: إنها عقوبة إلهية على هذا العمل.
وبكل أسف، فإن هذا الأمر بدأ يتسرب إلى بلاد المسلمين، وإلى شباب المسلمين، لسبب أو لآخر، ويقول هذا الشاب الذي أشرت إليه: إن أولئك الشباب الذين يغادرون بلادهم إلى تلك البلاد الإباحية، ليستمتعوا بهذه الشهوات المحرمة يكونون على حال لو رآها آباؤهم، أو أقاربهم، أو إخوانهم، لسكبوا الدماء بعد الدموع على هذا الوضع المزري الذي صار إليه حالهم.
إنهم يجلسون إلى الساعات الأخيرة من الليل، بل إلى الشمس بين الخمور والنساء، ويوزعون أموالهم بلا عد ولا ثمن، بل ويستدعي الأمر أحياناً إلى أن يتخلى الواحد منهم عن دينه بالكلية والعياذ بالله؛ لأنه يكون في بلد كافر، إما بلادٍ بوذية يعبدون بوذا، أو بلاد نصرانية، أو غير ذلك، فإذا عاش مع هؤلاء النسوة صار يحرص على مشابهتهن في كل شيء، فقد يعلق في عنقه الصليب أو غير ذلك، وقد يقسم والعياذ بالله بغير الله، وقد يفعل من الأعمال الكثير والكثير مما يتنافى مع العقيدة الإسلامية.
وهذا الخطر العظيم حَلُّهُ بعد توفيق الله في أيديكم يا أولياء الأمور، أن تتقوا الله سبحانه وتعالى وأن تدركوا أن المسئولية عليكم عظيمة وجسيمة، وأن من واجبكم العمل على تيسير هذا الأمر لشبابكم وفتياتكم، ومحاولة تقليل تكاليف الزواج بقدر الإمكان، وإذا رأى الإنسان شاباً صالحاً فليحرص على تزويجه بأقل كلفة، وهذا يقع على عاتقكم.
والله -أيها المسلمون- إن الخطر عظيم، وإنه قادم، وإن لم ندرك نحن الأمر؛ فسيحدث ما لا تحمد عقباه، وكل من رأى هذه الجموع الغفيرة من الشباب والنساء في الطرق والأسواق، أدرك أننا جميعاً على خطر، وأن من واجبنا أن نتدارك الأمر قبل ألا يمكن تداركه، والله المستعان.(252/26)
ملتزم يعاني من السخرية في بيته
السؤال
فضيلة الشيخ: أنا شاب لدي الرغبة في التوجه إلى الله، وأنا سائر في هذا الطريق والحمد لله بلا تردد، إلا أنني أعاني من أهلي وأقاربي، حيث يحصل منهم استهزاء وألفاظ سيئة، واحتقار وعدم مساعدة على السير في هذا الطريق، فما هو العلاج الذي يوقف من يستهزئ بي؟ وما هي الأسباب التي أتخذها حتى تساعدني في الثبات على الحق؟
الجواب
إن من الغريب أن نواجه في البلاد التي أهلها متمسكون بالإسلام والحمد لله مثل هذه الحالات، وما ذلك إلا دليل على ضعف الإيمان في هذه الأزمان، ونجاح الأعداء في غزوهم لهذه الأمة، حيث أصبحت بعض البيوت -فعلاً- يُستغرب أن يوجد فيها إنسان مستقيم أو صالح، ونسمع بين الحين والآخر مثل هذه الأسئلة والتي أصبحت أشبه ما تكون بالظاهرة في عدد من الأماكن، والنصيحة التي أتوجه بها إلى هذا الشاب هي أن يتذكر قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8] فالآية تعرض لنا أباً مشركاً يجاهد ابنه على الشرك، فيريد من ابنه أن يكون مشركاً أيضاً، فلم يقل له الله عز وجل أسئ الأدب معه، أو ابتعد عنه، أو احذر منه، بل قال: "فلا تطعهما"؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومع ذلك قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فينبغي للشاب أن يكون ليناً لطيفاً مع والديه مطيعاً لهما فيما لا معصية فيه، وأن يحرص على قضاء حوائجهما الدنيوية، والتحبب إليهما، ولو كان ذلك على حساب بعض الأمور التي يحتاج إليها هو، وألا يواجه هذه المواقف التي فيها سخرية أو استهزاء بالانفعال أو بالرد عليهما، فيزداد الأمر سوءاً، بل عليه أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة، وأن يكون حريصاً على كسب هؤلاء إلى صفه، وليجرب الشاب هذه الطريقة، فكثير من هذه الحالات تزول بهذه الطريقة، وهذه النصيحة أوجهها إلى الشاب.
ثم إن هناك نصيحة إلى الآباء أن يكونوا عوناً لأبنائهم على الاستقامة، ويحمدوا الله عز وجل أن منحهم أبناء صالحين، يكونون عوناً لهم على الأمور الدنيوية، ويكونون ذكراً لهم بعد موتهم، ونفعاً لهم في الآخرة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقه جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} .
أما في الآخرة فإن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] فالإنسان إذا كان صالحاً؛ فإن الله يجمع بينه وبين أبويه في الجنة، بل إن أبويه قد يرتفعان في الجنة درجه بسبب ابنهما، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى، فلنحرص على توجيه أبنائنا توجيهاً إسلامياً، ولنحرص على أن يسلكوا الطريق المستقيم.(252/27)
إمام دار الهجرة
بدأ الشيخ حفظه الله المحاضرة بذكر مولد إمام المدينة النبوية، الإمام مالك رضي الله عنه، وذكر وفاته وفضله، وأقوال العلماء فيه، ثم تكلم عن طلبه للعلم، وبعد ذلك ذكر مواقفه المشرفة مع الخليفة، أي جعفر المنصور، كرفضه لرأيه من تعميم كتاب مالك على البلدان، وإلزامهم به، وموفقه من إعادة بناء الكعبة، ثم عرج الشيخ على ذكر أوصاف المفتي عند علماء السلف، مع إيراد لبعض اللقطات من مجلس الإمام مالك، ثم ذكر مواقفه من الخليفة المهدي، وبعد ذلك تكلم عن قصد مالك في طلب العلم.(253/1)
وقفات مع إمام دار الهجرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:- فهذه المحاضرة بعنوان "وقفات مع إمام المدينة النبوية".
إن من السهل على كل إنسان أن يرجع إلى كتاب من الكتب المؤلفة في التراجم، ليقرأ سيرة الإمام الفذ الكبير الحجة، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، الذي ولد عام ثلاث وتسعين للهجرة.
في تلك السنة التي مات فيها أنس بن مالك، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعوض الله تعالى الأمة بهذا الإمام خيراً، وقد روى هذا الإمام عن شيوخ كثيرين من التابعين، يعدون بالمئين، بل بما يزيد على ذلك.(253/2)
بشارة النبي صلى الله عليه وسلم
وجاء في فضله حديث صحيح، رواه أهل السنن وأحمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة} وهذا الحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال الذهبي: هذا حديث نظيف الإسناد غريب المتن، وصححه ابن حبان وغيره، وقد حمل طائفة من أهل العلم هذا الحديث على الإمام مالك، وأنه هو المقصود ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه سوف يكون هو من أعلم العلماء وأنه عالم المدينة المشار إليه بالبنان، المذكور بلفظ عالم المدينة، سوف تضرب إليه أكباد الإبل من كل مكان في الدنيا.(253/3)
أقوال العلماء فيه
كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: [[إذا ذكر العلماء فمالك هو النجم]] .
وكان ابن معين يقول: [[إن مالكاً من حجج الله تعالى على خلقه]] .
كان الإمام مالك محدِّثاً، أخذ عنه الحديث أممٌ من الناس، وكتابه العظيم الشهير الموطأ هو كما قال الشافعي أيضا: [[هو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى]] وإنما قال الشافعي هذه الكلمة في وقت لم يكن كتاب صحيح البخاري وكتابصحيح مسلم موجودين في أيدي الناس، فكتاب "الموطأ" لـ مالك في وقته كان هو أصح كتب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان فقيهاً ملأ مذهبه الآفاق، انتشر مذهبه في المغرب، والأندلس، وكثير من بلاد مصر وبعض بلاد الشام، واليمن، والسودان، وبغداد، والكوفة، وبعض خراسان، وبعض بلاد الأحساء، وما زال مذهبه أحد المذاهب الأربعة الشهيرة المتبوعة.(253/4)
وفاته
عُمِّر مالك تسعاً وثمانين سنة، وكانت وفاته سنة مائة وتسع وسبعين للهجرة، وكان يقول عند موته: [[أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، لله الأمر من قبل ومن بعد]] .
ودفن رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه، بمقبرة البقيع الشهيرة بالمدينة النبوية.
لقد أصبح الإسلام زعزع ركنه غداة ثوى الهادي لدى ملحد القبر إمام الهدى ما زال للعلم صائناً عليه سلام الله في آخر الدهر قال أسد بن موسى: [[رأيت مالكاً بعد موته، وعليه ثياب خضر، وهو على ناقة بين السماء والأرض، فقلت: أليس قد مت؟! قال: بلى، قلت: فإلى ماذا صرت؟ قال: قَدِمْتُ على ربي وكلمني كفاحاً وقال: يا أبا عبد الله سلني أعطك وتمنَّ عليَّ أرضك]] فنعم هذه الخاتمة، التي ختم الله تعالى له بها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} وكانت هذه الرؤيا الصالحة التي رآها بعض الصالحين، أمارة على حسن الختام لهذا الإمام، وأن الله تعالى قد أنزله منزل صدق، وبلغه منازل الصالحين في الجنة.
وهذا الكلام تجده في كل كتاب، وفي كل مُصَنَف، ولم أكن لآتي فيه بجديد، ولا كان قصدي ووجدي ووكدي أن أجمعكم لأقول لكم: مات مالك عام كذا، وولد مالك عام كذا، وتوفي عام كذا، وتعلم من فلان وعلم فلان، فهذا تجدونه في الكتب، وإنما أتيت لأحدثكم عن وقفات خمس عظيمة في سيرة هذا الإمام الجليل العظيم.(253/5)
متى طلب مالك العلم؟
لقد طلب العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا قبل بلوغه الثامنة عشرة، وجلس للإفادة في مجلس العلم وعمره إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه آنذاك جماعة وهو في مقتبل شبابه، وفي آخر خلافة أبي جعفر المنصور، رحل الناس إلى مالك من الآفاق، وازدحموا عليه حتى آخر عمره.
إذًا: هذا يؤكد لنا البيئة التي تربى فيها شاب، مثل الإمام مالك في عهود السلف الصالحين، فأولاً: لم يكن القدوة في ذلك المجتمع إلا طالب العلم، فكان الشاب الصغير ينشأ وهو يرى الناس يشيرون إلى العالم بالبنان، فإذا أقبل أطرقوا رؤوسهم وطأطئوا، وأخلوا له الطريق، وسلموا عليه، وحيَّوه، ومسوه بالخير وصبحوه، وأجَلّوه وعظموه، لا لأنه يملك الأرصدة العظيمة، ولا لأنه يتربع على عرش وظيفة رسمية، ولا لأنهم يستفيدون منه مغنماً دنيوياً؛ لكن لأن هذا العالم يطوي بين جنبيه هداية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم الصالحين، فهم لذلك يُوَقِرونَه ويعظمونه، ويرون أن توقيره من توقير دين الله عز وجلّ وتعظيمه، فينشأ الصغير وهو يحمل الود والإجلال والإكبار لهذا العالم، وينظر إليه على أنه هو الأسوة والقدوة، وأنه يتمنى أن يكون في مثل مقامه ومنزلته.
وهكذا ينشأ الصغير، يتلقى عملياً دروس الإجلال والإكبار للعلماء والفقهاء، وأهل الدين والعلم والدعوة والجهاد.(253/6)
طلب العلم في مجتمعاتنا اليوم
أما في مجتمعات المسلمين اليوم! فإن الصغير ينشأ، وهو يشاهد شاشة التلفاز، فيرى أن التبجيل والتفضيل والتعظيم للاعب الكرة أحياناً، فيقول في رأسه: يا ليتني أكون لاعب كرة، أو للفنان الذي يتغنى بالألحان العذبة، والكلمات الرديئة التي قد تكون أحياناً مدعاة إلى الفساد والفجور، فيقول: يا ليتني أكون كهذا، أو لذلك الإنسان الشريف الوجيه، الذي يتربع على كرسي أو عرش أو منصب، فيتمنى أن يكون يوماً من الأيام موظفاً كبيراً، أو سيداً مطاعاً، أو تاجراً محترماً، لماذا؟ لأنه يرى أن المجتمع بمؤسساته وقنواته ورجاله وأجهزته يعظم هؤلاء، ويمدحهم وينفخ في شخصياتهم، فينشأ الصغير وفي ذهنه أن يكون واحداً من هؤلاء، فإذا رأيته على مقاعد الدراسة رأيته متباطئاً متلوماً لا يقوم بواجب، ولا يؤدي حقاً عليه، ولا يحفظ ولا يقبل على العلم، كل همه إن كان في مدرسة نظامية، أن يحفظ ما يجعله ناجحاً في الاختبار، وربما وجد النجاح في الاختبار يتم بغير ذلك من الوسائل الأخرى الملتوية، فلم يجد ما يدعوه إلى القيام بالواجبات، ولا أداء الدروس، ولا المحافظة عليها، وهكذا أصبحنا نجد أنه في الوقت الذي أصبح التعليم فيه إجباريا، يلزم فيه الطالب، وأصبحنا نستطيع أن نقول: إن لم يكن (100%) ، فإن قريباً من هذه النسبة من أولاد المسلمين وبناتهم، يتعلمون في المدارس، لكن كم تخرج على مقاعد هذه الدراسة من العلماء الكبار، أو الدعاة المشاهير، أو المصلحين أو الذين حفظ الله تعالى بهم العلم والدين؟!.
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل(253/7)
طلب العلم في عهود السلف الصالح
كانت الظروف والأسباب في عهود السلف الصالح، مهيأة للتعليم، ولم يكن ثمة عوائق أو صوارف تحول بين الإنسان وبين التعليم، فالعالم أو طالب العلم، ولو كان في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، إذا أتى إلى المسجد، وجد الأبواب مفتوحة، والفرص مهيأة والمجالس قائمة للتعلم، فإذا ذهب إلى السوق وجد الأسباب نفسها موجودة، فإذا ذهب إلى البيت وجد من تحريض الوالدين والإخوة والأهل ما يكون خير معين له على مواصلة الطلب والتحصيل، فيكون المجتمع كله يقول لهذا الشاب: تعلم العلم، ونحن وراءك، نشد أزرك، ونساعدك ونؤيدك.
وقد كان للإمام مالك مع أمه قصة معروفة في سيرته، إذ أنها كانت تحرضه على طلب العلم، وتنفق عليه من الأموال الموجودة لديها، حتى يستغني عن التجارة.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: [[لو كلفت شراء بصلة ما فهمت مسألة]] .
وكلام الشافعي هذا كالرمز، وإلا فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويبيعون ويشترون، ويزرعون، ويجاهدون، ويتعلمون، ومع ذلك كانوا هم أعلم العلماء.
وإنما المقصود أن المجتمع يجب أن يكون سنداً ومعيناً لطالب العلم، منذ نعومة أظفاره وصغره في تحصيل العلم وتهيئة أسبابه.
أما إذا كانت المسألة على النقيض، فكان المجتمع كله يحرض طالب العلم على الانصراف، فإذا جاء إلى المسجد وجد الإعراض، والأسباب غير مهيأة، والأبواب أحياناً مقفلة، والإضاءة غير كافية، والوسائل التي تعينه على البقاء ليست مكتملة، فإذا ذهب إلى البيت وجد المعوقات والمثبطات والمغريات والصوارف، وإذا ذهب إلى الشارع وجد قرناء السوء، الذين يغرونه بالمجالس السيئة التي لا خير من ورائها، فإذا ذهب إلى المدرسة، وإلى الجيران، والأصدقاء وجد أن المجتمع كله حجر عثرة أمامه في طريق التحصيل، فحينئذٍ لا ينجح ولا يفلح في ذلك إلا أصحاب الهمم العالية والنفوس الصلبة، الذين يواصلون ويصرون ويدأبون ويقدرون على تخطي هذه العقبات.(253/8)
انتشار العلم في عهود السلف
لم يكن العلم إجبارياً كما هو اليوم، ولا شك أننا نعلم علم اليقين، أن الكثيرين من شباب السلف الصالح، انصرفوا للجهاد، وكانوا يذهبون وراء الرايات المعلنة للرباط على الثغور، ومقاومة أهل الكفر والإلحاد والفجور.
ونعلم أن الكثيرين -أيضاً- انصرفوا للتجارة والبيع والشراء وأمور المعاش، التي لا قوام لحياتهم إلا بها، وأن الكثيرين أقبلوا على الزهد، وعلى أمور الآخرة، وعلى العبادة، وأعرضوا عن الناس، واعتزلوهم إلا فيما لابد لهم منه، هذا كله كان يقع.
ليس صحيحاً أن كل شباب السلف الصالح، كانوا في مجالس العلم الشرعي، وإنما كان منهم من تقوم بهم الكفاية، ويتحقق بهم الأمر الرباني {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] .
والإمام مالك، يقف اليوم بين أيدينا نموذجاً لرجل متخصص، رأى أن مواهبه وإمكانياته ومَلَكَاتِه تمكنه أن يخدم الإسلام في مجال حفظ العلم، ونشره وتعليمه والعمل به.
التقى الإمام مالك بالكثيرين من أصحاب الدنيا، فأغروه بترك العلم، فأشاح عنهم بوجهه، وأعرض، ورأى أن ما عند الله خير وأبقى، والتقى بالكثيرين الذين دعوه إلى أن يشتغل بالجهاد ويترك العلم، فرأى أن ما اشتغل به خير، وأن ما اشتغلوا به هم -أيضاً- خير، وأن فروض الكفايات لا يغني بعضها عن بعض، وكلٌ على ثغرة من ثغور الإسلام.
والتقى بالزهاد، كما التقى بـ عبد الله بن عبد العزيز العمري، الذي كان إذا خلا بالإمام مالك حثه على الزهد والانقطاع والعزلة عن الناس، فكان مالك يصغي إليه ويدعو له، لكن لا يأخذ برأيه، واليوم أين عبد الله بن عبد العزيز العمري؟ من منا أو منكم يعرف هذا الرجل مع أنه كان إماماً في الزهد والتقوى والورع والعزلة والانقطاع عن الناس؟! لكن من منا بل من المسلمين كلهم من لا يعرف الإمام مالك إمام المدينة النبوية وإمام المسلمين؟! لقد نسي الناس العمري الزاهد، ولكن ما زالت الأمة كلها عبر ثلاثة عشر قرناً من الزمان تتذكر الإمام مالك، الذي حفظ على الأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حجة من حجج الله تعالى على خلقه كما قال يحيى بن معين.
فهذا هو العلم الشرعي الذي يحفظ الله تعالى به الدين على الناس، ويحفظ الله تعالى رموز هذا العلم، فلا يزال لهم لسان صدق في الآخرين.(253/9)
موقف للإمام مالك مع أبي جعفر المنصور
يقول الإمام مالك كما في كتاب تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء للذهبي يقول: [[دخلت على أبي جعفر المنصور وقد جلس على فراش له -وكان الخليفة الذي يملك رقعة واسعة من الأرض- قال: فجاء صبي يدخل ثم يخرج، ثم يدخل ثم يخرج، فقال لي أبو جعفر: أتدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا أحد أبنائي وإنما يفزع الآن من هيبتك، امتلأ قلبه تعظيماً وهيبةً لك، فأصبح يدخل ليجلس فإذا رآك هاب وخرج]] .
ثم سأل الخليفة أبو جعفر المنصور مالكاً عن أشياء، قال الإمام مالك: سألتني عن أشياء منها حلال ومنها حرام، فأفتاه مالك بما يسعه أمام الله تعالى، ثم قال الخليفة لـ مالك: أنت والله أعقل الناس، وأعلم الناس.
قال له مالك: لا، والله يا أمير المؤمنين، قال: بلى، ولكنك تكتم ذلك عني، ثم قال أبو جعفر: والله لئن بقيت لأكتبنّ قولك كما تكتب المصاحف -أكتب اجتهاداتك، وآراءك الفقهية، ومذهبك، كما يكتب القرآن- ولأبعثن به إلى الآفاق والأمصار فلأحملنهم عليه ولألزمن الناس به.(253/10)
مالك مع أبي جعفر حول بناء الكعبة
لقد هُدِمت الكعبة مرات، هدمها عبد الله بن الزبير لما تولى على مكة، وأقامها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما تولى الحجاج هدمها مرة أخرى وأعادها كما كانت في زمن الجاهلية، ثم سمع الخليفة من مالك حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لهدمت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين، باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه} والحديث متفق عليه.
فهمّ أبو جعفر أن يعيد بناء الكعبة مرة أخرى على قواعد إبراهيم، فقال له الإمام مالك: [[يا أمير المؤمنين لا تفعل]] قال: لماذا؟ قال: [[إني أخشى أن تكون الكعبة ملعبة للملوك، هذا يهدمها وهذا يبنيها]] وكلما جاء حاكم جديد رأى أنه لابد أن يغير سنة من قبله، ليثبت للناس أنه جدد وأصلح وغيّر وبدّل، وأن من قبله كانوا وكانوا وكانوا، أما هو فكان بخلاف ذلك {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] كما هو الواقع من الحكام الجاهليين في كل زمان ومكان، فلذلك سد الإمام مالك الطريق على هذا التلاعب، ورأى أن تبقى الكعبة كما كانت؛ دفعاً لأن تكون ملعبة للملوك، كما عبر رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه.(253/11)
موقف مالك من الخليفة تجاه كتابه الموطأ
ثم طلب المنصور من الإمام مالك أن يكتب علمه، وبناءً عليه كتب الإمام مالك كتابه العظيم الشهير "الموطأ"، وظل يُقرأ عليه على مدى ما يزيد على عشرين سنة، ويصححه وينقحه، حتى وجد للموطأ ما يزيد على ثمانين رواية.
ولكن الغريب في موقف الإمام مالك: أنه لم يوافق أبا جعفر المنصور على حمل الناس على مذهبه، وقال له: "يا أمير المؤمنين! إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، ونشر كل منهم علمه"، وفي رواية أن مالكاً قال له تلك الكلمة العظيمة المضيئة، التي تكتب بماء الذهب: [[يا أمير المؤمنين! لا تفعل]]-يعني لا تحمل الناس بالقوة وبالسلطان، وبالنظام والقانون، على مذهبي ورأيي- لا تفعل، فإن الناس سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وما أتوا به وعملوا بذلك ودانوا به، وكل ذلك من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختلاف من بعدهم من التابعين، ورد الناس عما اعتقدوه ودانوا به أمر صعب شديد، فدع الناس وما هم عليه ودع أهل كل بلد وما اختاروا لأنفسهم.
وهذا الموقف العظيم الكبير، لي معه وقفات:- أعظمها: أننا نلاحظ أنه عبر التاريخ كان يوجد صنفان من العلماء:- الصنف الأول: من تمكنوا من الموقع السلطوي فأعطاهم الله تعالى مكانة عند السلاطين والخلفاء، فكانوا يَغْشَوْنَهُم في مجالسهم، ويحوزون ثقتهم، وكان الخلفاء يرجعون إليهم فيما أشكل عليهم من الأمور، كما كان الزُّهْري -مثلاً- الإمام لبني أمية.
الصنف الثاني: من العلماء من أعطاهم الله تعالى التمكين، ليس في مواقع السلطان، ولا عند الخلفاء، وإنما في قلوب العامة، فكانت العامة تنجفل إليهم، وتقبل على مجالسهم، وتستمع إلى علمهم، وتأخذ بفتواهم، ولا تعدل بهم أحداً أبداً، ومقتضى أمر الله تعالى: (واعتصموا) ومقتضى أمره الآخر: (ولا تنازعوا) أن كلاً من هذين الصنفين كان ينبغي أن ينتفع بما أعطاه الله تعالى، وما مكنه في تعزيز الطرف الآخر، كذلك العالم الذي تمكن من أذن السلطان، كان حقاً عليه شرعاً أن يكون مدافعاً عن أعراض العلماء والدعاة في مجالس السلاطين، محسناً لصورتهم، دافعاً لما يلصق بهم من الأباطيل والتهم والأقاويل، حريصاً على أن يكون قلب السلطان نقياً لكل مؤمنٍ وعالمٍ وداعيةٍ، من أهل الخير والحق والهدى.
وبالمقابل ذلك العالم الذي مكنه الله تعالى من آذان العامة، فأنصتوا إليه واستمعوا إليه، كان جديراً وحرياً به أن يستفيد من هذا الأمر الذي أعطاه الله تعالى، في أن يقول للناس قولاً حسناً، وأن يدافع عن أعراض أهل العلم، ويمنع العامة من الوقوع فيه، أو اتهامهم بما هم منه براء، أو إشاعة القالة عنهم، أو قبول ما ينشره بعض الخصوم، مما أقله حق وأكثره باطل، فيكون بذلك مدافعاً عن أعراض العلماء، منافحاً عنهم حريصاً على تحسين صورتهم في نفوس العامة، وأي خير للأمة إذا انفصل علماؤها عن عامتها، أو انفصل عامتها عن علمائها، وهذا هو الذي كان في عصور كثيرة من تاريخ الإسلام، لكن لا يعدم الإنسان عبر التاريخ من أحوال تكون الأمور فيها على النقيض، فيستغل عالم -مثلاً- مكانته عند السلطان ليشهر بفلان، ويتهم علاَّن، ويتقول على هذا، ويتهم ذاك، ويحاول أن يوغر صدور من يملكون القرار، على منافسيه وخصومه، ليبطشوا بهم أو يوقفوهم أو يمنعوهم، أو غير ذلك، وكان ذلك شراً على الجميع.
كما لا يخلو التاريخ -أيضاً- من إنسانٍ مكنه الله من قلوب العوام، فكان يستغل هذا التمكين في الوقيعة في أهل العلم والفقه من مخالفيه، والتشهير بهم، وإيغار صدور العامة عليهم، حتى إنك تقرأ في تراجم بعض العلماء، أن العامة ربما لاثوا به وأحاطوا به وضربوه وآذوه، ولعلك تستغرب أن يكون رجل كـ ابن تيمية، اجتمع عليه الناس يوماً من الأيام، في إحدى زياراته إلى مصر، أرض الكنانة، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، ورفعوا أصواتهم عليه، وكادوا أن يبطشوا به، نظراً لتلبيس بعض علماء السوء، حتى وقف الإمام ابن تيمية وقفة صامدة، وتكلم، وظل من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، يشرح تفسير سورة الفاتحة، ويتكلم مع الناس بكلام عظيمٍ جزلٍ كبيرٍ مؤثر، حتى أقبل الناس عليه، يقبلونه ويدعون له ويستغفرون الله تعالى عما بدر منهم؛ فإن الكمال الذي تحصل الأمة منه على خير كثير، أن يكون أهل العلم والدعوة على سنن الوفاق والاتفاق، لا على جادة الخلاف والتطاحن والتباغض، وأن يحرص كل امرئ منهم أن يتخذ ما أعطاه الله تعالى ذريعة إلى نصر الإيمان والتوحيد وأهله، وخذلان الباطل: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] .
لقد رفض الإمام مالك رحمه الله تعالى، استخدام السلطة لفرض رأيه الشخصي، ولو كان رأياً فقهياً استنبطه، وخالف فيه غيره، رفض أن يُفرض هذا على الأمة بقوة القرار السلطوي، وهذه آية العقل عند الإمام مالك؛ لأنه لا مدخل للسلاطين في أحكام الشريعة، فالشرع فيه قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى الإمام البخاري، روى الإمام مسلم، وروى أحمد في مسنده، وأجمع أهل العلم، وليس في شريعة الله اعتمدوا أو يعتمد، إن هذا دليل على أن الإمام مالك جمع مع العلم الصحيح ومع الورع والتقوى، جمع العقل النير البصير وبعد النظر، وهذا يذكرنا أيضاً بموقف آخر للإمام مالك، يدل على عقله، وبعد نظره، وحسن سياسته.(253/12)
تصدر الإمام مالك للفتيا
الموقف الثاني:- جاء في حلية الأولياء لـ أبي نعيم، والسير للذهبي، أن مالكاً رحمه الله قال: [[ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني، هل تراني موضعاً لذلك؟ قال: سألت ربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقال له قائل: فلو نهوك عن ذلك، هل كنت تنتهي؟ قال: نعم، كنت أنتهي، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه، حتى يسأل من هو أعلم منه]] .
يعني: أن الإمام مالكاً لما بلغ عمره إحدى وعشرين سنة لم يستعجل في أن يجلس للتعليم، ولا أن يتصدر للفتيا حتى سأل الشيوخ، وقال لهم: أنا تلميذكم وأنتم تعرفونني، هل ترون أني أهل لأن أفتي وأتكلم وأعلم العلم الشرعي؟ قالوا له: نعم أنت أهل فاجلس وعلم، قيل له: لو منعوك تمتنع، قال: نعم أمتنع؛ لأنهم أعلم مني وأبصر مني، فلابد أن أتوقف حتى أسأل من هو أعلم مني.
وكانت هذه عادة متبعة عند السلف، لم يجلس المزني -مثلاً- حتى سأل الإمام الشافعي وهو شيخه فقال له الشافعي: اجلس يا أبا عبد الله، فقد آن لك والله أن تجلس، والشافعي نفسه قال له أحد شيوخه: اجلس فقد آن لك أن تجلس، فحينئذٍ جلس للتعليم.
وما زال العلماء يعرفون عبر التاريخ ما يعرف بالإجازة، أي: أن العالم كان يعطي تلميذه مثل الشهادة، على أنه تلقى منه كتاب كذا وكتاب كذا، وكتاب كذا، وأنه من الممكن أن هذا التلميذ يروي هذه الأحاديث، أو هذه الكتب للناس ويعلمهم إياها، وهي ما تشبه اليوم الشهادة.(253/13)
الجدل ليس من الدين في شيء
هذا شاب ثالث: تضطره مضايق الجدل والمناظرة، التي كان الإمام مالك رحمه الله يقول: [[ليس هذا الجدل من الدين في شيء]] وقد رأى أن بعض طلبة العلم يميلون إلى الجدل ويغرمون به، ويدندنون حوله، فكان ينهى عنه، ويقول: ليس هذا الجدل من الدين في شيء، فهذا شاب تضطره مضايق الجدل والمناظرة العقيمة المذمومة، والتعصب لهذه الراية أو تلك، أو هذه الطائفة أو تلك، أو لهذا الشخص أو العالم أو ذاك، أو لهذا المذهب أو ذاك، إلى أن يغير مواقع العلم، ويبدل ويقدم ويؤخر، ويرفع وينزل، فتصبح الأصول عنده فروعاً؛ لأنه أهملها وغفل عنها، واشتغل بغيرها، ولم ير لها كبير قيمة أو فائدة، فإذا حدث عنها لم يتحرك قلبه، ولم ينشط ذهنه، وتصبح الفروع عنده أصولاً؛ لأنه اعتنى بها، وحرص عليها، وتحفظها وقدمها، وعدَّها أساساً للمخالفة مع فلان، والموافقة مع علان، لذلك أصبحت هذه الفروع عنده أصولاً يعظمها ويبني عليها، ويحاول أن يعطيها لوناً آخر غير اللون في شريعة الله، فيجعلها مرتبطة بأصل، أو مرتبطة بما يسميه منهجاً مثلاً، حتى يثبت أنه لابد من مخالفة فلان، ولابد من الرد على علان، وأن فلاناً من أهل الزيغ، وفلاناً من أهل الضلال، فلابد من الاشتغال بالرد عليه وبيان ما وقع فيه.
وهذا شاب رابع: يرى حاجة الناس إلى علم الشريعة فيستعجل الخطوات، ويختصر المسافات، فيقرأ -مثلاً- كتاباً من كتب أهل العلم ككتاب المحلى للإمام العظيم ابن حزم، فيجد في هذا الكتاب من روعة الأسلوب وقوة الحجة، وبراعة الإحراج للخصوم بطريقة ابن حزم رحمه الله، ما يجعل هذا الشاب المقبل على العلم أسيراً لعقلية الإمام ابن حزم وعلم ابن حزم وحجة ابن حزم، فلا يخرج عن رأيه طرفة عين، ويفتي بمذهبه، ويقرأ على الناس في المحلى، ويركض وراءه؛ فإن رقى جبلاً رقى وراءه، أو هبط سهلاً أو وادياً، أو تجشم صعباً لا يلوي على شيء؛ وذلك لأنه لا يملك من العلم والتأصيل وقوة النظر، ما يجعله يميز بين الاجتهاد الذي أصاب، وبين الاجتهاد الذي لم يصب، ولو أن هذا الإنسان أو ذاك، أعطى نفسه بعض الوقت، وصبر وصابر، حتى ينضج على نار هادئة، ولو أنه لم يستجب لنوازع الشهوة الخفية في النفس، لنفع وانتفع، وكان شيئاً مذكوراً.
إننا ونحن نعاني الخلاف المرير في أوساط أهل السنة، الذين هم أهل السنة، نرى أن معظم هذا الخلاف لم يصدر من العلماء الكبار، الذين تلتف الأمة حولهم وتأخذ بفقههم وعلمهم ورأيهم، ولكن غالبه إنما يكون من صغار الطلبة المغمورين، الذين لم يُعرَفُوا بكبير علم ولا جهاد ولا بلاء ولا عمل، هذا أمر.
الأمر الثاني: مع أن الإمام مالكا -كما أسلفت- لم يتجرأ على الجلوس للتعليم، حتى أمره شيوخه بذلك وأفتوه به، إلا أنه مع هذا كله كان يرى أن العلم لا ينتهي، فظل مع جلوسه يأخذ العلم ممن جاء به، لا يفرق بين أحد، حتى إنه أخذ من بعض طلابه مسائل، وعلى سبيل المثال فإنه رجع إلى مذهب بعض طلابه، كما في ترجمة عبد الله بن وهب، ورجع إلى قوله في مسألة تخليل الأصابع في الوضوء، وكان الإمام أحمد يقول: وقد رئي معه كتاب، ومعه دواة الحبر ومعه القلم: فقيل إلى متى يا أحمد؟ قال: مع المحبرة إلى المقبرة، يعني: لا أتوقف عن طلب العلم حتى الموت، وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول:- سأطلب علماً أو أموت ببلدةٍ يقل بها سكب الدموع على قبري فإن نلت علماً عشت في الناس سيداً وإن مت قال الناس بالغ في العذر إذا ما مضى يوم ولم أكتسب هدى ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري والإمام مالك مع أنه تأهل وترشح وطلب العلم، كان يقظاً حذراً عاقلاً، لا يتكلم فيما لا يحسن، ولا يهجم على كل شيء.(253/14)
شروط المفتي عند االسلف
إن الساحة الإسلامية اليوم، تعاني المسارعة إلى التصدر، والحرص على الرياسة، وحب الظهور قبل النضوج وقبل الاكتمال.
والملحوظ في سيرة السلف الصالح وهديهم، في ذلك ثلاثة أمور:- أنهم كانوا يراعون ثلاثة أوصاف في كل إنسان يرشحونه لهذا المقام، وهي كالتالي:- الأول: السن، فكانوا يتربصون بالإنسان، ويتريثون حتى يبلغ السن التي يتم بها عقله، ويكتمل بها نضجه، وإن كان هذا يتفاوت عندهم بين شخص وآخر، فمنهم من يجعل الإنسان قد اكتمل نضجه في سبع عشرة سنة، وآخر في العشرين، بل منهم من يوصل الأمر إلى الأربعين، المهم أنهم كانوا يراعون عامل السن، ولا يسمحون للإنسان أن يتصدر ويعلم، ويتكلم في الشرعيات علانية، إلا بعدما يبلغ سناً معينة.
الشرط الثاني: العلم، فلابد أن يكون مع سنه قد حصل على علم، ومعرفة بالكتاب والسنة، وقواعد الاستنباط، ومواطن الاجتماع والاختلاف؛ حتى يكون مرشحاً لئلا يخالف الاجتماع والإجماع، ولا يخالف نصاً شرعياً، ولا يقول ما ليس له به علم.
الشرط الثالث: وجود قدر معقول من الاعتدال في نظرات هذا الإنسان، والاعتدال في آرائه وفي اجتهاداته، وألا يعاب هذا الشخص أو يذم أو ينتقص بخلل في فهمه، أو ضعف في عقله، أو نقص في تفكيره، أو وجود بعض الملاحظات عليه، وقصص هذا كثير، وكانوا يحذرون من مثل هذه الشذوذات التي تقع من فلان أو علاَّن، وقد يرون العلم لا يبذل لكل أحد.(253/15)
خطر التعجل في الفتيا
هذا يؤكد لنا أموراً:- الأمر الأول: الحاجة الشديدة إلى ضبط المسيرة العلمية لشباب الصحوة الإسلامية؛ فإن خطر التعجل كبير، خاصة إذا كان هذا التعجل في الهجوم على العلم الشرعي؛ فإن العلم الشرعي هو تعبير عن دين الله تعالى، والمتكلم في العلوم الشرعية لا يعطينا شيئاً من رأيه الخاص، أو مزاجه، أو كيسه، وإنما هو معبر عن دين الله تعالى، ومترجم عن رب العالمين، وموقع عنه كما سماه الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين فهو ترجمان للقرآن والسنة، ولذلك من الخطورة بمكان، أن يتكلم في ذلك من لا يحسن.
ومجرد الشهرة -مثلاً- لا تكفي، وكبر السن وحده لا يكفي، وقراءة الكتب وحدها لا تكفي، بل لابد أن تتوافر مجموع صفات -كما أسلفنا- في الإنسان تجعله أهلاً لمثل هذا المقام الرفيع العظيم، الذي أسنده الله تعالى إلى رسله، فجعل لهم أمر الفتيا، وكذلك كان العلماء الصالحون هم ورثة الأنبياء.
المصيبة ليست فقط في أن هناك من يتعجل في الهجوم على العلم الشرعي؛ فإن من العلم الشرعي، أشياء ظاهرة معروفة قد يدركها الكثيرون، لكن المصيبة أنك قد تجد من المبتدئين في طلب العلم، من يهجم على المشكلات العويصة، والمسائل الدقيقة، أو ما يعرف بالأغاليط، والقضايا المشكلة التي تحتاج إلى علم غزير، وإلى عقل واسع نافذ، وإلى تبصر، وإلى طول تأمل، فقد تجد إنساناً يسارع في الهجوم على هذه الأمور.(253/16)
إياكم والأغلوطات
كان الإمام مالك نفسه رحمه الله كان يقول: [[إياكم والأغلوطات]] .
المسائل الشائكة التي لا نص فيها -مثلاً- أو المسائل التي ظاهر النصوص فيها التعارض، وتحتاج إلى بحث وتأمل، وعمق ونظر وعقل، وقد تجد الكثيرين يميلون ويندفعون إلى البحث في هذه القضايا والمسائل، قبل أن يبحثوا في القواعد الشرعية المعروفة، وقبل أن يلموا بالأصول الكلية، والقواعد المرعية في الشريعة، فهذا شاب -مثلاً- يجتهد في مسألة من مسائل الاعتقاد، التي استقر رأي الأمة فيها منذ زمن بعيد على قول واضح صحيح، ثم يستحدث في هذه المسائل رأياً جديداً، يظن أنه غاب عن عقول الجهابذة والعظماء، وفُتح عليه فيه على رغم صغر سنه، وهذا آخر يجعل نفسه حكماً بين أهل العلم فيما شجر بينهم، فيضيع وقته في غير طائل، ويذهب الناس بالعلم النافع المقرب إلى الله تعالى، أما هو فما في جرابه إلا: قال فلان وقال: علان.
ولم نستفد من كدنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا هذا أصاب، وهذا أخطأ! وهذا طلع، وهذا نزل! وهذا قال، وهذا لم يقل! فما يجد أنه جمع على طول الوقت وكثرة الطلب، إلا شيئاً لا يسمن ولا يغني من جوع؛ فإنه لا يُسأل يوم القيامة عن أقوال الناس، إنما يُسأل: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] أما أقوال الناس فهي كثيرة، والإحاطة بها صعبة والرد عليها أصعب، ودعك من هؤلاء، أخطأوا أم أصابوا، المهم أن تقبل على شأنك فتصلح ما بينك وبين الله، وتقبل على علم الشريعة، فتأخذ مما أقدرك الله عليه، وتشتغل به عن الآخرين، {وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس} .
هب أن هناك من أخطأ في العلم الشرعي، فلماذا تجعل من نفسك رقيباً عليه؟! ألا تدري أنك لو لقيت الله تعالى، وأنت لم تلعن فرعون، فرعون الذي هو أكفر الناس في زمانه، لو لقيت الله تعالى يوم القيامة وأنت لم تلعن فرعون، سوى أنك قرأت القرآن، ما عاقبك الله تعالى لماذا لم تلعن فرعون أو هامان أو قارون؟ إذاً لا يضيرك أن تكون أعرضت عن فلان أخطأ، وفلان زل، وفلان قال، وفلان لم يقل، المهم أن تقبل على علم الشريعة، وعلى "قال الله" "قال رسوله" الذي هو نور القلوب، وحياة النفوس، وجلاء الأفهام، وزوال ما في الصدور، ولا تشغل قلبك ببنيات الطريق، التي تحول بينك وبين الوصول إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم.(253/17)
لقطات من مجلس الإمام مالك
أتريد أن أصف لك مجلس مالك كيف كان؟! هذا صعب! لكن هذه بعض اللقطات والصور العجيبة:-(253/18)
اللقطة الثانية
وصف الواقدي مجلس مالك فقال: كان مجلس علم ووقار، وكان رجلاً مهيباً نبيلاً ليس في مجلسه شيء من المراء ولا اللغط ولا رفع الأصوات، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث فلا يجيب، إلا في الحديث بعد الحديث والمسألة بعد المسألة.
إذًا هو مجلس ليس مجلس الجدل والخصومات، وليس مجلس الفلسفة والسفسطة والقيل والقال، إنما هو مجلس تَحفُّه الملائكة، وتغشاه السكينة، وتتنزل عليه الرحمة، فهو مجلس الهدوء والإيمان والتقوى، ليس فيه لغط ولا رفع أصوات، ولا جدل ولا قصد الظهور، ولا الكلام في الناس، وإنما هو المجلس الذي إذا رآه عامة الناس، رأوا أنه المجلس الجدير بما ذكر الله تعالى عن أهل العلم.
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] .(253/19)
اللقطة الثالثة
قال الهيثم بن جميل: سمعت الإمام مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب عن اثنتين وثلاثين مسألة منها بقوله: لا أدري، وأجاب عن ست عشرة مسألة بما يعرف.
وكان مالك نفسه يقول: جُنّة العالم لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله.
قال الإمام ابن عبد البر المالكي: صح عن أبي الدرداء أن لا أدري نصف العلم.
إذًا لم ير مالك أن تصدره معنى أنه قد بلغ الغاية والكمال، بل رأى أنه كما قيل:- فقل لمن يدعي في العلم معرفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء ولهذا كان يعتصم بـ"لا أدري" ويقول: من تركها أصيبت مقاتله، ولا أدري نصف العلم، وربما سئل عن أربعين مسألة اعتذر عن أكثرها، فإذا قال له السائل: ماذا أقول لأهل البلد؟ قال: قل لهم يقول مالك: لا أدري.
هذا هو العلم، وأحلف بالله أن ثمة مسائل، ربما من هذه المسائل الثمان والأربعين أو غيرها، لو عرضت على مالك لاعتذر عنها وقال: لا أدري، ولكنها لو عرضت اليوم عليّ أو على بعض طلبة العلم ممن هم أقل شأناً، وأقل علماً، لهجموا عليها دون تردد، وتسارعوا إلى الكلام فيها والفتيا.
وربما مسألة لو عرضت على عمر، لجمع لها أهل بدر، لكن لو عرضت على واحد من صغار الطلبة، لرأى أن هذه المسألة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولا تحتاج إلى كلام، وكما كان السلف الصالح يتدافعون الفتيا، وكل واحد يحيلها على الآخر، أصبح الكثيرون اليوم يتنازعون الكلام، وكل واحد منهم يحاول أن يقول ويتكلم، ويفتي قبل أن يسبقه غيره إلى ذلك.(253/20)
اللقطة الأولى
جاء إمام من الأئمة وشيخ جليل، فجلس في مجلس مالك، فسأله عن مسألة، فأعرض عنه، ثم أعادها عليه فأعرض عنه، ثم أعادها عليه، فقال له الإمام مالك: يا هذا إذا رأيتني جلست لأهل الباطل، فتعال أجبك معهم.
يعني: هذه المسألة التي تطرحها الآن ليس لها قيمة؛ لأنها لا تقرب من الجنة، ولا تباعد عن النار، ولا تصلح ديناً ولا دنيا، فلا شأن لي بها، فإذا رأيتني يوماً من الأيام -ولن تراني- جالساً للبطالين وأهل الباطل، فتعال حتى أجيبك معهم، أما الآن فلا أشتغل بما تقول، إذًا فكثير من المسائل إذا تأملتها وجدتها لا تغني في دنيا ولا في دين.
ولهذا -أيضاً- جلس رجل في مجلس مالك فقال: يا إمام! قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟! فأعرض عنه الإمام مالك حتى علاه الرحضاء، وتصبب منه العرق، ثم قال: [[الاستواء غير مجهول]] يعني: معروف المعنى في لغة العرب، [[والكيف غير معقول]] يعني: تكييف الصفة مما لا تحيط به العقول، ولا يطيقه الإنسان، ولا يعلم كيف الصفة إلا الله جل وعلا، [[والاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء]] ثم أمر الإمام مالك بهذا الرجل فأخرج من مجلسه.
إذًا هذه الأغلوطات، وهذه المسائل، وهذه الإشكالات، وهذه المهاترات، ليس مكانها مجالس العلم، ولا مجالس الذكر، فالعلم هو أشرف وسيلة يتقرب بها إلى رضوان الله تعالى والجنة، وليس وسيلة إلى كسب الأتباع، ولا إلى الشهرة، ولا إلى كسب الدنيا والمال، ولا إلى غير ذلك.
فمتى انحرف العلم عن هذا الهدف؛ فإن الجهل حينئذٍ يكون خيراً منه، لهذا كان من أقوال الإمام مالك، وهي أقوال عظيمة مضيئة: كان يقول: "لا أحب علماً ليس تحته عمل".
يا أخي بالله عليك! تأمل ما تشتغل به أنت من العلم الشرعي قل أو كثر، هل هو من العلم الذي تحته عمل؟ هل هو يثمر لك خشوعاً في قلبك؟ أو طاعة لربك، أو تحسيناً وإصلاحاً لعبادتك، أو نظافة لضميرك، أو صلاحاً لظاهرك، أو حتى نفعاً لدنياك؟! فحبذا، إن كان علمك علماً مقرباً إلى الله، ترى أنه صحح قلبك، وصحح نيتك، ونور بصيرتك، وقربك إلى الله، وجعلك أكثر خشوعاً وزهداً وتقوى وطاعة، فهذا هو العلم النافع، أو ترى أن علمك الذي تشتغل به -أيضاً- علم دنيوي نفعك في زراعة أو حرث أو تجارة أو إدارة أو صناعة، أو كسب، أو معيشة، فهذا -أيضاً- من العلم الذي يحتاج إليه، ولا غنى للإنسان عنه، فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فأنصحك أن تراجع ما تشتغل به.
وكأن الإمام مالك يقدم لك النصيحة نفسها، في كلمة أخرى مضيئة فيقول لك: "رحمك الله، انظر ما ينفعك في ليلك أو نهارك فاشتغل به"، انظر ما ينفعك: يعني في دينك أو دنياك في ليلك أو نهارك فاشتغل به.(253/21)
موقف الإمام مالك من الأمراء
قدم المهدي وهو خليفة المسلمين، فبعث إلى مالك بألفي دينار أو ثلاثة آلاف دينار، ثم أتاه بعد ذلك الوزير فقال: إن أمير المؤمنين يحب أن ترافقه إلى بغداد عاصمة الإسلام وقصبة الخلافة، فقال الإمام مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون} والمال عندي على حاله، يعني لا أذهب مع الخليفة إلى بغداد، فإنني أبقى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لِمَا ورد من الفضل في سكنى المدينة والموت بها، وأما إذا كان الخليفة أعطاني هذا المال حتى يشتري به ضميري وذمتي، ويضغط عليّ من أجل أن أتخذ قراراً في صالحه، فالمال عندي بِصُرَته وحاله، فبإمكاني أن أعيده إليه، هذا موقف عظيم.
وله مواقف أخرى، قال الإمام مالك: [[والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه إلا نزع الله هيبته من صدري]] .
عَظُمَ الله تعالى في قلب الإمام مالك، ورزقه الله تعالى هذا العلم العظيم الشريف النبيل، فهان عنده أهل الدنيا، فكان لا يراهم كما يراهم الناس، ولا يغتر وبهذا الصولجان وهذه المكانة، وإنما كان الله تعالى ينزع هيبة أهل الدنيا من صدره، فيراهم كسائر الناس، بل ربما رآهم أقل من غيرهم شأناً، فلا يهابهم ولا يداهنهم في حق، ولا يجاملهم في دين.(253/22)
موقفه في مسألة طلاق المستكره مع أبي جعفر
الإمام مالك هذا الرجل القوي العزيز، الذي ما ذل ولا تنازل ولا أتى إلى البلاط، ولا رأى أن يقرأ على الخليفة ولا على أولاده ولا على مبعوثيه، هذا الإمام تعرض لفتنة عظيمة: كان يفتي في مجلس علمه أنه ليس على المستكره طلاق، فالإنسان أو الرجل إذا أكره على طلاق زوجته، فإن الطلاق لا يقع، هكذا كان يفتي الإمام مالك، وينقل في ذلك كلاماً عن الإمام علي بن أبي طالب وغيره، أنه قال: [[ليس على مستكره طلاق]] .
فجاء بعض المنافسين من أهل السوء الذين استغلوا موقعهم السلطوي -كما ذكرت قبل قليل- في تشويه سمعة العلماء، وتشويه أقوالهم واتهام نياتهم ومقاصدهم، فقالوا لـ أبي جعفر المنصور: هل تدري ماذا يقصد مالك بقوله: ليس على مستكره طلاق؟! قال: لا، قالوا: يعني: أن البيعة التي تأخذونها أنتم على شعبكم ورعيتكم بالقوة وبالإكراه، أنها لا تنفذ، وأنه لا يراها، فقاموا وأحضروا مالكاً وأركبوه وجلدوه أربعين جلدة، وضربوه حتى أصابه هذا الضرب في يده فكان يحمل إحدى يديه بالأخرى، قد ارتخت أعصابها من شدة الضرب والجلد.
رجل عزيز منيع شريف كبير القدر عالم، مع ذلك رضي بالسجن وبالجلد وبالإهانة، ورضي بأن يبعد ويسخط عليه؛ لأنه لا محاباة ولا مجاملة في دين الله تعالى، وإذا فتحنا أبواب التأويل فإن هذا الباب لا يغلق أبداً، وما أفسد الدين -أصوله وفروعه عقائده وأحكامه- إلا كثرة التأويل في دين الله تعالى وصرف النصوص عن ظواهرها.
دخل هؤلاء في تفسير نيات الإمام مالك ومقاصده، وماذا يقصد من وراء الكلام، فحاسبوه على كلام لم يقله، وغفلوا عن الكلام الذي قاله، مع أن شريعة الله تعالى لا حساب فيها، على الإنسان في هذه الدنيا إلا على ما قاله بلسانه، وتلفظ به أو فعله بنفسه، ولكن كثيراً من الظالمين والمتعجلين والحاسدين لا يعلمون.
قال الإمام الواقدي: والله مازال مالك بعد في رفعة وعلو.
هل ترى أن هذا الضرب أساء إلى مالك أو حط من قدره؟! كلا، بل كان هذا جزءاً من تاريخه، وأنت إذا قرأت سيرة عالم، فوجدت أنه ضرب وسجن وأوذي ومنع وحورب كبر في عينك، وعظم في نفسك، وعرفت أنه رجل مواقف ورجل مبادئ، ورجل صدق ورجل إخلاص، فكل هذه الأشياء تسجل في تاريخه، وتكتب في صحائفه، ولهذا قال الواقدي: والله مازال مالك بعد في رفعة وعلو.
قال الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" قال: هذه والله ثمرة المحنة المحمودة، إنها ترفع العبد عند المؤمنين، نعم قيل لـ الشافعي رحمه الله: أيهما أحسن للإنسان أن يمكَّن أو أن يبتلى؟ قال: [[لا يمكّن حتى يبتلى]] إنه جزء من تاريخ العالم الصادق، أن يصبر على دين الله، وعلى شريعة الله، ويقول ما يعتقد أنه الحق، ويصبر في سبيل ذلك.(253/23)
الإمام مالك وهارون الرشيد
سأل هارون الرشيد -وهو الخليفة- الإمام مالك وقد جاءه ومعه أولاده، فسأله أن يقرأ عليه قال: اقرأ علي شيئاً من العلم، فقال له الإمام مالك: [[والله ما قرأت على أحد منذ زمان، وإنما يقرأ عليّ]] يعني: أنت مثل غيرك أنت والفلاح والبقال، كلكم عندي في مجلس العلم سواء، فكلهم هؤلاء يقرءون علي فقال هارون الرشيد لـ مالك: لا مانع، لكن أخرج الناس من مجلسك، حتى أقرأ عليك، فأبى الإمام مالك وقال: [[والله لا أمنع العامة من أجل الخاصة]] .
ثم أمر الإمام مالك دفعاً للإشكال، بعض الحاضرين أن يقرءوا على الخليفة شيئاً، من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذًا: هو يلقن هؤلاء دروساً عظيمة في عزة العالم وقوته وشجاعته، وأنه لا ينظر إلى أهل الدنيا؛ لأن الدنيا عنده لا تساوي شيئاً، فأهلها عنده مثل غيرهم على حد سواء، فالغني والفقير، والشريف والوضيع، والكبير والصغير، والمأمور والأمير في ميزان الإمام مالك سواء، لا فضل لأحد منهم على أحد، إلا بالإيمان والتقوى، والعلم يبذل لهم جميعاً على قدم المساواة.(253/24)
الإمام مالك وأبو جعفر المنصور
قال مالك أيضا: [[دخلت على أبي جعفر المنصور، وكان الناس يدخلون عليه، فمنهم من يقبل رأسه، ومنهم من يقبل يده، ومنهم من يقبل رجله، قال: فعصمني الله تعالى من ذلك كله]] العالم لا يذل لا يطأطئ رأسه لأحد:- يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهمُ هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة؟! إذًا فاتباع الجهل قد كان أحكما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في الصدور لعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما(253/25)
الإمام مالك والمهدي
وقدم المهدي إلى المدينة النبوية، فبعث إلى مالك ليقرأ على أولاده، فرفض الإمام مالك وقال: [[العلم يؤتى إليه]] هم يأتون إلى المجلس لا أذهب أنا إليهم، فقال الخليفة وكان رجلاً عاقلاً: صدق مالك، اذهبوا إلى مالك واسمعوا له، فذهبوا إلى مجلسه ومعهم المؤدب الذي يعلمهم -الأستاذ- فقال المؤدب للإمام مالك: اقرأ عليهم -والمؤدب يرى أنه يأوي إلى ركن شديد؛ لأنه مؤدب أولاد الخليفة وقد جاء مبعوثاً من الخليفة شخصياً- فقال الإمام مالك: [[إن أهل المدينة كانوا يقرءون العلم علينا، كما يقرأ الصبيان على المعلم]] أنت وغيرك عندي سواء، أهل المدينة عندي يقرءون مثلما يقرأ الطفل عند المعلم في الكتاب، فإن أخطأوا أفتاهم.
فرجعوا إلى المهدي وأخبروه الخبر فكلم المهدي مالكاً وقال له: لماذا؟! قال الإمام مالك: [[يا أمير المؤمنين إني سمعت الإمام ابن شهاب الزهري يقول: جمعنا هذا العلم في الروضة الشريفة من رجال، وهؤلاء الرجال يا أمير المؤمنين هم أمثال سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير والقاسم وسالم ونافع وربيعة ويحيى بن معين وفلان وفلان وكل هؤلاء كان يقرأ عليهم العلم، ولا يقرءونه هم]] فقال الخليفة: نعم والله إن في هؤلاء قدوة، يا أولادي صيروا إلى الإمام مالك فاقرءوا عليه ففعلوا، وجاءوا وجلسوا في غمار الناس، وقرؤوا على الإمام مالك، كما يقرأ سائر الطلاب.
إنه نموذج لقوة العالم المعتد بعلمه، المستغني بما أعطاه الله تعالى عن الدنيا وزخارفها، والتقرب إلى السلاطين، الذي لا يخضع للإغراءات الدنيوية، ويحفظ شخصيته عن أن تهان، إن حفظ الشخصية هنا مطلوب، وليس من التواضع أن يجيبهم إلى ما سألوا، ولا أن يسعى إليهم، ولا أن يذل لهم، هذا ليس من التواضع.
يقول أحد الشعراء:- من الله فاسأل كل أمر تريده فما يملك الإنسان نفعاً ولا ضرا ولا تتواضع للولاة فإنهم من الكبر في حال تموج بهم سكرا وإياك أن ترضى بتقبيل راحة فقد قيل عنها: إنها السجدة الصغرى لا تُقَبِّل راحة العظماء والكبار وتعد هذا تعظيماً لهم، وعرفاناً بحقهم، فإن هذا لا يليق؛ فإن كان مقبولاً من الخدم والحشم والأتباع، فإنه غير لائق ولا جدير للعالم أو طالب العلم أو ذي المكانة في الدين.
وفي بلاد العالم الإسلامي اليوم -مع الأسف الشديد- جهات كثيرة جداً لم يبق لها من أمر الدين -وقد تكون مسئولة عن الفتيا أحياناً، أو عن الشئون الإسلامية- لم يبق لها إلا أن تعلن عن دخول شهر رمضان أو خروجه، بل حتى دخول رمضان وخروجه، أصبح يعرف عندهم، في أكثر من بلد، عن طريق الحساب، فلم يبق للمفتي إذن من شأن ولا مكانة ولا منزلة، وأصبح العالم بجبته وعمامته وثيابه أصبح مستعداً في أكثر من بلد إسلامي؛ لأن يقول بتحليل الربا، إذا كان هذا يخدم هوى ورأي السلطان، وأن يصدر فتوى بجواز الصلح مع اليهود، والجلوس معهم على طاولة المفاوضات، وتسليمهم بلاد الإسلام، والإقرار لهم بالوجود في الأراضي المقدسة، التي بارك الله حولها، إذا كان هذا يرضي أهواء السلاطين، وأصبح العالم بجبته وعمامته وطيلسانه، أصبح يجلس مع النصارى الكفار أعداء الله على مائدة تسمى مائدة الإخاء الديني، والوفاق بين الأديان، وتلتقط له الصور وتعرض في التلفاز وتشاهد في الصحف، ويتحدث عنها القريب والبعيد، ويتكلم هذا المنسوب إلى العلم عن الإخوة الدينية، والوحدة الوطنية، وأن أبناء هذا البلد أو ذاك يجب أن يكونوا إخوة في الوطن وإن فرقتهم الأديان، لماذا؟! لأن هذا العالم أو ذاك أو غيرهما ممن ضربت بهم الأمثلة، وممن لم أضرب أصبحوا مجرد موظفين، جاءوا إلى مناصبهم بقرارات، ومن الممكن أن يزالوا عنها بقرارات، فصاحب الدنيا الراغب في المنصب، العبد للكرسي، يراعي ولي نعمته، ويداري سخطه، وتغير خاطره عليه، ولهذا يسعى جهده وطاقته إلى البحث عن رضاه، ولو كان هذا على سبيل دينه، وعلى سبيل شريعة الله عز وجل، ولم يعد العالم مراقباً أو محتسباً على المجتمع المسلم بقيادته وشعبه، يصحح الخطأ، وينتقد ويعدل، كما كان الأمر في الماضي، بل أصبح تابعاً ذليلاً، يركض في أهواء سادته ويطيعهم، ويبحث عن الكلمة أن يقولها، بمجرد أن يصدر أول حرف منها من فم ولي النعمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(253/26)
مواقف للعلماء(253/27)
الإمام عبد العزيز البدري
وهذا الإمام عبد العزيز البدري -مثلاً- في العراق صبر، وأعلن رفضه للفساد القائم في تلك البلاد، وللحكومات العلمانية التي حكمت المسلمين بغير شريعة الله تعالى، وأعلن ذلك على رءوس الأشهاد، حتى صادروه وسجنوه وقتلوه وقطعوه إرباً إرباً، ثم ألقوه ملفوفاً بكفنه عند باب بيته ودفنوه بعد ذلك، وظل الرجل علماً من أعلام الإسلام.(253/28)
الأستاذ سيد قطب
وهذا رجل مثل الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، يكتب ما يرى ويعتقد ويدين في كتبه وعلومه، فيسجن ويؤذى ويعذب ويضيق عليه، ويطلب منه أن يقول كلمة واحدة يعتذر بها فيقول: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ترفض أن تكتب حرفاً واحداً تقر به حكم طاغية.
يا شهيداً رفع الله به جبهة الحق على طول المدى سوف تبقى في الحنايا علماً هادياً للركب رمزاً للفدا ما نسينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى إننا حين نذكر الإمام مالك، أو الإمام أحمد، أو ابن تيمية، أو عبد العزيز البدري، أو سيد قطب أو غيرهم، لا نقصد أبداً أن نختصر تاريخ الإسلام العظيم، وتاريخ العلماء الأبطال في خمسة أو عشرة أو مائة أو ألف، والتاريخ حافل بهؤلاء، لكن هذه بعض الأمثلة والنماذج السريعة من أدنى الذهن، أما الأمثلة فهي كثيرة، وأما العلماء أصحاب المواقف الشامخة وأصحاب البطولات الراسخة فهم أكثر من أن يأتي عليهم العد والحصر في مثل هذا المقام، ولكن لا يخلو عصر ولا زمان ولا مكان من قائم لله تعالى بحجة يدعو إلى الله تعالى، وينفي عن دين الله تعالى تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ويصبر في ذلك حتى يلقى الله تعالى، فيحكم وهو أحكم الحاكمين.(253/29)
الإمام أحمد
لقد سجن من العلماء من سجن، وقتل منهم من قتل، وضرب منهم من ضرب، فهذا الإمام أحمد اقرأ تاريخه، وماذا لقي في المحنة، كان يرفض أن يقول كلمة واحدة، يخدع بها جماهير الأمة عن عقيدة عظيمة، توارثتها الأمة، وهي أن القرآن منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.(253/30)
الإمام ابن تيمية
ثم ورث الأمر بعد الإمام أحمد علماء فحول كـ ابن تيمية رحمه الله، فسجن وأوذي وحورب حتى مات، وهو في السجن وكان يقول: [[ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، سجني خلوة، ونفيي وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة]] فتحير فيه أعداؤه؛ وذلك لأن الرجل كان لا يهادن ولا يداهن في دين الله عز وجل، وقد وقف أمام ابن تيمية أناس كثيرون من العلماء والمنتسبين إلى العلم، والسلاطين وغيرهم، فانظر اليوم أين هم؟ وأين ابن تيمية؟! أما ابن تيمية فملء سمع الدنيا وبصرها، وملء عقول طلبة العلم، وملء قلوب الناس، ما من مسلم مخلص إلا وهو يحبه ويدعو له وينتفع بعلمه وكتبه تطبع عشرات الطبعات، وتتداول في كل مكان، وهناك مئات بل آلاف الدراسات للعرب والمستشرقين والمسلمين وغيرهم حول ابن تيمية رحمه الله، ومناهجه وكتبه وآرائه واجتهاداته، أما هؤلاء الذين وقفوا ضده فقد انتهى ذكرهم بموتهم، فأهملهم التاريخ وأخمل ذكرهم، فلا يعرفهم أحد، ولا يذكرهم أحد، وربما لا يعرفون إلا بأنهم وقفوا في وجه الإمام ابن تيمية.
وظلت الراية ينقلها ويحملها الواحد بعد الآخر، حتى وجدنا في هذا الزمان من العلماء من صبروا وصابروا ورابطوا، حتى لقوا الله تعالى غير مغيرين ولا مبدلين.(253/31)
لماذا تعلم مالك العلم؟
يقول مالك: [[ما تعلمت العلم إلا لنفسي]] ما تعلمته ليحتاج إليّ.
إذاً: كانت نية الإمام مالك في العلم نية صالحة، ما تعلمه ليصرف وجوه الناس إليه، ولا ليلتف الناس حوله، ولا ليعمر به المجالس، إنما تعلمه لنفسه ليعمل به، ويدعو إليه، ويصبر عليه، وينور له طريقه إلى الله تعالى، وإلى الدار الآخرة، صبر في هذا الطريق وتعلم فاحتاج الناس إليه، وكثروا حوله، وكان الإمام مالك يقيم حلقة عامرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتيه الناس إليها، ويضربون أكباد الإبل من بلاد الأندلس، والمغرب والشام والعراق ومصر، وأنحاء الجزيرة العربية وغيرها، وكانت حلقته حلقة عظيمة.(253/32)
نظرة الإمام مالك إلى المسائل الاجتهادية
إن الإمام مالك كان يرى أن المسائل الفقهية والمسائل الاجتهادية، فيها مسرح واسع، ومجال عريض للاختلاف، وأن الأقوال فيها محتملة، والأدلة فيها متقاربة، وأحياناً متقابلة، ولا حرج عليّ أن أخالفك بمقتضى الدليل، ولا حرج عليك أن تخالفني، ولا مانع أن ترد علي بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا مانع أيضاً أن أرد عليك بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالأسلوب الطيب المناسب، ليس من همي أن أرد عليك حتى أسقطك، وأمرغك أمام الناس، وأجعلك في موقع غير محمود، أو أشوه صورتك أمام الناس! كلا، وإنما كان همي الوصول إلى الحق الذي تهتدي به أنت قبل غيرك، أو همك الوصول إلى الحق الذي أهتدي به أنا قبل غيري، هذا كان همنا، لذلك التزمنا بالأسلوب الحسن، والحكمة والموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة؛ لأنني لا أريد أن أوحش صدرك فلا تقبل مني.
قال الإمام أحمد: [[ما أغضبت أحداً قط فقبل منك] تغضبني وتشتمني وتسبني وتتهمني، ثم تريد مني أن أقبل منك! قد يكون هذا لو أنني صاحب خلق عظيم، وصاحب قدرة كبيرة على التحمل، وأنني تخلقت بالأخلاق التي ورثها الناس عن الأنبياء، فصرت صابراً مثابراً قوياً محتملاً، لا أغضب لنفسي، لكن من يملك مثل هذا؟! أكثر الناس لا يملكونه، ويتأثرون بالأسلوب والكلمة، ولهذا تجد أن أهل العلم الصادقين الغيورين المخلصين، وأضرب -مثلاً- منهم في هذا العصر بالإمام الكبير عبد العزيز بن باز، يخاطب حتى بعض الذين نسبت إليهم البدع، وبعض المخالفات الشرعية، وبعض الضلال في مسائل من الشريعة، فضلاً عن بعض المخالفات الفرعية الاجتهادية، يخاطبهم بالأسلوب الحسن.
وقد وقفت بنفسي على رسالة بعث بها سماحته إلى رجل من أعلام الفكر والدعوة في هذا العصر، ولكن عليه ملاحظات وأسئلة، وحوله بعض الكلام، وله اجتهادات في مسائل عديدة، قد لا يوافق على جميعها، فكُتب إلى الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الرجل، فماذا فعل؟! كَتَبَ إليه رسالة، وقد وقفت بنفسي على كل هذا، وبجله ومدحه وأثنى عليه، وقال: إلى فضيلة الأخ الداعية العالم الدكتور المفكر فلان بن فلان حفظه الله، ثم سلم عليه، وأثنى عليه، ودعا له وشكره على جهوده في خدمة الدين، وعلى بذله وبلائه وصبره وعلى وعلى وبعدما هيأ نفسه للقبول، قال: بلغنا من بعض الناس كيت وكيت وكيت، ثم ذكر كل ما نسب، وقال: فأحببنا أن نتثبت وألا نقول إلا ببينة، ورأينا أنك أقرب من نخاطبه في ذلك ونسمع منه، فنحب أن تبين لنا في ذلك، فكتب هذا الرجل إلى الشيخ عبد العزيز بن باز ما كتب.
فتشعر بأن الإمام عبد العزيز بن باز لم يكن همه أن يشهر بهذا الداعية، أو يحط من قدر ذاته، أو يشوه صورته؛ لأن العامة من المسلمين إلى أين يذهبون، إذا سقط هذا وسقط هذا، وسقط هذا، من بقي للناس؟! هب أنك أفلحت أن تقنع الناس، بأن (س، من الناس) غير مناسب، ولا جيد، وليس على الجادة، ولا على السنة، ولا على الطريق، ويجب أن يترك، و (ص، من الناس) مثله، و (ع، من الناس) كذلك، إذاً، من بقي للناس؟ المهم البناء وليس الهدم، والناس لا يتركون شيئاً إلا بشيء، وليست القضية قضية منافسة، فالساحة ملأى، ونحن نرى أن الأمة وقعت ضحية تضليل كثير من أهل الفساد، والإلحاد، والعلمانية، والزندقة، وأصبح يمثل الأمة أحياناً، في محافل دولية، وأدبية وفكرية ملاحدة، وزنادقة وأهل الإلحاد، وأهل الحداثة، وأهل الكفر، فضلاً عن أهل البدعة والضلالة، المعلنين المعروفين المشهورين.
فلماذا نستغرب أن تقع الأمة ضحية، وهب أن الأمة اغترت بفلان، ولم يكن من هؤلاء ولا من أولئك، يجب عليك أن تسعى إلى إنقاذ الأمة من أن تغتر بهؤلاء الزنادقة، وتسعى إلى إنقاذها من أن تغتر بهؤلاء المبتدعة المعلنين بالبدعة، قبل أن تسعى إلى إنقاذ الأمة مما تظنه أنت اغتراراً بفلان في مسائل إن كان ما تعتقده أنت صواباً، فالخطب يسير، والأمر لا يدعو إلى كفر وإيمان، وليس هدىً أو ضلالاً، وإنما المسألة مسألة اجتهاد، يخطئ ويصيب، ومسألة قول راجح أو قول مرجوح.
هذا بعض ما أحببت أن أقوله عن الإمام مالك، وفي سيرة الإمام مالك الكثير مما لا يتسع المجال لذكره.(253/33)
تشويه الحاسدين بعلم الإمام مالك
وقد ألب هذا قلوب بعض الحاسدين عليه، فغاروا، وتكلموا، وسبوه، واتهموه، وقالوا: فيه ما قالوا، أغروا به السلاطين -كما سبق- فضرب، وجلد، وسجن، وأوذي، ومنع فترة من التعليم، ولكن لم يفلحوا، فما زاده هذا إلا شموخا ورفعة ومكانة عند المسلمين.
فلجئوا إلى أمر آخر، وهو التشهير والوشوشة حول سمعة الإمام مالك، وعلم مالك، من هو مالك؟ وماذا قال مالك؟ حتى إن الإمام مالكاً قال يوماً من الأيام لـ مطرف: ماذا يقول الناس فيّ؟ قال له: يا إمام أما الصديق فيثني عليك خيراً، وأما العدو فيقع فيك ويطعن في عرضك، فقال الإمام مالك: [[الحمد لله الحمد لله، مازال الناس كذلك ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلها]] .
إذا مت كان الناس صنفين شامتاً وآخر مثنياً بالذي كنت أصنع فالناس ما اتفقوا على أحد، إلا أن يتكلموا في هذا أو ذاك، أو ينتقدوه أو ينتقصوه، فالإمام مالك يقول: لا ضير عليّ أن ينال مني عدوي، المهم أن الناس لم يجتمعوا عليّ ولم تتابع ألسنتهم كلها عليّ، ولم يكن ذلك؛ لأنه يكره الذم، أو يخاف أو يحب المدح لذاته؛ ولكن لأنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {أنتم شهداء الله في أرضه} فإذا أثنى عليك أهل الخير أو جلهم، كان ذلك عربوناً ودليلاً على قبولك عند الله، إن شاء الله تعالى.
ولذلك جاء رجل فسأل الإمام مالكاً عن مسألة -من هؤلاء الناس الذين يأخذون ببنيات الطريق، وهمهم إثارة التشويش- فأجابه بما يعلم، فماذا كان رد هذا الإنسان؟ قال لـ مالك: أنت من الناس، أحياناً تخطي وأحيانا لا تصيب، قال له الإمام مالك: صدقت، هكذا الناس، ما تفطن الإمام مالك؛ لأن الإنسان الكريم الشريف صاحب المروءة، وصاحب المقام، وصاحب الإعراب، لا يلتفت إلى أساليب الغدر، وأساليب اللف والدوران والطي والنشر، يأخذ الأمور على ظاهرها، وعلى الجادة وليس لديه استعداد للدخول في مهاترات، فلما قال هذا الرجل لـ مالك: أنت من الناس أحياناً تخطي، وأحياناً لا تصيب، ظن الإمام مالك أنه يقول: أحياناً تخطي وأحياناً تصيب، فقال له: صدقت، هكذا الناس، فلما ذهب الرجل قال التلاميذ للإمام مالك: ألم تعِ ما قال؟ قال: ماذا قال؟ قالوا: إنه يقول لك: أحياناً تخطي، وأحياناً لا تصيب، يعني: كأنه يرى أن الإمام مالكاً ما أصاب يوماً من الأيام، فقال لهم الإمام مالك: [[أنا عهدت العلماء لا يتكلمون بمثل هذا الكلام، وإنما أجيب على جواب الناس]] أي: ما عهدت أحداً من أهل العلم يتهم الإنسان بأنه لا يصيب أبداً؛ لأنه ما من إنسان إلا ويؤخذ منه ويترك، كما كان مالك نفسه رحمه الله يقول: "ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" ويشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يرى أن البشر يجتهدون، فيخطئون ويصيبون، فإن اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإن اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر واحد، على حديث عمرو بن العاص المتفق عليه.(253/34)
الأسئلة(253/35)
نصيحة إلى صاحب الدش
السؤال
ما هي نصيحتكم إلى من أدخل الدش إلى منزله؟
الجواب
هذه الأقمار الصناعية التي انتشرت اليوم في أسطح بيوتنا في كل مكان، ورأيناها في هذه البلاد، في طولها وعرضها، تنذر بشر خطير؛ لأنها قنوات ونوافذ تهب من خلالها رياح الكفر النصرانية، فإن مجلس الكنائس العالمي، ومن ورائه الفاتيكان، قد أستأجر عشرات المحطات الفضائية، فضلاً أنه يملك أصلاً محطات أخرى كثيرة، هدفها الوحيد هو تغيير عقائد المسلمين، وفيها محطات موجهة خصيصاً إلى منطقة الشرق الأوسط ذاتها؛ لأنها من أهم وأخطر المناطق في نظر مجلس الكنائس العالمي، أما اليهود فهم الآخرون قد وجهوا محطات مخصصة إلى البلاد العربية، وبعضها محطات تبث الجنس والدعارة الصريحة، تبث من إسرائيل نفسها، وتبث من بعض المواقع في إفريقيا التي استأجرتها إسرائيل، أو استولت عليها بطريقة أو أخرى، فضلاً عن الذين يتبعون الشهوات، والذين أخبر الله عنهم فقال: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] فلذلك من الخطر الكبير الداهم أن يسمح المجتمع بسلطاته وعلمائه وأفراده، بوجود هذا الشر المستطير بين أظهرنا، إنه بلاء ووباء، هل تعتقد أن هناك أحداً وضع هذا من أجل أن يستمع الأخبار؟! أنا لا أحكم على ضمائر الناس، وقد يوجد من الناس، لكن هذا يشكل (1%) من الذين يعرفون اللغات المختلفة، ويستطيعون أن يفهموها، الذين يهتمون أصلاً بتتبع الأخبار والتحاليل ومعرفة أحدث التطورات وأدقها، أما جمهور الناس، فنحن نعلم أن الكثير منهم لا يسمع الأخبار في الراديوا مثلاً، لا يقرأ المجلات، ولا يتتبع الأخبار، ولا يهتم بها أصلاً، ومستوى الوعي والمتابعة الإخبارية عند الأمة، ما زال أقل بكثير، من أن نتصور أن الناس قد وضعوا هذا، ليتابعوا الأخبار، ثم هب أن هذا صحيح، أليس في البيت النساء والمراهقون؟ فتيات وشباب في سن المراهقة، والشهوة تتأجج في أعصابهم، دون أن يوجد ما يثيرها، أو بمثير سهل يسير، فما بالكم بهذه الفتاة، التي تقرأ في المقرر والمرأة كلها عورة، إلا وجهها في الصلاة، ثم تشاهد على الشاشة بنات جنسها، اللآتي خلقن كما خلقت هي، والطبيعة واحدة، والجبلة واحدة! تشاهدهن وهن بملابس السباحة! أو تشاهدهن وهن مع أصدقائهن في رحلة بالخلاء! أو تشاهدهن في بيوت الدعارة! وأماكن البغاء والرذيلة، أو تشاهدهن وهن يمارسن ألوان الرياضة! إلى غير ذلك من الصور والمشاهد، كيف سيكون وضعها وكيف سيكون مستقبلها وتفكيرها؟! أقل ما ستكون أنها فتاة متناقضة، لا تدري هل تقبل ما تقرأ، والمرأة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة، أو تقبل هذا الأمر الذي يعرض عليها مطعماً بأحدث وسائل التكنولوجيا، وما تفتقت عنه العقلية الإنسانية في مجال الإعلام والإبداع، وفن التصوير والرسم، والنقل والإثارة، إلى غير ذلك، سنفاجأ على الأقل بجيل ممزق، لا يحمل مبدأ ولا عقيدة ولا ديناً، ولا يتحمس لشيء، ولا يأخذ أمور الحياة كلها بجدية، حتى أمور الدنيا، ليس عنده قدرة على التعلم، ولا على أن ينجح في الاقتصاد، ولا على أن ينجح في التصنيع، ولن يقدم الأمة والبلاد خطوة واحدة إلى الأمام، إذا نشأ بهذه الصورة، وقل مثل ذلك في الشاب، الذي يشاهد هذه المثيرات فتثور عاطفته، فيتجه إلى أن يشبع هذه العاطفة، فيكون مسماراً يدق في نعش المجتمع؛ لأن هذه الصورة التي شاهدها، فحركت عاطفته وجعلته يذهب كالمسعور، يبحث في المجتمع عن إشباع لهذه الغريزة، التي ثارت ولو بالحرام، خاصة إذا كانت أسباب الحلال مغلقة أو صعبة أحياناً، فعلينا أن نقوم بحملة صادقة في مقاومة مثل هذا الوباء والبلاء.
هذا وأسأل الله أن يكون هذا الإجتماع، اجتماعاً طيباً مباركاً مرحوماً، إنه على كل شيء قدير، وأن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه والحمد لله رب العالمين.(253/36)
المنهج الصحيح لطالب العلم
السؤال
ما هو المنهج الصحيح لطالب العلم، وماهي الصفات التي يجب أن يتحلى بها؟
الجواب
أولاً: أن تخلص نيتك لله، فلا تجعل طلبك للعلم لتتصدر به، ولا لتشهر، ولا ليسافر الناس إليك، ولا أن يشار إليك بالبنان، ولكن اجعل طلبك للعلم.
كما قال مالك: [[اطلب العلم لوجه الله]] وكل ذلك سيحصل، والعالم إذا طلب وجه الله أعطاه الله الدينا، فهذا عبد الله بن المبارك لما جاء إلى مرو، كان الخليفة هارون الرشيد، قد جاء إلى مرو، فنظرت أمه وكانت في موكب هارون الرشيد -أم ولد- أن الموكب هنا، والناس كلهم قد انجفلوا إلى مكان آخر، وتزاحموا وارتفع الغبار وتقطعت النعال، وارتفع الصياح، فتعجبت، وقالت هل الناس لا يعرفون موكب الخليفة؟! موكب الخليفة يمينهم وهم قد ذهبوا شمالاً، فما الخطب؟! قالوا لها: هذا أمير المؤمنين في الحديث عبد الله بن المبارك قد قدم، فانجفل الناس إليه وتركوا الخليفة في الغبار، فإذا صحَّت نية العبد، وفقه الله ورزقه العلم النافع، ومكنه من قلوب الناس، وجعل علمه حجة له، لا حجة عليه.
ثانياً: لا بد من الصبر، وأنت تعود نفسك أن تثني ركبك، ولا تتعجل فإن الكثير من طلبة العلم يبدءون بهمم عالية، وحماس منقطع النظير، لكن إذا رأوا طول الطريق، انقطعت بهم الأسباب، وتراجعوا وتفرقوا فلا يصبر بالنهاية إلا القليل، فلا بد أن يوطن الإنسان نفسه الصبر على الطريق، وعدم العجلة.
الأمر الثالث: أن تزكي علمك، تزكيه بالعمل الصالح، فلا قيمة للعلم إلا بالعمل، وأي ثمرة لعلم لاينتفع به صاحبه؟! يقولون: لو كان حقاً لكان هو أول المستفيدين منه.
ومن زكاته أيضاً أن تبذله للناس لا تنتظر أن تكون كالإمام مالك حتى تعلم؛ لأننا لا نشترط أن تقيم حلقة عامرة، يأتي الناس إليها من كل مكان، لا، وإنما {بلغوا عني ولو آية} أدِ زكاة علمك، فالعلم ليس له نصاب، والزكاة واجبة في كل علم، ولو آية ولو حديثاً {بلغوا عني ولو آية} {نضر الله أمرأً سمع منا حديثاً فوعاه فبلغه فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه} وعليك أن تبدأ أولاً: بالقرآن، وهو أساس العلوم {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ثم تبدأ بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك تبدأ بصغار المتون، متن مختصر كالآجرومية في النحو، ومتن مختصر كالورقات في الأصول، ومتن مختصر في سائر العلوم الأخرى، وبعد ذلك تترقى في العلوم شيئاً فشيئاً، ولا بد أن يكون لك أشياخ تستفيد منهم، لا لتنسخ شخصيتك في هؤلاء، ولكن لتنتفع بهم وتراجعهم، وتسألهم وتتعلم منهم الأدب، والتربية والأخلاق، والسلوك والعلم.(253/37)
طريقة الرد عند علماء السلف
السؤال
أليس من مذهب السلف الصالح وطريقتهم أن بعضهم يرد على بعض وينتقد بعضهم بعضاً، ولا يجعل قلب الواحد يحمل على أخيه شيئاً؟
الجواب
بلى، ونحن لا نرى العصمة إلا للنص الشرعي ولا نقول إلا كما قال مالك: [[ما منا إلا راد ومردود عليه]] وأنا أنادي وقد ناديت على هذا في محاضرة " لماذا نخاف من النقد "، أن نكون في كلامنا وفي سياستنا وعلمنا وتربيتنا، نربي الناس على بناء شخصياتهم، وليس على إهدار شخصياتهم، بمعنى أني لا أفرض عليك رأياً، ولا ألزمك باجتهاد، لكن الشيء الذي ننادي به أن يكون ذلك مضبوطاً بضوابط الأدب الشرعي والخلق الإسلامي، وأن لا يغير هذا قلوب بعضنا على بعض، وأن لا يجعل الصف مختلفاً، أو يجلعني مشتغلاً بك عن الخصوم، وأرى أنك أخطر على الإسلام من فلان العلماني، أو فلان الرافضي، أوغير هؤلاء؛ لأن شرهم معروف، أما أنت فشرك غير معروف، فإلى الله المشتكى، والله المستعان.(253/38)
كيف يعرف الإنسان تفوقه في جانب معين؟
السؤال
لقد ذكرت أن مالكاً أحس أنه سوف يبرز في العلم، فزاد فيه ليخدم الإسلام، وقلت أيضاً: أن المسلم عليه أن يخدم الإسلام بأي شيء يحس أنه سوف يبرز فيه، كيف أعرف ذلك؟
الجواب
تعرف ذلك من خلال مواهبك، فإنني لا أعتقد أن أحداً من الناس أعلم منك بالمواهب التي منحك الله تعالى، فانظر في موهبتك، وحاول أن توظف هذه الموهبة في خدمة الدين، وكل ميسر لما خُلق له, وأنا حريص على أن أوضح أننا اليوم نحتاج إلى كوكبة من طلبة العلم النابهين الأذكياء، يتفرغون ويتجهون إلى العلم الشرعي، عقيدةً، وتفسيراً وقرآناً، وسنة وأصولاً، وغير ذلك، ويتعلمونه ويؤصلون لهم، ويكون في ذلك ترشيد وضبط لمسيرة الصحوة الإسلامية، فنحتاج ذلك، وأرجو أن يكون من بين من يستمعون هذا الكلام من ينتدبون أنفسهم لهذه المهمة؛ لأنه لا توجد جهة رسمية اليوم يمكن أن ترشحهم لذلك، ونحتاج في الوقت نفسه، إلى مجموعة ينتدبون أنفسهم لتبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم المسلوبة في كل مكان، فهناك مجاعة، وهناك مقتلة، وفي بلد ثالث مصيبة، وفي رابع كارثة، وفي خامس ميدان جهاد، فيركضون كلما سمعوا هيعة طاروا إليها، يُشْعِرون المسلمين بالإخوة والمواساة، ويثيرون هذه القضايا ويجعلون هم المسلم الواحد هماً للأمة كلها في كل أرجائها:- تذوب حشاشات العواصم حسرةً إذا دَميت في كف بغداد إصبع ولو بردى أنَّت لخطبٍ أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع ولستُ أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سياني وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني بالشام أهلي وبغدادَ الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ونحتاج إلى كوكبة ثالثة، تتفرغ للدعوة، والإتصال بالشباب، وبالعامة، وبالجماهير، وبأهل الرياضة، وبأهل الأسواق، وبأهل الأندية، وبطلاب المدراس، بكل فئات المجتمع، توصل إليهم الكتاب، والشريط، والكلمة النيرة، وتوزع عليهم الابتسامات الطيبة، والكلمات الحلوة المؤثرة، وتقيم معهم الجسور والعلاقات، وتحرص على ربط قلوبهم بحلقات الذكر، وربطهم وكسب ولائهم وقلوبهم إلى دين الله، وشريعته ودعوته وملته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحتاج إلى أصناف وأصناف من الناس.(253/39)
الورع
تحدث الدرس عن الورع والفرق بينه وبين الزهد، ثم ذكر صور الالتباس في الورع ومنها ترك الواجب والمستحب، وذكر أمثلة على ذلك، ثم ختم بالكلام على واقع المجتمعات الإسلامية وتسلط العلمانيين على زمام الأمور وحب الحروب على أهل الخير والصلاح.(254/1)
الورع والزهد
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, في هذا الدرس سنتحدث عن موضوع من الموضوعات التي يكثر فيها اللبس لدى بعض المنتسبين طلاب العلم وغيرهم, ليكون طالب العلم والمتعبد على بصيرة من أمره, وهذا الأمر هو موضوع "الورع".(254/2)
المقصود من الورع
فأولاً: ما هو تعريف الورع؟ وما المقصود من الورع؟ يقول أهل العلم في تعريف الورع: الورع هو: ترك ما قد يضر في الدار الآخرة.
ولذلك ينبغى أن ندرك الفرق بينه وبين الزهد, فإن الزهد هو: ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، يعني: وإن كان لا يضر، فتركه ما دام أنه لا ينفع من الزهد, فإذا كان أمراً من الأمور لا ينفعك في الآخرة نفعاً مباشراً, ولا غير مباشر مثل كونه عوناً لك على فعل مستحب، أو على فعل واجب, فتركه من الورع.
أما إن كان ينفعك، فلا شك أن فعله أولى من تركه, سواء نفعك بصورة مباشرة كفعلك بعض السنن والمستحبات وغيرها, أو نفعك بصفة غير مباشرة كأن يكون عوناً لك على أمر آخر، فبعض الناس يعرف من نفسه أنه يستعين ببعض المباحات على فعل بعض السنن أو بعض الواجبات: مثلاً: إنسان يريد أن يصوم يوم الإثنين أو الخميس, وهذه سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرف أنه إذا تعشى في تلك الليلة بعشاء يغنيه ويشبعه، فإنه يكون عوناً له على أن يصوم, بخلاف ما لو تعشى بعشاء يسير، فربما أجهد من الصيام، وتعب، وفوت بالصيام مصالح أخرى, فمثل هذا العشاء الذي يعينه على أداء السنة ليس من الزهد.
فليس من الزهد أن تترك ما فيه منفعة لك في الدار الآخرة، أو ما يكون سبباً غير مباشر للمنفعة، إنما المباحات التي ليس فيها منفعة, مثل التوسع في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها, فترك ذلك من الزهد.(254/3)
الورع في المشتبهات
أما الورع فهو -كما ذكرت- ترك ما قد يضر, مثل المحرمات والمكروهات هذه شأنها ظاهر, لكن بعض الأمور قد تشتبه بالمحرمات، مثلاً: لنفترض أنك دخلت في مسابقة من المسابقات، أو في مساهمة من المساهمات، فحصلت على مال كجائزة أو كربح لهذه المسابقة, وحصل عندك شبهة قوية في هذا المال, أنه قد يكون محرماً؛ لأنه ربما يكون عن طريق قمار أو شبه قمار، فشككت في ذلك أو في مصدر هذا المال، أو كونه جاء عن طريق الربا، أو ما أشبه ذلك فصار عندك شبهة في هذا المال أنه محرم، أو شبهة في أنه مكروه, فتتركه حينئذٍ فهذا مشروع.
لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير لما ذكر الحلال والحرام: {إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس} والاشتباه ليس مطلقاً دائماًَ، أحياناً قد يكون مشتبهاً بالنسبة إليك، ولكن عند غيرك ظاهر الحرمة، أو ظاهر الحل, لكن ما دمت أنت قد وقع عندك شبهة قوية، فالورع في حقك أن تتركه.
ولذلك قال: {لا يعلمهن كثير من الناس -ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم- فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه} استبرأ لدينه أن يقع في الشبهة فتجره هذه الشبهة إلى الحرام, وقد يكون هذا المشتبه في واقع الأمر محرماً, واستبرأ لعرضه في الوقيعة فيه وكلام الناس فيه: {ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام -كان هذا سبباً وسبيلاً إلى تجرئه على الحرام- كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه} .(254/4)
الالتباس في الورع
إن الورع يقع فيه لبس لدى كثير من طلاب العلم، ولكن كيف يقع فيه اللبس؟ يقع اللبس في صور عديدة:(254/5)
الورع بفعل المشتبه بالواجب أو المستحب
فمن الالتباس الذي يقع لنا -أحياناً- في الورع هو: أن الإنسان ينسى أن الورع كما يكون بترك المشتبه بالحرام أو بالمكروه, يكون أيضاً بفعل المشتبه بالواجب أو المستحب.
وأريد أن أسألكم: أرأيتم لو أن إنساناً وقع عنده شبهة في مال, فشك أنَّ هذا المال قد يكون محرماً, أليس من الورع أن يتركه؟!! بلى, أو اشتبه في فعل قد يكون هذا الفعل مكروهاً, أليس من الورع أن يترك هذا الفعل؟! بلى.
سؤال آخر: إنسان شك في أمر أنه قد يكون واجباً، أليس من الورع أن يفعله؟! بلى، من الورع أن تفعل ما يشتبه بالواجب، وإن اشتبه عليك أمر يمكن أن يكون مستحباً, أليس من الورع أن تفعله؟! بلى, فكما أنك تترك ما قد يضر في الدار الآخرة على سبيل الورع, فإنك تفعل ما قد ينفعك في الدار الآخرة على سبيل الورع أيضاً.(254/6)
تحصيل المصالح وتفعيل المفاسد
كثير من الناس يفهمون الشق الأول ويغفلون عن الشق الثاني, يفهمون ترك المشتبه بالمحرم أو بالمكروه, لكن يغفلون عن فعل المشتبه بالواجب أو المشتبه بالمستحب, وأحياناً يكون في المسألة جانبان: إما هذا وإما هذا.
بمعنى: أن أمامك أمر يشتبه أن يكون محرماً ويشتبه أن يكون واجباً, وربما يكون وجوبه أقوى من تحريمه -على سبيل المثال- لو فرضنا أن رجلاً على أبيه المتوفى ديون ثقيلة، وحصل لهذا الرجل أموال طائلة, ووقع عنده شبهة يسيرة: أنه قد يكون هذا المال مصدره غير سليم.
مثلاً: وقع عنده شبهه أن يكون الشخص الذي أعطاه هذا المال قد حصل عليه بطريق الشر, فهذه الشبهة جعلت في المتورع شعور أنه ينبغي أن يترك هذا المال وأن يتخلص منه, على سبيل الورع, لكن ماذا وقع بالمقابل؟ وقع في أمر يشتبه أن يكون واجباً, بل هو واجب, فقضاء دينه أو دين أبيه المتوفى إذا أمكنه ذلك واجب عليه, وهذا المال الذي في يد، إن تركه على سبيل التورع, يكون قد تورع من جهة، لكن وقع في ضعف الورع من جهة ثانية، وهي: قضاء الذي عليه في ذمة أبيه المتوفى, ففي هذه الحالة ينبغي للإنسان أن يرجع إلى قضية مهمة -سبق الكلام عليها مراراً- وهي قضية المصلحة والمفسدة ومراعاتهما في الشريعة, وأن الإسلام جاء بتحصيل المصالح وتكميلها, وتقليل المفاسد وتعطيلها.
ولذلك قال الإمام ابن تيمية في الجزء العاشر من الفتاوى في (ص:511) يقول كلمة مهمة في هذا الباب: (وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين, ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها, وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات ويفعل المحرمات، ويرى ذلك من الورع) .
نعم من لم يدرك قضية المصلحة والمفسدة قد يدع واجباً، وهو يتصور أن هذا من الورع, وقد يفعل محرماً وهو يتصور أن هذا من الورع, كما في المثال السابق.
ومثال آخر، وهو: قضية من يترك الجهاد مع أئمة الجور, لماذا ترك الجهاد معهم؟! لأنه تورع لجورهم وظلمهم وفسادهم, لكنه وقع في أمر أقل ما يقال فيه أنه مستحب، وقد يكون واجباً وهو الجهاد, فهو فر من أمر، ووقع في أعظم منه!(254/7)
إخلال الناس بالورع
ولو أردنا أن ننظر في واقع الناس لوجدنا أنهم يخلون بالورع في ثلاثة أشياء:(254/8)
الأمر الأول: المصلحة والمفسدة متكافئتان
فقد يتورع بعضهم عن أمر، مصلحته ومفسدته متكافئتان, وذلك كالمباح المحض، فإن المصلحة والمفسدة فيه متكافئتان لا تزيد إحداهما على الأخرى, فهل من الورع أن يترك الإنسان هذا؟! فإذا كانت المصلحة والمفسدة متكافئتان تماماً, فليس من الورع الترك, بل قال ابن تيمية رحمه الله: إن ترك هذا على سبيل الورع ضلالة.
لكن ينبغي أن تنتبهوا إلى أنه يمكن أن يترك الإنسان هذا على سبيل الزهد؛ لأن الزهد لا يلزم منه كراهية الشيء, أما الورع فتركه فيه نوع من الكراهة لهذا الشيء, فترك ما مصلحته ومفسدته متكافئتان على سبيل الورع غير صحيح، لكن على سبيل الزهد قد يتركه الإنسان.(254/9)
الأمر الثاني: المصلحة راجحة على المفسدة
قد يترك على سبيل الورع ما مصلحته راجحة ومفسدته مرجوحة؛ لأن المصالح والمفاسد متداخلة في كثير من الأمور, قلّ أمر من الأمور تجد فيه مصلحة محضة, خاصة في هذا الزمان، فلا تجد أمراً إلا وفيه مصلحة ومفسدة, لكن إذا وجدت أن المصلحة مترجحة فافعل, وإذا وجدت أن المفسدة مترجحة فاترك, فترك ما مصلحته راجحة على سبيل الورع ليس مشروعاً.(254/10)
الأمر الثالث: المصلحة محضة
ترك ما مصلحته محضة على سبيل الورع وذلك في الواجب, فإنه لا يترك ورعاً أبداً.(254/11)
أمثلة على ترك الواجب بحجة الورع
في واقعنا أمثلة كثيرة يمكن أن نمثل ببعضها, فمن ذلك مثلاً:(254/12)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بعض الناس قد يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله, لما يخالط هذه الأشياء من جفاف القلب, ويؤثرون الاشتغال بتهذيب النفس، وإصلاحها وتربيتها, وذلك لما يقوم في نفس المتعبد من لذة العبادة، والقرب من الله عز وجل.
ولذلك ذكر العلماء قديماً وحديثاً أن اللذة التي يجدها العابد في عبادته، قد لا يجدها الداعية في دعوته أو العالم في علمه, لكنه يجد أعظم منها لما يشعر به من أنه قام بواجبات لم يقم بها غيره, ولذلك كان عبد الله بن المبارك المجاهد يخاطب الفضيل بن عياض العابد بقوله: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا ول صحيح صادق لا يكذب لا يُجمعان غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا يس الشهيد بميت لا يكذب فبعض الناس يؤثر ترك الأمر والنهي والدعوة؛ لما يجد في ذلك من بعض المضار والمفاسد, فإذا خرج الإنسان وشاهد المنكرات, ماذا يحصل له؟! يحصل له تغيرات في قلبه تغيرات وضيق، بل بعض الناس إذا كثرت مشاهدته للمنكر حصل عنده نوع من ضعف الإحساس, ولذلك الإنسان الذي لا يرى المنكرات إذا رأى منكراً ولو كان يسيراً؛ تجده ينفعل من ذلك ويتأثر وقد يبكي وقد يمرض.
لكن إذا استمر مرة وثانية وثالثة، وكثرت مشاهدته لذلك, صار عنده نوع من التطبع، ولذلك كثرة الإمساس يقلل الإحساس.
فقد يترك الإنسان الأمر والنهي وهو واجب عليه؛ خوفاً من ذلك الجانب, ويعتبر هذا من باب الورع, ونسي أن من الورع أن يفعل هذا الواجب الذي ألزمه الله فعله من الأمر والنهي والدعوة وغير ذلك، ولو ترتب عليه بعض المفاسد اليسيرة أو بعض الجفاء في قلبه.(254/13)
ترك المشاركة في الأعمال المفيدة
من الأمثلة الموجودة في الواقع: أن بعض الناس قد يتركون المشاركة في الأعمال المفيدة لوجود بعض المضار المنطوية فيها، وإن كانت مضارها قليلة, فكثير من طلاب العلم -مثلاً- يكرهون إمامة المساجد, وإذا أمَّ الإنسان المسجد فترة وجدته متبرماً يريد ترك المسجد! لماذا؟! قال: في الحي أناس لا يصلون وقد عجزت عنهم, ولم أجد تعاوناً من الجماعة، ولا من الجهات المسئولة، ولا ولا!! سأترك المسجد.
هذا يعتبره ورعاً, لكن نسي أنه من الورع أن يكون في المسجد ويصلي فيه؛ لأنه أَقْرَأ من غيره، ولأنه سيعظ المصلين ويذكرهم وينصحهم، ويقوم بما يجب عليه من قيام الدروس في المسجد، وينفع الله به، فمن الورع: أن تفعل ما يشتبه أن يكون واجباً عليك -بعض الأحيان- أو مستحباً.(254/14)
ترك الانتفاع من الخيِّرين
بعض الناس أيضاً قد يترك الانتفاع من أشخاص فيهم خير كثير؛ لوجود بعض الضرر فيهم، وما من إنسان إلا وفيه نقص سبحان الله! فالعصمة للأنبياء, وخاصة في هذا العصر قَلَّ أن تجد إنساناً إلا وفيه عيوب.
قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية, بل قد يكون عند الإنسان بعض البدع -أحياناً- أو بعض التقصير في سلوكه، ولكن قد يكون عنده خير من علم، أو فوائد يمكن الحصول عليها, فتجد بعض الناس يتجنب الانتفاع من هذا الإنسان الذي فيه الخير الكثير؛ لما يوجد في سلوكه من بعض التقصير، أو ترك لبعض السنن، أو وجود ما يشتبه أن يكون بدعة خفية لا يجاهر بها, أو لا يعتقد أنها بدعة، وينسى أن من الورع أن يستمع لهذا العلم الذي قد يكون سماعه واجباً عليه أحياناً.(254/15)
المجاهدون الأفغان
ومثل ذلك: بعض النشاطات الإسلامية, والأعمال الإسلامية, ومن أقرب وأظهر الأمثلة الجهاد في أفغانستان: والجهاد في أفغانستان من القضايا التي يطبق عليها هذا الكلام؛ لأنك لو جئت إلى واقع المجاهدين الأفغان، فهم ليسوا كما يريد أن يصورهم بعض الناس أنهم أشبه بالملائكة أو الصحابة! لا.
هناك أخطاء كثيرة وفيهم عيوب، سواء في الجوانب العقائدية، فقد يوجد عند بعضهم التصوف، وقد يوجد عند بعضهم تعليق للرقى وللتمائم، وقد يوجد عند بعضهم انحرافات عقائدية كبيرة, وقد يوجد عندهم وعند بعضهم انحرافات في السلوك, كحلق اللحى وإسبال الثياب، أو التعصب للمذهب الحنفي, وهذه كلها أخطاء ولا ينبغي أن نغفل عنها ونتصور أن هؤلاء القوم عبارة عن صحابة، أو مثل الصحابة كما يريد بعض الناس أن يصورهم, لا.
يجب أن يعرف هذا كله, لكن -أيضاً- يجب أن يعرف أن فيهم خيراً وصلاحاً وأن فيهم أناس أهل سنة واتباع وتدين، وفيهم أناس حريصون على معرفة الحق واتباعه, وأنهم يواجهون عدواً لدوداً خطيراً, لا يقصدهم هم فقط، بل يقصد الأمة الإسلامية كلها, فهم يقاتلون بالنيابة عن الأمة كلها, فبمثل هذا الحال ليس من الورع أن تتقي مساعدتهم ومعاونتهم والدعاء لهم، والعمل على حل خلافاتهم بما استطعت؟ لا.
بل الورع وقد يكون الواجب في كثير من الأحيان أن تساعدهم بما استطعت من الوعظ والنصح والدعاء والمساعدة المادية ونحوها.(254/16)
الإصلاح بقدر الاستطاعة
ومثل ذلك: ما يوجد من النشاطات في المدارس وفي المراكز وغيرها, يوجد نشاطات مشوبة ببعض الأشياء التي قد لا يرضاها الإنسان, أو بعض الناس قد لا يرضاها على الأقل.
مثلاً: بعض الناس قد يترك عملاً من أعمال الخير, لماذا؟ قال: لأن هذا العمل فيه تمثيل, أو يلعبون الكرة, وهذه الأشياء هو لا يرتضيها, فنقول: حتى وإن سُلِّم لك أن في هذه الأشياء فيها ما فيها، فأنت ينبغي لك أن تشارك بقدر ما تستطيع, وتنصح وتعين، ولا يصدك ما قد يوجد، مما تعده أن من الورع تركه؛ لأن الخير أغلب إن شاء الله, أما حين تعتقد ديناً تدين الله عز وجل به بأن الشر أغلب، فإن الواجب عليك شرعاً أن تتقي هذا الأمر، وتبتعد عنه على حسب ما تقدم تقريره في قاعدة المصلحة والمفسدة.(254/17)
ترك التحذير من الشر وأهله
بعض الناس قد يتقي الكلام في الفساق, أو المجرمين, أو دعاة السوء, أو أرباب البدع والضلالة, لماذا؟! لأنه يخشى أن يكون هذا من الغيبة, فمن باب الورع ترك هذا الأمر، ونسي أنه قد يكون من الورع الكلام فيهم؛ لتحذير الناس من شرهم وبدعتهم.
وهكذا تدرك أن الورع قد يكون في ترك شيء تخشى أن يضرك في الدار الآخرة، وقد يكون الورع في فعل شيء تخشى أن يكون تركه يضرك في الدار الآخرة.
هذا ونسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد في الدنيا والآخرة، وأن يصلح أقوالنا، وأعمالنا إنه على كل شيء قدير.(254/18)
تنبيهات سبقت عن الورع
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة الموضوع السابق هو تنبيهات حول موضوع الورع, وما يقع فيه بعض المتفقهة والمتعلمة من الخطأ في فهم الورع, حيث يفهم كثير منهم أن الورع يعني ترك ما لا ينفع، أو ترك ما قد يضر في الدار الآخرة, وينسون أن من الورع فعل ما قد ينفع في الدار الآخرة.
وقد ذكرت أن الذي نفهمه جميعاً ويفهمه كثير من الناس في معنى الورع أن تترك أمراً من الأمور تورعاً لاحتمال أن يكون محرماً, أو لاحتمال أن يكون مكروهاً, لكن قلّ من يفهم أن من الورع أن تفعل الشيء لاحتمال أن يكون واجباً, أو تفعله لاحتمال أن يكون مستحباً.(254/19)
أسباب ميل الناس إلى الترك
وأريد الآن أن أبين لماذا يميل الناس غالباً إلى الترك في هذه الأمور؟! ولا يميلون إلى الفعل؟ وهي مسألة مهمة، وفيها فائدة عملية لنا في حياتنا؟ إن الإنسان يميل إلى الترك حتى إذا تشابه عنده أمران يخيل إليه أن الورع أن يترك, وأضرب في ذلك أمثلة, ربما يكون من المفيد أن أذكر بها الإخوة، خاصة بعض الذي لم يكونوا حاضرين.
مثلاً: قد يكون إنسان عليه دين, فحصل له مال، وهذا المال ربما وقع عنده فيه شبهة يسيره، جعلت في نفسه من الورع أن يترك هذا المال, ونسي أن يكون من الورع أن يأخذ هذا المال حتى تبرأ ذمته, أو ذمة والده المتوفى.
كذلك، مثلاً: قد يفهم البعض أن من الورع أن يترك الجهاد مع الإمام الجائر, لما عند هذا الإمام من الفسق والبدع, فيرى أن الورع ألا يلابس هذا الإمام ولا يقترب منه, وينسى أنه أخطأ، وأنَّ من الورع أن يجاهد معه، لأن الجهاد مطلوب ومستحب، وقد يكون فرض عين في بعض الحالات, فقد يترك بعض الناس عملاً من الأعمال كالإمامة والوعظ والتدريس وغيرها, معتقداً أن هذا من الورع؛ لأنه يرى أنه ليس أهلاً لذلك, فيقول: من الورع أن نتركه، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه, وينسى أنه قد يكون من الورع أن يفعل ذلك, ويتصدى له؛ لأن هذا الأمر قد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً.
فتلاحظون أن التطبيقات العملية في واقع حياتنا كثيرة جداً -ليس من السهل حصرها- من هذا القبيل, والذي أدعو إليه كل واحد منكم أن يأخذ هذه القاعدة، وهي: أنه من الورع أحياناً أن تفعل ما يشتبه بالمستحب أو بالواجب، ويقارن، فسيجد في واقع حياته وواقع حياة كثير من الناس من حوله، أنهم لا يفهمون من الورع إلا الجانب الأول, لماذا؟(254/20)
الترك أخف على النفوس
أولاً: لأن الترك أخف على النفوس, فالإنسان يميل بطبعه إلى شيء من الكسل، وترك هذه الأشياء, خاصة إذا كان فيها شيء من الكلفة والمشقة, فإذا عرض للإنسان شبهة تسوغ له ترك هذا الأمر تركه؛ لأن الترك فيه سهولة ويسر بخلاف الفعل, فالفعل يحتاج إلى همة وإرادة وعزيمة قد لا تتوفر عند الإنسان, فهذا سبب يجعل الإنسان يؤثر جانب الترك في الورع على جانب الفعل.(254/21)
كيد الشيطان
السبب الثاني: كيد الشيطان: وذلك لأن الشيطان مثل العدو الظاهر, فالعدو الظاهر إذا أراد أن يخدع إنساناً، يشغله بأمر يسير، وهو يخطط لأمر أعظم منه, مثلاً: لو فرض أن عدواً يريد أن يهجم على بلد من البلدان, ماذا يصنع هذا العدو؟! يركز على جهة الشمال مثلاً, حتى يتصور الناس أن هجوم العدو سوف يأتي من الشمال! والواقع أن خطة العدو أنه يأتي من الجنوب.
لكنه يريد أن يخادع الناس في أن قصده وتركيزه على جهة الشمال, هذا العدو الظاهر يشغلك بأمر بسيط ليس هو مقصوده الأصل، فعنده أمر عظيم يريده, فالشيطان أحياناً يحفر للإنسان حفرة واسعةً وهوة عميقة, ثم يحفر له حفرة صغيرة, ويشغل الشيطان الإنسان بهذه الحفرة الصغيرة القريبة منه, فيبدأ الإنسان ينظر إلى هذه الحفرة حتى لا يقع فيها, فيبدأ يبتعد عنها، وهو يحاذر أن يقع في الحفرة الصغيرة, فلا ينتبه إلا وقد وقع في هذه الهوة العميقة فسقط فيها! فهذا الأسلوب من مكائد الشيطان: يخيل لك أن من الورع أن تترك هذا الشيء, وهو بذلك لا يريد أن تتقي هذا الأمر فعلاً، لكنه بذلك قد أوقعك فيما هو أعظم منه, قد يكون أوقعك في ترك واجب, كترك جهاد, أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أو التعلم, أو مجالسة مطلوبة!! لأنك تعرف أيها المسلم أن كل ما أعطاك الله عز وجل من العلم والعقل والفصاحة والجسم والقوة والإمكانيات والوقت والفرص الموجودة في المجتمع، فهو أمانة سوف تسأل عنها.
فإذا دعاك ما تعتقد أنه ورع إلى إهمال هذه الأشياء وتعطيلها, فأنت حينئذٍ تكون قد وقعت في شرٍ مما فررت منه.(254/22)
ما يعانيه الإنسان في قلبه
السبب الثالث: وهو بيت القصيد، وهو ما يعانيه الإنسان في قلبه حال مواقعة الأمور كالجهاد أو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر, وقد تسأل ما معنى ذلك؟ أقول لك باختصار: إن الإنسان إذا قال: من الورع أنني لا أتعلم ولا أعلم, ولا أتكلم ولا أعظ, ولا أؤم الناس في المسجد, ولا أقرأ القرآن عليهم, لماذا؟! لأنه داخل نفسه بعض الأشياء، فترك هذه الأمور وجلس في بيته, حينئذٍ مدافعة الرياء غير موجودة عنده, ومدافعة خشية الناس, والعمل على إصلاح النية غير موجود عنده, لأنه ترك هذا الأمر بالكلية, لكن لو فعل لوجدت أنه انفتح له باب من أبواب المجاهدة ليس باليسير.
لنفترض أنك أنت إمام في مسجد -مثلاً- أو مدرس للطلاب في مسجد، أو حلقة أو مدرسة أو غير ذلك, لا شك أنه خلال قيامك بهذه المجاهدة، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لا شك أن هذا الأمر يجعلك عرضة لنظر الناس, وربما تسمع شيئاً من ثنائهم, وربما يداخلك شيء من الإعجاب, أو من الفرح بما تسمع من مدح الناس, أو شيء من الشك في النية, أن نيتك غير صحيحة, إلى آخر المشاعر التي تثور في نفس الإنسان, هذه المشاعر في كثير من الأحيان هي التي تقعد بالإنسان, فيقول له الشيطان: ابتعد عن هذه المجالات كلها، وانجُ بنفسك، فمن خلال معاناته لهذه الأمور انفتح له باب مجاهدة, فبدأ يجاهد نفسه في إصلاح النية, وبدأ يجاهد نفسه في عدم الاغترار بثناء الناس ومدحهم, وإذا استمر على هذا العمل -سبحان الله من توفيق الله للعبد أنه إذا استمر في هذا العمل- فإن هذه الأمور تخف تدريجياً حتى تزول.
فمثلاً: إذا كان الإنسان يريد أن يلقي كلمة في مسجد -أضرب أمثلة أنا وجدتها في نفسي، وأعتقد أن كثيراً من الإخوة الذين جربوا في هذه الأمور وجدوها- لأول مرة فإنه يجد أن هذه المشاعر على أشدها في نفسه, الخوف من الرياء, ومن مدح الناس, ومن الإعجاب إلخ؛ لأنه قد تكلف في هذه الكلمة، واستعد لها وشعر بأنها شيء عظيم, لكن إذا استمر هذا العمل فإنه يصبح عنده عادياً, ولا يشعر أنه عمل مهم وكبير حتى يخاف من الرياء, فيقوم بهذا العمل بشكل طبيعي، ولا يشعر بأنه عمل عظيم يخشى على فاعله من الرياء.(254/23)
أصناف الناس في الورع
ولذلك يجب أن نفرق بين صنفين من الناس, وهذه أمور مهمة؛ لأنها كثيراً ما تنتاب طالب العلم والداعية والمتعبد وتفسد عليه عبادته, وتجعله ينقلب من وضع إلى آخر، ومن حال إلى أخرى, ويترك كثيراً من الأعمال المشروعة والواجبة، والمستحبة خوفاً من هذه الأشياء.
أقول يجب أن نفرق بين صنفين من الناس:(254/24)
الصنف الأول
صنف النفاق متأصل في قلبه, وهو حين يقوم ويتكلم ويعلم ويدرس ويفتي ويعظ ويؤم ويقرأ, لا يقصد إلا مدح الناس, ولذلك إذا خلا بنفسه تجده يبتسم ابتسامة عريضة فرحاً مسروراً لما سمع من ثناء الناس ومديحهم، وما حصل له من خداعهم, فهذا والعياذ بالله لا يزيده عمله من الله إلا بعداً, ولا شك أن أعماله -التي هي في ظاهرها صالحة- مُحَبطة، وتقربه إلى جهنم والعياذ بالله, ولذلك قال الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] , فهذا صنف.
فإن كنت تعرف نفسك من هذا الصنف، فيجب أن تبادر بالعلاج، لأن هذا والعياذ بالله من النفاق.(254/25)
الصنف الثاني
إنسان في نفسه دافع طيب, حب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر, والإصلاح, ونفع العباد, والتأثير, بحيث أن هذا الإنسان إذا ترك هذه المجالات وخلا بنفسه، ماذا يقوم في نفسه؟! -افترض أنه كما يقولون: ابتعد عن الأضواء ولم يعد يقدم أي خدمة للإسلام في الواقع, وفرغ نفسه لكي يتعبد ويطلب الرزق, فإنه إذا خلا بنفسه بدأت نفسه توبخه، تقول له: يا مسكين! تضيع أيامك ولياليك ما نفعت! ما قدمت للناس شيئاً! وتدعوه إلى العودة إلى الأعمال الطيبة التي كان يؤديها.
فهذا يدل على أن الدافع في الأصل دافع حسن, لكن قد يلابسة أحياناً شيء من المؤثرات الأخرى, وفي أحيانٍ أخرى قد لا يلابسه أصلاً, لكن من نعمة الله على المؤمن أنه لا يغتر بنفسه؛ لأنه والعياذ بالله لو قال الإنسان: إن نيتي صالحة وقصدي وجه الله, ولا أبالي بمدح الناس ولا ثنائهم, وظل معجباً بنفسه ونيته وعمله, فهذا مدخل من مداخل الشيطان.
فمن نعمة الله على الإنسان أن يجعل عنده في كثير من الأحيان شيئاً من مقت النفس, فتجده إذا خلا بنفسه لا يغتر بمدح الناس وثنائهم؛ لأنه يقول: ربما يكون هذا العمل الذي قمت به وجعل الناس يمدحونني، هو عليّ ليس لي! لأني أشك في نيتي, فهذا من نعمة الله على المؤمن, أن لا يغتر بنيته ولا ينخدع بها.
ولذلك أذكر كلمة قالها بعض السلف يقول: "المستمع ينتظر الرحمة، والمتكلم ينتظر المقت" أو نحو هذه الكلمة, والذي أفهمه من معنى هذه الكلمة: أن المستمع إذا سمع الوعظ والتذكير بكى وتأثر, لكن المتكلم لما يعلم من حال نفسه وضعفه وأنه قد يعظ الناس بأمر هو مقصر فيه, وقد لا يطمئن تماماً إلى حسن نيته, يصبح عنده خوف من المقت, هذا أحد معاني هذه الكلمة.
إذاً: انظر في نفسك, فإن كنت من الصنف الثاني: الذي لا يرضى عن نفسه أن يكون غاية قصده من دعوته وجهاده في ميدان الحياة مدح الناس وثناءهم, ولا الرياء والسمعة, إنما أصل قصده الغيرة على الدين, وحب النفع للناس, لكنه إذا تصدى لهذه الأمور قد يلابس قلبه بعض ذلك, فعليه أن يجاهد نفسه، ويحرص على الاستمرار في هذا الأمر, ويدرك أن من الورع أن يستمر -كما سبق- ولا ينقطع.(254/26)
واقع المجتمعات الإسلامية
في واقع مجتمعنا اليوم وفي جميع المجتمعات الإسلامية، نواجه تناقضاً، هذا التناقض هو كما قال عمر رضي الله عنه: [[أشكو إلى الله ضعف التقي، وجور الفاجر]] , فعندما تنظر إلى المجتمعات الإسلامية، والمجتمعات التي فيها عاطفة وولاء للإسلام, وحب لأهل الإسلام, وغيرة على الدين في الجملة.(254/27)
العلمانيون
تجد: أن العلمانيين ينادون بفصل الدين عن الحياة، عن الدولة، والسياسة، والعلم والفن والأدب والشعر, والتعليم، وحياة المرأة والأخلاق, فيريدون فصل الدين عن كل هذه الأمور، وجعل الدين في المسجد فقط -كما هو الشأن بالنسبة للنصارى- كما قال أحدهم: يعبدون الله يوم الأحد، ويعبدون البنك في ستة أيام في الأسبوع, والواقع أنهم لا يعبدون الله طرفة عين، لكن هكذا قال أحدهم!(254/28)
الحداثيون
وحين تنظر في الحداثيين الذين ينادون بمذهب الحداثة، والذي يعني عدم الاستقرار على شيء, والثورة المستمرة على كل شيء: الثورة على الدين, والأخلاق والقيم, واللغة العربية, والمجتمع, ونظام الحكم والسياسة, والثورة على كل شيء, وتدميره وتحديثه, فمذهب الحداثة باختصار شديد, يعني التجديد المستمر بزعمهم, وهو مذهب ينتمي إلى أصول الشيوعية؛ لأن الشيوعيين لديهم مبدأ يسمونه مبدأ "أديال كتيك".
يعني: في داخل كل شيء صراع في داخله, بين شيئين, وهذا الصراع ينتهي بوجود شيء ثالث أحسن منهما, والشيء الثالث فيه صراع, ينتهي بوجود شيء آخر أحسن, وهم هكذا بحيث أن البشرية عندهم في تقدم مستمر لا ينتهي أبداً, حتى يصلوا إلى ما يسمونه بالفردوس الشيوعي، أو الجنة التي يعدون بها الفقراء والكادحين.
أصحاب الحداثة الذين ينادون بالتطوير المستمر, والثورة على كل شيء في المجتمع, ويمجدون ويعظمون الثوار في تاريخ الإسلام -الثوار على الدين- كالزنادقة والصوفية والملحدين, والثوار بكل صورة من صورهم.
حين تنظر إلى هؤلاء، وهؤلاء تجد أن لديهم دفعة قوية إلى فرض أنفسهم في الواقع, وإبراز أنفسهم كقيادات مؤثرة في واقع الناس، رجالاً ونساءً على كافة المستويات, فتجد الواحد منهم لولباً لا يهدأ ولا يستقر, ينتقل من بلد إلى آخر, يؤلف ويكتب وينشر بصورة تجعلك تتعجب من هذا الجهد المستمر الثابت, مع أنه لا ينتظر من الله عز وجل أجراً ولا جزاءً.(254/29)
حب الهروب عند أهل الخير والإسلام
ثم تنظر في الطرف المقابل فتجد أن أهل الخير والإسلام الذين هم أولى الناس بهذه المجتمعات, وبأن يكونوا روادها, وأن يكونوا ممن يوجهون مسيرة الفكر والرأي والحياة في هذه المجتمعات، ويؤثر في أجيالها وشبابها ذكوراً وإناثاً, يغلب عليهم طابع حب الهروب، وأنا والله أقول لكم هذا الكلام، وأنا أدين نفسي بمثل ما أدينكم, حب الهروب من المواقع المؤثرة, تجد الواحد منا حين يطلب منه أن يلقي محاضرة أو كلمةً أو درساً يصيبه هم شديد، وضيق ويعتذر بكل وسيلة ما أمكنه الاعتذار.
وقد يدرك في قرارة نفسه أن هذا العمل الذي اعتذر منه، قد لا يقوم به أحد أصلاً, وأنه عمل فيه فائدة، لكن تجد أنه إما إيثار الكسل والراحة, وإما -مثل ما ذكرت قبل قليل- الخوف من عدم صلاح النية, أو من مداخلة شيء من الرياء, أو من مدح الناس, وفي أحيان أخرى يكون عنده الشعور بالرغبة في أن يظل بعيداً عن الأضواء, لأن الأضواء لها تكاليف؛ لأن الإنسان إذا عرف ولو في نطاق معين, يدفع ثمنها, بخلاف الإنسان المغمور, فتجده مرتاحاً مع أهله وأولاده في بيته يفعل ما يشاء, لا يوجد أحد يمكن أن يؤثر في حياته.
فتجد الإنسان يؤثر الهروب من مواقع التأثير, والقيادة الفكرية والاجتماعية, ويترك هذه المجالات لمن؟! كل واحد يجب أن يسأل نفسه, سؤالاً جاداً, هل هو يتركها فعلاً لمن يعتقد أنهم أكفأ منه وأحسن وأجدر؟!!
الجواب
لا, إنما يتركها للعلمانيين والحداثيين, أو على أحسن الأحوال يتركها لأناس يدرك هو أنهم ليسوا أهلاً لهذه الأشياء.(254/30)
الدعوة إلى الفعل والمجاهدة عليه
إن على المسلم أن يكون صريحاً مع نفسه, ويدرك أن الشرع جاء بالترك وجاء بالفعل -أيضاً- والفعل فيه مشقة على النفوس, لكن فيه أجر وثواب إذا جاهد الإنسان نفسه على إصلاح النية.(254/31)
الإيجابية في الحياة
فعلينا أيها الإخوة: أن نحرص على أن نكون إيجابيين في واقع الحياة ولا نكون سلبيين, نحرص على الإيجابية في إمامة المساجد والوعظ والإرشاد والتعلم والتعليم والتأثير وفي كافة المواقع, من خلال وظيفتك، وتدريسك، وعملك، ووجودك في الحي الذي أنت فيه، ووجودك داخل الأقارب والعائلة والمجتمع العائلي, بحيث يدرك الإنسان هذا الجانب السلمي، والله أعلم بنيتكو بقصدك, وربما يؤثر هذا على الإنسان ويضايقه كثيراً, لكن له جانب إيجابي، أن الإنسان ينفع ويقدم خدمة لدينه, ويستثمر هذا الوقت الذي منحه الله إياه, وسوف يسأله عنه، فيستثمره في نفع عباد الله, والإحسان إليهم في دينهم ودنياهم.
الذي أدعوه لنفسي ولإخواني أن نفكر في هذا الكلام, فأنا أعرف أن ضيق الوقت يحول دون التفصيل، والأمثلة والتطبيقات الواقعية التي تجعل الإنسان يسلم بهذا الكلام, لكني أدعوكم إلى التفكير الجاد في هذا الكلام ومعرفة أن المسألة مسألة دين, فيحذر الإنسان من أن يكون قد وقع فريسة مخادعة النفس أو مخادعة الشيطان.
أسأل الله أن يعيننا على أنفسنا, وأن يوفقنا لصالح القول والعمل ويرزقنا الفقه في الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(254/32)
الموقف الصحيح من الاختلاف
فيه ذِكْرٌ لمأساة اختلاف الواقع بين المسلمين، وتقسيم الاختلاف إلى قسمين: 1- اختلاف علمي.
2- اختلاف عملي.
وفيه بيان لأسباب كل من القسمين؛ كما أنه يحتوي على تبيين الموقف الصحيح لطالب العلم والإنسان العامي من اختلاف العلماء.(255/1)
مأساة الاختلاف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: أيها الإخوة: لا تكاد تجلس اليوم مع إنسان من المعنيين بشأن الإسلام في أي مكان، إلا ويحدثك بقلب مجروح وعين باكية عن أوضاع المسلمين المتردية، وبالذات عما يعانيه المسلمون في هذه الأيام، بل ومنذ أزمنة طويلة من اختلاف وتباعد فيما بينهم، وهذا الحديث يخوض فيه الكثيرون، يتحدث عنه أولياء الإسلام حديث المشفق الحزين، ويتحدث عنه أعداؤه حديث الشامت الفرح المسرور: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] ولذلك رغبت أن أتحدث عن هذا الموضوع، وأجلي بعض جوانبه، وما دفعني إلى اختيار هذا الموضوع إلا النصيحة -إن شاء الله- لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإنني كغيري من المسلمين نشعر بالحرقة والحسرة والأسف، على ما تعانيه الأمة من تفرق واختلاف، ونتمنى أن يأتي اليوم الذي تجتمع فيه كلمة الأمة الإسلامية على كتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.
وبطبيعة الحال ليس مقصودي من الاختلاف الذي سأتحدث عنه في هذه الليلة، ذلك الاختلاف الجوهري بين المسلمين، اختلاف الفرق المفترقة من أهل الكفر والضلال والزندقة، ومن أصحاب الزيغ العقدي، الذين انفصلوا عن جسم الأمة أو كادوا، وإنما حديثي عن اختلاف أهل السنة والجماعة، الذين وحد بينهم الكتاب والسنة والإجماع، ولم يكن بينهم خلاف عقدي يوجب التناحر والتباعد والتفرق! أما غلاة الصوفية، أو الرافضة، أو القبورية، أو المعتزلة، أو غيرهم من الفرق المنحرفة، فهذه لها شأن آخر، ومباعدة هذه الفرق واعتزالها واجب، لئلا يلتبس الحق مع الباطل: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] فلا يجوز أبداً أن يكون مطلب الاجتماع مدعاة إلى نسيان الخلاف الحقيقي الجوهري القائم بين أهل السنة وبين خصومهم، وما زال سلف هذه الأمة يتبرءون من أصحاب هذه البدع، ويعلنون النكير عليها.
إذاً الحديث عن الاختلاف داخل إطار أهل السنة والجماعة، ويمكن أن أقسم الخلاف بين المسلمين، من أهل السنة والجماعة إلى قسمين:(255/2)
الخلاف العلمي بين أهل السنة وأسبابه
القسم الأول: الخلاف العلمي؛ وأعني بالخلاف العلمي ما يوجد من اختلاف بين العلماء وطلاب العلم في المسائل العلمية، سواء كانت في الأصول، أو الفقه، أو الحديث، أو التفسير، أو في غيرها، وهذا خلاف طويل عريض، ويوجد من الاختلاف بين المفسرين في تفسير القرآن الكريم مثلاً، وبين المحدثين في إثبات الأحاديث أو تضعيفها، وبين علماء الرجال في توثيق الرجال أو تضعيفهم، وبين الفقهاء في المسائل الفقهية، كما يوجد بين غيرهم من أصحاب العلوم الأخرى، كالخلاف بين النحاة والبلاغيين، وأصحاب العلوم الأخرى كافة، اللهم إلا العلوم الرياضية التي هي عبارة عن أرقام حسابية لا يكاد يوجد فيها اختلاف.
فيوجد بين أصحاب هذه العلوم الشرعية من الخلاف كما يوجد بينهم من الوفاق، وليس صحيحاً ما يصوره بعضهم من أن كل مسألة فيها خلاف، فقد شاع عند الناس مثلاً: إذا قيل: ما حكم كذا؟ فيقول أيُّ واحد في المجلس: فيه خلاف! على سبيل السخرية، أو الإشارة إلى أنه ما من مسألة إلا وفيها اختلاف.
والواقع أننا لو تأملنا ونظرنا نظرة علمية متعمقة، بعيدة عن السطحية والارتجال، لوجدنا أن المسائل المتفق عليها بين الأمة مسائل كثيرة جداً، لكن لأنها مسائل متفق عليها لا يثور فيها خلاف، وبالتالي ليس الناس بحاجة إلى التداول فيها، لأنها مسائل مفروغ منها، ولا شك -أيضاً- أن هناك مسائل كثيرة جداً هي الأخرى فيها اختلاف بين العلماء، وقد يكون هذا الاختلاف على أقوال كثيرة، أذكر على سبيل المثال: أن الإمام ابن القيم في كتاب زاد المعاد لما تكلم عن خصائص الجمعة، وعد منها ساعة الإجابة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في هذه المسألة ما يزيد على عشرة أقوال.
ولما تكلم الحافظ ابن حجر وغيره أيضاً على مسألة ليلة القدر وتعيينها، والأقوال فيها، ذكر ما يزيد على أربعين قولاً.
ولما تكلم الإمام الشوكاني في الفتح الرباني في فتاويه، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {إن الله تعالى يقول: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به} ذكر في تفسير هذا الحديث، وفي معنى كون الصوم لله (فإنه لي) نحواً من خمسة وخمسين قولاً في هذه المسألة.
نعم.
يوجد اختلافات قد تصل إلى هذا الحد الذي ذكرت وقد تكون دون ذلك أحياناً، فلسنا ننفي أو ننكر وجود الاختلاف بين العلماء وبين المسلمين، في هذه القضايا العلمية.
لكن أقول: إنه يجب أن يكون نظرنا في هذا الاختلاف معتدلاً، فلا نبالغ في إثبات الخلاف، كما أننا -أيضاً- لا نبالغ في نفيه، فنقول: يوجد بين العلماء في سائر العلوم من الاختلاف مثل ما يوجد بينهم من الاتفاق أو أكثر، أو أقل من ذلك، وهو أمر لا مجال إلى إنكاره بحال من الأحوال.
وهذا الخلاف الذي نستطيع أن نسميه الخلاف العلمي له أسباب؛ أستطيع أن أشير إلى ستة أسباب منها، وهي أسباب منطقية:(255/3)
التعصب والهوى
السبب السادس: التعصب والهوى: والتعصب والهوى من أسباب الاختلاف؛ وذلك أن الأمة بليت عبر تاريخها الطويل بألوان من التعصب، مثلاً جاء وقت من الأوقات بليت الأمة فيه بالتعصب المذهبي، فكان كل فئة أو طائفة تتعصب لإمام من الأئمة الأربعة أو غيرهم، فتعتبر أن أقواله حق، فمثلاً: كان الحنفية يقول أحدهم: الحمد الله الذي جبلني على التعصب لإمام من القرون التي شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بخيريتها أي: يحمد الله أن الله جبله على التعصب لـ أبي حنيفة.
والشافعية كان منهم من يعتبر أن اتباع الإمام الشافعي واجب لأن الشافعي قرشي مطلبي، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {الناس تبع لقريش} .
والمالكي يرى وجوب اتباع الإمام مالك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: {يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدوا عالماً أعلم من عالم المدينة} ويقول: إن عالم المدينة هو الإمام مالك فيجب اتباعه.
وهكذا بقية الأئمة المتبوعين، فالحنابلة، وأتباع الإمام الثوري، أو ابن المبارك، أو الأوزاعي، أو غيرهم، يوجد منهم من يقعون في التعصب لإمامهم، ولا شك أن الأئمة أنفسهم يرفضون التعصب ويحاربونه، بل هم يرفضون التقليد أصلاً، ويقول قائلهم: [[لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً وللـ الشافعي وخذ من حيث أخذوا]] خذ الدليل من الكتاب والسنة، ويقول الإمام أحمد كما نقل عنه: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] .
إذاً الأئمة يرفضون التقليد أو التعصب، والتقليد قد يكون ضرورة أحياناً، لكن الشيء الخطير هو مسألة التعصب والهوى، بحيث إن الإنسان يرجح قولاً على آخر، ليس لأن الدليل معه! وليس لأنه الحق! لكن لأنه قول فلان! فليس هناك دليل، بل مجرد تحكم وهوى وتعصب، وليس هناك أحد يرجح قوله، أو يقبل قوله؛ لأنه فلان، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي إذا قال قولاً وجب قبوله والأخذ به.
أما بقية الناس ولو كانوا أئمة فلا يجب أخذ أقوالهم لذواتهم، وكيف نأخذ -مثلاً- قول الشافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، بالقبول والتسليم، إذاً لماذا لا نأخذ قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وفلان بن فلان من فقهاء الصحابة، ونرجحه على غيره، الواقع أن ترجيح قول على آخر لمجرد أنه قول فلان بن فلان هذا إهدار للعقل البشري، وإهدار قبل ذلك للنص الشرعي، حتى يصل الحال ببعضهم أنهم يقولون: أصبحت نصوص القرآن والسنة تقرأ للبركة فقط، وإلا فالعلم يؤخذ من كتب الفقه، وهذا لا شك أنه غلط كبير.
وهذا اللون من الاختلاف العلمي هو اختلاف مذموم، لأنه مبني على التعصب والهوى، وليس على الاجتهاد والنظر في الدليل.(255/4)
وجود المعارض المساوي أو الأرجح
السبب الخامس: هو أن العالم وإن ثبت عنده الحديث أو الدليل، فإنه قد يوجد عنده معارض أرجح منه، على الأقل في نظره هو، فقد يقول لك: أعترف بأن هذا الحديث ثابت وصحيح، لكن هناك أحاديث أخرى أثبت منه، وأصح منه، وأقوى في الدلالة، فأنا أقدمها على هذا الحديث، ولعل من الأمثلة على ذلك -والأمثلة كما أسلفت كثيرة- أن من العلماء من ترك العمل بحديث: {لا.
إنما هو بضعة منك} عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من مس الذكر قال: {لا.
إنما هو بضعة منك} يعني لا يجب الوضوء من مس الذكر.
فمن أهل العلم من ترك العمل بهذا الحديث أخذاً بالحديث الآخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من مس ذكره فليتوضأ} باعتبار أن هذا الحديث له طرق عن جماعة من الصحابة، وأنه أقوى وأثبت من الحديث الأول، إذاً من الأسباب أيضاً: ترك الدليل لمعارض راجح.
هذه الأسباب الخمسة من أسباب الاختلاف وكلها أسباب مقبولة ولا بد من وجودها، ولا يعترض على الخلاف الناتج عنها، متى استفرغ الإنسان الوسع في سبيل الوصول إلى الحق بقدر ما يستطيع، وتجرد عن السبب السادس الذي سوف أشير إليه، وهو التعصب والهوى.(255/5)
الاختلاف في فهم النص
السبب الرابع: أن الآية أو الحديث قد يبلغ هذا العالم، ويثبت عنده الحديث، لكن لا يرى أنه يدل على هذه المسألة التي يقع عليها هذا الاختلاف، فمثلاً فيما يتعلق بالقرآن الكريم، يقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فالعلماء اختلفوا اختلافاً واسعاً في تحديد القرء، فمنهم من قال: إن القرء هو الطهر، ومنهم من قال: القرء هو الحيض، وحين ترجع إلى كتب اللغة تجد أن من علماء اللغة من قال: إن القرء من ألفاظ الأضداد، الذي يطلق على الطهر ويطلق على الحيض.
ومن هنا جاء الاختلاف، فمن يقول: إن القرء هو الطهر ليس له أن يعتبر أن من يقول: لا.
إن القرء هو الحيض مخالف للآية، لأنه يقول بمضمون الآية، لكن يرى أن دلالة الآية ليست كما فهمها الآخر.
وفيما يتعلق بالسنة -والأمثلة بطبيعة الحال كثيرة جداً، لكن أكتفي بمثال واحد على الأقل حتى يفهم السبب- مسألة الوضوء من لحم الجزور، هذه ورد فيها أحاديث، منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {سئل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم.
فتوضأ من لحوم الإبل} فهذا الحديث أخذ منه الإمام أحمد وغيره من فقهاء السنة وجوب الوضوء من لحم الإبل، ولكن هناك علماء آخرون منهم الأئمة الثلاثة قالوا: لا يجب الوضوء من لحم الإبل، فما موقفهم من هذا الحديث؟ الحديث ثابت عندهم وصحيح، لكن حملوه على محامل، منهم من يقول: إن هذا للاستحباب وليس للوجوب، ويستدلون بأنه قال في أول الحديث: {أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا قال: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم} فقالوا: إن قوله: نعم لا يدل على وجوب الصلاة في مرابض الغنم، لكن يدل على جوازها.
وكذلك لما سئل أنتوضأ من لحوم الإبل قال: نعم.
فإن هذا لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب، والذي يظهر لي أن الراجح في هذه المسألة هو وجوب الوضوء من لحم الإبل، لقوة الأدلة وصراحتها في ذلك، ولأن هذا نقل عن جمهور الصحابة، أنهم كانوا يتوضئون من لحوم الإبل.
ولكن يبقى أن الخلاف في المسألة له أصوله التي يعتمد عليها، وليس مبنياً على مجرد التحكم أو الهوى، وإنما هو مبني على أن دلالة الحديث على المقصود ليست دلالة قطعية لا تحتمل الخلاف، وإنما هي دلالة ظنية أو استنباط، قد تكون راجحة لكنها ليست قاطعة.
فنحن نقول: الراجح كذا، لكن لا نعتبر أن المخالف ضال أو منحرف، أو مخالف للدليل، أو ما أشبه ذلك.(255/6)
عدم وصول الدليل إلى بعض العلماء
السبب الأول: عدم وصول الدليل إلى بعض العلماء، وهذا موجود حتى على مستوى الصحابة رضي الله عنهم، مع قرب عهدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسعة علمهم، ومع ذلك يوجد من الصحابة من يفوته من الأدلة ما يوجد عند غيره، حتى كبار الفقهاء من الصحابة كـ عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم، قد يفوتهم الدليل ولا يصل إليهم، وحتى كبار الرواة من الصحابة كـ أبي هريرة ربما فاتهم الدليل، ولم يصل إليهم، أو وصل إليهم متأخراً، ويحضرني في هذا المجال الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أيضاً عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: {نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من جماع غير احتلام فيصوم} يعني أن الإنسان لو كان عليه جنابة في رمضان أو في غيره، ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر فصومه صحيح، وأبو هريرة رضي الله عنه كان يفتي بخلاف هذا، اعتماداً على حديث رواه له بعض الصحابة، ولذلك لما سمع مروان هذا الحديث من أبي بكر بن عبد الرحمن قال له: أقسمت عليك لتقرعن به أبا هريرة أي: تواجه أبا هريرة وتوبخه بهذا الحديث الذي هو على خلاف فتواه، فكره ذلك أبو عبد الرحمن، ثم إنه التقى بـ أبي هريرة بمزرعة له في ذي الحليفة فقال له: إني محدثك حديثا لولا أن مروان عزم علي وأقسم علي ما حدثتك به، ثم ساق له الحديث، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: كذلك حدثني الفضل بن العباس فرجع أبو هريرة إلى مضمون هذا الحديث.
فقد يحدث كثيراً أن يفتي العالم بمسألة، أو يقول بقول مخالف للدليل، نظراً لأن الدليل ما وصل إليه، فإذا بلغه الدليل رجع إليه، وإذا لم يبلغه ظل على ما كان يقول به قبل ذلك، ويوجد عند الأئمة الأربعة فضلاً عن غيرهم من ذلك الشيء الكثير، وهذا ليس بعيب، فإنه لا يمكن أن يجتمع العلم كله عند إمام واحد، ومن زعم أن السنة كلها تجتمع عند إمام واحد من الأئمة فقد أعظم الفرية، وبالغ في الادعاء، فإن هذه السنة لم تجتمع عند الصحابة، ولا عند التابعين، ولا عند كبار الأئمة المصنفين.(255/7)
نسيان الدليل
السبب الثاني: أن هذا العالم أو ذاك قد يبلغه الدليل لكن ينساه فيفتي بالخلاف، والنسيان وارد حتى في القرآن، فقد ينسى الآية أثناء الكلام أو أثناء الفتوى، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {كان يثني على أبي بن كعب، ويدعو له، ويقول: كأيّ من آية أذكرنيها كنت أنسيتها} وهذا نسيان ليس مطلقاً لكن ينسى في ساعة من الساعات، أو لحظة من اللحظات، ثم يذكر أو يتذكر، ومن باب أولى يقع نسيان السنة.
ومما يمكن أن يضرب به المثال في موضوع نسيان السنة، ما رواه الأئمة أن حذيفة رضي الله عنه كان يصلي بالناس في المدائن، وكان يصلي على دكان -أي: على مكان مرتفع وهو إمام بالناس- فكان معه أبو مسعود الثقفي فجره، فنزل حذيفة وأكمل صلاته، فلما انتهى قال له أبو مسعود رضي الله عنه: ألم تكن تعلم أننا كنا ننهى عن ذلك -أي: كون الإمام يصلي في مكان مرتفع والمأمومون وراءه في منخفض ولغير حاجة- فقال حذيفة رضي الله عنه: بلى، ألم ترني طاوعتك حين مددتني؟ -يعني حين سحبتني أو اجتررتني- وأشار إلى أنه نسي، ثم تذكر لما جره أبو مسعود.
فقد ينسى العالم أو الفقيه، أو طالب العلم الدليل، فإذا ذُكّر به تذكر، ورجع إلى مضمون هذا الدليل.
إذاً من أسباب الخلاف، أو الاختلاف؛ نسيان العالم أو الفقيه لدليل المسألة بعد أن يكون علمه.(255/8)
عدم ثبوت الدليل
السبب الثالث: ألا يثبت عنده هذا الدليل؛ كأن يكون -مثلاً- سمع بهذا الحديث، لكن لم يثبت لديه، ونحن نعرف أن العلماء يختلفون في إثبات الأحاديث، فقد يضعف عالم حديثاً ويصححه آخر، وهذا كثير جداً، فعلماء الحديث، وعلماء الجرح والتعديل، يوجد بينهم من الاختلاف والاتفاق مثل ما يوجد بين غيرهم من العلماء، ولذلك قد يصحح إمام ما حديثاً ويقول به، ويضعفه إمام آخر، فيكون الإمام الذي ضعف الحديث معذوراً بعدم العمل بهذا الحديث، لأنه ما صح عنده، وهذا من أعظم أسباب الاختلاف.
ولذلك -أيضاً- نجد أن من العلماء من يقول بحديث، ثم يتبين له ضعفه فيترك القول به، وأضرب لذلك أمثلة بالإمام أحمد: كان الإمام أحمد رحمه الله يقول بمضمون حديث عبد الله بن عكيم: {لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب} فكان الإمام أحمد يذهب إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة، لا قبل الدبغ ولا بعد الدبغ، أخذاً بهذا الحديث، فلما رأى اضطراب الرواة في هذا الحديث، واختلافهم فيه، ترك هذا الحديث، وذهب إلى غيره.
وكذلك نقل عنه في مسألة الوضوء من مس الذكر؛ والأمثلة كثيرة جداً، المهم أن الفقيه قد لا يثبت عنده الحديث فلا يقول به، فهذا من أسباب الاختلاف.(255/9)
الأخطاء الواقعة في موضوع الاختلاف العلمي
هناك أخطاء في موضوع الاختلاف الفقهي والعلمي، في واقع الناس اليوم، وأود أن أشير إلى شيء منها، فمن الأخطاء أن كثيراً من الناس يتبرمون بهذا الاختلاف ويضيقون به ذرعاً، وكثيراً ما تسمع الناس من المثقفين والعامة وطلاب العلم، يتكلمون: لماذا يوجد الخلاف بين العلماء؟ لماذا فلان يفتي بكذا وفلان يفتي بكذا؟ الشيخ الفلاني قال في هذه المسألة قولاً والشيخ الفلاني قال قولاً آخر، كيف السبيل إلى جمع أقوال العلماء؟! لماذا لا يتفق العلماء؟ لماذا لا يجتمعون ويخرجون برأي واحد؟ إلى غير ذلك من تساؤلات كثيرة، تنم في الواقع عن عدم وعي وفقه شرعي، عند الذين يثيرون مثل هذه الأسئلة.
أقول: إننا يجب ألا نضيق ذرعاً بهذا الاختلاف من حيث هو، فهو اختلاف لا بد منه، وهو واقع شئنا أم أبينا، ولا يمكن أن ينتهي هذا الخلاف إلا في حالة واحدة، وهي إذا انتهى العلم الشرعي، وفقد الناس النصوص والأدلة، وضاع العلم، وقبض العلماء، فصار الناس كلهم جهالاً، حينئذ تعدم.
إذا اتفق الناس على الجهل، ونسوا هذه الأقوال، حينئذ يمكن أن تنتهي الأقوال، أما قبل ذلك فلا.(255/10)
القطع في مسائل لا مجال للقطع فيها
الخطأ الثالث: أن بعض الناس قد يقطعون في مسائل لا مجال للقطع فيها، وفي اعتقادي أن المسائل التي تكون دلالة النصوص عليها ظنية، أو يكون ثبوت النص فيه نظر، وهي قضايا اختلف فيها سلف الأمة وأئمتها، من الصعب أن يصل فيها الإنسان إلى درجة القطع بقول من الأقوال، ولذلك كان الإمام الشافعي وهو من هو في الفقه رحمه الله يقول: " قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب" إذاً الاحتمال قائم، ومسألة القطع فيما لا مجال فيه ليست من سيما أهل العلم، بل هي دليل على نقص العلم، لأن الإنسان عندما لا يكون لديه إلا دليل واحد، أو قول واحد، ولا يعرف إلا دليله، قد يخيل إليه أن هذا هو القول الصحيح بلا شك، وذلك لضعف علمه، وأحياناً عندما تأتي بإنسان خالي الذهن، تقول: هذه المسألة فيها أقوال، وأريد أن أعرض عليك الأقوال والأدلة وأنت رجح، لما تعرض عليه القول الأول في المسألة، وتأتي له بأدلة من القرآن والسنة وأقوال أهل العلم، وتقول: ما رأيك في هذا القول؟ يقول: والله هذا القول هو الصحيح الذي لا شك فيه، سبحان الله! كيف يوجد اختلاف وهنا هذه الأدلة، فتقول: تريث قليلاً، اسمع القول الثاني، ثم تذكر القول، ومن قال به، وأدلته، يبتسم ويقول لك: والله يا أخي! هذا القول أرجح، الحقيقة كنت متعجلاً لما رجحت القول الأول، لكن عندما تعرض له القول الثالث يمكن أن يرجحه أيضاً! إذاً القطع في مسألة سببه ضعف العلم، فإنسان ما اطلع إلا على قول واحد ودليله، يخيل إليه أن هذا القول هو الصحيح، ولذلك من فوائد بحث الفقه المقارن -كما يسمونه- تربية الطالب على سعة الأفق، ومعرفة الأقوال المتعددة، حتى لا يكون عنده تعجل في القطع في مسائل لا مجال للقطع فيها، فكون الطالب -كما هو الحال في الكليات الشرعية وغيرها- يتربى على معرفة الأقوال في المسألة وأدلتها، ثم الترجيح، هذا يربي لديه عدم التعجل في الترجيح واتساع قلبه وعقله لوجهة النظر المخالفة، وعدم التسرع والقطع في هذه المسائل التي لا مجال للقطع فيها.(255/11)
الإنكار في مسائل الخلاف
الخطأ الرابع: هو الإنكار في مسائل قد لا يكون الحق فيها دائماً مع المنكر، والفقهاء والعلماء يقولون: لا إنكار في مسائل الخلاف، وهذه الكلمة ذكرها جماعة من العلماء كـ الغزالي، والنحاس وغيرهم، ولكن الصحيح أن فيها تفصيل، بمعنى أنه لا يمكن أن نطلق هذه الكلمة، بل لا بد أن نفصل فيها؛ لأن كثيراً من المسائل فيها خلاف، فلو قيل: إنه لا إنكار في مسائل الخلاف، معناه أنا أبطلنا الإنكار في مسائل كثيرة.
أقول: مسائل الخلاف أنواع: منها: مسائل القول الراجح فيها واضح ومشتهر، والقول الآخر مرجوح وضعيف، فهذه ينبغي تنبيه الآخذ بالقول الضعيف والمرجوح إلى ما هو الحق والراجح ومناقشته في ذلك.
كذلك هناك مسائل يوجد فيها خلاف صحيح، لكن أحد الأقوال هو المشتهر والمعروف والمعمول به في الواقع، وفي التزامه مصلحة كبيرة، فلا بد من الإنكار فيه.
وأضرب لذلك -مثلاً-: مسألة حجاب المرأة، وأعني بالحجاب النقاب الذي هو تغطية الوجه، مسألة فيها خلاف، ليس هناك إشكال، ولا أحد ينكر وجود الخلاف فيها، لكن تأتي إلى بلد كالسعودية -مثلاً- النساء فيها بمقتضى قوة الأنظمة ملزمة، سواء كانت المرأة سعودية أم غير سعودية، مسلمة أم غير مسلمة، هناك أنظمة تنص على أن كل امرأة تأتي إلى هذا البلد يجب أن تلتزم بتغطية الوجه ولبس العباءة، فهذا نظام موجود هنا، ففي هذه الحال قد تقول لإنسان -وقد يكون متديناً أحياناً- قد كشفت امرأته وجهها: يا أخي! لماذا لا تتحجب امرأتك؟ يقول: يا أخي! هذه مسألة فيها خلاف! نحن الآن لسنا في مجال الحديث عن الخلاف في هذه المسألة، أنت في بلد يلتزم أهله بتغطية الوجه، وتغطية الوجه فيه مصالح عديدة، وإجماع العلماء على أن تغطية الوجه مشروعة، لكن خلافهم هل هي واجبة أو مستحبة، فأنت حين تغطي وجه امرأتك ما خالفت أحداً من أهل العلم بحال من الأحوال، كل العلماء يحمدونك، ولا يوجد أحد من العلماء يقول: أنت مخطئ إذا غطيت وجه امرأتك، لكن منهم من يقول: فعلت واجباً، ومنهم من يقول: فعلت أمراً مستحباً.
إذاً افعل هذا الأمر على الأقل لأنه مستحب من وجهة نظرك، وهو أمر تفرضه عليك أنظمة هذه البلاد، وهي مصلحة كبيرة لئلا تتجرأ النساء على هذا الأمر، ثم يؤدي الأمر إلى ما بعده، خاصة ونحن نعرف مدى الانحراف الذي وقع في البلاد الإسلامية، في مجال التفسخ والسفور والتبرج والاختلاط وغير ذلك.
مثل آخر: قضية الإسبال؛ وكون الإنسان -أو بعض الناس- يكون قد أرخى ثوبه إلى ما تحت الكعبين، فإذا نبهته على ذلك قال: يا أخي! فيه خلاف، بعض أهل العلم يقول: إذا لم يكن فيه خيلاء فهو ليس بحرام، وهذا أيضاً فيه خلاف ولا شك، وليس في المسألة إجماع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار} ولم يحدد ما إذا كان ذلك لخيلاء أو لغير خيلاء، لكن لا ننكر أن فيها خلافاً، إنما كون الإنسان يسبل مع أن النصوص في ذلك صحيحه، وليس هناك ما يدل على أنه لغير خيلاء، كيف يعرف الناس ما في قلبك؟! في مثل هذه الحال ينكر الإنسان على من وقع في مثل هذه الحال، فإذا قال لك هذا الإنسان: أنا فعلت هذا بمقتضى دليل، وأنا عندي أن القول الراجح هو القول الآخر، وأنا استفتيت فلاناً.
إذاً لا داعي لإطالة الجدل، المهم أنك بينت وجهة نظرك، والدليل الذي تعتمد عليه، ولا داعي لطول المناقشة في مثل هذه الأمور، لكن لا بد من بيان ما تعتقد أنه الحق.
هناك أمر آخر لا نسميه إنكاراً بل نسميه بيان الحق الذي تعتقده، والفرق بينه وبين الإنكار هو أنك تعرض ما لديك بهدوء، ولا تعرضه على سبيل الإلزام للطرف الآخر، لكن تعرضه على سبيل أنك تعتقد أنه أولى وأحرى بالقبول والاعتبار والتنفيذ.(255/12)
جمع الأمة على رأي واحد وهم ومحال
ولذلك أقول: إن الذين يحلمون بجمع الأمة على رأي واحد في هذه المسائل مغرقون في الوهم والتفاؤل، كيف تحلم بجمع الناس على أمر ما اجتمع الناس عليه في عهد أبي بكر وعمر!! في عهد أبي بكر وعمر اختلف الصحابة رضي الله عنهم في المسائل الفقهية، فمن بعدهم أولى أن يختلفوا.
وأقول: أيها الإخوة! يجب ألا نشغل عقولنا وقلوبنا وألسنتنا أو مجالسنا، بالكلام عن كيف ننهي الخلاف؟! فهذا سؤال ليس له جواب، وجوابه أن هذا الخلاف لن ينتهي، وفِّر على نفسك التعب، فالخلاف لن ينتهي.
لكن عليك أن تطرح بدل هذا السؤال سؤالاً آخر، وهو: كيف نتعامل مع هذا الخلاف؟ وكيف نواجه هذا الخلاف؟ وماذا نأخذ من هذه الأقوال؟ وماذا نترك منها؟ فهذه أسئلة طيبة سليمة، تنم عن وعي ومعرفة وإدراك، لكن في الحقيقة يضيق الإنسان ذرعاً بتبرم الناس من هذا الخلاف، أحياناً تثار حتى قضية صحفية، وأذكر عدداً من صحفنا المحلية أثارت هذا الموضوع اختلاف المفتين اختلاف الفقهاء والبلبلة التي تحدث عند العامة.
فيجب أن نوعي العامة بأن خلاف العلماء ضروري، ولا بد منه، وأنتم أيها العامة! هناك حل نقدمه لكم يعالج موقفكم من الخلاف، أما اختلاف العلماء فلا تفكروا في أنه يمكن أن يأتي يوم ينتهي فيه الخلاف، إلا كما قلت حينما ينتهي العلم ولا يبقى إلا الجهل.
فلا بد من الاعتراف بواقعية الخلاف، ومعرفة أنه لا بد منه، وهذه القضية مفيدة جداً للإنسان إذا فهمها وأدركها، لأنها تجعل موقفه من الاختلاف موقفاً يتسم بالهدوء والاعتدال والتفهم، وليس بالغضب أو الانفعال، أو ما أشبه ذلك من المواقف المبنية على تصور غير صحيح.(255/13)
تحويل الخلاف في المسائل الفرعية إلى خلاف أصولي
أيضاً من الأخطاء التي تقع: أن الخلاف في بعض المسائل الفرعية قد يضخم عند البعض إلى خلاف جوهري وأصولي، فبعض الناس قد يحول الخلاف في مسألة فرعية إلى خلاف جوهري وأصولي، ويوالي ويعادي فيه، بل وربما ضلل وفسق وبدع، بل وربما وقع في التكفير أحياناً، والبراءة من فلان لأنه يقول بهذه المسألة.
ولذلك ربما تجد فرقاً كثيرة اجتمعت على أقوال جزئية وفرعيات، وهذا من الضلال والانحراف في فهم الخلاف.
وقد لقيت يوماً فئة من الناس كانوا يكفرون من يخالفهم في المسائل الفرعية الفقهية، ويحرمون الصلاة خلفه ومعاملته، وقبول شهادته، مع أن الخلاف ليس في أصول اعتقاديه، إنما هو في مسائل فقهية، وسلف هذه الأمة اختلفوا كما ذكرت، ولذلك لا تكاد تجد مسألة من المسائل المشهورة عند الفقهاء، إلا ويقول: هذا مذهب أبي بكر، وابن مسعود، وهذا مذهب عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وفلان، فالخلاف في الفقه موجود من عهد الصحابة كما بينت قبل قليل.
ولا يجوز أن يتحول الخلاف في مسألة من المسائل الفقهية إلى ميدان للخصومة، والمنافرة والمباغضة والهجر والمفاصلة والشتم والسب والتضليل والتبديع والتفسيق والتكفير أحياناً، فهذا كله لا يجوز، فالخلاف الفقهي ليس فيه هدى وضلال، وحق وباطل، ما دامت المسألة في إطار أمور لا تصل إلى درجة القضايا القطعية، وإنما هي قضايا اجتهادية اختلفت فيها الأمة قديماً وحديثاً، إنما فيها راجح ومرجوح.
ولا يوجد مانع أن أقول: هذا القول راجح، وذاك القول مرجوح، وفي مقابل ذلك قد يأتي آخر ويقول: والعكس، هذا القول مرجوح، وذاك القول راجح، وكل إنسان يقول ما يعتقد في هذه المسألة، وفق ما أدى إليه اجتهاده، على ضوء النصوص الشرعية.
فالمسألة فيها راجح ومرجوح، وإذا كان الدليل قوياً فقد أقول: هذا هو القول الصحيح، وأقف عند هذا الحد، أما كون القضية تتحول إلى تضليل فهذا نوع من غياب الفقه الصحيح، ولذلك نجد أن العلماء السابقين كانوا يتعاملون مع الخلاف الفقهي في هذا الإطار، وأحياناً يلتقي عالمان للمناظرة في المسألة، فلا يتفرقا حتى يأخذ كل منهما بقول الآخر، وهذا طريف، وهو يدل على أن العلماء السابقين كانوا متجردين للحق.
وأذكر أن إسحاق بن راهويه وهو إمام وفقيه من فقهاء المحدثين، التقى بالإمام الشافعي في مكة، فتناظرا حول مسائل عديدة، منها مسألة جلود الميتة وحكمها، ومنها مسألة كراء بيوت مكة وبيعها، والطريف في الأمر أنهما لما تناظرا في مسألة جلود الميتة كان بعد المناظرة رجع الشافعي إلى قول إسحاق، ورجع إسحاق إلى قول الشافعي، كل واحد منهم أعجبته حجة الآخر فقال بها، وهذا دليل على التجرد للحق.
ومثل ذلك كثير فلا بأس من المناقشة والمناظرة، وأن أقول: هذا راجح وهذا مرجوح، أو إذا قوي الدليل عندي أقول: هذا الصحيح، وإن كنت أوثر من وجهة نظري الشخصية الضعيفة، أن الإنسان يستخدم دائماً العبارات التي لا تدل على الجزم والقطع فيما ترجح لديه، إلا في مسائل محدودة جداً، فكلما أمكن أن طالب العلم يعرض القول الذي ترجح بأسلوب لا يغض من قيمة القول الآخر، ولا يدل على أن الرجحان عنده قوي جداً، كان هذا أولى وأقوى وأحسن في التربية، المهم أنه لا يجوز أن نحول الخلاف في مسألة فرعية إلى خلاف جوهري وأصولي، ونبني عليه التفرق.(255/14)
موقفنا من خلاف العلماء
أشرت قبل قليل إلى أن الناس يتبرمون من الخلاف، ويضيقون به ذرعاً، وهذا يجر إلى سؤال وهو: ما هو موقفنا من خلاف العلماء؟ باختصار شديد ألخص الموقف من خلاف العلماء بنقطتين: فأقول: أنت إما أن تكون عامياً أو تكون طالب علم.(255/15)
موقف طالب العلم من خلاف العلماء
إن كنت طالب علم فموقفك من هذا الاختلاف سواء كان خلافاً قديماً، أم حديثاً، هو أن تختار من هذه الأقوال ما تعتقد أن دليله أصح وأقوى، بحسب ما منحك الله تعالى من العلم والعقل والمعرفة، فتختار بحسب اجتهادك وبحثك وتحريك لأنك طالب علم.(255/16)
موقف العامي من خلاف العلماء
الاحتمال الثاني: أن تكون عامياً، وحين أقول: عامياً، ليس بالضرورة أن يكون لا يقرأ ولا يكتب، بل قد يكون طبيباً أو مهندساً، أو متخصصاً في أي مجال، لكن في مجال العلم الشرعي لا علم عنده البتة، لا يورد الأمور ولا يصدرها، فهو عامي في مجال العلوم الشرعية، فهنا نقول له: ما دمت عامياً فحكمك التقليد، لكن من تقلد؟ تقلد من تثق بدينه وعلمه، عندك مجموعة من العلماء أفتوا بفتاوى متعددة مختلفة، لا عليك من هذه الفتاوى، ولا تشغل نفسك بها، وفلان قال كذا وفلان خالفه، انظر هؤلاء العلماء، من هو أوثقهم عندك، من حيث العلم والدين والفهم؟ فهذا العالم الذي وثقت بعلمه ودينه، ورأيت أنه أقدم من غيره بهذا المجال، خذ بفتواه ودع ما سواها، ولذلك من الخطأ أن بعض العامة صاروا يتلاعبون بهذه القضايا، فمنهم -مثلاً- من يأخذ من هذه الأقوال ما يشتهي، ليس لأن العالم الذي أفتى به أعلم أو أقدم أو أكبر قدراً، وإنما وجدها فتوى تناسبه فأخذ بها، ويقولون: اجعل بينك وبين النار فقيهاً أو مطوعاً، أو ما أشبه ذلك، وهذا غلط وخطأ! أيضاً من العامة من تجد أنه يقف على رأس كل عالم ويسأله عن مسألة، أو مسائل لا يعرف غيرها، فيذهب إلى هذا العالم فيقول: يا شيخ! ما حكم مثلاً طواف الوداع بالنسبة للعمرة؟ ويذهب للشيخ الفلاني: ما حكم طواف الوداع؟ ثم يذهب للآخر والثالث والرابع والخامس، فيسأل الخمسة كلهم عن مسألة واحدة، ثم يبدأ يقول: أنا سألت فلاناً وقال كذا، وسألت فلاناً وقال كذا، فهذا لا شك أنه متلاعب.
ولذلك نقول للعامي: لا داعي لهذا العمل، وأيضاً هذا العامي لا يقبل حتى نقله للفتوى، لو قال لك إنسان عامي لا علم عنده: الشيخ الفلاني أفتاني بكذا فلا تقبل نقله للفتيا، لأنه قد لا يضبط الفتوى، وقد ينقلها خطأ، وقد يفهم خطأ، وقد يعرض السؤال بصورة غير صحيحة، فحتى نقل الفتوى له ضوابط، وليس كل من نقل فتوى تقبل منه.
إنما على العامي ألا يتلاعب بالفتوى بهذه الطريقة، إذا عرضت له مسألة أو نازلة، بل ينظر أحد العلماء الذي يثق بعلمه ودينه فيسأله، ولا باس أن يسأله عن الدليل في المسألة أيضاً، ثم يأخذ بهذه الفتوى ويعمل بها.(255/17)
الخلاف العلمي بين المسلمين وأسبابه
أنتقل إلى القسم الثاني من الخلاف وهو ما يمكن أن يسمى بالخلاف، العملي، فقد ذكرت أولاً أن القسم الأول هو الخلاف العلمي في المسائل الفقهية، في مسائل الأصول، أو الحديث، أو التفسير، أو في الرجال، الخ، فهذا خلاف علمي.
القسم الثاني: هو خلاف عملي، وأعني به ما يقع بين المسلمين في واقع حياتهم، وشئون دعوتهم، من اختلاف وتباين في المواقف، ووجهات النظر، والأعمال والآراء، وهذا الخلاف يعصف بالأمة الإسلامية عصفاً في هذا العصر، ويتسبب في مشاكل تبدأ ولا تنتهي في أوساط العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله، بل وعامة المسلمين.
مئات اللافتات واللوحات والأحزاب والجماعات والأسماء، وسببها هو الاختلاف والتناحر والتنافر في أوساط الدعاة إلى الله تعالى والعلماء وطلاب العلم، ليته كان اختلاف تنوع -إذاً- لهان الأمر، لكنه اختلاف تضاد، وتباين في المواقف، وهذا الاختلاف خطير جداً، ويؤثر على مستقبل الأمة الإسلامية، ولذلك أتمنى أن يتفهم المسلمون وخاصة الشباب، الموقف السليم من هذا الاختلاف، ويدركوا كيفية التعامل معه، بروح مرنة وواقعية، ويخافوا الله تبارك وتعالى في هذا الأمر الخطير.
هذا الخلاف له أسباب كثيرة، أذكر منها:(255/18)
الاختلاف العلمي
السبب السادس: هو الاختلاف العلمي، فالاختلاف العلمي قد يؤدي إلى اختلاف عملي، فمثلاً: قد نبحث مسألة فيذهب فلان إلى أن هذا يجوز ويذهب الآخر إلى أن هذا لا يجوز، فكل واحد يتصرف على مقتضى ما وصل إليه الاجتهاد.
مثلاً: قد يرى إنسان جواز المشاركة في عمل أو جهاز أو جهة معينة بغرض الدعوة إلى الله تعالى، ويرى أن هذا فيه نصوص تدل عليه وفيه مصلحة إلخ، ويذهب آخر إلى أن هذا لا يجوز وعنده أدلة يلجأ إليها، فهذا اختلاف علمي في جواز أو تحريم ترتب عليه اختلاف عملي، وهذا أيضاً يعذر فيه الإنسان بحسب اجتهاده ولا داعي بأن يعنف إنسان على الآخر ما دام مجتهداً، وربما يكون في ذلك خيرٌ للأمة، كون البعض يشارك في هذا المجال والبعض لا يشارك.(255/19)
اختلاف المدارك والعقول والأفهام
السبب الخامس: هو اختلاف العقول والمدارك والأفهام والاجتهادات، والله عز وجل خلق الناس متفاوتين في عقولهم؛ فمنهم العبقري، ومنهم الساذج المغفل، ومنهم بين ذلك، وهذا الاختلاف الذي فُطر عليه الناس وجبلوا عليه يؤدي إلى اختلاف في أشياء كثيرة، ولذلك نجد الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين لأصحابه: {لا يصلين العصر أحدٌ إلا في بني قريظة} فاختلف الصحابة في تطبيق هذا الحديث، مع أنهم اتفقوا على أن الرسول عليه الصلاة والسلام قاله، ومعنى الحديث في الظاهر واضح، لكن اختلفوا في تطبيق هذا الحديث، فمنهم من طبق الحديث بطريقة، ومنهم من طبقه بطريقة أخرى، فالفئة الأولى: صلوا في الطريق، وقالوا: لم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم منا ذلك وإنما أراد الإسراع، وفئة قالوا: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة حتى لو فاتتنا صلاة العصر، فأخروا الصلاة إلى أن وصلوا إلى بني قريظة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يعنف أحداً منهم، فعلّمنا بذلك عليه الصلاة والسلام أن الناس يختلفون في عقولهم ومداركهم، وأن النصوص الشرعية جاء فيها مجال الاختلاف فيما لم يكن قطعي الدلالة.
إذاً العقول تختلف! من ذلك -أيضاً- اختلاف الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة؛ منها قضية الخلافة، فقد تفاوضوا أول الأمر حين كانوا في السقيفة من يبايعون، ثم اتفقوا بعد ذلك على بيعة أبي بكر فأجمع المسلمون على بيعة أبي بكر وأنه أفضل الصحابة وأفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً الاختلاف في حرب المرتدين في أول الأمر حين كان هناك مرتدون ردة كلية ومنهم من منعوا الزكاة فاختلفوا، فكان عمر وبعض الصحابة يقولون لـ أبي بكر: لو تركنا قتال الذين يمنعون الزكاة ممن يشهدون أن لا إله إلا الله، فقال أبو بكر رضي الله عنه: [[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها]] فشرح الله صدر عمر وبقية الصحابة لرأي أبي بكر.
والمهم أنه قد وجد الاختلاف في قضايا عملية واجتهادية كثيرة جداً، وهي في الحقيقة لا تنحصر؛ لكن هذه أمثلة، ومن باب أولى يوجد الاختلاف في أمور الواقع بسبب اختلاف العقول، فقد يعجبني شيء ولا يعجبك، وأرى أن الطريق لحل المشكلة كذا وأنت ترى أن الطريق يختلف.(255/20)
ضيق الأفق
السبب الرابع: هو ضيق الأفق الذي يجعل الإنسان يرجع ليقول: قولي صوابٌ لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب، وليس هو في قضايا شرعية؛ بل في قضايا واقعية، وأحياناً قد يكون الخلاف على رأيه في فلان، أو رأيه في المؤسسة الفلانية، أو رأيه في الشخص الفلاني، أو في الكتاب الفلاني، أو في العمل الفلاني، فيقع الخلاف، فتجد الإنسان إذا أصدر قولاً فإنه يعتبر أن هذا القول صوابٌ لا يحتمل الخطأ.
وأذكر شخصاً يتكلم في قضية من هذا النوع ويقول: أشهد الله على أن كل ما أقوله حق، يا سبحان الله!! كل ما تقوله حق؟! فهذه ليست إلا للرسول صلى الله عليه وسلم فهو الذي كل ما يقوله حق، أما من عداه من الناس فلا يمكن أن يقول الإنسان عن نفسه أو عن غيره أن كل ما يقول حق أبداً.
ثم أنت تتكلم في قضية شخصية أنت فيها طرف وهناك أطراف أخرى، وقد يكون لك جزء من الحق ونفرض أنك -مثلاً- (90%) من الحق فسيبقى (10%) لا بد أن يأخذه الطرف الآخر، وأنا لا أتكلم عن قضية خاصة بكل حال، لكن فكرة أن كل ما أقوله حق هي فكرة يجب أن تنزع، ويجب أن نتربى جميعاً على سعة الأفق الذي بجعل -وإن ذهبت إلى رأي في مسألة- عندك استعداداً وقدرة على سماع ما عند الآخرين، فاسمع ما عند الآخرين، واجعل الآخر يعرض رأيه ومبرراته ومسوغات هذا الرأي، وبالتالي بعدما ينتهي من عرض ما لديه بإمكانك أن تقبل أولا تقبل.
أما بعض الناس فالحقيقة أن قناعته ليست بعقله بل بقلبه، أي: أنه يتشبع وجدانياً وعاطفياً بقول، وبالتالي يصبح -أصلاً- ليس لديه استعداد أن يسمع منك، وربما تعرض عليه القول وهو مغلق الذهن، كالذي يقول: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] فأحياناً تتذكر هذه الآية؛ فأنت تتكلم وهو أصلاً ليس في ذهنه أنه يحتمل أن ما عندك حقٌ حتى يسمع، بل هو مقرر سلفاً أن ما عندك باطل، والمهم أن تسكت.
وبذلك يستمر الخلاف أو يزداد ويتسع، والذي ينبغي للشاب أن يتربى عليه هو سعة الأفق والاستعداد لسماع ما عند الآخرين، ثم القبول أو الرد على وفق ما يصل إليه اجتهاد الإنسان، وهي قضايا -كما قلت- اجتهادية.(255/21)
ضعف التربية
السبب الثالث: هو ضعف التربية عند شباب الإسلام، فضعف التربية وعدم الخوف من الله جل وعلا ورعاية الأمانة التي ائتمنهم الله تعالى عليها، والله الذي لا إله غيره إن الإنسان الذي يحس بواقع الأمة الإسلامية، وآلام المسلمين في كل مكان، والحاجة الملحة إلى التصحيح وجمع الكلمة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يوجد في قلبه من الرغبة الصحيحة في ذلك ما يدعوه إلى الالتزام بمنهج سليم يجمع ولا يفرق، وبعض الناس تحس أنهم فقدوا الشعور بالخوف من الله تعالى في هذا الجانب، وفقدوا الشعور بالأمانة التي ائتمنهم الله عليها، فأصبح لدى بعضهم رغبة وشهوة في مخالفة الآخرين ومنابذتهم واتهامهم بأنهم فعلوا وقالوا وغير ذلك من الأشياء، أو أن يصنع الواحد منهم من الحبة قبة -كما يقال- فيجعل من القضية الصغيرة قضية كبيرة موجبة للمنابذة والتفرق العملي الواقعي، مع أن الأمر قد لا يستدعي كل هذا، فالذي يوجد عنده خوف من الله تعالى يستطيع أن يتغلب على بعض أسباب الخلاف، ولذلك أهل السنة والجماعة على مدار التاريخ كانوا دعاة وحدة وليسوا دعاة فرقة!! وانظر إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في موقفه من خصومه؛ فقد شهروا به، وسبوه وشتموه وكفروه، وألفوا كتباً ضده، وحاولوا حتى أوقعوه في السجن، وأصدروا فتاوى بجواز قتله، ووشوا به إلى السلاطين، وقضى شيخ الإسلام جزءاً غير قليل من حياته في غياهب السجون، وأوذي وطرد وأوذي تلاميذه وأتباعه، وحرقت كتبه، ومع ذلك كان رحمه الله يواجه ذلك كله بروح تلقَّاها عن سلف هذه الأمة، عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، فكان يعفو عمن ظلمه، ويقول: إنه في حل مني، ولا يسمح بالنيل منهم، ويطلب من تلاميذه الكف عنهم وعدم الوقيعة فيهم.
وإذا استشاره أحد من السلاطين في الإساءة إلى الفقيه الفلاني وهو الذين أفتى في الأمس بقتله، قال: لا يجوز ذلك، وإن كان أفتى بقتلي فإنه لا يجوز قتله، وهو مسلم دمه وماله وعرضه حرام وإن كان أخطأ في حقي أو في حق غيري، ولا يصدر منه في حق أحدٍ منهم لفظ التكفير.
فضرب بذلك أروع المثل في الموقف الصحيح لإنسان يخاف الله تعالى واليوم الآخر، ويراقب الله تعالى في هذه الأمة التي هي أمانة في أعناقنا جميعاً.
أما أنه حين يوجد ما يدعو إلى المفارقة والمخالفة، كإنسان صاحب بدعة غليظة، قبوري أو مشرك أو صوفي غالٍ أو رافضي فلا كرامة لهؤلاء جميعاً، لكن حين يوجد أخوك المسلم الذي يتفق معك في الأصول والفروع وهو من أهل السنة والجماعة، وقد يخالفك في موقف عملي، أو في قضية، أوفي رأي حول شخص ثم تجعل من هذا الأمر مدعاة لمفارقته، فهذا لا يجوز.(255/22)
الالتفاف حول شخص معين
السبب الثاني: هو الالتفاف حول شخص معين، فكثيراً ما يجتمع مجموعة من طلاب العلم حول شيخ، أو مجموعة من الدعاة حول داعية يكون نشيطاً وسابقاً في هذا المجال، فيصبح هؤلاء عبارة عن مريديه، ينظرون إلى الدنيا من خلال هذا الداعية، أو الشيخ الذي تتلمذوا على يديه، ويعتبوون أن قوله حق لا يحتمل الخطأ، وإذا رضي عن شخص رضوا عنه، أو سخط على آخر سخطوا عليه! وهنا جاء البيت العربي الذي يقول: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد إذا غضبت عليك بنو تميم رأيت الناس كلهم غضابا فربط هؤلاء الناس عواطفهم ومعتقداتهم وآراءهم وتصوراتهم بفلان، بحيث أن كل ما قال تقبلوه، وقد يقول القول اليوم فيقبلونه، فيرجع عنه غداً فيرجعون، فرفع الأفراد فوق منزلتهم، وفوق قدرهم وهذا انحراف كبير جداً وخطير.
وبعض الكبار أو القادة، من الذين لهم منزلة يفرحون بهذا، يفرح الواحد أن حوله مجموعة لا يخالفون له رأياً، ولا يعملون عملاً إلا بعد الرجوع إليه وأخذ رأيه، ولا يعترضون عليه في قول، سواء كان في قول ما يتعلق بحكم شرعي أو واقعي، أو غير ذلك، يرتاح الإنسان أن من حوله مطاوعون له على طول الطريق، ويأنس لذلك، فيتربى هؤلاء الناس على هذا الأمر، وبالتالي يقع الانحراف.
لكن الإنسان الناصح لنفسه ولدينه، لا يرجو ويعمل على إيجاد الاختلاف والعناد والمناقشة، والأخذ والرد، لكن يربي الناس على أن يكون لديهم اعتزاز بآرائهم وعقولهم، واستقلالية في أشخاصهم، بحيث يعرض عليهم القول ويطلب منهم المناقشة في هذا القول، ولا يلزمهم برأيه وقوله.
كما أن على دعاة الإسلام والشباب بصفة خاصة، ألا يقدسوا شخصاً مهما كانت منزلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يؤخذ منه كل ما قال به، لأنه لا ينطق عن الهوى، أما من دونه فيؤخذ من قوله ويترك كما كان مالك رحمه الله يقول: ما منا إلا راد ومردود عليه، ما منا إلا من يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.
إذاً لا داعي أن ننظر إلى الدنيا كلها من قبل شخص معين، رأينا أنه مخلص مضحٍ متفانٍ قوي الشخصية وبعض الناس قد يعرض لك الباطل بصورة الحق؛ لأنه إنسان قوي الشخصية، بارع الأسلوب، عنده إمكانيات بلاغية وبيانية ومواهب، فإذا تحدث لسانه ويده وشخصيته ومكانته في نفوس السامعين مؤثرة بحيث أنه قد يحول الخطأ إلى صواب.
فينبغي أن ينتبه الداعية إلى أن يستفيد من الكبار والسابقين، لكن لا ينصهر فيهم وتضيع شخصيته فيهم، بحيث يصبح شأنه معهم كما قال أبو حامد الغزالي: كالميت بين يدي مغسله ليس له رأي ولا اختيار، فلا ينبغي هذا!(255/23)
التمسك ببعض الحق وترك بعضه
أولاً: التمسك ببعض الحق وترك بعضه، فقد يجتمع الجماعة أو فئة من الناس على أخذ جزء من الدين، والعناية به وترك ما عداه، فيكون هذا سبباً للاختلاف، لأن غيرهم يأخذ جزءاً آخر، والثالث يأخذ جزءاً ثالثاً وهكذا، ولذلك فقد نعى الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل أنهم نسوا حظاً مما ذكروا: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] فتجد فئة من الناس ينظرون إلى الإسلام على أنه نظام سياسي، فيركزون جهودهم في الدعوة إلى إسلامية السياسة، وإلى دخول المسلمين في مجال السياسة مثلاً، والأحزاب والانتخابات والمجالس، وغير ذلك، ويغفلون عما سوى ذلك، وينظرون -مثلاً- إلى من يُعنى بتعلم العلم الشرعي، والدعوة إلى الالتزام بالسنن والعمل بها، وتصحيح العقائد، ينظرون إليهم على أنهم أناس مغفلون بعيدون عن الواقع مشغولون بالقشور أو بأمور تافهة كما يعبر بعضهم، مع أن هذا كله خطأ، ولا يجوز استخدام مثل هذه الأساليب، فينظرون إلى من يشتغل بجزء آخر من الدين نظرة تنقص، وأنه يفتقد الوعي.
وإذا قلبت الصورة تجد الأمر نفسه كذلك، فتجد -مثلاً- من المسلمين من قد يهتم بالعلم الشرعي فقط، ويغفل عن جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو عن جانب الدعوة إلى الله تعالى، ويغفل عن جانب مقاومة المنكرات، أياً كانت هذه المنكرات، التي تهيمن على واقع المسلمين، ويعتبر أن من الواجب على الجميع أن ينصرفوا إلى تعلم العلم الشرعي، إذاً كل إنسان يمسك بطرف، ومن هنا يوجد الاختلاف: {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] فحين يوجد عند المسلمين جميعاً أهمية العناية والالتزام بجميع أمور الإسلام، هنا يحصل قدر من الاتفاق.
قد يقول قائل: هل من المعقول أن كل إنسان سوف يهتم بالأشياء كلها بقدر متساوٍ؟ أقول: لا.
صحيح أن كل إنسان له مجال يهتم به أكثر من غيره، لكن فرق بين كوني أهتم بهذا المجال، وأعتبر أن غيري قام بعمل آخر جليل، فأنا قمت بفرض كفاية وهو قام بفرض كفاية، وبين أن أهتم بمجال وأعتبره هو الدين وأن غيره ليس له أهمية.
فمثلاً: الذي يشتغل بالجهاد ومنازلة أعداء الله تبارك وتعالى في ميادين القتال، يقوم بفرض كفاية، ليس من حقه أن يلوم ويعاتب من يقوم بفرض كفاية آخر، وهو تعلم العلم الشرعي وتعليمه، فيصفهم بأنهم قاعدون أو متخاذلون أو مرجفون، أو ما أشبه ذلك، والعكس ليس من حق المشتغل بالعلم الشرعي وتعلمه وتعليمه، أن يعتب على القائمين بالجهاد ومقارعة أعداء الله، ويطلب منهم أن يتركوا الجهاد، ويأتوا ليتعلموا هذا العلم، إلا بقدر معين، وهو أننا نقول: هؤلاء الذين يجاهدون لا بد من أن يتعلموا فرض العين الذي يجب على كل مسلم أن يتعلمه، ولا بد أن يتعلموا أحكام الجهاد التي يحتاجونها في كل واقع حياتهم، ويتعلموا العقيدة الصحيحة التي تضمن صلاح مسيرتهم، وما أشبه ذلك، أما كونهم يتفرغون ليكونوا طلاب علم وفقهاء، فليس كذلك.
ونجد -مثلاً- فئة ثالثة، نذرت نفسها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا عمل جليل ليس من حقي كطالب علم متفرغ للتفقه والتعلم والتعليم، أن أنتقد عليهم عملهم واشتغالهم بإصلاح المجتمع، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأطلب منهم أن يتركوا ما هم فيه ليأتوا إلى ما أنا فيه، بل أنا أمدح ما هم فيه، وأثني عليهم، وأعتبر أنهم قاموا بجزء، وأنا قمت بجزء، وأن عملي يكمل ما يقومون به، وعملهم يكمل ما أقوم به، ونحن جميعاً نقوم بالإسلام بشكل إجمالي.
إذاً: جهود المسلمين في هذه الحالة تتكامل ولا تتناقض، وهنا يوجد ما يسميه العلماء اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد، فقد يوجد إنسان ثالث مهمته جمع الأموال، وإنفاقها في سبيل الله، ورابع يبني المساجد، وخامس يؤلف الكتب، وسادس يرد على أهل البدع، وسابع وثامن وتاسع وعاشر، كل هذه الأعمال مطلوبة، وهي أعمال لا ينقض بعضها بعضاً ولا يخالف بعضها بعضاً، فهي من اختلاف التنوع المقبول والمطلوب، بل والذي لا بد منه شرعاً وواقعاً.
فلا بد أن ننتبه أن أول سبب من أسباب الاختلاف هو: {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] بحيث أن المشتغل في علم أو فن أو مجال؛ ينتقد غيره ويعتبر أنه مضيع لوقته، وكثيراً ما تجد النقد في هذا المجال.(255/24)
الآثار المترتبة على الاختلاف العلمي
وأشير إلى بعض الآثار المترتبة على هذا الاختلاف العملي الموجود بين المسلمين، ولا أقول الأخطاء لأن هذه الآثار التي سوف نشير إليها كلها عبارة عن أخطاء.(255/25)
تحطيم القدوة العلمية للشباب
الأثر الرابع: هو تحطيم القدوة العلمية للشباب؛ لأن شباب الأمة لا بد لهم من قدوة علمية وعملية موجودة في الواقع، فلا بد من علماء وشخصيات موثوقة يلتف حولها الشباب، فإذا كان الاختلاف مدعاة إلى أن كل إنسان يتكلم في الآخر سنجد في النهاية أنه لا يوجد في الأمة قدوات علمية تفرح وتفخر بها، لأن هذه القدوات حطمها مخالفوها ولا يوجد إنسان إلا وله مخالف، فتلاميذ الشيخ فلان قد يختلفون مع تلاميذ الشيخ فلان أو مع الشيخ نفسه، وهكذا الداعية هذا مع الداعية الآخر، والمجاهد هذا مع المجاهد الثاني، فإذا انشغل هؤلاء بالتنقيص والحط من قدر ذلك الشيخ الذي يخالفونه والعكس، فمعنى ذلك أننا لن نجد للأمة والشباب قدوة يلتفون حولها ويستفيدون منها.(255/26)
تردي أحوال المسلمين
الأثر الخامس: هو تردي أحوال المسلمين على كافة المجالات العلمية والعملية والدعوية، وشيوع الفشل في أعمالهم نظراً لوجود التنازع والاختلاف، كما قال الله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فقد تنازع المسلمون ففشلوا في كثير من المجالات وحبطت أعمالهم، ولست أعني بحبوط الأعمال حبوطها عند الله، فهذا أمر إلى الله؛ لكن أعني حبوطها في الواقع حيث لم تؤد هذه الأعمال الثمار المرجوة منها، وكثيرٌ من المؤسسات والأعمال والجهود ربما قلت جدواها وثمرتها بسبب تصدي آخرين من الطيبين وربما -أحياناً- من المخلصين لها.(255/27)
انشغال بعض المسلمين ببعضهم عن العدو المشترك
الأثر الثالث: هو انشغال بعض المسلمين ببعضهم عن العدو المشترك كما ألمحت إليه قبل قليل، فلينم العدو قرير العين فإن سهام المسلمين قد وجهت إلى صدورهم ونحورهم، أقول: هذا فيما لو تحقق ما تمناه الأعداء، وإلا فنحن نطمع أن يجمع الله كلمة أهل السنة والجماعة على أمر سواء، وأن تكون سهامهم موجهة إلى صدور عدوهم.
غالباً يدرك الإنسان من عيب القريب ما لا يدرك من عيب البعيد، ولذلك يشتغل بعيب القريب أكثر مما يشتغل بعيب البعيد!! طلاب العلم مجالسهم غالباً مع بعض، وأحاديثهم مع بعض، وأسفارهم مع بعض، ولذلك يدرك بعضهم عيوب الآخرين فتجده يتحدث فيها؛ لأنه أدركها وعايشها، ورأى أنه لا بد أن يوضح ما في فلان من العيب فيشتغل بإيضاح عيب فلان، والعكس بالعكس لكنَّ الآخرين من: الشيوعيين، والعلمانيين والحداثيين والقبوريين والصوفية وأعداء الإسلام، وأصناف المرتدين، بحكم أن طالب العلم والداعية لا يختلط بهم ولا يواجههم لا يدري ما هي عيوبهم، وهو مشغول عنهم ببيئته الخاصة وجوِّه الخاص، وبالتالي ربما سلموا منه ولم يسلم منه أخوه المسلم.
ولذلك يعجبني أن عبد الله بن المبارك رحمه الله سمع رجلاً يغتاب رجلاً في مجلسه، فقال له عبد الله بن المبارك: يا هذا أغزوت الروم؟! قال: لا.
قال: أغزوت فارس؟! قال: لا.
قال: أغزوت السند والهند؟! قال: لا، قال: سلم منك الروم وفارس والسند والهند ولم يسلم منك أخوك المسلم!! وهذه حكمة ينبغي أن يضعها الداعية نصب عينيه، فلا يجوز أن يسلم منك الصوفي، والقبوري، والبدعي، والخرافي والمرتد، ولا يسلم منك أخوك المسلم، فتسلط عليه سهام السب والنقد والتجريح والتنقص بحق وبغير حق؛ حتى لو كان ما تقوله فيه حقاً، لكن ينبغي أن ترفق به وتسلك معه بدلاً من الغيبة أسلوب النصيحة، وما أجمل أن يأتيك إنسان ويقول: فيك كذا وكذا، لكن لو سمعت أن فلاناً يقول فيك هذا في ظهرك لوجدت في نفسك عليه، فالمناصحة هي البديل الشرعي عن الغيبة.(255/28)
فساد ذات البين
فمن الآثار: فساد ذات البين، واختلاف القلوب بين المسلمين؛ وكذلك بعد الاختلاف يوجد سوء الظن، وإذا وجد سوء الظن كان هذا مدعاة إلى التجسس وتلمس الأخطاء والعيوب، ثم تأتي الغيبة وهكذا سلسلة من المعاصي يجر بعضها إلى بعض، ولذلك قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم} [الحجرات:12] ثم قال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] ، ثم قال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا} [الحجرات:12] .
إذاً سوء الظن، ثم تجسس، ثم غيبة، وبطبيعة الحال كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {يسمونها بغير اسمها} أو كما ورد، يعني: سوء الظن هذا لا يسمونه سوء ظن؛ بل يسمونه تحليل وقدرة على ربط الأحداث بعضها ببعض، وفهماً وإدراكاًَ للواقع، فهذا سوء الظن يسمى هكذا! والتجسس: يقال: إنه لمصلحة ولغرض صحيح، ومن باب التحقق والتحري ولا يسمى بالتجسس.
والغيبة: لا يسمونها غيبة إنما يسمونها تقويماً وملاحظات.
وهكذا الكذب لا يسمى كذباًً إنما يسمى تورية أو ما أشبه ذلك.
وهكذا أصبح بعض الناس يرتكبون ما حرم الله بأدنى الحيل، فهذا موجود وهو سبب في استحكام العداوة بين المؤمنين، يقول الله عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] فكم من عداوة فارت بين اثنين أو بين فئتين سببها سوء ظن، أو سوء فهم أو كلمة سيئة.(255/29)
إتاحة الفرصة للعدو للنيل من المسلمين
الأثر الثاني: هو إتاحة الفرصة للعدو للنيل من المسلمين، فالعدو لا شك أنه يفرح حين يجد أن المسلمين أصبحت سهامهم توجه إلى صدورهم، وحينئذ يدرك أن الخطر منهم قد زال، وأنه ليس بحاجة إلى مواجهة المسلمين؛ لأن المسلمين يمكن أن يقضي بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، ويسفك بعضهم دم بعض، ويهتك بعضهم عرض بعض، ويؤذي بعضهم بعضاً، ويهدم بعضهم ما يبنيه الآخر، فلا داعي بأن يشتغل الأعداء بذلك.
وأضرب لهذا مثلاً واقعياً وقريباً: وهو ما تناقلته وكالات الأنباء الغربية مما يسمونه مجزرة -على حسب قولهم- فرخار في أفغانستان والتي حدثت بين فئتين من المسلمين، فقد فرح الإعلام الغربي وهلل وسماها مجزرة، مع أن القتل فيها ليس إلى هذا الحد.
فكبروا القضية، وأصبحوا يربطونها بالخلافات الجذرية والجوهرية بين الجماعات المقاتلة، وبنوا عليها أن الدولة التي أقامها المجاهدون دولة مهلهلة، وأصبحوا يكبرون هذه القضية ويضخمونها، وبالتالي تناقلتها وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام والصحف العربية وكبرتها أيضاً، وقد فرح بها الأعداء لأنها صراع بين فئتين من المسلمين.
ولا أريد أن أتحدث عن هذه النقطة بالذات فالذي أعجبني حول هذه النقطة هو ما قاله أحد المجاهدين هناك تعليقاً على هذا الموقف، قال: إن الأفغان الذين يخوضون المعركة ضد الروس ليسوا مجموعة قليلة من الأفراد؛ من الدعاة أو من طلاب العلم ممن ينتظر منهم أن يكونوا -مثلاً- على مستوى معين، بل الشعب الأفغاني بكامله يقاتل، والشعب بطبيعة الحال ليس كله على مستوى واحد في العلم والفهم والإدراك؛ بل يوجد منهم من هو على مستوى عال من ذلك، ويوجد منهم من هو دون ذلك.
وبالتالي يمكن أن توجد هذه الأخطاء وهذه التجاوزات عندهم بصورة طبيعية، كما أن زعماء المجاهدين حاولوا تلافي هذا الأمر من خلال قيام بعض العلماء بجهود لرأب الصدع، والحمد لله وصلوا إلى نتائج نرجو أن تكون مشجعة إن شاء الله.
وليس موضوع حديثي هو مجزرة فرخار بذاتها، لكن قصدي أن الأعداء يشمتون ويفرحون حين يوجد أي بادرة اختلاف بين المسلمين، ويهولون هذه القضية وينفخون فيها ويحاولون تعميقها، وبعض المسلمين يعرف ذلك لكن يقول: لا يهمني الأعداء وأنهم يفرحون، بل يهمني أنني أدعو إلى الحق، ولذلك لو أن الأعداء ساعدوه فرح بهذه المساعدة، وقال: هم يريدونها لغرض وأنا أستفيد منها لغرض آخر، وينسى ولا يدرك أن هذا الأمر الذي يفرح الأعداء لا بد أن يكون ضد الأمة الإسلامية.(255/30)
العلاج
وربما تقولون بعد هذا كله: وما هو العلاج؟ ولعل مما سيؤثر في عرض العلاج أن الوقت تأخر ولذلك - مع أن العلاج هو أمر مهم- أعرضه بشيء من الاختصار:(255/31)
طلب العلم الشرعي
خامساً: عدم جعل الخلافات ميداناً للحديث العام، فقد يوجد اختلاف وتباين في وجهات النظر في بعض المسائل، وربما يكون في نفس الإنسان على الآخر شيء، وهذا أمر طبيعي لأننا لا نخاطب ملائكة، والناس بشر مهما كان الأمر وحاول الإنسان وكان تقياً نقياً بعيداً عن الغيرة، فقد يوجد في نفسه على زميله شيء بسبب وجيه أو غير وجيه، وهنا ننتقل لنقول: هذا الذي وُجد في نفسك اجعله في إطار خاص بينك وبينه ولا تجعل هذا الأمر ميداناً للحديث العام، وربما تكتبه في مقال، أو تسجله في شريط وتوزعه للناس، أو تكتبه في صحيفة والقضية قضية شخصية، فاجعلها في هذا الإطار الخاص، ولا تجعلها ميداناً لأقوال الناس وأحاديثهم وشماتتهم بك وبه وبغيركما من دعاة الإسلام وأهل العلم.(255/32)
عرض الإسلام بصفة متكاملة
سادساً: لا بد من تربية النفس على مراقبة الله تعالى وسعة الأفق والتماس العذر للمخالف، وهذا أمر في غاية الأهمية، فإذا تربى الشاب على سعة الأفق والمرونة وتقدير موقف المخالف، فإن هذا ضمان -بإذن الله- لتجنب الخلافات العملية الواسعة.
والتماس العذر للمخالف حتى لو لم يوافقه وأصر على رأيه فإنه يلتمس العذر للمخالف.
إن تربية بعض الشباب على أن الأمور إما أبيض أو أسود، وتشبيع عقولهم بأن الرأي الذي يعتقده حق، هذه من أكثر الأشياء منعاً لوجود الوحدة بين المسلمين، فلو نجحنا في سحب هذه القضية نكون قد قطعنا شوطاً كبيراً في جمع كلمة أهل السنة والجماعة على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(255/33)
الاشتغال بمعالي الأمور
سابعاً: لا بد من تجنب التعصب والهوى، وتخل عن ثوبين من يلبسهما يلق الردى بمذلة وهوان ثوبٌ من الجهل المركب فوقه ثوب التعصب وبئست الثوبان فينبغي للإنسان أن يخلع عنه رداء التعصب والهوى، ويكون كل دافعه الحق والتجرد له بغض النظر عمن يوافق أو من يخالف، وما أعز وأندر هذا الأمر! وما أسهله على من يسره الله تبارك وتعالى عليه!(255/34)
إدراك جهود الأعداء ومدى ما وصلوا إليه من التخريب العقائدي والأخلاقي
ثامناً: أهمية العلم الشرعي، وأهمية العلم الشرعي في علاج الخلاف تكمن في أشياء عديدة: منها: أن الإنسان حين يختار قولاً راجحاً ليعمل به في واقع حياته يكون بنى ذلك على اختيار سليم.
ومنها: أن الإنسان يعتني بالدليل فيما يفعل وما يأخذ.
ومنها: أن الإنسان يتربى من خلال العلم الشرعي الصحيح والفقه الصحيح على تفهم وجهات النظر الأخرى؛ فطالب العلم الصحيح الذي عاش مع أقوال العلماء وتراجمهم وحياتهم وسيرتهم، يجد فيهم قدوة حسنة في معاملة الآخرين والتماس العذر للآخرين.(255/35)
تجنب الغيرة المؤدية إلى البحث عن الزلات
تاسعاً: لا بد من الشمولية وعرض الإنسان للإسلام عرضاً بصفة متكاملة، فلا يعرض شيئاً من الدين ويعادي من يعرض جزءاً آخر منه؛ بل ينبغي أن يأخذ الحق كله، فيأخذ ما ذكِّر به كله، ولا يأخذ منه حظاً ويترك حظاً آخر.
وأخيراً: لا بد من قيام الدعاة والعلماء بدورهم في التوعية والدعوة إلى الله تعالى، ونشر العلم الصحيح، وبالذات في توعية الشباب بهذه القضية، وما هي الأشياء التي لا يجوز الخلاف فيها، والأشياء التي يتسع فيها الخلاف، وما هو الموقف الصحيح من الاختلاف، وما هي الأشياء التي يعذر فيها والتي لا يعذر فيها، وما أشبه ذلك، حتى يكون الموقف موقفاً صحيحاً وسليماً وبعيداً عن الانفعال والتعصب والهوى.
هذا وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين على أمر سواء، وأن يوحد صفوفهم علماء ودعاة ومجاهدين، وأن يخلص نياتنا أجمعين، وأن يجعل هدفنا دائماً هو البحث عن الحق والتمسك به، ولا أقول التعصب؛ فالتعصب مرفوض بكل حال، وأن يجعل هدفنا هو البحث عن الحق والتمسك به، وأن ينجينا من التعصب للأشخاص والآراء مهما كانت منزلتهم ومهما كان قدرهم، وأسأله جل وعلا أن يبعد عن المسلمين أسباب التفرق، وأن ينجيهم من كيد عدوهم ومن شرور أنفسهم؛ فإنها أحياناً تكون أبلغ وأوقع من كيد عدوهم، واستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والله تبارك وتعالى أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(255/36)
تجنب التعصب والهوى
رابعاً: لا بد من تجنب الغيرة المؤدية إلى البحث عن الزلات، وهذه قضية ينتبه لها، فإن طلاب العلم والدعاة زملاء عمل واحد، وزملاء ميدان واحد؛ وزملاء الميدان الواحد أطباء كانوا أو مهندسين أو طلاب علم أو مدرسين دائماً توجد بينهم الغيرة، فتجد أنني -غالباً- أنظر إلى زميلي طالب العلم الذي جلست وإياه في ساحات العلم وقاعاته وأعتبر أنه مثلي، فإذا وجدت أنه حصل على نجاح معين تحركت الغيرة في نفسي، وبدأت أبحث عن عيوب فلان، وأحاول أن انتقص من قدره بأي طريقة، حتى لو كان عندي ورع، فربما لا أقول: فلان فيه وفيه، لكن إذا ذكر ومدح عندي في مجلس ربما لا أتقبل هذا المدح، وأقول: الله يستر علينا وعليه، أو جزاه الله خيراً، فقد أقول كلمة ظاهرها الدعاء لكن حقيقتها تضمر شيئاً آخر؛ وتضمر أن عندي كلاماً عن فلان لكن أنا لا أحب أن أقوله، فهذا يوجد.
وقد تجلس مع طالب علم لا يقول حتى هذا الكلام لكن تعرف أن في قلبه نوعاً من الغيرة على زميل آخر له، وهذه الغيرة سواءً كانت غيرة شخصية، أم غيرة أوسع من ذلك فإنها تؤدي إلى البحث عن الزلات، وأحياناً الشيطان يصور للإنسان هذه الغيرة بأنها غيرة على حرمات الله، وبأنها من أجل قيادة المسلمين نحو الأفضل، وبأنها لمصالح معينة، لكن أنا حين أجد أن فلاناً أقام محاضرة أو درساً فاجتمع عنده أعداد غفيرة من الناس وازدحم المسجد، فأغار لأنه زميلي، لكن حين أجد أعداداً هائلة من الشباب تزاحموا على المدرجات الرياضية فلا أغار، فالمفروض أن أغار هناك ولا أغار هنا؛ لأن هؤلاء الذين تجمعوا في المسجد هم أهل الخير وهو زميلي وسيقول الكلام الذي أنا أرغب فيه أو أرضى فيه أو بعض الكلام على الأقل، لكن هؤلاء الذين في ساحات الرياضة، أو يزدحمون على الطائرة للسفر إلى هنا أو هناك، ينبغي أن أغار من تجمعهم على هذه الميادين وأغضب من ذلك.(255/37)
استشعار الضرر الناتج عن هذا الخلاف
فأولاً: لا بد من استشعار الضرر الناتج عن هذا الخلاف والتفرق والتشرذم الموجود بين المسلمين وأهمية الوحدة؛ فإن الإنسان إذا فكر في الموضوع بينه وبين نفسه هداه الله تبارك وتعالى إلى أهمية الوحدة ولمّ الشمل وجمع الصف كلما كان ذلك ممكناً ولم يوجد ما يدعو إلى خلافه.(255/38)
عدم جعل الخلافات ميداناً للبحث العام
ثانياً: الأمر الآخر الذي يساهم في العلاج: هو الاشتغال بمعالي الأمور وتكوين النفس والقيام بالواجبات الشرعية؛ إن الإنسان المشتغل -مثلاً- بالتعلم، والتعليم والدعوة والإصلاح والأعمال الخيرية ليس عنده فراغ يزجيه في الأمور التي لا فائدة منها، ولذلك فمن -وهذا لعلي نسيته- أسباب الخلاف العملي الموجود، الفراغ؛ فبعض الناس يعيشون فراغاً، فليس عنده مجال للتعلم، أو للتعليم، ولا للدعوة، أو لشيء، ولذلك صار يقضي ويزجي وقت الفراغ فيما يسميه بالتقويم، والكلام في فلان وفلان وتصنيف الناس والحط من قدر فلان، والرفع من قدر فلان ونقد هذه الأعمال إلخ.
فالإنسان إذا اشتغل بمعالي الأمور وقضى حياته في جد فإنك لا تجد عنده مجالاً للكلام في فلان وعلان، وفي العمل الفلاني والجهة الفلانية، بل هو مشغول بالأعمال المفيدة المثمرة الناجحة.(255/39)
تربية النفس على مراقبة الله
ثالثاً: إدراك جهود الأعداء ومدى ما وصلوا إليه من تخريب عقائدي وأخلاقي للأمة؛ فإن الذي يعرف الوضع الذي آلت إليه الأمة، وعنده وعي بالواقع، سواءً الواقع العقدي الذي عبث بعقائد الأمة في جماعات من أصحاب الانحرافات الإلحادية والبدعية، أم الواقع الأخلاقي الذي أصبحت الأمة فيه كما يقال: تحت قنبلة موقوتة من أشرطة الفيديو والدعارة، والإعلام الموجه، والأغاني الهابطة، وإتاحة سبل الاتصال إلى غير ذلك من المفاسد التي أصبحت معروفة وهي تفتك بجسم الأمة بشكل قوي وسريع، يدرك أن الأمة بحاجة إلى تدارك عاجل، وأن الاختلاف حول جزئيات وفرعيات ليس هذا أوانه، فنحن جميعاً مجمعون على أن مقاومة الزنا الذي يفتك بالأمة واجب، ومقاومة الفساد العقائدي: القاديانية القبورية الصوفية واجب، وهذا متفق عليه! فلماذا لا نشتغل في هذه الأشياء المتفق عليها ونترك القضايا الفرعية؟ وإن تناقشنا فيها وأخذنا وأبدأنا فهذا لا بأس به، لكن لا تكون هي ميدان خصومة وصراع فيما بيننا.(255/40)
الأسئلة(255/41)
تولد الحقد والبغضاء من أثر الاختلافات الفقهية
السؤال
فضيلة الشيخ: عندما يتناظر شابان في مسألة ما فيها سعة للخلاف قد يصل بينهما حماسٌ للنقاش يصل إلى شيء من الحقد والبغضاء، فما هو توجيهكم لمثل هؤلاء؟
الجواب
هذا بسبب سوء التربية عندهم، وإلا الحقد والبغضاء ليس لها مجال في المناقشات العلمية، وينبغي أن يتربى الشاب على المناقشة والأخذ والعطاء- كما ذكرت- بأريحية وسعة بال، وانفتاح نفس، وبقدر الإمكان يضبط الإنسان نفسه، لكن لو فرض أن النقاش أدى إلى ارتفاع الأصوات، أو جدل، أو مقاطعة في الحديث، أو من الأمور التي من الطبيعي أن تحدث بين الناس أحياناً فعندما ينتهي المجلس ينبغي أن تنتهي هذه الأمور، ويصفي الإنسان قلبه، وهذه يمكن أن يدركها الإنسان عن طريق الاستمرار، وتكرار هذه الأشياء ومعاناتها، ومراقبة نفسه بحيث أنه يزيل من قلبه أي أثر لهذه القضية، وإذا تكررت مثل هذه الأمور، يخف هذا الأمر من نفسه حتى يزول.(255/42)
الاجتهاد عند تعارض الأدلة
السؤال
أحياناً أبحث في مسألة ما وفي أدلتها، فتتعارض عندي الأدلة، ولست من أهل الاجتهاد، فهل أختار ما تميل له نفسي، أم ألتزم المذهب الذي أنتسب إليه، أم ماذا، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما قولك: لست من أهل الاجتهاد، فإن الاجتهاد يتجزأ، صحيح أنك لست بمجتهد مطلقاً، أو مجتهد مقيد، لكن يمكن أن تجتهد في هذه المسألة بالذات، والاجتهاد يتجزأ، أي: ممكن أن تكون مجتهداً في هذه المسألة بمعنى أنك بحثت المسألة حتى وصلت إلى نتيجة، أما كونك لم تصل إلى الترجيح، فهذا راجع إلى أحد أسباب، والغالب أنه يعود إلى ضعف البحث، بمعنى أنك لم تستكمل البحث، فعليك أن تعود مرة أخرى، وتعتمد على مراجع جديدة حتى تجد ما يرجح أحد القولين، وقد يعود إلى السبب الآخر، وهو وجود نقص عندك في إمكانياتك الذهنية التي وهبك الله تبارك وتعالى، فحينئذٍ إذا لم تستطع أن ترجح أحد القولين، فلك أن تقلد في هذه الحالة.(255/43)
التمذهب وتتبع رخص الفقهاء
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يصح أن أنتقل من مذهب إلى آخر تتبعاً للرخص؟ وهل يصح أن أنتسب إلى مذهب دون غيره وأتِّبعه اتباعاً كلياً، ولا أنظر إلى غيره من المذاهب ولو كان صحيحاً؟
الجواب
لا يجوز الانتقال من مذهب إلى آخر على سبيل طلب الرخص؛ ولذلك قال بعض أهل العلم: لو أن إنساناً تتبع رخص العلماء، لاجتمع فيه الشر كله، فلا يجوز للإنسان أن يتتبع الرخص، والمقصود هنا بالرخص على حسب مصطلح السائل ليست الرخص الشرعية؛ لأن الرخص الشرعية مطلوبة، لأن الله يحب أن تؤتى رخصه.
فمثلاً: رخصة رخَّص الله لك فيها تيسيراً على عباده، فأتيتها كالفطر للمسافر إذا احتاج إلى ذلك، أو الجمع إذا احتاج إلى ذلك، فهذا ليس هو المقصود، وإنما المقصود بالرخص حسب ما يقول الأخ أنه يتتبع الأسهل، فمثلاً: إذا أكل لحم جزور، قال: اليوم أنا شافعي، أو مالكي، ثم إذا مس ذكره، انتقل عن مذهب الشافعي إلى مذهب إمام آخر حتى لا يتوضأ مثلاً، وهكذا ينتقل من مذهب إلى آخر يبحث عما يكون فيه إباحة، فهذا لا شك أنه محرم، ولا يجوز، لأن هذا تلاعب في الدين.
نعم! يجوز للإنسان أن يقلد إذا كان عامياً بمن يثق بدينه وعلمه حياً أو ميتاً، فيما أعلم من الأحياء، أو من الأموات، بمعنى: أنه يأخذ -مثلاً- مذهب الإمام فلان من واقع كتبه، ومخلفاته، ويأخذ به، لكن إذا علم الإنسان أن الحق في غير هذا المذهب، فإنه لا يجوز له أن يصر على هذا المذهب، ويترك ما علم أنه الحق؛ لأن الله تعالى أوجب على عباده جميعاً اتباع الحق وقبوله.(255/44)
معنى: اختلاف أمتي رحمة
السؤال
فضيلة الشيخ: ما معنى الحديث الآتي: {اختلاف أمتي رحمة} وما هي درجته؟
الجواب
أما درجة الحديث، فإنه لا أصل له، فلا يعرف له إسنادٌ مطلقاً، لا صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، وليس له إسناد.
أما معنى هذه الكلمة" اختلاف أمتي رحمة"، فالواقع أن الاختلاف عذاب وشر؛ ولذلك لما قيل لـ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[: إن عثمان رضي الله عنه وأرضاه صلَّى بالناس أربعاً بمنى، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله واسترجع -وقال ما يدل على ضيقه من هذا الأمر- ثم لما صلَّى خلف عثمان، صلى معه أربعاً، فقيل له: كيف فعلت هذا؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: الخلاف شرٌ]] .
فالخلاف شر لا شك، لكن هناك اختلاف يعتبر رحمة، وذلك مثل الاختلاف الذي يعتبر اختلاف تنوع، كما أن اختلاف أصحاب المهن -مثلاً- رحمة فكون هذا نجاراً، وهذا بقَّالاً، وهذا كاتباً، وهذا خطيباً، وهذا كذا، وهذا كذا سواءً في الأمور الشرعية، أو الأمور الدنيوية، بمعنى أن المواهب موزعة بين الخلق، فهذا الاختلاف يُعدُّ رحمة، لأن الناس لو كانوا كلهم أطباء، أو مهندسين، لفرغت المجالات الأخرى عمن يقومون بها، فبهذا المعنى تصبح الكلمة صحيحة.(255/45)
من آداب الفتيا
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يجوز للشاب منا أن يقول حين يطرح موضوعاً معيناً في الفقه، أو غيره، يقول: أنا أرى كذا وكذا، ولكن دون دليل واضح عنده، إنما احتاج الموقف دراية؟
الجواب
لا ينبغي لإنسان أن يقول قولاً بدون دليل؛ لأن هذا من القول على الله بغير علم، والموقف لا يحتاج إلى شيء اسمه: الله أعلم، ولا أدري، فإذا احتاج الموقف، يقول: الله أعلم أو لا أعلم، والحمد لله ما ضاقت الأمور، ولم يعدم المسلمون من يُرجِّح، أو من يُفتي في هذه المسألة بعلم، فلا ينبغي اللهم إلا في حالات نادرة، والنادر لا حكم له، مثل: قضايا عاجلة، أو تتطلب حلاً، لكن هذه القضايا في حينها لها حكمها الخاص، إنما الوضع العام عند الناس من كونه بحث وسأله السائل، ويحث عليه أنه لابد أن يعطيه نتيجة من هذا البحث فيقول: إن الموقف اضطرني إلى أن أرجح، ففي النهاية ممكن يقول: الله أعلم، أو لا أدري أو سوف أسأل لكم، أو أبحث، أو يسأل أحدهم عالماً آخر ليفتيه بهذه المسألة.(255/46)
ضرب أقوال أهل العلم بعضها ببعض
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هناك طائفة من الناس يضرب أقوال أهل العلم بعضها ببعض عن طريق تكرار السؤال على أكثر من عالم، فهل هذا الموقف سليم؟
الجواب
هذا ليس موقفاً سليماً مطلقاً، وهذا في الواقع فيه إخلال بالشرع، وفيه إهدار لكرامة أهل العلم، فكونك تسأل فلاناً وفلاناً وفلاناً، أضعت أوقاتهم، وأجهدتهم في الفتيا، وقد يكون العالم عنده جماعة يسألونه سواءً في مجلس حديثه، أو عن طريق الهاتف، فأخذت جزءاً من وقته وجهده دون فائدة، كما أنه فيه إساءة للعالم نفسه، لأن بعض الأغبياء والجهلة إذا قال له العالم: كذا وكذا، قال: أنا سمعت من الشيخ الفلاني: كذا وكذا، وسمعت من الشيخ الفلاني: كذا وكذا، فإذا كنت سمعت، فلماذا تسألني؟(255/47)
التعصب للمشايخ
السؤال
فضيلة الشيخ: ما رأي فضيلتكم في التعصب في وقتنا الحاضر على حساب أن هذا الشيخ، أو العالم من منطقتهم، أو من مدينتهم هل هو على حق، أم على غيره؟
الجواب
لاشك أنه لا ينبغي، فالعالم إذا برز بعلمه؛ فهو ملك للأمة كلها، ولا أعتقد أن طالب العلم تخطر في باله هذه الأمور، لكن هناك أشياء طبيعية عفوية، فمثلاً: لما يوجد عالم في بلدي، من الطبيعي أن عنايتي بهذا العالم وقربي منه واستفادتي وانتفاعي بما لديه وتوافقي معه حتى من ناحية الطبع، ستكون أكثر، فهذا أمر لا حرج فيه، لكن ليس على سبيل التعصب في الفتوى.(255/48)
المباهلة في المسائل الفقهية
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد يوجد بعض الأشخاص إذا اختلفوا في مسألة فقهية، أو غيرها من المسائل الأخرى، ربما يصل الأمر إلى المباهلة، فهل تشرع المباهلة في أي مسألة فقهية خلافية؟
الجواب
المباهلة وردت في القرآن الكريم مع أهل الكتاب: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم نصارى نجران إلى المباهلة، فأبوا، فقال: {لو أجابوا، لرجعوا، لا يملكون أهلاً ولا مالاً} وأما المباهلة فيما سوى ذلك، كالمباهلة في القضايا الواضحة التي الحق فيها واضح، والدليل جليٌ لا إشكال فيه، فهي واردة بعد إقامة الحجة على المخالف، واستنفاذ الوسع والطاقة، ولكن ينبغي أن يعلم أن هذه المباهلة لا ينبغي أن تكون في قضايا يختلف حولها الناس، أو في جزئيات، أو في أمور خلافية يسيرة، لأن المباهلة -أصلاً- لا تقع إلا في قضية قد اشتد خطرها على الناس، وإلا ليس هناك ما يدعو إلى المباهلة، هل كل من يعتقد قولاً باطلاً سوف آتي لأباهله؟ إذاً الإنسان يبقى ليس له شغل إلا المباهلة فقط، وهذا ليس مسلكاً علمياً، ولا شرعياً، إنما المباهلة تكون في القضايا مع المسلمين في ما إذا وجدت قضية -وهذا في حدود علمي- عم خطرها وضررها.
فمثلاً: إنسان أعلن بدعة على الناس وانتشرت انتشار النار في الهشيم، وتأثر بها الناس، وأبى الرجوع عنها وأصر، فأراد عالم من العلماء الربانيين الذين طوقهم الله تعالى من سعة العلم والذكر والمكانة والفضل الشيء الكثير أن يوقف تيار هذه البدعة والضلالة عند حده، وناقش هذا المبتدع، ناقشه وأفحمه وأقام عليه الحجة، فأصر على بدعته، فحينئذٍ يباهله لتقوم الحجة على الناس في هذا الأمر؛ لأنه إذا باهله، فهلك المبتدع، عرف الناس أن ما كان عليه خطأ، فرجعوا عنه.(255/49)
الاختلافات الفقهية وأثرها على الناس
السؤال
فضيلة الشيخ: أنا أسأل أحد العلماء من علمائنا، ثم يجيبني عن سؤالي، ثم أسمع جواباً آخر مخالفاً للجواب الأول من شيخ آخر، ماذا أفعل مع أنهما جميعاً في منزلة واحدة؟
الجواب
لابد من وجود نوع من الترجيح، فإذا استطاع الإنسان أن يرجح بين هذين العالمين بأي سبب من الأسباب المقبولة رجح، وأخذ بقول العالم الذي ترجح لديه، لكن لو فرض جدلاً أنه لم يستطع أن يرجح بأي وجه من الوجوه، فيأخذ بقول العالم الأول الذي سأله.(255/50)
الفتيا وخطرها
السؤال
فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله وأنا أُدرِّس حلقة وأحياناً يسألني أحد الطلاب عن مسألة فقهية، وأنا أعرف الجواب، ولكني أسمع من بعض المحاضرين عدم التجرؤ على الفتيا، فأرجو من فضيلة الشيخ وضع الضوابط التي يشرع للإنسان فيها أن يقول ما يعرف من المسائل الفقهية والإجابة عليها؟
الجواب
أما مسألة التجرؤ على الفتيا، فلا شك أن التحذير منها قد ورد في نصوص وأقوال كثيرة مثل: {أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار} وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتدافعون الفتيا حتى تعود إلى الأول، وإنما الجراءة على الفتيا هي فيما لا يعلم الإنسان، فإذا سئل الإنسان عن مسألة لا يعلمها، فيقول: الله أعلم، أو لا أعلم، أما لو كان يعلم سواءً علمها عن طريق البحث، أو عن طريق السماع من الشيوخ وهو علم أكيد وواضح ليس فيه التباس عنده، وسئل عن هذا العلم، فيجب عليه أن يبينه، ولا يجوز له أن يكتمه، فإن: {من سُئل عن علم فكتمه، ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من نار} وهذا يؤكد على أن الإنسان إذا سُئل عن مسألة فقهية، أو غير فقهية، وهو يعرف الجواب، فيجب أن يقوله، وهذا لا يعتبر من التسرع، أو التعجل في الفتيا؛ إنما التسرع لو أن الإنسان سمع أن المسألة فيها خلاف، ثم يقول: الراجح كذا، أو يظهر لي كذا، والأقرب كذا، وليس لديه دليل، أو يفتي باجتهاده، أو يقول: لا أعلم فيها شيئاً؛ لأنه لا يعرف الحكم أصلاً، أو يقول: بحسب ما هو معروف والمتداول عند الناس أنهم يفعلون هذا الشيء، ولم يسبق أن أحداً استنكره، فأفتي بأن هذا لا بأس به لهذا السبب، فهذا من التجرؤ على الفتيا، أما كونه يفتي لأنه عرف المسألة هذه وقرأها وبحثها، فهذا لا يعتبر تجرؤاً.(255/51)
ألوان من الجود
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن بعض أنواع الجود وهي: الشجاعة والكرم والجاه، فتحدث في البداية عن الشجاعة وضرب أمثلة لشجاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة عن شجاعة علي، ومن علماء السلف عن شجاعة ابن حزم، ثم بعض أثرياء المسلمين رغم ما يمر بالمسلمين من مآسٍ، ثم تكلم عن الجود بالجاه وهو الشفاعة، فذكر مثلاً لها من أحواله عليه الصلاة والسلام، رغم انشغاله العظيم بأمور الأمة، والذي لم يمنعه من الشفاعة والاهتمام بأي فرد من أفراد الأمة، وقبل الختام تكلم الشيخ عن اقتداء الشيخ عبد العزيز بن باز بالنبي صلى الله عليه وسلم في شفاعته وخلقه.(256/1)
الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، الذي حمل الرسالة، وبلغ الأمانة، وكشف الله تعالى به الغمة، وجاهد في الله تعالى حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه الله تعالى عنا خير ما جزى نبياً عن أمته يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
يحسب كثير من الناس أن القدوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنما تكون في جزئيات وتفاصيل الأعمال الظاهرة، ويغفلون عن أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأعمال الباطنة، التي هي أعمال القلوب أعظم وأولى، فإن ربه جل وعلا وصفه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فأولى بالمسلم أن يقتبس من نور هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الخلق العظيم، ما يكون زاداً له في هذه الدنيا وسعادةً له في الآخرة.
ومن الأخلاق التي بعث بها الرسول عليه الصلاة والسلام خلق الكرم والجود؛ حتى إنه لا يدخل الجنة بخيل، والسخي الكريم قريب من الله تعالى، وقريب من الناس والجنة، والبخيل بعيد من الله تعالى بعيد من الجنة.
وهكذا المسلم في قلبه إعراض عن هذه الدنيا، وإقبال على الآخرة، يتمثل في كرمه وجوده وسخائه، فلننظر كيف يكون الكرم، وكيف يكون البذل والجود، وكيف يكون العطاء.(256/2)
جوده بنفسه عليه الصلاة والسلام
بلا شك أن أغلى ما يملكه الإنسان روحه التي بين جنبيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كريماً في بذل نفسه ومهجته وروحه في ذات الله عز وجل، حتى إنه أُوذي في الله ما لم يؤذَ أحد، حتى إن زعماء قريش أتوه صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساجدٌ أمام الكعبة -في هذا المكان الطاهر المقدس، الذي تأمن فيه حتى الحيوانات- فذهبوا إلى جزور قد ذبحت بالأمس، فأخذوا سلاها ووضعوه على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، فلم يرفع رأسه، حتى ذهب أحدهم إلى بنته فاطمة وأخبرها الخبر، فجاءت وأزالت السلا عن ظهر أبيها عليه الصلاة والسلام، وهي تسبهم وتبكي، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها: {اصبري يا بنية فإن الله مانع أباك} ثم قام صلى الله عليه وآله وسلم واستقبل الكعبة وقال: {اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، وشيبة، والوليد، وفلان وفلان} وذكر سبعة، قال الراوي: فلقد رأيتهم والله صرعى في القليب -قليب بدر- ذبحوا في معركة بدر كما تذبح الشياه، ثم جروا بعدما انتفخت جثثهم إلى القليب وألقوا فيه، وأتبعوا لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين.
وضُرب صلى الله عليه وآله وسلم في عرقوبيه حتى سال الدم من ورائه، وشج وجهه صلى الله عليه وآله وسلم، وكسرت رباعيته -سنه- في معركة أحد، فكان يقول: {كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم فأنزل الله تعالى قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] } بل أشد من ذلك وأعظم أنه عرض نفسه صلى الله عليه وآله وسلم للموت في سبيل الله، وكان يطلب الموت مظانه، حتى إنه قال: {والله لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} وفي إحدى المعارك ودّع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الذين استشهدوا في تلك المعركة مضرجين بدمائهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشهدهم وجثثهم وقد صبغت بهذا اللون الأحمر من الدم، تمنى أن يكون نال مثل مصيرهم وقتل في تلك المعركة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: {والله لوددت أني غدرت مع أصحابي بحصن الجبل} أي: تمنيت أني قتلت كما قتلوا، إعلاناً أن هذا الجسد وقف لله تعالى، عليه (ختم الوقفية) فلا يصرف إلا في مرضاة الله؛ لهذا لا غرابة أن يقول الصحابة رضي الله عنهم: [[كنا إذا احمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم]] .
وفي يوم من الأيام أصابهم في المدينة فزع وسمعوا أصواتاً فتوقعوا أن هناك هجوماً مباغتاً مفاجئاً على المدينة، فخرج الناس الشجعان والأبطال الأشاوس، خرجوا بعدما استعدوا بلأمتهم وركبوا خيولهم، فلما خرجوا خارج المدينة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقيهم راجعاً، وقد أتى على فرسٍ جوادٍ قد رجع واطمأن من الأمر، وقال: {ما رأينا من فزع، وإن وجدناه لبحراً} هذا الفرس الذي عليه الصلاة والسلام كالبحر يهتز ويسرع ويعدو براكبه: {وما هناك من فزع فلن تراعوا فعودوا إلى بيوتكم} فعادوا فسبقهم صلى الله عليه وسلم إلى الاطمئنان على وضع المدينة.
لكن أغرب وأعجب من ذلك ما حصل في معركة حنين فقد ذهب المسلمون وعددهم اثنا عشر ألفاً، في عماية الصبح والليل والظلام، وقد لقيتهم قبيلة بني نصر وهوازن وهم من العرب الذين يملكون قوة وقدرة في الرماية عجيبة، وقد استعدوا للمسلمين، فلما نزل المسلمون في الوادي، لقيتهم هوازن بسيل من السهام، فضربت المسلمين ضربة مباغتة ومفاجئة، ففروا كلهم - الإثنا عشر ألفاً- انهزموا وهربوا، أما محمد عليه الصلاة والسلام فظل ثابتاً في موقعه كأنه جبل لا يتزحزح، ولم يثبت معه إلا أربعة فقط هم العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا عباس ناد أصحاب الشجرة، فناداهم العباس فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وظلوا يقاتلون دونه، فثبت صلى الله عليه وآله وسلم يوم فر الأبطال الشجعان، وكان لا يتزحزح ولا يتراجع ولا يتأخر إلى الوراء أبداً، بل يهجم على الموت فيفر منه، وما ذلك إلا لإيمانه المطلق بأن الأعمار والآجال بيد الله: {وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ولهذا ربى وعلم وأعدَّ أصحابه على الشجاعة.
فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه نموذج من الشجعان، خرج إليه في معركة خيبر رجل من اليهود يقال له: مرحب، كأنه قطعة من الموت وهو يرتجز والسيف في يده يهزه ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحياناً وحيناً أضرب إن حماي لحمي لا يقرب فخرج إليه علي بن أبي طالب حين تأخر الأبطال كلهم وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره نكيلكم بالصاع كيل السندره (والحيدرة هو الأسد) فتوجه إليه وقطعه بالسيف نصفين، وكان يقول وهو في المعركة رضي الله عنه: أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قُدِّر أم يوم قدر يوم لا قُدِّر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر انظر كيف هذا الكلام المنطقي والسليم، يقول: لماذا أهرب من المعركة، أأهرب من المعركة لأن أجلي مكتوب فيها؟ إذا كان أجلي مكتوباً فلن ينفعني الفرار، قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب:16] أم أهرب من المعركة وأنا أعلم أن أجلي غير مكتوب فيها، إذاً فلن أموت وأجلي لم يأت بعد، فلا معنى للفرار أبداً، وهذا لون من أرقى أنواع الشجاعة والجود! إنه الجود بالنفس! قال الشاعر: يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود واسأل نفسك يا أخي الكريم وأنت المسلم! ما الذي يمنعك من الصبر والشجاعة في سبيل الله، الآن القضية ليست قضية معركة دامية يدعى المسلم إلى نزولها، بل القضية قضية معركة الكلمة؛ كلمة الحق، ما الذي يمنع المسلم من أن يقول كلمة الحق ويجهر بها؟! وما هو الذي جعل الكلمة تتلجلج في أفواه الناس؟! وما هو الذي زرع الرعب والخوف في قلوبهم؟! حتى إنهم إذا اجتمع منهم أربعة أو خمسة؛ ولو كانوا في مجلس فقال أحدهم كلمة الحق قال له الآخر: يا فلان! اسكت فإن للجدران آذاناً، ما هو الذي جعل الرعب يفتك بقلوبنا؟! إنه حب الحياة! وقد قال الشاعر: يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول أما لو علم الإنسان أن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر فلن يكون في فمه ماء، بل سيكون قائلاً بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، ولن يقدم على هذا من أجل أحد، ولن يؤخر -أيضاً- من أجل أحد، وقد قال: الإمام ابن حزم وهو من الشجعان الصرحاء في الحق: قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن فقلت هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن وأنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن(256/3)
جوده عليه الصلاة والسلام بالمال
وهناك لون آخر من ألوان شجاعته صلى الله عليه وآله وسلم، أو من ألوان كرمه صلى الله عليه وآله وسلم وهو: كرمه بالمال، وكرمه بالمال لون آخر لا يكاد يأتي عليه الكلام، حتى إنه ليصدق عليه قول القائل: هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله وقد خرج عليه الصلاة والسلام في يوم عليه بُرد لا يملك غيره، بُرد جميل أهداه إليه رجل فلبسه عليه الصلاة والسلام، فلما خرج به على أصحابه فرحوا بذلك وسرّوا؛ لأنه يسرهم أن يلبس مثل هذا عليه الصلاة والسلام، فجاء رجل فقال: {يا رسول الله: اكسني هذا -أعطني إياه- فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم ودخل بيته فخلعه، ثم خرج وأعطاه هذا الرجل فأقبل الناس عليه يلومونه ويعاتبونه ويقولون له: تعلم أننا فرحنا بهذا، وأنه لا يملك صلى الله عليه وآله وسلم غيره، وتعلم أنه لا يرد أحداً سأله ثم تطلبه منه، قال: إنني ما طلبته منه حتى ألبسه إنما طلبته منه عليه الصلاة والسلام حتى يكون كفني (أي حتى أكفن فيه إذا مت) قالوا: فكفن فيه رضي الله عنه وأرضاه} .
فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، وربما استدان فأعطى، وربما اشترى شيئاً فدفع أضعاف ثمنه، وربما اشترى شيئاً فرد الثمن ورد المشترى نفسه، كما فعل مع جابر رضي الله عنه: {حينما اشترى منه جمله ثم أعطاه القيمة، وقال: خذ جملك ودراهمك فهو لك} فأعطاه الجمل والدراهم صلى الله عليه وآله وسلم.(256/4)
وضع فقراء المسلمين
ألا يسوؤك أن تعلم أن أفقر الشعوب على الإطلاق هي الشعوب الإسلامية، حتى إنني سمعت بنفسي تقريراً عن بعض الأماكن التي يوجد فيها مسلمون، يهربون من جحيم الحروب فيقام لهم ملاجئ، يقول: إن هذه الملاجئ فيها من البؤس والمرض والجوع والعطش ما الله به عليم، حتى إنهم يقفون طوابير لا يرى الإنسان نهايتها، ويجلس الواحد منهم في الطابور اثنتي عشرة ساعة، لا ينتظر ملابساً ولا خبزاً له ولأولده ولا علاجاً بل ينتظر جرة من الماء لا تكفيه ولا بعض اليوم، ثم يضطر من الغد ليقف في الطابور نفسه من أجل أن يحصل على حصة الغد من الماء، من هؤلاء؟ هؤلاء المسلمون، وأقسم بالله لو كانت هذه الشعوب التي تعاني هذا البؤس والفقر، من شعوب الصليب أو من شعوب اليهود، لوجدت المؤسسات الضخمة والدول والأعمال والأثرياء يقومون بجهود كبيرة، ويجمعون الأموال، ويخصصون العمارات، وقد رأينا النصارى يفعلون ذلك، وآلاف المؤسسات التنصيرية لا هم لها إلا إغاثتهم، بل إن النصارى يغيثون حتى هؤلاء المسلمين ولكن يعطونهم العلاج في يد، ويعطونهم الإنجيل في اليد الأخرى.
فأين أنتم يا أثرياء المسلمين؟! وأين أنتم يا أنصاف الأثرياء؟! وأين أنتم يا أرباع الأثرياء؟! إنكم مسئولون، ما لكم لا تنصرون إخوانكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل ربما يوجد في جيرانكم اليوم في هذه البلاد ولا أقول في غيرها، ربما يوجد الجياع كثيراً، وقد وقفنا على أحوال كثيرة من أحوال الجياع وقد يوجد في البيت عشرات من الرجال والنساء والأطفال ولا يوجد من يقوم عليهم أبداً، ولهم أحوال إذا سمعها الأثرياء قالوا: ما كنا نتصور أن يوجد مثل هذا؛ لأن كل إنسان يقيس على نفسه، يرى أنه يعيش في رغد من العيش، وفي بحبوحة ونِعَم، وبيت واسع، فيظن أن الناس مثله، ولا يتحسس آلام ومصائب هؤلاء المسلمين المحتاجين هنا وهناك.(256/5)
جوده في زكاة البحرين
في يوم من الأيام جاءت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أموالٌ كثيرة من الذهب والفضة، من البحرين، فجاءه الأنصار وصلوا معه صلاة الفجر ينتظرون منه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآهم تبسم وقال: {أظنكم سمعتم بالمال الذي قدم من البحرين قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم} ثم أعطاهم صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء العباس رضي الله عنه إلى أكوام من الذهب والفضة فأخذ في حجره وحثا ثم حثا ثم حثا، فذهب ليقوم فلم يستطع أن يقوم من ثقل ما حمل، فطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يساعده فقال له: لا، لا أساعدك.
فطلب من رجل آخر أن يساعده، فقام العباس رضي الله عنه، وقد ملأ حجره من هذا الذهب، شيء عجيب.(256/6)
جوده في غنائم معركة حنين
وفي معركة حنين آل الأمر إلى انتصار المسلمين فغنموا أموالاً كثيرةً جداً، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أقوام من الذين هم حديثو عهد بالإسلام، فهم مسلمون يحتاجون إلى تأليف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة من الإبل، أعطى عيينة بن الحصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة أخرى، وأعطى العباس بن مرداس خمسين، فجاء العباس بن مرداس وهو شاعر فحل؛ وقال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاتباً له لماذا تعطيني خمسين وتعطي هؤلاء مائة فقال: يا رسول الله! أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع أي الشيء الذي أنا حصلت عليه بشجاعتي أعطيت الأقرع وعيينة ولم تعطني أنا: فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع يقول آباؤهم ليسوا أحسن من أبي: وما كنتُ دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لا يرفع آباؤهم ليسوا أحسن من أبي، وهم ليسوا أحسن مني، ومن خفضته اليوم لا يرفع إلى يوم القيامة، فأكمل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة، وبقي الأنصار رضي الله عنهم، فلم يحصلوا على ما حصل عليه هؤلاء، وهم المسلمون القدماء والمجاهدون البواسل والشجعان، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغطاً في مجالسهم وأحاديثهم، فجمعهم في خيمة ثم أتى إليهم وقال: {لا يأتي إلا أنصاري} فلما اجتمع الأنصار، جاء عليه الصلاة والسلام.
ماذا تتصور أن يعطي الأنصار؟ المال؟ انتهى وما بقي في يده مال؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ودياناً من الإبل والبقر والغنم وغيره، فماذا بقي لهم؟ فجاءهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاهم شيئاً آخر أثمن من الذهب والفضة، وأثمن من الإبل، فخطب وقال: {يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى.
قال: وعالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى، قال: ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: بلى.
فلله ولرسوله المن والفضل، قال: مقالة بلغتني عنكم وحديثاً سمعته منكم، في أموال أو لعاعة من الدنيا أعطيتها أقواماً أتألفهم على الإسلام، -من أجل أن أؤلف قلوبهم على الإسلام- ألا يسركم أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من الدموع، وهم يقولون: رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً، رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً} تكفينا أنت يا رسول الله، تكفينا أننا سوف ننقلب وأنت بين أظهرنا، وأنت عندنا نذهب بك إلى رحالنا فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى السماء، وقال: {اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} كرم لا حدود له، إذا انتهى المال جاد بألوان أخرى من الأعطيات، كما رأيت عليه الصلاة والسلام.
وكرمه صلى الله عليه وسلم بالمال شيء عجيب! حتى إنه لا يقول: لا.
أبداً صلى الله عليه وآله وسلم: ما قال "لا" قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم حتى إنه يعطي أحياناً أناساً قد لا يكونون مستحقين في نظر الإنسان العادي، ويترك من هو أحق منه في نظره رعاية للمصلحة، كما في حال المؤلفة قلوبهم، فهذا شأنه صلى الله عليه وسلم.(256/7)
بخل بعض الناس في الإنفاق
قارن جود النبي صلى الله عليه وسلم بأحوال كثير من الأثرياء والموسرين من المسلمين اليوم، الذين مد الله تعالى لهم في الأجل، ووسع لهم في الرزق، وأعطاهم وأكثر جل وعلا.
ومع ذلك تجد الواحد منهم إذا أراد أن يخرج زكاة ماله انقبضت يده، وبعضهم قد يسهل عليه إخراج الزكاة؛ لأنها حق مطلوب، لكن إذا أراد أن يتصدق ثقل عليه ذلك، حتى إنه يكاد ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: {مثل المتصدق أو المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان أو جُنتان} ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل المنفق الكريم كلما أراد أن ينفق اتسعت هذه الجبة، حتى تعفي أثره، وأما ذلك البخيل فإنها تتضايق عليه حتى لا يستطيع أن ينفق، فيقبض يده، حتى ذكر الله تعالى من علامات المنافقين أنهم يقبضون أيديهم، يعني: بالعطاء.
ألا تتذكر أيها المسلم قول سيدي وسيدك محمد عليه الصلاة والسلام: {يد الله ملئا لا تغيضها نفقة يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق ربنا جل وعلا منذ أن خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه جل وعلا ولم ينقص منه شيئاً، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: {لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر} تصور ماذا ينقص؟ لا ينقص شيئاً.
فالله الجواد أعطاك ما أعطاك، وابتلاك فيما ابتلاك، لينظر أتشكر أم تكفر قال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] .(256/8)
إخلاف الله للمنفقين
فيا أيها الأخ الكريم الذي أعطاك الله من الرزق وألوانه ما أعطاك! حتى لو لم تكن من الأثرياء الكبار، لو كنت من أصحاب الدخل المتوسط، ضع بين عينيك أن المعطي الكريم في السماء، وأن موزع الأرزاق في السماء، وأنه إذا علم من قلبك أنك كريم جواد سوف يوسع لك في الرزق، وكلمة الله تعالى لا تخلف أبداً.
وفي صحيح مسلم -رحمه الله- ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصة: {رجل من بني إسرائيل، كان يمشي فرأى سحابة في السماء، فسمع صوتاً في السحابة يقول: اسق حديقة فلان -ينص على شخص معين- فمشى هذا الرجل حتى رأى السحابة توسطت المزرعة فأفرغت كل ما فيها في تلك المزرعة، فدخل المزرعة فإذا رجل داخل المزرعة يسوي الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ فقال: اسمي فلان، فذكر الاسم الذي سمعه هذا الرجل في السحابة، فقال: بالله عليك ماذا تصنع؟ قال: ماذا تريد بي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السماء يقول: اسق حديقة فلان، فأحببت أن أعرف ماذا تصنع؟ قال: لا شيء، أنا عندي هذا البستان إذا خرجت غلته قسمتها ثلاثة أثلاث: ثلث آكله أنا وأولادي، وثلث أرده فيها، وثلث للفقير وابن السبيل والمسكين} .
فلا توجد معجزة، والأمر واضح، فعرف أن الله تعالى سخر السحاب بل أرسل ملكاً مخصصاً يسوق السحاب إلى حديقة فلان بن فلان، لماذا؟ لأن هذا برنامجه، لماذا لا تجعل أيها المسلم برنامجك مثل برنامج صاحب الحديقة، ثلث ما يعطيك الله من المرتب إذا لم يكن عليك ديون تستغرق المرتب أو غيره، تصرفه في سبيل الله تعالى للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والمجاهدين، وأعمال الخير من طباعة الكتب وطباعة الأشرطة والقيام بشئون الدعوة إلى الله، ومساعدة المسلمين المحتاجين من الفقراء والمستضعفين والمنكوبين والمهاجرين وغيرهم، ممن يعانون اليوم ألواناً من الفقر لا يعلمها إلا الله.(256/9)
جوده وكرمه بجاهه صلى الله عليه وسلم
لون ثالث من ألوان الكرم الذي يجب أن نقتدي فيه بسيد الكرماء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو: كرمه صلى الله عليه وسلم بالجاه، حيث كان يبذل جاهه فيما ينفع الناس، فيشفع حتى إنه يشفع صلى الله عليه وسلم أحياناً في أمور قد يظن الإنسان العادي أنها لا تحتاج مثل هذا، خذ مثالاً: يوماً من الأيام كانت هناك جارية اسمها بريرة -أمة- وهذه الجارية لها زوج اسمه مغيث، فعتقت بريرة فلما عتقت رفضت زوجها هذا؛ لأنه عبد وهي حرة، فرفضته، وقالت: لا أريده.
وكان شيخاً كبير السن، على حين أنه كان متعلقاً بها قد علقها فؤاده وأحبها، كأشد ما يكون الحب فلا يصبر بدونها أبداً، فلما رفضته أصابه من الهم والغم ما أصابه، حتى إنه يركض وراءها -كما في الصحيح- في شوارع المدينة ودموعه تنحدر على لحيته يريدها، فهذه الزوجة قد أحبها ولا يصبر بدونها، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: هذا حال مغيث.
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـ بريرة فجيئ بها إليه، فشفع لـ مغيث وقال: {لماذا لا تعودين إلى مغيث؟ فإن شأنه وحاله كذا وكذا وكذا، ارحميه وعودي إليه، قالت: يا رسول الله هل تأمرني -أي: هل هو أمر إلزام؟ - قال: لا.
-ليس أمر إلزام- إنما أنا شافع قالت: لا حاجة لي به} .
فهي لا تحبه، فهذا من شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم ببذل جاهه فيما ينفع الناس.
وطالما بذل جاهه صلى الله عليه وآله وسلم في أشياء كثيرة مما يحتاج إليها المسلمون خاصة من الضعفاء.(256/10)
الجود بالجاه في هذه الأيام
وما أكثر ذوي الجاه اليوم في مجتمعاتنا، ممن لهم جاه قد يكون جاهه بسمعة، وقد يكون بمكانة اجتماعية، أو بوظيفة، وقد يكون بمال وغنى وثراء، فهذا الجاه هل تعلم أن له زكاة مثلما للمال زكاة، وزكاة هذا الجاه أن تشفع شفاعة حسنة، فيكون لك كفل منها، فتشفع لمن ليس له جاه، فتشفع لهذا فيتوظف، ولهذا فيساعد، ولهذا فيرفع عنه ضُراً أصابه، بل تشفع لهذا لإزالة الظلم الذي لحق به، وفي أحيان كثيرة يقع على الناس ألوانٌ من المظالم لا يمكن أن ترفع عنهم إلا بشفاعة الشافعين، فماذا يضيرك أن تكون شافعاً في رفع ظلم عن مظلوم، أو إزالة ضر عن مضطر، أو إيصال حق إلى صاحبه، ويكون لك كفل من هذه الشفاعة، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.(256/11)
جوده بالوقت عليه الصلاة والسلام
ومن ألوان جوده وكرمه صلى الله عليه وآله وسلم، جوده وكرمه بوقته، فالوقت الذي كان يستغرقه عليه الصلاة والسلام في جلائل الأعمال، راكعاً ساجداً أو قائماً أو عابداً أو ذاكراً لله تعالى، كان يبذل هذا الوقت فيما يحتاجه المسلمون، حتى إنك تتعجب! الآن الواحد منا ربما لا يكون عنده عمل أصلاً، إنما يتعلق ببيته ووظيفته، ومع ذلك لو طلب منه أحد ساعة أو نصف ساعة؛ قال: والله يا أخي أنا مشغول جداً، وليس عندي وقت.
ماذا عندك؟! هل أنت تدير امبراطورية من الامبراطوريات؟! وهل عندك شركات عالمية؟! الأمر أهون من ذلك، ولكن مع هذا تجد وقت الإنسان منا مبرمجاً إلى حدٍ بعيد، بحيث تجده يعتذر عن أقل الأمور.
أما محمد صلى الله عليه وسلم النبي المختار الذي عنده من الأعمال الشيء العظيم حتى إن عائشة رضي الله عنها تقول: [[ما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان أكثر صلاته وهو جالس، بعدما حَطَمَهُ الناس]] لاحظ كلمة "حطمه"، من كثرة مجيئهم له دائماً وأبداً، هذا وفد يأتي وهذا وفد يخرج، وهؤلاء يسلمون، وهؤلاء يتحدثون مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء يحاورونه على أمر من الأمور، وهذا جيش يذهب، وهذه سرية تأتي، وهذه أمور وجلائل من الأعمال كان يتولاها بنفسه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع ذلك كانت الجارية السوداء تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتأخذ به إلى أي سكك المدينة شاءت فتحدثه بأمورها، ماذا تتصور أنها ستقول للرسول عليه الصلاة والسلام؟! خادمة في أحد البيوت سوف تتكلم عن همومها الشخصية وأن أهل البيت يضايقونها، وأن فلانة قالت لها كذا، وفلان قال لها كذا، وهذا آذاها، ومرة عندما أتت بالطعام عاتبوها، وقالوا: لم تصنعي الطعام صناعة جيدة، وأشياء وتفاصيل لا تعني الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً، ولكنه كان حليماً واسع الصدر كريماً في وقته، فيضع أذنه لها صلى الله عليه وآله وسلم حتى يستمع إلى كل ما تقول، فإذا فرغت حاول أن يعالج همومها وآلامها ومشاكلها بما يستطيع.(256/12)
جود الشيخ ابن باز بوقته
وقد رأينا نماذج من ذلك لأتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من بينهم إمام من أئمة أهل السنة والجماعة في هذا العصر، وهو سماحة الشيخ الوالد الكبير عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فإنني قد رأيت عليه أثراً من أثر الاقتداء بالنبوة كبير، في كل مجال خاصة في هذا الجانب، فعلى الرغم أن الرجل مشغول بجلائل الأعمال، تأتيه مشاكل المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، ووفود من أنحاء الدنيا، ومراسلات لا تنتهي، واتصالات عجيبة، ويتصل به الناس على كافة مستوياتهم، وكل إنسان قد يكون عنده قضية جزئية يتصل بالشيخ، هذا توقف عنه -مثلاً- الكهرباء، اتصل بالشيخ عبد العزيز وهذا عنده مسجد اتصل بالشيخ عبد العزيز، وهذا عنده مشكلة اتصل، والنساء بل كبيرات السن في بيوتهن تتصل بالشيخ، وبعضهم لا يثق إلا بالشيخ نفسه، حتى لو كان عندها استفتاء في قضية معروفة يعرفها صغار طلبة العلم، قالت: لا يمكن إلا الشيخ، وتأتيه قضايا ومشاكل اجتماعية، كقضايا الطلاق، وأمور وأعاجيب، ووالله الذي لا إله غيره، إننا أحياناً نجلس عنده فيأتيه الناس وتأتيه الاتصالات، فتستغرب من طول نفسه وطول باله، ويبدأ الناس يتكلمون بتفاصيل، ويطيلون ويعرضون ويعيدون الكلام ومرة ومرتين وثلاث، حتى إنك أنت وأنت أجنبي لا علاقة لك بالأمر ينفد صبرك وتحترق أعصابك، ما هؤلاء الناس؟! لكن الشيخ لا يخرج عن طوره أبداً، بل يتحلى بالحلم وبالصبر، وقد يأتيه أناس سيئوا الأخلاق، حتى إنه ربما أتاه إنسان فأمسك به، وقال له يا شيخ: اتق الله، فبدل أن الشيخ ينتفض ويضطرب ويغضب عليه، ويقول: ماذا رأيتني أفعل؟ أو ابتعد عني يا سيئ الخلق، تجد الشيخ يطأطئ رأسه ثم تنهمل دموعه على وجنتيه، هذه والله العظيم أخلاق أنبياء، وهي شهادة لله.
ولا يعرف ذلك إلا من عاشر الشيخ وعرفه عن كثب وعن قرب، فأسأل الله في هذه الساعة المباركة أن يطيل في عمره في مصلحة الإسلام والمسلمين، وأن يختم لنا وله بخير، وأسأله جل وعلا أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اجمعنا في جناتك جنات النعيم، مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(256/13)
الأسئلة(256/14)
تدريس الكفيف للنساء
السؤال
ما حكم تدريس الرجال المكفوفين لطالبات كلية التربية، مع العلم أنهم يجلسون مع الطالبات لإلقاء المحاضرات في القاعة نفسها دون حجاب أو ستار، وما حكم تكلم الطالبة معه والنظر إليه بغرض السؤال والانتباه للشرح؟
الجواب
على كل حال الأصل أن يدرس المرأة امرأة مثلها؛ لأن هذا أبعد عن الفتنة وأضمن ليكون الجو التعليمي جواً محفوظاً وبعيداً عن الإثارة، وبعيداً عن التحفظ الذي قد يعوق الطالبة بسبب الحياء عن التعلم الصحيح، وهناك جهود بحمد الله قام بها مجموعة من العلماء من هذا البلد وغيره؛ لمخاطبة المسئولين في اقتصار التعليم للطالبات على المدرسات، وهذا أمر بحمد الله تعالى ميسور، ونسأل الله تعالى أن يتمم ذلك بخير.(256/15)
فتوى ابن باز في حكم التلفاز
ملاحظة: هناك فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم التلفاز واقتنائه، وهي فتوى موجودة في مجموعة فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز (3/227) طبع رئاسة الإفتاء بتاريخ 21/4/1410هـ، من شاء أن يراجعها بالإمكان أن يراجعها في موضعها.(256/16)
غش الواجب المدرسي
السؤال
هل يجوز للطالبات أن يتناقلن الواجب المنزلي فيما بينهن دون علم المعلمة؟
الجواب
لا.
ينبغي على كل طالبة أن تؤدي الواجب بنفسها، أما نقل الواجب من طالبة أخرى فهذا نوع من الغش، الذي يدخل تحت عموم قوله عليه الصلاة والسلام: {من غشنا فليس منا} رواه مسلم) .
أسأل الله تعالى أن يجعل هذا من العلم النافع المقرب إليه، وأصلي على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(256/17)
ترك صلاة الفجر مع الجماعة
السؤال
زوجي رجل صالح؛ إلا أنه في بعض الأحيان لا يصلي في المسجد، وأيضاً ينام عن صلاة الفجر، وضقت ذرعاً في نصحه ولا يفيق، فما حكم حياتي معه؟
الجواب
ما دام أنه رجل صالح، معناه أنه محافظ على الصلوات مع الجماعة إلا ما ذكرت، فهذا البقاء معه لا مانع منه ولا بأس به، خاصة إذا كنت أم أولاد، ولكنني أنصحك: أولاً: بالبقاء معه.
ثانياً: بأن تستمري ولا تيئسي من النصح أو تضيقي ذرعاً، فهذا نوح عليه الصلاة والسلام دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما ضاق ذرعاً بهم، حتى أعلمه الله تعالى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] فحينئذٍ دعا عليهم كما هو معروف.
فلا ينبغي للإنسان أن يضيق ذرعاً من النصيحة سنة أو سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، فربما أن الكلمة التي كتب الله هدايته بسببها لم يسمعها حتى الآن، فاستمري معه بالنصيحة، والكلمة الطيبة، ولا تيئسي ولا تفتر همتك في ذلك، واحرصي على إيقاظه لصلاة الفجر ما استطعت؛ ليصلي مع الجماعة، وذكريه بما ذكر الله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وذكريه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} [متفق عليه] وذكريه ما قاله أنس وغيره رضي الله عنه: [[كنا إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]] وذكريه بما قال ابن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح مسلم عن صلاة الجماعة: [[ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]] .
فإن لم يفلح نصحك معه للصلاة مع الجماعة فلا أقل من أن توقظيه ليصلي في الوقت ولو في بيته، أي قبل طلوع الشمس، فإن أخر الصلاة إلى بعد وقتها، فإن ذلك كبيرة من كبائر الذنوب يخشى أن توبقه وتحبط عمله.
ولا تيئسي من نصحه ما استطعتِ، وأيضاً لا تبخلي عليه بالدعاء في سجودك أن يهديه الله تعالى ويصلحه وقولي: اللهم اصلح لي زوجي.(256/18)
أسهم الشركات المساهمة
السؤال
أسهم الشركات هل يجوز شراؤها وما حكم أرباحها، نرجو الإفادة عن ذلك؟
الجواب
الشركات -خاصة الشركات الكبرى المساهمة المعروفة- غالبها يدخل عليها الربا، من جهة أنها تودع أموالها في البنوك مقابل فوائد بنكية، وتوزع هذه الفوائد على المساهمين، حتى إن بعض الشركات الكبرى الاستثمارية قد وزعت على المساهمين أرباحاً قبل أن تعمل، وإنما هذه الأرباح التي وزعتها هي نتيجة الفوائد الربوية، التي أخذتها من البنوك، والله تعالى قال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] ودرهم تدخله جيبك من الربا، من الممكن أن يمحق الله تعالى به بركة مالك كله كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276] .
فيا أيها الذين آمنوا اسمعوا إلى ما قال ربكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] .
لكن بعض الشركات الكبيرة أيضاً ليس فيها حكم صريح بأن نقول: إن المشاركة أو المساهمة فيها محرمة، ولكننا ننصح الإنسان بأن يتجنبها لما فيها من الشبهة، فإن كان ولا بد، فننصحه -أيضاً- بأن يخرج جزءاً من أرباحه يتخلص منها، نصف الأرباح أو نحو ذلك، يتخلص منه استبراءً لدينه وعرضه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث المتفق عليه: {إن الحلال بيّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه} .(256/19)
حكم إخراج الزكاة للأخت
السؤال
هل تحق الزكاة لأختي حيث إن زوجها عاطل مع أنه قادر على العمل، وما الحكم في حالة أنه يعمل لكن دخله محدود جداً؟
الجواب
إذا كان زوجها فقيراً وكانت هي أيضاً فقيرة ومحتاجة، فإنه يجوز لك -إن شاء الله- أن تعطيها زكاة مالك.(256/20)
خروج سائل مع البول في رمضان
السؤال يقول: شاب تأتيه دواعي الشهوة وإذا جاء الإنزال لا ينزل، وإذا أراد قضاء الحاجة نزل مع البول شيء من المني، ف
السؤال
هل عليه غسل الجنابة؟ وهل عليه قضاء الصوم؟ وهل عليه إعادة الصلاة؟ مع أنه لا يذكر وقتاً صلى وهو على هذه الحالة؟
الجواب
أولاً: لا بد من التثبت أن الذي ينزل مع البول هو المني؛ لأن نزول المني ليس بالخفي، فهو شيء ثقيل غليظ شديد البياض، وكذلك يخرج بقوة دفق وبشهوة، ويعقبه فتور في بدن الإنسان فإذا تحققت هذه الشروط في الإنسان فإن عليه أن يغتسل غسل الجنابة، وعليه قضاء الصوم -أيضاً- إذا حدث هذا في نهار رمضان، وإذا صلى دون أن يغتسل فعليه القضاء.
أما إذا كان يخرج مع البول شيء آخر غير هذا، مثل المذي وهو سائل أبيض رقيق، وهذا يخرج عند بداية تحرك الشهوة، فلا يوجب الغسل، وإنما ينبغي على الإنسان أن يغسل ذكره وأنثييه -أي يغسل فرجه- وكذلك يتوضأ وضوءه للصلاة.(256/21)
كتابة القدر
السؤال
ما هي قضية الكتابة؟
الجواب
الكتابة يعني القدر، الله عز وجل كتب كل شيء في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، ثم أيضاً كل إنسان إذا كان في بطن أمه فإن الله سبحانه وتعالى، يبعث الملك فيأمره بأربع، بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، كل هذا ثبتت به الأحاديث.(256/22)
النظر إلى الحرام
السؤال يقول: إنه مبتلى بالنظر الحرام -ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى ونسأل الله تعالى العافية- وقد عالجت نفسي كثيراً، لكنني اتركه يسيراً ثم يسول لي الشيطان فأرجع، فأرجو أن تبينوا لي الأسباب التي أترك بها النظر ومن ثم أغض بصري، وأنا -بحمد لله- ملتزم وأحفظ القرآن -ولله الحمد والمنة- لكن تساهلي بالنظر أقلق راحتي لا سيما في هذا الشهر الكريم والله المستعان، وأرجو أن تدعو لي في هذا المكان المبارك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما بالنسبة للدعاء فنسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياك غض البصر عن الحرام، وأن نستخدم كل أعضائنا وجوارحنا فيما يرضيه ويقربنا إليه إنه على كل شيء قدير، وغض البصر هو من الأمور التي في البداية تكون سهلة هينة، فإن العبد ما دام غاضاً بصره لا ينظر إلى ما حرم الله فإن الأمر عليه يسير، لكن إذا أطلق بصره في ذلك وبدأ ينظر في وجوه النساء والمردان، وإلى الصور، واسترسل فإنه لا يزيده ذلك إلا شدة وولعاً وتحرقاً وتحركاً في شهوته كما قال الشاعر: والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العِين موقوف على الخطر يضر مهجته ما سر مقلته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر فعلى الإنسان الذي لم يبتلَ بهذا الأمر أن يعتني عناية تامة بغض بصره؛ لأنه ربما نظرة واحدة تهلك صاحبها، وعندي في ذلك من الرسائل من بعض من ابتلوا بهذا؛ شيء يدمي له القلب، وتتقطع له نياطه، وتدمع له العين، فمن عوفي من هذا؛ فليحمد الله، وليعتني عناية تامة بغض بصره، ومن ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يسارع بالعلاج، مع معرفته بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا شفاء إلا من عند الله، وأن نواصي العباد كلها بيد الله تعالى.
فليلجأ إلى الله تعالى في أوقات الدعاء وأوقات الإجابة كالأسحار، وعقب صلوات الفريضة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام، وفي سجوده وغير ذلك، وليضرع إلى الله تعالى بعين باكية، وكلمة صادقة أن ينقذه الله تعالى من هذا الأمر، ثم عليه أن يتخذ الأسباب المعينة على ذلك، ومن أهمها: تجنب مجالسة الأشرار الذين قد يزينون له هذا الأمر، فإن صحبة الأشرار شر تورد صاحبها الموارد، وعليه أن يصحب الأخيار الذين يعينونه على الطاعة وغض البصر كما قال الشاعر: إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي كما أن عليه أن يدمن النظر ويمعنه في كتاب الله تعالى، ويتملاه ويقرؤه، فإن فيه غناء وشفاء وعافية، كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] وليقف عند قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] زكاة الباطن هي التي بها النجاة والفلاح قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] .
وأنت إذ تصلي أو تصوم أو تزكي، فإنما تطلب زكاة نفسك، فكيف تهدم هذا كله بنظرة حرام، قد توردك إلى تحريك شهوة، ثم إلى الوقوع في فاحشة؟ وأنصح الأخ -أيضاً- بتجنب المواقع والأماكن التي يوجد فيها ما يدعو إلى النظر، كالخروج إلى الأسواق مثلاً، خاصة أماكن تجمعات النساء، ومثله اقتناء المجلات الخليعة، أو الأشرطة والأفلام التي تعرض المسلسلات الهابطة، أو تعرض الحفلات الماجنة والرقصات الخليعة، أو العروض السينمائية الضارة، التي هي مما يضر ولا ينفع.
وعليه أن يتقي الله تعالى فيما علَّمه من كتابه؛ لأن الإنسان إن لم ينصاع لأوامر القرآن، فجزاؤه أن يسلبه الله تعالى حفظه، فليتق الله هذا الإنسان فيما أعطاه الله تعالى وعلمه.(256/23)
العلم يقتضي العمل
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس على أن العلم حجة للإنسان أو عليه، وأن الله لم ينزل الكتب ويرسل الرسل إلا لإقامة الحجة على الناس، وأنه يفترض بالأمة وجود وعاظ يعظون الناس بالعمل بما علموا، كما أن فيها وعاظاً يذكرونهم بما لم يعملوا، وضرب أمثلة عن العلم بلا عمل، ثم أجاب على طائفة من الأسئلة حول الموضوع.(257/1)
إرسال الرسالات حجة على العالمين
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: أيها الإخوة: قبل أن أدخل فى الموضوع الذى أحب أن أتحدث به في هذه الليلة المباركة, أحب أن أشير إلى مسألة مهمة, وهي -أيضاً- معروفة، ولكن من قبيل التذكير، فأقول: إن الله تبارك وتعالى إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل من أجل أمر واحد، وهو إقامة الحجة على العالمين, قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] , إذاً فكل ما نزل من الكتب وكل من بعث من الرسل, إنما كان من أجل إقامة الحجة علينا نحن؛ كما يقوم ذلك بإقامة الحجة على غيرنا من الأجيال والقرون الغابرة أو اللاحقة, وإذا كان ذلك كذلك، فيجب علينا أن نعرف أن من يعرف ليس كمن لا يعرف, فمن يعلم ببعثة الرسل, ويدري بإنزال الكتب, ليس كمن لا يدري عن ذلك شيئاً.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] يعني ومن بلغه هذا القرآن فهو منذر لهم، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القرآن: {والقرآن حجة لك أو عليك} , فالقرآن حجة ولابد, كل من سمع القرآن فالقرآن حجة بالنسبة له, لكن إما أن يكون هذا القرآن حجة له، وذلك لمن عمل وأخذ به وامتثل أوامره واجتنب نواهيه, وإما أن يكون حجة عليه, وهو من أعرض عن هذا القرآن.
ومن العجيب -أيها المسلمون- أننا نتلو هذا القرآن بكرة وعشية, ونسمع من يقرأه بكرة وعشية ثم لا نتأثر من هذا القرآن فى بعض الأحيان, وربما تجد الإنسان قد يتأثر بأقوال الناس أكثر مما يتأثر بقول الخالق جل وعلا.
وأضرب لذلك مثلاً واضحاً.
تجد هذه الآيات التي تتلى، والتي يقول الله عز وجل عنها: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] , هذه الآيات التى لو أنزلت على جبل لتصدع منها, تجد الإنسان منا قد يسمعها فلا يتأثر، ثم يسمع داعياً يدعو في خروجه أو غيره؛ أو واعظاً يعظه فيتأثر وقد يبكي ويلين قلبه, فنقول: هذا دليل على ضعف القلوب، وخلل الإيمان فيها، وإلا فإن الله عز وجل لما ذكر كتابه قال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] , وفي الآية الأخرى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] , يعني إذا لم تتأثر أيها الإنسان بهذا القرآن وتستجيب له, فكيف تتأثر وتستجيب بغيره؟! فالقرآن كلام الله عز وجل في غاية الفصاحة, والبلاغة, والقوة, والإعجاز, والتأثير, حتى أن من يقرأون هذا القرآن بقلوب حية يتأثرون منه تأثراً عظيماً.
وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعرفون بأسه وقوته وشدته في الحق, ومع ذلك كان يقرأ الآية من القرآن فى صلاة الفجر وهو يصلى بالناس فيسمع نشيجه وبكاؤه من وراء الصفوف, وكان يقرأ الآية من القرآن فيمكث فى بيته مريضاً يعالج أياماً طويلة.
وقد حدثنا بعض الثقات أنه إلى وقت قريب كان هناك بعض الصالحين إذا سمع الإمام يقرأ في صلاة الفجر بعض الآيات يتأثر بها ويسقط مغشياً عليه, حتى يظن أن به مساً من جنون وما به ذلك، وإنما غلب الخوف على قلبه, ولست بهذا الأمر الذي أشرت إليه أذكر بعض ما يأتي في كتب الصوفية وغيرهم من أن فلاناً صعق صعقة فمات وغير ذلك.
فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسمعون هذا القرآن ولا يصعقون -وهم أكثر الناس تأثراً به- لقوة قلوبهم، أما أولئك القوم إن صح عنهم ما يروى فذلك لضعف قلوبهم وقله تحملها صارت إذا سمعت المواعظ تأثرت حتى يغلب عليها الخوف فيصعق الواحد منهم أو يغشى عليه أو ما أشبه ذلك.
المقصود أن كثيراً من الصالحين إذا سمعوا هذا القرآن تأثروا به واستجابوا له لأنه كلام الله تبارك وتعالى.
بل إني أحدثكم عن رجل ليس منا نحن العرب, ولا يعرف لغة العرب, وإنما هو من جنس آخر وقد ذكر بعض الشيوخ أنه اجتمع معهم فى مجلس -وكان هذا الشيخ قارئاً للقرآن- فحضر وقت صلاة العشاء قال فقام الشيخ يصلى بهؤلاء القوم ويقرأ القرآن بصوت ندي مؤثر, يقول: فلما انتهينا من الصلاة كان هذا الرجل غير العربي غير المسلم جالس ولم يصلِّ معنا, فلما انتهينا من الصلاة جئت وجلست إلى جنبه، يقول: فوجدت معه المناديل ووجدته يمسح الدموع عن عينيه, فتعجبت لذلك! رجل كبير السن يبكى كما يبكى الأطفال, يقول: فأعدت له شيئاً من هدوئه ثم التفت إليه وقلت له: يا أخي ما شأنك! لم تبك؟ قال: إنني لا أدرى لماذا أبكي, لأنني لست بعربي, ولا أعرف اللغة العربية، ولكنى أشهد أن الكلام الذى سمعته منك قبل قليل -يعني وهم يصلون- أنني أحسست بقلبي يتحرك لهذا الكلام, ويتأثر منه حتى كاد قلبى أن يطير, من عظمة ما أسمع مع أنني لا أعرف ماذا تقول, ولا أفهم المعنى, قال: ثم شرح له ودعاه إلى الإسلام فهداه الله تبارك وتعالى وأسلم.
فهذا القرآن -أيها الإخوة- هو أعظم الحديث، والقرآن كما قلنا هو حجة للإنسان, فكل ما تسمع من آية لا تظن أيها الأخ أنك سمعت الآية وانتهى الأمر, هذه الآية هي إما حجة لك أو عليك, كل ما تسمعه من القرآن أو من غيره من المواعظ فهي حجة لك أو عليك.(257/2)
العلم حجة على الإنسان
إذا عرفت ذلك، عرفت قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار} .
انظروا أيها الإخوة: هناك فرق بين من سمع باسم محمد صلى الله عليه وسلم، وباسم الإسلام وبرسالة الإسلام, وبين لم يسمع.
من مات وقد عرف الإسلام وعرف القرآن وعرف محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم مات غير مسلم فهو قطعاً من أهل النار خالداً مخلداً فيها أبداً, لا يطمع له بنجاة, ولا يجوز أن يدعى له بالمغفرة بحال من الأحوال.
وقد سألت عائشة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما في صحيح مسلم عن رجل من أهل الجاهلية يقال له عبد الله بن جدعان وكان هذا الرجل كثير الصدقة، كثير الصلة، كثير العتق، محسناً إلى الناس حتى أنه عقد في بيته حلف في الجاهلية لنصرة المظلوم, والاقتصاص من الظالم, وحماية الضعيف, مما يدل على أنه رجل كان يحب الإحسان إلى الناس, فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول أرأيت ما كان يفعله عبد الله بن جدعان في الجاهلية, هل ينفعه ذلك؟ فأجابها الرسول صلى الله عليه وسلم: {كلا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} , يعني: مات لم يسلم ولم يدعُ الله عز وجل، ولم يتوجه إلى الله بالعبادة، فلا ينفعه ما كان عمل, لأنه لم يهتدِ بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
فكل من سمع بالإسلام، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن، ثم لم يتبعه, نقطع له بأنه من أهل النار، وفى الحديث الآخر الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار} , أما الإنسان الذي لم يسمع بالإسلام أصلاً، ولم يعلم بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم, أو لم يكن أهلاً لذلك، كمن مات وهو طفل, أو مجنون, أو في بلد بعيد لم يعرف الإسلام ولم يدرِ عنه شيئاً, أو في زمن الفترة, فهذا لا يقطع له بأنه من أهل النار, إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.
فهناك فرق بين من علم وبين من لم يعلم, وهناك فرق بين من سمع وبين من لم يسمع, فالكلام الذي تسمعونه أيها الإخوة في خطب الجمع, وفى المحاضرات, في الكلمات وفى جميع المناسبات, سواء من كلام الله تبارك وتعالى، أو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم, أو من كلام أهل العلم والوعاظ والمهتدين, يجب أن تعلموا أنه إما حجة لكم أو عليكم.
وهذا يجعل الإنسان من جهة حريصاً على استماع المواعظ والحضور إليها، ولكن يجعله من جهة أخرى حريصاً على أن يفهم ماذا يقال فيها، وأن يطبق ما يقال ليكون الكلام حجة له لا حجة عليه.(257/3)
أنواع المواعظ التي يحتاجها المسلمون
ونحن أيها الإخوة بحاجة إلى نوعين من الوعاظ والمهتدين، نحن بحاجة إلى الواعظ والمرشد الذي يعلمنا ما جهلنا, فنحن لا شك نحتاج إلى التعليم كلنا, وكما قال العلماء: من ظن أنه عالم فقد جهل, من ظن أنه لا يخفى عليه شيء من أمور العلم -كما يقول العوام أحياناً: ما علينا قاصر، وعسى الله أن يهادينا- أي: أننا ما عندنا قصور في العلم، نقول: لا.
علينا قاصر كثير، وعسى الله أن يهدينا, لكن القصور موجود، ويخفى علينا أكثر مما نعرف من أمر الدين، ونحن بحاجة إلى من يعلمنا أمور ديننا.
وأصحاب الرسول عليه الصلاة السلام كانوا يأتون إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فيسألونه هذه الأسئلة في أمور دينهم, حتى نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:101] , فصار المهاجرون والأنصار القريبون من الرسول عليه الصلاة والسلام منهيين عن السؤال عن كثير من الأمور، ولذلك قال أنس بن مالك رضي الله عنه: [[كان يعجبنا أن يأتي الرجل من البادية العاقل، فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم]] لأنه يسأله عن أشياء يستفيدون هم منها، وهم لا يستطيعون أن يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام, فكانوا -أي: أهل البادية- يسألونه عن أمور دينهم، حتى جاء رجل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، وانظروا إلى خلق محمد صلى الله عليه وسلم وحسن معاملته للناس.
الرسول عليه الصلاة والسلام واقف يخطب على المنبر, فيدخل رجل من الباب حتى يقف قبالة الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: يا رسول الله! رجل جاهل جاء يسأل عن دينه، بصوت جهوري, فما قهره الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نهره, وإنما نزل من المنبر ووضع له كرسياً قبالة هذا الرجل فجلس, وعلمه علوم دينه الأصلية، ثم رجع إلى خطبته صلى الله عليه وسلم, وهذا حديث في الصحيح.
ويأتيه رجل آخر يقول: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا له.
فكانوا يعترفون بأنهم يحتاجون إلى العلم الذي يبعد عنهم الجهل, والجهل لا شك داء قاتل.
إذاً: نحن محتاجون إلى نوعين من الوعاظ:(257/4)
الوعظ بالتعليم
النوع الأول: هم الذين يبينون لنا ما جهلنا من أمور ديننا, سواء في أمور الاعتقاد, أو في أمور العبادة, أو في غيرها من الأمور، ويجب على الإنسان إذا سمع أمراً لم يعلم به من قبل ألا يستنكره, ويقول: هذا ما سمعنا به، أو يسلك مسلك بعض الناس، فيقول: أنا عمري كذا وكذا من السنين ولم أسمع بهذا فلا آخذه ولا أقبله, لا.
يجب عليك إذا سمعت قول الله أو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصغي له سمعك وتنظر ما يقول, خير تؤمر به أو شر تنهى عنه فانتهِ.(257/5)
الوعظ بالتذكير
أما النوع الثاني -وهو لا يقل أهمية عن النوع الأول- فهو: أننا بحاجة إلى من يذكرنا بالاستفادة من الأشياء التي نعرفها من قبل, فهناك أمور كثيرة جداً نعرفها وما استفدنا منها كما ينبغي, وهذه الأشياء تكون حجة علينا, وأضرب لذلكم بعض الأمثلة:- جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوم من العرب في الجاهلية, كانوا يعرفون الله عز وجل ويؤدون بعض المناسك, فكانوا يحجون, ويصومون, ويصلون.
أما الحج فكانوا يحجون كما تعرفون جميعاً, أما الصيام فكانوا يصومون يوم عاشوراء حتى في الجاهلية, كما ذكرت عائشة رضى الله عنها, وكانوا يصلون الصلاة, ولكنهم يعبدون أصنامهم وآلهتهم من دون الله، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] , وكانوا في نسكهم وتلبيتهم يهلون بتلبيات كثيرة منها التلبية التي ذكرها بعض أصحاب السنن كما في صحيح مسلم أنهم كانوا يقولون: {لبيك لا شريك لك لبيك} , فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ويلكم كفى حسبكم} يعني يكفيكم هذه التلبية، لكنهم لا يكتفون بذلك؛ بل يضيفون إليها كلمه شركية فيقولون: {إلا شريكاً هو لك} -يقصدون الصنم- {تملكه وما ملك} فهذا الشريك يقولون إنه يقربنا إلى الله زلفى.
ولماذا عبدوا هذا الشريك؟ عبدوه لأنه بزعمهم رجل صالح.
[اللات] الذي كانوا يعبدونه, رجل صالح كان يطعم الحجاج ويسقيهم, فأعجبوا بعمله فلما مات بنوا على قبره مسجد أو أقاموا صنماً فعبدوه, ظانين أنه يقربهم إلى الله زلفى, فكانوا يعرفون الله عز وجل, ومع ذلك جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرفهم بالله.
كيف يعرفهم بالله وهم يعرفونه؟ نعم يعرفهم بالله لأن معرفتهم الأولى ما نفعتهم شيئاً، فكانوا يعترفون بأنه الخالق الرازق المحيى المميت ثم يعبدون غيره, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: إذا كنتم تعلمون أن الله هو الخالق الرازق المحيى المميت, فاعلموا أنه لا يستحق العبادة إلا من كانت هذه صفاته، كيف تقرون له بهذه الصفات ثم تعبدون غيره؟ ممن لا يخلق ولا يرزق ولا يحي ولا يميت ولا ينفع ولا يضر.(257/6)
العلم بأسماء الله
نحن بحمد الله بعدما عرفنا ما بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم عرفنا ربنا عز وجل، وصرنا لا نعبد هذه الأصنام والأوثان التي كان يعبدها الناس, ولكن مع ذلك يقول لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {إن لله تسعةً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً -يؤكدها النبي صلى الله عليه وسلم- من أحصاها دخل الجنة} , وهذا الحديث صحيح.
فيا ترى هل مجرد حفظنا لتسعة وتسعين اسماً من أسماء: الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهمين العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم إلى غير ذلك من الأسماء الواردة في القرآن؟! وفي صحيح السنة؛ هل حفظنا لهذه الأسماء وترديدنا لها هو إحصاء ومن فعل ذلك دخل الجنة؟ أقول: ليس الأمر كذلك، وليس هذا هو مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث؛ بل الرسول عليه الصلاة والسلام قصد أمراً آخر, فهو يقول: {إن لله تسعه وتسعين اسماً} وهذا ليس معناه حصر أسماء الله في تسعة تسعين, لا.
بل أسماء الله كثيرة ولا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى, وكلنا إذا دعونا ندعو فنقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك, أو أنزلته في كتابك, أو علمته أحداً من خلقك -ثم نقول- أو استأثرت به في علم الغيب عندك} فيجب أن نفهم من هذا أن هناك أسماء لله تبارك وتعالى استأثر الله بها في علم الغيب عنده, لا يعلمها ملك مقرب, ولا نبي مرسل.
وفى حديث الشفاعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه الناس فقالوا: اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه يقول لهم: {أنا لها، أنا لها، ثم يأتي فيخر ساجداً تحت العرش.
قال: فيفتح علىّ بمحامد يعلمني الله إياها في ذلك الوقت لا أعلمها الآن} .
إذا: لله أسماء كثيرة ليست تسعة وتسعين اسماً فقط, لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً، من خصائص هذه الأسماء التسعة والتسعين أن من أحصاها دخل الجنة.(257/7)
معاني إحصاء أسماء الله عز وجل
فدعونا ننظر أيها الإخوة ما معنى: من أحصاها؟ إحصاء هذه الأسماء يعني أمور عديدة.
الأمر الأول: أن نعرف هذه الأسماء ونحفظها عن ظهر قلب، بحيث يكون بإمكان الواحد منا أن يعدد هذه الأسماء ويسردها سرداً, كما ذكر الله في آخر سورة الحشر وغيرها، فهذا الأمر الأول المطلوب من الحديث.
الأمر الثاني: أن يعرف الإنسان ما معنى كل اسم من الأسماء، فقد يحفظ الإنسان الاسم، ثم لو قلت له: ما معنى هذا الاسم؟ لوقف يقلب كفيه ولا يعلم ما معناه, مثلاً: كلنا نعلم أن من أسماء الله تبارك وتعالى (القدوس) فقد يأتي سائل فيسألك فيقول لك: الله هو (القدوس) ، ما معنى (القدوس) ؟ فتجد أنه سؤال لم تستعد له، وربما أنك لا تعرف معنى (القدوس) .
قد يسألك سائل فيقول: من أسماء الله تبارك وتعالى (السلام) , فما معنى (السلام) ؟ ويأتيك ثالث فيقول: من أسماء الله تبارك تعالى (المتكبر) إلى أسماء كثيرة جداً ربما أن كثيراً منا لو سئل عنها لانتبه لأول مرة أنه لم يعرف معاني هذه الأسماء.
إذاً: فالأمر الثاني المطلوب منا فيما يتعلق بأسماء الله تبارك تعالى بعد أن نحصيها ونحفظها أن نعرف معنى كل اسم من هذه الأسماء، ما معنى الله؟ ما معنى الرحمن الرحيم؟ إلى آخره.
الأمر الثالث: هو أن ندعوه سبحانه وتعالى بهذه الأسماء, قال تعالى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] , لم يوجب الله تبارك وتعالى لنا أن ندعوه إلا بأسمائه وصفاته, اللهم إلا ما ورد من أن الإنسان يجوز أن يدعو الله بأعماله الصالحة, فيقول: اللهم إني أسألك بأنني آمنت بك وصدقت برسولك وأديت الصلاة أن ترحمني, وقد صح هذا في الحديث الذي تعرفونه جميعا وهو حديث الثلاثة الذي انطبقت عليهم الصخرة في الغار من بني إسرائيل, فقالوا: {اعلموا أنه لن ينجيكم من ذلك إلا عملكم الصالح, فأولهم تذكر من عمله أنه كان يحلب الحليب, فيأتي لأبويه ليسقيهم, فتأخر ذات يوم فوجد أبويه قد ناما, فوقف على رءوسهم كراهية أن يوقظهم والصبية يتضاغون -أي: يبكون شوقاً وحاجة إلى هذا الحليب- فلم تطب نفسه أن يسقى الصبية قبل أن يسقي أبويه, قال: فما زلت على ذلك حتى برق الفجر فاستيقظا فسقاهما ثم سقى الصبية, اللهم إن كنت تعلم أنني إنما فعلت ذلك ابتغاء ما عندك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرج ثلث الصخرة.
ثم قال الثاني: أنه استأجر أجيراً فأعطاه أجرته، فكأن الأجير تقال هذه الأجرة فلم يأخذها, فنماها له حتى صارت وادياً من البقر, ووادياً من الغنم, وبعد سنين طويلة, جاءه الأجير, وقال له يا هذا اتق الله واعطني أجرتي, قال الرجل: انظر إلى هذا الوادي من الإبل، وإلى هذا الوادي من البقر، وإلى هذا الوادي من الغنم خذها كلها فهذه أجرتك, قال: أتستهزئ بي, قال: إني لا أستهزئ بك، قال: فساقها كلها, اللهم إن كنت تعلم أنني إنما فعلت ذلك خوفاً منك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرج الثلث الثاني، لكنهم لا يستطيعون الخروج.
ثم ذكر الثالث: أنه كانت له ابنة عم أحبها حباً شديداً، وكانت من أحسن النساء، فأرادها على نفسها, فأبت حتى أصابتها سنة -يعني حاجة شديدة- فجاءت إليه تستدينه فرفض أن يعطيها إلا أن تخلى بينه وبين نفسها ففعلت على كره منها -الحاجة ساقتها إلى ذلك- فلما وقف منها موقف الرجل من امرأته, قالت له: يا هذا! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه, قال: فانصرف عنها, اللهم إن كنت تعلم أنني إنما فعلت ذلك ابتغاء ما عندك فافرج عنا ما نحن فيه, فانفرجت الصخرة وخرجوا} .
الشاهد من هذه القصة: أن الإنسان يجوز له أن يدعو الله تبارك وتعالى بأعمال صالحة, فيقول: اللهم إني أسألك بأني آمنت بك وصدقت برسولك أن تغفر لي وترحمني وتتوب علىّ إلى غير ذلك, كما ينبغي له أن يدعو الله عز وجل بأسمائه الحسنى, كما أمر الله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] , تقول: اللهم يا غفور اغفر لي, يا رحيم ارحمني, إلى غير ذلك من الأسماء, وتأتى لكل اسم بما يناسبه من الدعاء, وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو, هذا هو الأمر الثالث وهو أن ندعو الله بهذه الأسماء.
الأمر الرابع -وهو أهم هذه الأمور وإن كان لا يمكن أن يتحقق إلا بها كلها- هو: أن تكون معرفتنا بهذه الأسماء وهذه الصفات لله عز وجل أمراً يدعونا إلى فعل الخير ويمنعنا من فعل الشر, بمعنى أنك تعرف أن الله رقيب عليك, مطلع على عملك, لا تخفى عليه خافيه, فإذا عرفت هذا الأمر واستقر في قلبك صرت تشعر وأنت في الخلوة أن عليك رقيباً, ولذلك كان أبو الدرداء رضى الله عنه وأرضاه كثيراً ما يقول: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علىّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب فمعرفتك بأسماء الله تجعلك تخاف من الله, وتحب الله, وترجو الله, بل تجعلك لا تخاف إلا من الله, ولا تحب الحب الحقيقي حب العبادة إلا الله, ولا ترجو إلا الله, ولذلك صح فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} .(257/8)
العلم بلا عمل
إن هؤلاء حال فعلهم هذه الجرائم هل معنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم على هؤلاء الناس بأنهم كفار؟ لا.
أبداً, بل في حديث أبي ذر لما ذكر الإيمان؛ وأن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، قال أبو ذر: وإن زنا وإن سرق، قال صلى الله عليه وسلم: {نعم إن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر} ، فإنه يدخل الجنة متى شاء الله، بعد أن يعذب بذنوبه، فمن مات على الإيمان والتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة, فهو يدخل الجنة متى ما شاء الله, لكن لا يخلد فى النار.
معنى نفي الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان عن هؤلاء حال فعلهم المعصية هو ما أشرت إليه فى موضوع معرفة أسماء الله, أن الإنسان حينما يقع فى المعصية لو تذكر عظمة الله, واستحضر أن الله شهيد عليه, لم يطق أن يفعل هذه المعصية, وأضرب لذلك مثلاً بسيطاً: أرأيت لو أن واحداً من هؤلاء القوم كان يزنى -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- ثم اطلع عليه رجل ممن يستحي منه, من صالح قومه, هل يصبح هذا الأمر طبيعياً عند هذا الإنسان ويستمر فى زناه؟
الجواب
لا, بل إن هذا الإنسان لو أحس أن شخصاً يراه, فسينتفض انتفاض الفزع ويقلع عنه, وكذلك السارق لو كان وهو يمد يده ليختلس شيئاً ويسرقه, وبصر به إنسان يستحي منه أو يخافه, هل سيستمر في سرقته؟ لا سيكف عن هذا العمل وبسرعة, وهكذا الحال في شارب الخمر، وفى غيرهم من أصحاب المعاصي.
إذاً: ما الذي دعاهم إلى أن يخافوا من هؤلاء الناس, أو يستحيوا منهم ولا يستحيوا من الله عز وجل؟ الذي دعاهم إلى ذلك هو غيبة الإيمان عن قلوبهم في حال مواقعة المعصية, وربما لو أتيت لبعض هؤلاء لوجدته يحفظ أسماء الله الحسنى, ويعدها عن ظهر قلب, ولربما يعرف معنى كل اسم من هذه الأسماء, لكن هذه الأسماء لم تتحول إلى علم حقيقي يدخل في القلب, بل إنها علم في اللسان, والحسن البصري يقول: العلم علمان -وروي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم- علم في القلب, فذلك العلم النافع, وعلم في اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم.
علم اللسان حجة على ابن آدم، فلا بد أن نعرف معنى كل اسم من أسماء الله, ونربى أنفسنا على التأثر بهذه الأسماء, والخوف من الله عز وجل, والرجاء في الله, وطلب ما عند الله.
وإنما مثلت بهذا الحديث وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة} وإلا فهناك أشياء كثيرة جداً نحن نعلمها بألسنتنا لكن لم تدخل إلى قلوبنا, فلا تكون هذه الأمور حجة لنا إلا إذا دخلت إلى قلوبنا, أما إذا كانت في ألسنتنا فيجب أن نعلم أنها حجة علينا، كلنا مؤمنون بيوم الحساب لكن كم واحد منا يحسب الحساب ليوم الحساب في كل عمل من أعماله, ويعمل هذا العمل وهو ينتظر أن يجزى عليه غداً, ويترك هذا العمل وهو ينتظر أنه يجزى على تركه غداً.(257/9)
الإيمان بالموت
كلنا مؤمنون بالموت, لكن كم منا من يعمل وهو موقن أن الموت قريب منه غداً أو بعد غد, حتى وإن قلناه بألسنتنا تجد الواحد منا له آمال عريضة في هذه الدنيا, وتجد الشيطان يتدرج بك أيها الإنسان من حال إلى حال, إذا كنت في زراعة أو بناء أو دراسة, كلما أنهيت موسماً قال لك: الموسم القادم، ثم الموسم القادم، ولا يزال الشيطان يدفعك مرحلة بعد مرحلة حتى يموت أكثر الناس وهم في آمال, ما أظن أن هناك أحداً يموت وقد انقطعت آماله من هذه الدنيا, تجد هذا الإنسان يموت وهو يزرع, وذلك يموت وهو يبنى, والثالث يموت وهو يدرس, وكل إنسان في هذه الدنيا معلق بآمال ينتقل من أمل إلى أمل, والقبر له بالمرصاد! الكافر يعرف أنه سيموت، وكما حكى الله تبارك وتعالى عنهم في القرآن أنهم يقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] , فهم يعرفون أنهم سيموتون, بل وسيكونون تراباً, ومع ذلك مرة أخرى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وهو حديث صحيح-: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقبر} .
لقد عَدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بالموت ركناً من أركانه في هذا الحديث، ويؤمن بالموت، هنا أنا أسألك كيف يؤمن بالموت؟ وهل هناك أحد في الدنيا لا يؤمن به؟ بل قال بعض العلماء: حتى الدواب والمواشي تعرف أنها ستموت, كل الدنيا تؤمن بالموت, فما معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله من شروط الإيمان؟ ليس هو الإيمان الذي نردده بألسنتنا، نقول: كلنا نعرف أننا سنموت, وندعو الله بحسن الخاتمة, وإذا سمعنا أن فلاناً مات قلنا: هذا مصير جميع الناس ونهايتهم إلى غير ذلك من الأشياء التي نرددها, ليس هذا هو الإيمان بالموت.
الإيمان بالموت هو أن تعمل والموت نصب عينيك, تفعل الطاعة وأنت تعتقد أن هذا آخر ما سوف تؤديه, تصلى صلاة مودع, وإذا همت نفسك بالمعصية تذكرت الموت فأقلعت عنها؛ لأنك تعرف أن الموت قد يفاجئك وأنت على هذه المعصية.
لكن ضَعُفَ الإيمان بالموت في نفوسنا فصرنا نشيع الموتى غدواً ورواحاً ولا تتحرك والله منا شعرة, ولا تهتز القلوب سبحان الله طغى علينا حب الدنيا, والتعلق بها والأمل حتى صرنا لا نتأثر بهذا المشهد.
والموت من المشاهد المروعة، فنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى جنازة قام -كما في الصحيحين- فقالوا يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فقال: {إن للموت لفزعات، إن للموت لفزعات} وفى حديث آخر في صحيح مسلم: قالوا: إنها جنازة اليهود, قال: {أليست نفساً} ؟ فالموت مشهد مرعب, لأنه من مشاهد الآخرة نشاهده في الدنيا، لكنا تعودناه وألفناه فصرنا لا نخافه, بل ربما يموت القريب من أقربائنا, فنتأثر لمدة يسيرة أياماً معدودة إن طال التأثر, ثم ينسى هذا الأمر.
فالإيمان بالموت ليس معناه: أن يعرف الإنسان أنه سيقع، بل معناه: أن تعمل الخير وأنت تدرك أن الموت قد يفاجئك, وتترك الشر وأنت تدرك أن الموت قد يفاجئك.(257/10)
الإيمان بعداوة الشيطان
مثل هذا معرفة الشيطان، فكل الناس يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم, ويدركون أنه عدو لهم, ومع ذلك يقول لكم ربكم سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] , ما هو الفرق بين أول الآية وآخرها؟ ما الفرق بين قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] وبين قوله {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] هو موضوع الكلمة؛ القسم الأول هو علم باللسان {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] فالله سبحانه وتعالى يعلم أننا كلنا نعرف هذه العداوة, وأن الشيطان عدو لنا، ونتكلم بألسنتنا بذلك, ونعلم بعقولنا أيضا أنه عدو لنا, فعقب هذا بثمرة هذا العلم, وهو قوله {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] أي: لا تكتفوا بمجرد أن تعرفوا عداوته, حتى تقفوا منه موقف العدو من عدوه, فإذا أمركم بأمر فاعرفوا أن هذا كيد العدو لعدوه فاتركوا هذا الأمر, وإذا ثبطكم عن الطاعة فاعرفوا أن هذا كيده لكم فاستقيموا عليها والزموها واحرصوا عليها.
ففرق بين إنسان يردد بلسانه أن الشيطان عدوي، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وبين إنسان يعرف بقرارة قلبه أن الشيطان عدو مسلط عليه, وأن الشيطان لا يألوه جهداً بالكيد والمكر، وهذا واقع في حياة الناس؛ لو عرفت أن إنساناً من الناس عدو لك, وهو في دائرة من الدوائر الحكومية مثلاً, لقلت: هذا إنسان عدو لي، وحاولت جهدك أن تتقى كيده مكره, وإذا كان لك حاجة فى هذه الدائرة بذلت جهدك، فهكذا العدو مع عدوه.
والشيطان كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ينصب عرشه فى الماء على البحر ثم يبعث سراياه للناس يكيدون له, فأقربهم عنده منزله أكثرهم كيداً, حتى يأتيه الرجل فيقول: ما تركته حتى جعلته يقع في معصية، فيقول: ما فعلت شيئاً, إنه يتوب ويستغفر فيغفر له، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما تركت فلاناً حتى فرقت بينه وبين زوجته, فيدنيه ويقول: أنت أنت.
وهذا دليل على أن الشيطان -أيها الإخوة- يكيد لنا فى أمور ديننا ودنيانا {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] فالشيطان حريص على أن الإنسان يعيش فى تعاسة حتى فى دنياه, وحريص على أن الإنسان يحصل بينه وبين زوجته ما يحصل, ويحصل بينه وبين أولاده ما يسوء, فالشيطان يكيد لنا في أمور ديننا وفى أمور دنيانا, وعداوتنا للشيطان لا يكفى فيها أن نستعيذ منه فقط -وإن كانت الاستعاذة منه واجبة- ولا بأن نعرف فى عقولنا أنه عدو فقط، وإن كان هذا واجباً، ولكن مع هذا وذاك أن تقف منه موقف العدو من عدوه.
أيها الإخوة! أظن أنني أطلت عليكم بهذه الكلمة، ولذلك أختم هذا الموضوع بزبدة عسى الله أن ينفعني وإياكم بها, زبدة الموضوع أن هذه الكلمة كغيرها هي إما حجة لك أو عليك.
وخلاصته أن العلم الذى يفيدك ليس هو العلم الذى تسمعه بأذنك، أو تعرفه بعقلك، أو تقوله لغيرك، لا؛ بل هو العلم الذى يصل إلى قلبك, فيجعلك تنشط للطاعة، وتبعد عن المعصية, هذا هو العلم النافع، ونحن بحاجة إلى من يعلمنا ما نجهل من أمور ديننا, كما أننا بحاجة إلى من يذكرنا بأن نستفيد مما نعرفه سابقاً مثل: معرفتنا بالله، ومعرفتنا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفتنا بالجنة، ومعرفتنا بالنار، ومعرفتنا بعداوة الشيطان، وغير ذلك من الأمور.
أسأل الله تبارك تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا شقيا ولا محروما, وأن يكتبنا فى هذه الساعة من الناجين من النار, وأن يكتبنا من أهل الجنة دار القرار, وأن يثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة, وأن يتوفانا على الإسلام, ويختم لنا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ويغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين, وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(257/11)
الأسئلة(257/12)
شياطين الجن والإنس
السؤال
أيهما أخطر شياطين الجن أم شياطين الإنس؟
الجواب
أقول: قرن الله تبارك وتعالى شياطين الإنس مع شياطين الجن فى القرآن الكريم, قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] سبحان الله! سُنَّة الله عز وجل فى خلقه ما خلقنا الله عز وجل إلا ليبتلينا، ولو شاء الله لخلقنا ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, لكن لحكمته خلقنا بشراً فينا خير وفينا شر, وقابلين للهداية وقابلين للضلال, وأنزل علينا الكتب، وأرسل إلينا الرسل، ليهتدي من يهتدي, ويضلل من يضل {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:108] هذه حكمة الله في خلق البشر.
ولذلك الرسل في طرف, وأعداؤهم في الطرف الثاني, وأعداؤهم هم: يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} [الأنعام:112] ثم فسر لنا ذلك بقوله {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] .
فالشياطين نوعان: شيطان الإنس, وشيطان الجن, ولا أدخل الآن في أيهما أخطر وأشد، ولكنى أحذر من شياطين الإنس, لأن شيطان الجن يجرى من ابن آدم مجرى الدم -كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- وقد يخفى عن الإنسان شأنه في بعض الأحيان ويلتبس, أما شيطان الإنس فمن رحمة الله وحكمته أنه واضح وضوح الشمس في كثير من الأحيان لمن وفقه الله, فتجد بعض المنحرفين -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- يتقرب لبعض الصالحين من الأبناء الطيبين فيغريهم بالمعصية شيئاً فشيئاً, ويبدأ معه بصغار الأمور قبل كبارها, وهذه سياسة أخذوها عن شيخهم وأستاذهم الشيطان الأكبر إبليس -أعاذنا الله وإياكم منه- يبدأ بالأمر الصغير شيئاً فشيئاً, حتى يوقع الإنسان في المهالك وهو لا يدري, ودائماً السفر الطويل يبدأ بخطوة, وهكذا طريق الشر والعياذ بالله يبدأ بخطوة واحدة، إما يغريه بالتدخين مثلاً, أو أن يغريه أن يخرج معه إلى طريق غير طيب, ثم يغريه بعمل آخر سيئ, ولذلك قال بعضهم: إذا رأيت على الإنسان المعصية فاعرف أن لها أخوات، هذه الظاهرة ولها أخوات خفية لو فتشت لوجدتها.
فالإنسان منا يجب أن يكون حذراً على أولاده، وهذا -يا إخوة- والله من المشكلات التي تقلق القلوب، وتقلق الغيورين, قضية الأبناء الذين أصبحوا يقضون في الشوارع أكثر مما يقضون في البيت, وأصبح الأب دائماً يعتذر فيقول: كبر الابن وكبر عمره وحجمه، ولو أنني أردت أن أضربه أو أنهره فربما يعتدي عليّ, هكذا يقول كثير من الناس، فنقول له: سبحان الله لقد فرطنا في الماضي, وضيعنا ثم بدأنا نتعلل ونتعذر بأشياء هي من صنيعنا نحن.
فالأمر الذي أريد أن أنبه عليه في هذه العجالة عن الأبناء الصغار الذين لا زالوا قادمين في الطريق، علينا أن نفقه أيها الإخوة كيف نوجههم.
الله خلق الإنسان على فطرة معينة، لا يمكن أن نغير هذه الفطرة ولا يمكن أن يصبح الطفل مثل الكبير، ربما أحيانا يُنتقد الطفل على بعض الأشياء التي يلعبها, إذا لعب أو سأل ننتقده, لماذا ننتقده؟ هو طفل ونحن لما كنا في مثل سنه الصغير كنا نفعل كما يفعل, فهو طفل ولا يحاسب ولا يلام إلا إذا بلغ مبلغ الرجال.
فأقول: علينا أن نعاملهم فعلاً كما لو كانوا أطفالاً، ونأتيهم بالطرق التي تناسبهم، من الأمثلة على ذلك: أولاً: أسلوب القصص، القصة تؤثر في الطفل تأثيراً كبيراً جداً, وتجعله ينشدها، فلو أن كل واحد منا إذا ذهب إلى بيته بدلاً من أن يضيع الوقت في أمور لا فائدة منها أخضر لأطفاله بعض مثل القصص الإسلامية التي تربي عندهم الإيمان، من جنس قصة الثلاثة التي ذكرتها منذ قليل، أو غيرها من القصص التي تسمعونها من الأئمة والفقهاء، وبدأت تذكر لهم هذه القصة بالأسلوب الذي يناسبهم، ستجد أن هذا الإنسان أو الطفل يستفيد منها كثيراً.(257/13)
خلود الكفار في النار
السؤال
إن العلماء انقسموا إلى فريقين بالنسبة إلى خلود الكافر في جهنم والعياذ بالله، الفريق الأول يقول بأن الكفار لا يخلدون في النار إلى الأبد ويدخلون الجنة، والفريق الثاني يقول: إنه مخلد فيها خلوداً أبدياً لا انتهاء له, وأن الجميع مستدلون بآيات من القرآن الكريم أو أحاديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
أقول كما يقال في المثل: إذا جاء أمر الله بطل أمر غيره, فالقرآن الكريم محكم ونصوصه صريحة في خلود الكفار في النار خلودا أبدياً لا انتهاء له, وقد ذكر الله عز وجل تأبيد الكافرين في ثلاثة مواضع من القرآن منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الأحزاب:64-65] وفي السنة النبوية من هذا الكثير، والأحاديث في هذا صريحة, مثل الحديث الذي ذكرته قبل قليل عن أبي هريرة وغيره.
وأما أن علماء السنة انقسموا فإنني أرى أن في هذا شيئاً من الفساد في التعبير, وإن كان بعض المصنفين ذكروا ذلك كالإمام شارح العقيدة الطحاوية وغيرها, وأعتقد أن في هذا شيئاً من الفساد؛ لأن علماء السنة متفقون أولهم وآخرهم على خلود الكفار في النار خلوداً أبدياً لا انتهاء له, ولا يخرجون منها أبداً -نسأل الله السلامة والنجاة من ذلك-.
أما القول بأنهم يخرجون منها أو ينتهون فيها, فهو قول حادث نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية , ونسب لتلميذه ابن القيم وأقوالهم في ذلك مضطربة، فهم في بعض الكتب يقولون ذلك وفى بعضها يقولون غيره, فيجب ألا نقلد أشخاصاً مهما كانت عظمتهم، فإن الله تعالى أبى أن يكون الكمال إلا لكتابه، فهو كتاب محكم من الزيادة والنقصان والخطأ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإذا تحقق القصد بأنهم مخلدون فيها أبداً، فإن الواحد منا أحياناً إذا تأمل وجد المسألة فيها صعوبة كيف أنه مخلد لا مطمع له في الخروج من النار أبداً خلوداً سرمدياً.
فأقول: يا أخي يهون عليك هذا، ويجعلك لا تفكر فيه أصلاً أن تدرك أن الذي يعاقب ويحاسب هو الله الذي من أسمائه: الرحمن، الرحيم, الودود, اللطيف, الحليم, الكريم, البر, كل هذه من أسماء الله سبحانه تعالى, ولو علم الناس قدر رحمة الله لطمع في جنته حتى الكفار, فرحمة الله واسعة, فإذا علمت أن هذا الرحيم هو الذي عاقبك, أدركت أنك مهما كنت, فلن تكون أرحم من الرحيم, فكيف تظن أنه لن يخلد مع أنه هو نفسه سبحانه قال: سيخلد فيها أبداً.
هذا أمر يجب على الإنسان أن يكله إلى الله سبحانه تعالى, لأن هذه أمور من أمور الغيب، ويكفيك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وما صح عنه حديث واحد في هذا الموضوع, إنما روي عنه حديث في تفسير عبد بن حميد لا يصح في خروجهم من النار, أو فنائهم, وعمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: لو علم أهل النار أنهم ماكثون في النار عدد رمل عالج لفرحوا واستبشروا, يعنى: مثل ما نقول صحراء الربع الخالي, أو غيرها، لو علموا أن مكثهم في النار من الأيام التي هي أيام الآخرة عدد رمال هذه الصحراء لفرحوا, لكنهم يعلمون أنه ليس لهم خروج أبداً، ولذلك يقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77-78] .
فإذا يئسوا من الموت, جاءوا بطلب آخر، فيقولون لخزنة جهنم: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] , انظروا أيها الإخوة ما دمنا في زمن الإمهال، انظروا إلى لغة الأمر وشدته وصعوبته {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:14] , وما طلبوا في هذا أن يخرجوا منها, لا, بل طلبوا التخفيف فقط ومع ذلك فالله لا يجيبهم, بل يقال لهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:50] , ألم تقم عليكم الحجة؟ {قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50] , فيقول لهم الخزنة: لن ندعو ربنا ليخفف عنكم, ادعوا أنتم ودعاؤكم في ضلال, يعنى: فدعاؤهم ضائع لا يستجاب له, ويقول الله تبارك وتعالى في الموضع الثالث {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر:36] نص من رب العالمين أنهم لا يموتون {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:37] يعنى: يضطربون ويصرخون ويقولوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} [فاطر:37] يتمنون هذه اللحظات التي نحن فيها الآن {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] ويعاهدون الله على ذلك فيقال لهمك {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] نعم أيها الإخوة احتج الله عليهم بالعمر الذي أعطاهم، العمر الذي هو حجة علينا، هو الحجة وهو النذير المبين أن الإنسان بلغ حتى عقل وعرف الأمر والنهى الذي يعاقب فيه {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] ويقول الله عز وجل: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] , ويقول: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] إلى غير ذلك من الآيات.
فأهل النار من الكفار خالدون مخلدون فى جهنم أبداً لا مطمع لهم فى الخروج منها, ولا مطمع لهم فى الموت, فضلاً عن أن يكون لهم مطمع فى الجنة, فهذا أمر من أشد المحال.
ومما سبق أيها الإخوة أنه لعلكم سمعتم كثيراً أن الذي يموت وقد بلغ سن البلوغ, وهو لا يصلي الصلوات المفروضة, فإنه كافر, وهذا الأمر يفتى به لا أقول جماهير العلماء بل جميع الصحابة, جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, أعلم الناس بالدين، والذين شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم, وعاشوا وسمعوا كلامه، ورأوا تنزل الوحي عليه يقول عنهم التابعي الجليل عبد الله بن شقيق فى الأثر الصحيح: [[كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة]] واستدلالهم بهذا من القرآن والسنة، ولو كان المجال يتسع لبسطنا أدلتهم.
وهذا يجعلني أؤكد عليه -أيها الإخوة- بضرورة تعاهد أولادنا ومن حولهم, وما تحت أيدينا وجيراننا فى موضوع الصلاة، والله لو علم الواحد منا أن هذا الابن الذى يحبه ويشفق عليه سيكون في النار فضلاً عن أن يخلد فيها لطار صوابه, فيجب أن يتحول هذا العلم من علم باللسان وبالعقل إلى علم بقلوبنا, يحرك قلوبنا إلى أن نأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر, فإذا عجزنا قامت الحجة عليهم, وحينئذ نقول كما قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] .(257/14)
الجهاد في سبيل الله
هذه الندوة شارك فيها عدد من العلماء: (ابن جبرين، والدكتور عبد الله التويجري، وسلمان العودة) حول الجهاد في سبيل الله من جوانب عدة، فبينوا واقع الأمة اليوم وحكم الجهاد في سبيل الله، وكيف يكون جهاد المرتدين والمنافقين اليوم وما الآثار التي ترتبت على ترك الجهاد في سبيل الله، ثم دعاوى السلام والتطبيع، مع مداخلات وكلام للمقدم وهو الشيخ خليفة.(258/1)
مقدمة مقدم الندوة(258/2)
المقدمة
قال مقدم الندوة حفظه الله: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, ونصلي ونسلم على عبد الله ونبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, وبعد: قبل أن نبدأ هذه الندوة الطيبة المباركة -إن شاء الله- أعتذر إليكم وإلى مشايخنا الكرام عن أن أتولى الحديث معهم وأن أشاركهم الحديث, وأن أقدم لهم وأن أكون مشاركا لهم في هذه الندوة, لأني لست من فرسان هذا المجال, ولكن إخواني جزاهم الله خيراً ظنوا بي ظناً الله أعلم به، فأسندوا إليّ إدارة هذه الندوة التي أرجو إن شاء الله أن نخرج منها بحصيلة علمية ونفسية تربوية طيبة.(258/3)
عنوان الندوة وطريقة سيرها
موضوع هذه الندوة عن أمر غاب كثيراً عن الساحة, وكذلك غاب الحديث عنه كثيراً, ألا وهو: الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام هذا الأمر العظيم الذي به عِزَّ الأمة, وبه رفعتها وقوتها وعودتها إلى مركز القيادة والسيطرة على هذه الدنيا التي أمرنا الله جلَّ وعلا أن نكون فيها المسيطرين المهيمنين.
أقول: هذا الأمر العظيم الجهاد في سبيل الله سيكون مجال حديث المشايخ الكرام، جزاهم الله عنا وعن الإسلام خيراً.
وهذه الندوة مكونة من عدة عناصر سأطلب من كل واحد منهم الحديث عنها، في حدود لا تتجاوز الخمس أو الست دقائق في كل عنصر من العناصر حتى يعود الحديث إليه.(258/4)
واقع الأمة
ونبدأ الحديث عن مدى حاجة الأمة وعن واقع الأمة الذي تعيشه الآن, الذي يجعلها في أمس الحاجة إلى أن تحيي هذه الفريضة, وأن يُذكر الناس بها قولاً وفعلاً.
هذه الأمة المسكينة المستضعفة, ولا أستطيع أن أطيل الحديث عن واقعها السيئ الذي تعيشه من جميع الجوانب, وإنما سأعرض لموجز قصير مركز وسألتزم بما ألزمت به إخواني وجزاهم الله خيراً, ولست بالآمر لهم ولكن أقول: إن هذه الأمة تعيش فترة من أحلك ظروفها ومن أحرج أوقاتها، فبماذا نبدأ الحديث عن واقع هذه الأمة؟ هل بالجانب العسكري وهي فيه بما تعلمون من الضعف ومن الذلة والقلة، لا أقول القلة العددية, فعددها كبير؛ ولكن أقول: القلة المعنوية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصف هذه الأمة في عصر من عصورها ويقصد آخر زمانها, أنها تكون كغثاء السيل, قيل: يا رسول الله! أمن قلة نحن في ذلك الوقت؟ قال: {لا، أنتم كثير ولكن غلبكم الوهن، حب الحياة وكراهية الموت} فهذه القلة التي نعيشها, القلة المعنوية, والهوان الذي تعيشه هذه الأمة نتيجة تفريطها بشرع ربها, ونتيجة تركها لباب من أعظم أبواب الخير وهو باب الجهاد.
هذه الأمة تعيش -كما ترون- حالاً سيئة في كل جوانب واقعها, ولنبدأ بالجانب العقائدي، وجانب تطبيق الشريعة الإسلامية.
فأمة الإسلام تعيش وضعاً يؤلم كل من في قلبه مثقال ذرة من إيمان, تنتشر فيها البدع, وتنتشر فيها الضلالات, وينتشر فيها الشرك ويكثر، له دوره وقصوره وبيوته ومنازله, وله سدنته وهياكله, وينتشر فيها الفساد والانحلال والانحراف, وينتشر فيها البعد عن شريعة الله جل وعلا, التي أزيحت قليلاً قليلاً عن قيادة هذه الأمة حتى سُلخت أو تكاد أن تكون سلخت من دينها تماماً.
وأصبح المهيمن المسيطر في واقع الأمة الإسلامية -وبإشراف أَُناس يتسمون بالإسلام- أصبح المهيمن المسيطر هو نظم الكفر, والضلالة, أزيحت شريعة الإسلام علناً وقصداً وعمداً، ولم يبق من الإسلام في شرائعه مسموح له بالعمل والحركة في أغلب بلاد الإسلام وأكثر دياره إلا ما يسمونه بجانب الأحوال الشخصية, وهو الزواج والطلاق والمواريث، وحتى هذا الجانب الضيق من جوانب الشريعة الإسلامية, لم يتركوه بل تدخلوا فيه وبدلوا وغيروا, حتى ضيقوا على هذا الجانب الضيق الذي تركوه للإسلام من الشريعة.
أما بقية شرائع الإسلام بكافة شمولها وكافة سيطرتها على جوانب الحياة, فقد ألغيت تماماً من حياة الأمة، إذاً: وضع عسكري ضعيف, أو يكاد يكون معدوماً، ووضع اجتماعي وشرعي وعقائدي مُزرٍ يؤلم حال كل من في قلبه مثقال ذرة من إيمان, حتى أنك تدخل البلد المسلم وتدخل البلد الكافر فلا تجد فرقاً كبيراً بين هذين البلدين إلا بوجود المنائر المرتفعة في هذه البلدة أو تلك, وأما ما عدا ذلك فليس هناك فرق؛ العري والتكشف, والتحاكم إلى غير شرع الله, والخرافة والبدعة والضلالة, وكل سوء يتصور الإنسان وجوده في بلاد الكفر فهو كذلك موجود في بلاد الإسلام إلا من رحم الله.
حال سيئة، مذلة ومهانة, استذلال واستهانة, وإراقة لا تتوقف للدماء التي تجري أنهاراً في كل ركن من أركان الأمة الإسلامية, بماذا نبدأ وبماذا ننتهي؟! ماذا نقول؟! هل نتكلم عن الهند؟ أم نتكلم عن الصومال؟ أم عن بورما؟! أم نتكلم عن كشمير؟ أم عن فلسطين؟ أم عن الجرح الجديد النازف في سراييفو والبوسنة والهرسك؟ أم عن ماذا نتكلم؟!! ليس هناك مكان تقريباً في أمة الإسلام إلا وفيه جرح ينزف، أقول: هذا الواقع السيئ وهذا التفكك السياسي, وهذا التفكك المذهبي, وهذا الانحلال الخلقي, وهذا البعد عن شريعة الله جل وعلا, وهذا الضعف العسكري, وهذا الهوان على الله وعلى الناس, لا دواء له إلا بالجهاد في سبيل الله, هناك أدوية كثيرة، وهناك محاولات مشكورة, ولا تنس ولا تُترك من التعلم والتعليم والتوجيه, وكلها أمور لا ينبغي أن نغفل عنها, ولكن عِزَّ هذه الأمة إنما هو بالجهاد في سبيل الله، الذي هو ذروة سنام الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول: لا تزول هذه الحالة، وسنبذل وسيبذل الخيرون في هذه الأمة الآن وبعد الآن وفي هذا الجيل وأجيال قادمة سيبذلون جهوداً كبيرة لإصلاح هذه الأمة، وسيوفقون في جوانب, ولكن الحل الحقيقي لهذه الأمة هو الجهاد في سبيل الله.
الجهاد في سبيل الله هو الحل الحقيقي لهذه الأمة، هو الذي سيعيد إليها وحدتها، وقوتها، وعزتها، والعمل بشريعة ربها.
أنا في اعتقادي -والكلام لإخواني المشايخ أساتذتي ومشايخي: إن كل جهد لا يربط بالجهاد في سبيل الله أنا أقول وأعتقد والله أعلم أنه لن يؤتي الثمرة المرجوة, التي تراد ويريدها الله من هذه الأمة؛ لأن أعداءنا كُثُر ولن يسمحوا لنا وهم أقوياء كما نعلم ولا ننكر قوة عدونا, لن يسمحوا لنا إطلاقاً أن نستعيد زمام المبادرة والقيادة إلا بقوة السلاح والحديد والنار, هذه حقيقة واقعة لا بد أن نعرفها ونذكرها جيداً، ولا نغفلها عند الحديث عن إصلاح حال هذه الأمة، وقد وصلت أحوالها إلى ما وصلت إليه.
هذا موجز قصير حول أحوال هذه الأمة وربط هذا الأمر، إنه لا عودة لعزة هذه الأمة وقوتها ومنعتها, وكذلك لا عودة لشريعة ربها لتحكم حياتها إلا بالجهاد في سبيل الله, وإزالة كل طاغوت كافر في هذه الأرض يقف في وجه هذه الدعوة ويتحداها بقوة سلاحه، وبقوة إعلامه، وبقوة علمه، وبقوة تقدمه وتحديه وتنظيمه.
بعد هذه المقدمة الموجزة القصيرة حول أحوال هذه الأمة نوجه إلى إخواننا من المشايخ جزاهم الله عنا وعن الإسلام خيراً, إلى الحديث حول عناصر هذه الندوة، ونبدأ بالعنصر الأول: حول دور الجهاد في تأريخ هذه الأمة.
فإننا نعرف أن تأريخنا تأريخ مشهود، وأن للجهاد فيه دوراً كبيراً, نرجو ونتمنى من الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين جزاه الله خيراً أن يحدثنا عنه.(258/5)
دور الجهاد في تأريخ هذه الأمة
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حفظه الله: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما، أما بعد:(258/6)
تعقيب على كلام الشيخ ابن جبرين
قال مقدم الندوة حفظه الله: جزى الله الشيخ عبد الله كل خير على هذا الاختصار ويكفي أن نعلم أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كان عددهم يزيد على مائة ألف كما ورد في بعض الآثار لم يمت في المدينة منهم أكثر من عشرة آلاف نسمة, والبقية منهم ساحوا في الأرض ناشرين لدين الله جل وعلا, محطمين لعروش الطواغيت, قاضين على قوى الكفر, ممهدين لرسالة الإسلام حتى وصلت أقصى مكانٍ يستطيع أن يصل إليه الإنسان في ذلك الوقت, ولا داعي للإطالة في هذه المسألة.
فنحن -ولله الحمد- في هذا الزمان -ولهم بذلك الأجر العظيم- نحن أثر من آثار جهاد الصحابة والسلف الصالح, فعندما ترى نفسك على عقيدة صحيحة وعلى دين صحيح فادعُ أولاً لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله له الوسيلة، ثم ادع لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم من استشهد منهم في أول الإسلام، ومن استشهد منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن استشهد منهم في أزمنة متأخرة, وادع لكل مسلم سلك طريق الجهاد, وترك الأهل والديار, فما أنت وما أنا إلا حسنه من حسناتهم جزاهم الله عنا خير الجزاء.
ونرجو بعد ذلك من الشيخ عبد الله بن حمود التويجري أن يحدثنا عن حكم الجهاد وأهميته، وكذلك نرجو أن يكون ذلك بشكل موجز مختصر وجزاه الله خيراً.(258/7)
آثار الجهاد ودوره في هذه الأمة
إن آثار هذا الجهاد ودوره هو أن الله تعالى أظهر الإسلام, وأظهر الدين بسبب أنهم جاهدوا المشركين, وإذا قيل إن الله تعالى قادر على أن يظهر دينه كما في قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] , فلماذا ابتلاهم بهذا الجهاد؟ أجاب العلماء بأن هذا الابتلاء فيه مصلحة عظيمة: منها: أن فيه معرفة صدقهم مع الله تعالى, ومعرفة قوة إيمانهم, وفيه الابتلاء لمن كان ضعيف الإيمان, ومن كان قوي الإيمان, فعندما ظهر هذا الجهاد وأمر الله به تبين من آمن إيماناً صحيحاً, وتبين من لم يكن صادق الإيمان, وأدلة ذلك مذكورة لا نطيل بها, ونتوقف عند هذا حيث أن الفقرات كثيرة ليتولى الإخوة بقية الجواب والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله.(258/8)
بداية الشروع في الجهاد
بعد ذلك كله أظهره الله وهدى ووفق من اتبعه ومن نصره, ولما أظهره الله ومكن له في البلاد شرع له الجهاد في سبيل الله, فجاهد في الله تعالى حق جهاده حتى نصره الله، وأظهر له الدين الذي أرسله به, فأنزل عليه في آخر حياته قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] , {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [الفتح:28] , فصدق الله وعده, حيث أظهر هذا الدين ومكن له.
وكان من أسباب ظهوره الجهاد؛ حيث أنه صلى الله عليه وسلم بذل جهداً، وصحابته الذين أخلصوا في اتباعه بذلوا جهداً.
إذاً فالجهاد الذي قاموا به هو أنهم أجهدوا أنفسهم, وبذلوا وسعهم, وبذلوا أوقاتهم, وأنفقوا ما يملكونه, وآثروا سبيل الله على أهوائهم, وعلى شهواتهم, فكان ذلك سبباً لنصرهم، فحقق الله لهم النصر لما نصروه، وقال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] , ومعلوم أنهم ابتلوا بهذا الجهاد ليظهر بذلك صبرهم وجلدهم وقوتهم وليظهر بذلك إيثارهم للحياة الأخروية, والنعيم الأخروي على شهواتهم الدنيوية, وعلى متاع الدنيا, وما ذاك إلا أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه, صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وآمنوا برسالته, وحققوا اتباعه, وعلموا أن ما جاء به كله حق, وأنه صادق مصدوق, وأن وعده صدق, فلما آمنوا بذلك رخُصت عندهم أنفسهم, ورخصت عندهم شهواتهم وأموالهم, وأولادهم, وعرفوا أن وعد الله تعالى حق فبذلوا كل ما في وسعهم, فأظهر الله بهم الدين.
وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] , فحقق الله هذا الوعد ولكن بعد أن حققوا ما طلب منهم، حققوا الإيمان, وصدقوا فيه, وحققوا العمل الصالح, وحققوا العبادة, واجتنبوا الشرك, واجتنبوا المعاصي, وكذلك أجهدوا أنفسهم وجاهدوا في سبيل الله.(258/9)
جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته معروف أنهم أولاً: جاهدوا نفوس الناس.
ثانياً: جاهدوا أبدانهم وجاهدوا عقولهم، فجهادهم الذي جاهدوا به النفوس هو أنهم غزوا كل نفس شريرة سواءً كان غزوهم غزواً حسياً, أم غزواً معنوياً, وشرح ذلك يطول وأمثلته واضحة.
وبكل حال فإن الله تعالى لما أمرهم -أولاً- بالقتال أمراً مرخصاً فيه؛ عند ذلك بدأوا بالقتال، ويذكر العلماء أن أول ما أنزل الله في القتال قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] , أذن لهم بأن يقاتلوا, وكان هذا مجرد إذن, ثم بعد ذلك نزل الأمر بقتال من قاتلهم، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] أمرهم بأن يقاتلوا من قاتلهم, ويكفوا عمن لم يقاتلهم, ثم بعد ذلك أمرهم بأن يقاتلوا جميع المشركين، فقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] , وتسمى هذه آية السيف، بمعنى أنها أمرت أمراً مطلقاً بأن يجاهد كل مسلم أعداء الدين أينما كانوا، وفي أي بقعة كانوا ماداموا مشركين.
ومعلوم أن المشركين في هذه الآية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة:5] يدخل فيها كل من أشرك بالله تعالى, وخرج عن عبادته.(258/10)
بداية الإسلام وأول أمره
هذه المقدمة التي سمعناها من أخينا وفقه الله حول أحوال هذه الأمة وما أصابها من الضعف, شيء مشاهد، ولعله قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء} .
ولا شك أن الإسلام بدأ في أول أمره سراً، بحيث أن الدعوة -دعوة النبي صلى الله عليه وسلم- كانت سرية, ثم بعد ذلك أمره الله بأن يظهر ويعلن دعوته: {قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:2-3] إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] , فأعلن بعد ذلك الدعوة إلى الله تعالى, وأعلن أنه على حق وصواب, وأن المشركين على خطأ وعلى شرك وضلال, فعند ذلك نصبوا له العداوة, ووبخوه على أفعاله وعلى أقواله, واستنكروا ما جاء به.(258/11)
حكم الجهاد وأهميته
قال الشيخ عبد الله بن حمود التويجري حفظه الله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، وبعد: لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالجهاد، فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] فجعل غاية للقتال، فقد أمرنا بالقتال, وقال: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:218] , وقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغزو، فقال: {من مات ولم يَغْزُ ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من النفاق} , وقد حذرنا من النفاق.(258/12)
ترك الجهاد يفضي إلى ترك الدين
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبه أن ترك الجهاد يفضي إلى ترك الدين، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم} فجعل مراجعة الدين الجهاد في سبيل الله.
وأما الجهاد فتارة يكون فرض عين, وتارة يكون فرض كفاية, فمتى حل ببلده عدو، أو حصره، أودعاه الإمام وندبه لذلك, كان في حقه فرض عين, وأما إذا قام به من يكفي؛ كان في حقه فرض كفاية, لذا نرى أن بعض الصحابة لما توسعت الفتوحات، وكثر المجاهدون في سبيل الله اكتفى بعضهم بالجهاد بماله, مع أنهم قبل ذلك كانوا يجاهدون بالأنفس والأموال.(258/13)
بعض صور الجهاد العيني والكفائي
عثمان جهز جيش العسرة وحضر بنفسه, بل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ثلاثة وعشرين عاماً في الجهاد بالكلمة وبالسنان.
أقول: هذه بلاد الإسلام إخوتي في الله قد توازعها الأعداء, وصارت عليها الوصايات, فسبق أن قدم أخي في كلمته عن واقع الأمة الإسلامية.
فالمسلمون يقتلون في كشمير ويفعل بهم الأفاعيل, وفي سراييفو, وفي إرتيريا, وفي بورما, وفي تايلاند, وفي كمبوديا, وفي سيلان, وفي الهند, وفي غيرها من بلدان الإسلام يقتلون، ففي حق أهل الإسلام في هذه البلاد هو فرض عين، وفي حق المستطيع من غيرهم أيضاً, ينبغي له أن يساعد بماله إذا لم يتيسر له الجهاد وحضور الجهاد بنفسه, فعليه المجاهدة بالمال وكلنا ولله الحمد والمنة يستطيع ذلك، فهاهم الصحابة كانوا يؤاجرون بالتمرة والتمرتين ويتصدقون, ونحن نملك الأموال -الكبيرة جداً- ولو تنازلنا عن بعض التحسينيات، بل بعض الإسراف والتبذير الذي نمارسه لوفرنا الكثير, ولأنفقنا الكثير, وهذه كلمة يسيره جداً عما يتعلق بحكم الجهاد في سبيل الله, وإذا انتشر الإسلام وعم واستغني عن خدمات بعض أهله فهو سنة مؤكدة في حق البقية, وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الجهاد مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وآخر هذه الأمة سيجاهدون اليهود مع عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله زوى له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها وأن ملك هذه الأمة سيبلغ ما زوي له منها، ومع ذلك نجد هذه الدولة الإسلامية لم تبلغ المشارق والمغارب, فينبغي أن يجاهد أهل الإسلام ليبلغوا هذا المبلغ وليكون الدين لله، ويقضى على الفتنه, والفتنة هي الشرك.
والشرك قد طبق كثيراً من المعمورة -جعلني الله وإياكم ممن يجاهدون في هذا السبيل.(258/14)
تعقيب المقدم على كلام الشيخ التويجري
قال مقدمة الندوة حفظه الله: جزاكم الله خيراً على هذا الإيجاز والتركيز في حكم الجهاد وهذا الإيضاح والبيان الذي به تشفى النفوس, ويتضح الكثير من أحكام الجهاد التي تردد فيها الكثيرون، فيُعنى في خلاف لا معنى له, والأمة تؤكل وتقتل وتمزق وتشرع فيها الوصايات -كما رأينا- حتى لقد عادت الأمة الآن مرة أخرى إلى عهد الاحتلال الصليبي المباشر, بل نجد من كتاب المسلمين وممن ينتسبون إلى الإسلام ممن يروج لهذه الوصايات الكافرة على أمة الإسلام, ويعتقد ويقول في صحف تنشر وتنسب إلى بلاد التوحيد, وتدخل هذه الديار لا رقيب ولا حسيب عليها, يقول فيها قائلها عليه من الله ما يستحق إن من الأفضل للأمة أن تكون تحت وصاية الدول الكبرى؛ لأنها لم تبلغ الأهلية لأن تكون حاكمةً على نفسها لما فيها من الفتن والتقاتل, حتى ولو فرضنا وجود الفتن والتقاتل في الأمة فليس الحل هو أن يحتلنا الأعداء ولكنه الضلال, نسأل الله العفو والعافية.
فحكم الجهاد واضح جلي -ولله الحمد- وقد أبانه الشيخ عبد الله -جزاه الله خيراً- فلا مزيد لمستزيد بعد ذلك فجزاه الله خيراً.
وآن الأوان لفضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة ليحدثنا عن أنواع الجهاد في سبيل الله جزاه الله خيراً، بشيء من الإيجاز والاختصار.(258/15)
أنواع الجهاد في سبيل الله
قال الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله: كنت قد أعددت بعض النقاط، ولما طلب مني الشيخ خليفة أن أحدثكم عن موضوع أنواع الجهاد, وجدت أن ما كتبته يتعلق بهذه النقطة بالذات فالحمد لله على ذلك كثيراً، كنت كتبت نقطة عن مسألة "معنى الجهاد", وأعتقد أن الحديث عن أنواع الجهاد مرتبط بالكلام عن معنى الجهاد فعنوان هذه الندوة كما سمعتم الجهاد في سبيل الله، يجب أن نقف عند أول كلمة "الجهاد" وماذا نعني بالجهاد؟(258/16)
صحف المسلمين وصحف النصارى
قال مقدم الندوة حفظه الله: جزاك الله خيراً على هذا التعقيب، وتأييداً لكلام الشيخ سلمان في قضية الخداع, أو في قضية وجود بعض الأفراد كتبت بعض الصحف الغربية مقالات من التأسف لحال المسلمين في البوسنة, ما لم تكتبه -مع الأسف- الجرائد المنسوبة للإسلام, وهذه قضية حقيقية لا تقبل الجدل, ومسألة تمسكهم باللفظ والاهتمام بتليين الألفاظ وأصول التعامل بلغت حداً عجيباً.
يقول لي أحد الإخوة الذين ذهبوا إلى تلك الديار: إن البريطاني حتى ولو جاء ليقتلك ربما قال لك (please you) أي: من فضلك, وهو يريد أن يقتلك! وفعلاً إذا ساعدك في حاجة قال لك: شكراً, وهو الذي ساعدك, وهذه تخدع الناس, بل إن هذا الإنسان الذي عرفه حق المعرفة يقول: إنها تجري على ألسنتهم جرياناً بدون أعماق قلبية في قلوبهم، إنه لو جاء ليقتلك لاستأذنك وقال لك: "من فضلك أريد أن أقتلك"!! فهم لاشك بارعون في التعامل اللفظي براعة كبيرة, ولكن كما أشار الشيخ جزاه الله خيراً إلى أن هذه القضية ليست عامة، إنما توجد في بعض الأفراد، وهؤلاء الأفراد جاهزون عندما تحصل استثارة، وعندما يحصل الصراع الشامل، وسيحصل يوماً من الأيام بيننا وبينهم، سيعودون إلى أصولهم وإلى حقدهم.
فجزى الله الشيخ سلمان خيراً على هذا التعقيب.
يقول أحدهم: إنه كان في إفريقيا وكان الأوروبيون يحتلون بعض الدول، فيقول أحد الأوروبيين: إن هؤلاء الأفارقة وحوش، تصور أن أحدهم عضني وأنا أقتله!! فعضة الأفريقي وحشية! أمَّا قتل الأوروبي فهو حضارة!(258/17)
خلاصة أنواع الجهاد
الجهاد أنواع, وآلات الجهاد أنواع: فنحن نحتاج إلى الجهاد باللسان، بالبيان، بالحجة، بكلمة الحق التي يحتاج الناس إلى أن يسمعوها, ونحتاج إلى الجهاد بالعقل والتفكير, ونحتاج إلى الجهاد باليد, ونحتاج إلى الجهاد بالمال, ونحتاج إلى الجهاد بالنفس, وكل هذه أنواع باعتبار الآلة التي يمارس الإنسان الجهاد فيها وباعتبار العدو الذي يقابله ذلك الإنسان.(258/18)
تعقيب على كلمة الشيخ سلمان
قال مقدم الندوة حفظه الله: جزى الله الشيخ سلمان خير الجزاء على هذه الإجابة المليئة المختصرة, وحقيقة: إن الأعداء -كما قال وأشار حفظه الله- ليسوا بتاركينا وإن تركناهم, وإن سالمنا، وإنَّ أغلب من يذبح الآن في كل ديار الإسلام؛ إن الأغلبية الساحقة منهم ليس في أيديهم سلاح, وكلكم رأيتم وسمعتم وعلمتم أن الذين يذبحون في الهند وفي البوسنة وفي غيرها أطفال صغار تجز حلاقيمهم كما تجز حلاقيم الشياه, هل مع أولئك سلاح حتى يخاف العدو منه؟! ولكنه الحقد الذي لا ينهيه شيء إلا زوال الكفر من قلب هذا الكافر, أما ما دام أن قلبه مليء بالكفر فهو مليء بالحقد, هذه قاعدة منذ أن وجد المسلم والكافر على هذه الأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذه حقيقة وقاعدة لا تتغير ولا تتبدل, ولا عبرة ببعض المظاهر التي نراها والتي قد تخدع بعض الناس حول قضية مسالمة الكفار.
عندما نرى السماح لبعض المراكز الإسلامية في بلاد الكفر وعندما نرى السماح لمن أراد أن يعتنق هذا الدين من الكفار ليعتنقه وعدم معارضة النصارى لذلك, فأنا أجزم والكل معي يجزم أنهم لو رأوا خطراً حقيقياً في هذه المراكز يهدد دينهم, ويهدد حضارتهم, ويهدد واقعهم, ويقلب الأمور, ويقلب الواقع الحالي في ديارهم, لوقفوا في وجهها بالسلاح, ومع ذلك نجد أن الحاقدين منهم -وكلهم حاقدون- يعتدون على هذه المراكز بالقنابل والتفجير والإحراق, حتى في بريطانيا, وفي أمريكا وفي غيرها, التي تدعي وتزعم أنها قمم الديمقراطية, فلا ننخدع ببعض المظاهر.
إن سماح الكفار للإسلام بالتنفس في ديارهم, هو سماح الواثق المتمكن الذي يعرف أن إسلام هذا الفرد وهذه المجموعة قلت أو كثرت لن يقدم ولن يؤخر في الأمر شيئاً, وعندما تصل الأمور مداها ويعرف أولئك أن في تلك المراكز وفي تلك الدعوات خطراً على وجودهم, فسترون كيف يفعل هؤلاء, وما يجرى الآن في البوسنة من ذبح على المكشوف وعلى الصريح الذي لا خفاء فيه، ومن سكوت لأولئك الكفرة من إخوانهم ومن مد العون لهم وترك الحرية لهم في ذلك, هو أكبر دليل على ما نقول.
لماذا يسمحون بالذبح وهم أمام أعينهم، وتعرضه وسائل إعلامهم, وهم يتشدقون دائماً, يملئون الآذان ضجيجاً وطنيناً حول حقوق الإنسان, أليس من يذبح في البوسنة إنساناً؟! دعك من كونه مسلماً, أليس الطفل الرضيع الذي لا ذنب له في الصراع بأي شكل من أشكاله يذبح كما تذبح الشاة؟! أين الإنسانية؟! وأين الحرية التي يزعمون؟! سكوت زاعمي الديمقراطية من الغربيين عن هذه المذابح التي خجل الحيوان منها دليل واضح على ما يملأ قلوبهم من الحقد, وما ينتظر المراكز الإسلامية في كل ديار الكفر من المآل والمصير المعلوم والمحتوم، لو شكلت يوماً من الأيام خطراً على وجود الحضارة الغريبة والديانة النصرانية.(258/19)
منازل الكفار في حقدهم على المسلمين
قال الشيخ: سلمان بن فهد العودة حفظه الله وهناك نقطة بسيطة وأنا أنتظر من الشيخ عبد الله أيضاً التعليق عليها, وهي قد توجد لبساً عند بعض الناس: إنني لا أعتقد أن الكفار بدرجة واحدة في عدائهم للإسلام, وقد تجد من بينهم -أحياناً- إنساناً لا يعرف الإسلام أولا يحمل في قلبه حقداً على الإسلام, وهذه في نظري حقيقة شرعية, وتأريخية, وواقعية, فمثلاً إن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما هاجر إلى المدينة كان له دليل هذا الدليل من هو؟ إنه عبد الله بن أريقط , وكان هادياً خريتاً دليلاً، وفي الوقت نفسه كان أميناً كما جاء في الصحيح في حديث الهجرة, فأمنه الرسول عليه الصلاة والسلام وأبو بكر واصطحبوه معهم في حادثة الهجرة وكان كافراً وقتها, لماذا؟ لأنه كان مأمون الجانب، ودون شك قد يوجد ذلك -مثلاً- عداوة المطعم بن عدي في مكة لم تكن كعداوة أبي جهل وأبي لهب للمسلمين, فقد يوجد، وهذا من الناحية التاريخية موجود ومن الناحية الواقعية موجود -أيضاً- إنك اليوم قد تجد من بين الكفار من تحدثه فلا تجده يحمل حقداً, والمؤسف أن مثل هذه النوعية قد يلتقي بها بعض أبنائنا حتى بعض الدكاترة -مثلاً- الذين درسوا هناك فيتصورون أن كل الأمم الغربية على هذا النمط, والواقع أنه يوجد أفراد؛ لكن هؤلاء الأفراد في النهاية لو حصلت أزمات ومواقف استثيرت فيهم الحمية كما تستثار الحمية في نفس المسلم البسيط الذي قد لا يكون عنده غيرة للدين ولا حماس, لكن لو حصل موقف حازم وحاسم وصارم لثارت نخوته وحميته لدينه, أو على الأقل لبعض بني قومه, فهذا جانب أنه قد يوجد أمثال هؤلاء على أنهم عدد قليل فيوجدون لبساً وخداعاً وتضليلاً للكثير من أبناء المسلمين الذين يلتقون بهم.
أمر آخر: أن الغربيين يملكون أسلوباً في الحديث, والتلطف, وحسن العبارة, فالواحد منهم لو التقى بك في الشارع وضرب كتفه كتفك من غير قصد, التفت إليك ورجع وقال لك: أنا متأسف -يعتذر لك من أدنى أذى يمكن أن يحدثه لك- فهم متعلمون ومتدربون على تحسين الألفاظ, وتنميق العبارات, وما يسمونه "بالإيتيكيت" يعني الذوق وفن المعاملة للآخرين, وهذا أوجد عند الكثير تصوراً غريباً أن هؤلاء القوم يحملون قلوباً نظيفة, ولذلك وجدنا أن الكثير من هؤلاء الشباب الذين درسوا في الجامعات الغربية رجعوا بتصور غريب, حتى إنني قرأت على الناس من جريدة الشرق الأوسط قصاصة قبل يومين تقول: احذروا هذه الفتنة -والكاتب من مدينة جدة- ويقول: إننا حينما نتكلم عن البوسنة ووالهرسك نحاول أن نجعلها حرباً إسلامية مسيحية وهذا خطر كبير, فالمسلمون والمسيحيون موجودون في لبنان وفي مصر وفي كثير من البلاد, والحرب تقع بين المسلمين والمسلمين أيضاً؛ فلا يجوز أبداً أن نصور تلك الحرب, على أنها حرب إسلامية نصرانية.
فانظر كيف اعتبر هذا الأمر الذي قرره الله تعالى اعتبره فتنة لماذا؟! لأنه مخدوع ربما ببعض النماذج التي التقى بها من النصارى ممن قد يكونون من الندرة التي لا تحمل حقداً ظاهراً, وقد يكونون ممن يستطيع أن يخفي حقده بزخرف القول وجميل اللفظ.(258/20)
ماذا نعني بالجهاد
المتبادر إلى أذهان الكثيرين -وربما نكون من بينهم- أن المقصود بالجهاد أولئك الذين يحمل الواحد منهم السيف بيمينه, أو السلاح, أو ألـ (R.
B.
G) مثلاً, ويضع الخوذة على رأسه, ويضع الدرع أو اللباس الواقي على بدنه, ويركب حصانه, أو دبابته, أو طائرته ليخوض المعركة, هذه هي الصورة الخيالية التي ترتسم في أذهاننا إذا سمعنا كلمة الجهاد, فهل هذا هو المقصود -فعلاً- بهذه الندوة وبهذه الكلمة؟ لننظر: الجهاد مأخوذ من كلمة (جهد) (ج هـ د) الإنسان إذا بذل وسعه في شيء نقول إنه اجتهد في هذا الأمر, بذل جهده فيه ونجح أو فشل, لكن الذي أمامنا أنه جاهد, إذاً أمامنا شخص بذل جهده في شيء وليكن في حمل هذا الإناء -مثلاً- بذل جهده فيه, وأيضاً وجد أن هناك جهداً مقابلاً, أي أن هناك طرفاً آخر يعمل ضده مثلما تقول: "فلان ضارب فلاناً" يعني هذا يضرب هذا, وهذا يضرب هذا, فهي مسألة متبادلة وتفاعل بين طرفين؛ ولهذا يسمونها مفاعلة بين طرفين, فلمَّا نقول: جاهد فلان معناه أن أمامه كافراً يقاتل في سبيل الطاغوت, وفي سبيل الكفر, كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:76] , فهذا المسلم قام بالدعوة إلى الله, وقام بالجهاد في سبيل الله, أي مواجهة الجهد الكافر بجهد مسلم.(258/21)
أنواع القوى الجهادية في المجتمعات
والمجتمعات كلها بلا استثناء, حتى المجتمع الأول الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم, كل المجتمعات فيها -ولا بد- قوتان: 1- قوة إسلامية ربانية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
2- وقوة للكفر والنفاق تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف.
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:76] , وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] والآية الأخرى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] , إذاً ضع في اعتبارك أنك مهما تكن لطيفاً وديعاً هادئاً مسالماً إلى غير ذلك من الأوصاف, فإنك سوف تصدم بقوة المنافقين, وقوة الكفار, وقوة أعداء الإسلام, بل وقوة الشيطان, وأنك محتاج إلى أن تستنفر كل طاقاتك لمواجهة هذه القوة العاتية, وهذا هو ما يسمى بالجهاد.
يقول الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] .
فهل تعتقد وأنت تبذل جهداً في سبيل الله، أياً كان هذا الجهد: جهداًً في معركة، أو في مسجد, أو مدرسة, أو سوق, أو مؤسسة, أو في ميدان, هل تعتقد أن هذا الجهد الذي تبذله أنت لا يبذله الكافر؟ إذاً فما معنى وجود مجتمعات تتحمس للكفر وتنادي به, وأشخاص كثيرون يموتون في سبيله؟! أستطيع أن أقول لك الآن: إن الذين ماتوا في هذا العصر في سبيل الشيوعية -وهي نحلة بائدة مخالفة للفطرة- ربما أكثر من الذين ماتوا في سبيل الإسلام, في سبيل الله تعالى في هذا الزمان والذين ماتوا في سبيل اليهودية أو في سبيل النصرانية هم أيضاً خلق كثير, إذاً أنت تبذل جهداً وغيرك يبذل جهوداً أخرى كثيرة.
فالجهاد هو مواجهة للكيد الكافر, والكيد المنافق بكل الوسائل وكل الإمكانيات, وإذا كنا نواجه منكراً شاملاً, فالمنكر الذي نواجهه اليوم ليس محصوراً فقط في الضعف العسكري, ولا في الفساد العسكري, ولكنه منكر سياسي, واقتصادي, وعسكري, واجتماعي, وعقائدي, وتعليمي, وإعلامي, إلى غير ذلك.(258/22)
الأسباب التي نواجه بها الأعداء
لا بد أن تكون الأسباب التي نواجه بها هذا المنكر أسباباً شاملة, فنواجه الفساد السياسي بجهاد سياسي, والفساد العقائدي بجهاد عقائدي, والفساد الاقتصادي بجهاد اقتصادي, والفساد الاجتماعي بجهاد اجتماعي, وكل لون من ألوان الفساد الموجود لا بد وأن نواجهه بالوسائل المكافئة له, ثم لا بد أن نكون عبر هذه الثغرات والثغور كلها نغالب قوة الخصم العنيد كافراً كان أو منافقاً, وننتزع الفرصة من براثنه انتزاعا, ً فكأنك الآن أمام أسد يلتهم شيئاً وأنت تريد أن تنتزع هذا الشيء من شدق الأسد، فليست القضية سهلة ميسرة.
والذي يتوقع أن الفرص في خدمة الدعوة تأتي سهله سمحة يسيرة, فهو واهم، لأن المسألة مسألة جهاد بهذه الأسباب والوسائل كلها.
وبغض النظر عن الكلام الذي سمعناه -قبل قليل- عن أهمية الجهاد، فهب أننا لم نؤمن بأهمية الجهاد وحاشى مسلماً ألا يؤمن بأهمية الجهاد, وقوارع القرآن تقرع أذنه، وربما لو قرأ إنسان سورة التوبة فقط, لرأى كيف أن الله عز وجل أمر بالجهاد, ونعى على المنافقين المتخلفين عنه, لكن هب أننا قصرنا وفرطنا هل تعتقد أن هذه القوة الكافرة والمواجهة لنا سوف تقعد وتتركنا؟ كلا, بل هي ستقاتلنا، فمن هو عدوك؟ إنه الكفر, إقرأ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] إذاً الكفر قرين الظلم, والكافر إذا استطاع أن يغلبك سيفعل, ويقتلك, وينتهك عرضك, ويأخذ مالك, ويحتل ديارك, ويحاول أن يمنع عنك حتى الهواء, والماء, والغذاء, وقد سمعت أن جنود الأمم المتحدة من الهنود ومن بعض الدول في أوكرانيا وبعض الدول السوفيتية؛ أنهم في يوغسلافيا ينهتكون أعراض المسلمات إلى جوار إخوانهم من نصارى الصرب, فشككت في هذا الأمر وكلمت أحد إخواننا من المشايخ الموجودين هناك, فاتصل بي البارحة وقال لي هذه المعلومات معلومات صحيحة مؤكدة، إن عدد المسلمات اللاتي انتهك الصرب أعراضهن ثلاثين ألف مسلمة, وإضافة إلى ذلك فإن جنود الأمم المتحدة يشاركون إخوانهم النصارى في الاعتداء على المسلمات البوسنيات.
فالكفر لا يرضى بالعدل أبداً, وحتى لو رضينا نحن بوضع السلاحِ فلن يضع هو السلاح, إذاً لا معنى لأن نتحدث هل الجهاد هجومي أو دفاعي؟ وهل نحن محتاجون أم لسنا محتاجين إليه؟ القضية: أن أمامك عدوٌ إن استطاع أن يأخذ منك العصا أخذها منك, ولو استطاع أن يأخذ القوة من عضلاتك ومن يدك لئلا تمتد فعل, ولو استطاع أن يمنع الهواء عن رئتيك فعل, فلا بد من مواجهة هذا الأمر بمثله, والذين يخالفون ويغالطون في ذلك يغالطون قول الله عز وجل في محكم التنزيل, الذي بيَّن أن الكافرين أعداء: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] , وقوله سبحانه: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] .
إذاً هي أحلام أن نعتقد أن الكفار سيرضون مثلاً بانتشار الإسلام بطريقة سلمية, وأن الإسلام سينتشر في أوروبا عن طريق الدعوة السلمية, والمراكز الإسلامية، والكتب والأشرطة؛ صحيح سيهتدي بهذا خلق كثير, ولكننا ينبغي أن نعلم أن هؤلاء الكفار ظلوا على كفرهم قروناً وسيوجد من بينهم من يتحمس للكفر ويدافع عنه, ويتهجم على الإسلام, ويشوه صورة الإسلام عقيدة وشريعة وأحكاماً, حتى تظل الأغلبية الساحقة من هؤلاء خصوماً معادين للإسلام.(258/23)
جهاد المنافقين والمرتدين
قال مقدم الندوة حفظه الله: تحدث الشيخ سلمان جزاه الله خيراً عن أنواع الجهاد, وهناك فقرة حول نوع من أنواع الجهاد ربما أن الشيخ سلمان أغفلها عمداًً, لأنه رآها في الفقرات القادمة، وهي الحديث عن جهاد المرتدين والمنافقين, ولهم وجود في بلاد الإسلام في كل مكان, فنرجو من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين جزاه الله خيراً أن يحدثنا ويرشدنا عن كيفية جهاد المنافقين والمرتدين, مادمنا في هذه الحال لا نمتلك قوة نجاهدهم بها, ولم يئن وقت جهادهم كجهاد الصحابة للمرتدين الذين حصلت منهم الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
فأرجو من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين جزاه الله خيراً أن يبين للجميع كيف يتصرف المسلم في جهاد المرتد والمنافق ممن ينتسب إلى الإسلام.(258/24)
ماذا حدث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
ومعلوم أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم حصلت ردة من كثير من العرب, لأن الجزيرة ليس فيها إلا العرب, وكان الذين دخلوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام كلهم أو جلهم من العرب.
ذكر العلماء أنهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: رجعوا إلى عبادة الأوثان, ومعناه أنهم كذبوا بالرسالة, وقالوا: لو كان محمد نبياً ما مات.
القسم الثاني: صدقوا المتنبئين كـ مسيلمة , وسجاح , ونحوهما, وجعلوا هؤلاء صادقين في أنهم أنبياء, واتبعوهم, مع ما ظهر مما يدل على كذبهم.
القسم الثالث: بقوا على إسلامهم إلا أنهم منعوا الزكاة, وقالوا: إنما الزكاة خاصة بمحمد.
هؤلاء قاتلهم الصحابة كلَّهم وجعلوهم مرتدين, ومعلوم أن عدد الصحابة الذين بقوا على الإسلام في المدينة وفي مكة, قلة بالنسبة إلى أعداد العرب الذين أحدقوا بهم من كل جانب, ولكن الله تعالى ثبتهم وثبت خليفتهم وهو أبو بكر رضي الله عنه, فصمد وأصر على قتالهم ولو كان بالمسلمين قلة ولو كان بالمشركين كثرة, حتى أظهر الله الإسلام ورجعوا في مدة قصيرة، ونصر الله الإسلام.
فعلى هذا نقول: إن المرتدين عليهم واجب أن يرجعوا إلى دينهم, ولكن من لم يرجع فإنه يقتل, وقد ذكر أكثر العلماء أن المرتد يستتاب ثلاثة أيام, فإن رجع وإلا قتل, وبعضهم يقول: بل يقتل ولا يستتاب, وروي أن عمر رضي الله عنه لما ذكر له أن بعض الصحابة قتلوا رجلاً ارتد, فقال: [[هلاَّ استتبتموه, أو حبستموه ثم استتبتموه]] , ثم تبرأ من فعلهم, ولكن إذا تكررت منه الردة فإن حده أن يقتل, وذلك أنه دليل على نفاقه.
وعلى كل حال فإن هذا نوع ظاهر من أنواع الجهاد، وما ذاك إلا لأنه بذل لجهد عظيم في إظهار الإسلام, لأنه لا شك أنه إذا ارتد هؤلاء الأفراد, وارتدت هذه الطائفة, وهذه الجماعة, وكثر المرتدون, قويت شوكتهم وأضعفوا الإسلام، وصاروا مع المشركين وأعداء الدين، فلا بد أن يقضى عليهم قبل أن يكثروا وقبل أن يتمكنوا.
وكذلك -أيضاً- جهاد المنافقين، فمتى كثر النفاق في بلد أو في دولة من الدول, إذا رأوا قوة الإسلام فأخفوا نفاقهم, فإنهم بعد مدة يتمكنون ويعلنون عن نفاقهم متى كثروا، فيكونون ضداً للإسلام وللمسلمين.
فلذلك يشرع جهاد هاتين الطائفتين المنافقين والمرتدين بما يرد كيدهم، إما جهاداً ظاهراً بالسيف والسنان, وإما جهاداً معنوياً بالحجة والبيان.(258/25)
المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حفظه الله: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] , فأمر الله بجهاد الكفار وأمر بجهاد المنافقين, ومعلوم أنه وجد منافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, بل في المدينة قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:101] , إلى آخر الآيات , وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أشخاص وأعداد منهم, ونبهه على مقالات بعضهم، كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] , والسياق في المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] , {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة:61] , {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة:75] , هؤلاء لاشك أن الله أطلعه عليهم.
ومع ذلك كان جهاده لهم وجهاد الصحابة لهم بالتحذير من شرهم, وبمجادلتهم، وبإظهار الحق أمامهم, ولم يجاهدهم بالسيف, وقد سئل: لماذا لا تقاتلهم، أو لا تقتل فلاناً وفلاناً؟ فخشي أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، وما ذاك إلا أنهم يتظاهرون بأنهم مسلمون, فيصلون مع المسلمين, ويجاهدون معهم, ويغزون معهم, ويزكون, ويظهرون أنهم معهم في الظاهر, فخشي أن يظن الجهلة وأهل البلاد الأخرى أنهم مسلمون وأنهم قتلوا وهم على الإسلام.
ولكن بعد أن أظهر الله تعالى الإسلام وقوي وانتشر, لا شك أنه من عثر عليه وعرف بأنه زنديق يخفي كفره, ويظهر أنه مع المؤمنين, فإنه يجب قتله.(258/26)
حكم السلف في الزنادقة المنافقين
وقد قتل كثير من الخلفاء أعداداً كبيرةً من الزنادقة, وكان السلف يسمون المنافق زنديقاً, وهو الذي يدخل في الإسلام تستراً، يظهر أنه مسلم وقصده إفساد المسلمين, وإفساد عقائدهم.
وأكثر الأئمة على أن الزنديق لا يستتاب, وما ذاك إلا أنه دائماً يظهر بأنه مسلم وأنه على الإسلام, وأنه مع المسلمين, ولكن كفره خفي لا يظهره إلا لمن يثق به، كما حكى الله ذلك عن المنافقين في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] , ويخبر تعالى بأنهم يظهرون مالا يبطنون, يقول تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران:154] .
فجهاد مثل هؤلاء إذا عرفوا وتظاهروا فيما بيننا فنجاهدهم بالحجة, ونجاهدهم بالمجادلة, والمخاصمة, حتى يندحروا, وحتى يحذر الناس من شرهم, ونظهر أسرارهم, ونرد عليهم, وأما القوة فليست للأفراد إذا ثبتت عليهم هذه الأقوال التي هي ردة وسخرية, واستهزاء بالإسلام, وحفظت عليهم, فإن الشرع يأمر بقتلهم.
فإن كلمة تصدر من أحدهم يفهم منها أنه ممتثل بتعاليم الإسلام ومظهر لشيء ما يخفيه في قلبه إذا حفظت وأكدت عليه عرف بذلك أنه منافق, فعند ذلك يقتل.
وأما المرتد وهو الذي عرف بأنه مسلم وبقي مع المسلمين وفيما بين المسلمين, ولكن ارتد عن الإسلام, لسبب خفي أوجلي بأن كفر بعد الإسلام فهذا حده القتل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من بدل دينه فاقتلوه} , وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة:217] , وقد مدح الله تعالى الذين قاتلوا المرتدين, وهم الصحابة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] .(258/27)
آثار ترك الجهاد في سبيل الله على هذه الأمة
قال مقدم الندوة حفظه الله: نسأل الله تعالى لشيخنا عبد الله المثوبة, على هذا البيان والإيضاح, وحتى لا نطيل في الكلام نرجو من الشيخ عبد الله بن حمود التويجري أن يحدثنا بإيجاز واختصار عن: "آثار ترك الجهاد في سبيل الله على هذه الأمة".
قال الشيخ عبد الله بن حمود التويجري حفظه الله: أولاً قبل أن أتكلم عن آثار ترك الجهاد على هذه الأمة, أحب أن أنبه فقط لأنه لم يتح لي مجال المداخلة ولا أقول: إني رجل أحب النظام؛ لكن كذا خلقت.(258/28)
انتشار البدع وتقوي الكفر وأهله
قال الشيخ عبد الله بن حمود التويجري حفظه الله: أضيف إضافة فقط إلى هذا الكلام من الآثار التي تترتب على ترك الجهاد -لما كان الإخوة يتيحون المجال لكثرة المداخلات اعتبروها مداخلة أو زيادة- من الآثار التي تترتب على ترك الجهاد: - انتشار البدع وتقوي الكفر وأهله: فهذه البدع قد ضربت بأطنابها ولا يلزم -كما ذكر الأخ الفاضل الشيخ سلمان العودة، كما ذكر قبل قليل- لا يلزم أن يقوم مجاهد بحمل الأربيجي, أو بحمل أشياء من الأسلحة وغيرها ويقاتل, بل يا إخوان، حتى الجهاد بالكلمة, فهذه البدع في ديار الإسلام قد انتشرت بل حتى الشرك وُجِدَ في ديار أهل الإسلام, فانتشرت البدع, وانتشر الشرك كل ذلك بسبب ترك الجهاد في سبيل الله.(258/29)
تعقيب المقدم
قال مقدم الندوة حفظه الله: جزاكم الله خيراً وأحسن إليكم, ولا شك أن ترك الجهاد كارثة من الكوارث أصابنا بما أصابنا به من الذل والهوان, وأصبحنا أضحوكة بين العالم وبين الناس, وإن كان أخي الشيخ عبد الله جزاه الله خيراً يتكلم عن إحصائيات بأعداد سلاح المسلمين وماذا يملكون من دبابات، وماذا يملكون من طائرات, فلا شك أن الإحصائية حقيقة فإن عدداً كبيراً من السلاح في أيدي المسلمين, ولكنه كما نعلم وكما ندرك ليس موجهاً ضد الكفار, بل هو في الغالب, موجهٌ ضد هذه الشعوب المسلمة, وحارس عليها حتى لا تنهض وحتى لا ترفع رأسها.
ومن القليل القليل, أن نسمع أن سلاحاً في أيدي الجيوش في داخل الديار الإسلامية استخدم ضد أعداء الله, ولكن كثيراً ما نسمع أن هذه الأسلحة استخدمت ضد المسلمين, وهدمت بها المساجد وأهريقت بها الدماء, وعلينا أن نعرف ذلك وأن ندركه، فهي في الحقيقة أسلحة موجهه إلى الأمة, وليست في صالح الأمة, ولا نحسب هذه الجيوش مادامت في أوضاعها الحالية، ومادامت تخضع الرقاب لمن لا يحكمون شرع الله وتطيعهم في معصية الله لا نحسبها في موازين قوة محسوبة على المسلمين.
هذا تعقيب قصير وللإخوان جميعاً وللشيخ عبد الله جزاه الله خيراً حق الاعتراض في ذلك.(258/30)
الاغترار باليهود والنصارى
كنت أود أن أنبه على الاغترار باليهود والنصارى, فقد اغترت بهم الأمة الإسلامية واطمأنوا إليهم, مع أنهم لا يرضون منا بغير الكفر, وقد نبه الله على ذلك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] .
الأمر الثاني: أنهم أهل غدر وخيانة, ولعل هذا الهدوء الذي يظهرونه إنما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة, لاسيما مهادنة بعض هذه الدول في هذه الأوقات, وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {أنهم يصالحون أهل الإسلام صلحاً آمناً فيغزون وإياهم عدواً آخر فيسلمون ويغنمون، فيقوم رجل من النصارى فيرفع الصليب ويزعم أنه انتصر, فيقوم رجل من أهل الإسلام فيدق الصليب, فيقوم النصارى للمسلم فيقتلونه, فيقوم المسلمون فيقاتلون هؤلاء النصارى} وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن النصارى يجتمعون للملحمة, ويأتون في ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألف} أي: تسعمائة وستون ألف مقاتل.
أحببت أن أنبه على هذا تنبيهاً.
وأما الأمر الثالث: فعلى كلمة للأخوة الأفاضل لاسيما الأخ الفاضل المقدم والأخ الفاضل الشيخ سلمان العودة , فقد تكلموا عن القوة العسكرية.
أقول: القوة العسكرية للأمة الإسلامية تعتبر هي القوة الأولى في العالم أجمع, وقد كتب بعض الخبراء العسكريين عن الدبابات التي توجد في العالم الإسلامي, والطائرات, والجيوش البرية, والمدافع, والصواريخ ذاتية الدفع, وغيرها وغيرها كثير.
لكن يا إخوان، لقد تفرق أهل الإسلام، وهناك بلدان كثيرة تنسب إلى الإسلام, والإسلام منها براء, وقد يوجد فيها قله مستضعفون.
أما الآثار التي تترتب على ترك الجهاد: فهي كثيرة جداً منها ما نعيشه في وقتنا الحاضر:(258/31)
الذل والهوان
أولاً: من الأشياء التي تترتب على ترك الجهاد: الذل، وقد قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه وأرضاه ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا , فهذا الذل الذي يعيشه كثير من أهل الإسلام.
ثانياً: قد نبه عليه صلى الله عليه وسلم فقال: {إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر سلط الله عليكم ذلاً} .
فهذا هو الذل الذي ذكرت أن علي بن أبي طالب أشار إليه وهو تسليط الأعداء.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يتسلطون علينا تسلط الأكلة على قصعتهم فقالوا: يا رسول الله: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: {لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل} .
لقد كان الكفرة في السابق يخافون أهل الإسلام أشد الخوف، ويذكر لنا المؤرخون ما حصل من قتيبة بن مسلم حين أرسل إلى ملك النصارى، ما حصل من ذاك الرسول, فإنه جاءهم في اليوم الأول في لباس الفخر والخيلاء, فلما استشار أصحابه قالوا: إنهم أشبه بالنساء منهم بالرجال, ونرى أن تقاتل هؤلاء، ثم جاءوا في اليوم الثاني وقد لبسوا اللباس الذي يلبسونه مع الأهل فقالوا: نرى أنهم في هذا اليوم أشبه بالرجال منهم بالنساء, ونرى أن تتمهل، ثم لما كان في المرة الثالثة لبسوا لامة الحرب لا يرى منهم إلا الحدق, فقالوا: أما في هذا اليوم فهم أشبه منهم بالشياطين, ونرى أن تعطيهم ما طلبوا وكان قتيبة أقسم أن يطأ أرضهم, وأن يَسِمَ ملوكهم, وأن يأخذ الجزية منهم, أو يسلموا, فقالوا: نبر بقسمه ولا يحضر فأرسلوا له تربة من أرضهم في صحاف الذهب، وأرسلوا له أربعة آلاف من أبناء الملوك, وأرسلوا له الجزية.
أما في هذه الأيام فلم يكتف النصارى ولا اليهود منا بالجزية، بل وصايات على بلدان الإسلام, وأموال أهل الإسلام يتحكمون فيها, يعطون من شاءوا، ويمنعون من شاءوا, ويصادرون من شاءوا, ويؤدبون من شاءوا.
ومنها -إخوتي في الله- التخلف عن أمر الله سبحانه وتعالى حيث أمرنا بالجهاد في سبيله والدعوة إلى الإسلام, وقد حذرنا من هذه الفتن, وهذه الفتن قد تصل إلى الشرك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] , هذه بعض الآثار التي تترتب على ترك الجهاد.(258/32)
الجهاد في سبيل الله ودعوات السلام
قال مقدم الندوة حفظه الله: جزاك الله خيراً ونوجه الفقرة قبل الأخيرة إلى فضيلة الشيخ سلمان العودة ليحدثنا عن: "الجهاد في سبيل الله ودعوات السلام", وما يعلن وما يدار وما يحاك وما يدبر من مؤتمرات تعرفونها وتسمعون أخبارها جيداً, نحب من الشيخ -جزاه الله خيراً- أن يحدثنا عن هذه المؤتمرات بشكل مختصر, وعلاقتها بالجهاد في سبيل الله وهل هي تتفق مع الجهاد في سبيل الله أن نجلس مع عدونا لنسلمه أرضنا, وعرضنا, وعقولنا, واقتصادنا, ورقابنا, وسماءنا, أيضاً ليملكها بالطائرات, وبالرادارات, وبالأقمار الصناعية؟! فأرجو من الشيخ سلمان -جزاه الله خيراً- أن يحدثنا عن ذلك حتى لا يظن ظان أن السلام أمر طبيعي في الإسلام، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم صالح أعداءه، وما يجرى الآن من حوار بين العرب -ولا نسميهم المسلمين نسميهم العرب؛ لأنهم يتخاطبون مع عدونا بمنطق العرب وليس بمنطق الإسلام والمسلمين- هذا الحوار الذي بينهم هل له علاقة بالجهاد في سبيل الله؟ وهل له علاقة بمصالحات النبي صلى الله عليه وسلم مع أعدائه؟ أرجو من الشيخ -جزاه الله خيراً- أن يبين لنا ذلك مشكوراً.(258/33)
حال المنافقين [دعاة السلام] اليوم
قال الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله:
الجواب
هناك أشياء تتعلق بما مضى وهي في الوقت نفسه جواب, فقد تحدث فضيلة شيخنا الشيخ عبد الله قبل قليل عن مسألة جهاد المرتدين والمنافقين, وعرفنا من حديثه أن حكم المرتد إما أن يراجع دينه, أو السيف, أما المنافق فإن أظهر نفاقه وثبت عليه ثبوتاً شرعياً, فقد أصبح زنديقاً يجب قتله ولا يستتاب، بل قال كثير من أهل العلم والفقه: لا تقبل له توبة, لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء:137] , المهم هذا شأن المنافق وهذا شأن المرتد في الإسلام.
فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن, هل هذا الحكم الشرعي قائم في شأن المنافقين والمرتدين أم هو غير قائم؟ أقول: بطبيعة الحال إن هذا الحكم غير قائم, بل هو معطل في بلاد العالم الإسلامي ضمن الأحكام الكثيرة المعطلة.
وهنا يطرأ سؤال آخر, كيف حال المرتدين؟ وكيف حال المنافقين؟ هل هم أذلاء, مضروب عليهم الذل والصغار وممنوعون -مثلاً- من أن يتصلوا بالمسلمين, أو يؤثروا عليهم؟ الجواب أيضاً: لا.
فأنت -مثلاً- لو قدمت وثيقة تدل على أن فلاناً غير مسلم, يسخر بالدين حتى إذا دخل عليه إنسان وهو في مكتبه وقال: "يا فلان، أنا داخل على الله ثم عليك, قال: لا, على الله؟ اذهب إلى الله لكي ينفعك, أما عليّ فلا مانع"!! هذا الكلام الذي قاله مع أنه ردة لا يمنعه من أن يظل في منصبه وفي كرسيه وفي عمله, لماذا؟ لأنه مواطن يتمتع بحقوق المواطنة, بل من الممكن أن يكون هذا الإنسان مدرساً للمواد الشرعية, لماذا؟ لأنه خريج كلية شريعة -مثلاً-، ومعه شهادة وهو مواطن, إذاً النظام يمكنه ويمنحه كامل الحقوق التي يتمتع بها غيره.
إنني لا أغالط نفسي وأغالطكم إذا قلت هذا، فأحياناً يملك هذا الإنسان من وسائل الترقي والوصول والصعود وتسلم أرقى وأعلى المواقع السلطوية ما لا يملكها غيره, وذلك لأن عنده قدرة ولباقة, وتلوناً, وعنده أشياء كثيرة, وعنده الإمكانيات, وربما والخبرات.
أما ذلك الإنسان المتدين فهو في نظر الكثيرين معقد، ويمتنع عن كثير من الأمور, ولا يسترسل, ولا يلبي الرغبات الشخصية, ولذلك يظل في تراجع أحياناً، ولقد وجدنا في بلاد العالم الإسلامي إذا كنا نعرف بعض البلاد التي احتلها اليهود كفلسطين -مثلاً- وبعض البلاد التي احتلها النصارى كالأندلس التي سقطت في أيديهم, وبعض البلاد التي احتلها الشيوعيون سابقاً كما هي الحال في أفغانستان فيما مضى, فإننا نجد أن هناك دولاً أخرى كثيرة لا زلنا نتكلم عنها على أنها بلاد إسلامية، ولو أننا فتحنا عيوننا أكثر لوجدنا أنه احتلها المنافقون.
فهم يحملون أسماء إسلامية, ومعهم ميلاد إسلامي, وربما بعضهم يحضرون "الموالد" وربما بعضهم يصلون أحيانًا الجمعة أو غيرها حتى يراهم الناس, وربما يتكلمون في خطب في بعض المناسبات الدينية أو غيرها, وبعضهم أيضاً يحيون الطرق الصوفية, ويقيمون المؤتمرات لتلك الطرق ولغيرها, ولكنهم في حقيقة الأمر قلوبهم مع اليهود والنصارى, ونفوسهم معهم، فهم طوع إرادتهم, ورهن إشارتهم, وأكثر ما يغيظهم أن يرتفع الإسلام؛ لأن ارتفاع الإسلام ذل لهم, ولهذا فهم مع الكفار على المسلمين, كما ذكر الله تعالى -تماماً- عن المنافقين: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141] .
والمدعون هوى الإسلام سيفهُمُ مع الأعادي على أبنائه النجب يخادعون به أو يتقون به وماله منهم رفد سوى الخطب الخطب الرنانة فقط, وإذا كان ذلك كذلك -وهو كذلك في سائر بلاد الإسلام- فإننا لا نستغرب أبداً أن يضعوا أيديهم مع إسحاق رابين وشامير وغيرهم من اليهود ومن قبل وضعوا أيديهم مع أيدي النصارى ضد المسلمين, وسوف تسمعون ربما قريباً عن ألوان التعاون الأمني في منطقة الشرق الأوسط, لا يستثنى من ذلك دولة إسرائيل, وربما تسمعون بعد ذلك ألواناً من التعاون العسكري أيضاً في هذه الدول بين عدد من تلك الدول وبين دولة إسرائيل, وربما تسمعون عن تضافر بين الأموال العربية والخليجية والأيدي العاملة المصرية وبين الخبرة والتقنية اليهودية, لتكوين منطقة شرق أوسطية آمنة مستقرة.
إذاً القضية ليست قضية صلح أو سلام, القضية قضية تطبيع كامل, وتحقيق للهيمنة اليهودية على منطقة الشرق الأوسط المنطقة الإسلامية.
هذا جواب أولاً عن مسألة المرتدين والمنافقين.(258/34)
حال المنافقين في عهد الرسول وأصحابه
في الماضي لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يجعل أحداً من المنافقين يقود جيشاً ولا يحمل راية ولا لواءً، لماذا؟ لأنهم مبعدون عن هذا كله، والمرتدون -أيضاً- حتى بعد أن رجعوا إلى الإسلام لم يسمح لهم أبو بكر رضى الله عنه إلا بأحد أمرين: إما الحرب المجلية أو السلم المخزية, قالوا: قد عرفنا الحرب, فما السلم؟ قال: أن تلحقوا أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمراً فيكم يعذركم به، فكانوا يمنعون المرتدين الذين رجعوا إلى الإسلام من ركوب الخيل, ومن المشاركة في الجهاد, مجرد مشاركة فضلاً عن أن يكونوا قادة لهذا الجهاد المظفر العظيم.
إذاً فالمشكلة هي تسلط المنافقين على كثير من الشعوب الإسلامية, لأن هذه الشعوب الإسلامية مغفلة ترضى منهم بمجرد المجاملة وتنخدع بزخرف الألفاظ والخطب.(258/35)
تعليقات سريعة حول موضوع الجهاد
قال الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله: هناك تعليقات سريعة أيضاً:(258/36)
منع المرتدين الذين رجعوا إلى الإسلام من تولي القيادة
قال مقدم الندوة حفظه الله: هناك تعقيبان قبل أن نختم هذه الندوة بفقرتها الأخيرة: الأول: على قضية منع المرتدين الذين رجعوا إلى الإسلام من ممارسة القيادة، وقد استمر هذا الأمر وكان عمر رضي الله عنه يوصي قادته, ألا يمكنوا أولئك القادة من قيادة فوق العشرة, وكان منهم فارس مغوار مشهور اسمه (عمرو بن معد يكرب الزبيدي) رضي الله عنه ورحمه, فقد استشهد في القادسية، فقد منعهم من القيادة ما فوق العشرة, ولم يرفع عنهم هذا الحظر إلا بعد مضي السنين الطوال, حيث مات منهم من مات, وقتل في المعارك منهم من قتل, وصح إيمان من صح منهم، فسمح لهم في وقت متأخر أن يشتركوا في الجهاد في سبيل الله مشاركة كاملة عندما عرف صدق إيمانهم فهذا مجرد إكمال لما ذكره الشيخ جزاه الله خيراً.(258/37)
قضية التفوق العسكري
الثاني: في قضية التفوق العسكري والسلاح, أغلب الأسلحة التي في أيدي العرب وفى أيدي الدول الإسلامية الأخرى من غير العربية, أغلبها أسلحة قديمة عفاها الزمن، وكلنا يعرف سرعة تطور الصناعة في زمننا الحالي, حتى أن الطائرة التي تصنع ربما لا يمضي عليها خمس سنوات, حتى تصبح "خردة" أو كومة من الحديد, لا شأن لها ولا قيمة أمام الأسلحة الجديدة.
وهذا يؤيد ما قاله الشيخ سلمان من أن الولايات المتحدة الأمريكية (أمريكا) زعيمة الكفر والكفار تعهدت والتزمت بشتى أحزابها، وأياً كان رئيسها القادم أو بعد القادم, التزمت -كما قال بعضهم- التزاماً عقائدياً وخلقياً بإسرائيل, التزاماً كاملاً لا ينفصل بتفوقها التام الكامل.
لذلك إن لم نستغن عن عدونا فسنظل نطارده بالسلاح، وسنتخلف عنه في فجوات كثيرة إن لم ننتبه.
مع ملاحظة أخيرة: إننا لا نقول: لا نجاهد حتى نساويهم أو نتفوق عليهم, إنما أردنا أن نعرف الواقع العسكري لا أكثر ولا أقل, وإلا فإن المسلمين في يوم من أيامهم لم يجاهدوا لا بعدد ولا بعدة ولا بكثرة ولا بقوة سلاح, بل إنهم في كل معاركهم الظاهرة كانوا أقل عدداً, وكانوا -أيضاً- أقل قوة في سلاحهم وخيولهم وفي سيوفهم, فهذا أمر لا يعنينا في قليل أو كثير, إلا من باب قول الله جلَّ وعلا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] .(258/38)
القوة في العالم الإسلامي
القوة التي ذكرها الإخوان في العالم الإسلامي، أعتقد أن معظم الإحصائيات تتكلم عن العالم العربي, ومع ذلك نحن نسمع جميعاً أن أمريكا مهما كانت رئاستها فهي ملتزمة بتفوق إسرائيل النوعي والكمي على العالم العربي أجمعه، أي: أن أمريكا ملتزمة لإسرائيل أن تظل متفوقة من حيث تقنية السلاح وعدده على العالم العربي كله.
لكن إذا نظرنا إلى العالم الإسلامي من نطاق أوسع وجدنا -مثلاً- أنه يحسب فيه إيران وهي دولة رافضية ذات اتجاه مذهبي معروف, وتحسب فيه باكستان تحسب في بعض الدول الإسلامية التي قد تكون أحسن حالاً من حيث التسليح والتصنيع, وقد سمعنا منذ أيام أن الصين باعت للباكستان أسرار التقنية النووية وهذا يعتبر تطوراً في هذا المجال على كل حال.(258/39)
انتشار الخوف والخور
قال الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله: من آثار ترك الجهاد تعليق سريع -أيضاً- على ما ذكره الشيخ عبد الله لأنه يمس واقعنا: انتشار الخور، فنحن وجدنا أن الناس اليوم تربوا على الجبن, الجبن أكلوه مع الطعام وشربوه مع الماء وتنفسوه مع الهواء, فأصبح الواحد منا يخاف من كل شيء، يفرق من ظله حتى الصبي الصغير, أصبحنا ندربه على مجرد ما يرى بدلة رجل الأمن يخاف, ولا يشير بإصبعه حتى لا تقطع إصبعه, وأصبح الكبير ينشأ على هذا الأمر, فلا يملك قوة, ولا يملك شجاعة لا في التفكير, ولا في النظر, ولا في الكلام, ولا في المشاركة, ولا في الحديث, ولا في الوقوف أمام الناس, فضلاً عن أن يخوض المعركة.
ونحن وجدنا أن خوض المعارك يزيل هذا الخوف بإذن الله تعالى, فالذين خاضوا المعارك قد أبدوا الاستعداد لأن يموتوا وبناءً عليه فما دون الموت عندهم من باب أولى أن يكون لديهم الاستعداد لبذله.
قال مقدم الندوة حفظه الله: جزى الله الشيخ سلمان خيراً.
قال الشيخ عبد الله بن حمود التويجري حفظه الله: تعقيب قصير جداً: قلت في كلمتك بمنطق العرب، أنهم أيضاً لم يلتزموا حتى بمنطق العرب، فتعرفون أن دولة فارس كانت من أقوى الدول، ولما لجأ إليهم النعمان وكان رفض أن يجيره كثير من الناس، وأجاره بنو ذهل بن شيبان، وقاموا لكسرى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا بفوارس من ذهل بن شيبان " هذه واحدة.
الثانية: لنذكر مقالة السعدين وذلك في غزوة الأحزاب فإنهم قد قالوا وذكروا أن الناس لا يستطيعون أن يأكلوا منهم ثمرة إلا قرى أو شراء، أما بالقوة فلا، ويستعدون لبذل الأنفس.
ومعروف مقالة عمرو بن كلثوم: إذا بلغ الفطام لنا رضيع تخر له الجبابر ساجدينا هذا في باب الفخر، فما أظن حتى منطق العرب قد عفا عليه الزمن فإلى الله المشتكى.
جزاك الله خيراً(258/40)
ما يتعلق بأنواع الجهاد
أولاً: في ما يتعلق بأنواع الجهاد: أنا ما أحببت أن أستطرد؛ لأن الموضوع يطول, وإلا فإن الجهاد ينقسم إلى أنواع باعتبارات عدة أسردها مجرد ذكر للعناوين فقط: التقسيم الأول: الجهاد باعتباره الحكم الشرعي, فقد يكون واجباً وقد يكون فرضاً.
التقسيم الثاني: تقسيم الجهاد باعتبار الآلة: وهو ما ذكرت لمناسبته إما الجهاد باليد, أو باللسان, أو بالمال, أو بالنفس, أربعة أقسام.
التقسيم الثالث: تقسيم الجهاد باعتبار من يقع عليهم الجهاد -أي: الجهة التي نقاتلها- وهذا ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: جهاد النفس, والهوى, والشيطان, هذا قسم.
القسم الثاني: جهاد المنافقين.
القسم الثالث: جهاد الكفار.
القسم الرابع: جهاد الفاسقين, وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(258/41)
أدعياء الجهاد
قال مقدم الندوة حفظه الله: والنقطة الأخيرة هي حول "أدعياء الجهاد" الذين رفعوا دعوى الجهاد بأسماء إسلامية وخدعوا كثيراً من المسلمين, بل وخدعوا كثيراً مما يسمى بالحركات الإسلامية.(258/42)
جهاد الرافضة
الخطر الآخر من مدعي الجهاد هو الخطر الرافضي، وهم يعلنون ليل نهار أن دولتهم هي دولة الإسلام, وأنهم هم الذين يحملون راية الجهاد في سبيل الله, وأنهم الذين يقودون الأمة، ويقومون في بعض الأحيان بمساعدة المسلمين المستضعفين في مكان من الأمكنة، يتاجرون بهذه القضية، ويريدون أن يعلنوا للناس: "إننا نحن الوحيدين الذين نجاهد, ونحن الذين نقود الأمة والبقية قد تركت الجهاد", وكلنا يعرف ويسمع بخبر الطائرتين الإيرانيتين اللتين اكتشفتا في مطار سراييفو، وقبل أن تصل إلى سراييفو وفيهما السلاح، وصودر ومنع من وصوله, وأعلن الضجيج والعجيج, وأعلنت إيران صراحة أنها تتعمد ذلك؛ لأنها أصلاً لا تريد للسلاح أن يصل إلى المسلمين في البوسنة, وإنما تريد أن تتاجر بهذه المسألة, فعلينا أن ننتبه ونحن ندعو إلى الجهاد، لا يخدعنا خادع عن أنفسنا ويزعم ويدعي أنه يحمل راية الجهاد في سبيل الله كائناً من كان, فالجهاد في سبيل الله لا يحمله إلا من يحمل العقيدة الصحيحة التي على منهج كتاب الله ومنهج وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وكل دعوة للجهاد غير ذلك فهي دعوة زائفة.
أقول: دعوة زائفة, من أراد الجهاد فعليه أولاً: أن يحمل نفسه على الطريق الصحيح, وعلى الدين الصحيح, ثم بعد ذلك يدعي الجهاد.
أما أن يأتي هؤلاء المدعون ويقولون: نحن حملة راية الجهاد؛ فعلى الأمة أن تكون أكثر وعياً ولا تخدعها المظاهر, فإن إيران من المعلوم عنها أنها دولة رافضية, تحمل راية الرفض والكفر والضلالة, وتجاهد في وأد الإسلام في بلادها وديارها، ولا أدل على ذلك من أن المسلمين أهل السنة في داخل إيران يزيدون على مليون مسلم ينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة؛ ليس لهم مسجد واحد وتمنعهم الحكومة الإيرانية من إقامة مسجد واحد، بينما يوجد كنائس للنصارى واليهود, ويوجد -وهذا أمر غريب- معبد للنار للقلة القليلة من البارثيين, وهم عبدة النار بقايا الفرس الأوائل, وعددهم في إيران كلها لا يزيد على عشرة آلاف شخص, ومع ذلك لهم معبد في النار محمي بالحرس، حرس الدولة التي تدعي الجهاد في سبيل الله, فاعرفوا وضع هذه الدولة التي هي من أخطر وألد أعداء الإسلام حتى لا ننخدع بهؤلاء، ولا ننقاد وراء كل ناعق, فإن من مميزات المسلم أنه واعٍ مدرك, وأنه يزن الناس بالميزان الشرعي الصحيح, وكل من رآه بعيداً عن هذا الميزان لا يعتد بكلامه ولا بمقاله.(258/43)
جهاد القذافي
وصل الأمر بأدعياء الجهاد إلى درجة أن شخصاً مثل العقيد معمر القذافي يرفع راية الجهاد في سبيل الله للوقوف في وجه دول الغرب التي هي الآن تحاصره, وعندما ضاقت به السبل واستغنى عنه العدو, وأراد أن يزيله؛ لأنه أدى الدور الذي أنيط به، يأتي الآن ليستنصر ويستنفر الأمة باسم الجهاد في سبيل الله, فحذارِ حذارِ من أدعياء الجهاد فهم كثرٌ ووضعهم خطير.(258/44)
جهاد صدام حسين
جهاد صدام حسين -عليه من الله ما يستحق- رفع راية الجهاد وزعم أنه مجاهد ودعا إلى الجهاد قبحه الله.
أليس في الأمة من يدعوها إلى الجهاد إلا هو؟! أليس في الأمة من يدعوها إلى الجهاد إلا هذا المنافق الخبيث الذي دفن ألوف المسلمين تحت التراب؟ وقضى على كل دعوة وحركة للإسلام في العراق؟! ومع ذلك يزعم أنه يدعو إلى الجهاد في سبيل الله، ويوجد -وهذا أمر طبيعي- لكن الأمر المؤلم أن يوجد في المسلمين من ينخدع له, ويقول: نعم، هو مجاهد في سبيل الله! , هذا أمر مؤلم مؤسف, الأمر الأخطر من صدام حسين لأن صدام حسين ليس له عمق, لأنه بعثي خبيث, معروف بلؤمه, وعداوته للإسلام.(258/45)
الأسئلة(258/46)
منهج ابن تيمية الدعوي والجهادي
السؤال الأخير وهو موجه لفضيلة الشيخ عبد الله بن حمود التويجري:
السؤال
لماذا علماء هذا البلد يتبنون منهج الشيخ ابن تيمية في كل شيء ما عدا منهجه الجهادي؟
الجواب
أنا سأجيب على هذا وأعقب هذه الإجابة بكلمة أخرى، لا أعتبرها تعقيباً وإنما أعتبرها زيادة ذيل من الذيول على بعض كلمات الإخوة أقول: إخوتي في الله، من يقول هذه المقالة لا نتهمه بالجهل, وإنما أقول لعله ذهل وإلا لما أخذ لبعض منهج الشيخ ورفض المنهج الآخر, وأنتم تعرفون أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان واضحاً, فقد جاهد بالسنان وباللسان, فهاهو جاهد التتر كما جاهد المبتدعة, حتى أودع السجن بسبب هذا الجهاد, والعلماء العاملون يدعون إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم, وبمن تأسى به, والله سبحانه وتعالى قد دعانا إلى ذلك؛ ورسول الله قد جاهد بلسانه وبسيفه والله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] , وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى جاء في فترة من الفترات انتشرت فيها البدع, ووجد من يؤيد المنكرات, كما وُجِد أعداء للإسلام وفيهم قوة وفي المسلمين شيء من الذلة, فدعا رحمه الله إلى الجهاد وإلى مقاومة البدع, وما اكتفى بواحد من الأمرين عن الآخر, وكذا فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عفا الله عنا وعنه.
ولعل من ينادون هذه المناداة لا ينظرون إلا بعين واحدة, فغفر الله لنا ولهم, ونسأل الله لنا ولهم البصيرة في الدين والدنيا معاً, وإلا فهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب عفا الله عنا وعنه وهم الذين ينادون -أيضاً- إلى اقتفاء أثره وآثار من سبقه إلى اقتفاء أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم, كلهم قد جاهدوا بجميع أنواع الجهاد باللسان, وبالقلم, وبالسيف, وبالمال, جاهدوا الأفراد, والجماعات, والمجتمعات أيضاً.
فلم يتغافل عن هذه الأشياء؟ أسأل الله لي ولهؤلاء الإخوة الهداية والبصيرة في ديننا ودنيانا.
أما الكلمة التي أحب أن أذيل بها على بعض الكلمات, فأولاً: لا أقول: هناك شيء من التشاؤم، بل -لله الحمد- والمنة, قد دعا إخوتي ومشايخي الأفاضل إلى التفاؤل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة, وقد قال صلى الله عليه وسلم: {إن حقاً على الله ألاَّ يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه} وهذه أمريكا قد وصلت في زعمها إلى القمة، ومتى وصلت إلى القمة فهي بداية الانحدار, وقد أشار الشيخ سلمان إلى بداية انهيارها وذلك بالتزامات مالية كبيرة جداً.
أقول: عام 1991م حسب كلامهم بلغت المؤسسات التي أفلست في الولايات المتحدة الأمريكية فقط أكثر من (63) ألف شركة, أما الشركات التي أفلست في ألمانيا فقط بلغت اكثر من (50) ألف مؤسسة, وأما المؤسسات التي أفلست في بريطانيا فأكثر من (43) ألف مؤسسة, كلها أفلست ولكن مما يدعو للأسف أن بعض الأغبياء من أبناء الإسلام يشترون بعض المؤسسات وبعض البنايات بزعم دعم الاقتصاد الأمريكي أو الأوروبي! أما الثانية: فأنا أقول: العزة للإسلام وأهله؛ كما أخبر الله سبحانه وتعالى ولكن بشرط: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] وقد ذكر الإخوة أن أمريكا تكفلت لليهود بالتفوق النوعي والكمي.
أقول: إن تكفلت لهم أمريكا فقد تكفل الله لنا, لكننا لم نقم بما طلب منا: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] .
لكن هذا النصر مشروط بنصر {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] , فهل قمنا بنصر الله لنحظى بهذا النصر؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: {لن يغلب اثنا عشر ألف من قلة} إذاً لم نؤتَ من جهة القلة وإنما أوتينا من قبل أنفسنا, وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في معركة من المعارك: [[إنما ينصرنا الله بطاعتنا له, وبمعصيتهم لله, فإن استوينا نحن وهم في المعصية كان لهم علينا فضل القوة]] .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال, وجعلنا وإياكم هداة مهتدين وصلى الله وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وسلم تسليما كثيراً.
قال مقدم الندوة حفظه الله: وأخيراً: نشكر لمشايخنا الكرام تعبهم ومجيئهم وتحملهم هذه الجلسة الطويلة, التي أخذت من وقتهم الشيء الكثير, وأخذت من جهدهم الشيء الكثير, والتي كذلك أخذت من وقتكم الشيء الكثير, ولكن مرة أخرى أعتذر من المشايخ لإطالتنا عليهم, وأعتذر لكم أنتم لإطالتنا عليكم, فالفرص لا تتكرر، فأحببنا أن نستغلها في أقصى درجات الاستفادة من مشائخنا جزاهم الله خيراً.(258/47)
تعقيب للمقدم
قال مقدم الندوة حفظه الله: جزاك الله خيراً وما ذكره الشيخ سلمان , مصداقاً للحديث الحسن الذي رواه الإمام أحمد باسنادين، وهو: {أن هذا الدين لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله هذا الدين بعز عزيز أو ذل ذليل, عز يعز الله به الإسلام, وذل يذل به الكفر وأهله} وكذلك مسألة الدول التي تتجبر وتسيطر الآن، والعبر قريبة وواضحة, وقد أشار الشيخ جزاه الله خيرا إلى إننا -إن شاء الله- سنشهد اليوم الذي نتحدث فيه عن قوة أمريكا الزائلة, كما تحدثنا عن قوة روسيا الزائلة, وما كان أحد يتصور قبل ست أو خمس من السنين أن تلك القوة الهائلة الظالمة المتجبرة السفاحة "الاتحاد السوفيتي" ستنهار وتسقط بمثل هذه السهولة, ويقول الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] , ما يعلم جنود الله سبحانه وتعالى إلا هو, والأسباب بيد الله لا تخطر لنا على بال, فعلينا أن نقوم بما علينا، ولا ترهبنا هذه القوى, ولا نحسب لها حساباً إلا من الجانب الذي ذكره الشيخ، وهو محاولة المسابقة ومحاولة انتزاع الأسرار, لأن هذا مما أمر الله به وأوجبه علينا لا أكثر ولا أقل, فجزاه الله خيراً على ذلك.(258/48)
الجهاد وإصلاح العقيدة
السؤال لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أليس من الأولى قبل إعلان الجهاد والأمة في هذه الحالة أن تعاد أولاً إلى دينها الصحيح, وفي مقدمة ذلك التوحيد والعقيدة الصحيحة, التي يجهلها كثير من المسلمين في هذا الزمان, واشتغلوا عنها بغيرها, جزاكم الله خيراً؟
الجواب
بلى، صحيح أنَّا مأمورون بأن نرد ضال المسلمين, وأن نحرص على هداية من أخطأ الطريق, فنبدأ بجهاد أنفسنا, ونبدأ بجهاد أبنائنا, ونبدأ بجهاد إخوتنا, ونبدأ بجهاد جيراننا وأعواننا ومن نعرفهم, وليس الجهاد مخصوصاً بالقتال, بل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر جهاد, وبث العلم الصحيح جهاد, وكذلك تركيز الإيمان والعقيدة الصحيحة وترسيخها في القلوب جهاد, وقد ذكر المشايخ أن الجهاد مشتق من الجهد الذي هو بذل الوسع والطاقة والتكليف على النفس والتشديد عليها بشيء يكون مجهداً ومكلفاً لها.
إذاً، لا شك أنه أعم من القتال في سبيل الله الذي هو قتال الكفار, بل يعم أن نبدأ بجهاد المسلمين الذين يتسمون بأنهم مسلمون ولكنهم لم يحققوا الإسلام, فقد مر بنا -قريباً- أن من بين المسلمين من يتسترون بالإسلام, وهم في الحقيقة منافقون, وما يسمون بالعلمانيين, أو حداثيين, أو في الحقيقة منافقون, وأن هؤلاء يجب جهادهم إما سراً بدعوتهم وتخويفهم حتى يرجعوا, وإما علناً بالتحذير من شرهم والأخذ على أيديهم.
كذلك -أيضاً- قد اشتهر وظهر أن الكثير من المسلمين قد انحرفوا في معتقداتهم فاعتقد كثير منهم ضد الإسلام كالشيوعية, أو الإلحاد, أو الزندقة, أو نحو ذلك.
كذلك -أيضاً- وقعوا في خلاف في العقيدة, فانحرف كثير منهم اعتقدوا عقائد أشعريه, أو عقائد معتزلة, أو ما أشبه ذلك, وما أكثر هؤلاء! ويستحقون أن نجاهدهم حتى نردهم إلى معتقد السلف الصالح, وعقيدة أهل السنة والجماعة, كذلك -أيضاً- لا شك أن بين المسلمين عصاة مجاهرون بالمعاصي, ومعلنون لها أو مخفون لها, وهؤلاء أيضاً يستحقون أن نجاهدهم بما نستطيعه, أو بما يكف شرهم, فإقامة الحدود, وقتل القاتل, ورجم الزاني, أو جلده -مثلاً-, وقطع يد السارق, وكذلك قتل الساحر, وقتل المرتد, أو نحوهم, وكذلك جلد الشارب "شارب الخمر" وما يلحق به, أو القاذف, أو ما أشبه ذلك.
وكذلك أنواع التعزيرات, التعزير على ترك صلاة, أو تخلف عنها, أو ما أشبه ذلك، لا شك أن هذا كله جهاد في سبيل الله.
وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, يعتبره العلماء جهاداً, وذلك لأن التوحيد هو أهم المعروف, فالأمر به يعتبر أمراً بالمعروف، والشرك والمعاصي كلها من المنكر, فالنهي عنها يعتبر من النهي عن المنكر.
إذاً: لا شك أن هذا داخل في الجهاد في سبيل الله سبحانه, فعلى هذا نقوم بهذا الأمر, ولكن هل يعني أن كل المسلمين يقتصرون على الجهاد فيما بينهم, ويتركون جهاد الكفار في البلاد الأخرى, التي يستضعف فيها المسلمون ويهانون؟ نقول: ليس كذلك, فهناك من يكون وظيفتهم أن يجاهدوا في بلادهم, وهناك من لديهم قوة وجلد يجاهدون في البلاد الأخرى, هذا الجهاد الذى هو القتال ونحوه, كذلك -أيضاً- هناك من يتفرغون للدعوة في بلادنا التى هي بحاجة إلى من يدعو إليها أولئك المنحرفين, ويتفرغ آخرون للجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله تعالى في البلاد الأخرى.
كذلك -أيضاً- ليس الجهاد خاصاً -كما سمعنا وتكرر من الإخوان- بالقتال بل هناك جهاد قد يفوقه أو قد يقرب منه وهو الجهاد بالمال, كثيراً ما يقدم الله الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس، كقوله سبحانه في سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:72] , في موضعين, وفى أربعة مواضع أو خمسة, في سورة التوبة يقدم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وكذلك في سورة الحجرات وفي غيرها يذكر الله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فيقدم أموالهم على أنفسهم, لماذا؟ لأن الجهاد بالمال قد يكون نفعه أعظم, فإنه إذا بذل مالاً جهز عدداً كثيراً.
وكما سمعنا من الإخوة أن عثمان رضي الله عنه جهز جيش العسرة، فكم الذين قاتلوا بسبب عثمان رضي الله عنه؟ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها, وأموال كثيرة جاء بألف دينار, فصبه في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، هذا فرد واحد جاهد بسببه أعداد هائلة, إذاً فلا نقول: إن الجهاد مخصوص بأن تغزو بنفسك وتقتل إنساناً أو تقتل في سبيل الله, لا شك أنه جهاد وأنه فيه أجر, ولكن أنواع الجهاد كثيرة والله أعلم.(258/49)
جهاد النساء ودورنا في استرجاع أمتنا
أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ: سلمان بن فهد العودة حفظه الله:
السؤال
شيوخنا الأفاضل: تتفطر أكبادنا وتتمزق قلوبنا ألماً لحالة الأمة الإسلامية, ولحال إخواننا المسلمين, ونحن معشر النساء لا نستطيع إمساك العنان، وخوض غمار المعارك, فما هو سبيلنا للجهاد؟ وماذا نستطيع إفادة إخواننا المسلمين فيه؟ وكيف نؤدي دورنا في استرجاع مجد أمتنا؟ والسؤال موجه للشيخ: سلمان بن فهد العودة؟
الجواب
أولاً: أنت صانعة الأجيال -كما يعبرون- بغض النظر عن تحفظ بعضهم عن هذا التعبير, لكن مربية الأجيال يقيناً, والصغير يتربى في حجر أمه ويتلقى منها التربية, وإحدى الأمهات كتبت لي يوماً من الأيام رؤيا صالحة رأتها في طفلها, فذكرت لي كيف كانت تربية هذا الطفل, حتى اختارت له اسماً معيناً, يتعلق بالقتال والجهاد, ثم كانت تربيه, وهو في السنة الأولى الابتدائية, كان يقرأ القصص, ويسمع القصص المتعلقة بأخبار المجاهدين الأفغان, ويبكى -أحياناً- إذا سمع بعض الأمور المحزنة, وربما تصدق بالمال الذي أعطاه أبوه ليشتري به علبة (البيبسي) من المدرسة -مثلاً- تصدق به وقال: هذا أريده للمجاهدين الأفغان, فإذا كان الطفل يتربى في البيت في مثل هذا المجال, فكيف يكون عندما يكبر سنه؟ لكن إذا كان الصبي الصغير يتربى على كل معاني الجبن والخور, وأمه دائماً وأبداً تخيفه من الأشياء الغريبة, والأشياء المجهولة, وتخيفه بالقصص والأساطير الخيالية, وتخيفه من كل شيء, وتضربه على كل شيء, ولا تعطيه فرصة ليتربى, ولا ليحاول, ولا ليتدرب, وكذلك تربيه على المعاني الرديئة كسماع الأغاني -مثلاً- أو مشاهدة الألعاب, والصور المتحركة, أو غير ذلك, فإنه حينئذٍ سيكون من الصعب جداً أن يتغلب على الآثار السلبية لهذه التربية, هذا جواب على السؤال.
أما ما بقي مما قد يكون عندي بعض التعليقات السريعة واذكر باختصار أيضاً: أولاً: أود أن أشير للإخوة وقد كثر الحديث في هذه الجلسة عن التوجع عن واقع هذه الأمة, والواقع ينبغي أن نقتصد في التوجع, وأن نتحدث بقدر غير قليل عن التفاؤل والأمل الكبير الذي لا أقول إنه أمل بغير رصيد, بل إنه أمل نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا, فنحن الآن نجد بوادر كبيرة على التخلف والانهيار الاقتصادي الذي كان سبباً في سقوط الاتحاد السوفيتي.
إنه الآن بدأ بداية قوية في أمريكا وفي أوروبا وفي غيرها, ومديونية أمريكا أصبحت تحسب بالتريليونات يعني -مثلاً- (اثنين تريليون) أرقام خيالية في مديونيتها, إذاً هي قادمة على الانهيار كغيرها, ومن الممكن أن يواجه العالم فراغاً ولو بعد حين.
أقول: بإذن الله تعالى لعلنا قبل أن نموت نشهد تلك الأيام التي نتذكر فيها زماناً كنا نتكلم ونردد فيه مثل هذه الأوضاع، وإحساسنا بالعجز عن مقاومة الكفر المدجج بالسلاح، نذكرها بالابتسامات والتعجب وأن نقول: سبحان الله! ضعف الإنسان وقصر نظره, وعدم قدرته على استشراف المستقبل بإذن الله تعالى كيف كنا؟! كما إننا الآن نتكلم عما كان عليه الاتحاد السوفيتي قبل سنوات, بل ربما شهور نتكلم عن ذلك حديث المتعجب! النظام الدولي الجديد الذي تبشر به أمريكا, ذاهب لا محالة قدراً وشرعاً, فسنة الله تعالى ماضية، وقد أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام عن المسلمين الذين يقاتلون في آخر الزمان, ومواجهتهم للمسيح الدجال, وقيام دولة الإسلام, بما يدل دلالة قاطعة على ذلك, والواقع يدل على ضعف كيدهم، وينبغي أن ندندن حول ضعف الكيد الغربي كما قال الله {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] , فهذه دولة كالسودان دولة ضعيفة اقتصادياً وبشرياً ومن دول العالم الثالث المتخلفة في مقياسهم ومعيارهم, ومع ذلك يعلنون الحرب عليها الآن جهاراً وليس سراً حتى إني قرأت تقريراً قبل أسابيع, أن مسئولاً كبيراً في أمريكا يعتب على السودان يقول: لماذا تصدرون اللحوم إلى العراق؟ مع أن هذا الأمر مأذون به من قبل الأمم المتحدة, لكن يقول: لماذا تصدرون مع أن شعوبكم محتاجة؟ يا أيها الأمريكان لماذا تتدخلون في قضية لدولة تعتبر من الأمور والقضايا الداخلية التي لم يكن من حقكم أن تتدخلوا فيها؟! وماذا نقمتم من السودان سوى أنه يعمل على الاستغناء عنكم, والاكتفاء الذاتي وانتصر على النصارى في الجنوب, واستطاع أن يحرر مناطق كثيرة, واستطاع أن يتمرد على قيود البنك الدولي إلى غير ذلك من الأمور, وأنها دولة إسلامية قامت على قدميها, ومع ذلك عجزوا عن إسقاطها.
مثل آخر: العراق بغض النظر عما ذكره قبل قليل أخي المقدم, عن وضع شخصية الحاكم, وعن وضع الحزب الحاكم في العراق, لكننا نقول: إن الغرب بين أمرين: إما أن يكون الغرب عاجزاً عن إسقاط الحزب الحاكم, والشخص الحاكم في العراق, بالرغم من الجهود وبالرغم من الحرب التي شنها, وهذا يدل على عجز الغرب, أو يكون الغرب راضياً ببقائه وجعل بقاءه مجرد تكأة له حتى ينهك العراق, ويقضي على قوته, وهذا يكشف للناس أن الغرب خبيث ومتآمر، وأنه لا يرضى بوجود القوة حتى ولو كانت قوة في يد عملاء أو مرتدين, أو منافقين.
أمر آخر: لقد تحدث أخي المقدم عن أن الأسلحة الجديدة في يد الغرب, وأن المسلمين يملكون أسلحة قديمة, وهذا الكلام صحيح وبناء عليه أطرح سؤالاً: إذا كانت الأسلحة في أيديهم فكيف نجاهد؟ إذا اعتقدنا أن المقصود بالجهاد فقط حمل السلاح, السلاح الحديث في أيديهم؟ الجواب أقول: من أعظم وسائل الجهاد أن نجاهد في أن نمتلك أسرار التصنيع وأزمته, القدرة على الاستغناء, ولن تكون القدرة على الاستغناء بكلمة, بل هي تتطلب جهداً طويلاً، وها هي اليابان قطعت هذا الطريق, وقبل أيام أعلنوا عن أول قوة غادرت اليابان لتذهب إلى فيتنام وإلى غيرها ضمن قوة الأمم المتحدة, مع أن النظام يمنع من مثل هذا العمل في الأصل, لكن بعد مرحلة طويلة جداً من الوصول إلى أسرار التصنيع.
إذاً من ألوان الجهاد: الجهاد في مجال العلم والتقنية, ومن ألوان الجهاد: الجهاد في مجال إصلاح المسلمين, لأنهم لو صلحت عقائدهم, وأخلاقهم, ودينهم لبارك الله تعالى في السلاح البسيط الذي يحملونه.
أخيراً لقد أجاب فضيلة الشيخ عبد الله عن أولئك الذين يقولون: لا يصلح الجهاد الآن؛ لأنه يخيف الغرب ويجعلهم يتصورون أننا قوم متوحشون لا نجيد إلا فن القتال وسفك الدماء, فأقول: لا شك أن هذا الكلام تَدخَّل في التشريع؛ لأن الدين قد كمل ونزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] .
لكن هذا لا يمنع أن يكون التركيز في كل وقت في الطرح الإسلامي معنياً بجوانب, ففي الغرب -مثلاً- لا يمنع أن نركز على إصلاح العقائد, ولا يمنع أن نركز على الجانب الأخلاقي في الإسلام, وعلى الجانب الاجتماعي في الإسلام, وعلى الجانب التنظيمي في الإسلام, أو الجانب الصحي -مثلاًً؛ لأن كل هذه الأشياء من الممكن أن نكسب بسببها أعداداً يدخلون في الدين, لكن لا يعني هذا بحال أننا سترنا جزءاً من الدين, أو دفناه -فضلاً- عن أن نعتقد أنه منسوخ, وأنه لا مجال له الآن, واعتذر كثيراً عن الإطالة.(258/50)
إثارة قضية الجهاد في هذا الوقت
السؤال الآخر موجه إلى فضيلة الشيخ عبد الله بن حمود التويجري ولفظه موجه إلى جميع المشايخ يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد/ هل ترون أهمية إثارة مثل هذه الموضوعات في مثل هذا الزمن الذي أصبح فيه الواحد منا مقيداً, وما هو دورنا في هذا المجال؟ وماذا تريدون منا أن نفعل؟ وهل طلب العلم من الجهاد؟
الجواب
إذا لم يثر مثل هذا الموضوع في مثل هذا الوقت, فمتى يثار؟ أليست الأمة الإسلامية قد قُسِّمت وجعلت نهبا؟! أليس أهل الإسلام قد قسم التسلط عليهم سابقاً بين الشرق والغرب؟! ولاحقاً تولى الوصاية عليهم المعسكر الغربي, ثم لماذا يبقى حلف الناتو؟ ففي السابق كان يتذرع بأنه في مقابلة حلف وارسو, فلماذا يبقى الآن؟ ولمقابلة من؟! أليس هناك بلدان إسلامية محتلة من قبل الكفرة إما من النصارى, أو اليهود, أو الباطنية, أو غيرهم؟! ألم يتسلط بعض الكفرة ويتولوا على دول الإسلام وهم عملاء؟ وهذه دول قد هبت وجاهدت, وتحللت من ربقة الكفر كما في أفغانستان, وهناك دول على هذه المشارف, فهذه إرتيريا _مثلاً- النصارى لا يشكلون إلا قرابة (20%) ومع ذلك يسومون أهل الإسلام سوء العذاب وبلداناً أخرى كثيرة.
فمثلاً إيران أهل السنة فيها يشكلون قرابة النصف وإذا قلَّلنا وسلمنا بما يقال, فقرابة الثلث, ومع ذلك مكن اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أهل النحل والديانات الأخرى مكنوا حتى في البرلمان ولم نجد سنياً واحداً، بل لما تسنن العلامة الفاضل أبو الفضل البرقعي , وهو ممن كان يعدل بـ الخميني , طورد وأخرج من "قم" ثم طورد في طهران وأوذي وضرب, وقد تجاوز الثمانين عاماً, فإلى متى يسكت أهل السنة؟! إلى أن يتحولوا جميعاً إلى رافضة! وإلى أي وقت يسكت المسلمون في إرتيريا؟! إلى أن يتحولوا جميعاً إلى نصارى, وفى الحبشة وفي غيرها.
وأما العلم الذى يتكلم عنه الأخ فليس الجهاد مانع من طلب العلم, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل الرسالة وكان جزء منها الجهاد, بل الصحابة يكفينا منه أن يكون كعلم ابن عباس، يكفينا منه أن يكون كعلم أبي بكر , كعلم عمر , كعلم أبي هريرة , وغيرهم, والجهد كجهادهم.
أبو بكر يشهد ثلاثاً وعشرين أو أربعاً وعشرين غزوة, فهذا الذى يتكلم عن العلم أسأله بالله هل شهد غزوة واحدة؟ فلا العلم حصل, ولا الغزو أيضاً, ثم إن تخلف ببدنه فبشيء من ماله, ولا أقول بكل المال, ولكن بشيء منه.(258/51)
مقالة: الجهاد لا يناسب هذا العصر
أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حفظه الله.
السؤال
ما قول فضيلة المشايخ في بعض الجماعات الإسلامية التى تقول: بأن الجهاد لا يناسب هذا العصر، لما فيه من إظهار لسفك الدماء الذى ينفر الناس عن الإسلام, بل لابد من الدعوة باللين والرفق, وأن يضرب صفحاً عن الجهاد, فجزاكم الله خيرا والسؤال موجه للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين , فليتفضل؟
الجواب
هذه مقالة منكرة, شنيعة, وقد عرف أن المسلمين كلما صدقوا في الجهاد فإن الله تعالى ينصرهم, وأنه يظهرهم ويظهر دينهم, ولا شك أن الجهاد -كما سمعنا من المشايخ- أنه أنواع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل قوماً إلا بعد أن يدعوهم ويقول لرسله كما في حديث بريدة: {إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فآيتهن أجابوك فاقبل منهم, وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام؛ فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم, ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين, فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم} .
ولما أرسل علياً إلى اليهود بخيبر مع أنهم قد وصلتهم الدعوة, قال له صلى الله عليه وسلم: {اذهب فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} , إذاً المسلمون فرض عليهم أن يدعوا الكفار إلى الإسلام, فيبينوا لهم تعاليم الإسلام, ثم بعد ذلك يُبيَّن لهم إذا كانوا من الكتابيين أن عليهم بذل الجزية, وبعض المسلمين أو بعض العلماء يرون أخذ الجزية من كل المشركين, فإذا امتنعوا من ذلك كله فلماذا لا يقاتلون حتى يرجعوا إلى الإسلام؛ كما حصل من الصحابة ومن بعدهم، ومن المسلمين في كل وقت, وفى كل زمان؟! وأيضاً نحن نشاهد -كما ذكر المشايخ كثيراً، وكما ذكرنا أخونا المقدم، وكما سمعتم- أن المشركين والكفرة والنصارى دائماً يقتلون المسلمين, ويقاتلونهم ويستذلونهم, وكم أريقت من دماء, وكم انتهكت من أعراض, وكم سلبت من أموال, وكم دمرت من مساكن, وكم أتلف من المسلمين, فلماذا لا يكون ذلك مستبشعاً في ديانة الكفار؟ والإسلام إذا أباح القتال الذي فيه نصر الإسلام؛ يكون منفراً ويكون مستبشعاً, ويكون عملاً بشعاً, لا شك أن هذا قلب للحقائق إذاً فالإسلام بحث على الجهاد.
ومن الجهاد والقتال الذى به سبب رفع الإسلام والذى ذكر الله أن المسلمين يبذلون أرواحهم في سبيل نصرة الإسلام ونصرة الله تعالى كما في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [آل عمران:195] , فوصفهم بهذا الوصف وهو وصف منطبق على الصحابة, وعلى كل من اتبع الصحابة.(258/52)
التنصير يجتاح العالم الإسلامي
يتحدث الشيخ في هذا الدرس عن التنصير بصوره وأشكاله الجديدة، مستعرضاً أساليبهم الخبيثة من تضليل وتلبيس وتحريف، ويوضح مدى جديتهم في هذا العمل باستغلالهم لجميع الفرص الممكنة، وكيفية المنهج الذي يوصون به المنصرين ليستميلوا قلوب وعقول جهلة وعوام المسلمين.
ثم يعرج على أسباب التنصير في العالم الإسلامي، ولماذا كل هذا الاهتمام المنصب على التنصير فيه، وبالمقابل تساهل المسلمين أمام هذه الحملة الشرسة وعدم جديتهم في مواجهة الخطر الذي يهددهم00 وهذا الدرس غني بالأحداث والمواقف المتنوعة التي تبين وتوضح مواقف الشعوب الإسلامية في كثير من البلدان من حيث صمودهم أمام التنصير أو استجابتهم له مع توضيح الأسباب.(259/1)
حكم تعلم اللغة الإنجليزية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الأولى أداء، والثانية قضاء، لأن عدداً من الإخوة قالوا: إنهم كانوا ينتظرون تسليمي عليهم في المجلس السابق، ولكنني ذهلت عن ذلك، فأسلم عليكم تسليما دائما يدوم معكم حياتكم، ويدخل معكم قبوركم، وأسأله تعالى أن يرحمنا جميعا رحمة يعفو بها عن ذنوبنا، ويدخلنا بها في رضوانه وجنته، إنه على كل شيء قدير، كما أسأله أن ينزل علينا من غيثه وبركته وجوده جل وعلا ما يجعلنا سعداء في هذه الدار وفي دار القرار.
أما بعد: فهذه الجلسة هي حول التنصير في العالم الإسلامي، وبعنوان: (التنصير يجتاح العالم الإسلامي) وقبل أن أدخل فيما أريد، كتب إليّ أحد الشباب ورقة يقول فيها: إنك انتقدت فيها المصطلح الشهير (التبشير) ثم إنك استخدمته أثناء المحاضرة، وقلتَ: (إنه من الوسائل لإيقاف المد التبشيري وتهدئته) تعني: الدعوة إلى الله وهذا وَهْم أو سبق لسان حصل بسبب كثرة تداول هذه الكلمة، وهو خطأ سواء أصدر مني أم من غيري؛ فأستغفر الله تعالى وأتوب إليه.
ثم إن الأخ سألني سؤالاً طويلاً خلاصته: نحن مجموعة من الشباب، آذانا وأحزننا كثيراً ما يفعله النصارى بإخواننا المسلمين، ورأينا أن من وسائل مكافحة التنصير أن ندرس اللغة التي يتكلمون بها غالباً، وهي اللغة الإنجليزية في جامعاتنا هنا، على رغم ما فيها من بعض المواد أو بعض القصص الغرامية والأشياء التي تتنافى مع الإسلام؟
الجواب
أقول: إنه مما لا شك فيه أن دراسة هذه اللغة أو غيرها من اللغات، بقصد استخدامها في الدعوة إلى الله عز وجل، أو مقاومة كيد النصارى وغيرهم من أعداء الدين، إنه من الواجبات التي ينبغي على المسلمين أن يسعوا إليها وأن يقوموا بها؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب علينا أن نتعلم لغتهم؛ لندعوهم إلى الله عز وجل ونحاربهم.
نحارب النصارى الذين يشوهون صورة الإسلام، لكن نتعلمها بقدر هذه الحاجة، وليس المقصود أن تتحول اللغة الإنجليزية وتعلُّمها إلى مجال للتفاخر والتنافس، وأن تكون لغة إلزامية في مدارس المسلمين، في مدارس الأولاد والبنات والذكور والكبار والصغار والأطفال، حتى ممن لم يكونوا يوماً من الأيام دعاة إلى الإسلام، بل أقول: إن من المؤسف أننا أحياناً نعتني بتعليم أولادنا اللغة الإنجليزية أكثر مما نعتني بتعليمهم الإسلام نفسه، وأي فائدة في أن يتعلم شباب المسلمين اللغة الإنجليزية، ثم لا يكونون عالمين بالإسلام ولا قادرين على الدعوة إليه، أما أن ينبري من شباب الإسلام المتحمسين من يتخصص في هذه اللغات، ويتعلمها بقصد الدعوة إلى الله ومقاومة كيد النصارى؛ فهذا أعتقد أنه مما لا يختلف عليه اثنان.
ثم إن هاهنا خبراً طريفاً نشرته بعض صحفنا المحلية في الثالث من شهر صفر من هذا العام يقول: إن كاهناً نصرانياً نيجيرياً دخل إلى قفص الأسد في حديقة الحيوانات في إحدى المدن في جنوب أفريقيا، ومعه نسخة من الإنجيل وحبل، وأراد -كما يتخيل- أن يري الناس معجزة سيصنعها بالإنجيل مع الأسد، ويجعل الأسد يستسلم له وينقاد، وكان الأسد نائما، فأخذ يشير له بالإنجيل ويصيح داعيا الناس لرؤية معجزته فاستيقظ الأسد منزعجاً، وأكل هذا القسيس!! هنيئاً مريئاً00 فالحمد لله.
وإذا كان هذا الخبر فيه مصلحة ففي المقابل فقد وقع في يدي شريط مصور قبل أسبوع ونظرت فيه فوجدت أن مما يؤسي ويؤسف أن في هذا الشريط المصور بعض جهود النصارى، وتبدو خلاله امرأة مسلمة في الأصل من إفريقيا، وهي تتكلم عن واقعها وأولادها وتدعو للنصارى وتقول: الله يبارك لنا في النصارى، الله يزيدهم، الله يبارك لنا فيهم، أربع سنوات كلها كنا تعبانين بعيالنا وأولادنا، حتى جاء هؤلاء النصارى وأنقذونا، الله يبارك فيهم ويزيدهم وتدعو لهم، فالله المستعان!(259/2)
الأساليب الجديدة للتنصير في العالم الإسلامي
قبل أن أتكلم عن الدول الإسلامية واجتياح النصرانية لها، أشير إلى بعض الأساليب الجديدة التي يستخدمها النصارى للمسلمين خاصة على سبيل العرض السريع، وهذه الأساليب الجديدة دفعهم إليها أنهم لاحظوا أن كل أساليبهم القديمة لم تكن مجدية بما فيه الكفاية، وعلى الرغم من الذين قد تنصروا إلا أن النتائج دائماً أقل من الجهود التي يبذلها النصارى، فكان القبول قليلاً بالنسبة لما يريدون وما يتوقعون، ومن أسباب ذلك بُعْد الشقة والهوة بين دين الإسلام دين التوحيد والوحدانية والبعد عن كل ألوان الوثنية والشرك، وبين دين النصرانية والتثليث الذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة، ويؤمن بما يسميه الأب والابن وروح القدس على أنهم ثلاثة آلهة، وأيضاً بُعْد الشقة والهوة بين دين الإسلام الذي يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:157-158] وبين النصرانية التي تقول: بأن المسيح قد قتل وصلب على يد أعدائه من اليهود، لذلك سعوا إلى التضليل والخداع في أوساط المسلمين والتغرير بهم، وسلكوا وسائل جديدة أذكر منها على سبيل العرض الموجز ما يلي:(259/3)
التضليل والخداع وتلبيس الحقائق
أ- هناك كتب كثيرة ألفت خصيصاً للمسلمين، وراعت مشاعر المسلمين وعقائدهم وعواطفهم، فمثلاً: كتاب شهادة القرآن بتوحيد المسيحيين وهي نشرة نبهت إليها سابقاً، ووزعت في بلاد العالم، منها هذا البلد وزع فيه مئات الألوف من هذه النشرة، وهي مستلة من كتاب اسمه الله واحد في الثالوث القدوس لـ زكريا بطرس، فهذا الكتاب وهذه النشرة تؤكد على وجود نوع من التشابه بين عقيدة الإسلام والنصرانية، وتقول: إذا كان النصارى يؤمنون بآلهة ثلاثة: الأب وهو الله في زعمهم {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:43] والابن وروح القدس أيضاً أو أي مصطلح آخر يمكن أن يستخدموه، فهم يؤمنون بثلاثة آلهة، أو بالثالوث القدوس كما يسمونه، فهم يوجدون أو يحرصون على إيجاد تشابه بين هذا وبين قول الله عز وجل عن المسيح إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] فيكون هو رسول وكلمة وروح، فهذه الكلمات الثلاث، يحاولون أن يوجدوا تشابهاً بينها وبين الثالوث الموجود عندهم.
نحن نعلم أنه فعلاً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كلمة الله خلقه بقول: كن، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] وأنه روح من الله عز وجل، كما قال الله تعالى، وليس المعنى -قط عند أي مسلم- أن المسيح جزء من الله، بل إن الله تعالى أنكر على من ادعوا هذا، فقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِين} [الزخرف:15] ولكن النصارى يستغلون هذا التشابه العددي بين هذه الكلمات الثلاث: رسول، وكلمة، وروح منه.
وبين التشابه العددي في قانون الثالوث، أو الأقنوم الثالوثي الموجود عندهم لتضليل المسلمين.
ب- وهم أحياناً يقارنون بين الثالوث الموجود عندهم وبين (بسم الله الرحمن الرحيم) هذه الأسماء الثلاثة الموجودة لله عز وجل في هذه الكلمة، مع أننا نعلم أن الله عز وجل له تسعة وتسعون اسماً، هذه الكلمات المعروفة الموجودة في القرآن والسنة، أما أسماء الله تعالى فإنه لا يعلمها إلا هو، فإن هناك أسماء لا يعلمها الخلق، ولهذا يطلع الله تعالى نبيه يوم القيامة على أسماء وصفات يدعوه بها، لم يكن يعلمها أحد من قبل، وأيضاً كما في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه أنه يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك} فثمة أسماء لربنا عز وجل لا يعلمها إلا هو، أما ما يعلمه المسلمون فهي تسعة وتسعون اسماً وليس ثلاثة فقط.
ج- أيضاً من وسائل التلبيس عندهم: بناء كنائس مشابهة بالمساجد، فإن المسلمين قد تعودوا -خاصة في البلاد التي وجدوا فيها نصارى- على رؤية مناظر الكنائس مختلفة متميزة، ويُوجِد هذا عندهم نوعاً من الكراهية لها، ولهذا بدأ النصارى يسلكون طريقة جديدة: أن يبنوا كنائس شبيهة إلى حد كبير بالمسجد، بحيث يسهل على المسلم الدخول فيها، وربما ظنها مساجد فدخلها، وحتى لو دعوا باسم النصرانية إلى هذه المعابد لم يجد فيها غرابة؛ لأنه قد تعود على دخول شيء يشبهها.
د- ومن ذلك أيضاً: إقامة العبادة بطرق مشابهة للطرق التي يقيم المسلمون الصلاة فيها، مثل طريقة الصفوف، ومثل الجلوس على الأرض، ومثل أشكال العبادة، حتى يألفها المسلمون ولا يستوحشوا منها.
هـ- ومن ذلك أيضاً: ترتيل الإنجيل بطريقة تشبه قراءة القرآن الكريم، حتى إنهم يرتلون الإنجيل بطريقة تشبه طريقة التجويد المعروفة عند المسلمين عند قراءة القرآن، حتى يتعود المسلمون على ذلك، ولا يشعروا بالاستغراب.
و ومن ذلك: أنهم يحاولون أن يجعلوا شخصية المسيح في القرآن مشابهة لشخصيتة في الإنجيل، بل أن يلبسوا بنقلهم من الكتب الإسلامية التي قد يغتر المسلمون بها، فمثلاً: هناك كتاب اسمه شخصية المسيح في الإنجيل والقرآن ينقل عن كتاب تفسير الجلالين وهو كتاب متداول عند المسلمين في قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] وفي قراءة {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] بفتح العين واللام في كلمة (لَعَلَمٌ) يعني: عيسى بن مريم، يقول: قال الجلالان أي: يعلم بنزولها، يعني: أن المسيح يعلم بنزول الساعة! فبذلك يلبسون على المسلم البسيط الذي لا يعرف الكتب، ولا يستطيع أن يرجع إليها أو أن يراجعها، فيظن أن تفسير الجلالين يقول في تفسير (علم للساعة) : أي: أن المسيح يعلم وقت نزول الساعة، مع أن القرآن صريح في أنه لا يعلم الساعة إلا الله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:42-45] ويقول: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187] ويقول: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] لكنهم يلبسون على الناس، وحين ترجع إلى تفسير الجلالين تجد أنهم يقولون: بدل قول النصارى نقلاً عنهم يَعْلَم بنزولها، قال الجلالان: تُعْلَم بِنزُولِه، أي: يُعلم وقت الساعة بنزول عيسى بن مريم، فهذه عقيدة إسلامية واضحة معروفة لدى المسلمين، إذ يعتقدون أن المسيح بن مريم لم يقتل ولم يصلب، ولكن رفع إلى السماء، وسوف ينزل في آخر الدنيا قبل قيام الساعة، وهذا أحد معاني قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) وقوله: (وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ) بفتح العين واللام في كلمة (لَعَلَمٌ) في قراءة، أي: تُعْلَمُ الساعة بنزوله، فإذا نزل عيسى علم الناس قرب قيام الساعة، فانظروا كيف لبسوا.
ز- ومثل هذا النوع من التلبيس: هناك كتاب آخر يوزع في أوساط المسلمين، وعندي منه ومن الكتب السابقة وغيرها نسخ، كتاب اسمه الصليب في الإنجيل والقرآن في تفسير قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] فيقول صاحب الكتاب: قال: الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير في تفسير هذه الآية ثم ساق كلاماً طويلاً يدل على أن صاحب هذا الكلام يؤمن بأن المسيح قتل وصلب، فنقلوا هذا الكلام ونسبوه إلى الفخر الرازي، فإذا رجعت إلى كتاب التفسير الكبير للفخر الرازي وجدت أن هذا الكلام كذب مفترى، وأن الفخر الرازي ساق سؤالاً طويلاً على لسان أحد النصارى، ثم طفق يرد عليه ويفنده من وجوه عديدة وفي صفحات طويلة.
فهم نقلوا السؤال الذي ساقه الفخر الرازي على لسان أحد النصارى وعدوه من كلام الإمام الجليل الفخر الرازي تلبيساً وتوهيماً للسذج والعوام من المسلمين.
ح- ومن وسائلهم في التضليل -أيضاً- التضليل بالأسماء الإسلامية كما ذكرت سابقاً، فالمسئول عن المراسلة في إحدى الإذاعات اسمه الشيخ عبد الله برنامجه اسمه (الله أكبر) وبعض الإذاعات اسمها (صوت الحق) وأخرى اسمها (نور على نور) وعندهم أسماء كثيرة لكنهم عمداً اختاروا هذه الأسماء؛ لأن لها وقعاً في نفس المسلم وفي أذنه الذي تعود على سماعها.
ط- ومن الوسائل أيضاً: أنهم يرون أنه لا داعي لمصادمة المسلمين بالعقائد التي يأنفون منها ويرفضونها، فيقولون: لا داعي لأن تقول للمسلم مثلاً: إن المسيح ابن الله هكذا مباشرة؛ لأنه يرفضها، وتصادم عقيدته الموروثة التي تلقاها منذ الصغر، وهو يسمع قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] فلا داعي لأن تقول للمسلم أول مرة: إن المسيح ابن الله، وخاصة يقولون: إن المسيح نفسه لم يستخدم هذه الكلمة، ولم يقل عن نفسه إني أنا ابن الله، بل قال عن نفسه: إنه ابن الإنسان وإنه الكلمة وإنه الروح، ولذلك لا داعي لاستخدام هذه الكلمات، ولكن يمكن أن نتسلل بها إلى قلب المسلم شيئاً فشيئاً، مثل أن نقول: إن المسيح روح الله، وهذه الكلمة قد يقبلها المسلم لكونها وردت في القرآن الكريم {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] .
ي- ومن وسائلهم في التضليل -أيضاً- استغلال العناوين المشتركة بين الإسلام والنصرانية، فمثلاً: الصلاة وردت في الإسلام، ومثلها الصوم، ومثلها الصدقة؛ فيقولون: نستغل هذه العناوين المشتركة بين الإسلام والنصرانية؛ حتى يتقبل المسلم النصرانية دون أن يشعر بالفارق الكبير بين الإسلام وبين دينه الجديد، ولذلك قال الرئيس الأمريكي نفسه -في تصريح له في العام الماضي، وهو يتكلم مع مجموعة من الصحفيين العرب- قال: "إنني لا أوافق على ما يروجه عنا الأصوليون الذين يتكلمون عن عداوتنا لهم وحربنا، وأن ما يروجونه غير صحيح، وأنهم متحاملون علينا، وأنا سوف أقف شخصياً ضدهم، ثم قال: مستدركاً أنا لست متعمقاً في دراسة الدين، ولكنني لا أجد في مبادئ الإسلام ما يجعلنا نختلف أو نتناقض فيما نؤمن به، بل على العكس إنني أجد تماثلاً بين مبادئ الإسلام والمبادئ التي نؤمن بها والمشتقة من ديننا وحضارتنا الغربية"، هذا التصريح نشر في جريدة روز اليوسف عدد (3347) .
ك- أيضاً من وسائل التضليل: استخدام العبارات الإسلامية مثل قولهم: بسم الله الرحمن الرحيم، الله سبحانه، والله تبارك تعالى، عيسى عليه السلام، تسمية الكنائس بيوت الله كما تسمى المساجد، إلى غير ذلك من الألفاظ التي يألفها المسلمون، ومن ذلك أيضاً ادعاؤهم أن دين المسيح لم ينسخ، فقد يظهرون(259/4)
العناية بالأطفال
الطريقة الثانية: العناية بالأطفال في إقامة المدارس والإسكانات الخاصة لهم؛ لأنهم رأوا بأن أخذ الطفل من حضن وحجر أمه، وجعله في كنيسة أو مدرسة أو محضن، يضمن أن يتربى على عقيدة النصرانية وعلى دينها، بعيداً عن معرفته بالدين الأصلي الذي ينتسب إليه أهله.
ومن الغريب أنني سمعت البارحة في بعض الإذاعات أنه أقيم في لندن فنادق خاصة بالأطفال السياح، وفيها عاملون يجيدون كل اللغات، وهذه الفنادق نجحت نجاحاً باهراً منقطع النظير، دعا المؤسسات والشركات إلى إقامة شبكات من هذه الفنادق في أنحاء العالم خاصة في المدن السياحية، وأنهم يمنعون أن يتصل أهل الطفل به، وإنما من أجل الاطمئنان عليه يتصل والده أو تتصل أمه بالجهة المسئولة عن هذا الفندق، ليخبروه عن آخر أخبار هذا الطفل ويطمئنوه عليه، أما والده فلا يحق له أن يتصل به، وذكروا برنامجاً للأطفال في هذه الفنادق، ومن ضمن اللغات التي تجيدها العاملات في تلك الفنادق اللغة العربية، فهذا أسلوب جديد للتنصير.
ومثله أيضاً رأينا جميعاً أطفال المسلمين في البوسنة والهرسك، وكيف يؤخذون بالمئات بدون أمهات ولا آباء، ويذهب بهم إلى إيطاليا، وألمانيا، وفرنسا، حيث يربون هناك على النصرانية، وقد رأينا صوراً منهم في الطائرة أطفالاً صغاراً البراءة تنطق في وجوههم، وبعضهم الرضاعة في فمه، وهم لا يعرفون إلى أين يذهب بهم، فالله المستعان! وذكر لي بعض الإخوة القادمين من هناك أنهم تقام لهم مخيمات ومعسكرات خاصة، وأن بعض المسلمين حاولوا الدخول إليها، فحيل بينهم وبينها، ومنعوا حتى من الدخول؛ لأن النصارى يقيمون نظاماً خاصاً وبرنامجاً مكثفاً لتحويل هؤلاء الأطفال إلى دين النصرانية.
ولك أن تتخيل طفلاً في سن الثانية من عمره أو الثالثة يؤخذ ثم يربى على الديانة النصرانية، ويكبر لا يعرف غيرها، ولا يعرف رباً له إلا أن يقول: ربي المسيح، ولا يعرف نبياً له إلا عيسى، ولا يعرف أصدقاء له إلا النصارى، ولا يعرف معبداً إلا الكنيسة، فأي إنسان سوف يخرج هذا؟! إن هذا الإنسان حتى لو دعي إلى الإسلام ووجد قبولاً، سيكون في قلبه شبهات كثيرة، وفي إيمانه ضعف إلا من رحم الله، أما الكثير منهم فإنهم يظلون محتفظين أوفياء للدين الذي تربوا عليه وهو النصرانية، وهناك مناهج تصاغ صياغة خاصة لهؤلاء الأطفال، وتربيهم على الأسس والمبادئ النصرانية مع الأسف، حتى في بلاد الإسلام كما سيظهر لكم.
ويكفيك أن تعرف أنه في مصر -مثلاً- تَبَرَّمَ النصارى من المناهج الإسلامية في المدارس العامة، وقالوا: فيها آيات وأحاديث، وكتبوا في الصحف: أننا نطالب بإبعاد هذه الآيات وهذه الأحاديث عن المقررات الدراسية التي يدرسها أولادنا.
وما أسرع ما كانت الاستجابة! فخلال أسبوع واحد تقرر إلغاء الآيات والأحاديث الموجودة في مقررات الأطفال، وكانت الحجة أن هذه الآيات والأحاديث كانت فوق مستوى الأطفال، فأما النصارى فإنهم يربون أطفال المسلمين الذين يستولون عليهم حتى ولو بالقوة أحياناً -كما أسلفت- يربونهم على آيات الإنجيل، ويحفظونهم إياها، ويربونهم على العبودية لعيسى واعتقاد ألوهيته وغير ذلك.(259/5)
استغلال الكوارث الطبيعية
الوسيلة الثالثة: استغلال الكوارث الطبيعية من الفيضانات والحروب والمجاعات وغيرها، وهم يعتبرونها فرصة ذهبية، ففي الصومال -مثلاً- توجد عشرات المؤسسات التنصيرية التي تعمل في أوساط المسلمين، وهم يجبرون الإنسان المسلم: إما الفقر، وإما الكفر.
وهذا يذكرنا بالمسيح الدجال الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إنه يأتي إلى القبيلة فتؤمن به، فتنزل عليهم الأمطار، وتعود إليهم أغنامهم أوفر ما كانت لحماً؛ فتنة من الله عز وجل، ويأتي القبيلة فتكفر به، فيصيبهم القحط والجوع} ، فالنصارى اليوم يمارسون دور المسيح الدجال يخيرون المسلم بين الفقر والكفر، والمسلم ضعيف الإيمان الذي لا يتمكن من الحصول على الغذاء والكساء والدواء إلا بالتردد على الكنيسة وإعلان النصرانية، لا أعتقد أنه سوف يتردد في فعل ذلك كله، لأنه إذا آمن بالنصرانية فتحت أمامه الأبواب كلها، بل أقول: المؤسف أن بعض الإعانات التي تجمع من المسلمين يوزعها النصارى، فيوزعها الصليب الأحمر أو الأمم المتحدة، وقد رأينا ورأى غيرنا إعانات للمسلمين جمعت في بلاد كثيرة منها الخليج وغيرها، وقامت بتوزيعها مؤسسات الصليب، توزعها على إخواننا المسلمين في كشمير وبنجلاديش وفي غيرها من البلاد الإسلامية التي تصاب بالمجاعة أو غير ذلك، فالله المستعان! ورأينا وسمعنا أن أموالاً كثيرة من الأموال التي تجمع للمسلمين في البوسنة والهرسك في هذه البلاد وفي سواها، تقوم بتوزيعها على المسلمين هناك جمعيات ألمانية؛ وأي جمعيات هذه الجمعيات الألمانية التي سوف تقوم بتوزيع أموال المسلمين على المسلمين، وربما استغلت ذلك في دعوتهم إلى النصرانية وإقناعهم بأن النصارى هم الذين أغاثوهم وساعدوهم بالمال، والطعام والغذاء، والكساء.
وغير ذلك، فالله المستعان!(259/6)
العناية بالنصراني الجديد
الوسيلة الرابعة: العناية بالنصراني الجديد، وذلك لأنهم يدركون أن الإنسان الذي دخل في النصرانية خاصة إذا كان كبيراً في السن أو شاباً نشأ على الإسلام، أنه من الصعب جداً أن يتأقلم مع الديانة الجديدة، ويزول كل ما في نفسه ويستطيع أن يتعامل مع طقوسها وعاداتها وعباداتها، وأن يتعايش مع قوم ليسوا من بني جنسه ولا من قرابته ولا من معارفه، بل إن المسلمين يعدونه خائناً وينظرون إليه على أنه خارج عن الملة -وهذا هو الواقع لا شك- وكافر ومرتد؛ لذلك يعملون على دراسة نفسية هذا المسلم وإيجاد الحلول والأسباب التي تجعله يعيش وضعاً طبيعياً، وذلك لأن تغيير الدين أمر له آثاره النفسية البعيدة، فإن يترك الإنسان ديناً ظل زماناً طويلاً يعتقد أنه هو طريقه إلى الجنة، وأنه إذا تركه فهو من أهل النار، ربما يشعر بالإحباط والخوف والقلق، فلذلك يبذل النصارى جهوداً كبيرة من أجل توطين هذا المسلم الجديد، وإشعاره بالأخوة، وإزالة كل ألوان الاكتئاب أو الخوف، أو القلق النفسي الذي يصيبه بسبب الدين الجديد؛ لأسباب كثيرة بعضها ما سبق.(259/7)
المسيحي المبشر بين المسلمين
الوقفة الثالثة: هي وقفة مع كتاب مخطوط وقفت عليه، عنوانه المسيحي المبشر بين المسلمين وهذا الكتاب طبع في لاغوس في نيجيريا، ووزع بين دعاة النصرانية، يعلمهم كيفية الدعوة إلى النصرانية في وسط المجتمع الإسلامي، وهو يدل على الطرق التي يجب على النصراني اتباعها ليكون قدوته في ذلك المسيح، ويكون هو قدوة لغيره.
فيقول مثلاً: فيما يجب أن يكون عليه المسيحي بين المسلمين:" لا بد أن يمنح المسيحي المسلمين حباً جديداً لهم، ويقولون: إننا أخطأنا خطأ عظيماً حين لم نقدم للمسلمين حبنا الكبير، وقد قال المسيح في وصيته: يجب أن تحب جارك كما تحب نفسك، فلا بد أن تقدم الحب للمسلمين، كن صديقاً لهم، تعامل معهم بالأخلاق، إذا خانوك لا تخنهم، هكذا يقول الكتاب: إذا أخطأ المسلم عليك لا تغضب عليه، وفي المقابل: إذا أخطأت أنت عليه فبادر بالاعتذار بتهذيب ولطف، حتى يتقبل المسلم الدين الذي تدعو إليه.
كذلك من الدعوات يقول: افهم عقيدة المسلم، ادرس الإسلام جيداً، ليس فقط من أجل الشبهات لتثيرها في وجه المسلم، ولكن لتحقق فهماً أفضل للإسلام، وتعرف أوجه الشبه بين الإسلام والنصرانية حتى تبدأ بها، حدثهم عن المسيح، شاركهم في حب عيسى وقل لهم: إن حبي لكم يدعوني إلى أن أدعوكم إلى الديانة النصرانية التي هي وسيلة الإنقاذ، ابتعد عن الجدال فإن الجدال لا ينفع أبداً، فالجدال -مثلاً- في ذكر فكرة الثالوث أو في ألوهية المسيح لا يفيدنا، بل أعطهم إجابات بسيطة وفكرة عامة، وحاول أن تأخذ الأمر بنكتة أو فكاهة أكثر مما تأخذه بجد".
هم يدركون أن هذه نقطة ضعف، مثل قضية ألوهية المسيح كما زعموا {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء43] أو فكرة الثالوث يقولون: إذا ناقشناها نقاشاً علمياً فشلنا فيها، إذاً لا داعي للنقاش، لكن أعطِ إجابات بسيطة وعامة، وأحياناً خذ الأمر بفكاهة، ومن الممكن أن تستخدم بعض الأشياء التي تتشابه مع الإسلام، مثلاً: حدثهم عن ابن السبيل وهو الإنسان الذي ولد في الطريق -هكذا ظنوها- يعنون أن الإنسان الذي ولد في الطريق هو ابن السبيل، فيقولون: ابن الله، من هذا القبيل، والواقع أنهم يكذبون؛ لأنهم يؤمنون بأن المسيح هو ابن الله أي: جزء منه {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] يعني ما كان للرحمن ولد، وفي بعض التفاسير أنه على سبيل التعجيز والإنكار أنه لو كان له ولد لاستحق العبادة؛ لأنه جزء منه {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء43] .
المقصود أنهم يقولون: ممكن أن تقول للمسلم: إنه ابن الله أي: أنه منسوب إليه لقربه منه مثل ما نقول: ابن السبيل، والواقع خلاف ذلك، فهم يعتقدون أن المسيح ولد لله تعالى، هذه هي عقيدتهم.
ومن النصائح الموجودة في هذا الكتاب: استعمل بعض العبارات التي يستعملها المسلمون، كذلك لا تتعرض لشخصية محمد -وتقول صلى الله عليه وسلم- فلست أنت الحكم عليه.
وهم يقولون في دينهم وعقيدتهم: إنهم لا يصدقون النبي صلى الله عليه وسلم، بل يعتقدون أنه غير صادق وأنه كاذب فيما أخبر عن الله عز وجل، لكن يقولون: من أجل ألا تجرح شعور المسلم، لا تتكلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء، دع الحكم عليه لله تبارك وتعالى، من ذلك يقولون: العناية بأمر حرية الدين، فحاول أن تقنع المسلم بحرية الدين وأن الإنسان حر أن يختار من الأديان ما شاء، ومن الممكن أن تستدل بقول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] وأن الإكراه في الدين لا يمكن أن يأتي بتدين وعقيدة صحيحة.
ومعنى الآية معروف أننا لا نكره النصراني على الدخول في الإسلام ولا حتى اليهودي بل ندعوه إلى الإسلام أو الجزية فإن أبى قاتلناه إذا كنا متمكنين قادرين على ذلك، لكن المسلم لا يمكن أن يكون مأذوناً في الإسلام بالخروج إلى دين آخر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كما في صحيح البخاري عن ابن عباس: {من بدل دينه فاقتلوه} فلا يقبل منه إلا أن يظل على دينه ويتمسك به، أما إذا خرج من الإسلام بعد أن دخل فيه فإنه لا يقبل منه إلا الدخول في الإسلام وإلا يقتل مرتداً.
كذلك يقول: لا تحاول تغيير دين المسلم، لكن حاول أن يضع المسلم ثقته في المسيح بكل إخلاص ومحبة.
ومن النصائح التي تكلم عنها قضية التعميد وإشهار النصرانية، ويقول: لابد ولو بعد حين أن تدعو هذا المسلم الذي تنصر إلى أن يعلن نصرانيته وأن يتردد على الكنيسة، وأن يتم تعميده، وهو عملية تتخذ للنصراني الجديد إشهاراً وإشعاراً وإعلاناً بأنه دخل في النصرانية، ثم تكلم الكتاب عن الزواج من المرأة النصرانية وقال: ينبغي ألا نسمح بأن يتزوج المسلم نصرانية؛ لأنه وجد بالتجربة أنه بعد حين يتزوج عليها امرأة مسلمة، وقد يضر بها000 هكذا يدعون! والحقيقة أن المرأة النصرانية إذا تزوجها المسلم ربما أسلمت، فلذلك هم قالوا: ينبغي أن نربي المجتمعات النصرانية على ألا يزوجوا بناتهم من مسلم أبداً، وإنما يزوجونهن من الشباب النصارى.(259/8)
التنصير في العالم الإسلامي
وهو الذى سأتحدث عنه فيما بقى:(259/9)
أولاً: أهمية العالم الإسلامي
العالم الإسلامي هو البلد الذي يفيض لبناً وعسلاً كما يقول بطرس الناسك الذي دعا إلى الحروب الصليبية، واليوم أصبح العالم الإسلامي يفيض بترولاً، وهذا هو الأهم؛ فإن حضارتهم واقتصادهم كله يقوم على أساس هذا النفط الذي يوجد أكثر من سبعين بالمائة منه في العالم الإسلامي، ويوماً بعد يوم يكتشفون اكتشافات جديدة في النفط في بلاد المسلمين.(259/10)
ثانياً: العدد البشري الهائل من المسلمين
فهذا التوالد الذى لا يمكن أن توجد نسبة تقاربه في العالم كله، حتى إنهم يكتبون دراسات وإحصائيات عما يسمونه بالانفجار السكاني الذى يهدد العالم الإسلامي، فمثلاً: العنصر الفلسطينى في إسرائيل، يخيفهم كثيراً كثرة التوالد بين المسلمين الذى يدل على أنه إذا استمرت المعدلات على ما هى عليه الآن، فإن المسلمين سوف يتغلبون عليهم! حتى ولو من ناحية الكثرة والكثافة العددية، لذلك تلاحظون الآن أنهم يعملون على إبادة العنصر الإسلامي، فأصبح من ضمن الخطط -يبدو- القضاء على المسلمين بالقتل والإبادة والتصفية الجسدية، كما هو ملحوظ مثلاً: في البوسنة والهرسك، حيث أصبح الهدف هناك إبادة المسلم، حتى ولو كان لا يعرف من دينه شيئاً 00! هذا جانب 000.
الجانب الثاني: هو العمل على تحديد النسل وتقليله بقدر ما يستطاع، ومن الأشياء الطريفة في موضوع التكاثر بين المسلمين أن أندونيسيا بلد إسلامي ضخم جداً بالقرب من استراليا القارة الفارغة التي لا يوجد بها سكان إلا بنسبة ضئيلة جداً00! يقول لي أحد الدكاترة الذين درسوا في استراليا زمناً طويلاً، وهو يدرس هنا في جامعة الملك سعود، يقول: وجدنا أن الاستراليين عندهم عقيدة راسخة أن المسلمين الأندونيسيين سوف يزحفون عليهم يوماً من الأيام ويأتونهم، ويقول: إن الأسترالي العادي تمثل هذه القضية عنده عقيدة راسخة لا شك فيها، حتى ظننت أنهم قد ورثوهاعن بعض العقائد السابقة، أو بعض التنبؤات السابقة عندهم، فلما سألناهم لم نجد أي دليل على ذلك سوى أنهم يلاحظون أن المسلمين في أندونيسيا كثيرون يزيد عددهم على مائة وثمانين مليوناً، وهم يتكاثرون أيضاً بشكل كبير، في حين أن استراليا قارة فارغة، فيجدون بالإحصائيات العادية وبالمقياس العقلي أن هذا العدد الكبير سوف تغص به أندونيسيا، وسيجد نفسه مضطراً إلى أن يبحث عن أقرب مكان ينتقل إليه، وسيكون أقرب مكان ينتقل إليه هي تلك القارة الفارغة الجميلة استراليا!(259/11)
ثالثاً: التهديد الإسلامي الأصولي
السبب الثالث للاهتمام بالعالم الإسلامي، وهو الأهم بلا شك: هو التهديد الإسلامي الأصولي الذي يخافون منه الآن، وهذا التهديد قادم، وفيما يبدو لي أنه قادم بصورة سريعة؛ فهم يخافون الآن من الإسلام، وقد تحدثت تفصيلاً عن هذا في محاضرة بعنوان (لماذا يخافون من الإسلام؟) لكن فيما يتعلق بخوفهم من التهديد الإسلامي الأصولي الآن، أذكر على سبيل المثال أشياء سريعة وجديدة، لأنه ليس هذا الموضوع.
الإسلام في الجمهوريات السوفيتية الآن أصبح خطراً يهددهم، حتى إنهم الآن منعوا منح أي فيزة لسعودي يريد أن يذهب إلى الجمهوريات السوفيتية الإسلامية، وكان عددٌ كبيرٌ من الشباب المسلم أراد أن يذهب إلى هناك، ولكنهم منعوه، ويبدو أن هذا تنسيق بين المخابرات الأمريكية والروسية خوفاً من الخطر الأصولي القادم فيما يزعمون.
كذلك أفغانستان بحكم جوارها لالجمهوريات السوفيتية، فهناك جهود كبيرة لتدمير الحكومة الإسلامية في أفغانستان، ومحاولة إيجاد تقسيم وإقامة دولة في مناطق الشمال تكون مستقلة وغير إسلامية، بل يملكها المليشيات أو غيرها، فتحول بين الحكومة الأصولية كما يسمونها في كابول وبين الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي.
مثال آخر: الإسلام في يوغسلافيا قرأت تقريراً أمس يقول: إن هناك تقريراً من المخابرات البريطانية يحذر من الخطر الإسلامي الكبير فيما يسمونه دول البلقان، ويقول: إن المسلمين الآن في ولاية كوسوفا، وهى ولاية تابعة للصرب الآن، تسعين بالمائة من سكانها مسلمون، وقد اختاروا رئيساً لهم، وطالبوا الدول بالاعتراف بهم وأنهم الآن يخزنون الأسلحة، وإذا لم يتم الاعتراف بهم فسوف يقوم هؤلاء المسلمون بثورة ضد الصرب، وسوف تغرق دول البلقان في حرب إسلامية نصرانية لا يعرف أحد -كما يقولون- ماذا تكون نتيجتها، فضلا عن وجود مسلمين يخزنون الأسلحة في ألبانيا وفي الجبل الأسود وغيرها.
إذاً هم يتوقعون حرباً بين الإسلام أو ما يسمونه بالأصولية وبين النصرانية، ونحن أيضاً نتوقع ذلك، وربما أسرع مما يتوقع الكثيرون؛ لذلك فإنهم يولون العالم الإسلامي اهتماماً كبيراً، ويكفيك أن مجلس الكنائس العالمي في مؤتمره السابع الذي عقد في استراليا ركز على منطقة الشرق الأوسط وأهميتها، وقرر اختيار البابا شنودة رئيساً له في الشرق الأوسط، وأعطاه صلاحيات كبيرة ليقوم بدور التنصير في العالم الإسلامي انطلاقاً من مصر، ولذلك تلاحظون هالة كبيرة إعلامية تحيط بـ البابا شنودة في الصحف المصرية، ومقابلات معه، وصوره تعلق! بل إنه حتى في التلفزيون المصري والإعلام الرسمي له دور كبير، والصحف الغربية والإذاعات الغربية تتحدث عنه أيضاً، وكأنه أكبر زعيم نصراني في الشرق الأوسط.
والكثيرون من المسلمين ومن الشباب -خاصة في هذه البلاد- لا يخافون التنصير، ويتوقعون أنه ليس له دور كبير وأنه لا يؤثر، وأقول: تبين بالدراسة أن هذا خطأ، وأن التنصير يفعل فعله في أوساط المسلمين، وأن الكثيرين من المسلمين يخرجون من دينهم، ويعلنون الدخول في الدين النصراني.
نعم، أما الذين يتأثرون بالنصرانية تأثراً جزئيا بمجرد خروجهم من الإسلام دون الدخول في النصرانية، أو تقبلهم لبعض عقائدها، أو مساعدتهم، أو قبولهم بأن يتنصر أقاربهم أو ما أشبه ذلك، فحدث ولا حرج00! فمن الخطأ أن تتصور أن المسلم يملك مناعة وحصانة ضد التنصير، فالجهود النصرانية كبيرة جداً، وهذه الجهود أثمرت ولو جزئياً، والحاجة التي يشعر بها المسلم للغذاء والكساء والدواء والتعليم تدعوه إلى القبول بـ النصرانية، والجهل والتضليل -أيضاً- سبب من أسباب الدخول في النصرانية، فالمسلم الجاهل ربما لم يعرف دينه قط، ثم يدعى إلى النصرانية بأساليب ماكرة وخبيثة فيدخل في النصرانية! وعدم وجود المقابل، عدم وجود دعوة إسلامية صحيحة لإخراج المسلمين من الجهل إلى العلم بالدين، وتحذيرهم من الخطر الذى يهددهم، كل هذه الأسباب جعلت هناك تقبلاً جزئياً لـ النصرانية بين أوساط المسلمين.(259/12)
نماذج لإنتشار التنصير في العالم الإسلامي
وسوف أذكر لكم نماذج حرصت أن تكون قصيرة وسريعة مراعاة لضيق الوقت:(259/13)
الدول الشيوعية
وفيما يتعلق بالدول الشيوعية: ذكرت مجلة المجتمع في عدد (996) أن استنبول شهدت اجتماعاً حاشداً هو الأول من نوعه منذ ألف سنة! حضره كبار الأساقفة النصارى، ومَثَّل فيه (14) كنيسة أرثوذكسية من الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا وكان هذا المؤتمر هو مصالحة بين ما يسمى بالكنيسة الشرقية وبين بقية الطوائف المسيحية الأخرى؛ للعمل معاً في مواجهة ما يسمونه بالتحديات، أي: أن النصارى الآن يجمعون ويوحدون صفوفهم من أجل مواجهة تحديات الأصولية الإسلامية؛ وادعى المؤتمر أن الكنيسة الشرقية -يعني في العالم الإسلامي- قد عانت الكثير من الاضطهاد على يد المسلمين، وأن الأرض التي يقطنها المسلمون في روسيا كانت أرضاً مسيحية ونصرانية، ولا بد أن تعود أرضاً نصرانية كما كانت من قبل، لذلك وجه هذا المؤتمر إلى ضرورة تبني جهود كبيرة إعلامية في نشر الأشرطة والكتب والبعثات التنصيرية والخبراء والمؤسسات والمدارس في روسيا، سواء كان ذلك في الجمهوريات الإسلامية أو في غيرها؛ لإعادة النصارى إلى دينهم وإخراج المسلمين عن دينهم، ولذلك قامت مؤسسة أمريكية قادت حملة ضخمة جداً اسمها حملة اتحاد لأجل عيسى، يعني: للتنصير في الجمهوريات الروسية، وقامت بالأعمال التالية: أولاً: إرسال مليون نسخة من الإنجيل مبدئياً.
ثانياً: توزيع المنشورات النصرانية على أوسع نطاق.
ثالثاً: بث أفلام من ضمنها فيلم اسمه (فلم عيسى) وقد رأيت بعيني بثاً من هناك وصل حتى إلى هذا البلد، وشوهد في هذه القرية المؤمن أهلها -إن شاء الله- يدعو إلى النصرانية، ويخاطب هذه الجموع التي خرجت لتوها من الشيوعية يدعوها إلى عيسى! رابعاً: تأسيس مراكز تربية نصرانية في المناطق المختلفة من روسيا، وإعداد الدعاة هناك.
كذلك في ألبانيا -وهي إحدى الدول التي خرجت من الشيوعية- هناك جهود نصرانية وبث للدعاة النصارى، بل بلغ الحال إلى أن النصارى بدءوا يهيمنون على الاقتصاد، ويحاولون ألا يدخل في أي عمل -مع أن هناك فقراً شديداً ومجاعة وأزمة- إلا نصراني، حتى إنهم أقاموا مصنعاً كبيراً اشترطوا للعمل فيه تعليق الصليب، وقد كشف أحد الشيوخ هناك، واسمه توفيق إسلام -من ذلك البلد- كشف المخطط التنصيري وقال: إن النصارى قد أقاموا مراكز في أغلب المدن والقرى فيما يتعلق بألبانيا.
هذا غيض من فيض من الجهود والأعمال التي قاموا بها، وهو على كل حال هو بعض الجهد.
ومعي مقال عنوانه مستقبل الإسلام في أفريقيا وقد تكلم هذا المقال، ونشر في جريدة الأمة عام (1406هـ) وهو مقال قديم، ولكنه تكلم عن مشاريع كثيرة للمنصرين، منها مشروع تنصير الفولاني وهي: إحدى القبائل الكبرى الموجودة في نيجيريا، ولها جهود كبيرة في دعم الشيخ عثمان فوديو الذي أسس خلافة في نيجيريا في بداية القرن التاسع عشر، ويمكن مراجعته لمن أراد الاطلاع، كما أن مجلة الأمة في جمادى الأولى عام (1406هـ) أيضاً نشرت مقالاً عنوانه (الواقع الإسلامي في أندونيسيا، بين حملات التنصير وتزييف التاريخ) وذكرت مقالات ومعلومات مهمة، وإن كانت قديمة أيضاً عن التنصير في أندونيسيا.
وصلِّ اللهم وسلِّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(259/14)
أفريقيا
أولاً: في أفريقيا (القارة السوداء) في جريدة الدعوة عدد (1324) طرحوا سؤالاً: هل نجحت خطة البابا في تحويل أفريقيا إلى قارة نصرانية عام (2000م) ؟ فهناك خطة لتحويل أفريقيا كلها إلى قارة نصرانية، وبذلك يتبين أن هذا الإعلان إعلان مدروس مبني على عدد هائل من المنصرين ووسائل فعالة تعمل تحت مسمى الإغاثة، ومسمى الطب وإلى غير ذلك من المسميات، وعلى سبيل المثال زامبيا أعلن رئيسها أنها بلد نصراني على الرغم أن النصارى لا يزيدون في هذه الدولة على (25%) على أقصى تقدير، والكنيسة تقود نوعاً من الدكتاتورية والقهر والسيطرة على الشعوب باسم النصرانية، فأين حرية الأديان التي يتكلمون عنها؟! وأين المنظمات العالمية التي تنادي بحماية النصارى، لماذا لا تنادي بحماية المسلمين من التنصير القهري الذي يواجهونه في زامبيا وفي غيرها؟ و (50%) من المسلمين يلحقون أولادهم في تلك الدولة بالمدارس النصرانية، وقد تم تعيين اثنين من القساوسة وزراء وآخر نائباً لوزير الإعلام.
وخبر آخر: لجنة المسلمين بأفريقيا تقول: في ملاوي انخفضت نسبة المسلمين من (66%) إلى (17%) خلال نصف قرن، وفي مالي قام قس واحد بتشييد مائتي كنيسة وعشرين مستوصفاً وخمسين مدرسة وحفر ستمائة بئر.
البابا قام بزيارات لإفريقيا سبع مرات منذ توليه! الله أكبر، سبع مرات! هذا أكبر مسئول عن النصرانية في العالم زار أفريقيا سبع مرات، إذاً ما بالكم بالدول الأخرى كم زارها؟! قارن ذلك مع علماء المسلمين الذين لا يضعون هذه الدول في اهتمامهم أصلاً فضلاً عن أن يزوروها.
وهناك ثلاثمائة ألف مسلم تقبلوا المسيحية في الدول الأفريقية قبل سنتين، والسنغال قام بزيارتها البابا والتقى بشيوخ الطرق الصوفية، وفي أحد الملاعب الرياضية التقى بالشباب المسلم، وكان ذلك سبباً في تسلط النصارى على المسلمين في تلك الدولة، سواء من خلال أجهزة الإعلام أم غيرها، وسخروا بالإسلام وبعقيدة الإسلام بل وبشيوخ المسلمين، والصومال البلد الوحيد الذي هو بلا أقليات ولهذا تعرضت في السابق إلى التقسيم إلى ثلاث دول، وبذلت جهود كثيرة في إقامة الكنائس والإذاعات والمراكز التنصيرية ونشر الكتب، خلال ما كان يعرف بحرب أوجادين، وهى حرب طالت، وكان هناك عمل إغاثي ضخم كبير، واستغل النصارى تلك الحرب، فأقاموا المراكز الثقافية والبعثات الدبلوماسية، حتى كثرت الكنائس ويكفيك أن تعلم أن العاصمة مقديشو يوجد فيها أربع كنائس كبيرة وفي مواقع ومراكز مهمة جداً، مع أنه لم يكن فيها نصراني واحد.
بل استولى المتنصرون في تلك الدولة على المواقع الحساسة في الدولة، وهناك إذاعات موجهة إلى أفريقيا عامة وإلى الصومال خاصة.
وأسبانيا تعد مركزاً للتنصير الموجه إلى أفريقيا، خاصة دول المغرب العربي، فالمبشرون هناك معدون إعداداً جيداً أدى إلى كسب عدد كبير من المغاربة هم على أهبة الاستعداد للدخول في النصرانية، ويحصل المنصرون هناك في المغرب على تسهيلات كبيرة لزيارة جميع دول المغرب والقيام بنشاطات فيها.
إن التنصير في أوساط الجاليات المغربية في أوروبا -مثلاً- من العمال على قدم وساق في سبتة ومليلة هناك مسلمون وهم مقيمون تحت الحكم الأسباني، وهناك دعوة كبيرة للنصرانية، ويقول النصارى: هؤلاء المسلمون في سبتة هم الفرصة الكبرى لإنقاذ المسلمين بفضل المخلص يسوع؛ لأنهم تحت الحكم النصراني فيسهل التأثير عليهم، يقول ديفيد باريس في كتاب الموسوعة النصرانية -وهذه إحصائية خطيرة- يقول: كان عدد النصارى في إفريقيا عام (1900م) تسعة ملايين فقط من مائة وسبعين مليون، أي أنهم كانوا يشكلون (9%) من السكان، وقد زادوا بصورة مذهلة ليصلوا عام (1980م) إلى مائتي مليون، تصور كيف قفزوا خلال ثمانين سنة من تسعة ملايين إلى مائتي مليون؟!! ويقول: إنهم سوف يصلون عام (2000م) (يعني: فيما يتوقع هو) سوف يصلون إلى ثلاثمائة وثلاثة وتسعين مليوناً من أصل ثمانمائة مليون في إفريقيا أي: أنهم سيشكلون على الأقل (48%) من سكان القارة السوداء، هذا إذا استمروا على هذه النسبة، وإلا فهم يطمعون إلى تحويلها كلها -كما قلت- إلى قارة نصرانية.
وفي الجزائر تقرير مطول اطلعت عليه في جريدة العالم الإسلامي عدد (1229) يتكلم عن أبعاد حركة التنصير في الجزائر، ويسوق حقائق دامغة تؤكد أن الاستعمار الفرنسي أصلاً لم يأتِ للجزائر إلا لتحويلها إلى دولة نصرانية، ويقول: إن المارشال بيجو كان يقول: أيام الإسلام في الجزائر أصبحت معدودة.
تصور ماذا يقول أيام الاستعمار؟! سبحان الله! يا ليته الآن يرى كيف تحولت الجزائر إلى قوة إسلامية يحسب لها الغرب ألف حساب، لكن آخر وهو زعيم فرنسي، كان يقول: إن القرآن أقوى من فرنسا، وقد تبين أنه أصاب الثاني وأخطأ الأول، وأن الإسلام في الجزائر كان أقوى وأبقى مما يظنون.
ومما يبشر بخير أنه بعد مرور ما يزيد على (120) سنة لم يتنصر في الجزائر طفل واحد، وهذا يدل على أصالة هذا الشعب وقوته وتمرده على كل وسائل التغريب والتخريب والتنصير، هذا ما يتعلق بأفريقيا.
وجزء من أفريقياوهومصر، لكنها تعد مركزاً كبيراً، ومركزاً مهماً بالنسبة للعالم الإسلامي، ويوجد بها أقلية قبطية -كما هو معروف- من سكان البلاد، وهناك دعم غربي لمصر، وهو مرهون بوقوف الحكومة إلى جانب النصارى، ولا زالت الحكومة هناك تقدم لها شهادة حسن السيرة والسلوك في دعمها للنصارى وقضائها على المسلمين، خاصة من الشباب يوماً بعد يوم.
في عام 1986م وصل إلى الأزهر تقرير يقول: إنه قد ارتد ستة من المسلمين في مصر، فلم يكن ثَمَّ جواب، ولم يحرك الأزهر حراكاً، بعد ذلك وصلت أوربية منصرة شهيرة يسمونها الأم تريزا إلى القاهرة، وافتتحت عدداً من المشروعات الخيرية -كما يسمونها-، ونجحت في إخراج 50 فتاة من الإسلام إلى النصرانية، وفي مؤتمر في اكسفورد بانجلترا، وهذا المؤتمر كان سرياً خطيراً، ولكن خرجت منه تقارير نشرت تتحدث عن أنجح الأساليب للتنصير في مصر، وهي يطول الكلام عنها، ولكن سأختصرها: والبابا شنودة أقام مئات المدارس في مصر فضلاً عن المدارس الأجنبية الموجودة أصلاً، منها جامعة سنقور بالأسكندرية، وقد تم الحصول على وثيقة تكشف عن جمعية تسمى: الجمعية الصحية المسيحية، تدير مدارس ومؤسسات بتشجيع من السفارة الأمريكية هناك، كما بدأت الكنائس البروتستانتية في مصر تمارس دورًا خطيراً في التنصير، وفي مقدمتها قصر الدوبارة القريب من السفارة الأمريكية، وهو وكر من أوكار التنصير، وفي المدارس والجامعات توجد جمعيات نصرانية لاصطياد بنات المسلمين، وتنظيمهن ضمن شبكات دعارة وتصويرهن على تلك الحال وابتزازهن بهذه الطريقة، وتوجد جماعات سرية أخرى في مصر متطرفة، منها جماعة اسمها جماعة الجهاد النصرانية، والغريب أن أجهزة الأمن تغض الطرف عن هذه الجماعات، والبابا أو ما يسمى بـ شنودة ينفي وجودها، على حين أن شيوخ الأزهر يتشفون من المسلمين، وعلى حين أن أجهزة الأمن قد حشدت وجندت كل إمكانياتها للقضاء على الشباب المسلم.
وأندونيسيا أكبر تجمع إسلامي، مائة وثمانون مليون أكثر من (80%) الأصل أنهم مسلمون، هذا البلد فقير جداً حتى إن الريال السعودي -مثلاً- يعادل ألفي روبية، وعندهم سهولة القبول، فهم شعب مستعد أن يتقبل أي شيء، ولو أن المسلمين ذهبوا إلى هناك ونشروا الإسلام لوجدوا تقبلاً عجيباً، وقد ذهبت إليها ورأيت بعيني، حتى قلت لبعض الإخوة: أندونيسيا مناخ من سبق، فمن سبق إليها سوف يجدها أرضاً خصبة.
وللفقر الشديد هناك في أندونيسيا ما يسمى (بالتنصير الأرزي) أي: يستغلون الأرز في الدعوة إلى النصرانية، والتنصير الطبي، ويكفي أن تعلم في مجال الفقر أن أكثر من (30%) من الشعب هناك دخلهم أقل من 500 دولار سنوياً، وقد ارتد كثير منهم.
و (65%) من الشركات التجارية هناك بأيدي النصارى!، وسط هذا الفقر فإن الشركات بأيدي النصارى! وأحسن المدارس بناء وتعليماً هي: المدارس التنصيرية، وهي دائماً أو غالباً مأوى لأولاد الكبار من الوزراء والمسئولين والضباط والتجار وغيرهم.
وعلى الجانب السياسي أكثر المواقع والمراكز الحساسة بأيدي النصارى وكبار العسكر، حتى (65%) من كبار العسكر نصارى، بل إن هناك محاولة أن يكون رئيس الدولة منهم، وهناك رجل اسمه بيني مورداني كاثوليكي وهو المسئول الآن عن الدفاع والأمن مدعوم من الغرب، ويرشح نفسه لرئاسة الدولة، ويكفيك أن تعلم أن هذا الرجل يؤيده رئيس جمعية نهضة العلماء -جمعية إسلامية-!! وعدد المنصرين الأجانب عام (1410هـ) هناك (27324) أي قرابة ثلاثين ألف منصر أجنبي دعك من المنصرين الأصلاء، وبالمقابل أقول: دعاة الرئاسة العامة للإفتاء ينقصون عن الثمانين داعية، وتوجد عشرون منظمة أمريكية وأربعة وأربعون منظمة أوروبية، وميزانية التنصير في أندونيسيا مائة مليون دولار سنوياً، ووسائلهم كثيرة: 1- الوصول إلى مراكز التأثير: الجامعات والمعاهد ودور النشر والصحف.
2- التهجير الداخلي -حيث يوجد جزر خالية- فتقوم الحكومة بتهجير الناس إليها من المسلمين والوثنيين، فيسبق النصارى ويستقبلون الناس هناك، ويقيمون لهم المؤسسات، ويحولونهم إلى نصارى، وقد تنصر عدد كبير من المسلمين بهذه الطريقة.
3- الزواج المختلط يعني الزواج بين المسلمين وبين النصارى والمسلمات، وهذا كثير موجود.
بل هناك شبكات طيران وأساطيل جوية يمتلكها النصارى في أندونيسيا، وهي وقف على جهود الكنيسة، وتقدم خدمات المواصلات شيئاً كبيراً في هذا الصدد، كما نشرت ذلك مجلة اليمامة في عدد (1410) ، وهناك جزيرة اسمها سمرنج يوجد فيها المعهد العالي للاهوت، تمكن هذا المعهد من تنصير (6000) طالب خلال تسع سنوات، وتحول هؤلاء إلى دعاة للنصرانية (مرة أخرى الرقم (6000) طالب) ! هناك أيضاً منطقة اسمها منطقة ريان، هذه المنطقة تضم (250) ألف مسلم في جزيرة، هؤلاء عراة كما ولدتهم أمهاتهم، بلا مأوى ولا لباس ولا شيء وفقراء، وم(259/15)
التعامل بأخلاق الإسلام
تحدث الشيخ -حفظه الله- عن أهمية الأخلاق للداعية، فبدأ الحديث عن خلق الصدق، وبين أن على الداعية أن يكون صادقاً في حمل الدين لأن ذلك أدعى لقبول العمل، ثم بين أن على الداعية أن يتحلى بخلق الصبر وألاَّ ييئس ولا يستعجل النتائج، ثم وضح أهمية التواضع وخطر الكبر وضرره على الداعية وبين أن على الداعية أن يتحلى بالتواضع في جميع الأحوال وأن يشعر بآلام المسلمين وأحاسيسهم وأن يعيش للأمة لا لنفسه ويكون قدوة لغيره في ترفعه عن الدنيا وفي مطابقة أفعاله لأقواله.(260/1)
أهمية الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لا سهل إلا ما سهلته، وأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلاً، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: إخوتي الأحباب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكتب الله لنا ولكم هذه الخطوات التي نرجو أن تكون في سبيل الله جل وعلا، فما من خطوة يخطوها العبد إلى طلب علم، أو دعوة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، بنية صادقة، إلا وهي مكتوبة له، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] .
أيها الإخوة: الأخلاق في الإسلام تتبوأ أعظم المواقع، حتى أن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام يقول: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} وفي لفظ: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} والحديث رواه مالك في الموطأ، وابن سعد، وغيرهم وهو حديث حسن، فحصر النبي صلى الله عليه وسلم المهمة التي بعث بها في هذه الكلمات (لأتمم صالح الأخلاق) أو (مكارم الأخلاق) .
فإذا فهمنا أن المقصود بالأخلاق تعامل العبد مع الله، ومع الخلق، فلا إشكال في الحديث مطلقاً؛ لأن هذا هو الدين كله، أن يحسن الإنسان المعاملة مع ربه، ومع الخلق، وإذا فهمنا الأخلاق بالمعنى الأخص الذي هو: حسن المعاملة مع الناس، فحينئذٍ يكون الحديث لبيان عظيم قدر الأخلاق، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: {الحج عرفة} أو {الدين النصيحة} .
ليس المقصود حصر الحج في مكان، أو حصر الدين في النصيحة، كلا؛ بل إشارة إلى عظيم مكانة عرفة، في الحج؛ لأنها أعظم ركن فيه، ولعظيم موقع النصيحة في الدين، والحديث -على أي المعنيين- فيه دلالة قوية جداً على عظمة الأخلاق في الإسلام، ومن هذا المنطلق فكل مسلم داعية كان أو غير داعية، ينبغي أن يلتزم بأخلاق الإسلام.
لكن يكون الواجب على الداعية بصفة أخص أن يلتزم بهذه الأخلاق، فإذا كان المسلم العادي مطالباً بالتحلي بالأخلاق الفاضلة، فما بالك بمن يرفع لواء الدعوة إلى الله، ويكون مبلغاً لشريعة الله، ودينه إلى الناس، إن الأنظار إليه أكثر، والتطلع إليه أعظم، ونقده إن أخطأ أشد.
ولذلك فالتزامه بالخلق الفاضل من ألزم اللوازم، وأكثر الأمور ضرورة.
أيها الإخوة إنني لو تكلمت عن الأخلاق التي يجب أن يلتزم بها الداعية، فإن هذا الحديث يبدأ ولا يكاد ينتهي؛ ولهذا رأيت أن من المناسب في هذه المحاضرة أن أختار مجموعة من الأخلاق، التي هي من جانب مهم، وربما تكون أهم من غيرها، ومن جانب آخر يخطأ فيها الكثير من الناس، وخاصة من الدعاة، حتى تتركز هذه المحاضرة في مجموعة من الأخلاق التي يجب الالتفات إليها.(260/2)
خلق الصدق
فالخلق الأول: هو خلق الصدق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وليس المقصود بالصدق هو الصدق في اللسان، بل الصدق أعم من ذلك، فالصدق منهج عام.(260/3)
ألوان الصدق
أولاً: الصدق في حمل الدين: بمعنى أن يكون اعتقاد الإنسان في دينه وقيامه بدعوته عن صدق، وإخلاص، واعتقاد صحيح، وليس عن نفاق، أو مجاملة لمن حوله؛ ولذلك في القرآن الكريم تجد أن الصدق -أحياناً- يكون في مقابل النفاق، كما في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24] فالإنسان الصادق: هو الذي يحمل الدين بصدق، يكون الدين عقيدة في قلبه، مستترة تظهر آثارها في جوارحه، هذا هو اللون الأول من الصدق، وهو بمعنى الإخلاص في حمل الدين.
واللون الثاني من الصدق، هو: الصدق في الأقوال: بمعنى أن يتجنب الإنسان الكذب، أو ما ينافي الصدق، وقد يقول قائل: إن كثيراً من المسلمين فضلاً عن الدعاة يستعيبون الكذب، ويعتبرونه خطيئة، حتى لو لم يكن ورد النهي عنه، فكيف وقد وردت النصوص في التحذير منه.
فأقول: هذا صحيح، لكننا نجد أن كثيراً من الدعاة، نظراً لمعاناتهم لأمور الدعوة، يتوسعون في أمور لا تتناسب مع الصدق، وذلك مثل كثرة التورية، وكثرة التأول والتأويل في الألفاظ والأقوال، فتجد الداعية يستخدم مع الناس أسلوباً ليس كذباً، لكن هم يفهمون منه خلاف ما يريد، وهو يقصد ذلك، فقد يكتشف الناس يوماً من الأيام، أن هذا الأمر الذي فهموه من هذا الداعية خلاف الواقع، فيتهمونه بأنه كذاب.
ولا شك أن الإنسان إذا عود نفسه على كثرة التورية، بمعنى أن يقول كلاماً يحتمل أكثر من معنى، فهو يقصد معنى، والناس يفهمون منه معنىً آخر، فإن هذا مدرج يجر الإنسان إلى الوقوع في الكذب، فالداعية ينبغي أن يحرص على أن يكون واضحاً في أقواله.
الصدق في الأعمال: بمعنى أن تكون أعمال الإنسان واضحة، بعيدة عن أن يتلبس بها شيءٌ من الزور، فلا يعمل عملاً إلا لوجه الله، ويعمل الأعمال التي ترضي الله، ويتجنب أن يعمل عملاً غير واضح ولا ظاهر.
على سبيل المثال: نحن نعلم جميعاً أن القصة المعروفة -وإن كان في سندها بعض المقال، لكن لا بأس من إيرادها- وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أهدر دم مجموعة من الناس الذين كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم، ويقولون الشعر في ذمه وعيبه، أو كانت لهم جرائم أخرى، كـ عبد الله بن خطل وغيره، وكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان أخاً لـ عثمان بن عفان لأمه.
فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بـ عبد الله بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنه، وقد وضعه خلف ظهره، وهو يقول: يا رسول الله هذا عبد الله بن سعد، وقد جاء تائباً فأمنّه على دمه، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالها عثمان: مرة أخرى، فسكت، فقالها: مرة ثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {هو آمن} .
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لأصحابه: {ألا رجلٌ منكم حين رأيتموني سكت قام إليه فعلا عليه بالسيف فقتله} لماذا لم تقتلوه لما رأيتموني سكت فلم أؤمنه؟ قالوا يا رسول الله: هلاّ أومأت إلينا؟ -لو أومأت إلينا بطرف عينك لقام إليه أحدنا فقتله، فمجرد إشارة بعينك تكفي في أن نقوم إليه فنقتله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين} .
لاحظوا! مدى الصدق الذي تميز به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بحيث أنه لما اشتهر هذا الأمر عنه، وعرف به لدى القاصي والداني لم يستطع المشركون أن يتهموه بالكذب صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا: مجنون، لكن لم يستطيعوا أن يصرحوا بكذبه، إلا بعد ما أعيتهم الحيل، وإلا ففي البداية كانوا يعلمون أن الناس لن يصدقوهم في هذا الأمر، وهذا الذي وقع فعلاً رغم أنهم اتهموه فيما بعد بالكذب، فإن الناس رفضوا هذا الكلام.
ولذلك روى الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه اليهودي الذي أسلم، قال: [[لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، سمعت الناس يقولون: قد جاء محمد، قد جاء محمد، وانجفل الناس إليه، -أي: ذهبوا إليه سراعاً- قال: فكنت فيمن ذهب إليه، فلما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب]] .
لاحظوا! قال: (لما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب) بمجرد نظرة ألقاها عبد الله بن سلام -وهو يهودي آنذاك- على وجه النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أن صاحب هذا الوجه ليس كذاباً، قال: فسمعته يقول: {يا أيها الناس أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام} .
انظر! كيف تحول الصدق؟ أولاً في القلب، ثم في القول، ثم في الجوارح، حتى ظهر على محيا وجه النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رجل صادق في أقواله وأفعاله، فعرف هذا الرجل الذي كان يهودياً، أن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ليس بوجه كذاب.(260/4)
أثر الصدق في القبول
إخواني الكرام إنَّ صدقنا في اعتقاد الإسلام، واعتقاد الحق فيه، هو الوسيلة الأولى لقبول الناس لديننا، فالإنسان الذي يمثل على الناس، لا يقبل الناس منه هذا التمثيل، بمعنى أن يكون مثل الممثل في المسرح يظهر للناس شيء، لكن حقيقته أمر آخر، فمثل هذا الإنسان سرعان ما ينكشف أمره للناس، ولا يتقبلون منه.
ولذلك يقال: أن بعض السلف -نقلت عن أكثر من واحد من العلماء- كان إذا تحدث، ووعظ يتجمع الناس عنده، وتنهال الدموع، ويسمع البكاء والنحيب، وآخرون أقوى منه حجة، وأقوى منه بياناً، وأوسع منه علماً، لكن إذا تحدثوا لم يتأثر بكلامهم أحد.
فقال له ولده: يا أبتِ، مالك إذا تحدثت بكى الناس وانتحبوا، وإذا تحدث غيرك لم يحرك للناس شعوراً، فقال يا بني: لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة، فالمرأة التي تبكي لموت ابنها، أو زوجها، تبكي بحرقة وحزن، فتُبكي من يسمعها، لكن إذا مات إنسان، ولم يوجد من يبكي له، فاستأجر أقاربه بالأجرة أناس يبكون الساعة بكذا، من يسمع هذا البكاء؟ لا يلتفت إليهم؛ بل يضحك عليهم، لأنه يعلم أن المسألة تمثيل، وأن هؤلاء المتباكيات لسن حزينات، وإنما يقمن بالبكاء بالنيابة عن غيرهن، فلا يتأثروا بهن.
إذاً: صدقك في حمل الدعوة هو الوسيلة الأولى لتقبل الناس ما عندك، وليس المهم في الدعوة هو الألفاظ المنمقة، والعبارات المعسولة المحبوكة، والألفاظ الأدبية، وإن كانت هذه الأشياء كلها مطلوبة في الدعوة، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الناس بأبلغ بيان، وكان أفصح من نطق بالضاد عليه صلوات الله وسلامه، ولكن أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، لا بد أن يكون حديث الإنسان منطلقاً من قلب صادق.
كذلك الصدق في الأقوال: فإن الدعاة أحوج ما يكونون في هذا الزمن لأن يكونوا صادقين في أقوالهم وأعمالهم، وذلك لأنكم تعرفون -أيها الإخوة- أن الداعية اليوم يواجه حرباً من أطراف شتى؛ يواجه حرباً من الأبعدين -من أعداء الإسلام- وهذه حرب ضارية وشرسة وضروس لا يهدأ لها غوار، ويواجه أحياناً حرباً ممن يخالفونه في المنهج، وفي الطريقة، وفي أسلوب الدعوة حتى من الذين يذكرون من الدعاة إلى الإسلام.
وربما يملك هؤلاء وأولئك من وسائل التشهير بهذا الداعية الشيء الكثير، فإذا وقع الداعية في مزلق كذب في القول، أو في الفعل، أو تورية يفهم الناس منها خلاف ما يريد، أو ما أشبه ذلك، فإنه حينئذ يكون فتح الباب على نفسه ليقول الناس فيه ما يشاءون؛ ولذلك فالداعية بأمس الحاجة إلى أن يكون صادقاً قدر الإمكان، ولا يضيره أن يبالغ في الصدق، حتى يفوت السبيل على من يريدون أن يسيئوا إليه، أو يفهموا أقواله للناس وأفعاله على غير ما هي عليه.(260/5)
خلق الصبر
أما الخلق الآخر فهو خلق الصبر: والصبر قرين الإيمان، قرين اليقين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] .(260/6)
أهمية الصبر
والذي لا يصبر، فإنه من السهل جداً أن يتخلى عن دينه، فنحن بحاجة -أولاً- إلى الصبر على الإسلام، وبحاجة إلى الصبر على الدعوة إلى الإسلام، وبحاجة إلى الصبر الذي نلقاه في هذا السبيل -سبيل الدعوة-.
أما الذي لا يصبر، فإنه سرعان ما يستخفه الناس، أو تؤثر فيه العقبات التي تعترض طريقه فيتراجع؛ ولذلك كان من توجيهات الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] فأمره بالصبر، وأن وعد الله له بالنصر، والتمكين في الدنيا، والنجاة في الآخرة حق، وقال: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] .(260/7)
الصبر على الدعوة
كثيراً ما يقف الضالون في وجه الدعاة، فيقولون لهم: إنما تدعون إليه أمر لا يمكن أن يتحقق في الواقع، أنتم تدعون إلى أمور قد تعداها الزمن، ونسيها الناس، محالٌ أن يعود المجتمع إلى ما كان عليه، ولكن ينبغي أن ترضوا بما هو دون ذلك، أو ينبغي أن تعيدوا النظر في بعض آرائكم، فقد تجد من الدعاة من يستجيب لهذا المنطق، فربما بدأ يفكر مرة أخرى في فهمه للإسلام.
الربا اليوم يضرب أطنابه بين الناس، ويمد رواقه، وقل من يسلم منه، حتى تحققت النبوءة التي وردت في حديثٍ رواه الإمام أحمد في مسنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمانٌ من لم يأكل الربا، أصابه من غباره} وهذا الحديث وإن كان فيه مقال، إلا أنه ورد في صحيح البخاري، ما يشهد له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء ما أكل من حلال أم من حرام} .
فهذا الربا الذي استقر في نفوس كثير من الناس، وفي جيوبهم، وفي أموالهم، ومؤسساتهم، بدلاً من أن يسعى الداعية للقضاء عليه، وإقناع الناس بتحريمه يأتيه الذين لا يوقنون فيحاولون أن يستخفوه به ليعيد النظر في موضوع صورة من صور الربا، وأن هذه قد لا تكون من الربا؛ ولذلك أصبحنا نسمع من يحاول أن يحلل بعض أصناف الربا الصريح الذي لا كلام فيه، ولا لف، ولا مداورة، لكن على سبيل الاستجابة لاستخفاف الذين لا يوقنون.
كذلك -أحياناً- يأتي بعض الناس إلى الداعية، فيقولون له: إنك تبذل جهود جبارة، وتتعب، وتسهر الليل، وتكد في النهار، وتواصل الجهود، لكن النهاية والنتيجة: قليلة، فأنت ترى الناس ينفضون من حولك، وترى وسائل الهدم والتخريب قد استحوذت على الكثيرين منهم، فلماذا لا تنعزل وتترك هذا الميدان، فربما جاء الوقت التي تشرع فيه العزلة؟! وهذا المنطق -أيضاً- قد يؤثر في نفوس كثير من الدعاة، خاصة المبتدئين الذين لم يتعودوا على تحمل عقبات الطريق، فهنا يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن خباب بن الأرت، قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا يا رسول الله: ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد احمر وجهه، ثم قال: إن من كان قبلكم يؤتى بالواحد منهم فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ويشق إلى نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه من عصب لا يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} .
إذاً: العجلة في جني ثمار الدعوة ونتائجها لا تتناسب مع الصبر الذي يجب أن يتحلى به الداعية، أحياناً يكون الداعية في موقع من المواقع، يجاهد في مكان من الأمكنة في رد المنكرات، وفي التقليل منها، وفي نشر الدعوة، ويحدث له خيرٌ كثير، لكن لا يحس هو بهذا الخير الذي يقع؛ لأن الخير يقع تدريجياً، فلا يشعر به، كما أن الواحد منا حين يكون له ولد في بيته -طفله- يراه صباحاً ومساء، فهذا الطفل يكبر، لكن الأب لا يحس بنموه لأنه يراه باستمرار، والنمو تدريجي فلا يحس به الأب، كذلك الداعية -أيضاً- قد يكون في موقع له تأثير كبير، لكن لا يحس به، فلو تخلى عن هذا الموقع لظهر أثره، وكم من داعية تخلى عن موقعه ظاناً أنه ليس له أثر، فلما تخلى بان فقده، فكان شأنه كشأن الكسعي الذي يضرب به المثل في الندم، كما يقول الشاعر: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار فـ الكسعي، كان يصنع السهام -القسي- فيضرب بها، وصار يضرب في الليل، وظن أنه لم يصب، فكسر القوس الذي صنع، فلما أصبح ذهب فنظر، فوجد أنها قد أصابت الموضع الذي يريد! فندم ندماً شديداً على كسر هذا القوس.
فعلى الداعية ألا يستعجل النتائج والثمرات؛ بل عليه أن يسعى، ويعتمد على الله عز وجل، ويدرك أنه بمنطق التجربة المقطوع بها، التي لا يشك فيها اثنان ممن لهم معرفة، وبصر بالواقع، أن أي جهد صحيح يبذل اليوم في الأمة الإسلامية، فهو جهد مثمر، وقد جرب الكثير من الناس ذلك.
فمن يستطيع أن يقول: إن هناك داعية دعا فلم يستجاب له، أو عالم جلس للتعليم فلم يقعد إليه أحد، أو ناصح نصح فلم ينتصح أحد بأمره ونهيه، أبداً لا يوجد هذا، بل كل داع يجد من يستجيبون له.
إذاً لم تصل الأحوال إلى حد ما أخبر عنه الرسول عليه السلام: {شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه} على مستوى الأمة كلها، هذا قد يوجد بالنسبة لأفراد، لكن الأمة كلها لا يزال فيها خير كثير، ولا يزال عند الناس استجابة، وقبول للدعوة، وسماع لصوت الناصح؛ بل إننا نجد في الأمم الكافرة اليوم في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وغيرها من بلاد العالم الكافر، أن من يحمل لواء الدعوة إلى الله تعالى، يجد من يستجيب له من أولئك الكفار.
إذاً الدعوة تجد آذاناً صاغية لكن: (لكنكم تستعجلون) -كما قال صلى الله عليه وسلم-.(260/8)
خلق التواضع
الخلق الثالث: هو خلق التواضع: والتواضع: هو معرفة الإنسان قدر نفسه، وتجنب الكبر.(260/9)
التحذير من الكبر
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر، كما في صحيح مسلم، لما قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا: يا رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، قال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميلٌ يحب الجمال} أي: لا بأس أن يكون ثوبك حسناً ونعلك حسناً، وإذا قصدت إظهار نعمة الله عليك بهذا فهذا أمرٌ تؤجر عليه، وإذا كان لك فيه مقصد حسن فأنت تؤجر عليه، كما تؤجر على الزهد في هذا الأمر بمقصد حسن -أيضاً-.
{إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} بطر الحق، أي: جحده، وغمط الناس، أي: بخسهم حقوقهم، فيتجنب الإنسان الكبر، ويلجأ إلى التواضع، التواضع مع من فوقك، وأكبر منك في السن، أو في العلم، أو أقدم منك في الدعوة، وما أحوج الدعاة لهذا الأمر.
أذكر قصة ذكرها الإمام الخطابي في كتاب العزلة يقول: كان هناك رجل في مرو معروفاً بالزهد والورع والدين، فقدم الإمام عبد الله بن المبارك، وزار هذا الرجل، وكان لا يعرف ابن المبارك -على رغم شهرة عبد الله بن المبارك -رحمه الله- وانتشار ذكره في الآفاق، فكأن هذا الرجل لم يأبه بـ ابن المبارك، وازوَرَّ عنه، ولم يلتفت إليه، ربما سلم عليه بطرف يده، وأعرض عنه، ولم يأبه به، فخرج من عنده عبد الله بن المبارك، فلما خرج، قالوا له: أتدري من هذا؟! قال: لا.
قالوا: هذا عبد الله بن المبارك، ففزع الرجل وقام مسرعاً، ولحق بـ عبد الله بن المبارك وسلم عليه، واعتذر منه، وقال: انصحني.
فقال: نعم، إذا رأيت إنساناً، فظن أنه قد يكون خيراً منك.
وكأن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- والله أعلم لمح في خلق هذا الرجل وفي نفسيته، وفي أسلوب استقباله نوعاً من الكبرياء، والاستعلاء على الناس، فنصحه بهذه النصيحة التي تناسب حاله.
إذاًَ كم نجد من بعض الدعاة، والذين يتقفرون العلم، وخاصة من صغار الطلبة، من يسيئون الأدب مع أشياخهم، وعلمائهم، وكبار الدعاة؟! وهذا والله أمر يحز في النفس كثيراً -أيها الإخوة- فلا مانع أن تختلف مع عالم، أو مع داعية في رأي، أو قول، أو مسألة، أو اجتهاد، هذا أمر لا حرج فيه، لكن الحرج كل الحرج أن يكون هذا مدعاة إلى تحطيم قدره، والحط من مكانته، والإزراء عليه، وسوء الأدب معه، وكم من إنسان يخاطب جهابذة العلماء وكبارهم بأساليب لا تليق بصغار الطلبة.(260/10)
الإلتفاف حول العلماء
والمؤسف -أيها الإخوة- أن هذا يوجد كثيراً لدى من يتميزون بالصفاء في العقيدة، والسلامة في التعلم؛ ولذلك قلما تجد عند علماء أهل السنة من يكون لديه قوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب، خاصة على الكبراء وعلية القوم، لماذا؟ لأن الناس خذلوهم، والأمر -كما يقول الشاعر-: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت أي نحن أهل السنة لو تحلقنا حول علمائنا، والتففنا حولهم، دعمناهم وجعلنا لهم مكانة تخولهم أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الوجه الصحيح، لكن لما خذله من وراءه لم يستطع أن يقول شيئاً.
والمؤسف أن أهل البدع على النقيض من ذلك، انظر -مثلاً- الرافضة كيف يسير دهماؤهم وراء علمائهم بشكل لا شك مرفوض، وأحياناً يتحول إلى عبودية، وتقديس لهؤلاء، وكذلك الشأن في المعتزلة، أنا كثيراً ما أتمثل بأبيات لأحد شيوخ المعتزلة، يمدح فيها واصل بن عطاء زعيم الاعتزال، يقول له: له خلف بحر الصين في كل بلدة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر رجال دعاة لا يفل عزيمهم تهكم جبارٍ ولا كيد ماكر له دعاة أقوياء العزائم.
إذا قال: مروا في الشتاء تسارعوا وإن جاء حر لم يخف شهر ناجرِ هم أهل دين الله في كل بلدة وأرباب فتياها وأهل التشاجر يصف سلطة هذا الرجل على من حوله من التلاميذ، وكيف أنه إذا أمرهم في شدة الشتاء بالذهاب إلى أقصى الدنيا أطاعوه، لا يفتدون منه بمال، ولا أهل، ولا ولد، ولا يعتذرون منه.
أهل السنة ينبغي أن يوقروا ويقدروا علماءهم، ولا خير في أمة لا يوقر صغيرها كبيرها، ولا يرحم كبيرها صغيرها.(260/11)
معرفة قدر النفس
فمن التواضع -وهذا في الواقع تسميته تواضعاً من باب التجاوز، وإلا فهو في الواقع من باب معرفة قدر النفس، وهذا هو التواضع- ألا تنظر إلى نفسك على أنك ند لهذا العالم، تقول: هم رجال ونحن رجال، صحيح هم ذكور، ونحن ذكور هذا صحيح، لكن في الواقع أن الرجولة تختلف وتتفاوت، ومفهوم الرجولة بعيد كل البعد، ومن الصعب أن تصف نفسك بالرجولة، فالرجولة وردت في القرآن الكريم على سبيل المدح، قال الله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36-37] .
إذاً: من الصعب أن تصف نفسك بالرجولة، الرجولة الحقيقية التي يتمدح بها، فإنه صحيح أن تصف نفسك بالذكورة، أما الرجولة فأمر فوق ذلك، فكم من شاب -أحياناً- يكون في مرحلة قليلة في بداية التعلم، وربما لم يحفظ من القرآن إلا اليسير، ولم يقرأ من الحديث إلا اليسير، وتجده يقف أمام جهابذة العلماء، وبأسلوب لا يليق، فهذا ينافي معرفة الإنسان قدر نفسه؟!!(260/12)
التواضع مع الأقران
وكذلك، ينبغي أن يكون الإنسان متواضعاً مع أقرانه، فكثيراً ما يثور بين الأقران روح المنافسة، والغيرة والحسد، فتجد الإنسان ربما يستعلي على أقرانه، وربما يفرح بالنيل منهم، والحط من قدرهم، وعيبهم ببعض ما فيهم، أو تضخيم بعض العيوب، أو ادعاء عيوب ليست فيهم, والمظهر مظهر النصيحة، والتقويم والحقيقة أن هذا الإنسان يغار.
والعجيب -أيها الإخوة- أن الداعية، وطالب العلم يغار من أقرانه، لكن لا يغار من الأعداء! قد يغار الداعية من داعية آخر أنه اجتمع عنده في مجلس درسه أو تعليمه ألف أو ألفان من المستمعين، لكن لا يغار إذا سمع أن مباراة رياضية حضرها عشرة آلاف، أو عشرين ألفاً، فيصيبه حزن إذا سمع بكثرة الذين حضروا الموعظة أو الدرس، لكن لا يحزن إذا سمع بكثرة من يحضرون حفلاً غنائياً، أو مباراة رياضية، أو ما أشبه ذلك من المناسبات المنحرفة.
وهذا والله من البؤس، حتى لو كان لك ملاحظة على أخيك الداعية، حتى لو كنت لا ترضى منه بعض الأمور، لأنه: من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه أنا يكفيني أنه يدعو الناس إلى الله جل وعلا، ويكفيني أنه يعلم الناس الدين، وإن كان عنده ما عنده، وقد يكون الحق معه فيما أنتقد عليه.(260/13)
التواضع مع أهل الدون والفسق
وكذلك التواضع مع منهم دونك، فإذا وجدت أناساً يصغرونك سناً، أو قدراً، فأولاً: لا ينبغي أن تنظر إليهم على أنهم أقل منك، إن وجدت إنساناً أصغر منك، تذكر أنه قد يكون هذا الإنسان أسلم منك، فربما وقعت في معاصٍ وذنوب لم يقع فيها، فهو لا يزال بريئاً، بعيداً عن المعاصي؛ لهذا قد يكون أقرب إلى الله منك.
وإن رأيت إنساناً فاسقاً، وأنت رجلٌ ظاهرك الصلاح، فلا تستكبر على هذا الإنسان؛ بل أولاً: احمد الله على أن نجاك مما هو فيه، ثم تذكر أنه قد يكون في عملك الصالح من العجب أو الرياء ما يحبطه، هذا وارد، وقد يكون عند هذا الإنسان من الانكسار، والذل، والندم، والخوف بسبب معصيته ما يكون سبباً في غفران ذنبه.
ولذلك في صحيح مسلم، قصة الإسرائيلي الذي كان عابداً، فكان يقول: والله لا يغفر الله لفلان -لأنه رجل مسرف على نفسه- فقال الله جل وعلا: {من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر له، فإني قد غفرت له، وأحبطت عملك} -إذاً- لا تستكبر على أحد، حتى حين ترى الفاسق لا تستكبر عليه، وفائدة عدم الاستكبار -أيها الإخوة- ليس أن تذل لهذا الإنسان، لكن ألا تعامله بأسلوب المتسلط المستعلي.
أحياناً: الإنسان المستقيم يعامل الفاسق بأسلوب لا يدعو إلى الاستجابة، لكن لو أنه ثار في نفسه هذا الشعور أنه قد يكون عند هذا الفاسق طاعات ليست عندي، وحسنات ليست لي، وقد يكون عندي عيوب ليست عنده، فعامله برفق، وتدرج معه في الدعوة، وتلطف معه، قد يكون هذا من أهم أسباب تقبله؛ لأن كثيراً من الفساق يشتكون جفاء الدعاة، وسوء أساليبهم، ويقول كثير منهم: إنهم إذا رأوا إنساناً عليه أثر معصية ظاهرة أساءوا إليه، وأساءوا به الظن، وربما جفوا في معاملته، والأزمنة -أيها الإخوة- تختلف، فالزمن هذا، زمن فشت فيه ألوان من المعاصي، وأصبحت كالعرف المألوف عند كثير من الناس، فمثل هذه الأشياء ينبغي مراعاة انتشارها بأن لا يعتقد الإنسان دائماً أن هذه المعصية تدل على أن هذا الإنسان شرير، وأن باطنه -أيضاً- فاسد فساداً كاملاً.
وإن كنا نعلم -لا شك- أن كل فساد في الظاهر، فله رصيد من الفساد في الباطن بحسبه، ولا يمكن الفصل بين الظاهر والباطن، لحديث النعمان المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .(260/14)
التواضع عند فعل الخير
كذلك من التواضع: أن تتواضع إذا عملت خيراً من طاعة أو قربة، ولا يدعوك هذا إلى العجب بهذا العمل، لماذا؟ لأنك تتذكر -كما أسلفت- أنه قد يكون هذا العمل غير مقبول، لسبب من الأسباب، فلا تستكبر به، ولا تمن به على الله جل وعلا.
وكذلك تتواضع إذا نصحت، وأكثر ما يأتي الشيطان للإنسان ويأزه ويعظم عليه الأمر إذا نصح؛ لأن النصيحة معناها: أن فيك نقصاً، فأنا حين آتي إليك، وأقول لك: يا أخي أنت -جزاك الله خيراً- فيك وفيك، وأنت رجلٌُ، ورجلٌ، ورجلٌ، فتفرح بذلك، هذه فطرة عند الإنسان يفرح بالمدح -يحب المدح- لكن إذا قلت لك: ولكن هنا تمسك قلبك؛ لأنك تخشى مما بعد لكن؛ معناها لأنني سوف أرجع، وأنتقدك في بعض العيوب.
وكل واحد منا ولا أعتقد أن واحداً منا إلا كذلك يكره كثرة الملاحظات، إلا أنه إن وجد أنها حق قهر نفسه، وتقبلها، ودعا لمن نبهه إليها، وشكره، لكن الضعيف ربما يستجمع قوته، ويستكبر عن قبول الحق؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {الكبر بطر الحق} أي: رده، بمعنى أن ترد الحق، فإذا سمعت أحداً ينصح لك فتواضع -يا أخي- وتذكر أنك أهلٌ لكل خطأ، وعيب ونقص، وافرح بإنسان يهدي إليك عيبك.(260/15)
خلق العدل
أما الخلق الرابع: وما أدراك ما الخلق الرابع! إنه خلق العدل: والكلام في خلق العدل يحتاج إلى جلسة خاصة؛ لأن هذا الخلق من الأخلاق النفيسة؛ بل هو من أنفس الأخلاق؛ بل لعله رأسها، والعدل: لفظ عام يشمل التوسط الذي هو سمة المسلم، وسمة أهل السنة والجماعة في كل أمر من الأمور دون استثناء.(260/16)
العدل في الأخلاق
من العدل: العدل في الأخلاق، الأخلاق نفسها تحتاج إلى عدل، خذ على سبيل المثال: الشجاعة والجبن، فالشجاعة إذا تعدت حدها تحولت إلى نوع من التهور، وإذا نقصت تحولت إلى جبن؛ لذلك فالمطلوب الاعتدال فيها، كذلك موضوع: الكرم، والبخل، فالكرم إذا تعدى تحول إلى نوع من الإسراف والتبذير، وإذا نقص تحول إلى نوع من الشح والتقتير، والله تعالى مدح المؤمنين -عباد الرحمن- بأنهم: {إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] التواضع: إذا تعدى حده تحول إلى نوع من المهانة، وإذا نقص تحول إلى نوع من الكبر.
الطموح: إذا نقص تحول إلى نوع من الخمول والعجز، وإيثار العافية، وإذا زاد تحول إلى نوع من الغرور والإعجاب بالنفس، فحتى الأخلاق المطلوبة للإنسان ينبغي أن يحرص الإنسان فيها على الالتزام بالعدل، فلا تتعدى حدها، ولا تنقص عن قدرها.(260/17)
العدل في التعامل مع الخلاف
وهناك -في الحقيقة- ألوان أخرى من العدل لعلي أتركها، وأكتفي بالصورة الأخيرة من العدل، وهي: العدل في التعامل مع الخلاف، وهذه من أهم القضايا، فالخلاف واقع لا محالة؛ وبعض الناس نظراً لكثرة الخلاف، تجد بعض الدعاة إلى الله جل وعلا يقول لك: دع المسلمين مهما كانت ألوانهم، وعقائدهم، واتجاهاتهم، ومللهم، ونحلهم، يجتمعون على أمر واحد، ولا يعنينا اختلافهم، فيرضى بأن يجتمع أهل البدع، والضلالات، والانحرافات الغليظة والقريبة والبعيدة ليقوموا بعمل ما، وهذا في الواقع ليس من العدل؛ لأن من هؤلاء من يكونون مجرمين، والله تعالى يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] ومن هؤلاء مبتدعة، ومنهم غلاة، ومنهم من تصل الأحوال بهم إلى حد البدعة المكفرة.
وفي مقابل ذلك قد تجد من الناس من يبالغ في قضية منع الخلاف، حتى يريد من الناس أن يجتمعوا ويوافقوه حتى في اجتهادات شخصية فردية له، ربما لم يوافقه عليها أحد، لكن يريد أن يوافقه الناس على ما يرى، وإلا لا يأبه بهم ولا يقيم لهم وزناً، والعدل في ذلك أن تقبل الخلاف فيما يجوز الخلاف فيه: في موضوع الوسائل، في موضوع الاجتهادات التي تحدث للدعوة، في الفرعيات وما يتعلق بالأحكام، في أمور اختلف فيها العلماء السابقون، يسع فيها الاختلاف ما دام فيها الاختلاف مبنياً على الدليل، وعلى الاجتهاد حسب ما فهم الإنسان من الكتاب والسنة، وليس لمجرد الهوى، والتشهي، والرغبة الشخصية.
وإن خالفت هذا الإنسان، فإنني أقبل أن أتعاون معه على البر والتقوى، ولو كنت مختلفاً معه في بعض الأمور، فالعدل في التفاهم، والتعامل مع الخلاف هو من أهم وألزم الأشياء للدعاة.(260/18)
العدل مع العدو والصديق
وخذ على سبيل المثال، نماذج من هذا العدل الذي هو: إعطاء كل ذي حق حقه، فمن العدل العدل مع الصديق والعدو، هل نحقق نحن العدل مع الأصدقاء والأعداء؟ أما أن الواحد منا -أحياناً- إذا ذكر صديقه أثنى عليه، ولو كان يعلم أنه لا يستحق هذا الثناء، وإذا ذكر خصمه ذمه ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول، فمتى يصل الداعية إلى درجة ألا تؤثر الصداقة، والعداوة، والقرب، والبغض في تقويمه للأشخاص ومعرفة قدرهم؟ هل يستطيع الداعية -فعلاً- أن يذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليه، ممن يكونون مثله في المنهج، والطريق، وربما يكونون شركاء في عمل واحد؟ هل يستطيع ذلك؟ وهل يستطيع الداعية أن يثني بصدق على إنسان يختلف معه، وقد ينتقده في أمور معينة، ويكون مجال عمله مجالاً آخر مختلفاً عنه، هل يستطيع ذلك؟ إن كان يستطيع فقد حقق العدل في هذه الناحية، لكن الأغلب من الناس إذا ذكر من يكون شريكاً له في العمل أثنى عليه، ولو كان لا يستحق هذا الثناء، وإذا ذكر إنساناً مخالفاً له في المنهج ذمه، وتجاهل فضائله، وهذا ليس من العدل في شيء؛ بل الله جل وعلا يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] .(260/19)
العدل في الحكم على الناس
ومثل العدل في الحكم على الأشياء، الحكم على الناس، على الأشخاص -سبحان الله! - كثيراً ما ننسى أن الإنسان بشر جُبِلَ على النقص، فهو ظلوم، جهول، عجول، فبمجرد أن يقع خطأ من شخص، أو خطأان، أو عشرة: نسقطه من الحساب، وتتحول محاسنه إلى عيوب، وكما قيل: إذا محاسني اللائي أدل بها كانت عيوباً فقل لي كيف أعتذر فالحكم على الناس يتطلب العدل، والعدل في هذا الموقع بمعنى أن فلاناً أخطأ في مسألة، أو في مسألتين، أو عشر مسائل، أو عشرين مسألة، هذا كله ممكن أن يقع، لكن لا ينسيك هذا الكم من الأخطاء أن فلاناً له فضائل وحسنات أخرى ينبغي أن تذكر في الكفة الثانية.(260/20)
العدل مع المؤسسات
كذلك العدل في النظر إلى المؤسسات، والجمعيات، والأعمال، والكتب، أو إلى أي شيء تريد أن تقومه، أو تقيمه، افترض أنك تريد أن تتحدث عن كتاب من الكتب، وهذا الكتاب فيه أحاديث ضعيفة، وأحاديث موضوعة، وفيه أراء شاذة، وهذا كله صحيح، لكن ليس فيه إلا هذا؟! بحيث تذكر الجانب المظلم، والجانب الأسود، وتنسى الجانب الثاني المشرق، هذا ليس من العدل في شيء! هذا ذكر نصف الحقيقة، والغفلة عن النصف الآخر، هو ليس من الأمانة؛ بل كان ينبغي إلى جوار الخطأ، أن تذكر الصواب، وكثير من الناس بمجرد ما يكون الكتاب فيه خطأ، إما أحاديث ضعيفة، أو مسحة من تصوف، أو خطأ في الاعتقاد، أو خطأ في مسائل فقهية يحذرونه، ويحذرون منه.
ولو عاملنا كتب أهل العلم بهذا المنطق؛ لم يبق كتاب من كتب أهل العلم على ضوء هذا المقياس، حتى صحيح البخاري -أصح الكتب بعد كتاب الله- فيه نقص، فيه أبواب بيض لها، لم يضع تحتها أحاديث، وفيه أحاديث معلقة ضعيفة، والأحاديث المعلقة ليست هي الأحاديث الموصولة، حتى لا يلتبس الأمر على بعض من لا يفرقون بين الموصول والمعلق، وهناك مواضع كان الإمام البخاري يريد أن يرجع إليها، أو ما أشبه ذلك، وهناك اختلاف في بعض الروايات، وليس هناك كتاب غير القرآن يسلم من الخطأ.
فإذا قومت كتاباً، لا ينبغي أن تذكر عيوبه، وتحذر من هذا الكتاب، وتنسى ما لهذا الكتاب من الحسنات والإيجابيات.(260/21)
العدل في الحكم على الدعوات
من العدل في الحكم على الأشياء -أيها الإخوة- العدل في الحكم على الدعوات، ونحن نعلم أنه في هذا العصر دعوات كثيرة، قامت تدعو إلى الله جل وعلا، وهي تختلف في مناهجها، وتتفاوت في قربها وبعدها من منهج الكتاب والسنة لا شك، لكن هذا لا يعني أن أجور على قوم، أو أبخسهم حقهم، فالله تعالى يحب العدل، وكوني أنتقدهم، لا يعني أن أنسى ما لهم من الفضائل.
أحياناً تسمع بعض الإخوة يتحدثون عن فئة من فئة الدعاة إلى الله فيحولونهم والعياذ بالله إلى مجموعة من الشياطين -نسأل الله العافية- حتى نطقهم بالشهادتين يحاولون أن يفسروها تفسيراً غير صحيح، وهذا من الجور، والظلم، ومع الأسف أن من يفعلون مثل هذا المسلك -أحياناً- ربما يقدمون في بداية حديثهم بالكلام عن العدل، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] ثم يكون هذا مسلكهم وهذا أمر مؤسف في الواقع؛ لأن الإنسان يعتقد أن هذا هو العدل، ثم ينسى ما لهؤلاء القوم من الفضائل، وينظر إليهم بعين البغضاء، والعداوة، العين التي لا ترى إلا الخبيث فيه.
هذا والله ظلم وجور، كوني أنتقد هؤلاء، كوني لا أرتضي منهجهم، هذا شيء، لكن كوني أنسى أن هؤلاء القوم لهم محاسن، ولهم فضائل، فالأئمة السابقون كانوا يذكرون حتى محاسن أهل البدع، في الرد على من هو أشد منهم بدعة، في دعوة بعض الكفار إلى الدخول في الإسلام، في مواجهة هجمات أعداء الدين العسكرية، في أعمال خيرية قاموا بها، فنحن لا نتجاهل بدعتهم لأنهم خدموا الإسلام، ولا نتجاهل خدمتهم للإسلام بأنهم أهل بدعة، هذا هو العدل والعدل أن نجمع بين الأمرين.
في النظر إلى الأعمال، والحركات، والمؤسسات، والأشياء التي يقوم بها المسلمون، وتجد في المسلمين إما إفراط، وإما تفريط.
خذ على سبيل المثال: قضية الحركات الجهادية في الفلبين، وفي أفغانستان، وفي إريتريا، وفي فلسطين، وفي كثير من الدول الإسلامية، يندر أن تجد العدل، أنت تنظر الناس فتجد أن منهم من يزيد، ومنهم من ينقص، وتجد من يتحدث عن الجهاد الأفغاني -مثلاً- فيصور هذا الجهاد وكأنه جهاد بريء من الأخطاء والعيوب، وكأنه جهاد الصحابة رضي الله عنهم، ولا يقبل أي نقد، أو توجيه، أو ملاحظة، وهذا لا شك إفراط، لكن في مقابل ذلك، تجد من الشباب من يتحدث عن المجاهدين، وعن الأفغان على أنهم مشركون، وأنهم يعلقون التمائم، ويتوسلون، وعندهم بدع في المساجد، حتى سمعت والعياذ بالله من يقول: هؤلاء مشركون يحاربون ملحدين، وسمعت بل رأيت من يقول: إن من لم يكفر هؤلاء فهو كافر.
أين ميزان القسطاس الذي وضعه الله تبارك وتعالى لهذه الأمة؟! هل هذا هو الاتباع الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم -أبداً- كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعرف للناس أقدارهم، وكان يمدح الإنسان بما فيه، وإن كان فيه ضعف ذلك من العيوب، خذ على سبيل المثال، في حديث أم سلمة، وهو في المسند، وسنده صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن النجاشي: {إنه ملك لا يظلم عنده أحد} فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحسنة، مع أنه كان حينئذ كافراً، وأسلم بعد ذلك، لكن لم يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من أن يذكر هذه الخصلة الحسنة فيه.
وهذا ما يفتقده كثير من الدعاة اليوم، فهم غالباً ينظرون بعين واحدة، إما ينظرون بعين الرضا فينسون العيوب، أو ينظرون بعين السخط، فينسون المحاسن، وكما قيل: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا(260/22)
العدل في التعامل مع النصوص الشرعية
من العدل: العدل في التعامل مع النصوص الشرعية، نحن نعرف أن النصوص الشرعية كثيرة: قرآناً وسنة، فمن العدل أن تعدل في النظر إلى هذه النصوص، لا تأخذ نوعاً من النصوص وتهمل نوعاً آخر، قد يقوم بعض الناس -مثلاً- في بداية تعلمه، فيأخذ نوعاً من النصوص، وهي نصوص الوعيد، مثل: {لا يدخل الجنة قاطع} {لا يدخل الجنة قتات} إلى غير ذلك من النصوص، فيأخذها وبناءً على ذلك قد يكفر الخلق بهذه الظواهر التي فهمها!! هذا جور، لماذا؟ لأنه أخذ نوعاً من النصوص، وأهمل النوع الآخر الذي يجب أن يفهمه على ضوئه، فعندنا نصوص أخرى -مثلاً- {من قال لا إله الله دخل الجنة} {من شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمله} .
آخرون يعكسون القضية، فينظرون إلى هذه النصوص، وبناءً على ذلك يأذنون للناس في الوقوع فيما شاءوا من المعاصي، ويقولون لهم: ستدخلون الجنة، وسيغفر لكم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] هذا جور، فهذا أخذ بنوع من النصوص، وهي نصوص الوعيد، وذاك أخذ بنوع من النصوص وهي نصوص الوعد.
والعدل أن يأخذ بهذا وهذا، ويجعل النصوص كلها في كفة واحدة جنباً إلى جنب، ويفهم بعضها على ضوء البعض الآخر، فلا يشتط الميزان في يده.(260/23)
العدل بين الكليات والجزئيات
مثله: إن بعض الناس لا يستطيعون العدل بين الكليات والجزئيات، فالدين كله دين، وفي حديث جبريل عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفي الأخير قال: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم} فكل هذا دين، ولا نقول: إن في الدين شيء ينبغي إهماله، أو إغفاله، أو أنه لا قيمة له، أو قشر، كلا؛ لأن الدين كله دين وكله من عند الله.
ولذلك لو أن إنساناً -مثلاً- أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو أمراً متواتر الثبوت، ولو كان سنة من السنن كفر بذلك، إذا كان أمراً قطعي الثبوت، مثل أن ينكر -مثلاً- الأذان، أو أن ينكر سنة الفجر، ينكر أنها مشروعة؛ لأن هذه الأمور ثابتة مشروعيتها، ومتواترة، لا إشكال فيها، ولا خلاف فيها بين المسلمين أنها قطعية.
-إذاً- ليس في الدين أمر نقول: إنه لا قيمة له، لكن لا شك أن هناك أولويات، فمثلاً: البداءة بأمور العقيدة، هذا منهج ظاهر لا بد منه، كذلك تقديم الكليات عموماً على الجزئيات، فأنت حين ترى -مثلاً- إنساناً عنده مجموعة من الأخطاء أو النقائص، فمن الطبيعي أنك ستبدأ بالأكبر فالأكبر، فتبدأ بتعليمه الصلاة -مثلاً- قبل أن تبدأ بتعليمه الأذكار الأخرى، وتبدأ بنهيه عن الشرك الأكبر -إن كان موجوداً عنده- قبل أن تنهاه عن التدخين، أو عن أكل الربا.
هذا تدرج طبيعي وهو ثابت في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن قال له: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياهم فترد على فقرائهم} .
إذاً: مسألة تقديم الأولويات: شريعة وسنة نبوية ثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
كثيراً ما يطيش الميزان في أيدي الشباب؛ بسبب ظروف محلية يواجهونها فتجد أن عنايتهم وتركيزهم يكون على جزئيات غفلوا بسببها عن الكليات، فأصبح الشاب -مثلاً- مشغولاً بمجموعة من السنن مثل موضوع تقصير الثوب، موضوع الصلاة في الثوب، موضوع جلسة الاستراحة، وموضوع تحريك الإصبع في التشهد، وعندك عشرات القضايا، وهذه القضايا أرجو ألا يفهم أننا نقلل من شأنها، فهي أمور وارد فيها نصوص، وينبغي أن يكون لنا فيها رأي، وينبغي أن تدرس، وتعلم، وتتعلم -أيضاً- ويعمل بها.
لكن ينبغي -أيضاً- ألا يشتغل بهذه الأشياء، ويغفل عما هو أهم منها، أذكر أنني اطلعت على أكثر من أربعة عشر بحثاً في موضوع كيفية تحريك الإصبع في التشهد، فهناك بحوث كثيرة، بعضها كتب مستقلة، وبعضها بحوث ضمن كتب، وبعضها بحوث من مجلات وغيرها، لكن هناك مسائل عويصة، نازلة بالمسلمين، وهم في أمس الحاجة إلى بحثها ومعرفة حكمها -أحياناً- قد لا تجد فيها ولا بحثاً واحداً.
إذاً لا بد من العدل في التوفيق بين الكليات والجزئيات، هناك من يشتغل بالجزئيات، ويغفل عن الكليات وهناك العكس، وهناك من يشتغل ببعض الكليات، ويقلل من شأن الجزئيات، فإذا حُدِّث في بعض السنن يقول والعياذ بالله: يا أخي هذه توافه، هذه قشور! وهذا خطر كبير على دين الإنسان؛ لأنه من الخطأ أن نستهين بأي أمر من الدين، ويجب أن نحترم كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الدين شيء صغير، فالدين كله عظيم؛ لأنه من عند عظيم جل وعلا، وقد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأحياناً أضرب لبعض الإخوان مثلاً للجمع بين هذه الأمور: قرأت لأحد الدعاة منذ زمن ليس بالبعيد كلاماً يقول فيه: إنني أهتم بالكليات، والقضايا الكبرى، على حين يهتم غيري بالجزئيات والقشور، يقول -مثلاً-: أنا سلفي، ولذلك لما أنظر إلى شخصية عمر، أنظر فيها إلى شخصية عمر العادل، الذي نشر العدل بين الناس، أنظر فيها إلى شخصية عمر الخليفة الذي يتحمل المسئولية حتى يقول: [[لو عثرت بغلة بالعراق لشعرت أن الله سائلني عنها: لما لم تسو لها الطريق يا عمر؟]] ولذلك أنا أعتبر نفسي سلفياً -يعتبر نفسه سلفياً.
يقول هذا الداعية: في حين أنظر إلى غيري، فينظر إلى عمر الذي قصر ثوبه، وأطال لحيته، كل إنسان ينظر من زاوية معينة، وأقول تعليقاً على هذا: لماذا شطرنا شخصية عمر إلى نصفين؟ لماذا جعلنا من عمر: عمرين؟ عمر العادل، وعمر الملتزم بالسنة، وسلوك الإسلام في مظهره! هذا من الخطأ.
عمر نفسه رضي الله عنه لم يكن يؤمن بهذه القسمة الثنائية، وفي هذا قصة طريفة ومناسبة أذكرها، وقد رواها الحاكم وغيره وسندها صحيح، صححه جماعة من أهل العلم، كـ ابن تيمية وغيره، [[أن عقبة بن عامر رضي الله عنه لما فتحت دمشق ركب على البريد؛ ليبشر عمر، ويبشر المسلمين بهذا الفتح المبين، فركب يوم الجمعة، وظل أسبوعاً حتى وصل المدينة يوم الجمعة، فلما دخل على عمر، وبشره بالفتح، فرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، ثم نظر عمر فوجد على عقبة خفين، فقال له: منذ متى لبستهما؟ قال: يوم الجمعة وظللت أمسح عليهما أسبوعاً، قال عمر: أصبت السنة]] .
إذاً: عمر رضي الله عنه لم يكن يشغله الاهتمام بالأمور الكبرى، مثل: إقرار شأن الإسلام، وتوسيع الفتوح، وإخضاع العالم لحكم الإسلام، لم يكن هذا الأمر يشغله عن قضية في نظر الناس: جزئية أو فرعية، وهي مسألة: المسح على الخفين، أو حكم يتعلق بها، وهو توقيت المسح، أو عدم توقيته، بطبيعة الحال إما أن يكون هذا رأي لـ عمر، أنه لا يرى التوقيت كما هو رأي جماعة من أهل العلم، أو يكون عمر يرى أنه يجوز ترك التوقيت في المسح على الخفين عند الحاجة إلى ذلك؛ حيث لا يتمكن الإنسان من النزول لخلع الخفين، وغسل قدميه.
هذه قضية فقهية، ليس المقصود أن نتحدث عنها -الآن- المهم: الفائدة.
والعبرة من هذه القصة: ألا نشطر شخصية عمر، بل ألا نشطر الإسلام إلى شطرين، فنجعل هناك فروع يهتم بها أناس، وأصول يهتم بها آخرون، أو كليات يهتم بها قوم، وجزئيات يهتم بها آخرون، فنكون جعلنا القرآن عضين، كلا، بل نحاول أن نأخذ ونحيط بالدين كله من جميع جوانبه؛ بحيث لا نترك مجالاً لأحد أن يتهمنا بأننا فرطنا في شيء، واهتممنا أو ضخمنا شيئاً على حساب شيء.
{وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] وتحزبوا على جزءٍ من الدين، فتجد طائفة منهم يهتمون بالإسلام السياسي -فقط- ولا يعنيهم غيره، لا يعنيهم إصلاح العقائد، ولا يعنيهم تصحيح أخلاق الناس، ولا يعنيهم بناء شخصيات إسلامية، ولا يعنيهم نشر العلم الشرعي.
وآخرون تجد أنهم يهتمون بجانب من الإسلام، وهو: الجانب العلمي البحت، فيتعلمون، ويعلمون الناس السنة، وكيف يصلي، لكن لا يهتمون بما وراء ذلك، ولا يعنيهم أمر الدعوة إلى الله جل وعلا، وربما يهمل كثير منهم التعبد الحقيقي، والسلوك، والتنسك، فتجد الواحد منهم جاف القلب، خامد العاطفة، رديء الإحساس.
وتجد فئة ثالثة: يهتمون بالعبادة، وقيام الليل، وكثرة الأذكار، ولكنهم يهملون العلم الشرعي الصحيح، ويهملون النزول بالإسلام إلى واقع الحياة، وتحزبت كل طائفة على جزءٍ من الدين، فما هم عليه جزء من الحق، لكن ليس الحق كله، فمن العدل أن يأخذ الإنسان هذه الأشياء -كلها-.(260/24)
العدل مع الواقع
من العدل: العدل مع الواقع، فلا يتجاهل الإنسان هذا الواقع، ويكون بعيداً عنه، ولا يغرق فيه وينساق معه.
بعض المسلمين يعيش اليوم وكأنه يعيش في القرن الخامس أو السادس لا يدري ما يقع حوله، وهذا خطأ؛ لأن المسلم قيم وشاهد على عصره، يدعو الناس في واقعه إلى الإسلام، ويوجد الحلول الصحيحة لهم من واقع الكتاب والسنة.
الإسلام ليس ديناً للعزلة، فلا يجوز أن ينعزل المسلم -وخاصة الداعية- عن عصره وواقعه، كما أن هذا النزول إلى الواقع لا ينبغي أن يتحول إلى نوع من الانهزامية، والبحث عن مصوغات ومبررات، لأن نقول: إن ما عليه الناس موافق للإسلام، ونحاول أن نتخلى عن بعض الأمور الإسلامية، مجاملة لواقع استقر في نفوس الناس، فمن العدل: أن تعرف الواقع وتحاكم هذا الواقع إلى الإسلام الصحيح.(260/25)
العاطفة الحية
أنتقل إلى الخلق الخامس: وهو خلق: العاطفة الحية.(260/26)
الإحساس بآلام المسلمين
نحن بحاجة إلى من يحس بآلام إخواننا المسلمين، فإذا سمع بمصيبة وقعت للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حتى لو كانوا مسلمين عندهم تقصير، عندهم أخطاء، عندهم بعض البدع، لا يمنع هذا من الحزن لآلامهم.
وأذكر قصة يروونها عن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله يقولون: كانت أحزان الرجل وأفراحه بسبب ما يصيب المسلمين، فإذا سمع بنكبة نزلت بالمسلمين حزن، وظهر هذا على قسمات وجه، وإذا سمع بغير ذلك فرح وسر، فكانت أمه تعرف ذلك، فإذا رأته يوماً من الأيام وقد أصيب بمرض، أو وعكة صحية، قالت: ما لك يا بني؟! هل قتل اليوم مسلم بالصين؟! بمعنى أنها لاحظت أن أحزان ولدها وأفراحه مربوطة بأحوال المسلمين، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنه، وهذا هو والله الولاء الحقيقي لإخوانك المؤمنين.(260/27)
التأثر لأخطاء المسلمين
ومن ذلك أن يملك الإنسان قلباً يتأثر لأخطاء المسلمين -أيضاً-، وانحرافهم عن الدين، فإذا وجد انتشار المعاصي، والفسق بينهم حزن لذلك، وهذا الحزن لا يكون حزناً مثمراً إلا إذا تحول إلى عمل، فهذا الحزن لا يدعو الإنسان إلى أن يعتزل هؤلاء الناس، ويقول: دعهم وشأنهم، وهؤلاء فيهم، وفيهم؛ كلا، بل يشعر أنه كالطبيب بين المرضى يحاول أن ينقذهم، فإذا لم يستطع إنقاذهم بالكلية حاول أن يخفف من أمراضهم، فإذا لم تستطع إن تهديه هداية كاملة، فعلى الأقل عليك أن تخفف من الانحراف الموجود عنده.(260/28)
الغيرة الحية
عاطفة تمثل الغيرة الحية عند الإنسان، هل نحن نملك الغيرة على أنفسنا إذا وقعنا قي أخطاء؟ غيرة على إخواننا تدعونا إلى مناصحتهم، وغيرة على أزواجنا، وزوجاتنا، وأولادنا بحيث نأمرهم بالمعروف، ننهاهم عن المنكر، نمنعهم إذا كنا نستطيع منعهم من ارتكاب ما يسخط الله، نأمرهم ونحملهم على طاعة الله جل وعلا، هذه العاطفة نحن بأمس الحاجة إليها.
كثيرون يتحدثون عن الإسلام، لكن في الواقع قليل جداً من يملك عاطفة حقيقية، والعاطفة محلها القلب، فإذا تحرك قلب الإنسان بعاطفة حية تجاه الإسلام وأوضاع المسلمين، أثمرت دعوة، ونصيحة، ومساعدة، ومشاركة لآلام المسلمين في كل مكان.
أما إذا فقد الإنسان هذه العاطفة صار يعيش لنفسه، ولأولاده، ولزوجته، يعيش ليستمتع ويتلذذ بما حوله، وينسى هموم المسلمين، ولا أريد أن أستشهد بحديث: {من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم} لأنه حديث ضعيف.(260/29)
الرحمة بالمؤمنين
نحن بحاجة إلى داعية يملك قلباً يحترق على واقع الإسلام والمسلمين، وعلى أوضاع الأمة في مشارق الأرض ومغاربها؛ وبحاجة إلى داعية يعطف على إخوانه المسلمين، ويحقق قول الله جل وعلا: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ولا يكون شأنه كما حدث للخوارج في الدهر الأول؛ حين كانوا رحماء، لطيفي المعاملة مع المشركين، أشداء على الموحدين، كما ورد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم: {إنهم يقتلون أهل الإيمان، ويدعون أهل الأوثان} .
فإذا جاءهم رجل من المؤمنين؛ بل من الصحابة كما حدث لـ عبد الله بن خباب حين سألوه: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خباب، فاختبروه في أمور معينة، فوجدوه لا يوافقهم على مذهبهم الكاسد الفاسد، فقتلوه؛ بل وردت رواية بشعة جداً في بقرهم لبطن زوجته، واعتدائهم عليه وعلى أولاده، فلما مر بهم رجل، قالوا: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل الكتاب! فقالوا: خلوا سبيله، فتركوه لأنه كتابي.
فكان المسلم -أحياناً- يحتال للخلاص منهم إذا سألوه، قال: أنا من أهل الكتاب، فيتركونه! وهذا من الخطأ، والصواب: أن المؤمن ينبغي أن يكون شديداً على الكفار رحيماً بإخوانه المؤمنين، ويحقق -أيضاً- قول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح} {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه} .
لو جلسنا نتحدث عن دلالات هذين الحديثين لوجدنا لفتات، ووقفات عظيمة جداً من خلال تعبير الرسول عليه الصلاة والسلام {في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد} لكن ليس هذا هو مجال الحديث، فأترك هذا الموضوع.(260/30)
الطموح
ما قبل الأخير من الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية، وهو خلق الطموح.(260/31)
الداعية يعيش للأمة
وهو -كما أسلفت- ألا يعيش الداعية لنفسه فحسب؛ بل يعيش للأمة كلها، ويعجبني وصف عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في السنن وغيرها، حديث في الصحيح أنها قالت: [[ما كان غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته إلا قاعداً، بعدما حطمه الناس]] لاحظ قولها: (حطمه الناس) -إذاً- الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتصدى للناس، ويستقبلهم، ويودعهم، ويأمرهم، ويختلط بهم، ويتحمل أخطاءهم، ويحنوا عليهم؛ ولذلك حطمه الناس، فكان صلى الله عليه وسلم مع أنه توفي وعمره ثلاث وستون سنة مع ذلك في آخر عمره كان أغلب صلاته وهو قاعد، -أي: النافلة- لأنه حطمه الناس، فأثروا في بدنه صلى الله عليه وسلم، فأسرع إليه الشيب -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم-.(260/32)
سعي الداعية للارتقاء في مراتب الدين
ولذلك أود أن أشير إلى حقيقة، وهي أن الإسلام درجات ومراتب، وهناك الإسلام والإيمان والإحسان كما في حديث جبريل، وهي مراتب يترقى فيها الإنسان من كونه مسلماً فقط إلى كونه مسلماً مؤمناً، ثم يرتقي بعد ذلك إلى كونه مسلماً مؤمناً محسناً، وهذه القسمة الثلاثية: إسلامٌ، ثم إيمان، ثم إحسان، يقابلها القسمة الواردة في الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] فيحاول الإنسان أن يترقى من كونه ظالماً لنفسه إلى كونه مقتصداً إلى كونه سابقاً بالخيرات -بإذن الله-.
وهذه القسمة الثلاثية -أيضاً- تناظر القسمة الثلاثية الواردة في السنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفرقة الناجية، فذكر أولاً الإسلام -كما هو معروف- وهو الضمانة الوحيدة للدخول في الجنة، فلا يدخل الجنة إلا مسلم، وداخل هذه الدائرة الكبرى -وهي دائرة الإسلام- هناك دائرة أضيق، وهي دائرة الفرقة الناجية، وهذه الدائرة تشمل من التزموا بالسلوك المستقيم، والعقيدة الصحيحة وإن لم يقيموا بما وراء ذلك، وهناك دائرة ثالثة أضيق وأضيق وأضيق، وهي أفضل، وأشرف، وأعظم، وهي دائرة الطائفة المنصورة الذين يذبون عن الدين، وينافحون عنه، ويتحملون الأذى، واللأواء في سبيله فينصرهم الله جل وعلا.
فيسعى الإنسان إلى أن يرتقي في هذه الدرجات، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {أن ينظر الإنسان في الدنيا إلى من دونه فإنه أجدر ألا يزدري نعمة الله عليه} لكن مفهوم ذلك أن ينظر في الدين إلى من فوقه، فحاول أن تتشبه بالفضلاء، والعظماء، والمصلحين، والمجددين؛ حتى يتحقق لك بعض الخير في هذه الدنيا، فكن صاحب نفس طموحه لا ترضى بالوقوف عند حد معلوم.(260/33)
خلق القدوة
أختم الحديث بالكلام عن وجوب أن يكون الداعية قدوة لغيره.(260/34)
مقابلة السيئة بالحسنة
أخيراً أقول: إن القدوة تقتضي أن الداعية لا يقابل السيئة بالسيئة؛ بل يقابل السيئة بالحسنة فيعفو، ويصفح، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وهذه هي أخلاق الأنبياء.
حتى أننا نذكر قصة الإسرائيلي زيد بن سعنة أو غيره، -وهي قصة صحيحة- الذي جاء وآذى النبي صلى الله عليه وسلم بالقول، وأغلظ عليه، وكان يطالبه بدين، فهمّ به الصحابة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً} وأمر أن يعطى ويوفى له في العطاء، فقال الرجل: هذه أخلاق أنبياء، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(260/35)
الترفع عن الدنيا
وذلك بأن يتجنب الفضول من المباحات والمكروهات، وما لا يحتاج إليه، ويرتفع عن الدنيا، والتنافس فيها حتى يكسب ثقة الناس، كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاَّب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سالماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها فمن المهم للداعية أن يجعل الدنيا تحت قدميه يستخدمها ولا يخدمها، حتى يعلم الناس أنه ليس طالب دنيا، ولا طالب مكانة.(260/36)
تجنب التناقض بين القول والعمل
كذلك من الأشياء التي ينبغي أن يكون الداعية قدوة فيها، أن يتجنب التناقض بين القول والعمل، فيكون سريعاً في تطبيق ما يدعو إليه، كما قال نبي الله شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] ؛ ولذلك كان علماء السوء يدعون الناس إلى الإسلام بأقوالهم، ويحذرونهم منه بأعمالهم.
فأحرص أيها الداعية أن تكون قدوة في قولك قبل أن تدعو الناس إلى هذا الأمر.(260/37)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأريد أن أشير إلى تحذير مهم -والكلام فيه يطول، لكن يجهله الكثيرون؛ ولذلك لا بد من التنبيه عليه- وهو أن كثيراً من الناس يظنون أنك لا تأمر بالمعروف، إلا إذا كنت قد فعلته، ولا تنهى عن المنكر، إلا إذا كنت اجتنبته، وهذا غلط، بل الصحيح الذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، وربما إجماع العلماء أن الإنسان يجب عليه أن يأمر بالمعروف ولو كان مقصراً فيه، ويجب أن ينهى عن المنكر ولو كان واقعاً فيه، حتى قال بعض حذاق أهل العلم: حق على من يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً.
فكوني وقعت في خطأ لا يبرر الوقوع في خطأ آخر، وهو ألا أنهى عن المنكر.
الشرط الوحيد: هو أن يكون نهيي عن المنكر، وأمري بالمعروف بصدق، وليس على سبيل الخداع والنفاق والتضليل وأن أظهر للناس أنني داعية، وأنا لست كذلك -هذا هو المهم- فإذا كنت آمر بصدق هنا لا بأس، ولو فرض أنني أخطأت، فخطئي عليَّ، وأحاسب عليه، لكن هذا لا يسوغ لي ألا آمر ولا أنهى، فعليك أن تأمر ولدك وتنهاه ولو كنت واقعاً فيه.
افترض إنساناً ابتلي بالتدخين، ووجد ولده يدخن، لا يقول: لا أنهاه فأنا واقع، لا، بل تنهاه، وتقول له: يا ولدي أنا جربت والآن ربما يصعب علي التراجع لكن أنت في بداية الطريق أقلع، وقل مثل ذلك في أي معصية، فهو مسئول عمن تحت يده، وهو المسئول عن جوره، وظلمه على نفسه، قد يكون يتعاطى الخمر، والمخدرات، والفواحش، ولكن هذا لا يبيح له بحال أن يأذن لمن تحته بحجة أنني واقع، ولا يمكن أن أنهى غيري وأنا قد وقعت، إلى غير ذلك، فوقوع الإنسان في معصية لا يبرر له أبداً، وينبغي ألا يكون هذا موضع شكٍ عند أحد منكم، لا يبرر له ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد بعض الناس يفهمون قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] وقوله عن بني إسرائيل: {أَتَأْمرونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] يفهمونها على غير وجهها، والكلام عن هذه النقطة فيه تفصيل ليس هذا مجاله، بل سبق الحديث عنه في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنها ملاحظة أحببت أن أشير إليها.(260/38)