مشكلة وجود التلفاز في البيوت
السؤال
سؤال حول مشكلة كبيرة وهي: وجود التلفاز في بيوت الملتزمين، ما هو دور هؤلاء الشباب الملتزم تجاه هذا التلفاز! وتجاه هذا الجهاز، حيث إنه يخرج فيه ما تعلمون؟
الجواب
هناك دور عام ذكرته قبل قليل وهو أن واجب القادرين على التأثير في اتجاه هذه البرامج ومزاحمتها أن يبذلوا ما استطاعوا، ثم إننا نعلم أن البلاد الإسلامية مقبلة على ما يسمى بالبث المباشر، والذي تحاول فيه الأقمار الصناعية الغربية والشرقية أيضاً أن توصل بثها التلفزيوني إلى بلاد المسلمين، كما تصل إليهم الإذاعات من أنحاء العالم، وبناءً على ذلك سوف يصبح الأمر خطراً مضاعفاً: خطراً على العقيدة بالتنصير وزعزعة العقائد وبث الإلحاد والشبهات في نفوسهم، وخطراً على الأخلاق، وخطراً على القيم الاجتماعية، وخطراً على الفرد وعلى الأمة.
لذلك فإنني أقول: إن من الواجب أن يدرك الأب خطورة الأمر، ويفكر ملياً، ويدرك جلياً أن الأمر لا ينبغي أن يمر هكذا وكأنه شيء عادي.
إن وجود التلفاز في بيوت كثير من الناس لا يعفيهم من التفكير في عقباته ومغبة تركه في المنزل، وترك الحبل على الغارب لأهل البيت فيه، فأقول: من كان بمنجاة من هذا الجهاز أو يستطيع أن يكون بمنجاة فهذا الذي لا يسعه غيره؛ لأنه من الصعب على الأب أن يترك أعماله ويجلس كأنه بواب عند هذا الجهاز فيه مادة يجيزها وفيه مادة يمنعها، هذا مستحيل! وقضية الاعتماد على الوازع الديني في نفوس الآخرين هذا -أيضاً- أمر صعب؛ لأني أعرف أن عادة الوازع الديني عندهم أنه ضعيف.
وأما من كان مبتلى بوجود هذا الجهاز ولابد له منه، فإن عليه أن يعمل ما استطاع على قناتين: القناة الأولى: محاولة حمايتهم من المواد السيئة فيه بقدر ما يستطيع.
القناة الثانية: محاولة تيسير المادة الإسلامية الجيدة للبيت: مثل الشريط الإسلامي، والكتاب، المجلة، وهناك توجد أجهزة الآن يمكن أن تفيد الصغار، فيوجد برامج في الكمبيوتر، يوجد أشرطة كاسيت للأطفال، ويوجد مجلات إسلامية، ويوجد قصص إسلامية، ويوجد وسائل عديدة يمكن أن تنفع أهل البيت، وتحيي الضمير الحي في نفوسهم.
وكذلك دوره في الإصلاح والتأثير؛ فيعقد جلسة مع أهل البيت يذكرهم بالله، وباليوم الآخر، ويبين لهم الحق ليعملوه، ويبين لهم الخطأ ليتركوه.
هذا ما يمكن أن يفعل تجاه هذا الموضوع.(221/34)
الدور تجاه المنغمسين في هذا الفن
السؤال
هذا سؤال عن دورنا تجاه هؤلاء الممثلين والممثلات، هل نشهر بهم؟ هل تكون بيننا وبينهم فجوة؟ كيف ندعوهم إلى الله؟ كيف نجرهم إلى الطريق المستقيم؟
الجواب
الدور مزدوج كما يقال، فمن جهة لا شك أن هؤلاء يمارسون دور الطابور الخامس في تحطيم الإسلام وقيمه وأخلاقه وعقائده، وهؤلاء أخطر وأفتك من الأوبئة الفتاكة المعدية التي تسري في الأمم فتفتك بالأجساد، وهم لا شك خطر وبيل على الأمة؛ ولذلك فإن هؤلاء لا كرامة لهم، وينبغي الحديث عنهم والتحذير منهم، وهذا مما يتقرب به إلى الله عز وجل، أن تقول لأخيك: اجلس بنا نغتب ساعة! ثم تتحدث عن الفنان الفلاني والممثل الفلاني والدور الذي قام به في تحطيم القيم والأخلاق والفتك بالمعاني الإسلامية في نفوس الناشئة، ولا شك أن هؤلاء ممن يجاهرون بمعاصيهم فلا كرامة لهم.
أما إذا كان لديك وسيلة لدعوة هؤلاء ورأيت أن تكف عن الحديث عنه؛ لأنك تتصل به مباشرة لكونك قريباً له أو جاراً أو زميلاً، وتتحدث معه وترى عند الرجل بدايات واستعداداً للقبول، فرأيت أن تكف عنه لتدعوه إلى الله عز وجل فهذا أمر طيب، والموضوع يدور مع المصلحة.(221/35)
الموقف من كتاب "السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث"
السؤال
هذا أخ يسأل عن موقف الشباب من كتاب الغزالي، كتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث".
الجواب
الكتاب فيما أعلم -ولست متأكداً ولكن هذا الذي أظنه- لم يبع في مكتبات المملكة، وهذه نعمة، ونسأل الله أن يوفق القائمين على رقابة المطبوعات إلى منع هذا الكتاب وأمثاله من الكتب التي تحدث البلبلة في عقول الناس، ولو سأل أحد عن الكتاب أو عن أفكاره فينبغي للإنسان أن يوضح ما فيها من خلل أو خطأ، وكذلك ينبغي السعي لنشر المقالات والكتب التي قد تبين ما في هذه الكتب من أخطاء، وهي عديدة، ونشرها في أيدي الناس لتكون منيرة لعقولهم، ومزيلة لما وقع من لبس في أذهان بعضهم حول بعض القضايا الخطيرة التي أثارتها كتب الغزالي.(221/36)
تعليق صور الممثلين
السؤال
هناك العديد من الشباب -هدانا الله وإياهم أجمعين- يكون معجباً ببعض الفنانين الأوروبيين أو غيرهم؛ لذلك تجده يضع صورة ذلك الفنان في بيته أو في سيارته، فما هي الوسيلة والعلاج الناجح لمناصحة أمثال هؤلاء؟
الجواب
أولاً: تذكيره بموقف الإسلام من قضية الفن هذا أمر ضروري.
والأمر الثاني: تذكيره بموقف الإسلام من قضية اقتناء الصور وتعليقها، خاصة حين تكون صور كافرين، والحقيقة أن هذا جانب قد يتعلق بقضية العقيدة؛ لأنك كونك تعظم هذا الفنان الكافر -قد يكون فناناً كافراً- تعظمه وتعلق صورته في صدر المجلس، أو في السيارة وتصحبها معك، هذا يوحي بانكسار الفواصل العقدية بينك وبينه، أي أنك لا تشعر بالعزلة الدينية عن هذا الإنسان، ومن ثم يقع منك هذا، وهذا قد يؤدي إلى تقليده ومحاكاته.
وقد حدثني بعض الإخوة أن بعض الشباب إذا ذهبوا إلى تلك البلاد يحاكون ويقلدون الفنانين والممثلين والممثلات في حركاتهم وسكناتهم، بل وبعضهم يعلق الصليب ويعلقون الذهب، ويقلدونهم في حركاتهم وأعمالهم، حتى في تعاطي المخدرات وغيرها من الأعمال، وكأن القائل منهم ربط مصيره بهذا الفنان فهو يقول: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد(221/37)
موقف العلماء تجاه الغناء والتمثيل
السؤال
ما موقف العلماء تجاه الغناء والتمثيل ما دمنا قد عرفنا أن موقف الإسلام من التمثيل والغناء الماجن واضح وصريح، فلماذا لا يكون لعلمائنا الأفاضل دور في منع مثل هذه الأشياء؟
الجواب
الدور -يا إخواني- دور الجميع، وأقول: إننا أحياناً نجد مهرباً أن نلقي باللوم على غيرنا ونخرج نحن أبرياء، ويعجبني في هذا مثل صيني يقول: "الأخطاء التي نعيشها الآن حصلت من الجيل السابق، وسوف تحل بواسطة الجيل اللاحق"، أما نحن فجيل مثالي! هذا المثل ينطبق علينا في غالب الأحيان، فمن السهل أن نلقي باللوم في الأخطاء التي نعيشها على غيرنا، وننتظر حلها من غيرنا أيضاً، فالسبب من غيرنا والحل من غيرنا، وهذا مهرب نفسي يخرج به الإنسان أحياناً من الإحراج.
لننظر -مثلاً- في موقف الأخ السائل وموقف الإخوة الحضور: كثير من الشباب ربما يكون قد تورط في مشاهدة الأفلام والمسلسلات وقتاً طويلاً، والآن يذكر أشياءً كثيرة شاهدها بعينه مناقضة للإسلام، أشياء ضد شريعة الإسلام -مثلاً- ضد تعدد الزوجات، وضد الطلاق، وضد الحجاب، وضد منع الخلوة، وأمور كثيرة جداً، وتجد هذا الشاب يقول: أين العلماء ودور العلماء؟! حسناً، أين دورك أنت؟! أنت الآن عرفت، لماذا لا تكتب عما رأيت؟ افترض أنك شاهدت مسلسلاً بعينه أو فيلماً بعينه، أو سمعت أغنية في الماضي، وفي هذه الأشياء أمور محددة يمكن أن تكتب عنها، فيكتب الإنسان أنه يوجد كذا وكذا وكذا بالتفصيل، ولا مانع هنا أن ترفعوا للعلماء، بحيث يكون هناك قضية محددة.
ثم هناك دور آخر، دورنا -أيضاً- نحن لا يقتصر فقط على قضية منع هذه الأمور؛ لأنه -سبحان الله- مع استقرار الأشياء في نفوس الناس وفي المجتمعات أصبح الناس يقولون: هات البديل هات البديل، وبطيبعة الحال الإسلام لا يوافق على قضية "هات البديل" فليس معقولاً أن يرتكب إنسان محرماً ثم يقول: سأستمر حتى يأتي البديل الحلال! يمكن أن نقول: اترك الحرام ولو إلى غير بديل، لكن واقع الناس اليوم يطالب بالبديل، لذلك ينبغي لشباب الإسلام وللدعاة الذين يوجد لديهم مواهب وملكات وإمكانيات يمكن أن يقدموها لخدمة الإسلام في هذه المجالات الإعلامية المباحة، ينبغي أن يتجهوا لخدمة الإسلام من هذه الناحية.(221/38)
الدور الفردي والرسمي تجاه التائبين من الفن
السؤال
هنا كثير من الأسئلة تسأل عن دورنا تجاه هؤلاء التائبين العائدين إلى الله سبحانه وتعالى.
فبعضهم يسأل: هل يكون موقف الإنسان من هؤلاء هو المصاحبة والمؤاخاة؟ أو يكون بالدعم المادي لهم إن كانوا بحاجة إلى المادة ونحو ذلك؟ وبعضهم الآخر يسأل عن دور المؤسسات الكبرى تجاه هؤلاء كرابطة العالم الإسلامي، ما دورها تجاه هؤلاء التائبين إلى الله سبحانه وتعالى، والذين لبعضهم دور بارز في نشر دور لتعليم القرآن الكريم أو نحو ذلك؟
الجواب
هذا الموضوع كبير، موضوع دورنا باعتبارنا أفراداً، ودور المؤسسات الإسلامية الرسمية، وغير الرسمية في استقبال التائبين بألوانهم وتثبيتهم ودعم مسيرتهم، وأرى أن الحديث عنه الآن قد لا يفيد كثيراً، ويحتاج الموضوع كما ذكرت إلى حديث خاص، ولعلي أوفق إليه إن شاء الله في مناسبة أخرى.(221/39)
تعامل الفنان التائب مع أشرطته القديمة
السؤال
كنت فناناً أعزف على العود، وأنا الآن تائب ولله الحمد، وسؤالي: ما موقفي الآن من الأشرطة التي في أيدي الناس؟
الجواب
هذا يذكرني بجانب مهم أغفله الحديث، وهو أنني حين أتحدث عن دور المجتمع وضرورة أن يقوم بدوره في حماية الشباب من هذا الوضع، فإنه يقدم بذلك خدمة جليلة؛ لأن الإنسان حتى بعد أن يتوب سيجد أنه أمام نتائج وخيمة لماضيه:- أولها: السمعة السيئة التي يتحدث بها الناس عنه.
ثانيها: التأثير الذي أحدثه في نفوس الكثير من مشاهديه أو مستمعيه، والذي لا يستطيع أن يمحوه بكل حال.
ثالثها: الوثائق المحفوظة من أشرطة أو أفلام أو كتب أو غيرها، التي قد تظل تؤدي دوراً سيئاً حتى بعد هداية هذا الإنسان.
وبذلك لا يستطيع الإنسان أن يمحو جميع الآثار التي كانت له في الماضي.
وأما حول سؤال الأخ فإنني أقول: إن على الأخ أن يبلغ ويبين لكل أحد يتصل به أو يعرفه سواءً من أصحاب التسجيلات أم غيرهم، أنه لا يسمح بتداول الأشرطة التي كانت له في الماضي هذه مسألة.
والأمر الآخر: أن عليه بعد أن من الله عليه بالهداية أن يؤدي دوراً في دعوة بعض الناس إلى الإسلام، والتأثير عليهم؛ لعل الله عز وجل أن يكفر بهذه الأعمال الصالحة ما سبق من ذنوبه وأخطائه، والتوبة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم تجب ما قبلها.(221/40)
فتاوى تبيح الغناء
السؤال
قبل حضوري هذه المحاضرة حاولت اصطحاب صديق لي كان سابقاً قد انغمس في مجال الفن، وحاولت بإلحاح أن أجلبه إلى هذه المحاضرة، وفوجئت بقوله لي: أبشرك بأنني اكتشفت بأن الفن مباح.
وقد قرأ ذلك في كتاب مائة سؤال عن الإسلام لـ محمد الغزالي، فما رأيكم بمثل هذه الكتب؟
الجواب
هذا المثال الماثل أمامنا الآن يؤكد ما ذكرت لكم قبل قليل من أهمية هذه النماذج في تثبيت ما هو مستقر في أذهان الناس من موقف الإسلام الصحيح تجاه هذه القضايا، فهذا بصفة عامة.
أما القضية الخاصة وهي قضية الغناء وموقف الإسلام منه والمناقشة للأفكار التي طرحها الشيخ محمد الغزالي في كتاب مائة سؤال وفي كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث فقد تحدثت عنها بالتفصيل في محاضرة أو محاضرات عنوانها حوار هادئ مع الشيخ محمد الغزالي وكان موضوع الغناء يحتل جزءاً من المحاضرة الثانية، فيمكن للأخ مراجعته.(221/41)
تنبيه الناس على ما يقع في بعض الأعراس
الزواج مرحلة ينتقل فيها الشخص من حياة إلى حياة، وتتغير فيها أكثر أنحاء حياته، وكل من يتزوج يرجو أن يكون زواجه دائماً مدى الحياة؛ ولأجل ذلك ينبغي الالتزام بأحكام الشرع وآدابه من بداية الاختيار والخطبة إلى أن يتم الزواج بعيداً عن المنكرات والمخالفات الشرعية.
وفي هذا الدرس بيان شافٍ لذلك وما يتعلق به.(222/1)
الشباب والزواج
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] .
أما بعد: فعنوان هذه المحاضرة هو: (تنبيه الناس على ما يقع في بعض الأعراس) ومناسبة هذه المحاضرة في هذه الليلة التي هي ليلة الجمعة الثاني والعشرين، وفي مقتبل إجازة الربيع نظراً لكثرة ما يقع من الأعراس في هذه الأيام، ولذلك أحب المسئولون في مكتب الإفتاء أن تكون هذه المحاضرة في هذه الليلة، ليلة الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة، ونسأل الله تعالى -في مستهل هذه المحاضرة- أن يوفق شباب المسلمين وفتياتهم إلى كل أمر رشيد وأن يجنبهم شر أعدائهم.
أيها الإخوة: سوف تكون هذه المحاضرة في خمس نقاط متتالية: أولها: حول موضوع تأخير الزواج والسلبيات المترتبة عليه.
والثانية: حول موضوع اختيار الزوج.
والثالثة: حول موضوع الخطبة وما يتعلق بها.
والرابعة: حول موضوع الدخول وما يتعلق به.
والخامسة: حول الطلاق.
وبالتأكيد فإن كل هذه الموضوعات لا يمكن أن تغطى في وقت كهذا لكنني سوف أركز أو أعتني بالحديث عن بعض المنكرات والمآخذ والأخطاء التي يقع فيها الكثيرون في هذه المناسبات.(222/2)
مشكلة تأخير الزواج
أولاً: من المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا مشكلة تأخير الزواج وما يترتب عليها من آثار سيئة، وبالأمس القريب كانت الفتاة إذا بلغت الخامسة عشرة أو أكثر من ذلك بقليل تعد قد بلغت سن الزواج، ويتسارع إليها الخطاب، ولو سألنا أمهاتنا ومن في سنهن لوجدنا أن الجيل السابق كان السن المناسب لزواج المرأة هو الخامسة عشرة أو أزيد من ذلك بقليل، بل وربما أقل من ذلك أحياناً.
أما اليوم فلا تستغرب أن تسمع أن يوجد -مثلاً- في إحدى المدن في المملكة كلية، ومعنى ذلك أن الدارسات في هذه الكلية ما بين سن التاسعة عشرة إلى الخامسة والعشرين وربما أكثر من ذلك، وقد تجد فيها مئات الطالبات، ثم تجد أن عدد المتزوجات يعد على رؤوس الأصابع، ولا تستغرب أن تجد في مجتمعنا نساء بلغت الواحدة منهن سن الثلاثين، بل إني أعرف نساءً بلغن أكثر من ذلك الخامسة والثلاثين بل والثامنة والثلاثين دون أن يتزوجن.
فهذه مأساة كبيرة -أيها الإخوة- وخطر داهم يهدد المجتمع، وهي على كل حال مأساة أو مشكلة عالمية يعاني منها العالم كله، لكن فيما يتعلق ببلادنا تُعد مشكلة جديدة إلى حد ما خاصة بهذه الكثافة، وهذه الكثرة.(222/3)
أسباب تأخير زواج النساء
ما هي أسباب تأخير الزواج؟ في ظني وتقديري أن الأسباب تختلف، فهناك أسباب من قبل الأهل (من قبل الأبوين) فكثير ما يقف الأبوان عائقاً أمام تزويج بنتهم لأي سبب من الأسباب.(222/4)
الطمع في المال
أحياناً يطمع الأب في المال، فلا يزوج ابنته إلا مقابل مهر باهظ مرتفع، وينسى هذا الأب المسكين أن هذا المهر ليس له؛ حتى ولو كان المهر باهظاً مرتفعاً فهو للمرأة، فالمهر لها بما استحل الرجل من فرجها وليس للأب، وليس له حق أن يأخذه بغير رضاها كثر أم قل، وهذا أمر واضح وصريح فالمهر للمرأة قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] وقال عليه الصلاة والسلام: {فلها المهر} فبعض الآباء يصل بهم الجشع إلى حد أن يعتبر بنته سلعة تباع في المزاد العلني، وكنت أظن أن في هذا شيئاً من المبالغة، لكن وجدنا في بعض البيئات وسمعنا بعض الأخبار فعلاً أن الآباء منهم من يغالي ببنته ويرد الخطاب طمعاً في مال أكثر، ولا يقبل إلا أن يأتيه تاجر، وربما يطمع فيما وراء ذلك أن يموت هذا الزوج فترثه البنت، فيستفيد هو من هذا المال، ولا يدري أن الأعمار بيد الله، وما يدرى من الوارث ومن الموروث، وهذه أمانة في عنق الأب.(222/5)
خدمة المنزل
وأحياناً يؤخر الأبوان زواج ابنتهم لغرض أن تخدم في المنزل، فيقول الأب أو تقول الأم: إنه ليس في المنزل أحد إلا هذه البنت، فلا نريد أن نزوجها إلا إذا تزوج أخوها وجاء بامرأة تخدمنا في المنزل فحينئذ يمكن أن نزوجها، وهذا أيضاً ليس بوجه حق، فلا يجوز لهما عضل البنت ومنعها عن الزواج من أجل أن تخدم، فهي ليست خادماً في المنزل، بل لها حقوق يجب أن تؤدى إليها، وهي أمانة في أعناقهما.(222/6)
الجاه والمنصب
وأحياناً يؤخران تزويجها مراعاة لقضية الجاه، فربما يرى الأب نفسه من عائلة كريمة، وذات منصب وقيمة ووجاهة فليس كل من جاء يقبل، ولا يقبل إلا من عائلة معروفة معينة محترمة -كما يقولون-.
وأحياناً لا يزوج إلا من عائلته هو -مثلاً- فينتظر ابن عمها حتى يتقدم لها، أو ينتظر رجلاً من العائلة حتى يكون مناسباً لها أو ما أشبه ذلك.
المهم أن هناك أسباباً تأتي من قبل الأبوين في تأخير تزويج البنات، وهذه الأسباب المسئولية فيها على الأبوين وعلى الأسرة، والواجب عليهم أن يذللوا الصعاب أمام زواج بناتهم.(222/7)
مواصلة الدراسة
وهناك نوع آخر من الأسباب يتعلق بالمرأة نفسها، فكثير من الفتيات أصبح الأمر بيدها الآن، ليس للأبوين عليها سلطان في منعها من الزواج أو حثها عليه فالأمر بيدها، وهنا تأتي مشكلة أكبر لأن كثيراً من النساء قد لا تدرك خطورة تأخير الزواج، فمن الفتيات من تؤخر الزواج بحجة مواصلة الدراسة، ولو حسبنا عمر الفتاة لوجدنا أنها بعد أن تتخرج من الجامعة يكون عمرها على أقل تقدير وفي أقل الأحوال اثنتان وعشرون سنة، وكثير منهن يكون عمرها أكثر من ذلك بكثير، فلا تقبل أن تتزوج إلا بعد أن تتخرج من الجامعة؛ لأن الزوج ربما يمنعها من الدراسة، أو ربما تنشغل بشئون البيت أو بالأطفال عن مواصلة الدراسة، فترفض الزواج بحجة الدراسة، وهذا خطر كبير؛ لأن الدراسة يمكن أن تعوض، وإن لم تعوض فإنه يمكن الاستغناء عنها، فليس من الضروري أن تكون المرأة قد تخرجت من الجامعة، لكن موضوع الزواج لا يمكن تأخيره لأنه إذا تأخر سن الفتاة قل خطابها وأعرض الناس عنها وبحثوا عن غيرها، فوقعت في الفخ -كما يقال-.(222/8)
الوظيفة
وأحياناً قد لا تكتفي بانتظار التخرج من الجامعة بل تقول: إذا تخرجت لا أريد أن أعلق هذه الشهادة في المطبخ! أنا أريد أن أعمل بهذه الشهادة، إذاً فهي تنتظر الوظيفة بعد الدراسة، فإذا تخرجت وعمرها في الغالب ثلاثاً أو أربعاً وعشرين سنة فإنها تريد أن تتوظف سنتين أو أكثر فيكون عمرها ستاً أو سبعاً وعشرين سنةً، وهنا يعرض عنها الخطاب لأن الرجل لا يريد أن يتزوج امرأة تكبره في السن أو تماثله.(222/9)
المواصفات المعدومة
ومن النساء من تعرض عن الزواج طلباً للشروط، فهي تريد رجلاً بصفات معينة، سواءً من حيث الشكل، أم من حيث الوظيفة، أم من حيث الأسرة، أم من حيث المكانة الاجتماعية، أم ما أشبه ذلك، فقد يتقدم رجل فاضل وخير ولكنه أقل مما تريد فترفضه؛ لأنها تريد شخصاً برأسها، فبعد فترة تحس بأنه ليس لديها مانع في أن تقبل الأول؛ لكن الأول أعرض عنها، ولا يأتيها مثله بل يأتيها من هو أقل منه، وهكذا تتنازل بعد فوات الأوان حين لا يأتيها من ترغب فيهم، فتكون معلقة بطلب شروط معينة قل أن تتحقق في هؤلاء الأزواج.(222/10)
كبر السن
ومن ذلك أيضاً أن بعض الفتيات قد يكون سنها كبيراً نسبياً، فيتقدم لها رجل سبق أن تزوج وطلق فلا تقبله.
لماذا؟ لأن هذا رجل قد طلق، وربما يكون من عادته الطلاق، أو يكون هذا من عادة أسرته، أو تضامناً مع المرأة السابقة المطلقة ترفض أن تتزوج به؛ لأنه مطلِّق وهذا عيبه، فبعد فترة حتى المطلق لا يأتيها، إنما يأتيها رجل معه زوجة واحدة فلا تقبله، وتقول: لو كان مطلقاً لقبلته، لكن معه زوجة وأنا لا أستطيع أن أعيش مع زوجة أو ضرة أخرى؛ فترفضه لأن معه زوجة.
وبعد فترة حتى الذي معه زوجة قد لا يتقدم لها، وقد لا يتقدم لها إلا من هو كبير السن أو به آفة أو عاهة أو ما أشبه ذلك.
فأحياناً المبالغة في اختيار الزوج وافتراض الشروط الخيالية يكون من الأسباب العائقة عن الزواج.(222/11)
التعلق الوهمي بشخص ما
وفي بعض الأحيان يكون السبب في تأخير الفتاة عن الزواج هو: التعلق الوهمي والأعمى بشخص ما، وهذا -مع الأسف- أصبح موجوداً في مجتمعاتنا، ولعل كثيراً منكم بحكم أنكم - إن شاء الله- من أهل الخير، ومن البعيدين عن مجالات الأمور الرديئة لا تتصورون مدى ما يقع في المجتمعات اليوم من العلاقات والترابطات -وسيمر الحديث عنها- لكن الأمر الذي يعنيني الآن الإشارة إليه هو أن بعض الفتيات يخدعها ذئب من الذئاب ويصور لها أنه سوف يتزوجها، فتبني معه علاقة معينة وتظل في انتظاره، فهذا المسكين يعبث بها - أقول: إنه مسكين لا شك لأنه قد أسلم زمامه للشيطان- ويلعب بها ويعدها ويمنيها وما يعدها إلا غرورا، وتظل هي تعيش على الأمل الكاذب الموهوم في انتظار هذا الرجل، حتى تفاجأ بأنه قد تزوج وتخلى عنها، وكأنه لم يتحدث معها يوماً من الأيام بهذه الأماني والأحلام المعسولة.
فهذه أكذوبة يخدع بها الشيطان بعض الفتيات فتتعلق برجل تنتظره حتى يفوتها قطار الزواج أو يكاد.(222/12)
أسباب تأخير زواج الشباب
النوع الثالث من الأسباب أسباب تتعلق بالشباب أنفسهم:(222/13)
التخرج من الجامعة
الشباب يتحملون جزءً من المسئولية، فمن الشباب من يؤخر الزواج بحجة التخرج من الجامعة كما هو الحال بالنسبة للفتيات، وهذا خطأ، فليس من الضروري أن يكون الزوج متخرجاً، ولا تعارض بين الزواج والدراسة، لا بالنسبة للولد ولا بالنسبة للبنت، بل إن المتزوجين -كما لاحظنا ورأينا في الجامعة- في كثير من الأحيان أكثر كفاءة وأكثر قدرة على التحصيل من غير المتزوجين، فالزواج سكن وسعادة وأنس يساعد الزوج على تهيئة الجو المناسب للدراسة والتحصيل وطلب العلم، وهذا أمر مشاهد وملحوظ، وليس للزواج تكاليف باهظة وتبعات ثقيلة تشغل الزوج وتقضي على وقت فراغه.(222/14)
تأمين المستقبل
ومن الشباب من يؤخر الزواج بحجة أنه يريد أن يؤمن المستقبل -كما يقولون- وهنا يضع الشيطان أمام الشاب عقبات وهمية كلما انقضت عقبة برزت أمامه عقبة أخرى، ففي البداية يقول الشاب: أريد أن أتخرج من الجامعة، وبعد التخرج يقول: أريد أن أتوظف حتى يكون لي راتب أنفق منه، وبعدما يتوظف يقول: أريد أن أبني بيتاً فأين أضع زوجتي؟! وبعد بناء البيت ربما يفكر في عمل آخر، وهكذا، فمسألة ما يسمونه بتأمين المستقبل تمنع بعض الشباب من الزواج.
ولا أدري إن كان هذا هو تفكيرنا، وكانت هذه نظريتنا! فأين التوكل على الله جل وعلا؟ وأين إيماننا بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات:58] أين إيماننا بأن الله هو الرزاق؟ أنا لا أدعو إلى ترك الأسباب، فترك الأسباب تواكل لا توكل، لكنني -أيضاً- لا أرى أنه يجوز لمسلم أن يعتمد على الأسباب وينسى الخالق الوهاب مسبب الأسباب، بل يجب بذل السبب والتوكل على الله تعالى، ومع بذل السبب لابد أن يبقي الإنسان موضعاً للتوكل عليه جل وعلا، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] ولذلك من أسباب الكسب الزواج كما وعد الله تعالى، وعد الفقير إذا تزوج بالغنى فقال سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] وهذا أمر ملحوظ ومعروف أيضاً، لأن الشاب إذا كان غير متزوج لا يشعر بالمسئولية، وكم رأينا من الشباب من تأتيه الأموال فيبذرها هنا وهناك؛ لأنه لم يحس بالمسئولية، ومهما تحدث معه الناس وذكروه ونصحه والده وأصدقاؤه أنه لابد أن تجمع بعض المال، مع ذلك كله يبقى الشاب لا يحس بثقل المسئولية مثلما يحس بها إذا شعر بأن هناك امرأة في ذمته، تطلب منه أن يشتري لها الطعام والغذاء والكساء وما أشبه ذلك، فهنا يشعر بالمسئولية ويكون أكثر حرصاً على توفير المال وعلى البحث عن الرزق الحلال.(222/15)
المواصفات والشروط
كما أن من الأسباب التي تتعلق بالشباب أيضاً: الشروط، فأنت حين تتحدث مع شاب يريد الزواج ترى أنه إن تكلم عن الجمال يريد امرأة من أجمل نساء الدنيا، يريد طولاً وحسناً وبياضاً، وغير ذلك من المواصفات، وإن تكلم عن الأخلاق فإنه يريد امرأة بمستوى أخلاق الصحابيات، أو قريباً من ذلك! ويريد امرأة من أسرة معينة، ويريد نفسيتها كذا وعقليتها كذا ودراستها كذا وشكلها كذا وطولها كذا وعرضها كذا، وعنده مجموعة مواصفات وشروط قلما تتوافر.
خذ على سبيل المثال: الجمال، كم من امرأة جميلة جمالاً ملفتاً! أعتقد أن عدد النساء اللاتي فيهن جمال على تفاوت يمكن أن يكون (25%) وفي مقابل ذلك عدد مقابل فيهن شيء من القبح، والنسبة الباقية من سائر النساء وسط لا توصف بجمال ظاهر، وليس فيها قبح تعاب أو تذم به، فتجد الشاب يتطلب هذه المتطلبات.
ونحن نقول لهذا الشاب بصورة مختصرة: أولاً: انظر إلى نفسك، تريد الجمال الباهر، فمن أنت أيضاً؟ أنت إنسان من سائر الناس، شأنك شأن غيرك، فينبغي أن تضع غيرك في مقامك، فأنت أيضاً قد لا تريدك أي امرأة إذا كان المقياس هو الجمال.
تريد امرأة أخلاقها كأخلاق أسماء وفلانة وفلانة، فهل أنت في مستوى الزبير وابن الزبير وأمثالهم؟ وهكذا الإنسان يريد مواصفات في الطرف الآخر؛ لكن لا ينتبه إلى نقص هذه المواصفات في نفسه، وعلى الشاب أن يكون معتدلاً في النظر في الشروط، وسوف أشير إلى ذلك بعد قليل.(222/16)
أسباب تتعلق بالمجتمع
القسم الرابع من الأسباب: يتعلق بالمجتمع، فالمجتمع لا شك أنه مسئول عن تأخير الزواج من عدة نواحٍ:(222/17)
غلاء المهور
وقل مثل ذلك في عادة غلاء المهور، وهي بلية من البلايا التي وقعت في مجتمعاتنا اليوم، فأصبحت تثقل كاهل الزوج بمبالغ طائلة، فربما نقول: إن مجموعة التكاليف العادية -دعك من الأسر المترفة الغنية- أحياناً نسمع أن هناك إنساناً تزوج بأكثر من ثلاثمائة ألف ريال، وطبعاً المقصود من وراء ذلك أن يكتب عنه، وأن يتكلم الناس عنه، ويذكروه بذلك، فبعض الناس مثل الشيطان يحب أن يذكر ولو باللعنة، المهم أن يذكر، فيهمه أن يقول الناس عنه: ابن فلان تزوج بأكثر من ثلاثمائة ألف ريال، وابن فلان استأجر الفندق الفلاني ليلة واحدة بمائة ألف ريال، وهكذا من الأشياء التي يذم الله تبارك وتعالى عليها، ويعاقب عليها في الدنيا وفي الآخرة، ولا يحمدها أولو العقول والنُهى من الناس.
أيضاً دعك من هؤلاء، لكن عامة الناس ربما يكلفه الزواج مائة ألف ريال أو قريباً من ذلك يزيد أو ينقص، وهذا المبلغ ليس بالسهل توفيره، فلماذا نفترض مثل هذا المبلغ الخيالي الوهمي؟ هذا ليس محمدة في الدنيا، ولا عبادة يؤجر عليها الإنسان في الآخرة، بل هو من أهم أسباب تعاسة الحياة الزوجية، ومن أهم أسباب الفجور والفساد العريض في المجتمع، ويجب على أولياء الأمور أن يراعوا الاعتدال في هذا الأمر.
ويعجبني أن بعض الناس حاول أن يضرب بنفسه مثلاً أعلى في ذلك، فلقد حدثني بعض الشيوخ أن رجلاً جاء إليه ليعقد على بنته فلما سأل الشيخ كم المهر؟ فقال له أبو البنت: إن المهر ريال واحد فقط، فهذا العاقد ظن أن القضية مجرد تسمية مهر كما هي عادة بعض الناس أن لا يذكروا المهر الحقيقي في العقد إنما يذكرون أي مبلغ، وهم لا يريدون أن يطلع أحد على حقيقة المهر، فإذا كنت -مثلاً- زوجت ابنتي بستين ألف ريال لا أريد أن أقول للعاقد: إن المهر ستين ألف ريال، ولا أريد أن يطلع على هذا الأمر فأقول له: عشر ريالات.
ظن الشيخ أن الأمر كذلك فقال: إن الكذب لا يجوز، ولابد أن تخبروني بالمهر الحقيقي، فقال الأب: فعلاً إن المهر الحقيقي هو ريال واحد فقط للسنة، وإلا فإني سأقوم بتجهيز ابنتي بكل ما تحتاجه، ولم أطلب من هذا الشاب أي مبلغ، فهذا مثلٌ جيد.
وأحياناً تذكر بعض الصحف والجرائد أخباراً من هذا القبيل سارة، وينبغي نشرها بين الناس حتى تكون مثلاً أعلى وتكون قدوة حسنة، كما أنه ينبغي على كبار الناس في المجتمع والوجهاء والأعيان الذين ينظر إليهم أن يبدأوا بأنفسهم، فإننا نجزم ونقطع بأن حادثة واحدة خير من ألف محاضرة وألف خطبة في هذا المجال وفي غيره، فإذا تحدث المجتمع أن الوجيه الفلاني، أو أن العالم الفلاني، أو الرجل الفلاني المشهور المرموق الذي يشار إليه بالبنان زوج بنته على ثمن بخس وجهزها بما تحتاج، أو حتى أخذ مبلغاً معقولاً ومعتدلاً فإن هذا يؤثر في الناس ما لا تؤثره كثير من الكتب والنشرات والأقوال والمحاضرات وغيرها.
فموضوع غلاء المهور من الأمور التي تؤثر فيها العادات الاجتماعية، وبناءً على ذلك فإني أقول: إن تأخير الزواج يشترك فيه الأبوان والبنت والولد والمجتمع.(222/18)
أولاً: موضوع العادات
العادات تحكم كثيراً من الناس، ويصعب عليهم أن يتخلصوا أو يتفلتوا من هذه العادات، فإذا كانت عادة المجتمع ألا يزوج الفتاة إلا بعد العشرين أو بعد الدراسة الجامعية فإنه يصعب على الفتاة أن تخالف هذه العادات أحياناً؛ وقل مثل ذلك بالنسبة للفتى، فإذا كانت عادة المجتمع تأخير زواجه فإنه يصعب عليه أن يبكر في الزواج.
أحياناً يكون من العادات السارية في المجتمعات ألا يتزوج الأصغر إلا بعد زواج الأكبر سواءً بالنسبة للأولاد أو للبنات، وهذا موجود في كثير من المجتمعات بما فيها هذا المجتمع، فلا يمكن أن يتزوج الولد الأصغر إلا بعد أن يتزوج جميع من فوقه، وكذلك البنات، في كثير من الأحيان يكون الابن الأكبر لا يريد الزواج ولا يحس بالرغبة في الزواج، وظروفه لا تهيئ له هذا الأمر، وقد يكون مسافراً أو غير مستقيم أو أي أمر من الأمور التي تحول دون زواجه، وقد يكون الأصغر أكفأ منه، وأدين منه، وأغنى منه، ولديه وظيفة، ولديه إمكانيات أن يتزوج؛ لكن مع ذلك لا يتزوج لأن الأكبر لم يتزوج، هذا غلط كبير، لماذا نظلم هؤلاء؟! كذلك بالنسبة للفتيات، قد تكون في الكبرى فيها ما يمنع زواجها أو يؤخر زواجها، فلماذا نحبس الباقيات في انتظارها؟ هذا مثال فيما يتعلق بالعادات، قضية السن، أو قضية مراعاة الأكبر، أو ما أشبه ذلك من العادات التي تحكم بعض المجتمعات وتكون سبباً في تأخير الزواج.(222/19)
آثار تأخير الزواج
ولتأخير الزواج سلبيات كبيرة جداً، من أهمها:(222/20)
الانحراف
الانحراف الذي يقع فيه الولد وتقع في الفتاة، فالدوافع الغريزية الجنسية موجودة، والإغراء والإثارة موجودة، فأشرطة الفيديو تغريهم، والأغنية الخليعة تدعوهم إلى الاتصال، والمجلة الهابطة تباع حتى في البقالات فضلاً عن المكتبات، والأسواق المعروضة فيها أنواع الزينات التي تأتي إليها النساء بأشكال وملابس مثيرة وطيب وعطر وغير ذلك؛ ثم وسائل الاتصال مهيأة وميسرة.
خذ على سبيل المثال: الهاتف؛ كم منا أيها الإخوة ينتبه إلى الهاتف في منزله؟ وهل تعلمون أن كل علاقة واتصال بين رجل وامرأة -أعني اتصالاً محرماً- كانت بدايتة عن طريق الهاتف، أكاد أجزم، بل إنني أجزم أنه لم يكن هناك علاقة بين اثنين -علاقة محرمة- إلا كان الهاتف وسيطاً فيها إما في البداية أو في الوسط أو في النهاية، فلابد أنه تعرف عليها عن طريق الهاتف، أو واعدها عن طريق الهاتف، أو ما أشبه ذلك، فالهاتف أصبح وسيلة مهيأة للاتصال.
كذلك الرسائل، والمقابلة في السوق أو في غيره، إلى غير ذلك من الوسائل التي أصبحت ميسرة للفساد والفتنة، ولذلك يقع المجتمع اليوم في مأزق خطر، ونسمع من القصص والأخبار ما ينذر ويهدد بأن المجتمع على فوهة بركان -كما يقال- وإذا لم ينتبه إلى ذلك الآباء والمسئولون والأولياء فنحن على خطر عظيم، خاصة ونحن نعلم أنه يوجد في المجتمع من يريد أن يجره إلى الفساد قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] .(222/21)
كثرة العنوسة
ومن آثار تأخير الزواج: كثرة العنوسة وما يترتب عليها من مشكلات نفسية واجتماعية، فالفتاة إذا تأخر بها الزواج أصبح عندها عقد نفسية ومشاكل وضيق وهم وغم، وكذلك يكون هناك آثار اجتماعية؛ لأن الفتاة في هذا المنزل سوف تكون عنصر شغب وتنغيص سواء لوالديها، أو لزوجة أخيها، أو لغير ذلك.(222/22)
تأخر الإنجاب
ومن آثار وسلبيات تأخير الزواج: تأخر الإنجاب بل انقطاعه أحياناً؛ فالفتاة التي تأخرت إلى أن أصبح عمرها خمساً وثلاثين سنة لم يبق من عمر إنجابها سوى خمس سنوات أو قريباً من ذلك، وفي هذا من الضرر وتقليل النسل ما فيه.(222/23)
الاختيار والشروط المطلوبة
أنتقل أيها الإخوة إلى النقطة الثانية وهي: موضوع الاختيار أو المواصفات والشروط المطلوبة.(222/24)
الإكراه
ومن الأشياء المتعلقة بموضوع الاختيار والشروط: قضية الإكراه.
والإكراه يقع على الفتى وعلى الفتاة أيضاً، فبعض الآباء يكرهون فتياتهم على الزواج ممن لا يردن لأنه غني، أو لأنه ابن عمها، أو لسبب من الأسباب، وهذا لا يجوز، بل يحرم على الأب أن يزوج ابنته بغير رضاها سواء أكانت بكراً أم ثيباً، وقد أفتى في ذلك إمام المفتين محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا تنكح الأيم حتى تستأمر} فحرام على الرجل أن يزوج بنته بغير إذنها بكراً كانت أم ثيباً.
وكذلك بالنسبة للأولاد، فأحياناً الأب يضغط على ابنه ليتزوج من فتاة بعينها؛ لأننا نعرفها أو لأنها بنت عمه، أو عمته أو خاله أو خالته أو ما أشبه ذلك، وهذا -أيضاً- ليس بسائغ ولا ينبغي للأب أن يفعله، وغالباً هذه الزيجات التي بدأت بالإكراه مصيرها إلى الفشل؛ لأنه لم يتوافر فيه القناعة لدى الطرفين، خاصة في هذا العصر الذي تفتَّح الناس فيه وأصبحوا ينظرون إلى كثير من الأشياء.(222/25)
عدم اعتبار الدين
فمن الأخطاء التي يقع فيها الناس في هذا الباب عدم اعتبار الدين، فقد يبحث الإنسان عن الجميلة أو الحسناء أو من عائلة معروفة، ولكن قد لا يتنبه إلى قضية الدين، ويخالف بذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: {تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك} فوصية النبي صلى الله عليه وسلم هي الظفر بذات الدين، سبحان الله! إذا ظفر الإنسان بذات الدين فقد ظفر بالجمال وظفر بالخلق وظفر بالسعادة، وإذا خلت المرأة من الدين فإنها دمية لا خير فيها؛ ولو كانت ملكة جمال، وإني أعرف زيجات قامت على أساس البحث عن الجمال لم تدم أكثر من أشهر، لأن الفتاة مغرورة -أحياناً- تنظر إلى نفسها وتقول: ليس فلاناً أهلاً لي، وليس جديراً بي، أنا يستحقني فلان وفلان، وتذكر أسماء أشخاص مرموقين من المسئولين أو الوجهاء أو الكبراء أو غيرهم، فكيف تستطيع أن تعيش معه، أو يعيش معها وهي ترى أنه ليس كفؤاً لها وأنه لا يستحقها؟ فمن الخطأ أن يغفل الإنسان عن ذات الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} حتى تطمئن إلى أنك بنيت بيتاً صحيحاً، وتطمئن على عرضك، وتطمئن على أولادك، وتطمئن على مالك، وتحفظك في نفسها.(222/26)
عدم اعتبار الجمال
ومن الأخطاء التي تتعلق -أيضاً- بموضوع الاختيار: أن بعض الناس يقعون في نقيض ذلك، فبعض الشباب إذا حدثتهم يقول: أنا لا يهمني الجمال! أنا يهمني أن تكون امرأة متدينة! وأرى أن هذا هو خطأ أيضاً، لأن الإفراط والتفريط في كل أمر مذموم، فهذا الإنسان قد يقول: أنا لا أكترث بالجمال ولا أهتم به فيتزوج فتاة قد تكون متدينة، صينة، خلوقة؛ لكن فيها شيء من الدمامة، فبعدما يتزوجها يعرض عنها، وربما يؤذيها، وربما يطلقها، فيكون سبباً في شقائها أو في تعاستها، لأنه لم ينظر إلى موضوع الجمال نظرةً معتدلة متوازنة، وكان المفروض أن يكون الشاب معتدلاً وموزوناً في هذا الأمر.
فأنا في الحقيقة لا أؤيد الشباب الذين لا ينظرون إلى المرأة إلا بمقياس الجمال، كما أنني لا أؤيد -أيضاً- الذين يقولون: لا يهمني شكل المرأة ولا جسمها، إنما يهمني أن تكون ذات خلق وحسْب.
ينبغي أن تنظر إلى كل صفة من الصفات المطلوبة في المرأة خاصة حين تجد في نفسك تطلعاً، أما بعض الناس فيقول: أنا لا أجد في نفسي دافعاً غريزياً قوياً وتكفيني أي امرأة، فهذا له الحق فيما يقول.(222/27)
الكفاءة
من الأمور التي ينبغي ملاحظتها: موضوع الكفاءة واعتبارها وعدم اعتبارها.
وهذه -أيضاً- يقع فيها الناس طرفين ووسطاً، فكون الفتى أو الفتاة من عائلة معروفة أو من أسرة معروفة أو من قبيلة معروفة أو ليست كذلك؛ هذه من الأمور التي يضطرب فيها الناس، فبعض الناس يقيمون وزناً كبيراً لهذا، حتى ربما عدوه من الدين، ويهتمون به اهتماماً كبيراً حتى رأيت من الناس الذين لا يظن بهم ذلك، ويتوقع أن يكونوا أكبر من هذه الأمور يقيمون لها وزناً كبيراً، ويعتبرون قضية النسب والوجاهة والكفاءة في الزواج وفي غيره، وفي مقابل ذلك تجد أناساً يضربون بها عرض الحائط، ويحطمون بعض الأعراف الموجودة في المجتمع.
وفي الواقع لست أعتقد أن من الدين مراعاة الكفاءة أي: كون هذا قبيلياً وهذا ليس بقبيلي، وهذا من أسرة معروفة وهذا من أسرة غير معروفة، لست أرى أن في النصوص الشرعية ما يؤيد اعتبار ذلك؛ لكنني أرى أن الإنسان العاقل ينبغي له ألا يتصرف تصرفاً قد يضر به في المستقبل.
فمثلاً في المجتمعات التي توجد فيها هذه النعرة لو تزوج إنسان من فتاة لا تناسبه؛ ربما يكون سبباً في مشكلة كبيرة داخل الأسرة، وقطيعة أرحام، ومشاكل طويلة عريضة، بل أحياناً يؤول الأمر إلى طلاق قسري، فيضغط الأقارب على الفتى الذي تزوج من فتاة من غير قبيلته، أو الفتاة حتى يضطر أحد الطرفين التخلي عن الآخر والطلاق، فيكون الزواج حينئذٍ أحدث مشكلات، ولم يصل إلى الغرض المقصود، فلا مانع أن يجد إنسان فتاة تناسبه وهي من نفس الطبقة التي ينتسب إليها إن صح التعبير؛ مع أنني لست ممن يقيمون لهذه الأشياء وزناً، وأنا ممن يرى ضرورة وضع هذه الأشياء في التراب، لأن الإسلام كانت كلمته حاسمة في هذا الأمر قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، عربي أو عجمي، أبيض أو أسود، غني أو فقير، أمير أو مأمور، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فهذه الأشياء لا ينبغي أن ننتبه لها أو نلتفت إليها، وأقول كما قال الأول: خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تطايروا عميا فهذه خيوط العنكبوت لا يتعلق بها أولو العقول والنهى.(222/28)
الخطبة
النقطة الثالثة التي أنتقل إليها: موضوع الخطبة وما يتعلق بها.(222/29)
الشبكة
كذلك أنبه أخيراً على موضوع وجد في السنين الأخيرة، وهو ما يسمونه بالشبكة، وهي هدية من الذهب أو الفساتين أو الحلي أو الأحذية أو غيرها يهديها الرجل إلى المرأة، والمشكلة أنها قبل العقد، فهي أولاً حمل باهظ يضاف إلى تكاليف الزواج التي يتحملها الرجل، كما أنها مع ذلك ليست داخلة في الزواج بل هي قبل الزواج، ولذلك يمكن أن يعرض الرجل ولا يتزوجها، وتكون هذه الشبكة قد ذهبت؛ لأنها هدية لها قبل العقد، فهي ضرر من وجهين، وأنا لا أستطيع أن أقول بتحريمها لأنني لا أدري إن كانت هذه عادة من عادات النصارى أو اليهود أم لا، فإن كانت من عادات اليهود المستوردة منهم فهي حرام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من تشبه بقوم فهو منهم} كما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند جيد عن ابن عمر.
وإن لم تكن من عاداتهم ففيها المضار التي أسلفت ولا أستطيع أن أقول بتحريمها.(222/30)
النظر إلى المخطوبة
كذلك عن النظر إلى المخطوبة وهذا من الأخطاء، فهو أمر أذن به الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم أن رجلاً خطب امرأة من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {انظر إليها} وفي لفظ آخر قال: {فإنه أحرى أن يؤدم بينكما} أي: أقرب إلى الالتئام والوئام والوفاق بين الزوجين، فهذا أمر مشروع.
وأعجب كل العجب أن بعض الآباء يرفضون نظر الخاطب إلى مخطوبته! لكن لا مانع عند الأب أن تخرج ابنته إلى الشارع وعليها غطاء شفاف يكشف عن وجهها، بل يزيده بهاء وحسناً وجمالاً، بل ربما لا يمانع الأب أن تكشف بنته عند الأجانب، أو عند أبناء عمها، أو ما أشبه ذلك! لكن نظر الخاطب حتى يتزوجها لا يرضى بهذا!!.
وبعضهم يقول: لماذا يستعجل فلينتظر حتى يتزوجها؟ لا! نحن نريد أن ينظر قبل أن يتزوجها وقبل أن يتم الزواج.
كثير من الناس ينصرف عن زوجته ليلة الزواج، وهذا أمر يحدث كثيراً في مجتمعنا وفي غيره، تجد الرجل قد لا يطيق البقاء ليلة الزواج، أو يذهب صباحاً ولا يعود.
لماذا؟ الغالب لأنه لم ينظر إليها، ولو نظر إليها لوجد في قلبه اطمئناناً وقبولاً، أو انصرافاً وإعراضاً؛ ففوجئ بالمرأة لما نظر إليها، وأحياناً تكون وصفت له وصفاً غير صحيح.
فبعض النساء خاصة إذا وصفت تبالغ في الوصف، وتجعلها امرأة في الحسن والجمال والخلق والدين فوق ما هي عليه في الواقع.(222/31)
وصف المخطوبة
كذلك أنبه إلى أمر هو: أن بعض الإخوة إذا وصفوا أخواتهم يبالغون، أحياناًَ يكون عن حسن ظن، فقد يكون شاباً طيباً صالحاً ليس قصده أن يروج بأخته أو أن يخدع بها، كلا، لكن هي هكذا في عينه لأنها أخته، وينظر إليها نظرة إعجاب، وبالتالي فإنه يرى أن أخلاقها عالية، وعقلها راجح، وجمالها ظاهر، فيصف الأمر الذي يظنه في أخته، والواقع ليس كذلك.
لهذا أرى أنه لا يكفي الاعتماد على الوصف، ولا أرى -أيضاً- لأحد أن يستخدم الصور الشمسية كما يقع لبعض الشباب، لأسباب منها: أن أصل التصوير هذا ينبغي منعه، وكيف تصور الفتاة، وربما تكون صورتها في يد شباب يتبادلونها ويتناقلونها؟! وقد لا يقبل هذا الشاب وتبقى الصورة في يده، فضلاً عن أنها لا تعطي الواقع، وكيف نستبدل -أيضاً- الذي هو أدنى بالذي هو خير، نستبدل سنة ببدعة! لا، نقول للرجل: تعال وانظر، سواء أمكن أن ينظر بدون علم الفتاة بحيث إذا أعرض عنها لم يكن في نفسها شيء أو انكسار، أو ينظر بعلمها أيضاً، ويكون ذلك بحضور الولي.
وفي مقابل ذلك نجد أن بعض الناس يبالغون في التوسع، فتجلس الفتاة مع الفتى على انفراد، ويطيلون الحديث، وقد يتحدثون في الهاتف أوقاتاً طويلة، وربما تركب معه في السيارة على انفراد إلى غير ذلك، وهذا لا شك أنه محرم ولا يجوز ففي الصحيحين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} وهذا تعتبر أجنبية عنه ما دام لم يتم العقد.(222/32)
التعجل في الموافقة على الزواج
أشير أولاً إلى أن بعض الشباب أو الفتيات يتعجلون في اتخاذ قرار الموافقة على الزواج، وهذا خطأ، فأول ما يجب على الفتاة السؤال عن الزوج، من هو؟ ما هي أخلاقه؟ ما هي صفاته؟ كيف عائلته؟ إلى غير ذلك من الأشياء المطلوبة، ثم بعد ذلك يأتي دور الاستخارة، وفي صحيح البخاري حديث جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، وكان يقول: {إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه) خيراً لي في ديني ودنياي ومعاشي ومعادي وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي ومعادي وعاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به} فينبغي على الإنسان أن يستخير، وهذه الاستخارة يكررها الإنسان حتى يطمئن ويرتاح قلبه، وهي البديل الشرعي عن عادات الجاهلية.
وبعض النساء والعياذ بالله إذا أرادت أن تنظر حظها في الزواج تسلك عادة من عادات الجاهلية، كالخط -مثلاً- أو سؤال الكهان، أو العرافين أو المنجمين أو نحوهم، وفي كل مجتمع توجد عادات معينة جاهلية تحاول المرأة من خلالها أن تعرف أهي موفقة في هذا الزواج أم غير موفقة، وهذا الزوج أصلح لها أم لا يصلح، وهذا خطر عظيم، وفتنة نسأل الله أن يقي المسلمين شرها، وهي أيضاً من باب استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكيف يترك الإنسان الاستخارة الشرعية وسؤال رب العالمين إلى مثل هذه العادات التي لا تقدم ولا تؤخر؟!(222/33)
دبلة الخطوبة
كذلك موضوع ما يسمى بدبلة الخطوبة، وهذه من البدع النصرانية التي انتشرت عند المسلمين، فالنصارى كان عندهم عادة أنه إذا خطب رجل من فتاة فإنه يأتي بالدبلة أو بخاتم فيضعه أولاً على إبهامها ثم يقول: باسم الأب.
لأن النصارى كما تعلمون يؤمنون بثلاثة آلهة: الأب والابن وروح القدس.
وقد ذكرت هذه القصة مجلة المرأة، وهي مجلة إنجليزية تصدر في لندن، ذكرت أن هذه العادة النصرانية أنه يأتي الرجل فيضع الدبلة على إبهام الفتاة ويقول: باسم الأب، ثم يحملها ويضعها على الإصبع السبابة ويقول: باسم الابن، ثم يأخذها ويضعها على الإصبع الوسطى ويقول: باسم روح القدس، ثم يضعها في البنصر حيث تستقر، فيضعون الدبلة في بنصر اليد اليمنى قبل الزواج، وبعد الزواج ينقلونها إلى اليد اليسرى.
فهذه عادة نصرانية كما ذكرت لكم.
أما بالنسبة للمرأة فهي لا تجوز لأنها عادة نصرانية مستوردة، وهي مرتبطة بتقليد نصراني، وهم أيضاً يقولون: إن هذا الإصبع فيه عرق يتصل بالقلب مباشرة فيعتقدون أن وجود الدبلة في هذا الإصبع سبباً في التوفيق والسعادة والمحبة بين الزوجين، وهذه عادة من عادات الكفار لا أصل لها في الدين ويحرم استخدامها.
أما بالنسبة للرجل فإنها أيضاً محرمة لهذا السبب نفسه، وخاصة حين تكون من الذهب، وقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم تختم الرجال بالذهب، ومن ذلك حديث البراء بن عازب كما في الصحيحين: {نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع ومنها التختم بالذهب} وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في إصبعه خاتم من ذهب فأخذه ونزعه وألقى به صلى الله عليه وسلم وقال: {يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده} فقال الناس لهذا الرجل: خذ خاتمك فانتفع به.
قال: والله لا آخذه وقد ألقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإلى هذا الحد كانت شفافيتهم وحساسيتهم ودقتهم في تنفيذ أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه من الأشياء التي ينبغي التنبيه عليها.(222/34)
الدخول وما يتعلق به
أنتقل إلى الموضوع الرابع وهو: موضوع الدخول وما يتعلق به:(222/35)
السهر الطويل
ربما بعض حفلات الزواج لا تنتهي إلا في الساعة الثالثة ليلاً أو الثانية، وهذا إضافة إلى ما فيه من الخطأ والضرر والتأخر عن النوم، وما يترتب عليه من ترك صلاة الفجر.
أيضاً فهو مخالف للنظام، فهناك أنظمة رسمية صادرة من الجهات الحكومية بمنع تأخير الحفل إلى ما بعد الثانية عشرة، فيجب الانتفاع بهذا التعميم ومحاولة فرضه على الناس، ومنعهم من المبالغة في السهر لما يترتب عليه من الآثار والأضرار.(222/36)
تطيب النساء
إن تطيب النساء وزينتهن الظاهرة عند الخروج إلى حفل الزواج، هو أيضاً من المحرمات، ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على رجال ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا قال: زانية} ولا شك أنه ليس المقصود بالزنا الفاحشة؛ لكن الزنا مراحل، فالعين تزني، والأذن تزني، والفم يزني، واليد تزني، والقدم تزني، ومن الزنا أن المرأة تعرض نفسها للفتنة بتزينها وتجملها وتطيبها وهي تخرج وتعلم أنها ستمر على رجال، وسيجدون ريحها وينظرون إليها.
وأريد أن أشير إلى ظاهرة جيدة -أيضاً- وهي أن كثيراً من حفلات الزواج في الأيام الأخيرة أصبح يوزع فيها بعض الأشياء المفيدة على النساء، فينبغي الانتفاع والاستفادة من وجود هذا العدد الكبير من النساء في حفل الزواج، فتوزع أحياناً بعض النشرات والكتب المفيدة المختصرة وبعض الأشرطة النافعة، وهذا كله جيد وحسن، وينبغي على المحسنين والقادرين أن يسعوا إلى توسيع دائرته والإكثار منه.
حين أقول: إنه ينبغي الانتفاع من دور هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المحافظة على الاحتفالات، ومنع ارتكاب ما حرم الله، أو الجهات الأخرى التي يمكن أن تساهم في ذلك، فإن هذا هو الحل الوقائي الأخير، وإلا فهذه مسئوليتنا نحن، ومسئولية القائمين على الزواج، لماذا يجعلون الأمر في يد النساء؟ أحياناً الرجل له قيمته وله احترامه وله شخصيته؛ لكنه أمام النساء ضعيف.
يذكرني بذلك الرجل الذي ورد في صحيح البخاري في حديث أم زرع في حديث عائشة رضي الله عنها أن إحدى عشرة امرأة في الجاهلية اجتمعن فتعاهدن وتعاقدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فقالت الأولى، وقالت الثانية، إلى آخر القصة الطريفة العجيبة؛ لكن المهم أن إحداهن تقول: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد، إذا دخل فهو حمل وديع ضعيف أمام زوجته، وإن خرج فهو مستأسد على الناس قوي الشخصية عليهم.
بعض الناس -بل أكثر الرجال- شخصية أمام الناس؛ لكن أمام النساء إرادته ضعيفة فيغلبنه.
فكثير من الأمور هي بسبب أن النساء هن اللاتي يتحكمن في هذا الأمر، ويتخذن القرار الأخير في ذلك، وهذا غلط، فينبغي على المسئولين عن الأعراس أن يمنعوا الوقوع في هذه الانحرافات من تأخير السهر، ومن ارتفاع الأصوات ومن الغناء المحرم، ومن التصوير، ومن الاختلاط، إلى غير ذلك.(222/37)
الوعظ وما يتعلق به
من ذلك أن بعض الإخوة في مناسبة الوليمة يقومون بموضوع الوعظ، والوعظ أو المحاضرات في موضوع الولائم تحتاج إلى حديث، فهناك عدة طرق، فبعض النساء -مثلاً- أو الرجال يضعون برنامجاً: كلمة ثم أنشودة ثم قصيدة ترحيبية ثم يتركون الجميع يتحدثون.
وفي رأيي الخاص أن هذا لا بأس به، لأنه ليس ثقيلاً ولا مكلفاً، ومفيداً ونافعاً في نفسه.
كذلك بعض المحتسبين ومحبي الخير وطلاب العلم قد يتحدث في حفل الزواج عشر دقائق أو ربع ساعة وينبه على بعض ما يقع في الأعراس، فيكون هذا من باب إنكار المنكر أو تنبيه النساء بمناسبة اجتماعهن، وفي رأيي أيضاً أن هذا أمر حسن.
أما الأمر الذي أرى أنه ينبغي تجنبه فهو أن بعض الناس يستغلون الحديث من يوم أن جلس إلى أن يقوم الناس للعشاء وهو يتحدث، ربما يجلس نصف ساعة أو أكثر من ذلك، وهذا فيه إثقال؛ لأن الناس لم ير بعضهم بعضاً منذ وقت طويل، ويريدون أن يتحدثوا مع بعضهم، ويأخذون أطراف الحديث، وليس من المعقول أن آخذ الحديث عنهم وأضطرهم إلى السماع أو أن يتكلموا وينصرفوا عني.
كلا الأمرين ليس بحسن، فإن حصل -أحياناً- أن يتكلم الإنسان وقتاً قليلاً فلا بأس، أو يترك الأمر دون كلام ولا حاجة إلى الكلام، والكلام له مناسبات أخرى كالخطب والمحاضرات وغيرها.
فأرى أن الإطالة في هذا الأمر ليس بجيد.
وبعض الناس يحتج بأن يقول: هذا من أجل منعهم من الغيبة والنميمة، وهذا في الحقيقة وسيلة إلى أمر مشروع؛ لكن بطريقة غير سليمة، لأنه من قال لك أن هؤلاء كلهم سوف يشتغلون بغيبة ونميمة وما أشبه ذلك.
وأشيد بظاهرة عند الفتيات -كما ذكرت قبل قليل- وهي الاستفادة من الحفل بتوجيه وبإرشاد وبأشياء مفيدة لا تطول ولا تثقل على الحاضرات.(222/38)
استقدام الفنانين والفنانات
بعضهم والعياذ بالله يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيستقدم الفنانين والفنانات، وربما تسمع -أحياناً- صوت الأغاني على مسافة بعيدة، وأصوات النساء تسمع، يسمعها الحضور ويسمعها من بالحي، وتنثر الدراهم عليهم، وربما يتنازعون على مبلغ من المال فيمزقونه ويقع من جراء ذلك من كفران نعم الله الشيء الكبير.
وكل هذه الأشياء يقع فيها الإسراف، ويقع فيها المبالغة، ولا بأس بضرب الدف في العرس فهذا ثابت، والمقصود بالدف هو الذي يضرب من جهة واحدة، أي: يمكن الضرب عليه من جهة واحدة، أما الجهة الأخرى فلا يمكن الضرب عليها، وهو أخف صوتاً من الطبل، وأقل غناءً وأقل إثارةً وأقل إزعاجاً منه، فهذا لا بأس به، ورخص فيه في الفرح كالعرس ونحوه، ولا بأس أن تقول النساء والأطفال كلاماً طيباً حسناً، لكن سماع الرجال لأصوات النساء -خاصة وهن يغنين- لا يجوز بحال من الأحوال، وارتفاع صوت الطبول أيضاً لا يجوز، وهذا من المنكرات التي شاعت وذاعت، بل بعضهم يجعلون شريط غناء في مكبر صوت، وأذكر أنني كنت في إحدى المدن كنت أسمع صوت الحفل وأنا على مسافة كيلو مترات، لكن بعض الجهات لها دور طيب في هذا، فهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشكر على هذا الأمر حيث إنها تقوم -أحياناً- بحضور هذه المناسبات والحفلات وتنظيمها ومنع المنكرات، ومن ذلك منع ارتفاع الأصوات فجزاهم الله خيراً، ويجب الشد على أعضادهم ومساعدتهم والثناء على هذا العمل والمجهود القيم الذي يقومون به.
كذلك بعض الجهات في بعض المناطق لها دور طيب، أذكر أننا لما سمعنا الصوت -الذي أشرت إليكم- اتصل صاحبي على النجدة فأبدوا استعدادهم وقالوا: إن عندنا أوامر بذلك؛ وأتوا في الحال وأسكتوا فعلاً الصوت، فما مضى غير ربع ساعة حتى لم نسمعه، وهذا أشياء طيبة ينبغي الانتفاع منها خاصة إذا كان هناك تجاوب من المسئولين عن هذه الأشياء.(222/39)
الاختلاط والسفور
من ذلك أيضاً ما يتعلق بموضوع الوليمة والحفل: حصول الاختلاط والسفور بين الرجال والنساء، ويترتب على ذلك حصول التصوير -أحياناً- فالرجال قد يدخلون على النساء لغرض أو لغير غرض، والنساء سافرات، وقد يتم -أحياناً- دخول الرجل على المرأة على منصة بمرأى من النساء وهو يتوسطهن، ويمشي من بينهن، وكلهن سافرات، وربما حاسرات عن رءوسهن أيضاً، فكل هذه أشياء منكرة محرمة ولا شك فيها، وينبغي تجنبها وإنكارها على من فعلها، ومن حضر هذه الأعراس من الرجال والنساء فعليه أن لا يقف مكتوف الأيدي، بل أن يقوم بما أوجب الله عليه من الإنكار.(222/40)
التصوير
ومن ذلك أيضاً موضوع التصوير -كما أشرت لكم- وبعض الفتيات تصور الحفل بكامله، وبعد فترة غير طويلة تجد أن صور الحاضرات وهن من النساء، زوجة فلان وزوجة فلان معروفات تجدها تعرض على شاشة الفيديو أمام الفساق والسفهاء فيقولون: زوجة فلان جميلة، وزوجة فلان ذميمة وقبيحة، ويتمنون هذه ويتأففون من هذه.
وأعرف أنه حصلت حالات طلاق بسبب ذلك، فزوج -مثلاً- لما جاء إلى أصحابه ووجدهم يعرضون شريط فيديو ورأى زوجته، فوجدهم يشيرون إليها ويتمنونها وهم لا يدرون أنها زوجته فطلقها.
وآخر وجدهم ينظرون إلى زوجته ويتأففون منها وأن فيها وفيها فأصابه سوء نظر إليها؛ وكرهها وطلقها أيضاً.
وهذه من العقوبات المعجلة لأصحاب المعاصي، فكيف ترضى أن تبعث بزوجتك إلى عرس لا تدري ما يحدث فيه؟ ثم كيف ترضى هذه الزوجة أن يحدث التصوير بالفيديو أيضاً وهي كاشفة عن وجهها وشعرها وذراعيها وغير ذلك؟ خاصة وأن كثيراً من النساء تأتي إلى الزواج بملابس مكشوفة، بعضهن ثوبها إلى الكتف أي: العضد والذراع كلها مكشوفة، وكذلك قصير وضيق، إلى غير ذلك من ألوان التزين التي تظهر في هذه الصور، مع ما في التصوير أصلاً من الكلام المعروف.(222/41)
الوليمة (حفلة الزواج)
أنتقل إلى نقطة ثالثة -بعدما ذكرت زينة الرجل وزينة المرأة- وهي ما يتعلق بالوليمة وحفلة الزواج، وهذه فيها أشياء كثيرة تحتاج إلى تنبيه، ويكفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله} .
وفي موضوع الوليمة نلاحظ أموراً منها: أولاً: توسيع نطاق الدعوة عن طريق البطاقات، فيطبع بعض الإخوة أكواماً من البطاقات ويرسل إلى من يعرف وإلى من لا يعرف من الأقارب وغير الأقارب، والناس مشغولون بأعمالهم وارتباطاتهم وبيوتهم ووظائفهم، فليسوا فارغين فقط لتشريف زواج فلان وزواج فلانة، فيوقعون الناس في حرج شديد.
فإذا جاءتني بطاقة زواج لا شك أنني أتحرج، لأنني إن أجبت ضاع وقتي، وربما يكون طول السنة دعوات، وإن لم تلبي وأنت لست منشغلاً فتكون قد خالفت أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصيت أمر الله ورسوله، فالرفق الرفق أيها الأحباب بمن تحبون، لا ترسل بطاقة الزواج إلا لمن تريد أن يحضر -فعلاً- ومن تعلم أن ظروفه تناسب، أو على الأقل اجعل فيها فسحة أن له الحق ألا يحضر حتى لا توقعه في الحرج الشرعي.
ثانياً: الإسراف في الطعام والمبالغة والتبذير في ذلك وعلى قلة من يأتي، وبعدما ينتهي المدعوون يؤخذ هذا الطعام وقد يلقى -أحياناً- في القمامات والعياذ بالله.
وأود أن أشير إلى أن هناك جمعيات كجمعية البر الخيرية في هذا البلد، وفي بلاد أخرى تستقبل فائض الأطعمة وتقوم بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين في الحال، وتستفيد منه بصورة طيبة، وما عليك إلا أن تتصل بهم حتى تحسن إلى نفسك وإلى غيرك وتتقي غضب الله تعالى ونقمته بكفران النعم.(222/42)
زينة الرجل
الزوج يتزين أحياناً بأشياء محرمة، منها: أن بعض الناس يتزين بحلق لحيته أو قصها أو صبغها، وهذه الأشياء كلها محرمة ولا تجوز كما في الصحيحين عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما، فلا يجوز للرجل أن يحلق لحيته لا من أجل التزين للزواج ولا لغيره، بل إن حلق اللحية ليس زينة ولا جمالاً، بل إن جمال الرجل في شعره، فالرجل جماله بخشونته وليس بنعومته وليونته فإن هذا جمال المرأة.
كما أن من الأخطاء أن بعضهم يتزين بإسبال ثوبه، فتجد الزوج ليلة الزواج قد لبس ثوباً تحت الكعبين، وكذلك لبس بشتاً مثله، ولا شك أن الإسبال محرم وفي الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} وهذا صريح بتحريم إسبال الثياب، فإن كان مع ذلك مخيلة فهو أعظم إثماً كما في الحديث: {ومن جر ثوبه خيلاء فإن الله تعالى لا ينظر إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم} .
ومن الأخطاء أن بعضهم يلبس الثياب الشفافة ويلبس السراويل القصيرة -أيضاً- فيظهر بذلك بعض ما وجب عليه ستره.(222/43)
زينة المرأة
أما بالنسبة للمرأة فحدث ولا حرج، فأصبحت المرأة اليوم وخاصة في أيام الزواج، وبصفة عامة في جميع حياتها أصبح الهم الأول عندها هو موضوع الجمال، وكيف تصبغ الشفتين، والخدود، والعينين، والشعر، وما صفة الثوب، وما صفة القميص، وما صفة الحذاء!! وأصبحت هذه قضية كبرى، حتى إن بعضهم يقول: لو نظرت وزن المرأة بعدما تتجمل، لو وزنت هذه الأصباغ والملابس والأحذية والزينات لوجدت أنها ربما تزيد عن وزن المرأة بذاتها؛ فأصبحت المرأة تحمل حملاً ثقيلاً من هذه الزينات، وليست المشكلة في الحمل؛ فهذا ما تحملته بنفسها بل إن المصيبة الكبرى في الوقت الذي تضيعه، المصيبة أن الهم الأكبر الذي أصبح هو هذا دون غيره.
من ذلك الوشم: وهو أن بعض النساء في بعض المجتمعات لا في كلها تستخدم الوخز بالإبر ونحوها في مواضع من جسمها ويعتبرون هذا نوع من الزينة.
ومن ذلك الوشر: وهو فلج الأسنان وتحديدها وتحسينها.
ومنها النمص: وهو إزالة شعر الحاجبين أو تحديده، بعض النساء تزيل أعلى الحاجب وأسفل الحاجب بحيث يكون خيطاً رقيقاً، أو تزيله وتضع خطاً بالقلم بدله وتحدده من الأمام ومن الخلف ومن الأعلى ومن الأسفل ومن الجوانب، وهذا كله من النمص الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ولعن فاعله.
ومن ذلك الوصل: فكثير من النساء تصل شعرها إما كلياً أو جزئياً، أو تضع شعراً مستعاراً وهو ما يسمى بالباروكة، وهذه الأشياء كلها محرمة، بل لعن الرسول صلى الله عليه وسلم فاعلها كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: {وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله} وكذلك حديث معاوية وهو في الصحيحين أنه أخذ قبة من شعر كانت في يد حرسي وقال: {يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ إنما هلك بنو إسرائيل عندما اتخذت نساؤهم مثل هذا} يعني وصل الشعر، وهذا دليل على أن هذه الأشياء مستوردة من اليهود، فوصل الشعر عادة يهودية، وما زال اليهود حتى اليوم هم الذين يقفون وراء إغراء البشرية بالزينة والمظاهر الكاذبة والخداع والتغرير والتضليل.
كما أن من العادات الممنوعة فيما يتعلق بزينة المرأة: أن بعض النساء تبالغ في قص شعرها أو حلقه، وهل سمعتم بامرأة تحلق شعر رأسها؟ إنما هو انتكاس الفطرة، أصبح الشاب يطيل شعر رأسه -طبعاً هذا لا بأس به إن لم يكن تقليداً فالأصل أنه مباح- لكن في مقابل ذلك أصبحت الفتاة تحلق شعر رأسها أحياناً، وربما تبالغ في قصه وإنهاكه حتى إن عندهن -هداهن الله- قصة يسمينها قصة ولادية أو قصة ولد، فتقص المرأة شعرها حتى إنها لا تبقي منه إلا جزءً يسيراً كأنه شعر فتى؛ والمهم أن نقلد الأجانب، لماذا؟ لأن هناك مغنية أو ممثلة ظهرت على الشاشة بهذه القصة، ولا تعجبوا والله لو سمع بعضكم ببعض ما يجري في كلياتنا ومدارسنا لوجد من ذلك أمراً جللاً، حتى إن بعض الفتيات تقول: والله إنني أعيش في غربة في وسط هذه المجتمعات.
مسألة صبغ الشعر: أصبح شعر الفتاة كأنه سبورة ملونة، هذا أحمر وهذا أصفر وهذا أزرق وهذا أبيض وهذا أخضر وهذا أشهب، وشتى الألوان، وتنفش شعرها، فلو كان شعرها ناعماً تنفشه حتى كأنها جان، وأحياناً تغطي بشعرها عينيها، فتدور شعرها كأنه أسياط على جبهتها وعلى عينيها حتى لا تكاد ترى طريقها، وقد لا تكون هي مقتنعة بهذا؛ لكن هذه الموضة وهذه التسريحة فلابد أن تماشيها، لماذا؟ لأنها فقدت شخصيتها، وفقدت اعتزازها بدينها وأخلاقها وما ورثته عن آبائها وأجدادها، فأصبحت تتطفل على موائد الغربيين، وما أتوا به أخذته بعض فتياتنا -مع الأسف- وطبقته كما في الحديث: {حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} هل رأينا أضيق من جحر الضب؟! لا أضيق منه، بعض الناس يحاول أن يدخل رأسه في جحر الضب، هذا والله مصداق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قرأت قبل فترة في بعض المجلات أن هناك موضة جديدة هي أن بعض الفتيات تمشي بثوب ليس له إلا كم واحد، والكم الآخر مفقود، نعلم أنه منظر مزري، فالفتاة تقول: إن الناس يضحكون مني، لماذا يضحكون مني؟! وواحدة تقول لي: ما شاء الله! هل انتهت الخرقة حتى لم تضعي إلا كماً واحداً؟! وينظرون لي نظرة ازدراء، هذه حرية شخصية وأنا أريد أن أفعلها.
إذاً: هي تتحدى المجتمع في سبيل أمر لا يقبله عقل ولا ذوق ولا دين، إنما المهم أنها عادة جاءت عن طريق اليهود والنصارى فأصبحت بعض الممسوخات تقلدها بصورة غريبة ومريبة.
مثل ذلك: قضية إطالة الأظافر والعياذ بالله قذارة وتشبه بالسباع وبالشياطين وبالكفار، فتجد أن المرأة -أحياناً- تطيل أظافرها، أو تطيل أظافر أحد أصابعها، ومثل ذلك وضع ما يسمونه بالمناكير، والمبالغة في وضع المساحيق على الوجه وهذه لها آثار ضارة على بشرة الوجه، وتُسارِع في تجعد الوجه، وإسراع الهرم والشيخوخة إليه، كما أن وضع المناكير يحول دون وصول الماء إلى البشرة، وإذا كان ذلك كذلك فإنه لا يجوز للمرأة أن تصلي وهو عليها، بل لابد أن تزيله عند الوضوء.
كذلك الملابس المشابهة للكفار: كثير من الفتيات -خاصة أيام الزواج- يلبسن ملابس مشابهة لملابس الكفار، بعض الفتيات تلبس ثوباً طويلاً جداً يسحب خلفها أمتاراً، حتى إنه يقوم مجموعة من الصغار يحملونه وراءها ويمشون خلفها أشبه ما يكونون بالوصفاء أو الخدم لها!! ومن الطريف قصة عجيبة -سبحان الله- وقعت في بلادنا هي أن إحدى العرائس كانت بهذا الثوب، وقد ظهرت بأبهى زينة، ولبست من الثياب، ووضعت من المساحيق والأصباغ والحلي وغيرها، ولعبت بشعرها، ولبست ثوباً فضاضاً طويلاً، ولبست كعباً -كما يسمى الكعب العالي- ومشت فكان الأطفال يلعبون في الغرفة ومعهم علب (البيبسي) فأحدهم حرك العلبة بسرعة ثم فتحها من غير قصد فتطاير منها (البيبسي) إلى من حوله وأصاب هذه الفتاة فخرب الزينة التي كانت قد رسمتها في وجهها ونزل على ثيابها وعلى بدنها وحطم ما بنته، فما كان منها إلا أن أخذت كعبها العالي وضربت هذا الصبي بشدة في رأسه فخر صريعاً ومات في الحال! وأصبحت هذه الفتاة رهينة لتقتل بهذا الفتى الذي قتلته، وهكذا تحول العرس إلى مأتم، وهذا عقوبة عاجلة من الله سبحانه وتعالى لكل من يتعدى حدوده.(222/44)
العقد والدخول
أنتقل بعد ذلك إلى النقطة الخامسة وهي: موضوع العقد:(222/45)
شهر العسل
بعد الزواج تأتي مشكلات أخرى، مشكلة شهر العسل -كما يقولون- وهذه أيضاً سمعت في بعض المقالات أنها عادة أجنبية، يقولون: إن الرجل كان يخطف الفتاة خطفاً في الماضي في بعض المجتمعات الكافرة، كان يختطفها بالقوة، ويغتصبها اغتصاباً، ويذهب بها إلى الغابة ويجلس معها هناك شهراً يرتكب معها ما حرم الله، ولأنه ليس لديه طعام ولا أي شيء كان يحتاجون إلى أن يستفيدوا من العسل، فيعتمدون في أكلهم على العسل، فكانوا يسمون هذا شهر العسل، فإن صح هذا فهذا دليل على أن هذه التسمية تسمية أجنبية يجب عدم إطلاقها.
إضافة إلى أن بعضهم سواءً سموه شهر العسل أم لم يسموه؛ يسافرون إلى الخارج إلى بلاد الكفر، ويفتتحون حياتهم الزوجية، والبيت الذي يريدون أن يؤسسوه، والعش الذي يريدون أن يبنوه بالسفر إلى أوروبا، أو أمريكا، أو إلى بعض البلاد التي أشبهت أوروبا وأمريكا لينظروا إلى الفواحش والموبقات والسفور والتعري والفجور هناك، ويستفتحوا حياتهم بهذه الخطوة المنكرة، فهذا يقابله أن بعض الصالحين يستفيدون ما قد يكون من إجازة أو غير ذلك بالسفر إلى مكة لأداء العمرة، وهذا أمر حسن وجيد، ونسأل الله لهم التوفيق.(222/46)
صلاة الفجر للزوج
إضافة إلى أن من أكثر الأخطاء التي تقع أن الزوج يشيع بعض الناس أنه ليس عليه صلاة الفجر مع الجماعة ليلة زواجه، ولا أدري ما هو النص الشرعي الذي عثر الناس عليه، واعتمدوا في هذه الفتوى الظالمة الجائرة الخاطئة، فبعض المتزوجين لا يصلي الفجر مع الجماعة ليلة الزواج لأي سبب، بل إن بعضهم والعياذ بالله لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس فيخرجها عن وقتها، وهذه من الكبائر أن يخرج الرجل الصلاة عن وقتها لغير عذر، أو لأنه سهر، فصلاة الفجر واجبة على الزوج وغير الزوج، ليلة الزواج وغيرها، ومع الجماعة وفي وقتها، وينبغي علينا أن نشيع هذا الأمر عند الناس ونخبرهم به، فقد بلغني أن كثيراً من الأسر والعوائل يظنون هذا الأمر ورد فيه ترخيص للزوج أنه لا يصلي الفجر مع الجماعة.(222/47)
العقد على المرأة الحائض
وبعض الناس يظنون أن العقد لا يجوز أن يتم والمرأة حائض، وهذا لا أعلم له أصلاً في الشرع، ولا دليلاً يدل عليه، بل يجوز للرجل أن يعقد على زوجته وهي حائض، ويجوز أن يدخل عليها وهي حائض أيضاً، الذي لا يجوز هو الجماع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {اصنعوا كل شيء إلا النكاح} فله أن يعقد عليها، وله أن يدخل عليها، وله أن يستمتع بها دون أن يجامعها، فالمحرم أثناء الحيض هو الجماع.(222/48)
دخول الرجل على زوجته بحضرة النساء بعد العقد
في موضوع الدخول هناك ما يسمى بالنصة، أو كذلك التشريعة: وهي دخول الرجل على زوجته بحضرة النساء؛ وهذا لا يجوز، وأحياناً في بعض المجتمعات توجد عادة سيئة أنه يجلس عند الفتاة المزوجة قريباتها كاشفات الوجوه، ويدخل الزوج وهن جالسات عندها، إما لأن هذه عادة أو طمعاً في أن يعطيهن ويجود عليهن ببعض المال ويراهن، ويعتقدون أن الرجل لأنه مشغول بزوجته وانتظارها لا يلتفت إلى غيرهاِ، وهذا لا شك أنه محرم، فما كان محرم في حال؛ فهو محرماً في كل حال إلا ما دل الدليل عليه.(222/49)
حركات مريبة يفعلها أصدقاء الزوج
كذلك بعض الناس يفعلون مع الزوج ما لا يليق، وهذا موجود -مع الأسف- في كثير من المجتمعات، فتجد أن أصدقاء الزوج يعملون معه حركات غريبة مريبة منكرة، تعتبر من مقدمات الفاحشة وأسبابها، وإن كانوا يعتبرون هذا أمراً عادياً مألوفاً؛ لكنه محرم ولا يجوز مهما كانت نية الإنسان وقصده، ومهما كان هذا الأمر عادة.(222/50)
الخلوة بعد العقد
ليس فيما يتعلق بالعقد شيء إلا أنه ينبغي أن يعرف أن العقد هو النكاح الشرعي، فإذا تم العقد أصبحت هذه المرأة زوجة لفلان يستطيع أن يخلو بها وأن يسافر بها، وأن يعاشرها معاشرة الزوج لزوجته، والعقد هو النكاح الشرعي، فإذا تم العقد تم الزواج، أما قبل العقد -ولو وجدت خطبة وموافقة ودفع، وحتى اتفاق على موعد- فما زالت المرأة أجنبية، ويجب أن يعاملها كما يعامل المرأة الأجنبية.(222/51)
الطلاق
أنتهي إلى النقطة الأخيرة، بعدما تم الزواج، الآن جاء دور الطلاق: نسأل الله تعالى ألا يكون زواج الناس وهذه الأعراس ألا تكون نهايتها كنهاية قصة البرامكة مع بني العباس، فالنهاية هي الطلاق، نهاية بعض الزيجات خاصة الزيجات التي يرتكب فيها ما حرم الله، وأريد أن أشير باختصار إلى بعض الأشياء التي تتعلق بالطلاق من أخطاء أو ملاحظات معينة.(222/52)
أسباب كثرة الطلاق
كذلك هناك موضوع: كثرة الطلاق؛ وهي مشكلة، ولا شك أن نسبة الطلاق في مجتمعاتنا قليلة بالقياس إلى المجتمعات الأخرى، لكنها أصبحت ترتفع الآن، وفي نظري أن أهم أسباب كثرة الطلاق ما يلي: أولاً: التعجل بالاختيار؛ فيفاجأ الرجل أو تفاجأ المرأة بأن الموافقة على الزواج كانت غير مناسبة، والحل هو ألا يتعجل الإنسان في القبول إلا بعد السؤال والاستشارة والاستخارة والنظر.
ثانياً: عدم التوافق بين الزوجين؛ وهذا أمر طبيعي جبلي لابد أن يقع، فقد ينظر الإنسان ويسأل ويتحرى؛ لكن بعد ذلك إذا وجد المرأة واقترب منها واقتربت منه لم يكتب الله تعالى المحبة والوداد والوئام بينهما فتكون النهاية هي الطلاق.
ثالثاً: المعصية من الرجل أو المرأة؛ فإن المعصية سبب لوحشة القلب والنفور، فإن كان الرجل صالحاً، والمرأة ليست كذلك استوحش منها لما عندها من المعصية، والعكس بالعكس.
رابعاً: التكاليف الباهظة التي يدفعها الزوج؛ كما ورد في سنن أبي داود وغيره عن عمر حين قال: [[لا تغالوا في صُدق النساء]] وقال: [[إن الرجل يقول لزوجته حتى كلفت لك علق القربة]] يعني أنني كلفت لك كل شيء، واشتريت لك كل شيء، فالمبالغة في تكاليف الزواج والإكثار منها تكون -أحياناً- سبباً في وقوع الطلاق.
وعكس ذلك -أيضاً-: كون الزواج يحصل للشاب دون أي تكلفة قد يكون سبباً أحياناً، فإذا كان الشاب -خاصة صغير السن- ودفع له جميع التكاليف فإن هذا أحياناً قد يقول بعضهم: إنه هو أيضاً سبب للطلاق.
أقول: قد يحدث هذا وإن كان قليلاً، ودائماً العدل هو الوسط، فإن الإنسان الذي بذل مبلغاً معتدلاً وتعب في أمر الزواج تعباً معتدلاً، يهتم بالمرأة لأنه يدرك أنه تعب في تحصيلها، ولا يفرط أو يتهاون فيها، أو يقول: يمكن أن أجد غيرها بكل سهولة، أو يعيبها وينتظر منها كل شيء، فإذا قصرت في أمر قال لها: كيف تقصرين وقد دفعت لك مبلغ كذا؟ كيف تقصرين وقد تحملت الديون من أجلك؟ إلى غير ذلك، فالوسط دائماً هو العدل الذي يحبه الله تعالى.
خامساً: تطلُّع كل من الزوجين إلى غير صاحبه؛ ومن أسباب ذلك المعصية -كما أسلفت- فالرجل الذي ينظر إلى وجوه النساء سواءً في الأسواق والشوارع، أم في المجلات والكتب، أم في الشاشة عبر المسلسلات والأفلام وغيرها، لا شك أنه سيجد من هي أجمل من زوجته؛ فتهون في عينه، ويطمح بصره إلى غيرها، وهذه عقوبة عاجلة على معصيته التي ارتكبها، وإلا فهو قد يعزف عن زوجته ولا يجد مثلها.
وأذكر أنني قرأت في أحد الكتب قصة يذكرها رجل عن نفسه يقول: إنه كانت عنده امرأة صالحة، يحبها وتحبه، وبيتهم من أحسن ما يكون، ولهم أطفال يعيشون في سعادة وراحة، فبلي هذا الرجل بقرناء السوء، وصاروا يحثونه على مشاهدة الأفلام الهابطة المحرمة، فصار يشاهد في الفيلم الممثلة ذاهبة وآيبة ومقبلة ومدبرة، وقد تجملت على أنهم يختارون النساء الجميلات عادةً؛ فعزف عن زوجته وصار يتابع هذه الأشياء، وطلقها في الأخير، وبعدما تهدم البيت بعد سنتين أفاق هذا الشاب فوجد أنه لم يكسب شيئاً، خسر زوجته وفي الوقت نفسه لم يجد غيرها، هذه الجميلة التي كانت هي السبب في طلاقه لزوجته لم يحصل عليها لا في اليقظة ولا في المنام، فأفاق من غيبوبته وغفلته، وتاب إلى الله تبارك وتعالى، وأعاد زوجته إلى عصمته، وأحبها أشد من الحب الأول، وكتب تلك القصة يقول: أريد أن يعتبر بها غيري ممن يمكن أن يقعوا في الخطأ الذي وقعت فيه.
كذلك المرأة قد تنظر إلى غير زوجها فتطمح عن زوجها وتعرض عنه، ولا ترى فيه ما يعجبها.
سادساً: تدَّخل أهل الزوجين؛ أحياناً أهل الزوجة يتدخلون، خاصة الأم قد تتدخل في خصائص بنتها، وتسألها عن الدقائق والجلائل من الأمور، وتعطيها التوجيهات الصائبة والخاطئة: اعملي معه كذا، وقولي له كذا، وافعلي واتركي حتى تنغص حياة الزوجة مع زوجها.
وأحياناً أم الزوج -أيضاً- تفعل مثل ذلك خاصة إذا كان الولد في بيت أهله، فإن الأم أحياناً تحس بأن هذه الزوجة قد خطفت ابنها منها، وأن الابن لم يعد يهتم بها، وتعبر عنها بأنها بنت الناس، فتجد أن الأم كثيراً ما تعاتب الابن وتلومه وتذمه، ثم يتحول ذلك إلى بغض للزوجة وعداء لها، وقد تظلمها والعياذ بالله وقد تسيء إليها، وقد تضغط على الابن ليطلقها! مع أنه لم يقع من المرأة سوء ولا معصية ولا إثم ولا تقصير فقط؛ لأن الزوج يحبها، والأم شعرت بأنه يحبها؛ فلا تريد أحداً أن ينافسها على قلب ابنها.
سابعاً: طبيعة الزوجين؛ فقد يكون الزوج عصبياً لا يتحمل أو الزوجة كذلك، أو حساساً ينفعل لأدنى شيء فتكون هناك أحداث، والحياة لابد لها من مشكلات، والذي يتصور أنه سيبني حياة سعيدة (100%) سالمة من المشاكل، فهو يتصور أوهاماً وخيالات محضة لا توجد في الدنيا، إنما توجد في الجنة، هذا ينتظر الحور العين إن كان من الصالحين، وأما في الدنيا فلا يجد ذلك.
وتعجبني كلمة قالها لي أحد الشباب يقول: كان والدي يقول لي: كل رجل له زوجتان، إحداهما: زوجته الحقيقية التي في بيته، والثانية: في ذهنه يتخيلها ويتوهمها، فهو يتصور زوجة صفاتها من ناحية الجمال والجسم والأخلاق والدين والفضائل على الكمال والتمام؛ لكن هذا لا يتسنى في الواقع، وكذلك النساء.
فعلى الإنسان أن يتواضع ويعرف أن هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن تخلو من تنغيص وتكدير ومشاكل وأخطاء تحتاج إلى تحمل.
وكما أنك تخطئ فتحتاج إلى أن تتحمل منك زوجتك، ويتحمل منك غيرك من الناس، كذلك غيرك يخطئ فيحتاج إلى أن تتحمل منه أنت، وما لم يوجد تحمل وتساعد وتفاهم بين الزوجين؛ فلا استقرار ولا دوام للحياة الزوجية.
ثامناً: أحياناً من أسباب الطلاق: المخادعة؛ فقد تبلى المرأة برجل يتعرف عليها عن طريق الهاتف، أو صاحب دكان نصب لها شراكاً وحبالاً يريد أن يخدعها، فلا يزال يعدها بالوعود الكاذبة، ويغرر بها ويخادعها حتى يحاول أن يبعدها عن زوجها، ويقنعها بالتخلي عنه، وقد يبلى الرجل بامرأة تتصل به وتغريه وتخادعه حتى تزهده في زوجته، ثم لا يجد هذا ولا ذاك في الواقع.
الخاتمة: هذه المنكرات والملاحظات التي تحدثت عنها تحتاج إلى تظافر الجهود في القضاء عليها، ومجرد الحديث عن المنكرات لا يكفي، فربما يعرف الكثير أنها منكرات؛ لكن نحتاج أولاً: أن يلتزم كل واحد منا لنفسه في الزواج الذي يتعلق به -إن كان شاباً أو أباً- أن يلتزم بتجنب ما حرم الله سبحانه وتعالى، ويقيم زواجاً إسلامياً بعيداً عن المعاصي والمنكرات، ولو نجحنا في هذا لكنا نحن عدداً كبيراً بالنسبة للمجتمع وقدوة حسنة لغيرنا، فضلاً عمن قد ينتشر الأمر إليهم بطرق ووسائل أخرى فيستطيعون أن يفعلوا ذلك.
إذاً: ليست المشكلة دائماً في جهل الناس، بل المشكلة في العزيمة والإرادة التي تحتاج إلى تقوية، فالإيمان هو الذي ضعف فأصبح لا يدفع الناس إلى ترك المحرمات، ولا إلى فعل الطاعات إلا قليل.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(222/53)
الظهار
ومن ذلك: من يقع في أعظم من ذلك وهو الظهار الذي سماه الله تعالى في كتابه: {مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2] فيقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو كظهر أختي، أو ما أشبه ذلك.
وهذا أيضاً محرم، وكفارته كما قال الله تعالى في القرآن الكريم.
وبعضهم يتخذ هذا يميناً -أيضاً- فيقول لزوجته: إن دخلت بيت فلان فأنت علي كظهر أمي، أو إن خرجت فأنت كذا، وإن دخل عليك فلان كذا، أو ما أشبه ذلك، وهذا أيضاً كما أسلفت لا يجوز فهو محرم ومنكر وزور مهما كان هدف ونية القائل.(222/54)
الوسوسة في الطلاق
ومن ذلك -أيضاً- أن بعض الناس يشكون ويوسوسون في موضوع الطلاق، فقد شكى إلي بعض الشاب أن الشيطان يأتيهم ويوسوس لهم في موضوع الطلاق، فيوسوس له الشيطان أنه طلق زوجته، ولا أدري كيف يتم ذلك! وأحمد الله أنني لا أدري كيف تتم الوسوسة، لكن يأتي ويقول: أنا شككت أني طلقتها، وخشيت أني طلقتها وقلت لها، وتحس أن الرجل في حيرة من أمره وشك وضيق وهو لم يقع منه طلاق، بل قد يلقي الشيطان الكلمة على لسانه، أو نية يصورها نية جازمة وهي ليست نية؛ فينبغي ألا يلتفت الإنسان لهذه الأشياء، فالإنسان الذي يعلم من نفسه أنه موسوس لا يلتفت إلى هذه الخواطر التي تمر عليه ولا يأبه بها.(222/55)
الطلاق البدعي
ومن ذلك -أيضاً-: أن بعض الناس يقعون في طلاق البدعة، فيطلقها وهي حائض، أو يطلقها في طهر وقد جامعها فيه، وهذا لا يجوز، بل يجب أن يطلقها لعدتها كما أمر الله تعالى، فيطلقها في طهر لم يجامعها فيه، هذا إذا كان ولابد من الطلاق، والطلاق هو آخر حل، وآخر الدواء الكي.
أما إذا كانت هناك وسيلة لإقامة الحياة الزوجية فهو الأصل، والله سبحانه وتعالى يبغض الطلاق، ولا أدل على ذلك من أن الشيطان يحبه، ولا أريد أن أستشهد بالحديث الذي ورد فيه: {أبغض الحلال عند الله الطلاق} وإن كان الحديث قابلاً للتحسين بمجموع طرقه، لكن أستشهد بما ورد في صحيح مسلم {إن الشيطان ينصب عرشه على البحر ثم يبعث سراياه، فيأتيه الرجل فيقول: ما زلت به حتى عصى؛ فيقول: يتوب، فيأتيه فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين زوجته؛ فيدنيه ويقربه ويقول: أنت أنت} فدل على أن الشيطان يفرح بالتفريق بين المؤمنين، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر} وهذه نصيحة ثمينة من أكبر الناصحين وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى لا يفرك، أي: لا يبغض، ولا يهجر ولا يفارق.(222/56)
أيمان الطلاق
فمن ذلك: أن بعض الناس يتخذون آيات الله هزواً -وأعني بها أيمان الطلاق- فتجد كثيراً من الرجال أصبح الطلاق على لسانه كلمة سهلة، يقول لزوجته: إن تأخر الغداء فأنت طالق، وإن تأخر العشاء فأنت طالق، وإن ذهبت إلى فلان فأنت طالق، وإن دخل عليك فلان فأنت طالق، ويظل يقيدها بقيود، ولا يجد إلا فأنت طالق، وهذا حرام مهما كانت الفتوى، ومهما كانت النية، ومهما كان هدفه، فيحرم عليه أن يقول لزوجته هذا الكلام أو يهددها بهذا الأمر ولو كان قصده منعها من أمر من الأمور، حتى الأمور الشرعية لو رآها تفعل منكراً لا يجوز أن يقول: إذا فعلت هذا المنكر فأنت طالق إلا إن كان يريد أن يطلقها حقيقة، أما إن كان قصده ردعها ومنعها فيجب عليه أن يمنعها بغير ذلك من الوسائل.
فاحذروا -أيها الإخوة- من أن تتخذوا آيات الله هزواً وتتلاعبوا بأيمان الطلاق.(222/57)
الأسئلة(222/58)
عدم صحة مقولة: إن قلة المهر تؤدي إلى سرعة فشل الزواج
أجاب على هذا السؤال شيخ آخر:
السؤال
فضيلة الشيخ: إن المهر إذا كان قليلاً فهو يكون سبباً في فشل الزواج قريباً؛ لأن الزوج يرى أنه لم يكلفه شيئاً فيكون الطلاق سريعاً؛ لأنه لم يتعب في تحصيل المهر فما رأيكم؟
الجواب
الواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم وكثير من الصحابة كانت مهورهم قليلة، وقد سعدوا في زواجهم ولله الحمد والمنَّة، فالتعليل في هذا الواقع خطأ، والذي ينبغي هو أن تقلل المهور وأن يتفق الناس جميعاً على تقليلها؛ لأن في تقليل المهور سبباً كبيراً؛ لأن تسعد كثيرٌ من النساء بزوجٍ تعيش معه ويعيش معها، ولا تبقى مدة طويلة بدون زوج.
ومسكين مسكين رجل بلا امرأة، ومسكينة مسكينة امرأة بلا زوج! وأما إذا كان هناك أسباب للفراق فإن الشخص يقدم مهما ساق من المهر، ولا يمنعه كثرة المهر من أن يقدم على الطلاق.
إن تقليل المهر ليس سبباً صحيحاً في وقوع الطلاق، وإنما الذي يسبب الطلاق أمور أخرى كالمناقشات بين الأزواج، وطموح الإنسان إلى غير زوجته، وطفوح نظره، وكثرة تقليب بصره في الآخرين ونحو ذلك، فقلة المهور ليست سبباً صحيحاً في إقدام كثيرٍ من الناس على الطلاق، بل الذي يسبب الطلاق أمور أخرى كثيرة فلو أن الناس اقتصدوا في المهور وتركوا هذه العادات، وهذه القصور وهي قد يشتق لها من اسمها كما قيل: وقل إن أبصرت عيناك ذا لقبٍ إلا ومعناه لو فكرت في لقبه فهذه القصور أوجدت تكاليف باهظة، والذي يدفع للقصر في رأيي أن يكون مهراً، وأن يكتفى به، وأن هذه الاجتماعات ليست معهودة عند السلف، إذا أراد أن يصل قرابته فليدعهم إن استطاع جميعاً في بيته أو على فترات، وأما أن نلزم أنفسنا بهدايا تكلف الأقارب كلهم، وبإقامة قصر يجتمع الناس فيه من شرقي البلاد وغربها ونحو ذلك من تكاليف تكلف المدعو والداعي، فهذا في رأيي أنه ينبغي أن نعدل عنه، وأن نسلك طريقة سلفنا الصالح، لنسعد ولنربح ونستريح ونريح.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن يزيدنا علماً، اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.(222/59)
حكم صلاة الوتر أو راتبة العشاء عند الزوجة في أول ليلة؟
أجاب على هذا السؤال شيخ آخر.
السؤال
وما رأيك بمن يؤدي راتبة العشاء الآخر أو الوتر عند زوجته؟
الجواب
لو صلى الراتبة في بيت زوجته فإن ذلك يكون حسناً- إن شاء الله- وليس للصلاة مكان محدد، ولكن لا يصلي على أن هذا مكان شرعه الله سبحانه وتعالى لنا حتى لا يتخذ ذلك سنة.
وأقول: يصلي راتبة العشاء في هذا المكان لا على أن هذا سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن السنة الراتبة والوتر يصليها الإنسان في كل مكان، وأداؤها في البيت أفضل؛ فلو فعل ذلك عند زوجته فإنه يكون حسناً، ولا يفعل ذلك على أن هذا الفعل في هذا المكان بالذات سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس بسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرع فعله في هذا المكان بالذات، ولكن هو سنة يفعلها في أي مكان.(222/60)
حكم متابعة الموضة في الأزياء
أجاب على هذا السؤال شيخ آخر:
السؤال
ما حكم الإسلام فيمن يتتبعن الموضة والموديلات سواء بلبس الثياب، أو الذهب، أو الحذاء - أكرمكم الله-؟
الجواب
إذا كن يردن بتتبع الموضة التشبه بالنساء الكافرات فهذا لا يجوز، وهذا من كبائر الذنوب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقومٍ فهو منهم} وكذلك تشبه المرأة بالرجال أيضاً كبيرة من كبائر الذنوب، وتشبه الرجل بالنساء أيضاً كبيرة من كبائر الذنوب، وإذا كان هذا اللباس إنما تلبسه المرأة من باب الزينة والجمال لزوجها ليلة العرس فلا حرج في ذلك.
وكذلك بالنسبة للثياب الجميلة لا بأس من لبسها لزوجها إذا لم يكن فيها تشبه بالكافرين، والله أعلم.(222/61)
حكم قول: أكرمك الله عند ذكر الأشياء الممتهنة
أجاب على هذا السؤال شيخ آخر:
السؤال
بعضهم يتعبد إلى الله بقوله: أكرمكم الله عند ذكر الحذاء أو غير ذلك، فهل هو سنة؟
الجواب
لا يحضرني في ذلك حديث، أو نص أن مثل ذلك مشروع، ولكن هذا من باب الآداب التي يفعلها الإنسان ليكرم أخاه حينما يذكر مثل هذا الحذاء الذي هو ممتهن وفيه ابتذال، فهو يريد أن يكرم أخاه من ذكر هذا الحذاء.
فلا أعلم أنه ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله أعلم.(222/62)
حكم استغلال وقت الوليمة للدعوة
أجاب على هذا السؤال شيخ آخر:
السؤال
هل استغلال وقت الوليمة بالكلمة الطيبة أو الشريط النافع من الابتداع في الدين؟ أم هو من الأمور النافعة التي تمنع الوقوع في أعراض الناس وما إلى ذلك؟
الجواب
لا، ليس من البدع؛ بل الإنسان مأمور بأن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى في كل مكان، وأن يبين للناس دينهم في كل مكان، واستغلال مثل هذه المناسبات، وهو مما لا ينبغي للإنسان أن يفوته، فهو مأمور بأن يدعو إلى الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ولا سيما في هذا المكان الذي قد اعتاد الناس فيه على اللهو والعبث، فإذا اشتغل الإنسان بذكر الله وبدعوة الناس وببيان شرع الله للناس فإن ذلك يكون أمراً حسناً، وليس ذلك من البدع، إن شاء الله.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يذهب إلى مجامع العرب إلى أسواقهم وأماكن اجتماعهم يستغلها بالدعوة إلى الله، والله أعلم.(222/63)
حكم الخروج من بيت الأسرة بعد الزواج
أجاب على هذا السؤال الشيخ: سلمان العودة حفظه الله.
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيما يوجد في بعض الأسر أنهم يمنعون الزوج من الخروج بزوجته في منزل خاص، ومن ثم يجتمع في منزل واحد أربع أسر أو أكثر بحجة أنه أدعى لجمع الشمل، والإنسان يريد أن يربي زوجته وأولاده على الصلاح؟
الجواب
بالنسبة لاستقلال الزوج الجديد بزوجته بمنزل خاص هذا يراعى فيه عدة اعتبارات: أولاً: مدى حاجة أهله إليه؛ فقد يكون الزوج وحيد أبويه أو يكون له أم مسنة أو أب كبير يحتاجون إلى العناية والرعاية، وربما يكون له إخوة عاقون لا يقومون بحقوقهم، فليس من العدل ولا من الإنصاف أن ينفرد بزوجته لتكتمل سعادته الزوجية، ويتخلى عن أبوين شيخين كبيرين هما بأمس الحاجة إلى رعايته على حين كبر سنهما.
الثاني: مدى إمكانية الزوج بالاستقلال ببيت خاص من الناحية المادية.
الثالث: مدى ملاءمة الزوجة لأهله.
فالذي أرى أنه إذا كان أهله بحاجة إليه على سبيل الإجمال، والزوجة استطاعت أن تكسب ود أهله وتخدمهم وتتلطف معهم وتطييب نفوسهم فأرى أن يبقى عند أهله، أما إذا كانت هناك ظروف تدعو إلى استقلال وانفراد فإن هذا -أيضاً- أمر حسن؛ لأن هذا يجعل الشاب يستطيع أن يتحكم في بيته أكثر من حيث تربية الزوجة وتربية الأطفال، وحفظ الوقت وما أشبه ذلك.
ولا شك أن ذلك يحقق السعادة الزوجية بالنسبة للزوجين؛ لأن كونهما في بيت مع غيرهما قد يؤثر ذلك عند بعض الناس، فإذا كانت الظروف مناسبة وملائمة كما هو حال كثيرٍ من الأسر؛ حيث يكون الأب غنياً وقوياً وليس بحاجة، فما أرى من بأس مطلقاً أن ينفرد الابن ببيت خاص ويكون مستقلاً في تربية زوجته وتعليمها وتربية أطفاله وإبعاد الأجهزة السيئة عنهم، وما أشبه ذلك، والله أعلم.(222/64)
مشكلة فساد أهل الزوجة
أجاب على هذا السؤال: الشيخ سلمان العودة حفظه الله.
السؤال
إني أرغب أن أتزوج من امرأة صالحة دينة ووالدها مستقيم ولله الحمد، لكن الذي يقف أمامي هو إخوانها؛ لأنه يغلب عليهم الانحراف، وأخشى أن يتضرر أولادي بهم وبأولادهم، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
الجواب
الحقيقة أن هذا السؤال ينبغي أن يلاحظ فيه جانبان: الجانب الأول: ما دام أن هذه الفتاة مستقيمة، فلا شك أنها بحاجة إلى من يخرجها من هذه البيئة التي قد لا تسلم من الانحرافات ما دام إخوانها على هذه الصفة، وليس من العدل أن يبتعد الصالحون عن فتاة؛ لأن أحد إخوانها منحرف -مثلاً- وهي امرأة صالحة دينة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} ، وهذه ذات دين فالظفر بها ظفر بغنيمة.
الجانب الآخر: أن الإنسان قد يلاحظ أن أولاده -إذا رزق منها بأولاد- قد يعودون إلى أخوالهم في زيارة أو في غيبته، أو ربما لو أصابته مصيبة الموت أو ما أشبه ذلك، فهو بحاجة إلى أن تكون البيئة التي يتربى فيها أطفاله بيئة حسنة، ولذلك أرى أنا أن المعول على البيئة بالدرجة الأولى، ليس على كون أحد إخوانها منحرفا.
فإذا كان المجتمع صالحاً والأب مستقيماً ومهيمناً على البيت وليس في البيت أدوات هدم وتخريب ولا ضياع ولا تسيب وانحلال، فله أن يُقْدِم، أما إن كان البيت مضيعة وفيه أدوات هدم وتخريب وإفساد والبنت صالحة، فالحقيقة أن هذا يعني موضع تردد؛ لأنه إن ترك هذه الصالحة لهذه البيئة ففيه مشكلة، وقد يجد الشاب أن بيئته هو أيضاً بيئة سيئة، فيخرج هو من بيته، ويخرج هذه الفتاة من بيتها ليبنوا أسرة مستقلة، ويحرص مع ذلك على ألا يبقى أولاده وأطفاله الصغار في ذلك البيت المنحرف إلا بقدر الحاجة التي لا بد منها، ويحصنهم ضد بعض المفاسد والمنكرات الموجودة في ذلك البيت، والله تبارك وتعالى أعلم.(222/65)
الأشياء المندوبة في أول ليلة من الزواج
أجاب على هذا السؤال شيخ آخر:
السؤال
ما هي الأشياء المندوبة في أول ليلة من ليالي الزواج؟
الجواب
الأشياء المندوبة التي يقولها الإنسان في ليلة الزواج لا يحضرني منها شيء، إنما الذي يحضرني الآن وأعرفه هو: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {أنه إذا استفاد أحدكم شيئاً دابة أو نحوها، فليأخذ بناصيتها وليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أما ما يقوله الإنسان من الأدعية عند الدخول فلا يحضرني ذكر خاص عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما ورد في التسمية عند اتصال الإنسان بأهله: {بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا} هذا الذي يحضرني، وكذلك بالنسبة لصلاة ركعتين هذه الصلاة لا يحضرني فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعرف أن بعض السلف فعل ذلك، والله أعلم.(222/66)
حكم الزواج بالعانس
أجاب على هذا السؤال شيخ آخر:
السؤال
وماذا عمن يرغب في الزواج من امرأة ثانية، ويرغب في أن تكون من العوانس، هل يكون مأجوراً في هذا، أم لا؟.
الجواب
هذا يختلف باختلاف الظروف وباختلاف أحوال الناس، فإذا كان الإنسان يفضل أن تكون امرأة كبيرة عانساً، فهل يقصد بقوله: عانساً، أنها لم تتزوج؟ أم عانساً يريد بذلك أنها ثيب؟ فإن كان يقصد بذلك أن تكون قد تزوجت، أو تكون قد طعنت في السن فجوابه، ما جاء عن جابر رضي الله عنه؛ فإنه حينما تزوج امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك} .
أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فأخبر أنه أخذها من أجل أن تربي أخواته اللاتي ماتت أمهن، فالنبي صلى الله عليه وسلم كأنما أقره على هذا العمل، فعرف أن هذا مبررٌ دعاه إلى أن ينعزل عن البكر وعن الصغيرة من أجل تربية أخواته، ففي هذه الحالة قد تكون مبرراً ويكون داعياً للإنسان في تفضيل الكبيرة أو الثيب على الصغيرة، وقد تكون هناك اعتبارات أخرى شخصية يدركها الإنسان من نفسه.
أما إذا كان يريد أن يتخير فيحرص الإنسان أن تكون صغيرة، وأن تكون بكراً وأن تكون ودوداً ولوداً، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن لعل السائل يقصد شيئاً آخر، فلعله يقصد: إذا كان كبيراً في السن هل يأخذ بكراً صغيرةً، أو يأخذ ما يتناسب مع حاله؟ أما حكم هذه المسألة من الناحية الشرعية: فيجوز للإنسان أن يتزوج صغيرةً وهو كبير إذا كان الإنسان عنده قدرة، ويستطيع أن يعفها ويحصنها، فإنه يجوز له أن يفعل ذلك، فإن كثيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجوا أبكاراً وصغيراتٍ وهم كبار، وإمامهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تزوج عائشة وهي ابنة ست سنوات، وبنى بها وهي بنت تسع سنوات، فمثل ذلك جائز.
ولكن إذا كان الإنسان يرى أنه لا يعفها، أو لا يستطيع أن يقوم بما يحصنها، فإنه لا ينبغي أن يقدم على مثل هذا العمل؛ لأنه قد يضرها وقد يترتب على ذلك مفسدة.
أما من حيث ولي المرأة، فهل ينبغي له أن يزوج ابنته الصغيرة من رجل كبير في السن؟ على كل حال هذه أمانة في عنق كل إنسان، فينظر ما هو الدافع له إلى مثل هذا؟ إن كان الدافع له رغبة في ماله ومطامع شخصية، فلا ينبغي أن يكره موليته على مثل هذا، فمثل هذا قد يكون ظلماً لها لا سيما إذا كان وليها فد خدعها وغشها في ذلك؛ لأن ذلك من حقها، فهي تحتاج إلى من يعفها ويحصنها، وإن كان هذا الرجل لا يقصد منه إلا الدين والصلاح، ويرى أنه يستطيع أن يعفها، ويقوم بما تحتاجه ولا يقصر عليها، فمثل هذا لا بأس عليه في ذلك، ولكن الأولى أن يختار لموليته من يقاربها في السن حتى لا يحصل بذلك بعض المفاسد، ولا يحصل بذلك تأثيرات على نفسية هذه البنت، وكثيرٌ من الزوجات تخفق بسبب تصرف بعض الأولياء حينما يتعنتون ويظلمون مولياتهم ويزوجونهن برجال طاعنين في السن لا يلبث معها إلا فترة بسيطة، ثم تفارقه الصحة أو يفارق الحياة فتظل عانسة أرملة بسبب تصرف وليها، والله أعلم.
الجواب: يقول الشيخ: سلمان معلقاً على الإجابة الأولى: أما ما ذكر الشيخ: فالأولى أن يتركها في رأيي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك زوجاته وهن -أيضاً- بعضهن شابات، والآجال بيد الله عز وجل، ولكن نعلل أنها إذا رضيت واطمأنت مع زوجها فله ذلك، وإن لم ترض فلا يُقْدِم، أما أن نعلل بالآجال فلا ينبغي؛ لأن الآجال بيد الله: ولا تقل الصبا فيه انتهال وفكر كم صغير قد دفنتا فأكثر الناس يموت في ريعان الشباب، وكم من رجل كبير تزوج بامرأة صغيرة فماتت قبله؟! فلا ينبغي أن نعلل بالآجال، ولكن ينبغي أن نعلل بالراحة النفسية إذا اطمأنت إلى زوجها واطمأن إليها فالعواقب بيد الله سبحانه وتعالى، والصحابة رضي الله عنهم تزوجوا نساءً صغيرات وهم طاعنون في السن، ونبينا صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة -كما حكى لنا فضيلة الشيخ- تزوج عائشة وهي صغيرة وهو كبير.
فالتعليل في مثل هذا أنه إذا كان الرجل يستطيع أن يحصن زوجه فلْيُقْدِم، وإذا لم ترض، فلا ينبغي لوليها أن يكرهها من أجل رأيه، أو من أجل أطماع الدنيا الزائلة، والله أعلم.(222/67)
حكم البحث عن زوج للمرأة
ٍ ٍأجاب على هذا السؤال شيخ آخر:
السؤال
ما هو العمل فيمن كان عنده فتاتان تبلغ أعمارهن الخامسة أو السادسة والعشرين، وهن ملتزمات بدين الله، هل أقوم بالبحث عن زوج كفء لهن كما فعل عمر رضي الله عنه؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة: إن موضوع الزواج ينبغي أن يبادر به المسلم، وألا يؤخر مولياته عن وقت زواجهن حيث توفرت الشروط، ولو كان ذلك بالبحث، ولكن في الواقع أن الإنسان في الغالب لا يحتاج إلى بحث في هذه البلاد، حيث يأتيه الخطاب، ولكن الموضوع هو أن كثيراً من الأولياء يتعنتون في صفات الزوج، أو يطلبون مهوراً كثيرةً فوق طاقة الزوج.
والذي أريد أن أقوله: إن هذه التكاليف التي وجدت في المجتمع الآن من المغالاة في المهور، وتكاليف تضاف إلى ذلك، ينبغي أن ينظر فيها وأن تترك؛ لأن كثيراً ممن يريدون الزواج يعجزون عن دفع هذه التكاليف التي أقحم فيها الناس، والتي مالت إليها النساء وصار الرجال أتباعاً لهن، فالرجل هو الذي يتكلم، ولكن ما يحصل في الواقع هن النساء، وترغب الأم أن تكون ابنتها مثل فلانة وفلانة سواء في المهر، أو في تجهيز الزواج، وهذا خطأ، فلقد عجز كثيرٌ من الشباب عن الإقدام على الزواج، أو كثيرٌ ممن يريدون الزواج من شبابٍ أو غيرهم بسبب غلاء المهور، وتعنت الأولياء.
فالذي ينبغي لكل مسلم أن يكون متمثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه} فينبغي للمسلم أن يعتبر هذه الصفات، وألا ينظر إلى الدنيا ولا إلى فلان بن فلان، وأن فلاناً بن فلان لا يصلح أن تناسبه، فهذا خطأ! فإن النبي عليه الصلاة والسلام علق الأمر بالدين والخلق، فينبغي للمسلم أن يترك كثيراً من العادات التي يعتادها الناس خصوصاً ما يتعلق بتكاليف الزواج وغلاء المهور.
والأمر الآخر قضية الأنساب: بأن هذا ليس من بني فلان وبني فلان، فينبغي لنا أن نتسامح في قبول من يأتينا إذا تحقق لنا منه الدين والخلق، ولا ننظر إلى مكانته في المجتمع؛ لأن المكانة عند الله هي التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
وبالنسبة لسؤال السائل فأنا أقول: إنه لا مانع من أن يبحث عن زوج وإن كان ذلك لا يتعذر في الغالب في مجتمعنا هذا، وقلَّ أن تجد أي امرأة صغيرة أو كبيرة إلا ويأتيها من يخطبها، لكن ما يحدث هو تعنت الأم أو الأب أو الأقارب.
فالمقصود: أن نتسامح في الأمر، وأن ننظر إلى خلق الرجل لا إلى دنياه؛ بل إلى دينه وأمانته وسيرته الطيبة، ونُقْدم على تزويجه، والله سبحانه وتعالى قد وعد أن من كان فقيراً فسوف يغنيه الله من فضله، فعلى كل حال إن بحث فقد بحث عمر رضي الله عنه عن زوج لابنته، وإن صبر حتى يأتيه أمر الله وفرج الله وأمره سبحانه وتعالى فسوف لا تغلق عليه الأبواب -إن شاء الله-.
نسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين بالعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.(222/68)
موضع دعاء الاستخارة في الصلاة
أجاب على هذا السؤال الشيخ: سلمان العودة حفظه الله.
السؤال
فضيلة الشيخ دعاء الاستخارة، في أي موضع من مواضع الركعتين يكون؟ هل هو في التشهد؟ أم في السجود؟ أم بعد الركعتين؟ أفيدونا حفظكم الله.
الجواب
موضع دعاء الاستخارة فقد ورد في حديث جابر في صحيح البخاري، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: {فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك، وأسألك من فضلك} إلى آخر الدعاء المعروف، الذي كان الرسول عليه السلام يعلمهم إياه كما يعلمهم سورة من القرآن، ولم يرد في الحديث نص يحدد موضع الدعاء، لكن مواضع الدعاء في الصلاة معروفة، وهي سبعة مواضع ذكرها الإمام ابن القيم في زاد المعاد أخص منها: موضع السجود، وما بعد التشهد، فهي المواضع المناسبة لدعاء الاستخارة، فإن دعا في السجود فالسجود موضع دعاء، وإن جعله قبل السلام كان هذا أنسب والله أعلم.
أما كونه بعد السلام: فالحديث يحتمل ذلك! لكن في هذا شيء من البعد؛ لأن المعروف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وسيرته، أنه كان يدعو في الصلاة وليس بعد الصلاة، ففي الغالب أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أثناء الصلاة، ولذلك سميت الصلاة؛ لأنها دعاء وفيها دعاء، فتأخير الدعاء إلى ما بعد السلام هو تأخير إلى موضعه المفضول عن موضعه الفاضل، فالأولى أن يكون الدعاء أثناء الصلاة لا بعد السلام، والله تبارك وتعالى أعلم.
ومن أهل العلم من يقول: إنه بعد الصلاة؛ لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {ثم} وثم: لا تعني بالضرورة أنه بعد السلام، ويحتمل أن يكون في آخر الصلاة ولو قلنا: إنه في التشهد فإن هذا يكون منسجماً مع ظاهر الحديث؛ لأن الدعاء كان في آخر الصلاة، والذين قالوا: إنه بعد السلام، اعتمدوا على ظاهر اللفظ قالوا: إن (ثم) تعني عقب الصلاة، وكلمة عقب الصلاة يحتمل أنه في آخرها، ويحتمل أنه عقبها بعد الفراغ منها!! هذا الذي يظهر لي والله تعالى أعلم.
وأحب أن أضيف أن الأمر فيه سعة، فإن تسنى لك أن تدعو في السجود، أو بعد التشهد، أو بعد الصلاة، فالأمر واسع فيما أفهم والله أعلم؛ لأن الحديث محتمل لذلك وكونه في آخر الصلاة أولى؛ لأنه قال: ليصلي ركعتين ثم ليدعو، وشيخ الإسلام تَرَجَّح في ذهنه في حديث معاذ حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {يا معاذ إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وجماهير أهل العلم يرونه بعد الصلاة، وطائفة من أهل العلم يرونه أنه في آخر الصلاة، ويقولون: إن دبر كل شيء آخره، فيقولون: هذا دبر الصلاة، وهنا في الحديث جاء: {فليصل ركعتين ثم ليستخير} فإما أن يكون الدعاء في التحيات، أو يكون بعد السلام؛ لأنه يكون قد أتم الركعتين.
والله أعلم.(222/69)
حكم رفض الخاطب المرضي الدين والخلق
أجاب على هذا السؤال شيخ آخر:
السؤال
هل يجب على ولي المرأة أن يزوجها إذا جاءه خاطب مرضي الدين والخلق؟
الجواب
عرفنا أنه يدخل تحت كلمة الدين كل صفات يحبها الله ويرضاها، وكذلك كل خلق حسن يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: {ترضون دينه} فإذا اجتمعت فيه هذه الصفات الطيبة وهي: الأخلاق، والأمانة، والصلاح، والتقى، كل ذلك يدخل تحت قوله: {دينه} فإنه يجب على الولي أن يزوج موليته للخاطب، وإذا رده فإنه يأثم إلا إذا كان هناك مبرر، وهناك عذر قد يضاهي المصلحة التي قد تحصل من هذا الزواج، ثم -أيضاً- ينبغي أن ننظر إلى قاعدة أخرى وهي: قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح، فإن هذا الشخص قد أرضى دينه وأمانته وخلقه ولا أعترض عليه بشيء أبداً.
ولا شك أن هذه صفات طيبة يحبها الله سبحانه وتعالى، ولكن لو أعطيته موليتي وزوجته إياها حصل بسبب ذلك مفسدة عظيمة تربوا على المصلحة التي تحصل من هذا الزواج، فهل يجب عليَّ أن أزوج هذا الرجل؛ لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه} ؟ وهل أكون آثماً بعدم تزويجه؟ فنقول: لا تكون آثماً؛ لأن الإسلام جاء بجلب المصالح ودفع المفاسد، فمتى كانت المفسدة تربوا على هذه المصلحة فإنك لا تزوجه، ولست آثماً إذا لم تعطه، ولو كانت هذه الصفات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم متوفرة فيه؛ لأن عندنا مفسدة أكبر، وهذه يعلمها كثيرٌ من الناس.
فإذا عرفت أنه يترتب على ذلك مفسدة وتحققت أنه لا بد أن يحصل مفسدة لو زوجت هذا الشاب أو زوجت هذا الخاطب فحينئذ لا تزوجه ولست آثماً إن شاء الله تعالى.
لكن أقول: إن هذا الأمر واجب إذا انتفت المفاسد وإذا تحققت المصلحة فينبغي لك أن تزوج، ولا يجوز لك أن ترد هذا الخاطب إلا إذا كان هناك مفسدة، وقد سمعنا ذلك والله أعلم.(222/70)
أولادنا في رمضان
من نعم الله عز وجل الكثيرة على الإنسان نعمة الذرية والولد؛ التي يحرم منها كثير من الناس، وقد يكون الولد صالحاً أو فاسداً فيكون سبباً لسعادة أبويه أو شقائهما في الدنيا، وقد جعل الله في قلوب الوالدين رحمة لأولادهم، ولكن هذه الرحمة يجب أن تتوجه لتربيتهم التربية الحسنة، وجعلهم أولاداً صالحين بدلاً من أن تتوجه لتوفير ملذات الدنيا لهم وترك الحبل على الغارب كما في مظاهر كثيرة مشاهدة في المجتمع.(223/1)
نعمة الولد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: في هذه الليلة، ليلة السبت، السابع من شهر رمضان لعام 1411هـ، نقف وقفة عنوانها: (أولادنا في رمضان) .
أيها الأحبة: يقول الله عز وجل: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:2-6] .
وكانت أعظم بشارة أن يقول الله عز وجل: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} [مريم:7] .
فإن من نعمة الله تعالى على العبد أن يوفقه ويرزقه الذرية، وكم من إنسانٍ حرم من هذه النعمة، فكلما رأى صبياً صغيراً، تقطع قلبه حسرات، يتمنى ضحكةً أو صرخة أو قبلةً من طفله الصغير، لكن أراد الله تعالى بحكمته وعلمه ألا يكون ذلك، فنعمة الأولاد هي من أَجَلَّ النعم، التي لا يعلمها إلا من جرب مرارة فقدها وحزن عدمها، فلذلك امتن الله تبارك وتعالى على رسله بأن جعل لهم أزواجاً وذرية، كما قال الله تعالى في محكم كتابه: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] .(223/2)
الولد الصالح
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له} فالولد الصالح هو خيرُ تراثٍ وخير ميراثٍ يخلفه الأب من بعد وفاته، يبقى ذكرى حسنة لأبيه، ودعاءً صالحاً، وخيراً دارّاً على والده حتى وهو في قبره، فإن آباء الأولاد الصالحين، هم أهل الخيرات التي لا تنقطع وإن كانوا موسدين، صرعى في قبورهم، إلا أن الله تعالى يدر عليهم الرزق في الدار الآخرة ببركة أولادهم الصالحين، يدعون لهم، ويتصدقون عنهم، ويذكرونهم بالذكر الحسن، ويعملون لهم ما استطاعوا أن يعملوه.(223/3)
الولد الفاسد
الولد الفاسد، فإنه بوارٌ على والده، وشقاءٌ عليه، وشنارٌ في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله عز وجل: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:17-18] .
ففساد الولد شقاءٌ على والديه الصالحين في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله عز وجل في سورة الكهف، قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80-81] .
إذاً الولد نعمة، لكن إن كان الولد صالحاً فهي نعمةٌ عظيمة وخيرٌ جسيم، أما إن فسد الولد وضل وانحرف، ففقده خيرٌ من وجوده، وموته خيرٌ من حياته، وهو في بطن الأرض خيرٌ له أن يكون فوق ظهرها، ولهذا قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80-81] وسخر وقَيَّضَ الله تعالى الخضرَ العبد الصالحَ فقتله، وجد غلاماً فقتله، فقال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74] فقال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] .
إذاً موته خيرٌ من بقائه لوالديه في دينهما ودنياهما، فأما في دينهما: فقد يفتتنان به، وقد يقصران في طاعة الله بسببه، وقد يرتكبان المعصية من أجله وأما في دنياهما: فإن الولد الفاسد شقاءٌ على والده، ذلٌ بالنهار، وسهرٌ في الليل، وضيقٌ في الرزق، وضيقٌ في الصدر، وتعاسة لا يعلمها إلا الله، فالولد نعمة، لكنه نعمةٌ إن كان ولداً صالحاً، أما إن كان فاسداً شقياً، فهو وبالٌ ودمارٌ وبوارٌ على والديه في الدنيا وفي دار القرار.(223/4)
صلاح الوالد نعمة للولد
صلاح الولد نعمة، كما أن صلاح الوالد -أيضاً- نعمة للولد، فإن من رحمة الله تعالى بالولد أن يوفقه أن ينشأ في بيئةٍ صالحة، وتحت رعاية أبوين صالحين، ولهذا قال الله عز وجل -أيضاً- في سورة الكهف: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] .
فرحم الله تعالى هذين الغلامين اليتيمين ببركة صلاح أبيهما! {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] .
فصلاح الآباء رحمةٌ بالأولاد، وصلاح الأولاد رحمةٌ بالآباء، فكم هي نعمة عظيمة أن يوفق الله تعالى الشاب إلى بيتٍ صالح، وإلى أبٍ مهتدٍ مستقيم، يعينه على الخير ويأمره به، وينهاه عن الشر ويحذره منه ويمنعه عنه، وكم هو شقاءٌ للولد أن يكون في بيئةٍ فاسدة، إذا رأت منه صلاحاً، أو تردداً على المسجد، أو اقتناءً للكتب المفيدة، أو سماعاً للأشرطة النافعة، أو صحبة الأخيار الطيبين؛ منعوه من ذلك وحذروه، وقالوا له: نخشى عليك كذا وكذا، وبدءوا يوسوسون له كما يوسوس الشيطان الرجيم!(223/5)
رحمة الوالد بولده
أيها الأحبة: لقد غرس الله تعالى في قلوب الآباء الرحمة بالأبناء، حتى إن الولد ريحانة لأبيه، وقد جاء في الحديث {أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يوماً يوم من الأيام يخطب على المنبر، فجاء الحسن والحسين يمشيان ويعثران، فنزل -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- وحملهما على كتفيه، وقال: والله إنكم لتبخلون وتجبنون، وإنكم لمن ريحانة الله} والحديث رواه أحمد وغيره، وفي سنده مقال.
ولما جاء صلى الله عليه وسلم إلى ولده إبراهيم، حمله وشمه وقبَّله -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم- ولما رآه يجود بنفسه بكى، ودمعت عيناه، وقال: {هذه رحمة وضعها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} .
مات لـ ابن الرومي ولد، كان اسمه محمداً، فرثاه بقصيدةٍ من عيون الشعر، لا زال التاريخ يرددها، يقول مخاطباً عينيه: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي محمدٌ! ما شيء تُوُهِّم سلوه لقلبي إلا زاد قلبي من الوجدِ أرى أخويك الباقيين كليهما يكونان للأحزان أورى من الزندِ وأولادنا مثل الجوارح أيها فقد ناه كان الفاجع البين الفقدِ لكلٍ مكانٌ لا يسد اختلاله مكان أخيه من صبور ولا جلد يقول: الأولاد ولو كانوا مائة مثل الجوارح، لا تغني اليد عن الأخرى، اليمنى عن اليسرى، ولا يدٌ عن رجل، ولا رجل عن يد، ولا عينٌ عن أذن، لا يغني سمعٌ عن بصر، ولا بصر عن سمع، فالجوارح لا يغني بعضها عن بعض، وكذلك الأولاد، مهما كثروا، لكل واحد منهم مكانٌ في القلب، لا يسد فقده مكان أخيه.
وآخر جلس في بيته وقد ضاقت عليه أبواب الرزق وحجبت دونه، فكان يتمنى أن يذهب في أرض الله الواسعة، ويكتسب من الرزق ما يكتسبُ غيره، ولكن يمنعه من ذلك أولاده الصغار من بنين وبنات، الذين يحدب عليهم ويحن إليهم، فلا يستطيع فراقهم، فيقول: وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرضِ لو هَبَّتِ الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمضِ لولا بنياتٌ كزغب القطا ردَّدن من بعضٍ إلى بعضِ لكان لي مضطربٌ واسعٌ في الأرض ذات الطول والعرضِ فالأولاد نعمةٌ وأية نعمة، ومن رزق نعمة أن يشم أولاده الصغار ويضمهم، ويضعهم في حجره ويحن عليهم، ويضاحكهم ويلاعبهم؛ فإنه يجد في هذه الدنيا نعمةً تمهد لنعمة الدار الآخرة التي وعد الله تعالى بها المؤمنين، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] .
فإذا كان الأب في منزلة في الجنة، وولده دونه، فإن الله تعالى بسابغ كرمه وجوده يلحق الأبناء بالآباء تكريماً للآباء وتتميماً لنعيمهم وسرورهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] .(223/6)
ضرورة عناية الآباء بتربية أبنائهم
أيها الأحبة: دون شك نحن نعتني بأولادنا في طعامهم وشرابهم وكسائهم وراحتهم، فالولد نحرص على أن نكسوه أجمل الثياب، ونطعمه أحسن الطعام، ونسقيه ألذ الشراب، وإن احتاج إلى سيارةٍ قدمناها له، ولو كان فيها عطبه وضلاله وضياعه وارتباطه بقرناء السوء، وإن احتاج إلى الطبيب سارعنا إليه ولو في ساعةٍ متأخرة من الليل، ونحن لا نلامُ في ذلك إذا كان في حدود الاعتدال والمصلحة للولد في دنياه وآخرته، اللهم إلا السيارة فلا؛ إلا أن يكون أهلاً لها ممن عقل وشب عن الطوق، وتجاوز فترة المراهقة، أما ما سوى ذلك مما يحتاجه الابن من والده، فهو حق لابد منه.
لكن أرأيت كيف نهمل الجوانب التربوية لأولادنا؟ وكيف نقصر في إعدادهم الإعداد الصحيح؟ ورعايتهم الرعاية الشرعية وبنائهم!! هل من ميزة الابن والولد وكماله بأن يكون يمتلك سيارة، أو ثياباً جميلة، أو غترةً مكوية، أو أن يكون صحيح الجسم، مكتمل القوة، شديد البنية؟! أبداً! مهما كانت قوة الولد فلن يكون أقوى من الفيل! ومهما كان جماله، فلن يكون أجمل من الطاوس! فليست قوة الإنسان ولا جماله بالذي يمدح به، وربما يكون في الحيوان من هذه الأمور ما يفوق الإنسان! إنما كرامة الإنسان بما وهبه الله تعالى وميزه به من الإنسانية، وتخصيصه بالدين الذي يتميز به الإنسان، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .
أية قيمة للإنسان الآكل، الطاعم، الشارب، المكتسي، المتمتع، إذا كان يتقلب على مثل حسك السعدان من الهم والغم والانزعاج؟! وأية قيمة للولد الطويل العريض إذا كان ضحية المخدرات؟! وأي نفعٍ بابنك الغني المترف إذا كان يشقيك صباحَ مساءَ؟! إن قيمة الإنسان هي في عقله وقلبه، وروحه ولبه، ودينه وورعه وتقواه! ألم تسمع ما قال الله تعالى في ذلك الذي يستغيث منه والداه: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] عجزوا عنه، فآخر شيء بالتهديد: ويلك.
أيها الإخوة: يذكر عددٌ من المصنفين في العقوق والبر قصة ذلك الرجل الذي كان يطوف بالكعبة، ويشتكي ولده على رب العالمين، ولدٌ رباه، وتعب في تربيته، وسهر عليه الليل، وتعب النهار، وجاء له بالرزق من كل مكان، لكن مع ذلك في النهاية كانت العاقبة هي العقوق، فكان يقول واسم ولده "منازل": جزت رحمٌ بيني وبين منازل جزاءً كما يستنزل الدين طالبهُ وربيته حتى إذا ما تركته أخا القومِ واستغنى عن المسح شاربهُ تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبهُ أإن رعشت كفا أبيك، وأصبحت يداك يدى ليثٍ فإنك ضاربه أصبح شيخاً هرماً ترتعش يداه من الكبر، فيجره ولده بقوة، ولا يرقب فيه إلاً ولا ذمة! فيقول: إلى هذا الحد تعتدي على والدك؟! ولهذا فإن من العقل كل العقل، والحكمة كل الحكمة، أن تكون عناية الأبوين بتربية الأولاد ورعايتهما الرعاية الشرعية الدينية أعظم بمراحل من رعايتهم رعايةً جسمية -صحيةً أو بدنيةً- أو إعطائهم ما يحتاجون إليه من الأكل والشرب والثياب وغيرها.(223/7)
من إيجابيات الصحوة
وفي هذا الصدد لا يفوت أحدٌ أن يُشيد بفضل الله تعالى على هذه الأمة المحمدية، فقد أخرج لها في هذه الظلمات التي تعيشها: جيل الصحوة من الشباب المؤمن المتدين، ذكوراً وإناثاً، فأصبح كل إنسان يحمد الله تعالى كل الحمد على هذه الأعداد الهائلة من الشباب التي ترتاد حلقات تحفيظ القرآن الكريم، ولو تصورت بلداً واحداً كهذا البلد، في بريدة ما يزيد على مائة وأربعين حلقة لتحفيظ القرآن الكريم! قد يكونُ في الحلقة الواحدة مئات من الطلاب، ما بين طلاب الثانوي والمتوسط والجامعة، والأساتذة أيضاً من الخريجين وغيرهم! كلهم يعكفون على حفظ كتاب الله تعالى من صلاة العصر إلى المغرب، وربما كان في وقتٍ ليس بالبعيد كان الإنسان -حتى من الصالحين- يثقل عليه أن يجلس في المسجد من صلاة العصر إلى المغرب، وأي إنسان يستطيع أن يتجاهل هؤلاء الشباب القيادات التي أصبحت تؤم في جميع المساجد؟ خاصةً في هذا الشهر الكريم، إن لم نقل في كل المساجد ففي جلها! شباب ربما يكونُ أحدهم في سن الخامسة عشر أو السادسة عشرة، يؤم المصلين حفظاً عن ظهر قلب في صلاة التراويح والقيامِ وغيرها، من يستطيع أن يتجاهل أولئك الشباب الذين عمّروا حلق العلم؟ وبالأمس كانت حلقة المشايخ يكون فيها عشرة أو اثنا عشر من الطلبة، أما اليوم فتأتي إلى الحلقة فتجد فيها مئات من طلبة العلم من هذه النبتات الطيبة الطاهرة التي سقيت -بحمد الله- بسقي التوحيد والإيمان؛ فأينعت وأثمرت خير ثمار! من يستطيع أن يتجاهل هذه الجموع الغفيرة من الشباب التي تؤم المساجد للصلاة في رمضان وفي غيره، حتى أصبح كثيرٌ ممن يرتادون المساجد لصلاة التراويح والقيام هم من الشباب، ذكوراً وإناثاً.
من يستطيع أن يتجاهل تلك الدماء التي زينت أرض أفغانستان؟ إنها دماء شبابٍ أطهارٍ، أبرارٍ، أتقياء من هذه البلاد ومن غيرها، رضيت بالآخرة عن الحياة الدنيا، باعت الدنيا واشترت الآخرة، ورضوا بما عند الله، فزهدوا في الدنيا، فتركوا فرش الحرير، والديباج، والنعيم، وأطايب الطعام والشراب، وذهبوا إلى هناك حيثُ الجوع، والعطش، والخوف، والتعب، يتسلقون على رؤوس الجبال، وقد صم آذانهم أزيز الطائرات، ومع ذلك كله فإنهم واثقون بالله تعالى، يتطلع أحدهم إلى الموت كما يتطلع أحدنا إلى الحياة، ولسان حاله يقول: ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل مُنعطفِ وما أبالي به حتى أُحاذرَهُ فخشية الموت عندي أبرد الطرف ولا أحد -أيضاً- يستطيع أن يتجاهل -فضلاً عن هؤلاء وأولئك- جماهير غفيرة من شبابنا في المدارس والجامعات والمؤسساتِ المختلفة، ممن هم مهتدون مستقيمون بحمد الله، من رواد المساجد المحافظين على دينهم وعرضهم ومالهم، البعيدين عما حرم الله عز وجل، وهم بحمد الله كثرةٌ كاثرة! لا يحتاج الأمر الإطالة بذكرها.
وكذلك الحال بالنسبة لفتياتنا، فإنا نحمد الله تعالى كل الحمدِ، على أننا نجد أنه في هذا الوقت الذي هيمن فيه الظلام على كثيرٍ من بقاع العالم الإسلامي، إلا أن الصحوة قد أينعت خير إيناع، فلا تكاد تجد مدرسةً أو معهداً أو جامعةً للبنات إلا وتجد فيها حلق الذكر، يجتمع فيها صفوة المدرسة: من الطالبات، والمدرسات، والمعلمات، ويتدارسن كتاب الله تعالى ويقرأنه، ويتدارسن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتواصين بالحق، ويتواصين بالصبر، حتى أصبح هذا الأمر -بحمد الله تعالى- أمراً عادياً مألوفاً لا يستغربه أحد، وحتى أصبحت تجد في كثيرٍ من المدارس أن كل الطالبات هن ممن ينتسبن إلى هذه الحلقات العلمية.
ومن يستطيع أن يتجاهل الحجاب الشرعي الذي أصبح موجوداً في كل مكان؟ تشاهده في المسجد وفي الشارع، وفي البيوت، وفي كل مكان؟ وأصبح كثيرٌ من الفتيات المؤمنات لا تكتفي فقط بحجاب وجهها وسائر جسدها، بل تضيف إلى ذلك أن تحجب كفيها وأن تحجب قدميها بالجوارب وغيرها، حتى إنه لا يرى منه موضع ظفر فأية نعمةٍ أعظم من هذه النعمة؟! نعم الإله على العباد كثيرةٌ وأجلهن هداية الأولادِ هذا من فيض الله، من فضل الله، من جود الله، من نعمة الله، من كرم الله عز وجل، وليس بكد أيدينا ولا بفعلنا، ومهما فعل الإنسان من الأسباب فهي قاصرة، ولكن الله تعالى بمنه وكرمه وجوده قد أراد بهذه الأمة خيراً حين هدى شبابها وفتياتها إلى الطريق المستقيم، ولا أحد يتجاهل أعداداً كبيرة من فتياتنا من قاصرات الطرف المقصورات في بيوتهن، فهنَّ قاصرات الطرف عما حرم الله، لا ينظرن إلى حرام، وهن مقصورات في بيوتهن لا يخرجن إلا لما لابد من الخروج إليه، هذا كله مما لا يختلف عليه اثنان، ولا يجهله منا إنسان.(223/8)
بعض الظواهر السلبية في المجتمع
لكن الأمر الذي أود أن أشير إليه، هو أن هناك بعض الظواهر السلبية، خاصةً في هذا الشهر الكريم، مما تحتاج منا إلى تأكيدٍ وبيان:(223/9)
إهمال الصغار وقت التراويح والقيام
كما أننا نلاحظ في هذا الشهر الكريم إهمال الصغار أيما إهمال، فالأم -مثلاً- قد تخرج للتراويح أو للقيام، وتترك أولادها، والأب -أيضاً- يأتي للمسجد مبكراً ويترك أولاده، وقد يكونون صغاراً فيختلطون بالكبار واختلاطهم بالكبار قد يكونُ مدعاة إلى التعود على التدخين -مثلاً- وربما يكون ذريعةً إلى تعاطي المخدرات، وربما يرتبطون بشللٍ منحرفة، تزين لهم الفاحشة والرذيلة، وتجرهم إلى بؤر لا يعلم ما فيها من الفساد والنجاسة إلا الله عز وجل، وربما يتعرض الولد لدهسٍ أو دعسٍ بسيارة، وربما يتعرض لاختطاف، وربما يتعرض لألوان من المخاطر، كل واحدٍ منا له أن يتصورها ويعلمها.
فهل صحيحٌ أن تذهب الأم وتترك بناتها، أو يذهب الأب ويترك أولاده؟ كلا! ليس بصحيح، وَلأَنْ تصلي الأم في بيتها التراويح أو ما شاء الله لها وتراقب بناتها وأولادها الصغار خيرٌ لها من أن تأتي إلى المسجد لتصلي وتترك رعيتها التي استرعاها الله عليها، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} فالأب راعٍ والأم راعية، وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.(223/10)
عدم توعية الأولاد على العبادات
كما أننا نجد أن كثيراً من الآباء والأمهات لا يحرصون على تعويد أبنائهم على الصيام والقيام والعبادة، فربما تركوا الولد لا يصوم، على رغم أنه قد قارب البلوغ، وربما يبلغ -أحياناً- ولكن لا يلزمونه بالصيام إما شفقةً عليه، أو لضعف شخصية الأبوين وأنهم ما اعتادوا أن يلزموا الولد بشيء، فإذا رفض فلا حيلةَ لهما حينئذٍ، إن أطاع وانصاع من قبل نفسه، وإلا لم يستطيعوا أن يفرضوا عليه شيئاً.
حتى إنني أعرف حالاتٍ كثيرة جداً، وخاصة في أوساط الفتيات، ممن تبلغ ولا تصوم لعدم تربية الأهل، الأم لا تدري أن ابنتها بلغت، أصابها المحيض -مثلاً- أو بغيره من علامات البلوغ، وربما تستحي البنت فلا تخبر أهلها، فتظل مفطرةً طيلة شهر رمضان، وقد تكون تصوم -أحياناً- وهي حائض؛ لأنها تستحي أن تفطر وتقول لأهلها: إنني حائض، هذا أيضاً لا يجوز؛ لأن صيام الحائض -كصلاة الحائض- لا يجوز، لا يجوز لها أن تنوي الصيام كما أنه لا يجوز لها أن تصلي وهي حائض، وإنما هذا يكون بسببِ عدم اهتمام الأبوين وعدم تدريبهم لأبنائهم على الصيام والقيام.
كما أننا نجد بعض الذين يأتون بأولادهم معهم إلى المساجد قد لا يهتم بأولاده، فيكون مجيء الولد للمسجد سبباً في إيذائه للمصلين، وارتفاع الأصوات والركض والذهاب والإياب والمجيء، وربما شغل المصلين عن صلاتهم، وحصل من جراء ذلك أمورٌ لا تحمد عقباها.(223/11)
في العمرة
أمرٌ ثالث: السفر للعمرة، وما أدراك ما السفر للعمرة! يقول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض نساء الأنصار: {إذا كان في رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة} وفي رواية في البخاري: {فإن عمرة في رمضان تعدل حجةً معي} ولكن -ويا مرارةً بَعْدَ "لكن"- كم نجد من السلبيات في هذا السفر! فمن الشباب من يسافرون ويستأجرون بيوتاً هناك تكون مكاناً لاتفاق على مغامراتٍ تبدأ ولا تنتهي! جولات في الشوارع، وإيذاءٍ للناس، ومعاكسات، ومغازلات! ومضايقة للمؤمنين القائمين، والعاكفين، والركع السجود، والمعتمرين الذين جاءوا يبحثون عن الفضيلة والأجر! فهل يجوز هذا؟! هل هذا حق وفد الله عز وجل علينا؟ كلا ثم كلا!! ومن الشباب من يرتكبون ما حرم الله تعالى في أطهر بقعة!! ففي المسجد الحرام تجد المضايقات، وتجد الغمز واللمز، وتجدُ الاقتراب من النساء، وتجد إيذاء المؤمنات ومضايقتهن في أنفسهن!! وهذا -أيضاً- مما يسخط الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] .
فاحذر -يا أخي الحبيب- أن تكون ممن أراد بهذا المسجد الحرام إلحاداً فأذاقه الله تعالى من عذابٍ أليم، في نفسك، أو في أهلك، أو في مالك، أو في ولدك بعض الآباء والأمهات يسافرون للعمرة، ويتركون أولادهم هنا، دون أن يكون عليهم قيّم، ولا رقيب، ولا حسيب، فيبقى الأولاد في البيت لوحدهم، لسببٍ أو لآخر، وهنا قد يأتيهم قرناء السوء، وقد يتسلل إليهم الشيطان، أو أعوانه من شياطين الإنس، فيزينون لهم الباطل، ويدعونهم إلى الفساد والرذيلة، وفي غيبة الأبوين قد يحدث مالا تحمد عقباه.
أفيسوغ لك -يا أخي الكريم-: أن تذهب إلى نافلة، وتترك فريضة؟ أو يذهب الآباء بأولادهم -ذكوراً وإناثاً- إلى مكة، ويكون الأب عابداً زاهداً قائماً مصلياً راكعاً ساجداً في المسجد الحرام، حتى إن منهم من يجلس في المسجد حتى تطلع الشمس، وربما يكون أولاده وبناته يتسكعون في الشوارع ويتعرضون للمارة!! وربما قبض على بعض الأولاد من قبل الأجهزة المختصة، وأبوهم جالسٌ في المسجد الحرام يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس!! وكم رأينا ممن يتجولن في الشوارع لغير غرض إلا للنظر إلى الغادين والرائحين!! وربما تجدُ رسالة صدرت من بعض الفتيات أو تجد تعرضاً لبعض الشباب!! وإن كانت حالات قليلة؛ لكن مع ذلك ربما يحدث هذا من عائلاتٍ عريقةٍ محترمة، والشيطان لا يستحي من أحد، ولا يُقَدِّرُ أحداً، ولا يُوَقِّرُ أحداً، ولا يمكن أن يقول: هذه بنت فلان، أو من أسرةٍ فلانية، أو من بلدٍ فلاني.
الشيطان يحرص على الجميع؛ لأنه حريص كل الحرص على أن يكونوا رفقاء له في النار -والعياذ بالله! فهو لا يمكن أن يتورع عن أحد، أو يحترم أحداً، أو يوقر أحداً، أو يستحي من أحد، فليس صحيحاً أن يهتم الأبوان بالطواف حول الكعبة، أو بالصلاة قياماً أو تراويحاً، أو بالجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس -وإن كانت هذه كلها أعمالٌ فاضلة لا شك في فضلها- ويتركوا رعاية أولادهم وبناتهم، ومراقبتهم والقيام على شئونهم، وأداء الحقوق الواجبة لهم هذا لا يسوغ ولا يجوزُ بحالٍ من الأحوال.(223/12)
تضييع الأوقات بافتراش الأرصفة
فنحن نشاهد مجموعات من الشباب يفترشون الأرصفة وعلى جنبات الطرق في مثل هذا الشهر الكريم وفي غيره، ويقضون أوقاتاً طويلة من بعد صلاة العشاء، وإلى وقت السحور، إما على مشاهدة التلفاز، أو الفيديو، أو لعب الكرة، ولا شك أن هذا وقتٌ ثمين وجزءٌ عظيم من أوقاتهم، وفي وقت الشباب الذي هو أثمن الأوقات وأعظمها وزهرة الحياة، فكيف تضيعه بهذه الطريقة التي لا تخدمك ولا تخدم أمتك لا في دينٍ ولا في دنيا؟! إنها ظاهرة تستحق العلاج، وإن مما يستحق الإشادة أن يقوم مجموعات من شبابنا الصالحين وبتوجيهٍ من مشايخهم وعلمائهم بجولات موفقة على تجمعات هؤلاء الشباب، وجلسات طيبة مباركة معهم، وتوجيهٍ صالح، وهديةٍ مفيدة، لعل الله تعالى أن ينفع بها بعض أولئك الشباب، وأن يحيي بها قلوبهم وهي على كل حال ظاهرةٌ سلبية تستحق المعالجة.(223/13)
استئجار الأحواش
وهناك ظاهرةٌ لا تقل خطورةً عنها، وهي أن كثيراً من الشباب بدءوا يلجئون إلى بعض الأحواش فيقيمون فيها، وربما يستأجر بعضهم مزرعةً صغيرة أو حوشاً، يستأجرونه يوماً في الأسبوع أو أكثر، ويسهرون فيه الليل كله، وأقل ما يكون هناك: التدخين أو تعاطي ما يسمى بالشيشة، ومشاهدة التلفاز أو الفيديو، فضلاً عن الكلام الذي يضر ولا ينفع: من غيبةٍ، أو نميمة، أو سبٍ، أو شتمٍ، أو غير ذلك، ولا شك أننا نربأ بشبابنا عن مثل هذه المجالس، وعن مثل هذه الطرائق التي يضيعون بها أثمن ما يملكون: والوقت أعظم ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيعُ وهذه قضية تتطلب تكافؤ الجهود، فأنا لا يمكن أن أؤجر -مثلاً- حوشاً أو مزرعة لشاب إلا وأنا أعرف كيف سيستخدمه، فإن كان ممن سيستخدمونه في خيرٍ وبر فحبذا حتى لو كان بالمجان، أما إن كنت أخشى أن يعصى الله تعالى فيه، فإنه ليس جائزاً أن أكون من المتعاونين على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] .
كما أن الواحد من أولئك الشباب بحاجة إلى أن ينصح زملاءه وإخوانه، ينصحهم بأن يستغلوا وقتهم بما يعود عليهم في الفائدة، ويحاول أن يدعو إليهم بعض الصالحين، ويسهل عملية الاتصال، والزيارة، والجلسة ولو كانت جلسة قصيرةً، فإن كلمةً واحدة ربما يفتح الله تعالى بها قلباً ويبصر عيناً، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل:77] وقال: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] .(223/14)
ضرورة تربية الأولاد منذ الصغر
أيها الإخوة: أولادنا ثروةٌُ هائلة في الدنيا والآخرة، وهم بابٌ من باب الجنة لمن عني بتربيتهم ورعايتهم وإصلاحهم، وبرٌ دارٌ عليك وأنت موسدٌ في قبرك إذا كانوا صالحين، فالله الله -أيها الإخوة- ألا يكون همنا في تربية الأولاد هو أن نسمنهم فقط، أو نكسوهم فقط، أو نلبي رغباتهم ومطالبهم بالثياب ونحوها، والسيارات وغيرها، كلا ثم كلا! بل يكون همنا أن نربي أولادنا تربيةً حسنة، ولنعلم -أيها الإخوة- أن تربية الأولاد تربيةً حسنة لا تكون بالسوط والعصا، فهذه آخر وسيلة يستخدمها الإنسان إذا لم يُجْدِ غَيْرُها، وإنما ينبغي أن تكون التربية بالسياسة الحكيمة منذُ صغرهم، منذُ نعومة أظفارهم، بل قبل ذلك.
مما يحكى في الطرائف أن رجلاً جاء إلى أحد العلماء وقال له: أنا عندي وَلَدٌ وُلِدَ الآن، وأريد أن تبين لي كيف أقوم بتربيته، قال: وقد وُلِدَ وَلَدُكْ الآن، قال: نعم، قال: هذا فات عليك، لكن أعلمك كيف تربي الذي بعده!! كيف فات وهو الآن ولد؟! قال: نعم فات لأنه ممكن أن أخبرك بتربية الولد حتى قبل أن تتزوج أمه، والإنسان عندما يأتي أهله فإن الرسول عليه السلام علمه أن يقول: {بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا" -وهذا تربية للولد- فإنه إن يكتب بينهما ولده لم يضره الشيطان} .
وهذه مبالغة لا شك، لكن المقصود أنه كما قيل: إن الغصون إذا عَدَّلتها اعتدلت ولا تلين إذا قومتها الخشبُ! قد ينفع الأدبُ الأحداث في مهلٍ وليس ينفع بعد الكبرة الأدبُ فإذا لم تربِّ ولدك في صغره، ويكون عنده احترام لك وتقدير لشخصيتك وأدب معك وهيبة، فإن هذا الولد قد يفرط منك ويضيع من يدك.
وفي الختام: اللهم أصلح لنا ذرياتنا يا حي يا قيوم! اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم أصلح شبابنا وفتياتنا، اللهم اجعلهم هداةً مهتدين، اللهم أقر بهم عيون آبائهم وأمهاتهم يا أرحم الراحمين، اللهم انفعهم وارفعهم يا حيُ يا قيوم، اللهم انفع بهم أمتهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعلهم غصةً في حلوق الكافرين والظالمين والمنافقين، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم اهدنا سواء السبيل، اللهم اهدنا سواء السبيل، اللهم وفقنا لطاعتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
أيها الإخوة: وبعد صلاة التراويح -كالعادة- سوف نجيب على الأسئلة لمدة عشر دقائق، وأود أن أذكر بأن هذه آخر ليلة، نتكلم فيها في هذا المسجد إن شاء الله، وسنستأنف هذه الدروس في يوم الاثنين ليلة الثلاثاء، في مسجد الجاسر، وأسأل الله للجميع الهداية والتوفيق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(223/15)
الأسئلة(223/16)
إهداء العمل للميت
السؤال
ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال -فيما معناه-: {من صلى الصبح، ثم جلس يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت كحجةً وعمرة} هل يجوز إهداء هذا العمل للأحياء والأموات؟
الجواب
أنت أحق وأولى بهذا العمل من الأحياء والأموات، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] وحينئذٍ فعلى الإنسان أن يكون هذا العمل لنفسه، أما الأحياء والأموات فعليه أن يكثر من الدعاء لهم بالصالحات.(223/17)
طاعة الرسول سبب لدخول الجنة
السؤال
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى} كيف يكون ذلك؟
الجواب
نعم؛ لأن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، هي رفضٌ لدخول الجنة، وطاعته هي سببٌ إلى الجنة، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء:80] .(223/18)
التخفيف من المعاصي
السؤال
هل حلق اللحية يكون سبباً في منع دخول الجنة، وكذلك مشاهدة التلفاز وما فيها من مسلسلات وأفلام وغناء وطرب؟
الجواب
هذه كلها من المعاصي التي يستغفر العبد ربه منها، فيستغفر العبد ربه من كل المعاصي صغيرها وكبيرها.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذرُ ما يرى لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً إنَّ الجبال من الحصى وإن الذنوب الصغيرة لا تزال بالرجل حتى تورده النار -والعياذ بالله! - ولا تزال بالرجل حتى تهلكه، فعلى العبد ألا يحتقر شيئاً من ذنوبه، صغيرها أو كبيرها، وهذه الذنوب التي ذكرها السائل، منها الصغائر ومنها الكبائر، فعلى العبد أن يتوب إلى الله تعالى منها، وأن يحرص ألا يلقى الله تعالى مرتكباً لكبيرة، ولا مصراً على صغيرة، وعلى العبد أن يكثر من الاستغفار لله عز وجل في كل حال.(223/19)
إجابة دعوة من مالٍ حرام
السؤال
من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة الدعوة، لكن إذا دعيت إلى الإفطار في رمضان، ودعاني شخصٌ يعمل حارساً في أحد البنوك، هل أجيب الدعوة، أو أرفضها؟
الجواب
إن كان هذا الحارس ليس له دخلٌ إلا راتب البنك؛ فلا تجب هذه الدعوة، أما إن كان له دخل آخر، كأن يكون عنده دكان، أو عنده أعمالٌ أخرى مباحة، فلا بأس بالأكل من طعامه أو شرابه.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، ووفقنا لخير الدنيا والآخرة، يا رحمن يا رحيم! اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(223/20)
العجب بالعمل
السؤال
كيف أخاف النفاق، وكيف تتعاظم ذنوبي عند نفسي مثل السلف الصالح، ونفسي تقول أنت إنسانٌ زكي، وأنا أقول: لا، وأنا شاب ملتزم، كيف يمكن ذلك؟
الجواب
أولاً: على العبد أن يكون له مقامات، منها: أن يتذكر عظيم إحسان الله تعالى إليه، وأنه كما قال الله عز وجل: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] حتى نعم الدين من العبادات والطاعات التي وفقك الله إليها فهي من الله عز وجل، وهي نعمة تحتاج إلى شكر، هذا مقام لابد أن تتذكره.
ثانياً: لا بد أن تتذكر مقاماً آخر، وهو: أن الطاعات إذا دخلها شيءٌ من الإعجاب والغرور بها؛ فإنها قد تكون سبباً في حبوطها، وبالتالي ليس للإنسان أن يفاخر أو يباهي بها أو يعتبرها زكاة لنفسه؛ لأنها تورده النار لا تورده الجنة، إذا قارن العبادة شيءٌ من العجب أو الغرور والإدلاء بها على الله جل وعلا.
ثالثاً: هو أن تتذكر عظيم تقصيرك في حق الله تعالى، وأنك لو قضيت حياتك كلها راكعاً أو ساجداً ما أديت شكر نعمة الله ولا قمت بفروض الطاعة له، فكيف تدلي بشيءٍ من العبادات التي أوجبها الله تعالى عليك؟! يحتاج الإنسان أن يراجع قلبه كثيراً في مثل ذلك.(223/21)
حجاب الخادمات
السؤال
هل يجوز للشغالة أن تتغطى عن صاحب البيت؟
الجواب
الشغالة أجنبية عن صاحب البيت، فلا يجوز لها أن تكشف وجهها أو شعرها له، وبالمناسبة فإنه لا يجوز استقدام الشغالة بدون محرم، ولا يجوز بقاؤها في بلدٍ لا يكون لها فيه محرم.(223/22)
الزكاة للدين
السؤال
امرأةٌ مدينة بمائتي ألف ريال ببناء سكنٍ لها ولأولادها، فهل يحق لها أخذ الزكاة؟
الجواب
إذا لم يكن عند المرأة ما تسدد به هذا الدين، ولا عند أولادها، وليس لها زوجٌ غنيٌ يسدد عنها، فإنه لها أن تأخذ الزكاة لسداد هذا الدين.(223/23)
الصفرة والكدرة بعد الحيض
السؤال
أنا امرأةٌ غسلت من الدورة بعد سبعة أيام، وصمتُ يومين، فجاءني نجاسة، هل صيام اليومين صحيح؟
الجواب
إذا اغتسلت المرأة عن الدورة، إما بالقصة البيضاء إن كانت ممن تأتيها القصة البيضاء، أو بالطهر التام والجفاف التام، ثم صامت، ثم جاء بعد ذلك نجاسة، فإن هذه النجاسة -كالصفرة والكدرة- لا تعتبر من الحيض، لحديث أم عطية: {كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهرِ شيئاً} فيوماها اللذان صامتهما صيامها فيهما صحيح، وكذلك تصوم بقية الأيام وتصلي، فإن الصفرة والكدرة ونحوها إذا لم تكن متصلة بالحيض بل انقطع الحيضُ ثم جاءت الصفرة والكدرة، فإنها لا تعدُ شيئاً.(223/24)
الصلاة بالقفازين
السؤال
ما حكم صلاة المرأة وهي ترتدي أو تلبس شراب اليدين (القفاز) ؟
الجواب
صلاتها صحيحة، المرأة مطلوبٌ منها أن تستر يديها وقدميها أثناء الصلاة، إما وجوباً عند بعض أهل العلم، أو استحباباً عند آخرين.(223/25)
صفة الاعتكاف
السؤال
إذا أراد الإنسان أن يعتكف، فما هي طريقته؟
الجواب
طريقته أن يجلس في مسجد، ويلزم عبادة الله تعالى، ويتجنب ما يتجنبه المعتكف، يتجنب الجماع، وأسبابه ودواعيه، ويتجنب فضول الكلام الذي لا فائدة منه، والإطالة بذلك، وإضاعة الوقت، وسائر المحرمات التي حرمها الله تعالى عليه في غير وقت الاعتكاف، وله أن يعتكف في العشر الأواخر أو في غيرها من أيام رمضان، وأيضاً- له أن يعتكف يوماً أو أكثر من ذلك حسب ما تيسر له؛ فإنه ليس لأقل الاعتكاف حدٌ محدود، لكن أقل ما ورد فيه بالسنة: يومٌ وليلة، أو يوم أو ليلة، كما قال عمر: {يا رسول الله! إني نذرتٌ أن اعتكف يوماً -وفي رواية ليلة- وفي رواية يوماً وليلة} وقال كثيرٌ من أهل العلم أنه لا حد لأقله.
السؤال: ماذا يفعل عند الاعتكاف؟ وما هي الأذكار الواردة؟ الجواب: لا يفعل إلا لزوم المسجد بهذه النية.(223/26)
الطريقة المثلى في حفظ القرآن
السؤال
ما هي الطريقة المثلى في حفظ القرآن الكريم؟
الجواب
التزام قدر معين، حزب معين، كوجه -مثلاً-، يحفظه يومياً، ثم يلتزم بطريقةٍ للمراجعة، يستطيع أن يراجع بها كل ما سبق منه، ويتعاهد هذا القرآن يوماً بعد يوم.(223/27)
التدرب على الإمامة
السؤال
أنا شابٌ ملتزم -ولله الحمد والمنة- وأقوم بجميع الأشياء من الفروضِ والسنة، لكن عندي عقدة وهي الخجل، وعندما أريد إمامة المصلين في المسجد ينتابني أشياء من الاضطراب في القلب والعرق، يسبب لي إحراجات كثيرة، وعدم انضباط السور، وأحفظ من القرآن شيئاً كثيراً، فما هو العلاج؟
الجواب
هذا قد يعود إلى سوء التربية في الصغر، وإلى عدم تدريب الإنسان نفسه، ولعل من أهم العلاجات لذلك أن يتدرب الإنسان على هذا، فإن هذا كغيره من الأشياء التي تحتاج إلى قدرٍ من الشجاعة والجرأة الأدبية، لا يمكن للإنسان مهما استمع إلى النصائح والمحاضرات والدروس والتوجيهات أن يزيلها من قلبه إلا بأمور منها الاستعانة بالله جلَّ وعلا، والتوكل والاعتماد عليه، ثم بداية التدريب على ذلك شيئاً فشيئاً، فيحاول أن يؤم المصلين، ولو في صلاةٍ سرية -مثلاً- ولو في مسجد لا يكثر المصلون فيه، شيئاً فشيئاً، ثم يحاول أن يقرأ على المصلين من بعض الكتب التي فيها وعظٌ وتذكير، ثم يحاول أن يلقي بعض الكلمات اليسيرة عليهم ولو من ورقة، وهكذا حتى يتدرب على هذا الأمر.(223/28)
اختلاف النية بين المأموم والإمام
السؤال
رجلٌ فاتته صلاة المغرب ثم أدرك صلاة العشاء وقد فاتته ركعة، هل يصلي المغرب بهذه الركعات الثلاث المتبقية، علماً أنه لن يجلس التشهد الأول في صلاة المغرب؟
الجواب
إذا فاتتك صلاة المغرب، وأدركت قوماً يصلون العشاء، فإنك تصلي معهم، فإن كنتَ أدركت الصلاة من أولها، فاجلس بعد الثالثة منتظراً للإمام حتى يجلس للتشهد، ثم تتشهد معه وتسلم، وإن كنتَ قد فاتتك ركعة، فإنك تسلمُ مع الإمام حينئذٍ.
السؤال: رجلٌ فاتته المغرب ولحق صلاة العشاء، فهل يصلي معهم بنية المغرب فإذا قام الإمام للثالثة جلس للتشهد الأخير، ثم يسلم، ثم يلحق الإمام في الركعة الأخيرة بنية العشاء؟ الجواب: وهذا -أيضاً- لا بأس به، أي لو أن إنساناً فاتته صلاة المغرب، ولم يصليها هي ولا العشاء، وجاء إلى قوم يصلون العشاء، فأدرك الصلاة من أولها، فصلى معهم بنية المغرب، فإذا قام الإمام للرابعة، جلس وتشهد وسلم، ثم لحق بهم في الركعة الرابعة، فكبر معهم بنية العشاء؛ فإنه لا حرج في ذلك -أيضاً.(223/29)
التحجب عن زوج البنت
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تتحجب عن زوج ابنتها؟
الجواب
للمرأة أن تكشف وجهها لزوج بنتها، ولو أنها كانت تستحي منه فحجبت وجهها؛ فإنه لا حرج عليها في ذلك.(223/30)
وصل الصلاة بصلاة
السؤال
هل يجوز أن تصلى النافلة بعد فرض الجمعة مباشرةً دون الفصل بينهما بالخروج أو بالكلام؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم {نهى أن توصل صلاة بصلاة، حتى يتحدث -يتكلم- أو ينتقل من مكانه، والحديث ليس بالضرورة أن يكون من كلام البشر؛ فالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والذكر ونحوها هي من الكلام الذي يفصل به بين الصلاة والأخرى.(223/31)
حكم المذي
السؤال
خلال الوضوء يخرج مني سائل شبيهٌ بالمذي لا يتوقف إلا قليلاً ويعود، فماذا أفعل؟ وهل الوضوء صحيح أم لا؟ وما الحكم إذا وقع على الملابس، هل ينجسها؟
الجواب
بالنسبة للمذي (وهو سائلٌ أبيض رقيق يخرج عند تحرك الشهوة) فإنه نجس بإجماع العلماء، وخروجه من الذكر يوجب الوضوء، ووصوله إلى الملابس ينجسها ويوجب غسلها، لكن إن كان هذا المذي مع الإنسان مستمراً، فإنه يكون من السلس، فيتوضأُ إذا دخل الوقت، ثم يضعُ على ذكره شيئاً؛ لئلا يصل هذا المذي إلى ملابسه أو بدنه فَيُنَجِّسَها، ثم يصلي.(223/32)
اللسان ومنطق الصمت
تحدث الشيخ عن نعمة اللسان والفصاحة والبيان، وبين أنها لابد أن تستغل في طاعة الله؛ لأن كل إنسان قوله محاسب عليه، ثم تكلم عن آفات اللسان ومضاره على الإنسان في الدنيا والآخرة، ثم ذكر حال السلف في تعاملهم مع كلامهم وكيف كان كلامهم، وثم وضح أن الصمت لا يحمد لذاته، وعدَّدَ أسباب الصمت وبين ما هو المذموم وما هو الممدوح، ثم ختم كلامه بالأسباب التي تعين على موازنة الإنسان لكلامه.(224/1)
نعمة اللسان والبيان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
إخواني الكرام: موضوعنا إن شاء الله حول الصمت والمنطق.
لقد امتن الله عز وجل على الإنسان بنعمة اللسان والبيان، كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] .
وهذه اللسان من أبرز وأعظم مميزات الإنسان، فإننا نجد أن العرب يسمون الحيوانات عجماء، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {العجماء جبار} وفي لفظ {العجماء جرحها جُبار} وذلك لأن العجماء لا تنطق ولا تتكلم، ولا تبين عن نفسها، فلا يدرى ماذا تتألم، وماذا تريد، وماذا تحتاج، ولا يعلم عنها شيئاً؛ لأنها لا تنطق ولا تعرب عن نفسها، أما الإنسان فميزه الله عز وجل بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] .
هذه نعمة، وكذلك يقول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4] .
فامتن الله على الإنسان بالبيان -أي أنه يَبِينُ عما في نفسه- ولاحظ أن الله عز وجل قال في الآية: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4] وهذا فيه إيماءٌ وإشعار وإشارة إلى أن البيان من خصائص الإنسانية، أي أن من خصائص الإنسان أنه يبين عن نفسه، فبماذا يتميز الإنسان عن الحيوان؟ يتميز بأمور: منها العقل، والفؤاد، ومنها اللسان الذي يعرب عما في قلبه، ولذلك يقول الشاعر: لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده فلم تبقَ إلا صورة اللحم والدم وكم ترى من صامت لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التكلمِ فقوله: (لسان الفتى نصف ونصف فؤاده) أي أن لسانك يعتبر نصفك؛ لأنه يعبر عما في نفسك.(224/2)
تقدير الناس لصاحب اللسان والبيان
ولذلك فإن الناس يُقدِّرون الإنسان أو يزدرونه بحسب منطقه وما يخرج من فيه، وربما تجد إنسانا له هيئة وبزة وسمت حسن وهيبة، فإذا جاء إلى الناس قاموا إليه وأكرموه وبجلوه وقدموه في المجلس فإذا تكلم ضحكوا منه وازدروه ولم يهتموا به.(224/3)
الشياطين وزخرف القول
كما أنه تعالى ذكر أن الجن والإنس من الشياطين، يتقاولون فيما بينهم زخرف القول، لإضلال الناس، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:112-113] .
لاحظوا الآية: شياطين الإنس والجن، يتعاون بعضهم مع بعض ويوحي بعضهم إلى بعض، زخرف القول -وهو الكلام الحسن المعسول، والكلام اللين الجميل- يغرون به الناس ويخدعون به، لكن هذا الكلام الذي يخدعون به لا يضر إلا الذين لا يؤمنون بالآخرة، كما قال تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام:113] وهذا الكلام في العصر الحاضر، لم يعد مجرد حوادث فردية، ففي الماضي في الجاهلية كان يوجد مثلاً رجل شاعر والله عز وجل وصف الشعراء في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:224-227] فالشاعر في الجاهلية كان يقول قولاً لا رصيد له من الواقع، فقد يتغزل الشاعر، وفي الواقع أنه رجل عفيف كما هو مشهور عن جرير وكثير من شعره غزل، لكن يُحكى عنه أنه كان من أكثر الناس عفة، وأبعد الناس عن الدنس، وعكسه يروى عن الفرزدق، أن شعره من أعف الشعر لكنه كان كما قال عنه الجاحظ: كان زير غوانٍ "زير نساء" أي رجل متورط في الشهوات والملذات -عافانا الله وإياكم- لكن شعره عفيف.
فالشعراء كانوا يفعلون هذا، أما اليوم فلم تصبح القضية قضية واحد أو اثنين أو عشرة، لا.
اليوم في أنحاء العالم من أقصاه إلى أدناه، أصبح هناك أجهزة كاملة متخصصة في التزوير وزخرف القول، بحيث أنها تقلب الحق باطلاً، وتقلب الباطل حقاً في نفوس الناس، حتى يلتبس الأمر على كثيرٍ من المغفلين.
وحتى تعرف معنى هذا الكلام، تأمل من أين يأخذ الناس -النساء والأطفال والشباب والشيوخ- آراءهم؟ وتصوراتهم ومفاهيمهم وأفكارهم؟ إنهم يأخذونها غالباً بواسطة أجهزة الإعلام العالمية، من إذاعة وصحافة وتلفزة، وكتب وغيرها وغالب هذه الأشياء هي زور وتزوير، فتزين للناس زخرف القول، كما قال تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] .(224/4)
قصة أبي حنيفة
لعلكم تعرفون جميعاً قصة أبي حنيفة رحمه الله حين كان في مجلسه مع طلابه، وكان يشتكي وجعاً برجله فمدها، لأنهم طلابه ويعرفونه ويقدرونه، وليس بينه وبينهم كلفة، فجاء رجلٌ غريب عليه عمامة، وهيئة وبزة حسنة، فهابه أبو حنيفة وكف رجله -رحمه الله- فجلس الرجل وسكت، وأبو حنيفة خائف يظن أن هذا من علماء الأمة، من علماء المشرق أو المغرب الذين يسمع بهم أبو حنيفة ولا يعرفهم، فتكلم أبو حنيفة في مسألة من مسائل الصيام، في مسألة طلوع الفجر، وأنه يكون الصيام بطلوع الفجر، فتنحنح هذا الرجل وتحرك ثم التفت وقال: يا إمام، فإن لم يطلع الفجر حتى طلعت الشمس ماذا يكون؟ فتبسم أبو حنيفة وقال: الآن يمد أبو حنيفة رجله ولا يبالي، فأول ما رأى هذا الرجل هابه وقدره، لكنه لما رأى سوء منطقه، عرف أن هذا المظهر ليس على مخبر وليس على حقيقة، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى ميز الإنسان بهذه الميزة، وهي ميزة يشترك فيها المؤمن والكافر، والطيب والفاجر.(224/5)
الفصاحة والبيان تعين على الدعوة
إنك تجد في القرآن الكريم أن الله عز وجل ذكر على لسان موسى عليه السلام فصاحة هارون قال موسى عليه السلام كما جاء في القرآن الكريم: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُون} [القصص:34] .
فوصف أخاه هارون بالفصاحة، وبين أن هذه الفصاحة نعمة، يستفاد منها في الدعوة إلى الله عز وجل، فإن الإنسان الفصيح البليغ القادر على الحديث والتعبير، يكون لديه قدرة على الدعوة إلى الله عز وجل وإقناع الناس، وكم من متحدث أو خطيب إذا تكلم سكت الناس وأصغوا، وربما استثار عواطفهم، وربما غير كثيراً من أفكارهم ومفاهيمهم، وربما يهتدي إنسان بسبب كلمة سمعها، فالفصاحة والبلاغة سبب للهداية أحياناً، ولذلك وصف موسى بها أخاه هارون فقال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً) .
وفي مقابل ذلك وصف الله عز وجل جماعات من غير المؤمنين بالفصاحة والبلاغة والتقعر في الكلام، فقال مثلاً عن الكفار، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] .
فوصفهم بالخصومة والجدل، وهذا دليل على أنهم يتكلمون ويعبرون ويعربون، وهذا معروف عند العرب، فوصفهم بذلك، كما وصف به سبحانه وتعالى المنافقين في مواضع، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] أي فصحاء بلغاء، يملكون أزَِمَّة القول، فإذا قالوا لم يملك الناس إلا أن يستمعوا وينصتوا لهذا القول البليغ، الذي هو في الذروة من الفصاحة والبيان وكذلك قال عز وجل عن المنافقين: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] .
إذا جاء الخوف -كما في أول الآية- رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، خائفون فإذا ذهب الخوف جاءوا يتكلمون ويعتذرون، ويتوسعون في الكلام، حتى ربما أقنعوا بعض المؤمنين، بأنهم كانوا معذورين فعلاً، وأنهم كانوا صادقين فيما يقولون، وكذلك قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204] .
أي يأتي إليك يتحدث ويقول لك: يا أخي أنا كذا وأنا كذا وأنا كذا وأنا أحب الله ورسوله والمؤمنين، وفيَّ وفيَّ وفيَّ، ثم إذا انتهى من كلامه، قال: يا أخي أنا أشهد الله على أني ما قلت لك إلا حقاً وصدقاً، ولا تظن أني منافق أو مخادع أو مجامل، والله عز وجل ذم مثل هذا الصنف، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] وذلك لجماله وفصاحته، وأنه يكسوه بالألفاظ الحلوة {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204-205] .
وكثيراً ما تجد مثل هذا الصنف من الناس، فيخدعك لأول مرة، لأنك تستبعد أن يوجد إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يجرؤ مثلاً على الحلف الكاذب، وعلى تحسين الكلام الكاذب، وعلى ادعاء القول الكاذب، ولكنك إذا تتبعت بعض حال هؤلاء وجدتهم والعياذ بالله على أسوأ حال، وقد رأيت أصنافاً من الناس يجلس بين يديك، حتى والله إن منهم من يبكي، فتذرف عيناه الدموع، ويتحدث ويعتذر، ويقول: الأمر كذا وكذا، وأنا وأنا، ويثني على نفسه فوق ما يخطر ببالك، فإذا تحققت من أمره وجدت هذا الرجل والعياذ بالله ماكراً غداراً لا عهد له ولا ذمة، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، فهذا صنف من المنافقين والمخادعين فضحهم الله عز وجل، وذكر أن عندهم فصاحة وبلاغة وتوسعاً في المنطق، لكن هذا لا ينفعهم.(224/6)
الفصاحة والبلاغة لا تحمد ولا تذم بذاتها
من المعلوم أن الفصاحة والبلاغة لا تحمد ولا تذم بذاتها، فالله تعالى وصف المنافقين بالبلاغة ووصف بها المؤمنين أيضاً، فهي وسيلة يستخدمها المؤمن فتكون سبباً في هداية الناس، وتحريك قلوبهم وإرشادهم إلى الطريق المستقيم، ويستخدمها الفاجر والكافر والمنافق، فتكون سبباً في إضلال الناس، وتصغى أفئدتهم إلى زخرف القول الباطل، الذي يلبس الباطل لبوس الحق، ويلبس الحق لبوس الباطل.(224/7)
بين الصمت والكلام
أيها الإخوة الحديث عن موضوع اللسان والصمت والمنطق مهماً، ولا تظنوا أنني في هذه الكلمة، أو في هذا الدرس أريد أن أقول لكم إن الصمت خير من الكلام، كلا، فإن هذا من الكلام المجمل، الذي يقع عليه اعتراض كبير، فلا يمكن أن نقول: إن الصمت خير من الكلام، وليس قصدي في هذه المحاضرة أن أقول لكم: إن الصمت خير من الكلام، كما إنه ليس المقصود أن يقال لكم: إن الكلام خير من الصمت، بل المقصود أن نبين متى يكون الصمت حسناً؟ ومتى يكون الكلام حسنا؟ لقد أوصى الشارع بحفظ اللسان، واعتبر أن الكلمة مسئولية، فالإنسان يدخل الإسلام بكلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإن هو قالها عصم منا دمه وماله إلا بحق الإسلام، وكذلك يخرج من الإسلام بكلمة، فربما كلمة يقولها الإنسان تكون سبباً في ردته، كما لو سب الله تعالى، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو استهزأ بالدين، أو سخر من المؤمنين لتدينهم، أو ما أشبه ذلك، وقد يدخل الإنسان الجنة بكلمة، وقد يدخل النار بكلمة، وقد يخسر الإنسان دنياه بكلمة، وقد يكسب ويربح في دنياه أيضاً بكلمة، فالكلمة ليست أمراً هيناً.(224/8)
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
أيها الإخوة: كثيراً ما تسمعون بعض العامة، يتكلمون بكلام رديء، فإذا قلت له: لماذا تقول هذا الكلام؟ قال: يا أخي كلام طار في الهواء، إن هذا ليس كلاماً يطير في الهواء، إنما هو محفوظ، يقول الله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فالإنسان عنده ملكان أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، حاضران ينتظران ما يخرج من الإنسان لكتابته، وقد أجمع السلف رضي الله عنهم كما يقول ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- على أن الذي عن يمين الإنسان يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات (ما يلفظ من قول) ، (قول) هنا نكرة في اللغة العربية، تشمل كل قول، سواء كان قولاً حسناً مثل الذكر والقرآن، أو قبيحاً مثل السب والشتم، وما أشبه ذلك، أما الكلام العادي، مثل ذهبت وجئت وأكلت وشربت ونمت وقمت وسافرت وأقمت، وما أشبه ذلك، من الكلام الذي ليس حسناً ولا قبيحاً، فهذا الكلام هل يكتب؟ اختلف العلماء والصحيح أنه يكتب، لأن الآية عامة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فكل ما لا يكتبه الملك الموكل بالحسنات صاحب اليمين، يكتبه الملك الموكل بالسيئات الذي هو عن شمال الإنسان، وقد ورد من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [[إن الملكين يكتبان كل شيء، فإذا كان يوم الخميس محا الله عز وجل من كلام الإنسان ما لا إثم فيه ولا أجر له، فذلك قول الله عز وجل {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]] ] .
فقوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] معناه حسب رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه يمحو الكلام الذي ليس بحق ولا باطل، ولا خير فيه ولا ضرر منه، ويثبت ما سوى ذلك من الكلام الذي يحاسب عليه الإنسان سواء كان له أو عليه.
وكذلك ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت} إذاً أمامك طريقان: إما أن تقول خيراً أو تسكت، ولذلك أخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث، أن كلام الإنسان إن لم يكن خيراً فهو شر، وإن لم يكن له فهو عليه، وكأنهم قالوا: ليس هناك كلام، لا لك ولا عليك، بل الكلام الذي ليس خيراً فهو شر، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان إما أن يقول خيراً أو أن يسكت، ولا شك أن قول الخير واسع، والكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، والدعاء صدقة، وتطييبك لخاطر ولدك أو أخيك أو صديقك أو جارك أو زوجك صدقة، حتى ولو لم تكن ذِكراً محضاً لله عز وجل، فإن هذا كله من الخير والبر وفضل الله تبارك وتعالى واسع، وما لم يكن للإنسان مصلحة من ورائه لا دينية ولا دنيوية، فهو على الإنسان، ويكتب عليه، ولذلك قال عليه السلام: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت} .(224/9)
الحذر من التكلم فيما لا يعني الإنسان
إن جميع الأعضاء يدور صلاحها على صلاح اللسان، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو حديث صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تذكر اللسان تقول له: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا} هكذا تقول الأعضاء للسان: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا، والحديث رواه أحمد والترمذي وحسنه؛ وذلك لأن اللسان يعبر عما في القلب، فإذا كان كلام الإنسان حسناً وطيباً، كذكر الله وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن منكر، وما أشبه ذلك، دل على صلاح القلب، وإذا صلح القلب، صلح السان، وإذا صلح اللسان صلحت الجوارح كلها.
أخي المسلم: لا تمدحن امرئٍ لصلاحه أو صلاته أو صيامه، وأنت لا تدري ما مدى حفظه لمنطقه، روى أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مات -بل في بعض الروايات- أنه قتل شهيداً، فقال بعض الصحابه: هنيئاً له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وما يدريك أنه في الجنة؟! لعله تكلم فيما لا يعني، أو بخل بما لا يغنيه} والحديث رواه الترمذي، ويقول الحافظ ابن رجب، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، أنه قال ذلك، مع أن الرجل قتل شهيداً فيما يحسبه الناس، ولكن منع الرسول صلى الله عليه وسلم من تزكيته، لماذا؟ قال: {لعله تكلم فيما لا يعنيه} ، إذاً من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.(224/10)
محاسبة اللسان ومراقبته
إن كل كلمة تخرج من اللسان فهي محسوبة ويؤاخذ عليها، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر، حين قال: يا رسول الله! ما النجاة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك} تأمل هذه الوصايا الثلاث: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك، فأمر الإنسان أولاً بأن يمسك لسانه فلا ينطق إلا بحق، ويسعه بيته فلا يكثر من الاختلاط بالناس، وفضول الصحبة والرفقة والذهاب والإياب والزيارة، التي تكون مثل الإكثار من الطعام والشراب تضر بالإنسان، قال الشاعر: عدوك من صديقك مستفادٌ فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب {أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك} ، فلا تغتر أو تدلي بعملك، وابك على ذنبك وخطيئتك، ولو قضيت حياتك ساجداً راكعاً ما بلغت حق شكر نعمة الله تعالى عليك، والحديث رواه أحمد والترمذي، والبيهقي، وأبو نعيم وهو حديث صحيح.(224/11)
قيمة الكلمة
وأعجب من ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالاً -تذكر هذا الشرط- يرفعه الله تبارك وتعالى بها درجات، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم} (لا يلقي لها بالاً) أي كلمة هينة ليست مقصودة، مجرد كلمة إما ليضحك زملاءه، أو ليقطع عنهم عناء الطريق، أو ما أشبه ذلك من المقاصد، وأكثر ما يقع هذا على سبيل الإضحاك، بأن تكون مجموعة من الناس، أو مجموعة من الزملاء يخرجون في رحلة، أو زملاء في فصل من الفصول، أو زملاء في مؤسسة أو شركة أو عمل، تجد أن بينهم صلات معينة فيجتمعون في الفسح وفي أوقات الفراغ، ويخرجون في رحلات، يجتمعون في بعض الليالي، لأكلٍ أو شرب أو ما أشبه ذلك، وغالباً ما يكون بينهم شخص صاحب نكتة، فيتندرون به وينتظرونه، بحيث أن هذا الإنسان بمجرد أن يقول كلمة حتى لو كانت عادية يضحك الجميع، فقد اعتادوا على أن هذا الإنسان صاحب نكتة، وهو كذلك اعتاد على أن يضحكهم، فأحياناً تجد أنه يتوسع وربما يقول كلمة من أجل أن يضحكهم، ولذلك جاء في الحديث نفسه في بعض رواياته {ليضحك بها القوم} أي لا يقصد بها معناها، لكن يقصد أن يضحكهم وقد يضحكهم بالقرآن الكريم والعياذ بالله يتندر بآية من القرآن، وقد يضحكهم بالحديث النبوي، وقد يضحكهم بالضحك على رجل من الصالحين يسخر ويستهزئ به، كما يفعل بعض الناس حين يقلدون مثلاً أصوات المشايخ والعلماء، ويسخرون منهم ويقلدون حركاتهم وما أشبه ذلك، وليضحك الناس، فهذه الكلمات لا يلقي لها الإنسان بالاً أي لا يحسب حسابها، فهو ليس كمثل الإنسان الشيوعي الملحد والكافر الذي يقول الكلام عن عمد وصدق، واعتقاد، لا، وإنما قال الكلام لمجرد العادة والإلف، وليضحك زملاءه، ولئلا يغير ما اعتادوا من الضحك، حتى أصبح نجماً أمامهم، ولا بد أن يمارس الدور الذي ينتظرونه منه، فهذا قد يقول كلمة، يهوي بها في جهنم، كما في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري، وعكسه إنسان يقول كلمة لا يلقي لها بالاً -أي لا يظن أنها تصل به إلى ذاك الحد، لكنها كلمة خير وبر- فيكتب الله عز وجل ويرفعه بها درجات، وقد تكون كلمة حق، أو نصيحة أمر بالمعروف، أو نهي عن المنكر، أو تنبيه على خطأ، أو إرشاد.
فالكلمة لها قيمة، ولها مسئولية، وفي حديث بلال بن الحارث المزني، الذي رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه} (ما يظن أن تبلغ ما بلغت) كلمة انزلقت من اللسان عفوياً، ولذلك يقول علقمة أحد رواة الحديث: {كم من كلام منعنيه حديث بلال} كانوا رحمهم الله يعدون كلامهم من عملهم، ومن عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه.
إذاً هذا الحديث يؤكد لنا جميعا مسئولية الكلمة، وأن كل كلمة تخرج من الإنسان إما له أو عليه، وينبغي أن ينتهي عندنا جميعاً نحن المسلمين قضية أن هناك مجرد كلام، يطير به الهواء، هذا لا قيمة ولا وجود له، فقد ذكر الله ذلك قال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .(224/12)
آفات اللسان
الكلام الذي يقوله الإنسان وقد يكون جرحاً لغيره، كما يقول الشاعر الأول: وجرح اللسان ليس كجرح اليد فقد تجرح الإنسان بالقول أشد مما تجرحه باليد أو بالسيف أو بالسنان، ولذلك روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} هذه صفة المسلم، ومن أبرز وأخص خصائصه وصفاته، أن يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يقع في أعراضهم، فيشتم هذا، ويسب هذا، ويطعن هذا، ويعتدي على هذا، ويغتاب هذا، وينم هذا، وما أشبه ذلك، فهذا ليس مسلماً حق الإسلام، وإن كان يدعي الإسلام، كما أن المسلم الحق لا يعتدي على المسلمين في أموالهم أو أجسادهم بضرب أو سرقة أو اختلاس، أو ما أشبه ذلك، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة كما في صحيح البخاري: {لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن} يعني أنه عند السرقة يضيع الإيمان فينسى الإيمان، ويغيب عنه الخوف من الله تعالى فيسرق، وليس معنى ذلك أنه كافر إذا سرق، كلا، بل هو مسلم لكنه لو كان يتذكر رقابة الله تعالى عليه لما سرق.
ولقد تعجب معاذ بن جبل رضي الله عنه من هذا، تعجب من كون الإنسان يؤاخذ بما يتكلم به ويحاسب على ذلك فقال: {يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به} ؟! يتعجب أننا نتكلم بكلام لا نقصد من ورائه شيئاً هل نحن مؤاخذون به؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ثكلتك أمك يا معاذ!} وهذا دعاء لا يقصد به حقيقة معناه {وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم} والحديث رواه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة، والحديث يدل دلالة ظاهرة، على أن أكثر ما يدخل الناس النار هو اللسان.
وقد جاء هذا صريحاً في حديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي، وغيره، وهو صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: {تقوى الله وحسن الخلق} وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: {الأجوفان: الفم والفرج} وذلك لأن اللسان يقع به الشرك بالله، كما قال الذين أشركوا حين عدلوا بالله تعالى غيره، ويقع به القول على الله تعالى بغير علم، وهو قرين الشرك في القرآن كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] .
فالمفتي بغير علم نطق بلسانة، والمتكلم في الدين بغير علم تكلم بلسانه، والمحرم الحلال نطق بلسانة، ومحلل الحرام نطق بلسانه، وكل هؤلاء يتكلمون عن رب العالمين وعن شريعته، فهم موقعون عنه كما سماهم ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين، لكنهم يوقعون بالباطل، ولذلك يدخلون النار، ولذلك جعلها الله تعالى قرين الشرك.
فاللسان هو سبب شهادة الزور، التي هي قرينة الشرك بالله، كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والسب، والبذاءة، والسحر، والقذف، كل هذه من الكبائر التي تمارس وتعمل باللسان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم} إذاً، الكلمة ليست كلمة يطير بها الهواء إنما كما قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
قابلت يوماً من الأيام أحد الشباب الذين كانوا منحرفين، ونرجو أن يكونوا ممن تاب الله عليهم، فذكر لي أن من الأسباب التي دعته لأن يراجع موقفه ويعيد النظر فيما كان عليه، يقول: كنت يوماً من الأيام في مصر في القاهرة، وأريد أن أسافر إلى المملكة، وكانت معي زوجتي، فذهبت إلى المطار ولي أصدقاء كثيرون في المطار يريدون أن يسهلوا لي الأمر، فقالوا لي: أبداً لا تقلق فالموضوع هين والأمر عادي، يقول: سبق لي في مرات كثيرة جداً أنني آتي وأذهب بصورة طبيعية يقول: رتبتُ الأمور كلها، وسار الموضوع طبيعياً، وكانت زوجتي متخوفة ألا نسافر فقالت: إن شاء الله نسافر، فقلت لها: سنسافر -سنسافر أي بدون إن شاء الله!! فقد قال كلمة بشعة استثقل أن أقولها لكنه قال: سنسافر- قال: فلما وصلت إلى باب الصالة الذي يدخل منه المسافرون، أخذ الضابط الموجود بالباب تذكرتي فنظر إليها ثم نظر إلي ثم مزقها وأنا أنظر، وألقى بها في القمامة، وقال: هذه لا قيمة لها ارجع، يقول: فصدمت ورجعت ورجعت زوجتي معي وهي تبكي، فذهبت إلى رجل آخر، فقال لي: الأمر هين وبعد ساعتين أو ثلاث هناك رحلة أخرى إلى جدة، ونيسر لك الأمر، يقول: وانتظرنا، فبعد قليل أتيت إلى الرجل فاعتذر مني، وقال: إن الأمر ليس لحسابنا لقد حدثت أمور فوق ما كنا نتصور ونتوقع، يقول: فذهبنا تلك الليلة ونمنا في أحد الفنادق، فيقول: من ذلك الوقت بدأت أعيد النظر، وأحسست بأن كلمتي السيئة التي عطلتُ فيها المشيئة هي السبب في تعطيلنا عن السفر، الذي اعتدنا أن نذهب بصورة طبيعية من خلاله.(224/13)
الصمت وفضله
إن الصمت عما لا يعنيك هو دأب الصالحين، من الأنبياء وأتباعهم من هذه الأمة ومن غيرها، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت، كما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي الشيخ: [[أن النبي صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت]] لكن ليس المقصود به الصمت المطلق، والمقصود بالصمت الذي كان يوصف به النبي صلى الله عليه وسلم، هو ما أخبرت به عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري قالت: [[لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يسرد الكلام كسردكم هذا، إنما كان كلامه فصلاً لو شاء العاد أن يحصيه لأحصاه، فمن سمعه حفظه]] وذلك ليس بالغريب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد أوتي جوامع الكلم، وقد تلقى هذا عنه أصحابه ومن بعدهم، فكانوا يخطبون ويتكلمون بكلمات فصل، فيها علم وحكمة، مع أنها عبارات وألفاظ معدودة، وهذا بخلاف أصحاب الأزمنة المتأخرة، فإنهم يطيلون ويتوسعون في القول والكلام، وربما تكون الفائدة والمحصلة أقل من ذلك!!(224/14)
تعلم السلف للصمت
لقد كان السلف يتعلمون الصمت، كما يتعلمون الكلام، كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه فيما روى الخرائطي في مكارم الأخلاق، قال: تعلموا الصمت، كما تتعلمون الكلام.
يقول أبو العتاهية: قد أفلح الساكت الصموت كلامه قد يعدُّ قوتُ ما كل قول له جواب جواب ما يكره السكوت فقد يوجد قول لا يحتاج إلى رد، ورده أن تسكت وتعرض عنه، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] .(224/15)
ما نقل عن الأمم السابقة في فضل الصمت
يذكر عن رجل من بني إسرائيل أنه كان طويل الصمت، فأرسل إليه ملكهم رسولاً يحاول أن يحركه لعله يتكلم بكلام، فقلبه يمنة ويسرة فما تكلم الرجل، فقال هذا الملك: اذهبوا به معكم في رحلة الصيد، لعله يرى شيئاً يعجبه فيتكلم، فذهبوا به معهم في رحلة صيد، فمروا من عند طائر، فلم يكونوا يعلمون بهذا الطائر، وكان معهم صقور ومعهم وسائل الصيد، وكان هذا الطائر مختفياً في شجرة فما عرفوا أنه موجود، وما انتبهوا له، فصاح الطائر وتحرك، فسمعوا صوته، فأرسلوا إليه صقراً بازياً فأمسك به، فتبسم هذا الرجل، وقال: الصمت جيد حتى للطيور!! أي أن هذا العصفور لو لم يصوت ولو لم يصح، لما انتبهوا له ولما صادوه، لكنه لما صوت فضح نفسه فصادوه، فهذه هي الكلمة التي مسكوها عليه، قال: الصمت جيد حتى للطيور.
والقصة هذه رواها ابن أبي الدنيا في كتابه المسمى الصمت وحفظ اللسان.
ولقمان الحكيم الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وذكر بعض وصاياه، وهو حكيم مشهور في بني إسرائيل، قيل كان نبياً، وقيل: كان رجلاً صالحاً، مر به رجل، فقال: أنت لقمان؟ قال: نعم قال: أنت عبد بني فلان؟ كان يعرف أنه عبد عند جماعة، قال: نعم، قال له: أنت الذي كنت ترعى الغنم عند الجبل الفلاني؟ قال: نعم، قال: فما الذي صيرك إلى ما وصلت إليه؟ لأنه رأى الناس حوله يأخذون ويكتبون عنه الحكمة، فقال: بصدق الحديث، وطول السكوت عما لا يعنيني، صرت إلى ما ترى.(224/16)
ما روي عن الربيع بن خثيم في ذلك
يروى أن الربيع بن خثيم، وهو أحد كبار الزهاد العباد، كان رجلاً كلامه معدود، لا يتكلم إلا قليلاً، والناس يحاولون في أي مناسبة أن يمسكوا عليه كلمة، فجاءت مناسبة، قالوا: اليوم يتكلم الربيع، فقد جاء نعي الحسين، رضي الله عنه، وكان قتله عظيماً على المسلمين؛ لأنه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يحبه حباً شديداً ويقول: {اللهم أحبه، وأحب من يحبه} وكان يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم في خلقه، وفي شكله، وكان رجلاً عابداً تقياً زاهداً ورعاً، وكان من الأفراد المعدودين في هذه الأمة، ذلك هو الحسين رضي الله عنه، والصحابة كلهم كانوا يحبونه أكثر مما يحبون أولادهم وإخوانهم، بل وربما أكثر مما يحبون أنفسهم، لشدة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم له، فلما قتل رضي الله عنه أصيب المسلمين ببلية عظمى، حتى قال قائلهم: أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحسابِ وقد جاء في حديث ورد عند الحاكم وغيره، عن أم سلمة [[أن النبي صلى الله عليه وسلم نام ثم استيقظ، وهو يبكي، فقالت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما يبكيك؟! قال: أريت مقتل ابني الحسين في نومتي هذه، وأوتي لي بتربة من تربته حمراء]] أي أري عليه السلام في منامه مقتل الحسين، وأري تربة حمراء من تربته التي يهراق فيها دمه الطاهر رضي الله عنه، المهم أنه لما قتل الحسين، أصيب المسلمون بمصيبة فقالوا: الآن سيتكلم الربيع، سيسب من قتلوه، أو يقول قولاً.
فجاءوا إليه وقالوا: يا إمام قتل الحسين، فتأوه تأوهاً عالياً شديداً ثم قال هذه الآية: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46] ما زاد عليها ولم يجدوا عليه ممسكاً ولم يزد على أن قال ونطق بهذه الآية: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46] فلم يرد رحمه الله أن يدخل حكماً بين الحسين وبين خصومه، ووكَّل أمرهم إلى الله عز وجل، الذي تلتقي عنده الخصوم، كما قال الشاعر: إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصومُ(224/17)
الصحابة وقلة الكلام
فقد كان أبو بكر رضي الله عنه، يتكلم بكلمات معدودة في خطبه، وقف يوماً على المنبر فقال عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قول الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] ثم استغفر ونزل]] وقام مرة أخرى فخطب، فقال: [[القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له إن شاء الله]] ثم سلم ونزل.
عثمان رضي الله عنه لما وُلِّيَ الخلافة صعد المنبر ثم حمد الله وأثنى عليه فقال: [[أنتم إلى إمام فعال، أحوج منكم إلى إمام قوال، ثم استغفر ونزل]] لا يحتاج إلى خطب طويلة رنانة، وأقوال مكررة ومرددة وتشدق بالقول، بل كلمات معدودة ومحدودة ويسيرة وواضحة، حدد فيها رضي الله عنه ملامح الحياة التي سوف يعيشها، والأسلوب الذي سوف يسلكه مع المسلمين.(224/18)
معاملة السلف لألسنتهم
فالأولون كانوا يتكلمون بكلام معدودٍ محدود، تبعاً لهدي رسولهم صلى الله عليه وسلم، الذي كان يتكلم بكلام فصلٍ يحفظه من سمعه، فقد مَرَّ عمر رضي الله عنه يوماً بـ أبي بكر كما روى مالك في الموطأ، وهو يمسك بلسانه ويلويه، فقال عمر: [[مه يا أمير المؤمنين]] ! كأنه استغرب الأمر، كيف تصنع هذا؟! فقال أبو بكر رضي الله عنه: [[هذا الذي أوردني الموارد، هذا الذي أوردني الموارد]] .
واقرءوا سيرة أبي بكر رضي الله عنه، فانظروا هل تجدون فيها كلمة واحدة يعتذر منها؟ أبداً!! منذ أسلم لا يعلم عنه رضي الله عنه إلا كل خير، ما نُقِلَ عنه أنه قال كلمة واحدة يُندم عليها أو يُعتذر منها، إلا ما يتبادر من الإنسان في حالة غضبه، وهذا أمر طبيعي، كما روى البخاري في صحيحه أن أبا بكر رضي الله عنه، غضب يوماً على ولده لأنه لم يكرم الضيوف ولم يقدم لهم العشاء، فسبه رضي الله عنه وقال: [[يا غنثر]] كلمة سب، ثم استغفر، وأكل الطعام مع ضيوفه، وتاب إلى الله عز وجل، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بالأمر، فلا تكاد تجد له كلمة أخرى غيرها، ومع ذلك يمسك بلسان نفسه ويقول: [[هذا الذي أوردني الموارد]] .
وهذا عمر رضي الله عنه كان يوماً جالساً في رهطٍ من الناس فيهم الأحنف بن قيس فقال عمر للأحنف: [[من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل ورعه، ومن قل ورعه قل حياؤه، ومن قل حياؤه مات قلبه]] لاحظ هذه السلسلة من العيوب والذنوب، إذا كثر كلامك، كثرت الأخطاء، فلا شك أن كثرة الكلام سبب لكثرة الأخطاء، فإذا كثر الخطأ، قل الورع عند الإنسان، فأول مرة يمكن أن يندم الإنسان إذا قال كلمة ليست حسنة ويتمنى أنه لم يقلها، لكن في المرة الثانية تصبح هينة عليه، والثالثة لا يبالي بها، والرابعة ربما يتجرأ عليها؛ لأن كثرة الإمساس تقلل الإحساس، فإذا قل ورعه قل حياؤه، وأصبح لا يخاف من الخالق، ولا يستحي من المخلوق، فإذا قل حياؤه، مات قلبه، وإذا مات قلبه دخل النار!! إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما روى عنه جماعة من الأئمة كـ ابن أبي الدنيا، وأبي نعيم، والطبراني، وأحمد، ووكيع، وهناد، كان يقول: "والله الذي لا إله غيره، ما شيء أحق بطول سجن من لساني" فيحتاج الإنسان إلى أن يسجن لسانه في فمه حيناً من الوقت، ولا يحتاج إلى أن يضع في فمه حجراً، كما نقل ابن الجوزي أو غيره عن بعض الصالحين، أنه كان زمانا طويلاً يدرب نفسه على الصمت، عن طريق أنه يضع في فمه حجراً، لا يخرجه إلا إذا أراد أن يأكل أو يصلي، هذا لا نحتاج إليه، إنما نحتاج إلى إنسان يكون قلبه يقظاً حياً، فيحبس لسانه في فمه، ويحاول أن يعود لسانه على الصمت، وسيأتي إن شاء الله ذكر بعض الوسائل التي تعين الإنسان على ذلك.
والإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، ذُكر عنده رجل، فقيل إنه رجل صالح، كثير الصيام، والصلاة، والعبادة، فقال: "نعم، ولكنه يتكلم كلام شهرٍ في يوم" فعابه بذلك، يعني كثير الهذر، وربما كان هذا سبباً في رد الإمام مالك لهذا الرجل، وعدم قبوله منه، والإمام مالك لم يتكلم في هذا الرجل عبثاً، أو غيبةً كلا؛ إنما تكلم لأسباب قد يكون منها أنه كان في مقام جرح أو تعديل لهذا الرجل، فتكلم بمثل هذا الكلام.
وكثير من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يثنون على الصمت، وترك الكلام فيما لا جدوى منه ولا طائل تحته.(224/19)
الصمت بذاته ليس عبادة
وهنا مسألة مهمة، هل الصمت محمود في نفسه؟ لا.
الصمت ليس محموداً بنفسه لذاته، ولذلك لا يشرع التعبد بالصمت، لا في صلاةٍ، ولا في صيامٍ، ولا في حجٍ، ولا في غيرها، أما في الصلاة، فليست الصلاة صمتٌُ محض، فالصلاة سرٌ، نعم.
فالإنسان بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام يُسِّر، لكن لا يكون ساكتاً صامتاً، بل يقول: {سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخر الدعاء} أو يقول {اللهم باعد بيني وبين خطاياي} كما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه، وكذلك بعد قراءة الفاتحة ليس هناك صمت، وإنما المأموم يقرأ الفاتحة، ولا أرى للإمام أن يسكت سكوتاً مطلقاً؛ لأنها لم ترد عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تثبت، لكن إن سكت فينبغي أن ينشغل بقراءة قرآن، أو نحو ذلك، أما سكوت هكذا، فلا أعلم أن في الشرع أو في الصلاة تعبداً بسكوتٍ محض، وكذلك السكوت قبل الركوع، إنما هو سكوت يسير، حتى يرتد إليه نفسه، وقل مثل ذلك في سائر العبادات، ولذلك يروي علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا صمات يومٍ إلى الليل} أي لا ينبغي ولا يشرع للإنسان أن يسكت يوماً من الصباح إلى الليل، يتعبد بذلك، هذا غير مشروع، ورأى أبو بكر رضي الله عنه امرأة حاجة ساكتة، فنهاها عن ذلك، وقال: [[هذا من عمل الجاهلية، هذا لا يحل، وأمرها أن تتكلم]] إذاً الصمت بذاته ليس عبادة.
بعض الصوفية مثلاً، يتعبدون بأن يقفوا في الشمس، ويسكتوا أياماً، يقولون: نعود أنفسنا الصمت، هذه عادة من عادات أهل الجاهلية، وليست مشروعة في الإسلام، فالإسلام ليس فيه تعبد بالصمت قط، إنما إذا مدح الصمت، فإنما يمدح الصمت بالنسبة إلى الكلام السيئ، مثلاً هناك إنسان يقول لنا: أيهما أفضل أتكلم بكلام لا فائدة منه، أم أسكت؟ نقول له: اسكت فض الله فاك، هناك إنسان، يقول: أيهما أفضل أتكلم بكلام حسن، أم أسكت؟ أيهما نقول له؟ نقول له: تكلم بالكلام الحسن، وهذا هو المعروف عند السلف.
والأحنف بن قيس رحمه الله ذكر الناس عنده الصمت والكلام، فقال بعضهم: الصمت خير، وقال بعضهم: الكلام خيرُُ فقال الأحنف: [[كلا والله فإن الكلام الحسن خيرُُ؛ لأن الصمت لا ينفع إلا صاحبه، أما الكلام الحسن فينتفع به الناس]] .
وكذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كانت عنده حلقة من مجالس العلماء، وكان العلماء يجلسون في مجلس عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رضي الله عنه فتكلموا في موضوع الصمت والكلام، فقال أحد العلماء في مجلس عمر بن عبد العزيز: [[إن الساكت بعلمٍ كالمتكلم بعلم]] فقال عمر بن عبد العزيز: [[كلا والله، إني لأرجو أن يكون المتكلم بعلمٍ، أرفع عند الله منزلة يوم القيامة]] لأنه يتكلم فينفع الناس ويأمرهم ويعلمهم، فقال الرجل: [[يا أمير المؤمنين أرأيت فتنة المنطق]] يقصد كون الرجل يُفتتن بحلاوة لفظه وجمال كلامه، فيغتر بذلك، فبكى عمر رضي الله عنه عند ذلك بكاء شديداً.
ومن الطريف أن ابن رجب في جامع العلوم والحكم، تكلم في موضوع الصمت والكلام في مواضع عديدة وفي أحد المواضع قال: إني رأيت عمر بن عبد العزيز في المنام، وتناقشت معه في هذه المسألة، وإنه ذكر لي قريباً مما ذكر، أن الكلام الحسن خير من الصمت، والصمت خير من الكلام السيئ.
الخلاصة: أن الصمت لا يمدح لذاته، وليس فيه فضل لذاته، وإنما فُضِّلَ الصمت قياساً بالكلام الرديء والبذيء السيئ.(224/20)
أسباب الصمت
ينبغي أن نتساءل: ما سبب الصمت؟ حتى نعرف الصمت الفاضل من غيره، نسأل بماذا يصمت الإنسان:(224/21)
الاعتقاد أن الصمت أولى من الكلام
السبب الثالث من أسباب الصمت: أن يصمت الإنسان لاعتقاده أن مصلحة الصمت أولى من مصلحة الكلام، وهذا يقع في حالات، منها: الحالة الأولى: أن الإنسان أحياناً يعتقد أنه يوجد من هو أجدر وأقوى منه في الكلام، فهناك مجلس من المجالس، يستدعي الكلام، لكن قد كفيت أنت بغيرك ممن هو أقدر وأجدر وأبصر منك في الحديث، فتكل الأمر إليه وتعتبر أنه يقوم بالمهمة عنك، شريطة ألا يكون في ذلك مدعاة إلى التواكل، وكل إنسان يلقي بالمسئولية على غيره، فهنا قد تعتقد أو قد ترى أن الصمت أولى بك من الكلام.
الحالة الثانية: التي يكون الصمت فيها أولى من الكلام: أن يعتقد الإنسان أنه لا جدوى من الكلام، وأن هناك ضرر، مثلما إذا كان إنسان فيه طغيان وعدوان، وإسراع إلى الدماء وإلى الضرب والجلد والاعتداء، أو إنسان فيه سلاطة لسان، وربما لو خاطبته، لزاد من شره، فترى أن الصمت أجود، لأن الكلام لا جدوى من ورائه، ولذلك الله عز وجل يقول في القرآن: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] .
فلو علمت أن تذكيرك وكلامك وأمرك ونهيك سيكون سبباً في زيادة الشر واستفحاله، فلا شك أنه حينئذٍ لا يجوز أن تتكلم، ولا أن تأمر، ولا أن تنهى، لأن الضرر يُدْفَعْ، والمقصود من الأمر والنهي تحصيل المصلحة، فإذا كانت سوف تزداد المفسدة وتقل المصلحة في الأمر والنهي تسكت حينئذٍ، وتبقى على المصلحة القليلة الباقية، والمفسدة القليلة الموجودة، لا تزيدها فتزداد النار اشتعالاً.(224/22)
الخوف من الناس
السبب الثاني من أسباب الصمت: الخوف من الناس، فبعض الناس يسكت خوفاً من الناس، فلا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يقول كلمة الحق، ولا يصدق خوفاً من الناس، وهذا موجود عند المتقدمين والمتأخرين، ويذكر أن إسماعيل بن سهل قال لرجل: ألا أذكر لك بيت من الشعر، يساوي عشرة آلاف درهم، فقال: عجيب بيتاً شعر يساوي عشرة آلاف درهم!! قال: نعم أيهما أغلى عليك؟ نفسك أم عشرة آلاف درهم؟ قال: لا، نفسي أغلى عليَّ من عشرة آلاف درهم، قال: إذاً هذا البيت فيه حفظ نفسك، ثم تلا قول الشاعر: اخفض الصوت إن نطقت بليلٍ والتفت بالنهار قبل المقالِ ليس في القول رجعةٌ حين يبدو بقبيحٍ يكون أو بجمالِ يعني: أن الإنسان يخاف أن يقول كلام، فينقل إلى غيره فيكون فيه حتفه، يعاقب بسجنٍ أو عقوبةٍ أو قتلٍ أو ما أشبه ذلك من العقوبات، فهؤلاء خافوا من المخلوقين، فامتنعوا من الكلام، وهذا في الإسلام ليس مطلوباً على الإطلاق، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أفضل الشهداء -وفي رواية- سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله} وفي الحديث الأخر -حديث طارق - يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {أفضل الجهاد كلمة عدلٍ وفي لفظ كلمة حق تقال عند سلطانٍ جائر} فكلام الحق إذا تطلب المقام أن يقال فإنه يقال، ولو ذهبت روح الإنسان معه، فهو إن شاء الله شهيد في سبيل الله.
فالصمت ليس محموداً دائماً، بل قد يكون محموداً وقد يكون مذموماً، فإن كان الصمت لا يفوت خيراً ولا رشداً، ولا يجلب مضرة، فإنه حسن، لأن فيه حماية ووقاية للإنسان من أن يقتل أو يصاب أو يؤذى، فلا حرج في ذلك، لكن إن كان صمته سبباً في فوات بعض الخير، أو حصول بعض الشر، فإنه لا يجوز له حينئذٍ؛ ولذلك أذكر قصة وقعت لـ رجاء بن حيوة، رحمه الله وهو من فقهاء التابعين، فقد جاء رجل إلى الخليفة، وقال له: إن فلان يسبك، ويقع فيك ويشتمك، فغضب الخليفة على هذا الرجل غضباً عظيماً، ودعاه إليه في مجلسه، وأحضر السيف يريد أن يقتله، وكان رجاء بن حيوة وزيراً للخليفة جالساًَ عنده، فلما جاء الرجل خاطبه الخليفة، وقال: لماذا تسبني وتقول في وفي، قال: ما فعلت، قال رجاء بن حيوة: أنا أشهد أنه ما فعل، وأنا كنت معه في ذلك المجلس، والله ما قال فيك كلمةً واحدة، والذي حدثك كاذب، وهو مغرض، بينه وبين هذا عداوة، ويريد أن يوقع به، فغضب الخليفة على الجاسوس، الذي أخبره بالخبر، ودعا بإحضاره وجلده مائة جلدة، فخرج الجاسوس، وفي يوم من الأيام، مر ووجد رجاء بن حيوة في الشارع، وكانوا حاضرين في مجلس، فحصلت غيبة وكلام في السلطان فقال الجاسوس لـ رجاء بن حيوة: يا رجاء بك يستسقى المطر من السماء، ومائة سوط في ظهري، يعني أنا أجلد مائة جلدة، وأنت تعرف أني صادق، فقال له رجاء بن حيوة: والله! مائة سوط في ظهرك، خير من أن تلقى الله بدم امرئ مسلم، يقتل فتلقى الله تعالى وأنت مسئول عن دمه، فهنا لا يجوز الصمت خوفاً من المخلوق، بل يجب على الإنسان أن يتكلم بكلمة الحق، ولا يخاف إلا الله عز وجل.
يُقالُ أن الأحنف بن قيس التميمي كان في مجلس معاوية رضي الله عنه فتكلموا في أمر من الأمور، فأفاضوا كلهم في الحديث، إلا الأحنف لم يتكلم، فقالوا له: لماذا لا تتكلم؟ قال: إن تكلمتُ فقلت الحق، أخافكم، وإن قلت غير الحق، أخاف الله، فآثرت الصمت، لأنني لا أرى مصلحة في الكلام، فالكلام الباطل الكذب لا يمكن أن أقوله خوفاً من الله، والكلام الحق الذي أعتقده لا أريد أن أقوله خوفاً منكم، وليس هناك ضرر في فوات هذا الحق فسكت عنه.(224/23)
العي والعجز عن النطق
إن الناس يصمتون لأسباب كثيرة، فبعض الناس يصمت بسبب العيِّ والحصر كما قال النمر بن تولب: أعذني ربي من حصرٍ وعيٍ ومن نفسٍ أعالجها علاجاً بعض الناس فيه صعوبة في النطق، فلذلك يسكت عجزاً لا ورعاً ولا تقوى، ولذلك يقول أحيحة بن الجولاح: والصمت أجمل بالفتى ما لم يكن عيٌ يشينه يقصد أن الصمت حسن وجيد، ما لم يكن سبب الصمت العي والحصر والعجز عن النطق وعن الكلام، فحينذٍ لا شك أن هذا عجز ونقص، يعاب عليه الإنسان، ولذلك دعا موسى ربه أن يفك ويحل عقدته، فقال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27-28] .
والظاهر أن الله تعالى أجاب موسى؛ لأنه قال تعالى في آخر الآيات: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] .
فأجاب الله تعالى دعاءه، وحل هذه العقدة من لسانه، ولذلك فإن قول فرعون الخبيث كما حكى الله عنه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] .
هذا من خبثه، وكذبه، فإن موسى عليه السلام حل الله تعالى عقدته فأصبح بيناً فصيحاً يفقه قوله، ويفهم ويعلم، لكن فرعون يعرفه منذ طفولته، ويذكر أن به عقدة في لسانه، فسبه بأنه لا يكاد يبين، أي لا يكاد يفصح عما يقول، ولذلك فإن العي عيب.
ويروى أن بذر جمهر وهو أحد حكماء الفرس قيل له: أي شيء أستر للعي؟ أي إذا كان الإنسان فيه عي وصعوبة في النطق، أي شيء أستر له؟ قال: العقل؛ فالعقل يستر عيَّه؛ لأنه إذا تكلم ولو كلمات معدودة صعبة فإنها تنم عن عقل، قالوا: فإن لم يكن له عقل؟ قال: فمال يستره؛ لأن الإنسان إذا أعطى وكان كريماً جواداً نسي الناس عيوبه، قيل: فإن لم يكن له مال؟ قال: فإخوان ينطقون عنه، -فيكون له أصحاب ينطقون عنه، ويبينون مراده- قيل: فإن لم يكن له إخوان ينطقون عنه، ويبينون مراده؟ قال: فصمت يزينه، -يحلي نفسه بالصمت، لئلا يدرى ما وراءه- قالوا: فإن لم يكن له صمت؟ قال: فقبر يواريه، إذا كان عنده صعوبة في النطق، ومع ذلك لا عقل ولا مال ولا أصحاب ولا صمت، فالموت أولى به.
وكذلك نقل الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، في مواضع كثيرة، -فـ الجاحظ تسلط في الواقع على من بهم عيايه- في هذا الكتاب نقل من نوادرهم وطرائفهم وأخبارهم، الشيء الكثير والطريف، ولكنني لا أستحل ولا أستجيز نقل كثير مما قال؛ لأن الرجل في الواقع قبيح المنطق، ورديء الدين، ورقيق العرض، ولذلك ينقل ما هب ودب، وينحط فيما يروي وما يقول، فلا أرى نقل مثل هذه الطرائف والغرائب، التي في كتاب البيان والتبيين.
وأنبه الإخوة ممن يقرءون لهذا الرجل أن يتفطنوا إليه؛ لأن الرجل كان فيه اعتزال، ورمي بالزندقة، وفي كتبه خبث ظاهر، والله تبارك وتعالى يتولى السرائر، المهم أنه ذكر من الأشياء التي ذكرها ولا مانع من إيرادها، ذكر أن رجلاً دعا لرجل، فقال: أبقاك الله، وأطال الله بقاءك، وأمد الله في عمرك، فهذا من العي لأن هذه الدعوات الثلاث، معناها واحد، وقال رجل آخر لقوم: أنتم يا قوم لا صبحكم الله إلا بالخير، ولا حي وجوهكم إلا بالسلام وهذا من الكلام الذي هو حق في ذاته لكنه ليس مناسب أن يقال؛ لأن ظاهره الدعاء عليهم، وهو يريد أن يدعو لهم، لأنه إذا قال: لا صبحكم الله، خافوا أن يكون قد دعا عليهم، وإذا قال: لا حياكم الله، خشوا كذلك، وقيل لرجل من الأزد: متى ولدت؟ فقال: أكلت من عمر النبي صلى الله عليه وسلم سنتين، يقصد أنه ولد في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الحضور: لا هنيئاً هذا الذي أكلته! ويقال: إن رجلاً والياً باليمامة خطب بالناس، فقال لهم: إن الله تعالى لا يقر أصحاب المعاصي على معاصيهم، ألم تعلموا أن الله عز وجل أهلك قوماً بناقةٍ لا تساوي مائتي درهم، فضحكوا عليه؛ لأنه ماذا يدريه عن الناقة تساوي أو لا تساوي، وصاروا يلقبونه بمقوم ناقة الله، لأن هذه الناقة ليست القضية أنها تساوي مائتي درهم، أو أقل أو أكثر، القضية أنها ناقة بعثها الله عز وجل آية كما قال تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:155-156] .
فإذا كان السكوت بسبب العي، فإنه لا يحمد، ولا يمدح، وإن كان خيراً من المنطق؛ لأنه إذا تكلم زاد عجزه.(224/24)
العلاج
أخيراً: أختم الموضوع بالكلام في قضية العلاج، وكيف يتدرب الإنسان على الكلام في محله، وعلى الصمت في محله؟ أولاً: لا بد أن يتعلم هذا وهذا، كما قال أبو الدرداء فيما سبق: [[تعلموا الصمت كما تتعلمون الكلام]] .(224/25)
تعلم الصمت
أما كيف تتعلم الصمت، فلا شك أن هذا الأمر فيه عسر، ويحتاج إلى أمور منها: الوسيلة الأولى: أن يزن الإنسان الكلام قبل أن يخرجه، فإن وجد أن الكلام له قاله، وإن وجد أن الكلام عليه تركه، وهذا يحتاج أن يتعود الإنسان إلى ألا يقول كل ما يخطر بباله، فليس كل ما خطر ببالك من شيء قلته، لا، انتظر إذا أردت أن تقول شيئاً ففكر في هذا الكلام، هل هو حسن أم قبيح، لك أم عليك؟ فإن كان حسناً قله، وإن كان خلاف ذلك دعه، وإذا شككت فيه فدعه أيضاً، لأن السلامة أولى.
الوسيلة الثانية: أن يحاسب الإنسان نفسه على ما مضى، فكلما قال الإنسان قولاً، أو تكلم في مجلس، أو نطق بكلمة، فليرجع إلى نفسه، يجعل على نفسه حسيباً ينظر، ماذا أردت بهذه الكلمة؟ هل كانت حسنة أو غير حسنة؟ ربما كان غيرها أحسن منها، حتى يعود نفسه، ويصحح ويستفيد من أخطائه، والناس يستفيدون من أخطائك، فلماذا لا تستفيد أنت من أخطاء نفسك؟ الوسيلة الثالثة: أن يتخذ له صاحباً يحصي عليه عيوبه، فاجعل لك زميلاً أو صاحباً من أصحابك الذين تثق بهم، يحصي عليك وينبهك، على ما قد يبدر منك من خطأ، أو زيادة في القول، أو تسرع أو ما أشبه ذلك، وحاول أن تقبل ما يقول؛ لأنه ربما لا يعرف الإنسان خطأه، فالإنسان يحتاج إلى مرآة.
شاور سواك إذا نابتك نائبةٌ يوماً وإن كنت من أهل المشوراتِ فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة أنت لا ترى نفسك إلا بمرآة، فاجعل أخاك في الله مرآة لك، يحصي عليك عيوبك، وكذلك أنت تحصي عليه عيوبه، بالأسلوب المناسب الحسن، لا يخرج إلى حد الإفراط، والزيادة التي قد تمقت وتبغض.
الوسيلة الرابعة: أن يعوِّد الإنسان نفسه على القول الطيب، وكثرة الكلام الحسن، يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحا وإذا ما هممت بالقول بالباطلِ فاجعل مكانه تسبيحا فعود نفسك كثرة الذكر، والاستغفار، والكلام الطيب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يصبح عادةً لك، ولذلك الإمام البخاري، رحمه الله عود نفسه على الكلام الحسن، حتى قال رضي الله عنه: [[والله ما اغتبت أحداً منذ علمتُ أن الغيبة حرام]] رضي الله عنه، حتى حين كان يتكلم في الرجال في الجرح والتعديل، كان يتورع ويتحاشى عن الألفاظ الشديدة، مثل كذَّاب، أو وضَّاع، أو متروك، أو ما أشبه ذلك وأقصى ما يستخدم البخاري، يقول: فيه نظر، ولذلك يقول أهل العلم: إذا قال البخاري عن رجل: فيه نظر، فهو متروك لا يقبل حديثه، هذه أشد ألفاظ الجرح عنده، وقد ينقل عنه خلاف ذلك، لكن غالب ما ينقل عنه يكون نقله عن غيره كما قال بعضهم: كان رحمه الله إذا أراد أن يتكلم في رجل، يقول: فيه نظر، وهذا من باب النصيحة، لأنه لا يريد أن يعود نفسه، وبعض الناس يقول: أنا أغتاب مثلاً أهل البدع، أو أغتاب الضالين أو المنحرفين، فيتوسع في ذلك حتى يكون هذا ديناً له، ويتجرأ لسانه على الوقيعة في الصالحين والطالحين، والمنحرفين والمستقيمين، ويجد لنفسه من التأويلات والحجج والأعذار، ما يخرج به من العتاب والتوبيخ.
الوسيلة الخامسة: وهي أن يراقب الإنسان ربه، ويتذكر قول الله عز وجل: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] .
فمن يعلم أن الله تعالى يعلم سره ونجواه، ويراقبه في السر والعلن، فإنه لا يتكلم إلا بحق، ولذلك قال بعض العارفين: إذا تكلمت فاذكر أن الله تعالى يسمعك، وإذا سكت فاعلم أن الله تعالى ينظر إليك ويراك، وبذلك لا يتكلم الإنسان إلا في خير.(224/26)
تعلم الكلام
يتعلم الإنسان الكلام بالقراءة: قراءة الكتب، وقبل ذلك كله قراءة القرآن الكريم، فإنه من أهم الوسائل والأسباب التي تجعل الإنسان فصيحاً بليغاً، وقد عرفتُ بعض الشباب يُوجد في ألسنتهم تلكؤ؛ فنصحتهم بقراءة القرآن؛ لأن لذلك أثراً كبيراً، فكثرة جريان كتاب الله تعالى على لسان الإنسان، تذَلِله وتجعله يلين بالقول، ويسهل أو يخفُ ما فيه من العيوب، ثم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه من جوامع الكلم، والإنسان إذا أوتي العلم، لم يصعب عليه أن يتكلم بهذا العلم ولو ببعضه.
وكذلك يتدرب الإنسان، فإن الإنسان إذا لم يتدرب على أمر من الأمور فإنه لا يستطيعه، فمثلاً: إذا أراد الإنسان أن يتحدث أمام الناس بأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو موعظة، لا شك ولا ريب أنه سوف يجد هيبة أول الأمر من ذلك، حتى يعتاد.
وأذكر أنني أول مرة قمت أمام الناس لأتحدث، كنتُ أتكلم من ورقة مكتوبة، وكنتُ أحس بإرتباك وخوف، حتى أنني تمنيتُ أن لم أكن ألزمتُ نفسي بهذا الأمر، لكنني ما إن وقفت، وقرأتُ أول الكلام، حتى بدأت أهدأ شيئاً فشيئاً، ثم أصبحتُ طبيعياً، وتمنيتُ أن الكلمة أو النصيحة تطول أكثر مما هي، فالإنسان أمامه حاجز وهمي من الخوف للوقوف أمام الناس، لا يزول إلا بأن يُقْدِم الإنسانُ، ويكسر هذا الحاجز، ولعلكم تلاحظون أحياناً أن المعلم يكون في الفصل يدرس الطلاب، وربما يدرسهم في الجامعة، وهم من أرقى المستويات، فيدخل عليهم بصفة طبيعية، ويتكلم كما لو كان ليس عنده أحد، لكن لو وقف أمام خمسة أو ستة من العامة، في مسجد ليتكلم ارتبك وأصابه ما قرب وما بعد!! لأنه لم يتعود على هذا الأمر، إذاً لا بد من الاعتياد، {فالخير عادة، والشر لجاجة} كما جاء في الحديث، فيعود الإنسان نفسه على الكلام الحسن، وكلما أمكن على الإنسان أن يعود نفسه على أن يكون كلامه فصلاً، بحيث لا يسترسل في الكلام بسرعة، خاصة في البداية، لئلا يقع في خطأ، لأن بعض المتدربين يخطئ أول مرة، فبعد ذلك يصبح عنده خوفٌ شديد، ولا يكرر المحاولة مرة أخرى، فحاول أول مرة أن تتكلم بكلام هادئ، وتجعل بين الكلمة والأخرى فاصلاً، وإن أعرض الناس عنك أو قاموا أو ما أشبه ذلك، لا تبالي بذلك؛ لأن المهم أن تتدرب.(224/27)
الأسئلة(224/28)
حكم العبوس في وجه المسلم
السؤال
ذكرت أن الإنسان يثاب عندما يتبسم في وجه أخيه، فهل يأثم إذا عبس في وجهه؟
الجواب
إذا كان عبوسه هذا يضر به، فيكفيه نقصاً، أنه يحرم من الخير والأجر، وقد يترتب على هذا العبوس ضرر وتقصير في حق أخيك المسلم، ولا ينبغي لك ذلك إلا أن يكون لذلك سبب.(224/29)
الخوض في الخلاف بين العلماء
السؤال
ما رأيكم فيمن يتكلم في الخلاف بين المؤمنين أو العلماء؟
الجواب
هذا من شر الناس، إذا كان يقع فيهم، وإذا كان يتكلم على سبيل الوضيعة في أهل العلم فهو من شر الناس، يقول ابن عساكر: "اعلم أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة".
ما انتقص رجل أحداً من أهل العلم، إلا ابتلاه الله عز وجل بعقوبة عاجلة، وقد علمت علم اليقين، وتثبتُّ من ذلك أن رجلاً نال من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، فما مر عليه أشهر إلا وقد انحرف وضل عن سواء السبيل والعياذ بالله، وأنا أعرفه، فليتق الإنسان ربه من الكلام في أهل العلم، أما إن كان الكلام في الخلاف بين العلماء، فلان قال كذا والراجح كذا، وما أشبه ذلك، دون النيل من أهل العلم، بل مع معرفة قدرهم، فلا حرج في ذلك.(224/30)
آداب الرحلات
السؤال
بعض الشباب إذا أراد رحلة فإن أول من يدعون إليها كثير الكلام الذي يضحكهم، أما قليل الكلام فلا يريدونه؟
الجواب
هذا خطأ؛ لأن كثرة الكلام بغير ذكر الله من قسوة القلب، والله تعالى يبغض القلب القاسي.(224/31)
الصمت المطلق في الصلاة
السؤال
أنت قلت لا يشرع الصمت والسكوت في الصلاة، أليس هذا يدل على أن المأموم يقول التشهد الأول والأخير كلاهما في الركعتين، من الصلاة الرباعية خاصة إذا كان الإمام يقول كلا التشهدين؟
الجواب
نعم إذا جلس الإمام في التشهد الأول وأطال تقرأ {اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد} حتى يقوم الإمام، فالصمت المطلق لا أعلم أنه مشروع في الصلاة.(224/32)
الكلام أو النية
السؤال
من ظاهر حديث {إن الرجل يتكلم بالكلمة من رضوان الله إلخ} يتعارض مع قوله: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} ؟
الجواب
كلا، هنا الرجل قصد الكلمة، لكنه ما ظن أنها تبلغ ما بلغت، فهو يعرف أنه تكلم بهذا الكلام، وهو كلام سيئ والكلام السيئ لا يحتاج إلى نية، فهو سيئ وصاحبه آثم، ولو كان بغير نية، أو حتى إن كان بنية حسنة فصاحبه آثم.
أما الكلام الحسن، فإنه يفتقر إلى نية، وهذا الرجل نيته طيبة لكنه ما ظن أن الكلمة تبلغ ما بلغت، بل يظنها أقل من ذلك.(224/33)
هجر المسلم
السؤال
ما حكم من هجر أخاه المسلم للمصلحة، مثل لو أنه كلمه أو عاشره فظهرت منه الكلمات القبيحة؟
الجواب
الهجرة الشرعية الكلام فيها يطول، ولكن على كل حال إذا كان الهجر يفيد فيه فاهجره، وإذا كان الهجر يضره فإنه يحرم هجره، وإذا كان عندك شك فالأولى ألا تهجره؛ لأن الأصل أنه لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.(224/34)
ما يستفاد من قصة الصامت في بني إسرائيل
السؤال
ذكرت قصة الصامت في بني إسرائيل، حتى أنه لم يتكلم إلا بكلمة، هل نستفيد من السكوت حتى في ذهاب الشاب مع أصحابه، أم هذا مبالغة في الكلام المباح؟
الجواب
قصة هذا الرجل الإسرائيلي مثل القصة التي قلت لكم أنه وضع في فمه حصاة حتى لا يتكلم، لكن هذه ليست أموراً تؤخذ وتطبق، هذه أمور يستفاد منها فوائد عامة، مثل ما كان بعض السلف، يقول: فلان كان لا يعرف الدرهم والدينار، ليس معناه أنه لا يبيع ولا يشتري، والرسول عليه الصلاة والسلام يبيع ويشتري ويعرف الدرهم والدينار ولكن مقصودهم المبالغة في وصف الإنسان بعدم التعلق بالدنيا، فلا يأخذ الشاب إذا سمع كلمة على أنها للتطبيق، وغداً يأتي وفي فمه حصاة، ويقول: أريد ألا أتكلم، لا يصلح هذا!!(224/35)
علم الكتبة بالنيات
السؤال يقول: هل الملائكة الذين يكتبون الأقوال والأعمال يعلمون النيات؟
الجواب
الله تعالى حين كلف هؤلاء الملائكة بمهمة كتابة ما يقول الإنسان أو يفعل، فإنه منحهم جل وعلا القدرة على ذلك، أقول هذا بصفة عامة، والله تعالى بين أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإذا أمروا بالكتابة على الإنسان معناه أنهم أقدر على ذلك.(224/36)
ضوابط الكلام عن الدنيا بين الناس
السؤال
إذا كنت في مجلس وكان الكلام عن الدنيا فهل أخالطهم في الحديث من أجل مؤانستهم أم أصمت وأدعهم وكلامهم؟
الجواب
هذا يختلف بحسب المقام، والحال، والمصلحة، وخبرتك، ومعرفتك.(224/37)
صحة حديث من يضمن لي
السؤال
ما مدى صحة حديث: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فرجيه أضمن له الجنة"؟
الجواب
الحديث صحيح.(224/38)
سكوت المأموم عند قراءة الإمام
السؤال
ما حكم السكوت والإمام يقرأ؟
الجواب
نعم، يسكت الإنسان إذا قرأ الإمام.(224/39)
حكم التساهل في التزوير
السؤال
أحياناً أتساهل في بعض الأحكام الدنيوية من حيث التحريم، مثل التزوير في الفحص الدوري للسيارات، وما أشبه ذلك؟
الجواب
لا يجوز التساهل في ذلك، والتزوير مذموم كله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،(224/40)
حكم تقليد أصوات الآلات والحيوانات
السؤال
تقليد صوت الآلات والحيوانات هل يدخل في القول وإن كان قولاً هل يكون حسناً أم سيئاً؟
الجواب
لا شك أن تقليد أصوات الحيوانات مذموم؛ لأن الله تعالى ذمه فقال: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] كذلك أصوات السباع والحيوانات مذموم التشبه بها، فقد ورد النهي عنه في الكتاب والسنة.(224/41)
المرأة التي لا تتكلم إلا بالقرآن
السؤال
يستحسن بعض الناس قصة المرأة التي لا تتكلم إلا بالقرآن؟
الجواب
خطرت في بالي هذه القصة، ووقفت عليها من رواية عبد الملك بن قريب الأصمعي، ولا أظن أن هذه القصة صحيحة، فإنها منكرة، وقد ذهب الأصمعي إلى أن صاحبة هذه القصة -إن صحت الرواية- عنه إلى أنها شيعية، على كل حال القصة منكرة، ولو صحت لما كان فيها قدوة وأسوة، بل عملها مذموم، لأنها تضع القرآن على غير مواضعه، فتقول: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وهي تعني ولدها، أو يا داود ويا زكريا وهي تعني أولادها.(224/42)
حكم الشعر الغزلي
السؤال
تطرقت إلى الشعر الغزلي فما حكمه؟
الجواب
لا شك أن الشعر الغزلي من الكلام الذي أقل ما يقال فيه: أنه ضار بالإنسان وليس مفيداً، وكثرة سماعه تقسي القلب، وتوجد عند الإنسان ميلاً إلى هذه الأمور، لكن بعض الأبيات، يكون فيها حكمة، ولو كانت ضمن أبيات الغزل، فمثلاً: بعض العلماء حين يتكلمون في موضوعنا موضوع الصمت، يستشهدون ببيت أظنه لـ كثير عزَّة أو لـ جميل يقول: أحب المكان الخلو من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم فيقصدون به معنى آخر، وهو أن الإنسان إذا خلا تكلم بما يريد من الكلام الحق، فإذا كان بحضرة الناس كف، لئلا يؤخذ عليه قول، ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الصوفية ينقلون شعر الغزل، ويخاطبون به رب العالمين، وهذا -لا شك- أنه من قلة أدبهم مع الله جل وعلا، فقد عابهم في ذلك أهل العلم والفقه والإسلام.(224/43)
التصنع للكلام المضحك
السؤال
أحياناً يسيطر على مجالس أهل الخير الصمت وهذا محمود بلا شك، لكن هذا قد يكون منفِّراً لأناس يراد تقريبهم من أهل الصلاح، فهل يمدح من يتصنع الكلام المضحك مع أنه قد يقع في محظور؟
الجواب
إذا كان يقع في محظور فالصمت ليس محموداً على الإطلاق، بل يتكلم بالكلام الحسن، وقد سبق أن بينت أن الكلام الحسن واسع ليس فقط هو الكلام الذي يكون ذكراً محضاً.
فإذا كان القصد مثلاً استصلاح هؤلاء القوم، وتأليف قلوبهم بكلامٍ حسنٍ مباحٍ، فهذا من الكلام المحمود، لكن إذا كان فيه ما يخالف فهذا لا يجوز.(224/44)
محبة الصاحب في الله
السؤال
هل يجوز أن أقول لمن أحبه في الله: إني أحبك في الله؟
الجواب
نعم، يستحب لك أن تقول له ذلك، لكن بينك وبينه.(224/45)
الجمعة إلىالجمعة كفارة لما بينهما
السؤال
هل الجمعة إلى الجمعة كفارة لما قبلها من قول وفعل وغير ذلك؟
الجواب
نعم، الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، وزيادة ثلاثة أيام أيضاً، ما لم تُغشَ كبيرة.(224/46)
إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم على الخطيب بين يديه
السؤال
عرفنا وعلمنا أن طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام في الخطبة القصر، فوضح لنا: لماذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم خطبة الخطيب الذي خطب بحضرته وقال: [[من أطاع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوي]] أو كما قال؟
الجواب
لعل الرسول عليه الصلاة والسلام أنكر عليه أنه شَرَّك في الضمير في قوله: {ومن يعصهما} والرجل كان حديث عهد بالإسلام، فيخشى أن يكون في هذا نوع من (الندِّيَّه) أي أنه جعل الرسول عليه الصلاة والسلام في مقام مع الله عز وجل في قوله ومن يعصهما، وكان الأحسن أن يقول: ومن يعصِ الله ورسوله، وقيل غير ذلك.(224/47)
من مضار عدم الجرأة على الكلام
السؤال
أجلس في المجالس مع الوالد ورجال كبار، فيتكلمون بكلام، وعندي علم في هذا الكلام، ولا أتكلم إذا أخطئوا؛ وذلك لعدم الجرأة في الكلام؟ فما هو الذي ينبغي عليَّ؟
الجواب
ينبغي أن تتعود على أن تتكلم عندما يسكتون، فتعطيهم فرصة، ولا تقاطعهم، لكن لابد أن تتعود على الكلام في الأمور المفيدة.(224/48)
حكم من يرى من نفسه العجب عند الكلام
السؤال
ما رأيكم في شخص إذا جلس في مجلس وتكلم في بعض المسائل، قلل من كلامه أو سكت ويدعي أنه يخشى أن ترتفع نفسه؟
الجواب
إذا أحس الإنسان أنه بالكلام ارتفع وأصابه العُجْب، فليسكت، وإذا أحس أنه بالصمت أصابه العجب فليتكلم.(224/49)
من موانع الكلام
السؤال
أريد أن أتكلم مع زملائي وأقربائي في أمور مهمة، كلمة بعد الصلاة فلم أستطع، كأن شيئاً يمنعني، ما هي الأسباب؟
الجواب
لعل من أهم الأسباب ضعف الثقة بالنفس في مثل هذه المواقف، وعدم التجربة كما أسلفت.(224/50)
الكلام الطيب
السؤال
هل يجازى العبد على الكلمة التي لا يحتسبها كأن تكون كلمة طبيعية، وهي من الكلام الطيب؟
الجواب
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} لكن الكلام الطيب، يكفيك اسمه أنه كلام طيب، وإن لم يؤجر الإنسان على الكلمة التي لم ينوها.(224/51)
الصمت حكمة
السؤال
قيل: "إن الصمت حكمة" هل هذا حديث؟
الجواب
ورد مرفوعاً ولا أدري عن مدى صحته، ولا أظنه يصح، وإنما ورد عن جماعة من السلف، الصمت حكمٌ، أو الصمت حكمة، وقال الشاعر: الصمت حكمٌ وقليل فاعله.(224/52)
إزدراء الناس لشخص قليل الكلام
السؤال
ما رأيك في أن بعض الناس إذا كان الشخص قليل الكلام يكون عندهم ناقصاً ويزدرونه؟
الجواب
هذا من نقصهم هم؛ لأن كثرة الكلام إذا لم تكن في خير وذكر فهي ليست حسنة، والرجل الصامت يلقى الحكمة، فإذا كان صمته بحكمة وتعقل ويتكلم عند الحاجة إليه، فهذا مما يدل على عقله وثقله.(224/53)
كلام السلف وكلامنا
السؤال
الأولون يتكلمون بكلام قليل، بخلاف هذا الوقت، ألا ترى أن هذا الوقت في حاجة إلى كلام كثيرٍ واضح؟
الجواب
بلى أرى ذلك، والسبب أنه يَجدُّ للناس من الأشياء بقدر ما يَجِدُّ لهم من الأمور التي هي نقص في ذاتها، لكن لا بد من مقابلتها.
يجدّ للناس من الأقضية، بقدر ما يجدّ لهم من الفجور، أي أنه يقع عند الناس نقائص، ولا بد من مواجهتها بأمر، هو في الأصل مفضول أي ليس هو الأفضل، لكن أصبح الآن أفضل نظراً لحاجة الناس.(224/54)
خطب النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
لا أدري ما مدى صحة ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب من الصبح حتى الظهر ومن الظهر حتى العصر، ومن العصر حتى المغرب، وإن صح فهلا أشرتم فيما ترونه جمعاً بينه وما يروى من قصر الخطبة؟
الجواب
نعم هذا ورد، والذي أعلم أنه صحيح من حديث حذيفة، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطبهم من الصباح إلى المغرب، فلم يدع فتنة منذ عهده عليه الصلاة السلام، إلى قيام الساعة، يكون فيه جمعٌ إلا أخبرهم بها صلى الله عليه وسلم ولكن هذه حالة نادرة، أما الغالب عليه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كانت كلماته فصلاً وخطبته قصيرة، وقال صلى الله عليه وسلم: {إن من فقه الرجل طول صلاته وقصر خطبته} .(224/55)
حكم إفشاء الأسرار الزوجية
السؤال
ابتلي بعض الناس بالتحدث في مجالسهم ورحلاتهم عن قصص تافهة عن الجماع والقوة فيه، وذلك من السر، فما المخرج حيث أن له آثاراً سلبية على النشء وعلى غيرهم؟
الجواب
عاب الرسول صلى الله عليه وسلم نشر هذا، ونهى عن أن الرجل يفضي إلى زوجته، وتفضي إليه، ثم يفضح ويفشي ويتكلم، فقامت امرأة وقالت: والله يا رسول الله إنهن ليتكلمن -يعني النساء في مجالسهن والرجال يتكلمون- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن مثل ذلك، مثل شيطان لقي شيطانة في قارعة الطريق فوقع عليها} فهذا من الأمر الذي يعاب ويذم، ويعتبر حطاً من مروءة الإنسان، وينبغي تجنبه، وألا يتحدث الناس فيه، باعتبار أن هذه أسرار زوجية، وخاصة حين يكون هناك نشء؛ لأن هذا فيه ضرر بليغ عليهم، ولا شك أن هؤلاء أناس عندهم فراغ، ليس لديهم ما يشغلون به أوقاتهم، فيتلهون ويتسلون بهذه الأمور الوضيعة.(224/56)
كثرة الكلام لا تُمدح
السؤال
من خلال حديثك استنتجنا أن كثرة الكلام لا تمدح، فهل هذا الاستنتاج سليم؟
الجواب
كثرة الكلام في غير ذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم، لا يُمدح، وكذلك الصمت لا يمدح، إنما الذي يمدح هو الكلام بالحق.(224/57)
الكلام الذي يحاك في صدر الأعجم
السؤال
هل الإنسان الأعجم يؤاخذ بما يحيك في صدره ويريد أن يتكلم به ولكن لا يقدر، سواء أكان حسناً أم سيئاً، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
في هذا الأمر إشكال، فإذا عزم على قول كلام، لكنه امتنع منه عجزاً، فحسب الأصول والله تعالى أعلم أنه قد يأثم بذلك، لأن النية والعزيمة القوية في قلبه لفعل الشر هي بذاتها إثم، أما إذا كان مجرد خاطر خطر في باله فهذا لا يضره سواء كان أخرساً أم غير ذلك.(224/58)
آداب الدعاء
في هذا الدرس تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن جملة مباركة من آداب الدعاء، فذكر بضعة عشر أدباً من آداب الدعاء وذكر أسباب إجابة الله لمن يدعوه، وأن من الأسباب ما يتعلق بالداعي، ومنها ما يتعلق بالدعاء نفسه، ومنها ما يتعلق بالزمان والمكان، وهناك موانع لها.
وختم بذكر مسائل تتعلق بالدعاء وهي التباكي في الدعا، وطلب الدعاء من الغير ومسح الوجه بعد الدعاء.(225/1)
مقدمة في فضل الدعاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، أما بعد: فإن الله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] وفي الحديث القدسي: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر} وهل ينقص المخيطُ البحرَ شيئاً؟ كلا.
فكل ما يسأله العبد فهو قليل بالنسبة إلى ما عند الله عز وجل ولذلك لا يستكثر الله تعالى شيئاً أعطاه إياك، وكذلك أمر الله بالدعاء ووعد بالإجابة.
ولذلك فإننا نجد على مدار العصور من يوم أن خلق الله آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أن الله سبحانه يفتح أبواب الإجابة للسائلين، فما من عبد يسأل الله عز وجل بصدق وإخلاص وتجرد إلا أجابه الله عز وجل، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: [[إني لا أحمل هم الإجابة لكني أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن معه الإجابة]] وقصص الذين استجاب الله عز وجل لهم كثيرة من الأنبياء والصحابة والصالحين من القدماء والمتأخرين وغيرهم، وبعض الناس قد يستغرب كيف يكون لهذا الدعاء التأثير مع أن كل شيء بقضاء وقدر، وبعض الناس يقول: ما دام كل شيء مكتوب، فلماذا أدعو؟ والجواب على هذا الإشكال أن يقال: إذا كنت تقول هذا الكلام عليك ألا تأكل ولا تشرب ولا تتزوج ولا تخرج ولا تدخل بل ولا تتنفس؛ لأن كل شيء مكتوب، فلماذا إذاً جاءت قضية الدعاء، قال: لماذا أدعو؟ وهو إذا جاع أكل، وإذا عطش شرب، وإذا أراد النكاح تزوج، وإذا أراد الولد تزوج، فنقول: نعم الأسباب مكتوبة والنتائج مكتوبة.(225/2)
أسباب إجابة الدعاء
للإجابة خمسة أسباب هي سبب الإجابة:(225/3)
ما يتعلق بالداعي
الأول: يعود إلى الداعي كأن يكون الداعي صائماً، أو مسافراً، أو والداً يدعو لولده، أو مظلوماً، أو مضطراً يستغيث برب العالمين، فإن هؤلاء يجيبهم الله عز وجل؛ لأن الغالب على من كانت هذه حاله، أن يدعو بصدق وإخلاص وتجرد واضطرار وخشوع كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباًوَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90](225/4)
ما يتعلق بالدعاء نفسه
والثاني: يعود إلى الدعاء كأن يدعو الإنسان ربه (باسمه الأعظم) الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) وكذلك: {دعوة ذي النون عليه السلام (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) ما دعا بها مسلم قط في أمر إلا أجابه الله عز وجل} كما صح عن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.(225/5)
ما يتعلق بالزمان
والثالث: يعود إلى الزمان فإن هناك أزمنة فاضلة يكون الدعاء فيها مجاباً، وذلك كليلة القدر، ويوم الجمعة، فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياها، وهي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وهي أيضا آخر ساعة من صلاة العصر، فهي مقسمة بين هذين الوقتين من يوم الجمعة.
وكذلك من الأوقات الفاضلة التي يجاب فيها الدعاء: آخر ساعة من الليل قال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] وقد سئل رسول الله هل من ساعة أقرب من ساعة؟ قال: {نعم، إن الله تعالى ينزل في جوف الليل الآخر، فإذا استطعت أن تكون ممن يذكر الله عز وجل في تلك الساعة فكن} وكذلك هناك أوقات كثيرة يجاب فيها الدعاء.(225/6)
ما يتعلق بالمكان
والرابع: يعود إلى المكان.
هناك أماكن فاضلة يستجاب فيها الدعاء، وذلك كالحرم، وخاصة إن كان الإنسان في داخل البيت، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت ودعا في نواحيه، ومن المعلوم أن الحجر من البيت؛ فإذا كان الإنسان في الحجر فهذا مكان يرجى فيه إجابة الدعاء، وكذلك الملتَزَم: وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة؛ فإنه موضع يشرع ويستحب ويجاب فيه الدعاء بإذن الله عز وجل، كما في حديث ابن عباس وغيره عند أبي داود وهي أحاديث يشد بعضها بعضاً، وكذلك عند الصفا فوق الصفا وفوق المروة، وكذلك عند المشعر الحرام فهذه أماكن يجاب فيها الدعاء.(225/7)
الخلو من موانع إجابة الدعاء
والخامس: الخلو من موانع الإجابة: وذلك كأكل الحرام؛ فإن العبد إذا كان يأكل حراماً، كالربا، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالغش؛ فإنه لا يجاب له دعاء، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: {الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له} .(225/8)
آداب الدعاء
وللدعاء آداب كثيرة منها:(225/9)
ذكر ما يترتب على استجابة الدعاء
فإذا سألت الله عز وجل أمراً من أمور الدنيا أو الآخرة؛ فاذكر في دعائك ما سيترتب على إجابة الله عز وجل لك من الخير الدنيوي والأخروي، ولذلك كان من دعاء موسى عليه السلام حين قال: {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:30-32] ثم عقّب على ذلك ببيان ما يترتب على الإجابة فقال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} [طه:33-35] وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، قال فيما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص: {إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك فلاناً، ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة} فحين دعا بالشفاء لفلان؛ بيّن ما يترتب على إجابة هذا الدعاء؛ من أن هذا الرجل رجل صالح؛ إذا شفي مشى إلى المسجد، وضر أعداء الإسلام بلسانه وماله وقلمه وغير ذلك مما يستطيع، وكذلك روى أبو داود بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم حين دعا في معركة بدر قال وقد رفع يديه حتى رأى الناس بياض إبطيه: {اللهم أسألك عهدك ووعدك -أي بنصر المؤمنين- ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم} فبين ما يترتب على عدم الإجابة من الأضرار التي يراها البشر، وكذلك إذا دعا على الظالمين والفاسقين وأمثالهم من المجرمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، سواء كانوا طغاة يؤذون العباد أو ظلمة أو مرابين أو أصحاب أفكار هدامة منافية للإسلام، أو دعاة على أبواب جهنم، أو أياً كانوا؛ فإذا دعا عليهم يبين ما يترتب على وجودهم من الأضرار، وله في ذلك أسوة بموسى عليه الصلاة والسلام حين قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس:88] فبين ما يترتب على وجودهم، ثم قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88] وقال عز وجل: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89] فلا بأس أن يقول الداعي: اللهم إن هؤلاء الظالمين قد آذوا عبادك وكذبوا رسلك وأفسدوا في الأرض؛ اللهم فخذهم أخذ عزيز مقتدر فإنهم لا يعجزونك أو ما شابه ذلك.(225/10)
كراهية استبطاء الإجابة
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما ورد عن أبي هريرة أنه قال: {يستجاب لأحدكم ما لم يعجل -كيف يعجل؟ - يقول: دعوت فلم يستجب لي} متفق عليه، فلا ينبغي للعبد أن يستعجل الإجابة، وكل واحد منا يستعجل الإجابة، بل أكثر الناس إن لم يكن كلهم يستعجلون الإجابة، ويستبطئونها إذا تأخرت عليهم.
وهناك وسائل تطمئن قلب الإنسان وتجعله يدعو وهو مطمئن، منها: أن تعلم أن الدعاء عبادة، وأنه من العبادات التي يتوفر فيها الإخلاص والإقبال على الله سبحانه وتعالى، فلو لم يتوفر لك إلأ الأجر والمثوبة من الله عز وجل على دعائك لكفى، فالعبد إذا دعا يكون داعياً بإخلاص فيكتب له أجر وهذا كافٍ، كما أنه إذا صلى يكتب له أجر، فإذا تذكرت ذلك علمت أن الدعاء عبادة فأنت رابح على كل حال.
الأمر الثاني: أن تعلم أن الله عز وجل أعلم بمصلحتك منك، فقد تدعو الله عز وجل بأمر يعلم الله أنه لو أجاب دعاءك وحقق لك ما تريد؛ لكان هذا ضرراً عليك في الدنيا أو في الآخرة، أو يعلم الله تبارك وتعالى بعلمه وحكمته أن من المصلحة لك أن يؤجل إجابتك عن هذه السنة إلى السنة التي تأتي بعدها، أو عشر سنين، أو أكثر، أو أقل، فيعلم الله عز وجل أن مصلحتك في تأجيل الإجابة أو في عدمها، فأنت حينئذٍ تستسلم لما يقع وتعلم أن الله عز وجل أبصر بمصلحتك منك.
فكم من إنسان -مثلاً- يسأل الله زوجةً صالحة، فيبطئ عليه هذا الأمر، وقد يسأل امرأة بعينها أن ييسر الله سبيل الزواج منها، فربما لو حصل هذا الأمر لحصل بينهم من المشاكل والهموم والمتاعب والقضايا الكثيرة المتشابكة ما تجعل حياة الإنسان تتحول إلى نوع من العذاب، حتى يتمنى أنه لم يرها، ويقول لها: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين، وقد يقع هذا للإنسان، فقد يدعو الإنسان ربه بتعجيل سفر، قد يكون لطاعة إما لحج أو لعمرة أو لجهاد ليس من الأمور الواجبة على الإنسان لكن من النوافل؛ فلا يتيسر له هذا الأمر، فيعلم بعد ذلك أنه كان الخير فيما اختاره الله عز وجل له.
الأمر الثالث: الذي يعين الإنسان على الصبر وعدم استعجال الإجابة: أن يقدر أن الله عز وجل دفع عنه بهذا الدعاء شراً أو ضراً كان سينزل به لو لم يدعُ؛ فإذا تذكرت أن الله دفع عنك بهذا الدعاء شراً فإنك تستمر في الدعاء.
الأمر الرابع: أن تعلم أن هذا امتحان لصبرك وجلدك وتحملك هل تستمر في هذه العبادة أم تحزن وتستحسر وتترك عند ذلك الدعاء.
الأمر الخامس: أن ينحي الإنسان باللوم على نفسه، تلوم نفسك إذا لم تُجَب، ولذلك يقول الله عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ويقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة:186] فيمكن أن يكون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير، أو الخطأ، أو إخلالك بطريقة الدعاء، أو اعتداؤك فيه، أو ما شابه ذلك، فتعود باللائمة على نفسك، وعَوْدُكَ باللائمة على نفسك من أعظم أسباب الإجابة.
ولذلك يروى في الروايات الإسرائيلية، وهي قصة وإن لم تكن مضبوطة بأسانيد، لكنها من حيث المعنى صحيحة: أن رجلاً كان يدعو الله عز وجل ستين سنة في حاجة، وبعد ستين سنة ما أجاب الله تعالى دعاءه، فنظر هذا الرجل العابد إلى نفسه، وقال: والله يا فلان لو كان فيك خير لأجاب الله دعاءك، ما تركك الله طيلة هذه الستين سنة إلا لأنك لست أهلاً لأن يجاب دعاؤك، فسمع منادياً يقول له: والله لاحتقارك لنفسك في هذه الساعة أحب إلينا من عبادتك ستين سنة.
فأعمال القلوب أعظم من أعمال الجوارح، بل أعمال الجوارح مرهونة ثمرتها وقيمتها وأجرها بأعمال القلوب، فكون الإنسان يكون في قلبه ذل وانكسار، وتواضع وخشوع، ومقت للنفس، وازدراء لها، هذا من أعظم أسباب القربة إلى الله عز وجل، وأوسع باب تدخل فيه على رب العالمين هو باب الذل والانكسار بين يديه جل وعلا، ولا يجوز للإنسان أن ييأس كما قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من رجل مسلم يسأل الله عز وجل دعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله عز وجل بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يجيبه، أو يدفع عنه من الشر مثلها، أو يؤخر ويدخر له في الآخرة مثلها، قالوا: يا رسول الله! إذاً نكثر قال: الله عز وجل أكثر} رواه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وصححه وهو حديث صحيح، فلا يجوز للإنسان أن ييأس من روح الله عز وجل.(225/11)
ترك التكلف في السجع في الدعاء
فقد جاء عن مسروق أن عائشة رضي الله عنها قالت للـ سائب [[إياك والسجع، إياك والسجع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يسجعون]] رواه أحمد وابن أبي شيبة والطبراني في الدعاء وسنده حسن، وكذلك روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لـ عكرمة مولاه: [[وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه]] والمقصود على كل حال (السجع المتكلف) وإلا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، اللهم إني أعوذ بك من شر هؤلاء الأربع} رواه النسائي والحاكم وقال الذهبي: هو على شرط مسلم فهذا سجع مطلوب، مناسب وعلى البديهة، وغير متكلف، وبعض الناس زينوا كتباً ورسائل فيها أسجاع، زينوا بها دعواتهم، وألفاظاً منمقة خاوية من المعاني، مع أن السجع بذاته أسلوب قد عفا عليه الزمن؛ ما لم يكن سجعاً عفوياً غير متكلف.
وأودّ التنبيه على أن هناك كتاباً اسمه الدعاء المستجاب من السنة والكتاب، وهذا أيضاً مليئ بأدعية منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير منها ما بين ضعيف وموضوع وهو لـ أحمد عبد الجواد، فينبغي الحذر من هذا الكتاب وعدم طبعه أو بيعه أو تداوله أو الدعاء بما فيه من الأدعية، وبعض الأئمة والداعين يدعون بأدعية أخذوها من هذا الكتاب، مع أن كثيراً مما فيه غير صحيح، وهناك كتاب آخر أفضل منه جمع الأدعية الصحيحة واسمه الدعاء المستجاب من السنة الصحيحة والكتاب.(225/12)
ترك الاعتداء في الدعاء
هذا أدب عظيم أخل به كثير من الناس، ولذلك سوف أبسط الحديث عنه بعض البسط لا كله، فلذلك الله عز وجل يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] .
المعتدين يعني: في الدعاء وفي غيره، فالاعتداء يكون في الدعاء وفي العبادة وفي غيرها، وقد سبق في حديث سعد بن أبي وقاص، وابن مغفل، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: {سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء} والاعتداء: هو أن يتعدى الإنسان الحد المشروع في الدعاء، كالجهر الكثير والصياح ورفع الصوت بما لا داعي له، خاصة ونحن نجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فأحياناً تجد في بعض البلدان إذا كانت صغيرة تجد مكبر الصوت يرفع الدعاء فيسمعه أهل البلد في كل مكان، وهذا الداعي يزعق بالصياح والبكاء، ورفع الصوت بالدعاء، بحيث إنه يسمع من لا حاجة لهم به كمن يكونون مشتغلين مع إمام آخر، أو مشتغلين بصلاة أو بذكر أو بغير ذلك، وهذا يحدث من الأضرار ما هو معلوم، فهذا من الاعتداء خاصة إذا كان صاحبه ذا صوت مرتفع وهذا شيء لا داعي له.
ومن الاعتداء في الدعاء: الدعاء بالمحال، كأن يدعو الإنسان ربه أن يبلغه منازل الأنبياء؛ لأنه لا يمكن أن يبلغ العبد منزلة نبي من الأنبياء، أما منازل الصديقين ومنازل الشهداء ومنازل الصالحين فلا بأس، كذلك أن يدعو الإنسان بالخلود لنفسه أو لغيره، كبعض الناس المتملقين إذا كانوا أمام سلطان أو حاكم أو خليفة أو ملك أو رئيس دعوا له بدعوات منها: خلد الله ملكك، ونحن نقرأ اليوم في بعض الكتب القديمة عن حكام قد ماتوا أو انقرضوا وبادوا وأكلت الأرض أجسادهم، وتجد بعض الناس كان يقول: فلان خلد الله ملكه، لا يخلد إلا مُلْكُ الواحد الباقي جل وعلا، أما ملك المخلوقين فهو وهم إلى زوال.
وكذلك من الاعتداء في الدعاء: أن يدعو الإنسان بأمور دنيوية تفصيلية، لا داعي لها -كما سبق- فهذا يخالف الدعاء الجامع، كأن يقول الإنسان: اللهم إني أسألك بيتاً في الحي الفلاني، مكوناً من كذا طابق، سعة الشارع الذي فيه البيت كذا وكذا، اللهم إني أسألك سيارة موديل كذا وكذا، صفة السيارة كذا وشكلها كذا، هذا كله من الاعتداء في الدعاء، ومثله: أن يسأل الله زوجة صفتها كذا، وطولها كذا، وشكلها كذا، ولونها كذا، وشعرها كذا، هذا كله من الاعتداء في الدعاء، وكذلك إذا دعا على قومٍ أو دعا لقومٍ فإنه يفصل في هذا الدعاء، -مثلاً- بعض الناس إذا دعا على أحد من الظالمين والفاسقين والكافرين دعا عليه دعاء تفصيل؛ بإن يفعل الله بعيونه كذا وبرأسه كذا ويجدع أنفه، ويقطع أذنه، ويصيبه بكذا وكذا من الأمراض، ويبدأ يدعو بدعوات تفصيلية ممجوجة، ليس لها مكان، لماذا لا يدعو الله عز وجل على هذا الإنسان بالهلاك وكفى؟! لماذا هذا التفصيل الذي يعتبر من الاعتداء في الدعاء؟! وكذلك لو دعا لأحدٍ فإنه قد يدعو بدعاء فيه تفصيل لا داعي له، فالصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم تعلموا في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون بالدعاء الجامع، حتى إذا دعوا على أحد اختصروا.
من ذلك قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان أميراً على الكوفة فشكوه إلى عمر فأرسل عمر لجنة تقصي حقائق فكانت هذه اللجنة تنزل في كل مسجد من المساجد، ويسألون أهل المسجد ما رأيكم في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ قالوا: والله ما نعلم إلا خيراً، فلما جاءوا إلى مسجد بني عبس قام رجل اسمه أسامة بن قتادة وقال: أما إذ سألتنا فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية.
يريد أن يقول أنه ظالم، ويُفَضِّل بعضنا على بعض، وأنه جبان، فهكذا اتهمه، فقام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقال: اللهم إن كان عبدك هذا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن.
فدعا عليه بدعوة جامعة، فطال عمر هذا الرجل حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وافتقر حتى كان يتكفف الناس في الأسواق -نسأل الله السلامة- وأصيب بالفتن حتى كان يجلس في الشوارع يتعرض للجواري ويغمزهن، وإذا قيل له ذلك قال: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فالتفصيل في الدعاء لأحد أو على أحد أو الدعاء للنفس أو للغير هذا من الاعتداء في الدعاء.
ومن الاعتداء في الدعاء: أن يدعو الإنسان بتيسير معصية، أو يدعو على نفسه أو أهله أو ولده أو ماله بشر، كما سبق، يقول الله عز وجل: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] ولذلك جاء التقييد في الأحاديث {أن الله عز وجل يجيب العبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم} .
ومن الاعتداء في الدعاء، -وهذا أمر قد عم وطم وفشا مع الأسف الشديد بين الناس كباراً وصغاراً شيباً وشباناً-، أن كثيراً من الناس قد أولعوا بالدعاء بألفاظ مفقرة فقرات، وكلمات مسجوعة، وأدعية منكرة، اخترعوها من عند أنفسهم، أو وجدوها في كراريس أو كتب أو رسائل؛ ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أصل لها من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، ولا معول عليها، فجعلها هؤلاء الناس شعاراً لهم، واستعاضوا بها عما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم، أو عما أخبرنا الله عز وجل من أدعية الأنبياء والصالحين ونحوهم.
وهذا كله قد يمنع إجابة الدعاء كما ذكره القرطبي، ولذلك تعجبني كلمة قالها الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين يقول: الأولى ألا يتجاوز الدعوات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد يعتدي في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته، فما كل أحد يحسن الدعاء، لذلك روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول: [[إن العلماء يحتاج إليهم حتى في الجنة، قالوا له: كيف يا أبا عبد الرحمن! يحتاج إليهم حتى في الجنة؟!.
قال: نعم.
إذا قيل لأهل الجنة: تمنوا.
لم يدروا ماذا يقولون، حتى يسألوا العلماء فيخبرونهم ماذا يتمنون]] .
وهذا دليل على أنه ليس كل أحد يحسن الدعاء ويحسن الأمنية، فينبغي على الإنسان أن يقتصر على الدعاء المأثور، ولذلك نقل الأثرم عن أحمد رضي الله عنه أنه قال له: (ماذا أدعو به في صلاتي؟ قال: تدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث كما في الصحيح {ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه} قال: نعم.
يتخير مما ورد) يعني مما ورد سواء بلفظه أو بمعناه؛ لأن الأدعية غير متعبد بألفاظها فليست كالقرآن أو كبعض الأذكار، فإن حفظت اللفظ دعوت باللفظ، وإذا لم تحفظه بلفظه دعوت بالمعنى، فتدعو بالخير، وبالجنة، وبالنجاة من النار، وما أشبه ذلك، فلا ينبغي للإنسان أن يتوسع في تلك الأدعية، والأشياء التي لم يكن لها أصل ولا نقل، ولذلك فإن الاقتصار على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هو السلامة في ذلك لفظاً أو معنى.
ومن الاعتداء في الدعاء -أيضاً-: الإطالة في الدعاء بما يتضمن المشقة على الداعي، وعلى المؤمّن، وسآمته، وتفرق قلبه عن الدعاء، فضلاً على أن من يطيلون في الدعاء لا بد أن يخرجوا عن الدعاء المأثور إلى غيره فيقعون في المحظور السابق، خاصة أن كثيراً من الناس لا يحسنون الدعاء، وقد يأتي الواحد منهم بألفاظ غريبة ومعانٍ منكرة، ومن هذه الألفاظ والمعاني المنكرة ما نقله الإمام الخطابي في كتابه شأن الدعاء: (أن أعرابياً رفع يديه إلى السماء يستسقي؛ وقال: رب العباد ما لنا ومالك، قد كنت تسقينا فما بدا لك) وهذا رجل فيه عجرفة وتهور وعدم فهم وعدم علم، ولذلك دعا بهذه الدعوة، وكذلك ما نقله الخطابي رحمه الله أيضاً: (أن رجلاً من قريش، لما هدموا الكعبة، خرجت حية عظيمة، فخاف الناس منها، فقام شيخٌ كبير من قريش وقال: (اللهم لا ترع، اللهم لا ترع، اللهم ما أردنا إلا حماية بيتك وحياطة حرماتك)) وهذا أيضاً لا يليق؛ لأن الله عز وجل لا يخاف سبحانه وتعالى، وإنما الخوف يكون للعبد العاجز الضعيف الجاهل، فقوله (اللهم لا ترع) ليس له وجه، وإنما هو من الجهل، ومثل ذلك يقع فيه كثير من الناس.
ومن الاعتداء في الدعاء: تسمية الله عز وجل بأسماء لم تثبت لا في الكتاب ولا في السنة، مثل ما يقوله بعض العوام حين يقول: يا سبحان يا سبحان، يا برهان، يا سلطان، مثلاً، فإن هذه الأدعية ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، ومثل قول بعضهم: يا غفران، فإن العبد إذا أراد أن يسأل الله عز وجل غفرانه، فإنه يسأل بغير هذا فيقول: يا غفور اغفر لي -مثلاً- أو يا غفور أسألك غفرانك، وكذلك مثل قول بعضهم: يا رب طه وياسين، ويا رب القرآن العظيم، فإن هذا غير سليم، وغير صحيح، وقد ذكر الخطابي أن ابن عباس أنكره على من قاله؛ لأنه قد يوهم أن القائل يعتقد أن القرآن مخلوق، والقرآن كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وعلى كل حال فالاعتداء في الدعاء أمره يطول وأكتفي بما ذكرت.(225/13)
عدم الدعاء باستعجال العقوبة على النفس، أو الدعاء على المال أو الأهل أو الولد
ففي صحيح مسلم عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ من شدة المرض حتى صار كالفرخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {هل كنت تدعو بشيء، قال: نعم يا رسول الله، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه، أو قال: لا تستطيعه، هلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار! فدعا الله عز وجل فشفاه} .
فلا يجوز ولا ينبغي للعبد أن يسأل الله عز وجل أن يعجل له العقوبة في الدنيا، كيف تدعو الله عز وجل أن يعجل لك العقوبة في الدنيا؟! والله عز وجل وصف نفسه بأنه رحيم، جواد، واجد، ماجد، كريم، لطيف، حنّان، منان، رحيم، رحمان، فاسأل الله عز وجل أن يغفر لك ذنبك، ويتجاوز عنك، ويرزقك خير الدنيا والآخرة.
كذلك الدعاء على الأهل والمال والأولاد، هذا كله لا يجوز، ولذلك ورد عن جابر مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على الأولاد، ولا تدعوا على خدمكم، لا توافقوا من الله عز وجل ساعة عطاء فيستجيب لكم} رواه أبو داود وسنده صحيح، فكون الإنسان يدعو على نفسه، أو على زوجته، أو على أولاده، أو على خدمه، أو على ماله من بيت أو مزرعة أو سيارة أو غير ذلك، هذا كله غير مشروع ولا ينبغي، وبعض الناس رجالاً ونساءً -خاصة النساء- كثيراً ما تدعو على أولادها بالموت أو الهلاك أو المرض أو بغيره، وهذا لا يجوز؛ لأنه قد يوافق ساعة إجابة فيستجيب الله عز وجل خاصة دعاء الوالد إذا دعا على ولده، ولاشك أن هناك فرق بين الدعاء الذي يخرج من قلب صادق وبين الدعاء الذي يكون على اللسان، لكن -أيضاً- حتى الدعاء وإن كان يطلق من الإنسان بدون إرادته فإنه ينبغي للإنسان وخاصة النساء أن يعودن أنفسهن على عدم الدعاء على أولادهن إلا بخير.(225/14)
الأخذ بجوامع الدعاء
المقصود بجوامع الدعاء: الكلمات المختصرات التي تشمل معنىً كبيراً، ولذلك في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم {فُضِّل بخصائص منها: أنه أوتي جوامع الكلم} أي الكلمات المختصرة التي تشمل معنىً كبيراً، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم {كان يعجبه الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك} رواه أبو داود وأحمد والحاكم وصححه وابن أبي شيبة وهو حديث صحيح، أما التطويل والتفصيل؛ فإنه غير سائغ ولا مشروع، ففي حديث صحيح رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع ابناً له يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وزقومها وغسلينها وكذا وكذا، فقال له: أي بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء} اسأل الله عز وجل الجنة، فإذا أُعطيتها؛ أعطيتها وما فيها، واستعذ بالله عز وجل من النار، فإنك إذا أعذتها؛ أعذت منها ومما فيها.
فكون السائل -مثلاً- يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وقصورها وحورها وما فيها من النعيم، وكذا وكذا وكذا، ويبدأ يفصل في صفة الجنة، أو يقول: اللهم إني أعوذ بك من النار وما فيها من السلاسل والأغلال والجحيم ويبدأ ويعدد صفة النار أعوذ بك من النار وما فيها، فهذا كله غير مشروع؛ لأنه من الاعتداء كما سيأتي، بل ينبغي للإنسان أن يقول كما قال ذلك الأعرابي: {يا رسول الله إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، وإنما أسأل الله عز وجل الجنة وأعوذ به من النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حولهما ندندن} وكذلك عبد الله بن المغفل رضي الله عنه سمع ابناً يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الداخل إلى الجنة -أي أن الرجل واثق كأنه قد دخل الجنة؛ ورأى هذا القصر الأبيض عن يمين الداخل إليها- فقال له أبوه: أي بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إنه سيكون في هذه الأمة أقوامٌ يعتدون في الطهور والدعاء} رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وأحمد وسنده صحيح.
ولذلك علمنا الله عز وجل في القرآن الكريم أدعيةً جوامعَ مختصرة قال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] وهذه أيضا من الدعوات الجوامع؛ كذلك دعوة ذي النون عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] وأواخر سورة البقرة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] وغير ذلك من الأدعية الجوامع، وهي كثيرة في القرآن الكريم.
أما في السنة النبوية فعن قطبة بن مالك رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأهواء والأعمال والأدواء} رواه الترمذي وحسنه، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بقوله كما عند الترمذي وأحمد: {اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، اللهم إني أسألك حبك، وحب من أحبك، وحب العمل الذي يقربني إلى حبك} أيُّ دعوة أجمع وأوسع وأخصر وأبلغ من هذه الدعوة النبوية الكريمة، فلا بد من مراعاة الاختصار في الدعاء والاقتصار على الجوامع من الدعاء.(225/15)
تكرير الدعاء ثلاثاً
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام {كان يعجبه أن يدعو ثلاثاً أو يستغفر ثلاثاً} والحديث رواه أبو داود والنسائي وغيرهم وهو حديث صحيح، فكان عليه الصلاة السلام إذا دعا كرر دعاءه ثلاث مرات، ولكن هذا ليس عاماً أي ليس ملزماً في كل دعاء، ولذلك -مثلاً- في الدعاء الذي تعلمناه في الصلاة {رب اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني} ليس فيه تكرار ثلاث مرات، وكذلك {أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر} ليس فيه تكرار ثلاث مرات، كذلك {اللهم اهدني فيمن هديت} ما ورد تكريره فيما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن، لكن لا بأس أن يكرر الإنسان الدعاء ثلاثاً خاصة إذا كان هذا الدعاء مهماً وعاماً وفيه مصلحة عامة لجمهور الناس؛ فإنه يستحب للإنسان أن يكرره ثلاث مرات.(225/16)
العزيمة في المسألة
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم أنه قال: {إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، لكن ليعزم المسألة} فكثير من الناس أصبحت كلمة إن شاء الله على لسانهم، فتجده يقول لإنسان إذا أراد أن يدعو الله له: جزاك الله الخير إن شاء الله، الله يوفقك إن شاء الله، أسأل الله إن شاء الله أن يعافيك، وهذا كله خلاف المشروع ولا ينبغي، بل مكروه؛ لأن تعليق الإنسان الدعاء بالمشيئة يحمل على أحد أمرين: فأنت إذا طلبت من إنسان طلباً وعلقته بمشيئته -مثلاً- إذا قلت: يا فلان أريد منك أن تعطيني هذا الشيء إذا شئت، فقولك: إذا شئت، يُحمل على أحد أمرين: إما أن حاجتك إلى هذا الأمر ليست كبيرة، ولذلك علقته بمشيئته، وإما أن تكون خائفاً أن تثقل عليه بهذا الطلب وتشق عليه فتعلق الأمر بمشيئته، وكلا الأمرين منتفٍ بالنسبة لدعوة المخلوق للخالق جل وعلا، فالله عز وجل واسع الفضل والعطاء، ويحب أن يسأله عبده، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {ومن لم يسأل الله يغضب عليه} وكذلك الله عز وجل لا يستعظم شيئاً أعطاه عبده، وهو غني عن عباده، فكلا الأمرين منتف، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعزم في المسألة.(225/17)
الإكثار من الدعاء
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله عز وجل لا يتعاظم شيئاً أعطاه} رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والطبراني في كتاب الدعاء وسنده صحيح، وقوله عليه السلام: {فليعظم الرغبة} يشمل أموراً: أولها: أن الإنسان يعزم في المسألة فلا يقيدها بالمشيئة كما سبق، فلا يقول: اللهم أسألك إن شئت أن تغفر لي، وإن شئت أن ترحمني.
الأمر الثاني: أن يسأل الله الخير الكثير، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سألتم الله عز وجل فاسالوه الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة، ووسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن عز وجل} حتى إن كان العبد ظالماً ومخطئاً وعاصياً ومقصراً ومحتقراً لنفسه، فعليه أن يسأل الله أعظم السؤال، ويدعوه أعظم الدعاء، ويسأل الله الفردوس الأعلى، ويسأل الله من كل خير، ولا بأس أن يقول العبد وهو المقصر الظالم المسرف على نفسه: (اللهم إني أسألك أن تبلغني منازل الصديقين، اللهم إني أسألك أن تبلغني منازل الشهداء، اللهم إني أسألك أن تبلغني منازل الصالحين) إلى غير ذلك من الدعوات، ولذلك كما ينقل عن بعض الصالحين (أنه رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم إني أسألك الجنة، ثم رجع إلى نفسه وقال: أو مثلي يسأل الجنة، اللهم إنني أعوذ بك من النار) فهذا إن صح فليس بصواب، ولا يقتدى به في ذلك، بل على العبد أن يسأل الله الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، بل وعليه أن يسأل الله عز وجل الفردوس الأعلى من الجنة؛ فإن الله تبارك وتعالى لا يتعاظم شيئاً أعطاه عبده.(225/18)
الدعاء للنفس في البداية
الدعاء للنفس في البداية، ولذلك علمنا الله عز وجل فيما أخبر به من دعاء الأنبياء والصالحين أنهم كانوا يدعون لأنفسهم قبل غيرهم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] وقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف:151] فكان الواحد منهم يدعو لنفسه قبل أن يدعو لغيره، ولذلك صح عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه) والحديث رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح، ولا يشكل على هذا أنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه دعا لغيره، كما قال لـ ابن عباس: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} وكما قال: (اللهم اغفر لعُبيدك أبي عامر) وكما دعا لـ أم إسماعيل {يرحم الله أم إسماعيل لو لم تغور الماء لكان عيناً معيناً} لا يشكل هذا؛ لإنّ الإنسان إذا أراد أن يدعو لغيره فقط.
دعا لغيره، ولكن إذا أراد أن يدعو لنفسه ويدعو لغيره؛ فإنه يقدم نفسه، ولذلك ليس من الصواب أن تقول لإنسان: يا فلان رحمك الله وإياي! لكن قل: رحمني الله وإياك، ولكن لو قلت له: رحمك الله.
فقط، فلا بأس، فإذا أردت أن تدعو لنفسك ولغيرك فابدأ بنفسك قبل غيرك، ولكن ينبغي أن لا يخص الإنسان نفسه دون غيره بدعاء، فإن كنت تدعو في حضرة قوم فلا يجوز أن تخص نفسك بدعاء دونهم إذا كنت تدعو وهم يؤمنون، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما رواه ثوبان: {لا يحل لامرئ أن يؤم قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم؛ فإن فعل فقد خانهم} والحديث رواه الترمذي وأحمد وغيره.
فكون الإمام مثلاً يدعو فيقول: اللهم اهدني فيمن هديت، والناس يقولون: آمين، فالناس ما جاءت إلى المسجد حتى تدعو لك أنت فقط، بل جاءت تدعو لنفسها، ولذلك علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام الدعاء الذي تسمعونه في القنوت (اللهم اهدنا) حتى يكون الإمام دعا لنفسه ولغيره، ويكون المأموم يؤمن على هذا الدعاء لنفسه ولغيره أيضاً، كما أنه لا يجوز للإنسان أن يحجِّر رحمة الله عز وجل، فلا يصنع كما صنع ذلك الأعرابي الذي دخل المسجد فصلى؛ ثم رفع يديه إلى السماء فقال: {اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً} فرحمة الله وسعت كل شيء، ولذلك تدعو لنفسك ولغيرك من المسلمين، وادع للضالين بالصلاح، وادع للكافرين بالهداية، وهذا كله قليل بجانب رحمة الله، وسعة فضله تبارك وتعالى.(225/19)
الإسرار بالدعاء
إذا كان الإنسان منفرداً سواء أكان في صلاة أو في غيرها، فإنه يشرع له أن يسر بالدعاء، ولذلك قال الله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث أبي موسى المتفق عليه وقد سمع الناس يدعون ويرفعون أصواتهم: {أيها الناس! اربعوا على أنفسكم -يعني ارفقوا بأنفسكم- إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً} فينبغي للعبد إذا دعا الله عز وجل ألا يبالغ في رفع صوته، وله في ذلك قدوة وأسوة بعبد الله زكريا {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] يعني بينه وبين الله عز وجل، ولذلك يقول الحسن البصري رحمه الله: [[لقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سراً، فيكون جهراً أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوتٌ، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم عز وجلً]] .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله لإخفاء الذكر والدعاء فوائد: أن ذلك أعظم إيماناً؛ لأن العبد إذا أسر فمعنى ذلك أنه يعلم أن الله تبارك وتعالى يعلم السر وأخفى، فهذا أقوى إيماناً.
أنه أعظم في الأدب والتعظيم، فإن الإنسان لو أراد أن يسأل ملكاً من ملوك الدنيا ما كان يرفع صوته بحضرته، بل كان يهمس ويخفض صوته، فالله عز وجل أحق أن يتأدب معه العبد في دعائه.
أنه أبلغ في التضرع والخشوع، بحيث أن العبد الذليل السائل، يخشع منه كل شيء، تخشع جوارحه، وتدمع عينه، ويخشع صوته أيضاً.
أنه أبلغ في الإخلاص وأبعد عن الرياء.
أنه دال على قرب صاحبه من الله عز وجل فكأنه لشعوره بأن الله عز وجل قريب منه يناجيه مناجاة القريب، لا يناديه نداء البعيد، فهو يشعر أن الله تبارك وتعالى قريب، كما أخبر: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] لذلك يناجيه مناجاة القريب، لا يناديه بصوت مرتفع مناداة البعيد.
أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال؛ لأن العبد إذا بالغ في رفع صوته ملّ وتعب، وسئم، وأصابه من ذلك ضعف وعجز عن الاستمرار في الدعاء.(225/20)
الوضوء
يستحب لمن أراد أن يدعو الله عز وجل أن يتوضأ؛ لأن الدعاء داخل الصلاة أو خارجها، ولذلك صح عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم {لما انتهى من غزوة حنين، بعث جيشاً إلى أوطاس، وكان عليهم رجل يقال له أبو عامر الأشعري، فضربه رجل بسهم فأثبته في رجله، قال أبو موسى: فأخذته، فنزا منها الدم، فقال أبو عامر وقد أحس بقرب أجله: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، واطلب منه أن يستغفر لي، قال أبو موسى: فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته الخبر، فتوضأ واستقبل القبلة ثم رفع يديه، وقال: (اللهم اغفر لعبيدك أبي عامر، اللهم اغفر له اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك) فلما رأى أبو موسى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولي فاستغفر يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لـ عبد الله بن قيس ذنبه -وعبد الله بن قيس هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه- وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً) } والحديث متفق عليه، فيستحب لمن أراد أن يدعو أن يتوضأ.(225/21)
استقبال القبلة
فقد صح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة وقال: كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه {اللهم اهد دوساً} وهي قبيلة أبي هريرة، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه، كما في دعائه عليه الصلاة والسلام عند الصفا وعند المروة، وبعد ما رمى جمرة العقبة والجمرة الثانية، وكذلك كان عند المشعر الحرام يستقبل القبلة في دعائه، فينبغي للعبد أيضاً إذا أراد أن يدعو الله عز وجل أن يستقبل القبلة.(225/22)
رفع اليدين
فقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه سلمان الفارسي: {إن الله عز وجل يستحي من عبده إذا مد إليه يديه أن يردهما صفرا} والحديث رواه الترمذي وحسنه وأبو داود وغيره وهو حديث حسن، والأحاديث الواردة في مشروعية رفع اليدين في الدعاء كثيرة جداً، حتى إن الإمام السيوطي رحمه الله صنف كتاباً سماه فَضُّ الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء تحدث فيه عن أحاديث رفع اليدين في الدعاء، قال في مطلع هذا الكتاب: (إن أحاديث رفع اليدين وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من نحو نيف وأربعين حديثاً عن بضع وعشرين صحابياً) وقال: (إن الأحاديث في رفع اليدين مشهورة بل متواترة) ومن هذه الأحاديث الواردة في رفع اليدين في الدعاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين أراد أن يدعو لـ أبي عامر الأشعري كما سبق، ويحكى أن بعض الصالحين رفع يديه إلى السماء يدعو، فرآه رجل من أهل الذمة يهودي أو نصراني، فقال له: يا هذا إني أراك حين ترفع يديك، ترفع يدك إلى السماء وتخفض رأسك إلى الأرض! -لأن هذا مشروع في الداعي أن يرفع يديه ويخفض رأسه، ولا يجوز لمن يدعو؛ وخاصة في الصلاة: أن يرفع بصره إلى السماء- فأين مطلوبك في السماء أو في الأرض؟ فقال هذا الرجل الصالح: إنا نستمطر بأيدينا أرزاقنا، ونستدفع بالثانية شر آجالنا -يعني شر الميتة السوء- أسمعت؟ قال: نعم، قال: إن الله عز وجل يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] فالعبد يسأل الله عز وجل رزقه، رزق الدنيا والآخرة، ويقول عز وجل: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] فنحن ندفع شر ميتتنا بذلك، فأسلم هذا الذمي.
ولذلك فإنه يشرع للإنسان أن يرفع يديه، وكذلك لا بأس إذا اشتد بالإنسان الدعاء أن يبالغ في رفع يديه إلى السماء، ولذلك قال أبو موسى: [[ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه حتى رأيت بياض إبطيه]] وكذلك قال أنس كما في صحيح مسلم وغيره: [[أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا في الاستسقاء رفع يديه حتى رأى الناس بياض إبطيه]] وكذلك صح عن ابن عباس رضي الله عنه موقوفا أنه قال: [[الاستغفار هكذا يعني: الإشارة بالسبابة]] قال بعض أهل العلم: لأن العبد إذا استغفر فإنه يسب نفسه، وينسب نفسه إلى التقصير، وإلى الذنب، وإلى الخطأ، فهو يستغفر الله من ذنوبه، فيرفع إصبعه السبابة، وأما الدعاء: فأن ترفع يديك حذو منكبيك، وأما الابتهال: فهو أن تمد يدك مداً، فإذا بالغ الإنسان في الدعاء فلا بأس أن يرفع يديه.(225/23)
البدء بالثناء على الله والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم
نحن نعلم أن الإنسان لو أراد أن يسأل ملكاً من ملوك الدنيا أو أن يسأل إنساناً كرئيس دائرة، أو مسئول في جهة، لقدم لذلك السؤال بمدحه والثناء عليه، وذكر فضله السابق حتى يتوصل به إلى ما يريد، فما بالك إذا كان العبد يريد أن يسأل الله عز وجل، والله تعالى لا يمكن أن يحيط العباد بكنه فضله وكرمه وجوده، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة أنها وقعت يدها على قدميه صلى الله عليه وسلم وهما منصوبتان في المسجد، وهو يقول: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك} فسبحان من جعل عجز العاجزين عن شكره والثناء عليه شكراً لهم، كما جعل معرفة العارفين بأنهم لا يدركون كُنه صفته إيماناً منهم، ولذلك جاء في حديث فضالة بن عبيد أن رجلاً دخل المسجد، فصلى فقال: رب اغفر لي وارحمني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {عجلت أيها المصلي، إذا دخلت فقعدت في الصلاة فاحمد الله، وصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم ثم سل حاجتك ثم جاء رجل آخر، فصلى، فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سأل حاجته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أيها المصلي سل تجب، أو ادع تجب} والحديث رواه الترمذي وأبو داود وسنده صحيح.
فينبغي لمن أراد أن يدعو أن يقدم بين يدي دعائه بحمد الله والثناء عليه عز وجل، ولذلك علمنا الله تعالى في سورة الفاتحة أن العبد يدعو فيبدأ بالذكر والثناء قبل الدعاء، فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] وهذا كله ثناء على الله عز وجل بفضله، وإنعامه، وكرمه، وجوده، وأسمائه، وصفاته وفضله الدنيوي والأخروي، ثم يقول بعد ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ثم يبدأ بالدعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .
وهكذا ينبغي للداعي، وذلك أن الثناء هو أعظم من الدعاء، ولذلك جاء أمية بن أبي الصلت وهو شاعر من شعراء الجاهلية، إلى رجل من أجواد العرب وكرمائهم المشهورين، وهو عبد الله بن جدعان وكان رجلاً جواداً، سمحاً، كريماً في الجاهلية، وكان له داعيان في طرف مكة: داعٍ في الشمال، وداعٍ في الجنوب، يقول: يا ناس تعالوا للطعام في دار عبد الله بن جدعان؛ ولذلك مدحه الشاعر بقوله: له داعٍ بمكة مشمعلٌ وآخر فوق دارتها ينادي إلى قطع من الشيزى ملاء لباب البر يُلبَك بالشهادِ يعني يطعم الناس البر مصحوباً بالعسل وغيره من أطايب الطعام بلا مال، بل يدعو الناس إلى ذلك، وجاءه أمية ابن أبي الصلت يطلب حاجة فقال له: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك، إن شيمتك الحباء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء هذا في شأن المخلوق، يقول: هل احتاج أن أقول لك إني أريد كذا وكذا، أو يكفيني ما هو معروف من جودك وكرمك.
فالعبد يقدم بين يدي دعائه لله عز وجل: بالثناء على الله تبارك وتعالى، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نُقِلَ عن بعض الصالحين أنه قال: إذا أردت أن تدعو الله عز وجل فصل على النبي صلى الله عليه وسلم في أول دعائك، ثم صلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما تنتهي من الدعاء؛ فإن الله تبارك وتعالى يقبل صلاتك على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو أكرم من أن يرد ما بين هاتين الصلاتين، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه علي وعمر وجاء موقوفاً ومرفوعاً: {كل دعاء محجوب حتى تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم} وجاء في حديث فضالة بن عبيد السابق: أن النبي عليه السلام أرشد المصلي إلى أن يذكر الله، ويحمده، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، قبل الدعاء، ولا شك أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الدعاء آكد من الصلاة عليه في أول الدعاء.(225/24)
مسائل متعلقة بالدعاء(225/25)
الخشوع والبكاء في الدعاء
فيما يتعلق بالخشوع والبكاء، لا شك أن الخشوع مطلوب في الدعاء قال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90] وقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة} [الأعراف:55] وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] وقال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] .
أما البكاء فإن بعض الناس يتباكى في صلاته، ويظهر منه أثناء الدعاء حروف وأصوات بكاء ليس مضطراً إليها، وإنما هو يتكلف هذه الأصوات، ولا شك أنه لا ينبغي للإنسان أن يتباكى ويرفع صوته بحضرة الناس في ذلك إذا كان في صلاة؛ لأن هذا يخشى على صاحبه أن يكون نوعاً من الرياء، إضافة إلى أن هذا في الصلاة لا يصلح ولا ينبغي، كذلك فيما يتعلق بالخشوع، أن بعض الناس نتيجة خشوعه قد يرفع بصره إلى السماء، وقد صح في سنن النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء حال الدعاء، أو لتخطفن أبصارهم} فبعض الناس إذا رفع يديه في دعاء القنوت قال: يا رب، ورفع يديه ينظر إلى السماء وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه.(225/26)
طلب الدعاء من الغير
كقولي لأخي ادع لي، أو استغفر لي، أو لا تنساني من دعائك، وما أشبه ذلك، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم بالصواب: أن هذا لا بأس به، ولذلك روى جابر كما في سنن أبي داود بسند صحيح: {أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله صل علي وعلى زوجي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليك وعلى زوجك} وهذه امرأة جزاها الله خيراً، تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها ولزوجها، وهكذا تكون المرأة المؤمنة حريصة على الخير لها ولزوجها.
؟ وكذلك أسامة بن زيد كما في الصحيحين لما قتل الرجل قال: {يا رسول الله استغفر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءتك يوم القيامة} وكذلك في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه أنهم سيأتيهم أويس بن عامر القرني مع أمداد من أمداد اليمن، وهو رجل فيه كذا وكذا من صفته، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يطلبوا من أويس القرني أن يستغفر لهم، فلما جاء قابله عمر وطلب منه أن يستغفر له، ويدعو له، ومن قبل أخوة يوسف قالوا لأبيهم: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97] .
وفي صحيح مسلم عن صفوان بن عبد الله قال: قدمت إلى الشام، فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، على رأسه ملك موكل يقول: آمين، ولك بمثل} ثم لقي أبا الدرداء بعد ذلك، فقال له مثل ما قالت أم الدرداء، والظاهر أن هذا كان مأثوراً مشهوراً عند السلف، أما ما ورد من النصوص في النهي عن سؤال الناس، فالذي يظهر لي والله تعالى أعلم بالصواب أن المقصود سؤال الناس ما يتعلق بالأمور الدنيوية.(225/27)
مسح الوجه بعد الدعاء
سبق أن رفع اليدين خلال الدعاء مستحب، لكن مسح الوجه باليدين هل هو مشروع؟ وكذلك تقبيل اليدين؟ أما تقبيل اليدين فكثير من الناس يمسح وجهه ثم يقبل يديه، وهذا لا شك فيه أنه غير مشروع، ولم ينقل لا بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف؛ لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن غيره من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين، أما مسألة مسح الوجه باليد فالكلام فيها يختلف، فقد ورد فيها أحاديث، منها حديث ابن عمر: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه} رواه الترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى، وكذلك قال المباركفوري: الحديث ضعيف، ومثله قال ابن الجوزي كما في العلل المتناهية، وكذلك قال أبو زرعة: حديث منكر أخاف أن لا يكون له أصل، وهذا الحديث حديث ابن عمر، صححه البعض وحسنه البعض، ففي بعض نسخ الترمذي أنه قال: صحيح، وكذلك ابن حجر في بلوغ المرام قال: وله شواهد منها حديث ابن عباس رضي الله عنه عند أبي داود؛ مجموعها يقتضي أنه حديث حسن، والسيوطي يقول في الحديث الأول حديث ابن عمر: رجاله رجال الصحيح غير حماد بن عيسى شيخ صالح ضعيف، ولحديثه شواهد فهو حديث حسن.
أ.
هـ وللحديث شاهد عن يزيد بن أبي سعيد الكندي عند أبي داود وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف، وكذلك حديث مرسل عن الزهري عند عبد الرازق، وهو مرسل ضعيف، فمراسيل الزهري كالريح -كما يقولون- وكذلك رواه الفريابي بسند حسن عن الحسن بن أبي الحسن وهو الحسن البصري:- أنه كان يمسح وجهه بيديه، وسنده عنه حسن.
إذاً الخلاصة: أن الأحاديث في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء ضعيفة، بل شديدة الضعف لا يجبر بعضها بعضاً، ليس فيها حديثان ضعيفان فقط بحيث يكون مجموعهما حديث حسن، بل أمثلها حديث ضعيف وفيها ضعيف جداً، فالذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، لكن لا نقول إن هذا العمل بدعة، ولا ننكر على من فعله؛ لأنه عندنا الآن في إحدى نسخ الترمذي يقول: صحيح، وابن حجر يقول: مجموعها يقتضي أنه حديث حسن، والسيوطي يقول: حديث حسن، وهناك علماء آخرون حسنوا الحديث، وبناءً على ذلك لا يمكننا أن نرمي من مسح وجهه بيديه بأنه مبتدع، لكن نقول: الأولى بالنسبة لطالب العلم ألا يمسح وجهه بيديه.
اللهم ارزقنا فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأهواء، والأدواء، إنك على كل شيء قدير، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(225/28)
الأسئلة(225/29)
الاعتداء في الطهور
السؤال
لقد ذكرت في فقرة الاعتداء، حديث الاعتداء في الدعاء والاعتداء في الطهور، فما هو الاعتداء في الطهور؟
الجواب
الاعتداء في الطهور يعني الزيادة، ولذلك جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود وهو حديث حسن: {أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! كيف الوضوء؟ فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم} فمن الاعتداء بالطهور وضوءاً أو غسلاً أن يتوضأ الإنسان أكثر من ثلاث مرات مثلاً، أو يكون عنده وسواس ويبالغ في ذلك، ويكثر استخدام الماء فهذا من الاعتداء بالطهور.(225/30)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موانع الاستجابة
السؤال
هل عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في عدم استجابة الدعاء، وما الدليل على ذلك؟
الجواب
نعم، ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب حجب دعاء التاركين، ولذلك جاء في أحاديث عديدة قوله صلى الله عليه وسلم: {أيها الناس مُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم} .(225/31)
الخشوع وقت القنوت دون وقت الصلاة
السؤال
يُلاحظ أن كثيراً من الإخوة جزاهم الله خيراً عند القنوت يخشعون كثيراً، ولا يخشعون عند سماع تلاوة القرآن وهو يتلى عليهم، فما سر هذا الخشوع جزاكم الله خيراً؟
الجواب
السبب في ذلك أمور منها أو من أهمها: أن الإنسان إذا سمع قراءة القرآن غالباً ينشغل ويسرح باله، فإذا جاء الدعاء شعر بأن القضية تتعلق به، فالمصلحة تخصه هو في دينه أو في دنياه، ولذلك يجمع قلبه على الدعاء، أما القرآن فإنه يغفل عنه، كذلك فإن بعض الناس اعتادوا سماع القرآن، فلا يهز قلوبهم ولا يحركها، وطبعاً السبب الأول والأخير أن قلوب هؤلاء الناس عليها ما يشبه الأقفال، كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وإلا فالقرآن أبلغ الكلام وأعظمه، وكما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: [[لو صحت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم]] .(225/32)
الدعاء بين الأذان والإقامة
السؤال
ما هي صفة الدعاء بين الأذان والإقامة، وهل ترفع فيه الأيدي أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
صفة الدعاء لم يرد تحديدها فيدعو الإنسان بما أحب، وكما سبق أن الدعاء بين الأذان والإقامة من أوقات الإجابة، أما رفع الأيدي فالأصل كما سبق ثابت بل متواتر، لكن كون الإنسان يرفع يديه في وقتٍ معين بصفة مرتبة، ويلتزم ذلك هذا الذي يخشى منه، لكن لو ثارت في نفس الإنسان دعوة وانفعل بها ورفع يديه لشدة وجده وتأثره فلا بأس بذلك، أما كونه يرفع يديه بالدعاء ما بين الأذان والإقامة حتى يقيم فلا شك أن هذا لم يرد.(225/33)
دعاء ختم القرآن
السؤال
دعاء ختم القرآن في الصلاة وفي غيرها، هل هو سنة أم بدعة؟
الجواب
أما في غير الصلاة فلا بأس أن يدعو بما ورد عن أنس، أما في الصلاة فقد سبقت الإجابة عليه.(225/34)
الصلاة على النبي في آخر الدعاء
السؤال
قلت أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الدعاء أفضل من الصلاة في أول الدعاء، لماذا؟ وما هي العلة، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هل قلت أفضل أو آكد، يوجد فرق بين اللفظين، فعلى كل حال أنا قلت أنه آكد؛ وذلك لأن النصوص فيه أكثر، منها أن الدعاء موقوف محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث جاء موقوفاً ومرفوعاً، ومنها أيضا حديث فضالة بن عبيد الذي سقته؛ فإن فيه: {إذا قعدت في الصلاة فاحمد الله وصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم} فهذا قد يرجح أن الصلاة مشروعة في أول الدعاء وفي آخره وأنها في آخره آكد.(225/35)
معنى اللهم أعوذ برضاك من سخطك
السؤال
ما معنى الدعاء الوارد: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك؟
الجواب
المعنى ظاهر، أن العبد يستجير بالله منه، كما يقال إنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فتستعيذ بعفو الله من سخطه وعقوبته، وبرضاه من سخطه، وبه منه؛ لأنه لا يمكن أن يعيذك ويحميك من كل شر في الدنيا والآخرة إلا الله عز وجل، أما قول: لا أحصي ثناءً عليك، فالمعنى أن العبد مهما أثنى على الله عز وجل لا يمكن أن يبلغ قدره جل وعلا، حتى الأنبياء صلوات الله عليهم، كما ثبت في حديث ابن مسعود بسندٍ حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبدٍ تصيبه مصيبة أو يصيبه همٌ أو حزن فيقول: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} فأسماء الله وصفاته عز وجل لا يحيط بها إلا هو، والرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إذا خر ساجداً تحت العرش من أجل الشفاعة؛ يفتح عليه محامد وتسبيح وثناء على الله عز وجل لا يعلمه حين كان في الدنيا، ولا يعلمه إلا ذلك الوقت.(225/36)
الدعاء للنفس وللوالدين في الصلاة
السؤال
من الأدعية قول: رب اغفر لي ولوالدي ولوالديهم، اللهم أصلح نيتي وذريتي ما حكم الدعاء بهذا في الصلاة، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا بأس، يجوز الدعاء بهذا في الصلاة؛ لأنه داخل ضمن الأدعية المشروعة على سبيل الإجمال، فالدعاء للنفس وللوالدين بالمغفرة ثابت {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [إبرهيم:41] وكذلك الدعاء في صلاح النية والذرية واردٌ أيضاً، {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15] .(225/37)
طرد الشيطان عند الصلاة
السؤال
ما هو الدعاء الذي يطرد الشيطان عند الصلاة؟
الجواب
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.(225/38)
علاقة التمني بالدعاء
السؤال
ما علاقة التمني بالدعاء، وهل ورد في الأثر إذا تمنى الإنسان فليكثر، وما حكم التمني؟
الجواب
إذا تمنى أموراً من أمور الخير، فهذا أمرٌ حسن؛ لأن هذا التمني قد يدعو الإنسان إلى السعي إلى هذا الأمر، أو سؤال الله سبحانه وتعالى أن يحقق له رغبته وأمنيته، أما إذا كان من أمور الدنيا فهو غير محمود، لذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة وغيره أنه قال: {انظروا إلى من هو دونكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعم الله عليكم} يعني في الدنيا، فينظر إلى من دونه، ولا يتمنى مرتبة من فوقه.(225/39)
دعاء الإمام لنفسه في السجود
السؤال
هل يدخل الإمام الذي يدعو لنفسه في الصلاة السرية بأن يدعو في السجود مثلاً هل يدخل في النهي؟ أم أن النهي خاصٌ فيما إذا دعا الإمام الدعاء الجهري كدعاء القنوت، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الظاهر أن هذا خاص فيما إذا دعا دعاءً جهرياً يؤمِّن عليه المأمومون، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: {رب اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني} وعلمنا أن نقول هذا أئمة كنا أو مأمومين.(225/40)
البكاء في الصلاة
السؤال
هناك ظاهرة انتشرت في الآونة الأخيرة, وهي رفع الصوت بالبكاء لدرجة إزعاج المصلين، ومعلومٌ أن بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم كان كأزيز المرجل، فما هو توجيهكم نحو ذلك؟
الجواب
سبق الإشارة إلى مثل هذا، والأولى أن الداعي لا يحرص على الصراخ والبكاء، ويحرص على أن يكظمه ويكتمه إن استطاع؛ خاصةً إذا كان مصلياً، وخاصةً إذا كان في حضرة الناس؛ لأن هذا من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ورجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فبعض الناس كما ذكر ابن الجوزي وغيره أنه إذا كان في مجتمع من الناس، يكون عنده شيء من التكلف والتصنع والتعمل، فتجد أن عنده نفسية مستعدة للبكاء، وهذا موجود، نسأل الله العافية.(225/41)
دعاء القنوت
السؤال
في دعاء القنوت في صلاة التراويح هل هناك دعاء مخصوص بحيث لا يفضل أن يتجاوزه الإمام، حيث يلاحظ الآن تطويل الأئمة في ذلك ويأتون بأدعية كثيرة، أرجو التفصيل في ذلك وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
ذكرني السائل أمراً كنت قد نسيته، وهو مسألة دعاء القنوت، أنه ورد في دعاء القنوت عند الترمذي وغيره بسندٍ حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم علّم الحسن بن علي دعاء القنوت: {اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، إنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت، تباركت وتعاليت} فهذا الدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت، وكذلك صح من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر القنوت: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك} فهذا الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن ورد عن عمر رضي الله عنه عند البيهقي بسندٍ صحيح أنه كان يقول في دعاء القنوت: [[اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك؛ إن عذابك الجد بالكفار ملحق]] فهذا ثبت عن عمر، وكذلك ورد أنه كان يدعو على كفرة أهل الكتاب الذي يصدون عن سبيل الله ويكذِّبون رسوله، فهذا دليل على أنه لا بأس أن يدعو الإنسان في القنوت بما ورد، لكن مع التزام الآداب السابقة.(225/42)
صفة رفع اليدين في الدعاء
السؤال
ما الفرق بين الدعاء والابتهال؟ وما كيفية صفة رفع اليدين في الدعاء؟ هل يضمهما أم يباعد بينهما؟
الجواب
الفرق بين الدعاء والابتهال، أنه في الدعاء يجعل يديه حذو منكبيه، أي قبالة وجهه، وأما الابتهال فهو أن يبالغ في رفع يديه، حتى ورد في بعض الألفاظ أن ظهر يديه يكون إلى السماء، حين يبالغ في رفع اليدين، والابتهال يكون حين يشتد بالإنسان الأمر، ويجد في قلبه من شدة الرغبة والسؤال؛ فيرفع يديه، وهذا غالباً ما يكون في الإنسان في حالة اضطرار أو شدة، أما رفع اليدين فيرفعهما مضمومتين إلى جوار بعضهما.(225/43)
رفع اليدين بالدعاء بعد الصلاة
السؤال
ما حكم رفع اليدين أثناء الدعاء بعد الصلوات المفروضة، وبعد السنن الراتبة؟
الجواب
لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه بعد الصلوات المفروضة ولا غيرها، بل الدعاء في أثناء الصلاة أفضل، والصلاة لها ثمانية مواطن للدعاء يمكن أن تراجع، أما أن يدعو بعد السلام فلا بأس أن يدعو بما ورد، بل يشرع: استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله.
اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك.
هذا كله ورد ويحتمل أن يكون قبل السلام أو بعد السلام، لكن إذا دعا به بعد السلام فلا بأس، ولا يشرع له أن يرفع يديه، وكذلك بعد النافلة لا يشرع أن يرفع الإنسان يديه، وإن رفعهما لا يشرع له أن يحافظ على ذلك.(225/44)
رفع اليدين للتأمين يوم الجمعة في الخطبة
السؤال
هل يجوز رفع اليدين عند التأمين على دعاء الإمام وهو يخطب خطبة الجمعة؟
الجواب
لا ينبغي لا للإمام ولا للمأمومين أن يرفعوا أيديهم عند الدعاء، بل يدعو الإمام بأصبعه، والمأموم يؤمن على دعائه، اللهم إلا في حالة الاستسقاء والاستصحاء، فقد صح كما في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل قال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل فادعو الله أن يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا فما نزل صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام، يقول أنس: والله ما رأينا الشمس سبتاً، أي أسبوعاً كاملاً} .
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشمٍ فهم عنده في خيرةٍ وفواضل {فجاء الرجل -أو غيره في الأسبوع القادم- وقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يمسكها عنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على ضراب الآكام وبطون الأودية، ومنابت الشجر} قال: فانقشعت عن المدينة حتى أصبحت في مثل الجوبة، أي: المدينة صحو، وما حولها غيم ممطرة، تبارك الله رب العالمين.(225/45)
الكسل في الدعاء
السؤال
بعض الأوقات يدعو الإنسان ولكن يحس من نفسه عدم محبة الدعاء، وبعض الأوقات تنشرح نفسه للدعاء، ما هو سبب ذلك، نرجو منكم التوضيح؟
الجواب
قد يكون هذا أمراً طبيعياً؛ لأن الإنسان إذا أقبل على عبادة فإن القلوب لها إقبال، ولها إدبار، فأحياناً يشعر بنشاط ورغبة، وأحياناً يشعر بكسل وخمول، لكن على الإنسان أن لا يستجيب لهذه الرغبة في عدم حب الدعاء أو عدم الرغبة فيه، بل أن يدعو الله عز وجل ويكره نفسه على هذا الأمر، ولا يطيل إطالة قد تجعله يمل، إذا شعر بثقل هذا الأمر عليه.(225/46)
ألفاظ الدعاء
السؤال
ذكرت أن الدعاء ليس من الألفاظ المتعبد بها، بل يتعبد بمعناها، ألا يستثنى من ذلك ما ورد من الأدعية المرتبة على أحوالٍ ومناسبات خاصة؛ كأدعية الركوع، والسجود، ورؤية الهلال، ودخول المسجد، ونحوها؟
الجواب
لا شك أن الأولى والأفضل أن يلتزم الإنسان باللفظ النبوي؛ لأنه أسلم، من الوقوع في الخطأ، والاعتداء في الدعاء؛ كما سبق التحذير منه، لكن المشهور أن الأدعية ليس متعبداً بألفاظها وحروفها، أما الأذكار فلا، فمثلاً قوله: سبحان ربي العظيم في الركوع، أو سبحان ربي الأعلى في السجود، هذا متعبد به، ومثل بعض الأدعية الواردة خاصة في الصلاة مثل قول: (رب اغفر لي) فهذا يحسن بالإنسان أن يلتزم لفظه، لكن لو غير في لفظه، بأن قدم أو أخر، لو قال: اللهم ارحمني واغفر لي وارزقني واهدني وما أشبه ذلك، فإن هذا لا بأس به.(225/47)
الدعاء بعد الصلاة
السؤال
ذُكر أن الشيخ عبد العزيز بن باز قال: إن الدعاء بعد الصلاة بدعة، ورد ذلك في كتاب الفتاوى الجزء الأول، فما صحة ذلك؟
الجواب
اعتقد أن السائل ما ضبط الكلمة، وليت الكتاب كان عندنا حتى نقرأ كلام سماحة الشيخ عبد العزيز لنتبين هل الدعاء بعد الصلاة بدعة هكذا مطلقاً، بدون تفصيل لا أدري هل أطلقه الشيخ أم لا، على كل حال لا أستطيع أن أقول شيئاً؛ لأن الكتاب غير موجود لدينا الآن.(225/48)
الدعاء في السجود
السؤال
هل يجوز الدعاء في السجود في الصلاة بالأمور الدنيوية والأخروية أم لا؟ وهل يجوز الدعاء بالأمور الدنيوية والأخروية سواء في السجود أو غيره، أم لا؟
الجواب
لا بأس أن يدعو الإنسان في سجوده بما أحب من الأمور الدنيوية والأخروية، وأجمع ذلك كله قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] ويجوز أن يقول الإنسان هذا الدعاء في السجود، ولا يحتج بعدم مشروعية قراءة القرآن راكعاً أو ساجداً؛ لأنه ما قاله على سبيل القراءة هنا، بل قاله على سبيل الدعاء، وكذلك الدعاء لنفسه ولوالديه ولأهله، لا بأس أن يدعو للجميع، لكن عليه أن يدعو بدعوة مجملة كما سبق، مثلاً (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين) أما أن يقول بعض الناس: اللهم اغفر لي ولوالدي ولإخواني ولأخواتي ولجداتي و، ويذهب يعدد الأقارب فرداً فرداً ثم ينتقل إلى الجيران ثم ينتقل إلى المعاريف، فهذا من الاعتداء في الدعاء كما سبق.(225/49)
الثبات حتى الممات
بيَّن الشيخ أصناف الناس في معرفة الحق والالتزام به، موضحاً معنى الردة وأنها ليست بالأمر الغريب بل إنها صاحبت دعوة الرسل وعانى منها أتباع الرسل، ثم تحدث عن أنواع الردة وفصل فيها.(226/1)
أصناف الناس في معرفة الحق
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها الأحبة -جميعاً-: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته: وإنني في مستهل هذه الكلمة أرحب بإخواني -جميعاً- الذين مشوا إلى هذا المكان المبارك، وأسأل الله تعالى أن يكتب لهم ذلك في ميزان حسناتهم، وأرحب بكم جميعاً وأشكركم على حرصكم على حضوري إلى هذا البلد الطيب، وإلحاحكم، وإن كنت لا أملك شيئاً كثيراً أقدمه لكم، ولكنني أجود بما أملك، ومن جاد بما يملك فإنه ما بخل.
فإنني أشكركم كثيراً -أيها الأحبة- في هذا البلد الكريم، الحريص المضياف، وأسأل الله تعالى أن يجزيكم جميعاً خير الجزاء، ثم إنني أشكر -أيضاً- على وجه الخصوص أصحاب الفضيلة، والمشايخ، والعلماء، والدعاة، والقضاة، وأساتذة الجامعة الذين حضروا إلى هذا المكان فجزاهم الله خيراً.
أيها الأحبة هذه الليلة هي ليلة التاسع من رجب من سنة ألف وأربعمائة وثلاثة عشر للهجرة، وعنوان هذه المحاضرة هو: الثبات حتى الممات، وهذا هو جامع القرطبي في الخرج.
إن الحديث عن موضوع الثبات لا يحتاج إلى مسوغ فإن الثبات على الحق لا يقل أهمية عن معرفة الحق ذاته، ولو تأملت أحوال الناس لوجدتهم أصنافاً شتى فهناك:(226/2)
الذين لا يعرفون الحق أصلاً
الفئة الأولى من الناس: الذين لا يعرفون الحق أصلاً، وبالتالي لا يتبعونه، بل يتخبطون في دياجير الظلمات، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، ألا وهم: الضالون، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة7] ومثال ذلك النصارى الذين يعبدون الله تعالى على جهلٍ وضلال، فهذا هو الصنف الأول.(226/3)
الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه
الصنف الثاني: الذين يعرفون الحق معرفة ذهنية عقلية ومجردة، ولكنهم لا يتبعون الحق ولا يعملون به، وهؤلاء هم: المغضوب عليهم، كما قال الله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] .
وقال: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60] .
ومثال ذلك: اليهود، فإنهم يعلمون ولكنهم لا يعملون، وأيضاً: من ضل من أحبار هذه الأمة، ففيه شبه من هؤلاء.(226/4)
يعرفون الحق ويعملون به زماناً ثم ينحرفون
الصنف الثالث: هم الذين يعرفون الحق، ويتبعونه، ويعملون به زماناً، ثم ينحرفون عنه، وهؤلاء هم الناكصون على أعقابهم، كالمرتدين على أعقابهم ردة كلية بمعنى الخروج من الإسلام؛ أو ردة جزئية تعني ترك بعض شعائر الإسلام وبعض شرائعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -في شأن أولئك الذين رآهم يوم القيامة، وقد أوشكوا على ورود حوضه، فلما قربوا منه أبعدوا عنه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا رب، أمتي أمتي، فقيل له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم!} فهم لزموا الحق زماناً حتى عرف النبي صلى الله عليه وسلم سيما الأمة فيهم، ثم ارتدوا وانحرفوا عن سواء السبيل.(226/5)
من عرف الحق وعمل به واستمر عليه
الصنف الرابع: هم الذين يعرفون الحق ويتبعونه، ويعملون به، ويستمرون عليه، وأولئك هم المؤمنون المفلحون، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى الثبات -كما سوف يأتي- ويقول: {يا مقلب القلوب؛ ثبت قلوبنا على دينك} ويقول: {يا مصرف القلوب؛ اصرف قلوبنا إلى طاعتك} وكان المؤمنون منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا يفرحون بالثبات، سواء كان الثبات في اليقظة بلزوم الطريق والاستمرار عليه، والصبر على الحق والتواصي به، وتحمل الأذى في سبيله، أم كان الثبات في المنام.
فقد كان السلف رضي الله عنهم كـ محمد بن سيرين وغيره، كانوا يفسرون القيد في القدم في النوم -في الرؤيا- أنه: ثبات في الدين، فيقولون: القيد ثبات في الدين؛ بخلاف الغل في اليد فإن الغل في اليد وفي العنق مكروه -يعني في الرؤيا- أما القيد في الرجل فهو ثبات في الدين، وكانوا يحبون الثبات في الحياة، ويحبون الثبات عند الممات ويفرحون به، ويدعون لصاحبه، ويغتبطون بحاله!.(226/6)
الهداية بعد الجهل
إن الذي لم يعرف الحق أصلاً ولم يدر به ربما يعود إلى الحق أو يتبعه إذا عرفه؛ لأن انحرافه ناتج عن جهل والجهل من السهل أن يدفع بالتعليم، فكم من إنسانٍ عاش زماناً في الظلمات؛ لأنه لم يعرف الحق فبمجرد ما سمع صوت الداعي إلى الله؛ أصغى له، وتقبله، وآمن به، واندفع إليه؛ لأن انحرافه كان ناتجاً عن جهل، وليس عن هوى.(226/7)
الانحراف بعد الهدى
أما الذي عرف الحق ثم أعرض عنه، أو تبعه زماناً ثم تركه، فأي شيءٍ تعتقد أن يغريه باتباع الحق من جديد، إلا أن يتداركه الله تعالى برحمته.
إن من أخطر الأشياء أن ينحرف الإنسان بعد الهدى، ويضل بعد أن كان على الصراط المستقيم، فإنه لا يكاد ينفع فيه كلام، ولا تفيد فيه موعظة؛ لأنه يعتبر نفسه خبيراً مجرباً، وكل الكلام الذي يمكن أن تقوله أنت، أو تنصحه به، أو تذكره به، كل هذا الكلام لا أقول أنه سبق أن علمه من غيرك، لا، بل ربما يكون سبق أن قاله هو لغيره، ودعا به غيره، وأمر به غيره، ونهى به غيره، وهكذا أصبح الكلام عنده غير ذي معنى وغير ذي تأثير.
مثال: إنسان كان على الهدى، ثم انحرف بسبب مواقف يعتبر أنها غير جيدة من قبل بعض أصدقائه، وبعض أصحابه، وبعض جلسائه الذين كانوا معه على الهدى، وعلى الطريق المستقيم؛ فأحدثت هذه التصرفات، وهذه المواقف منهم ردود فعل ضدهم، فأصبح يكره الأخيار والطيبين، بل ويكره الخير ويكره الداعي إليه، ولا يثق بأحد من هؤلاء؛ لأنه يقيس كل من سمع على أولئك الذين جربهم يوماً من الأيام في حياته.
مثل هذا الإنسان، لو أتيته لتحدثه عن الشباب الصالحين، أو عن العلماء العاملين، أو عن الدعاة المخلصين، أو عن الملتزمين، لظنك مخدوعاً مثلما كان هو مخدوعاً من قبل، وأن الغشاوة يجب أن تزول عنك مثلما زالت عنه، ولهذا لا يفيد فيه كلام ولا يؤثر فيه وعظ، إلا أن يشاء الله تعالى.(226/8)
الهدى بعد الضلال
وإنه مما يؤثر في القلب! ولعله من أسباب طرح هذا الموضوع في مثل هذه المحاضرة، أن الإنسان يسمع بين الفينة والفينة على رغم الأخبار الكثيرة السارة؛ عن أفواج بعد أفواج ممن يقبلون على الله تعالى، ويودعون حياة الغواية وحياة الضلالة، ويلتزمون بالحق، والهدى، والعلم، والعمل، والدعوة، إلا أنك مع ذلك لا تعدم أن تسمع أخباراً هنا أو هناك، عن بعض قوم من رجالٍ أو نساءٍ كانوا زماناً على الطريق المستقيم، وكانوا محسوبين من أهل الخير وعلى الخير، بل وربما كان منهم الداعية، أو المتحدث، أو الواعظ، أو الإمام، أو كان منهم تلك الأخت التي كانت تقيم حلقة الذكر في المدرسة، أو تدعو إلى الله تعالى، أو تعلم الناس الخير، فإذا بك تسمع أخباراً خلاف ذلك، وإذا بالأمور تتحول، فنعوذ بالله تعالى من الحور بعد الكور! وإننا بقدر ما نفرح ونسر بأخبار هداية فلان وفلان، نحزن ونجزع لضلال من ضلوا بعد ما عرفوا الحق واتبعوه.(226/9)
الردة ومصاحبتها للدعوات والرسالات
ثانياً: مسألة جديدة قديمة، إن الردة مصاحبة للدعوات والرسالات، ولهذا حذر الله تعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منها فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] .(226/10)
حالات الردة
إنه لا يمكن أن توجد دعوة -أي دعوة كانت- إلا وتصاحبها حالات -تقل أو تكثر- لأفراد تبعوا هذه الدعوة في زمان يطول أو يقصر، ثم انحرفوا وابتعدوا، فإما أن يكونوا قد انحرفوا ليتحولوا إلى أعداء للحق، وأعداء لدعوتهم، وأعداء لما كانوا عليه من قبل، ومحاربين.
وإما أن يكونوا قد تركوا ما كانوا عليه، ثم ضاعوا في دهماء الناس، وغرقوا في لجة الحياة الدنيا، فلا يسمع بهم أحد، ولا يخبر عنهم مخبر.
ولهذا لو تأملت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة أصحابه رضي الله عنهم، لوجدت أن التاريخ يحدثنا أنه كان من ضمن المهاجرين إلى الحبشة كان هناك رجل اسمه عبيد الله بن جحش قد ارتد وتحول من الإسلام إلى النصرانية وهو غير الصحابي عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك رجل اسمه الرجال بن عنفوة الحنفي فإنه كان قد أظهر الإسلام، ثم ارتد وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: {إن ضرسه في النار أعظم من جبل أحد} وقد تبع الرجال مسيلمة الكذاب وكان من ضمن وزرائه وأعوانه.(226/11)
الردة في عهد أبي بكر
إذاً حالات الردة موجودة في كل دعوة، وفي كل أمة، وعبر عصور التاريخ، حتى في أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل قد تصبح الردة أحيانا ًظاهرة منتشرةً، متفشية، كما حصل للناس في أول عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، حيث لم يبق على الإسلام -من الأمصار الكاملة- إلا ثلاثة أمصار هي: مكة والمدينة والطائف أما بقية بلاد العرب في الجزيرة العربية وفي اليمن وفي غيرها، فإنه قد دخلهم من أمر الردة ما دخل، وصار بينهم هرج ومرج، وقيل وقال، وصراع وأخذ ورد، وثبت منهم من ثبت، وتغير من تغير، وسفكت الدماء، واختلفت الأمور في كل البلاد إلا في الأمصار الثلاثة!(226/12)
ردة عالم مسلم يحفظ القرآن
وعبر عصور التاريخ كان يحصل أشياء من ذلك؛ حتى إنني قرأت في البداية والنهاية لـ ابن كثير: أن رجلاً ذهب مع المسلمين، وكان عالماً حافظاً للقرآن، وكان طيلة ذهابه معهم في الغزو يقرأ القرآن الكريم، فلما نزلوا قريباً من إحدى مدن الروم رأى هذا الشاب فتاة جميلة حسناء تطل، فنظر إليها نظرة؛ فوقع حبها في قلبه، فأعجب بها، وذهب إليها وجلس عند الروم، وافتقده الجيش، وسألوا عنه، فأخبروا أنه ذهب إلى الروم وجلس عندهم، فلما رجعوا إلى تلك القرية بعد الغزو وجدوا هذا الرجل يطل عليهم، فقالوا له: ما فعل الله بك، فأخبرهم: أنه قد ارتد بعد إسلامه، فقالوا: أين القرآن الذي كنت تحفظه؟ قال: لم يبق عندي منه إلا آية واحدة! قالوا: وما هي؟ قال هي: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] .
ولقد كان الإسلام عبر عصور التاريخ كلها عزيزاً بأهله، وبرجاله، عزيزاً بدوله، وعلمائه، ولذلك كانت الصورة الغالبة والكثيرة أن الكفار كانوا في الإسلام يدخلون في دين الله أفواجاً لأنهم يرون الحق، ويرون مع الحق القوة.(226/13)
الردة في العصر الحاضر
أما في العصر الحاضر فقد أصابت المسلمين الذلة، وقوي جانب أعدائهم من أهل الكتاب -من اليهود والنصارى- وهيمنوا على الحضارة، واستخدموها في تهييج الغرائز -كما هو معلوم- وإثارة الشبهات، واشتروا وبذلوا كل الوسائل الممكنة في إخراج المسلمين عن دينهم، سواء بإعلان الكفر والردة الصريحة؛ كأن يتنصر المسلم -مثلاً- أو يعلن الكفر -والعياذ بالله! - أو كان ذلك بالتخلي عن دينه في صمت وسكوت، وحدث من جراء ذلك مصداق ما أخبره عنه الرسول صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ثوبان وهو في الصحيح- {لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} يعني فئات وطوائف من هذه الأمة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من هذه الأمة من سوف يلحق بالمشركين، وأن من هذه الأمة من سوف يعبد الأوثان، فدل هذا على أن الخوف من الردة -سواء كانت ردة كلية أم ردة جزئية- أنه واجب علينا جميعاً.(226/14)
مواضع الردة في القرآن والاستبدال
إذاً من الواجب علينا جميعاً أن نخاف على أنفسنا من أن نتحول إلى الضلال بعد الهدى، أو يخاف أحدنا على أمته، أو على بعض شعوبها، أو أممها أن يتحولوا إلى أعداء الدين، كما هو في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما هو في واقع الحياة التي نشهدها ونراها اليوم، مع أن الله تعالى وعد بأنه في حالة التخلي، والفرار، والتراجع، والنكوص؛ بأنه سيقيض لهذا الدين من ينصره، ويقوم به، وهذا وعد من الله تعالى كريم عظيم، وكل ضعف معه لطف، فحينما توجد هذه الردة؛ يقيض الله تعالى لهذا الدين من ينصره، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] وكما قال سبحانه: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] .
ولهذا لما حصلت الردة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قيض الله تعالى للإسلام والمسلمين أهل اليمن كـ أبي موسى الأشعري وأتباعه، وقيض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من القراء الذين نصروا الإسلام وأعزوا الملة، وقاوموا الكفار وحاربوا المرتدين حتى انتصر الإسلام ودانت الجزيرة العربية كلها للإسلام، وخضعت للحكومة الإسلامية التي كان يقف على رأسها أبو بكر الصديق رضي الله عنه تعالى وأرضاه.
واليوم ونحن نجد مظاهر الردة تبين في العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه، سواء في الذين يتركون الإسلام إلى دين آخر فيتنصرون -مثلاً- أو يأخذون بالشيوعية، أم يأخذون بالأديان الأخرى المختلفة، أو في أولئك الذين يتخلون عن الدين ويتركونه إلى غير شيء، فيصبحون من الغافلين اللاهيين في دنياهم؛ فإننا نشاهد إلى جوار ذلك وعد الله تعالى يتحقق، فيظهر أولئك المؤمنون الأبرار الأخيار من رجال الصحوة، ومن العلماء، والدعاة، والمخلصين، والمجاهدين في سبيل الله، الذين لا يخلوا منهم مكان، ولا دولة، ولا قطر؛ بل إنك تجد أن تلك الجمهوريات التي عاشت تحت مطارق الشيوعية أكثر من سبعين سنة، وكانوا يستخدمون الحديد والنار في صرف الناس عن دينهم، ويقتلون الإنسان بمجرد الظنة، أو بمجرد وجود المصحف عنده، وكان علماؤهم لا يفرقون بين القرآن وبين الغناء وبين غيره من الكلام، ولا يفقهون في دين الله عز وجل، فما إن زال هذا الستار؛ حتى ظهر الإسلام من جديد، وظهرت بوادره وبشائره، تصديقاً لموعود الله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:9] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة:54] .
هذا هو أحد المواضع التي ذكرها الله تعالى في كتابه في شأن من يرتدون عن الإسلام، وهو يتعلق بالردة عن الإسلام كله، أو مايتعلق بالردة عن شعيرة الجهاد، ولهذا قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] .
أما الموضع الثاني: فهو قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] وهذا -أيضاً- يشمل: الردة الكلية، فإن من ارتدوا ردة كلية يقال لهم: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] كما يشمل: الردة الجزئية، والمقصود بها في هذه الآية -والله تعالى أعلم-: التراجع عن الإنفاق في سبيل الله، وقبض اليد، والشح، والبخل، ولهذا قال: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .(226/15)
أنواع الردة
ثالثاًُ: أنواع الردة: إن السياق السابق يدل على أن التراجع والنقوص عن الإسلام يشمل صورتين، إحداهما تؤدي إلى الأخرى.(226/16)
الردة الجزئية سبيل إلى الردة الكلية
الصورة الثانية: هي سبيل إلى الأولى وذريعة إليها، وذلك أن الناس ربما لم يخرجوا من دينهم بالكلية، ولكن خرجوا من بعض الدين، فتركوا بعض شرائع الإسلام؛ كأن يتركوا الجهاد في سبيل الله، أو أن يتركوا الإنفاق في سبيل الله، أو أن يتركوا إقامة شريعة الله تعالى والحكم بما أنزل سبحانه وتعالى وبسنة نبيه عليه الصلاة السلام وما أشبه ذلك.
وهذه الصورة -وهذه لاشك- سبيل إلى الأولى؛ لأن الذي فرط في بعض الشيء قد يفرط فيه كله، هذا من جانب، والجانب الآخر: أنه ربما كان من أسباب ردة بعضهم عن دينهم أنهم تسلط الأعداء عليهم وفتنوهم عن دينهم، وألزموهم أو ضايقوهم حتى تركوا الإسلام، وهذه هي الفتنة التي سماها الله سبحانه وتعالى في كتابه: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل ِ} [البقرة:191] .
الفتنة: تعني فتنة الإنسان عن دينه وخروجه من الإسلام، وأن يفتن ويضيق عليه حتى يتراجع عن الدين، وهذه الفتنة لم تكن لتحصل على المسلمين لو أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله، ولو أنهم كانوا قائمين بما أوجب الله عليهم، وإنما تحصل في أزمنة الذل، وفي أزمنة التأخر، وفي أزمنة ترك شريعة الجهاد في سبيل الله تعالى.
وربما ترك بعض المسلمين دينهم كلية بسبب الفقر أو الحاجة أو الطمع في متاع الدنيا: الطمع في مال، أو في لباس، أو على الأقل في غذاء يأكله ويسد جوعته، أو في ثوب يواري عورته، أو في علاج يداري به ألمه ومرضه، والفقر كاد أن يكون كفراً، ويلاحظ أن ترك الإنفاق في سبيل الله؛ قد يؤدي إلى الوقوع في الردة العظمى والخروج من الدين بالكلية بالنسبة لبعض المسلمين، وكما أن من الناس من دخل في الإسلام أول الأمر طمعاً وتأليفاً لقلبه، ثم أسلم صدقاً من قلبه وحسن إسلامه؛ فكذلك قد يوجد من المسلمين -في الأمس واليوم وغداً- من يخرج من الإسلام طمعاً في عاجل الدنيا.(226/17)
الردة الكلية
أما الصورة الأولى: فهي الردة الكلية، وذلك بالخروج من الدين وتغيير الملة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] .
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] .(226/18)
الردة الجزئية
والصورة الثانية: هي التراجع عن بعض شرائع الإسلام؛ كالجهاد وتعطيله، والقعود عنه، أو التراجع عن نصرة المجاهدين في سبيل الله، أو نصرة عدوهم عليهم، وكالتراجع عن الإنفاق في سبيل الله، وقبض اليد، والاشتغال بالدنيا، ولهذا جاء في حديث عبد الله بن عمر الذي رواه أبو داود وأحمد وهو حديث صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، وتبعتم أذناب البقر، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} فانظر كيف أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسألة (ترجعوا إلى دينكم) ، مع أنه لم يقل: إذا كفرتم بعد الإسلام، إنما قال: إذا تركتم الجهاد، وقوله: (إذا تبايعتم بالعينة) : يعني بالربا، وصور الربا مختلفة، والعينة أحد صورها، فالمقصود إذا تبايعتم بالربا واستخدمتموه، (ورضيتم بالزرع) : يعني بالدنيا، وانشغلتم بها عن القيام بهذا الدين، ونصرته وإقامة دولته، (وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاًَ لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) والرجوع إلى الدين في مثل هذه الصورة المذكورة في هذا الحديث، هي: الرجوع إلى الجهاد، وأن تعرف الأمة الشيء الذي أوجدت من أجله؛ وهو أنها لم توجد من أجل الدنيا، والاشتغال والانهماك فيها، وإنما وجدت لتكون أمة قائمة شهيدة على الناس، كما قال الله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] .(226/19)
أسباب النكوص
إن هذا الظاهرة تحتاج إلى رصد، ومعرفة الأسباب التي تكمن وراءها، وهذه الأسباب كثيرة جداً والحديث عنها يطول، لكن من هذه الأسباب ما يلي:(226/20)
الطمع وانحطاط الهم
السبب الخامس: هو الطمع، والرغبة، والرهبة، فإن كثيراً من الناس يرتدون عن دينهم كله أو عن بعض شرائعه، طمعاًَ في مالٍ، أو طمعاً في زوجة، أو طمعاً في منصبٍ، أو طمعًا في علاج، بل ترتد اليوم مدن بأكملها وأقاليم عن بكرة أبيها في الهند وفي إندونيسيا وفي عدد من الدول الأفريقية، على أيدي أولئك المنصرين الذين يتلصصون للمسلمين كالشياطين، ويستغلون الفقر والحاجة، ويستغلون غفلة المسلمين عن إخوانهم، فيقدمون الإنجيل بيد ويقدمون المساعدات المادية للمسلمين باليد الأخرى، إضافةً إلى أفرادٍ كثيرين متفرقين: في مصر، وفي الشام، وفي العراق، وفي جميع بلاد الإسلام -بدون استثناء- ينحلُّون عن دينهم ويتركون الإسلام إلى دين آخر، وإلى ملةٍ أخرى غير دين الله عز وجل، لطمعٍ، أو رغبهٍ، أو رهبهة، أو لعلاقة شخصية، أو محبةٍ، أو عشقٍ، أو ما أشبه ذلك، خاصة ونحن نعرف أن المال، والإغاثة، والدواء، والكساء، والقوة، والاقتصاد، والحضارة اليوم هي رهن أمم الغرب الكافرة، كما أن بعض الشباب قد ينحرفون بسبب قربهم من أبناء الأثرياء أو أبناء المترفين، وتطلعهم إلى ما في أيدي هؤلاء من المال، أو لما معهم من السيارات أو لغير ذلك من الأشياء التي تتعلق بها نفس الشاب فتكون سبباً في هلاكه وعطبه.(226/21)
الخلاف والفرقة
السبب السادس: هو الخلاف، والفرقة، والشتات، فإن الإنسان قد يهتدي، أو يفكر في الهداية، أو يقترب منها، أو يوشك عليها، لكنه إذا دنا منا -معشر الأخيار- فوجدنا منقسمين على أنفسنا؛ يسب بعضنا بعضاً، ويشتم بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا بعضاً، ويبدع بعضنا بعضاً، بل وربما يكفر بعضنا بعضاً، قال: أنا على ما أنا عليه الآن أحسن من الحالة التي هم عليها، فربما كان هذا سبباً في بعده، وكان هذا من الصد عن سبيل الله عز وجل، وربما تنافس على هذا الشاب مجموعة من الدعاة، وكل داعيةٍ يجره إلى رأيه، أو مذهبه، أو منهجه، أو جماعته، حتى أصيب هذا الشاب في تفكيره، أو في فهمه، أو في نفسيته، وابتعد عن الجميع، وكان ذلك سبباً في ضياعه.(226/22)
الطبيعة المنقلبة غير المستقرة
السبب السابع والأخير: الطبيعة المتقلبة والمضطربة بالنسبة لبعض الناس، فبعض الناس من طبيعته: التقلب، فهو لا يستقر على حال من القلق، بل يغير رأيه، ومواقفه، ونظراته، واتجاهاته، وهو -دائماً- متحمس، فهو اليوم متحمس لهذا العمل، وغدا ً يتركه بالكلية ليتحمس لغيره، وبعد غداً يترك الاثنين ليتحمس لعمل ثالث، وربما تجده في الخير مقدماً إقداماً غريباً حتى تقول: لا يحجم أبداً! ثم إذا بك تفاجئ وتسمع خبراً أن هذا الإنسان انحرف -والعياذ بالله! - وأصبح إماماً في الفسق والانحراف.
وهذا أحياناً قد يعود إلى طبيعةٍ في هذا الإنسان ورثها، أو كانت بسبب التربية في الصغر أو ما أشبه ذلك، وهي تحتاج إلى عناية وعلاج وحفاوة من المربين، ولهذا تجد أن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم: {الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} [النساء:137] .
ومثل هؤلاء توعدهم الله بأنه لا يغفر لهم، لأن هذا الإنسان لا يعود للحق غالباً، ولو عاد لكان بعد عودته رجعةً أُخرى إلى الفساد، وهكذا، فهو لا تؤمن عواقبه قط.(226/23)
غياب القدوة
السبب الرابع: غياب القدوة أو غياب القائد، لأن القائد يسن للناس السنة الحسنة، أو يذكرهم بالسنة الحسنة فيعملون بها، يغريهم بالخير فيقبلون عليه، وينهاهم عن الشر فيعرضون عنه، ولهذا لأهمية القدوة والقائد وأثر ذلك في ثبات الناس، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] .
فدل على أن موت أو غياب القائد لسبب أو لآخر يؤثر في الأتباع، ويكون مظنةً لوجود تراجع، أو نكوص، أو تردد، أو ردة، ولهذا نهى الله تعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولهذا تجد أيضاً أن ردة العرب في خلافة أبو بكر رضي الله عنه كانت بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائلهم:- أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعباد الله مال أبي بكر أيورثها بكراً إذا مات بعده وتلك لعمر الله قاصمة الظهر وفي الحديث السابق -أيضاً- قال: {إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم} إن هذا يؤكد لنا أمرين في غاية الأهمية: الأول: أثر الرجال الصالحين الصادقين الذين هم في موضع القدوة والأسوة، فهم دعاة إلى الخير، آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر، صابرون على دين الله، يوصون الناس بالحق، ويوصون الناس بالصبر، إن هذه القدوات فيها التثبيت للناس، والدعم لمواقفهم، وتعزيزهم، وتصبيرهم، وتقوية قلوبهم، ولهذا كان ابن القيم رحمه الله يقول: إننا كنا نخاف -أحياناً- وتمتلئ قلوبنا رعباً فنأتي إلى الإمام ابن تيمية فيتحدث معنا بكل هدوء فإذا خرجنا من عنده كانت قلوبنا أقوى ما تكون.
الثاني: السبب الثاني الذي يؤكده أثر غياب القدوة؛ يؤكد أهمية التعلق بالشرع لا بالأشخاص حتى الأنبياء، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] .
فما بالك بغيره من الناس، نعم، إنَّ للعلماء والدعاة مكانة، لكن ما هي مكانتهم؟ إنَّ مكانتهم أن يعلموا الناس دينهم، وأن يعلموهم النصوص الشرعية، وأن يكثروا في المجتمع من الفقهاء، والمفتين، والمجتهدين، والدعاة، والصادقين، والمستبصرين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الأمة معصومة في جملتها أن تجتمع على خطأ أو ضلال، ولكن الأفراد ليسوا معصومين، ولهذا ينبغي أن يكون عندنا عدل وتوازن، وأن لا نبالغ في التعلق بالأشخاص، وأن يكون تعلقنا بالمنهج، وبالدين، وبالشريعة، وبالمبدأ، أما الأشخاص فيذهبون ويجيئون، ويحيون ويموتون، بل ويهتدون ويضلون، ويصيبون ويخطئون، أما المنهج أي الشريعة والدين فهو تنزيل من حكيم حميد.(226/24)
التهاون بالمعاصي واستثقال الطاعات
السبب الثاني: هو التهاون بالمعاصي واستثقال الطاعات، وهذا يوشك أن يكون فرعاً عن السبب الأول، وإنما أفردته بالحديث لغلبته على الناس اليوم، فإن التهاون اليوم كثير، فتجد الواحد منا يتهاون في الصغائر، ويتهاون في النظر إلى الحرام، أوفي سماع الغناء، حتى يؤدي به ذلك إلى الكبائر، وربما ترك الإنسان بعض السنن، وأدى به ذلك إلى ترك بعض الفرائض، فاليوم يترك الرواتب، وهذا يدع ويترك سائر التطوعات، وربما أخل بالفرائض أو ترك شيئاً منها؛ حتى تهون عليه المعصية، ويتطلع قلبه إليها، وتشرئب نفسه، ويتلذذ برؤيتها أو ذكرها أو فعلها، خاصة حينما يفكر في عملها ويدعوه الشيطان إليها، أما إذا تسنت له المعصية، وتيسرت له، وقارب أن يقارفها؛ فإنه تنزع عنه اللذة حينئذٍ كما ذكر ذلك غير واحد، وهذه عقوبة من الله، فلا يجد اللذة التي كان يظنها؛ حينما كانت المعصية أصلاً ينتظره وشيئاً يترقبه.
ثم تثقل عليه الطاعة -أيضاً- فيقصر في السنن الرواتب، وفي الوتر ونحوها، ثم تثقل عليه الفريضة، فلا يأتي إلى المسجد إلا جباراً جبراً، وربما كان يقضي الصلوات في الأعم الأغلب، حتى ربما ترك الجماعة، ولا مانع -أبداً- أن يأتيه الشيطان بعد ذلك كلِه ليثير معه قضية وهي مناقشة مسألة: وجوب صلاة الجماعة أصلاً، وأنه ليس هناك أدلة قوية على وجوب صلاة الجماعة، ولم يكن هذا نقاشاً علمياً، ولا قناعة عقلية لهذا الشخص بالذات، وإنما كان هذا أثراً من آثار الكسل الذي ما زال به حتى تَرك، ثم بعد ما ترك بدأ يبحث عن مسوغات ومبررات تجعله على صواب فيما فعل.
إن ثمة فرقاً كبيراً -أيها الأخ الكريم- بين مسلم أعلن إسلامه اليوم وشهد أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، فعلمناه به، وصبرنا عليه، وصار يترقى في مدارج الكمال شيئاً فشيئاً، ويزيد من طاعته لله بالتدريج، وبين شاب آخر نشأ في طاعة الله، وفي كنف أبوين مسلمين، وفي مجتمع صالح ثم صلحت أحواله، وبدأ يتردى وينقص شيئاً فشيئا، فإذا كبر تذكر أنه قد كان في حال صباه يقوم الليل، أو كان في حال صباه يصوم الأيام البيض، أو كان في حال صباه يقرأُ حزباً من القرآن الكريم، أمَّا الآن فهو لا يوتر، ولا يصلي الرواتب، ولا يصوم إلا رمضان.(226/25)
قرناء السوء
السبب الثالث: هم قرناء السوء، فإن كثيراً من الناس لا يستطيعون الاعتماد على أنفسهم اعتماداً كلياً؛ بل يحتاجون إلى غيرهم من الناس، وإلا فالجميع يحتاجون إلى الله تعالى في كل أمر، أو يقلدون غيرهم في أمورٍ كثيرة، والمجالسة هي ثمرة المؤانسة، والله تعالى يقول: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25] .
فالمجالسة تؤثر في الإنسان تأثيراً كبيراً، والقرين بالمقارن يقتدي -كما هو معروف- والمرء على دين خليله، فالإنسان يتأثر بجلسائه سواء أكانوا من الإنس أم كانوا حتى من شياطين الجن، فإن الإنسان إذا كان يتعاطى الأمور الرديئة، ويقلِلُ ذكر الله تعالى، ويكثر الوقوع في المعاصي ومجالسة الأشرار، والحضور في أماكن الذنوب والمواقع التي تكثر فيها الشياطين؛ فإن هذا يورث قلبه ضعفاً، ويورث الشياطين جراءة عليه، ومثل ذلك الحال بالنسبة لشياطين الإنس الذين يتلصصون لهذا الشاب، ويغرونه بالرحلة، والمتعة، والزيارة، والموعد، ويبدؤون معه بداية بسيطة قد تكون في أمر معقول أو مقبول أو يتحمله الأهل على إغماض، لكن ينسون أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وأن هذا الشاب اليوم في الشارع، وغداً في أماكن (التفحيط) ، وبعد غد مسافراً مع الأصدقاء إلى هنا، وبعده ربما يسافر معهم إلى الخارج، وهكذا تبدأ الرحلة الشاقة المظلمة.(226/26)
الشهوات
وعموماً فالشهوات كلها سواء أكانت شهوة الأنا وحب الظهور وحب الشهرة، أم كانت شهوة المادة، وحب المال، أم كانت أي شهوة أخرى، فإن هذه الشهوات تفسد القلب وتكدر صفاءه، أم كانت شهوة الجسد بالجنس، أم شهوة النظر بالعين، أم شهوة الأذن بالسماع المحرم، أم شهوة التملك، أم شهوة السلطان والرئاسة وهي الشهوة الخفية، فإذا تشرب القلب الشهوة وأحبها؛ أكثر من تطلبها، وملاحظتها، والحديث عنها، وملاحظة من يعملها، حتى إنك تجد بعض الناس يلاحق هذه الشهوات -دائماً- ويركض وراءها ويعب منها عباً، وهو مثل الذي يشرب من البحر، لا يزيده شربه إلا عطشاً، أو مثله مثل الذي يضع على النار حطباً، أو يصب البنزين على النار فلا تزداد إلا اشتعالاً، وقد لا يكون أحدهم -أحياناً- بلغت به الشهوة أن يكون بمثل المثابة الذي ذكرت، لكن قد يكون في قلبه شعبة من التعلق بالشهوة والميل إلى الشهوة المحرمة.
وأضرب لذلك مثلاً مشهوداً: قد يذهب الواحد من الناس إلى الحرم الشريف حاجاً أو معتمراً، فهو يرى في المسجد الحرام المصلين، والقائمين، والراكعين، والساجدين، والخاشعين، والطائفين، والمعتمرين، والباكين، والمتصدقين وألوان الأخيار فلا يلفت هذا نظره، ولا يتوقف عنده، ولا يثير اهتمامه، ثم إذا رجع هذا الإنسان إلى بلده، أو قومه، أو زملائه، أو أصدقائه، قالوا له: ماذا رأيت في الحرم؟ قال: رأيت رجلاً يتربص بامرأة، لقد كان الرجل يبحث نظره وبصره في مواطن الشهوة، ويقول: ورأيت امرأةً تشخص في رجل، رأيت حركةً غير عفيفة، رأيت نظرةً مريبة، فيضخم هذه الأشياء ويؤصلها ويجعلها كالقاعدة، ليس لأنها وقعت، ولا لأنه رآها، فهذا أمر يقع من كل أحد، ولكن لأن قلب هذا الإنسان أصبح مثل الإسفنجة يتشرب مثل هذه الأشياء ومثل هذه الأخبار، ويجمع بعضها إلى بعض، ويحشد بعضها إلى بعض، ويؤلف بينها، ويكبرها، ويضخمها، وينفخ فيها، فإذا تحدث انتزع هذه المواقف، وجمعها، وهولها، وطولها؛ تلذذاً بذكرها واستمراءًَ في الحديث عنها.
ولهذا روى أبو هريرة رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم، ومسند أحمد، وسنن أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكُهم أو فهو أهلكَهم} إما أن يكون هو أكثرهم هلاكاً، أو أنه هو الذي تسبب في هلاكهم، فيكون المعنى: أن من قال هذه الكلمة قالها إما تقنيطاً وتيئيساً للناس من رحمة الله تعالى، أو قالها وهي توافق هوى في نفسه، وأما من قال هذه الكلمة تحذيراً، وتعذيراً، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر؛ فإنه لا يدخل فيما ذكر -والله تعالى أعلم- كما ذكر ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله فيما رواه عنه أبو داود وغيره.(226/27)
العناية بالجانب الإيجابي
إن النظر في الجانب الإيجابي في حياة الناس، والثناء عليه بالقسط والعدل، والعمل على تعميم الأنموذج الطيب، وتعميقه وتأصيله؛ من أعظم وسائل الدعوة وأنجحها، وعلى العكس: العناية بالجوانب السلبية وتضخيمها؛ مما يحطم الأمم والأفراد والجماعات.
إن العناية بالجانب الإيجابي في حياة الفرد الواحد وتشجيعه عليه وعلى غيره من أعمال الخير، ومدح ذلك بالقسط والعدل على ما قدم؛ هو أفضل السبل لاستدعاء المزيد من الخير والبر والعطاء من هذا الإنسان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن حفصة رضي الله عنها، أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا رآها عبد الله بن عمر فقال عليه الصلاة والسلام: {نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل} فأثنى عليه بقوله: {نعم الرجل عبد الله بن عمر} ثم وضع قيداً جديداً أو مطلباً جديداً ينبغي أن ينافس فيه المنافسون: {لو كان يقوم من الليل} وهذا -أيضاً- لا يمنع من تحذير الإنسان من الشر قبل وقوعه، ولا يمنع من نهيه عنه بعد وقوعه، وفي موضوع قيام الليل -نفسه- ورد حديث آخر متفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل} إن هذا الحديث يؤكد أهمية الديمومة على العمل: {لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل} .
إذاً: السبب الأول من أسباب الردة: أن يكون القلب مصاباً في الأصل بجرثومة أو مرض شهوة أو شبهة خفية كان يسترها، ثم زالت الأسباب الداعية إلى الاستتار فافتضح هذا الأمر أو زاد المرض، حتى لم يعد ثمة مجال لستره أو تغطيته.(226/28)
قصة عبد الله القصيمي
ولعلي أذكر لكم قصة شهيرة معروفة، وهي قصة رجل كان يقال له عبد الله القصيمي، وكان هذا الرجل يعيش زمناً طويلاًً في بلاد نجد يجالس العلماء ويقرأ عندهم، وربما مشى وصحيح البخاري في إبطه، وربما حضر مجالس العلم والذكر، وكان معروفاً حتى أنه ألف كتباً كثيرة ينصر فيها الحق، ومن هذه الكتب كتاب مشهور مطبوع في مجلدين اسمه: الصراع بين الإسلام والوثنية وهو رد على أحد الشيعة الذين سبوا وذموا دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فرد عليه عبد الله القصيمي بهذا الكتاب الصراع بين الإسلام والوثنية وقال بعض طلبة العلم آنذاك: لقد دفع عبد الله القصيمي مهر الجنة بهذا الكتاب، ثم انتكس الرجل وارتد وأعتقد والله أعلم أن ردته وهي ردةً كلية وصلت في فترة من الفترات إلى درجة الإلحاد المطلق، بل والكفر حتى بجملة الرسالة، والكفر بالأمة التي أنزل عليها الإسلام، وهي أمة العرب، فرفض الإسلام ورفض العرب.
ولم يكن كفره لشبهة بقدر ما كان كفره لشهوة خفية متأصلة في أعماق قلبه، هذا هو ما توصلت إليه بعد طول تأمل في حال هذا الرجل؛ وهذا درس يجب أن نعيه؛ فلم تكن القضية قضية شبهة أو شك أو إلحاد حقيقي، إنما كان هذا الإلحاد ستاراً يتستر به أو مسوغاً يسوغ به الواقع الذي يعيشه، أما الحقيقة -والله تعالى أعلم- الذي يبدوا أن الرجل إنما ارتد بسبب شهوة؛ ما هذه الشهوة؟ إنها شهوة العظمة، حتى إن هذا الرجل كان يقول في شعره: ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق أغنى عن الرسل هذا البيت قرأته في كتاب أحد العلماء الذين ردوا عليه، ثم قلت في قلبي: هل من المعقول أن يقول إنسان مثل هذا الكلام؟! وإذا بي أقف على كتاب مطبوع من كتب القصيمي التي ألفها قبل أن يرتد، ألفها يوم كان يزعم أنه مهتدٍ، وهو كتاب اسمه الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم فوجدت هذا الرجل يتغزل بنفسه ويعظم ذاته، ويتكلم عن نفسه كلاماً يستغرب الإنسان أن يسمعه بعنوان (أسى) يقول: ولو أنصفوا كنت المقدم في الأمر ولم يطلبوا غيري لدى الحادث النكر ولم يرغبوا إلا إلي إذا ابتغوا رشاداً وحزماً يعزبان عن الفكر ولم يذكروا غيري متى ذكر الذكاء ولم يبصروا غيري لدى غيبة البدر فما أنا إلا الشمس في غير برجها وما أنا إلا الدر في لجج البحر بلغت بقولي ما يرام إلى العلى فما ضرني فقد الصوارم والسمر وما ضرني ألا أروح واغتدي باردان مجدود على سابح يثري ثم يقول: أسفت على علمي المضاع ومنطقي وقد أدركا لو أدركا غاية الفخر أرى كل قوم يحفظون أديبهم ويجزونه بالعز والمال والشكر إذاً الرجل يشكو نفسه وحاله، ويرى أنه مضيع في أمته وقومه وقبيلته: فلا خلى معشري ما عندهم لأديبهم سوى الحسد الممقوت والبغض والهجر إذا قام فيهم ناشئ ذو مخايل تدل على العلياء والحسب الحر أطاحوه غضاً قبل أن يبلغ المدى وقاموا على أعواده الخضر بالكسر إلى آخر القصيدة التي أصبح يتكلم فيها عن واقع الناس كلام الذي يتسخط فيها على قضاء الله وقدره، ويرى أنه كان جديراً وحقيقاً بكل خير، وأن الأقدار ما أنصفته، وهذا هو الذي كان يقوله الأول: كم عالمٍ عالمٍ ضاقت مذاهبه وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا إذاً: هذا الرجل الذي تحول من التظاهر بالإيمان إلى التطاول على الله تعالى والسخرية به، وازدراء القيم، والعقائد، والمثل، والأخلاق، إنما يعيش ردة فعلٍ عن المجتمع الذي عاش فيه ولم يلب طموحاته الشخصية، ولم يكن متوافقاً مع متطلباته الذاتية، فكانت النتيجة أن تحطم هذا الرجل، ثم ترك الإيمان والإسلام -والعياذ بالله- وذهب يبحث لنفسه عن شهرةٍ ومجدٍ في الكفر والإلحاد.(226/29)
الإصابة بالعجب والغرور
ومما يدخل في هذا الجانب وهو -الانحراف الخفي في القلب-: أن يداخل القلب العجب والغرور، والثقة المفرطة بالنفس، والتعاظم والاستكبار عن عبادة الله، أو الاستكبار على عباد الله تعالى، ومثل هذا الإنسان إذا دخله العجب والغرور والاستكبار، مثل هذا يصل الأمر به إلى تسخط الأقدار، فهو يرى أنه مظلوم، وأن من حقه أن يكون غنياً، أو ثرياً، أو تاجراً، أو عالماً، أو رئيساً، أو زعيماً، أو ما أشبه ذلك.
يقولون: إن الأقدار ظلمتنا فصرنا متأخرين، وأولئك القوم الذين ارتفعوا، وسادوا، وعظموا، واغتنوا، ليس لهم مثلما ما لنا من العقل، ولا من العلم، ولا من المعرفة، ولا من المكانة، وحق هؤلاء في نظر أنفسهم أن يكونوا سادة مطاعين، أو زعماء، أو أثرياء، أو ما أشبه ذلك، ففي قلوبهم الاعتراض على القضاء والقدر، فهم ما رضوا بالله تعالى رباً حق الرضى وإنما في قلوبهم التسخط، وكيف فلان أغنى مني، وهذا أرفع مني، وأنا أعقل منه؟ ولماذا نال فلان المال ولم أناله أنا، مع أني أعقل من فلان؟! وما علم هذا الإنسان أنها قسمة الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف:32] فالله تعالى أعطى هذا الغنى وأعطاك العقل، والعقل لاشك خير من الغنى، والله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
إن أمثال هؤلاء لا يقبلون الحق ولا يؤمنون به ولو عرفوه، ليس لأنه الحق فقط، ولا لأنهم لم يعرفوا الحق أصلاً؛ ولكن لأن الحق جاء عن طريق فلان، وهم يرون أنفسهم أعظم منه، فكيف يتبعون من يعتقدون أنه أحط منهم منزلةً أو أحط منهم قدراً، ولهذا قال المشركون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلا نزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] .
قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف:32] ولما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعا أبناء عبد كلال، قال أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما وجد الله أحداً يرسله غيرك! وقال الآخر: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الثالث: ما ينبغي لي أن أكلمك، إن كنت نبياً فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت كاذباً على الله فما ينبغي لي أن أكلمك، المهم: أنهم ردوا الحق لأن الذي جاء به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثل هؤلاء استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيرا، فأشربت قلوبهم التعبد للذوات، والإعجاب بالنفس، والاستكبار والغرور، فلا يرون لأحدٍ قدراً، ولا يرون عند أحد علماً ولا عقلاً.(226/30)
الانحراف الخفي في القلب
السبب الأول والأخطر والأكبر -في نظري- هو: الانحراف الخفي في القلب، بحيث يكون الإنسان أصلاً رقيق الدين، يتظاهر بالإسلام، يتظاهر بالخير والهدى، وهذه هي حقيقته، ثم يفتضح بعد ذلك، فجرثومة الانحراف، والشك، والشهوة موجودة في قلبه، إنما هو يتظاهر بالدين فقط لسبب من الأسباب، من هذه الأسباب:(226/31)
التظاهر بالدين مجاراة للتيار
من ذلك أنه يتظاهر بالدين مجاراة للتيار -كما يقال- ومسايرة للركب، كحال المنافقين الذين لما رأوا أمر الإسلام قد اعتز وارتفع، وأنه قل بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام، قالوا- كما في صحيح البخاري: هذا أمر قد توجه.
فلا حيلة في دفعه فينبغي أن نسايره، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ولهذا تخونهم قلوبهم أحوج ما يكونون إليها، فمن تظاهر بشيء من ذلك، ربما ستر في الدنيا، لكنه تفضحه كروب النزع.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدوا للناس، وهو من أهل النار! وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فيما يبدوا للناس، وهو من أهل الجنة!} وفي رواية أخرى: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها! وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها!} .
إذا الإنسان قد يتظاهر بعمل أهل النار، أو يتظاهر بعمل أهل الجنة، لكن حقيقته خلاف ذلك، فيفضح الله تعالى ما ستر في قلبه، إما في الدنيا وإما عند الموت، فمن الناس من تظاهر مجاراة للتيار ومسايرة للركب كما قلت.
ومنهم من يتظاهر خوفاً على دينه وماله، وأراد عصمة نفسه وماله من القتل بالتظاهر بالإسلام، أو حباً في الرئاسة والجاه، أو كيداً للإسلام والمسلمين، فيكون معهم ليعرف أسرارهم، أو ليشكك فيهم، أو ليغرس الريبة في قلوبهم، كما قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] .
فقد يزول -بعد ذلك- السبب الذي من أجله جعل هذا الإنسان يتظاهر بالإسلام، فيأمن الخائف على نفسه، أو ييأس الطامع مما يريد في رئاسة، أو في جاه، أو في مال، ييئس مما يريد؛ فيبوح بالسر المكتوم، وكما قيل: صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر ما صلى وما صامَ إذاً: كان الإيمان عند هؤلاء الناس تظاهراً دون أن يخالط شغاف القلب، أو تستشعره النفسٍ، أو يمتلئ به الصدر، ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب! إن هذا يدل على أن أولئك القوم لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم، وما ذاقوا طعمه، ولا تلذذوا بحلاوته، وما أنسوا به، إنما كان هذا الإيمان تظاهراً، وتشكلاً، وتصنعاً، وتكلفاً، وتعملاً.
وكان الإيمان ستاراً يتسترون ويتترسون به، فهم يعلنونه خوفاً، أو رغبةً، أو رهبةً، أو طمعاً، أو لمصلحة دنيوية؛ أما قلوبهم فهي تغلي بمراجل الحقد والغيظ على الإيمان وعلى المؤمنين؛ فيفتضح -هؤلاء- إما في الدنيا وإما عند الموت.(226/32)
أسباب الثبات
وهذا هو الأمر المهم، فإن العبد ينبغي أن يفهم معرفة الحق والثبات عليه، ولا ثبات للإنسان إلا أن يثبته الله تعالى كما قال الله تعال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] .
وأنا أعرض لك -الآن- أسباب الثبات لعل الله أن ينقذني وإياك بها من مهاوي الردى:(226/33)
السبب السادس: الثبات عند الممات
روى أبو اليسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو ويقول: {اللهم إني أعوذ بك من الغرق، والحرق، والهدم، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت} إنَّ من الملاحظ أن الإنسان يبكي عند ولادته، لماذا يبكي؟! لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاءُ الطفل ساعةَ يولدُ وإلا فما يبكيه منها وإنها لأرحب من مما كان فيه وأرغد ثم يختم للإنسان - أيضاً - بحالةٍ من الضيق تشبه ما بدأَ له، وذلك إيذاناً بأن الدار الدنيا: دار جهاد، ودار بلاء، ودار صبر، ودار مقاومة، ودار منازلة قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] .
ولذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] .
واليقين هو الموت، وليست العبادة مرهونة بغاية محددة، فلا حصول على شهادة، ولا مرتبة، ولا وظيفة، ولا درجة، ولا شيء غير ذلك، إنما حتى يأتيك اليقين.
لقد خذل كثيرون عند الموت: فمنهم من شك، ومنهم من كفر، ومنهم من تسخط القضاء والقدر، قيل لرجلٍ عند موته: قل: لا إله إلا الله، فقال: هو كافر بها!! وقال أبو جعفر: دخلت على رجل بالضيعة، وهو في الموت، فقلت له: قل: لا اله إلا الله، فقال: هيهات حيل بيني وبينها!! وقال أبو الحسن الفقيه: نزل الموت برجل كان عندنا، فقيل له: استغفر الله، قال: ما أريد! قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: لا أقول!! وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول لـ إبراهيم بن أدهم: [[يا إبراهيم اسأل الله تعالى أن يقبضنا على التوحيد] وكان يقول: [[أخاف أن يشتد عليَّ الأمر، فأسأل التخفيف عند الموت، فلا أجاب فأفتتن، وكان يقول: إني أخاف أن أُسلب الإيمان]] .
إنك تجد صوراً عجيبة عن الذين عرفوا الله في الرخاء فعرفهم في الشدة، صدقوا مع الله، صبروا مع الله، وآمنوا وجاهدوا في حال الرخاء، فلما كانت الشدة عند الموت، كان الله تعالى بكل خيرٍ أسرع، فحفظهم وألقى عليهم السكينة والإيمان واليقين، حتى كان المؤمن يموت بعرق الجبين، قال: الطبري وابن عساكر وابن الجوزي وابن الأثير وابن كثير وغيرهم من المؤرخين: [[لما ثقل معاوية رضي الله عنه، قال: احشوا عيني بالإثمد، وأوسعوا رأسي دُهناً، ففعلوا، وبرق وجهه بالدهن، ثم مهد له، وأجلس، وأسند، ثم قال: ليدن الناس: فليسلموا عليّ قياماً، فكان الرجل يقوم فيسلم عليه، ثم يقول: يقولون معاوية مريض وما به شيء هو أصح الناس، فلما خرجوا من عنده، قال: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتزعزعُ وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفعُ أما أبو بكر رضي الله عنه لما حضره الموت، قال: كفنوني في ثوب خلق، فإن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هذا الكفن للمهلة والصديق، فقالت عائشة رضي الله عنها: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر قال: [[يا عائشة، دعي هذا، وقولي كما قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] .
]] إن ساعة الموت ساعةَ يحضر الإنسان فيها ما كان يشغله في الدنيا من خيٍر أو شر، فالنحوي يفكر في النحو، فإذا قيل له شيء، قال: أموت وفي النفس شيءٌ من (حتى) والبياع يفكر في تجارته وبيعه فربما سام أو باع أو اشترى، وصاحب النساء والقيان والغناء ُيحضُر له ذلك، وصاحب الذكر، وصاحب الطاعة، وصاحب القرآن يختم له بذلك، حتى وهو في غيبوبته يقرأ من هذا القرآن وربما لا يتوقف أبداً حتى تخرج روحه، ولذلك يقال إن أبا طاهر القرمطي -وهو من القرامطة المعروفين -لما هجم على الكعبة، وقتل الحُجاج، وملأ بئر زمزم من هؤلاء، فلما قتل في الحجاج قتلاً ذريعاً وأتى إلى الطُّواف، فكان يقتلهم كان هناك رجل من الطائفين اسمه علي بن بابويه من العباد الطواف فكان يطوف، فضربوه حتى سقط، وكان يتمثل ويقول: ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا يعني هو محب لله تعالى، ولذكره، ولبيته الحرام، ولعبادته، ولطاعته فلا يهمه ما أصابه، وأبو الوفاء بن عقيل رحمه الله تعالى، وهو من الحنابلة، من أذكياء العالم، ومن كبار العلماء والفقهاء، يقول: لي خمسون سنة، وأنا أوقع عنه- يعني عن الله تعالى- فدعوني أتهيأ لمقابلته جل وعلا.
ويروى عن عبد الأول السجزي كما ذكر ذلك ابن الجوزي وغيره، أنه لما حضرته الوفاة، قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار يارب العالمين.(226/34)
السبب السابع: هو التواصي بالحق والتواصي بالصبر
فإن الإنسان لا غنى له أن يوصي غيره بذلك، ويطلب من غيره الوصاية به قال الله تعالى: {وَالْعَصْر * ِإِنَّ الإنسان لَفِي خُسْر * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر:1-3] .(226/35)
السبب الثامن: الصدقة
فإن الصدقة برهان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: {والصدقة برهان} يعني برهان على صدق صاحبها وإِيمانه، حيث غلَّب الآخرة على الدنيا، وتغلَّب على حب المال، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] .
ولذلك قال الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:265] فالصدقة من أسباب التثبيت، ومن أسباب الثبات، ومن أسباب لزوم الطريق، كما أن الله تعالى توعد التاركين للصدقة وللإنفاق في سبيل الله بأن يستبدل قوماً غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.(226/36)
السبب التاسع: هو الجهاد في سبيل الله
كما وعد سبحانه وتعالى المؤمنين فقال: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [المائدة:54] إلى آخر الآيات، فالجهاد؛ قوه للفرد المجاهد لأنه يستنفر طاقاته وإمكانياته، ويجعله قريباً من الآخرة، مستعداً لها، ويعرض عن الدنيا، وعاجلها، وزخرفها، حتى إنك تجد بعض الشباب المجاهدين، تتعجب من أحوالهم وارتفاعهم على زخرف الدنيا وشهواتها ومطالبها، والواحد منهم ربما لم يتزوج، وربما عقد ولم يدخل بزوجته، وربما كان له ولد أو أولاد يحنُّ إليهم يحنون إليه، ويشتاق إليهم ويشتاقون له، ولكن حب الله ورسوله والدار الآخرة كما قال: يا بنت عمي كتاب الله أخرجني طوعاً وهل أمنعن الله ما فعلا فإن رجعتُ فرب الكون يرجعني وإن لحقتُ بربي فابتغي بدلا ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني أو ضارعاً من ضنا لم يستطع حِوَلا إذاً: الجهاد يقوي نفس المجاهد، ويرفع مستواه، ويبعده عن التعلق بالشهوات، والطمع فيها، والارتباط بها، والميل إليها، كما أنه يرفع مستوى الأمة المجاهدة، فالأمة المجاهدة -أيضاً- طاقاتها مستنفرة، وجهودها، وإعلامها، وتعليمها، وأعمالها، وأشخاصها، كلها موجهة إلى هذا الأمر الخطير الذي هو مقارعة الأعداء، وانتزاع العزة من براثنهم، والتغلب عليهم، فهذه الأمة المجاهدة لا مكان عندها لكثير من الأمور المباحة والجائزة، فضلاً عن الأمور المحرمة من الشهوات وغيرها.(226/37)
السبب السادس: الثقة بوعد الله تعالى
سواءً في الدار الآخرة، قال الله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134] .
فيعلم أن الأمر يؤول إما إلى جنة وإما إلى نار، كما ذكر الله تعالى في كتابه أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإنها للجنة أبداً أو النار أبداً} .
ومثله -أيضاً-: الثقة بوعد الله تعالى في الدنيا بنصر الإسلام ونصر المؤمنين، وإنجاز وعده بذلك، فإن الاغترار بالعاجل مما أثر عن المنافقين؛ فإن الإنسان ينبغي أن يثق بالله وبوعد الله، ويعلم أن الدين منصور، وعزيز، ومرتفع، وأنه مهما طال الزمن أم قصر؛ فإن الله تعالى سينصر دينه، ويحقق وعده، وينصر عباده المؤمنين الصالحين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] .
وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون} [الصافات:171-173] فلا يغتر الإنسان بوقت محدود أو عاجل من الأمر، تغلب فيه الكفر على الإيمان في بلاد كثيرة، وأصبحت الحضارة المادية (حضارة الطين وحضارة المادة) تبسط وتمد رواقها على العالم كله، فإن هذا تشبه بالمنافقين الذين كانوا ويقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] .
يقول أحدهم: (محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر، ونحن لا نستطيع نذهب لقضاء الحاجة) أما المؤمنون فقالوا -لمّا اشتد الكرب واشتدت الأزمة-: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] .(226/38)
السبب الثالث: صحبة الأخيار ومجالستهم
سواءً أكانوا أحياءً، بأن يختار الإنسان الجلساء الصالحين الناصحين الذين ينفعونه: علماً، أو عملاً، أو تقدماً، أو حفظاً للوقت، فيستفيد منهم في دنياه، في دراسته، في حياته، ويستفيد منهم في تدينه، وصلاحه، واستقامته، ويستفيد منهم في أخلاقه، ويستفيد منهم في سمعته في المجتمع، فإن الإنسان ينسب إلى صاحبه وجليسه، سواءً كان هؤلاء الجلساء أحياءً يجالسهم، ولا بد له منهم، فإن الإنسان مدني بالطبع، أم كان هؤلاء الأخيار - أمواتاً، أعني أن يكثر من قراءة سير الصالحين، سير العلماء، سير الدعاة، سير المجاهدين، لأنها تملأ الوقت وترفع الهمة، وفيها من العبرة، والأسوة، والدرس، والتربية مالا يجده الإنسان في الواقع، فإن التاريخ مدرسة كبرى كما قال الشاعر: ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره وكما قيل: مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيطٍ عيَّ في الناس انتسابا فينبغي أن يكون للإنسان صلة بالأحياء من الأخيار، وأن يكون له صلة بالأموات عن طريق قراءة سيرهم وتراجمهم.(226/39)
السبب الرابع: طلب العلم الشرعي
فإن العلم الشرعي من العقيدة الصحيحة المأخوذة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين، والتفسير، والحديث، والفقه، وغيره من العلوم الشرعية المفيدة، فإن هذه العلوم: نور في القلب، وانشراح في الصدر، والله تعالى يقول: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125] .
إذاًَ: طلب العلم بصدق، وإخلاص، ونية صالحة، وقلب سليم، من أهم أسباب زيادة الإيمان، والإيمان الذي يزيد هو لن ينقص بإذن الله، لأن النقص هو ضد الزيادة، فينبغي أن يسعى الإنسان في زيادة إيمانه عن طريق طلب العلم الشرعي الموصل إلى الله تعالى والدار الآخرة، وإذا لم يزد الإيمان فإنه يخشى عليه من النقصان.
وإن طلب العلم الشرعي للإنسان عصمة عن التقليد الأعمى، وأي انحطاط للإنسان أكثر من أن يلغي عقله، وتفكيره، وإدراكه، وفهمه، ومسئوليته، ليجعل نفسه متابعاً لفلان، فما صوبه صوب، وما خطأه خطأ، وما قاله قال به، وما رده رده، إنَّ هذا إلغاء لإنسانية الإنسان، والله تعالى نعى على من فعل ذلك، وذكر أن هؤلاء كانوا يعذبون في الدار الآخرة، فقال: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيل * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب:67-68] إنَّ الإنسان مسئول، ومحاسب، ومكلف، وينبغي أن يترك التقليد بقدر ما يستطيع، وأن لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي لابد منها، بل يكون عنده بصيرة، وعنده معرفة، وعنده إدراك في الدين، ليس عن طريق التقليد، ولا عن طريق الوراثة من المجتمع، وإنما عن طريق الطلب، والبحث، والتحري، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما صلى صلاة الكسوف، ثم خطب الناس، قال بعد ذلك: {إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه ملكان فيسألانه فيقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المؤمن أو الموقن، فيقول: ربي: الله، وديني: الإسلام، ونبيي: محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الكافر أو المنافق -شك الراوي- فيقول: هاه هاه لا أدري! كنت أقول ما يقول الناس} فإذا كان شأنك مجرد ترديد لما قال زيدٌ أو ما قال عبيدٌ، فإنَّ هذا لا ينفعك في القبر، خاصة في مجال الاعتقاد، بل ينبغي أن تأخذ دينك عن بصيرة، ومعرفة، وعلم، ودراسة، وفهم، وأن تأخذ -أيضاً- الأحكام الشرعية ليس عن طريق التقليد بل عن طريق الدليل: قال الله قال رسول الله، كما قال الله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] .
دعو كل قول عند قول محمد فما آمنٌ في دينه كمخاطر وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، إذا جاء: قال الله قال رسول الله، لا تحتاج إلى كلام أحد بعد ذلك، وما كلام العلماء، والفقهاء، والمصنفين، والمدرسين؛ إلا مجرد إيضاح، وبيان، وشرح لمعاني نصوص القرآن والسنة.(226/40)
السبب الخامس: الخوف الدائم من الانحراف وسوء الخاتمة
فإن الشيطان لا يوقَّر أحداً، ولا يمتنع من أحد، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] .
فانظر كيف خوطب المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالنهي عن معصية رفع الصوت على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الجهر عليه كما يجهر بعضهم لبعض، ثم قال الله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] ولهذا بوب الإمام البخاري رحمه الله: باب مخافة الإنسان أن يحبط عمله وهو لا يشعر, وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] يؤتون ما آتوا، يعني: يعطون ما أعطوا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة: {قالت: أهو الذي يسرق ويزني؟ قال: لا، هو الذي يصوم، ويتصدق، ويصلي، ويخاف أن لا يقبل منه عمله} ولهذا تجد أن المؤمن الحق: شديد الخوف، ودائم الخوف، كما قال الحسن البصري: [[إن المؤمن جمع إحساناً وخوفاً]] .
أما المنافق أو ضعيف الإيمان فإنه آمن مطمئن، لا يمر هذا الكلام منه بخاطر، ولا يمر منه على بال، لأنه يرى أن الأمر مستقر ولا يدري ما يعرض له في الدنيا [[أما المنافق جمع إساءةً وأمنا]] وقال الحسن مرة أخرى عن النفاق: [[والله ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن]] .
إنه لابد من الالتفات إلى القلب، وزرع الخوف من الله تعالى، والخوف الدائم من المعصية ومن سوء الخاتمة، ومن حبوط العمل، وملء القلب بالأعمال الصالحة، كأعمال القلب، من حب الله، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، وتعظيمه، وطرد كل معاني الرذيلة: كالخوف من المخلوقين، والتعلق بالمخلوقين، والأحقاد، والحسد، والبغضاء، والأمراض القلبية، والإعجاب بالذات، وتقديس الذات، وتقديس الأنا، فلابد من علاج هذه الأمراض، وأن يحرص الإنسان على إصلاح داخله، وليس على التصنع، والتعمل، والتكلف بين الناس بالمظاهر فحسب.(226/41)
السبب الثاني: الذكر
الذكر بألوان من الأوراد وقراءة القرآن، ومثل -أيضاً- المحافظة على العبادات، والنوافل، والسنن وغيرها، فإن ذلك يطرد الشيطان، ويقوي القلب ويثبته، ومن ذلك أن يكثر العبد من قول: لا حول ولاقوه إلا بالله، فإن معنى هذه الكلمة أنه يعترف بأنه لا قدرة له على التحول من حال إلى حال، ولا قوة به على مواجهة الصعاب إلا بالله تعالى، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] .
فإذا عرف العبد أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه، وأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، فإنه يقول: لا حول ولاقوه إلا بالله، فيبرأ من كل معاني الثقة بالنفس، أو الغرور بالأنا، أو الاعتماد على الذات، ويلتزم بطاعة الله تعالى، ومحبته، وتعظيمه، وتوحيده.
ولابد أن يلتزم الإنسان بقدر من الذكر والعبادة لا يخل به، وأقل ذلك أن يلتزم الإنسان بالرواتب -وهي معروفة- والوتر، وصيام الأيام البيض (ثلاثة أيام من كل شهر) ، وقراءة حزب من القرآن لأن ذلك عون للعبد على الثبات، لهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا * نِصْفَهُ أو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1-5] فلا يصبر على القول الثقيل، ولا يتحمله، ولا يقوم به؛ إلا من كان له مع الله تعالى عبادة، وقربى، وزلفى إليه.(226/42)
السبب الأول: الدعاء
وذلك لأن الدعاء فيه معنى الاعتراف بالعجز من قبل العبد، والاعتراف لله بالألوهية والربوبية، وأن الأمر بيده، وأنه كله إليه، فالدعاء يزيل ما في القلب من الاستكبار، ويزيل ما في النفس من العجب والاغترار، لأن حقيقة الدعاء: ذلٌ وانكسار لله تعالى، وفيه روح العبادة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة} وذلك لما في الدعاء من التذلل لله تعالى، والتبتل إليه والاعتراف بقدرته وألوهيته، واعتراف العبد بضعفه، وفقره، وذله، وحاجته، ومسكنته، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، كما روى النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من قلبٍ إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه} قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك} فهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث صحيح فقد رواه النسائي في سننه الكبرى وأحمد، وابن ماجة وقال البوصيري إسناده صحيح، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي على ذلك، ورواه البيهقي -أيضاً- ومثله -أيضاً- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وهو في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {يا مصرف القلوب صرَّف قلوبنا إلى طاعتك} .
وقد جاء هذا المعنى عن جماعة من الصحابة، كـ أم سلمة، وعائشة، وأنس، وسبرة بن الفاكه، وأبي هريرة، وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله تعالى بالثبات: {ثبت قلوبنا على دينك} وأيضاً من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه النسائي والترمذي وأحمد أنه كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: {اللهم إني أسألك الثبات في الأمر} فإن العبد لا ثبات له إلا بالله تعالى، فيتوسل إلى ما عند الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله -جل وعلا- ليغفر له، أو يعينه، أو يثبته.(226/43)
الأسئلة(226/44)
حكم قراءة كتب المرتدين
السؤال
هل تنصح بقراءة كتب عبد الله القصيمي -عافاني الله وإياكم من طريقه-؟ وهل ما زال على قيد الحياة؟ وأين يعيش -جزاك الله خيراً- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟
الجواب
أما النصيحة بقراءة كتبه فلا أنصح بقراءة كتبه، لسبب: أولاً: أن هذه الكتب أنواع: ففيها الكتب التي ألفها بعد انحرافه، هذه لا شك فيها، لكن حتى الكتب التي ألفها من قبل، فإنها لا تخلوا من الروح التي أسلفت قبل قليل، هذا من جانب، الجانب الآخر أن لها تأثيراً تربوي على القارئ، فإن القارئ إذا قرأ وأعجب بهذا الكلام، وزاده هذا الكلام إيماناً، تذكر أن صاحب هذا الكلام ومصدِّره قد ارتد وألحد، فكان هذا سبباً في ضعف القارئ، وضعف تقبله وتأثره بما يقرأ لهذا الرجل، وقد يحدث هذا عنده تأثراً سلبياً عكسياً، ولهذا لا أنصح بقراءة كتب هذا الرجل، أما أين يعيش: فلست متأكداً، لكن أعتقد أنه ما زال حياً، وربما كان يعيش في مصر، أو فرنسا، أو غيرها والله تعالى أعلم.(226/45)
حكم حديث النفس وخواطرها المحرمة
السؤال
وهذا يقول: مسلم تجري في هواجسه ودواخل نفسه حب الشهوة، وتذكر بعض صورها، ولكن في دنيا الواقع يبتعد عن ذلك، ويخشى من ربه إذا ما وقع في شيء من ذلك، فهل يحاسب على تلك الهواجس دون التطلع إلى العمل بها؟
الجواب
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] .
فليس الإنسان مطالب أن لا يعتمل الهوى في قلبه، لكنه مطالب أن ينهى نفسه عن الهوى، وإلا فإن الإنسان ركبت فيه الغريزة، ولكن ينبغي أن يعمل على إشباعها بالطريق المباح، ولهذا الله تعالى حرم السفاح وهو الزنا، وشرع النكاح، وحرم الربا وأباح وأحل البيع، فما حرم الله تعالى أو أغلق باباً من الشر إلا وفتح بديلاً عنه باباً من الخير، فعلى الإنسان أن يعمل على إشباع الشهوات الفطرية الطبيعية بالأسلوب الشرعي المباح، ويبتعد عن المعاصي ولا يضره ما مر في خاطره وراء ذلك.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(226/46)
التثبت والتبين في النقل
تحدث الشيخ عن الثبت والتبين في النقل، ثم ذكر منهج أهل القرآن والسنة النبوية في التثبت موضحاً أنواع التثبت، ثم عرض عرضاً مفصلاً لوسائل التثبت، وختم بالحديث عن واقع الناس في التثبت موضحاً إلى ضعف الناس في هذا الموضوع، وعارضاً لمظاهر هذا الضعف.(227/1)
أهمية التثبت والتبيُّن في النقل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: ففي مستهل هذا الدرس، أرجو لنفسي ولإخواني أن نكون ممن قبل الله تعالى منهم أعمالهم الصالحة، فكان قبولها سبباً في زيادة أعمال أخرى، من صيام الست من شوال، والمحافظة على الوتر، أو ما تيسر من قيام الليل، فإن من علامة قبول الحسنة، الحسنة بعدها.
أما موضوع هذه الليلة فهو عن: (التثبت والتبين في النقل) وسأتحدث عن هذا الموضوع في عدة نقاط: الأولى منها: عن أهمية الموضوع، والموضوع لا شك في غاية الأهمية، لأنه ما من إنسان إلا وأكثر ما يشتغل منه لسانه، فقد يكون الإنسان أحياناً طريح الفراش، راقداً على سريره سنين طوالاً لا يتحرك منه شيء، لكن لسانه لا يفتر إما بذكر الله تعالى، وإما بغير ذلك؛ ولهذا كانت آداب اللسان من أهم الآداب التي يجب أن يعتني بها الإنسان -كما سبقت الإشارة لذلك في مطلع درس الصمت والمنطق ومن آداب اللسان قضيةُ وجوب التثبت والتبين فيما يقوله الإنسان أو فيما ينقله عن الناس.
فإننا نجد في واقع الناس اليوم تساهلاً في ذلك وتفريطاً كبيراً، فإن أغلب الناس يتساهلون في نقل ما يسمعون من الأحكام الشرعية والأقوال الفقهية، والأخبار والأحداث وغيرها، سواء أكانت أموراً متعلقة بالتأريخ، والأزمنة الماضية، أم أموراً متعلقة بالواقع الحاضر، وسواء أكانت مما يتعلق بالأحكام -والحلال والحرام- أم كانت مما يتعلق بالأشخاص: من علماء، أو عامة، أو زعماء، أو مشاهير، أو غيرهم.
تجد الناس يفيضون في هذه الأحاديث دون أن يردعهم رادع أو يزجرهم زاجر، وكلما كان الإنسان أكثر جهلاً، كان أجرأ على الكلام والخبط والهجوم على مثل هذه الأمور، وللإسلام في ذلك منهج واضح صريح، لابد من بيانه، وهذه هي النقطة الثانية.(227/2)
بيان منهج القرآن الكريم في التثبت(227/3)
قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)
يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] أي لا تقل ما ليس لك به علم، لا ترم أحداً بما ليس لك به علم، وفَسَّرَهُ بعض السلف بقول الزور، وشهادة الزور.
وفسره آخرون بالفرية، وكل هذه لا تعدو أن تكون أمثلةً لقفو الإنسان ما ليس له به علم، فإن الإنسان إذا قفا ما ليس له به علم، قال ما لا يعلم وأفتى بما لا يعلم، وقال الزور وشهد الزور، وافترى، وظلم، وكذب، وكل هذا مما ليس له به علم.
ولهذا قال قتادة: [[لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا تقل رأيت ولم تر، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله]] رواه ابن جرير، وابن المنذر، وكذلك روى ابن أبي حاتم عن عمرو بن قيس رضي الله عنه أنه قال: [[يقال للأذن يوم القيامة: هل سمعتِ؟ ويقال للعين يوم القيامة هل رأيتِ؟ ويقال للفؤاد يوم القيامة مثل ذلك!]] إذاً: الله سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نقفو ما ليس لنا به علم، ويبين أن السمع مسئول عنه، يُسأل السمع فيقال للأذن: هل سمعتِ؟ ويسأل الإنسان نفسه هل سمعت؟ والبصر مسئول ومسئول عنه أيضاً يقال: هل رأيت؟ ويقال للإنسان هل رأيت؟ ويقال للعين: هل رأيتِ؟، وكذلك الفؤاد وهو القلب فهو مسئول ومسئول عنه {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] ولهذا ذكر الله عز وجل في مواضع من القرآن الكريم أن الأعضاء تسأل يوم القيامة وتنطق، حتى اللسان، الإنسان الآن ينطق بلسانه، فيوم القيامة يُسأل، فيقال: أما قلت كذا، وكذا؟ فينكر، فيختم الله تعالى على فمه، ويأمر اللسان -هذه اللحمة- أن تتكلم بنفسها، ليس كلام الإنسان الذي يخرج من حلقه، واللسان وسيلة فيه، وإنما ينطق اللسان ذاته فَيُقِرُ، فتشهد عليهم ألسنتهم، يقر اللسان بما قاله الإنسان وبما نطق به، وتقر العين بما فعلت، وتقر الأذن بما فعلت، وتقر الأيدي والأرجل، كل هذه الأشياء تشهد على الإنسان كما ورد في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك فقالوا: يا رسول الله ممَّ ضحكت؟ قال: {ضحكت من مجادلة العبد ربه يقول يوم القيامة: يا رب إني لا أقبل علي شهيداً إلا من نفسي، أي لا يقبل حتى الملائكة، فيأمر الله عز وجل فيختم على فيه، ويأمر جوارحه فتنطق بما فعل من شر} فتتكلم اليد، والرجل، واللسان، والأذن، والعين، وغيرها من الجوارح قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] .
وكذلك يقول الله عز وجل في موضع آخر من كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ويأمرنا الله عز وجل بالتبين {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] هكذا قرأها الجمهور (فتبينوا) وقرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فتثبتوا} [الحجرات:6] والتثبت والتبين هما بمعنى واحد، وهذا أمر من الله عز وجل للإنسان أن يتبين.
أي يطلب البيان ويتثبت أي لا يتكلم إلا بأمر ثابت واضح لا إشكال فيه، وخاصة إن كان الذي جاء بالخبر فاسقاً، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ثم علل ذلك بقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً} [الحجرات:6] أي لئلا تصيبوا قوماً بجهالة، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فربما إنسان بلغه عن أخ مسلم خبر فقال به، وأصبح يتكلم في المجالس يقول: فلان فعل كذا، وفعل كذا، وفعل كذا.
بعد فترة تبين لهذا المتحدث أن ما كان يقوله عن فلان غير صحيح فهنا هو نفسه أصبح من النادمين، لأنه عرف أنه وقع في عرض أخيه المسلم، واستطال في عرضه بغير حق، وهو أمر لا يمكن تداركه، ولذلك يقول القائل: يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل فعثرته بالقول تودي برأسه وعثرته بالرجل تبرا على مهل فعثرة القدم، قد يعثر الإنسان فيسقط فتبرأ، أي تشفى بعد شهر أو شهرين، لكن عثرة اللسان قد تكون السبب في حَزِّ رأسه، وجرح اللسان لا يمكن تداركه، لأن الكلام إذا خرج من اللسان لا يمكن إرجاعه! ولذلك قال الأولون كما نقل عن عمر رضي الله عنه وغيره، قالوا: [[من كتم سره كان الخيار بيده]] يعني إذا لم تتعجل في الكلام، مثلاً: بلغك عن فلان من الناس أنه قال: كذا وكذا، فأنت صدقت هذا الكلام، لكن قلت: لا داعي أن أتكلم الآن أصبر أعتبر هذا سراً وأكتمه.
بعد ذلك بإمكانك في أي وقت تشاء أن تقوله، ولو سكتَّ شهراً، أو شهرين تستطيع بعد ذلك أن تقول فلان قال: كذا.
لكن لو بلغك عن فلان قولٌ، ثم تسرعت في إفاضته، ونشره والحديث عنه؛ فإنه لا يمكن بعد ذلك إرجاعه، [[من كتم سره كان الخيار بيده]] فإذا خرجت الكلمة من الفم لا يمكن إرجاعها، فهي مثل الرصاصة، الإنسان إذا وجه إلى إنسان بندقية، ثم حرك زنادها فانطلقت منها رصاصة صوب شخص معين، قد يندم الإنسان على ذلك، ولكن لا يمكن إرجاعها لأنها وصلت إلى مستقرها وأصابت المقتل الذي وجهت إليه، وكانت سبباً في هلاك هذا الشخص، وفي هلاك مطلقها أيضاً دنيا وآخرة، هلاكه دنيا بالقصاص منه، وهلاكه أخرى بأنه يلقى الله عز وجل بدم أخيه.
فاعتبر أن الكلمة التي تخرج من فمك مثل الرصاصة، التي إن أمسكها الإنسان استطاع أن يطلقها في الوقت المناسب، وإن أطلقها بدون تبصر ولا تثبت ولا تبين، فإنه لا يمكن أن ترجع بحال من الأحوال، فالله عز وجل يقول: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6] .
وقد ذكر أهل السير والتفسير والحديث كما رواه الطبراني، والإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم ويقول السيوطي في الدر المنثور: بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه {أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فعرض عليَّ الإسلام فأسلمت، ثم عرض عليَّ الزكاة، فقلت: يا رسول الله، أذهب إلى قومي، فأدعوهم إلى الله عز وجل فمن آمن منهم أخذت زكاته، ويأتيني رسولك في إبان كذا وكذا} ضرب له موعداً محدداً {تبعث إلي فيه رجلاً يأخذ مني الزكاة.
فجاء الحارث رضي الله عنه إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، ثم جمع منهم الزكاة في الإبّان الذي حدده لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسوا ينتظرون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فتأخر عن إبّانه.
فقال الحارث بن ضرار الخزاعي لقومه: تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد واعدني وقت كذا، وكذا، وليس من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف في الوعد، وخاف الحارث أن يكون أصابه سخطة من الله تعالى، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم} خشي أن يكون الله سخط عليه فأنزل فيه قرآناً، أو سخط عليه الرسول صلى الله عليه وسلم {فجمع الزكاة، وخرج بقومه، فلما خرج لقي جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معهم السلاح، فلما غشيهم قال: ما الذي جاء بكم؟! قالوا: جئنا إليك.
قال: وما ذاك؟! قالوا: رددت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأردت قتله، وَمَنَعْتَ الزكاة، قال: ما فعلت! ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بعث إليه الوليد بن عقبة مصدقاً} أي يأخذ الصدقة، وهو ابن عقبة بن أبي معيط، فـ الوليد بن عقبة جاء للحارث بن ضرار الخزاعي وقومه {فلما أقبل كان بينه وبينهم شيء في الجاهلية، أو كأنه هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه قد أراد قتلي، ومنع الزكاة فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الجيش، وأمرهم بالتثبت من أمر الحارث وقومه، ثم نزل قول الله عز وجل ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)) [الحجرات:6] } وهذا الحديث في قصة الوليد بن عقبة، وأنه ادعى أن الحارث بن ضرار الخزاعي أراد قتله، ومنع الزكاة، هذا الحديث، قال فيه السيوطي: بسند جيد كما في الدر المنثور، وجاء له شواهد كثيرة جداً، عن جماعة من الصحابة والتابعين، منها عن علقمة بن ناجية الخزاعي، ومنها عن جابر، ومنها عن أم سلمة، ومنها عن ابن عباس رضي الله عنه، ومنها عن جماعة من التابعين منهم مجاهد، وعكرمة، وقتادة وغيرهم حتى قال الإمام الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب قال: لا خلاف بين أهل التأويل فيما أعلم أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين ذهب لأخذ صدقات الحارث بن ضرار الخزاعي وقومه.
وإن كان بعض المعاصرين حاول أن ينكر هذه القصة، كما فعل الشيخ محب الدين الخطيب في تعليقاته على كتاب العواصم من القواصم، لكن هذه القصة أشهر من أن ترد أو تنكر.
صحيح أن فيها رمي الوليد بن عقبة بأنه فاسق، كما قال الله عز وجل: ((إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] لكن لا يمنع أن يكون حدث منه فسق، ثم تاب منه هذا على وجه، مع أن المشهور عن ا(227/4)
منهج السنة النبوية في التثبت والتبين(227/5)
قصة ماعز
ومن الأمثلة العملية أيضا في التثبت والتبين، قصة ماعز بن مالك الأسلمي، وهي في الصحيحين أيضا.
لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف أمامه وقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني.
فلم يقبل الرسول عليه الصلاة والسلام منه أول مرة، حتى اعترف على نفسه أربعة اعترافات بأنه قد زنى، ثم بعد ذلك ما قبل منه، حتى يتثبت: هل الرجل الآن في حالة سكر؟ تعالوا يا خبراء استنكهوا الرجل -شموه- هل هو سكران؟ قالوا: ما به سكر.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، وقبيلته، فقال: هل في عقله شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! ليس في عقله شيء.
حتى تَثَبَّتَ وتبين أن الرجل فعلاً قد وقع في الزنى، فأقام عليه صلى الله عليه وسلم الحد.
وكل هذه الأمثلة والقصص وغيرها تربي الصحابة رضي الله عنهم على ضرورة التثبت وعدم التسرع في الأقوال، أو في الأعمال أو في المواقف التي يتخذونها من بعضهم، من إخوانهم المؤمنين.(227/6)
حادثة الإفك
مثال آخر: حادثة الإفك: لما قال أصحاب الإفك في عائشة رضي الله عنها ما قالوا، وفاض ذلك في الناس، ربى الله تعالى المؤمنين من خلال هذه الحادثة على آداب وأخلاق عظيمة {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:12] ولذلك قال أبو أيوب رضي الله عنه لما سألته زوجته أم أيوب، قالت: يا أبا أيوب! أسمعت ما قيل؟ قال: نعم، يا أم أيوب! وذلك الكذب، ثم قال لها: يا أم أيوب! أرأيت لو كنتِ مكان عائشة، أكنت تفعلين؟! يعني لو كنتِ مكان عائشة هل يمكن أن ترتكبي الفاحشة؟ قالت: لا، قال: لو كان أبو أيوب مكان صفوان أكان يفعل؟! قالت: لا! قال: فـ صفوان خير مني، وعائشة خير منكِ! إذاً نحن نظن بأنفسنا خيراً! ومثلما ما أنني لا أظن بنفسي ولا بزوجي أن يقع منا مثل ذلك، كذلك لا أظن برجل من المسلمين أن يقع منه ذلك؛ ما دامت المسألة إشاعة أو شبهة أو كلاماً قيل ليس عليه من دليل.
فربى الله المؤمنين على التثبت، وعاتب أولئك الذين أفاضوا بالحديث دون أن يتثبتوا منه، وكان منهج الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك غاية الاعتدال.
فإن المتهمة الآن والمرمية هي زوجته أم المؤمنين عائشة.
وقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء عظيم، حتى قام على المنبر، وقال: {من يُعذِرني من قوم يقولون في أهلي؟ والله ما أعلم إلا خيرا!} ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يتجنب عائشة، ويقول: {كيف تيكم؟} ولا يخاطبها، فكأنه توقف في الأمر، لأنه يعلم أنه لابد أن يبين الله تعالى في الأمر بياناً كافياً شافياً، حتى نزل القرآن في براءتها رضي الله عنها.(227/7)
التحذير من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم
وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من القول عليه بغير علم، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم، ذلك في أحاديث كثيرة جداً ثابتة، منها أحاديث في الصحيحين كما في حديث علي بن أبي طالب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تكذبوا علي؛ فإنه من يكذب علي يلج النار} ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} ومثله حديث المغيرة بن شعبة، والزبير، وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من الكذب عليه، والقول عليه بغير علم، وتوعد الكاذبين بالنار.
وهذا الحديث هو من الأحاديث المتواترة، فقد روي عن أكثر من ستين أو ثمانين صحابياً، وهو من المتواتر اللفظي أيضاً فنجزم ونقطع ونحلف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث جزماً لا تردد فيه بألفاظه وحروفه، قال: {من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار} ؛ لأن هذا اللفظ بعينه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بحروفه وألفاظه، عن طريق جماعة كثيرة من الصحابة، فهو من المتواتر وهذا دليل على عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير من الكذب عليه، فكان يقول ذلك في مجالس كثيرة جداً، حتى تناقله عنه أصحابه رضي الله تعالى عنهم.(227/8)
التأني وترك العجلة
وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأناة والتأني، وحذر من العجلة، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البيهقي في شعب الإيمان ورواه أبو يعلى عن أنس بن مالك -وسنده حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {التأني من الله، والعجلة من الشيطان} والتأني يكون في كل شيء، ومن ذلك التأني في القول، فإذا سمعت قولاً عن الله، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من الناس فتأنَّ في أخذ هذا القول وقبوله، ولا تتسرع في تصديقه ونشره، وإشاعته -خاصة إن كان هذا القول من الأقوال التي يستغربها الإنسان، أو لا يصدقها لأول وهلة، كما سيأتي في أمثلة لذلك.(227/9)
عدالة حملة العلم
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر صفة العلماء في حديث، وإن كان في الحديث اختلاف؛ صححه جماعة من أهل العلم، كالإمام أحمد، والعراقي، وغيرهم، وله طرق عديدة عن معاذ وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله} فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العلماء الذين يحملون العلم، وينقلونه كابراً عن كابر، وخلفاً عن سلف -أنهم عدول، والعدالة تعنى أنهم قوم أهل صدق، وديانة، وتورع، وتثبت، وأناة وعدم تعجل، فهذه صفة العالم الذي يؤخذ عنه العلم، وهذه صفة الذي يريد أن يكون عالماً أن يكون عدلاً متثبتاً غير متعجل ولا متسرع.(227/10)
خطر الفتوى بغير علم
وكذلك بين الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما ما يقع في آخر الزمان {أن الله تعالى لا يقبض العلم، ينتزعه انتزاعا من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا} وهذا من عدم التثبت، أنهم جهال ويترأسون، ثم يسألون، فلا يقولون: الله أعلم، أو لا ندرى، أو نراجع، أو ننظر، بل يفتون بغير علم فيضلون بالقول على الله تعالى وعلى رسول الله بغير علم، ويضلون غيرهم ممن يتبعهم في هذا الأمر لماذا؟ لأنهم أصحاب أسماء مشهورة معروفة، ولأنهم رءوس، ولأن الأمر قد انتهى، إليهم خلت الساحة، ولم يبق إلا هذه الرموز الحائلة الزائلة، كما قال الأول: خلتِ الديار فَسُدْتَ غير مُسَوَّد ومن البلاء تفردي بالسؤددِ وهذا يقوله الأولون تواضعا لله عز وجل، وإلا فكانوا سادة حقيقيين، وكانوا علماء وفقهاء، ومع ذلك كان أحدهم يقول: خلت الديار فُسُدْتَ غيرَ مُسَوَّدِ ومن البلاء تفردي بالسؤدد أما في هذا الزمن، فإنه يحق لكثير من أمثالنا وممن يشار إليهم وممن يتكلمون أن يتمثلوا بهذا البيت: خلت الديار فسدت غير مسود ومن البلاء تفردي بالسؤدد فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنه في آخر الزمان يوجد رءوس من جهال، يتكلمون ويفتون بغير علم، فيضلون ويُضلون، ولا شك أن هذا نوع من التحذير من الفتيا بغير علم، ومن القول على الله تعالى بغير علم، ومن اتباع هذه الأقوال والآراء والفتاوى التي لا دليل عليها.(227/11)
قصة حاطب
وفي المجال العملي نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على التثبت، انظر إلى قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وهي في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
لما كتب حاطب بن أبي بلتعة الكتاب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فنزل الوحي يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
فبعث علي بن أبي طالب، والزبير في أربعة نفر، وأخبرهم بأنهم سيجدون المرأة في مكان كذا وكذا، ويجدون معها كتاباً من حاطب فذهبوا إلى المرأة وأمسكوا بها، قالت: ما معي كتاب، فقال علي رضي الله عنه: والله ما كَذَبْنا ولا كُذبْنا، سمعنا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينطق عن الهوى، ومعك كتاب! لكن لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، أو لنكشفن الثياب -إما أن تعطينا الرسالة، وإما أن نبحث عن الرسالة في كل مكان من جسدك، حتى لو اضطررنا إلى أن نعريك لنجد هذا الكتاب الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما رأت الجد قالت: تَنَحَّوا (أي ابعدوا) فأخرجته من جدائلها (من شعرها) كانت قد جدلت عليه شعرها، وسلمتهم الكتاب.
وإذا فيه: من (حاطب بن أبي بلتعة: إلى قريش، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إليكم) فلما جاءوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: {يا رسول الله! دعني أضرب عنقه فقد نافق، فلم يوافق الرسول عليه الصلاة والسلام على هذا العرض، ودعا بـ حاطب بن أبي بلتعة} -وهنا يأتي التثبت، الآن الخطأ وقع، وهو خطأ عظيم، بل هو في الأصل كبيرة من الكبائر، فموالاة الكفار بهذه الصورة وكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عظيم حتى نزل فيه قرآن، ومع ذلك لم يسارع الرسول عليه الصلاة والسلام لإلقاء الخطبة على الصحابة عن حاطب: هذا المنافق الذي فيه وفيه وفيه وصار يكشف سرنا، ويفضحنا، ويوالى أعداءنا، وهو بيننا! لا! بل ربى أصحابه، قال: أين حاطب؟ هاتوه، بيننا وبينه أمتار، لا داعي أن نتكلم وهو غائب، تعال يا حاطب! ما حملك على ذلك؟ وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأسباب منها: أولاً: يمكن أن يكون الكتاب لم يكتبه حاطب بن أبي بلتعة وإنما كتبه شخص آخر وألصقه بـ حاطب بن أبي بلتعة، فإحضار الشخص وسؤاله يزيل هذا اللبس.
حاطب بن أبي بلتعة اعترف وأقر بالكتاب! ولكن تأتي نقطة أخرى: وهي يجب أن نعرف ما هي الدوافع، هل يكون حاطب بن أبي بلتعة فعلاً منافق يوالي الكفار؟ هل هناك أمر آخر دفعه إلى ذلك؟ {قال: ما حملك على ذلك؟ قال: والله يا رسول الله! إني ما كفرت بعد إيماني، ولا ارتددت، وإني أحب الله ورسوله، لكن ما من أصحابك من أحد إلا وله في مكة من يدفع الله به عن أهله وماله، أما أنا فليس لي أحد يدفع الله عني به، قال: فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وعلمت أن الله -تعالى- ناصر رسوله ومعلٍ كلمته} لأنه كان لصيقاً بالقوم وليس منهم -لم يكن من قريش- فخشي أن يعتدوا على أمه وعلى ماله الذي في مكة يقول أردت بها أن يدفع الله بها عن مالي وعن أهلي بهذا الكتاب، وفي الوقت الذي غلب على ظني أن هذا الكتاب لن يغير في الأمر شيئاً، فقدر الله نافذ، والله ناصر رسوله، ومعز دينه، ومعلٍ كلمته، فلن يضر هذا الكتاب في الوقت الذي أظن أنه ينفعني.
هذا خطأ كبير، لكن بعدما عرف السبب هان الأمر، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {صدق، صدق، لا تقولوا إلا خيراً} ثم نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات.
فلو أن واحداً من الناس اليوم حصل منه خطأ يشبه هذا الخطأ، لأفاض الناس في الكلام فيه والوقيعة، والذم، والشتم، والسب، وربما يكون أحدهم من جيرانه ومع ذلك لم يقرع عليه الباب ويدخل ويحادثه ويقول: يا أخي: الإنسان يخطئ، وكل بني آدم خطاء، ولا يغلبنك الشيطان -ومثل هذا الكلام الطيب اللين لا! إنما يسارعون في الوقيعة، والشتم، والسب!! وكأن الناس والعياذ بالله أحيانا يفرحون بخطأ الإنسان حتى يقعوا فيه، فهذا نموذج من التثبت والتبين الذي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه.(227/12)
أنواع التثبت
التثبت له أنواع كثيرة:(227/13)
التثبت في نقل أقوال أهل العلم
النوع الثالث من التثبت: التثبت في نقل أقوال أهل العلم؛ فإن أهل العلم إنما هم معربون عن حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهادهم، فالعالم عندما يقول: يحرم كذا، أو يجوز كذا، لا يأتي بشيء من جيبه، أو من كيسه! إنما يبين للناس حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يعلم، ولذلك يجب التثبت في نقل أقوال أهل العلم، فلا ينقل الإنسان رأياً أو قولاً أو فتيا أو حكماً إلا بعدما يتثبت منه، ويعرفه معرفة صحيحة دقيقة مضبوطة، فبعض الناس يقول قال: فلان وهو لا يعرف فلاناً هذا! ربما سمع رجلا يتكلم وظنه فلاناً، لكن لم يره ولم يعرفه ولو رآه لم يعرف شكله وهيئته، وبعض الناس قد ينقل بالواسطة فيقع الخطأ، والخلط، والظلم، والجور، والكذب على أهل العلم، وفي ذلك أخطاء كثيرة جداً سوف أشير إليها -إن شاء الله- فيما يأتي من الوقت.(227/14)
القسم الرابع من أقسام التثبت: التثبت في نقل أقوال الناس
أولاً: أقوال الناس لا يحرص الإنسان على نقلها إلا للحاجة، أما إذا كان على سبيل الإفساد فهو محرم، ولذلك جاء في الصحيحين من حديث حذيفة أنه كان في مجلس، فأقبل رجل، فقال بعض أصحابه: [[هذا الرجل الذي أقبل هذا ينقل الحديث إلى السلطان]] يعني أنه جاسوس يجلس معنا، وإذا سمع كلاماً نقله إلى السلطان، فلما جلس قال حذيفة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يدخل الجنة قتات} وفي لفظ {لا يدخل الجنة نمام} فإن النمام هو الذي ينقل كلام الناس على سبيل الإفساد، فينقل كلام هذا لهذا، وكلام هذا لهذا، ويوغر الصدور ويفتري على الناس، أو ينقل كلامهم الصحيح، ولكن بغرض الإفساد.
وكذلك ينبغي للإنسان ألا يتسرع بنقل كل ما يسمع، ولذلك في مقدمة صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كفى بالمرء إثما أن يحدِّث بكل ما سمع} كفى بالمرء إثماً أي من عظمة الإثم وشدته أن يحدث بكل ما سمع، فإذا سمع كلاماً ذهب يتكلم به، قبل أن يعرف أهو صحيح أم غير صحيح، أحق أم باطل، أثابت أم غير ثابت، أنافع أم ضار، فهذا الإنسان جعل نفسه بوقاً فهو مثل الببغاء، يسمع كلاماً فيردده من دون تبصر ولا تثبت! وهؤلاء في الواقع من أخس الناس وأردئهم وأحطهم منزلة عند الله وعند خلقة، الذين جعلوا من أنفسهم مجرد مترجمين لأقوال الناس، إذا سمعوا قولاً نقلوه بغض النظر عن تمييزه، عن كونه حقاً أم باطلاً، صواباً أم خطأً، صدقاً أم كذباً، نافعاً أم ضاراً، المهم أنهم يملئون المجالس بالقيل والقال.
وفي مسلم أيضا عن عمر وابن مسعود أنهما قالا: [[بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع]] يعتبر هذا كذباً، لأن ناقل الكذب شريكٌ فيه، والناقل لا شك يحمل جزءاً من المسئولية، فـ عمر وابن مسعود اعتبرا من ينقل الكلام ويردد كل ما يسمع شريكاً وكاذباً.
ومن الطرائف التي تروى، وتنقل في هذا الباب، وهي عجيبة: أن رجلاً من الوشاة الذين ينقلون الكلام وشى بـ عبد الله بن همام السلولي إلى زياد، قال له: إن عبد الله بن همام السلولي يتكلم فيك، ويغتابك ويهجوك في المجالس.
فدعا زيادٌ عبد الله بن همام السلولي، وأخفى الرجل الواشي في مكان من المجلس، وقال لـ عبد الله بن همام السلولي: بلغني أنك هجوتني، فقال: عبد الله بن همام السلولي: ما فعلت أيها الأمير، ولست لذلك بأهل، أي: لست بأهل أن تهجى؛ فأنت رجل فاضل، ما هجوتك، ولست كذلك بأهل لأن تغتاب وتهجى، وتسب ليس فيك أمورٌ ظاهرة تسب فيها.
فأخرج الأمير الواشي الذي نقل الخبر، وقال له: أخبرني هذا -وجهاً لوجه- وهذا أمر جيد، فإذا تناقل اثنان كلاما فهاتهم في المجلس، وقل: يا فلان! فلان يقول عنك: (كذا، وكذا) أهذا صحيح أم لا؟ وكما قال المثل: إذا تخاصم اللصان ظهر المسروق، إذا التقوا وأحرجوا، بان الكاذب من الصادق، فإما أن يقول هذا والله أنا أخطأت وكذبت، وإن شاء الله أعتبر هذا درساً لي وتوبة، وإما أن يصر ويقول أنا فعلاً سمعته ويعترف بذلك الآخر.
فلما أظهر هذا الرجل، وقال: إن هذا الرجل أخبرني، نظر عبد الله بن همام السلولي في الواشي ساعة ثم أطرق رأسه، وقال له: وأنت امرؤٌ إما ائتمنتك خالياً فخنت وإما قلت قولاً بلا علم لاحظوا الخيار: وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت، إما أن الأمر بيني وبينك أمانة سر فخنتها، وإما قلت قولاً بلا علم أي كذبت عليَّ.
فأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت وإما قلت قولاً بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة الخيانة والإثم فأعجب زياد بمنطق عبد الله بن همام السلولي، وأدناه وقربه وجعله من خاصته، وطرد هذا الواشي وأبعده.
وكذلك ما يتعلق بالتثبت من أقوال الناس، يدخل في ذلك التثبت من أحوالهم، فأنت مثلاً: قد تحتاج لمعرفة حال شخص من كونه غنياً، أم فقيراً، صالحاً، أم طالحاً، حليماً، أم غضوباً، وغير ذلك، فتحتاج أن تتثبت من الأمر، ولا تقبل فيه أي كلام، افترض أن رجلاً خطب منك يريد أن يتزوج، تأتي وتسأل أي إنسان فيقول لك: والله يا أخي! فلان هذا فيه، وفيه، وفيه، وقد يكون خصماً له، وقد يكون يبغضه في ذات الله فكرهه، وقال فيه ما قال فلابد من التثبت من أحوال الناس.
ومع الأسف -أيها الإخوة- أن السلف رضي الله عنهم كان منهجهم التثبت في كل شيء، حتى إن الخطيب البغدادي -وهذه من الطرائف- وغير الخطيب أيضاً فكل العلماء كانوا ينقلون الروايات، والطرائف، والنكت ينقلونها بالأسانيد، وهي عبارة عن نكت ما يقصد منها إلا أن يضحك الناس! اقرأ مثلاً كتاب تاريخ بغداد، أو كتاب التطفيل للخطيب البغدادي، أو غيره تجده ينقل النكت والطرائف: قصص أشعب، وقصص فلان، وقصص علان، ينقلونها بالأسانيد: حدثنا فلان، حدثنا فلان، حدثنا فلان أن أشعب مثلا دعاه رجل فقال: لا آتي إليك، فأنا أعلم أنك تجمع خلقاً كثيراً، أي إذا دعوت إلى مأدبة تجمع خلقا كثيراً وأشعب لا يريد الكثرة في المجالس، يريد على الانفراد ليكون أعظم للفائدة! فقال: أنا أعرف أنك رجل جموع أي إذا عزمت تجمع كثيراً، قال: أبداً لا أدعو غيرك، قال: فلما جلس المجلس، إذا بصبي يدخل في هذا المجلس، فقال أشعب لصاحب البيت: يا أبا فلان! هلمَّ إلىَّ، فجاء وجلس إلى جواره قال: ما عندك يا أبا العلاء؟ قال: ما هو الشرط الذي بيننا؟ قال: ألَّا أدعوَ أحداً، قال: فما هذا الصبي الذي دخل؟ قال: هذا ولدي رحمك الله، وفيه عشر خصال لا توجد في صبي: أولها: أنه ما أكل مع ضيف قط -هذه الخصلة الأولى: أنه ما أكل مع ضيف قط- قال له: كفى، كفى رحمك الله التسع الباقية لك! هذا الشاهد أنه يروى طرائف من هذا النوع، لا يقصد منها إلا إضحاك الناس، يرويها بالأسانيد: هذا ضعيف، وهذا صدوق! والناس اليوم قد يعتمدون على أمور عظيمة، قد يتكلم الواحد منهم بمثل ما ذكرنا في عالم من العلماء، أو داعية من الدعاة، أو مصلح من المصلحين، أو مجاهد أو شخص له بلاؤه في الإسلام وصدقه، وسابقته، فيروى عن الضعفاء، والمجاهيل، والكذابين، والمتروكين، بل قد يقول كلاماً بلا إسناد: فلان فيه كذا وكذا، هل رأيته؟ لا! -هل سمعته؟ - لا! -التقيت به؟ - لا.
من أين هذا الكلام؟! هذا مفارقة عظيمة بين ما كان عليه السلف من التورع، والتثبت في نقل الكلام حتى في أمور قد تكون أحياناً لا قيمة لها، وبين ما عليه واقع الناس اليوم من قبول كلام أي قائل بدون تبصر ولا تثبت.(227/15)
التثبت في النقل على الرسول صلى الله عليه وسلم
فالنوع الثاني: هو ضرورة التثبت في النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سبق التحذير من الكذب عليه فإنه من كذب عليه فإنه متوعد بنار جهنم، وأنه يتبوأ له من نار جهنم مقعداً، ولذلك كان السلف يتثبتون في الرواية والنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن عمر رضي الله عنه له مواقف خالدة في ذلك.
أذكر منها موقفاً واحداً فقط على سبيل التمثيل، وهو ما رواه الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر مرة، أو مرتين، أو ثلاثاً، ولم يأذن له، وكان مشغولاً ببعض أمره، ثم لما فرغ قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس أبي موسى؟ قالوا: بلى، قال: ائذنوا له، فوجدوه قد ذهب فدعوه، قال: ألم تستأذن؟ قال: بلى! ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} واستأذنت ثلاثاًَ فلم يؤذن لي فرجعت.
فقال له عمر: فلتأتيني بالبينة على ما قلت الآن -انتهينا من قضية الاستئذان لكن بقينا في الكلام الذي نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} تأتيني بالبينة وإلا لأفعلن بك، ولأفعلن -يهدده- فذهب أبو موسى رضي الله عنه فزعاً مذعوراً إلى ملأ من الأنصار، فقال: نشدتكم الله، هل سمع أحد منكم الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول كذا، وكذا.
قالوا: كلنا سمعناه.
فقال: إن عمر طلب مني البينة.
فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا، قم يا أبا سعيد فقام معه أبو سعيد الخدري، وقال لـ عمر: أنا أشهد أني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فإن أذن له وإلا فليرجع} فقال عمر: [[خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم]] ورجع يوبخ نفسه رضي الله عنه: [[خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني عنه الصفق في الأسواق]] يعاتب نفسه، يقول: ألهاني عنه البيع والشراء، وعمر رضي الله عنه ما كان يشتغل بالبيع والشراء عن مجالسة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هذا من باب التوبيخ للنفس.
ثم جاء أبي بن كعب وقال: [[يا ابن الخطاب: لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم]] لماذا تفعل هذا بـ عبد الله بن قيس، أبي موسى؟ فقال: [[إنني لم أتهمه، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد]] .
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: [[كنت إذا حدثني أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته، فإن حلف لي صدقته، وقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: {ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتوضأ فيصلى ركعتين ثم يستغفر إلا غفر له} ]] والحديث رواه أحمد، وأصحاب السنن، وسنده صحيح.
وعلي رضي الله عنه كان إذا حدثه أحد من الصحابة يقول له: احلف بالله! فهو لا يتهم أي أحد من الصحابة، لكن من باب التثبت، والآن الواحد منا لو قال لإنسان خبراً، ثم أراد هذا الإنسان أن يتثبت من الخبر من مصدر آخر.
قال: -فلان هداه الله- أقول له ولا يصدقني! ليس هناك مانع، ليس المعنى أنه كذبك، لكن ربما تكون وهمت! ربما تكون نقلت عن إنسان ليس بثقة! الاحتمالات كثيرة، ولذلك من حقه أن يتثبت، وأن يتأكد من الأمر، ولا يعتمد على مجرد خبر واحد في أمور قد تكون مهمة.
والأخبار في ذلك كثيرة، ذكر الإمام مسلم طرفاً منها في مقدمة الصحيح، أذكر منها قصة بشير بن كعب العدوي رضي الله عنه تابعي، كان في مجلس ابن عباس رضي الله عنه فكان يقول بشير: حدثنا فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وكذا حدثنا فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وكذا يسرد أحاديث كثيرة، وابن عباس يسمع، ويقول: ارجع إلى أحاديث كذا، ارجع إلى أحاديث كذا، أي أن ابن عباس ينتقي أحاديث قليلة ويترك الباقي، فبعد قليل قال بشير بن كعب العدوي: يا ابن عباس هل كل حديثي صدقته إلا هذه الأحاديث؟! أم كل حديثي رددته إلا هذه الأحاديث؟ فبشير بن كعب العدوي كأنه ما ارتاح لهذا المسلك من ابن عباس رضي الله عنه، كأنه ما أعجبه.
فقال ابن عباس رضي الله عنه: [[إنا كنا زماناً إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، ورفعنا إليه رءوسنا- كأنه يقول: إننا نعظم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام- فلما ركب الناس الصعب والذلول، وصاروا يتساهلون في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نأخذ من الناس إلا ما نعلم]] أصبحنا وإن سمعنا أحداً يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا نقبل كل ما نسمع لا نقبل إلا الكلام الثابت الذي نعرفه من طريق الثقات الأثبات العدول.
ولذلك قال ابن سيرين أيضا -كما روى مسلم وغيره- قال: [[إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم]] الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، [[ولما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم]] ومن هنا نشأ علم الجرح والتعديل: فلان ثقة، وفلان ضعيف، وفلان متروك، وفلان كذاب، وفلان كذا؛ وفلان كذا، نشأ من أجل معرفة الرواة الثقات فيؤخذ حديثهم، ومعرفة الرواة الضعفاء فيطرح حديثهم، حتى كان شعبة يقول كما ذكر الخطيب البغدادي في الكفاية وغيره: اجلس بنا نغتب ساعة، فيجلسون فيقولون: فلان ضعيف، وفلان متروك، وفلان كذاب، وفلان وضاع، وفلان ثقة.
ومرة كان ابن أبي حاتم يروى بعدما صنف كتاب الجرح والتعديل، يروى فلان فيه، وفلان فيه، فجاء رجل وقال: يا ابن أبي حاتم ماذا تصنع؟ يا ابن أبي حاتم لعلك تتكلم في رجال قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مائتي سنة فبكى ابن أبي حاتم رضي الله عنه بكاءً شديداً، والواقع أنه ليس المقصود الكلام في هؤلاء الرجال، قد يكون رجلاً من أهل الجنة لكنه ضعيف الرواية، كما قال الإمام مالك: [[أدركت بالمدينة سبعين يستسقى بهم المطر من السماء لا آخذ عن واحد منهم حديثا واحداً]] فهم: ناس صالحون إذا أردنا أن نستسقي نقدمهم يدعون الله تعالى، كما قدم عمر، العباس ليدعو في الاستسقاء، لكن لا يؤخذ منهم الحديث، لأنهم ليسوا من أهل الحديث.
وكذلك قال أبو الزناد: [[أدركت بالمدينة مائة من الصالحين لا يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليسوا من أهله]] ليسوا كذابين، وإنما فيهم غفلة -غفلة الصالحين- وفيهم سذاجة، فيأخذون عن كل من هب ودب، فلا يؤخذ عنهم الحديث، فمن هنا نشأ علم الجرح والتعديل.
وكذلك نشأ علم التصحيح والتضعيف، ومعرفة ما صح مما لم يصح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وشن العلماء حملة ضارية على رواية الأحاديث الموضوعة، وصنفوا في ذلك مصنفات كثيرة جداً، ليس هذا مجالها، بل سأخصص -إن شاء الله- درساً خاصاً عن الأحاديث الموضوعة، وعن الوضع في الحديث النبوي وأسبابه وما أشبه ذلك، ولكن المقصود أن العلماء كانوا يحذرون من ذلك، حتى إن ابن أبي حاتم يقول: سألت أبي عن رجل -سأل والده عن رجل- وهذا الرجل اسمه أبو مسروح شهاب، فقال أبو حاتم لولده: هذا ابن أبي مسروح لا أعرفه، ولكن يجب أن يتوب من حديث موضوع رواه عن الثوري، فبين أن رواية حديث موضوع إثم عظيم يجب التوبة منه، وصرح بذلك الذهبي وغيره من أهل العلم؛ أن رواية الأحاديث الموضوعة إثم عظيم يجب على من وقع فيه أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى منه؛ لأنه نوع من الفرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا يجوز رواية الحديث الموضوع إلا لبيان أنه موضوع، أما ما يتساهل به الناس من نقل الأحاديث الموضوعة في أبواب الترغيب، والترهيب، والوعظ وغير ذلك، فإن هذا من الإثم العظيم، وصاحبه خصمه يوم القيامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليبشر بالوعيد الشديد الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مقدمة صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فإنه أحد الكاذبين} أي يظن أو يغلب على ظنه، أو يعلم من باب أولى أن هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحد الكاذبين، الكاذب الأول هو المفتري المختلق، والكاذب الثاني هو الراوي الناقل الذي نقل هذا الكلام وهو يعلم أو يظن أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(227/16)
التثبت في القول على الله
منها: التثبت في القول على الله تعالى، وهذا من أخطر الأمور فإنه إذا كان كذب الشخص على إنسان مثله فيه من الخطورة ما فيه، حتى إنه من الكبائر العظام التي لا تغفر إلا بالتوبة، فما بالك بالكذب على الله تعالى؟ وذلك كفر بالله تعالى، ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] .
فجعل القول على الله بغير علم قريناً للشرك بالله تعالى، لأن الذي يقول على الله جعل نفسه مشرعاً مع الله، فإذا كان الإنسان يقول مثلاً: إن الله تعالى حرم هذا، وأباح هذا، واستحب هذا، وكره هذا.
أليست هذه تشريعات وأحكاماً؟ بلى.
فهو مثل الذين يضعون قوانين من عند أنفسهم، وينسبونها إلى الله عز وجل، ولهذا قال الله عز وجل عن اليهود والنصارى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] وذلك لأنهم أطاعوهم في الحرام والحلال، فأحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وهذه عبادتهم كما جاء في الترمذي من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقه صليب يلمع من الذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك، ثم وضع له وسادة فسمع الرسول عليه الصلاة والسلام يتلو هذه الآية، فقال: يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتطيعونهم؟! قال: بلى.
قال: ويحلون ما حرم الله فتطيعونهم؟! قال: بلى.
قال: فتلك عبادتهم} الحديث في المسند، والترمذي وغيره بألفاظ مختلفة، وهذا أحدها، وسنده لا بأس به إن شاء الله.
إذاً: القول على الله تعالى بغير علم بتحليل الحرام، أو بتحريم الحلال هو من أخطر الأمور، وهو من الكذب على الله- تعالى- إذا كان الإنسان غير متثبت؛ ولهذا قال الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] .
فاعتبر أن كون الإنسان يقول: هذا حلال، وهذا حرام بغير علم نوعاً من الكذب على الله {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] وقال في موضع آخر: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171] .
إذاًً: من أخطر أنواع التثبت التثبت في القول على الله تبارك وتعالى، فلا تقل: إن الله تعالى قال: كذا، ولم يقل.
قد ينتشر عند الناس قول منسوب إلى رب العزة جل وعلا، وهو غير صحيح، مثلاً: كثير من العامة أحيانا يجلسون إلى إنسان مريض فيقول: يا أخي يا فلان لم لا تتعالج؟ الله عز وجل يقول: (وجعلنا لكل شيء سببا) فإذا قلت له: هذه الآية في أي موضع؟ لم يحر جواباً، ولم يدر، والواقع أن هذه ليست قرآناً، ولا قالها الله عز وجل فيما علمنا من كلامه تعالى في الكتاب، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما شاع عند بعض العامة أنها من كلام الله تعالى وليست كذلك! ومن الطرائف أني أذكر -حين كنت صغيراً- أن أحد العامة جاء بهذه الكلمة وقال إن الله عز وجل يقول: وجعلنا لكل شيء سببا فقلت له: إن هذا ما قاله الله وليس في القرآن، فالتفت إليَّ، وقال: بلهجته: كل شيء تغير، الدين تغير، يقول: أنتم بدأتم تنكرون أشياء ثابتة!! هذا معنى كلامه، لماذا؟ لأنه اعتاد على ذلك وظنه صحيحاً، فهذا من القول على الله تعالى والكذب عليه.
وكذلك من الكذب على الله تعالى أن بعض الناس يروون الأحاديث القدسية التي فيها قال الله -تعالى- وليست صحيحة، وقد يكون الحديث القدسي طويلاً جداً، ولا يصح منه حرف واحد، والغريب أن الكذب في الأحاديث القدسية ربما يكون أكثر من الكذب في الأحاديث النبوية، أي أن نسبة الأحاديث القدسية الموضوعة إلى الأحاديث الصحيحة قليلة، فكثير من الأحاديث القدسية ضعيف، أو موضوع، وفيها الصحيح، لكنَّ كثيراً من الناس لا يتثبتون ولا يميزون بين هذا وذاك، مع أنه يكثر في الأحاديث القدسية الضعيف، بل ويكثر فيها الموضوع؛ فعلى الإنسان أن يتثبت ويرجع إلى كتب أهل العلم مثل كتاب ابن بلبان، أو كتاب الأحاديث القدسية، الذي نشره مجمع البحوث، ويتأكد من رواية الحديث، أهو صحيح أم غير صحيح؟ ومن القول على الله والكذب على الله، الكذب في الأحكام؛ بتحليل الحرام، وتحريم الحلال، والتسرع في ذلك من غير حجة ولا تثبت.(227/17)
وسائل التثبت
أنتقل إلى نقطة خامسة وهي وسائل التثبت: للتثبت وسائل، أذكر منها ما يلي (أذكر ثلاث وسائل فقط) :(227/18)
الوسيلة الأولى: الوقوف على الأمر بنفسك
أي إذا أخبرت بأمر، أو قيل لك قول، حاول أن تذهب إلى الأمر بنفسك لتقف على حقيقته -فإذا أُخبرتَ أنه وقع في مكان كذا، وكذا حادثة، اذهب إليها لتعاينها بعينك، أو أُخبرتَ أن فلاناً يقول كذا وكذا، اذهب إليه، وقل: يا فلان سمعت كذا، وكذا، أهذا صحيح أم لا؟ المهم أن تقف على الأمر بنفسك، وهذا هو أعظم الوسائل، وأولى ما يجب أن يسلكه الإنسان إذا كان ممكناً، أن لا تجعل بينك وبين أمر من الأمور واسطة، وهذا يعطي الناس ثقة بك، فأنت إذا قلت: حدث كذا، وكذا وسألك الناس: هل رأيت؟ قلت: نعم! رأيت بعيني، أو قالوا: سمعت؟ قلت: نعم، سمعت بأذني فتتعود أن تكون إنساناً متثبتاً تقف على حقائق الأمور بنفسك، ولا تعتمد فيها على الناس -ولو كانوا ثقات-، إذا أمكن أن تقف عليها بنفسك، فهذه هي الوسيلة الأولى، وسيلة الوقوف على الشيء بنفسك، سواء كان حادثة، أم حديثاً، أم خبراً، أم رأياً، أم غير ذلك.(227/19)
الوسيلة الثانية: الاعتماد على الرواة الثقات
وذلك لأن الإنسان قد لا يتمكن أن يتثبت من كل شيء بنفسه، قد يسمع عن أخبار بعيدة، وعلماء بعيدين، وعن أحداث في مناطق نائية وفي بلاد نائية لا يتمكن من الوقوف عليها بنفسه، وهنا ينتقل إلى الخطوة الثانية، وهي أن يعتمد على الرواة الثقات، الأوفياء، الأملياء، كما قال الأولون: [[إن كان صاحبك ملياً فخذ عنه]] إن كان ملياً فخذ عنه، أما إن كان إنسان مثل الريشة في مهب الريح فهذا الإنسان دعه وما جاء به.
فالوسيلة الثانية: هي الأخذ عن الثقات: اجعل رجال أسانيدك ثقات مأمونين، معروفين بالصدق والعدالة.
وهنا تأتي مشكلة.
ما معنى الثقات؟ بعض الناس لو وجد إنساناً صالحاً، مصلياً، متعبداً، ملتحياً، ملتزماً بالسنة، قال: هذا رجل صالح ظاهره العدالة.
لا! لا إذا كانت أموراً مهمة فلا تعتمد على مجرد ذلك، ولذلك قبل قليل ذكرت لكم كيف أن السلف كانوا يتقون الرواية عن بعض الصالحين، وذلك لعدم ثقتهم، لا لأنه صالح، لكنه ليس بثقة، مثلا: ذكر ابن عيينة أن شيخاً صالحاً كان بالكوفة يقول: كان عنده أربعة عشر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بها، قال: فزادت مع الوقت، زادت هذه الأحاديث حتى صارت أربعين، خمسين، ستين، وقال: فجاءه رجل قال: من أين لك هذه الأحاديث التي زادت؟ قال: هذا من رزق الله!! رجل مسكين يلقن أحاديث تدخل عليه، فيقبلها ويرويها، وهو صالح لكنه مغفل.
والناس -الصالحون وغير الصالحين:- ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الكذابون: وهذا قد يكون فيه تعبد من جهة، لكنه متسرع في الكلام، وربما يكون عنده معصية أو كبيرة الكذب، لأنه معروف أن العبد قد يجتمع فيه نفاق وإيمان، قد يكون زاهداً في الدنيا، لكنه يكذب، قد يقع هذا، وقد يكون إنسان طالباً للعلم، ولكنه قد يكذب أيضا، وهذا -مع الأسف- موجود، وإن كان -بحمد الله- قليلاً، لكن الناس منهم الكذابون الذين يختلقون الكلام، والذي يكذب، ويختلق الكلام، وهذا كما قال الشاعر: لي حيلة فيمن ينم وليس في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة الصنف الثاني: مغفلون: وهؤلاء المغفلون لا يختلقون الكلام ويكْذِبُونه، لكنهم أصابتهم غفلة، فصاروا يروون عن كل من دب ودرج، يُلَقَّنُون الأحاديث فيصدقونها، وإذا رأوا إنساناً، قالوا: حدثنا ثقة، وهو ليس بثقة!! وقد يخدعهم كثير من الناس، وقد رأيت كثيراً من القصص، والأخبار يتداولها الوعاظ، وتشيع عند الناس ويقول بعضهم: حدثني ثقة، وإذا تثبتت وجدت أن هذا المتحدث كذاب كبير! وقد وقفت بنفسي على حالات من هذا القبيل، اغتر بها بعض الدعاة والصالحين، من بعض الإخوة وصدقوها، لأن الذي تحدث بها شخص ظاهره التدين، وهو ملتحٍ، ومن الصالحين في الظاهر، لكنه يختلق الأحداث، ويروي الأباطيل والأكاذيب والموضوعات والأشياء التي فيها تهويل، وبعض الأشياء التي رواها عجز عقلي عن تصديقها؛ لأنها أشياء لا يدل عليها شرع، ولا عقل، وما ذكرت في التأريخ أنها حدثت، وهو يرويها وقع كذا، ووقع كذا، ووقع كذا، يقول: وقع أمس ووقع اليوم، فمن شدة كذب هذه الأشياء تأبَّي عقلي على تصديقها، وتبين بعد فترة أن هذا الرجل يختلق الكلام ويفتريه، ويُغرَّ به بعض الصالحين الذين ينخدعون بمظهره ومن تاب، تاب الله عليه.
لكن المقصود أن من الناس كذابون، ومن الناس مغفلون يصدقون الكذابين، فإذا رأوا إنساناً ظاهره الصلاح قبلوا عنه كل ما قال، دون أن يتثبتوا أو يمسوه، أو يعرفوا إن كان هذا الرجل فعلاً يضبط النقل والقول، أم هو إنسان ليس كذلك.
ومنهم صنف ثالث: وهم المتعجلون: والمتعجلون هؤلاء ليسوا كذابين، ولكنهم قد يروون الأمور على غير ما هي، فمثلاً قد يسمع كلاماً ونظراً لأنه متعجل فهم بعض الكلام، أو سمع أوله ولم يسمعه كله، فصار ينقله! أو رأى شيئاً فظنه على غير ما هو عليه، مثلاً: إنسان رأى في الشارع اجتماعاً، ورأى سيارات المرور والشرط، فجاء وقال: إنه حدث في مكان كذا وكذا حادث تصادم، ولما ذهبت وجدت أنه ليس هناك حادث تصادم لماذا؟ ليس هذا الإنسان اختلق! لكن هو رأى الزحام، والتجمع، والسيارات، فظن أنه حادث سيارة، وكان في الواقع أن هذا لسبب آخر وليس صداماً، فهو تعجل في خطف الأشياء، فهو من الخطافين الذين يروون بعض الأشياء وينقلونها دون أن يتثبتوا منها، ومثل هؤلاء يجب عدم التعجل في الأخذ عنهم.
أذكر أنني شخصيا وقفت، وبلوت أشياء من هذا القبيل، خذوا على سبيل الأمثلة: قال لي إنسان مثلاً أنه في إذاعة كذا، وكذا أذيع ونقل قصة مؤداها كذا وكذا، وفي الواقع أن هذه القصة من الغريب جداً أن تذاع في تلك الإذاعة مهما كان هذا الأمر فيها غرابة، فأنا أعلم أن الذي حدثني ليس بكذاب، لكني عرفت أنه سمع إذاعة أخرى، فظنها الإذاعة التي يقول، وكان الخطأ منه في معرفة أي الإذاعات التي سمع منها هذا الكلام الخطير الذي نقله.
مثل آخر: شخص قال لك: إنه سمع في إذاعة ما مثلاً إنه هناك أناس يقرءون القرآن على الموسيقي! هذا أمر عظيم أن يقع في المسلمين؛ لأن الكفار لا يفعلونه فضلاً عن المسلمين، وإن كان وقع في إحدى الإذاعات مرة فهو من الأخطاء التي نادراً ما تقع، لكن هذا الإنسان يقول أنا سمعت! فتبين أن هذا الإنسان تتداخل عنده الموجات، فيسمع إذاعتين في وقت واحد، ويقع عنده اللبس بسبب ذلك.
فلا تظن أنه إذا كان الذي أمامك رجل ثقة، وصدوق، معناه أن كل ما يحدثك به صحيح، لا! حاول أن تتثبت، وتتأكد، وتتحرى، وخاصة إذا كان الأمر الذي يحدثك به فيه شيء من الغرابة، والنكارة والمخالفة للمألوف والمعتاد، فحينئذ يجب أن تتحرى، وتتثبت أكثرَ، وأكثرَ.
الأمر الثالث: أنا قلت لكم ثلاث نقاط في الوسائل: النقطة الأولي -التي ذكرت- هي الوقوف بنفسك على الشيء.
النقطة الثانية: ألا تأخذ إلا من الثقات الأثبات المتثبتين.
النقطة الثالثة: هي التوقف.
لم يتبين لك الأمر، توقف حتى يستبين لك، وإن كان شراً، فعليك أن تقول: هذا بهتان عظيم، وتنكره ما دام يتعلق بأخيك المسلم الذي تظن به الخير، حتى يثبت لك خلاف ذلك.(227/20)
واقع الناس في موضوع التثبت
وواقع الناس في هذا الموضوع وفي غيره واقع محزن، كما قال الإمام أحمد: [[إنك في زمان قَلَّ أن ترى فيه شيئاًَ معتدلاً]] .(227/21)
سوء التربية
الناس يعانون اليوم من سوء التربية، فإن أكثر الخلق اليوم لم يوفقوا فيمن يربيهم التربية الصحيحة على الكتاب والسنة، فالرسول عليه الصلاة والسلام ربى أصحابَه وأصحابُه ربوا التابعين، والتابعون كان كل واحد منهم يربي من حوله أما الناس اليوم فإن كثيراً منهم قد يهتدي ويستقيم ويصلح، لكن لم يوفق بمن يربيه تربية صحيحة، ويجعله وقافاً عند حدود الله ويكون ظاهر الإنسان الاستقامة والصلاح، والمحافظة على الصلوات، لكن مع ذلك تجد عنده من الأخلاق الرديئة والأفعال السيئة المذمومة، والخصال المنكرة الشيء الكثير، فهم قد بلوا بسوء التربية، ولم يوفقوا بمن يأخذ بأيديهم إلى المسلك الصحيح.(227/22)
الفراغ
الثانية: أن الناس يعانون من الفراغ، أو كثير منهم يعانون من الفراغ، ليس عندهم ما يشتغلون به، لا من الأمور الدنيوية من صنعة اليد أو غير ذلك، ولا من الأمور الشرعية من التعلم والتعليم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وخاصةً الصالحين فربما يكون الفراغ عندهم أكثر من غيرهم، لأنهم ليسوا مقبلين على الدنيا، ولا منهمكين فيها، وأمور الخير اليوم قلت، فمن يريد أن يتعلم قد لا يجد المجالات التي تملأ فراغه، ومن يريد أن يدعو وينكر قد لا يجد الوسائل الممكنة دائماً، فيكون عنده شيء من الفراغ -والفراغ ولا شك- قاتل، وهو مدعاة إلى الانشغال بالكلام، نملأ الفراغ بالكلام في فلان وعلان، وقيل وقال، نعبئ بهذا الكلام الفراغ، ونعتقد أننا على شيء، لأننا نعتبر أن هذا غيبةٌ في الله! وكلام في بيان الحلال، والحرام، والحق، والباطل وإلخ.(227/23)
الإعلام
الأمر الثالث الذي به بلي الناس: الإعلام؛ فإن كثيراً من الناس أصبح الإعلام هو الذي يشكل حياتهم، فهم يسمعون، ويشاهدون أشياء كثيرة تؤثر فيهم أبلغ التأثير، ولا شك أن الإعلام العالمي تسيطر عليه اليهود في مراكز الإعلام في أوروبا، وأمريكا، وغيرها.
ووكالات الإعلام التي تنشر الأخبار، والأقوال، والتقارير وغيرها هي في غالبها وكالات إعلام يهودية، وحسبك باليهود في نشر الخبث، والشر، والفساد، والكذب، فيتلقى الناس أخبارهم عن الإعلام! ومع الأسف فإن المسلمين قد يتلقون أخبار إخوانهم المسلمين بواسطة الإعلام الغربي، فقد ينقل المسلمون أخبار الجهاد الأفغاني مثلاً، أو أخبار الجهاد في فلسطين، أو الفلبين، أو أخبار العلماء المجاهدين في أي بلد، بواسطة الغرب الذي يشوه الحقائق، ويقلب الحق باطلاً، وإذا رأى إنساناً صالحاً من أهل السنة والجماعة، وصفه بأنه أصولي، أو متطرف، أو متشدد، أو ما أشبه ذلك.
ولذلك أصبحت هذه المصطلحات نفسها تشيع في إعلام المسلمين، فتجدهم يقولون: مثلا، الأصوليون في أي بلد إسلامي: الأصوليون في مصر، الأصوليون في فلسطين، الأصوليون في أفغانستان! من هم الأصوليون؟ الأصوليون هم أهل السنة والجماعة.
طبعاً يعتبرون هذا عبارة ذم يسمونهم بالمتطرفين مثلاً، أو يسمونهم بالمتشددين، ويقابلونهم بالمعتدلين، والمعتدلون هم الذين لديهم استعداد لموافقة الغرب على ما يريد، والقبول بالحلول الاستسلامية -مثلاً- إلى غير ذلك، فأصبح الإعلام يؤثر في واقع الناس، ويتقبلون ما يأتيهم من الإعلام على أنه حق.
وقد قرأت -على سبيل المثال- وهذه نكته لكن انظروا كيف يشوه الإعلام في صحيفة عربية تصدر في الغرب، في فرنسا، كتبوا عن المسلمين في الجزائر وجهادهم، وسبوهم، وذموهم، وقالوا: إنهم استغلاليون، حتى إنه بلغ من استغلالهم أنهم (يعنون أن المسلمين في الجزائر) (أو دعاة المنهج الصحيح) عرفوا أن هناك منخفضاً جوياً، وأن هناك احتمالاً لهطول أمطار، فأعلنوا أنهم سوف يستسقون قبل ذلك بيوم، فأقيمت صلاة الاستسقاء في المساجد ودعا الناس، فبعد ذلك بيوم هطلت الأمطار، فاستغلوا هذا الكلام من الأعداء، قد يقرؤه إنسان فيصدقه ويظنه صحيحاً، والواقع أنه ليس كذلك، إنما هؤلاء قوم إن شاء الله -صالحون استسقوا فسقوا، لكن قلب الإعلاميون الخبثاء من أعداء الإسلام الحقائق، وزوَّروها، ولبسوها لبوساً غير صحيحه، وخدعوا بها بعض المسلمين وبعض الصالحين، ولذلك وقع الناس في أشياء كثيرة من ذلك.(227/24)
مشكلات يعاني منها الناس
وقد أشرت إلى أن الناس في هذا العصر يعانون من ثلاث مشكلات: أولاها: مشكلة الفراغ القاتل بالنسبة لكثير من الناس، حيث يجدون فراغاً في أعمارهم، وأوقاتهم يزجونه في الكلام في أمور لا طائل تحتها ولا جدوى من ورائها.
الثانية: هي قضية غياب التربية؛ حيث قلَّ المربون والموجهون والناصحون، وصار كثيرٌ من الناس يعتمدون على أنفسهم في هذه الأمور، ولا يتلقون التربية الصحيحة التي تحجزهم عما حرم الله وتوجههم نحو الأفضل.
النقطة الثالثة: هي هيمنة أجهزة الزور على عقول الناس وحياتهم، حيث تملي عليهم ما يقولون، وما يفعلون، وما يتصورون، وتؤثر فيهم تأثيراً بليغاً، وهذا لا يعني بالضرورة أبداً أن كل الناس متسرعون، متعجلون، كلا! فإن هذه الأمة لا تخلو من صنف من الناس يلتزمون سبيل المحجة، ويكونون قدوة حسنة لغيرهم، وما زال في هذه الأمة -بحمد الله- كثير من العلماء، وطلبة العلم، بل ومن العامة أيضاً -ممن يكون منهجهم التثبت، فإذا سمعوا قولاً استغربوه ونفرت منه عقولهم، فإنهم لا يتقبلونه حتى يتثبتوا منه: إما بسؤال صاحبه المختص به، أو بسؤال الثقات، فإن لم يستطيعوا هذا ولا ذاك، توقفوا عن هذا الأمر ولم يفيضوا فيه.
وهؤلاء بحمد الله موجودون، فليس الحديث حديثاً عن العامة كلهم، عن جميع الأمة، وإنما هو حديث عن بعض السلبيات التي توجد عند طبقات معينة من الناس.(227/25)
معايب الناس في موضوع التثبت(227/26)
التسرع في الفتيا
النقطة الثانية في واقع الناس في موضوع التثبت: هي قضية التسرع في الفتيا: أي عدم التثبت من الحلال والحرام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: {من أفتي بفتيا من غير ثَبْت، فإنما إثمه على من أفتاه} والحديث رواه ابن ماجة والحاكم، وسنده حسن، وله شاهد، وهو يدل على أن الإنسان إذا أفتى بغير علم، فإن الإثم على المفتي الذي ضلل وخدع السائل والمستفتي وأفتاه بغير ما يعلم، ولذلك نجد التثبت عند السلف الصالحين في موضوع الخبر والفتيا والنقل.
حتى قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: لقد أدركت عشرين ومائة من الأنصار في هذا المسجد -يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما منهم من رجل يحدث بحديث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا يفتي في مسألة إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الفتيا فيها، فكانوا يتدافعون الفتيا حتى تعود إلى الأول، ما منهم أحد يسرع إلى الفتيا، أو يتعجل فيها، أو يهجم عليها بدون علم ولا بصيرة.
وكانوا يكثرون من قول: لا أدري، حتى قال الإمام مالك: إذا ترك العالم (لا أدري) أصيبت مقاتله، أي: أنه تعرض للضرر العظيم، وربما وقع في ورطة لا مخرج له منها، كما أن مسلم ـاً رحمة الله عليه في مقدمة صحيحه من طريق عقيل صاحب بُهَيَّة، أن يحيى بن سعيد كان جالساً عند القاسم بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين فقال يحيى بن سعيد لـ القاسم بن عبيد الله: إنه لعظيم بك يا قاسم أن يسألك الناس عن أمر فلا يجدون عندك منه فرجاً ولا مخرجا! قال: وما ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى أبي بكر وعمر، لأن جده من الأب عمر بن الخطاب، وجده لأمه أبو بكر الصديق، فلا ينبغي أن تُسأل عن مسألة فلا يكون عندك فيها علم، فقال القاسم بن عبيد الله -وهذا يدل على فقهه-: [[أعظم من ذلك عند الله وعند من عقل عن الله أن أفتي بغير علم أو أن أحدث عن غير ثقة]] .
فإذا الناس يقولون: ليس عندي علم، هذا سهل، لكن أن أُفتي بغير علم، أو أُحَدِّثْ عن رجل غير ثقة -هذا أعظم عند الله، وعند من عقل عن الله عز وجل، فسكت يحيى بن سعيد فما أجابه، لأن هذا الكلام كلامٌ مُسْكِت.
ونحن نجد في موضوع التسرع في الفتيا، نجد أن كثيراً من الناس اليوم يقعون في عدم التثبت في ذلك، فمنهم من ينشرون الآراء الباطلة عن العلماء، وينقلون الفتيا دون أن يتثبتوا فيها، أو يتحروا وبسبب ذلك تجد كثيراً من الآراء الغريبة انتشرت عند الناس.
فقد سألتني امرأة قالت: إنني اليوم -وكان اليوم يوم الخميس- انتهيت من صيام أيام الست من شوال، وأريد أن أصوم غداً لسبب، نسيت لماذا تريد أن تصومه؟! لكن سمعت أن صوم الإنسان يوماً بعد ما ينتهي من الست أنه من الشرك.
أقول: ليست المسألة أنه حرام الآن، ولا أنه مكروه، المسألة أنه من الشرك! سمعت أن صيام يوم حتى الست أو بعد الجمعة أنه شرك بالله عز وجل! ولا شك أن هذا بسبب تسرع بعض العامة في نقل الفتيا دون أن يتثبتوا أو يتبصروا فيها.
وكثير من الناس -وهذا من أمثلة الفتوى التي ينقلونها بغير علم، أو فتوى عامي يعتقدون أنه يعرف فيقول بها وهو مستعجل-يرون أن زوج الأخت محرمٌ لها، لأنها تحرم عليه {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ويسمونه محرماً مؤقتاً، يرون أنه يجوز أن يسافر بها، ويذهب ويجيء ويخلو بها، لأنه لا يجوز له أن ينكحها، فيعتبرون هذه محرمية مؤقتة ما دامت أختها معه، ولا شك أن هذا باطل بإجماع أهل العلم، وإن كانت حراماً عليه، إلا أنه ليس محرماً لها، إنما هو بسبب التعجل في نقل أقوال وآراء العلماء، أو التعجل في الفتيا.
ومثله: أن كثيراً من العامة يشيع وينتشر عندهم أن فتح التمائم المعلقة -التي يعلقها بعض الناس في صدورهم، أو صدور أطفالهم- حرام! وهذا الشائع عند النساء، لأن بعض الذين يكتبون هذه التمائم لا يريدون أن يعرف الناس ماذا في وسطها، إما أن يكونوا كتبوا في وسطها خطوطاً، وطلاسم، وأشياء لا معنى لها، أو أن بعضهم -كما وقفنا- يكتبون أسماء عبرانية، وأشياء غريبة، وكلمات غامضة، وألغازاً، وبعضهم قد يكتب شيئاً من القرآن، لكن لا يريد أن يطلع عليه الناس، لأنه إذا عرف الناس أنه كتب قرآناً، قالوا: نحن نكتب قرآناً، ليس هناك داعٍ أن نذهب إلى فلان، فيريد أن يتوهم الناس أنه يكتب أشياء لا يعرفونها هم، حتى تستمر الحاجة إلى ذلك، فأشاعوا عند الناس أن فتح التمائم حرام.
وتلقى الناس هذه الفتوى بالقبول من غير تثبت فصار بعضهم يعتقد أنه إذا فتح الإنسان هذا الحرز، أو هذه التميمة سوف يصيبه شيء، أو يتعرض لمصيبة، أو لإثم عظيم على الأقل.(227/27)
رواية الأحاديث الضعيفة والموضوعة
النقطة الثالثة: في واقع الناس التي يخطئون فيها موضوع رواية الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وهذا يشيع عند الخاص والعام، فلكل صنف منهم نوع، أما بالنسبة للخاصة مثل الوعاظ والمذكرين والدعاة، فهناك نوع من الأحاديث الموضوعة ينتشر عندهم، وسأذكر الموضوع فقط بغض النظر عن الضعيف، فمثلاً عند الخاصة كما ذكرت من الدعاة، وطلاب العلم بالنسبة لهؤلاء ينتشر عندهم أحاديث تناسب موضوعاتهم.
فمثلاً إذا تكلم الواحد منهم عن الغناء ساق الحديث الذي يقول: (الغناء رقية الزنا) والواقع أن هذا ليس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الفضيل بن عياض رحمه الله، والغناء المعروف حرام لا شك، لكن فرقٌ بين تحريم الغناء، وبين أن نحتاج إلى حديث موضوع لنعزز به حكماً شرعياً! فالأحكام الشرعية ثابتة في الكتاب والسنة، ولا تحتاج إلى تعزيزها بأحاديث ضعيفة، فضلاً عن أحاديث موضوعة.
كذلك إذا تكلم واحد منهم عن عزل النساء وإبعادهن عن الرجال، استشهد بحديث: (باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء) ! وهذا أيضاً ليس بحديث فهو غير ثابت، كما ذكر ذلك العجلوني في كشف الخفا، (ونقله عن جماعة من أهل العلم) أنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال من الأحوال وليس له سندُ.
كذلك إذا أراد أحدهم أن يتكلم عن فضل صلاة الليل وأثرها علي العابد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار) وهذا حديث أيضا موضوع، ولوضعه قصة طريفة ستأتي في مناسبتها، وقد رواه ابن ماجة وغيره، وهو حديث موضوع، ولا يصح، ولا يجوز الاستدلال به، وعندنا في فضل قيام الليل آيات، وأحاديث تغني عن حديث موضوع.
كذلك من الدعاة من يستشهدون بحديث، أو يزعمون أنه حديث، وهو ليس بحديث (من قال: أنا عالم فهو جاهل) ! وقد ذكر ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثية أن هذا من كلام يحيى بن أبي كثير، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى صحيح على كل حال.
أما بالنسبة للعامة فحدث ولاحرج عن روايتهم الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة، وسأذكر طائفة من الأحاديث، وأود أن أنبه إلى أن بعض العامة يذكرونها على أنها ليست حديثاً إنما هي حكمة أو مثل، وهذا لا إشكال فيه، ولا بأس به، لكن إذا ذُكِر على أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا الخطأ والخطأ العظيم.
فبعض العامة يقولون: بارك الله فيمن زار وخفف! إذا قالوها على أنها كلمة جارية على الألسنة فلا حرج ولا بأس، فقد يأتيه ضيف ثقيل، ويطيل المقام عنده، ويجلس أربعة أيام بلياليها، فيقول له: بارك الله فيمن زار وخفف! لا بأس بذلك، ما دامت كلمة تقال، أو مثلاً يقال، ولكن أن ينسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا شك أنه غير صحيح، كما ذكر ذلك العجلوني وغيره أنه ليس بحديث.
أيضاً مما نسمعه على ألسنة العامة أن بعضهم يقول: ريق المؤمن شفاء، وبعضهم يقول: لعاب المؤمن شفاء، ولكن عند عامتنا في نجد يقولون: ريق المؤمن شفاء، وهذا أيضاً ليس بحديث، فإن قالوها على أنها كلمة فهذه لا أقول: إنها تصح، بل فيها تفصيل.
ريق المؤمن يعني قراءته للقرآن ونفثه فهذا صحيح؛ فالرقية مشروعة، أما إن قصدوا الريق بذاته فذلك ليس بصحيح، ليس شفاء إلا مع القرآن، أما بذاته فليس شفاء إلا مع شيء من الذكر والقرآن والدعاء أو ما أشبه ذلك.
ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبل إصبعه، ويضعه في الأرض، وهو يقول: {تربة أرضنا في ريقة بعضنا يشفى بها سقيمنا بإذن ربنا} فيما أذكر من الحديث.
إذاً الريق ليس شفاء بذاته إلا إذا كان معه شئ من القرآن والذكر، أما أن ينسبوا هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ريق المؤمن شفاء.
فهذا باطل لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك السخاوي في المقاصد الحسنة.
ومن الموضوعات التي تشيع على ألسنة العوام، يقولون: الناس بالناس والكل بالله! بمعنى أن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض والجميع محتاجون لله جل وعلا، وقد ذكر الغزي أنه ليس بحديث، ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الناس.
قل مثل ذلك في المشهور: حب الوطن من الإيمان وهذا باطل موضوع، كما ذكر جماعة من أهل العلم منهم السخاوي، والصاغاني، وغيرهما أنه حديث موضوع، والأحاديث الموضوعة على ألسنة العامة كثيرة، فإن صرحوا برفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز، وينبغي الإنكار عليهم.
والأغرب والأدهى من ذلك، والأمَر أن بعض العامة لا يكتفون بنسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ينسبونها لرب العالمين، قال لي أحد الشباب: إن أبى يقول: قال الله، ثم يأتي بحديث، فإن قلت له: هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بهذا من عنده، كله من عند الله! فينسب الحديث إلى الله عز وجل.
فهذا لا يجوز، بل إذا قلت: (قال الله) فلا تقل إلا آية محكمة، أو حديثاً قدسياً ثبت بسند صحيح، وإلا فما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ينسب إليه؛ لأنه من عنده صلى الله عليه وسلم والله تعالى أقره عليه، أو قد يكون ألهمه إياه، والمهم أنه لا ينسبه إلى الله تعالى قولاً.
ومن الأشياء التي تزعج وتحزن كثيراً: أن أكثر ما ينتشر من الأوراق والنشرات المتداولة عند الناس، هي من الأحاديث الموضوعة، ويا سبحان الله! لو كتب الإنسان حديثاً من صحيح البخاري في ورقة ونشره فقد يوزعه إلى عشرة، أو عشرين، ثم يتوقف، لكنه إذا كتب حديثاً موضوعاً يوزع بالألوف، وتجده في مدارس الأولاد، ومدارس البنات، وفي الطائرة، وفي السوق، وفي المسجد، وفي الجامعة، وفي كل مكان! حكمة لله جل وعلا! والسبب في ذلك، أن الأحاديث الموضوعة -والله تعالى أعلم- يكون فيها من التهاويل والمبالغات والخزعبلات ما يتناسب مع عقول السذج والبله، فيسرعون في نشرها، أما الحديث الصحيح، ففيه من الرزانة والوقار ما يجعل عين هذا العامي قد تقرؤه، ولا تتحرك له؛ فلذلك لا يسارعون في نشره.
وقد أعطاني شابٌ في الجامعة حديثاً مكتوباً في صفحة عن خالد بن الوليد أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله! كيف أكون أعلم الناس؟ قال: اعبد الله تكن أعلم الناس، فقال كيف أكون أورع الناس؟ وهكذا كيف أكون اتقى الناس؟ صفحة كاملة حوالي خمسة وثلاثين أو ثلاثين سؤالاً، يقول الأعرابي: مثلاً كيف أكون أغنى الناس؟ أعلم الناس؟ أتقى الناس؟ أعبد الناس؟ أورع الناس؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يجيب بذلك، وكلها أشياء لغتها ركيكة، ومعانيها باهتة، وواضح جداً أنها لا يمكن أن تصدر عن مشكاة النبوة، فبمجرد ما رأيته، قلت له: هذا حديث موضوع، والغريب أن الحديث مكتوب فيه (رواه الإمام أحمد بن حنبل) فرجعت للمسند، رجعت إلى فهارس المسند: فهرس بسيوني، حمدي السلفي - فلم أجد لهذا الحديث أثراً، ثم رجعت إلى مسند خالد بن الوليد في مسند الإمام أحمد، وهو قليل، فلم أجد هذا الحديث، وبحثت عنه في عدد من الكتب، فلم أجد هذا الحديث، وقد يكون موجوداً في كتب الموضوعات، لكن الحديث مما يُجزم ويُقْطع بأنه باطلٌ ومكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أفادني الأخ بأنه يُوَزَّعُ بكميات كبيرة.
وقبله بأسبوع أعطاني أحد الشباب نشرةً حوالي خمس ورقات من الحجم الكبير فيها حديث وجزل والذي وضع هذه الأحاديث -لا كثر الله من أمثاله- قد وضع حديثاً مختلقاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في مجلس، فدخل عليه الشيطان إبليس، وقال له: إن الله تعالى أمرني أن آتيك وأصدقك في الحديث، وتوعدني إن لم أفعل فإنه سوف يهلكني ويحرقني وكذا، وكذا، فالآن أنا بين يديك سلني أجبك، فبدأ الرسول -على حسب ما يزعم واضع الحديث- يسأله عن سبب إغوائه الناس، وطريقته مع الشباب، ومع الكبار، ومع التجار والملوك والأمراء والسوقة والنساء ومع ومع والشيطان في هذا الاستجواب يجيب ويبين، حتى أن الأمر تطور، وأصبح الشيطان يبين أجور الأعمال! فهذا الواضع -مثل ما قلت لكم قبل قليل- كذاب ولا يحسن الكذب! فبدأ يقول: إنه من فعل كذا له من الأجر كذا، ماذا يدريك عن الأجور؟! إنَّ الأجور عند الله عز وجل، فإبليس شيطان رجيم لا يعرف الأجور، ولا يدري ما مقدار الأعمال الصالحة وثوابها عند الله جل وعلا! إنه حديث موضوع مكذوب مختلق، وقد أفادني أنه يوزع، وينشر في عدد من البلاد التي يحتاج أهلها إلى التوعية والتنوير، وشئ من ذلك كثيرٌ جدا.
ولعلكم تذكرون أيضاً النشرة التي وزعت وفيها عقوبات النساء: المرأة التي معلقة بثديها، والأخرى معلقة بشعر رأسها، والثالثة معلقه بعرقوبها، ورابعة، وخامسة، وعاشرة، وهو حديث إذا قرأته تشمئز منه، وتشعر بأنه باطل، وأنه موضوع، وأن فصاحة الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلاغته لا يمكن أن يصدر منها مثل هذا الكلام الركيك، ومع ذلك هو مكتوب، ويوزع بكميات كبيرة.
فينبغي التثبت من مثل ذلك، وخاصة في موضوع هذه النشرات التي تنشر، وتقال، وعدم المشاركة، أو المساهمة في نشر شيء منها إلا بعد التحري، ومعرفة إن كان صحيحاً أم مكذوباً.(227/28)
التساهل في النقل والتوسع فيه
نقطة أخرى في موضوع واقع الناس: موضوع التساهل في النقل والتوسع فيه، وفيما يروى كما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، يقول: إن عيسى عليه السلام مرَّ ومعه قومه، فقال لمن حوله: لو مررتم برجل نائم وقد كشفت الريح بعض ثوبه، وبانت عورته، ماذا كنتم تصنعون؟ قالوا: كنا نرده عليه -نغطيه- قال: بل كنتم تكشفون ما بقي، يقول عيسي: بل كنتم تكشفون ما بقي!! إن فئة من الناس إذا علموا بعيب لم يستروه، بل زادوه من عندهم عيوباً، ونشروه وأشاعوه بين الناس، ويحرصون على ذكر السيئات وستر الحسنات، وهذا خلاف الواجب للمسلم كما قال محمد بن سيرين رحمه الله: [[إنه ظلم لأخيك أن تذكره بأقبح ما تعلم، وتنسى أحسنه]] .
وقد ذم الأقدمون من الشعراء وغيرهم مثل هذه النوعية من الناس، يقول أحدهم: ما بال قوم لئام ليس عندهمو دينٌ وليس لهم عهد إذا اؤتُمنوا إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا منا وما سمعوا من صالح دفنوا إذا سمعوا الريبة والشك نشروه وفرحوا به، وإذا سمعوا الأمر الصالح دفنوه وستروه عن الناس.
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أَذِنُوا (صُمٌّ إذا سمعوا خيراً ذكرتَ به) أي ليس لهم آذان فلا يسمعون، (وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا) أي: سمعوا وأنصتوا.
وهذا يدل على عيب الإنسان نفسه؛ أي إذا وجدت الإنسان لا يقع إلا على الأخطاء، فاعلم أن ذلك لعيب في نفسه؛ فإن الإنسان الناقص هو الذي يبحث عن نقائص الآخرين، ويذمهم بما فيهم وبما ليس فيهم.
أما الإنسان الذي هو أقرب إلى الكمال، فإنه يذكر محاسن الناس، ويعرض عن مساوئهم، فلا يذكرها إلا بقدر الحاجة، ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يذكر عنده أحدٌ بسوء، ولا يُتكَلم في عرض أحد وهو حاضر عليه الصلاة والسلام، ولا يحب أن يذكر عنده أحد بسوء، ولا أن يُنهش عنده عرض، ولا أن يُذَم عنده مسلم، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم!! وبعض الناس إذا سمعوا نقلاً، أو قولاً، أو قيل لهم في شئ، ردوا بأبشع ما يقال، فإذا قيل: إن فلاناً يقول فيك كذا، وكذا، وكذا، فإن هذا الإنسان الذي قيل فيه ما قيل، يرد كما يقال: يرد الصاع صاعين، وهذا ليس هو الأدب الواجب.
يُرْوَى أن أم الدرداء رضي الله عنها جاءها رجل، وقال: إن فلاناً يقول فيك كذا وكذا، وكذا فذكر فيها كلاماً باطلاً فقالت له أم الدرداء رضي الله عنها: [[إن نُؤْبَن بما ليس فينا، فطالما مُدحنا بما ليس فينا]] أي كما أن هذا سبني وذكر أشياء ليست موجودة عندي، كذلك هناك ناس مدحوني، وقالوا فيّ أشياء ليست موجودة عندي، فهذه بهذه، هذه تقاوم هذه، ولم تسمح لنفسها أن تعلق على الموقف بشيء آخر.
وهناك رجل آخر قيل له: إن فلاناً يقول فيك كذا وكذا، وكذا، فقال: [[ألهاني عن الرد عليه ما أعلمه من نفسي]] ألهاني عن الجواب على هذا الإنسان ما أعلمه من نفسي، فلديَّ عيوب هو لا يعلمها، ولا قالها حتى الآن، فمعرفتي بعيوبي ألهتني عن الرد على الآخرين.
ومن طريف ما يروى في هذا الباب ما ذكره ابن حبان في نزهة الفضلاء، يقول: إن الشعبي -الإمام المعروف- كان في مكان، وإلى جواره قوم بينه وبينهم جدار ساتر، فلم يعلموا بوجوده، فكانوا يقعون في عرضه، ويتكلمون فيه، فانتظر لعلهم أن يسكتوا، ولكن القوم أفاضوا واستمروا! فطلع عليهم الشعبي برأسه وقال لهم: هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مخامرٍ لِعَزَّةَ من أعراضنا ما استحلتِ ففوجئوا بذلك، وأسفوا، وندموا، واستحلوه، وعاهدوه على ألا يعودوا لذلك، فسامحهم في ذلك.
إذاً: خلاصة ما سبق: أن الإنسان يجب أن يحرص على أن يكون متثبتاً في الأخبار، ولا يتعجل في قبولها، وإن وجدت بعض أمائر الصدق، حتى يجد لذلك حجة قويةً، وإن كانت الأخبار تتفاوت، فهناك أشياء بسيطة لا يترتب على تصديقها ضرر كبير، لكن هناك أشياء كبيرة وعظيمة تتطلب قدراً من التثبت والتحري.
وإنني أذكر لكم قصة قصيرة أو صغيرة وقعت لي يكتشف الإنسان منها عبرة: في أحد الأيام واعدني شابٌ لا أعرفه، لكنه اتصل بي، وأصر على أن يلتقي بي لأن عنده مشكلة -كما يقول- وأخبرني باسمه، وكان اسمه -مثلاً- اسمه عبد الرحمن، واسم العائلة التي هو منها يبدأ بحرف معين لنفترض حرف الشين، وهو يأتي من بلد آخر، فلنفترض أنه يأتي من الرياض، ووعدته وقتاً معلوماً، ففي الوقت نفسه، جاء إنسان بالاسم نفسه، وعائلته أولها هو أول اسم العائلة الثانية شين أيضاً، وهو من البلد نفسها، ولم يكن هناك أية صلة، ولا لقاءٌ سابق، وأخلف الأول الموعد، فلو فرض أنه كتب ورقة مثلاً، وقال: أتيت ولم أجدك، وكتب مثلاً عبد الرحمن، ثم كتب الشين من الرياض، لما كان هناك أدنى احتمال أن الأمر سيكون عندي أن الرجل الذي ضربت معه الموعد جاء ولم يجدني، والواقع أن هناك شخصاً آخر.
فهذا يجعل الإنسان دائما يدرك أنه قد يوجد بعض القرائن توهم الإنسان بشيء، لو جمعها ظن الأمر هكذا، القضية هكذا، رأيت فلاناً -خرج فلان، دخل فلان، وقف فلان، وفلان قال، تفسر هذا الأمر تفسيراً بحسب ما في ذهنك، لكن لو أعطيت نفسك فرصة أن تتثبت فلا تتعجل في الأمر حتى ينجلي الأمر تماماً ويبرح، لوجدت في كثير من الأحيان قد يتوقع الإنسان الأمور علي غير ما هي عليه، قد تأتي الأمور في حقيقتها على غير ما توقعها الإنسان، ولذلك لا يندم أبداً الإنسان الذي يتثبت من أموره.(227/29)
الإختلاق والكذب
وهذه من أخطر ما يكون أن بعض الناس إذا وجدوا في من يكرهونه -إما لمنافسة، أو لرياسة، أو لدنيا- عيوباً نشروها، وأفاضوا في الحديث عنها، وإذا وجدوا حسناتٍ ستروها وأخفوها، فإن لم يجدوا اختلقوا وكذبوا، ونشروا هذه الأكاذيب التي افتعلوها، فصار شأنهم كما قال الأول: إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا فهم بين ثلاث: إن علموا خيراً أخفوه -ستروه-، لا يعجبهم أن يُتحدث عن شخص يكرهونه بخير أبداً، وكأن هذا الذي يكرهونه تحول في نظرهم إلى شيطان رجيم، والعياذ بالله! وإن علموا شراً أذاعوا، ونشروا، وإن لم يعلموا شراً كذبوا واختلقوا، ونشروا هذا الإفك الذي اختلقوه.
ولا شك أن هذا يقع بالنسبة للعامة، لكنه يكون أخطر ما يكون إذا تعلق بالعلماء، وطلاب العلم والدعاة فإننا نجد كثيرا من الناس -مع الأسف الشديد- من المسلمين من يتناولون الزعامات الدينية من العلماء والدعاة والأئمة، بألسنة حداد، وقد تأملت الكلام الذي يقال في العلماء وطلاب العلم والدعاة، فوجدته يتراوح بين أمور خمسة غالباً:- فمنهم من يتهم العلماء بالمداهنة، فيقول: إن العلماء يجالسون السلاطين والأمراء، ويحضرون إليهم، فلا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، فيتهمهم بالمداهنة، والسكوت عن الحق والرضا بالباطل، ولسنا نقول: إن الأمة بريئة من هذا الصنف، بل إنه منذ العصور الأولى كان يوجد من يجامل ويداهن، ولذلك كان من السلف من يكره الدخول على السلاطين، وحضور مجالسهم، لما فيها من منكر لا يستطيع له رداً.
لكن لاشك أن علماء كثيرين في هذا العصر، من علماء أهل السنة والجماعة، من لهم قدم صدق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب على علية القوم، والقول بالحق والصدع به، لكن: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب فالعيب عند هؤلاء أن علماءنا لا يتكلمون بما يفعلون، فالواحد منهم إذا نصح، وأمر، ونهى، لم يقم أمام الناس، يقول: أنا قلت وفعلت، وفعلت؛ لأنه إنما فعل ما فعل لله تعالى، ولهذا كان أحرص على كتمان عمله، وعدم إظهاره، مِن إظهاره، ورأى أن المصلحة في الكتمان، لأنه أدعى للقبول، وليست القضية قضية تشهير، فإذا احتج بعضهم، وقال: لماذا العلماء يبقون فيما هم فيه؟ فإننا نقول: إنهم رأوا المصلحة فيما يفعلون، وهذا اجتهاد سبقهم فيه جماعات كثيرة من السلف.
فإننا نجد من علماء السلف من رأى أن الدخول مع السلاطين والمشاركة لهم والجلوس إليهم وتولي أعمالهم، أن فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، ومن هذا الصنف خلق كثير من السلف في عهد بني أمية وبني العباس وغيرهم، ومثل هذا الصنف لا شك مضطرٌ إلى السكوت عن بعض الأشياء وتأجيل أمور أخرى وتقديم الأهم فالأهم؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن ينكر المنكرات كلها دفعة واحدة، ولكن لا بد من التدرج ومراعاة واقع الحال وتقديم الأهم على المهم.
النقطة الثانية التي قد يتهمونهم فيها: قضية المال؛ فإن من الناس من يقع في أعراض العلماء، ويدعي أنهم يجمعون المال من حله ومن حرامه، والذي نعلمه من علمائنا خاصة علماء هذه الجزيرة، ولست أقول هذا تعصباً لهم، كلا! فإننا نعتبر أن كل سائر على السنة في شرق الأرض أو غربها هو من علمائنا الذين ندين بحبهم ونشهد الله على ذلك ونتعبد به، أياً كان لونه، وأياً كانت بلده، وأياً كانت لغته، لا يعنينا ذلك في شيء، لكن أتحدث عما أعلم، أما ما لا أعلم فلا أقول عنه شيئاً، فالذي نعلمه من علماء هذه الجزيرة أن فيهم طائفة صالحة من العلماء جعلوا الدنيا تحت أقدامهم، فإذا أتيت إلى أحدهم وجدته يسكن في بيت متواضع أو عادي، فإذا نظرت لم تجد هذا الرجل مشتغلاً بمال، لا بمؤسسات، لا شركات، ولا مساهمات، ولا غير ذلك، بل إنني أعلم من كبار العلماء المشاهير من يحتاج أحياناً إلى أن يستدين خلال الشهر حتى يأتي الراتب، وهو عالمٌ مرموق، لو أراد الدنيا لانقادت له، ولكنه أعرض عنها، ورضي بما عند الله عز وجل، في حين نجد غيرهم من جميع الأصناف، أصناف الناس، من ولغوا في الدنيا، وركضوا إليها، وركنوا إليها، فلا نكاد نجد من يتحدث عنهم، إنما الألسن سريعة إلى أعراض العلماء، وهذا لا شك لا يبشر بخير.
المأخذ الثالث الذي تجد من يأخذه عليهم: مأخذٌ يتعلق بالسلوك، فإن من الناس من يحاول أن يلصق بالعلماء معايب ومآخذ في سلوكهم، ومسيرتهم العملية، وتعبدهم وغير ذلك، وهؤلاء العلماء أيضاً مهما يكن فيهم، فهم خير الناس، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] مع قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] .
فعُلم أن العلماء خير البرية، فإن كان فيهم نقص، فالنقص في غيرهم أعظم، وأعم، وأطم؛ مع أننا نجد أيضاً أن كثيراً من العلماء مسلكهم حميد، وأن ما يشاع عنهم إنما هو بسبب عدم التثبت وعدم التحري.
وأذكر قصة طريفة في ذلك: أحد الناس يتبجح في مجلس، ويقول للحاضرين: هؤلاء العلماء، والدعاة الذين تحسنون الظن بهم، وتوقرونهم، وتجلونهم متناقضون، قالوا له: ما آية ذلك؟ ما آية تناقضهم؟ قال فلان: -وسمى رجلا- الذي وقف ضد الاختلاط في الجامعات، وحاربه وجاهد في سبيل ذلك -بنته تدرس في جامعة مختلطة، فقال له: بعض الحضور كذبت؛ لأنه عقيم لا يولد له، هذا الذي تدعي أن ابنته تدرس في الجامعة عقيم لا يولد له ولد! فكثيراً ما يزن بعض أهل العلم، والدعاة بمعايب في سلوكهم أو أخلاقهم، وهم منها براء، إنما يفعل ذلك من لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون.
المأخذ الرابع الذي يوجد من يعيبهم به: هو في قضية الفتوى، والكلام في موضوع الفتوى يطول، فإن الناس بسبب جهلهم يستغربون بعض المسالك من العلماء، فمنهم من يتعجب من اختلاف العلماء في الفتوى، لماذا يفتي هذا بشيء، ويفتي آخر بغيره؟ وهذا أمر طبيعي سبق أن بينته في مناسبات عدة، لا داعي لذكر السبب في ذلك، وهو أمر غير مستغرب، أن تختلف اجتهادات العلماء في المسألة الواحدة، ويفتي كل واحد منهم بما ظهر له من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يدعي أنهم يفتون بحسب الواقع، بمعنى أنهم يخضعون للواقع، وهذا من الخطأ أيضا، فإن الفتيا لا شك هي فتيا بحسب الحال التي يسأل عنها، وقد يكون الشي حلالاً في حال، حراماًً في حال أخرى، بل قد تقتضي المصلحة منع شيء في بلد ولو كان موجوداً في بلد آخر، وعلى هذا تنزل فتاوى كثير من العلماء الذين يمنعون بعض الأمور مراعاة للضرر الناجم عنها في بعض البلاد، ولو كانت موجودة ومباحة في بلد أخرى، أو يمنعونها في حال ولو أذنوا بها في حال أخرى؛ فإن الفتوى تتغير لا شك بحسب حال السائل، ونوعية سؤاله، والظروف المحيطة به؛ لأن الفتوى إنما هي تنزيل حكم الله ورسوله على واقع الناس أفراداً وجماعات.
ومنهم من يتهم بعض العلماء بأنهم يفتون بحسب أهواء السلاطين، وهذا أيضاً إن وجد في بعض البلاد، فوجدت من تتجارى بهم الأهواء، ويسارعون في هوى سادتهم، إلا أننا نجد كثيراً من علماء أهل السنة والجماعة في سائر الأقطار والأمصار يصدعون بكلمة الحق، ولو أغضبت أنوفاً كثيرة، وقد يدفعون ثمنها من حرياتهم، وأموالهم، وأرزاقهم، ووظائفهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل.
النقطة الخامسة: التي كثيراً ما دندنوا حولها، فهي الكلام عن مذهب وطريقة العالم: بمعني أنه إذا كان هناك عالم مصلح مجدد، جمع الناس على الكتاب والسنة، وغيّر ما يوجد في واقعهم من البدع والخرافات والانحرافات، فإنك تجد خصومه وأعداءه ينشرون عنه قالة السوء، فيتهمونه بأنه مبتدع، وأنه منحرف، وأنه يدعو إلى مذهب جديد إلى غير ذلك من الأقاويل! ولعلكم تعرفون جميعاً الكلام الذي قيل عن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، كم من فرية نسبت إليه!! وقد وقفت بعيني على كتاب كتبه أحد علماء ذلك العصر الذي جاء بعد الشيخ وهو مشهور معروف، ومع الأسف أنه يعد من العلماء، ويشار إليه بالبنان في ذلك الوقت، وقد قال كلاماً لا يمكن أن يقبله عقل أي عاقل، وإنما اختلقته أهواء الذين يبحثون عن رغبة هذا العالم، ورضاه، ثم صدقه هو وسَوَّدَ به صفحات كتابه، وهو كلام مما لا يمكن أن يتصور أنه صحيح بحال من الأحوال، حتى إنه قال -بلغت به الوقاحة- وهذا قرأته كما قلت لكم بنفسي -أن يقول: إن محمد بن عبد الوهاب في حقيقته يدعي النبوة، لكنه لم يتجرأ على أن يدعيها، فبدأ يتدرج.
وهذا من الإفك، والبهتان العظيم، ولا شك أن الله سائله عن مثل هذه الكلمة العظيمة، الوقحة! وفي الكتاب نفسه يقول: إن محمد بن عبد الوهاب كان يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إنه كان عنده مؤذن أعمى يقول: وكان هذا المؤذن الأعمى حسن الصوت، وسوف تعرفون لماذا أثنى علي هذا المؤذن بأنه حسن الصوت، وأظنه قال: إنه رجل صالح أيضا، حتى تتم حبكة هذه الأكذوبة، فيقول: كان هذا الأعمى إذا انتهى من الأذان، قال (اللهم صل وسلم على سيدنا محمد) فنهاه محمد بن عبد الوهاب، كما يدعي هذا الكذاب فلم ينتبه، فلما نزل من المنارة في أحد الأيام نزل له، وأخذ السكين وذبحه كما تذبح الشاة، من يتصور هذا؟ كذب فوق مستوى التصديق!! بعض الكذب يمكن أن يصدق، لكن هناك كذباً يبلغ من شدة كذبه أن العقول لا تقبله، وهذا من رحمة الله أن بعض الناس لا يحسن الكذب، فإذا كذب افتضح كذبه، وقال: إنهم غضبوا على امرأة فحلقوا شعرها!! فهذا من الكلام الذي اختلقته عقولهم! أن هؤلاء القوم قصدوا بإشاعة مثل هذه الأكاذيب تحذير الناس من قبول الحق، وتسميم عقولهم عن هذه الدعوة المباركة حتى لا يقبلوها أو يفكروا في النظر فيها، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] فهاهي الدعوة الإسلامية التي صدع بها هذا المجدد تشرق أنوارها في شرق البلاد وغربها، على الرغم ما أشيع حولها من قالة السو(227/30)
الأسئلة(227/31)
تجنب الفهم الخاطئ
السؤال
كيف السبيل إلى تجنب الفهم الخاطئ لكلام العلماء؟
الجواب
السبيل هو التثبت، وإن كان لا يخلو الناس من إنسان يفهم الكلام خطأً، وينقله خطأً.(227/32)
العمل عند تعارض الفتاوى
السؤال
شيخان، فاضلان، كريمان، تقيان، أدين الله تعالى بحبهما؟ أفتى أحدهما بتحريم أمر، والآخر أجازه، بأيهما آخذ؟
الجواب
تأخذ -كما ذكرت- إن كنت طالب علم فانظر في الدليل، وإن كنت عامياً فقلد من تثق بدينه، وترى أنه أقوى من الآخر في ذلك، فإذا تساويا عندك، فأعمل بالاحتياط، فإذا أحدهما أباح والآخر حرم، أترك هذا الأمر.(227/33)
موقفنا من خطأ العالم
السؤال
ما دوري إذا سمعت كلاماً عن أحد من أهل العلم قد زل بالتسرع، وكلامه صحيح لم يعرف عنه كذب في كلامه؟
الجواب
ما من أحد إلا ويقع وتقع له زلة، لكن ليس شأنك أن تتبع الزلات، فتبين لهذا الإنسان أن هذا العالم صوابه عظيم، وخطؤه قليل، فخطؤه قطرة في بحر صوابه وكما ورد {إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث} فإن كانت أخطاؤه قليلة فلتُتَحمَّل، ولا ينبغي أن تشاع وتنقل.(227/34)
نسبة الكذب إلى المؤمن
السؤال
قد ذكرت في مجلس سابق عند تقسيم الناس، بأن منهم من يكذب ولو كان صالحاً، فكيف نوفق بين ذلك والحديث الذي ذكر أن المؤمن لا يكذب، وفقنا الله جميعاً وهدانا للصواب.
الجواب
من الناس من يكذب ولو كان صالحاً، والواقع أن الصلاح نقيض الكذب، ولكن قد يَنْقُل الكذبَ ويَتَسامح في نقله، فقد يأتي إليه إنسان كذاب فيملي عليه شيئاً فيقبله لغفلته وسذاجته.(227/35)
نقل الحديث بالمعنى
السؤال
هل نقل الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى ينافي ذلك؟
الجواب
إذا كان ضابطاً للمعنى دقيقاً فيه، وليس الحديث من الأشياء المتعبد بألفاظها فلا حرج في ذلك، لكن ينبغي أن يقول: قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما معناه، أو في النهاية يقول: أو ما في معناه، أو نحو ذلك.(227/36)
ابن حزم
السؤال
ألا يحق لنا أن نقيم ابن حزم مقام الغزالي في محاسبته على أخطائه، خصوصاً وأن هناك تشابهاً في بعض الأخطاء؟
الجواب
هناك تشابه بينهما في القليل، وبينهما فروق كبيرة جداً، فـ ابن حزم إمام، فقيه، أصولي، عالم، متبحر، وأخطاؤه وجد من تصدى لها، فالإمام ابن تيمية رحمه الله تكلم عن مآخذ، وملاحظات على ابن حزم وغيره من العلماء، تكلموا عما هو عليه، وهناك كتاب رسالة دكتوراة، اسمه (الإمام ابن حزم وموقفه من الإلهيات) وهو أطروحة دكتوراه في جامعة أم القرى، مطبوع يباع، وتكلم فيه عن بعض المآخذ على ابن حزم.(227/37)
الميل القلبي إلى بعض العلماء دون بعض
السؤال
يجد الإنسان في نفسه أحياناً، ميلاً إلى بعض العلماء دون بعض، أو وَجداً على بعضهم لأسباب شخصية، فهل في ذلك من شيء؟
الجواب
لا ينبغي أن يكون في قلبك وجد على عالم، أما في ميلك إلى بعضهم دون بعض فلا حرج فيه، سواء أكان ميلاً طبيعياً، أم ميلاً لقوة علمه أم لشدة ورعه.(227/38)
تجشم الفتوى لمن هو متصدر
السؤال
بعض الناس يكون له مكانة في أحد المجالس، وعندما يلقى عليه سؤال لا يعرفه، يحاول أن يجيب عليه بأي طريقة، لكيلا لا تذهب مكانته في المجلس، ما هو رأيكم في ذلك؟
الجواب
الأولى أن لا يجيب، وإذا قال الإنسان: الله أعلم، أو لا أدري، أو أراجع المسألة، فهذا مما يزيد قيمته، ولكن إن عجز، ولم يَقْوَ على نفسه في ذلك، فإن له طريقة أنه يجيب بأسلوب الحكيم، فلا يجيب على السؤال المطروح، ولكن يأخذ من السؤال قضية يعرفها، ويتكلم عنها بموعظة، أو إرشاد، أو توجيه، في أمور يجزم أنها صحيحة، دون أن يجشم نفسه عناء الفتيا في هذه المسألة الخاصة بعينها.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(227/39)
تناقض الفتاوى
السؤال
نرى كثيراً من فتاوى العلماء يناقض بعضها بعضاً، فهذا يحكم بالجواز، وآخر يحرم، كيف نوفق بين هذا الفتاوى؟
الجواب
أنت؛ إما طالب علم فانظر في الدليل، والذي يترجح دليله عندك فخذ به، واترك ما عداه، وإما إن كنت عامياً مقلداً، فنقول: انظر إلى هذين العالمين، أيهما أعلم في نظرك وأتقى وأورع، فخذ بفتواه واترك ما عداه.(227/40)
موقفنا من الحملة على العلماء
السؤال
يقول: توجد حملة مسعورة على العلماء، والعجيب أن من أمثال هؤلاء في سلك التعليم والتربية، فما موقف زملائهم منهم؟ ولماذا لا يعريهم العلماء؟ من أجل كشفهم للعامة، لأن كثيراً منهم صاروا يترسمون خطاهم عن طيب قلب؟
الجواب
هذا يوجد، ومثل هؤلاء ينبغي نصحهم، وإرشادهم ومحادثتهم، فإن أصروا فإنه ينبغي إزالة شرهم، بحيث أن المدرس إذا دخل على الطلاب، وتكلم في العلماء والشيوخ، يدخل بعده مدرس آخر، فيتكلم بنقيض ما ذكر، ويحرص على تحسين الصورة، وبشكل عام فالله تعالى أعلم أن الأمة مقبلة على وضع وحال لا يستطيع الإنسان فيه أن يمنع من يتكلم أن يتكلم، بالحق أو بالباطل، لكن نحن بحاجة إلى أن يظهر أهل الحق ما عندهم، ويدافعوا عن أئمتهم، وعلمائهم.
والمصيبة أحياناً أنك قد تجد من بعض صغار الطلبة من قد ينال من العلماء، ويفت في عضدهم، وهذه مصيبة كبيرة، لأنها تؤثر في العالم، وتجعله لا يستطيع أن يأمر ولا ينهى.
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت(227/41)
قصة ماشطة بنت فرعون
السؤال
يقول هل قصة ماشطة بنت فرعون صحيحة؟ حيث ذكرت في كتاب تحفة العروس، وهل ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما عرج به إلى السماء وجد ريحاً طيبة؟
الجواب
هذا القصة وردت في ابن ماجة، والحاكم عن ابن عباس، ولها عدَّة أسانيد، ووردت عن طريق جماعة من الصحابة، وإن كانت كل طرقها ضعيفة.(227/42)
إقبال الدنيا على طالب العلم
السؤال
ماذا يفعل طالب العلم إذا أقبلت عليه الدنيا؟
الجواب
يضعها تحت قدميه، يستخدمها ولا يخدمها، فتكون الدنيا كالفراش الذي يقعد عليه، والسيارة التي يركبها، يستخدمها ولا يخدمها.(227/43)
تعليق على كثرة الإشاعات على رجال الحسبة
السؤال
هل من تعليق على كثرة الإشاعات عن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟
الجواب
هذا طريق الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والإنسان الذي يتصدى لمثل هذا الأمر العظيم الجليل، ويقوم بالنيابة عن الأمة كلها، من مقاومة المنكرات والأمر بالمعروف، وإصلاح الناس وإرشادهم، ينبغي أن يتوقع مثل ذلك، يقول الله عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] والواجب علينا معاشر المسلمين كباراً، وصغاراً، حكاماً، ومحكومين، حتى فساق الناس واجب عليهم أن يعملوا على حماية ظهور الدعاة، والعلماء، والمصلحين، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر؛ لأنهم في الواقع يدافعون عنا عذاب الله جل وعلا، فإن من المقرر في سنن الله تعالى أن الأمة إذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أصابها الله تعالى بعقاب من عنده، وما دام يوجد في الأمة قوم يهدون بالحق وبه يعدلون، فإن هذه الأمة محفوظة، وهذا المعنى ثابت متواتر، ولعلها تتاح أكثر لبسطه فإنه ما دام يوجد ولو طائفة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتقارع الظلم، والفساد في الأرض، فإن الله تعالى يدفع عن الأمة عذاب الاستئصال، والفناء، والهلاك العام {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] .
ولهذا، إذا كان في آخر الزمان، وقبض الله تعالى أرواح المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، بعد ذلك بيسير تقوم الساعة، لأنه لم يبق في الأرض إنسان لله تعالى فيه حاجة.
فهم يقومون بالنيابة عنا، بهذه الفروض المقدسة، وحقهم علينا أقل ما يجب لهم، هو حماية ظهورهم من أن ينالها الناس، والتثبت فيما يشاع عنهم.
فكثيراً ما نجلس في بعض المجالس فيقول بعض الحضور: فلان فعل كذا، وفلان متسرع، وفلان متعجل، ويذكرون إشاعات، وأقاويل إنما نشرها وأشاعها قوم مغرضون، فإذا بحثت في الموضوع، وتثبتت وتحريت، وجدت الأمر على خلاف ما قيل، ووجدت أن الحقيقة ليست كما ذكروا، وأن هؤلاء الناس لم يصدر منهم الأمر الذي نسب إليهم.
نحن لا نقول أنهم ملائكة لا يخطئون، كل الناس يخطئون، ليس هناك أحد لا يخطئ، إلا الإنسان الذي لا يعمل، والذي لا يعمل تركه للعمل بذاته هو عين الخطأ.
إذاً ليس هناك أحد في الدنيا لا يخطئ لا كبير ولا صغير، لكن المصيبة أن بعض الناس بسبب انفصالهم عن هذا الأمر، وعدم حماسهم له، أصبحوا يفرحون بالوقيعة في مثل هؤلاء الصالحين، ويشيعون مثل هذه الأقوال، وينشرونها في المجالس، ويتكلمون عنها، وهذا ليس بصحيح، بل واجب عليكم أيها الإخوة أن تتثبتوا فيما سمعتم.
وأنا أقول يا إخواني: جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهاز الرسمي الذي وكلته الدولة لمقاومة المنكرات، له جهات تمثله، فإذا سمع الواحد منكم أن فلاناً فعل كذا وكذا وكذا، أو أن الهيئة فعلت كذا وكذا وكذا، أنا لا أقول: إنه عليه أن يقول: هذا كذب، ولكن أقل ما يجب عليه أن يذهب إلى الجهاز، وإلى الإخوة العاملين، ويقول: سمعت كذا، وسمعت كذا، وسمعت كذا، وهذا إذا صح أمر لا يليق منكم، فأود أن أعرف الحقيقة، وسوف يذكرون له الأمر الذي حدث بالضبط ويزيلون ما في نفسه.
حتى يكون كل إنسان على بينة من الأمر، أما أن نتحول أحياناً إلى أبواق نردد كلاما قاله أحد الفساق، فهذا ليس بصحيح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] لا بد من التثبت، والتحري في مثل هذه الأمور.(227/44)
كيفية الرد إذا أخبرك أحد الناس بحادثة غير صحيحة
السؤال
هل من الأدب إذا جاءتك حادثة ليست بذاك أن تقول لصاحبها: ليست صحيحة؟ أم الأخذ بها بعدم الاقتناع؟
الجواب
إذا لم تكن الحادثة مهمة، ولا يترتب عليها حكم شرعي، فلا يلزم أن تواجه صاحبها بما يكره فتقول له: هذا كذب، لكن لا بأس أن تشعره بالتثبت، أو تقول (والله هذا الأمر غريب) (رأيت كذا، أو سمعت كذا، أو أعرف كذا، بحيث تضع عنده إشارة إلى أنه ينبغي أن يتثبت في مثل هذه الأخبار.(227/45)
من أجمع الناس عليه
السؤال
عبارة تنسب تارة لـ عبد الله بن المبارك، وأخرى لـ ابن تيمية -رحمهما الله- لست أدري هل تقبل على إطلاقها؟ أم أنها تحتاج إلى شيء من التفصيل؟ نصها: إذا رأيتم رجلاً اتفق الناس عليه من حيث القبول فهو منافق لا ريب.
الجواب
هذه الكلمة لم أقف عليها بهذه الحروف، لكن الكلمة لها معنى في جانب صحيح، وهو أن الإنسان المؤمن لا بد أن يبغضه المنافقون، والزنادقة، والكفار، والملاحدة لا بد من ذلك ولا حيلة في دفع عداوتهم، حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لهم أعداء {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} [الأنعام:112] فلو فرض ووجد إنسان أطبق الناس عليه، يعني مسلمهم وكافرهم، مؤمنهم ومنافقهم، وصالحهم وبرهم وفاجرهم، فلا شك أن هذا الإنسان منافق.(227/46)
غيبة الفاسق، وما يجوز في بلد ولا يجوز في بلد آخر
السؤال
يقول: ذكرت أن بعض المسائل قد تجوز في بلد ولا تجوز في بلد آخر، مراعاة لحال الناس، نريد مثالاً لذلك؟ ويقول نريد اسم الرجل الذي تكلم في الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث إنه لا غيبة لفاسق؟
الجواب
نريد من الأخ، ما دمنا في باب التثبت، نريد أن يخرج لنا حديث لا غيبة لفاسق، لا يصح في هذا الباب حديث لا غيبة لفاسق، لا غيبة لمجهول، أترعوون عن ذكر الفاجر، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس، في هذا الباب جميع الأحاديث والآثار الواردة فيه ضعيفة، أما الفاسق فإن غيبته فيها تفصيل: فإن كانت هناك مصلحة من ذكر فسقه، لتحذير الناس منه، أو أنه مجاهر بفسقه، مظهر له بين الناس لا يبالي، فلا غيبة له، وإلا فلا ينبغي أن يغتاب.
وبالنسبة للرجل الذي تكلم في الإمام محمد بن عبد الوهاب: هو زيني دحلان، والواقع أني نسيت اسم الكتاب، وهو كتيب صغير طبع أكثر من طبعة في عدد من البلاد.
أما النقطة الأولى: التي يقول فيها مراعاة حال الناس في الفتيا، فلعلي أجيبكم بفتيا، أو بقضية واقعة، وربما سمعت من بعض الشباب استغراباً لها، فإن سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز، بل واللجنة الدائمة، أفتوا بتحريم قيادة المرأة للسيارة في هذه البلاد، ولا شك أن تحريم قيادة المرأة للسيارة في هذه البلاد، لأن فيها مفاسد ظاهرة، تستدعي التحريم، وإغلاق هذا الباب في وجه الذين يريدون أن يصطادوا في الماء العكر، من خلال إثارة مثل هذا الموضوع، لأن موضوع قيادتها للسيارة لو فتح لترتب عليه مفاسد عظيمة لا يقدر قدرها إلا الله، وللإنسان أن يتصور مجموعة مفاسد تترتب على إمكانية أن تكون الفتاة منفردة بسيارتها، أو تسافر فيها، وتذهب، وتجيء.
فقَدَّرَ العالم مفاسد، قدر في ذهنه مفاسد شرعية، ليست المسألة مصلحة شخصية، والشرع -كما قال العلماء- جاء بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا كان الأمر يجر إلى مصالح كبيرة فهو مطلوب، وإذا كان الأمر يجر إلى مفاسد فهو ممنوع، فإذا قدَّر العالم أنه يترتب على هذه القيادة من المفاسد كيت، وكيت، فإنه يفتى بالتحريم هذا مثال.(227/47)
قصة ثعلبة
السؤال
قصة توبة ثعلبة ومنعه للزكاة؟
الجواب
هذه إسنادها ضعيف، رواها البيهقي في دلائل النبوة، والطبري، وغيرهما، وسندها ضعيف.(227/48)
درجة حديث {تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها}
السؤال
تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها؟
الجواب
أيضاً ليس هناك حديث بهذا اللفظ، وهذا من الأحاديث المشهورة على ألسنة طلبة العلم يمكن أن يضاف، لكن ورد حديث {تكبيرة الإحرام خيرٌ من حمر النعم} وهذا ذكره السيوطي في الجامع الكبير، ونسبه فيما أذكر وإن كنت قديم العهد لـ ابن عساكر، وعلى قاعدته فهو حديث ضعيف.(227/49)
تجديد الوضوء لكل الصلاة
السؤال
هل تجديد الوضوء لمن بقي على وضوئه تلاعب بالسنة؟ أم هو من السنة؟
الجواب
من السنة أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة، وكانت هذه عادة الرسول صلى الله عليه وسلم، يتوضأ لكل صلاة، ولذلك في الفتح: صلى الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعته يا عمر.(227/50)
الفتوى بالواسطة
السؤال
ما هو الطريق الصحيح في أخذ الفتوى من الناس، نقلاً عن العلماء؟ هل تنقل مباشرة؟ أم تترك مباشرة؟ أم هناك تفصيل في القضية؟
الجواب
أولاً -الحمد لله- الفتوى اليوم متيسرة، وهناك كتب مصنفة في الفتاوى، فسماحة الشيخ عبد العزيز قد صدر مجلدان من فتاويه، والبقية في الطريق، فضيلة الشيخ ابن جبرين صدرت له فتاوى، والشيخ محمد بن عثيمين صدر له عدد من دروس الحرم والفتاوى وغيرها، وهي موثقة بحمد الله، ومقروءة على فضيلة الشيخ، ومشايخ آخرون فتاويهم مكتوبة، والشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- يُشتَغَل فيما علمت بإعداد فتاويه للطباعة وإصدارها، فيعتمد الإنسان أولاً على هذه الكتب.
ثانياً: هناك الأشرطة المسجلة للعلماء السابقين وغيرهم، بأصواتهم وهي موثقة.
ثالثاً: الهاتف، يستطيع أن يتصل الإنسان بمن شاء ويتثبت منه، وحينئذٍ لا داعي أن تأخذ فتوى بالواسطة، قال فلان، قال فلان، كم مرة سألني بعض الناس يقولون: سمعنا عن الشيخ فلان فتوى بكذا، وأنا قرأت، أو سمعت من الشيخ مباشرة خلاف ما ذكروا.(227/51)
صحة حديث إذا فسد أهل الشام
السؤال
ما مدى صحة حديث {إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} ؟
الجواب
ورد هذا الحديث بسند صحيح من طرق عديدة.(227/52)
ما صحة حديث خير الأسماء ما حمد وعبد
السؤال
ما صحة حديث خير الأسماء ما حُمِّد وعُبِّد؟
الجواب
هذا حديث موضوع، لكن الحديث الصحيح {خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن} وقد سبق ذكر ذلك في محاضرة الأسماء والألقاب والكنى.(227/53)
الجمع بين نية النافلة ونية القضاء في صوم يوم واحد
السؤال
هل يجوز الجمع بين صيام ست من شوال، وقضاء ما أفطر من رمضان بنية واحدة؟
الجواب
بعني أن يصوم يوماً واحداً مثل يوم السبت، ينويه من الست، وينويه قضاءً، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.(227/54)
قوله صلى الله عليه وسلم: {ما المسئول عنها بأعلم من السائل} ، هو مثل قول: (لا أدري)
السؤال
ألا يكون قوله: صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل عن الساعة: {ما المسئول عنها بأعلم من السائل} بمعنى قوله: لا أعلم؟
الجواب
بلى، هو كذلك.(227/55)
نصيحة حول القراءة
السؤال
في أثناء حديثك تكلمت عن الفراغ، وأنا ولله الحمد أريد أن أقرأ، لكن عندما أبدأ في كتاب معين، أستمر مدة، ثم أشعر بالكسل، وأترك القراءة، فما هي الطريقة الصحيحة لتلافي هذه المشكلة؟
الجواب
هذه لا بد فيها من عدة أمور: أولاً: لا بد أن تختار الكتاب المناسب، لأن بعض الناس قد يختار كتاباً لا يناسب مستواه، فإذا بدأ لم يستفد منه، وصعبت عليه القراءة.
ثانياً: يحسن أن تبدأ بالكتب التي تعين على القراءة، مثل كتب القصص، والتأريخ، والأخبار، والسير، والتراجم، والمغازي، والسيرة النبوية، ونحوها من الكتب التي تعين على القراءة، ويكون فيها نفع وفائدة.
الأمر الثالث: أن يبدأ الإنسان بالكتب الصغيرة، مثل الرسائل والكتب المختصرة.
الأمر الرابع: أن على الإنسان أن يربي نفسه، أنه إذا بدأ في كتاب لا يتركه حتى ينهيه، يعود نفسه على ذلك، فالخير عادة، وقد استفدت من هذا كثيراً، فإذا بدأت بقراءة كتاب، قد أجد بعدما اقرأ منه مائة صفحة أن الكتاب ليس بالدرجة المطلوبة، لكني أحببت أن أعود نفسي وأدربها على أنه إذا بدأت في كتاب، ولو كان أقل مما أريد أكمله حتى آخره.
فالنفس بحاجة إلى تربية وتهذيب، فالأولى بالإنسان أن يربي نفسه، قبل أن يحتاج من الناس إلى أن يربوه، فوطِّن أنفسك وعوِّدها أنك إذا بدأت في كتاب لا بد أن تكمله مهما تكن الأسباب.(227/56)
الاستدلال بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال
السؤال
وردت عدة أسئلة عن الاستدلال بالأحاديث الضعيفة التي ليس ضعفها شديداً في فضائل الأعمال؟
الجواب
ذهب جماعة كثيرة من أهل العلم والحديث إلى أنه يجوز الاستئناس بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، بمجموعة شروط، لم تجتمع عند عالم بعينه فيما أعلم، ولكن من خلال قراءتي، تبين لي أن الشروط أربعة: الشرط الأول: ألا يكون الضعف شديداً.
الشرط الثاني: أن يكون للحديث أصل يشهد له؛ بمعنى ألا يكون الحديث جاء بقضية جديدة، فلو جاءنا حديث يقول مثلاً: تصلي سبع ركعات بعد صلاة الظهر، وتركع في الركعة الأولى ركوعين، وتسجد أربع سجودات، فهذا ولو كان ضعفه غير شديد لا يقبل، لأنه ليس هناك أصل يشهد له، فهذه صلاة صفتها مختلفة لا تقبل بحديث ضعيف، فلا بد أن يكون له أصل يشهد له.
الشرط الثالث: ألا يعتقد عند العمل به أنه ثابت، بل يعمله على سبيل التحري، والاحتياط، من باب الخير العام.
وهناك شرط رابع أشار إليه بعض أهل العلم -وذلك مما يستفاد ويقتبس- وهو أن لا يحافظ على هذا العمل محافظته على السنن، هذا بالنسبة للحديث الضعيف، لكن في روايته إذا رواه لا بد أن يبين أنه ضعيف، إلا إن كان ضعفه منجبراً من طريق آخر.(227/57)
الرجوع عن الفتوى
السؤال
يقول: أرجو توضيح الآتي: التثبت في نقل كلام العلماء؟ القدح في العالم عندما يفتي بفتوى، فيتبين له الحق، فيرجع عن فتواه، فيكون فيه الكلام والقدح؟
الجواب
بالعكس! العالم إذا رجع عن فتواه، هذا دليل على كمال علمه وورعه، لأنه لا يجرؤ على الرجوع عن فتواه إلا إنسان عنده دين، وورع، وعلم، فالعلم يتجدد، وليس هناك أحد من العلماء حوى العلم كله، بل ما من أحد إلا ويكون فاته شيء من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتبين له بعد ذلك، فمن استبانت له سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فرجع إليها، وأخذ بها، فهذا دليل على عقله وعلمه ودينه وورعه، وليس مما يذم أو يعاب فيه.(227/58)
أحاديث الصحيحين
السؤال
يقول هل كل ما في البخاري ومسلم صحيح؟ أو في بعضها الأحاديث الضعيفة؟
الجواب
مجمل أحاديث الصحيحين تلقتها الأمة بالقبول، وهي أحاديث صحيحة؛ لأن البخاري ومسلم - رحمهما الله- اشترطا ألا يُخرِجا في صحيحيهما إلا ما صح، فما في البخاري ومسلم صحيح عندهما وعند من يوافقهما من أهل العلم، ولا يكاد يوجد في البخاري ومسلم حديثٌ ضعيف، وإن كان من أهل العلم من قد يكون ضعف أحاديث في البخاري أو في مسلم، لكن الراجح في معظم هذه الأحاديث هو مع البخاري ومسلم في تصحيح هذه الأحاديث.(227/59)
التمائم
السؤال
يقول: ذكرت التمائم، فما حكمها؟
الجواب
للسلف في موضوع التمائم قولان، قولٌ بالتحريم، لحديث: {إن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شركٌ} وقول آخر بالجواز إذا كانت من القرآن وبلغة العرب بشروط معروفة، وقد نقل عن بعض الصحابة إنهم كانوا يعلقون على صبيانهم والأظهر -والله تعالى أعلم- القول بالتحريم، لأن تعليق التمائم فيه ذريعة إلى الشرك، وفيه سبب إلى إهانة كتاب الله تعالى والقرآن الكريم، وفيه سبب للتوكل عليها والاعتماد عليها، والغفلة عن الله، والغفلة عن التوكل عليه.(227/60)
قول (لا أدري)
السؤال
هل الرسول عليه الصلاة والسلام إذا سأله سائل قال: لا أدري؟ وكم مرة قال: لا أدري؟
الجواب
ورد هذا في حديث أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: ما شر البقاع؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبريل، فسأله فقال: {أسواقها} .(227/61)
نسبة البدع إلى الحنابلة
السؤال
هل نسب المشركون والمنحرفون إلى الإمام أحمد بن حنبل شيئاً من البدع والخرافات؟
الجواب
نعم، نسب كثير من الضالين، والمنحرفين، إلى الإمام أحمد من الأقوال الضالة ما هو منها براء، ومن أشهر ما ينسب إلى الإمام أحمد، وإلى الحنابلة بشكل عام: أنهم مشبهه، فقد زعم الضالون أن الحنابلة يشبهون الله تعالى بخلقه، وذلك لأن الحنابلة، والسلف يثبتون أسماء الله تعالى، وصفاته، فيقولون: إن الله عز وجل قد قال في كتابه أن له وجهاً: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] وله يدان {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فإننا نثبت بأن لله وجهاً ويدين تليقان بجلاله، من غير تشبيه، ولا تمثيل بخلقه، فأخذ ذلك المبتدعة، وأدعوا أن الحنابلة وغيرهم من أهل الحديث، ومن المثبتة عموماً، أنهم مُشبِّههٌ، يشبهون الله تعالى بخلقه، وهذا لا شك من الباطل.(227/62)
الفتوى
السؤال
هل من أفتى شخصاً وفتواه صحيحة، لكنه لم يستدل من القرآن والحديث، فهل فتواه صحيحة؟
الجواب
ينبغي لمن سأل شخصاً أن يسأله عن دليله فيما أفتى؛ لأن الحجة بقول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لا ينبغي له أن ينقل هذه الفتوى إلى أحد، إلا إن كان أهلاً لنقل الفتوى، فما كل أحد ينقل الفتوى حتى يكون فاهماً لمعناها، عارفاً بها، عالماً بشروطها.
وبعض العوام يسمعون العالم يقول: لا ينبغي، فيقولون: فلان يقول حرام! وهناك فرق بين "لا ينبغي" وبين "حرام" لا ينبغي: كلمة عامة قد تدل على أنه يكره هذا الأمر، أو من باب الورع، أو يرى تحريمه، لكن لم يصرح بالتحريم، فيقولون: (فلان يقول: لا ينبغي) يفهمون أنه يقول: (لا يجوز، وأنه حرام) ! ليس كل أحد يحق له أن ينقل الفتوى، حتى يكون أهلاً للنقل، ويكون متثبتاً منها.(227/63)
علاقة المغرضين بالعلمانية
السؤال
من خلال هذه المسالك التي يحترفها المغرضون للنيل من ورثة الأنبياء، تتمخض أسئلة أو جزها بالآتي: ما هوية أولئك المغرضين؟ وهل ثمة علاقة بين العلمانية وهذا النيل، وخاصة عقب استفحال العلمنة واستشراء النيل من علماء الأمة في وقتنا؟
الجواب
النيل من العلماء هو همُّ مشترك لطبقة كبيرة من الناس الطبقة الأولى منهم: طبقة أصحاب الأهواء، الذين قد يتبعون رجلاً آخر، فينالون من الأول، ويقعون في عرضه؛ لأنه لا يوافقهم على بعض اجتهاداتهم وآرائهم.
الطبقة الثانية: أعداء الإسلام، الذين يريدون أن يفصلوا المجتمعات الإسلامية عن قياداتها العلمية الشرعية، حتى تتبعهم، ولذلك تجدون أجهزة الإعلام في كثير من بلاد الإسلام تشوه صورة العالم، كم من صحيفة تصدر في بلد إسلامي تصور العلماء؛ أصحاب اللحى والعمائم كما يقولون، على أنهم (كما ذكرت قبل قليل) يفتون (بفرخهٍ) مثل ما يقول بعضهم! وأنهم يمسحون أعتاب السلاطين، وأنهم من أصحاب ذيل بغلة السلطان، يعنون (قصة) وذلك أنه يقال: إن أحد العلماء يقول: لو رأيت بغلة السلطان مقطوع ذيلها، فلا تقل: بغلة السلطان مقطوع ذيُلها؛ لأن هذا من التنقص للسلطان، بل قل: بغلة السلطان تامة الخلق، ولها ذيلٌ يضرب إلى الأرض! فهذا من إكرام السلطان! يقصدون بهذا المثال الناس الذين يداهنون في الحق، فكثير من أجهزة الإعلام: صحافة في بلاد إسلامية وإذاعة، وتلفزة، (وإن كان كثير من هذه الصحف لا تصل إلينا، وبعضها قد لا نقرؤها، لكن تؤثر في عقول كثير من الناس، وتشوه صورة العلماء.
حتى في تأريخ العلماء السابقين طالما شوهوهم.
مثلاً: عندي صحيفة مصرية في منتهى الخطورة، عندي منها أكثر من عدد، تكلمت على ابن تيمية، ونالت منه نيلاً شديداً، حتى إنها قالت بالخط العريض ابن تيمية مجدد فكر الخوارج في القرن السابع، وشتمت ابن تيمية بشكل غريب جداً، واتهمته بشتى التهم، ورددت الكلام الذي يقوله أعداؤه فيه من ذلك القرن.
وفي العدد الذي بعده، المجلة نفسها تعرضت للشيخ محمد بن عبد الوهاب بالخط العريض: مجدد فكر الخوارج في القرن الثاني عشر، ورددوا الكلام، والأكاذيب التي ذكرتها لكم قبل قليل.
وفي العدد نفسه ورد كلام عن الشيخ الألباني حفظه الله، واتهموه بتهم هو منها براء، وسبوه، ونالوا منه بشكل غريب، فهؤلاء طبعاً صوفية، لكن هناك طبقات كثيرة.
إذاً هناك الصوفية، وهناك العلمانيون، وهناك أصحاب الأهواء الأخرى، وهناك الهمج الرعاع اتباع كل ناعق.(227/64)
نقل كلام العلماء على سبيل الوقيعة
السؤال
هذا يسأل عن القتاتين، والنمامين، وما ينقلونه عن الدعاة والخطباء، والذين يزيدون في الكلام، ويفسرونه على ما يهوون؟
الجواب
لا شك أن الله عز وجل أدب المؤمنين بالآداب الكاملة، ومنها أنه نهى المؤمنين عن أن يتجسس بعضهم على بعض، فقال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] وقال النبي صلى الله عليه وسلم -كما سبق-: {لا يدخل الجنة قتات} ، {ولا يدخل الجنة نمام} فإن نقل الإنسان كلام أخيه المسلم -خاصة إن كان عالماً، أو داعية، أو طالب علم، على سبيل الوقيعة والإفساد بين المؤمنين، أو الإساءة إليهم، أو إيذائهم- أمر محرم وصاحبه يبوء بالإثم العظيم، ولا يجوز له ذلك بحال من الأحوال.
ولعلي ذكرت لكم القصة التي تقابل ذلك، وهو ما وقع لـ رجاء بن حيوة، حين كان في مجلس الخليفة فجاء رجل، وقال: إن فلاناً يتكلم فيك يا أمير المؤمنين، فقال رجاء بن حيوة: والله إنه لكاذب، لم يتكلم فيك، ولم يقل فيك شيئاً.
فقام الخليفة على هذا الجاسوس النمام القتات، وجلده سبعين جلدة، أو مائة جلدة، فلما خرجوا من المجلس لقي هذا الجاسوس يوماً من الأيام رجاء بن حيوة، وقال له: يا رجاء بن حيوة، بك يستسقى المطر من السماء! وسبعون سوطاً في ظهري! أي أنني جلدت سبعين جلدة، وأنت تعرف أني صادق، فقد سمعت الكلام وأنا سمعته ومع ذلك كذبتني، وجعلت الخليفة يجلدني، بك يستسقى المطر من السماء، وسبعون سوطا في ظهري!! فقال: لسبعون سوطاً في ظهرك أهون من أن تلقى الله تعالى بدم امرئ مسلم!! فالقتات: النمام: الذي ينقل كلام المؤمنين، خصومه يوم القيامة، هم أفضل الناس، خصمك داعية، أو عالم، أو مجاهد، أو آمر بالمعروف، أو ناهٍ عن المنكر، أو مصلح، أو شيخ، فويلٌ لمن كان خصومه هم أفضل الناس.(227/65)
صيام يوم الجمعة منفرداً
السؤال
رجل صام يوم الجمعة منفرداً، بقصد أن يتم به صيام ست من شوال، فهل في ذلك كراهية؟
الجواب
الأولى بالإنسان ألا يفرد يوم الجمعة بصوم، بل يصوم قبلها أو بعدها، فالذي يريد أن يتم صيام ست من شوال يصوم يوم الخميس والجمعة، وإن صام الجمعة يستحب له أن يصوم معه يوم السبت.(227/66)
وجوب قيام المأمومين إلى الركعة الثانية إذا جلس الإمام بعد الأولى
السؤال
إمام مسجد يصلي بالناس، وبعض الجماعة لا يرون الإمام، وعندما صلى من صلاة التراويح ركعة واحدة جلس والجماعة الذين لا يرونه قاموا، والإمام جالس، فسبح الناس فقام الإمام، هل الذين قاموا قبل الإمام يعتبر فعلهم مسابقة للإمام؟
الجواب
لا ليس مسابقةً للإمام، بل حقهم أن يقوموا؛ لأنه ما دام قد جلس سهواً بعد ركعة واحدة فالمأمومون لا يتابعونه على ذلك، بل يجب أن يقوموا.(227/67)
إذا جاء الحديث عن طريق صحابي واحدٍ
السؤال
ذكرت قصة عمر مع أبي موسى، فما جوابك على من استدل بهذه القصة على رد بعض الأحاديث التي لم يروها إلا صحابي واحد، من الأحاديث مثل حديث: {إنما الأعمال بالنيات} ؟
الجواب
الجواب على هذا يطول، لكن أجيب جواباً واحداً فقط، أن عمر رضي الله عنه لم يرد حديث أبي موسى، لأنه لم يروه غير أبي موسى، فقد قبل عمر أحاديث كثيرة لم يروها إلا واحد، وإنما السبب في طلب عمر التثبت في حديث أبي موسى بالذات أنه يتعلق بأدب من الآداب التي استغرب عمر أن تخفى عليه.
فهذا الملحظ مهم جداً، فمثلاً عمر كان كثير الجلوس مع الرسول عليه الصلاة والسلام كان الرسول عليه الصلاة والسلام يكثر أن يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، دخلت أنا وأبو بكر وعمر، جلست أنا وأبو بكر وعمر، فكان عمر كثير الاستئذان على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان يجلس عنده فَيُستأذن عليه، فاستغرب عمر! كيف خفي عليه أدب يتعلق بالاستئذان؟ وهو الأمر الذي يكثر أن يقع وأنا حاضر وخفي عليَّ؟ استغرب خفاءه عليه، ولهذا قال فيما بعد: [[خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم!]] .
ولهذا فالأشياء الشائعة، المنتشرة المشهورة، إذا لم ترو إلا من طريق واحد؛ فإن هذا من الأدلة على عدم ضبطه، مثلاً: لو فرض أنه وقعت حادثة في يوم الجمعة في المسجد الجامع، والحضور يعدون بالألوف، ثم ما روى هذه القصة إلا واحد، لو روى لنا واحد أنه في يوم الجمعة، وأمام الناس مثلاً، قام إنسان، وقال: كذا، وكذا، وكذا، ثم سألنا فلم نجد إلا شخصاً واحداً رواها، فدلَّ على أن هذا الرجل إما أنه كاذب، أو التبس عليه الأمر، لأنه يبعد أن تحدث قصة على مرأى ومسمع من ألوف، ولا يرويها إلا واحد، فـ عمر رضي الله عنه استغرب أن قضية تتعلق بأدب الاستئذان تخفى عليه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(227/68)
التربية الجهادية
تكلم الشيخ عن التربية الجهادية، وكيف كان السلف الصالح، وكيف نحن اليوم، ثم ذكر السبب الذي أدى بنا إلى الغثائية، ثم نبه على الصفات المطلوبة للجيل الذي يحرر الأمة، ثم تكلم عن الصياغة الكاملة على الجهاد الذي ينبغي أن تكون عليه الأمة حتى تستطيع أن تواجه أعداءها، وذكر على ذلك أمثلة من الواقع، ثم نبه على أن التربية على الجهاد لابد أن تكون تربية شمولية لكل جوانب الدين، وأنها واجبة على الكبار والشباب والصغار والنساء، ثم ذكر دور كل صنف، ثم بين أن أهداف التربية الجهادية شاملة لكل جوانب الحياة وأن وسائلها هي وسائل نشر الدين الإسلامي.(228/1)
مقارنة بين الجيل الحاضر والجيل الأول
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، إن للتربية الجهادية أهمية كبرى في حياة الأمم والأفراد، وحين نجري مقارنة سريعة بين الجيل الحاضر الذي نجده الآن وبين الجيل الأول نجد فرقاً كبيراً جداً.(228/2)
حال الجيل الأول
ففيما يتعلق بالجيل الأول -جيل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم- كان كل فرد يسلم؛ يحمل على عاتقه هم الدفاع عن الإسلام بالقول والعمل، باللسان وبالسنان، مثلاً: في مكة حين بايع الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار بيعة العقبة الثانية كانوا يسمون هذه البيعة: بيعة الحرب، كما ذكر ذلك عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فيما رواه ابن إسحاق بسند حسن قال: {بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم} .
وكذلك جاء في رواية جابر رضي الله عنه وزاد: {وبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة} قال: فقمنا نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر القوم -أصغر السبعين سناً- إلا أنه قال: [[رويداً يا أهل يثرب]] تصور أنت الآن أمام جماعة يؤمنون لأول مرة، ويبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فيقوم بينهم شاب (فتى) فيقول لهم بلهجة الواثق العالم الخبير: [[رويداً يا أهل يثرب: إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مفارقة الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنَّ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ]] أي يقول: انتبهوا جيداً علام تبايعون عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عليها إذا مستكم -أي على الحرب- وعلى قتل خياركم، ومفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله عز وجل، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خيفة -وفي رواية- جُبينة]] أي: جبناً وخوفاً، وأنكم قد تتراجعون إذا جد الجد وحزب الأمر [[فذروه فهو أعذر لكم عند الله عز وجل، فقالوا له يَا أَسْعَدُ: أَمِطْ عَنَّا، فَوَاللَّهِ لَا نذر هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا وَلَا نَسْتقيلهَا]] أي: نحن ندري على ماذا نبايع هذا الرجل، وفي رواية كعب بن مالك عند ابن إسحاق -أيضاً- أن العباس بن عبادة بن نضلة قال: {يا رسول الله: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا غداً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم} .
إذاً: هؤلاء القوم يضعون أقدامهم في طريق الإسلام أول مرة، ولم يمر على دخولهم في الإسلام غير ساعات يسيرة، بل ربما دقائق، ومع ذلك يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صريحة: يا رسول الله، لو أردت أن نميل على أهل الموقف -أي على أهل مكان- بأسيافنا ونقاتلهم لفعلنا.(228/3)
حالنا اليوم
أما اليوم فإنك تجد أن كثيراً من المسلمين، ممن ولدوا في الإسلام ونشئوا وتربوا، وقد يكون الواحد منهم ابن سبعين أو ثمانين سنة وهو لا يفقه من أمر الإسلام إلا القليل، ولا يملك من الاستعداد للتضحية في سبيل الإسلام إلا اليسير، وهنا ندرك الفرق الكبير بين الجيل الأول الذي ذاق مرارة الجاهلية وقاساها، ثم دخل في الإسلام عن طواعية واختيار وإصرار، وبين أجيال من ذراري المسلمين أخذت الإسلام بالوراثة، ولم تفقه من أمره شيئاً؛ ولذلك لم يكن لديها استعداد للتضحية في سبيل هذا الدين.(228/4)
مواقف مشرفة من الجيل الأول
حين نقارن مقارنة أخرى في مجال الجهر بالحق والصدع به، نجد أبا بكر رضي الله عنه -مثلاً- لما أسلم جهر بالحق، وبنى مسجداً في داره، كما في صحيح البخاري، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، وهو رجل أسيف حزين إذا قرأ القرآن لم يملك نفسه من البكاء، فكانت تنقلب إليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ وهم يعجبون منه وينظرون إليه ويتعجبون من بكائه حين يقرأ القرآن، حتى فزع لذلك أشراف قريش، وكان أبو بكر في جوار ابن الدغنة، فجاءوا إليه وقالوا له: يا زيد، إما أن يرجع أبو بكر إليك جوارك، وإما أن يكف ولا يفسد صبياننا ونساءنا علينا، فلا نريد من أبي بكر أن يجهر بالقرآن.
فيأتي إليه ابن الدغنة فيقول له: يا أبا بكر، إنني رجل عربي صميم، وإنني لا أريد أن أُخفر في ذمتي؛ فإما أن تقرأ في بيتك ولا تستعلن بقراءة القرآن، وإما رد إلي جواري.
فيقول له أبو بكر رضي الله عنه: بل أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.
وكذلك أبو ذر رضي الله عنه لما أسلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ارجع إلى قومك فكن فيهم حتى يأتي إليك أمري} أي: ارجع إلى قبيلتك حتى تسمع أنني قد ظهرت في بلد من البلدان فأت إليّ، فيقول أبو ذر رضي الله عنه؟ : [[والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم]] فيأتي أبو ذر -وهو رجل من قبيلة بعيدة من قريش -فيقف في وسط قريش، ويقول لهم: [[يا معشر قريش! إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله]] فيقومون إليه من هاهنا ومن هاهنا ويضربونه حتى يوجعوه ضرباً.
فيفزع إليه العباس بن عبد المطلب وهو يقول لهم: [[يا معشر قريش! ألا تعلمون أن هذا الرجل من قبيلة غفار، وأن طريق تجارتكم إلى بلاد الشام تمر على هذه القبيلة؛ فهل تأمنون أن تأتي هذه القبيلة فتعتدي على أموالكم وتجارتكم؟]] وما يزال بهم حتى خلصه منهم، فيذهب أبو ذر رضي الله عنه.
فهل قال: هذه توبة ولا أرجع لمثلها؟ لا.
بل لما كان من الغد جاء إلى المكان نفسه وصرخ بأعلى صوته، وقال: [[يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اصنعوا ما بدا لكم، لا نامت أعين الجبناء]] فتقوم إليه قريش مرة أخرى، ويقوم إليه العباس حتى يخلصه منهم، وقصته في هذا الصدد رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما.
ومثل ذلك إشهار عمر رضي الله عنه الإسلام.
لما أسلم عمر وكان المسلمون قلة مستخفين، فماذا صنع عمر رضي الله عنه؟ القصة كما هي في مصادر عديدة منها في مستدرك الحاكم بطولها، وأصلها في البخاري، وهي قصة في منتهى العجب، لما أسلم عمر ذهب إلى رجل من المشاهير بأنه وكالة أنباء يقال له: جميل بن معمر الجمحي؛ لأن جميلاً هذا إنسان قوال يأتي إلى النوادي والمجالس ويقول: يا بني فلان حدث اليوم كذا وكذا وكذا.
فهذه مهمته يمشي في النوادي وينشر الأخبار، فجاء إليه عمر وقال له: هل علمت بأني قد أسلمت؟ قال: وقد فعلت؟ قال: نعم أسلمت، لكن لا تخبر بذلك أحداً.
يقول عمر لا تخبر بذلك أحداً، أي: لا تترك نادياً، أو مجلساً، أو محفلاً، من محافل قريش إلا وتعلن فيه خبر إسلامي؛ فأعلن الخبر.
ماذا صنع عمر؟ هل دخل بيته وأغلق داره؟ لا.
بل خرج في وسط مكة بل وفي المسجد الحرام، وصار يمر على نوادي قريش ويقاولهم ويلاسنهم، فإذا قالوا له كلمة رد عليهم عشراً، وهو يقول: [[يا معشر قريش! اصنعوا ما بدا لكم]] .
يتحداهم وهم متقصفون حوله ومتحرشون محيطون به، حتى كادوا أن يضربوه وهموا به، وربما حصل اعتداء، فكان يضاربهم ويقاتلهم، من ضربه رد إليهم الكيل كيلين، ومن تكلم عليه تكلم عليه بأقوى وأشد مما قال، حتى إذا صارت الشمس في كبد السماء وقد تعب عمر جلس في الأرض، وهم متقصفون محيطون به، وهو يلتفت إليهم ويقول: [[اصنعوا ما بدا لكم، والله لئن بلغنا ثلاثمائة رجل في مكة لنعاجلنكم، إما أن تخرجون وإما أن نخرج]] فكان يصرخ ويصرخ رضي الله عنه بالإسلام.
وأعجب من ذلك كله أن الحاكم روى في مستدركه بسندٍ قابل للتحسين: أن المسلمين لما بلغوا أربعين رجلاً -ممن لم يهاجروا إلى الحبشة- اجتمعوا في دار الأرقم وأعلنوا إسلامهم، فخرجوا في مسيرة نحو أربعين رجلاً في شوارع مكة يعلنون كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.(228/5)
الغثائية في هذه الأمة
أما اليوم فقد حق على هذه الأمة ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند صحيح عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يُوشِكُ أَنْ تتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا، قَالَوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْكم غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ} .
حين تنظر إلى هذا الزبد الذي يجري أو يكون فوق سطح الوادي إذا سال، ماذا تجد في هذا الغثاء؟ تجد فقاقيع هواء، وأشياء لا قيمة لها ولا نفع بها، فتزول وتمضي، كما قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17] فالزبد يمضي وينتهي ويتبخر، ويبقى ما ينفع الناس.
إذاً الأمة المسلمة اليوم تعيش مرحلة الغثائية.
ولو أردنا أن نجري عملية حسابية لوجدنا أن مسلماً واحداً من المسلمين الأولين ربما لو وزن بألوف بل بمئات الألوف ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم لرجح بهم ديناً، وقولاً، وعملاً، واعتقاداً، وفهماً، وإدراكاً، وتضحيةً، ولذلك لم ينفع المسلمين كثرتهم وعديدهم، بل هم أضعف الأمم وأقلها وأهونها في أعين الناس.
وحق علينا الوهن الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: {وليَنَزِعنّ الله الْمَهَابَةَ مِنْ صدور عَدُوِّكُمْ، ولَيقذفن فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، قَالَوا: وَمَا الْوَهْنُ يا رسول الله؟ قَالَ: حُبُّ الدنيا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ} .
إذاً: فالإنسان الذي يتعلق بالدنيا، بزينتها بأموالها بوظائفها بمناصبها ليس لديه استعداد للتضحية فهو حريص على هذه المكاسب ألا تزول، ولذلك ليس له رغبة أن يبذل، أو يضحي في أي مجال؛ لأن عنده مكاسب: أموالاً أو مناصب أو جاهاً أو سمعة أو أمراً معيناً يريد أن يحافظ عليه، فليس لديه رغبة في أن يضحي بأمر من الأمور.(228/6)
أسباب الغثائية
وقد يتساءل البعض: ما هي أسباب الغثائية؟ فأقول: الأسباب كثيرة جداً، لكن أذكر منها سببين ذكرهما الإمام العلامة ابن خلدون في مقدمته، وهما: السبب الأول هو: الشجاعة الفطرية عند العرب، فلذلك اختار العرب سكن البوادي على الحضر؛ لما في الحاضرة من ضعف العز، ولأن الجبن إنما ينشأ من رغد العيش وطيب الحياة والانغماس في الملذات، فالذي ينشأ في الرفاهية والنعيم وحياة المدنية المفرطة، ويعتاد على سكن البيوت والاحتجاب بالأبواب؛ تضعف لديه غريزة الشجاعة ويعتاد الأمن حتى يصبح حاله كحال ذلك الأعرابي الذي قيل له: ألا تغزو وتقاتل العدو؟ فقال: والله إني لأبغض الموت وأنا على فراشي فكيف أركض إليه ركضاً في المعارك، كيف أقاتل العدو؟ أو كحال أسلم بن زرعة الذي وجهه الأمير عبيد الله بن زياد لقتال الخوارج، وبعث معه ألفي جندي، وكان الخوارج أربعين رجلاً لكنهم شجعان أقوياء بقيادة خارجي مشهور يقال له أبو بلال، فلما قاتلوهم حمل الخوارج على أسلم هذا وقاتلوه قتالاً مستميتاً حتى فر هو ومن معه، فلما دخل على عبيد الله بن زياد وبخه وقال له: كيف تهرب من أربعين ومعك ألفا مقاتل؟!! وما زال يوبخه ثم خرج من عنده، فلما خرج قال له الناس: وبخك الأمير.
قال: والله لأن يوبخني الأمير وأنا حي خير من أن يمدحني الأمير وأنا ميت.
إذاً: فكل ما يريده هذا المقاتل أو هذا الزعيم على السرية أن يستمتع بالحياة وأن يظل حياً، وبعد ذلك لا يهمه شيء.
أما العرب الأولون فكانت الشجاعة جبلةً وغريزة فيهم، حتى إن العرب كما قال الألوسي وغيره: إنهم كانوا يتمادحون بالموت قطعاً بالسيوف ويتهاجون بالموت على الفراش.
فيقولون: فلان مات حتف أنفه -أي مات على فراشه- هذا علامة ذل وسب له، أما إذا قالوا: فلان مات مقطعاً بالسيف والسنان والرماح والخناجر، واختلفت السيوف في بطنه، كان هذا دلالة على المدح والثناء عليه.
قال بعض العرب وقد بلغه موت أخيه: إن يقتل فقد قتل أخوه، وأبوه، وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قطعاً بأطراف الرماح وتحت ظلال السيوف.
ومن قصيدة السموأل المشهورة يقول: وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث مات قتيل تسيل على حد الضباة نفوسنا وليست على غير الضباة تسيل أي يفتخر بأنه ما فينا سيد أو زعيم مات حتف أنفه، أي: مات على فراشه، إنما في المعارك وتحت ظلال السيوف.
وكذلك حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول: فلسنا على الأعقاب تدمى قلوبنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما أي لسنا أناساً نفر إذا خضنا المعارك، بحيث نهرب ونصاب من أدبارنا ويسيل الدم على أعقابنا، وإنما إذا أصبنا يصاب الواحد منا وهو مقبل غير مدبر؛ فيقطر الدم وهو مقبل على العدو غير مدبرٍ عنه.
وكذلك من أبيات الشجاعة المعروفة: قول عنترة: بكرت تخوفني الحتوف كأنني أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل لا بد أن أسقى بكأس المنهل فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل وهذه فلسفة واضحة أن الموت لا بد منه، فإذا لم يمت الإنسان قتلاً مات حتف أنفه، إذاً أن يموت شريفاً عزيزاً خير له من أن يموت ذليلاً مهاناً.
ثم يقول ابن خلدون: والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة، ولا ينفر لهم صيد، فهم آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم، حتى صار ذلك خلقاً لهم يتنزل منزلة الطبيعة.
ثم يتكلم عن أهل البدو وما فيهم من الشجاعة، فيقول: وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، فهم -دائماً- يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب، ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس، وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات، ويتفردون في القفز والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ.
أ-هـ إذاً: هناك فرق لأن الإنسان إذا تعود على السكنى في البيوت، وإغلاق الأبواب والاعتماد على غيره، وألف حياة الدعة والراحة، حياة رتيبة فهو معتادٌ عليها، آمن مطمئن واثق، ولذلك أصبح هذا الإنسان يفزع لأي طارق ولم يتعود على الشجاعة، حتى لو أنه سمع صوتاً في أقصى الدار، صوت قط -مثلاً- لفزع وذعر.
كما يروى أن رجلاً سمع صوتاً في أقصى بيته فتوهم أنه لص يريد أن يسرقه، فقام هذا الرجل وهو يرتعد من الخوف والذعر والفزع ومعه السيف، فقال: يا أيها المدل علينا، المغتر بنا، المجترئ علينا، أتعرف هذا السيف؟ إن هذا السيف يسمى لعاب المنية، قد قتلت به وقتلت وقتلت وقتلت -ويذكر بعض الشجعان الأجواد الأقوياء -وما زال يلقي هذه الخطبة وهو يرتجف من الخوف والفزع، وكل لحظة يتوقع أن يغير عليه هذا اللص- فإذا بكلب يخرج من البيت، فلما رآه سكن روعه واطمأن، وقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حرباً.
فكثير من الناس يعتادون على مثل هذه الحياة، فأصبح كل شيء يخيفهم، ولا شك أن الإنسان يستطيع أن يدرب نفسه على حياة الجد والقوة، ومما يقوي على ذلك كثرة الأسفار والخروج إلى الصحاري والتدرب على الانفراد سواءً للعبادة أو للاستطلاع أو للسير، أو لغيرها من المعاني والأشياء التي من شأنها أن تقلل من حياة الدعة والاسترخاء التي يعيشها كثيرٌ من الناس.
أما السبب الثاني: فعبر عنه ابن خلدون رحمه الله تعالى بأنه يعود إلى أن الإنسان لا يملك غالباً من أمر نفسه شيئاً بل يملك أمره غيره، فإذا كانت الملكة رفيقة عادلة، لا يعاني منها حكم، لامنع وصد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، أما إن كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة؛ فإنها حينئذٍ تكسر من سورة أنفسهم، وتذهب بالمنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة -كما قال ابن خلدون -.
ولذلك وبخ عمر رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص في قصة مشهورة حدثت في معركة القادسية.
كان هناك رجل اسمه زهرة بن جوية لحق هذا الرجل الشجاع برجل من الفرس يقال له الجالنوس، لحق به في المعركة فأجهز عليه وقتله وأخذ سلبه وكان خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، أي: مبلغ ضخم، فلما أخذه جاء إلى سعد بن أبي وقاص وقال له: كيف تأخذ سلب رجل خمساً وسبعين ألفاً من الذهب؟! هذا غير معقول! هلا استأذنتني حين أردت أن تلحق به وتقتله، ثم بعث سعد إلى عمر يستشيره في الأمر، فماذا قال له عمر؟ قال له: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به -أي تكلف ما تكلف وعانى ما عانى- وبقي عليك من حربك ما بقي، وتكسر قوته وتفسد قلبه، وأمضى له عمر سلبه.
أي أنت يا سعد في حالة حرب، تحتاج إلى الرجال الأقوياء السادة، وكذلك هذا الرجل له بلاء وخدمة وجهاد فتقابله بمثل ذلك، وتكسر من عزيمته وهمته!! لا.
بل أعطه سلبه ولا تتعرض له بمثل هذا الموقف.(228/7)
العقاب على كل مخالفة ليس من أسلوب التربية
قال ابن خلدون: وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأنه إذا وقع العقاب به ولم يدافع عن نفسه؛ يكسبه ذلك المذلة التي تكسر من ثورة بأسه.
وهذا ينطبق على أرباب الولايات، صغروا أم كبروا، حتى الأب مع ابنه، إذا كان الأب يعود ابنه -مثلاً- على أنه يوبخه على كل شيء، ويعاقبه على كل شيء؛ ينشأ الابن ضعيفاً ذليلاً منكسراً ليس لديه شجاعة ولا جراءة، يخاف من كل أمر ويحسب حسابات كثيرة تجعله لا يقدم على أمرٍ من الأمور، وهكذا المعلم مع تلميذه والشيخ مع طلابه.
ولهذا قال بعض المؤدبين: لا ينبغي لمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط.
وأذكر لكم قصة عجيبة حدثني بها أحد الإخوة الكويتيين منذ فترة من الزمن، يقول: كان هناك رجل له مجموعة من الأطفال فاشترى بيتاً جديداً، وأثثه أثاثاً حسناً، كلفه مبالغ طائلة، فلما نزل هو وزوجته وأطفاله في هذا البيت كانوا في غاية الفرح والسرور، وخرج الأب في يوم من الأيام إلى عمله في الصباح، واشتغلت الأم بالطبخ والتنظيف وإعداد المنزل، أما الصبيان الصغار فقد تفرغوا لهذا الأثاث فأخذ كل واحد منهم سكيناً وذهبوا يعبثون به فأتوا عليه من آخره، خربوا الأثاث وحطموه ومزقوه.
فلما أتى الأب وجد أن هذا الأثاث الذي دفع فيه مبالغ طائلة وأثماناً باهظة قد مزق وخرب شر تخريب، فغضب غضباً شديداً وأتى إلى هؤلاء الأطفال فربطهم بأيديهم وأرجلهم بحبالٍ غليظة، وأسرهم أسراً شديداً، وتركهم فبكوا ثم بكوا ثم بكوا حتى تفتت أكبادهم، والرجل كأن قلبه قدَّ من الصخر، لا يلين ولا يتأثر من هذا المشهد، فلما همت الأم بهم هددها إن تعرضت لهم بالطلاق، فلما يئس الأطفال وتفتت أكبادهم وبحت حلوقهم؛ سكتوا عن البكاء، فلاحظ الأب على أيديهم وأرجلهم زرقة، ولاحظ أن لونها يتغير إلى الزرقة، فاقترب منهم فخاف أن يتطور الأمر ففك هذه الحبال فوجد أن الأطفال أصبحوا يترنحون وقد أصيبوا بالإغماء، فذهب بهم سريعاً إلى المستشفى.
فقال له الطبيب: إن هذه الأجسام قد تسمم الدم في أيديهم وأرجلهم، وهذا الدم المتسمم إذا سار إلى القلب فإن الوفاة محتملة؛ ولذلك لا بد أن تبتر أطرافهم حفاظاً على حياتهم، ووقع الأب ودموعه تنهمر، فوقع على عملية بتر أطراف هؤلاء الأطفال خوفاً من موتهم وهكذا قطعت أيديهم، وكان مما يزيد من حزن هذا الأب وكآبته أن هؤلاء الأطفال بعد أن صحوا من العملية وصاروا يتلفتون وينظر الواحد منهم إلى نفسه بلا يد وبلا رجل، كان كل واحد منهم يقول: أبتي!! أعطني يدي ورجلي ولا أعود إلى مثل هذا العمل، فكان الأب يبكي من ذلك أشد البكاء، ولكن بعد فوات الأوان.
إذاً: هذا الأسلوب في التربية، سواء كان أسلوب الأب مع أطفاله في العقاب الشديد على الخطأ، أو أسلوب المعلم مع طلابه، أو أي ولاية فإنه يورث الناس نوعاً من الذل والمهانة وعدم الثقة بأنفسهم، ويجعل هؤلاء الناس ليس لديهم استعداد للشجاعة والقوة والحمية والأنفة، وإنما هم ناس اتكلوا على غيرهم واعتمدوا عل من سواهم.(228/8)
مواصفات الجيل المطلوب
إن الأمة بحاجة إلى جيل جاد، شجاع، مضح، جيل لم ينشأ على الكأس، والسجارة، والأغنية الماجنة، والصورة الخليعة، والركض وراء المتعة، والزينة في تصفيف الشعر، أو تجميل الثياب بالكي والتلوين والتغيير، أو صيانة السيارات أو المقتنيات أو غيرها.
بل الأمة بحاجة إلى جيل يتقن فن الجهاد حقاً وليس يتقن فن التمثيل، نحن في حاجة إلى جيل لا يسترسل أثناء السلم في النعيم، ولا يخلد إلى الراحة، ولا يستسلم أثناء الحرب للأحقاد والغضب، فيصبح همه القتل والتدمير، نحن بحاجة إلى جيل على نمط ذلك الجيل الذي كان يطالب به يوشع بن نون حين أراد أن يقاتل كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم فقال: {غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ اشْتَرَى إبلاً أو غنماً وَهُوَ يُنْتَظِرٌ وِلَادَهَا، ولا رجل ابتنى داراً ولما يرفع سقفها، ولا رجل ملك بضع امرأة ولما يبن بها} أي: لا يتبعني أحد قلبه متعلق بإبل أو غنم، بل يجلس عند إبله وبقره وغنمه، لأنه لا يصلح للجهاد، وكذلك من بنى شقة ولم يتمها، وقلبه متعلق بتجهيزها وتجميلها فيشتغل بالتبليط، ويشتغل بالبناء، ويشتغل بغير ذلك، وكذلك من عقد على امرأة ولما يدخل بها فقلبه متعلق بمقابلة هذه العروس وليس بالجهاد، هذا لا يصلح لنا.
إذاً: لا يتبعنا إلا إنسان قد تفرغ قلبه للجهاد في سبيل الله وأصبح همه كله منصباً في هذه القضية: قضية الجهاد قضية إنقاذ الأمة، فمثل هذا هو الذي يصلح للجهاد.
فلما قال هذا الكلام تأخر عنه مثل هؤلاء الناس، فلما أقبل على عدوه كانت الشمس تريد أن تغرب، فقال لها: {أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا} فأوقف الله حركة الشمس حتى جاء يوشع بن نون فقاتل عدوه، ثم انتصر عليهم، فأخذ الغنائم، ثم وضعها على الصعيد.
إذاً: الجيل الذي يتخلى عن الزوجة الحسناء، ويتخلى عن المال من إبل وبقر وغنم ووظيفة وغيرها، ويتخلى عن الاهتمام بالدنيا سواء كانت عبارة عن بيت أو سيارة أو أي شيء آخر، وليس المقصود أن يترك هذه الأشياء، فكل هذه الأمور مرغوبة ومطلوبة لكن في يده وليست في قلبه.
هذا الجيل يصنع الله عز وجل له الكرامات إذا احتاج الأمر إلى ذلك، تقف لهم الشمس، وحركة الدنيا كلها، فقوانين الحياة كلها تخضع لهم، أليس الله عز وجل عطل خاصية الإحراق في النار لإبراهيم عليه السلام، وعطل خاصية الإغراق في البحر للمؤمنين في مواضع كثيرة، وأوقف الشمس لـ يوشع؟ فكذلك المؤمنون الجادون الصادقون إذا بذلوا كل ما يستطيعون واستفرغوا الوسع في الأسباب المادية ثم احتاجوا بعد ذلك إلى زيادة، فإن الله تعالى يمدهم بنصر من عنده لم يكونوا يحتسبونه، ولذلك يقول محمد إقبال رحمه الله تعالى: خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم(228/9)
الصياغة الكاملة لسلوك الأمة
قد يقول قائل: إن الناس لا بد أن يسترخوا في حالات الأمن، ويندمجوا مع المادة والشهوة واللذة.
وهذا صحيح، وهنا تأتي مهمة وسائل التربية: المسجد، والمدرسة، والبيت، ووسائل الإعلام وغيرها، التي مهمتها الأساسية هي أنها تطرق دائماً وأبداً على هذا الوتر الحساس، وتحيي في الناس روح الجهاد في سبيل الله عز وجل، بالطرق المتواصل على هذه المعاني.
إن الأمة حين تواجه مشكلة أو معركة كبرى تحتاج إلى صياغة كاملة لسلوكها، ليس صحيحاً أننا حين نواجه معركة نستطيع أن نواجهها بين يوم وليلة، كلا.
فالأمة إذا واجهت معركة لا بد أنها تحتاج إلى صياغة كاملة لسلوكها، وإنني أريد أن أضرب لكم بعض الأمثلة التاريخية السريعة.(228/10)
معركة عين جالوت
المثال الأول: يتعلق بمعركة عين جالوت، يقول أبو الحسن الخزرجي عن أهل بغداد قبل أن يستولي عليهم التتر، يقول في وصف حالهم: واهتموا بالإقطاعات والمكاسب، وأهملوا النظر في المصالح الكلية، واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية، واشتد ظلم العمال، واشتغلوا بتحصيل الأموال.
ويقول قطب الدين الحنفي يصف أهل بغداد في زمن المستعصم: مرفهون بلين المهاد، ساكنون على شط بغداد في ظل النخيل وماء معين، وفاكهة وشراب، واجتماع وأحباب وأصحاب، فما كابدوا حرباً، ولا دافعوا طعناً ولا ضرباً -فهذا حالهم كحالنا اليوم في كثير من البلاد الإسلامية- فلما قيض الله عز وجل للمسلمين الملك المظفر قطز الذي يضرب به المثل في نزاهته، وعدالته، وشجاعته، وحزمه، وصبره، ووفائه، وتضحيته، وحكمته، وإخلاصه في الدين، ويضرب -أيضاً- مثلاً أعلى للحاكم الصالح والرجل الكامل، حتى أنه كان من شدة ما حصل أن التتر حينما زحفوا على العالم الإسلامي يخربون، كان ملوك الشام ومصر مشغولين بقتال بعضهم بعضاً، وكيد بعضهم بعضاً، لا يجدون حرجاً أن يستنجد أحدهم بالصليبيين على منافسيه من المسلمين، وقبيل المعركة الفاصلة قضى الملك قطز مدة طويلة في إصلاح الرعية والمملكة.
وقد ملأ الجيش المصري بروح الفداء والاستماتة للدفاع عن الدين، فإذا به يحن شوقاً للجهاد في سبيل الله عز وجل، واستطاع الملك المظفر أن يهدئ قلوب الناس بعد أن كانت ترجف هلعاً من ذكر التتر، ولما دخل شهر رمضان وصام الناس بضعة أيام؛ نودي في القاهرة وسائر مدن مصر وقراها بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل، ونصرة دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحس الناس وكأنهم في عهد من عهود الإسلام الأولى، وطغى هذا الشعور على جميع طبقات العامة، حتى كف الفسقة عن ارتكاب المعاصي، وامتنع المدمنون عن شرب الخمور، وامتلأت المساجد بالمصلين، ولم يبق للناس حديث إلا الجهاد، وأمست ليلة الجمعة لخمسٍ بقين من شهر رمضان ولم ينم الملك المظفر تلك الليلة، بل قضاها في ترتيب العسكر وإصدار الأوامر، وكان في خلال ذلك يكثر من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن.
إذاً: استطاع بهذا العمل أن يجعل الأمة كلها تعيش حركة جهاد، وحالة استنفار وتعبئة معنوية ونفسية جادة، ولذلك لما بدأت المعركة، وهجم المسلمون على التتر، وهبت رياح الجنة، حينئذٍ خلع الملك المظفر خوذته وصرخ بأعلى صوته وهو يقول: وا إسلاماه (ثلاث مرات) واندفع يضرب رءوس التتر يطلب الشهادة في سبيل الله عز وجل، فحمي المسلمون، وقلدوا ملكهم، واستبسل وزيره بيبرس، ثم قتل قائد التتر، وطوق المسلمون العدو، وحالوا بينهم وبين الفرار، وأفنوهم ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، وانتهت المعركة وخرَّ الملك ساجداً لربه عز وجل، وأطال السجود، ثم رفع رأسه والدموع تتحادر على لحيته حتى سلم من صلاته، وامتطى صهوة جواده، ثم خطب قائلاً: أيها المسلمون، إن لساني يعجز عن شكركم، والله وحده قادرٌ أن يجزيكم الجزاء الأوفى، لقد صدقتم الجهاد في سبيله فنصركم على عدوكم، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] أيها المسلمون، إياكم والزهو بما صنعتم، ولكن اشكروا الله واخضعوا لقوته وجلاله، إنه ذو القوة المتين.
إذاً: الأمة -أولاً- تصاغ على الجهاد ثم تخوض المعركة بعد ذلك.(228/11)
معركة حطين
مثل آخر أقوى وأعظم: في معركة حطين: وكان المسلمون يعيشون في حالة من الضعف والفرقة والذل والهوان ما الله تعالى بها عليم، ثم عادوا إلى التزامهم بالكتاب والسنة، وسرت فيهم روح الجهاد وأعدوا الأمة كلها للجهاد في سبيل الله عز وجل، وخلال بضع عشرات من السنين غير الله تعالى حالة القوم بعد أن غيروا ما بأنفسهم، فكان النصر المؤزر في حطين على يد البطل المظفر المعروف صلاح الدين رحمه الله تعالى، فكيف كان ذلك؟ لذلك قصة تطول، لكن المهم أنه بعد أن انتشر في المسلمين الظلم، وشاع بينهم التعصب المذهبي والجهل، وانتشر التصوف، ولهى السلاطين في منازعاتهم وشهواتهم وانشغالاتهم وملذاتهم، حتى أن أحد الوفود الذين ذهبوا من الشام إلى بغداد يستنجدون بالخليفة، وكان معهم كيس مملوء بالجماجم وشعور النساء والأطفال، فنثروها بين يدي المسئولين لإثارة الحماس، فكان جواب الخليفة أنه قال لوزيره: دعني من هذا لا تعكر مزاجي، أنا في شيء أهم من هذا، إن حمامة البلقاء لي ثلاثة أيام لم أرها.
فالخليفة مشغول بحمامته التي لم يرها منذ ثلاثة أيام، ولذلك لا يهمه أن تنثر أمامه جثث وأشلاء المسلمين في كل مكان.
بعد ذلك بدأ صلاح الدين بتهيئة المسلمين للجهاد في سبيل الله، فأسس المدارس وجعل الدولة تشرف عليها وتدفع رواتب المدرسين، وعرفت هذه المدارس في التاريخ باسم المدارس النظامية، وكان هذا سبباً في انتشار العلم بين الناس، والاهتمام بالكتاب والسنة، ومعرفة الأدلة الشرعية.
ومن بعد ذلك بدأ صلاح الدين حركة إصلاحية تجديدية على كافة المجالات السياسية والتربوية والاقتصادية، ونشطت الدولة في تدريب الجماهير تدريباً عسكرياً، وبث الروح في نفوس الأمة حتى تزايدت العناية بذلك، وأقام نور الدين زنكي ساحات وميادين للتدريب في دمشق، وألف كتاباً في الجهاد، وكان التدريب يقوم على دعامتين: الدعامة الأولى: الإعداد المعنوي والروحي.
والدعامة الثانية: التدريب العسكري.
وفي هذه الساحات والميادين تربى الشاب صلاح الدين الأيوبي وكان نور الدين نفسه يساهم في ميادين التدريب، مثل ركوب الخيل ولعب الكرة، وليس المقصود الكرة الموجودة بل كانت كرة تلعب عن طريق رميها أمام الخيول ثم الجري وراءها، وكانت هذه الساحات والميادين متكاملة البرامج والرجال، فكان فيها مجلس عام للقيادات التربوية يحضره كبار العلماء، وتناقش فيه كافة الموضوعات بروح علمية بعيداً عن التعصب المذهبي أو الحزبي، وكان نور الدين يجلس أمام العلماء كفرد عادي، ولقد ترتب على هذه الجهود تغيير ما بأنفس الناس من أفكار وتصورات وقيم واتجاهات؛ حتى برز جيل مسلم يختلف عن الأجيال السابقة.(228/12)
معركة أشنانة
ولعل من الأمثلة القريبة التي مازلنا نذكر بعض ذكرياتها: قصص الإخوان مع الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى، لو تذكرنا معركة أشنانة -مثلاً- التي خاضها المسلمون ضد الجيش التركي وأبو الرشيد، وكيف أبلوا البلاء الحسن على رغم قلتهم وبساطة وسائلهم، وأن عدوهم كان مدججاً بالأسلحة، وكان معهم مدافع لم تكن موجودة في الجيش المقابل، ومع ذلك انتصروا عليهم، فولوا فارين هاربين وتركوا السلاح، وتركوا الذهب الذي كان يصرفون منه رواتب العمال، لرأينا العجب العجاب.(228/13)
معركة أترابوا
وأعجب من ذلك ما هو معروف في معركة أترابوا، وهي معركة تاريخية مشهورة -أيضاً- ضد الشريف، حيث كان المؤمنون يقاتلون الشريف قتالاً مستميتاً، يقول بعض شهود العيان: من يأتى إلى جيش السعوديين كان لا يسمع لهم إلا دوي كدوي النحل بالقرآن، والذكر، والبكاء، والصلاة، والخشوع، هذا قائم، وهذا راكع، وهذا يرفع يده، وهذا يبكي، وهذا يدعو، وهذا يمرغ خده في التراب لله جل وعلا، فإذا أتيت إلى جيش الشريف فإنك لا تسمع إلا صوت القدور بطبخ العشاء وأصوات الموسيقى، وقوم جالسين على لهو ولغو ولعب، فلما ثارت المعركة فروا وأورث الله تعالى المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم.
كذلك في ليبيا: الحركة السنوسية، وفي الجزائر حركة الجهاد وفي المغرب وفي قتال اليهود في فلسطين، قصص في غاية العجب.
وخلاصة الكلام الذي يمكن أن يقال من خلال هذه الأمثلة: أننا حين نواجه حرباً فإننا لا بد أن نعد الأمة كلها لمواجهة هذه المعركة.(228/14)
التربية الجهادية تربية شمولية
التربية الجهادية -أيها الإخوة- هي تربية شمولية من عدة نواحي: فهي شمولية -أولاً- من جهة أفراد الأمة تعني بالذكر والأنثى، والكبير والصغير.(228/15)
تربية الشباب والأطفال على الجهاد
لا شك أن الشاب المكتمل هو هدف هذه التربية الأساسي، فإن الشباب هم وقود الحروب والمعارك وحطبها، ولذلك فإن العناية بهم أبلغ من العناية بغيرهم، لكن -أيضاً- كبار السن والأطفال والنساء هم هدف لهذه التربية، ولذلك انظر تجد الأطفال الصغار مستهدفين بالتربية الجهادية، فتربيهم في المنزل على بغض الكفار وقتالهم، وتنشئتهم على أخبار الجهاد والمجاهدين، وما أعد الله تعالى في الجنة لهم، وتحفيظهم أناشيد الجهاد في سبيل الله، وتدريبهم على التقوى والطاعة والانضباط بأداء الصلاة، وتربيتهم على الصبر بتعويدهم على الصيام، وتربيتهم على التضحية في سبيل الله بتعريفهم بالدار الآخرة، وأن الإنسان قد يفوته في الدنيا شيء فيجده في الدار الآخرة، وتربيتهم على الثقة بأنفسهم -كما ذكرت- بحيث يربى الصبي على قوة الشخصية، وإذا أصاب يشجع، وإذا أخطأ يمهد له ويبين له الخطأ بطريقة صحيحة.
بل أحياناً مشاركة الصغار في الجهاد مفيدة، ومشاركتهم لها قصص كثيرة لعل من أشهر القصص: ما رواه الشيخان من قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في معركة بدر يقول: {لما ثارت المعركة التفت يميني فإذا صبي صغير، فالتفت يساري فإذا مثله، فقلت: يا ليتني بين رجلين أضلع منهما، قال: فبينما أنا على ذلك نظر إلي الذي عن يميني، فقال: يا عم! أين أبو جهل؟ قلت: وما تصنع به؟ قال: فقد بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الذي لا إله غيره إن لقيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا! -وهو طفل عمره أربع عشرة سنة! - قال: فقلت له: بارك الله فيك.
قال: فبعد قليل دعاني الذي عن يساري، فقال: يا عم! أين أبو جهل؟ قلت: وما تصنع به؟ قال: فقد بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الذي لا إله غيره إن لقيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا! فقلت له: بارك الله فيك.
قال: فإذا أبو جهل يجول في الناس يمنة ويسرة، فقلت لهما: هل تريان هذا؟ قالا: نعم.
فقلت: هذا أبو جهل.
قال: فلما ثارت المعركة ابتدرا إليه كالصقرين فاختلفا فيه بضربتين بسيفيهما، فلما انتهت المعركة جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلاهما يقول: يا رسول الله! أنا قتلت أبا جهل، فقال: هل مسحتم أسيافكما؟ قالا: لا.
فقال: أروني أسيافكما، فنظر إليهما، فقال: كلاكما قتله.
ثم أعطى سلبه لأحدهما} لأن أحدهما كان أبلغ في الضربة فأعطاه السلب، وطيب خواطرهما بقوله صلى الله عليه وسلم: كلاكما قتله.
والأمثلة كثيرة لا أريد أن أستطرد فيها، لكن المقصود أن الصبي الصغير يدرب على معاني الجهاد، ويربى وينشأ عليها معنوياً، وحتى جسمياً، يربى ويدرب عليها، ولا مانع أن يشارك أحياناً في الجهاد.(228/16)
دور النساء في الجهاد
كذلك النساء لهن دور كبير، وإن كان الأمر كما قال الله عز وجل: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] فليست المرأة تحمل السلاح ولا تقود الدبابة ولا تطلق الصاروخ، بل الأمر كما قال الأول: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول لكن ليس مهمة المرأة فقط جر الذيول، إلا أن المقصود أن المرأة تتستر، لكن مهمة المرأة أكبر من جر الذيول، فمهمة المرأة أكبر من ذلك بكثير، إن مهمتها تربية الرجال وإعدادهم للقتال، وهؤلاء أعظم ثروة للأمة، فإننا بإعداد الرجال نكون بذلك استطعنا أن نشغل المصنع، ونصنع الصاروخ والمدفعية والقنبلة، ونخوض المعركة، فإن الأمم بحسب التربية التي يتلقاها الناس في بيوتهم، فهذا دور المرأة.
إذاً: ليست مهمة المرأة القتال، ولذلك جاء في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: {يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نقاتل؟ فقَالَ لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لكن جهاد لا قتال فيه: الحَجٌّ والعمرة} وفي رواية: {لا.
لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ الحج} ففي بعض الروايات (لكُنَّ) وفي بعضها (لكِنَّ) والحديث أصله في صحيح البخاري ورواه ابن خزيمة وغيره.(228/17)
كيفية تربية الفتاة تربية جهادية
وفيما يتعلق بتربية الفتاة التربية الجهادية، أمامنا عدة أمور:(228/18)
إعداد الأمهات الصالحات
أولها: إعداد أمهات صالحات، وتغذية أرواحهن على حب الإنجاب، وتربية الأولاد في طاعة الله عز وجل، وملء نفوسهم بمعاني الجهاد، فإن الأم كما قال حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق ما بالك بأم تربي ولدها على الجهاد، وتملأ قلبه بروح الاستشهاد وحب القتل في سبيل الله عز وجل، ولعلنا أمام مثال واقعي حي، وهو ما نشاهده ونسمعه الآن فيما يسمى بأطفال الحجارة، إن الذين يقاتلون في فلسطين الآن أطفال بعضهم في سن السادسة والسابعة والثامنة، فقولوا لي: من الذي غرس في نفوس هؤلاء الأطفال بغض اليهود؟ من الذي غرس في نفوس هؤلاء الأطفال حب الجهاد في سبيل الله؟ ومن الذي جعل الطفل الصغير يميز هذا يهودي عدو لك، ولا بد أن تخرجه من أرضك، ولا بد أن يحكم الإسلام بلادك؟ لا شك أنهن الأمهات، ولذلك أعظم خطر يزعج إسرائيل الآن كما تقول التقارير الغربية، هو أن الشعب الفلسطيني هو أكثر شعوب العالم الإسلامي تكاثراً وتناسلاً، ولذلك يبذلون جهوداً كبيرة من أجل تقليل النسل، بل إنهم يقومون بمحاولات مستميتة بما يسمونه بالتعقيم؛ لأن اليهود يقولون: إن المرأة الفلسطينية الآن "عش الزنابير".
المرأة الفلسطينية الآن أصبحت مثل العش الذي يخرج زنابير تلسعنا وتلدغنا وتضربنا بالحجارة، فلا بد من تعقيمها بحيث تصبح عقيماً لا تلد، أو على الأقل تقليل الإنجاب وتحديد النسل بكل وسيلة، وأعظم خطر هو ما يسمونه بخطر الانفجار السكاني للشعب الفلسطيني، حتى في إسرائيل نفسها مع التهجير والقتل ومحاولة إبعادهم بكل وسيلة.
إذاً: دور الأم دور كبير؛ لأننا الآن نجد أنفسنا أمام ألوف مؤلفة من الناس بلا دين، أوعقيدة أو هم أو هدف؛ لأنه تربى على أن همه لقمة العيش وكسرة الخبز، وممكن أن نجد أنفسنا أمام عدد ولو قليل ممن تربوا في أحضان أمهاتهم على معاني الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وعلى أيدي هؤلاء يكون نصر الأمة.(228/19)
التربية على الاقتصاد في المعيشة والإنفاق في سبيل الله
الأمر الثاني: تربية النساء على التواضع والاقتصاد في المعيشة، وبذل ذلك في سبيل الله عز وجل، وهذا أمر كبير جداً من أمور التربية على الجهاد، ومن الأمثلة القريبة: نحن نعلم أن كثيراً من النساء موظفات في مدرسة أو إدارية أو في أي مجال من المجالات، والمرأة تأخذ راتباً مثلما يأخذ الرجل في هذه البلاد، فتأخذ راتباً كراتب الرجل، فالمدرسة قد تستلم أحياناً عشرة آلاف ريال شهرياً، وفي الوقت نفسه المرأة مخدومة وليست مطالبة بأن تنفق على المنزل، ولا تشتري البضائع والسلع، ولا أن تشتري الملابس، حتى ملابسها -هي- الزوج مطالب بتوفيرها، وهذا والله من الأمور العجيبة، رأينا في أمريكا أن المرأة تأخذ (60%) فقط من راتب الرجل، مع أنها تعمل مثل عمله، بل أكثر من عمله أحياناً، وفي دخان المصانع وضجيجها وتعبها، ومع ذلك ليس لها من الراتب إلا (60%) فقط، ومع ذلك يدعون مساواة المرأة بالرجل!! أما في هذه البلاد فالمرأة تأخذ كراتب الرجل، مع أنها قد تتمتع بإجازات معينة ولها صلاحيات كثيرة، والمقصود مع ذلك كله أن المرأة تعطى كل هذا الراتب ويقال لها -شرعاً وديناً- أنها ليست مطالبة بالإنفاق على البيت، حتى الملابس التي تحتاجينها زوجك مطالب بأن يوفرها لك، كذلك ملابس الأطفال والأطعمة.
إذاً: هذا المبلغ الضخم الذي تأخذه المرأة ماذا تصنع به؟ لقد رأينا وسمعنا كثيراً من النساء أنها تتبذخ بهذا المال، وتضرب به يمنة ويسرة، ولأنها ليس لها هدف معين؛ فإنها قد تسرف في هذا المال وتصرفه لغير طائل في كماليات وفي أمور لا قيمة لها، بل أحياناً في أمور محرمة! إذاً: فلماذا لا نربي المرأة على أن يكون الجهاد بالمال في سبيل الله من أعظم مهماتها؟ فإنها تستطيع أن تجاهد بالمال ما لا يستطيع الرجل، لأن الرجل راتبه -مثلاً- عشرة آلاف ريال، لكنه بحقوق البيت، وبحاجيات المنزل، ومطالب بتموين السيارة، وبالسكن، ومطالب بأشياء كثيرة؛ ولذلك ربما لا يستطيع أن ينفق شيئاً، لكن المرأة تستطيع أن تنفق كل أو جل راتبها في سبيل الله عز وجل.(228/20)
تربية المرأة على الصبر
جانب ثالث من جوانب تربية المرأة على الجهاد في سبيل الله وهو: تنمية الصبر عند البنات من خلال البيت والمدرسة والمسجد؛ لتكون كل واحدة منهن كـ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، لأن المرأة إن لم تكن امرأة صبور فإنها لا يمكن أن تربي أولادها على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وأنتم تعرفون كثيراً من الأمهات بمجرد أن تسمع كلمة الجهاد والقتال تحاول أن تحوط أولادها، وربما لا تسمح لولدها أن يسافر خوفاً عليه من أن يحصل له حادث في الطريق، فكيف تقبل بفلذة كبدها أن يقاتل في سبيل الله؟! لن تفعل إذا لم تترب على الصبر.
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لها موقف طريف رواه مسلم في صحيحه، يقول أبو نوفل: [[رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة مكة -يعني مصلوباً- قال: فجعلت قريش تمر عليه والناس يمرون عليه، حتى مر عليه عبد الله بن عمر رضي الله عنه فوقف عليه، وقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما -والله- لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، -لأن ابن الزبير حصل قتال بينه وبين بني أمية فقتلوه بمكة.
ثم قال: أما -والله- لقد كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما -والله- لأمة أنت شرها لأمة خير -أي أن أمة يعدونك من أشرارهم حتى يقتلوك فهي أمة خير- ثم ذهب عبد الله بن عمر، فبلغ الحجاج موقف عبد الله بن عمر وقوله؛ فأرسل إلى عبد الله بن الزبير فأنزل عن جذعه فألقي في قبور اليهود، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها يقول: فأتيني، فأبت أسماء أن تأتي إلى الحجاج، فأعاد عليها الرسول قال: تأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، قالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني، فقال الحجاج: أروني سبتيتي -نعالي- ثم انطلق حتى دخل على أسماء، فقال: كيف رأيتيني صنعت بعدو الله -أي ولدها-؟]] وانظر المنطق، انظر التربية، وانظر كيف دور الأم إذا ربيت، فما بكت ودمعت وقالت: الله يخلف علي، وراح ولدي والله المستعان، بل قالت بلهجة المرأة الواثقة الحكيمة: [[رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك]] أي: ما تمتع بالعز والملك والإمارة التي كان يريدها، لكنه أفسد عليك آخرتك بأنك سوف تلقى الله عز وجل بدم مسلم، ثم بدأت توبخ الحجاج فقالت: [[بلغني أنك تقول له: يا ابن ذات النطاقين -أي تعيره- نعم، أنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما فقد كنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً -والمبير هو الذي يكثر القتل- أما الكذاب فقد عرفناه ورأيناه]] تعني: المختار بن أبي عبيد كان يدعي النبوة وهو من ثقيف، وقد جاء أن المختار بن أبي عبيد هذا هو أخو صفية بنت أبي عبيد زوجة عبد الله بن عمر رضي الله عنه، جاء قوم إلى عبد الله بن عمر فقالوا: [[يا أبا عبد الرحمن إن المختار -خال أولادك- يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم]] تقول: أسماء للحجاج: [[أما الكذاب فقد عرفناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه (أي أظنه أنت) ، قال: فقام الحجاج عنها حزيناً كسيفاً ولم يراجعها.
]] ولها مواقف عجيبة: لما حوصر ولدها، جاء إليها وقال: يا أم ماذا ترين، الآن أصحابي قد تخلوا عني وهربوا وانطلقوا، وأنا حوصرت بمكة، وليس معي سلاح، ولا أتباع، أو أعوان وأنصار، فماذا ترين أن أصنع؟ قالت له: يا ولدي! إن كنت إنما قاتلت من أجل الدنيا فبئس العبد أنت، وإن كنت قاتلت من أجل الآخرة فاصبر واحتسب.
قال: يا أم أخشى أن يمثلوا بي! يقول: أنا لست خائفاً من الموت، لكن أخشى إذا مت أن يمثلوا بجثتي على خشبة، ويقطعون يدي أو رجلي أو أنفي أو ما أشبه ذلك، فقالت له: وماذا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها؟! فإذا قتلوك فليمثلوا بك وليفعلوا ما شاءوا، فلما رأى موقفها وشجاعتها، قام إليها وقبل رأسها، وقال: والله يا أمي ما أردت إلا أن تقوي موقفي وإلا فلم يكن من نيتي الفرار ولا الاستسلام، فقاتلهم حتى قتل.
إذاً نحن نريد تربية نساء كـ أسماء رضي الله عنها، تكون وراء ولدها تقويه وتصبره.(228/21)
غرس عقيدة القضاء والقدر في نفوسهن
كذلك من المهمات في قضية تربية الفتاة: غرس عقيدة القضاء والقدر في نفسها وتقويتها، بحيث تعلم بأن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن الآجال والأرزاق بيد الله عز وجل، وأن كل شيء في كتاب لا يتقدم ولا يتأخر.
أما فيما يتعلق بموضوع التمريض وسقي الجرحى وعلاجهم فهذا يتعلق بالناحية التاريخية، لا شك أنه كان موجوداً في عصور الإسلام كلها، ولكنه كان موجوداً وسط الصيانة التامة والبعد في مجال التدريب عن الرجال أو السفور، أو التبرج، وكان يقوم بالتمريض والتدريب نساء هن قدوة في دينهن، وأخلاقهن، وإخلاصهن، وعلمهن، وتسترهن، قبل أن يكن قدوة في خبرتهن وتمريضهن، وكانت النساء تقوم أيضاً بالإجهاز على الجرحى من الكفار، وتترك سلبهم للصبيان الصغار؛ لئلا تبدو عوراتهم، كما ذكر ذلك ابن كثير في أخبار القادسية: أن بعض النساء كن يجهزن على الجرحى من الكفار، أما سلبه -أي أخذ متاعه وثيابه وسلاحه- فإنهن يتركن ذلك للصبيان الصغار لئلا تبدو عورات هؤلاء المقاتلين.
وإنما دعاني على التأكيد على موضوع التستر والصيانة التامة أننا ندرك أن الأهداف السابقة التي تحدثت عنها، هي تربية الأم الصالحة على: إعداد الجيل، والإخلاص، والصبر، والإيمان بالقضاء والقدر، والجهاد بالمال، كل ذلك لا يمكن أن يتم إلا من قبل أم تعلمت كيف تعيش في بيتها، عرفت أن مملكتها هذا البيت، فإذا خرجت منه استشرفها الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس.
ولذلك تلاحظون الحملة المسعورة منذ عشرات السنين في جميع بلاد الإسلام لإخراج المرأة من بيتها بكافة الوسائل، ويستغلون جميع المناسبات لإخراج المرأة من بيتها، حتى كثيراً ما تسمعون مقولة: نصف المجتمع معطل.
فهم يعتبرون أن المرأة ما دامت في بيتها فمعنى ذلك أنها معطلة، والواقع أن نصف المجتمع هذا ليس معطلاً، بل هو يشتغل بداخل المنزل فإننا نجد أن البيوت مهمتها أعظم مهمة، وهذه المرأة هي جندية قائمة على حراسة الأمة، فليس صحيحاً أن بقاء المرأة في بيتها يعني أنها معطلة، خروج المرأة من بيتها لا يعني أنها عاملة، ولعل من العجائب أنهم كانوا يقولون في الماضي: إننا نريد المرأة عاملة، ونريدها موظفة، ونريدها صحيح أن هناك مجالات لا شك أن المرأة يحتاج إليها فيها كالتدريس مثلاً، وما أشبه ذلك من المهمات النسائية وفي المجال النسائي المضبوط بضوابط الشرع، لكن كان بعض الصحفيين يتكلمون على أن الهدف هو إخراج المرأة، ولذلك كانوا ينادون -مثلاً- بوجود السائق، والخادمة، فلما وجد السائق ووجدت الخادمة أصبحوا يقولون: إن المرأة جالسة في البيت بدون عمل لأن الخادمة تقوم بعمل المنزل.
إذاً: لا بد أن نوجد أماكن للمرأة تقضي فيها وقت فراغها، لكن لماذا لا تقضي المرأة وقت فراغها في عملها في المنزل، بقيامها بشئون البيت، وتربية الأطفال، والعناية بالزوج إلى غير ذلك من المهمات الكبرى التي تنتظرها؟ إذاً: من أهداف العلمانيين في كل مكان وزمان أن يعملوا على إخراج المرأة من بيتها بكل وسيلة.
إذاً: فالتربية الجهادية تربية شمولية: شمولية للأطفال الصغار، وللنساء، كذلك هي شمولية للكبار من الشيوخ الذين يعتبرون بحكم أنهم جاوزوا فترة الشباب انتهت مهمة التربية، كلا، بل حتى الموت وهم يتربون على معاني الجهاد في سبيل الله، روى مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن شماسة أن فقيماً اللخمي قال لـ عقبة بن عامر رضي الله عنه: {أراك تختلف بين هذين الغرضين وأنت شيخ كبير يشق عليك -يقول: لماذا تختلف بين هذين الغرضين وتتدرب على الرماية وأنت رجل كبير السن- قال عقبة: لولا كلاماً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعان هذا الأمر -لم اشتغل به- سمعته يقول: من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا} .
إذاً: فـ عقبة يستمر على الرمي لئلا ينساه؛ لأنه يدرك أنه حتى الشيخ كبير السن يجب أن يكون مستعداً للجهاد.(228/22)
شمولية التربية الجهادية في أهدافها وغاياتها
أما الشمولية من الناحية الأخرى فهي: شمولية التربية الجهادية في أهدافها وغاياتها، إنه ليس هدفها التدريب على الرماية والسلاح فحسب، وإن كان هذا جزءاً من أهدافها، لكنها تهدف إلى صياغة الأمة كلها وإعدادها للمعركة.(228/23)
تربية جسدية
ولابد -أيضاً- من التربية الجسدية بالتغذية والوقاية والعلاج، ثم التدريب على ألوان السلاح، وهذا كله يكمل ما سبق.
أليس من المؤسف أن كثيراً من الجهات المحاربة للإسلام أصبحت تسعى إلى شغل عقول الشباب وأمور الناس بأمور ثانوية، وأحياناً قضايا تافهة تصرف عن الأهداف العليا والمصيرية التي تفكر فيها الأمة؟! مثلاً: في كثير من الأحيان تجد الإنسان مشغولاً بلقمة الخبز ويبذل وقته كله في الحصول عليها والسعي إليها، ولذلك ليس لديه وقت لكي يتعلم العلم الشرعي، ولا ليجاهد في سبيل الله، أو ليأمر بالمعروف، أو لينهى عن المنكر، وأصبحوا يعقِّدون هذا الأمر حتى يأخذ وقت الإنسان، وأحياناً يشتغل الإنسان بأمور تافهة، من جنس ما ذكرت قبل قليل، حتى يكون عقله مملوءاً بأشياء وقشور لا قيمة لها، فلا يكون عنده تفكير بهموم الأمة، وإذا لم نفلح في نقل الشباب من هذه الحال فإن هذا يعني أننا لا زلنا دون مستوى التربية الجهادية.(228/24)
تربية عبادية
إن التربية العبادية تقوم بتربية الناس على إقامة الصلاة مع الجماعة، والصوم، والحج، والذكر، وقراءة القرآن، وطلب العلم، والاستعداد للآخرة، وتدرك هذه التربية أن من أخل بهذه الأشياء لا يمكن أن يقوم بواجب الجهاد ولذلك يقول الشاعر: من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح فالإنسان الذي يسمع حي على الصلاة -في صلاة الفجر- ثم لا يقوم لأن الوقت بارد -مثلاً- أو لأنه لم يأخذ قسطه من النوم، فهذا الإنسان لا يمكن أن يستجيب لداعي الجهاد بأي حال من الأحوال: من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح(228/25)
تربية علمية
أيضاً: هي تربية علمية تهدف إلى معرفة الإنسان بالشرع عقيدةً وأحكاماً، وإلى معرفته بواقع الأمة القريب والبعيد، والخطط التي تحاك ضد الأمة الإسلامية، وفقه هذا الواقع بصورة صحيحة، ومتابعة الأحداث بشكل جيد، ومعرفة الثقافة العسكرية وأوضاعها في الأمم كلها.
كيف يتربى اليهود على الثقافة العسكرية؟ وكيف يتربى النصارى على الثقافة العسكرية؟ وكيف تتربى الأمم كلها؟ وكيف يتربى المسلمون؟! ولا مانع من أن يستفيد المسلمون مما عند الأمم الأخرى مما يكون موافقاً للشرع وليس فيه مخالفة.
إذاً: لا بد أن تكون التربية تربية علمية، تربط الناس بالعلم: العلم بالشرع، وبالواقع، بما يحتاج إليه من الأمور العسكرية وغيرها.(228/26)
تربية سلوكية
وهي -أيضاً- تربية سلوكية، تقوم على التزام الناس بالخلق الفاضل، فالذين يتربون ويتدربون ميزتهم الابتسامة والخلق الفاضل، والعدل بين الناس، وإعطاء الناس حقوقهم، وتجنب الفواحش والخمر والدخان وغيرها، والإنسان الذي أخفق أمام نفسه فلم يستطع التخلص من شرب الخمر -مثلاً- أو التدخين، كيف يستطيع أن ينتصر على عدوه؟! هيهات هيهات! ولذلك أذكر أحد المشايخ القدامى -توفي رحمه الله منذ زمن- كان يردد بيتاً من الشعر في الذين هزموا أمام إسرائيل يقول: وجوههم ليست شبيهة وجهه لكنها قد شابهت أوجه الكفر يعني هؤلاء الذين قاتلوا وهزموا، وجوههم ليست مشابهة لوجه الرسول صلى الله عليه وسلم، في مظهرها، وهيئتها؛ لأن المظهر جزء من الشخصية، ولكنها قد شابهت أوجه الكفار.(228/27)
تربية نفسية
هي -أيضاً- تربية نفسية تقوم على ربط الإنسان بمعالي الأمور، ورفعه عن السفاسف، وتنمية الأهداف الكبيرة في النفس، وتربيته تربية عسكرية من خلال الوسائل المختلفة، بحيث تتحول الحياة إلى حياة جهادية، فلا بد أن نرفع الشباب -مثلاً- عن الكرة والرياضة، ومتابعة التشجيع هنا وهناك، وكون همه ينتهي عند هذا الحد ويموت من أجله، ويحيا من أجله، وربطه بمثل أعلى يقاتل في سبيله، فلابد من رفع الشاب عن الارتباط بقضية الشهوة، سواءً تمثلت في الأغنية، أو في نظرة، أو في أي أمر من أمور الشهوات، وجعلهم يفكرون بأهداف الأمة العليا ويحزنون لحزنها، أليس من المؤسف أنك لو جمعت مجموعة من الشباب وسألتهم عن أهم الأحداث التي مرت بالأمة لوجدتهم لا يعرفون متى حصلت، ولا يعرفون كيف حصلت!! وربما يكونون طلاباً في مستويات عليا لو سألتهم عن بعض الأحداث التأريخية الهامة التي حلت بالأمة من أزمات ومصائب: متى وقعت؟ وكيف وقعت؟ وما وراءها؟ لوجدتهم يقلبون رءوسهم ولا يعرفون! لكن لو سألت بعضهم -مثلاً- عن أسماء أبرز نجوم الكرة أو الفن؛ لأخبروك، ولو سألتهم عن تسريحات مايكل جاكسون وغيره، لأخبروك، ولو سألتهم عن آخر الأحداث الفنية؛ لأخبروك.
إن هذا ليس صحيحاً، فلابد أن نربي الشباب ونعبئهم تعبئة نفسية بحيث تصبح أهدافهم عليا، فيرتبطون بالأمة، وأهداف الأمة، ومصير الأمة.(228/28)
شمولية التربية الجهادية في وسائلها
أخيراً أقول: إن التربية الجهادية هي تربية شمولية في وسائلها، فليست شكلية وقتية محدودة، ولكنها تشترك فيها جميع مؤسسات المجتمع بلا استثناء، فالبيت يربي والأم عصب فيه، والمسجد يربي ولذلك كان أول عمل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هو بناء المسجد، فالمسجد كان مكان التدريس، والتعبئة، والعبادة، بل وحتى مكان التدريب في بعض الأحيان كما في الصحيحين وغيرهما، والحديث في المسجد يعني اختيار الإمام للحديث الذي يحدث به الجماعة، هذا نوع من التعبئة والتربية والتدريب، وقد لاحظت أن بعض الناس إذا حدث عن أحاديث الجهاد، وذكر بالجهاد والاستشهاد في سبيل الله، فإن هذا يعينه حتى في الإقبال على الصلاة وغيرها.
إن خطبة الجمعة تعتبر منبراً، فتصور كم كلمة تقال، وكم خطيب يتكلم، وكم مستمع، لو أن هذه الخطب وجهت إلى تحريك مشاعر الناس، وربطها بقضية الإسلام الكبرى وهي الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإعداد الناس لهذا الهدف، ليس القتال من أجل التراب، لا، إنما القتال من أجل كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فليس صحيحاً أن الفلسطيني يقاتل من أجل زيتون يافا أو برتقال حيفا ولا تراب اللد والخليل، أبداً، فإنه سيجد في الدنيا زيتوناً أحسن من زيتونه، وسيجد برتقالاً أحسن من برتقاله وأفخم، وسيجد أرضاً أخضر من أرضه وسماء أجمل من سمائه، فليست القضية قتالاً على هذا ولا ذاك، وإنما هي تعبئة الناس وإعدادهم ليكونوا مقاتلين في سبيل الله عز وجل.
إن الترابط بين الجماعة في المسجد بالاتصالات فيما بينهم والتزاور والتناصح في ذات الله عز وجل هذا من الإعداد، كذلك الندوات الثقافية والمحاضرات في المساجد.
ومما يستحق الإشادة أننا نجد في مثل هذا العصر: كثرة الدروس والمحاضرات في المساجد في العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، فإنك لا تجد بلداً إلا وتجد فيه دروساً منتظمة ومحاضرات منوعة في المساجد، وهذا ليس خاصاً بهذه البلاد مع أن هذه البلاد لها نصيب الأسد، لكنه عام في جميع البلاد الإسلامية، وهو ينم عن صحوة إسلامية علمية ثقافية.
أيضاً الدروس في المساجد سواءً كانت دروس قرآن أو دروساً علمية، فالمقرئ -مثلاً- الذي يحفظ الطلاب القرآن، أليس لائقاً به أن يقف عند آيات الجهاد والاستشهاد، ويحيي في الناس هذه المعاني، أو الشيخ الذي يدرس الناس -مثلاً- كتب السنة أليس لائقاً به أن يقف عند أحاديث الجهاد في سبيل الله عز وجل: كتاب الجهاد كتاب السير والمغازي أخبار المجاهدين في سبيل الله سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا نريد أن يتخرج إنسان يحفظ القرآن فقط لكنه لا يغار لله ورسوله، ولا نريد أن يتخرج إنسان يحفظ صحيح البخاري وصحيح مسلم ولكنه لا يهمه أن تنقلب الدنيا رأساً على عقب، نريد إنساناً يحفظ القرآن، ويحفظ صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومع ذلك يعيش هموم المسلمين ويحزن لأحزانهم، ويسعى إلى الإصلاح بقدر ما يستطيع، ويحاول أن يجاهد في الواقع بكافة الميادين.
أيضاً المدرسة تقوم بتربية علمية وعملية كثيرة، ونشاطات مختلفة علمية وبدنية، ونشاطات صفية وغير صفية، فلا بد أن تشتغل المدرسة الابتدائية، أو المتوسطة، أو الثانوية، أو الجامعة بالتعبئة وإعداد الناس لهذا الأمر.
كذلك وسائل الإعلام يجب أن تربي الناس على الجهاد في سبيل الله عز وجل في كل شيء، حتى الأناشيد التي تبث وتذاع يجب أن تكون أناشيد حماسية تحرك في الناس روح الجهاد في سبيل الله، وترفع الناس عن حضيض الشهوة والمادة والدنيا، ولا يمكن أن نتصور أنا نتغلب على عدونا بحنجرة فلان أو فلانة، كلا، ولا بصوت المغني الفلاني، وإنما نتغلب على عدونا بأن نعد الناس إعداداً صحيحاً تتظافر فيه جميع الوسائل ومنها وسائل الإعلام، فهي تساهم مساهمة فعالة في بناء المجتمع ويدخل في ذلك التلفزة والإذاعة والصحافة وغيرها، يجب أن تجند كما ذكرت في تعبئة الناس وإعدادهم لمعركة الإسلام الكبرى.(228/29)
الأسئلة(228/30)
الجهاد بدون إذن الوالدين
السؤال
ما رأيك في الذهاب إلى أفغانستان، علماً بأن أبي يرفض ذلك؟
الجواب
إن كان ذهابك هو للقتال فأنا لا أرى أن تذهب إلا بإذن والديك، وأرى أنه لا يجوز أن تذهب بغير إذن والديك، أما إن كان ذهابك للدعوة، أو للاستطلاع، أو للتدرب، أو ما أشبه ذلك فإن شاء الله لا حرج، وتستطيع أن تقنع والديك بذلك.
سسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(228/31)
حالنا اليوم يشابه حال المسلمين قبل معركة عين جالوت
السؤال
لقد ذكرت ما فعله أهل القاهرة من التضرع إلى الله عز وجل قبل حرب عين جالوت ضد التتر، ونحن في حالة مشابهة، في حالة تكالب أعداء الله علينا، ولكن الناس لم يتضرعوا ولم يتوجهوا إلى الله عز وجل، وبدءوا بمتابعة التفصيلات الدقيقة في وسائل الإعلام المختلفة ونسوا جانب الله تعالى إلا من رحم الله، رغم أنك ذكرت أن المسلمين قبل عين جالوت كانوا قد انغمسوا في النعيم مثلنا.
نرجو التوضيح أكثر.
الجواب
الواقع أن وضع الناس فعلاً مؤسف، ونستطيع أن نقول باختصار شديد أنه لم يتغير شيء!! وكأننا لسنا في حالة حرب!! وربما أول ما صارت الأحداث تحركت نفوس الناس وزاد رواد المساجد، وأصبح المسجد الذي يصلي فيه صلاة الفجر -مثلاً- صف يصلي فيه صفان، معناه أن الناس ارتفعت معنوياتهم واهتموا، أما الآن فقد عاد كل شيء كما كان، وهذا في الواقع ينذر بخطر شديد، وإنني أدعو أئمة المساجد وطلبة العلم إلى أن يركزوا على هذا الموضوع ويتحدثوا عنه سواء في الأحاديث بعد العصر، أو قبل صلاة العشاء، أو في خطب الجمعة، أو في غيرها؛ ليشدوا الناس ويربطوهم بالله عز وجل، ويذكروهم بأن عذاب الله عز وجل واقع على كل من وجدت فيه الأسباب، كما أن اهتمام الناس بمتابعة تفصيلات الأخبار أحياناً اهتمامٌ بغير وعي، أنا لا أنكر أو أنهى عن متابعة الأخبار، بل من الطبيعي أن الإنسان يتابع؛ لكن بعض الناس كالمسعورين ينتقل من إذاعة إلى أخرى، وقد يسمع تحليلاً فيظنه خبراًَ، وهذا شوش نفوسهم وأوجد عندهم حالة من الرعب والفزع والذعر ما الله بها عليم.
إن المؤمن ينبغي أن يكون عنده اعتدال وإيمان وثقة وتوكل على الله، والمتابعة حينئذٍ تكون متابعة للمعرفة والوعي والإدراك، وليست متابعة حتى يستعد الإنسان كأنه يريد أن ينظر ويرى أقصى ما يستعد فيه أنه يجهز الأطعمة في بيته أو يحول العملة أو يسافر من بلده وما أشبه ذلك.(228/32)
قصة أولاد الخنساء الأربعة
السؤال
لماذا لم تذكر قصة أولاد الخنساء الأربعة؟
الجواب
أقول إنني لم أذكر قصة أولاد الخنساء؛ لأن الإمام الذهبي وجماعة من نقاد الحديث ذكروا أن هذه القصة ليست صحيحة، بل هي قصة منكرة.(228/33)
صدام والمسلمين
السؤال
نسمع أن اليهود لم يفعلوا بالمسلمين ما فعله صدام، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الواقع أن صداماً فعل بالمسلمين الأفاعيل، فقد سبق أن ذكرت في أكثر من مناسبة بعض الجرائم التي فعلها صدام وغير صدام في المسلمين في العراق وغيرها.
وأما اليهود فقد فعلوا بالمسلمين مثل ذلك وأشد منه أيضاً، وينبغي ألا ننسى عداوة اليهود؛ لأننا اشتغلنا بعداوة غيرهم، وهذه من القضايا التي ينبغي أن نحسن التوازن فيها، اليهود أعداء لنا، والنصارى أعداء، والشيوعيون أعداء، والمنافقون أعداء، والبعثيون أعداء، ويقظتنا لعداوة صنف ينبغي ألا تشغلنا عن عداوة الآخرين.(228/34)
الشجاعة ليست خاصة بالعرب
السؤال
يذكر عن بعض القوميات الأخرى شجاعة، كما يذكر عن بعض الأكراد والبربر والأفغان، أليس هذا يناقض دعوى اختصاص العرب بالشجاعة؟
الجواب
في الواقع ليس هناك اختصاص للعرب بالشجاعة؛ لأن البدو شجعان أو أشجع من غيرهم في كل مكان سواء كانوا من العرب، أو من البربر، أو الفرس، أو من غيرهم، فهم أشجع ممن عاشوا في الحاضرة، ولذلك -مثلا- الموحدين من أشجع الناس، يوسف بن تاشفين وأتباعه، والمرابطون وغيرهم في المغرب والأندلس من أشجع الناس، ولهم مواقف شجاعة ومشهورة لأنهم كانوا من بدو الصحراء.(228/35)
الجهاد وسيلة لإعلاء كلمة الله
السؤال
هل الجهاد غاية أم وسيلة لإعلاء كلمة الله طبقاً للمنهج الذي وضحه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن كان الثاني فما رأيكم فيمن يدعو للجهاد ويهمل جانب التصفية العقدية والتربية الإسلامية ويزعم أن الاهتمام بالعقيدة يفرق الأمة ويؤخر النصر؟
الجواب
الجهاد في الواقع هو وسيلة لإعلاء كلمة الله عز وجل، ولذلك الجهاد لا يعني فقط حمل السلاح، بل الجهاد في التعليم، والجهاد في تصفية العقيدة، والجهاد في إصلاح سلوك الناس كل ذلك من الجهاد.(228/36)
علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل
السؤال
حديث [[علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل]] ؟ هل يقتضي هذا الوجوب على المسلم؟
الجواب
هذا ليس بحديث ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(228/37)
قصص المجاهدين الأفغان نموذج لتعبئة الشباب
السؤال
لماذا لم تذكر قصص المجاهدين الأفغان؟
الجواب
نعم.
هي مما يضاف إلى جانب التعبئة التي ذكرت وقصص المجاهدين الأفغان كثيرة، وربما تكون حية بذهن كثير منا، لأن كثيراً من الشباب يتابعونها من خلال الصحف والمجلات وغيرها.(228/38)
الدعوة إلى الله
السؤال
نحن مجموعة من الشباب الطيب عزمنا على الدعوة وإدخال بعض الشباب المنحرف ضمن الدعوة إلى الله، فما توجيهكم ونصيحتكم لنا؟
الجواب
نصيحتي لكم في الاستمرار في هذا العمل، والرفق واللين فإن {الرفق ما يكون في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه}(228/39)
الصيد والجهاد
السؤال
هل ممارسة الصيد مما يعين على الجهاد؟
الجواب
الصيد مشكلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح: {من سكن البادية جفا ومن تتبع الصيد لها -وفي رواية- غفل} فتتبع الصيد يدعو إلى الغفلة.(228/40)
حكم القتال دفاعاً عن الوطن
السؤال
هل القتال دفاعاً عن الوطن يعتبر جهاداً في سبيل الله عز وجل؟
الجواب
سبق أن أجبت على مثل هذا السؤال: إن القتال كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد} ونقول: إذا قتل الإنسان دفاعاً عن الوطن لأنه يريد لهذا الوطن أن ترتفع فيه راية التوحيد وألا يحكمه الكفار أياً كانوا؛ فإن هذا قتال في سبيل الله عز وجل، وكل وطن رفعت فيه راية الإسلام فهو وطن لنا نحن المسلمين، كما قال الشاعر: ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيث ما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطان ويقول آخر: أنا عالمي ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنالك حيث يبعثها المنادي فالقفر أحلى من رياض في رباها القلب صادي فالمؤمن وطنه الأرض كلها، وينبغي أن ترتفع فيها راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن قاتل دون وطنه لترتفع فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله ويحكم بشريعة الله فهذا قتال في سبيل الله عز وجل.(228/41)
الخشونة بين الإفراط والتفريط
السؤال
ما رأيك في الخشونة الزائدة؟
الجواب
الله عز وجل يحب العدل في كل شيء، فعلى الإنسان ألا يكون متأثراً بردود الفعل، نعم الخشونة مطلوبة في الرجال دائماً وأبداً، وإذا رأيت الشاب يهتم بمظهره وتسريح شعره وهندامه ويبالغ في ذلك؛ فاعلم أن وراء ذلك نفسية مهزومة، وتعلقاً بالدنيا، وترفاً، وضياعاً، وضعفاً، فالاعتدال مطلوب؛ لأن الإنسان إذا أخذ نفسه بالخشونة الزائدة بعد فترة ربما يمل ويترك هذا الطريق، ويعود إلى ما كان عليه من قبل.(228/42)
الدخول إلى الكويت
السؤال
أرغب بالتوجه إلى الكويت للانضمام إلى المقاومة الإسلامية، لكن الطريق مقطوع بالجيش العراقي، والأمل ضعيف في الدخول فقد أسقط في يد القوات العراقية؟ فهل هذا هو إلقاء النفس إلى التهلكة مع العلم أنني أعلم أن الطريق مقطوع ولن أذهب بالسلاح؟
الجواب
في مثل هذا الظرف ما دام أن الإنسان لم يتيسر له الدخول، فإنني أنصح الأخ بأن يصبر ويجاهد حيث هو بالدعوة إلى الله عز وجل، وتعلم العلم وتعليمه، والصبر والدعاء، وأساليب الجهاد ووسائله كثيرة، وقد سبق أن أجبت على سؤال شبيهٍ بهذا.(228/43)
الأسماء والكنى والألقاب (الألقاب)
يتحدث الشيخ في هذا الدرس عن الألقاب والأحكام المتعلقة بها، حيث بدأ بتعريف عام للألقاب ثم وضح أسباب الألقاب مع ذكر الأمثلة لكل سبب بأسلوب شيق ومفيد، وبين المحمود من الألقاب والمباح منها، مفصلا ما يكره مدرجاً في المكروه كراهة التحريم وموضحاً بعض الألقاب الأجنبية التي يتساهل فيها الكثير من الناس جهلاً منهم بمعانيها وأحكامها، ثم أجاب على مجموعة من الأسئلة المتنوعة والتي أغلبها تدور حول نفس موضوع الدرس مما زاد الأحكام وضوحاً، كما احتوت الإجابات على العديد من التنبيهات حول ما يختلط فهمه على بعض الناس كالفرق بين الاسم واللقب من ناحية الحكم، والفرق بين المداراة والمداهنة، وغيرها الكثير من الفوائد والمعلومات.(229/1)
تعريف الألقاب وأسبابها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالليلة ليلة الإثنين الخامس عشر من شهر شعبان لعام 1410 للهجرة وفي هذه الليلة ينعقد الدرس الخامس من سلسلة الدروس العامة وهو الجزء الثالث من الكلام عن الأسماء والألقاب والكُنى, وهذه الليلة خصصتها للكلام عن الألقاب ما يحسن منها, وما يقبح, وما يجوز منها, وما لا يجوز.
والألقاب المقصود بها: ما يطلق على الإنسان على سبيل المدح أو الذم غالباً, فهي ألقاب تطلق على الناس إما بقصد مدحهم في صفة من الصفات, أو ذمهم بها, وقد ورد ذكر الألقاب في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] .(229/2)
بسبب صفة جسمية
والسبب الأول: قد يكون إطلاق اللقب على الإنسان لصفة جسمية فيه, مثل ما قيل مثلاً: عن الأحنف بن قيس التميمي الشجاع, البطل, الحليم، الذي كان يضرب به المثل في الحلم فيقال: (أحلم من الأحنف) وله في ذلك قصص عجيبة منها: أنه كان يوماً جالساً مع قوم, فجاءت الجارية بطعام حار لتضعه، فسقط من يدها على بعض أولاده فأصابه, فغضب عليها غضباً شديداً, فقالت له: [[ (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فسكت وقال: قد كظمت غيظي، فقالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) فقال: قد عفوتُ عنكِ، فقالت: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فقال: أنتِ حرة لوجه الله تعالى]] .
وقيل له يوماً من الأيام: [[ما حِلْمُك؟ قال: والله إني لأجد مثل ما تجدون, ولكنني أصبر نفسي]] فهو يجد من الألم مثل ما يجد غيره لكنه عود نفسه الصبر حتى صبر, وسمي الأحنف لحَنَفٍ ومَيْلٍ في رِجْلِه, وكانت أمُّه تُرَقِّصُهُ وهو صبي صغير, وتقول: والله لولا حَنَفٌ برجله وقلةٌُ أخافها من نسله ما كان في فتيانكم من مثله فهذا لقبٌ لهُ - الأحنف - لهذا الحنف والميل الذي كان في رجله.
ومثله: الأشج: وهو لقب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله، أشج بني مروان, وأشج بني أمية, سقط من على فرسه فشج وجهه وأصابه دم, فكان أبوه يمسح الدم عن وجهه ويقول له: والله إن كنت أشج بني مروان إنك إذاً لسعيد, وذلك لأنه ورد أنه في بعض كتب أهل الكتاب السابقين أن رجلاً يقال له الأشج يحكم هذه الأمة ويَعْدِل فيها, وفيه البشارة بخروجه, وكان أبوه يمسح الدم عن وجهه ويقول: والله إن كنت أشج بني مروان إنك إذاً لسعيد.
فهذه الألقاب لهؤلاء بأوصاف جسمية فيهم، ومثله قال الله عز وجل: {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:2] وهو عبد الله بن أم مكتوم , وكان قد وُلِدَ أعمى, أو عمي في أول عُمُرِه كما سبق تقريره في الدرس الماضي, وكذلك اشتهر عند المترجمين والرواة والمؤرخين ألقاب كثيرة مثل (الأعرج، الطويل، القصير، البطين، الأحول) إلى غيرها من الألقاب المتعلقة بصفات خلقيه لهؤلاء الملقبين.(229/3)
بسبب صفة خُلُقية
والسبب الثاني: في التلقيب أنه يعود إلى صفات خُلقية تتعلق بأخلاقهم, ولعل من ذلك: الفاروق عمر رضي الله عنه فإنه كان قوياً في الحق يفرق بين الحق والباطل, وكذلك كان الشيطان يفرق من ظله -يعني: يخاف ويهرب- كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عمر: {ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك} يعني طريقاً غير طريقك, فسمي بذلك.
ومثله: الصديق لأنه كثير الصدق، كثير التصديق, ما بلَّغه النبي صلى الله عليه وسلم بأمر إلا صَدَّقَه, ولما كانت حادثة الإسراء والمعراج كََذَّبَ الناسُ وصَدَّقَ أبو بكر رضي الله عنه, صدَّق أبو بكر فسُمِّي الصديق , وفى صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة عجيبة فيها نطق بعض الحيوانات وكلامها فقال عليه الصلاة والسلام: {أما إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر} فنطق النبي صلى الله عليه وسلم في غيبة أبي بكر بأن أبا بكر يؤمن بهذا, لأنه لُقِّب بـ الصديق لكثرة تصديقه.
ولعل منه أيضاً: لقب حيدرة وهذا لقب يطلق على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يقول وهو في معركة خيبر يقاتل اليهود ويقول: أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة أكيلكم بالصاع كيل السندرة فسمته أمه حيدرة , وحيدرة هو: الأسد, يقولون إن للأسد سبعين اسماً في لغة العرب، أحدها حيدرة, فسمي علي رضي الله عنه بـ حيدرة تفاؤلاً، وهكذا رضي الله عنه كان من أشجع الشجعان, وأقوى الفرسان, وله في ذلك قصص ومواقف عجيبة ومشهورة, منها قصته في معركة فتح خيبر, فلقب بذلك لشجاعته وبسالته رضي الله عنه.
ومنه: الفياض طلحة بن عبيد الله، لُقِّب بـ الفياض لكثرة فيضه وجوده وكرمه رضي الله عنه, وكان غنياً جواداً سمحاً باذلاً للمال, فسمي بـ الفياض.
يقول علماء الحديث ومن ذلك: أن محمد بن عبد الرحيم، أحد الرواة كان يسمى صاعقة , هذا لقب له، نزل منزلة الاسم له بدلاً من أن يقولوا: محمد بن عبد الرحيم يقولون: صاعقة , وذلك لأنه كان قوي الحفظ جداً، ما إن يسمع شيئاً حتى يحفظه, فسمي بـ صاعقة لفرط ذكائه وقوة حفظه.
ومنه أيضاً: شيخ الإمام مالك، ربيعة بن عبد الرحمن، أو ربيعة بن فروخ , كان يسمى ربيعة الرأي , وهو إمام فقيه عالم حتى أن الإمام مالكاً رحمه الله لما مات ربيعة , قال ذهبت لذة الفقه بعد ربيعة، سمي ربيعة هذا بـ ربيعة الرأي لأنه كان بصيراً بالقياس والرأي والتعليم فلقب بذلك.
ومثله أشياء كثيرة تتعلق بأوصاف الملقبين الخُلُقية.(229/4)
بسبب حادثة عرضت له
السبب الثالث: الذي قد يلقبون به أنه قد يلقب بلقب معين لحادثة من الحوادث عرضت له, ولعل من أشهر ما وقع في ذلك: القصة التي ذكرتها فيما مضى: قصة ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، فإنها لقبت به وهذا لقبٌ يعتبر من جهة، وإن كان يدخل في الكنى من جهة أخرى.
لقب لأنه مدح, سميت ذات النطاقين لأنها في حادثة الهجرة شقت نطاقها وهو الشيء الذي تتحزم به المرأة في وسطها, فاعتجرت بواحد وحزمت القربة بواحد فسميت بـ ذات النطاقين.
وكذلك يشبهه قصة الصحابي: الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم ذا البجادين واسمه عبد الله بن عبد نهم , وقد ذكر العلماء في ترجمته كما ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة وغيره من طرق عديدة وكثيرة جداً أن عبد الله هذا كان يتيماً نشأ في حجر عمه فكان عمه يحسن إليه إحساناً كثيراً ويجود عليه بالمال, فعلم عمه أن عبد الله هذا قد أسلم, فقطع عنه كل شيء حتى إنه خلع عنه الثوب الذي كان يلبسه, ليضيق عليه لعله يرتد عن دينه, فجاء إلى أمه فأعطته ثوباً فشقه نصفين جعل النصف الأول إزاراً, والنصف الثاني رداءاً له, ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وكان يكون حاجباً لباب النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا, ً ومن عجيب وطريف ما وقع له ما ذكره ابن مسعود رضي الله عنه، وورد هذا عنه من طرق عديدة أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال ابن مسعود: {استيقظت في وسط الليل فوجدت شعلة في المعسكر فقمت فذهبت فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر , وقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم في القبر ليدفن عبد الله ذا البجادين -فقد مات في تلك الليلة- قال: فأضجعه النبي صلى الله عليه وسلم في قبره ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم إني أمسيت راضياً عنه فارضَ عنه فبكى عبد الله بن مسعود، وقال: يا ليتني كنت صاحب الحفرة, يا ليتني كنت صاحب الحفرة} فهذا ذو البجادين , لحادثة وقعت عارضة، لكنها فيها مدح وثناء له لأنه بذل وجاهد في سبيل الله عز وجل.
ومثله: ذو النورين عثمان رضي الله عنه؛ لأنه تزوج بنتين من بنات المصطفى عليه الصلاة والسلام رقية , وأم كلثوم , فسمي ذو النورين.
ومثله سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما سمي سفينة , لأنهم كانوا يحملون متاعاً فكانوا يحملون شيئاً، أما هو رضي الله عنه فقد حمل شيئا كثيراً, وضع على كتفه هذا شيئاً, وعلى كتفه هذا شيئاً, وفى يده شيئاً, وفى يده الأخرى شيئاً, وحمل أشياء كثيرة, وضم بين يديه شيئاً, فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سفينة لكثرة ما حمل من المتاع يومئذ, وهكذا يعرف في الروايات الكثيرة أنه سفينة.
ومثله في مجال الحديث والمحدثين: غندر، وهو: محمد بن جعفر الهذلي مولاهم فإن غندراً هذا لا يعرف في الروايات كما في الصحيح وغيره إلا بـ غندر، وأحياناً يقولون: حدثنا محمد بن جعفر , وإنما سمي بـ غندر لأنه أكثر من الأسئلة في مجلس ابن جريج كان كل قليل يقوم ويسأل ابن جريج سؤالاً, ثم يسأله, ثم يسأله, حتى ألحفه بالسؤال, فقال له: (يا غندر) فمِن يومِئذٍ أصبح يُعرف بهذا اللقب.
ومثله أيضاً: عند المحدثين: مُطيّن، محمد بن عبد الله الحضرمي: اسم محمد بن عبد الله الحضرمي وإنما سمي مطيناً ً لأنه كان في طفولته يلعب مع الصبيان, فأخذوا طيناً فيه ماء وبدأوا يضعونه على ظهره، يطيِّنون ظهره, فمن يومئذ أصبح يسمى مطيناً , واشتهر عند المحدثين بهذا الاسم.
وتجده في التراجم: مثلاً في تقريب التهذيب, وفي تهذيب التهذيب وفي غيرها من الكتب, يقولون لك: مطيناً هو محمد بن عبد الله الحضرمي، وإذا رجعت إلى الفصل الخاص بالألقاب قالوا لك مطيناً محمد بن عبد الله الحضرمي.(229/5)
بسبب إحسانه لعمل معين
السبب الرابع: الذي قد يلقب به الإنسان أنه قد ينسب إلى عملٍ يحسنه, فمثلاً: سعد القرظ أو القَرظ بفتح القاف, هذا هو مؤذن من مؤذني المسجد المكي مسجد الكعبة, وإنما سمي بـ سعد القرظ لأنه كان يبيع القرظ التي تدبغ به الجلود كما قال عليه السلام: {يطهره الماء والقرظ} فكان يبيع بها حتى ربح من ورائها, وعُرِف بها فصار يُسمي بـ سعد القرظ وليس كما يتوهم بعضهم أنه منسوب إلى بني قريظة, كلا، فهو مكي.
ومثله زكريا بن يحي السجزي السجستاني , زكريا هذا كان يسمي بـ خياط السنة , هل تدرون لماذا كان يسمى بـ خياط السنة؟ هذا لقب معبر خياط السنة.
قيل لأنه كان يخيط فيشترط أن يكون الثوب وفق السنة, فوق الكعبين, هذا تعليل جيد, لكن العلماء ذكروا أنه سمي بـ خياط السنة , لأنه كان تخصص في خياطة أكفان أهل السنة, يعني إذا مات رجل من أهل السنة كان يخيط كفنه, أما إذا مات مبتدع رافضي أو قدري أو جهمي أو غير ذلك, فإنه يرفض أن يخيط له ويتركه، فمن ذلك سمي بـ خياط السنة.
وأمثال ذلك كثير ممن نسبوا إلى أعمال أو مهن قاموا بها كما يقال الخياط، الحناذ، الحناط, القصار، الوراق, إلى غير ذلك.(229/6)
بسبب منصب معين
السبب الخامس: الذي قد ينسب إليه أنه يتعلق بمنصب معين وليه هذا الإنسان, فيلقب بما يناسب ذلك المنصب, ولعل من هذا الصنف أو النوع: الألقاب التي تطلق على الملوك والحكام في كل بلد كما هو معروف أنَّ مَن مَلِكَ الرومَ سُمِّى (قيصراً) ومَن مَلِكَ الفُرْسَ سُمِّى (كسرى) , ومَن مَلِكَ المصريين سُمِّى (الفرعون) أو (فرعوناً) , ومَن مَلِكَ الحبشةَ سُمِّى (النجاشي) , ومَن مَلِكَ الأقباطَ سُمِّى (المقوقس) , وقد ذكر الحافظ مغلطاي أسماءً كثيرة جداً: مَن مَلِكَ اليمن سُمِّى (تُبَّعاً) أو (ذو تُبَّع) أو (ذو يَزِن) وذَكَرَ مَن مَلِكَ مُدناً كثيرة وسماها وقال الحافظ ابن حجر في بعض ما ذكره نظر.
فهذه من الألقاب التي أطلقت عليهم بحكم المنصب، ويدخل في هذا في عصرنا الحاضر بعض الألقاب المتعلقة مثلاً بالمناصب سواء كانت مناصب إدارية, أم عسكرية, أم علمية, يطلق على أصحابها ألقاب معينة, كما يطلق مثلاً في مجال الدراسات الجامعية، يطلق عليه (دكتور) مثلاً، وإن كان في هذه التسمية ملاحظة سوف أذكرها بعد قليل, إنما المقصود أنه قد يلقب الإنسان بلقب بالنظر إلى الوظيفة أو المنصب الذي شغله, سواءً أكان منصباً مدنياً أم عسكرياً, علمياً أم عملياً, إلى غير ذلك.(229/7)
بسبب أدنى ملابسة تعرض له
وقد يلقب الإنسان بلقب لأدنى ملابسة تعرض له: ولعل من طريف ما ورد في ذلك: النحام , نعيم بن عبد الله النحام , نعيم النحام هذا إنما سمي بـ النحام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنني دخلت الجنة فسمعت نحمة نعيم} , والنحمة هي: النحنحة, ومن يومئذ سمي بـ نعيم النحام , فلا يعرف إلا بذلك فيقال: روى نعيم بن عبد الله النحام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال, وهذا لقبه هو وليس لقب لأبيه كما يُتَوَهَّم.
وأيضاً من طريق ما يروى في ذلك أن أهل التراجم والسير ذكروا في ترجمة مسدّد , أن هذا لقب له, وليس اسماً, وترجمه عدد من العلماء ممن ذكر قصة طريفة له, منهم: الإمام العجلي صاحب كتاب الثقات وغيره، يقول العجلي: إنه جاء إلى مسدّد هذا فجلس عنده يملي عليه الحديث, مسدّد يملي الحديث, والعجلي يكتب, قال: فكتبت عنه حديثاً كثيراً حتى ضجرت -مَلَّ من كثرة الكتابة- قال: فقال لي: يا أبا الحسين اكتب اكتب، فأمْلَى عليَّ بعدما ضجرت خمسين حديثاً, يمليها عليَّ بأسانيدها قال: ثم خرجت من عنده, فرجعت إليه مرة أخرى في الرحلة الثانية, فوجدت زحاماً على بابه شديداً, حتى لم أستطع الخلوص إليه قال: فقلت: قد أخذتُ حظي منك, قد أخذتُ حظي منك، يعني في المرة الأولى أخذت الحديث منك ما فيه الكفاية.
يقول العجلي: (سألني أبو نعيم ما اسم مسدّد؟ -يعني: نسبه, سألني عن نسبه, فقلت له: مسدّد بن مسرهد بن مسربل بن مستورِد أو مستورَد , والبخاري أضاف بعد ذلك مرعبل -أن هذا اسم جده مرعبل، يقول: فقال لي أبو نعيم: يا أحمد ما أرى هذه إلا رُقْية العقرب, ما أرى هذا اسم إنسان, ما أراها إلا رُقْية العقرب!) وذلك لما في اسمه من الغرابة, والعجمة, فكلها أسماء غريبة وإن كان اسمه الأول مسدّد عربي ومعناه معروف من التسديد وهو التوفيق, هذه الأسباب التي تجعل الإنسان يُلَقَّب بلقبٍ ما.(229/8)
ما يُحْمَد من الألقاب
النقطة الثانية في موضوع الألقاب: وما يحمد منها: الذي يحمد من الألقاب أنواع, منها:(229/9)
ما كان أثراً مِن آثار الطاعة
ما كان أثراً مِن آثار الطاعة, مثل ما سبق في ذات النطاقين , وفي ذي البجادين , والصديق , والفاروق , وحيدرة وهو اسم علي , والفياض.
ومثله أيضاً الغسيل حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه، غسيل الملائكة, فإنه رضي الله عنه كان حديث عهد بعرس فلما سمع الهيعة والصياح والنداء للجهاد, قام من على بطن زوجته وخرج للقتال, قبل أن يغتسل فقُتِِل في تلك المعركة, فلما قُتِل وَجَدَ الصحابةُ رضي الله عنه أنه غسل, وأن الماء يتساقط من أعضائه, ولما حملوه وجدوه خفيفاً ليس له محمل, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسألوا زوجته عنه, فذكرت لهم أنه خرج وهو جنب لم يغتسل, فمن يومئذ سمي بـ الغسيل , وقد وردت تسميته بهذا الاسم الغسيل في بعض أسانيد صحيح البخاري، فهذه تُمدح لأنها أثر من آثار الطاعة.(229/10)
ما أطْلَقَه النبي - صلى الله عليه وسلم -
كذلك مما يُمْدَح من الكُنى ومن الألقاب: ما كان من إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم, فإن النبي عليه السلام كل ما يصدر منه خير, فإذا لقب أحداً من أصحابه أو كنى أحداً من أصحابه بكنية أو لقب فإنها خير, ولذلك كان يفرح بها ويحبها ويفضلها على غيرها.(229/11)
ما كان دليلاً على صفة محمودة
ومن الألقاب الممدوحة المحمودة ما كان دليلاً على صفة محمودة في صاحبها, مثلما إذا لُقِّب إنسانٌ بالصَّدوق مثلاً لأن الناس جرَّبوا عليه أنه لا يقول إلا صدقاً, فإن هذا مما يحمد له، ولقد ثبت في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة, فأثنى الناس عليه خ، قيل: هذا رجل صالح, هذا بَرٌّ بوالدَيه, هذا مقيمٌ للصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ} ثم مُرَّ بجنازة أخرى فأثني عليها شراً، قال بعضهم: هذا عاقٌّ لوالديه, وقيل: هذا قاطع للرحم, وقيل: هذا مؤذٍ لجيرانه, فقال عليه الصلاة والسلام: {وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ} قالوا: وما وجبت يا رسول الله؟ قال: {هذا أثنيتم عليه خيراً فوَجَبَتْ له الجنة, وهذا أثنيتم عليه شراً فوَجَبَتْ له النار، أنتم شهود الله في أرضه} .
فما كان من الألقاب دليلاً على صفة مدح في صاحبه فهو مما يمدح ويحمد.(229/12)
ما يباح من الألقاب
أما ما يباح من الكنى والألقاب فهو ما لا يدل على مدح ولا ذم في صاحبه, وقد يدل على عيب فيه، ولكنه يرضى بذلك، فمثلاً موضوع الألقاب التي ذكرت قبل قليل مما يتعلق بالصفات الجسمية مثل الأعمى، الأعرج، القصير، الطويل، البطين، الأعور، الأعمش إلى غير ذلك, من الألقاب التي تعتبر فيها نوع من التنقص لأصحابها, هذه الألقاب إذا كانوا راضين بها, فإنه يجوز إطلاقها عليهم, ولذلك اشتهر عند العلماء والمحدثين إطلاقها، حتى إن بعض الرواة لا يكاد يُعْرَف إلا بها, وقد قال أبو داود: إن الإمام أحمد سئل عن إطلاق مثل هذه الألقاب إذا كان صاحبها راضياً؟ فلم يرَ بذلك بأساً، وقال: هؤلاء الناس يقولون: الأعمش، والأعرج، والأعمى، والطويل، ولم ير بذلك بأساً, فإذا كان هذا قد غلب على الإنسان وعرف واشتهر به, وكان هو لا يكرهه, ولا يمنع منه, فإنه مباح ويجوز إطلاقه عليه.(229/13)
ما يكره من الألقاب
أما النقطة الرابعة: فهي المذموم والمكروه ومن هذه الألقاب, والمذموم منها كثير فمن المذموم منها:(229/14)
ما كان فيه مضاهاة لمقام النبوة
من الألقاب المكروهة أيضاً: ما كان من الألقاب فيه مضاهاة لمقام النبوة، لمقام النبي صلى الله عليه وسلم, فإن في بعض الألقاب ما لا يليق إطلاقه على صاحبه لما فيه من المساس بمقام النبي صلى الله عليه وسلم.
مثلاً حجة الإسلام كما أسلفت كثير من العلماء المترجمين يطلقون على أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء, يطلقون عليه حجة الإسلام, بل تجد ذلك في كثير من كُتُبِه يُكْتَبُ على طرة الكتاب تأليف: حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي , أما الرافضة فهم يطلقون اليوم حجة الإسلام على كثير من مراجعهم الدينية, في عدد من البلاد.
ولا شك أن الحجة على الخلق هو الرسول صلى الله عليه وسلم, هو الذي جعله الله تعالى حجة على العالمين، كما قال تعالى {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] , ومثل لقب: أفضل العالم، فإن هذا لا يصح إطلاقه إلا على الرسول صلى الله عليه وسلم, وبعض الناس خاصة الشعراء والأدباء يتوسعون في إطلاق بعض الألفاظ لأناس لا يستحقونها، وينسون مقام النبوة، بل ينسون مقام الربوبية والألوهية أحياناً, ولعلكم تعرفون قصة ذلك الشاعر الباطني الخبيث الذي وقف أمام أحد خلفاء الفاطميين يمدحه ويقول له: ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنتَ الواحد القهارُ وكأنما أنتَ النبي محمدٌ وكأنما أصحابُك الأنصارُ فجعل لهذا الإنسان مقام الألوهية ومقام النبوة معاً, وهذا ليس بغريب على الباطنية من الفاطميين وأمثالهم من القرامطة والغلاة, لكن الأدباء حتى من غير الباطنية يتسامحون في هذه الألقاب ويطلقونها على من لا يستحقها, فلا يجوز إطلاق مثل هذه الألقاب على أحد من البشر, وأفضل العالمين أو أفضل الناس هو محمد صلى الله عليه وسلم.
ومثله (سيد الكل) أو (سيد الناس) أو (سيد ولد آدم) فهذه كلها للرسول عليه الصلاة والسلام، وفى صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر} وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة نحو هذا اللفظ عن أبي سعيد الخدري: {أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر} فهو سيد ولد آدم, فتلقيب غيره بهذا لا يجوز، مثل أن يقال (سيد الكل) أو (سيد الناس) وهذه موجودة مع الأسف حتى في مجال العلماء كثيراً، وفي المصنفات تجد سيد الناس، وهناك عالم مشهور إمام هو: ابن سيد الناس، شارح سنن الترمذي, وهناك في هذا العصر سيد الكل اسم مشهور في بعض البيئات والمجتمعات.
ومن الألقاب التي ينبغي الامتناع عن إطلاقها لقب (إمام الأئمة) وهذا اللقب يطلق على عالم فحل فذ مشهور, هو الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح, صحيح ابن خزيمة والمصنفات المشهورة المعروفة, يسمى إمام الأئمة، وصاحب كتاب التوحيد أيضاً، وهو كتاب فذ في بابه, لكن الواقع أن إطلاق لقب إمام الأئمة عليه فيه نظر, فإن إمام الأئمة هو محمد صلى الله عليه وسلم, ولا ينبغي أن يطلق هذا اللقب على غيره.(229/15)
الألقاب الأجنبية
أيضاً من الألقاب التي ينبغي الامتناع من إطلاقها الألقاب الأجنبية التي تكون مصادرها من أمة أخرى من اليهود مثلاً، أو من النصارى، أو من أي أمة من الأمم الكافرة, أو من الشيوعيين أو غيرهم؛ وعلى سبيل المثال: الألقاب العلمية فالآن في الجامعات في البلاد العربية والإسلامية, قد يلقبون الإنسان إذا بلغ درجة معينة ببروفيسور، وأحياناً يلقبونه بدكتور إذا أَخَذَ الشهادة المعروفة, وهذه الألقاب العلمية لا شك أنها ألقاب أجنبية, وقد ذُكِر الدكتور ولا يصلح أن نقول: الدكتور، ونحن ننهى عنه.
ما رأيكم؟ حسناً نقول: ذكر الشيخ بكر بن عبد الله في كتابه تغريب الألقاب العلمية وهي رسالة لطيفة مفيدة, وكذلك فيما أعتقد في معجم المناهي اللفظية ذكر لقب دكتور وأنه في الأصل كان اسماً عند اليهود لمن يكون حاخاماً عندهم عارفاً بالكتاب المُقَدَّس, ويشرحه للناس, ثم انتقل إلى النصارى وصاروا يطلقونه على من يعرف الإنجيل ويعلمه, ثم دخل إلى الجامعات في القرن الثاني عشر في بولونيا, ثم انتقل بعد ذلك إلى جامعات في فرنسا وغيرها, ثم إلى الجامعات العربية والإسلامية, وحذَّر الشيخ بكر من إطلاق هذا اللقب، وقال: إنني كدت أن أنساق مع هذا التيار الذي يطلق لقب (دكتور) لكن الله تعالى حماني من ذلك، لا شك أنه من الجدير بالجامعات الإسلامية أن تسعى في تعريب هذا اللقب والبحث عن لقب عربي إسلامي له, بخلاف مثلاً لقب (محاضر) أو (معيد) فإنها ألقاب عربية لها أصولها التاريخية المعروفة.
كذلك ألقاب الشهادات مثل (شهادة الدكتوراه) أو (الماجستير) أو (الليسانس) أو (الباكالوريا) أو (الباكالوريوس) -كما يقولون- كل هذه ألقاب أجنبية وأسماء أجنبية لهذه الشهادات, فينبغي تجنبها والبحث في إيجاد البديل من الأسماء العربية, التي هي باللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم.
وكذلك من الألقاب التي تطلق على المناصب، سواءً أكانت مناصب عسكرية, أم غير عسكرية, فمن المناصب العسكرية المشهورة أنهم أحياناً يطلقون على بعض العسكريين (كولونيل) أو (مارشال) أو (ميجور) أو (سنيور) أو غير ذلك من الألقاب والأسماء الأجنبية الأعجمية, التي لا نعلم نحن معناها ولا أصلها, وكان في لغة العرب الواسعة ما يكفي للبحث عن أسماء صحيحة لهذه الأشياء, ولله دَرُّ حافظ إبراهيم، شاعر النيل حين تكلم على لسان اللغة العربية فقال: رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي إلى آخر القصيدة الجميلة التي تشتكي فيها اللغة العربية من تسرب الأسماء الأعجمية والأجنبية إليها.
هذه أهم الأسماء التي ورد النهي عنها, وأود أن أشير إلى أنه جاء في القرآن الكريم ذكر الكنى، وأن هذا الموضع الذي جاء ذكره إنما يقصد فيه النهي عن الكنى المذمومة التي لا يرضى بها أصحابها, وذلك لأن سبب نزول الآية كما ذكر المفسرون أن الناس لما جاء الرسول عليه السلام إلى المدينة ربما كان للواحد منهم اسمان فيكره أحدهما, فنزلت هذه الآية.
وبذلك نكون قد انتهينا إن شاء الله من مبحث الأسماء والألقاب والكنى, وفي الأسبوع القادم سنطرح موضوعاً جديداً إن شاء الله تعالى.
أما الآن فإلى الأسئلة.(229/16)
الألقاب المنسوبة إلى الملة أو الدين
ومن الألقاب المكروهة أيضاً: الألقاب المنسوبة إلى الملة وإلى الدين, كما يقال في كثير من الأحيان فلان علم الدين, وشمس الدين, ونور الدين, وزكي الدين, وعز الدين, أو ينسب إلى الإسلام فيقال مثلاً: حفيظ الإسلام, أو نور الإسلام, أو ما أشبه ذلك, فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته في الألقاب فتوى في الألقاب، وكذلك ابن القيم في تحفة المودود أن أول ما وجدت هذه الألقاب عن طريق دولة بني بُوَيْه؛ لأن العجم لما استولوا على الدولة وتغلبوا عليها نقلوا مثل هذه الألقاب, ففي أول الأمر كانوا ينسبون إلى الدولة، فكانوا يقولون: فلان ركن الدولة, أو عضد الدولة, أو بهاء الدولة, ثم بعد ذلك انتقلوا وصاروا ينسبونه إلى الدين فيقولون ركن الدين، عز الدين, أو بهاء الدين, أو ما أشبه ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد يكون كثير ممن يلقب بذلك هو بضده, فيسمى ركن الدين وهو هادم الدين, ويسمى عز الدين وهو يسعى في إذلاله, وقد يكون تلقيبه بضد ذلك وعكسه أولى من تلقيبه به, فهذا أيضاًَ من الكذب, وهو مكروه إلا إذا اشتُهِر بذلك, وكان في تغييره ضرر عظيم على الإنسان فقد يتسامح في هذا، كما يفهم من كلام شيخ الإسلام في الفتوى التي أشرت إليها سابقاً, أما إذا كان على سبيل الابتداء والإنسان مخير فإنه لا ينبغي له أن يطلق مثل هذه الألقاب.
ولعل مما يدخل في ذلك أيضا أن كثيراً من العلماء المتقدمين والمتأخرين كانوا يلقبون الشيخ ابن تيمية بشيخ الإسلام، وهذا اللقب -والله تعالى أعلم- أن الشيخ رحمه الله نفسه قد لا يحبه ولا يريده لنفسه، لا شك في هذا, لكنه لقب عرف به واشتهر فأصبح يتسامح فيه لذلك, ولبلاء الشيخ رحمه الله في الإسلام وحمايته وحياطته للسنة وذبه عنها وصبره عليها, حتى أطبق الناس على تلقيبه بذلك, وإن كان هذا اللقب في الأصل غير مستحسن، إنما يتسامح فيه لما سبق، وإن أمكن أن يلقب الشيخ بغير ذلك كأن يقال الإمام العالم المجتهد الفقيه المجدد المصلح يكون هذا أفضل من التلقيب بـ شيخ الإسلام من باب الوفاء للفتوى التي أصدرها الشيخ بكراهية مثل هذه الألقاب, وإذا ثبت أنها مكروهة فإن الأولى تجنبها.
وأشير إلى أن بعض المعاصرين أصبحوا يطلقون على علماء البدعة ألقاب لا تليق بهم, فنحن نجد مثلا في علماء الرافضة من يسمى بحجة الإسلام, وآية الله العظمى, وآية الله, وما أشبه ذلك من الألقاب الفخمة, التي احتجنوها لأنفسهم وتسموا بها وهي منهم براء, وهم براء منها, وحينئذ يصدق عليهم قول القائل: وكم من أسامٍ تزدهيك بحسنها وصاحبها فوق السماء اسمه سَمْجُ وكذلك يقول الإمام الصنعاني في قصيدة يتهجم فيها على الألقاب التي وضعت على من لا يستحقها وذلك في ديوانه يقول: تَسَمَّى بنور الدين وهو ظلامه وذاك بشمس الدين وهو له خسف يعني أسماءً هي في الواقع نقيض حقيقتها.(229/17)
ما يكون فيه مضاهاة لمقام الألوهية
ما يكون فيه مضاهاة لمقام الألوهية, وذلك أننا نجد بعض الناس قد يسمي نفسه باسم لا يجوز إلا لله تعالى, مثل: (ملك الملوك) أو (شاهٍ شاه) كما عند العجم وعند الفرس, وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن أخنع اسم عند الله تعالى رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله} , , فهذا أخنع وأحط وأذل اسم عند الله عز وجل بأن يسمي رجل نفسه بملك الأملاك, أو ملك الملوك, وذلك لأن في هذا منازعة لله عز وجل في ملكه وحكمه.
قال سفيان: وذلك مثل: (شاهٍ شاه) وقد تعجب بعض الرواة كيف أن سفيان - رضي الله عنه ورحمه - يفسر الكلمة العربية بكلمة أعجمية؟! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ملك الملوك} وسفيان يقول: مثل (شاهٍ شاه) !! والجواب على ذلك: أن سفيان رحمه الله مثَّل بلقب كان موجوداً في عصره ومشتهراً, حتى يقرب الأمر للناس, ولذلك نحن الآن عندما يقال ملك الملوك لا نعرف لأننا لا نعلم أن أحداً يتسمى بهذا في هذا العصر, لكن (شاهٍ شاه) نفهمه جيداً أننا نعرف أن ملك الفرس الهالك كان يسمى بشاهٍ شاه يعني: (ملك الملوك) (ملك الأملاك) ولذلك الله عز وجل وضعه, وأذله في الدنيا, كما وعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد ألحق بعض أهل العلم كما ذكر الإمام ابن القيم في مواضع من كتبه منها: زاد المعاد في الجزء الثاني, ألحق بذلك التلقب بأمير الأمراء, أو حاكم الحكام , أو قاضي القضاة , حتى أن الإمام ابن القيم قال في بعض أهل العلم: لا يصلح أن يسمى بقاضي القضاة إلا من يقضي بالحق, وهو خير الفاصلين, وإلاَّ {فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر:68] , وهو: الله عز وجل، وإن كان بعض أهل العلم تسامحوا في ذلك, حتى أنك تجد في تراجم بعضهم فلان قاضي القضاة, وقد يكون قاضي قضاة البلد الفلاني, فيقولون قاضي قضاة مصر, أو قاضي قضاة الشام, أو ما أشبه ذلك, لكن علماء آخرين ألحقوها بالألقاب المكروهة التي فيها مضاهاة لـ (ملك الملوك) و (شاهٍ شاه) وما أشبهها.(229/18)
ما فيه تزكية مطلقة لصاحبه
النوع الثاني من الألقاب المكروهة والممنوعة ما فيه تزكيه مطلقة لصاحبه مثل من يتلقب بالمتقي, أو التقي, أو المطيع, أو الراشد, أو الرشيد, أو الراضي, أو المحسن, أو المنيب, أو ما أشبه تلك, فإن في هذه الألقاب تزكية مطلقة لصاحبها ولذلك ذكر جماعة من أهل العلم النهي عنها, أما إطلاق هذه الألقاب على الكفار فلا شك أنها لا تجوز، فبعض الناس يطلق مثل هذه الألقاب على الكفار.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن أمر يشبه هذا، قد روى أبو داود في سننه والبخاري في الأدب وابن السني والبيهقي في شُعَب الإيمان وغيرهم, عن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقولوا للمنافق سيدنا؛ فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل} .
وهذا الحديث سنده صحيح، وفيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يطلق لفظ (سيد) على المنافق, ومثله الفاسق المظهر للفسق, ومع الأسف أن كثيراً من الناس أصبحت هذه الكلمة دارجة عندهم يقولون يا سيد أو يا سيدي على كل من لا يعرفونه بَرَّاً كان أو فاجراً, مؤمناً كان أو كافراً, وهذا الإطلاق بهذه الصورة غير سائغ, لا يجوز إطلاقه على الكافر ولا على المنافق, ولا على الفاسق المظهر للفسق, فمن باب أولى لا يجوز أن نُطلق على الكافر فنقول له مثلاً الرشيد, أو المنيب, أو التقي, أو المتقي, أو ما أشبه ذلك, لا يجوز لأن ذلك من الكذب الصراح البواح.(229/19)
ما فيه ذم لصاحبه
أيضا من الألقاب الممنوعة المكروهة: ما يكون فيه ذم لصاحبه وهو لا يرضى به، كأن يكون الإنسان يلقب بالأعرج أو الأعمى أو الأعور, وهو لا يرضى بهذا, بل يبغضه ولا يرضى به, فلا يجوز حينئذٍ إطلاقه عليه, يشترط أن يكون راضياً به.(229/20)
الأسئلة(229/21)
حكم عبارة ريِّح ملائكتك
السؤال
هناك بعض الناس حتى من المتعلمين يطلق عبارة (ريِّح ملائكتك) علماً بأن بعض العلماء ذكر مثل مضمون هذه العبارة، فهل يجوز مثل هذا؟
الجواب
ورد هذا في أثرٍ عن عائشة رضي الله عنها، ذَكَرَهُ مالك في الموطأ ولا أظنه يصح، ولذلك لا أرى أن يطلق؛ الملائكة عليهم السلام لا نعلم أنهم يَتْعَبُون حتى يقال ريِّحْهُم مثلاً من عدم الكلام, إنما ريِّح نفسك - في الواقع - إذا كان كلاماً في غير طاعة وفي غير ذكر الله تعالى، فرَيِّح نفسَك منه، لأنه تَعَبٌ عليك في الدنيا وحسابٌ عليك في الآخرة.(229/22)
حكم مناداة الشخص باسم عائلته
السؤال
ما حكم مناداة الشخص باسم عائلته؟
الجواب
لا حرج في ذلك.(229/23)
حكم الأسماء المخالفة للشريعة التي تَرِد على الموظفين
السؤال
ما رأيكم فيما يَرِدْ من الأسماء التي تَرِدْ على الموظف وهي مخالفة للشريعة, مثل عبد النبي وغيرها وهو ليس بإمكانه أن يغير منها شيئاً علماً أنه لو غير منها شيئاً لأخل بالمعاملة خصوصاً بأنه يرد فيها أحكام شرعية؟
الجواب
لا شك في أن هذه الأسماء التي وردت في معاملات رسمية لا يمكن تغييرها؛ لأن تغييرها يترتب عليه مساءلة ومحاسبة, وقد يترتب عليه فوات حقوق للإنسان, لكن عليه أن ينصح صاحب هذه المعاملة ويبين له أن هذا الاسم فلا يجوز التعبيد لغير الله مثل: وعبد النبي، وعبد الكعبة، عبد المطلب، وعبد الرسول، وعبد الحسين, فكل هذا لا يجوز, فيبين له أن التعبيد لغير الله لا يجوز وأن عليه أن يغير هذا الاسم هذا كل ما يستطيعه.(229/24)
حكم التلقيب بألقاب الصحابة والعلماء
السؤال
ما حكم التلقيب بألقاب الصحابة أو العلماء, جزاكم الله خيراً وغفر للجميع اللهم أمين؟
الجواب
هذه الألقاب إذا كانت خاصة مثل: الفاروق والصديق فلا ينبغي؛ لأنه ذهبت الألقاب هذه لأهلها: لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمُقْعَدِ(229/25)
أسماء غير معروفة
السؤال
في هذا الزمان خرجت علينا أسماء لا نعلم معناها مثل (روْلا، مَي، أسير، تصبير، عبد الجبار، جَبُوري) وغيرها ما رأيكم بهذه الأسماء؟
الجواب
الحقيقة بعض هذه الأسماء من الأسماء الأجنبية التي ذكرتُها في الدرس، وأنها وفَدَتْ على الأمة الإسلامية وعلى اللغة العربية من الأعاجم، ولذلك هي غير معروفة المعنى وغير معروفة لدى المسلمين.(229/26)
حكم التلقيب بالسَّلَفي أو الأَثَري
السؤال
يقول: ما رأيك فيمن يتلقب بالسلفي أو بالأثري ونحوها وهو لا يقصد التزكية بل يكون علم عليه؟ ثم كاتب السؤال هو أبو إبراهيم السلفي؟ وأبو إبراهيم بارك الله فيه لماذا كتب السلفي قبل أن يسأل عن ذلك؟
الجواب
في الواقع أن هذه التسمية لا أرى إطلاقها؛ لسبب هو: أنها لا ينبغي أن تكون محتجره, كأننا نصف أنفسنا بذلك ثم نخرج غيرنا من هذا, وهذا فيه سبب للاختلاف والتفرق أحياناً, فإن السلفية ليست مجرد لقب يطلق بل هي التزام وسلوك واعتقاد ومنهج وعلم وعمل ودعوة من تحقق بها فهو من أتباع السلف الصالح ولو لم يتسمَّ بذلك.(229/27)
الجمع بين ترك الرواتب في السفر وحديث: [مَن حافظ على اثنتي عشرة ركعة]
السؤال
هذا سؤال أو مجموعة أسئلة طويلة لا بأس أن نختم بها، يقول: أولاً: ذكرتَ في شريط بلوغ المرام رقم (76) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي الرواتب إذا كان مسافراً, وهذا من هديه صلى الله عليه وسلم سوى راتبتي الفجر والوتر, فكيف نجمع بين هذا الفعل وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم حبيبة {مَن حافظ على اثنتي عشرة ركعة} إلى آخر الحديث؟
الجواب
هذا والله تعالى أعلم يحمل على ما سوى المسافر, أما المسافر فإنه يصلي من النوافل ما شاء لكن الرواتب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصليها في السفر إلا راتبة الفجر.(229/28)
الفرق بين المداراة والمجاملة
السؤال
ذكرتم في شريط التعامل بأخلاق الإسلام الجزء الأول الصدق في حمل الدين بأن يكون اعتقاد الإنسان في دينه وقيامه بدعوته عن صدق وإخلاص واعتقاد صحيح, وليس عن نفاق أو مجاملة لمن حوله, السؤال: في هذا الزمن إذا أردتُ أن ادعوَ شاباً منحرفاً فلابد أن أسلك معه المجاملة وذلك بعدم ذكر أخطائه وممازحته والتدرج في هذا المجال حتى أرشده في الأخير إلى الطريق السليم، فهل هذا ينطبق عليه كلامكم؟
الجواب
في الواقع إنه هناك فرقاً بين المجاملة والمداراة، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: [[مداراة الناس صدقة]] ونُقِل هذا المعنى عن جمع من السلف, أما المجاملة على حساب الدين فلا شك أنها لا تجوز, أما المداراة ومراعاة المصلحة وتقديم الأهم فالأهم, فلا شك أن هذا من الحكمة, فأنت إذا رأيت على إنسان مجموعة من الأخطاء والعيوب, ليس من المعقول أن تقف أمامه خطيباً فتقول أنت يا فلان فيك وفيك وفيك , ثم تسرد له عشرين خطأ وقع فيه في لحظة واحدة, وتقول: ما عليّ أريد أن أبرئ ذمتي, هو يعرف الأخطاء هذه قبل أن تقولها له لأنه هو الذي فعلها, لكن أنت تريد أن تخرجه -بإذن الله تعالى- من هذه الأخطاء، وحينئذ لا بد أن تتدرج معه ولابد أن تكسب قلبه ولابد أن تحاول أن تحسن إليه إذا استطعت, ثم تبدأ بالأخطاء الكبيرة ثم تنتقل منها إلى الأخطاء الصغيرة.
والرسول صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن قال له - كما في صحيح البخاري عن ابن عباس -: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله} فبدأ بالشهادتين؛ لأنهما الأهم وهما ركن الإسلام الركين, {فإن هم أطاعوك في ذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة, فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم} إلى آخر الحديث.
اقتراح حول موضوع آداب طالب العلم: نحمده تعالى على إقبال طلاب العلم على الدروس العلمية، لكن هناك بعض الأشياء التي تخفى على طالب العلم من أهمها: آداب طالب العلم, وطَرَقَ هذا الموضوعَ كثيرٌ من العلماء، وإنني أطلب إفراد دروس لهذا الجانب, ويكون يوم الأحد نحن معشر الطلاب في أمس الحاجة إليه، خاصة ونحن نرى من يسيء الأدب في حضور بعض الدروس العلمية, حتى إنني رأيت أحد الطلاب بعد نهاية الشيخ من عرض إحدى المسائل وأدلتها، يسأل هذا الطالب قائلاً: هل بقي في هذه المسألة أدلة؟ فيقول له الشيخ: لا، فإذا بالطالب يقول: هناك أدلة كذا وكذا، وتكون إجابة غير صحيحة من الطالب؛ والقصص والحوادث التي تحدث من الطلاب كثيرة جداً يقع جزء منها في حلقات المساجد والجزء الكبير في بعض الجامعات, ومن شباب طيبين, فحبذا لو أنكم ركَّزتم على هذا الجانب لكي نستفيد منه معاشر الطلاب, وإنني لم أتقدم بهذا الاقتراح بقصد التشهير, ولكن هذا الموضوع كثيراً ما يضايقني في الدروس، ويكون هذا الفعل سبباً في ترك هذا الطالب هذه الحلقة وكذلك أقصد استفادتي وإخواني الآخرين, أسأل الله أن يعينك على هذا العمل الطيب البنَّاء، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
الرد: وأنتَ فعليك السلام ورحمة الله وبركاته، شكر الله لك حسن أدبك في السؤال, حيث إنك أحَلْتَ إلى الموضع الذي ذكرتُ فيه الكلام, ثم أورَدْتَ السؤالَ بطريقة طيبة تدل على أن الله تعالى آتاك أدباً, نسأل الله لك ولإخوانك المزيد.
وسبق هذا الاقتراح من عدد من الإخوة قرأتُ أوَّلها، والباقي لم أقرأه اكتفاءً بما سبق, وسأخصص دروساً إن شاء الله للآداب العامة وهي آداب مفيدة وطريفة وفيها قصص وعجائب, وأخلاق طيبة, والدرس كموعده إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سبحانك الله وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله.(229/29)
حكم تشبيه أشخاص بالصحابة
السؤال
يقول: هل يجوز تشبيه شخص باسم صحابي مثل فلان يشبه فلان؟ هل هؤلاء يشبهون الصحابة؟
الجواب
التشبه بالصحابة وارد: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاحُ ثم إنك إذا قلت بأن فلاناً يشبه فلاناً, هذا الكلام صحيح كل إنسان يشبه أي إنسان من بعض الوجوه, فإذا كان مسلماً شبَّهتَه من وجهٍ ما برجل صالح، كما إذا شبهته مثلا بصحابي في أمر من الأمور، الشبه موجود لا نقول أنه مثله، التمثيل هو الذي لا نقبله، لا نقول أن فلاناً مثل سعد بن أبي وقاص , لا، ليس مثله في الواقع, بل إن بينهم فرقاً كبيراً, أما الشبه فيمكن أن يكون يشبهه، يشبهه في النطق بالشهادتين, ويشبهه بأداء الصلوات الخمس, يشبهه أحياناً في قيام الليل, يشبهه في طلب العلم, ويشبهه في بعض الوجوه لا حرج في هذا.(229/30)
ما ورد عن ليلة النصف من شعبان
السؤال
يسأل عن ليلة النصف من شعبان، ما ورد في ذلك؟
الجواب
كثيرٌ من الأحاديث الواردة في فضل النصف من شعبان وصيامه وقيامه لا تصح, وقد أضاف إليه أهل البدع أشياء كثيرة جداً فصاروا يخصصونه في الصيام, ويخصصون ليلته في القيام, ويعتقدون أنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، وهذا ليس بصحيح.(229/31)
شرح الغسيل
السؤال
يقول: أرجو منك إعادة شرح الغسيل؟
الجواب
حنظلة بن أبي عامر , أبوه: أبو عامر الذي كان يسمى في الجاهلية بالراهب, فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر به وصار يسمى بالفاسق, وذهب إلى الشام ثم رجع يؤلب على الرسول صلى الله عليه وسلم, أما ابنه فكان رجلا صالحاً هو: حنظلة بن أبي عامر يسمى بـ حنظلة الغسيل لأنه خرج للغزو وهو جُنُب، قام من على بطن زوجته فلما قُتِل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته فسمي بـ حنظلة الغسيل.(229/32)
حكم قول: (سِسْتَر) للمرضات
السؤال
ما حكم اللقب المتداول في المستشفيات بين الأطباء والمرضى, وذلك في قولهم للممرضات (سِسْتَر) ويعني: أخت, حيث إنه يوجد الكثير منهن كافرات؟
الجواب
إذا كانت الممرضة كافرة وهذه ملاحظة جيدة فإنه يحرم أن يطلق عليها هذا اللقب (سِسْتَر) مثلاً, لأن معناه - كما ذكر الأخ -: أخت, وكذلك بعضهم يقول: (رفيق) أو (صديق) وقد يطلقها على رجل كافر، وكثيراً ما يقول: (رفيق) أو (صديق) وهذا لا يجوز, لأن الإسلام يفرق بين الناس.(229/33)
حكم التسمي بالعالم الرباني، أو بالعالم العلامة
السؤال
ما رأيكم في التسمي بالعالم الرباني أو بالعالم العلامة؟
الجواب
هذا الاسم لا يسمي الإنسان به نفسه وإنما يسميه به الناس, فيقولون: فلان العالم الرباني أو العالم العلامة لا حرج في ذلك إذا سماه الناس به.(229/34)
حكم تغيير اسم مَن أَسْلَمَ حديثاً
السؤال
سؤال يتعلق بالدرس السابق، وهو هل يلزم تغيير اسم من أسلم حديثاً من النصارى غير العرب إلى اسم عربي وإسلامي وتغيير اسم شهرته؟
الجواب
إذا كان الاسم الذي تسمى به أصلا من الأسماء الخاصة بالنصارى, فإنه يُغيِّر إلى اسم إسلامي, لكن إذا كان الاسم الذي تسمى به في الأصل اسماً ليس خاصاً بالنصارى, كأن يكون هذا النصراني نصرانياً عربياً وله اسم عربي، فمن النصارى في البلاد العربية كالعراق مثلاً ولبنان ومصر وغيرها من يتسمون بأسماء عربية، كأن يسمى نفسه (بماجد) أو ما أشبه ذلك, فهذا لا يلزم التغيير لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يغير أسماء أصحابه، وقد أسلم ألوف مؤلفة من جميع الأمم والملل والأديان والنحل, ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير أسماءهم, لكن تغيير الاسم الذي يكون خاصاً بالنصارى مثل إذا أسلم واسمه جورج مثلاً فإنه يغيره إلى اسم إسلامي كعبد الله أو أحمد أو محمد, وكذلك إذا كان يهودياً فأسلم, أو امرأة فأسلمت وكان اسمها من الأسماء الخاصة بأهل الكتاب, فإنها تغير.(229/35)
الفرق بين الاسم واللقب
السؤال
إذا كان هناك عامل أو موظف اسمه (سيد) فكيف نسميه؟
الجواب
إذا كان هذا اسمه فلا بأس بدعائه به, لا أعلم حرجاً في أن يُدعى به, لأن هناك فرقاً بين الاسم العَلَم وبين اللقب, ينبغي أن ننتبه لذلك فهناك فَرْق بين العَلَم وبين اللقب, فإذا كان هذا اسمه (سيد) فإنه يدعى بذلك, أما إذا كان لقب يطلق عليه إشارة إلى أنه من السؤدد فهذا الذي يجري فيه الكلام السابق.(229/36)
حكم التسمية باسم مالك
السؤال
يقول: هل يجوز اسم (مالك) أليس المالك الله جل وعلا؟
الجواب
يجوز اسم (مالك) , وخازن النار اسمه: مالك، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] , والمالك هو الله لكن (مالك) يمكن أن يسمى المخلوق مالكاً, ولذلك الله عز وجل وصف الإنسان في القرآن الكريم مثلاً بالسمع والبصر {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيْراً} [الإنسان:2] , مع أن الله سبحانه وتعالى هو السميع البصير, ومثل ذلك في القرآن كثير, فيطلق على المخلوق بحسبه ولذلك ورد في صحيح مسلم أيضاً في حديث جابر الطويل أن رجُلَين اسم أحدهما جابر واسم الآخر جبَّار , صليا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأقامهما خلفه فأحدهما جبَّار مع ذلك لم يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه.(229/37)
حكم المزاح بالألقاب المذمومة
السؤال
ما حكم مَن يُلَقِّب أحداً بلقبٍ يَذُمُّه ولا يرضاه مِن قبيل المزاح؟
الجواب
إذا كان لا يرضى بذلك ولا يسمح به واللقب فيه ذم لا يجوز إطلاقه عليه.(229/38)
البشارة بعمر بن عبد العزيز في الكتب السابقة
السؤال
ما ذكرتَ أن عمر بن عبد العزيز مبشرٌ به في الكتب السابقة، أهذا صحيح؟
الجواب
ذكر هذا بعض المترجمين، والحقيقة بالنسبة لي أشك في هذا الأمر, أشك في ثبوته, وأنه مخبر به في الكتب السابقة لم أجد دليلاً يؤكد ذلك من رواية الثقات.(229/39)
حكم إطلاق أسماء الأعلام على المدارس والشوارع إلخ
السؤال
إطلاق أسماء الأعلام على المدارس أو الأسر في المراكز أو المحلات التجارية أو الشوارع أو ألقابهم أو كناهم ما رأيك فيها؟
الجواب
إذا لم يكن في هذا وضيعة من شأنهم, فلا أرى في ذلك حرجاً إذا كان في ذلك مجال أن يكونوا قدوة وأسوة يقتدى بهم ويُعْرَفون، فهذا لا بأس به ولا أرى فيه حرجاً, وإذا لم يكن أيضاً مدعاة لأن يؤدي ذلك إلى تعظيمهم ورفعهم فوق منازلهم.(229/40)
حكم تلقيب بعض الحيوانات
السؤال
هذا يسأل عن تلقيب بعض الحيوانات؟
الجواب
لا بأس بتلقيب بعض الحيوانات، ولعلي ذكرت فيما مضى أن كثيراً من الحيوانات الموجودة في عهد النبي صلى الله عليه, مثل خيل الرسول صلى الله عليه وسلم وإبله وشياهه -أيضاً- كانت لها أسماء معروفة, وممن ذكر هذه الأسماء تفصيلاً الخزاعي في كتابه تخريج الدلالات السمعية، ثم ذكرها من بعده أيضاً الكِتَّاني في كتابه التراتيب الإدارية في عهد الدولة النبوية، ذكروا أسماء الحيوانات للرسول صلى الله عليه وسلم, كإبله, وخيله, وكذلك أسماء الحمير التي ركبها صلى الله عليه وسلم, وأسماء شياهه وإلى غير ذلك, وهذا من دقتهم في ضبط كل ما يتعلق بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.(229/41)
الطول: صفة محمودة أم مذمومة؟
السؤال
يقول: ذكرتَ -رحمك الله- أن صفة الطويل من الصفات المذمومة ولكن أرى أن كثيراً من الناس يطلقونها على أنها صفة محمودة فما قولك في ذلك؟
الجواب
هذا لا إشكال فيه، الله عز وجل يحب العدل والاعتدال, فالحقيقة أن الأمر المحمود من الصفات هو الاعتدال بين الطول والقصر, ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ربعة من الرجال ليس بالطويل المفرط, ولا بالقصير البائن, بل هو بين ذلك ربعة من الرجال أي وسط بين الطويل والقصير, فهذا هو الأفضل ولكن الطول أفضل من القصر, والله تعالى قد أحسن كل شيء خلقه، إنما قد يكون الطول طولاً مفرطاً فوصف بذلك على سبيل التمييز له, وقد لا يحب أن يذكر له هذا.(229/42)
السنة الراتبة، ثم المحاضرة
السؤال
هذا يقول: هناك حثٌّ على بعض السنن بعد المغرب فإذا كان هناك محاضرة أو غيرها فهل الأفضل أن يصلي هذه السنن أو يتركها ويحضر المحاضرة؟
الجواب
أرى أن يصلي هذه السنن, ثم يحضر المحاضرة بعد ذلك, لأن السنة تفوت والمحاضرة لا تفوت.(229/43)
حكم نداء الوالدَين بلَقَبِهِما
السؤال
هل يجوز أن ينادي الإنسان والدَيه بلَقَبِهِما؟
الجواب
بالنسبة لنداء الوالدين, ينبغي أن يكون برقة ورفق ولطف وعطف, كما أمر الله عز وجل {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] , فينادي الإنسان والدَيه بأحب الأسماء إليهما, وهذا يختلف من أب إلى آخر ومن بلد إلى آخر, فبعض الآباء مثلاً يسره أن تناديه بكنيته لأن الكنية فيها تفخيم وإجلال كما سبق: أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسَّوءةُ اللقبُ فبعض الآباء يفرح بأن تناديه يا أبا عبد الله، يا أبا محمد، يا أبا صالح وهو أبوك, يفرح بذلك فهذا تكنيه، وبعضهم يستثقل ذلك ويستسمجه, ويقول: كأنك تتبرأ مني, لماذا لا تقول يا أبتي؟ أو يا أبتاه؟ فهذا تناديه بقولك يا أبتِ, أو يا أبتاه, أو يا أمي أو يا أمَّاه, وبعضهم لا حرج عنده بأن تناديه باسمه الصريح، وبعضهم يستثقل ذلك, فهذا يختلف وعلى الابن أن ينظر ما يحبه الأب وما يريده فيناديه به.(229/44)
حكم تسمية الله برب الأرباب
السؤال
هذا سؤال مسجوع: يقول: أرجو أن تخبرني خبراً لا لبس فيه ولا ارتياب، هل يلقب الله برب الأرباب) ؟
الجواب
الله تعالى هو رب العالمين، هكذا سمى نفسه في كتابه الكريم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة:2] , أما رب الأرباب فلا أعلم أنها وردت، لم ترد قطعاً في القرآن الكريم, ولا أعلم أنها وردت في شيء من السنة الصحيحة, ومن المعلوم أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية, يعني لا يجوز أن نسمي الله تعالى أو نصفه إلا بما سمى به نفسه, أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم, أو وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم, ولا أعلم أنه ورد هذا رب الأرباب ثم إن الله تعالى هو رب العالمين, ونحن لا نؤمن بوجود أرباب أصلاً, حتى نقول إن الله رب الأرباب, إنما هو رب واحد لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.(229/45)
حكم قول: (كرم الله وجهه) بعد ذكر اسم علي رضي الله عنه
السؤال
يقول: كان علي رضي الله عنه عندما يُذكر اسمُه يُقال: (كرم الله وجهه) ما رأيكم بهذا صحةً وشرعاً؟
الجواب
هناك عدد من الكتب إذا ذَكَرَتْ علياً رضي الله عنه يقولون: (كرم الله وجهه) ويعلل بعضهم ذلك بأن علياً لم يسجد لصنم قط, وقيل: لأنه لم ينظر إلى عورته قط, والذي أراه أنه لا ينبغي تخصيص علي رضي الله عنه بقول: كرم الله وجهه، ولا يخصص بقول: (عليه السلام) , كما يفعله بعض الأئمة حتى إن الإمام الصنعاني في سبل السلام لا يذكره إلا ويقول: عليه السلام، وهذا لا ينبغي لأن علياً رضي الله عنه صحابي، حكمه حكم غيره من الصحابة, كما نقول لـ أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم نقول لـ علي أيضاً: رضي الله عنه.(229/46)
حكم خياطة أكفان الرجال
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يلقب نفسه (بشهاب الدين) مثلاً أو بأي لقب آخر؟ وهل أكفان الموتى تخاط للرجال حيث سمي أحدهم خياط السنة؟
الجواب
هذا السؤال تكرر.
وأخٌ يسأل عن حكم خياطة الكفن بحيث يدرج الإنسان فيه: لم يرد في خياطة الكفن - فيما أعلم - حديث, إنما الأكفان توضَع وضعاً لا حاجة إلى خياطتها إلا إذا كانت صغيرة وقصيرة ولا تتسع فخاطها فلا حرج في ذلك, اللهم إلا أن يكون الميت محرماً فهنا يتجه أن يمنع من الخياطة, وقد يقال أيضاً: إن هذا ليس مخيطاً وإن شبك أحدهما إلى الأخر بخيط فليس على صفة البدن، وإنما هذا قد يكون موجوداً في بعض البلاد لحاجة.
وأما التسمي بشهاب الدين ونحوه فسبق.
وفي الحقيقة هناك أسئلة كثيرة مهمة ولكنها لا تتعلق بهذا الموضوع, وأنا أؤثر أن لا أدخلَها حتى تكون الأسئلة التي أتحدث عنها متعلقة بالموضوع أو نجيب على الأسئلة الأخرى الغامضة.(229/47)
حكم التلقيب بصلاح الدين
السؤال
هل يعتبر لقب صلاح الدين من الألقاب المكروهة؟
الجواب
نعم، صلاح الدين يقال فيه مثل ما ذكرت في الأسماء المنسوبة إلى الدين فهو من الألقاب التي جاءت عن طريق العجم.(229/48)
حكم إطلاق اسم نجم النجوم ومعبود الجماهير
السؤال
بعض الرياضيين يطلقون بعض الأسماء مثل (نجم النجوم، ومعبود الجماهير) فما رأيك؟
الجواب
أما (معبود الجماهير) فهذا لفظ شركي لا شك في تحريمه, فلا معبود بحق إلا الله عز وجل، وهذا الإنسان الذي أطلق لفظ (معبود الجماهير) على لاعب أو مدرب وقع في محاذير عديدة, منها: أولاً: أنه أشرك في هذا اللفظ بالله تعالى.
ومنها: أنه كذب على الناس أيضاً, فإنه ليس صحيحاً أن هؤلاء الناس يعبدونه, بل منهم من يبغضه ويمقته, ويدعو عليه من الصالحين بل ومن الذين يكونون مشجعين لفريق آخر غير فريقه, فهو كذب على الله وكذب على الناس, ومثله ينبغي تأديبه وتعزيره.(229/49)
حكم التلقيب بشيخ الإسلام
السؤال
تقول يا شيخ رحمك الله إن شيخ الإسلام كَرِهَ مثل: تسمية ركن الدين وغيرها, لكن في كذا موضعٍ سَمَّى الشيخ الهروي الأنصاري بـ شيخ الإسلام؟
الجواب
نعم سماه بـ شيخ الإسلام وذلك لأن لقب شيخ الإسلام لقب قديم, وقد أطلقه العلماء حتى إن في تذكرة الحُفَّاظ للذهبي أكثر من مائة ممن استحقوا هذا اللقب حتى من المتقدمين, كان لقباً قديماً مشهوراً عند السلف وإنما يطلقونه على الأشخاص بحكم أنه نقل تسميتهم وتلقيبهم بذلك, وكثير ممن سموا بذلك هم أهل له وجديرون به لخدمتهم للإسلام, لكن لا مانع أن نقول إن الأولى ألا يُطلق مثل هذا اللفظ, لأن شيخ الإسلام نفسه أفتى بذلك كما ذكرتُ لكم.
السؤال: يقول لقد كثر في الآونة الأخيرة التمجيد الواضح للغرب ولغتهم, ومن أبرز المظاهر التحدث بلغتهم حتى مع بعض العرب وإدخال ذلك من مظاهر الانهزامية الواضحة, فأرجو منكم تخصيص درس عن ذلك وما الضابط الذي يجب على المسلم التزامه خصوصاً أن السائل يتكلم بلغتهم الإنجليزية, فأريد أن أعرف ما موقف المسلم من ذلك؟ وكلام علماء المسلمين حوله وفقكم الله؟ الجواب: وإياك, أما موضوع لغة الأعاجم وحكم تعليمها والأحوال المتعلقة بذلك وما ورد من السنة, فهو بإذن الله تعالى موضوع درس من هذه الدروس إن شاء الله تعالى.(229/50)
قد يكون اللفظ لقباً وكنية في نفس الوقت
السؤال
يقول: ذكرتَ أن أسماء تُلَقَّبُ بـ ذات النطاقين وذكرتَ ذلك في الكنى، فكيف ذلك؟
الجواب
هذا صحيح, لأن هناك كنى هي كنية من وجه ولقب من وجه آخر, فهي كنية باعتبارها مبدوءة بذو, أو بأبي, أو بأمٍّ, وهي لقب من جهة أنها مشعرة بمدح أو ذم, ولذلك العلماء الذين كتبوا في الرجال كالحافظ ابن حجر في التهذيب أشاروا إلى ذلك, فيذكرون الأسماء والألقاب والكنى ثم يذكرون الألقاب من الكنى فيكون لقباً وكنية في نفس الوقت.(229/51)
الحافظ: اسمٌ أم لقب؟
السؤال
هل الحافظ اسم أم لقب؟
الجواب
الحافظ ليس اسما إنما هو لقب لمرتبة من مراتب علماء الحديث, إذا وصل إلى درجة معينة في الحفظ, فإنه يلقب بالحافظ وقد أطلق هذا اللقب على جماعة من العلماء معروفين.(229/52)
حكم التسمية بسيف، أو مقاتل
السؤال
هل على الإنسان من بأس إن هو سمى ابنه سيفاً, أو مقاتلاً, وذلك تيمناً منه أن يكون سيفاً على الأعداء أو مقاتلاً لهم؟
الجواب
لا حرج في ذلك.(229/53)
حكم السترة في الصلاة
السؤال
هذا سؤال أجنبي: يسأل عن السترة في الصلاة؟
الجواب
السترة في الصلاة سنة مؤكدة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها قال: {إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة} فينبغي للأئمة وللمنفردين أن يجعلوا أمامهم سترة في الصلاة, لا يُصَلُّوا إلا إلى سترة, بل إن بعض العلماء - وإن كان هذا مذهباً ضعيفاً - ذهبوا إلى وجوب السترة وأنه لا يجوز أن يصلي الإنسان إلا إلى سترة, لكن الجمهور بما في ذلك المشهور عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة وأحمد والشافعي ومالك , أن السترة سنة وفى رواية ضعيفة عن الإمام أحمد أنها واجبة, فعلى الإنسان أن لا يُخِل بهذه السنة.(229/54)
حكم الألقاب الخاصة بالأشراف
السؤال
ما رأيكم في الألقاب الخاصة بالأشراف حيث يلقب كل واحد منهم بالسيد, ولا بد أن يتقدم اسمه مثال: السيد رشيد رضا مثلاً؟
الجواب
من الطرائف أن بعض هؤلاء أحياناً إذا أراد الواحد منهم أن يعرف بنفسه يقدم بهذا اللقب فيقول مثلاً: أنا الشريف فلان أو السيد فلان, وهذا لا شك أنه غير لائق، أي: إن جاز أن يطلق الناس عليه هذا ولا ينبغي ولا يليق أن يطلقه هو على نفسه, أما تلقيبه بالسيد فهذا يجري فيه الكلام الذي ذكرته قبل قليل، أنه من الألقاب المكروهة التي تَرْكُها أولى مِن استخدامِها.(229/55)
حكم التلقيب بالمنصور والمعتصم
السؤال
ما رأيك في ألقاب بعض الحكام السابقين مثل: الرشيد، المنصور، المعتصم؟
الجواب
مثل: الرشيد سبق الكلام فيه, أما المنصور والمعتصم، فـ المعتصم أي: أنه معتصم بالله عز وجل, والمنصور لعله إشارةً وإيماءً إلى أنه ينتصر في المعارك, أو يُنْصر في المعارك, فهي فيها ثناء على أصحابها, وبعضها أهون من بعض ولكن لا تحريم في كل هذه الأسماء.(229/56)
حكم اسم خير البشر، واسم سيد الناس
السؤال
يقول ماذا ترى في هذه الأسماء: (خير البشر، سيد الناس) ؟ وهذا موجود عند الهنود.
الجواب
نعم هو موجود عند الإخوة الهنود وعند غيرهم, فأما (سيد الناس) فهو موجود في عدد من البلاد, وقد أسلفت أن هذا من الألقاب الممنوعة، لأن فيه مضاهاة ومنافسة لمقام النبوة.(229/57)
مؤلفات خاصة بالألقاب
السؤال
يسأل الأخ عن المؤلفات الخاصة بالألقاب والتي تنصح بقراءتها؟
الجواب
في الواقع أن في الألقاب مصنفات كثيرة جداً منها أولاً الكتب التي أشرت إليها في بداية المحاضرة - قبل أسبوعين - ومنها: كتب خاصة بالألقاب مثل كتاب تغريب الألقاب العلمية، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد , وهذا الكتاب ذكر في أوله عشرات المراجع المتعلقة بهذا الموضوع, فيمكن مراجعته والاستفادة من المراجع المذكورة فيه, وكذلك هناك فتيا في الألقاب مختصرة حوالي صفحتين لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبعت مع بعض رسائل أخرى طبعها صلاح الدين المنجد , وهناك كلام لـ ابن القيم رحمه الله في عدد من كتبه من أجودها في زاد المعاد في الجزء الثاني فصل في هديه صلى الله عليه وسلم, في الأسماء والألقاب والكنى, وكذلك تكلم عنها في كتاب تحفة المودود في أحكام المولود وفى غيرها، ومنها كتب في معاجم الألقاب، أكثر من كتاب عبارة عن معجم للألقاب يجمع فيه كل من لقبوا ويتكلم عنهم، ويذكر أسماءهم ومواليدهم ووفياتهم وغير ذلك.(229/58)
حكم إطلاق (مِسْتَر) على الكفار
السؤال
يقول هل يجوز أن تطلق الأسماء مثل: (سيد) على الإنجليز بلغتهم, مثل (مِسْتَر) التي تعني (سيد) أو (سير) أو (سنيور) ؟
الجواب
لا يجوز ذلك, لأن مثل (مِسْتَر) هذه بلغتهم معناها (سيد) بلغة العرب, فلا يجوز لمسلم أن يطلق على رجل كافر (مِسْتَر) ؛ لأن (مِِسْتَر) معناها (سيد) فكل كلمة في لغة من اللغات تقابل كلمة (سيد) لا يجوز إطلاقها على الكافر.(229/59)
حكم التسمية بالرشيد
السؤال
هذا أخ يسأل يقول: ذكرتَ أن تسمية الرشيد مكروهة, فما رأيك في أسماء الحسن والحسين؟
الجواب
الذي أتكلم عنه الآن الرشيد أن يكون لقباً للإنسان, لأن فيه تزكية مطلقة له لكن لو كان اسماً له, ربما يكون انتقل من الوصف إلى الاسمية, إلى العلمية المحضة, فلا أرى إن شاء الله في هذا حرجاً.
السؤال: يقول: ما رأيك لو أفردتَ درساً لآداب طلب العلم وتحصيله, والطرق المتبعة في طلب العلم, وتوجيهات حول الموضوع، وإن لم يمكن ذلك فأرجو ذكر بعض الكتب التي تمت بذلك وخصوصاً في باب تنظيم الوقت وتقسيمه.
الجواب: إن شاء الله هذا الموضوع أحد الموضوعات المدرجة في الجدول, ويأتي دوره إن شاء الله.(229/60)
حكم التسمية بعز الدين
السؤال
يقول: لقد قلتَ إنه لا يجوز أن يتسمى الإنسان (بعز الدين) خوفاً أن يكون عكس ذلك, ويكون فيه ذلٌ للدين فلو كان فعلاً عزاً للدين, مثل أن يكون مجاهداً وقائداً يصُدُّ عن الإسلام ويحمي ديار المسلمين، يصلح أن نقول يصد عن الإسلام؟ لا يصلح ذلك، نقول يذود عن الإسلام, وإلا فالصَّدُّ عن الإسلام لا يجوز, لا يجوز الصَّدُّ عن سبيل الله، ويحمي ديار المسلمين، فهل يجوز أن يتسمى بهذا الاسم أم يكون تركه أفضل من التسمية به؟
الجواب
في الواقع أنني لم أذكر أنه لا يجوز أن يتسمى بعز الدين, ولكن هذا من الألقاب المكروهة, ولا يمكن الجزم بتحريمه إلا أن يكون هذا الإنسان فاجراً, أو زنديقاً, فلا شك أنه لا يجوز تسميته بذلك, ولكن الأولى تجنبه حتى لو كان هذا الإنسان فيه خير وفيه عز للدين.(229/61)
حكم اتخاذ لقب هو - في الأصل - اسم رجل آخر
السؤال
ما رأيك فيمن يتخذ لقباً كان في الأصل اسماً لرجل, مثل من يلقب نفسه بـ ابن قتيبة وسيبويه والسيوطي؟
الجواب
كاتب هذا السؤال لعله رمز لاسمه بـ ابن قتيبة , يبدو لي أن هناك فرقاً, فبالنسبة لاسم ابن قتيبة أرى أنه لا يصلح ذلك في الأصل, لماذا؟ لأن الله عز وجل قال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] فدعوة إنسان باسم معين, الأصل أنه لا يصلح ولكن لا أستطيع أن أقول بأن هذا ممنوع أو محرم لسبب, وهو أن بعض الأدباء أحياناً أو الكتاب لا يريد أن يعرف من هو لسبب أو لآخر, فيرمز لنفسه باسم شخص من الأدباء السابقين كـ ابن قتيبة مثلاً، وليس يقصد أنني أنا ابن قتيبة , ولكن يقصد أنني أتشبه بـ ابن قتيبة , ولكن مع ذلك أنا أرى ألا يستخدم مثل هذا اللقب, لكن مثل سيبويه لا حرج لأن سيبويه إنما هو لقب، سيبويه: معناه في لغة العجم: رائحة التفاح فلا بأس أن يلقب الإنسان نفسه بـ سيبويه مثلاً، كذلك السيوطي هو نسب إلى بلد أسيوط في مصر, فلا حرج في هذا، ليس فيه ابن فلان بحيث يكون دعي إلى غير أبيه.(229/62)
التخريج بواسطة المعجم المفهرس
لما كان المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف قد وضعه بعض المستشرقين كفهرس للأمهات الست، ومسند الإمام أحمد والدارمي، والموطأ، وكانت حاجة طالب العلم ملحة للتفتيش عن الأحاديث في هذه الكتب ليبني على الدليل، فهذا درس مهم يرشد الطالب إلى كيفية استخدام هذا المعجم، وطريقة البحث في هذه الكتب.(230/1)
نظرة عامة على المعجم المفهرس
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
سبق أن تحدثنا عن الطريقة الأولى من طرق التخريج، وهي التخريج عن طريق معرفة صحابي في الحديث، وطرف من لفظه، وتتم بواسطة كتاب تحفة الأشراف في معرفة الأطراف للإمام الحافظ المتقن أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف المزي المتوفى سنة 742هـ، والذي قام بتحقيقه وبذل فيه جهداً مشكوراً الأستاذ الشيخ/ عبد الصمد شرف الدين.
وسنتحدث عن الطريقة الثانية، وهي طريقة التخريج بواسطة كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي وقد اشتغل في هذا المعجم قرابة ثلاثين من المستشرقين، وقضوا فيه أوقاتاً طويلة، وكان يساعدهم في ذلك الشيخ الأستاذ/ محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله تعالى عليه، ويدل على مدى الجهد والوقت الذي بذل في جمع مادة هذا الكتاب وترتيبها، أن طباعته استغرقت قرابة ثلاثة وثلاثين عاماً؛ فقد طبع المجلد الأول منه سنة (1936م) ، وطبع المجلد الأخير سنة (1969م) ، فهذه ثلاثة وثلاثون عاماً، هذا فضلاً عن الجهود التي قاموا بها قبل طباعة المجلد الأول.
وقبل أن أدخل في هذا المعجم وطريقة ترتيبه، والكتب التي فهرسها، وطريقة الاستفادة منه، أحب أن أشير إلى أن هناك من يشكك في دقة هذا المعجم، ويزعم أن هؤلاء المستشرقين قصدوا من وضعه التضليل، فأقول -كما قال المثل-: ما هكذا يا سعد تورد الإبل، فليس صحيحاً أن كل ما يقوم به المستشرقون لا بد أن يبرز فيه الدس والتشويه، فالمستشرقون يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويعرفون كيف يدسون ويشوهون الإسلام، والتاريخ الإسلامي، والرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وأما هذا الكتاب فليس فيه مجال للدس، لأنه أشبه ما يكون بالعمليات الحسابية الدقيقة، التي يمكن اكتشاف أي خطأ مهما كان بسيطاً فيه.(230/2)
الدوافع لتأليف هذا المعجم
أما دافعهم إلى القيام بهذا الجهد، فأولاً: نحن لا ننكر أنه يوجد من بينهم من يكون له شغف وعناية عظيمة، وجلد في البحث والتنقيب، في أي لون من ألوان المعرفة، وهذا أمر لا شك فيه، وليس له علاقة في موقفهم من الإسلام، وحقدهم عليه.
الأمر الآخر: أننا لا نستبعد أن يكون هؤلاء المستشرقون ألفوا هذا الكتاب وقصدوا فيه تسهيل مهماتهم الخاصة، بمعنى أنهم حينما وضعوا هذا المعجم قصدوا أن يستفيدوا هم ومن على شاكلتهم منه، في معرفة الإسلام، وأحكام الإسلام، وتاريخ الإسلام وغير ذلك، وهو ولا شك يخدمهم كما يخدم غيرهم، وربما حرصوا على أن يبقى هذا الكتاب غير متداول بين أيدي الناس، ولكن لم يتحقق لهم ما أرادوا، بل سرعان ما صور الكتاب وتدوِّل في أيدي طلاب العلم، واستفاد منه الخاص والعام.(230/3)
الكتب التي فهرسها ورموز هذه الكتب
أما عن الكتب التي فهرسها هذا الكتاب، فهي الكتب التالية:- البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والموطأ ومسند الإمام أحمد وسنن الدارمي.
أما عن رموز هذا الكتاب: فأولاً: هي موجودة في أسفل كل صفحتين من الكتاب، فلا داعي لسردها، إنما أشير إلى بعض الأشياء التي قد لا تكون ظاهرة في هذه الرموز، فأشير أولاً: إلى أن رمز كل من ابن ماجة القزويني والإمام أحمد تغير في آخر هذا الكتاب عنه في أوله، وبالذات في العشرين أو الأربع والعشرين صفحة الأولى من المجلد الأول، نجد في هذه الصفحات أنهم كانوا يرمزون لـ ابن ماجة بالقاف، أي ابن ماجة، ويرمزون للإمام أحمد بالحاء مع اللام، وقد تغير هذا الرمز فصار في بقية الكتاب الجيم مع الهاء لـ ابن ماجة، والحاء مع الميم للإمام أحمد،كما أن هناك رمزاً آخر إن صح تسميته رمزاً، وهو وضع النجمتين في بعض الإحالات، ووضع النجمتين يدل على تكرار اللفظ الموجود في نفس الموضع المحال إليه أكثر من مرة.(230/4)
طريقة ترتيب المعجم المفهرس
أما فيما يتعلق بطريقتهم في ترتيب مواد الكتاب، فهي كما يلي:- رتبوا المواد بشكل إجمالي بحسب التركيب الهجائي، وتجد على كعب كل مجلد من مجلدات المعجم المطبوع، ذكر لفعلين ثلاثيين، هذا الموجود على كعب المجلد؛ يعني أن المادة التي يحتوي عليها هذا المجلد؛ هي المحصورة ما بين الفعلين الموجودين.
فمثلاً في المجلد الثالث: مكتوب على ظهر الغلاف على كعب المجلد، مكتوب فعل (سنم) ثم (شرطة) ثم: (سنم - طعم) إذاً فعل (سنم) أو (طعم) موجود في هذا المجلد، وفعل (طعم) موجود في هذا المجلد، وما بينهما من المواد هي -أيضاً- موجودة في هذا المجلد، فمثلاً: (شرب) لا بد أن تكون في هذا المجلد، لأنها بين السين (سنم) وبين الطاء (طعم) فالشين بعد السين، الصاد كذلك (صبر، صام، صاد) -أيضاً- لا بد أن تكون موجودة في هذا المجلد، فالأفعال الموجودة على غلاف المجلد تشير إلى أول المواد الموجودة، وآخر المواد الموجودة، ويقول لك ما بين هذه المواد فهو موجود في هذا المجلد، وهكذا بقية المجلدات، فرتبوا المواد من حيث الجملة بحسب حروف الهجاء.
إذاً: من البديهي أن يكون الفعل (أكل) مثلاً باعتباره مبدوءاً بحرف الهمزة موجوداً في المجلد الأول، ومن الطبيعي أن الفعل (يبس) مثلاً موجود في المجلد الأخير؛ لأنه مبدوء بحرف الياء، وهكذا، فلننتبه -إذاً- إلى أن ننظر إلى الفعل الذي بين أيدينا، والذي نريد أن نبحث عن الحديث عن طريقه -كما سيتضح أكثر من خلال ذكر طريقة البحث- بأن يكون هذا الفعل إما أحد الأفعال المذكورة على الغلاف، أو أن يكون فيما بينها، بمعنى أنهم لا يكتبون جميع المواد على الغلاف التي في المجلد، إنما يذكرون أول مادة وآخر مادة، ويعلم أن ما بينهما موجود في نفس المجلد، ثم داخل المادة الواحدة: افترض أنك وجدت بغيتك وهي مادة (طعم) ، هنا بإمكان الباحث أن يستعرض المادة كلها، حتى يصل إلى الحديث الذي يريد أن يطلع على مخارجه، وعلى الإحالات التي أحالوا إليها.
ولكن قد تكون المادة طويلة، وقد تطول جداً، بحيث يكون فيه بعض الصعوبة أن يستعرض الباحث المادة كلها، فمن المفيد هنا أن نشير إلى طريقتهم في تركيب المادة الواحدة.
فهم أولاً: يبدءون بالأفعال، ثم بالأسماء، ثم بالمشتقات، فهذا التقسيم كلي وينبغي أن يكون واضحاً في الأذهان، وداخل كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة لهم تقسيمات أخر -أيضاً-.(230/5)
طريقة ترتيب الأفعال في المعجم
فأولاً: فيما يتعلق بالأفعال، يبدءون بالفعل الماضي، الذي هو أساس المادة عندهم، وأساس كل مادة عندهم هو الفعل الماضي، فيبدءون بالفعل الماضي المجرد ثم المزيد، والمبني للمعلوم، ثم المبني للمجهول.
إذاً المزيد يأتي بعد المجرد، والمبني للمجهول يأتي بعد المعلوم، فمثلاً عندنا الفعل (صَبَرَ) هذا الفعل ماضي مجرد، يأتي أولاً، ثم يأتي بعده (بعد ما تنتهي مادة (صبر) وما يتعلق بها) تأتي مادة (صَابَرَ) لأنه مزيد، فالألف التي بعد الصاد هي مزيدة على الفعل.
فلو افترض أنك تريد أن تبحث عن مادة (صابر) : اقفز مادة (صبر) وما يتعلق بها كلها، ثم انتقل إلى (صابر) المزيد بحرف، وتجد بغيتك فيه، وعندنا (صَبَرَ وصُبِرَ) تأتي مادة (صَبر) المبنية للمعلوم قبل مادة (صُبر) المبنية للمجهول، فبعد ما ينتهي الفعل الماضي بكامله وبأنواعه، مجرده ومزيده، معلومه ومجهوله، ينتقلون للفعل المضارع بنفس الطريقة: المجرد ثم المزيد، والمبني للمعلوم، ثم المبني للمجهول، فمثلاً: الفعل المضارع (يصبر) يأتي قبل الفعل المضارع (يُصَابِرُ) لأن الأول مجرد والثاني مزيد، والفعل المضارع (يَصْبِر) يأتي قبل الفعل المضارع (يُصْبَرُ) لأن الأول مبني للمعلوم، والثاني مبني للمجهول.
وبعدما ينتهون من الفعل المضارع بكامله وبأنواعه: مجرده ومزيده، معلومه ومجهوله، ينتقلون لفعل الأمر مجرده ثم مزيده، فمثلاً: (اصْبِرْ) تأتي عندهم قبل (صَابِر) لأن (اصْبِرْ) مشتقة من الفعل (صَبَرَ) أو أن (اصْبِرْ) ليس فيها المزيد الموجود في (صابر) وهي الألف التي بعد الصاد.
إذاً، فيما يتعلق بالأفعال يبدءون بالماضي، ثم المضارع، ثم الأمر، وفي داخل كل فعل من هذه الأفعال يقدمون المجرد على المزيد، ويقدمون المبني للمعلوم على المبني للمجهول، ويقدمون ما ليس له متعلق على ما كان له متعلق، فإذا كان الفعل سالماً من المُتعلِقَات، مثلاً لم يأت بعده لا فاعل، ولا مفعول، ولا ما أشبه ذلك، يأتي قبل الفعل الذي جاء بعده فاعل أو مفعول، فمثلاً (صَبَرَ) تأتي قبل (صبر على الأذى) لأن (صبر) الأولى: ليس لها متعلقات، أما الثانية: فقد تعلق بها جار ومجرور، هذا ما يتعلق بالأفعال، وهي التي تأتي أولاً.(230/6)
طريقة ترتيب الأسماء في المعجم
يأتي بعد الأفعال: الأسماء، والأسماء: هي الأخرى مقسمة عندهم إلى ثلاثة أقسام، بحسب الحركة التي على الاسم، فيأتي الأول المرفوع، ثم المجرور، ثم المنصوب، وهنا ننتبه أن بعض الناس قد يتوهم أنهم يذكرون المرفوع، ثم المنصوب، لا بل يذكرون المرفوع ثم المجرور، ويذكرون المنصوب أخيراً.
المرفوع أو المنصوب أو المجرور، كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة يرتبونه -أيضاً- داخل التقسيم الجزئي، فالاسم المرفوع، يقدمون الاسم المرفوع المنون، فإذا انتهى الاسم المرفوع المنون قدموا الاسم المرفوع السالم من التنوين ومن اللواحق، فإذا انتهى قدموا الاسم المرفوع مع اللواحق، فالاسم المرفوع المنون يأتي -أولاً- ثم يأتي السالم من التنوين ومن اللواحق، ثم يأتي الاسم المرفوع مع اللواحق.
ثم ينتقلون إلى الاسم المجرور، فيقدمون الاسم المجرور بالإضافة منوناً، ثم الاسم السالم من التنوين ومن اللواحق، ثم الاسم السالم من التنوين مع اللواحق، ثم بعدما ينتهون من المجرور بالإضافة، ينتقلون إلى المجرور بحرف الجر.
فإذا انتهوا من المجرور؛ قدموا المنصوب المنون، ثم السالم من التنوين ومن اللواحق، ثم الاسم المنصوب مع اللواحق.(230/7)
المقصود باللواحق في المعجم
وهنا قد يسأل سائل: ما المقصود باللواحق؟ فأقول: إنهم أشاروا إلى ذلك في مقدمتهم، فأشاروا إلى ذكر اللواحق، وأشاروا إلى هذا التفصيل، وقد بذلت جهدي في معرفة مقصودهم في اللواحق، فوجدت بعض مشايخنا ذكروا أن المقصود باللواحق ما يسمى بالمتعلقات، أي أن يكون له لاحق إما مفعول أو ما أشبه ذلك.
ولكني من خلال بحثي في المعجم وتتبعي لطريقتهم، ظهر لي -والله أعلم- أن مقصودهم باللواحق: العلامات، أي كعلامات التأنيث والضمائر وما أشبهها، فمثلاً: الفعل السالم من اللواحق عندهم يقدم على الفعل الذي له لواحق، فالفعل (ضَرَبَ) يقدم على الفعل (ضربتُ) لأن (ضربت) فيه لاحق وهو تاء الفاعل المتكلم.
كذلك الاسم السالم من اللواحق يقدم على الاسم الذي معه لواحق، فمثلاً: عندنا اسم (يوم) مثلاً، (يوم) يقدم على ما لو لحقه ضمير، فصار (يومه، أو يومها، أو يومكم) والله أعلم.
وأشير إلى أنه في الأسماء، يقدمون المفرد على المثنى، ويقدمون المثنى على الجمع، ويقدمون المذكر على المؤنث، فيراعون مجمل هذه الأشياء، وعلى كل حال يبقى الفرق بسيطاً، فأنت حيث تبحث في دائرة الأسماء، أي تستبعد الأفعال، وتبحث في دائرة الأسماء، ثم تستبعد -مثلاً- إذا كان الاسم الذي معك مرفوعاً، فتستبعد المنصوب والمجرور، فتبحث في دائرة الاسم المرفوع فحسب، تبقى الدائرة ضيقة حتى لو لم يحصل وضوح تام في دقة الترتيب.(230/8)
طريقة ترتيب المشتقات في المعجم
بعد ما ينتهون من الأسماء ينتقلون إلى المشتقات، ويقصد بالمشتقات: الأسماء المشتقة من الفعل، أو من المصدر، فمثلاً: اسم الفاعل كـ (ضارب) واسم المفعول كـ (مضروب) والصفة المشبهة كـ (حسن وجهه) وأفعل التفضيل (هذا أفضل من هذا أو أكبر) ثم المصدر، ويأتي المصدر عندهم في الآخر.
لأنه كما أشرت من قبل: أصل المشتقات عندهم، هو الفعل الماضي المجرد، فمثلاً: لو افترضنا أن عندنا في الحديث الذي نبحث فيه مصدر، مثل (الصبر) لأن (الصبر) مصدر، فهنا نبحث عنه في آخر المادة.
والحقيقة أن الباحث في هذا الكتاب يلحظ أنه قد لا يجد الاضطراد الكامل في هذه المواد -كما أشرنا- ولعل هذا ليس ناتجاً -والله أعلم- عن خلل في الترتيب بقدر ما هو ناتج عن عدم وضوح في طريقة ترتيبهم للمواد، ولا شك أن عندهم مقدمة مهمة ومفيدة جداً لهذا الكتاب، لكنها لم تطبع، ولا زالت في طي الكتمان، لم يطلع عليها الباحثون، ولم يعرفوا بالضبط ما هو تقسيمهم، وما هي طريقتهم في الترتيب، إلى غير ذلك من الاصطلاحات التي تمس الحاجة إلى معرفتها.
وهناك مواد حذفوها، ولم يدخلوها ضمن ترتيبها، فما على الباحث إلا أن يستبعدها فلا ينظر إليها في الحديث ألبتة، وذلك مثل حروف الجر وما أشبهها، ومثل أسماء الأماكن والبلدان، ومثل الأعلام المحضة، مثل: فلان وفلان، ومثل المواد التي يكثر دورانها على الألسنة، مثل كلمة (قالَ) استبعدوا هذه الأشياء، فأنت حين تبحث في الحديث، وتريد أن تختار كلمة لتبحث عنه من خلالها في المعجم، استبعد الحروف، وأسماء الأماكن، والبلدان، والأعلام، والأفعال التي يكثر دورانها على الألسنة، ثم اختر إما فعلاً أو اسماً أو مشتقاً، وابحث عنه من خلالها، كما سيتضح إن شاء الله في طريقة البحث.(230/9)
المعجم شمل كل المتون أو معظمها
وهنا قد يسأل سائل: هل شمل عمل المستشرقين جميع الأحاديث، أو جميع المواد الموجودة في الكتب التي عملوا هذا المعجم عليها؟ ف
الجواب
أولاً: استبعد المستشرقون في هذه الكتب ما كان إسناداً فقط، وذلك كما نجده كثيراً في صحيح مسلم، فهو يكثر من سوق الأسانيد للمتن الواحد، فهم استبعدوا ذلك ولم يفهرسوا إلا المتون فحسب.
كذلك استبعدوا كثيراً من المواد، لئلا يتضخم حجم الكتاب، ولئلا يكون ثمة صعوبة على الباحث في التنقيب عما يريد، وأشاروا هم إلى ذلك، واكتفوا هم بالإحالة في بعض المواد على مواد أخرى، فأنت تجدهم في صدر كل مادة يقولون: انظر مادة كذا وكذا وكذا، ويذكرون العديد من المواد التي حذفوها واكتفوا بالإشارة إليها، ولكن يبقى أنهم استغرقوا -إن لم نقل كل المتون الموجودة في هذه الكتب- معظم المتون إلى حدٍ بعيد.(230/10)
مصطلحاتهم في الإحالة على الكتب
وهناك قضية مهمة جداً في طريقة المعجم لا بد من الإحاطة بها، وإتقانها، لئلا يقع الباحث في لَبْس، وهي إلى ماذا يشير هؤلاء في المصادر التي يذكرونها؟ يذكرون البخاري، فماذا يذكرون من البخاري؟ ويذكرون مسلم ـاً، فماذا يذكرون من مسلم؟ وهكذا، فأذكر هذا الآن بالتسلسل، ولا بد من فهمه، وحفظه، وإتقانه جيداً لئلا يقع الباحث في لبس -كما أشرت-.
فبالنسبة للبخاري والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجة والدارمي، فإنهم يذكرون اسم الكتاب، ثم رقم الباب، في هذه الكتب، وهي أولاً: البخاري، ثانياً: الترمذي، ثالثاً: أبو داود، رابعاً: النسائي،خامساً: ابن ماجة، سادساً: الدارمي، فيذكرون اسم الكتاب، صراحة ويذكرون رقم الباب.
فقد يقول لك مثلاً: (خ رقاق 7) إذاً ترجمت هذا الرمز: رواه البخاري في كتاب الرقاق، الباب رقم سبعة، هذا فيما يتعلق بهذه الكتب من حيث الجملة، وقد يحصل استثناءات في بعض الأبواب، كما ذكرنا في كتاب التفسير من صحيح البخاري.
فهم في كتاب التفسير بعدما يذكرون اسم الكتاب، يشيرون إلى رقم السورة، فيقول مثلاً: [خ تفسير سورة 54] فمعنى ذلك أن البخاري روى هذا الحديث في كتاب التفسير، في السورة الرابعة والخمسين، أما الباب فلا يشيرون إليه؛ وعلى الباحث أن يبحث عن الحديث في السورة التي أشاروا إليها.
أما فيما يتعلق بمسند الإمام أحمد، فإن طريقة المسند معروفة، وهي أنه يذكر أحاديث الصحابي الواحد بعضها بجوار بعض، دون مراعاة الموضوع ولا غيره، ولذلك فإن إحالتهم إلى المسند هي على رقم الجزء والصفحة، فإذا قالوا: [ح م 5/54] فمعنى ذلك أن هذا الحديث في مسند الإمام أحمد جزء 5، صفحة 54، وعليك أن تستعرض الصفحة حتى تجد الحديث، ونادراً ما تجده في الصفحة التي قبلها، أو في الصفحة التي بعدها.
بقي عندنا كتابان وهما: صحيح مسلم، وموطأ الإمام مالك، فيا ترى إلى ماذا يشيرون في هذين الكتابين؟ يشيرون في هذين الكتابين إلى اسم الكتاب، ثم رقم الحديث في الكتاب، فمثلاً: لو قال: [م مسافرين، 45] فمعنى ذلك أن الحديث موجود في صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين رقم الحديث داخل هذا الكتاب الخاص [45] .
وهنا ننتبه إلى أن صحيح مسلم المطبوع بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، له ترقيمان: منها ترقيم للأحاديث في الكتاب كله، من أوله إلى آخره، أي من أول صحيح مسلم إلى آخره، فهذا الترقيم ليس هو المطلوب الآن، إنما المطلوب الآن ترقيم آخر وهو ترقيم الحديث داخل الباب، وهو عادة يكون رقم أقل، باستثناء الأحاديث الأولى فقد يشترك الرقم، أما فيما عدا ذلك فمن الطبيعي أن يكون الرقم الذي داخل الكتاب المحدود، يعني كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، يكون أقل من الرقم الكلي، الذي يبدأ من أول الكتاب ولا ينتهي إلا في آخره، فالمطلوب عادة هو الرقم الصغير، هذا في صحيح مسلم.
كذلك نفس الطريقة سلكوها في الموطأ، فهم يشيرون إلى اسم الكتاب داخل الموطأ، ثم إلى رقم الحديث داخل الكتاب، فمثلاً: لما يقولون: [العتق:5] معناه أن هذا الحديث هو الحديث الخامس من كتاب العتق في موطأ الإمام مالك.(230/11)
الطبعات التي اعتمد عليها المعجم
أما بالنسبة للطبعات التي أعتمدوا عليها في هذا المعجم، ففي مسند الإمام أحمد يعتمد على الطبعة المتداولة، وهي الطبعة الميمنية وهي الطبعة التي صورها المكتب الإسلامي ودار صادر، وهي مطبوعة مع الكتب الستة، وبالنسبة لموطأ مالك وصحيح مسلم فهما الطبعتان اللتان أخرجهما محمد فؤاد عبد الباقي، وهما منطبقتان تمام الانطباق على المعجم، بل الأصح أن نقول إنهما عملتا أصلاً من أجل المراجعة عليهما في المعجم، فلا إشكال في ذلك.
وكذلك الجزء الثالث من سنن الترمذي، والذي رتبه محمد فؤاد عبد الباقي فهو منطبق أيضاً على المعجم، وأما البخاري نجد الطبعة التركية وهي المصورة مع الكتب الستة منطبقة أيضاً مع المعجم.
أيضاً ابن ماجة نفس المطبوع بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي والمصور مع الكتب الستة، ينطبق تمام الانطباق مع المعجم، بل هو عمل منطبق للمراجعة عليه في المعجم.
إذاً لم يبق إلا بقية سنن الترمذي وسنن النسائي وسنن أبي داود.
أما سنن النسائي ففيه صعوبة في البحث فيه، ولكن سنن النسائي المطبوع مع الكتب الستة نجد أن الذين صوروه قد أعطوا الأبواب أرقاماً، وهذا يسهل عملية البحث، وهناك أيضاً سنن أبي داود بتحقيق عزت عبيد الدعاس قريب جداً من المعجم.
أما سنن الترمذي فقد يكون البحث فيها والعثور على الحديث بعض الصعوبة، التي يذللها الباحث عن طريق التدريب والخبرة بهذه المطبوعة، وهي المطبوعة أيضاً مع الكتب الستة، المهم أن ننتبه إلى الفرق بين هذه الكتب من حيث الإحالات، فهم -كما ذكرت- يحيلون في بعض الكتب إلى اسم الكتاب، ثم إلى رقم الباب، ويحيلون في بعضها الآخر إلى اسم الكتاب، ثم إلى رقم الحديث، ويحيلون في بعضها الثالث إلى رقم المجلد، ثم رقم الصفحة، فننتبه إلى هذه الفروق.(230/12)
تعدد الإحالات ومدى إنطباقها
ثم يذكرون عدداً من الإحالات، فيقولون: (خ تفسير سورة 6 م) وهكذا يذكرون عدداً من الإحالات في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي إلى آخره فهل يا ترى: هذا الحديث الذي أحالوا لفظه إلى هذه المواضع موجود في جميع هذه المواضع؟ قد يكون ذلك -أحياناً- ولكن الالتزام الذي التزموه ووعدوا به، وشرطوا على أنفسهم أن تكون الإحالة الأولى منطبقة، أما بقية الإحالات فلا يلتزمون فيها بالانطباق، وهنا أرجو أن ينتبه المستمع أو القارئ إلى هذه النقطة، لأن كثيراً من الناس يبحث في المعجم، فيتهم هؤلاء بالجهل بالأحاديث، أو ما أشبه ذلك.
والسبب في ذلك هو عدم انتباهه إلى اصطلاحهم، فهم يلتزمون أن يحيلوك الإحالة الأولى إلى نفس اللفظة التي وضعوا الإحالة أمامها، فإذا ذكروا اللفظة أحالوا إلى نفس اللفظة في الموضع الأول، ثم في بقية المواضع لا يلتزمون بذلك، فقد يحيلون إلى نفس اللفظة أو إلى لفظة قريبة منها، بل قد تجد أنهم يحيلون إلى لفظة أخرى ليس لها بها علاقة ألبتة، إلا العلاقة اللفظية.
فمثلاً كلمة (بعث) قد تطلق على (البعث) بمعنى البعث بعد الموت، وقد تطلق على (البعث) بمعنى: إرسال السرايا والبعوث، فقد يدخلون -هم- هذه في تلك -أحياناً- ومثلها كلمة (نوى) قد تطلق على كلمة نوى التمر، وقد تطلق على النوى بمعنى البعد، وقد تطلق على نوى وهي الفعل الماضي من النية، فهم لا يعنيهم هذا الفرق بهذا المعنى بقدر ما يعنيهم اللفظ، ولكنهم يلتزمون أن تكون الإحالة الأولى منطبقة على اللفظ الذي ذكروه.
أما بقية الإحالات فقد تكون بالمعنى، وقد لا تكون حتى ولا بالمعنى، وإنما يلتزمون بلفظة في ذاتها، وهي اللفظة الموجودة داخل المادة، فمثلاً: إذا كانوا في مادة (بعث) وذكروا طرفاً من حديث فيه (البعث) أشاروا في الموضع الأول، إلى نص اللفظ الذي ذكروا طرفه، ثم أشاروا إلى مواضع أخرى قد تجد فيها نفس الحديث، وقد تجد فيها حديثاً آخر قريباً منه، وقد تجد فيها حديثاً ثالثاً، ليس له علاقة به.
هذه إشارة قد تكون طالت بعض الشيء إلى طريقة ترتيب المعجم، وطريقة المواد فيه، وطريقة إحالتهم إلى مواضع الحديث من الكتب، وما يذكرون من هذه الكتب، وما يشترطون على أنفسهم من دقة الإحالات.(230/13)
كيفية البحث عن الحديث في المعجم
بقي لدينا قضية مهمة، وهي قضية عملية، تتعلق بكيفية البحث عن الحديث في المعجم، وكذلك نُتبع هذه الكيفية بذكر حديث واحد، نلتزم تخريجه من المعجم، ثم من المصادر التي أحالوا إليها، ونشير في ذلك إلى نحو ما أشرنا في الأنموذج الذي خرجناه من كتاب تحفة الأشراف.
ففيما يتعلق بكيفية البحث عن الحديث في المعجم، نفترض أن عند الباحث حديثاً ما، يريد أن يخرجه من المعجم، فنقول له: اختر من هذا الحديث الذي بين يديك كلمة، (أي كلمة) وطبعاً هنا لا يعنينا شيء من الإسناد، لا اسم الصحابي ولا غيره، إنما يهمنا متن الحديث أو بعض ألفاظ الحديث، حتى لو لم نعرف -أيضاً- موضوع الحديث، يهمنا أن يكون بين أيدينا بعض ألفاظ الحديث، فنختار منها لفظة ما، شريطة ألا تكون لفظة متداولة، مثل كلمة (قال) لأننا ذكرنا أن الألفاظ المتداولة استبعدت من المعجم، وألا تكون حرفاً مثل (على، ومن، وإلى، وعند، إن) فهذه مستبعده، وألا تكون من أسماء الأماكن أو أسماء الأعلام المحضة، فهذه قلنا أنهم لم يطبعوها؛ هي موجودة، لكنها لم تطبع ولم تتداول مع المعجم.
وإنما يختار الباحث إما فعلاً: سواء كان مضارعاً، أو ماضياً، أو أمراً، أو اسماً أياً كان هذا الاسم، وليس المقصود بالاسم العلم، إنما مشتقاً: كاسم الفاعل أو اسم المفعول، فيختار هذا الشيء، ثم يحول هذا الذي بين يديه إلى الفعل الماضي المجرد، يعني يحذف الزوائد، ثم يعيد المنقلب من الحروف إلى أصله، فمثلاً (عاد) عندنا الألف في (عاد) أصلها واو، لأن أصل (عاد) : (عود) لأن (عاد، يعود، عوداً، وعودة) فالألف أصلها واو، فيعيدها إلى أصلها، فإذا أراد الباحث يبحث عن (عاد) في مادة (عود) وكذلك (قال) في مادة (قول) وهكذا.
إذاً، يحذف جميع الزيادات الموجودة في المادة التي بين يديه ويثبت الأصول، ثم يعيد المنقلبات من الحروف إلى أصلها، ثم يعتمد على الفعل الثلاثي الماضي المجرد، فمثلاً: عندنا كلمة (صابر) هذا فعل ماض ولكنه ليس مجرداً، وإنما هو مزيد بالألف، فأنت حينما تريد البحث عنه، احذف الزوائد وابحث عنه في مادة (صبر) : وحين تصل إلى المادة (صبر) تجاوز المادة المجردة، وانتقل إلى المادة المزيدة، لأنك سوف تجد (صابر) في زمرة الأفعال المزيدة بحرف، ثم ابحث داخل المادة بعد ما تعثر على المادة في المعجم، ابحث عن بغيتك داخل المادة بحسب التسلسل المشار إليه سابقاً، حيث ذكرنا أنهم يذكرون الأفعال، ثم الأسماء، ثم المشتقات.
فأنت بعدما تصل إلى المادة، انظر إلى المادة التي بين يديك الآن، يعني قولنا: احذف الزوائد وأعد المنقلبات إلى أصلها، وأعدها إلى الفعل الماضي المجرد، المقصود فيه: سهولة الوصول إلى المادة من حيث الجملة في المعجم.
فمثلاً: {أن رجلاً قتل صبراً} (صبراً) هنا لا بد أن ترجعها إلى فعل ماضي ثلاثي مجرد، وهو (صبر) حتى تصل إلى مادة (صبر) في المعجم، وعندما تصل إليها في المعجم، هنا تعود إلى المادة التي عندك أصلاً وهي (صبراً) حيث أنها مصدر منون، فتبحث عنها في آخر المادة، فبعدما تصل إلى المادة في المعجم؛ تبحث عن اللفظة الموجودة عندك في الحديث حسب التسلسل المشار إليه سابقاً، إن كانت فعلاً ففي الأفعال، أو اسماً ففي الأسماء، أو مشتقاً ففي المشتقات، وفي داخل الأفعال أو الأسماء أو المشتقات تبحث عنها في مظانها، فإن كانت فعلاً ماضياً ففي الماضي، أو مضارعاً ففي المضارع، أو أمراً ففي الأمر، وإن كانت اسماً مرفوعاً ففي المرفوع، أو مجروراً بالإضافة ففي المجرور بالإضافة، أو مجروراً بحرف الجر ففي المجرور بحرف الجر، أو منصوباً ففي المنصوب.
وإن كانت مشتقاً اسم فاعل، فهي في اسم الفاعل، ثم في اسم المفعول، ثم في الصفة المشبهة، ثم في أفعل التفضيل، وأخيراً في المصدر، فتبحث عن المادة بحسب هذا التسلسل، ثم تجد بغيتك فتنقله، فتجدهم ذكروا طرفاً من الحديث الذي تريد، فتنقل إحالاتهم بكاملها، ثم تترجم -أيضاً- هذه الإحالات وبدقة، لئلا تقع في الخطأ، وتتذكر ما قلنا من اختلاف الإحالات، فقد يحيلون إلى رقم الباب وقد يحيلون إلى رقم الحديث.
بعد ما تنقل هذه الإحالات بكاملها، يُقترح أن تبحث عن لفظة أخرى، وتبحث عن الحديث بواسطة هذه اللفظة، فمثلاً حديث: {إنما الأعمال بالنيات} تبحث عنه في المرة الأولى في مادة (عمل) ثم في الأسماء (الأعمال) .
المرة الثانية: ابحث عنه في مادة (نوى) (النيات) لأنهم قد يحيلونك في مادة على ما لم يحيلونك عليه في مادة أخرى، فتكتسب بذلك مخارج جديدة للحديث، وتطمئن إلى بعض المخارج التي أحالوك إليها في أكثر من موضع، بذلك تكون مهمتك في المعجم انتهت، وأرجو أن تكون طريقتنا هنا واضحة ليس فيها أي التباس، أو غموض.(230/14)
طريقة البحث في الكتب الأصول
بعد ذلك دور الباحث ينتقل من المعجم إلى البحث عن هذا الحديث في الكتب التي أحالوه إليها في المعجم، وهنا لا بد أن نشير إلى بعض الملاحظات المهمة والمتعلقة بطريقة البحث عن الحديث المراد في الكتب الأصول:- فأولاً: نلاحظ أن الحديث الذي نبحث عنه، قد يكون مقيداً بصحابي معين، فمثلاً حديث: {من كذب علي متعمداً فيلتبوأ مقعده من النار} هذا الحديث ورد في البخاري فقط، من طرق عديدة عن علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعن أبي هريرة، وعن غيرهم.
وفي الكتب الأخرى ورد -أيضاً- من هذه الطرق ومن غيرها، لكن في البخاري فقط ككتاب واحد تجد له طرق عن عدة من الصحابة، فهل يا ترى إذا أحالوك إلى كل هذه المواضع تنقلها معتقداً أنها هي الحديث الذي تخرجه؟
الجواب
أنه فرق بينما إذا كنت تبحث عن طرق في متن معين، كما لو كنت تريد أن تجمع طرق حديث: {من كذب علي متعمداً} مثلاً، عن أي صحابي كان، فهنا كل حديث يخدمه، مهما كان صحابيه، ولكن لو طلب منك تخريج حديث مقيد بصحابي، فقيل لك عن الزبير رضي الله عنه: {أنه سئل ما لك لا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟ فقال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} فهنا أنت تخرج حديثاً بمتن معين، عن صحابي معين، فلا يعنيك إلا ما كان عن طريق هذا الصحابي، فننتبه إلى هذه الملاحظة المهمة، لأنه كما ذكرت أن أصحاب المعجم المفهرس قد يتوسعون في الإحالات، ويذكرون الأحاديث المتعددة في إحالة واحدة، فيوجب هذا نوعاً من الالتباس للباحث.
فمتى ما كان المطلوب تخريج حديث من طريق صحابي معين، فيجب أن تنتبه هل الإحالة التي أحالوك إليها هي عن طريق الصحابي نفسه؟ أو عن طريق صحابي آخر؟.
كذلك ننبته إلى ملاحظة مهمة جداً، وقد أكون أشرت إليها من قبل، وهي قضية اختلاف الطبعات، فالأصل أن الباحث يعتمد على طبعة واحدة في تخريجه، فلو افترض أن الحديث الواحد -مثلاً- موجود في عدة مواضع، في البخاري -مثلاً- فلا تنقله من موضع من البخاري طبعة اسطنبول، ومن موضع آخر من البخاري مع فتح الباري، ومن موضع ثالث البخاري مع شرح عمدة القاري، هكذا، فهذا خطأ.
والمفروض أن يوحد الباحث الطبعة التي اعتمد عليها، وأن يشير إليها إشارة واضحة في البداية، ليسهل عملية التأكد ومراجعة تخريجه لمن أراد ذلك.
ويستحسن أن يعتمد الباحث على الطبعات المتداولة، وبالذات أن هناك طبعات اعتمد عليها المعجم، أو أخرجت مناسبة للمعجم، فهذه توفر جهداً كبيراً على الباحث، وتسهل له مهمة التخريج، وقد ذكرت منها أن هناك طبعة لـ البخاري، وهي طبعة اسطنبولموافقة للمعجم، وهناك طبعة مسلم بتحقيق عبد الباقي موافقة للمعجم، وهناك الجزء الثالث من سنن الترمذي موافق للمعجم.
وهناك طبعة سنن ابن ماجة بتحقيق عبد الباقي موافقة للمعجم، وهناك طبعة موطأ مالك بترقيم عبد الباقي موافقة للمعجم، وهناك طبعة المسند المتداولة أيضاً، موافقة للمعجم، وهذه الطبعات كلها مطبوعة مع الكتب الستة المصورة في كتاب واحد.
وأما فيما يتعلق بسنن أبي داود فإن طبعة الدعاس قريبة منه، وكذلك الطبعات الأخرى، أما في سنن الترمذي فقد أشرت إلى وجود بعض الصعوبة، كذلك الحال في النسائي، ولكن بالممارسة يستطيع الباحث أن يتغلب على هذه الصعوبة، خاصة أنه قد يوفر جهده على هذه الكتب التي يجد فيها صعوبة، أما الكتب الأخرى فإنه بمجرد أن يعرف طريقتها، يصبح العمل لديه آلياً سهلاً.(230/15)
نموذج تطبيقي على طريقة البحث
والآن نأخذ أنموذجاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع طريقة استخراجه من المعجم، ثم من الكتب الأصلية بطريقة عملية، وقبل أن أذكر الحديث أطلب من الطالب:- أولاً: أن يحضر الكتب التالية المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ثم صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجة، والدارمي، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، مع كتاب تيسير المنفعة لكتابي: مفتاح كنوز السنة، والمعجم المفهرس، كتاب تيسير المنفعة الذي وضعه الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي.
فهو كتاب ذو أهمية في هذا المجال، وسوف أختار الآن حديثاً، وأطلب من الأخ -أيضاً- أن يكتب ويتابع معي أولاً بأول، بطريقة دقيقة حتى يستغني -إن شاء الله- بهذا المثال، عن كثير من الكلام النظري الذي يمكن أن يقال في المعجم وطريقته.
ولنفترض أن بين يدينا حديثاً نبوياً مقيداً بصحابي معين، وهذا الحديث هو: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية، ولكن لا أجد حمولة، ولا أجد ما أحملهم عليه، ويشق علي أن يتخلفوا عني} إلى آخر الحديث.
فهذا الحديث الآن مقيد بصحابي وهو أبو هريرة، فلو جاءنا من طريق صحابي آخر، ونحن نريد تخريج حديث أبي هريرة، لكان هذا الحديث الآخر غير الحديث الذي نريد، وإن كان قد يكون شاهداً له، ولكن المقصود أنه ليس هو نفس الحديث، فهو مقيد بصحابي، ثم هو -أيضاً- مقيد بموضوع -وأرجو أن ننتبه لهذا الأمر الآخر- فهو يتحدث في قضية الجهاد في سبيل الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لولا خوفه المشقة على أمته، ما تخلف عن سرية تخرج في سبيل الله عز وجل، ولكن لا يجد سعة فيحملهم، ولا يجدون هم سعة فيتبعونه.
إذاً: موضوع الحديث واضح، وصحابي الحديث واضح، هذا أنموذج، وقد يأتينا -أحياناً- حديث بدون صحابي، أما الموضوع فالعادة أنه لا بد من موضوع، ولكن قد يكون الموضوع واسعاً، وقد يكون الموضوع محدوداً، فالموضوع الذي بين أيدينا محدود، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لولا خوفه المشقة على أمته ما تخلف عن سرية، كما أن الحديث -أيضاً- مقيد بصحابي وهو أبو هريرة، فإذا أردنا أن نبحث عن هذا الحديث في المعجم؛ فإن علينا:- أولاً: أن ننظر في أي كلمة من هذا الحديث، فعندما يقول: [لولا أن أشق] وقد ذكرنا من قبل أن المعجم استبعد منه الحروف وما شابهها، فكلمة [لولا] و [أن] هذه نستبعدها ولا نبحث فيها، إنما نبحث في كلمة [أشق] كذلك [على أمتي] عندنا [على] مستبعدة -أيضاً- لأنها من الحروف، فممكن أن نبحث في مادة [أمة] ومادة [تخلفت] يمكن أن نبحث في مادة [خلف] الفعل الماضي المجرد، الخاء مع اللام مع الفاء، وهكذا.
والآن سوف أختار موضوعاً واحداً فقط، وبإمكان الطالب أن يأخذ مثالاً آخر ويطبق عليه، نأخذ موضع [أشق] : {لولا أن أشق} فنأخذ [أشق] ونحول الفعل [أشق] وهو فعل مضارع، إلى الفعل الماضي المجرد [شق] والقاف هنا مضعفة نرجعها إلى أصلها [شقق] .
فنجد مادة [شقق] في المعجم المفهرس، وبعدما نستعرض المجلدات الأول، ثم الثاني، ننظر في المجلد الثالث، فنجد فيه أنه يبدأ بحرف [السين مع النون مع الميم] وينتهي بمادة [الطاء مع العين مع الميم] وهذا الكلام واضح في غلاف المجلد، في كعب المجلد.
إذاً: المادة التي عندنا هي مادة [شقق] فهي موجودة حتماً في هذا المجلد، لأنها محصورة بين مادة [السين] ومادة [الطاء] فالشين التي تبدأ بها مادة [شق] بعد السين، وقبل [الطاء] فنبحث في هذا المجلد عن كلمة [أشق على أمتي] ولا نزال نبحث حتى نجد صفحة [158] فنجد [لولا أن يشق] ثم وضعوا بين قوسين في أحاديث أخرى [أشق على المسلمين] ثم وضعوا قوسين ووضعوا بينهما [أمتي] فاصلة [المؤمنين] أي أن الأحاديث لها روايات مختلفة، فبعضها [لولا أن يَشق] وبعضها [لولا أن أشق] وفي بعضها [على المسلمين] وفي بعضها [على أمتي] وفي بعضها [على المؤمنين] .(230/16)
الإحالة إلى ابن ماجة
فننتقل بعد ذلك إلى إحالاتهم إلى سنن ابن ماجة، أحالونا أولاً: إلى كتاب الصلاة باب [8] ولا نذهب إلى كتاب الصلاة، لأنه من المعلوم أنه من الأحاديث المتعلقة بتأخير الصلاة، أو بالسواك، وكذلك أحالونا إلى الطهاة [7] ولا نشتغل أيضاً بالذهاب إليها -لما ذكرته سابقاً-.
وأحالونا إلى كتاب الجهاد [1] ننتقل هنا إلى سنن ابن ماجة، وإلى المجلد الثاني، فنجد كتاب الجهاد، وهو في فهارس المجلد الثاني، ونجده يحمل رقم [24] وهو كما ذكرت في المجلد الثاني، ننظر هنا للموضع الذي أحالونا إليه، في كتاب الجهاد، فنجده الحديث الذي بعد الأول، وهو في صفحة [920] كما يجيء في الفهرس، نفتح صفحة [920] فنجد كتاب الجهاد، ونجد الباب الأول، باب فضل الجهاد في سبيل الله، نجد الحديث رقم [2753] عن أبي هريرة وفيه: {لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية إذاً: هذا الحديث اتفق فيه الصحابي، واتفق الموضوع، فننقل الحديث مع الإحالة الدقيقة إلى موضوعه، وبذلك نكون -أيضاً- أنهينا الإحالات الموجودة في سنن ابن ماجة.(230/17)
الإحالة إلى الدارمي
ننتقل بعد ذلك لإحالاتهم على الدارمي، فنجدهم أحالونا إلى الدارمي، كتاب الوضوء باب رقم [18] وكتاب الصلاة: في موضعين رقم [19] ورقم [168] والدارمي البحث فيه كالبحث في البخاري أو الترمذي أو أبو داود، أو ابن ماجة من حيث الكتب والأبواب، فأمره يسير وجميع هذه المواضع -كما هو واضح- تتعلق بأحاديث السواك وتأخير الصلاة.(230/18)
الإحالة إلى الموطأ والمسند
ننتقل بعد ذلك إلى الموطأ، [ط الطهارة:114، 115] هذا الموضع ينبغي أن يبحث الطالب ويتأكد، وأنتقل للموضع الذي بعده كتاب الجهاد، رقم الحديث [40] فهنا بعد استعراض فهارس المجلد الأول ثم الثاني؛ نجد الجهاد في أول المجلد الثاني، ونجد الحديث رقم [40] في صفحة [465] وهو عن أبي هريرة: {لولا أن أشق على أمتي} إلى آخر الحديث، نذكر هذه الإحالة بدقة، أما فيما يتعلق بإحالاتهم إلى المسند فهي واضحة، ولا يحتاج إلى الوقوف عندها.(230/19)
الإحالة إلى سنن أبي داود
ننتقل بعد ذلك إلى إحالاتهم إلى أبي داود، في كتاب الطهارة [25] وننتقل إلى أبي داود وكتاب الطهارة أيضاً في المجلد الأول منه، ونجد الباب رقم [25] في صفحة [40] وفيه حديث أبي هريرة {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء وبالسواك} ونجد الحديث الذي بعده مثله كذلك، والذي بعده كذلك، فهذا ليس هو الذي نشتغل به.
قد يسأل سائل: كيف عرفنا أن كتاب الطهارة في المجلد الأول من سنن أبي داود؟ أقول: ليس هناك فهرس محدد لمجمل سنن أبي داود، فهنا عليك أن تبحث عن الفهرس الموجود في آخر كل مجلد، حتى تصل إلى ما تريد، ولكن يستعين الطالب هاهنا بمعلوماته، فمن الطبيعي أن كتاب الطهارة، وكتاب الوضوء، وكتاب الغسل، وكتاب الصلاة، وما يتعلق بها عادة، ما توجد في المجلد الأول، لأن كتب السنن مرتبة على حسب أبواب الفقه، ننتهي هنا من أبي داود بعدما عرفنا أن الحديث حديث آخر، غير ما نريد.(230/20)
الإحالة إلى جامع الترمذي
ننتقل إلى الترمذي أيضاً: كتاب الطهارة، الباب رقم [18] نجد هذا الباب موجوداً في الترمذي بمراجعة الفهرس، فهرس الجزء الأول، نجد كتاب الطهارة موجوداً في الجزء الأول، وهذا كما ذكرت قبل قليل أمر طبيعي، وهو أول ما يواجهنا من أبواب الترمذي، ثم نفتح حتى نصل إلى الباب [18] وهو موجود في صفحة [34] فنجد فيه حديث أبي هريرة المتعلق بالسواك، وبعده -أيضاً- في الصفحة المقابلة: حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، وهو متعلق أيضاً بالسواك، وبتأخير العشاء إلى ثلث الليل، فهذان الحديثان ليسا مما نحن بصدده.
ننتقل للإحالة الأخرى على الترمذي، وهنا نجد أنهم وضعوا نجمتين على الطهارة [18] ثم وضعوا نجمتين، أي: أن الحديث موجود في موضعين في الترمذي، وهو فعلاً -كما ذكرت- في موضعين الأول منهما عن أبي هريرة والآخر عن زيد بن خالد، وكلاهما متعلق بالسواك، أو بالطهارة.
والموضع الآخر الذي أحالوا إليه في الترمذي الصلاة [10] وكتاب الصلاة يأتي بعد كتاب الطهارة، وبإمكاننا ندرك ذلك بعد مراجعة الفهرس، ونجد هنا مشكلة بسيطة سبق أن تعرضنا لها قبل قليل، حينما كنا نتحدث في تحفة الأشراف، فقد ذكرت أن الذين طبعوا الترمذي رتبوا أبواب كتاب الصلاة على أبواب كتاب الطهارة، فالباب الأول في الصلاة يحمل رقم [113] والمفروض أن يكون رقمه [1] إذاً لو أحالونا في الصلاة إلى الباب رقم [10] لازم نبحث فيه في [123] أي نضيف [10] إلى [113] .
وهنا من أشكل عليه هذا الكلام، فليفتح على أبواب الصلاة، الجزء الأول صفحة [278] أبواب الصلاة، الباب الأول رقمه [113] والمفروض أن يكون رقمه [1] فلو أحالنا المستشرقون إلى رقم [10] في أبواب الصلاة، لوجب أن نضيف [10] إلى [113] التي أمامنا.
فنجده في [123] هم أحالونا هنا إلى كتاب الصلاة [10] فعلاً، نضيف [10] إلى [113] ونبحث في [123] فلا نجد الحديث إنما نجده في [124] يعني بزيادة باب، وفيه حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه} فهذا الحديث -أيضاً- ليس مما نبحث عنه.(230/21)
الإحالة إلى سنن النسائي
ننتقل إلى النسائي، فنجدهم أحالونا إلى كتاب الطهارة، باب [6] وكتاب الطهارة بطبيعة الحال في المجلد الأول، وقد طبع المجلد الجزء الأول والثاني بمجلد واحد، فنستعرض فهارس المجلد الجزء الأول؛ فنجد كتاب الطهارة هو أول ما يواجهنا من النسائي، كتاب الطهارة بعد خطبة الكتاب، وبعد باب واحد، ونجد أوله يبدأ بصفحة [6] .
أما الباب الذي أحالونا إليه، فهو يحمل الباب رقم [6] نبحث عن هذا الباب، فنجده في صفحة [12] الرخصة في السواك بالعشي للصائم، وهو عن أبي هريرة: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} فهذا الحديث ليس هو الحديث الذي نبحث عنه.
ننتقل للإحالة الثانية في النسائي؛ فنجدهم أحالونا أيضاً إلى المواقيت، أي مواقيت الصلاة [20] أي الباب رقم [20] ووضعوا نجمتين، أي أنه موجود في موضعين، وبالاستعانة بالفهرس أيضاً نجد المواقيت في المجلد الأول، ونمشي في الأبواب، ونجد أن الأبواب المطبوعة مع الكتب الستة مفهرسة، حتى نصل إلى باب آخر وقت العشاء، وهو في صفحة [267] ونجد فيه حديث عائشة في تأخير العتمة، ثم نجد فيه حديث ابن عمر في نفس الموضوع، ثم نجد فيه حديث أبي سعيد الخدري، وهو في نفس الموضوع، ثم نجد فيه حديث أنس في نفس الموضوع.
إذاً ليس هذا الحديث موجوداً في هذه المواضيع كلها، وإنما توجد أحاديث أخرى، ننتقل للإحالة الثالثة عند النسائي؛ فنجدهم أحالونا إلى كتاب الجهاد، باب [18] وباب رقم [30] الباب الثامن عشر نجد كتاب الجهاد في آخر الجزء السادس، نستعرض فهرس الجزء السادس؛ سنجده كتاب الجهاد، نفتح كتاب الجهاد، فنجد الباب الذي أحالونا إليه أولاً: هو باب [18] وهذا الباب موجود في صفحة [19، 20] باب درجة المجاهد في سبيل الله عز وجل، وليست مرقمة، إلا ما طبع مع الكتب الستة، فإن أبوابه فيما أذكر مرقمة.
نجد درجة المجاهد، هذا الباب الثامن عشر، الحديث الأول منه: حديث أبي سعيد الخدري، ليس الذي نريد، ننتقل إلى الحديث الثاني، وهنا نلاحظ تداخل الأحاديث، فلا بد أن نقرأ بتركيز حتى نجد الحديث الآخر، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وفي آخره كما يجد في أسفل الصفحة: {ولولا أن أشق على المؤمنين، ولا أجد ما أحملهم عليه، ولا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا بعدي؛ ما قعدت خلف سرية} الحديث.
فهذا الحديث متفق مع ما معنا من الموضوع، لكنه مختلف في الصحابي، فلا ننقله، بل ننتقل إلى الإحالة الثانية، وهي إلى الباب رقم [30] فنجدها في باب تمني القتل في سبيل الله تعالى، وهو في صفحة [32] من نفس المجلد، وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لولا أن أشق على أمتي لم أتخلف عن سرية إذاً هذا الحديث هو ما نشتغل بتخريجه، فننقل هذا الموضع بدقة، مع الإحالة إلى الكتاب والباب، والطبعة، والصفحة، وبذلك نكون أنهينا إحالاتهم إلى سنن النسائي.(230/22)
الإحالة إلى صحيح البخاري
بعد ذلك ننتهي من الإحالات إلى مسلم، ننتقل إلى إحالاتهم للبخاري، فقد أحالونا إلى صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب رقم [26] أيضاً هنا نرجع إلى المجلد الأخير من البخاري، وهو السابع والثامن، فنجد في آخره فهارس، وهذا هو المطبوع مع الكتب الستة، والمطبوع منفرداً، طبعة المكتبة الإسلامية في تركيا، فنجد في آخره بعد نهاية المجلد فهارس.
أولاً: فهارس لكتب صحيح البخاري، وكون هذه الفهارس أنها تعطيك رقم الكتاب، الذي تريد أن تبحث فيه، حتى تجده في مظانه في الفهرس بسهولة، فمثلاً: أحالونا إلى البخاري كتاب الإيمان، نستعرض الفهرس، فنجد كتاب الإيمان، رقم الكتاب [2] الذي هو الكتاب الثاني، فنرجع للكتاب الثاني في الفهرس الذي يوجد بعده بصفحتين أو ثلاث، فنجد كتاب الإيمان، بعد كتاب بدء الوحي، رقم [2] كتاب الإيمان.
وفي أعلى الصفحة أي الباب الذي هو بدء الوحي، انظر كتاب بدء الوحي، الباب الأول، باب كيف كان بدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تجد مقابله رقم [1] رقم [1] هذا كما يدل عليه الكلام المكتوب فوقه في أعلى الصفحة رقم الجزء [1] ويظل هذا الرقم [1] في كل صفحة هذه إلا إذا غير، ثم تجد الصفحة الثانية رقم [1] وهكذا.
فكتاب الإيمان هو في المجلد الأول من صحيح البخاري، ويبدأ بصفحة [7] يبدأ الباب الأول منه بصفحة [7] نرجع للمجلد الأول، ولصفحة [7] منه، نجد أنهم أحالونا إلى الباب [26] وهو في المجلد الأول -كما ذكرت- صفحة [14] باب الجهاد من الإيمان، وفيه قال سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: {ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية} إلى آخر الحديث، فهذا الحديث الآن نجده متفقاً مع الحديث الذي أردنا تخريجه، في الصحابي، وفي الموضوع، إذاً هذا هو الحديث الذي نريد، وهنا نقوم بالعزو فنقول: ورواه البخاري في كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، ولا بأس أن يذكر رقم الكتاب، ورقم الباب، ورقم المجلد، ورقم الصفحة.
ثم ننتقل بعد ذلك للإحالة الأخرى في البخاري، وهي كتاب المواقيت باب رقم [24] ونرجع للمجلد الأخير في الفهرس، فننظر في كتاب المواقيت: أين يوجد، فنجد أنه في المجلد الأول أيضاً، ونبحث في كتاب المواقيت عن الكتاب رقم [24] فنجده في المجلد الأول -أيضاً- صفحة [142] باب [24] النوم قبل العشاء لمن غلب، ونتجاوز الحديث الأول، ثم نجد الحديث الثاني، وفي آخر الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها هكذا} يعني العتمة.
فهذا الحديث هو الذي مر علينا من قبل في بعض المواضع، ونكتشف أنه اختلف فيه الصحابي فهو عن عبد الله بن عمر، واختلف فيه الموضوع أيضاً، فليس هو الحديث الذي نريد.
ننتقل للموضع الثالث في البخاري، فنجده الجمعة، الباب الثامن -أيضاً- نبحث في الجمعة فنجد أن الجمعة في المجلد الأول، نبحث عن طريق الفهرس، فنجدها في المجلد الأول، ثم نجد الباب الثامن منها، باب السواك يوم الجمعة، وهو في صفحة [214] من المجلد الأول، باب السواك يوم الجمعة.
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لولا أن أشق على أمتي أو على الناس} إلى آخر الحديث، فهو يتعلق بالسواك، ولا شك أن هذا الحديث وإن اتفق فيه الصحابي، فقد اختلف في الموضوع، فليس هو الحديث الذي نبحث في تخريجه.
ننتقل للإحالة الرابعة في البخاري، فنجدهم أحالونا إلى الصوم باب [27] ونجد الصوم بعد مراجعة الفهرس، نجد الصوم في المجلد الثاني، وننتقل للباب [27] باب السواك الرطب واليابس للصائم، وفيه عن أبي هريرة: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء} .
ولا شك أن هذا الحديث -أيضاً- ليس هو الذي نشتغل في تخريجه، فننتقل إلى الإحالة التالية وهي كتاب التمني، باب رقم [9] وبواسطة الفهرس نجد أن كتاب التمني يحمل رقم [94] أي أنه هو الباب [94] من صحيح البخاري، وفي الفهرس ننتقل إلى نفس الفهرس الموجود في آخر المجلد الثامن، إلى الباب رقم [94] فنجد كتاب التمني، ونجد هذا الكتاب في المجلد الثاني، في صفحة [68] من الفهرس، كتاب التمني رقم [94] ننظر في هذه الصفحة ورقم الجزء، فنجده الثامن، ولن يأتي بعد ثمانية هذه ما ينسخها.
إذاً كتاب التمني في المجلد الثامن، ويبدأ بصفحة [128] وهو المجلد الذي نعني، فنفتح كتاب التمني صفحة [128] وننظر في إحالتهم، فإذا هي في الباب أو إلى الباب التاسع، نجد أن الباب التاسع في صفحة [130] باب [9] ما يجوز من النوم.
وننتقل، فنترك الحديث الأول إلى الحديث الثاني، قال عمر حدثنا عطاء، قال: {أعتم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عمر فقال: الصلاة} إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي -أو قال: على الناس- لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة} فهذا الحديث ليس هو الحديث الذي نعنى بتخريجه الآن.
ننتقل للموضع الآخر والأخير من إحالاتهم إلى البخاري، فنجدهم أحالونا إلى كتاب الجهاد [119] ونبحث في كتاب الجهاد، نبحث في الجهاد من خلال فهرس كتب الصحيح الموجود في آخر المجلد الثامن، فنجد أن كتاب الجهاد يحمل رقم [56] وهو الباب [56] وننظر في الفهرس في الباب [56] وأين يوجد في أي مجلد، فنجد الباب [56] موجوداً في المجلد الثالث، والكتاب موجود في الفهرس صفحة [31] كتاب الجهاد والسير [56] في المجلد الثالث.
ننتقل ونبحث عن المجلد الثالث في صحيح البخاري؛ فنجدهم أحالونا في كتاب الجهاد إلى رقم الباب [119] نبحث حتى نصل إلى الباب رقم [119] وهو موجود في المجلد لا أقول: الثالث، بل الرابع، إنما هو الثالث والرابع في مجلد واحد، في الجزء الرابع باب [119] باب الجعائل والحملان في السبيل، وفي آخره: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية} إلى آخر الحديث.
فهذا الحديث اتفق فيه الصحابي والموضوع، فنأخذه مع الإحالة الدقيقة، اسم كتابه ورقمه، واسم بابه ورقمه، ورقم المجلد ورقم الصفحة، وبذلك ننتهي أيضاً من إحالاتهم إلى صحيح البخاري بعدما محصنا ما يتعلق بحديثنا منها، وما لا يتعلق.(230/23)
الإحالة إلى صحيح مسلم
إذاً: هذا هو ما نريد، ونجد أنهم أحالونا هنا إحالات كثيرة جداً، وقد اخترتها عمداً، فنتابع هذه الإحالات واحدة واحدة حتى نعرف ماذا فيها، فنجد أنهم أحالونا إلى مسلم [م الإمارة: 103- 106- 108] يعني هذا الحديث موجود في كتاب صحيح مسلم، كتاب الإمارة، الحديث [103] وموجود أيضاً في الحديث [106] إلى [108] يعني [106] [107] [108] .
وهو موجود -أيضاً- في مسلم، في كتاب الطهارة، الحديث رقم [43] وموجود أيضاً في كتاب المساجد، الحديث رقم [219] و [225] وهذه الإحالات إلى مسلم، ومن واجب الطالب أن ينقل الإحالات الموجودة في المعجم بدقة من أجل أن ينتهي من المعجم، ويعتمد على ما نقله، وممكن أن يعتمد على المعجم مباشرة.
هنا نريد أن نبحث عن الحديث في مسلم، كتاب الإمارة، لا ندري كتاب الإمارة، في أي مجلد من صحيح مسلم، فما علينا هنا إلا أن نرجع إلى المجلد الخامس من مسلم، وهو مجلد الفهارس، ونبدأ بأوله، فنجد أن أول المجلد عبارة عن فهرسة للكتب والأبواب، وتجد عنوان الكتاب موجود في أعلى الصفحة، فوق السطر مرقماً، وبجواره الجزء الذي يوجد فيه الكتاب، فنمضي قليلاً حتى نصل إلى صفحة [54] فنجد الباب رقم [33] كتاب الإمارة، ننظر كتاب الإمارة هذا في أي مجلد، فنجد أنه في أعلى الصفحة من جهة اليمين، قالوا: الجزء الثالث.
إذاً كتاب الإمارة في الجزء الثالث، نذهب إلى الجزء الثالث من صحيح مسلم، فنجد كتاب الإمارة، وهو أيضاً يبدأ بصفحة [1451] من الجزء الثالث من صحيح مسلم، أحالونا إلى مسلم كتاب الإمارة ثم ذكروا أن رقم الحديث [103] فننظر الآن في التسلسل، نبدأ الحديث الأول يحمل رقم [1] والثاني يحمل رقم [2] ونقفز حتى نجد الحديث رقم [103] وهو موجود في صفحة [1495] نجد الحديث رقم [103] هذا رقمه الخاص داخل كتاب الإمارة.
أما الرقم الآخر [1876] فهو رقمه العام في صحيح مسلم كله، ونجده في البعض رقم [28] باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، ومن المعلوم أن هذه الأبواب ليست من وضع مسلم، بل هي من وضع النووي رحمة الله تبارك وتعالى عليه.
ونجد فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تضمن الله} إلى قوله في آخر الصفحة، {والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده، لولا أن يشق على المسلمين، ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً} إذاً هذا هو الحديث الذي نريد، وقد عثرنا عليه، فننقله هنا بدقة، فنقول رواه مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، ثم نشير إلى المجلد رقم [3] وإلى الصفحة [1495] وإلى الكتاب رقم [33] كتاب الإمارة، والباب رقم [28] باب فضل الجهاد، والحديث رقم [103] .
ثم نقول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونضع نقط على مكان محذوف، ثم نقول: {والذي نفس محمد بيده} إلى آخر الطرف الذي نريد، لنؤكد أن الطرف الذي وجدناه هو بنفس المعنى الذي كنا نبحث عنه، فالآن وجدناه في الموضع الأول من صحيح مسلم.
ننتقل للموضع الثاني، قالوا [106 - 108] إذاً بنفس الموضع الذي هو الإمارة، نجده في رقم [106] وهي موجودة في الصفحة المقابلة أيضاً، نجد الرقم [106] حدثنا أبو هريرة، فذكر أحاديث منها إلى قوله: {لولا أن أشق على المؤمنين ما قعدت خلف سرية} ثم ننظر الحديث الذي بعده بدون رقم، فنجد فيه نفس اللفظ، والذي بعده كذلك، ثم نجد الحديث رقم [107] في أسفل الصفحة -أيضاً- هو بنفس المعنى عن أبي هريرة إلى قوله: {ما تخلفت خلاف سرية تغزو في سبيل الله تعالى} انتهت الآن إحالاتهم إلى كتاب الإمارة في صحيح مسلم.
بعد ما نرجع إلى المعجم نجدهم أحالونا إلى كتاب الطهارة في مسلم الحديث رقم [42] فنرجع للمجلد الخامس، ونبحث عن كتاب الطهارة في صحيح مسلم، فنجده في الجزء الأول ويبدأ بصفحة [203] نرجع للجزء الأول ولصفحة [203] فنجد كتاب الطهارة، أما الحديث الذي معنا فقد أشاروا في المعجم إلى أنه يحمل رقم [42] وبعدما عثرنا على كتاب الطهارة الذي يبدأ بصفحة [203] نقفز حتى نصل إلى الحديث رقم [42] فنجد الحديث كما ذكره الإمام مسلم، باب السواك، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لولا أن أشق على المؤمنين -وفي لفظ: على أمتي- لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} .
هاهنا نقف وقفة، هل هذا الحديث هو الذي كنا نشتغل بتخريجه؟ الصحابي واحد، كلا الحديثين عن أبي هريرة، لكن الموضوع مختلف، فهذا الموضوع يتعلق بالسواك، أما الحديث الذي كنا نشتغل بتخريجه، فإنه يتعلق بالجهاد وعدم تخلف الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغزو، لولا خوفه المشقة على أمته.
إذاً: هذا الحديث ليس مما نريد، وقد أقول: إننا كنا نعلم قبل أن نرجع إليه أنه ليس مما نريد، لأنه في كتاب الطهارة، وفي باب السواك أيضاً، ونحن نعرف جميعاً هذا الحديث، لكن: أولاً: من أجل التأكد والتثبت وأن يطلع الباحث على أنموذج.
ثانيا: أن الحديث الواحد قد يشمل عدة موضوعات، وقد يكون طرفاً منه في الطهارة، وطرف آخر في الجهاد، فلا نكتفي بذلك، بل نقف على نفس الحديث، إذاً ننتقل للموضع الثالث الذي أحالونا إليه في مسلم، وهو المساجد رقم [219] ورقم [225] أيضاً نرجع للمجلد الخامس فنجد أن كتاب المساجد، ومواضع الصلاة يحمل رقم [5] وهو في المجلد الأول، ويبدأ بصفحة [370] .
أما الموضع الذي أحالونا إليه فهو الحديث رقم [219] ونجد هذا الحديث رقم [219] في الصفحة [442] عن عائشة رضي الله عنها قالت: {أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل -يعني تأخر في صلاة العشاء - وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي} وفي حديث عبد الرزاق: {لولا أن يشق على أمتي} ونجد الحديث الذي بعده: {ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم} ثم الحديث الذي بعده بنفس الموضوع، وهكذا.
إذاًَ هذا الحديث الذي رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، اختلف فيه الصحابي فهو عن عائشة، أو عن عبد الله بن عمر في الرواية الأخرى، أو عن أنس في الرواية الثالثة، كما اختلف فيه الموضوع أيضاً، فهو يتعلق بالإعتام، وهو تأخير صلاة العشاء التي يدعونها العتمة، إلى أن يذهب عامة الليل.(230/24)
التخريج بواسطة تحفة الأشراف
الاشتغال بالحديث النبوي ينِّور البصيرة كما قال الإمام النووي رحمه الله، وهو أمر لا بد منه لمن أراد التفقه في الدين على طريقة الأئمة السابقين، وكثيراً ما يجد الباحث حديثاً يدل على أمر ما ولا يعرف أين روي ولا ما درجة صحته، ولأجل معرفة ذلك قد يسر الحافظ المزي ذلك في تحفة الأشراف لمعرفة الأطراف، لمن أراد البحث عن طريقها وقد تناول هذا الدرس توضيح كيفية الاستفادة منها.(231/1)
أهمية الاشتغال بالسنة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فقد طلب مني بعض الإخوان والطلاب أن أسجل لهم بعض ما يتعلق بمادة التخريج المقررة على كلية أصول الدين، السنة الرابعة، ليكون ذلك عوناً لهم على معرفة التخريج والتدرب عليه، وخاصة ممن لا يتيسر لهم الاستماع إلى الشرح، أو متابعته، فقمت بتسجيل هذا الدرس رجاء أن ينفعهم الله به، وإنما سجلته لهم أصلاً مراعياً فيه ما أعلم من مستوياتهم دون غيرهم، لأنني لم أسجله من أجل التداول.
وفي بداية الحديث أقول: إن الاشتغال بالسنة النبوية، سواء فيما يتعلق بالأسانيد، أم بالمتون، أم بالفقه، من أعظم وأجل ما اشتغل به المشتغلون، وانصرف إليه الباحثون، وذلك لأن السنة مصدر أساسي من مصادر التشريع، بل ومن مصادر العقيدة قبل ذلك، وهناك طرق كثيرة يسلكها الباحث في الحصول على الحديث، تختلف هذه الطرق من جهة بحسب ما لدى الباحث من الحديث، هل لديه الحديث كاملاً، سنداً ومتناً، أم لديه الإسناد فقط، أم لديه المتن فقط، أم ليس لديه إلا شيء من ذلك، وتختلف من جهة أخرى: بحسب الكتب المصنفة في السنة النبوية، فمنها الصحاح والسنن المرتبة على الموضوعات، ومنها المسانيد المرتبة على أسماء الصحابة، ومنها المعاجم المرتبة على أسماء الشيوخ أوغير ذلك، ومنها الكتب المرتبة بحسب الحروف الأولى من الحديث إلى غير ذلك.(231/2)
أقسام طرق التخريج وما احتوت التحفة
وعلى ضوء هاتين الملاحظتين، نقول: إن طرق التخريج تنقسم إلى أقسام: فإن كان لدى الباحث جزءٌ من الإسناد الصحابي فقط، أو الصحابي فمن دونه من التابعين ومن بعدهم، فهذا له طريقة، وإن كان لدى الباحث موضوع الحديث فقط، دون أن يعرف إسناده، ودون أن يعرف لفظه أيضاً، فهذا له طريقة أخرى، وإن كان لدى الباحث أول لفظ من الحديث يعرفه، دون أن يعرف بقية الحديث، فهذا له طريقة ثالثة، وقد يعرف الباحث لفظاً ما من الحديث، في أوله أو في أوسطه أو في آخره، دون أن يعرف بقية لفظ الحديث، ودون أن يعرف متن الحديث أو إسناده، فهذا أيضاً له وسيلة أخرى، وسنعرض في هذا الدرس لطريقتين أساسيتين من طرق التخريج.(231/3)
التخريج بواسطة التحفة
وهي طريقة التخريج بواسطة كتاب تحفة الأشراف في معرفة الأطراف، للحافظ المزي، وهي تتم عن طريق معرفة صحابي الحديث فمن دونه، فهذا الكتاب جمع فيه مؤلفه، أطراف الكتب الستة، التي هي: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وأضاف إليها بعض ما يلحق بها، وما يجري مجراها من الكتب الأخرى، وهي: مقدمة صحيح مسلم، وكتاب المراسيل لـ أبي داود، وكتاب العلل للترمذي، والشمائل أيضاً له، وكتاب عمل اليوم والليلة لـ النسائي، هذه أهم الكتب التي جمع أطرافها، وقد بين الحافظ المزي رحمه الله في مقدمة كتابه، أنه اعتمد في عامة كتابه، على ثلاثة كتب تقدمته في هذا المضمار، الكتاب الأول منها: هو كتاب أبي مسعود الدمشقي، والكتاب الثاني: هو كتاب خلف الواسطي، وهما في أطراف الصحيحين.
أما الكتاب الثالث: هو كتاب أبي القاسم بن عساكر، وقد جمع فيه، أطراف السنن الأربع، وما يجري مجراها من الكتب التي تقدم ذكرها.(231/4)
الوصف العام لطريقة ترتيب التحفة
أما طريقة المزي في ترتيب كتابه، فتتلخص فيما يلي:- قسم المزي رحمه الله، كتاب التحفة إلى [1395] مسنداً، ما بين مرسل وموصول، فعدد المسانيد المنسوبة إلى الصحابة رضوان الله عليهم.
[995] مسنداً، وهي مرتبة على حروف المعجم، بحسب أسماء الصحابة، أما بقية المسانيد وهي [400] مسند.
فهي المراسيل المنسوبة إلى أئمة التابعين، بل وإلى من بعدهم، وهي مرتبة أيضاً على حروف المعجم، هذا من حيث الإجمال، ومن خلال مسند كل صحابي أو غير صحابي ينظر في مجموع مرويات هذا الرجل، فإن كانت مروياته قليلة أبقاها كما هي تحت مسند هذا الرجل، وإن كانت مروياته كثيرة فإنه يقسمها تقسيماً آخر داخل هذا التقسيم الكلي، فيقسم مرويات الصحابي بحسب من روى عنه من التابعين، ثم إذا كان هذا التابعي مكثراً عن ذلك الصحابي؛ فإنه يقسم المرويات التي وردت عن طريق هذا التابعي عن هذا الصحابي، يقسمها داخل اسم التابعي -أيضاً- إلى تقسيم ثالث بحسب من روى عن التابعي، من أتباع التابعين، أو من التابعين وهكذا، حتى أنك قد تجد أحياناً أربعة تقسيمات، فمثلاً في مسند أبي هريرة، نجد أنه قسم مسند أبي هريرة إلى أقسام كثيرة، بحسب من روى عنه من التابعين، ثم في مسند واحد من هؤلاء التابعين، كـ أبي سلمة بن عبد الرحمن، نجده قسم مسند هذا التابعي أو مرويات هذا التابعي، عن أبي هريرة بحسب من روى عنه، ثم قسم مرويات من روواعنه بحسب من روى عنهم أيضاً، وهذا كله تيسيراً للباحث، بحيث إذا توفر أو تيسر لديه الإسناد؛ استطاع بيسر وسهولة أن يصل إلى موضع هذا الحديث الذي يبحث عنه في مسند ذلك الصحابي في التحفة، وقد رمز المؤلف، للكتب برموز تجنباً لتكرار ذكر أسمائها، فرمز للبخاري بحرف [خ] فإن كان تعليقاً أضاف إليه [ت] ورمز لـ مسلم بحرف [م] ولـ أبي داود بـ[د] وإن كانت في المراسيل أضاف إليها [م] ورمز للترمذي بـ[ت] وإن كان في الشمائل أضاف إليها [م] أيضاً، ورمز للنسائي بـ[س] وإن كان في عمل اليوم والليلة أضاف إليها [ي] ورمز لـ ابن ماجة القزويني بحرف [ق] .
ونجد هناك أيضاً رمزين آخرين هما: حرف [ز] وهو رمز لزيادات المزي من الكلام على الأحاديث، أما الآخر فهو حرف [ك] وهو ما استدركه الحافظ المزي - أيضاً- على الحافظ أبي القاسم بن عساكر، في أطراف السنن الأربع، هذا فيما يتعلق بالوصف العام لطريقة ترتيب الكتاب.(231/5)
إضافات المحقق شرف الدين
وهناك شيء مهم جداً، وهو أن محقق الكتاب: عبد الصمد شرف الدين جزاه الله خيراً قد أضاف إلى الكتاب إضافات في غاية الأهمية، هذه الإضافات تتلخص في أمرين أساسيين:(231/6)
الأمر الأول: إضافات وضعها مع صلب كتاب التحفة
أولاً: إضافة رقم الباب.
الثاني: إضافة رقم الحديث، أحياناً.
الثالث: إظهار الضمير في بعض المواضع.
ومعنى هذا الزيادات: أن الحافظ المزي كما سلف يحيل إلى اسم الكتاب فحسب، فيقول: [خ] في الأدب، أي رواه البخاري في كتاب الأدب، فوضع المحقق بعد هذا الكلام قوسين فيهما رقم أو رقمان، فالرقم الأول: يشير إلى اسم الباب في كتاب الأدب، فإذا كان الرقم الذي وضعه داخل هذا القوس خمسة، ثم وضع نقطتين بعدها ستة (5:6) فمعنى ذلك أن هذا الحديث يوجد في كتاب الأدب، الباب الخامس، رقم الحديث هو الحديث السادس، من الباب الخامس.
وإن كان رقماً واحداً فهو يشير إلى رقم الباب فقط دون رقم الحديث، وأحياناً قد يضيف ثلاثة أرقام، وهذا خاص بكتاب التفسير في صحيح البخاري، فالرقم الأول: يشير إلى رقم السورة، والرقم الثاني: يشير إلى رقم الباب، والرقم الثالث: يشير إلى رقم الحديث داخل الباب، وذلك أن الإمام البخاري في كتاب التفسير في صحيحه، سلك طريقة تختلف شيئاًَ ما عن الطريقة التي سلكها في بقية الكتب، ففي معظم أو في كل الكتب ماعدا كتاب التفسير، يضع الإمام البخاري كتاباً ويضع تحته أبواباً، وفي الباب مجموعة من الأحاديث، أو قد يكون في الباب حديث واحد، أما في كتاب التفسير فإنه وضع تحت اسم الكتاب: أسماء السور، وتحت كل سورة مجموعة من الأبواب، وفي كل باب حديث أو عدد من الأحاديث.
إذاً قد يكون الرقم الذي بين القوسين، إما رقماً واحداً أو رقمين أو ثلاثة، فإن كان رقماً واحداً: فهو رقم للباب، وإن كان رقمين: فهو رقم للباب ورقم للحديث داخل الباب، أما في كتاب التفسير بالذات في صحيح البخاري، فإن الرقم الأول أو الرقم الواحد: يعني رقم السورة، والرقم الثاني يعني رقم الباب داخل السورة، فإن أضاف رقماً ثالثاً: فهو يعني رقم الحديث داخل الباب.
أما إظهاره للضمير في بعض المواضع، فذلك أن الحافظ المزي قد يشير إلى اسم الكتاب بالضمير، فإذا كان الحديث -مثلاً- موجوداً عند البخاري، وعند الترمذي في كتاب واحد، فإنه يقول: أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ثم يشير إلى الأسانيد، وقد تطول هذه كثيراً حتى ينسى القارئ اسم الكتاب، ثم يقول: وأخرجه الترمذي فيه -أيضاً- يعني في كتاب الصلاة، ولكن لطول المسافة قد ينسى القارئ أن المقصود فيه: أي في كتاب الصلاة، فقام المحقق وفقه الله وأثابه بإظهار هذا المضمر، فبعدما يقول: وأخرجه الترمذي فيه أيضاً، يقول المحقق بعد ما يضع قوساً: أي في كتاب الصلاة، ثم يضع الرقم الذي يدل على اسم الباب، هذا هو العمل الأول الذي أضافه المحقق وهو في صلب الكتاب.(231/7)
الكشاف عن تحفة الأشراف
وهناك عمل آخر-أيضاً- ذو أهمية كبيرة، وهو أنه وضع مجلداً في نهاية التحفة، وهو ما سماه بالكشاف عن تحفة الأشراف، وهذا المجلد خاص بفهارس الكتب الستة، إضافة إلى سنن النسائي الكبرى، التي عمل عليها المزي كتابه تحفة الأشراف.
وقد يقول قائل: ما فائدة هذا الكتاب (الكشاف) مع أننا نعلم أن كل كتاب من الكتب الستة يوجد في نهايته فهرس متكامل، بل أكثر من فهرس أحياناً؟ فأقول: إن هذا الكشاف ذو أهمية بالغة لكل من أراد أن يبحث بواسطة التحفة، وذلك أنه إذا كان يدلك في صلب التحفة على اسم الكتاب ثم رقم الباب، ثم رقم الحديث -أحياناً- فإنه في الكشاف يدلك على اسم الباب الذي أعطاك رقمه في صلب التحفة، فإذا سألت: وما الفائدة من معرفة اسم الباب مادام أن الرقم معروف لدي؟ ف
الجواب
إن اسم الباب مفيدٌ جداً، وذلك أنك في كثير من الأحيان تجد أن رقم الباب في الكتاب الذي تبحث فيه يختلف كثيراً أو قليلاً عن رقم الباب الذي أحالك إليه المحقق في التحفة، فقد يحيلك المحقق في التحفة إلى رقم باب في حديث في كتاب الصلاة، في الترمذي -مثلاً- فتجهد في البحث عن هذا الحديث؛ فلا تجده بالرقم، تجد الرقم وتجد الباب يختلف، لكنك إذا عرفت اسم الباب، فبإمكانك أن تهمل رقم الباب، إذا لم تجده كما هو، وتبحث عن اسم الباب، بمعنى أن رقم الباب قد يتغير من طبعة إلى أخرى، أما اسم الباب فإنه لا يتغير أبداً.
فإذا لم تفلح في الحصول على الحديث بواسطة الرقم الذي أرشدك إليه المحقق؛ فأهمل الرقم في هذه الحالة، وابحث عن الحديث بواسطة اسم الباب، فاستعرض جميع الأبواب الموجودة تحت هذا الكتاب، وليكن كتاب الصلاة -مثلاً- في سنن الترمذي، حتى تصل إلى اسم الباب الذي تجده، وهنا يسهل عليك أن تبحث عن الحديث داخل هذا الباب المحصور، وسوف يظهر لك جلياً أهمية الكشاف من خلال المثال الذي سوف أضربه لك بعد قليل في التطبيق العملي، فهذه أهم الإضافات التي أضافها المحقق إلى كتاب التحفة.(231/8)
كيفية البحث عن حديث (مثال تطبيقي)
بقي أن نعرف: كيفية البحث عن الحديث في كتاب التحفة، وهنا أضرب مثالاً بحديث واحد، ويمكن للقارئ أو السامع أو الباحث أن يحصل على أمثلة أخرى غير هذا المثال، ويجب على الطالب الذي يريد أن يستفيد من هذا المثال، أن يحضر الكتب التالية:- أولاً: كتاب الكشاف على تحفة الأشراف.
ثانياً: كتاب تحفة الأشراف الجزء التاسع، وهو أول الكنى.
ثالثاً: سنن الترمذي الجزء الثاني، تحقيق أحمد شاكر، وهو الموجود مع الكتب الستة.
رابعاً: سنن أبي داود تحقيق عزت عبيد الدعاس، الجزء الثاني، وهو أيضاً الموجود والمطبوع مع الكتب الستة.
بين أيدينا -الآن حديث- هذا الحديث يقول: عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: {مررت بك وأنت تقرأ، وأنت تخفض من صوتك، فقال: إني أسمعت من ناجيت، قال صلى الله عليه وسلم: ارفع قليلاً، وقال لـ عمر: مررت بك وأنت تقرأ وأنت ترفع صوتك، قال: إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، قال صلى الله وعليه سلم: اخفض قليلاً} هذا الحديث عن أبي قتادة، أقترح أن يكتبه الطالب في ورقة بين يديه، وهذا الحديث نعرف صحابيه -الآن- وهو أبو قتادة، ونعرف موضوع الحديث، بل نعرف متنه، لكنه الذي يعنينا هو: موضوع الحديث، وهو يتعلق بخفض القراءة أو رفعها في صلاة الليل.(231/9)
البحث في التحفة والكشاف
فإذا أردنا أن نبحث عن هذا الحديث بواسطة تحفة الأشراف، نبحث عن مسند الصحابي الذي جاء هذا الحديث عن طريقه وهو: أبو قتادة، فنبحث في المجلد الأول، والثاني، والثالث حتى نجده في المجلد التاسع، وليس بلازم أن تمر على جميع مجلدات التحفة، بل يجب أن تعلم أن جميع أسماء الصحابة مرتبة ترتيباً هجائياً أبجدياً داخل التحفة، وأن الكنى تبدأ في المجلد التاسع من التحفة وما بعده.
إذاً: ابدأ من المجلد التاسع، واستعرض أسماء الكنى حتى تحصل على أبي قتادة، وسوف تجد أن مسند أبي قتادة كما أشرت في الجزء التاسع، ويبدأ بصفحة [240] من هذا الجزء، الآن نفترض أنك لا تعرف من إسناد هذا الحديث إلا الصحابي وهو: أبو قتادة، ففي هذه الحالة يلزمك أن تستعرض وبهدوء جميع الأحاديث التي في مسند هذا الصحابي، حديثاً حديثاً، وقد ميز كل حديث منها برقم خاص، فانظر في كل رقم، ثم انظر الحديث المقابل له، فإذا وجدت الحديث الذي تريد فبها، وإلا فانتقل إلى الذي بعده وهكذا، حتى تنتهي من مسند هذا الصحابي إلى آخره، ومسند هذا الصحابي، ليس بطويل فهو ينتهي، في صفحة [271] أو [272] بمعنى: أنه يستغرق [32] صفحة تقريباً، ومعنى ذلك أنه يجب عليك أن تستعرض [32] صفحة حتى تحصل على الحديث الذي تريد، ولكن لنفترض أن اسم الصحابي أو التابعي الراوي عن أبي قتادة موجود بين يديك، وهو في الحديث الذي فيه عبد الله بن رباح الأنصاري المدني، فهو الذي روى هذا الحديث عن أبي قتادة.
إذاً: ليس بلازم في هذه الحالة أن تستعرض مسند أبي قتادة كله، بل استعرض مسند عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي قتادة، فإذا فتحت مسند أبي قتادة صفحة [240] سوف تجد أول ما يواجهك في الصفحة التالية، [241] : أنس بن مالك أبو حمزة الأنصاري عن أبي قتادة، فهذا المسند لا يعنيك، يليه رقم [2] إياس بن حرملة الشيباني عن أبي قتادة -أيضاً- هذا المسند لا يعنيك، سوف تجد في الصفحة التالية: رقم [3] مسند جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري عن أبي قتادة، هذا المسند -أيضاً- لا يعنيك، تجد في الصفحة التالية: مسند حرملة بن إياس الشيباني عن أبي قتادة، هذا لا يعنيك، تجد بعده سعد بن مالك أبو سعيد الخدري هذا لا يعنيك، تجد مسند سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي عن أبي قتادة، هذا لا يعنيك، يليه صالح بن أبي مريم أبو الخليل الضبعي عن أبي قتادة هذا لا يعنيك تجد في الصفحة التالية: عبد الله بن رباح الأنصاري المدني فهذا هو المقصود، ويلاحظ أن جميع الأسماء السابقة مرتبة ترتيباً هجائياً، وهذا هو المسند الذي يجب أن نحصل على الحديث فيه.
فنستعرض الحديث الأول: فنجده حديث: {ليس في النوم تفريط} ليس هو الحديث الذي يعنينا، وهذا برقم [12085] نجد الحديث الذي يليه برقم [12086] حديث: {شرباً} أيضاً ليس هو الحديث الذي نطلبه، نجد الحديث [12087] حديث: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فعرس بليل اضجع على يمينه} أيضاً ليس هو الحديث الذي يعنينا، ننتقل إلى الحديث الذي يليه، رقم [12088] : {أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج ليلة فإذا هو بـ أبي بكر يصلي يخفض من صوته، قال: ومر بـ عمر بن الخطاب} الحديث، هذا هو الحديث الذي يعنينا، وهو في صفحة [245] برقم [12088] وجدنا الآن الحديث في التحفة، هذه هي الخطوة الأولى، ومن خلالها عرفت كيف يمكن الحصول على الحديث المطلوب، في التحفة نفسها، لكن صاحب التحفة، -كما عرف من طريقته- يذكر لك طرف الحديث، ويذكر لك أسانيده وملتقى الأسانيد، ثم يذكر لك من خرج هذا الحديث، فيقول لك: [د: في الصلاة] يضع المحقق قوسين ويضع بينهما رقم [316] ثم يضع نقطتين ويضع بعد النقطتين رقم [3] ثم يغلق القوس [3:316] عن الحسن بن الصباح عن يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عنه به، ثم يقول: [و] هذا الكلام لا يزال للمزي، فبعد كلمة [و] يعني ورواه، يضع المحقق قوساً آخر، ويضع الرقم نفسه [316] أي رواه أبو داود أيضاً في نفس الباب، رقم [316] ويضع نقتطين، ويضع رقماً آخر رقم [3] وهو نفس الرقم السابق، يعني ورواه أبو داود أيضاً في نفس الباب، في نفس الموضع، لكن بإسناد آخر عن موسى عن حماد عن ثابت البناني عن النبي صلى الله وعليه سلم مرسلاً، يعني ولم يذكر فيه عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي قتادة، ثم يقول الحافظ المزي: [ت، فيه] يعني ورواه الترمذي.
و [فيه] يعني: في كتاب الصلاة، أي في نفس الكتاب الذي رواه فيه أبو داود، ثم يقول: [213: 1] أي في الباب رقم [213] الحديث الأول، عن محمود بن غيلان عن يحي بن إسحاق به، وقال: غريب، إنما أسنده يحي بن إسحاق عن حماد , وأكثر الناس إنما رووا هذا عن ثابت عن ابن رباح مرسلاً، ومعنى قوله: [به] أي بالإسناد، ومعنى قوله: [عنه] أي بحسب الإسناد الموجود في أعلى الرواية، فإذا قال: عن ثابت البناني عنه به، أي عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة به، أي ببقية الإسناد وباللفظ نفسه، الموجود في أصل التحفة.(231/10)
البحث في أبي داود
إذاً: بين يدينا الآن إحالتان أو ثلاث إحالات، أحالنا المزي أولاً: إلى أبي داود في الصلاة، وبيَّن لنا المحقق أن الحديث موجود في الباب رقم [316] في الحديث رقم [3] نبحث في أبي داود فنجد في المجلد الثاني: كتاب الصلاة، وهو الكتاب الثاني في سنن أبي داود، ونجد الباب رقم [316] نجده في صفحة [84] نبحث عن الحديث الذي بين يدينا فنجد أن المحقق بين أنه يحمل رقم [3] من هذا الباب، تبحث في الباب رقم [316] فتجد الحديث رقم [3] هو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشر ركعة} هكذا، وهذا الحديث -كما هو ظاهر- ليس هو الحديث الذي يعنينا.
إذاً، كيف لنا أن نصل إلى الحديث الذي نريد إذا لم نستطع الوصول إلى الحديث عن طريق رقم الباب، هنا نجد أن من المناسب جداً أن نستفيد من الكشاف، فنرجع ونبحث في كشاف تحفة الأشرافعن اسم الباب، ما دام أن المحقق بين لنا أن الحديث موجود في الباب رقم [316] من كتاب الصلاة من سنن أبي داود.
إذاً: قبل أن نرجع إلى سنن أبي داود فنضيع الوقت، ثم نجد أن الحديث الذي نريد ليس في نفس الموضع، نبحث في كشاف تحفة الأشراف، وفي فهرس أبي داود في كتاب الصلاة، حتى نجد الباب رقم [316] في أبواب قيام الليل، وفي صفحة [192] من كشاف تحفة الأشراف، أبواب قيام الليل، هذه أبواب من وضع المحقق نفسه، العنوان: أبواب: قيام الليل، تبدأ [307] حتى نصل إلى [316] حيث نجد باباً بعنوان: باب: [في رفع الصوت بالقراء في صلاة الليل] وهذا الباب من الواضح جداً أنه هو الباب الذي يوجد فيه الحديث الذي نريد؛ لأن الحديث الذي نريده هو في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل.
إذاً: نأخذ الآن مع رقم الباب: اسم الباب ونكتبه في ورقة الرقم [316] واسم الباب باب: [في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل] , وهنا ينتهي دورالكشاف، ونذهب إلى سنن أبي داود ونطالع الفهرس في آخر السنن، فنجد كتاب الصلاة، تفريع أبواب الصلاة، في الفرع صفحة [843] نمشي مع الفهرس حتى نجد باب [316] فنجد أنه يختلف عن اسم الباب الذي بين أيدينا، حيث أن رقم الباب [316] في الفهرس كما هو في صفحة [844] من سنن أبي داود اسم الباب، باب: [في صلاة الليل] وهذا ليس هو اسم الباب الذي أرشدنا إليه الكشاف.
إذاً: ننتقل قليلاً، نقرأ الأبواب التي بعده، والأبواب التي قبله حتى نحصل على اسم الباب الذي نريد، وهو باب: [رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل] نقرأ عنوان الباب الذي قبله، وهو رقم [315] فنجد باب: [في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل] قطعاً هذا الباب الذي نريد.
إذاً: من خلال هذا المثال اتضح لنا جلياً أهمية الرجوع إلى الكشاف، وكتابة اسم الباب مع الرقم من الكشاف، ونجد هذا الباب يوجد في صفحة [81] من هذا الجزء وهو الجزء الثاني، نفتح صفحة [81] فنجد رقم [314] باب صلاة الليل مثنى مثنى، ثم نجد بعده بحديث واحد: باب برقم [315] باب: [في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل] .
إذاًَ: الآن حصلنا على عنوان الباب الذي نريده في سنن أبي داود، فكيف نحصل على الحديث، داخل الباب؟ نرجع إلى إحالة المحقق، فقد أحالنا إلى الباب رقم [316] ونحن الآن وجدنا أن رقم الباب [315] فالفرق يسير جداً؛ لكن ننظر كم رقم الحديث أيضاً، فنجد أنه أحالنا إلى الحديث رقم [3] في الباب.
إذاً: الحديث الأول في الباب برقم [1327] لا يعنينا، والحديث الثاني برقم [1328] لا يعنينا، والحديث الثالث برقم [1329] حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت البناني عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: [ح] أي حوله، عن هذا الإسناد إلى إسناد آخر، فهذا هو الإسناد الذي أحالنا إليه المحقق، وأحالنا إليه المزي -أيضا-ً، في الموضع الثاني في التحفة، ثم قال: وحدثنا الحسن بن الصباح حدثنا يحي بن إسحاق أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي قتادة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة، فإذا هو بـ أبي بكر رضي الله عنه يصلي يخفض من صوته، قال: ومر بـ عمر بن الخطاب وهو يصلي رافعاً صوته} .
فهذا هو الحديث الذي نريد، وما على الباحث هنا بعد أن ينقل إحالة المزي بكاملها في ورقة، أن ينقل إحالة أبي داود بكاملها وبدقة أيضاً، فيقول وجدته في أبي داود تحقيق عزت عبيد الدعاس، الجزء الثاني، صفحة [80] كتاب الصلاة، باب [315] في (رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل) الحديث الثالث، ثم ينقل الحديث بإسناده ومتنه، فإن كان المتن طويلاً فإنه ينقل طرف المتن الذي يدل على بقيته، ويضع ثلاث نقاط بجوار بعضها تدل على أن هناك شيئاً محذوفاً من الحديث، وهكذا استطعنا أن نصل إلى الحديث في سنن أبي داود بواسطة التحفة وعرفنا - أيضاً- كيف نستفيد من الكشاف بهذه الطريقة.(231/11)
البحث في جامع الترمذي
بقي أن نعرف كيف نحصل على بقية الإحالات التي أحالنا إليها المزي وحدد موضع الإحالة المحقق، نرجع مرة أخرى إلى تحفة الأشراف الجزء التاسع، صفحة [246] فنجد أنهما أحالانا إلى الترمذي -أيضاً- فيه، أي في كتاب الصلاة [213] أي أن الحديث نفسه موجود في الترمذي في كتاب الصلاة في باب رقم [213] ثم بعد الرقم هذا نجد نقطتين ورقم واحد [1:213] أي في الباب رقم [213] وفي الحديث الأول منه، كما تعلمنا من الطريقة أو الإحالة أننا لا نكتفي هنا أن نأخذ رقم الباب وهو [213] بل نكتب الرقم [213] ونرجع إلى كشاف تحفة الأشراف من أجل الحصول على اسم الباب نفسه، الذي يحمل رقم [213] حتى نستطيع الوصول إلى الباب ولو اختلف رقم الباب في الطبعة التي نعمل عليها، فنرجع إلى الكشاف ونرجع إلى فهرس جامع الترمذي، أبواب الصلاة، وهي تأتي بعد أبي داود فنجد الباب رقم [213] في صفحة [240] من الكشاف، نفتح صفحة [240] من الكشاف فنجد في العمود الأيسر: صفحة [213] باب: [ما جاء في قراءة الليل] نكتب اسم الباب هنا مع الرقم، الرقم [213] والاسم [باب ما جاء في قراءة الليل] ونذهب إلى سنن الترمذي المطبوع مع الكتب الستة، والمطبوع أيضاً طبعة مستقلة بتحقيق أحمد شاكر فنبحث عن رقم [213]-أولاً- وأقصد هنا من البحث، حتى أبيّن للباحث والقارئ خطورة الاعتماد على الرقم فقط، وضرورة الرجوع إلى الكشاف وأخذ اسم الباب مع الرقم، فنجده في الجزء الثاني من الترمذي، صفحة [79] من أبواب الصلاة، الرقم [213] يقول: [باب ما جاء كيف النهوض من السجود] وهنا يقطع القارئ والباحث بأن هذا الباب لا يعنينا، لأن الحديث الذي معنا لا علاقة له بكيفية النهوض من السجود، بل هو يتعلق بالقراءة في صلاة الليل، وهل تكون سراً أم جهراً، وهي قصة حصلت للرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر.
إذاً اكتشفنا هنا أن الرقم لا يمكن أن يفيدنا فيسنن الترمذي في هذا الحديث، فنلغي الاعتماد على الرقم في هذه الحالة، ونذهب للبحث عن الحديث بواسطة عنوان الباب الذي كتبناه من كشاف التحفة، وقد اتفقنا أن نكتب هذا العنوان في ورقة: [باب ما جاء في قراءة الليل] فنفتح فهارس الترمذي التي توجد عادة في آخر المجلد، ونستعرض الأبواب بهدوء، فهي مهما طالت لا يمكن أن تأخذ منا إلا عشر دقائق أو قريباً من ذلك أو أقل منه بكثير، نستعرض هذه الأبواب واحداً واحداً حتى نصل إلى الباب الذي كتبنا عنوانه من التحفة، وهو: باب قراءة الليل، فنجده في فهرسسنن الترمذي صفحة [530] ونجد أن رقم الباب [230] بل [330] بل كتب خطأ في الفهرس [230] بدليل أن الذي قبله ثلاثمائة وتسع وعشرين، والذي بعد [331] فهو هنا [330] وأما رقم الصفحة [309] .(231/12)
أسباب اختلاف الترقيم بين المطبوعات
إذاً: فنفتح صفحة [309] من نفس المجلد فنجد [باب ما جاء في قراءة الليل] ونجد الرقم صحيحاً [330] وهنا نقف لنتساءل: ما سر الاختلاف في الرقم؟ صاحب التحفة أحالنا على باب برقم [213] فنجده برقم [330] هذا لا يعنينا الآن لأن هناك فروقاً كثيرة بين المطبوعات، ولكني أشير إلى أنه من الأسباب: سببان رئيسان في هذا الاختلاف -بالذات-: هو أن الذي حقق سنن الترمذي، جعل أبواب الصلاة متسلسلة مع ما قبلها من أبواب الطهارة والوضوء.
فلا بد في أي باب من أبواب كتاب الصلاة في سنن الترمذي المطبوع، أن يوجد فرق بينه وبين نفس الباب في كشاف التحفة، أي في الترقيم، لا بد أن يوجد بين الباب في سنن الترمذي وبين الباب في كشاف التحفة فرق يبلغ على الأقل رقم [113] بمعنى أن الباب الأول من كتاب الصلاة رقمه في كشاف التحفة واحد، أما رقمه في سنن الترمذي المطبوع بتحقيق شاكر؛ فإن رقمه [113] الباب الثاني لا بد أن يأخذ رقم [114] .
وهكذا يستمر هذا الفرق حتى آخر باب من أبواب كتاب الصلاة، وإن كان مضافاً إلى هذا الفرق الثابت وهو [113] فإننا نجد هناك زيادة على هذا الفرق تقدر بخمسة أبواب، بمعنى أننا إذا عرفنا أن الفرق الأول في سنن الترمذي والباب أول في الكشاف هو [113] .
فإننا نجد الفرق بين آخر باب في سنن الترمذي وبين آخر باب في الكشاف أن الفرق يزداد ليصبح [118] فانظر معي الآن إلى آخر الجزء الثاني في سنن الترمذي، صفحة [516] ثم انظر: باب منه، أي من كتاب الصلاة، أو من جنس الباب الذي قبله، تجد هذا الباب رقمه [434] وأرجو أن نكتب هذا الرقم: [434] وهو آخر أبواب الصلاة، ثم انظر إلى نفس الباب فيكشاف التحفة، وهو موجود في الكشاف صفحة [244] من كشاف التحفة، انظر إلى آخر باب من أبواب الصلاة، أيضاً بعنوان: باب منه، تجد الرقم [316] .
إذاً: آخر باب في الكشاف من كتاب الصلاة يحمل رقم [316] ونفس الباب في سنن الترمذي يحمل [434] فالفرق بين هذين الرقمين يبلغ [118] باباً.
فنجد هناك سبباً آخر يسبب زيادة الأبواب، وأحياناً نقصها، ألا وهو وجود أبوابسنن الترمذي المطبوع، لم تثبت في التحفة، ولا يعني هذا أن أحاديثها بالضرورة غير موجودة لكن قد يكون الحديث موجوداً ولم يوضع له باب خاص، فقد توجد أبواب في كشاف التحفة لا توجد في سنن الترمذي المطبوع، والعكس صحيح: قد توجد أبواب في سنن الترمذي المطبوع، ولا توجد في التحفة، وأضرب لذلك مثلاً آخر، يوضح وجود أبواب في التحفة كثيرة ليست موجودة في سنن الترمذي المطبوع.
فعندنا في كتاب المناقب، وهو في الجزء الخامس من سنن الترمذي، لو فتحنا على الجزء الخامس من الترمذي، صفحة [181] في الفهرس، آخر كتاب في سنن الترمذي، كتاب المناقب، لو نظرنا في هذا الكتاب، لوجدنا فهرسه ينتهي برقم الباب [75] [باب في فضل الشام واليمن] وهذا الباب يوجد في صفحة [733] من سنن الترمذي، باب رقمه [75] ونكتب هذا الرقم، ثم ننظر في كتاب المناقب نفسه، في كشاف التحفة، فنجد أن كتاب المناقب في كشاف التحفة، ينتهي بباب في فضل الشام واليمن، ورقم هذا الباب [148] .
إذاً: فعدد أبواب كتاب المناقب في الكشاف [148] باباً، أما عدد هذه الأبواب في الترمذي فهو كما ذكرت [75] باباً، فما السبب في ذلك؟ السبب واضح بإمكان الباحث الكريم، أن يقارن بكل بساطة ليفهم السبب، السبب هو: أن هناك أبواباً كثيرة جداً في الكشاف لم تثبت في الترمذي المطبوع، وقد لاحظت بالمقارنة أن الأحاديث الموجودة في هذه الأبواب، هي موجودة في الترمذي أيضاً، ولكن دون أن يوضع لها عنوان: باب كذا وكذا، عناوين خاصة وقد يكون جامع الترمذي المخطوط الذي اعتمدوا عليه لم يبوبها، وقد يكون هناك سبب آخر لا ندري عنه شيئاً، الذي يعنينا أن هناك عدداً كبيراً جداً من الأبواب موجود في التحفة وليس موجوداً في سنن الترمذي المطبوع، فقد يسبب هذا للباحث نوعاً من الارتباك إذا لم يكن لديه علم مسبق بهذا، لكن إذا كان لديه علم مسبق، فإن من السهولة بمكان أن يتغلب على هذه المشكلة.(231/13)
كيف يتغلب الباحث على الاختلاف الشاسع في التبويب والترقيم
وقد يقول قائل: كيف أتغلب على هذه المشكلة؟ فأقول: الأمر سهل وممكن، فأنت حين يحيلك المزي في التحفة، إلى باب من أبواب كتاب المناقب، ثم يعطيك المحقق رقم هذا الباب، وقد يعطيك رقم الحديث داخل الباب، اكتب رقم الباب من كتاب المناقب في ورقة، واكتب رقم الحديث بعده، ثم انتقل إلى كتاب الكشاف وانظر كتاب المناقب، من فهرس سنن الترمذي في الكشاف ما هو اسم الباب الذي أعطاك رقمه؟ ولنفترض أن المحقق عبد الصمد شرف الدين أعطاك رقم [33]-مثلاً- ارجع إلى الكشاف صفحة [299] سوف تجد أن رقم [33] [باب لو كنت متخذاً خليلاً؛ لاتخذت أبا بكر خليلاً] هذا الباب، لو رجعت إلى سنن الترمذي لما وجدته فيه مبوباً، بل لو اعتمدت على الرقم فقط، دون أن تنقل اسم الباب، ثم ذهبت إلى سنن الترمذي كتاب المناقب، وفتحت الباب رقم [33] وهو في الجزء الخامس صفحة [664] الجزء الخامس صفحة [664] لوجدت الباب رقم [33] باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت، وأُبيّ وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، في حين أن الحديث الذي تطلبه أنت، هو في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فهنا نكتشف مرة أخرى ضرورة الاعتماد على اسم الباب مع رقمه، فخذ اسم الباب من الكشاف مع رقمه، فإذا أحالك على الباب رقم [33] ذهبت إلى الكشاف، فوجدت أن الباب رقم [33] [باب لو كنت متخذ خليلاً] .
إذاً هو في باب في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبإمكانك أن تعرف من الأبواب التي قبله، ومن الأبواب التي بعده في الكشاف، بإمكانك أن تعرف مظنة وجود الحديث في سنن الترمذي، فتذهب إلى مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، في سنن الترمذي، فتجد بعدما تجد في الفهرس مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفتح على صفحة [606] من كتاب المناقب وهو في الجزء الخامس والأخير من سنن الترمذي، في صفحة [606] تجد باب مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكم يا ترى رقم هذا الباب؟ ستجده أيضاً أمامك باب رقم [14] .
إذاً: الباب لا يحمل رقم [33] كما هو في كشاف التحفة، بل يحمل رقم [14] وتجد داخله أحاديث منها الحديث الذي تريد والذي بوب عليه في كشاف التحفةبعنوان: [باب لو كنت متخذ خليلاً] في حين أن الباب الذي يحمل رقم [33] في سنن الترمذي، وافتح عليه صفحة [664] في نفس المجلد وهو مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت إلى آخره، هذا الباب مع أن رقمه في سنن الترمذي، [33] تجد رقمه في التحفة بالمقارنة [606] .
وهذا يؤكد لنا أن هناك فرقاً واضحاً بين الكتب الأصلية، وهذا الفرق ليس مطرداً بالضرورة، فقد لا يوجد فرق، ولكن قد يوجد الفرق بين الأبواب في فهارس الكتب الأصلية، وبين الأبواب التي أعطاك رقمها محقق التحفة، وهذا الفرق يرجع كما ذكرنا إلى أحد أمرين:- الأمر الأول: أن يختلف ترقيم المحقق، كما ذكرنا ذلك في سنن الترمذي، كتاب الصلاة.
الأمر الثاني: أن توجد أبواب في كشاف التحفة ليست موجودة في الكتاب الأصلي المطبوع، أو العكس توجد أبواب في الكتاب الأصلي المطبوع سنن الترمذيأو غيره ليست موجودة في التحفة، وأنا مثلت بأمثلة كلها من سنن الترمذي المطبوع، وإنما قصدت بهذه الأمثلة أن أوضح الفرق جلياً، وإلا فهذه الأمثلة التي مثلت لها قد لا توجد بنفس الحجم وبنفس الصورة في بقية الكتب الأخرى، بل قد يوجد في كثير من الأحيان تقارب شديد، أو حتى قد يوجد تطابق بينما في التحفة وبين الكتاب الأصلي، ولكن عملية أخذ اسم الباب من الكشاف لا تكلفك هنا شيئاً كثيراً، ولذلك ينصح بعد أخذ رقم الباب بأخذ اسمه من كشاف التحفة، وأن يدرك الباحث موضوع الحديث، بحيث يستطيع من خلال ذلك كله، أن يعثر على الباب بكل سهولة ويسر -إن شاء الله تعالى- وهناك أيضاً تفاوت وتقديم وتأخير -أحياناً- في الأبواب، لكنه ليس بنفس الحجم الموجود فيما ذكرنا من تفاوت الأبواب وزيادتها ونقصانها.(231/14)
عودة إلى التخريج من الترمذي
نعود بعد هذا الاستطراد إلى الحديث الأصلي الذي كنا بصدد تخريجه من مصادره الأصلية، طبعاً وصلنا في سنن الترمذي إلى الباب الذي نريد، وهو في الجزء الثاني صفحة [309] فنفتح الجزء الثاني، صفحة [309] نجد اسم الباب الذي نريد -أيضاً- وهو [باب ما جاء في قراءة الليل] وهذا الباب بهذا العنوان هو نفس العنوان الموجود في كشاف التحفة، أي اختلف الرقم، لكن عنوان الباب لم يختلف، ثم نرجع إلى رقم الحديث الذي أحالنا إليه محقق التحفة، فنجده الحديث الأول، ورقم هذا الحديث في سنن الترمذي [447] .
يقول الإمام الترمذي: {حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا يحي بن إسحاق، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي قتادة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: مررت بك وأنت تقرأ، وأنت تخفض من صوتك، فقال: إني أسمعت من ناجيت، قال: أرفع قليلاً، وقال لـ عمر: مررت بك وأنت تقرأ، وأنت ترفع صوتك، قال: إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، قال: اخفض قليلاً} .
قال: وفي الباب عن عائشة وأم هانئ وأنس وأم سلمة وابن عباس، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب ,وإنما أسنده يحي بن إسحاق عن حماد بن سلمة وأكثر الناس إنما رووا هذا الحديث عن ثابت عن عبد الله بن رباح مرسلاً، انتهي كلام الترمذي، وهو ما نجد أن الحافظ المزي رحمه الله قد نقله بنصه في كتاب التحفة، هذا هو الحديث الذي نريد وبذلك نكون خرجنا هذا الحديث من المصدرين الذين أحالنا إليهما المزي، وحدد الإحالة محقق التحفة، عبد الصمد شرف الدين، حيث وجدناه أولاً: في سنن أبي داود، ثم وجدناه ثانياً في سنن الترمذي.
ولو فرض أن الحديث نسب -مثلاً- إلى سنن النسائي، أو ابن ماجة، أو غيرهما، لاستطعنا الوصول إلى موضعه في هذه الكتب، بنفس الطريقة التي استطعنا الوصول بها إلى الحديث في سنن أبي داود، ثم في سنن الترمذي هذه هي الطريقة التي يمكن أن يسلكها الباحث.(231/15)
تلخيص طريقة التخريج
ويمكن في نهاية تخريج هذا الحديث [الأنموذج] أن ألخص الطريقة في كلمات يسيرة: فعندما يطلب منك تخريج حديث بواسطة التحفة، لا بد أن تكون عالماً باسم صحابي الحديث، وإن علمت باسم راوي الحديث عن هذا الصحابي، فهذا أيسر لمهمتك، فإذا عرفت اسم الصحابي الذي روى هذا الحديث، فابحث عن اسمه في التحفة، وأسماء الصحابة موجودة على ظهر كل مجلد، يوجد -مثلاً- في المجلد التاسع، في ظهر المجلد التاسع اسم [ناجية] أبو هريرة، في كعب المجلد، ومعنى هذا أن المجلد التاسع يبدأ -وأرجو أن ننتبه لهذه النقطة المهمة- باسم [ناجية] وينتهي بـ أبي هريرة، لكن هل معنى ذلك أن المجلد لا يوجد فيه إلا اسم [ناجية] واسم أبي هريرة فقط؟
الجواب
لا.
بل يوجد فيه جميع الأسماء التي بعد [ناجية] والأسماء التي قبل أبي هريرة -يعني من الكنى-.
فمثلاً: نجد فيه وائل بن حجر لأن وائل بعد [ناجية] ويوجد فيه وهب بن عبد الله، لأن وهب بعد [ناجية] ويوجد فيه يعلى بن أمية وأبو أمامة الأنصاري، لأن أبا أمامة في الكنى قبل أبي هريرة لأن الهمزة قبل الهاء، وهكذا فالأسماء التي توجد في كعب المجلد ليس معناها أنه لا يوجد في المجلد غيرها، بل معناه أنه يضع لك في ظهر المجلد، أول اسم وآخر اسم، وأنت بإمكانك بسهولة من خلال حفظك لحروف الهجاء وترتيبها وتسلسلها، أن تعرف الاسم الذي معك، هل هو في هذا المجلد أم لا.
فمثلاً: إذا كان [ناجية] فهو في المجلد التاسع، وإذا كان أبو هريرة قد يكون في المجلد التاسع وقد يكون فيما بعده لأن أبا هريرة يستغرق المجلد التاسع وما بعده، ولا يقتصر على المجلد التاسع، لو فرض أنه وائل بن حجر -مثلاً- بحثت في جميع المجلدات لا تجد في الكعب اسم وائل بن حجر، لكن انظر حرف الواو، الذي يبدأ فيه اسم الصحابي وائل بن حجر، فهذا الحرف يأتي بعد النون.
ومادام أن [ناجية] في المجلد التاسع وبعده في نفس المجلد تنتهي الحروف وتبدأ الكنى؛ لا بد أن يكون وائل بن حجر في المجلد التاسع وأيضاً أبو موسى مثلاً، في الكنى لا بد أن يكون قبل أبي هريرة لأن الميم قبل الهاء، إذاً أبو موسى تجده -أيضاً- في المجلد التاسع قبل أبي هريرة، وقد لا يعطيك مسند أبي موسى بكامله في المجلد التاسع، لكنك سوف تجد إما المسند نفسه أو ما يدلك عليه، فـ أبو موسى الأشعري ارجع -مثلاً- إليه في المجلد التاسع، وابحث عن حرف الميم مع كلمة أبو: أبو سلامة -مثلاً- أبو شريح، أبو قتادة، لا زلنا لم نصل حرف الميم، أبو لبابة، أيضاً لم نصل حرف الميم، أبو المعلى نجد صفحة [290] وأرجو أن نفتح هذه الصفحة، في المجلد التاسع من التحفة، صفحة [290] نجد: ومن مسند أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس، ورقم هذا المسند رقم [315] يقول لك تقدم في حرف العين لأن اسمه عبد الله بن قيس، إذاً تجد اسمه في حرف العين، في مسند عبد الله بن قيس، ثم ذكر لك: موضع الإحالة، قال: تقدم في حرف العين [ح] أي: حديث [8978] إلى [9153] وبإمكانك بسهولة أن تحصل على رقم هذا الحديث: [8978] من خلال التسلسل؛ لأننا عرفنا أن أرقام الأحاديث في التحفة، كلها مسلسلة.
فعندما يكون معك اسم الصحابي راوي الحديث، تبحث بهذه الطريقة حتى تصل إلى الموضع الذي يوجد فيه مسند هذا الصحابي، فإن لم يكن معك إلا اسم الصحابي فقط، فمعنى ذلك أنك مضطر إلى أن تراجع جميع الأحاديث الموجودة في هذا المسند حديثاً حديثاً، حتى تصل إلى الحديث الذي تريد، وإن كان معك اسم الراوي عن الصحابي، فإن دائرة البحث تكون أضيق، فإن كان اسم الراوي عن الراوي عن الصحابي موجود أيضاً، فإن الدائرة تضيق، وهكذا، وكل هذا مرتب على حسب حروف الهجاء، أ، ب، ت، ث فإذا بحثت بهذه الطريقة، وجدت الموضع الذي ذكره فيه المزي، وذكر لك طرف الحديث، وقد يختلف الطرف الموجود -أحياناً- عن الطرف الذي معك فأنت بمعلوماتك عن هذا الحديث قد تجد من الميسور أن تعرف أن هذا هو الحديث الذي تريد وإن كان ذكر طرفاً ليس معك -أحياناً-.
وفي الغالب أنك تجد نفس الطرف المطلوب منك تخريجه بنفسه موجوداً في التحفة، فانقل الإحالة هاهنا إذا كانت قصيرة أو متوسطة، فإذا كانت الإحالة طويلة فانقل ما يهمك منها، وبإمكانك أن تحتفظ بموضعها لحين الحاجة إليه، ثم بعدما تنقل الإحالات الموجودة في التحفة، مع الأرقام التي أعطاكها محقق التحفة، تبدأ بعد ذلك بالتخريج التفصيلي، بمعنى تطبيق هذه الإحالات على مواضعها من الكتب الأصول، فهو أحالك -مثلاً- إلى البخاري أو مسلم، كتاب كذا اسم الباب كذا، باب كذا رقم الحديث -أحياناً- كذا، فتبدأ هنا بالبحث في الكتب الأصلية (الكتب الستة) للحصول على موضع الحديث في الكتب الأصول، وكلما بحثت بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً وطبقناها على حديث واحد وصلت إلى موضع الحديث في البخاري، تذكر هذه الإحالة بمنتهى الدقة، فتشير إلى اسم الكتاب، ورقم المجلد، ورقم الجزء ورقم الصفحة، ورقم الكتاب، ورقم الحديث، وتشير إلى طرف متن الحديث.
وقد يقول قائل: ما دام أننا قلنا وقررنا أن أرقام الكتب وأرقام الأبواب، تختلف من طبعة إلى أخرى، فما هي الفائدة من الإحالة؟ فأقول: يجب -مع هذه الإحالات كلها- أن تشير إلى الطبعة التي اعتمدت عليها، والسر في ذلك من أجل أن يسهل على من أراد أن يتتبع عملك ويعرف مدى دقتك في هذا العمل، أن يسهل عليه متابعتك ومعرفة مدى الدقة، أو عدم الدقة في هذا العمل، هكذا تحصل على التخريج الكامل لهذه الأحاديث، والحقيقة أنه مهما قلنا، فإنه لا بد من المراس العملي، الذي يعطي الطالب فوائد عملية لا يمكن أن تعطى له من خلال الكلام النظري، فمن واجب الباحث والطالب الذي يريد أن يتخرج -فعلاً- في فن التخريج، من الواجب عليه، أن يقوم بتخريج عدد من الأحاديث، وإذا واجه مشكلات يحاول أن يحلها، وإذا فشل اعتمد على غيره، وسأل من هو أدرى منه في هذا الفن، حتى يكشف له عن موضعها، ويبين له سبب عجزه عن التخريج، وهكذا حتى يكتسب الطالب مراساً وخبرةً في هذا الفن، وقدرة على الاستفادة من كتاب تحفة الأشراف، هذا هو أكثر ما يمكن أن أقوله فيما يتعلق بطريقة تخريج الحديث بواسطة: تحفة الأشراف، وعن طريق معرفة صحابي الحديث، ثم من روى عن هذا الصحابي.
وهناك بطبيعة الحال طرق أخرى، ذكرت في مقدمة هذا الشريط، أنني سوف أتعرض لطريقة واحدة منها فقط، وهي طريقة التخريج بواسطة المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ونظراً لضيق هذا الشريط فإنني سوف أسجل ما يتعلق بالتخريج عن طريق المعجم المفهرس في شريط آخر -إن شاء الله-.(231/16)
أحاديث يطلب من الباحث تخريجها مع فوائد نفيسة
ونستغل ما بقي من هذا الشريط في إشارات سريعة لبعض الأحاديث التي ينبغي للطالب تخريجها، وبعض الإرشادات المتعلقة بها، كطريقة عملية للاستفادة من تحفة الأشراف.
بين يدينا -الآن- عدد من الأحاديث، نفترض أن الطالب أو الباحث يريد أن يخرج بعضاً منها أو كلها فكيف له أن يخرج هذه الأحاديث؟ أعرض هذه الأحاديث، ثم أبين طريقة تخريج كل حديث منها باختصار، مع أننا ذكرنا ما يتعلق بالطريقة من حيث الإجمال إنما سوف أذكر بعض المشكلات التي تتعلق بالحصول على الحديث في موضعه من التحفة، فعندنا -مثلاً- عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، ثم ذكر الحديث إلى قوله: {الإيمان بضع وسبعون، أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق} رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث الآن في مسند أبي هريرة، وأرجو أن نكتب هذا الحديث مرة أخرى عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {الإيمان بضع وسبعون، أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق} والحديث كما هو واضح هو في مسند أبي هريرة، ولكننا نجد أن مسند أبي هريرة هو في الكنى في المجلد التاسع، ويأخذ المجلد العاشر بكامله، وجزءاً من المجلد الحادي عشر، فإن لي أن أبحث عن هذا الحديث في حوالي مجلدين هنا نجد أن الإشكال حل عن طريق، وجود التابعي الراوي عن أبي هريرة، وهو أبو صالح السمان، فابحث في مسند أبي هريرة، في مرويات أبي صالح السمان، تقول: وكيف أبحث عن مسند أبي صالح؟ فأقول: انظر في أول المجلد، وليكن المجلد التاسع الذي فيه أبو هريرة رضي الله عنه، تجد أن المحقق جزاه الله خيراً من ضمن الأعمال الجليلة التي قام بها أنه وضع مسرداً لأسماء التابعين الرواة عن أبي هريرة، مرتبة أسماؤهم على حروف المعجم.
فتجد في أول كل مجلد: اسم الصحابي الذي يوجد مسنده في هذا المجلد، ثم أسماء الرواة من التابعين عنه، مرتبة على حروف المعجم، وميز اسم التابعي بأن وضع قبالته: نجمة واحدة صغيرة، فإن وجد تابعي التابعين، رووا عن التابعين، وضع أسماءهم -أيضاً- في مواضعها مميزة بنجمتين صغيرتين، ثم أتبعهم بثلاث نجمات صغيرة، وهكذا فانظر في من بين يديك، الراوي عن أبي هريرة بطبيعة الحال لا بد أن يكون إما صحابي أو تابعي، هنا لا يعنيه إن كان صحابياً أو تابعياً، فهو يضع قبالته نجمة واحدة صغيرة، يعني أنه روى عن أبي هريرة مباشرة، فانظر فيمن قبالتهم نجمة صغيرة، حتى تصل إلى اسم أبي صالح، وابحث في مسنده حتى تصل إلى هذا الحديث، ثم انظر إلى الإحالات التي أحالك إليها، وخرج هذا الحديث.
انتقل بعد ذلك إلى حديث آخر: عندنا حديث عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً، فإن كان كافراً؛ وإلا كان هو الكافر} هذا الحديث في مسند ابن عمر، ومسند ابن عمر تجده في المجلد الخامس أو السادس، فإذا نظرت إلى الراوي عن ابن عمر وجدته نافعاً، فالغالب أن يكون في المجلد السادس؛ لأن حرف النون من آخر الحروف، وعليك الانشغال بباقي تخريج هذا الحديث.
وكذلك عندنا حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخر طواف الزيارة إلى الليل} عن عائشة رضي الله عنها وهنا نشير إلى أن مسانيد النساء موجودة في آخر مجلدات التحفة، مرتبة أيضاً على حروف المعجم.
وعندنا -أيضاً- حديث عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} فهذا الحديث نجده في مسند عمران بن حصين في المجلد الثامن من التحفة، ولتسهيل البحث عن هذا الحديث في مسند عمران، مع أن مسند عمران بن حصين ليس بالطويل جداً.
أقول: لتسهيل الحديث أذكر أن الراوي عن عمران بن حصين هو زرارة بن أوفى.
وعندنا -أيضاً- حديث عن رجل من بني سليم، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال -فذكر حديثاً طويلاً إلى قوله-: {والصوم نصف الصبر} فهنا نجد مشكلة ما، وأظن أن هذه المشكلة واضحة من خلال الحديث، وهي أن الصحابي الذي روى هذا الحديث لم يسم، لم يقال: عن فلان عن أبي هريرة -مثلاً- أو عن أبي سعيد، أو عمر بن الخطاب وإنما قيل: عن رجل من بني سليم، فإين نجد هذا الرجل من بني سليم؟ هاهنا سؤال، وهو إشكال -فعلاً- لمن لم يجرب التخريج في التحفة، فأقول: الجواب على ذلك: أن الحفاظ المزي رحمه الله -بعدما أنهى مسانيد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم- بما فيها الكنى، وقبل أن يدخل في مسانيد الصحابيات؛ وضع باباً للمبهمات، فما هو المقصود بالمبهمات؟ المقصود بالمبهمات، هي: الأحاديث التي لم يذكر اسم صحابيها، ولا نعرف على وجه التحديد اسمه، مثل: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن رجل من بني فلان، عن جدة فلان، عن عمة فلان، وهكذا.
وهذا الفصل في التحفة يبدأ في المجلد الحادي عشر -وهنا أرجو المتابعة معي- صفحة [123] قال: فصل ومن مسند جماعة من الصحابة، روي عنهم فلم يسموا رتبنا أحاديثهم على ترتيب أسماء الرواة عنهم.
فلو طلب منا تخريج حديث عن رجل من بني سليم لم نستطع أن نستفيد من التحفة، إلا أن يعطى لنا اسم الراوي عن هذا الرجل من بني سليم، فأقول: إن الراوي عن هذا الرجل من بني سليم، هو: جريّ بن كليب النهدي، كما نجد هذه الرواية، في سنن الترمذي، في المجلد الخامس، صفحة [536] باب: في كتاب الدعوات باب رقم [87] قال في الحديث رقم [3519] : حدثنا هناد، حدثنا أبي الأحوص، عن أبي إسحاق قال في المطبوعة، عن جرير النهدي عن رجل من بني سليم، ولا شك أن هذا تحريف فاسمه جريّ النهدي كما نجد ذلك صحيحاً في تحفة الأشراف المجلد الحادي عشر، جريّ بن كليب النهدي رقم المسند [685] صفحة [132] قال: جري بن كليب النهدي عن رجل من بني سليم، ثم ذكر له حديثين: الحديث الأول في [132] رقم [15539] والحديث الآخر في صفحة [133] رقم [15541] وفيه، قال طرف الحديث: {عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي أو في يده التسبيح نصف الميزان} ثم وضع ثلاث نقط، علامة وجود بقية المتن المحذوف، ثم قال: الحديث، أي: إلى آخر الحديث، ثم قال: [ت، في الدعوات] أي: رواه الترمذي في الدعوات [92: 1] يعني: في الباب رقم [92] الحديث الأول، ويظهر من هنا وجود فارق بين رقم الباب الذي في التحفة، وبين رقم الباب الحقيقي في سنن الترمذي، حيث يكون الرقم [87] الفرق سبعة أبواب، وهو فرق يسير يمكن تلافيه، ثم قال: عن هناد أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن جريّ النهدي به، وقال: حسن، إلى آخر ما قال، وهنا يتضح -أيضاً- من خلال هذا الأنموذج ما سبق أن أشرت إليه إشارة عابرة من أنه قد يوجد -أحياناً- نوع اختلاف بين الطرف الذي تبحث عنه وبين الطرف الموجود، فالطرف المعطى لك في الأصل هو: {الصوم نصف الصبر} والطرف الذي تجده في التحفة {عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في يدي أو في يده، التسبيح نصف الميزان} ثم وضع نقط للمحذوف ومن المحذوف قولنا- نقلنا في الحديث-: {الصوم نصف الصبر} لكن من خلال الثروة الحديثية أو -أحياناً- يكون من خلال الحدس يكتشف الإنسان علاقة الطرف الذي بين يديه بهذا الطرف الموجود، خاصة أنه ليس هناك في مسند جري بن كليب النهدي إلا هذا الحديث، أو حديث آخر ليس له علاقة بهذا الطرف الذي هو بين أيدينا.
عندنا من الأحاديث التطبيقية -أيضاً- حديثان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأبو سعيد هنا لا بد من البحث عنه في قسم الكنى، لكن سنجد أن الحافظ المزي في الكنى أحالنا إلى موضع مسند أبي سعيد في الأسماء، حيث أن اسم أبي سعيد هو سعد بن مالك بن سنان الخدري.
فإذاً هو في المجلد الثالث.
عندنا عن أبي سعيد حديثان: الحديث الأول عن أبي صالح، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسبوا أصحابي} الحديث، فهذا الطرف عندنا، أو هذا الحديث رواه عن أبي سعيد أبو صالح، إذاً دائرة البحث لا بد أن تحصر في مسند أبي صالح عن أبي سعيد.
وعندنا حديث آخر عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين} فلو نظرنا في مسند أبي صالح، وفي مسند أبي نضرة كليهما عن أبي سعيد؛ لوجدنا أبا صالح يجب أن يأتي- أولاً- قبل أبي نضرة لأن حرف الصاد قبل حرف النون، وهذا يسهل الحصول على هذه الأحاديث في موضعها من التحفة.
وأخيراً عندنا حديثان: الحديث الأول: عن يحي بن يعمر قال: {أول من تكلم في القدر في البصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن، فوُفِق(231/17)
الإسلام والغرب
يتعرض المسلمون في البوسنة عام (1413هـ) لمأساة مهولة، حين اجتاح بلادهم الصرب المتوحشون، وقاموا بارتكاب فظائع رهيبة وجرائم حرب عرفها العالم كله، وقد كانت تلك المذابح التي قام بها الصرب تحت سكوت وتواطؤ دولي من الأمم المتحدة، وبمباركة سرية من دول الصليب كأمريكا وبريطانيا وفرنسا، وما ذلك إلا بسبب بغضهم للإسلام وتخوفهم منه، وقد أصبح للحرب أبعاد أخرى في الأقليات المسلمة المجاورة للبوسنة، وكان موقف العالم الإسلامي مختلفاً ومتبايناً بين الموقف الرسمي السلبي للغاية، والشعبي الإيجابي نوعاً ما.(232/1)
أخبار مأساة المسلمين في البوسنة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وحياكم الله مع هذا الدرس الخامس والسبعين من سلسلة الدروس العلمية العامة في هذه الليلة المباركة -إن شاء الله- ليلة الإثنين الأول من شهر جمادى الأولى لسنة 1413 هـ.
كنت قد وعدتكم في المجلس السابق أن أتحدث إليكم اليوم عن موضوع (الإسلام والغرب) والواقع أن هذا الموضوع طويل، وأن الحديث فيه يتطلب مجالس متواصلة فسيكون حديثي إليكم في هذه الليلة ربما أولى حلقات الحديث عن هذا الموضوع، إن شاء الله، وهو في الوقت ذاته وفاء بوعد سابق كنت قطعته لكم أن أتحدث تخصيصاً عن مأساة المسلمين في يوغسلافيا في البوسنة والهرسك فسيكون حديثي إليكم اليوم إذاً في القضية البوسنوية.
أيها الإخوة: لقد كنا نسمع في الأخبار منذ زمن المعركة الدائرة بين الكروات والصرب فيما كان يسمى بـ يوغسلافيا، وكان الطرفان من النصارى على رغم الخلاف المذهبي بينهما، وكانت ثمة معارك ضارية أتت على الأخضر واليابس، وتناقلتها وكالات الأنباء، وتحدث عنها العالم شهوراً طويلة، ثم سكت الأمر، وتدخلت ما يسمى بالأمم المتحدة بقواتها وفصلت بين الطرفين المتحاربين.
وكان المسلمون يقفون في تلك المعركة إلى جانب الكروات، وقد صرح شهود محايدون كثيرون بأن دور المسلمين في الدفاع عن كرواتيا ومقاومة الصرب دور كبير مشهود وأنهم كانوا من أهم الأسباب في امتناعها عن الصرب.
أرسلت الأمم المتحدة ما يزيد على أربعة عشر ألف جندي للفصل بين الطرفين المتحاربين بين الصرب والكروات، بين النصارى والنصارى، فماذا يعني هذا بالنسبة للأمم المتحدة؟ يعني أنها أولاً: تدخلت لمنع إراقة الدم النصراني بالسلاح النصراني، فحالت بين النصارى أن يقتلوا إخوانهم في العقيدة والدين، وبينت حقيقة ميلها وتحالفها وانحيازها إلى النصارى في كل مكان، وهذا أمر لا نستغربه ولا نستكثره.
أولاً: لأننا نعلمه من كتاب الله عز وجل، فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فإذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فما بالك بالنصارى مع النصارى؟ لاشك أنهم أكثر ولاءً وإخاء ومحبة بعضهم لبعض، ولهذا تدخل النصارى القائمون على الأمم المتحدة بعشرات الآلاف من الجنود للحيلولة دون إراقة الدم النصراني هذا أولاً ثانياً: كانت هذه القوات التي بعثوا بها للفصل بين الكروات والصرب فرصة نفيسة وذهبية، ليسحب الصرب قواتهم التي كانت تقاتل الكروات، ويذهبوا بها في اتجاه البوسنة، يذهبوا بها إلى الجبهة الإسلامية، وقد صرحت بهذا حتى الصحف الغربية نفسها، وعلى سبيل المثال فقط: هناك صحيفة ألمانية اسمها صحيفة فرانكفورتر صرحت في تاريخ (29/8) بالتقويم الميلادي: أن ذلك كان من أهداف التدخل بين الكروات والصرب، وأن الصرب استغلوا الفرصة ونقلوا قواتهم من مواجهة إخوانهم الكروات النصارى إلى مواجهة المسلمين.
وهكذا انتقلت المعركة إلى معركة بين الصرب المتوحشين النصارى وبين المسلمين العزل الذين لا يملكون أي سلاح يدافعون به عن أنفسهم، وانتقلت المعركة إلى داخل البوسنة بل إلى العاصمة ذاتها سراييفو، وذلك كله وسط تشكيك عالمي بخطورة قيام حكومة إسلامية أو دولة أصولية في منطقة البوسنة والهرسك، وهذا ما صرح به الرئيس الفرنسي نفسه للرئيس البوسنوي علي عزت، حيث قال له (إننا نحذركم من إقامة حكومة أصولية في هذه المنطقة أو قيام مجتمع أصولي) وأمام هذه الحرب الضروس، التي يتصدر لها الصرب، ويؤيدهم العالم كله، أصبحنا نرى جوانب كثيرة من المأساة يواجهها المسلمون، نلخصها في بعض النقاط التالية وهي بعنوان (جوانب من المأساة) .(232/2)
جوانب من المأساة
إن مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك مأساة لا يستطيع أن يتصورها إلا من شاهد ولو بعض فصولها؛ وليس من رأى كمن سمع، ولا الذي يسمع بحرِّ النار كالذي يطأ بقدميه على الجمر، وإن مجرد النظر إلى صورة امرأة مسنة وإلى وجهها الذي بانت عليه تجاعيد السنين، وإلى عيونها الدامعة، وإلى صرخاتها التي تنطلق في الهواء، تبكي نفسها، تبكي غربتها، تبكي أولادها، تبكي زوجها، تبكي بيتها المهدم، تبكي طريقها الذي مشت فيه، وهي لا تدري إلى أين تصير ولا إلى أين تسير! أو تتجسد هذه المأساة على وجه طفل بريء يصرخ، والرضاعة في فمه، وهو محمول بالحافلة أو بالطائرة وسط مجموعات كبيرة من الأطفال الصغار، الذين لا يدرون إلى أين هم ذاهبون، ولا يعرفون لآبائهم ولا لأمهاتهم مكاناً، ولا يعرفون ماذا جرى في هذه البلاد! والطفل في المهد لم يعلم بما انقلبت حياته بعد بشرٍ شر منقلب فهي مأساة كبيرة، مأساة شعب قوامه ستة ملايين، مأساة بلاد واسعة عريضة، ومأساة المزارع الخضراء، ومأساة الدين الذي هُجِّر أهله وشردوا وقتلوا وحشدوا وحشروا في معسكرات الاعتقال.
وإنك تسمع أحيانا عن مأساة شخصية يفلح صاحبها في تصويرها، فلا تملك عينك من البكاء والدموع، ولا تملك الألم أن يعتصر قلبك، فكيف ترى يكون الحال وأنت أمام مأساة شعب بأكمله؟! تلفتوا هاهمُ في الأرض إخوتنا شعبٌ برمته في العري يحتضرُ كانوا بأوطانهم كالناس وانتبهوا فما همُ من وجود الناس إن ذكروا مشردون بلا تيه فلو طلبوا تجددَ التيه في الآفاق ما قدروا يلقى الشريد فجاج الأرض واسعة لكنهم في مدى أنفاسهم حشروا في خيمة من نسيج الوهم لفقها ضمير باغٍ على الإسلام يأتمر أوهى وأوهن خيطاً من سياسته لو مَسَّها الضوءُ لا نقَدَّتْ بها السُتُرُ! تعدو الرياحُ بها نَشْوى مُقَهقِهةً كأنها بشقوق الرمل تنحدرُ(232/3)
الأسر
إنها مأساة كبيرة، أولها وأول صورها: الأسر: فهناك في معسكرات الاعتقال في صربيا ما يزيد على مائة وخمسين ألف مسلم معتقل، يعيشون في ظروف صعبة وغير إنسانية، وبعض شهود العيان من الغرب الكفار أيضا يقولون: رأيناهم أجساداً وجلوداً على العظام ليس فيهم إلا هذه الأنفاس التي تتردد، وكثيرون تنطق وجوههم بهول المأساة، ينتظرون الموت الذي يصبحهم أو يمسيهم، ومن بين هذا العدد الكبير (مائة وخمسون ألفاً) من بينهم ما يزيد على خمس وثلاثين ألف امرأة ما بين سن السابعة إلى سن الخمسين فضلا عن الأطفال والشيوخ.
وإن وزارة الخارجية الأمريكية تَعِد منذ أيام بإبراز حقائق جديدة وخطيرة حول مأساة هؤلاء، والإعلام العربي كله يغطي جوانب المأساة، ويتحدث عنها ولكن لا يحرك ساكناً! وكنموذج للتغطية الإعلامية الغربية لهذه المأساة أنقل لك تقريراً نشرته صحيفة هيرالد تربيون (في 7/10) بالتقويم الميلادي أيضاً عن هذه المآسي في معسكرات الاعتقال، أولاً: تكلمت الصحف عن تركيز الصرب في حملات الإبادة والاعتقال على الأطباء والمحامين والمهندسين وغيرهم، ثم تكلمت عن تقارير في جرائم الصرب في معسكرات الاعتقال تقول: (يقول السجين السابق: واسمه مسلم، وهو نحيل الجسم بعينيه الداكنتين المحتقنتين والذي لم يشأ أن يذكر اسمه كاملاً، ولكن وجهه بدا متأثراً، ويتحدث عن خمسة وسبعين يوماً قضاها في أحد المعسكرات، يقول: أجبرنا الحراس على الذهاب إلى خلف مظلة صغيرة حيث توجد شاحنات ودركترات، وقد رأينا الجثث وبعدها فهمنا كل شيء، كانت هناك ست وعشرون جثةً بعضها يفتقد الرأس، وبعضها يفتقد بعض الرأس، وبعضها بلا عيون، طلبوا منا وضع الجثث فوق البلدوزرات، ولكن كان صعباً علينا أن نمشي، فقد كنا نخطو فوق جماجم بشرية، وبعدها أخذونا إلى الساحة وأمرونا برفع جثتين أخريين، وعندما أصابنا الإرهاق قام الحارس بوضع بندقيته على وضع الاستعداد لإطلاق النار، ثم قال لنا: هل تريدون أن تكونوا أنتم التالين؟ لم نقل شيئاً فلم يكن هناك فائدة، نظر إلينا وكأنه كان يرحمنا وقال: حسناً اذهبوا واغتسلوا كانت ملابسنا متسخة بالدم ولم نتمكن من تنظيفها!!) .
وسرد الرجل قصته في الثكنات البديلة حيث يحتجز في أحدها أكثر من ألف وخمسمائة بسنوي في المعسكرات الصربية التي يديرها الرفاق من الصرب تحت رعاية الأمم المتحدة، لحين إيجاد ما يسمى بحق اللجوء السياسي لهم، وقضى غالبيتهم زمناً في معسكرات الاعتقال الكبيرة قبل أن تطلق سراحهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ونُقلوا في قافلة مكونة من واحد وثلاثين حافلة، حيث كانوا أول مجموعة كبيرة من السجناء الذين أُطلق سراحهم بموجب شروط اتفاق بين المجموعات اليوغسلافية البوسنوية المتحاربة، وهم أول من استطاعوا أن يتحدثوا بحرية عن التجربة المرة التي شاهدوها في معسكرات الاعتقال.
إنهم يصفون جحيم المعسكر في منطقة الأرخبيل البسنوية التي يسيطر عليها الصرب، والتي كان يتم فيها التعذيب والإعدام حتى أصبحت من المظاهر اليومية، وبالرغم من صعوبة أخذ روايات مستقلة إلا أنها أعطت أغلب التفاصيل للدليل الذي يؤيد الاتهامات المنتشرة عن أن القوات الصربية متورطة في أعمال وحشية ضد المعتقلين في المعسكرات، وغالبهم من الرجال الذين تسمح أعمارهم لهم بالانضمام إلى الجيش البسنوي.
بمعنى أنهم يتمكنون من القتال، وقد اعتقلوا لمنعهم من المقاومة ضد الميلشيا الصربية.
يقول أحد المسجونين: (إن المعسكرات هي أماكن لا يتورع الحارس فيها عن أن يقتلك من أجل ساعة في معصمك، وإن الأماكن التي يجبر فيها المسجونون لجمع الموتى لا يستطيعون فيها الوقوف على الأرض لشدة لزوجتها بفعل الدماء المتخثرة من جراح المسلمين.
ومنذ وصول الرجال المفرج عنهم إلى هنا في الأسبوع الماضي أصبحت الثكنات تعج بالمشاهد المبكية لالتقاء أفراد الأسر، لكنها أيضا كانت مدوية بالصرخات المفجعة للأقارب الذين علموا للتو أن أبناءهم وأزواجهم وآباءهم قد لاقوا حتفهم!) .
في إحدى المرات وقعت مجزرة جماعية في معسكر في أحد السجون الذي يديره الصرب شمال غرب البوسنة، ليلة الرابع والعشرين من يوليو حسب رواية صانع أقفالٍ مسلم ذكر أنه كان بداخل الغرفة في تلك الليلة، وقال: (إنه بعد إطفاء الأنوار مباشرة قام الحراس الصرب بقتل عدد لا حصر له من المسلمين بأسلحة أوتوماتيكية حيث كانوا مقيدين داخل حظيرة خانقة تعرف بالغرفة رقم [3] وأضاف الرجل قائلاً: إن الحراس كانوا يشتمون ويمشون على أجسادنا ويجلسون على الرءوس ويخنقون كل من يتحرك.
لقد مات أكثر من مائة وستين رجلاً في تلك الليلة، فيما قال ثلاثة من المسلمين الذين كانوا محتجزين في الغرفة المحاذية: إن خمسين آخرين من السجناء قد قتلوا في صباح اليوم التالي بعد أن دخلت دورية جديدة من الحراس الصرب إلى الغرفة [3] للبحث عن الذين مازالوا على قيد الحياة وقد اختفى عشرة سجناء آخرين، ولم يرجعوا أبداً بعد أن أجبروا على حمل الجثث في الشاحنة، وغادروا المعسكر برفقة هذه الشاحنة المملؤة بالجثث) وقال صانع الأقفال المسلم: إن القتل استمر على الحائط الخارجي لعدة ليال، وأضاف: في الصباح يقومون بجمع بقايا القتلى من المخ والدماء وقطع اللحم في عربة يدوية يدفع بها جندي صربي، وفي كلا المعسكرين فإن أكثر من أربعمائة من السجناء يحشرون سوياً في غرفة خانقة.
ويعتبر الضرب من المناظر اليومية كما يقول السجناء الذين أطلق سراحهم ويقوم بالضرب في أوقات مختلفة أفراد من الشرطة الصربية ورجال مجهولون يتخفون في بزات للتمويه ومدنيين صرب جاءوا من القرى المجاورة للمشاركة في عملية الانتقام.
ويروي شاب يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما في مدينة " برجيدو " البسنوية الشمالية: كانوا يضربوننا لحوالي نصف ساعة حتى يبدأ الواحد منا في نزيف الدماء، وكانوا يكسرون أضلعنا وأيادينا ويقطعون الآذان والأنوف، وقال بعض السجناء في "أومارسكا" إن الضرب يبدأ عندما ينتصف النهار وبعد أن يؤمروا بتناول طعامهم، وهو عبارة عن قدح من الأرز الفاسد في زمن لا يقل عن ثلاث دقائق، يجبرون بعد ذلك على الرجوع إلى الصالة المزدحمة بالسجناء والمليئة بهم والواقفين بين صفين من الحراس الذين يقومون بالضرب بعصا غليظة ومواسير من الحديد وخراطيم معدنية، وقالوا: إن أحد الحراس استخدم فأسا جبلياً لضرب السجناء بعنف أثناء مرورهم.
نعم هذا ما يفعله النصارى في زمن يسمونه زمن الحرية، وزمن الحضارة، وزمن المحافظة على حقوق الإنسان، وزمن العالم الذي أصبح قرية صغيرة يتسامع بكل حدث في أي مكان من العالم، وعلى مرأى ومسمع من الدول التي تتشدق بهذه الشعارات وتتكلم عن حقوق الإنسان، فإن صحيفة غربية، لا يمكن أن تتهم بأنها محايدة فضلاً عن أن تتهم بأنها متعاطفة مع المسلمين، بل إن عاطفتها مع النصارى ولابد إن صحيفة غربية تنقل مثل هذه الحقائق، فما بالك إذاً وماذا تتصور أن تكون الحقائق القائمة على سطح الواقع؟ لابد أنها أخطر من ذلك بكثير، هذا نموذج من جوانب المأساة.(232/4)
القتل
الجانب الثاني هو: القتل، ولاشك أن العملية التي تجرى هناك هي ما يسمى بعملية تطهير عرقي، أي أن الصرب يعملون على القضاء على العنصر الإسلامي الذي يعتبرونه أو يسمونه بالعنصر التركي، وإزالته من الوجود بكل وسيلة.
ولا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد القتلى منذ بداية الحرب، لكن الساحة تشهد يومياً مئات القتلى في كل مدينة في الهجمات العسكرية العشوائية.
وتقول بعض الإحصائيات -وهي لاشك غير دقيقة وتُعدُّ قديمة أيضاً- إن أكثر من (مائة وثمانين ألف) مسلم قد لاقوا حتفهم في ظل هذه الحرب الدموية التي يؤجج نارها الصرب ومن ورائه الغرب، فضلاً عن قيام الصرب بحملات إبادة للأطباء، والمحامين، والمهندسين وأصحاب المراتب المرموقة، وأصحاب العلم، وأئمة المساجد، والمؤذنين، والعلماء، والشيوخ.
وقد اعترفت منظمة العفو الدولية -وهي أيضا منظمة نصرانية- اعترفت بأن هؤلاء المثقفين والعلماء والأطباء والمهندسين يتعرضون للاعتقال بصفة خاصة وبصورة انتقائية، لكنَّ هذه المنظمة تقول: (إنه لم يتضح لها بعد أنه يتم اختيارهم للقتل) ولك أنت أن تتصور هذا العدو الذي يريد أن يقضي على المسلم ولا يبالي به، والذي ينتقي الطبيب والمهندس والعالم وإمام المسجد، ينتقيه للاعتقال، هل يمكن أن يتورع عن قتله؟ أترك الجواب لك.
إنها مسألة تصفية جسدية لكل هؤلاء المسلمين وأنا أنقل لك أيضا شاهداً من أهلها، فلا أتحدث أو يتحدث غيري من منطلق عاطفة أخوية أخذتنا تجاه إخواننا؛ بل نترك الحديث لهؤلاء ليتكلموا، فقد نشرت جريدة اليوم في عددها رقم [7062] مقالاً بعنوان (وشهد شاهد من أهلها) هذا هو عبارة عن حوار أجرته مجلة ألمانية اسمها دورش بيجن مع قائد ميليشيات الصرب في البوسنة عن الحرب الدائرة هناك، فقال -واسمع ماذا قال-: (المسلمون يجب أن يختفوا تماماً، أنا أؤيد النازين الجدد في ألمانيا الذين يقومون بقتل المسلمين من الأتراك وغيرهم في المدن الألمانية) ثم بعد ذلك قال: (بعد القضاء على المسلين في البوسنة سننتقل إلى كوسوفو للقضاء على المسلمين الألبان هناك) وإليك نص الحوار: الجريدة تقول له أو المجلة: (كم من المسلمين قتلتهم أنت شخصياً خلال هذه الحرب؟ قال: -واسمه فوشتيك -: قتلت مئات كثيرة، كذلك قمت شخصياً بإطلاق الرصاص على الأسرى المسلمين للقضاء عليهم.
المجلة: المعاهدات الدولية تحرم قتل الأسرى -أسرى الحرب- ألا تعرف ذلك؟ فوشتيك يقول: لا نملك سيارات لنقل الأسرى، لذلك أسهل طريقة وأرخصها التخلص منهم فوراً بالقتل، مثلاً في شهر يوليو كشفنا مخبأ يختفي فيه [640] شخصاً بعد أن دلنا عليه بعض الأسرى الذين قمنا بتعذيبهم، كان أسرع وأسهل وسيلة هي قتلهم بالرصاص والتخلص منهم.
المجلة: ألم تفكر في ذلك؟ قد تقدم يوماً للمحاكمة كمجرم حرب؟ فوشتيك يقول: أنا لا أقتل النساء والأطفال، ولكن أقتل كل قادر على الحرب، ومن لا أقتله أقوم بخرق عينيه، نحن نستخدم وسائل متعددة للحصول على المعلومات من الأسرى، منها: تهشيم أياديهم بوضعها في مكبس لتكسيرها ببطء، حتى يعترفوا بما نريد الحصول عليه من المعلومات.
المجلة: ما هو الهدف من هذه الحرب؟ فوشتيك: الهدف القضاء على المسلمين، فالمسلمون في أوروبا يجب أن يختفوا تماماً، إن على المسلمين في البوسنة إعلان تحولهم عن الإسلام، وأن يصبحوا صربيين أو كروات، أما الخيار الثالث فهو الموت) أسألكم أيها الإخوة: هل يملك المسلمون في بلادهم -مثقفوهم، علماؤهم، حكامهم -هل يملكون الوضوح في البراءة من النصارى واليهود والمشركين مثلما يملك هذا القائد الصربي في موقفه الواضح والصريح من المسلمين؟! إنه مجرد سؤال! بعد ذلك تقول له المجلة: (من الذي يموِّل قواتكم؟.
قال: الصربيون بالطبع، ولمعلوماتك (99%) من المتطوعين هنا هم جنود صربيون يأتون إلينا من بلجراد.
المجلة: لاحظنا وجود حروف (سي سي) على ملابس جنودكم فهل لهذا علاقة بقوات العاصفة النازية؟ القائد يقول: إنها تعني باختصار نور الصرب والملابس نفسها نحصل عليها من قتل الجنود المسلمين، ثم نصبغها بعد ذلك باللون الأسود! المجلة: هل يعني ذلك أنكم ستحولون الحرب إلى كوسوفو؟) وكوسوفو هذه سنتحدث عنها بعد قليل إقليم تابع للصرب يوجد به أغلبية مسلمة ألبانية.
(سألته المجلة: هل يعني ذلك أنكم ستحولون جبهة الحرب إلى كوسوفو حيث يوجد مسلمون ألبان؟ قال: هناك ثأر بيننا وبين المسلمين الألبان في كوسوفو، وسوف نقوم بطردهم، ومن يريد البقاء سنقتله، لا نريد مسلمين بيننا أو حتى في أوروبا كلها) هذا هو الحوار بنصه وفصه كما صرح به في وقاحة قائد صربي دون أن يخشى محاسبة ولا مساءلة من أحد! إنني أعيد عليكم مرة أخرى أن هذا الكلام ليس كلام خطيب متحمس من خطباء المسلمين، ولا مقالاً نشر في صحيفة إسلامية، إنه مقابلة صحفية أجرتها مجلة ألمانية شهيرة وموثقة مع قائد صربي، ونقلتها، ونشرتها بحروفها وألفاظها وعباراتها.(232/5)
التهجير
الجانب الثالث من جوانب المأساة: هو التهجير، فهناك الملايين الذين غادروا بلادهم إلى غير رجعة، والغريب أن الدول الأوروبية تتسابق اليوم بفتح ذراعيها لاستقبال هؤلاء النازحين وجعلهم في أماكن خاصة بهم، وذلك لتحقيق هدفين في وقت واحد.
أما الهدف الأول: فهو احتواء هؤلاء النازحين وإجراء عملية غسيل مخ لهم، لتغيير دينهم وتحويلهم من مسلمين إلى نصارى، خاصة إذا تصورنا أن معظم هؤلاء النازحين ربما يغلب عليهم الجهل بدينهم، والكثير منهم من الصغار والأطفال أو من النساء.
فمن السهل جداً أن تقوم الكنائس والمنظمات التنصيرية الأوروبية بتغيير ديانتهم وتحويلهم إلى نصارى -خاصة وأن الكثير منهم أيضاً يتربون داخل الكنائس وهناك أعداد كبيرة قد قامت الأسر المتدينة الأوروبية باستقبالهم وإيوائهم ليعيشوا بينهم، هذا هو الهدف الأول، وهو تحويل المسلمين إلى نصارى {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] إنه لن يشفع للمسلمين أيها الإخوة أن يكونوا جهلة بدينهم، ولا يشفع للمسلمين أن يكون الكثير منهم يتعاطون الخمور، ويتركون الصلوات، ويعاشرون الكفار، ويتعايشون معهم، ويتآخون معهم، ويختلطون بهم.
بل لم يشفع لهم أن تقوم مجتمعات المسلمين على أسس علمانية غير إسلامية؛ فإننا نعلم أن تلك البلاد التي تعاني الحرب كانت بلاداً أبعد ما تكون في حقيقتها عن الالتزام الحقيقي بالإسلام في عقائدها وأخلاقياتها وسلوكها -فضلا عما وراء ذلك من أمور الاقتصاد والإعلام والسياسة وغيرها.
فالعدو يقتل المسلمين اليوم بمجرد انتسابهم للإسلام، أو بمجرد كونه يحمل اسم علي أو أحمد أو محمد أو حارث أو سالم أو غير ذلك.
مصداقاً لقول الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] هذا الهدف الأول إذاً وهو تنصير المسلمين.
أما الهدف الثاني لاستقبال الدول الأوروبية لهؤلاء النازحين والفارين بحياتهم من جحيم الاعتداء الصربي فهو: المساعدة في تفتيت التجمع الإسلامي في البوسنة؛ لأن هذا الرحيل وهذا النزوح هو الكفيل بتحويل منطقة البوسنة والهرسك إلى ما يسمى بـ (كانتونات) كما تدعو بذلك الدول الأوروبية، يعني أقاليم متفرقة يكون نصيب المسلمين منها قليلاً وغير قادر على التحرك، بأي حال من الأحوال.
ولم يكن لسان إسحاق رابين في وضعه الطبيعي عندما منح حق اللجوء للبسنويين المشردين.
تصور حتى إسرائيل فتحت ذراعيها لاستقبالهم، وتناست أنهم يخالفونها في العرق وفي اللون أيضاً، ولأول مرة يبدي الشعب اليهودي الذي يحرص على النقاء العرقي لسكان إسرائيل -أو ما يسمى بإسرائيل- لأول مرة يبدي تنازلاً ويبدي استعداداً لاستقبال شعب من عرق آخر ومن دين آخر، ولذلك كان لابد للمرء أن يندهش لمثل هذا التصرف لولا اليقين القاطع بأن أوروبا وأمريكا وإسرائيل كلها وجوه لعملة واحدة، ولا نحتاج إلى مزيد من الأدلة بعد ما بين الله تعالى أن بعضهم أولياء بعض(232/6)
الاغتصاب
الجانب الرابع من جوانب المأساة وهو جانب يُبكي: (جانب الاغتصاب) فقط خمسة وثلاثون ألف امرأة التي تم اغتصابها على أيدي قوات الصرب.
وقد نشرت صحيفة نيويورك نيوزداي في تاريخ 22 أغسطس -وهي أيضا صحيفة غربية- نشرت تقريراً عن وحشية الاغتصاب الصربى للمسلمات، كما نشرت صحيفة ألمانية حقائق عن جنود الأمم المتحدة، وأنهم يشاركون الصرب في اغتصاب المسلمات، ويفتخرون بأنهن فتيات جميلات، ويقول أحد المراسلين: إنه يملك حقائق ووثائق عن هذا الأمر.
وفي صحيفة ألمانية اسمها دى فلت قالت: (إن قوات حفظ السلام تقوم بالاشتراك مع الصرب في اغتصاب المسلمات في قرى البوسنة وقد بعثت المنظمة الدولية لحقوق الإنسان برسالة للمؤتمر الدولي المنعقد في جنيف لتأكيد هذه الحقيقة) .
ولقد دمعت عيني وأنا أقرأ كلمة لأخت مسلمة اسمها مفيدة عاليك تقول: (ما دام العالم من حولنا قد عجز عن أن يحمينا من الوحوش الصربية فلماذا لا توفر لنا جهات الإغاثة على الأقل حبوبا لمنع الحمل حتى نداري بها جانباً من مصيبتنا؟!) .
الله أكبر! حدثونا عن أتباع دين في الدنيا كلها يجري لهم مثل ذلك ثم يظل إخوانهم في العقيدة والدين ينامون ملء عيونهم ويأكلون ملء بطونهم ويملكون الأموال ملء جيوبهم بل ملء خزائنهم كأن الأمر لا يعنيهم!! ماذا التباعد في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان أما الحديث عن تدمير المنازل، وهدم المساجد، وإحراق المصانع، والقنص في الشوارع، والقصف العشوائي، والحرائق المتواصلة، فحدث ولا حرج، بل إن الوضع الذي يعشيه المسلمون الآن في هذه اللحظات من أصعب وأشد الأوضاع مع إقبال الشتاء الطويل عندهم ومع فقدانهم للتدفئة، حيث انقطع التيار الكهربائي، وحيث لا يستطيعون أن يحصلوا على الحطب للإيقاد، وحيث تكسرت وتهشمت النوافذ فأصبحوا لا يستطيعون أن يتقوا من أذى البرد بشيء، ودرجة الحرارة هناك تصل إلى عشر درجات تحت الصفر! يقول ممثل الأمم المتحدة هناك: (إن الموت يهدد أكثر من نصف مليون مسلم، سواء بشدة البرد، أم بالجوع، أم بغير ذلك من الوسائل) وسوف أزيدك من بيان هذه الحقيقة.
إنها مأساة كبيرة، ولعل الشاعر الذي تكلم وذكر هذه الملحمة يصور حقيقة ما يجري هناك أبلغ تصوير إذ يقول: أحقاً خبا من جورندةَ نورها وقد كسفت بعد الشموس بدورُها وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت منازلها ذات العلى وقصورها تسلمها حزب الصليب وقادها وكانت شروداً لا يقاد نفورها فباد بها الإسلام حتى تقطعت مناسبها واستأصل الحق زورها بقرع النواقيس اعتلى بمنارها كراه أصوات يروع صريرها فواحسرتاه! كم مساجد حولت وكانت إلى البيت الحرام شطورها ووآسفا كم من مآذن أوحشت وقد كان معتاد الأذان يزورها وكم من لسان كان فيها مرتل وحفل بختم الذكر تمضي شهورها وكم طفلة حسناء فيها مصونة إذا سفرت يسبي العقول سفورها تميل كغصن البان مالت به الصبا وقد زانها ديباجها وحريرها فأضحت بأيدي الكافرين رهينة وقد هُتكت بالرغم منها ستورها وقد لطمت -واحر قلبي- خدودها وقد بُعْثِرَتْ -وادمع عيني- شعورُها وإن تستغث بالله والدين لا تُغَثْ وإن تستجر ذا رحمة لا يجيرها وقد حيل ما بين الشقيق وبينها وأسلمها آباؤها وعشيرها وكم من عجوز يحرم الماء ظمؤها على الذل يُطوى لبثها ومسيرها وشيخٍ على الإسلام شابت شيوبه يمزق من بعد الوقار قتيرها وكم فيهم من مهجة ذات ضجة تود لو انضمت عليها قبورها لها روعةٌ من وقعة البين دائمٌ أساها وعينٌ لا يَكَفُ هديرها وكم من صغير حيز من حجر أمه فأكبادها حراء لفحٌ هجيرها وكم من صغير بَدَّلَ الدهرَ دينُه وهل يتبع الشيطان إلا صغيرها كُروبٌ وأحزان يلين لها الصفا عواقبُها محذورةٌ وشرورُها فيا قرحة القلب الذي عاش بعدها ويالَعمى عينٍ رآها بصيرها ويا غربة الإسلام بين خلالها ويا عثرة أنَّى يقال عثورها؟! ويا ليت أمي لم تلدني وليتني بليت فلم تلفح فؤادي حرورها ويالعزاء المسلمين لفاقة على الرغم أغنى من لديها فقيرها منازهها مصدورة وبطاحها مدائنها موتورة وثغورها تهائمها مفجوعة ونجودها وأحجارها مصدوعة وصخورها وقد لبست ثوب الحداد ومزقتْ ملابس حسن كان يزهو حبورها فلو أن ذا إلف من البين هالك لذابت رواسيها وغاضت بحورها تَرى للأسى أعلامها وهي خُشَّعٌ ومنبرُها مستعبر وسريرها ومأمومُها ساهي الحجا وإمامُها وزائرها في مأتم ومزورها أضعنا حقوق الله حتى أضاعنا وحُلَّتْ عرى الإسلام إلا يسيرها وملتنا لم تعرف الدهرَ عُرفها من النكر، فانظر كيف كان نكيرها لقد سلبوا أوطاننا ونفوسنا وأموالنا فيئاً أبيحت وفورها علوها بلا مهر وما غَمَزَتْ لهم قَناةٌ ولا غارت عليهم ذكورُها وقد عدت الأفرنج من كل شاهق علينا فَوَفَّتْ للصليب نذورها وقد كشرت ذؤبانها وكلابها وَقَدْ كسَّرَتْ عقبانُها ونسورها ودبت أفاعيها إلى كل مؤمن وغصَّ بأكباد الثقات عقورها أنادي لها عُجْمَ الرجال وعُرْبَها نداء سراة القفر إذ ضَلَّ عِيرُها إله الورى! ندعوك يا خير مرتجىً لكالحة هزَّ الصليب شرورها أغث دعوات المستغيثين إنهم ببابك موقوفو الحشاشات بورها إنه تصوير حي لمأساة أليمة مرعبة لا يملك الكثيرون من المسلمين حيالها إلا أن يهزوا رءوسهم، وأقل المسلمين هو أيضا من يهز رأسه، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبنا الله ونعم الوكيل.(232/7)
التواطؤ الدولي
أما الوقفة الثالثة: فهي حول التواطؤ العالمي.
إن هذا الموقف ليس موقف الصرب فقط، فهم أقل من أن يستطيعوا الصمود أمام قوى الإسلام، ولكنه الموقف العالمي بأكمله.(232/8)
الموقف الأمريكي
هذا مثلاً موقف أمريكا والذي يحدث في البوسنة والهرسك ليس حرباً بين المسلمين والصرب، ولكنه حرب بين الإسلام والنصرانية، وهكذا يجب أن نفهمها، إنها حرب يوقدها الغرب كله ضد العالم الإسلامي، وإن كانت تظهر أحياناً بأشكال مختلفة، إن العالم الإسلامي يجب أن يتعامل مع الحرب على هذا الأساس، وأن يدرك أن الغرب كله يقف مع الصرب ضد المسلمين.
هناك توزيع للأدوار حتى تنطلي الخدعة علينا وتتحقق الأهداف المشتركة، -فمثلاً- تعددت الإعلانات بأن شركات غربية عديدة -بريطانية وفرنسية وألمانية- تساهم مساهمة فعالة في فك الحصار عن يوغسلافيا، وإيصال ألوان الأسلحة والسلع إلى الصرب من مختلف جهات العالم، وتتولى الشركات الأوروبية شرقيها وغربيها مهمة إغراق السوق اليوغوسلافية بالبضائع، وعملية الحصار الاقتصادي على الصرب لا تعدو أن تكون كذبة إعلامية كبيرة، هذا جانب من المؤامرة.
(جانب آخر) بينما أعلنت واشنطن أنها حصلت على معلومات جديدة تؤكد اعتقال ثلاثة آلاف مسلم في معسكرات الصرب، أي: أنها اكتشفت معسكرات جديدة، في الوقت نفسه أعلن لورانس وزير الخارجية الأمريكي بالوكالة أن الولايات المتحدة سوف تؤيد وتدعم طلب ميلان بانتش رئيس الوزراء اليوغوسلافي في مجلس الأمن، الذي يطالب بالسماح ليوغسلافيا باستيراد السلع الإنسانية، ولاسيما وقود التدفئة من أجل الشتاء القادم إلى صربيا، ونقلت وكالة (تان يوجا) الصربية عنه قوله بعد اجتماعه مع مالتش: إن المساعدة الأمريكية تعتبر عملاً إنسانياً محضاً.
نعم أمريكا تتظاهر بالإنسانية، وتقول: إنها تسعى إلى إنقاذ البشر في صربيا من أذى البرد، ولذلك تسعى إلى إزالة ما يسمى بالحصار الاقتصادي عليهم والسماح باستيراد السلع الإنسانية.
هذه المشاعر الأمريكية الفياضة تجاه الصرب تتعامل مع مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك بحسابات سياسية باردة، تتوخى المصلحة الأمريكية في المقام الأول! وقد اعترف بعض من صحت ضمائرهم من الأمريكان -أنفسهم أو صحوا من غيبوبتهم- اعترفوا بذلك، هذا جورج كيني نائب رئيس مكتب يوغسلافيا سابقاً بوزارة الخارجية الأمريكية والذي استقال من منصبه في وقت سابق، احتج على الموقف الأمريكي وقال -واسمع هذه الاعترافات- يقول: (إنني أؤمن تماماً بأن الإدارة الأمريكية قد اتخذت قراراً جوهرياً على أعلى المستويات بعدم التدخل العسكري، لاعتقادها بأنها ستكسب سياسياً أكثر من عدم التورط في نزاع أجنبي شديد الفوضى) نعم! تنظر الإدارة الأمريكية إلى مكاسبها السياسية فحسب من أشلاء ودماء المسلمين في البوسنة والهرسك، والاعتداء على نسائهم؛ وانتزاع حليب الأطفال منهم، ولا تتدخل إلا بدوافع مصالحها السياسية، أما في صربيا فهي تتدخل لإنقاذ يوغسلافيا من صقيع الشتاء القادم بدوافع إنسانية.
ويمضي جورج كيني هذا المستقيل قائلا: (إن ما يثير غضبي بشأن تعامل الإدارة الأمريكية مع الأزمة في يوغسلافيا، هو أنها لا تريد حقاً أن تعرف الرعب القائم هناك؛ لأننا كلما عرفنا المزيد كلما تضاعف الضغط علينا، وأجبرنا على التصرف، وعلى مدى شهور وجدت اهتمام الخارجية الأمريكية قليلاً جداً لمعرفة المزيد عن الموت والجوع وعن القصف الصربي وعن الإبادة العرقية) .
ثم يقول: (إن المدخل الأمريكي إلى الأزمة هو نموذج للاسترخاء، ومنذ العلاقات الأولى لتفكك يوغسلافيا سابقاً، أوضحت الإدارة الأمريكية بشكل متكرر أنها لن تتدخل عسكرياً للسيطرة على الأزمة، مما أعطى الضوء الأخضر لسفاحي الصرب أن ينفذوا خططهم لإقامة دولة صربيا الكبرى بعدما يتم تنقيتها عرقياً، وكل ما اتبعته أمريكا تجاه موقفهم هو الدبلوماسية العاجزة) ثم يمضي (جورج كيني) قائلا: (إنني أعتقد أن الإدارة الأمريكية ببساطة لا يعنيها شأن البوسنة برغم كل الكلمات المعسولة التي تستخدم في التصريحات، بل على العكس من ذلك - لاحظ الكلام - بل على العكس من ذلك قد يكون ما يحدث يتلاءم مع أغراضهم) انتهى كلامه.
أي: إن هذا الرجل يشير إلى وجود تواطؤ أمريكي صربي ضد المسلمين.
إن ما يحدث في البوسنة والهرسك على الرغم من أنه من أسوأ الجرائم في التاريخ إلا أنه لم يحرك ساكناً في العالم الإسلامي.
والأمر الآخر: أن المعونات الإسلامية تصل أحياناً إلى الصرب! وهذا جانب من تعاون الشركات والمؤسسات الغربية مع الصرب وتحالفها وتواطئها معهم، وإن المعونات الإسلامية تصل إلى أيدي الصرب وقد كشف عبد الرحمن آدمي وهو ممثل مسلمي يوغسلافيا في تركيا عن مأساة جديدة يتعرض لها المسلمون في البلقان قال: (إن المعونات المرسلة للمسلمين عن طريق جمعيات الهلال الأحمر تصل إلى أعدائهم وأنهم وجدوا لدى الأسرى الصرب معلبات مرسلة من دول إسلامية عن طريق الهلال الأحمر) وأكد عبد الرحمن أن هذه المساعدات ضلت طريقها؛ حيث تسلمتها جهات أخرى قامت بتسليمها للصرب.
ولعله ليس سراًَ أن جريدة الشرق الأوسط نشرت منذ ما يزيد على شهر أن الإعانات التي دفعتها هذه البلاد للمسلمين في البوسنة قد استلمتها جمعية ألمانية ذات خبرة -زعموا- في عملية توزيع الإعانات، استلمتها هذه الشركة لتقوم بإيصالها إلى المسلمين هناك.
إذاً هذا جانب من موقف الغرب.(232/9)
موقف بريطانيا
جانب بريطانيا وفرنسا فهو لا يختلف كثيراً عن موقف أمريكا، إنهم يكتفون بالتصريحات الإعلامية، ويكتفون بالشجب والاستنكار، ويكتفون بعقد الجلسات، ويكتفون بإقامة المؤتمرات للسلام التي تشرف عليها بريطانيا، وكلما خرجوا من مؤتمر أدلوا بتصريحات: إنه تم الاتفاق على كذا.
وما ذلك إلا لمجرد الاستهلاك الإعلامي وإقناع المسلمين بأن القضية قضية دولية كبيرة، وأن الغرب لا يمكن أن يتجاهلها أو يسكت إزاءها.(232/10)
موقف الأمم المتحدة
وقل مثل ذلك بالنسبة للأمم المتحدة -الحكومة المتوجة على العالم كله- وهي حكومة نصرانية صليبية، وألعوبة في يد أمريكا وفرنسا وبريطانيا وأوروبا بشكل عام.
الأمم المتحدة معظم جنودها من النصارى، وهم في بلاد البوسنة يحاربون المسلمين أحياناً.
ويستخدمون الصلاحيات الممكنة لهم يستخدمونها لنقل بعض الأسلحة للقوات الصربية، وهم يوجهون إلى المسلمين اللوم في كثير من الأحيان، وهم يعتدون على المسلمين، وهم يقتلون بعض المسلمين أحياناً، وهم يعتدون على أعراض المسلمات كما ذكرت.
ثانياً: ما يتعلق بالأمم المتحدة، فإنها تفرض حظراً على الأسلحة أن تصل إلى يوغسلافيا بكلها، بمعنى أن الأمم المتحدة منعت المسلمين من أن يتسلحوا في الدفاع عن أنفسهم، بل إن شحنات الأسلحة التي ذهبت من هناك من بعض الدول الإسلامية أوقفت في مطار كرواتيا، وفتشت ومنعت من الذهاب إلى المسلمين أمر عجيب! لقد ساوت الأمم المتحدة بين المسلمين العزل وبين الصرب الذين ورثوا رابع أقوى جيش في العالم، والذين يملكون مئات السيارات، وآلاف الدبابات، ومئات الآلاف من الجنود، وعشرات الآلاف من القطع، بل وفرضت حظراً على التسليح أن يصل إلى الطرفين، وهكذا قررت أن يموت المسلمون تحت سنابك خيل الصرب بصورة ذكية مدروسة!.
ثالثاً: أعلنت الأمم المتحدة على لسان أمينها -وهو خائن- مراراً أنه (ليس هناك تفكير في التدخل العسكري في البوسنة والهرسك) لماذا؟ (لأن الأمر معقد والمنطقة صعبة وجبلية ومتشابكة، والدخول فيها يعني الدخول في معركة لا نعلم مداها ولا مصيرها!!) هكذا يقولون.
فلماذا إذاً تدخلوا بين الصرب والكروات؟ لانقول لماذا تدخلوا في الخليج؟! أم أن أمر الخليج أمر آخر؟! لماذا تدخلوا بين الصرب والكروات مع أن المنطقة هي ذاتها في تفاصيلها وتضاريسها وبجغرافيتها؟! هذا سؤال ليس له من جواب ثم إن إعلانهم مرات كثيرة أنهم لن يتدخلوا هو رسالة واضحة إلى الصرب: أن واصلوا فعلاً فيما تقومون به، واستمروا في إبادة المسلمين واقضوا عليهم، وأسرعوا واطمئنوا فإن الأمم المتحدة تعدكم وعداً قاطعاً أنها لن تتدخل ضدكم، وأن موقفها لن يكون إلا التأييد الخفي والشجب العلني.
رابعاً: تتعامل الأمم المتحدة مع الحرب هناك على أنها حرب أهلية طرفية بين طرفين فقط، وأحياناً تلقي باللوم على المسلمين، كما فعلت حين أقفل المسلمون طريق الإمداد من المطار، لقد أقفل المسلمون طريق الإمداد إلى سراييفو؛ لأن الصرب يستغلونه في نقل أسلحتهم، ولذا قام جنود الأمم المتحدة بانتقاد المسلمين، وطالبوهم بفتح هذا الطريق، واستخدموا معهم عبارة حادة: (افتحوا الطريق وإلا سوف نضطر إلى فتح الطريق عن طريق استخدام القوة) خامساً: رفض مجلس الأمن الطلب الذي تقدمت به الدول الإسلامية وهي (47) دولة، تقدمت بطلب عقد مجلس طارئ لمجلس الأمن، وذلك من أجل رفع الحظر عن إرسال الأسلحة إلى المسلمين في البوسنة والهرسك، فرفض السفير الفرنسي الذي يترأس الدورة الحالية لمجلس الأمن أن يعقد جلسة طارئة، وقال: (إن المجلس في حالة انعقاد، وإن هذه المسألة في محل بحث دائم، ولا حاجة لعقد جلسة طارئة لهذا الأمر) .(232/11)
كرواتيا
القضية الجديدة والخطيرة -أيضاً- ضمن التواطئ العالمي هي قضية كرواتيا؛ فإن المخرج والمنفذ والجانب الإيجابي والأكبر للمسلمين هو أنه كان هناك نوع من التعاون بينهم وبين كرواتيا المجاورة وهي المنفذ الوحيد لدولة المسلمين، وفي الأيام الأخيرة -وقد كنت أخبرت عن ذلك قبل شهور طويلة وأصبح الآن هذا الموضوع عملياً واضحاً قائماً- أصبح هناك معارك دامية بين المسلمين والكروات، لقد قام الكروات بقتل مجموعة من خيرة الشباب من البلاد العربية والإسلامية غدراً وخيانة في أحد المعارك، ثم كان من آخر غدرهم وخيانتهم سقوط مدينة بوسانس كيبرود وهي مدينة في الشمال محصنة؛ بل هي قلعة من قلاع المسلمين هناك.
وحسب التقارير العسكرية فقد كان من المستبعد أن تسقط المدينة، وقد فوجئ الجميع بسقوطها وتكلمت الصحف الألمانية: (أن سقوط هذه المدينة كان نتيجة خيانة من الجنود الكروات الذين سلموا المدينة إلى الصرب مقابل أن يتخلى لهم الصرب عن شريط حدودي مجاور لهم) وبمباركة الكنيسة وتحت رعاية الأمم المتحدة أيضاً وممثليها وهم وورد أوويه وفانزتم في جنيف عقد اجتماع بين الرئيس الكرواتي والرئيس الصربي، وتم الاتفاق على النقاط التالية: أولاً: علاقات ودية بين الدولتين.
ثانياً: فتح مكاتب متبادلة في عاصمتي الدولتين.
ثالثاً: فتح الطريق التجاري بين زغرب وبلجراد.
رابعاً: تبادل التمثيل الدبلوماسي بينهما.
خامساً: تبادل الأسرى بينهم.
سادساً: خروج القوات الصربية من كرواتيا باتجاه البوسنة.
وقام بعض الوزراء من كرواتيا بزيارة رسمية إلى بلجراد، وهذا يدل على خطورة الموقف وأن المسلمين يعيشون وضعاً حرجاً للغاية.
إن المنفذ الوحيد والطريق الوحيد الذي تصل إليهم منه الإعانات والإمدادات، ويتم عبره وصول المسلمين، ووصول المجاهدين، ووصول الأموال، إن هذا الطريق الوحيد يتم عن طريق كرواتيا، وهي الآن تقيم أوثق العلاقات مع صربيا.
منذ بدء الحرب والكروات كانوا يحققون بعض المكاسب على حساب المسلمين -فمثلاً- تجارة السلاح، كان الكروات يستغلون الضعف الذي يعيشه المسلمون وحاجتهم إلى السلاح، بتجارة السلاح، وكذلك رفع راية كرواتيا على كثير من المناطق المحررة، التي كان المسلمون وراء تحريرها، ومثل إقامة نقاط التفتيش على بعض المواقع والطرق، وتفتيش القوافل الإسلامية وغيرها، ومثل بث الدعاية عن الجهود الكرواتية، ومثل فرض الرسوم والضرائب على دخول المسلمين، وعلى دخول السلع، وعلى كل ما يصل إلى كرواتيا بل إن كرواتيا تقوم باقتسام صفقات السلاح المخصصة للبوسنة وأخذ نصيب منها.
إضافة إلى أن كرواتيا قامت بمنع كثير من المسلمين القادمين، وإعادتهم من مطار زغرب إلى حيث قدموا، ومنها أيضاً حجز بواخر السلاح وطائراتها كما سمعتم كثيراً في الأخبار، ومنها أنهم لم يشاركوا في أي معركة جادة في التحرير لمقاومة الصرب، وإنما كانوا يُورّون بالقليل من الأعمال.
وهذا يؤكد لنا أيضاً الحقيقة السابقة، وهي أنه لا ثقة أبداً إلا بالمسلم، أما هؤلاء النصارى، فالذي يثق بهم فإنما يسعى إلى قتل نفسه بنفسه! إن المصادمات الأخيرة بين المسلمين وما يسمى لجنة الدفاع الكرواتي، والتي يرأسها شخص اسمه ماتي جوبان وهو رجل مخابرات شيوعي، قدم من كرواتيا نفسها، وقام بزيارة قبل الأحداث الأخيرة إلى مدينة رافليد، لإشعار المسلمين أن هذه المدينة جزء من الأرض الكرواتية التي يسمونها هيركست بوسنا يعني أنها أرض الكروات أو الكانتون المخصص للكروات في أرض البوسنة.
وزار الرجل هذه المدينة بهذا الهدف، وإذا تم هذا الاتفاق اتفاق الكانتونات فلن يكون للمسلمين أكثر من (15%) من أرض البوسنة والهرسك، ودارت في هذه المدينة معارك ضارية، قتل فيها أكثر من مائة وجرح فيها أكثر من مائة وخمسين، وما زالت المعارك جارية في أكثر من موقع، وبناءً عليه فقد تم إغلاق حدود البوسنة، وبذلك توقفت المساعدات الإنسانية والغذائية التي كانت تأتي إلى المسلمين عن طريق كرواتيا، وهذا يهدد مئات الآلاف بالموت جوعاً وبرداً!! وإن ممثل الأمم المتحدة حينما قال: (إن أكثر من نصف مليون مسلم يتعرضون للموت بسبب الجوع والبرد) كان هذا قبل أن تغلق الحدود مع كرواتيا، فما بالك اليوم وقد أغلقت الحدود؟! إن الأمر يبدو أكثر مأساوية وأكثر خطورةً.(232/12)
لماذا يحدث كل هذا؟
وها هنا ندرك الحقيقة: وهي أن العالم كله يتآمر على حفنة قليلة من المسلمين العزل في البوسنة والهرسك، وهنا سأطرح السؤال وهو النقطة الرابعة لماذا يحدث كل هذا؟(232/13)
الحرب الدينية لأوروبا ضد الإسلام
يحدث كل هذا وباختصار؛ لأن الصرب في نظر الغرب يقودون حرباً دينية لحماية أوروبا الغربية من الإسلام.
من الذي يقول هذا الكلام؟ لقد صرح بذلك رجل صربي، هو آمر أحد الفيالق التي يبلغ تعدادها ثمانين ألف جندي، يقول آمر الفيلق: (إننا نقود حرباً مسلحة لحمايةأوروبا الغربية من الإسلام) فالغرب كله يتخوف من حرب إسلامية نصرانية أو مواجهة شاملة، كما يقول زعيم من زعماء روسيا، بل قائد الجيش الروسي فيما يسمى بدول الكومندوز، أدلى بتصريح قبل أسبوع (إنني أتخوف من مواجهة شاملة بين المسلمين وبين النصارى، أو بين الشمال وبين الجنوب) والمقصود بالجنوب الفقراء من المسلمين.
فهي حرب بين الفقراء والأغنياء، أو بين الشمال والجنوب، وهي بلهجة أخرى أو بصورة واضحة: هي حرب بين الإسلام وبين النصرانية، يقول القائد الروسي: (إنني ألحظ أن هناك تمحوراً كبيراً حول الإسلام، وأن هناك استقطاباً دينياً في الدول الإسلامية) فهو يرى أن الدول الإسلامية في آسيا الوسطي بدأت تستعيد عافيتها وإسلامها، وتتصل بأفغانستان ثم بباكستان ثم بتركيا ثم إيران ثم بالعالم الإسلامي.
ولا شك أن دول البلقان أيضاً، والمسلمين في البوسنة والهرسك، والمسلمين في كوسوفو، والمسلمين في السُّنْجُق، والمسلمين في ألبانيا، والمسلمين في كل تلك الدول أنهم على اتصال بذلك كله، وهم يتوقعون أن يكون هناك حرب شاملة بين القوى الإسلامية كلها وبين القوى الكافرة -هكذا يتوقعون- وهذا التوقع ليس مبنياً على سذاجة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} فهذا جزء من الرعب الذي يقذف في قلوب الأعداء.
ولكنه أيضاً جزء من اكتشافهم لحقيقة قائمة! وهي: أن الأمة الإسلامية بدأت تستردُّ جزءاً من عافيتها وإسلامها، وسوف أتحدث بعد قليل عن نقطة البشائر.(232/14)
تخوف الغرب من أي مظهر إسلامي
فيما يتعلق بالتخوف في الغرب من الإسلام، فهم يتخوفون من أي ظاهره حتى لو كانت صغيرة، ففي جريدة اسمها سبليت علقت على معسكر فيه تسعمائة مسلم ويدرسونهم القرآن -بعض الهيئات الإسلامية تقوم بتدريس القرآن- فنشرت الصحيفة هذا الخبر تحت عنوان مثير جداً (الإسلام قادم) ثم ذكرت خبراً عادياً: (أنه في هذا المعسكر هناك تسعمائة مسلم يتعلمون القرآن، وقد بدأ الحجاب الشرعي يظهر عند الفتيات) نموذج آخر قد تستغربونه أيضاً! أصدر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- فتوى بمساعدة المسلمين في البوسنة والهرسك بالمال وغير ذلك، فهذا الخبر أزعجهم جداً! وكررت الإذاعة الكرواتية ووكالات الأنباء هذا الخبر، وقالت بالحرف الواحد: (إن على أوروبا أن تساعد كرواتيا في تخفيف أعبائها المتمثلة بأولئك اللاجئين، والعمل على حل المشكلة سريعاً، حيث إن تفاقم المشكلة سيدفع بأهل البوسنةنحو الأصولية وخطر التعصب الذي أصبحنا نحس به الآن، وخير دليل على ذلك فتوى كبير علماء العالم الإسلامي عبد العزيز بن باز بمساعدة المسلمين في أرض البوسنة والهرسك) .(232/15)
قصيدة حول موضوع الإسلام والغرب
قبل أن أنتقل إلى النقطة التالية أودُ أن أُعَقِّبَ على ما سبق أيضاً بمشاركة للدكتور/ عبد الله الحامد أستاذ بجامعة الإمام في الرياض، وهي قصيدة ذات معانٍ كبيرة، ولذلك أحببت أن أشركَكُم معي في سماعها أو في سماع بعض أبياتها، وقد نُشِرَتْ في بعض الصحف الخليجية أيضاً يقول: سراييفو الجريحة سامحينا إذا قلنا لعلك تسلمينا إذا كانت إغاثتنا هباءً دواءً أو غذاءً أو أنينا نرجي هيئة الأمم التفافاً وقد كاد الأمين بأن يخونا ولو كنتم يهوداً أو نصارى وجئتم مجلس الأمن اللعينا لغطت جوكم أسراب حرب تدمر من قنابلها حصونا ولو كنتم خليجاً سال نفطاً لزمجر بوش إنا قادمونا وندد بالكوارث والمآسي وأجهش يذرف الدمع السخينا وأقنع مجلساً للأمن يُدْعَى وطوَّع كيدُه روساً وصينا هو القانون أعور حين يهوى فيبصر جانباً ويتيه حينا فأغضى عن أسى البلقان جفناً وأبصر في الخليج البائسينا ولم ير في الخليج دماء شعب ولكن أبصر النفط الثمينا وخمر النفط يسكر كل صاح ويمنح كل ذي عقل جنونا أدرتم في الخليج رحى حروب تدور على جماجمنا طحونا وما جئتم لقانون وحق ولا لحماية لمتوسلينا ولكن قلتمُ: هبت رياح ألا بذروا بها سماً دفينا ندمر بيتهم ونقول: نحمي بأسلحة ومال يكنزونا ولو كان الخليج بغير نفط لأمسى من تدخلكم أمينا تجرون الحليف لكل فَخًّ لكي يبقى بأيديكم رهينا فلا حلفاؤكم عرفوا طريقاً ولا أنصفتمُ منهم خدينا نصبتم في الخليج فخاخ مكرٍ ليخنع في إساركم حزينا فيصبح شعبنا بقراً حلوباً وصيداً في شباككم سمينا تضيع ثراءه أشكالُ مجد سلاحاً أو أثاثاً أو مجونا فتبنون الحضارة في رباكم وفوق ظهورنا نبني ديونا نزفتم من كرامتنا دماء فهل تدرون عقبى من أهينا زرعتم فكرة سقيت بظلم فجاء حصادها حقداً دفينا رفضتم في الجزائر حكم شورى وأيدتم بها جيشاً ثخينا فصارت دولة الشورى حراماً علينا إن رعت خلقاً ودينا تريدون الحكومة مثل غرب أكُنَّا في حضارتكم بنينا؟! لنا خلق وللإفرنج خلق أيفرض دينه حتى ندينا شعوب الغرب ساستكم دهتكم ونحن بساسة منا بلينا فلا في الرأي قادتنا أصابوا ولا رؤساؤكم صدقوا الظنونا وكان الشعب فيكم أهل شورى وكان الشعب فينا مستكينا جهلتم مرةً أخرى جهلتم كما جهل الصليبيون حينا ألم تتلوا من التاريخ سطراً يحدثكم إذا شئتم شجونا فعودوا وافهموا جيلاً جديداً فسوء الفهم أعماكم قرونا لماذا أيها الرؤساء فينا نشرتم خزيكم في العالمينا تراضيتم فأخفيتم بلايا وأبدى الخلفُ سرُكم المصونا فكفر بعضكم بعضاً وآخى صليبياً وصهيوناً لعينا لكل منكمُ فقهاءُ فتوى أصاروا الدين للدنيا دهونا وإعلام يصورُ كل لصٍ حكيماً محسناً حراً أمينا تفرقتم إلى عرب وعجم وسودتم وجوه المسلمينا نقضتم عروة ما بين عرب وعادى كل ذي قرن قرينا تشرذمتم إلى يمنٍ وشامٍ وأمسيتم يساراً أو يمينا تفرقتم على وادٍ ومرعى وأجمعتم محبة قاتلينا تعارضت المصالح والمبادي فَمدّ عَدُونا كفي أخينا تشعبتم إلى مَلَّاتِ نِفْط وقحط دمرا دنيا ودينا فيسكن في المقابر بعض قوم وفوق السحب يلهو آخرونا ومات من المجاعة بعض شعب وهبت فتنة رهطاً بطينا أيا قتلى بسيف قد صقلتم بمالٍ قد أضعتم حدثونا ومالُ العُرب صار لهم دماراً وصار سلاحهم لهم منونا فيا حرب البسوس ألا سلاماً لقد عدنا لفخرك باعثينا ثم يقول في الأخير: ألا يا عرب أندلس أفيقوا ألا فتق الصباح لكم عيونا فمن رهن البلاد لأجل عرش أضاع وضاع إذ خرق السفينا ويوشك أن يكون النفط نهراً فراتاً أحمراً يجري جنونا وأن يدعى الخليج خليج بوش فيمنحه لإسرائيل مينا لماذا أيها الحكام فينا تفرقتم يساراً أو يمينا وأجمعتم على شكوى شباب تَدَيَّنَ بعد أن عرف اليقينا وبعضٌ إن تفرنج قيل: مرحى وآخر من تَدَيُّنِه أُهينا أصار الكفر والتغريب علماً وصار العري والبالي فنونا مباح أن ترى فخذاً ونهداً! ويحرم أن ترى جسداً مصونا! فللفساق قد فتحوا الملاهي وللعباد قد فتحوا سجونا وما هذا التطرف غير رفض لعلمانية نشرت مجونا ترون منابر الآراء عنفاً أليس العنف قتل الواعظينا وما الإرهاب إلا رد عنف على قهر رعاه الحاكمونا أيا عرب التخلف هل وعيتم من النكبات درس الذاكرينا فمن رام الحياة بغير فكر تبدد في عواصفها طحينا ومن حسب الحضارة لمع نفط فقد يهوي به حتى يهونا ومن ظن الحضارة في سلاح فقد يضحى به يوماً طعينا ومن حسب الحضارة في المباني فقد ظن الورى حجراً وطينا فلن تبني بها رأياً حكيماً ولو ربَّيْتَ مخلوقاً سمينا فليس حضارةً زَرْعٌ وصُنْعٌ إذا لم تبن إنساناً رصينا وما شاد الحضارةَ غيرُ عقلٍ تحرر مستنيراً مستبينا ولا يبني العقولَ سوى حوارٍ وشورى تقتل الرأي الهجينا ولا يبني الحضارة غير شعب تساوى الناس فيه أجمعينا فلا أمراؤه نالوا امتيازاً ولا أحراره صاروا قطينا(232/16)
أبعاد الحرب
نعود بعد ذلك إلى أبعاد الموضوع من المسائل المهمة وأذكرها باختصار: أبعاد الحرب، الحرب الآن في البوسنة والهرسك لكن إلى جوارها إقليم كوسوفو الذي يحتله الصرب، وفيه أكثرية من المسلمين الألبان، في هذا الإقليم اغلق الصرب ثمانٍ وعشرين مدرسة ابتدائية كان يُدَرَّس فيها أربعون ألف طفلٍ مسلمٍ، وأغلقوا خمسين مدرسة إعدادية كان يدرس فيها ستون ألف مسلمٍ، أيضاً، وقاموا بفصل أكثر من ثمانمائة وخمسين بروفسوراً عن العمل وسَرَّحوهم، وسجنوا ما يزيد عن مائتين وأربعين مدرساً.
وإزاء مثل هذا الابتزاز قام المسلمون بمظاهرات سلمية، قوبلت بحشود كبيرة من الشرطة، وفُرَّقَت بالمياه الحارة وأطلقت عليها النيران، وضُرِبوا، واعتقل منهم أعداد وقتل منهم من قتل، ولذلك تقول تقارير مؤكَّدة أن المسلمين في كوسوفو الآن يجمعون السلاح، وقد قاموا باختيار رئيس من بينهم بصورة سرية وأنهم يستعدون لخوض معركة مع الصرب داخل صربيا فيما يسمى بإقليم كوسوفو الذي يسكنه المسلمون الألبان.
وهناك إقليم أخر هو إقليم السنجق، وهناك أقليات أخرى متفرقة في الجبل الأسود وفي كرواتيا وفي صربيا وفي غيرها.
وإلى جوار هذا كله توجد ألبانيا التي يسكنها المسلمون، وهي دولة إسلامية ظلت تحت الشيوعية زماناً طويلاً، وقد وجدت فيها الآن صحوة إسلامية جيدة، وفيها أحزاب إسلامية تستعد الآن لمواجهة عسكرية مع أعداء الإسلام، وبناءً عليه تقول تقارير أصدرتها المخابرات البريطانية وقرأت شيئاً منها في الصحف تقول: (إن هناك احتمال كبير أن تتحول جزيرة البلقان كلها إلى بحر من الدماء وإلى مواجهة شاملة، وقد تضطر تركيا إلى التدخل، وإزاء ذلك فقد تتدخل دول أخرى كثيرة في مثل هذه المواجهة) وبناء على ذلك؛ فإننا لا نستغرب أن يسعى الغرب إلى المسارعة في حل مشكلة المسلمين في البوسنة والهرسك بأي وسيلة، وأن يقوم بتقسيم البوسنة إلى كانتونات: واحد منها للصرب البوسنويين، وآخر للكروات البوسنويين، وثالث للمسلمين في المنطقة، ويكون ذلك قليلاً ومحصوراً، وقد يسعون إلى غير ذلك من الصور.
المهم أنهم يخافون أن يتفاقم الأمر، وتنتهي الحرب إلى حيث لا يتوقعون.
بمقابل ذلك يقول بعض الباحثين والمراقبين المسلمون: إننا نرجو أن يكون هذا بداية للوعد النبوي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، حينما تكلم عن دخول المسلمين إلى روما، فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي المدينتين تتفتح أولاً قسطنطينية أم رومية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم {مدينة هرقل تفتح أولاً} ومدينة هرقل هي القسطنطينية، وقد فتحت في القرن الثامن، ثم عادت القسطنطينية اليوم تحكمها العلمانية، والغريب في الأمر أن المسلمين رجعوا أدراجهم على بعد أميال من روما، ولو تمكن المسلمون وانتصروا في بلاط الشهداء لدخلوا روما، ولكن قيل لهم: ارجعوا فقد كتب الله لكم أن تذهبوا إلى هناك وتفتحون القسطنطينية ثم بعد ذلك تعودوا لتفتحوا روما، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الترتيب النبوي لا يمكن أن يتأخر؛ لأن الحديث صحيح.
فبناءً عليه: المسلمون ينتظرون فتح روما، وفتح روما لن يتم في مثل الظروف الحالية، إنما يكون وسط قوة للمسلمين وتمكين لهم، وسيتم وسط اضطراب عالمي، أو تأخر للقوة والحضارة التي يملكونها الآن، ولا مانع أن نتصور أن بداية المواجهة ولو بعد عشر أو عشرين أو خمسين سنة ستكون نهايتها دخول مسلمين فاتحين إلى أرض روما وإلى أرض أوروبا التي تتوجس منهم خيفة، ونقول: حق لها أن تخاف منهم؛ فإن هذا هو الأمل الذي يحلمون.
وعلى رغم تلك الضربات القوية؛ فإنهم لا يزالون يناضلون ويصابرون وينتظرون وعد الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] إذاً هذه بعض أبعاد الحرب، ونسأل الله تعالى أن يكون ذلك كله فلكاً يدار لصالح الإسلام.(232/17)
موقف الإسلام
ننتقل بعد ذلك إلى موقف الإسلام.(232/18)
موقف الدول الإسلامية
أما موقف الحكومات الإسلامية فقد نددت وشجبت واستنكرت وعقدت الاجتماعات والمؤتمرات، وطالبت مجلس الأمن أن يتخذ موقفاً، وضغطت عليه وأصدرت البيان بذلك، ثم قامت بعض الدول الإسلامية بإرسال المعونات الإنسانية على استحياء إلى المسلمين في أرض البوسنة والهرسك، وهذه المعونات منها ما وصل إلى المسلمين فعلا، ومنها ما ضل طريقه كما سمعتم.
وقد يكون هذا الموقف طبيعياً؛ لأننا نعرف أن الدول الإسلامية هي أعجز من أن تستطيع أن تتخذ موقفاً صحيحاً في قضية مثل هذه القضية، وهي لا تستطيع أن تتخذ موقفاً عن رأي الغرب ومشورة الغرب وموافقة الغرب ومظلة الأمم المتحدة، التي هي الحكومة العالمية المتوجة.(232/19)
موقف الشعوب الإسلامية
ولكن ننتقل إلى الشعوب الإسلامية: هناك أولاً: أعداد ليست بالقليلة من الشباب المسلم هَبَّتْ للنفير وذهبت تجاهد هناك، والقوات المسلمة الخاصة -التي كُونت حديثاً- قوات مسلمة تزيد على خمسة آلاف، يشترطون فيمن ينتمي إليها أن يكون محافظاً على الصلوات، وأن يكون متجنباً للمحرمات، وبعضهم أشترط حتى ألا يكون مدخناً، وتقام فيها أحكام الإسلام بصورة جيدة، وغالب القادة فيها من خريجي الجامعات الإسلامية، ومن أصحاب العقائد السليمة الصحيحة بحمد الله تعالى.
وقد حققت هذه القوات تقدماً طيباً، وانضم إليها أعداد من القوات الحكومية العامة، وحتى بعض الذين لم ينضموا إليها هم معها في الحقيقة، وهناك مجموعة من القادة لهم تأثير كبير.
وأضرب لك مثلاً بـ أبي عبد العزيز الذي تصوره الصحف الغربية -كما تصور- بطلاً من أبطال الأساطير، وقد تحدثت عنه، وكيف أنه يقيم هناك، وهو أب لتسعة أطفال، هو من هذه البلاد من الحجاز، ربما كان بعد الأربعين من عمره، تتحدث عنه كيف كسب مودتهم ومحبتهم وأثَّر فيهم، وعلى رغم مهماته في القتال والجهاد وبطولاته، إلا أنه يجد وقتاً لتعليم أطفال البوسنة القرآن الكريم، وتدريبهم وتربيتهم على الإسلام، وإذا مضى بسيارته اللاندروفر على الشارع، خرج الرجال والنساء والأطفال على الأبواب والشبابيك والأسطح، يلوحون له ويشيرون إليه وينظرون إليه ويحبونه ويفدونه بأنفسهم.
فهذا الوصف الأسطوري لهذا الرجل وأعداد كبيرة من الشباب المقيمين هناك هو جانب من الوعي الشعبي الإسلامي المتنامي في كل بلاد، والكثيرون الكثيرون يتساءلون عن إمكانية الذهاب، لكن من المؤسف أن هناك صعوبات لعل من آخرها صعوبة عدم إمكانية النزول في مطار كرواتيا، ومن ثم المسير إلى أرض البوسنة والهرسك، فضلاً عن صعوبات أخرى لا مجال للحديث عنها، وهؤلاء الإخوة المجاهدون لا شك أن لهم دوراً كبيراً في رفع معنوية المسلمين، وإشعارهم بأن الأمة الإسلامية تقف إلى جوارهم، وبالمقابل لهم دور كبير في المعارك، يحقق انتصارات طيبة ومكاسب كبيرة.
ولم يكن في الوقت متسع لأذكر شيئاً منها، لكن يكفي أن تعلموا أن المسلمين حرروا مواقع كبيرة واستطاعوا أن يحرروا طرقاً عديدة للإمدادات، واستطاعوا أن يقطعوا بعض طرق الإمدادات الصربية، واستطاعوا أن يأسروا على ما يزيد عن خمسة آلاف صربي، وضربوا بعض المطارات، وهناك بعض النجاحات التي لا نريد أن نبالغ فيها، ولكن نريد أن نذكرها حتى تعتدل الصورة.
ولا نستمر في التشاؤم، فهذا جانب، والغرب يركز على هذه الأقلية المسلمة، ويتكلم عنها بشكل صريح، وأجريت معهم مقابلات في الصحف الغربية باعتبار أنهم خطر أصولي يهدد أوروبا، وأن هذا يؤكد فعلاً أن الرئيس البسنوي المسلم يسعى إلى إقامة دولة إسلامية أصولية كما يقولون ويعبرون، ولو أن المسلمين كانوا أقوى وأشجع وأفضل وأسرع لاستطاعوا أن يغيروا مجري الأحداث، وأن يجعلوا الغرب يتدخل لصالح المسلمين ليقطع الطريق على تنامي المد الإسلامي، وكثرة المسلمين الذين يأتون إلى هناك.
نموذج أو مثال آخر: قضية التبرعات؛ فإن الأمة الإسلامية فيها خير كثير، وهذه الأموال التي أصبحت نهراً يجري إلى البوسنة والهرسك آية صدق على ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة دليلاً على صدق الإيمان حيث قال: {والصدقة برهان} فالمسلمون اليوم يبذلون أموالهم، وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة يبذلون الملايين وعشرات الملايين {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] .
أقول لكم هذا النموذج الذي هو من آخر ما قرأت، قرأته هذا اليوم: أن شاباً مسلماً من أبو ظبي لم يجد ما ينفق ولا ما يتبرع به، فذهب إلى مكان التبرع بالدم، وهم إذا تبرع الإنسان بالدم يعطونه مقابل ذلك مائتي درهم، فتبرع ببعض دمه من أجل أن يأخذ مائتي درهم، ليقوم بتسليمها بعد ذلك إلى اللجنة المشتركة لاستقبال التبرعات إلى البوسنة والهرسك!! أمة فيها مثل هؤلاء الذين يتبرعون بدمائهم إذا عجز عن إراقة دمه في ميدان المعارك، فعلى الأقل يتبرع بشيء منه ويأخذ مقابله ليدفعه إلى المسلمين، هذا نموذج، والأموال بحمد الله تذهب إلى هناك بشكل جيد، وهناك إغاثة ومساعدات إنسانية، بل هناك توصيل ما يحتاجه المسلمون من آلات الحرب وعدتها بشكل لا بأس به، وهناك تعاطف معنوي كبير من المسلمين مع البوسنويين.
ويظهر هذا التعاطف معهم في الحديث عن قضيتهم وفي تناولها، وعلى الأقل التوجع على ما يصيبهم، وفي الدعوات الصادقة التي قد تصادف باباً مفتوحاً، وما يدريك أن ينصر المسلمون بدعوة صادقة، كما قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {أبغوني ضعفاءكم، هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم واستنصارهم؟!} وأنا قلت أكثر من مرة أمة قوامها ألف مليون إنسان ليس فيهم واحد لو أقسم على الله لأبره؟! ولو سأل الله تعالى لأعطاه؟! لا بد أن فيها ذلك، ولو أننا حشدنا الناس بالدعاء الصادق والابتهال إلى الله والإلحاح في المسألة، لوجدنا في ذلك خيراً كثيراً ولا تقول: لعل الله فقط ينصر المسلمين، ادع الله أن ينصر الإسلام في كل مكان، وأن تكون هذه الشرارة التي أوقدها الكفار سبيلاً إلى نار تحرقهم عن آخرهم، وأن تكون فاتحة نصر وخير وعز للإسلام والمسلمين.
يبقي السؤال في هذا ما السبب في أن هذا التعاطف الإسلامي لم يكن على مستوى الأحداث، ولم يصل إلى حد تحقيق نصر واضح؟! فأقول: السبب الرئيس هو أن العالم الإسلامي اليوم عالم يعتبر تابعاً للعالم الغربي، وقد عادت إليه عصور الوصاية والاستعمار بشكل أو بآخر، فأصبح الغرب يتصرف كما لو كان مهيمناً على الأرض كلها، خاصة بعد سقوط قوة روسيا، ولذلك نحن ننتظر ونتربص أن تنكفئ أمريكا على ذاتها؛ فإن أمريكا الآن تمد ذراعيها في العالم كله وتتدخل في كل حقير وشريف.
تدخلت في السودان وقالت لحكومة السودان: لماذا تمدون باللحم إلى العراق وشعبكم جائع محتاج؟ مع أن اللحم الذي بعثوا به كان نتيجة صفقة متفق عليها حتى مع الأمم المتحدة نفسها فما دخلهم في هذا؟ وتدخلت في أفغانستان، وقالت علانيةً: إننا لن نسمح بوصول حكمتيار إلى الحكم وسنسعى بكل وسيلة إلى منع وصوله، وإلى منع أن يقوم هو بإفشال ما نسميه بالعملية السياسية، وتدخلت في أمور داخلية خاصة بل هي تخطط لأبعد من ذلك!! ولهذا أود أن أقول لكم أن هناك الآن اتجاهاً قوياً داخل أمريكا ذاتها، وهو يتنامى ويزداد أنه لا شأن لنا بالعالم الخارجي، ينبغي أن نهتم بدولتنا ذاتها -بأمريكا نفسها- بمشاكلها الاقتصادية والسياسية والعرقية والاجتماعية والجرائم والقضايا الأخلاقية وغير ذلك، وعلينا أن نخفض ونقلل من تدخلنا ومشاركتنا ومساعداتنا للعالم، وهذا لا شك سوف يقلل من هيمنة أمريكا على العالم، وتسلطها وتدخلها بالقرارات، وبالتالي سوف يعطي الأمم الإسلامية فرصة أكبر أن تثبت وجودها، وأن تحقق إسلامها على كافة المستويات، سياسيها واجتماعيها واقتصاديها، وأن تحقق معنى الإخاء الإسلامي في مناصرة المسلمين في كل مكان.
وهذا تقرير عن هذا الموضوع -وهو موضوع انكفاء أمريكا على ذاتها لا يتسع المجال لقراءته.(232/20)
البشائر
بقي -أيضاً- الموضوع الأخير وهو: موضوع البشائر، وفيه ورقة أو تقرير كبير، وخلاصة البشائر أن هناك: أولاً: الجهاد الإسلامي الذي ظهر في أرض البوسنة والهرسك وتقدم الإشارة إلى شيء منه.
ثانياً: أن هناك توجهاً إسلامياً من قبل المسلمين، وإقبالاً على العلم الشرعي، ومن قبل النساء على الحجاب، ومن قبل الرجال على صلاة الجماعة، وعلى ترك الخمور، وعلى فصل الرجال عن النساء، وعلى تعلم القرآن، وهناك مدارس بالعشرات بل بالمئات قامت الآن بتحفيظ القرآن وتعليمه للأطفال والرجال والنساء، وهناك قامت صحوة إسلامية قوية.
وهناك شعور من المسلمين البوسنويين بالتعاطف مع المسلمين الذين نصروهم وآزروهم، وبالمقابل شعور قوي بالبراءة من المشركين والنصارى الصرب وكروات، الذين كانوا هم السبب في هذه الأزمة والمصيبة التي حَلَّتْ بهم، إضافةً إلى مكاسب أخرى حققها المسلمون على الصعيد العسكري وانتصارات كبيرة.
أنا أدعو الإخوة إلى ألا يملوا من طرح هذا الموضوع، وجمع التبرعات للمسلمين والحرص والدأب، وأقول: إن التبرعات تبلغ محلها إن شاء الله متى ما أرسلت عبر الطرق المضمونة والمأمونة، وتساهم مساهمة كبيرة في رفع الحرج والعناء عن المسلمين.(232/21)
الأسئلة(232/22)
وعد الله بنصر هذا الدين
السؤال
يقول كيف نتعامل مع الأخبار التي تُخدِّر مشاعر المسلمين بتأجيل الحل حتى يُقضى على بقية المسلمين في تلك البلاد؟
الجواب
ينبغي أن ندرك أولاً: أن الله سبحانه وتعالى ناصر دينه ومعلٍ كلمته {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] والله تعالى كما قال {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] وما وعد به الله ورسوله كائن لا محالة، فينبغي أن نعلم {أن الله لن يترك بيت مدر ولا حجر إلا أدخله الله تعالى الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر} كما قال عليه الصلاة والسلام {وأن الله لا يزال يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته} كما روى ابن حبان وابن ماجة وغيرهم بسند رجالهم ثقات.
فينبغي أن نعلم أن الإسلام قادم وأن النصر قادم، ومهما وجد من العقبات فعلينا أن نسعى في تبديلها وإزالتها.
أحِبَّائي إنَّ النَّصر لا بد قادمٌ وإني بنصر الله أول واثق سنصدع هذا الليل يوماً ونلتقي مع الفجر يمحو كل داجٍ وغاسق ونمضي على الأيام عزماً مسدداً ونبلغ ما نرجوه رغم العوائق فيعلوا بنا حقٌ علونا بفضله على باطل رغم الظواهر زاهق ونصنع بالإسلام دنيا كريمةً وننشر نور الله في كل خافق اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم انصر إخواننا في البوسنة والهرسك يا أرحم الراحمين، يا خير الناصرين، إنك على كل شئ قدير، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أيدهم بتأييدك، وانصرهم، وسدِّدْهم، وسدَّد آراءهم يا حي يا قيوم، ويسر لهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم اخذل أعداءهم يا حي يا قيوم، اللهم أنزل على أعدائهم بأسك وعذابك، إنك على كل شيء قدير، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.(232/23)
الذهاب للجهاد في البوسنة
السؤال
يقول ما هي أخبار المجاهدين العرب؟ وهل تنصح من له القدرة على الجهاد الذهاب إلى هناك؟
الجواب
في الواقع أخبار المجاهدين أشرت إلى شيء منها، أما الذهاب فلا بأس أن يذهب بعض الشباب القادرين أصحاب الخبرة والقدرة والإمكانية، على الأقل يذهبوا لتعليم الإسلام والدعوة إلى الله عز وجل وتعليمهم التعليم الصحيح، وتعليمهم القرآن الكريم، وتربيتهم على الإسلام، فهذا من أعظم الأمور؛ بل ومن أهم أسباب النصر، التي يتذرعون بها في الانتصار على عدوهم وأقول: (رُبَّ ضارة نافعة) .
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج وهناك صعوبات بالذهاب، لكن على الإنسان ألا يذهب إلا بعد أن يكون لديه خبرة بالطرق والوسائل، فإنه يعود من مطار زغرب العديد من الشباب من الخليج والبلاد العربية يعودون على أعقابهم، ولا تسمح لهم السلطات بمواصلة المسير إلى داخل البلاد.(232/24)
الدعوة في البوسنة
السؤال
يقول ما رأيك بمن يقول: إن الجهاد هناك ليس بجهاد؛ لأن المسلمين ليسوا على عقيدة صحيحة عموماً؟
الجواب
نعم.
المسلمون هناك مر بهم زمان طويل تحت الشيوعية، ثم بعد الشيوعية ما أُعْطوُا فرصةً حتى قامت هذه الحرب، ولكن من الواضح جداً أن الشعب البسنوي يملك استعداداً كبيراً لتقبل الإسلام، وليس عنده تعصب على مذهب معين، ولا من الطرق التي على الطرق الصوفية ولا لشيخ بعينه، ولديهم استعداد لتقبل الحق.
وأكثر ما يعرقل الداعية هو وجود بعض الشهوات، ولا شك أن دفع فتن الشهوات أسهل من دفع فتن الشبهات، والذين ذهبوا هناك كما وصلت إليَّ عشرات التقارير كلهم يؤكدون التجاوب الكبير والاستعداد لتقبل الحق والتأثر بالداعية، بل إن بعضهم أحياناً إذا كانوا لا يعرفون اللغة ولا يستطيعون أن يتفاهموا معهم، يمسكون بالعرب والمسلمين القادمين، ويكتفون بمجرد البكاء والصياح تعبيراً عن عواطفهم الجياشة تجاههم، بل إنه يصل بهم الحال إلى أشياء يتعجب منها الإنسان في تقدير العرب والمسلمين ومحبتهم والسماع منهم.(232/25)
الإسلام والحزبية
تحدث الشيخ كمقدمة عن أفغانستان والفتوح فيها، ثم تكلم عن أهمية الموضوع، وأمر الله بالعدل والحق في الأقوال والأعمال والأحكام وأن هذا من أسباب اجتماع الكلمة، ثم تكلم عن عدم المحاباة وأن يكون القصد هو النصيحة لا التشويه وذكر الحسنات والسيئات، ثم ذكر أن هناك حزبين لا ثالث لهما: حزب الله، وحزب الشيطان.
وبيَّن أنواع الاختلاف وتكلم عن اختلاف التنوع، وعن الولاء والبراء مع الخاصة وغيرهم، وأن يكون عقد الموالاة قائماً على أساس الدين والإيمان والتقوى، ثم وضح بعض الأمور التي يجب مراعاتها في اختلاف التنوع، ثم ذكر بعض الإيجابيات والسلبيات للجماعات الإسلامية وأنه يجب تبنى الدعوة إلى تقارب المسلمين، وأن العلماء والدعاة المشهورين يجب أن يسعوا إلى ذلك.
وتكلم عن حكم التآخي في الزمان.(233/1)
أحداث من أفغانستان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونتوب إليه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم على نبيك وعبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأحبة هذا الدرس السابع والخمسون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين الخامس والعشرين من شهر شوال من سنة (1412هـ) وعنوان هذا الدرس -كما سبق وأن أعلنا بالأمس - (الإسلام والحزبية) ولكنني سوف أقتطع من وقت هذا الدرس دقائق لأفغانستان نظراً للأحداث الجديدة التي وقعت فيها.
هناك خطاب بالفاكس من بيشاور عنوانه: (الله أكبر سقطت كابول) ويتكلم عن سقوط هذه المدينة، ودخول المجاهدين لها فاتحين، وأنهم بقيادة المهندس حكمتيار قد سيطروا على معظم أنحاء المدينة، فسيطروا على وزارة الداخلية والخارجية، ثم مشوا إلى القصر الجمهوري، وسيطروا على عدد من مساكن الجنود، ومواقع العسكر، وأن أهل المدينة خرجوا مهللين مكبرين بهذا النصر المبين، ولم يبق إلا مقاومة حول مطار كابول كانت بالأمس، وأرجو أن تكون قد انتهت بالفعل -إن شاء الله تعالى -.
ومما وصلني -أيضاً- في هذا أن رئيس الحزب الإسلامي، رفض ما عرضته الأمم المتحدة، أو شاركت فيه من اتفاق وقال: إننا لن نأخذ كابول إلا بالسيف، ولن نعطي الدنية في ديننا وكان الهجوم على كابول، وتقدمت الدبابات إلى داخل المدينة، وبعد صلاة الظهر أعلن عن شدة المعركة مع المليشيات الملحدة، ثم أعلن بعد قليل أنه حرر وسيطر على المواقع التي أسلفت، وفي العصر أعلن عن احتلال القصر الجمهوري، وأنه يحاصر الفيلق المركزي، وقد نقلت منه رسالة مسموعة وهو يوجه أحد قادته الميدانيين بأن يهدد هذا الفيلق، إما أن يستسلم، أو يهاجمه المجاهدون، وفي تمام الساعة السابعة والنصف من أمس صرح للصحافة عبر جهاز اللاسلكي عن تحرير كابول من الشيوعية، وقال: الآن وصل الجهاد إلى نتيجته المنطقية، ولن نرضى بالحلول السلمية، ولا الدنية، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
هناك مقاومة من بعض المليشيات في المطار وحول المطار في حدود ثلاثة كيلو مترات، وقد حاصرهم المجاهدون، وطلبوا منهم الاستسلام، وإلا فالدبابات ستتقدم باتجاههم، وستصبح دماؤهم هدراً، وهناك مظاهرات شديدة في كابول تطالب المسلمين المجاهدين بطرد المليشيات من كابول؛ لأنهم استحلوا البلد بالسرقة والنهب، هذا من جانب، وبذلك تكون أفغانستان كلها في قبضة المسلمين المجاهدين: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5-6] فنصر الله أولئك المؤمنين المستضعفين العزل من السلاح، ومكن لهم في الأرض.(233/2)
تشكيل حكومة مشتركة من المجاهدين
بقيت القضية الأخرى وهي العقدة التي يتمنى المسلمون أن يسمعوا لها حلاً، وهي مسألة تشكيل حكومة مشتركة من المجاهدين، تطمئن قلوب المؤمنين، إلى أنه لن يقع هناك اختلاف فأقول: أولاً: حسب المعلومات التي وصلتني وهي كثيرة، فحتى الآن بحمد الله لم ترق قطرة دم واحدة بين المجاهدين، وهذا يبشر بخير كثير، وأما ما تذيعه الإذاعات كإذاعة لندن، أو تنشره الصحف كصوت الكويت، بل وبعض الصحف السعودية مع الأسف، فهو لا يعدو أن يكون تهويشاً، أو توقعاً، أو احتمالاً، أو على أحسن الأحوال خطأ من بعض المراسلين، فينبغي أن نتفطن لذلك، وقد وصلت أخبار أن الفرحة عمت في جميع أفغانستان، بل وفي بيشاور حيث تسمع أصوات الطلقات، وأصوات التهليل والتكبير من المجاهدين، ومن المتعاطفين معهم الذين طال ظمؤهم واشتياقهم إلى نصر الله تعالى للمؤمنين.
ثانياً: تم الاتفاق المبدئي على عدد من القضايا بين المجاهدين كلهم.
ومن القضايا التي تم الاتفاق عليها: أنهم اتفقوا على تشكيل مجلس يكون هو أعلى سلطة في البلاد، ويكون برآسة البرفيسور برهان الدين رباني، وقد وافق قادة المجاهدين المجتمعون في بيشاور على هذا التشكيل، وأرسلوا به إلى حكمتيار فوافق، وقد جاءتني رسالة من الحزب الإسلامي تدل على موافقتهم أيضاً على ذلك.
ثالثاً: وافق المجاهدون -أيضاً- على رئاسة الحكومة (رئاسة الوزراء) وأنها تكون للحزب الإسلامي الذي يقوده المهندس حكمتيار، ثم هناك تحديد الوزارات، وبعض المجالس، لم يتم الاتفاق عليها.
أما فيما يتعلق بالمجلس الذي سمي مجلس شورى، وكلف بنقل السلطة مؤقتاً من الشيوعيين، إلى المجاهدين، فقد أعلن حكمتيار أنه لم يعد لهذا المجلس مكان، حيث تم استلام السلطة في كابول، وعادت وآلت إلى المجاهدين، وكانوا أحق بها وأهلها، وهذا يدل على أنه لا يزال هناك اختلاف حول بعض التشكيلات التي لابد منها، ولابد من الإسراع فيها حتى لا يوجد فراغ دستوري في البلاد، قد يستغله بعض ضعفاء النفوس، وقد ينجم عنه بعض المشاكل، وبعض الاختلافات، ونسأل الله تعالى أن لا يكون ذلك.
لازلنا نتربص وننتظر أن يعلن المجاهدون وحدتهم، وأن يعلنوا حكومة مشتركة من المجاهدين الصادقين من أهل السنة والجماعة، تقوم بحفظ وإدارة تلك البلاد، ونرجو ونسأل الله تعالى أن يتم ذلك عن قريب.
وصلتني عدد من القصائد التي تشارك في هذه المناسبة العظيمة الكبيرة، تزيد على السبع قصائد، وحقاً كل القصائد التي وصلتني جميلة، وكنت أتمنى أن أشرك إخواني فيها أو في بعضها، لكن أكتفي بقصيدة واحدة بناء على طلب من أبي عبد الرحمن جزاه الله خيراً، وهي للأستاذ سليمان الأحمد بعنوان (كابول النصر) يقول فيها: الله أكبر تعلو كل مغتصب وراية الحق أفنت راية النصب هل يستوي في عيون الناس منزلة سيف من التبر أم سيف من الخشب حييت يا كابل الإسلام مشرقة قد ذقت في الأسر ألواناً من النصب قد صال فيها أسود الحق فانقشعت عن وجهها غمة الإلحاد والعطب واليوم أنت لبست حلية صبغت بآية النصر بعد الكد والتعب نصر من الله من بعد الجهاد أتى وهكذا النصر لا بالذل والطرب كم طفلة حجبت عن عطف والدها قد مسها الضر أتباعاً من الحقب وَرُبَ طفلٍ له من أمه سبب قام الطغاة بقطع الأم والسبب وزوجة قادها من سام كافلها تبدي البكاء على أولادها النُجُب ورب محصنة قد عذبت علناً حتى تخلت عن الأخلاق والأدب حتى البهائم نالت حظها سقماً وهكذا الظلم يكوي الناس باللهب لما تواصلت الأحزان واحتكمت تفرجت أمة محمودة النسب جنى الجهاد ثمار النصر في زمن كاد القنوط يحيي كل مرتقب يا أمة الحق إن العز مرتبط مع الجهاد وذل الناس في الخطب ففي حمى كابل ظل العدو بها حيناً من الدهر بين العرض والطلب أتت عليها المساعي كي تخلصها فحمّلتها من الضوضاء والشغب حتى تولى رجال الحق نصرتها فحاصروها ونادوا كل محتسب فعمها العدل في أسمى مظاهره وعانق الحق فيها شاهق السحب وإذا جد شيء جديد في هذا الموضوع فأرجو أن تكون الأبواب والفرص مفتوحة، لمواصلتكم به بإذن الله تعالى لأن هذه القضية هي قضية المسلمين جميعاً.(233/3)
أهمية موضوع الإسلام والحزبية
فيما يتعلق بموضوعنا، فقد طلب مني أن أغير الموضوع، وأن أتحدث عن بعض القضايا التي تهم المسلمين، كما جدّ في قضية أفغانستان، أو قضية المسلمين في يوغسلافيا، أو غيرها من القضايا، ولكنني رأيت أن من المهم أن أتحدث عن هذا الموضوع (الإسلام والحزبية) لأسباب: أولاً: لأن الموضوع أُجل مرة، فلا أريد أن يؤجل مرة أخرى.
وثانياً: لأننا نريد أن نتدرب على أن لا نستغرق كثيراً في متابعة الأحداث، ونغفل أو ننشغل عن تأصيل بعض القضايا التي يحتاجها المسلمون، فللأحداث ميدان ومجال، وينبغي أن نكون على صلة بها أولاً بأول، وأن نعرض فيها تصورات إسلامية سليمة ناضجة، ولكن هذا لا ينبغي أن يشغلنا عن بعض الموضوعات العلمية، أو الدعوية، أو العملية، التي يحتاجها المسلمون من قبل، والتي تحتاج إلى نظر وإلى تأصيل.(233/4)
أسباب اجتماع المسلمين
إن هذا الموضوع حين نعالجه، إنما نعالجه لأنه أحد الموضوعات الكبيرة في الساحة الإسلامية، وهو بأمس الحاجة إلى المعالجة الهادئة والحكيمة والعادلة، التي تجتمع عليها القلوب.(233/5)
قول الحق والعدل
فإن الله تعالى أمرنا أن نقول الحق والعدل كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] وفي آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] ويأمرنا الله تعالى أن نلتزم بالعدل، فيقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15] ويقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] والعدل في كل شيء، لكنه في القول بصفة خاصة من أهم الأمور قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] وذكر عز وجل أن من قوم موسى كما قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159] ليسوا من قوم موسى فحسب، بل من كل الأمم، وهذه الأمة فيها من يهدون بالحق وبه يعدلون، قال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] فهم باقون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إذن من أسباب اجتماع الكلمة بين المسلمين، وتقارب قلوبهم، وزوال الخلاف فيما بينهم: العدل في الأقوال والأحكام.
ومن أسباب التشتت، والتفرق، وتنافر القلوب، وتزكية نيران البغضاء، والحقد والضغينة: الجور والظلم في الأقوال والأعمال والأحكام قال الله عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] أي: من أعظم وسائل الشيطان في النزغ: القول: فإذا كان القول ليس من القول الحسن؛ بل هو من القول غير الحسن، كان ذريعة إلى تسلل الشيطان إلى القلوب، والنزغ بينها، وإيجاد ألوان من العداوة، والبغضاء بين المؤمنين، بل ربما بين خاصة المؤمنين: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] .
الله تعالى ينصر ويحفظ من يقول الحق والعدل لوجه الله تعالى، فلا يقول الظلم والجور والباطل، ولا يكون قوله، أو عمله رياءً أو سمعة، بل يقول الحق، وبنية خالصة، وقصد حسن، فإن الله تعالى ينصره، ويحميه، ويبلغه ما يريد، إذا لم يقصد بذلك علواً في الأرض ولا فسادا، ولا محاباة لأحد، لا لرغبة ولا لرهبة، ولا لقرب ولا لبعد، ولا لصداقة ولا لعداوة، وإنني أرجو الله تعالى أن نكون جميعاً من المجتهدين في البحث عن الحق الذي يحبه الله تعالى ورسوله، وأن نكون من المجتهدين في القول به والدعوة إليه.
وإن كان الإنسان قد يخطئ في اجتهاده بسبب قلة علمه، أو قصور فهمه، أو بسبب ظلمة قلبه، وما يقع في القلب بسبب المعاصي والذنوب، ويحول بينها وبين إدراك مقصود الشارع، لكن المهم ألا يقول الإنسان الباطل، وأن يكون قوله للحق، أو لما يعتقد أنه هو الحق لوجه الله تعالى، لا يحابي في ذلك أحداً، ولا يخاف من أحد، من قوله ولا من فعله، فإن هذا من أسباب الوحدة بين المسلمين.(233/6)
التزام الأخلاق الإسلامية في مواطن الجدال والافتراق
ومن أسباب اجتماع الكلمة وطرد الشيطان ووساوسه: أن يلتزم الإنسان بالأخلاق الإسلامية العظيمة في مواطن الجدل، وفي مواطن الافتراق، والكلام في هذا الخلق أمر يطول، لكن أقتصر على نموذج واحد مما يحدد الميزان لذلك، وهو ما جاء في صحيح مسلم في كتاب الأمارة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: {كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فمنا من ينتظر، ومن هو في جشرة، ومن يصلح خباءه، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فقام النبي صلى الله عليه وسلم وخطبهم، وقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يأمر أمته بخير ما يعلمه لهم، ويحذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تكرهونها، فمن أراد أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليهم إلخ} الشاهد قوله {وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه} فمن منا يحب أن يسب، ومن منا يحب أن يشتم، أو يكذب عليه في قول أو فعل، ومن منا يحب أن ينسب إليه السوء؟! قطعاً لا أحد.
وبالمقابل من منا لا يحب أن يُحفظ في عرضه، أو يُحسن إليه، أو يُثنى عليه بما فيه، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل يا رسول الله: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، فيحمده الناس عليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: تلك عاجل بشرى المؤمن} من منا الذي لا يريد البشرى؟ أن يبشر بالخير، ما دام أن ثناء الناس عليك بما فيك هو من عاجل البشرى.
إذاً ينبغي على الإنسان أن يأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليهم، فيعدل في قوله، وفي فعله، وفيما يأتي إليهم، ويضع نفسه في مكان أحدهم، وأيضاً ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز أبداً أن يكون المقصود بالكلام عن شخص معين، أو طائفة معينة، أو موضوع معين، ألا يكون المقصود هو إسقاط فلان أو علان، أو إسقاط هذه الجهة أو تلك، أو هذه الهيئة أو تلك، كلا.
بل المقصود: هو الوصول إلى الحق، وأنت ترى كثيراً ممن يكتبون الردود اليوم على العلماء وغيرهم، أنهم يردون في مسألة علمية، فيرد في تصحيح حديث -مثلاً- أو تضعيفه، أو تحسينه، وهذا مقبول، فلا مانع أن يرد إنسان على آخر في تصحيح حديث، ويستدرك عليه في هذا، لكن لا داعي أن يستغل أي زلة للتقليل من شأن هذا العالم، أو إثبات جهله، أو سوء نيته، أو غير ذلك، إن هذه الأمور غير سائغة، بل ينبغي أن تقول: هذا العالم اجتهد، لكن في المسألة الفلانية قد يكون أخطأ، أو أخطأ فعلاً، والدليل هو ما يأتي، وهذا ما أدى إليه اجتهاده، أما الكلام الزائد في أن هذا الإنسان يتبع الهوى، وأن هذا الإنسان فيه وفيه، وأنه جاهل، وأنه لا يعرف، إلى غير ذلك، فهذا يدل على أنه لم يكن المقصود هو الرد العلمي، ولا المناقشة الهادئة، وإنما كان المقصود: هو إسقاط فلان، أو هذه الجهة أو تلك، والله تعالى لا يصلح عمل المفسدين.
إذاً ليس من الصواب أن أحارب هذا العالم أو ذاك، وكأنني أقدم نفسي للناس بديلاً عنه، لا.
بل الميدان يسع الجميع، ويحتاج إلى مزيد من جهود المخلصين، وإذا كان عندك نوع من العلم، فقد يكون عند خصمك أنواع من العلوم وكما قيل: جاء شقيق عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح(233/7)
النصيحة
والنصيحة من دين الإسلام، يقول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91] وفي الصحيحين من حديث تميم بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة.
قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم} وفي الصحيحين -أيضاً- من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: {بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، قال: فورب هذا البيت (يعني المسجد أو الكعبة) إني لناصح لكم} .
فحلف بالله تعالى على صدقه ونصيحته، وهذا يجرئني أن أقول لمن يستمع إلى هذه الكلمة، ورب هذا البيت إني لناصح في هذه الكلمة، وإنني لا أقصد من ورائها إلا الحق، وإلا الوصول إلى الحق، لا أعلم من نفسي -إن شاء الله تعالى- إلا هذا، فما كان فيها من صواب فمن الله تعالى وله الحمد والمن والفضل، وما كان فيها من خطأ فمني ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله منه بريئان، وإني أستغفر الله تعالى من كل خطأ أو زلل أو تقصير.(233/8)
أدلة النصيحة
النصيحة لها أدلة منها: اللين في القول، خاصة لغير المعاند، فلا داعي للشدة في الأقوال، ما دام أن اللين يقوم مقامه، والله تعالى بعث موسى وهارون إلى أكفر الناس وهو فرعون وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] .
وجاء رجل لـ هارون الرشيد فقال: إني سوف أنصحك وأغلظ لك في القول، فقال: لا.
لا أقبل نصيحتك، قال: ولِمَ؟ قال: لأن الله تعالى قد بعث من هو خير منك، إلى من هو شر مني فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] .
ومن أدلة النصيحة -أيضاً-: حفظ الحسنات للمنصوح وعدم تجاهلها أو نسيانها، لأنه أسلم إلى القبول، فإنك إذا تذرعت إلى إنسان في النصيحة بذكر بعض ما فيه من الخير، وبعض ما له من الحسنات، وأثنيت عليه بذلك، ثم نبهته إلى ما قد يكون حصل منه من زلل، أو تقصير، فكأنك تقول له: أنت رجل فاضل، ولكن أكمِلْ خيرك وإحسانك السابق، بهذا الخير والإحسان اللاحق الذي آمرك وأنصحك به وأعرضه عليك.
ومن باب الأولى، حين يكون المنصوح مجموعة من الناس، فإن المجموعة أو الطائفة - سواء كانوا أهل بلد، أو طلاب شيخ، أو قوماً مجتمعين على أمر من الأمور- يكون بينهم رابطة تعطيهم قوة على ما هم فيه، ليست للفرد بذاته، وربما ينصر بعضهم بعضا، ويقوي بعضهم بعضا على ما هو فيه وعلى ما هو عليه، ويلتمس له من الحجج، ومن الذرائع، ومن المسوغات، ومن الأسباب، فيحتاجون إلى التلطف في النصيحة بما يبين لهم أن المقصود هو: تحصيل الكمال، وليس المقصود الحط من شأنهم، ولا التشنيع عليهم، ومع ذلك فإنه لا يعني هذا أن تكتفي بذكر المحاسن، والثناء المطلق، لما في ذلك من تخدير النفوس عن طلب الكمال، وإغرائها بالبقاء على ما هي عليه من ما قد يكون فيه بعض النقص.(233/9)
الناس حزبان لا ثالث لهما
وذلك بصريح القرآن الكريم أن الناس حزبان متمايزان.(233/10)
حزب الله
الحزب الأول: حزب الله، وبالنسبة لعدد المنتسبين لهذا الحزب، فإن نظرنا إلى المسجلين رسمياً في عضويته فإنهم يقاربون ألف مليون عضو وهم المسلمون، وإن نظرنا إلى من حققوا الانتساب إلى هذا الحزب في أنفسهم، وأموالهم، فإن هذا الرقم ينقص كثيراً، ولكن ليس هناك إحصائية لا دقيقة ولا غير دقيقة، عن عدد الأعضاء الحقيقيين لهذا الحزب ولكن: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] .
والانتساب لهذا الحزب الذي هو حزب الله، ليس انتساباً بالدعوى، كما نجد أن عدداً من الأحزاب اليوم تسمي نفسها حزب الله، كما نجد في بعض الأحزاب الشيعية، وحتى غير الشيعية، فإن الانتساب ليس بالدعوى، أن يقول الواحد: أنا من حزب الله، أو نحن المجموعة الفلانية حزب الله، لا.
القضية ليست دعوى، ولا باللون، ولا بالوطن أو عرق معين، كما يدعي فئة من الناس -مثلاً-، ادّعوا أنهم شعب الله المختار، ولا بأي أمر، إن الانتساب يكون بأمر واحد هو سعي الإنسان، سواء كان سعيه بعمل القلب، أو بعمل الجوارح، إما العقيدة الباطنة أو السلوك الظاهر هو المقياس الذي يثبت إن كان هذا الإنسان من حزب الله فعلاً، أو ليس من حزب الله، فمن التزم بعقائد وسلوكيات هذا الحزب فهو منهم، أياً كان ماضيه! وأياً كان تاريخه! وأياً كان لونه! وأياً كان عرقه! وأياً كان جنسه! ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [المائدة:69] بهذا الشرط {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69] إذن المقصود: هو الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات هذا هو الحزب الأول.(233/11)
حزب الشيطان
أما الحزب الثاني: فهم حزب الشيطان، وهم كل من سوى هؤلاء، فليس هناك وسط ومرحلة وسط، لا يصلح إنسان وسط بين الجنة والنار، إما أن يكون من حزب الله، وإما أن يكون من حزب الشيطان، لهذا ذكر الله عز وجل- الكافرين والمنافقين وقال: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19] ثم ذكر أولياء الله تعالى المؤمنين وقال: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] فيتفطن الإنسان إلى أن هذه الحزبية: هي رسم مرسوم على عنق كل إنسان لا مخلص له منها، إما من هذا، وإما من ذاك، إما من حزب الله المفلحين، وإما من حزب الشيطان الخاسرين.(233/12)
صفات كل حزب والعلاقة بينهما
وقد حكم الله عز وجل وحكمه نافذ لا محالة، أن هذا التفرق لا يمكن إزالته بحال من الأحوال، وأن مد الجسور بين هذا الحزب وذاك أمر مستحيل، فلا وفاق ولا انسجام، بل هي العداوة والبغضاء أبداً، إلا أن يتحول الإنسان من هذا الحزب إلى ذاك.
فمثلاً: المجموعة الأولى من الآيات القرآنية يقول الله تعالى فيها: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ويقول عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55] ويقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] فهذه المجموعة من الآيات تثبت أن الحزب المؤمن -حزب الله- يتناصرون فيما بينهم، بالولاية الإسلامية، والإخوة الإيمانية، فهم بعضهم أولياء بعض، وهم إخوة، وهم أولياء لله ورسوله، فهذه ترسم أخوة المؤمنين، وترسخها، وتعمقها.
المجموعة الثانية من الآيات: مثل قول الله عز وجل: {والْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] ومثل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] يعني بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، وكذلك اليهود أولياء للنصارى، والنصارى أولياء لليهود، خاصة إذا كانوا ضد المسلمين، فهذه المجموعة من الآيات تثبت الولاء والنصرة بين أولياء الشيطان، بين حزب الشيطان، وأن بعضهم ينصر بعضاً، ويؤاخي بعضاً، فجمهور المشركين متحالفون متناصرون فيما بينهم.
المجموعة الثالثة من الآيات: وهي التي تبين أن العلاقة بين هذا الحزب وذاك، علاقة حرب لا يهدأ لها أوار في مثل قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] لاحظ البراءة، ثم قال: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] لم يجعل الله تعالى بين هذين الحزبين إلا علاقة العداوة، والبغضاء، والحرب أبداً، حتى يؤمنوا بالله تعالى وحده، ومثله قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة:217] إذن هذه العداوة والبغضاء ليست من طرف واحد كما يتصور بعض الناس، لا من طرف المؤمنين ضد الكافرين، بل حتى الكافرون عندهم العداوة والبغضاء للمؤمنين في غالبهم، قد يوجد أفراد يخرجون عن هذه القاعدة، لكن القاعدة العامة، أن الكفار يبغضون المؤمنين، كما قال عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] هذا قرآن وكما قال عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فلو جلست مع اليهود على طاولة المفاوضات، ولو ذهبت معهم إلى مدريد، وإلى موسكو، وواشنطن، ولو آخيتهم، ولو فتحت لهم بلادك، ولو سخرت لهم اقتصادك، لن يرضوا عنك، وكذلك الحال بالنسبة للنصارى، لو أعطيتهم كل ما تملك، وأطعتهم في كل ما يريدون، لن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم كما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] في كل شيء: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:9] وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] .
إذاً، الكفار يعادون المؤمنين، والمؤمنون يعادون الكفار، وهذه القاعدة الكبرى يجب ترسيخها، وتقريرها، ودعمها بالأقوال، والأعمال، والكلام عنها والإفادة من كل حدث ومناسبة، في تعميقها في نفوس المؤمنين، وأيضاً يجب دفع ورفع كل ما يعارضها، فقوة الولاء بين المؤمنين -مثلاً- تكون بقوة الإيمان، فكلما زاد إيمان الإنسان كان أولى بالموالاة، وأولى بالمؤاخاة، وكلما نقص إيمانه نقص ولاؤه، حتى إن المسلم العاصي يُحَب بقدر ما فيه من الإسلام، ويُبغَض بقدر ما فيه من المعصية، يُحَب بقدر ما فيه من الخير، ويُبغَض بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في حقه ولاء وبراء، وحب وبغض، بخلاف المؤمن المتقي فإنه يكون له محض الولاء، ومحض الإخاء.(233/13)
الموالاة قائمة على أساس الدين
إن الأخوة بين المؤمنين والولاء، لا يجوز أن يكون بسبب البلد، فأحبك لأنك من بلدي، ولأنك من وطني، حباً زائداًً لا أحبه حتى لمن هو أقوى منك إيماناً، لأنه من بلد آخر، هذا لا يجوز أبداً، وكذلك لا يجوز أن يكون الحب -مثلاً- لأنك من قبيلتي، أو من عرقي، أحبك حباً زائداً ولو كان عندك معاصٍ وذنوب، وهذا الحب لا أمنحه لذلك الإنسان التقي النقي البر، لأنه ليس من القبيلة، أو ليس من العرق الذي أنتسب إليه، أو المذهب -مثلاً- قد تكون أنت على مذهب ورثته في بلدك، كالمذاهب الفقهية -مثلاً- أنت شافعي، أو حنفي، أو مالكي، أو حنبلي، فتجد أنه بسبب الاتفاق في المذهب؛ أنني أحب هذا الإنسان حباً شديداً، وأشعر بالثقة به والميل إليه، ثقة وميلاً وحباً لا أجدها في قلبي لإنسان آخر أعلم في قرارة نفسي أنه أنقى وأتقى لله عز وجل وأنفع للإسلام والمسلمين، وإنما حال بيني وبينه المذهب الفقهي، ومثله أيضاً: الطائفة أو الحزب الخاص، أو الجماعة، فتجد أنني قد أحب شخصاً لأنه من طائفتي، أو من جماعتي، أو من فئتي، حباً زائداً شديداً، مع ما أعلمه عنه من التقصير، أو من الوقوع في بعض المعاصي، أو من التفريط في حدود الله تعالى، هذا الحب وهذا الولاء وهذه النصرة التي منحتها له، لم أمنحها لشخص آخر أعلم أنا في قلبي أنه أتقى لله تعالى، وأطهر وأبر وأنفع للإسلام والمسلمين، لم أمنحها له لأنه ليس من طائفتي، أو ليس من حزبي، أو ليس من فئتي، أو من جماعتي، هذا مما ينقص من أصل الموالاة التي عقدها الله تعالى بين المؤمنين.
فعقد الموالاة قائم على أساس الدين، والإيمان، والتقوى، لا على أساس المسميات الخاصة، أو الانتسابات الخاصة، من بلد أو قبيلة، أو لون، أو طائفة، أو عرق، أو جماعة، أو مذهب، أو حزب، أو غير ذلك، فكل قوة في الولاء بغير الدين فهي ضعف، وكل زيادة في الولاء بغير الدين فهي نقص، ولهذا وضع الله تعالى تلك القاعدة بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
إذاً لا يكون ولاؤكم في الشعب، أو في القبيلة، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا في النسب، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا في المذهب، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا في الجماعة، أو الحزب، أو الطائفة، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: من أكرم الناس؟ فقال: {أكرم الناس أتقاهم قال: ليس عن هذا نسألك} إلى آخر الحديث، المهم الكرم: هو بالتقوى، والميزان: هو ميزان التقوى، ولا يجوز أبداً أن تحول الأسماء، والرايات، والمذاهب، دون هذه الأخوة، ودون هذا العقد الإلهي الرباني الذي أبرمه الله تعالى بين المؤمنين، لا يجوز أن يكون الولاء في الفئة هو فيما بينها دون بقية المؤمنين، وعلى سبيل المثال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان الأنصار هم أهل المدينة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:9] وكان المهاجرون كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8] هم فئتان من المؤمنين، لكل فئة اسم يميزها، وقد يكون بينهم من الاتصال أحياناً في التزاوج أو غيره ما ليس بينهم وبين غيرهم، ولكن هذا الانتساب هل كان يجعل المهاجري يحب المهاجري أكثر من الأنصاري، ولو كان الأنصاري أكثر إيماناً وأكثر تقوى؟ كلا.
بل كان هذا الانتساب يتضمن اتفاقاً على أن الرابطة هي رابطة الدين، ورابطة الإخاء، وعلى أن الولاء هو الولاء الإيماني، الذي لا تحول بينه هذه المسميات، ولهذا لما قال رجل من المهاجرين: يا للمهاجرين،.
وقال رجل من الأنصار: يا للأنصار.
غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال: {أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟} أي تدعون وتتنادون وتتناصرون وأنا بين أظهركم، مع أن الاسم اسم إسلامي، فالمهاجرون سماهم الله تعالى مهاجرين، وكذلك الأنصار اسمهم في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى في الأنصار: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة:117] وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق} إلى غير ذلك من النصوص، فهو اسم إسلامي شرعي، ومع ذلك لما حصل التناصر والتنادي والتوالي به دون الاسم الشرعي الذي هو الإسلام، غضب النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر ذلك أيما إنكار.
إن كل قوم مجتمعين على أمر من الأمور كاجتماع على دعوة، أو على طلب علم، أو على خير، أو على جهاد، أو ما شابه ذلك، ولو كان أصل الاجتماع محموداً، فإن هؤلاء القوم ربما يسري بينهم بحكم كثرة رؤية بعضهم لبعض، ومحادثة بعضهم لبعض، ومناقشة بعضهم لبعض، ومعرفة بعضهم لأحوال بعض، وما هم عليه من الخير والمحاسن والفضائل، وتشاكي بعضهم إلى بعض، قد يحصل بينهم نوع من الولاء الخاص الذي قد يتحول ويتطور إلى تناصر وتحالف وتحزب على غير الحق، فيحتاج إلى تيقض دائم وانتباه لا يفتر، وحذر لا يهدأ، والمعصوم من عصمه الله عز وجل.(233/14)
أقسام الاختلافات بين المسلمين
وهنا يدور سؤال آخر: إذا كان المؤمنون حزباً واحداً، وأمة واحدة، فلماذا فرقتهم المذاهب الفقهية، والعقدية، والدعوية، والمذاهب السلوكية، وغير ذلك؟ فأقول بإجمال: هذه الاختلافات القائمة بين المسلمين يمكن أن تقسم إلى قسمين:(233/15)
اختلاف تضاد
القسم الأول: اختلاف تضاد، يعني كل واحد من المختلفين، أو من المتفرقين ضد للآخر، وذلك كالأحزاب التي تقوم في كثير من الدول، ويرفع كل حزب منها راية مغايرة للأخرى، فأحد الأحزاب -مثلاً- يرفع راية علمانية، وحزب آخر يرفع راية اشتراكية، وحزب ثالث يرفع راية قومية عرقية، كالبربرية، أو العربية، أو الطورانية، أو ما سواها، وحزب رابع يرفع راية بدعية مخالفة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها إحداث في الدين بما لم يأذن به الله عز وجل، وخامس، وسادس، وهكذا.
وهذا التفرق لا شك أنه من التفرق المذموم، الذي نهى الله تعالى ورسوله عنه، كما قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] .
فذكر أن هذا من شأن المشركين التفرق في الدين وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] إلى غير ذلك من النصوص، وإذا كان هذا المذهب الباطل من اشتراكية، أو علمانية، أو شيوعية، أو بدعة باطلة، أو غير ذلك، إذا كان هذا المذهب محرماً في ذاته، أي أن اعتقاد الشخص الواحد له كان حراماً، أو انتسابه إليه، فما بالك إذا اجتمع قوم على هذا الحرام، فلا شك أن ذلك الأمر أعظم إثماً، بل هو محادة لله تعالى ولرسوله، فمن البديهيات أن الإسلام حق، وكل ما يخالفه فهو باطل، ولهذا قال الله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] هذا هو النوع الأول وهو اختلاف التضاد وهذا هو الذي فرق المسلمين، وشتتهم، ومزقهم شر ممزق، وأهدر جهودهم وطاقاتهم، وأشغلهم بأنفسهم عن عدوهم، وهو مما ينبغي أن يتنادى المخلصون، والغيورون، والدعاة، والمصلحون، إلى حربه، ومحاولة تخليص المسلمين من شره وعواقبه وبراثنه.(233/16)
اختلاف تنوع
النوع الثاني: هو اختلاف تنوع، بمعنى: أن تتناوب فئات من المسلمين وجماعات منهم وطوائف، القيام ببعض فروض الكفايات أو الواجبات، فتقوم فئة -مثلاً- بدعوة العامة من الناس إلى الحق، وإلى تعلم الدين، وإلى العمل به، وتقوم فئة أخرى ببناء المساجد، وتقوم فئة ثالثة بنشر العلوم، وتربية النشء على الكتاب والسنة، وتقوم فئة رابعة بكشف مخططات الأعداء، وتقوم فئة خامسة بمحاربة أهل البدع، وتقوم فئة سادسة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتقوم فئة سابعة بجمع التبرعات وإيصالها إلى مستحقيها من الفقراء، والمساكين، والمجاهدين وغيرهم وهكذا، أو تطرح فئة في بلد ما برنامجاً لإصلاح الأوضاع في البلاد، سواء من الناحية الاقتصادية، أم الزراعية، أم التعليمية، أم غيرها، وتطرح فئة ثانية اجتهاداً آخر مغاير لذلك، يكون فيه تحصيل بعض المصالح، لا توجد لدى الفئة الأولى.
وهذا يتلاءم مع اختلاف طبائع الناس، واهتماماتهم، فإن منهم العالم الذي اعتاد الجلوس للتدريس، والتحقيق، والقراءة، والتأليف والتعليم، فلا يبرز إلا في ذلك، ومنهم التاجر، ومنهم المربي، ومنهم الخبير بمسالك السياسة ودروبها، ومنهم الماهر في الجدل، والرد على الخصوم وإفحامهم، ولكلٍ وجهة هو موليها، فينبغي أن يراعى هذا.(233/17)
اختلاف الجماعات الإسلامية
أما عن ما يسمى بالجماعات الإسلامية، وهل هي من هذا الباب، باب التنوع، أم من الذي قبله، وهو باب الاختلاف والتضاد؟ فإنني أعتقد أن فيها خليطاً من هذا وذاك حسب التفصيل: فأما أصل الاجتماع على الطاعة، وعلى الدعوة، وعلى طلب العلم، فهو محمود، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وقال -سبحانه- بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] .
فلو اقتصر المجتمعون على القدر المشروع، وتعاونوا عليه، ولم يؤاخذوا غيرهم إلا بما يؤاخذ به الشرع، ولم يجعلوا الولاء والبراء والنصرة والمؤاخاة في هذه الأشياء التي انتسبوا إليها، كان هذا الأمر محموداً، أما إن أضيف إلى ذلك ما يخالف الشرع من بدعة في الدين، أو زيادة، أو ولاء وبراء في غير الله تعالى ورسوله، أو دعوة إلى غير الله تعالى ورسوله، فهذا محرم بلا شك.
أما الكلام في البيعة التي توجد عند بعض الجماعات الإسلامية، فقد رأيت فيها كلاماً لـ شيخ الإسلام لعلني أجد وقتاً لقراءة شيء منه، لكن أقرب ما يقال: أن أقل أحوالها أن تكون مكروهة، لما فيها من التشبه أو مشابهة النذر، فإنها تشبه النذر حيث فيها إلزام المكلف نفسه بشيء لم يلزمه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم به، وقد يعجز عن حمل ذلك، وفي كلام بعض أهل العلم المتقدمين ما يومئ إلى شيء من ذلك.
فالذي أراه: أن أقل أحوالها أن تكون مكروهةً، كراهة تنزيه قياساً على النذر، ولأنه لم يرد في الكتاب والسنة البيعة إلا للإمامة العامة، أومن يفوضه الإمام، فالبيعة في السنن للرسول صلى الله عليه وسلم -مثلاً- أو لأمير الجيش، أو لأمير الناحية، أو نحو ذلك، هذا ما يظهر لي والله تعالى أعلم.(233/18)
أمور تراعى في اختلاف التنوع
ينبغي أن يراعى في كل ما سبق من الأمور، مما يتعلق باختلاف التنوع، الذي هو اجتماع على خير، أو بر، أو دعوة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ما أشبه ذلك ينبغي أن يراعي في ذلك عدة أمور لا بد من بيانها:(233/19)
معاملة الناس على الظاهر
ومن العدل: قبول ظاهر الإنسان وترك سريرته إلى الله عز وجل فبعضهم لا يقبل ظواهر الناس، ويقول: هؤلاء عندهم تقية -مثلاً-، ولو قبلنا هذا الكلام لرفعنا الثقة من المسلمين جملة وتفصيلا، فالتقية لا يعلم أنها عند أحد من طوائف المسلمين دين إلا عند الروافض يتدينون بها، ويتعلمونها، ويدعون إليها، وفيها كتب ومصنفات، أما أهل السنة والجماعة فالأصل قبول ما يقولون، وأخذهم على ظاهرهم، وترك سرائرهم إلى الله عز وجل ولم نؤمر شرعاً باختبار أحد في شيء، ولا بأن نشق عن بطون الناس ولا ننقب عن صدورهم.(233/20)
أمر المصطلحات بين الناس أمره هين، والتماس العذر لهم
كذلك من العدل: التنبيه على أن أمر المصطلحات فيما بين الناس أمر سهل، فلكل قوم مصطلحات: العلوم -مثلاً- كل علم فيه مصطلحات، الدعوة فيها مصطلحات، كل أصحاب حرفة لديهم مصطلحات خاصة، وأمر المصطلحات ما لم يربط بمعان شرعية يدور حولها، فهو أمر سهل يسير، كذلك من العدل: التماس العذر للناس فيما تعتقد أنهم أخطئوا فيه، ولو نصحتهم ولو بينت الخطأ، لكن مع ذلك تلتمس العذر لهم، وهذا من كرم الأخلاق، وفيما يروى عن عمر رضي الله عنه [[التمس لأخيك سبعين عذراً فإن لم تجد فقل لعل له عذراً لا أعرفه]] وفيما يروى عنه -أيضاً-[[لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً]] .(233/21)
سلبيات الجماعات الإسلامية
من الحق أن يذكر الإنسان السلبيات، وينبغي أن نتعود على سماع العيوب، أو الأخطاء، أو الملاحظات، بدون حساسية، بل أن نفرح بها؛ لأنها تنبهنا إلى أمر يمكن أن نتداركه ونتلافاه، ولا يجوز أبداً أن تكون عندنا حساسية وكره للنقد، فنحب المدح والثناء، ونكره النقد، وفي الحقيقة النقد الجارح كلنا نكرهه، لكن النقد الهادئ والناصح، الذي تعلم أنه ما صدر إلا من قلب مشفق، وقلب محب، وقلب يتمنى لك الخير، ويتمنى لك النصرة والرفعة، ولكنه لا يملك إلا أن ينبهك على بعض ما يرى من ملاحظات، مثلاً -أحياناً ولا أقول أن هذا عام أو غالب في الجميع-: الانغلاق عن الأمة، والاقتصار على الخاصة ممن حوله، وعدم معايشة الآخرين بشكل طبيعي، وبدون حساسيات، بل يشعر بوجود نوع من الحواجز في كثير من الأحيان بينه وبين الآخرين في التعامل وفي المناقشة وفي ما سوى ذلك.
ومن السلبيات -أيضاً- والمآخذ: نشوء بعض المخاوف، والأوهام، بسبب طبيعة التربية التي يتلقاها الفرد، فطبيعة التربية الخاصة التي ينشأ فيها قد توجد عنده نوعاً من الخوف والإحجام، وعدم الإقدام، بحجة مراعاة المصلحة، أو الخوف على الدعوة، أو ما سوى ذلك.
ومن السلبيات: التناصر بغير الحق، والذب عن الآخرين بالباطل، وهذا من أبرز وأهم القضايا التي ينبغي مقاومتها، ومجاهدتها، والعمل على دفعها، وإزالتها بقدر المستطاع.
ومن السلبيات: التقليد في كثير من الأحيان في المسائل العلمية، وفي المسائل العملية، فيتربى الفرد على التلقي عن الآخرين، وتضعف لديه الاستقلالية التي تجعله يبحث بنفسه عن المسألة، وعن أدلتها وعن النتيجة التي يمكن أن يتوصل إليها، إضافة إلى أن كثيراً من النفوس لا تألف تلك الأجواء المقننة بالرسوم، والالتزامات، وتحب الانطلاق إلى أفق أوسع وأرحب وأبعد.
إذاً: المطلوب هو العدل، فيذكر الإنسان السلبيات، ويذكر إلى جوارها الإيجابيات، ليعلم الجميع أنه لا يقصد إلا الحق، فليس القصد إسقاط فلان، أو الطائفة الفلانية، إنما قصده الوصول إلى الحق، ونصرة دين الله عز وجل بكل سبيل وبكل وسيلة.(233/22)
حشد السلبيات
كما أن من العدل: أن ننبه إلى أن المبالغة في حشد السلبيات ليس منهجا شرعياً، ولهذا نجد العلماء في كتبهم خاصة المحدثين يقولون باب المناقب، فيذكرون مناقب الرجال من الصحابة، والتابعين، ومناقب البلاد، ومناقب القبائل، ومناقب النساء، إلى غير ذلك، وهذا معروف، لكن لا تجد في كتب الحديث باب المثالب، لأن ذكر المثالب دون المناقب أمر لا يفعله غالباً إلا من يكون في نفسه شيء، أما الإنسان الذي في نفسه كرم، وأريحية، وشهامة، ومروءة، فإنه يأبى إلا أن يذكر الخير والشر، والمناقب والمثالب، إن كان هناك حاجة لذكر المثالب للتنبيه عليها، والتحذير منها، أو النصح بتركها، أما الاقتصار على ذكر المثالب فلا يفعله كرماء الناس وفضلاؤهم.(233/23)
العدل في الأقوال
رابعاً: لا بد من العدل في الأقوال، ومن العدل ألا تحمل الجميع وزر الواحد، يقول الله تعالى في القرآن: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38] وقال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] فلا تحمل أحداً وزر غيره، ولا يؤخذ أحد بجريرة سواه، ولا يعد خطأ الأتباع من الدهماء والرعاع جارياً على غيرهم، ولا داعي لكثرة ذكر أخطاء الأتباع، وترديدها، وتناقلها؛ لأن الأتباع موجودون في كل أمة، وفي كل جيل، وفي كل مذهب، وفي كل نحلة، وكما أننا لا نرضى أن يحمل أحد المذهب نفسه أخطاء الأتباع الذين حصل عندهم تقصير، أو إسراف، أو جهل، أو غير ذلك، هكذا لا ينبغي أن نحمل أحداً خطأ أتباعه.
افترض أن هناك عالماً له أتباع مثل التلاميذ الذين يتلقون العلم عليه، وحصل عندهم تقصير، أو ظلم للنفس، أو تعصب، أو هوى، لا تقل أتباع الشيخ الفلاني الله يهديهم هذا الشيخ بذل وسعه، فهذا خطأ الأتباع -أو بالأصح بعض الأتباع- فلا يصح أن تنقلها وتجعلها من باب الحط من قدر هذا الشيخ، أو التنقيص من قدره، أو ظلمه، أو ما أشبه ذلك، فالأتباع يقع منهم مثل ذلك، والسبيل في ذلك هو النصيحة، وهناك جزء من ذلك قد يقول الإنسان: إنه لا بد منه، ولا حيلة فيه، فالخطأ موجود، والظلم موجود، وحتى أتباع إمام الأئمة، محمد صلى الله عليه وسلم اعترى بعضهم ما اعترى من الإفراط والتفريط، وقد ينسبون ما حصل منهم من إفراط أو تفريط إلى هذا الدين بلا دليل.
إذاً، من العدل ألا تحمل المتبوع وزر التابع، ولا تحمل الجميع وزر الواحد، ومن العدل -أيضاً-: ذكر الخطأ والصواب جنباً إلى جنب، وعدم جحد الحق، أو إغفاله، فمثلاً: حين تتكلم عن بعض إيجابيات ما يعرف بالجماعات، أو التجمعات، أو الجمعيات الإسلامية، من الطبيعي أن تذكر بعض الإيجابيات، بل الأولى أن تبدأ بها حتى يتبين أنك مخلص، ناصح، صادق، عادل.(233/24)
إيجابيات الجماعات الإسلامية
من الإيجابيات: أولاً: حفظ الإسلام في بعض البلاد، والمشاركة في حفظه، فإن كثيراً من البلاد خاصة البلاد البعيدة والنائية لا تكاد تجد مسلماً عالماً لديه بعض العلم إلا ولبعض هذه التجمعات -وهي في كثير من الأحيان تجمعات مأذون بها من قبل الحكومات أو معروفة- أثر عليه أو فضل عليه، أو تأثير، على الأقل في دعوته وهدايته إلى الله عز وجل فحفظ الله تعالى بهم الإسلام في بعض البلاد، خاصة في بعض البلاد النائية، والبعيدة التي ربما قصر فيها كثير من العلماء والدعاة إلى الله تعالى.
ثانياً: إشهار أمر الإسلام، وإعلانه في كثير من المجتمعات، وقيام أنشطة مختلفة، علمية، وإعلامية، ودعوية، بجهود كثير من هؤلاء الدعاة المنتسبين إلى بعض هذه الجمعيات، فضلاً عن الجهود الاجتماعية، ومقاومة الأعداء، والرد على الخصوم، وتفنيد باطلهم، ومقاومة العلمانية، إلى غير ذلك.
ثالثاً: حفظ المغتربين في البلاد غير الإسلامية، فإن كثيراً من المراكز والتجمعات الإسلامية، حفظ الله تعالى بها شباب الإسلام الذين ذهبوا إلى هناك من فتن الشبهات، والشهوات، فصاروا من رواد المساجد، ومن الفضلاء، ومن الأخيار، ورجعوا إلى بلادهم دعاة إلى الله عز وجل.
رابعاً: ربط السياسة بالدين في أذهان الناس، وذلك لمواجهة النعرة العلمانية التي طال الضرب على وترها، وصار كثير من الناس يجهلون أن السياسة جزء من الدين، وأن الدين جاء ليحكم حياة الناس في كل أمورهم، وفي كل مجالات حياتهم، وصار هناك فصل بين الدين والسياسة، وسرى هذا الأمر وهذه العدوى إلى قلوب كثير من الناس، بل كثير من المنتسبين إلى الخير، فكان من فضل كثير من هؤلاء المنتسبين ربط السياسة بالدين، وتذكير الناس دائماً بذلك، فضلاً عن المشاركة في أعمال الخير من العلم، والدعوة، والجهاد، في بلاد كثيرة.
على أي حال ليس المجال مجال تقويم كما هو واضح، ولكن المقصود أن من العدل ذكر الإنسان لهذه الإيجابيات قبل أن ينتقل إلى ذكر السلبيات.(233/25)
عدم التعصب وأسبابه
أولها: الحذر من التعصب للنفس، وانتقاص ما عند الآخرين، فقد رأيت وسمعت أقواماً يزدرون العاملين مثلاً في مجال مقاومة المنكر، ويرون أن الأولى بهم أن يتجهوا إلى إصلاح القلوب، والإقبال عليها، ويقولون: إذا صلح القلب؛ صلحت الجوارح، ورأيت آخرين يزدرون المشتغلين بالعلوم الإسلامية، من قرآن، وحديث، وفقه وغير ذلك، ويرون أن الزمن تعداهم إلى غير رجعة، وأنهم ينبغي أن يشتغلوا في أمور أخرى، ورأيت فئة ثالثة تستهجن من يشتغل بالجهاد، ومقارعة أعداء الله، ودفعهم عن حياض المسلمين، ولا شك أن لكل فئة من الناس عيوبها، فلست أبرئ أي فئة من هؤلاء أو من غيرهم من العيوب، لكن لا ينبغي تنقص العمل في ذاته، بل العيوب تذكر بنفسها، على سبيل النصيحة، أما العمل بذاته فلا ينبغي تنقصه، فينبغي الحذر من التعصب ومن أسباب التعصب.
فمن أسبابه: كثرة المجالسة والمؤالفة والمعاملة، على سبيل المثال: تلميذ في مقتبل العمر عند شيخه، يسمع منه فيرى في هذا الشيخ الفضل، والنبل، والعلم، والوقوف عند الكتاب وعند السنة، والعمل بهما، والدعوة إليهما، وأنه لا يتكلم إلا بالحجة، وإلا بالدليل، فيترتب على ذلك ثقة مطلقة، فإذا سمع منه قولاً أو سمع عنه قولاً، لم يحمله إلا على أحسن محمل، وهذا حق لاشك في ذلك، ولكن قد يترتب على ذلك، أن يوالي فيه ويعادي، وينصر فيه، وقد رأيت أن بعضهم قد يتعصب حتى لمشايخ ماتوا، فمثلاً: الذي يقرأ لـ ابن حزم -رحمه الله- يجد ما فيه من القوة، ومن الشدة، ومن البراعة في الأسلوب ومن الأدلة، فتجد أنه يعجب بهذا الإمام، ويتقمص شخصيته، ويتأثر به فلا يقبل فيه صرفاً ولا عدلاً، وقد تجد أن إنساناً يلقي باللائمة على آخرين، رأيت وسمعت تلاميذ لأحد المشايخ يلقون باللائمة على تلاميذ الشيخ الآخر، أنهم متعصبون لشيخهم، وينسون أنهم قد يكونون واقعين في ما لاموا فيه الآخرين، من حيث لا يدرون، ولا يشعرون، وقد لا يكون ذلك كله من التعصب أحياناً فقد يكون من الحق، -كما ذكرت- حسن الظن، وحمل الكلام على أحسن المحامل، ومحبته هذا كله من الحق، ولا يلامون فيه، وقد يكون في ذلك نسبة تقل أو تكثر من التعصب ينبغي الحذر منها، والتحذير منها، وأول من ينبغي عليهم التحذير من ذلك، هم الشيوخ والزعماء والمتبوعون أنفسهم، فينبغي أن يحذروا أتباعهم، وتلاميذهم، ومن يلوذ بهم، يحذرونهم بكرة وعشياً وفي كل وقت من التعصب بغير الحق، ومن المبالغة في الولاء والبراء، والحب والبغض، في فلان أو علان من الناس، بل أن يربوهم ويربطوهم بالكتاب والسنة لا غير.
وقد رأيت وسمعت -أيضاً- أن عدداً -حتى من الأخيار المرموقين- يكون لديهم نوع من الولاء، ونوع من التعصب للعرق، والجنس واللون والقبيلة، والله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] والنبي صلى الله عليه وسلم: {سئل عن أكرم الناس؟ قال: أتقاهم} فلا ينبغي أن يكون هذا سبباً في التعصب، لا بجنسية، ولا بقبيلة، ولا بغير ذلك كما قال الشاعر: ما بيننا عرب ولا عجم مهلاً يد التقوى هي العليا خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تطايروا عميا وطني عظيم لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا في إندونيسيا فd إيران في الهند في روسيا وتركيا آسيا ستصهل فوقها خيلي وسأحطم القيد الحديديا(233/26)
عدم المدح أو الذم بغير الألفاظ الشرعية
الأمر الثاني: أن لا يكون المدح والذم بغير الألفاظ الشرعية، من ألوان الانتسابات القديمة أو الجديدة، فمثلاً كوني أقول: فلان عربي أو عجمي، أوفلان شافعي أو مالكي، أوفلان من قبيلة كذا أو من بلد كذا، أو من جماعة كذا، هذه لا يكون فيها مدح ولا ذم، فهي لا تدل على المدح أوالذم بذاتها، وإنما الانتساب إليها حتى ولو أشعرت بالمدح، فالانتساب إليها قد ينحرف، ونحن نجد أن أشرف الأسماء والألقاب هو الإسلام: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78] ومع ذلك فالمنتسبون إلى الإسلام يوجد بينهم من ألوان الانحراف وغير ذلك، والكتاب والسنة تكفلا ببيان حقيقة الإسلام، فكل من انتسب إليه وهو غير صادق، كشفته النصوص، لكن غير ذلك من الأسماء لا تكشفه النصوص، فينبغي إذن ألا يكون في هذه الألفاظ تمادحاً أو تذاماً بذاتها، فالأسماء الشرعية تكفل النص بنفي اللبس عنها، أما هذه الأسماء المحدثة فليس هناك ما يكفل إخراجها من أن تكون ذماً في صورة المدح أو مدحاً في صورة الذم.
الأمر الآخر: أن المدح والذم يجب أن يكون بالألفاظ الشرعية، فمثلاً: إذا أردت أن تمدح إنساناً فتمدحه بما فيه من الإيمان، أو البر، والتقوى، والصدق، والإحسان، والصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، واليقين، والمحبة في الله، والطاعة لله ورسوله، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والوفاء بالعهد والعقد، وغير ذلك من الألفاظ الشرعية التي مدح الله بها ورسوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] إلى غير ذلك من النصوص، وكذلك الذم يكون بما ذم الله تعالى به ورسوله، كالكفر، والفسوق، والعصيان، والنفاق، والكذب، والإثم، والبغي والعدوان، والظلم، والهلع، والشرك، والبخل، والجبن، وقسوة القلب، والغدر، وقطيعة الرحم، إلى غير ذلك مما ذم الله تعالى به ورسوله فالله تعالى يقول: {لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] وقال: {لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:57] وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] وقال: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] وقال: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] إلى غير ذلك من النصوص، فيكون الذم أيضاً مما ذم الله تعالى به ورسوله، ومن شؤم تبديل الألفاظ الشرعية: أن ينسى الناس هذه الألفاظ، ويصبح التمادح والتذام بينهم بألفاظ محدثة ليست واردة في الكتاب ولا في السنة، وقد يتغير معناها من وقت لآخر، وقد يدخلها ما يدخلها مما يكون شراً، إن كان اللفظ لفظ مدح، أو يكون فيه بعض الخير إن كان اللفظ لفظ ذم، فهذا هو الميزان الذي يجب أن يعاد الناس إليه، وهو أقرب إلى إصابة الحق، ورد المخطئ إليه.(233/27)
التفريق بين أصل ما اجتمعوا عليه وما طرأ عليه
الأمر الثالث: الذي ينبغي التنبه والتفطن له: هو ضرورة التفريق بين أصل ما اجتمع الناس عليه وبين ما طرأ على ذلك من غلو، أو بدعة، أو انحراف، أو تقصير، فمثلاً: قد يجتمع طائفة من الناس على الإسلام -الذي جمعهم في الأصل الإسلام- ولكنهم من قبيلة معينة، فانحازوا، وتميزوا عن غيرهم بهذا، وأصبح بينهم من التوالي، والتناصر، والتعاون ما ليس بينهم وبين غيرهم من القبائل الأخرى.
فنقول: أصل الإسلام الذي اجتمعوا عليه محمود، لأنهم فارقوا قومهم من القبيلة نفسها ممن لم يؤمنوا ولم يسلموا، فارقوهم وتركوهم وباعدوهم، وربما يحاربونهم -أيضاً- ولكن تعصبهم لهذا الأمر الذي تميزوا به وهو القبيلة، هو من الأمور المذمومة التي ينبغي أن يذموا عليها وينهوا عنها، مثله: المذاهب الفقهية، فأصل كون الإنسان منتسب إلى مذهب فقهي مجرد انتساب، هذا -إن شاء الله- لا يضر، ما دام الإنسان متى بان له الحق بدليله اتبعه، سواء أكان في مذهبه أم في غير مذهبه، ونحن نعلم أن كثيراً من الأئمة العظام منذ القديم وإلى اليوم، لا يرون حرجاً في مجرد الانتساب، فنحن نجد -مثلا- شيخ الإسلام ابن تيمية قد يقال له: الحنبلي، ومثله تلميذه ابن القيم في جماعة ممن هم في الحقيقة من المتبعين للحديث والسنة والقرآن، لا يعدلون بهما شيئاً، ولا يمكن أن يرجحوا قولاً لأنه قول المذهب، وإنما يرجحون ما دل الدليل على ترجيحه، كما نجد ذلك في جماعة من علمائنا المعاصرين، على رأسهم سماحة الوالد الإمام ابن باز، فإنني قد سمعته يقول: إن مجرد الانتساب أمره هين أو كلاماً نحو هذا، يعني: كونه يقال عنه الحنبلي، لكن المهم في الحقيقة هو لا يمكن مثلاً أن يرجح قولاً من الأقوال لمجرد أنه قول الحنابلة، ومثل -أيضاً- ما نراه في فتاوى ودروس فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -حفظه الله- وغيرهم من العلماء -أيضاً- فأنت لا تجد تعصباً للمذهب، ولا ميلاً إلى قول لمجرد أنه قول الأصحاب، ولكن تجد التزاماً بالدليل من الكتاب أو السنة، فهذا القدر ليس فيه إشكال كوني حنبلي، ونشأت في بيئة حنبلية، وأنت شافعي، هذا لا يضر ولا يشكل ما دام أن الإنسان متى بان له الحق بدليله من الكتاب والسنة أخذه وترك ما سواه، لكن وجد في بعض أتباع المذاهب من الغلو والتعصب والاستدلال للمذهب شيء عظيم، حتى قال بعضهم: كل نص خالف مذهبنا فهو إما منسوخ أو مؤول فجعل المذهب أصلاً، وجعل النصوص تبعاً.
هناك ألوان كثيرة من التعصب لا يمكن أن نميز بها مذهباً عن غيره، وإن كانت المذاهب متفاوتة، لكن في كل اتباع مذهب ألوان من التعصب خاصة في الماضي، وكان من جراء ذلك فساد عريض، حتى إنه ربما أدى الأمر بينهم إلى التطاحن، والتضارب، وربما سالت الدماء في بعض الأمصار، وفي بعض الأعصار، وهذا كله أصبح اليوم -ولله الحمد- إلى حد بعيد في عداد أحداث التاريخ، فتجد كثيراً من الناس خاصة من الشباب قد أقبلوا على الكتاب والسنة، ينهلون من معينهما، ويبحثون عن الدليل أياً كان، ولا يضرهم أن يكون الحق مع فلان أو فلان.
إذاً: لا بد من التفريق في أصل ما اجتمعوا عليه، فكون الإنسان يقول: أنا حنبلي، أو شافعي، أو حنفي، لأنه نشأ في هذه البيئة، أو درس العلم على هذا المذهب هذا لا يضر، لكن ما طرأ زيادة على ذلك من تعصب فهو مذموم.(233/28)
الدعوة إلى تقارب المسلمين وتوحدهم على الكتاب والسنة
وأخيراً أقول: مع أن المسلمين متفرقون تفرقاً كبيراً وكثيراً وواسعاً، فيا ليت أننا نتبنى الدعوة إلى تقارب المسلمين فيما بينهم، وإزالة أسباب العداوة والشحناء والبغضاء من صدورهم، ومحاولة التقريب بين أهل السنة والجماعة الذين ينطلقون من الكتاب والسنة، ولكن يختلفون في اجتهادات عملية أو اجتهادات علمية لا تخالف نصاً من كتاب الله تعالى، ولا نصاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إجماعاً قائماً بين المسلمين، وإنما هي اجتهادات قابلة للأخذ والرد، وقابلة للمناقشة.
فيا ليت أننا نتبنى ونحرص على جمع كلمة المسلمين، وتقريب وجهات النظر فيما بينهم في مثل هذه الأمور التي ليست خلافات في العقائد، ولا خلافات في الأصول، وإنما هي خلافات في قضايا ليس فيها نص قاطع يمكن الرجوع إليه، وليس فيها إجماع يحرم مخالفته.
إنني أرى أن من أسباب الجمع - جمع الكلمة- وإزالة أسباب الفرقة، ونفع المسلمين: أن الأولى بالعلماء المرموقين والدعاة المشهورين والرجال الذين عرفوا على مستوى الأمة ألا يقصروا هممهم على فئة بعينها، وألا يحصروا أنفسهم في مجال واحد، أو ينحازوا إلى فئة، بل أن يكونوا لجميع المسلمين، ولجميع الفئات، ولجميع الأعمال؛ لأنهم بذلك يجعلون فتواهم، وكلمتهم، وبحثهم، وتقريرهم، مقبولاً لدى جميع الأطراف بدون حواجز، ويشعر الجميع أنهم أهل عدل، وأهل إنصاف، لا ينطلقون من عصبية لفئة على فئة، ولا لقبيلة على قبيلة، أو أمة على أمة، أو دولة على دولة، أو جماعة على جماعة، أو طائفة على طائفة، بل ينطلقون من منطلق النصح للجميع، ومحبة الخير للجميع، والفرح لكل خير يصيب الجميع، والحزن لكل شر يصيب الجميع، ويكونون دعاة إلى توحيد المسلمين على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(233/29)
فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية
هناك فتاوى كثيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(233/30)
الانتساب إلى المشائخ
وكذلك قال -رحمه الله- في الجزء [11/514] وقد ذكر التلقي عن الشيوخ قال: من قال أنت للشيخ فلان، أو هو شيخك في الدنيا والآخرة، فهذه بدعة منكرة، من جهة أنه جعل نفسه لغير الله، ومن جهة قوله: شيخك في الدنيا والآخرة هذا كلام لا حقيقة له، فإنه إن أراد أن يكون معه في الجنة فهذا إلى الله لا إليه، وإن أراد أن يشفع له فيه فلا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله تعالى.
ثم قال: ومن أمكنه الهدى من غير انتساب إلى شيخ معين فلا حاجة به إلى ذلك، ولا يستحب له ذلك -يعني الانتساب-، بل يكره، ثم قال -رحمه الله-: وأما إن كان لا يمكنه أن يعبد الله بما أمر إلا بذلك، مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم، والإيمان والدين، يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم، أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيده في دينه وعلمه فإنه يفعل الأصلح لدينه، وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه، وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده، ثم قال: فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين، وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة، وسلوك طريق الابتداع، ومفارقة السنة والاتباع، فهذا مما ينهى عنه، ويأثم فاعله ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(233/31)
الأخوة والتحالف بين الناس
في الجزء الخامس والثلاثين [[سئل -رحمه الله- عن الإخوة التي يفعلها الناس في هذا الزمان -يعني في زمنه- والتزام كل منهم بقوله: مالي مالك، ودمي دمك، وولدي ولدك، ويقول الآخر كذلك، ويشرب أحدهم دم الآخر فهل هذا الفعل مشروع أم لا؟ وإذا لم يكن مشروعاً مستحسناً فهل هو مباح أم لا؟ وهل يترتب على ذلك شيء من الأحكام الشرعية أم لا؟ وما معنى الإخوة التي آخى بها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار؟ فأجاب: الحمد لله هذا الفعل على هذا الوجه المذكور ليس مشروعاً باتفاق المسلمين، وإنما كان أصل الإخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وحالف بينهم في دار أنس بن مالك، قال: وأما ما يذكر بعض المصنفين من أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين علي وأبي بكر إلى آخره، فهذا باطل -ثم قال- وتنازع العلماء في مثل هذه المحالفة والمؤاخاة- يعني التي حصلت بين المهاجرين والأنصار- هل يورث بها عند عدم الورثة من الأقارب والموالي على قولين: أحدهما يورث بها وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى روايتين، في قوله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] .
والثاني: لا يورث بها بحال، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة عنه، وكذلك تنازع الناس: هل يشرع في الإسلام أن يتآخى اثنان، ويتحالفا كما تحالف المهاجرون والأنصار؟ فقيل: إن ذلك منسوخ، في حديث مسلم عن جابر {لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة} ولأن الله جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {المسلم أخو المسلم} الحديث.
فمن كان قائماً بواجب الإيمان كان أخاً لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه وإن لم يجر بينهما عقد خاص، ومن لم يكن خارجاً عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك، فيحمد على حسناته ويوالى عليها، وينهى عن سيئاته ويجانب عليها بحسب الإمكان -ثم قال- لكن لا نزاع بين المسلمين أن أحدهما لا يصير ولده للآخر، وكذلك مال كل واحد لا يكون مالاً للآخر، يورث عنه ماله، وأما شرب كل واحد منهم من دم الآخر، فهذا لا يجوز بحال، وأقل ما في ذلك مع النجاسة التشبه بالذين يتآخون وأنهم يتعاونون على الإثم والعدوان إما على فاحشة أو محبة شيطانية كمحبة المردان ونحوهم.
قال: وإنما النزاع -رجع إلى الخلاف- في مؤاخاة يكون مقصودهما فيها التعاون على البر والتقوى، بحيث تجمعهما طاعة الله، وتفرق بينهما معصية الله، كما يقولون تجمعنا السنة وتفرقنا البدعة، فهذه التي فيها نزاع: فأكثر العلماء لا يرونها استغناء بالمؤاخاة الإيمانية التي عقدها الله ورسوله، فإن تلك كافية محصلة لكل خير، فينبغي أن يجتهد في تحقيق أداء واجباتها، إذ قد أوجب الله للمؤمن على المؤمن من الحقوق ما هو مطلوب في النفوس، ومنهم من سوغها على الوجه المشروع إذا لم تشتمل على شيء من مخالفة الشريعة.
وبالجملة فجميع ما يقع بين الناس من الشروط والعقود والمحالفات في الإخوة وغيرها، ترد إلى الكتاب والسنة، فكل شرط يوافق الكتاب والسنة يوفى به، ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، فمتى كان الشرط يخالف شرط الله ورسوله كان باطلاً، مثل أن يشترط أن يكون ولد غيره ابنه، أو عتيق غيره مولاه، أو أن ابنه أو قريبه لا يرثه، أو أنه يعاونه على كل ما يريد وينصره على كل من عاداه، سواء كان بحق أم بباطل، أو يطيعه في كل ما يأمره به، أو أنه يدخله الجنة، أو يمنعه من النار، ونحو ذلك من الشروط، وإذا وقعت هذه الشروط وُفيَّ منها بما أمر الله به ورسوله، ولم يوف منها بما نهى الله عنه ورسوله، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وفي المباحات نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه.
والكلام هذا جزل كبير ومتين، ومن أعظم ما يدل عليه ما عند شيخ الإسلام -رحمه الله- من العدل والإنصاف، والتواضع، والبحث عن الحق، ومعرفة الحق بدليله، وعدم الشدة والقسوة على المخالفين في مسائل الاجتهاد.(233/32)
المعاهدة بين اثنين
وقد سئل أيضاً عن المعاهدة بين اثنين وذكر الخلاف فيها فقال: -بعدما ذكر الأمور الإيمانية المشروعة-: المعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة، وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص، كما كان بين المهاجرين والأنصار، -يعني فيما سبق من قضية ما كان في أول الإسلام من التوارث فيما بينهم وغير ذلك-، قال فمن قال إنه منسوخ كـ مالك، والشافعي، وأحمد، في المشهور عنه فإن ذلك غير مشروع، ومن قال إنه لم ينسخ كما قال به أبو حنيفة وأحمد وفي رواية أخرى قال: إنه مشروع، وهذا يدل على أن المسألة فيها خلاف مشهور ذكره الشيخ هنا.(233/33)
الشروط التي اشترطها شيوخ الفتوى
يقول الشيخ رحمه الله: في [11/89 من الفتاوى] فصل كله يتعلق بما سبق، والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله كصدق الحديث، وأداء الأمانة، أداء الفرائض، واجتناب المحارم، ونصر المظلوم، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، أو كانت مستحبة كالعفو عن المظالم، واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذي يحبه الله ورسوله ونحو ذلك فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أم لم يشترطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية، أن كلاً منها يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أم كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام، وتحرم الحلال، وهي شروط ليست في كتاب الله.
قال: وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل، والملوك، والشيوخ، والأحلاف وغير ذلك، فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، وما كان من الأمر المشروط الذي قد أمر الله به ورسوله، فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله، وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإنه ينهى عنه.
قال: وكذلك ما يعقده المرء على نفسه، -وهذا الذي جعلني أقول فيما سبق أنها كعقد النذر- قال: وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر، أو يعقده الاثنان كعقد البيع، والإجارة، والهبة، أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين كعقد الوقف، والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئاً مما نهى الله عنه ورسوله كان باطلاً، وفي الصحيح: {من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه} والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هي من جنس دين الجاهلية، وهي شعبة من دين المشركين، وأهل الكتاب الذين عقدوا عقوداً أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله، فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه.
قال -رحمه الله-: وقد ذكر ألفاظاً كالفتوة وغيرها قال: وأمثال هذه الكلمات التي توصف بها الفتوة بصفات محمودة، سواء سميت فتوة، أم لم تسمّ وهي لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء، كالإحسان، والرحمة، والعفو، والصفح، والحلم، وكظم الغيظ، والبر، والصدقة، ونحو ذلك من الأسماء الحسنة، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق الله به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب، والخيانة، والفجور، والظلم، والفاحشة، ونحو ذلك.
قال: وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل، والقبيل، والضمين، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموما، قال: وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب -أي تصير حزباً- فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عن من لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق أم الباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالاجتماع، بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرق والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.(233/34)
الأسئلة(233/35)
بغض الجماعات الإسلامية بعضها لبعض
السؤال
لقد كثرت الجماعات الإسلامية في الساحة، وبعضها تكره بعضاً إلى درجة كبيرة، وهذا ما أعلمه من معاشرة بعض الأفراد المنتسبين إلى هذه الجماعات وعدم الموالاة، أرجو النصيحة حول هذه النقطة؟
الجواب
لقد تكلمت خلال الدرس كثيراً عن هذه القضية، وأنه يجب أن يكون الولاء هو في الله ورسوله، وأن نخرج من قلوبنا أي صورة من صور الولاء في غير الله تعالى ورسوله، حتى لو عملت مع شخص في مجال معين، فكما أنك تعمل مع إنسان في عملك الوظيفي -وقد يكون إنساناً فاضلاً- وتتعاون معه، أو تتعاون معه -مثلاً- في أي مجال من مجالات الدعوة إلى الله تعالى، ومع ذلك إذا رأيت عليه خطأً نصحته، وأمرته، ونهيته، وتحبه بقدر ما فيه من الإيمان، وإن رأيت فيه تقصيراً؛ فإنك تعاتبه عليه، ولو رأيت من هو خير منه ديناً وإيماناً وتقوى أعطيته من الولاء أكثر مما أعطيت ذاك الشخص الذي قد تكون تعرفه منذ زمن، وتتعاون معه في مجال من المجالات.(233/36)
الدعاة وجهودهم
السؤال
ما رأيكم في بعض الكتب التي طرحت في الساحة، وتتكلم عن بعض الدعاة، وبعض الجهود، وبعض الأشياء؟
الجواب
أقول تعليقاً على ذلك أولاً: سبق أن طرحت سؤالاً، لماذا نخاف من النقد؟ لندع الناس خاصةً المخلصين، يمارسون النقد الهادف البناء، لأنفسهم ولغيرهم ولجميع الجهود، فإن الجهود التي يقوم بها الدعاة إلى الله تعالى والعلماء، ليست جهوداً شخصيه يملكونها هم، وإنما تملكها الأمة، فهي ملك للأمة، فمن حق الأمة أن تنقدها وتقومها، فتبين ما فيها من الخير، وتذكر ما فيها من الخطأ وتدعو إلى تلافيه وإلى استدراكه، وأنت لا تستطيع أن تكمم أفواه الناس ولو سكت القريب لم يسكت البعيد، ولو سكت هذا لم يسكت ذاك، وأنت تعلم أنه منذ زمن جاء أحد الأشخاص وكتب مجموعة كتب عن الدعاة، خصصها بأسمائهم، ونال منهم، وتكلم عنهم، واستطاع أن ينشر من خلال الكتاب والشريط مئات الألوف من هذه الكتب، فأنت لا تستطيع أن تسكته، بل المنابر ووسائل الإعلام مشرعة، لمثل هؤلاء أكثر من غيرهم.
ثانياً: ماذا يضرك إذا كنت تسير على طريق صحيح، وعلى صواب، وتتمسك بدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وتعلم في قرارة نفسك أنك لا تدعو إلى باطل، وأنك لا تدعو إلا إلى الكتاب والسنة لا غير، ولم يسمع منك الناس ولا عرفوا منك غير هذا؟ فما يضيرك أن يقال فيك ما يقال، إن كان حقاً يجب أن تأخذه، وإن كان باطلاً فلا يضيرك ما دمت تعلم أنه ليس واقعاً، ولا موجوداً فيك.
أنا أوافقك أن النقد يجب أن يكون متسماً بالإخلاص، والصدق، والموضوعية، والعدل، وعدم تبادل التهم، وعدم السباب، إلى آخر ما يمكن أن تقول في رسالتك من المواصفات والشروط التي نوافقك عليها جميعاً، لكن تقييم هذا العمل أو ذاك، أنه عمل موضوعي أو غير موضوعي، ملتزم بآداب النقد أو غير ملتزم، مما لا أستطيع أنا أن أقوله، يستطيع غيري من الناس أن يقولوه، لكن لا أستطيع أنا أن أقول هذا الشيء أمر آخر من هو الذي يستطيع أن يقول إن النيل مني يضر بالدين!! هذا استكبار، أنا وأنت والمجاهد الفلاني، والداعية الفلاني، والزعيم الفلاني، ما نحن إلا أناس على هذا الطريق الطويل الذي قيض الله له من يخدمونه ألوفاً في الماضي والحاضر والمستقبل، وربما يعرف الإنسان في نفسه من الضعف، والعجز الشيء الكثير الذي يجعله لا يمكن أن يستكبر، فيقول إن النيل مني -مثلاً- نيل من الدين, لا أبداً، الأشخاص يذهبون ويأتون، فالمهم الدين والإسلام والدعوة إلى الله عز وجل فإذا كان هذا ينال من الدين أو من الدعوة، هذا أمر، أما أن تقول: ينال من فلان أو من علان، أو يضر به، هذا لا يضير شيئاً يا أخي، لماذا تكون نظرتي ونظرتك قاصرة؟ لماذا لا تكون نظرتنا بالدرجة الأولى أخروية؟ إن المقياس عند الله تعالى إذا كان شأنك عند الله عظيماً وكان الله تعالى راضياً عنك فما يضيرك أن يطبق الناس على غير ذلك، حتى المقياس الدنيوي ينبغي أن تدرك أن الأمور لا تقاس بفترة، أو بلحظة، وكثير من الأمور قد تثور وتتحرك، ويتكلم الناس عنها، ويتداولونها، ثم بعد ذلك تموت؛ لأنه لا يوجد ما يدعمها، فهي قضايا لا تعني الناس، أو تهمهم في دينهم، أو دنياهم، بل هي قضايا قد تكون مفتعلة، ولذلك لا بقاء لها، ولا خلود لها أقول: هذا قد يكون أحياناً.
وعلى كل حال أنا أعجب لماذا يوجد في قلوب ونفوس كثير من الشباب حساسية من النقد؟! صحيح أن النقد غير البناء ربما أثر، لكن ينبغي أن نتعود على النقد، وإذا خيرنا بين أمرين: إما أن يوجد نقد غير بناء، بل هو نقد قد يحمل فيه شيء من الاعتداء، والظلم والبغي، وبين ألا يوجد نقد بالكلية، فنحن نفضل أن يوجد النقد غير البناء، على ألا يوجد نقد بالكلية، وأفضل من هذا وذاك أن يوجد نقد ملتزم بضوابط الكتاب والسنة، لا بغي ولا عدوان ولا ظلم ولا سوء ظن ولا اتهام، بل قول الحق والنصيحة التي يقبلها الجميع، وتجتمع عليها القلوب، وتشرئب إليها النفوس، وتكون سببا في وحدة الصف واجتماع الكلمة.
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(233/37)
أطفال في حجر رسول الله
تحدث الشيخ في هذا الدرس عن بعض مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأطفال وحنانه وعطفه عليهم، ثم ذكر بعض العبر المستفادة من تلك المواقف وبعض الدرس المستفادة منها، ومنها اختيار الأم، والاسم، والبيئة، والأصدقاء، وغير ذلك.(234/1)
مواقف للرسول مع بعض الأطفال
الحمد لله الذي جعل نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خير الأنام، وجعله بين إخوانه من رسل الله تعالى وأنبيائه الكرام واسطة عقد النظام ومسك الختام، بأبي هو وأمي عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم السلام.
أحبتي الكرام في هذه الليلة، ليلة الجمعة الثاني عشر من شهر المحرم، لعام ألف وأربعمائة وأحد عشر للهجرة تنعقد هذه المحاضرة، وهي كما سمعتم بعنوان (أطفال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
ولقد شاء الله تبارك وتعالى بحكمته وفضله أن يختار نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من بين البشر كلهم أجمعين، ويصطفيه، ويخصه من الخصائص، بما لم يخص به أحداً من العالمين.
حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم قدوةً للناس -كلهم أجمعين - في كل شيء قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
فإنك إن نظرت إلى رسول الله صَلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؛ وجدته المبرز، والمقدم على أنبياء الله تعالى، ورسله فهو سيدهم وأفضلهم وخاتمهم.
وإن نظرت إليه معلماً وجدته أفضل المعلمين، وأحسنهم تعليماً وأفصحهم وأبينهم.
وإذا نظرت إليه خطيباً، وجدته المتحدث، الذي يهز أعواد المنابر، ويصل قوله إلى كل سمع، بل إلى كل قلب.
وإن نظرت إليه زوجاً وجدته خير الأزواج لأهله، وأحسنهم معاشرة، ومعاملة.
وإن نظرت إليه أباً، وجدته خير الآباء، وأحسنهم تعليماً، وأكثرهم رقة، وعطفاً، وحناناً.
وإن نظرت إليه مقاتلاً، وجدته المقاتل الشجاع الصنديد، الذي لا يقوم له شيء صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تأتيه من جهة من الجهات إلا وجدته فارسها وسابقها: هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله عليه من ربه الصلاة والسلام، وفي درسنا هذا سنقف مع جانب من جوانب شخصيته الكريمة، فيما يتعلق بمعاملته ومواقفه صلى الله عليه وسلم مع بعض الأطفال، ومع بعض الصبيان.
وقد رأيت من باب التغيير والتجديد في العرض أن أبدأ بذكر عدد من المواقف الثابتة الصحيحة له عليه الصلاة والسلام مع بعض الأطفال والصبيان، ثم أثني بذكر بعض الدروس والعبر من هذه المواقف.(234/2)
بكاؤه عليه الصلاة والسلام لموت ابن بنته
الحادثة الثانية عشرة: ما يرويه أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: {أرسلت بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابناً لنا يحتضر فأتنا) تقول عندي ولد الآن يموت، فتريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر موته ويسلي عليها، ويطمئن قلبها فأرسل إليها النبي يقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه، تقسم عليه لتأتيني -تحلف على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأتيها- ذهب إليها رسول الله فحمل الصبي بيده، فنظر إليه، فوجد نفسه تقعقع كأنها شنٌ -أي: أن روحه تخرج وكأنه يعاني من آلام النزع- فحزن لذلك صلى الله عليه وسلم وبكى، وكان فيمن ذهب معه من الصحابة سعد بن عبادة، وأبي بن كعب فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه رحمة وضعها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء} والحادثة رواها البخاري ومسلم.
ومثل ذلك قصة أنس، وقد أسلفتها قبل قليل، لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي سيف فرفع له ابنه إبراهيم وهو يموت فبكى عليه النبي، وقال: {إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} هذه اثنتا عشرة حادثة تتعلق بمواقف الرسول مع الصبيان.(234/3)
بنت أبي العاص
الحادثة السابعة: يروي لنا أبو قتادة رضي الله عنه كما في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت زوج أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها} .
زاد مسلم في روايته {وهو إمام الناس في المسجد} جدها لأمها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولـ أبي العاص وزينب قصة طويلة، وذلك أن زينب هاجرت مع أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أبو العاص فبقي كافراً بمكة وهو زوجها، ثم خرج يوماً من الأيام بمالٍ لقريش فأسره المسلمون، وجيء به إلى المدينة وكان ذلك في معركة بدر، حيث كان من ضمن الأسرى، فلما طلب الفداء لم يجد أبو العاص شيئاً يقدمه، فأرسلت إليه زوجه زينب بقلادتها -القلادة التي ألبستها ليلة زفافها وكانت من خديجة رضي الله عنها- فأرسلت زينب بهذه القلادة إلى زوجها أبي العاص حتى يدفعها للمسلمين.
لاحظوا بنت الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها يدفع الفداء مثل ما يدفع أي واحد من المشركين من غير تمييز.
فلما قدم أبو العاص القلادة للمسلمين وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضراً خنقته العبرة وأجهش بالبكاء.
لقد أثارت هذه القلادة شجون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكر أيامه السالفات مع خديجة رضي الله عنها، وكان يحبها حباً شديداً، وإذا تذكرها أو ذكرها تأثر، وكان العام الذي توفيت فيه يسمى عام الحزن لشدة حبه لها، وحزنه عليها، حتى غارت منها السيدة عائشة رضي الله عنها، فكانت تقول: إنها إذا ذكرت تأثر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد، فكلما ذكرت أثنى عليها الرسول عليه الصلاة والسلام حتى غارت منها عائشة وهي لم تلتقِ معها تحت سقفٍ واحد، فلم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة إلا بعد وفاة خديجة بزمن، لكن مع ذلك غارت منها لكثرة ما يذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت تقول له: {يا رسول الله ما تذكر من عجوزٍ هلكت في الدهر الأول أبدلك الله خيراً منها امرأة كبيرة في السن ماتت في زمن غابر، وأبدلك الله خيراً منها -تعني نفسها- فلماذا تكثر من ذكرها؟! فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد} .
فكان يحبها حباً شديداً عليه الصلاة والسلام، فلما رأى القلادة تذكر أيام خديجة وزفاف زينب وأيامه الماضيات فأجهش بالبكاء عليه الصلاة والسلام.
جيء بالمال للفداء فكان المال يفدى به قلادة زينب لم يشدَّ النبي عينيه عنها أي حلوٍ مر من الذكريات تذكر أموراً مضت عليه السلام وقال عليه الصلاة والسلام: {إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا فقالوا: نعم يا رسول الله، وأطلقوا الأسير وردوا القلادة إلى زينب.
فالمهم رجع أبو العاص إلى مكة، ورد الأموال لأهلها، فلما قال: هل بقي لأحد منكم شيء؟ قالوا: لا، قد وفيت فجزاك الله خيراً، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم رجع إلى المدينة، ورد الرسول صلى الله عليه وسلم إليه زينب بالنكاح الأول فكانت زوجه، وكان من ولده أمامة رضي الله عنها، فلما ماتت أمها زينب أشفق النبي عليها وحنَّ عليها، فكان يخرج بها أحياناً إلى الصلاة، يخرج بها معه إلى المسجد فيحملها وهو في الصلاة، فإذا سجد وضعها على الأرض، وإذا قام حملها على كتفه عليه الصلاة والسلام.(234/4)
قصة أبي عمير مع الرسول
الحادثة التاسعة: يرويها البخاري، يقول أنس: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ كان لـ أبي طلحة، غلام يقال له؛ أبو عمير، وكان معه عصفورٌ يلعب به، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يغشاهم في منزلهم ويجلس وربما صلى في بيتهم} فكان الصبي هذا يلعب بالعصفور {فمات العصفور يوماً من الأيام، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فرأى هذا الغلام حزيناً مكتئباً لموت طيره أو عصفوره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا عمير ما فعل النغير، يلاطفه بهذه العبارات الرقيقة، بهذا السجع الحسن والجميل ويكنيه يا أبا عمير ويسأله عن العصفور، فيقول: ما خبره؟ قال: مات يا رسول الله} وكانت آثار الحزن بادية على هذا الصبي الصغير.
ولهذا الصبي الصغير شأنٌ أي شأن، كان من خبره أنه مرض كما في الرواية الأخرى وهي في الصحيحين من حديث أنس {أن هذا الصبي مرض مرضاً شديداً وكان أبو طلحة يحبه؛ لأنه كان غلاماً صبيحاً جميل الشكل، حلو المعاشرة ذكياً، فكان يحبه أبوه ولا يصبر عنه، فمرض مرضاً شديداً، فقلق من أجله، أبو طلحة رضي الله عنه، ففي يومٍ من الأيام دخل أبو طلحة على البيت، وكالعادة سأل أم سليم زوجته ما شأن الصبي؟ قالت: هو أسكن ما كان، أي: ساكن لا يبكي، فاستأنس لذلك أبو طلحة، وقربت إليه تمرا ًفأكل ثم تجملت له، واقتربت منه فضاجعها وأصاب منها فلما انتهى منها، قالت له: واروا الصبي، وفي رواية: أنها قالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن جيراننا أعطونا شيئاً عارية ثم استردوها، هل كان في ذلك شيء، قال: لا! فقالت: إن الله تعالى قد قبض روح هذا الصبي، فانزعج لذلك.
فلما كان الصباح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بالخبر فسر لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أعرستم الليلة؟ -هل أصبت من المرأة الليلة؟ - قال: نعم، فدعا لهما النبي بالبركة فولد لهم غلام فجاء به إلى النبي فسماه عبد الله، ودعا له.
قال أنس: فلقد رأيت من ولده كذا من الولد كلهم حفظوا القرآن الكريم ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له} .
وقصة أبي عمير -يا أبا عمير ما فعل النغير- صنّف فيها أحد العلماء كتاباً مستقلاً، عالم شافعي يقال له ابن القاص ذكر فيه ستين فائدة لهذا الحديث؛ ليبين أن الحديث الذي قد يظن الناس أنه ليس له فائدة أن فيه من الفوائد والمنافع الشيء العظيم.(234/5)
تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في الشرب بعده
الحادثة العاشرة: يقول سهل بن سعد فيما رواه البخاري وغيره: {أتي النبي صلى الله عليه وسلم بشرابٍ وكان في مجلس، فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عن يمينه غلام.
} .
جاء في رواية أخرى صحيحة أن هذا الغلام هو ابن عباس رضي الله عنه وعن يساره الأشياخ أبو بكر وعمر وغيرهم من كبار الصحابة وجلتهم، {فلما شرب النبي صلى الله عليه وسلم الماء قال للغلام الذي عن يمينه: هل تأذن لي أن أعطي هؤلاء الأشياخ قبلك؟ هل تأذن لي! فرسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن غلاماً لم يبلغ، ربما بلغ عشر سنوات، هل تأذن لي أن أسقي هؤلاء الأشياخ قبلك؟ فقال هذا الغلام الذكي، والفطن يا رسول الله، ما كنت لأوثر بنصيبي منك أحداً} .
مَن مِن غلماننا يقول مثل هذا الكلام الجميل، لم يقل: أنا أريد الماء، أو أشتهيه، أو تعجل بيده، أو أخذه لا.
بل أجاب بالجواب الذي يعجز عنه أكابر الرجال وأذكياؤهم، قال: {يا رسول الله ما كنت لأوثر بنصيبي منك أحداً -يعني لا يهمني الماء ما كنت عطشان لكن كل همي أن أشرب بعدك، فيكون فمي في المكان الذي شربت منه، وأنال بعض بركة هذا الماء الذي شربت منه يا رسول الله فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يعني أعطاه إياه]] .
في رواية أخرى {أن أعرابياً كان عن يمينه وكان عن يساره أبو بكر، فلما شرب النبي صلى الله عليه وسلم الماء، قال عمر: يا رسول الله أعط أبا بكر} أي أن عمر خاف أن يعطي الرسول الأعرابي كالعادة في تقديم من عن يمينه، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله هذا أبو بكر عن يسارك أعطه الماء.
{فقال الرسول: الأيمن، فالأيمن، وأعطاه الأعرابي} .(234/6)
تقديم الأكثر قرآناً وإن كان صغيراً
الحادثة الحادية عشرة: حادثة عمرو بن سلمة وهي أيضاً في صحيح البخاري عن أبيه يقول: ( {قال أبي: جئتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً) كان أبوه في ضمن وفد من القبيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع كان يقول: (جئتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا) .
فسمعته يقول: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً) قال عمرو بن سلمة: فنظروا، فلم يجدوا أحداً أكثر قرآناً مني؛ فقدموني فصليت بهم وأنا يومئذٍ ابن ست سنين، أو سبع سنين} كان إماماً يصلي بهم وهو ابن ست، أو سبع سنين، والحادثة رواها البخاري، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم.(234/7)
موقفه صلى الله عليه وسلم مع الغلام اليهودي
الحادثة الثامنة: يرويها أنس بن مالك رضي الله عنه كما في صحيح البخاري يقول: {كان هناك غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض هذا الغلام فذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده فجلس عند رأسه، ووجد عنده أباه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه في النزع يجود بنفسه: يا غلام، قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فحرّك هذا الغلام رأسه ونظر إلى أبيه، كأنه يستأذنه في ذلك أو يستشيره، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ثم خرجت روحه ومات، فخرج النبي فرحاً مسروراً وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار، الحمد لله الذي أنقذه من النار} عليه الصلاة والسلام.
وعد الله عز وجل النار بما وعدها به كما ذكر ذلك في محكم تنزيله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] فماذا يضير النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون غلامه من اليهود من حطب جهنم، لكنه كما قال ربه جل وعلا {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فيشفق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الغلام ويحرص على هدايته حتى آخر لحظة، فيقول له وهو في النزع الأخير: {قل لا إله إلا الله} فلما قالها فرح وهو يقول: {الحمد لله الذي أنقذه من النار} ويستفاد من هذا في عرض الإسلام على الصبي (على الغلام) وأنه يدعى إلى الإسلام ويعلم الدين.
ومما يتعلق بهذا ما ذكره البخاري في صحيحه في باب عرض الإسلام على الصبي: عن ابن عمر رضي الله عنهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في طائفة من أصحابه قبل ابن صياد وهو غلام صغير اسمه صافي بن صياد من اليهود في المدينة، وكان يشاع عنه أخبار مزعجة ومخيفة، حتى خشي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يكون هذا هو الدجال، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ومعه أبو بكر، وعمر، وجماعة من الصحابة قبل هذا الغلام فوجدوه يلعب مع الصبيان عند قطن بني مغالة، وجدوه قريباً من بعض القصور يلعب مع الصبية، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم من خلفه، وأمسك به وقال له: يا غلام، أتشهد بأني رسول الله، فنظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: أشهد أنك رسول الأميين -على الأقل كان خبيثاً حينها وإن كان الرجل أظهر إسلامه- فقال هذا الغلام للرسول عليه الصلاة والسلام: أتشهد أني رسول الله -فالصبي يقول للرسول: أتشهد أني رسول الله- فقال له النبي: اخسأ.
اخسأ.
فلن تعدو قدرك، ورفضه النبي صلى الله عليه وسلم وتركه، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني اضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وسلم: إن يكن هو فلن تسلط عليه} .
إن كان هذا هو الدجال الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث متواترة أنه سوف يخرج فلن تسلط عليه لا حيلة لك في قتله، ولا يمكن أن تقتله وإن لم يكن هو الدجال فلا خير لك في قتله.
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى إلى ابن صياد وكان مضطجعاً على قطيفة في مزرعة فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يتقي بجذوع النخل، يختفي بجذوع النخل ويمشي متسللاً عليه الصلاة والسلام، وكان له زمزمة (صوت خفي يسمع له من بعيد) يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقترب منه حتى يسمع ماذا يقول بالضبط، فيعرف إن كان هو الدجال فعلاً أم غيره، فأبصرت أم ابن صياد رسول الله وهو يتقي بجذوع النخل فرفعت صوتها وقالت: يا صافي هذا رسول الله، انتبه هذا الرسول صلى الله عليه وسلم قد قدم، فاعتدل الرجل في جلسته وترك ما كان يقول، فجاء النبي إليه فإذا هو ساكت، فقال عليه الصلاة والسلام: {لو تركته بَيّن، لو تركته بَيّن} أي: لو لم تخبره لبان الأمر واتضح.
المهم يفهم من هذا عرض الإسلام على الصبيان ودعوتهم إلى الدين.
إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟(234/8)
موقفه مع أم خالد
الحادثة السادسة: رواها البخاري رحمه الله في صحيحه (باب ما يدعى لمن لبس ثوبا جديداً) عن أم خالد رضي الله عنها وما أدراك ما أم خالد؟! أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص وهي جويرية صغيرة السن، ورد في بعض الروايات [أنه أُتي بها تُحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول رضي الله عنها: إنه أوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثياب فكان منها خميصة سوداء -ثوب أسود- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حضر من أصحابه: من ترون نَكْسُ هذه؟ فسكت القوم ولم يتكلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائتوني بـ أم خالد فجيء بها تحمل، وكانت جويرية صغيرة السن، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم الثوب وألبسها إياه بيده الشريفة] .
كان عليه السلام في شغل أي شغل! في عبادة ربه، في غزوه وجهاده، في دعوته إلى الله عز وجل، في انشغاله بأمور الناس، وفي استقباله للوفود، وفي عنايته بأمورهم.
فكلما نظرت إلى جانب من جوانب حياته، قلت كان مستغرقاً في هذا الجانب حتى كأنه لا شغل له غيره، والله إن من يقرأ سيرة رسول الله يقول هذا الكلام.
اقرأ -مثلاً- ما يتعلق الآن بحاله مع الأطفال يخيل إليك كأنه متخصص في تربية الأطفال ورعايتهم والعناية بهم ومراقبة أمورهم، لو تقرأ سيرته صلى الله عليه وسلم مع زوجاته تقول كأنه عليه الصلاة والسلام لا هَمَّ له ولا شغل إلا العناية بأمور زوجاته، مثلاً: قصة عابرة في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي كان يدور على نسائه بعد العصر -تسع زوجات عنده صلى الله عليه وسلم وكل واحدة يجلس عندها وقت- ففي يوم من الأيام أطال الجلوس عند حفصة، فاستبطأته عائشة رضي الله عنها، وأزعجها الأمر، فأرسلت الخادم تستطلع الموضوع، فقال لها الخادم: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يشرب عسلاً؛ عند حفصة، فكرهت عائشة رضي الله عنها ذلك كرهاً شديداً فلا تحب أن يطيل الرسول صلى الله عليه وسلم البقاء عند حفصة أو يشرب عندها عسلاً، فاتفقت مع سودة وقالت لها: إذا جاءك الرسول صلى الله عليه وسلم فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير! -المغافير صمغ كريه الرائحة- أي: إني أجد منك ريح مغافير، فأمنا سودة رضي الله عنها تقول: والله ما إن أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف على الباب، حتى كدت أبادره بالكلام قبل أن يقترب مني فرقاً منك يا عائشة -خوفاً منك- لكنها صبرت، حتى اقترب منها الرسول عليه الصلاة والسلام بحيث يمكن أن تشم رائحة فمه، فقالت: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ قال: لا، شربت عسلاً عند حفصة.
قالت: إذاً يا رسول الله جرست نحله العرفط، أي: هذا العسل الذي شربته أكلت النحل الذي أخرجته العرفط.
وهو -أيضاً- نبات كريه الرائحة.
فقد لقنتها عائشة رضي الله عنها وعنهم أجمعين هذا الكلام، فخرج من عندها الرسول عليه السلام فجاء لـ عائشة فلما اقترب منها، قالت: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ قال: لا، شربت عسلاً عند حفصة.
قالت: إذاً جرست نحله العرفط فقال: شربت عسلاً عند حفصة ولا أعود.
خرج إلى زينب رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟، قال: لا، شربت عسلاً.
قالت: جرست نحله العرفط، فقال: لا أعود، فلما جاء اليوم الثاني على حفصة قالت: أسقيك عسلاً.
قال: لا حاجة لي به.
عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي، فانزعجت لذلك سودة وحزنت، وقالت: لقد حرمناه.
قالت لها أمنا عائشة رضي الله عنها: اسكتي، اسكتي.
المهم إذا قرأت سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام في أي جانب تقول: كأنه لا هم له إلا هذا، وإذا قرأت أخباره في الغزو، والفتوح فهذا أمر يطول الكلام فيه، وكذلك أخباره في استقبال الوفود، وفي تعليم الناس، فسبحان الذي أعطاه وخصه بما لم يخص أحداً من العالمين، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] .
فالمهم أنه ألبس صلى الله عليه وسلم، هذا الثوب لـ أم خالد، وكان فيه أعلام -أي خطوط- فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى أعلامه بيده وينظر إليها، ويقول: سنى يا أم خالد، سنى يا أم خالد، وكلمة (سنى) باللغة الحبشية معناها حسن، أي: هذا حسن، هذا جميل- يقول: انظري إلى هذه الخطوط الجميلة، إلى هذه الأعلام الجميلة في الثوب حتى تفرح بهذا الثوب وتسر به، ومما يزيدها سروراً وتِيْهاً أن يكون الذي ألبسها إياه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة.
وكما ذكرت لكم أن أم خالد هذه هي بنت خالد بن سعيد، وهي زوج الزبير بن العوام، ولدت له أولاداً وكانت ممن هاجر إلى الحبشة.
ونقل للنبي صلى الله عليه وسلم سلام النجاشي.(234/9)
تعهده صلى الله عليه وسلم للحسن
الواقعة الثالثة: ما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح البخاري: {يقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار -في جزء من النهار- لا يكلمني ولا أكلمه -لأنه مشغول ولا أريد أن أشق عليه، ولهيبته في قلوبهم صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم- حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم سوق بني قينقاع وكان قريباً من هذا السوق بيت فاطمة رضي الله عنها (بيت علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، فجلس النبي بفناء بيت فاطمة -بالساحة المجاورة لمنزله- وكان يقول لها: أَثَمّ لكع؟ أّثَمّ لكع؟} يعني - الحسن موجود- هل هو موجود؟ ولكع -كلمة عربية أحياناً تطلق بمعنى اللئيم- إذا كان هناك إنسان لئيم فتقول: إنسان لكع، كما قال صلى الله عليه وسلم: {يكون في آخر الزمان أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع} .
وقد يطلق على الطفل، وقد يطلق لكع على الإنسان الذي لا يصرف أموره، ولا يعرف أموره، ولا يتصرف فيها.
فالمهم قال الرسول لابنته فاطمة: {أَثَمّ لكع؟ أَثَمّ لكع؟ - (يعني هل الطفل موجود) - هاتيه؟ قال أبو هريرة رضي الله عنه: فحبسته شيئاً -أخرت المجيئ بولدها الحسن رضي الله عنه، فظننتها تلبسه سخاباً أو تغسله} يقول: توقعت أنها تلبسه سخاباً، والسخاب كما قال بعض الشراح: هو قلادة من طيب كانت تلبس للصبيان ذكورهم وإناثهم-، وقيل: هي من الخرز.
فالمهم أنها قلادة توضع للصبي لتجميله وتطييب رائحته، أو تغسله وتنظفه وتجمله حتى يكون مناسباً أن يذهب إلى جده، ونعم الجد جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، {ثم دفعته إلى رسول الله أرسلته فجاء يشتد يسرع -جاء يركض- إلى جده عليه الصلاة والسلام فعانقه الرسول وقبله وقال: اللهم أحببه وأحب من يحبه} .
وفي بعض الروايات {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا} - يعني فتح النبي ذراعيه للحسن {فقال الحسن بذراعيه هكذا} فقد اعتاد هؤلاء الصبيان أنَّ النبي يلاطفهم ويفتح لهم صدره فيجلسون في حجره، فيضمهم، ويقبلهم، ويحنو عليهم، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم ذراعيه للـ حسن جاء الحسن مسرعاً حتى ألقى بنفسه في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وعانقه وجعل ذراعيه على عنقه الطاهر وقبله، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه وقال {اللهم أحببه وأحب من يحبه} .
هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ من وقته للصبيان، يذهب إليهم ويتعهدهم ويقبلهم ويضعهم في حجره ويدعو لهم، ويدعوهم، فما أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتذكروا العطف والحنو، فإذا مد ذراعيه مد الصبي ذراعيه، وإذا رأى الصبي رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً أسرع إليه -ركض إليه، وألقى بنفسه في حجره.(234/10)
تقبيله صلى الله عليه وسلم للحسين
وحادثة رابعة: تروى من طرق عديدة أذكر منها طريقاً رواه الطبراني وغيره بسند رجاله ثقات عن السائب بن يزيد {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً فجيء يوماً بـ الحسين ابن بنته، ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فقبله، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من الأعراب، اسمه الأقرع بن حابس، وفي الأعراب من الجفاء وغلظ القلوب وغلظ الأكباد ما فيها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو السيد الشريف المطاع والنبي المصطفى المختار- يقبل هذا الصبي ويلاطفه تعجب الأقرع!! وقال: أو تقبلون صبيانكم؟! والله إن لي عشرة من الولد، ما قبلت أحداً منهم، فقال النبي: لا يرحم الله من لا يرحم الناس} .
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الرحمة التي يجعلها الله تعالى في قلوب عباده، هي سبيلٌ إلى الحصول على رحمة الله جل وعلا، فإذا أردت أن يرحمك الله فارحم الناس، ومن أعظم من يُرحَم الضعفاء، كالصبيان والنساء والفقراء والمرضى ونحوهم.(234/11)
صعود الحسن أو الحسين على ظهره في الصلاة
الحادثة الخامسة: يرويها النسائي، وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه وعن أبيه {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم في إحدى صلاتي العشاء -إما المغرب وإما العشاء- وهو حامل حسناً، أو حسيناً على كتفه، فتقدم صلى الله عليه وسلم فوضع الصبي ثم صلى بهم وكبر، فلما كان في سجدة، بين ظهراني الصلاة أطال السجود جداً، حتى قال شداد:فرفعت رأسي فإذا الصبي فوق ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرجعت فسجدت، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال الناس: يا رسول الله! صنعت شيئاً لم تكن تصنعه، قد أطلت سجدة بين ظهراني صلاتك حتى ظننا أنه قد حدث أمرٌ أو أنه يوحى إليك - أي: أنه أطال السجود حتى إن الناس قد أصابتهم الريبة، فربما شكّوا هل أصاب رسول الله شيء؟ هل نزل به أمر؟ أم أنه يوحى إليه، فهذا الرجل رفع رأسه فعرف القصة أما بقية الناس فلم يكونوا يعرفون- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس شيئ من ذلك كان، غير أن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته، وينزل من تلقاء نفسه} .
إلى هذا الحد كانت شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لطفه وتسامحه، أولاً: خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يحمل الحسن على كتفه هذا مشهد لم نره قط، ولو حدث من إنسان من العلماء أو الدعاة لربما تعجب الناس منه، فكيف إذا حدث من سيد الدعاة، وأعظم العلماء؛ النبي صلى الله عليه وسلم يخرج هذه المرة، والحسن أو الحسين على كتفه ثم يجعله إلى جواره، فيتسلل هذا الصبي ويتسلق حتى يرتقي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يعجله الرسول حتى يقضي حاجته.
ولسنا نشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ساجد كان يناجي ربه؛ والسجود هو من أعظم حالات القرب من الله جل وعلا كما في الحديث: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} وكان عليه الصلاة والسلام يحمد ربه بمحامد ويسبحه ويثني عليه ويقول: {أما السجود فادعوا الله أن يستجيب لكم} ولما نزل قوله {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: {اجعلوها في سجودكم} فكان مستغرقاً في تسبيح ربه ودعائه وتحميده واستغفاره، ولكن مع ذلك كان من عادته عليه الصلاة والسلام في صلاته أن يجعل قيامه وركوعه وسجوده واعتداله بين السجدتين قريباً من السواء، أما هذه المرة فقد أطال هذه السجدة لعارض وهو أن ابنه ارتحله، فكره أن يعجله، حتى يقضي حاجته.(234/12)
موقفه مع ابن أبي موسى الأشعري
واقعة أخرى: يرويها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه وهي في صحيح البخاري يقول: (ولد لي غلامٌ فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم، وحنكه ودعا له بالبركة، ثم دفعه إليَّ) .
وكان هذا الولد أكبر أولاد أبي موسى الأشعري فكان من عادة أصحاب النبي إذا ولد لأحد منهم ولد أن يأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذه النبي ويقبله، ويضمه إليه، ويدعو له بالبركة، فإن كان معه شيء -تمرٌ، أو غيره- مضغه النبي صلى الله عليه وسلم، ولينه وخلطه بريقه الطاهر، ثم وضعه في حنك الصبي-يحنكه- فيكون أول ما يصل إلى جوف الصبي هو ريق النبي، وفي هذا له خير كبير، وبركة عظيمة، وقد كان هذا من عادة الصحابة رضي الله عنهم.
فهذا أبو موسى يأتي بابنه إبراهيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسميه إبراهيم، ويحنكه، ويدعو له بالبركة ويقول له: (بارك الله فيه - أو بارك الله لك فيه) أو ما أشبه ذلك، ثم يدفعه إلى والده، وربما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصبي في حجره.
وفي هذا قصص كثيرة جداً، وهو ما ذكرته عائشة رضي الله عنها، وهو في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: {أتي بصبي يحنكه -من أجل أن يحنكه- فبال هذا الصبي على النبي فلم يزد النبي عليه الصلاة والسلام على أن أمر بماءٍ فأتبعه إياه} .
وثبت هذا -أيضاً- من حديث أم سلمة، وأم الفضل، ومن حديث لبابة بنت الحارث ومن حديث أم قيس بنت محصن {أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يأكل الطعام فبال في حجره} .
ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام: {يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام} فإذا كان الذي بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً ذكر اكتفى برشه، وإن كانت جارية فإنه يغسل ثوبه، وقد يدفعه صلى الله عليه وسلم إلى بعض زوجاته لتقوم بغسله.
والكلام في موضوع الجارية والغلام يطول وهو مبحث فقهي تكلم فيه الفقهاء ولا أجدني بحاجة إلى الحديث عنه الآن؛ لكن الشاهد أنه كان من عادة أصحاب النبي أن يبعثوا أطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يولدون، وقد يبعثون معهم شيئاً من التمر فيحنكهم النبي، ويدعو لهم، وقد يسميهم ابتداءً كما سمى ولد أبي موسى إبراهيم، وكما سمى جماعة من أبناء الصحابة، سمى ابن أبي طلحة عبد الله وسمى عبد الله بن الزبير وسمى جماعة، وقد يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه إذا كان غير جميل، وغير مناسب وغير حسن.
فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة بولد فقيل له إن اسمه القاسم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو عبد الرحمن، فغير النبي اسمه؛ وذلك لأن أباه سماه القاسم وكان أكبر أولاده، فكان أبوه سيكنى أبا القاسم.
وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم فقد ينادي رجل هذا الأنصاري فيقول له يا أبا القاسم، فيسمعه النبي فيلتفت له، فيظن أنه يقصده، فلهذا نهى النبي عن أن يكنى الرجل بأبي القاسم فذهب جماعة كبيرة من أهل العلم إلى أن هذا خاص بحياته عليه الصلاة والسلام.
وقال آخرون: بل هذا خاص بمن اسمه محمد، وقالت طائفة: لا، بل التكني بأبي القاسم لا يصلح مطلقاً، والأول أقوى.
أما التحنيك: فإن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد أن أحداً من الصحابة، أو التابعين جاء بابنه إلى أبي بكر -وهو أفضل الأمة بعد النبي- ولا لـ عمر ولا لـ عثمان ولا لغيرهم من الصحابة، فهو خاصٌ به عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن التبرك بآثاره الحسية جائز، كالتبرك بشعره عليه السلام، أو ببقية وضوئه، أو بثيابه، أو بعرقه، أو بما أشبه ذلك، كما هو ثابت متواتر عن أصحابه رضي الله عنهم، أما غيره فليس ذلك له.
وأما قضية الدعاء له بالبركة فإن هذا لا شك أنه من أفضل الأعمال، أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم لأولادهم وصبيانهم، ويدعو للآباء بأن يرزق الله تعالى أولادهم برهم، وأن يكونوا خيراً لهم في الدنيا والآخرة.
ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أن صبياً من الأنصار كما هو في الصحيح دُفِعَ إلى النبي فلما حنكه تلمظ الصبي -أي: لما وجد التمر وحلاوته في فمه حرك فمه يريد هذه الحلاوة- فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {حُبُّ الأنصار التمر} هذا حب الأنصار للتمر؛ لأن الأنصار أهل زراعة وحرث، فيولد معهم حب التمر.
وفي رواية {حب الأنصار التمرُ} يعنى: التمر حبيب الأنصار منذ أن يكونوا صبياناً صغاراً.
ومما يتعلق بهذا الباب أن المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين لما قدموا المدينة أشاع اليهود أنه لا يولد لهم، وأن اليهود قد سحروهم وشاعت هذه القالة بين الناس حتى ظن أنه لن يولد للمهاجرين أحد، وكانت أسماء بنت أبي بكر -زوج الزبير رضي الله عنهم- متماً -أي حاملاً - قد قربت ولادتها عند الهجرة، فكان أول مولودٍ من المهاجرين هو عبد الله بن الزبير ففرح به المهاجرون فرحاً عظيماً؛ لأنه أبطل هذه الشائعة اليهودية التي تقول: إن المهاجرين لن يولد لهم بعد مقدمهم إلى المدينة، وأن اليهود قد سحروهم، فلما ولد جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففرح به ودعا له.(234/13)
موقفه مع ابنه إبراهيم
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه فيما رواه مسلم وغيره: {إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم} - يعني بذلك ابنه إبراهيم عليه السلام {ثم دفعه النبي صلى الله عليه وسلم - كما يقول أنس في روايته - إلى أم سيف، وهي امرأة كان زوجها قيناً} أي: حداداً يصنع السيوف، فدفعه النبي إليها لتقوم برعايته {ثم ذهب عليه الصلاة والسلام يوماً فاتبعه أنس إلى بيت أم سيف، فلما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم كان أبو سيف ينفخ في كيره وقد امتلأ البيت دخاناً} قال أنس: {فأسرعت بين يدي رسول الله فقلت: يا أبا سيف أمسك - توقف- فقد جاء رسول الله، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والدخان يملأ البيت، ثم رفع ابنه إبراهيم فقبله عليه السلام.
يقول أنس -في إحدى الروايات-: (والله ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم) {وما أسرع ما نزل قضاء الله تعالى وقدره بإبراهيم، الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه أشد الحب، ويضمه إلى صدره ويقبِّله، فأخبر النبي بأن ابنه إبراهيم وجع وأنه يجود بنفسه، فجاء النبي مسرعاً إلى أبي سيف -كما في الرواية الأخرى، وهي في الصحيحين {ثم رفع إليه الصبي فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان معه جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة} ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه، الذي هو فلذة كبده وقطعة منه يجود بنفسه، رآه يموت {فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيناه وأجهش فقال له سعد: هذا وأنت رسول الله! فقال له: هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده} ثم أتبعها بأخرى {إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل} .
قال تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93] ويولد له عليه الصلاة والسلام أولاد وبنات، فيفرح بهم أشد مما يفرح أي أبٍ بولده، ثم يتعهدهم إلى من يحضنهم ويرعاهم، ولا يغفل عنهم صلى الله عليه وسلم على كثرة مشاغله وأعماله، فبين الفينة والفينة، يأخذ من وقته شيئاً يسيراً ليزور أطفاله، ويقبّلهم، ويضعهم في حجره، ويحنو عليهم صلى الله عليه وسلم، فإذا نزل بهم وجعٌ، أو مرض حزن لذلك، فإذا جاءهم الموت بكى، وهلت دموعه على خديه عليه الصلاة والسلام كما رأيتم في مثل هذه الواقعة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشر كما قال عنه ربه {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93] .(234/14)
بعض العبر والدروس المستفادة من هذه الحوادث(234/15)
حسن اختيار الأم
عند اختيار الأم التي يريد الإنسان أن تكون أم أطفاله، واختيار الزوجة، فلينظر إلى أم سليم رضي الله عنها.
كيف كان موقفها لما مات الصبي لم تظهر الجزع والفزع والصراخ والبكاء حتى يجتمع الناس عندها، بل أخفت موت الصبي، ولما دخل أبوه، كانت المرأة هي التي تصبر الرجل، فتقول له: إنه أسكن مما كان، وتطعمه، وتمكنه من نفسها وتغريه بنفسها، فلما فعل قالت: واروا الصبي، وعرضت له تلك القصة، ومثلت الولد بإنسان أخذ من الجيران عارية ثم ردها إليهم، فهذا مثال في اختيار الأم.
مثال آخر: أسماء بنت أبي بكر أم عبد الله بن الزبير أول مولود من المهاجرين، هذه أسماء ذات النطاقين كانوا يعيرون عبد الله بن الزبير، فيقولون له: يا ابن ذات النطاقين، فقالت له: أخبرهم ما ذات النطاقين؟ وأخبرتهم بحادثة الهجرة وأنها شقت نطاقها فتمنطقت ببعضه، وحزمت القربة ببعضه الآخر.
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها فليس عيباً أن يكون ابن ذات النطاقين، فهي مدحة وليست مذمة، ف أسماء رضي الله عنها، هذه الأم التي اختارها الزبير اختياراً، انظر كيف كان موقفها فيما بعد، لما كبر هذا الصبي وترعرع وأصبح رجلاً، حاصره الحجاج بمكة ورمى الكعبة بالمنجنيق، حتى احترقت الكعبة، وكان هذا حدثاً جللاً في تاريخ المسلمين، أن تحترق الكعبة، ويصلي المسلمون فترة إلى غير شيء، وهدمت أيضاً فوضع ابن الزبير ستوراً وصلى الناس إليها.
فجاء عبد الله بن الزبير إلى أمه، وقد حاصره الحجاج، وتخلى عنه الناس، فقال: (يا أماه ماذا ترين؟ -وكانت عجوزاً كبيرة السن- هل أستسلم؛ لأن الناس تخلو عني وليس بيدي شيء؟ فقالت: إن كنت تريد الدنيا فبئس الولد أنت، وإن كنت تريد الآخرة، فاصبر واحتسب فقال: يا أماه أخشى أن يمثلوا بي بعد موتي -أخشى أن يقطعوا مني شياً أو يعلقوني على خشبة- فقالت: يا ولدي لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها) لا يضرك أن يمثلوا بك بعد الموت.
وفعلاً بعدما قتل رضي الله عنه، علقوه على خشبة، ثم أرسل الحجاج إلى أسماء بنت أبي بكر وهذه الرواية في صحيح مسلم فقال لها: تأتي إلي.
قالت: والله لا آتي، فقال الحجاج: والله لأجرها بشعرها -أرسل إليها واحداً يجرها بقرونها بشعرها- قالت: ليفعل، فلما رأى الحجاج، إصرار أسماء بنت أبي بكر ذهب إليها، قال: أروني سبتيتي -أعطوني نعالي-، فلبس النعال وجاء إلى أسماء بنت أبي بكر، يغيظها وينكأ جراحها ويحزنها.
قال: أما سرك ما فعلنا بهذا الرجل.
أي: ولدها وفلذة كبدها، ولا شك أن قتله قتل لها، لكنها كانت تتجلد وتصبر، فقالت بلهجة المؤمن الواثق وبلسان الحكيم العارف المجرب: أما والله إن أفسدت عليه دنياه لقد أفسد عليك دينك.
أنت أفسدت عليه دنياه فعلاً قتلته وحرمته من أن يكون خليفة، كما كان يسعى إليه ويحاوله، ولكنه قد أفسد عليك دينك.
ثم قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في ثقيف كذاب ومبير، أما الكذاب فقد عرفناه.
الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، كان يدعي أنه يوحى إليه.
وقيل لـ ابن عمر رضي الله عنه إن المختار بن أبي عبيد) يزعم أنه يوحى إليه، المختار بن أبي عبيد -مع الأسف- خال أولاد عبد الله بن عمر فزوجة عبد الله بن عمر رضي الله عنه صفية بنت أبي عبيد أخت المختار فقيل له: إن خال أولادك يزعم أنه يوحى إليه، قال: صدق: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121] يوحى إليه لكن من قبل الشياطين.
المهم قالت: أما الكذاب فقد عرفناه: المختار بن أبي عبيد، وأما المبير فوالله لا أظنه إلا أنت.
المبير هو الذي يكثر القتل من البوار، وهو الذي يكثر من قتل الناس (فخرج الحجاج من عندها يجر رجليه، وقال ما معناه: أتينا هذه المرأة لكي نغيظها، فأغاظتنا هذه المرأة الصلبة والقوية.
إذاً من أعظم الدروس أن يختار الإنسان الزوجة الصالحة، وهذه نصيحة للشباب الذين على أبواب الزواج، فلا تكتفي بمجرد النظر إلى الجمال، بل تذكر أن هذه المرأة قائمة على ثغرة كبيرة في منزلك؛ فالأب مشغول دائماً، إن كان داعية أو طالب علم، أو تاجراً، أو معلماً، وإن كان أي شيء فالأب دائماً مشغول، والأطفال خاصة في بداية عمرهم في مراحل الطفولة الأولى في حجر أمهم وتحت عينها ورعايتها.
فإذا كانت الأم مثقفة وعالمة وفاهمة علمته الكلام الطيب، والفعل الطيب، والأخلاق الحسنة وربته، وأما إن كانت خلاف ذلك، فإنك تجد ذلك الصبي يكون أحياناً غيظاً لوالده، ومدعاة لحزنه، وخجله حين يظهر أمام الناس، فهو لم يترب ولم يعرف الكلام الطيب، ولا الأسلوب الطيب، ولا معاملة الناس، إن أكل مع الناس لم يحسن الأكل، وإن شرب لم يحسن الشرب، وإن جلس لم يحسن الجلوس، وإن تكلم لم يحسن الكلام، وإن نطق لم يحسن النطق، لماذا؟ لأنه لم يترب.
فمن من الرجال مستعد أن يجلس في البيت يربى الأطفال؟! صحيح أن الواحد منا قد يجلس أحياناً، ويكون مع أطفاله عند الغداء، أو عند العشاء، أو في بعض الوقت، لكن مع هذا كله، فإن أغلب وقت الإنسان يقضيه خارج منزله، ولهذا من المهم جداً في تربية الأطفال أولاً أن تختار المحضن الصالح وهو الزوجة الصالحة.(234/16)
ضرورة بناء القوة النفسية للطفل
وكما يعبرون عنها بلغة العصر الحاضر، تعويد الطفل على الثقة بنفسه، ومن أخطر ما نعانيه في مجتمعنا أن البيوت تحطم الأطفال، وتربي الأطفال على أنهم ليسوا بشيء، وأنه لا يعرف شيئاً، ولا يصلح لشيء، بل يبلغ الإنسان منا مبلغ الرجال، وقد يكون عمر الفتى أحياناً أربع عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، وأهله لا يثقون به.
فلا يذهب ليشتري خبزاً، ولا يصب الشاي للضيوف، ولا يستقبل الضيوف، وهذا من أخطر الأشياء؛ لأن الطفل حينئذ ينشأ مثل النبتة التي تنبت في الظل: ضعيفة، رخوة، ليس فيها قوة ولا نماء ولا حياة، هذه من أخطر الأشياء التي يعانيها الناس.
فتجد الإنسان حينما يكبر ليس لديه ثقة بنفسه، وليس لديه إمكانية أن يتكلم -مثلاً- أمام الناس، بل قد لا يستطيع -مثلاً- أن يؤم الناس في الصلاة، ولا أن يقوم بأي دور؛ لأنه لم يتربَّ على ذلك، فنحن نلاحظ -مثلاً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن عباس: أتأذن لي؟.
وهذا نوع من إعطاء الطفل أهمية، فهو صاحب حق الآن، ومن حقه أن يشرب قبل هؤلاء، لكن إذا سمح بذلك؛ فإن قال: لا أسمح.
قال: خذ، وهذا صغير السن ومع ذلك يستأذنه الرسول عليه الصلاة والسلام.
فإذا لم يأذن، فهنا يتخذ القرار بناء على رأي ابن عباس، هذا من إشعاره بالثقة.
جانب آخر: حينما يتقدم عمرو بن سلمة: ويصلي بالناس وعمره ست أو سبع سنوات، هذا نوع من أنواع بناء القوة النفسية، أو كما يعبرون عنه بلغة العصر الحاضر: تدريب الطفل على الثقة بالنفس، فمن أهم وسائل بناء الثقة بالنفس: أن لا تعامل الطفل حين يخطئ بأسلوب قاسٍ، نحن قد نلين مع الأطفال، لكن إذا أخطأوا نقسو عليهم، وأحيانا تكون قسوة قاتلة.
هناك قصة حدثت في بعض المجتمعات ذكرها لي أحد الشباب -وهو إن شاء الله ثقة- أن رجلاً أثث بيته بأثاث فاخرٍ وثمين، وسكن به، فخرج صباحاً إلى العمل، ولما جاء في الظهر، وجد طفله قد أخذ سكيناً، فأتى إلى الكنب ومزقها، وأتى إلى الستائر فمزقها، وقدم هذا، وخرب هذا كما هي عادة الأطفال.
فغضب أبوه غضباً شديداً، وأخذ الطفل فضربه ضرباً مبرحاً، ثم قيده بالحبال في يديه ورجليه، وأقسم على أمه إن تعرضت له، أن يصيبها كذا وكذا، وجلس الطفل يبكي، ويبكي، ويبكي، حتى فت كبده البكاء ثم سكت، وبعدما سكت، لاحظوا على الطفل وضعاً غير طبيعي، وكأن لونه يتغير، ففكوه بسرعة وذهبوا به إلى الطبيب، وبعد إجراء التحاليل اللازمة قالوا: إن الطفل مهدد بالموت، ولابد أن تبتر أطرافه -يداه ورجلاه- حالاً، وإلا فإنه قد يموت؛ لأن دمه قد تسمم، فوقع الأب على الأمر، وبترت يداه ورجلاه وأصاب الأب حزناً، ومما كان يزيد من حزنه أن الصبي الصغير، بعدما رجعوا إلى البيت وبعدما شفي كان يقول: أبي أرجع إلي يدي ولا أعود إلى تخريب الفرش مرة أخرى، فكانت هذه الكلمة تنزل على أبيه نزول الصاعقة؛ لأنه كان يعرف أنه لا سبيل لاستعادة ذلك.
فنحن نخطئ كثيراً في معاملة الأطفال، حينما يقع منهم الخطأ، وينبغي أن نتحمل منهم الخطأ، وإذا أردنا أن نصحح لهم الخطأ، فنصححه بطريقة سليمة معتدلة نقول: هذه خطأ، وقد نعاقب الطفل بالحرمان فإذا عودناه أن نعطيه شيئاً لا نعطيه، وإن عودته أن يخرج معك؛ هذه المرة لا يخرج معك، فيخرج إخوانه وهو لا يخرج بل يجلس، وقد نعاقبه بالضرب -ضرب بسيط- والرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يكون السوط معلق حيث يراه أهل البيت للتأديب -ضرباً غير مبرح، وقد نعاقبه بكلمة، وما أشبه ذلك، أما هذه الأساليب القاسية التي يسلكها البعض فهي غير لائقة.(234/17)
أهمية الدعاء في تربية الأطفال
نحن نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا للحسين وقال: {اللهم أحبه وأحب من يحبه} وكذلك كان يدعو لجماعة من الصحابة، ومن ذلك دعاؤه لـ أنس، وكان خادمه، فقال: خادمك يا رسول الله فادعو له، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم {أن يطيل الله في عمره، ويكثر ماله، وولده} فطال عمره، وكثر ماله، وولده رضي الله عنه وأرضاه.(234/18)
العناية بالبنات
كثيرٌ من الناس إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، على عادة أهل الجاهلية، فيحزنون لولادة البنات، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر: {أن من ابتلي بشيء، من هذه البنات، فصبر ورعاهن كن له ستراً من النار} فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن رعاية البنات من المكرمات، وأنها سببٌ للوقاية من نار جهنم، فعلى الإنسان أن يفرح بمن يولد له ذكراً كان أم أنثى، وألا يكون كـ أبي حمزة: ما لـ أبي حمزة لا يأتينا يبيت في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا والله ما ذلك في أيدينا وما منحناه فقد رضينا هذه المرأة، مسكينة تقول: أبو حمزة -هذا زوجها- معرض عنها، جالس عند المرأة الثانية لماذا؟! لأنها لا تلد إلا البنات.
والله ما ذلك في أيدينا.
حدثني أحد الإخوة يقول: إن هناك رجلاً لا يولد له إلا بنات، وفي يوم من الأيام كانت زوجته تلد بالمستشفى، فرأى الأطباء عليها علامات القلق والهم، وأنها حريصة على معرفة نوع المولود منذ أول وقت، وفعلاً جاءها بنت فحزنت لذلك حزناً شديداً، وخافت ربما هددها زوجها حتى بالطلاق، -بعض الناس لا يزالون يعيشون في الجاهلية-، فذهب الطبيب -وكان طبيباً حاذقاً وذكياً- إلى الزوج وقال له: أبشر فقد رزقك الله ولداً فسر الزوج وتهللت أساريره واستبشر وبدأ يتكلم مع الطبيب وبعد قليل قال له الطبيب: لكن هذا الولد مشوه، عنده شلل في جسمه، وأطرافه، وعنده بالتأكيد تخلف عقلي، وعنده كذا، وكذا، وقلبه فيه، ورئته فيها كذا، وكذا وبدأ يذكر فيه، حتى تحولت هذه الفرحة إلى حزن كبير، يلف ذلك الرجل لفاً، واسود وجهه، وبدأ يقول لنفسه: هذه عقوبة من الله تعالى لي حين سخطت على قضاء الله وقدره في ولادة البنات، وبدأ يعاتب نفسه وبعد قليل لما رأى الطبيب أن الرجل أفاق، وعقل، وفهم.
وقال له: بل رزقك الله بنتاً من أجمل البنات، وأحسن البنات، لكن عليك أن تشكر نعمة الله جل وعلا.(234/19)
حسن اختيار الاسم
قد يكون هذا جانباً في نظر البعض، لكنه مهم بعد اختيار الزوجة، واختيار الاسم المناسب له علاقة كبيرة بالولد، وقلما وقعت عيناك أو أبصرت عيناك ذا لقبٍ إلا ومعناه في اسم منه أو لقب، فغالباً بين الاسم والمسمى ارتباط كبير من جوانب عديدة.
أولاً: قضية تعليقات الناس إذا كان لك ولد اسمه (عمر) تجد الناس كل ما قيل ما اسم هذا الولد؟ قيل: عمر.
قالوا: ما شاء الله، إن شاء الله يكون مثل عمر بن الخطاب فيرسخ في ذهن الصبي شخصية معينة يعتبرها مع الوقت هي مثله الأعلى، نجد الصبي ينشأ، وهو يطمح أن يكون مثل عمر رضي الله عنه، وهكذا حينما تسمى ابنك باسم الفضلاء والعظماء والصالحين وما أشبه ذلك هذا جانب.
ثانياً: قضية الفأل الحسن، فالرسول عليه السلام كان يعجبه الفأل ومن الفأل الكلمة الطيبة؛ فإن الإنسان إذا تكلم بالكلام الطيب كان فألاً حسناً، فإذا سميت ابنك باسم نبي، أو ولي، أو عالم، أو صالح، كان هذا تفاؤلاً بصلاحه واستقامته واتباعه للأنبياء.
ثالثاً: أن الإنسان بعد أن يكبر ويعي، يبدأ التفكير في الاسم، فإذا كبر ووعى وعرف الاسم، بدأ يقرأ؛ فدائماً يلفت نظره كل إنسان يشبه اسمه وكل واحد اسمه مثل اسم هذا الولد، تجد إذا قرأ عنه أو سمع عنه لفت نظره، فإذا وجد الذين يشبههم في الاسم، أناس أفاضل صلحاء وأتقياء، أصبح يسير على خطاهم، لكن المصيبة، حينما يكون همه أمر آخر، فيسمي ولده كما يقع لكثير من الناس في هذا العصر باسم إنسان من الوجهاء والكبراء، ليس له رصيد من العلم ولا من التقوى، ولا الدين، ولا الإيمان مجرد إنسان مشهور؛ لأنه صاحب منصب كبير، هنا خسر الولد، يسمي الإنسان ولده باسم شخصية رياضية مشهورة أو لاعب مشهور، وعندما يكبر ماذا يقول الناس؟! أولاً: يغيرون اسم الولد، مثلما يغير اسم اللاعب فالناس يتصرفون بالأسماء، لنفترض -أن اسم الولد عبد الله، الناس أحياناً على سبيل الدلال يغيرون عبد الله إلى تغييرات كثيرة يحرفونها وقد يقولون له عبادل- فإذا كان هناك لاعب بهذا الاسم، صار الأهل يسمون الولد باسمه، ويعرضون عن الاسم الشرعي، الذي هو عبد الله وهو الاسم المشروع الفاضل، فيلصق به، حتى أصبح يعيش على صورة معينة يتذكر هذا الإنسان، وقل مثل ذلك في أي أمرٍ آخر.
إذاً حين يسمي الناس أولادهم أو يلقبونهم أو يكنونهم بأسماء أناس ليس لأنهم من أهل الدين، لكن لصفة أخرى كأن تسمي ولدك أو بنتك باسم فنان أو فنانة أو راقصة مثلاً بئس ما جلبت له، وبئس ما استفتحت به عمر هذا الصبي أن يدخل الحياة يحمل هذا الاسم الذي له دلالات وإيحاءات معينة.
كم هو مؤسف أن نجد بعض البيئات، والمجتمعات غابت عنهم الأسماء الشرعية، وظهرت الأسماء المنحرفة لو سمى أحد بنته باسم أم كلثوم، كل الناس يقولون ما وجدت إلا أم كلثوم؟! ينسون أن هذا اسم لبنت من بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفون غير اسم المغنية التي تعرف بهذا الاسم، كيف ضعفت الثقافة الدينية والعلم الشرعي عند الناس، حتى اختفى عنهم الاسم وغاب عن وعيهم الاسم النبوي الكريم، وحضر في وعيهم الاسم المعاصر لمغنية معروفة؟!، والله تعالى أعلم بنية من يسمي، إن كان قصده بـ أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يربطها بتاريخ معين ويكثر ذكرها وذكر أمهات المسلمين فالجو هو الذي يحدد المقصود، وإن كان قصده الآخر فتجده قد يسمي الولد باسم مغنٍ والبنت الثانية باسم مغنية أخرى، وهكذا حتى يكون الأمر واضحاً ماذا يريد، وماذا يقصد.(234/20)
اختيار البيئة المناسبة في تربية الصبي
مهم جداً اختيار البيئة المناسبة، فما هي البيئة المناسبة؟ أولاً: المدرسة، فتختار المدرسة وتتابع، وليس صحيحاً أن تلقي بولدك في المدرسة، ولا تدري ماذا يجري؟! ومن الذي يدرسه؟! وما صفة هذه المدرسة؟! هل هي جيدة، أم ليست بجيدة؟ فينبغي أن يكون بينك وبين المدرسة علاقة، وينبغي أن تزور، ولا مانع أن تأتي إلى الفصل، حتى يعلم الولد أنك أتيت، ويدري المدرسون وتعلم الإدارة بأنك مهتم وتتابع أمر ولدك هذا جزء من البيئة.
ثانياً: الأصدقاء، كل إنسان له أصدقاء، ويذهب بأهله إليهم، فمن المهم أن تختار الأصدقاء الصالحين؛ لأن أولادهم يكونون عوناً لأولادك، فإذا جاء الولد مثلاً مع الولد الآخر، وجدت معلوماتهم متقاربة وأوضاع البيوت متشابهة واهتماماتهم متشابهة.
لكن إن كانت الأخرى: افترض أنك زرت يوماً من الأيام إنساناً غير صالح ولو لحاجة، ومعك أهلك ومعك أطفالك، فعندما يختلط أطفالك بأطفال هذا الرجل يجدون أنهم يأخذون -مثلاً- معلومات عن طريق التلفزيون، وأفلام الكرتون والألعاب المتحركة وعندهم مفاهيم خطيرة، فعندما يصعد ولدك معك في السيارة يقول: لماذا لا يوجد عندنا تلفزيون؟ هذه أول فائدة كسبتها من اختيارك للبيئة المنحرفة!! ولو على سبيل الزيارة مرة واحدة، إذاً لابد أن تختار لأولادك البيئة المناسبة التي يتربون فيها أو من خلالها.
ثالثاً: فيما يتعلق بالبيئة: الشارع، والشارع أمره خطير.
أولاً: ينبغي أن يحرص الإنسان أن لا يخرج أولاده في الشارع؛ لأنك لا يمكن أن تتحكم في الشارع بأي حال من الأحوال.
كيف لا يخرجون؟ حاول أن تغريهم بالبقاء بالبيت بأي وسيلة، هات القصص المناسبة للأطفال، وهي موجودة بحمد الله قصص مفيدة تربي الأطفال، وأشرطة فيها أناشيد، وفيها قصص، وفيها كلام طيب للأطفال، هات لهم ألعاباً ولا مانع من وجود مراجيح ودراجات وأشياء في البيوت يلعبون بها، ويستغنون بها، ولا بأس بإحضار جهاز الكمبيوتر، وهو جهاز مفيد إذا أحسن الأب اختيار البرامج المفيدة للأطفال، وهناك برامج مفيدة للأطفال تدربهم على الحساب والرياضيات، واللغة العربية، وتعليم الدين، وبعض البرامج الترفيهية والمسلية قد لا يكون فيها فائدة كبيرة لكن ليس فيها ضرر أو محظور شرعي، إذا سلمت من الموسيقى، أو من بعض المعاني السيئة.
حاول ما استطعت أن تبقي أولادك في المنزل، ولا يخرجوا إلى الشارع؛ فخروج أطفالك إلى الشارع، يعني أنهم أفلتوا من يدك؛ لأنه كيف تتحكم في الشارع، عندما يأتيك أطفالك من الشارع بالكلام البذيء وبالشتائم وبالسب وبالمفاهيم الخاطئة وبالعادات السيئة، ومن أين يأخذ طفلك الكلمات القذرة والتصرفات المنحرفة؟! إنه يأخذها من الشارع! ولذلك من المهم أن يختار الإنسان الجيران الصالحين بقدر ما يستطيع، فكلما استطاع أن يكون بجوار أناس طيبين وصالحين، كانت هذه من الضمانات المفيدة.
ولذلك نجد في القصص السابقة أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يأتون بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة رضي الله عنهم، وكان هذا دأباً معروفاً، حتى كنا نعرف أن المحدثين رحمهم الله كانوا يأتون بأطفالهم لحضور مجلس الحديث.
فيقال: حضر فلان، وفلان، وربما يكون صبياً وربما يكون رضيعاً، ومنهم من يكون صبياً، لكنه يستطيع أن يتحمل؛ مثلما كان عمرو بن دينار يؤتى به إلى المجلس وهو صبي صغير يقول: كانوا يأتون به إلى المجلس وجهه كالدينار وطوله سبعة أشبار وأقراطه كآذان الفأر، فإذا جاء قال: افسحوا للشيخ الصغير فيفسحون له ويجلس بينهم فيتحمل، والرسول صلى الله عليه وسلم تحمل عنه الصغار كما قال محمود بن الربيع، -في روايته- في الصحيح: عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجة مجها في فمي من بئرٍ، كان في دارنا وأنا ابن أربع سنين، فالرسول صلى الله عليه وسلم -مج- أي تمضمض بماء ثم وضعه في فم هذا الصبي فعقلها، وذكرها يوم كبر ولم ينسها، فكان من عادة المحدثين، أن يأتوا بأولادهم وصغارهم العلم، وحلقات الذكر، حتى يحضروا، ويستفيدوا، ويكتب ذلك أحياناً في مجالس السماع، وحضر فلان وفلان، وكانوا يحضرون وهم صبيانٌ صغار.(234/21)
أهميه تعليم الصغار والصبيان الكلام الطيب منذ نعومة أظفارهم
وأول ما يعلمون الشهادتين ومعرفة الله تعالى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه، فينبغي أن يلقن الصبي: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن أول الأنبياء، ومن آخرهم؟ … إلخ، وأهم المبادئ الإسلامية وكذلك مبادئ الإسلام، ومبادئ الإيمان تغرس في قلبه، ويلقن إياها تلقيناً، حتى يحفظها عن ظهر قلب؛ لأن هذه التربية تبقى معه، ولا يمكن أن ينساها بحال من الأحوال فضلاً عن تدريبه على الكلمات الطيبة، وتعويده عليها.
فبدلاً من أن تعوده إذا قال له والده: يا فلان.
قال: ماذا تريد؟ أو كلمة نابية.
بل يعوده الأب، وتعوده الأم.
فيقول: سمعاً وطاعة أو لبيك، أو كما نقول نحن بلهجتنا الدارجة (نعم) .
كلمة فيها أدب، وفيها لطف وفيها خلق حسن، وتدل على أن الصبي تلقى تربية لا بأس بها في صغره.(234/22)
أهمية التدريب على العبادات
نحن نجد عمرو بن سلمة يُدّرَّب بل يكون إماماً في الصلاة، وعمره سبع أو ست سنوات على اختلاف الروايات، ومثل ذلك كثير، فقد كان الصحابة يأتون إلى المسجد، ويصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان زيد بن أرقم يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس، وغيرهم، من صغار الصحابة رضي الله عنهم.
وفي بيت أنس صلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {فصففت أنا واليتيم من ورائه والعجوز من ورائنا} كذلك نجد ابن عباس صلى يوماً خلف النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، نام عند الرسول عليه الصلاة والسلام وتظاهر بالنوم، وليس بنائم في الواقع، لكن كان يراقب النبي حتى يستفيد منه وينقل هديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نام الغليم -تصغيراً له-.
ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام وابن عباس يراقبه، قال: {فقام إلى شنٍ} وذكر الدعاء الذي قاله فلما قام يصلي، قام ابن عباس رضي الله عنه، وصف عن شماله، فأخذه النبي فأداره عن يمينه، فدربه على الصلاة، وهو صبيٌ صغير.
ومثل ذلك الصوم، كان الصحابة يُدَرَّبون على الصيام وهم صغار، حتى قالت الرُبيِّع: كما في الصحيح عن يوم عاشوراء: {كنا نصومه ونُصوِّم صبياننا حتى إذا بكى الصبي أعطوه اللعبة} لعبة مصنوعة من القطن يشتغل ويتدلى بها حتى يحين الإفطار.
من المهم تدريب الصبيان على الصيام منذ صغرهم متى ما أطاقوه، ولو لم يصم شهر رمضان كاملاً، لكن يصوم بعض الأيام، حتى يعرف ما معنى الصيام، ويعرف أن الإنسان قد يمتنع عن بعض الشيء لوجه الله، ويعطيه والده على ذلك جائزة أو يهديه هدية.
مثل ذلك الحج، وكلكم يعرف الحديث في الصحيح: {أن امرأة رفعت إلى النبي صبياً قالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر} ومثل ذلك العلم كما سبق ذكر نماذج لذلك.
فمن المهم أن ندرب أطفالنا على العبادة، أن تأتي بأطفالك معك إلى المسجد كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود والحاكم وغيرهما: {مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر} فإذا بلغ الصبي سبع سنين تأمره بالصلاة، وتعلمه الوضوء، وتعلمه الصلاة وتأمره بها، ويذهب معك إلى المسجد، فإذا تم له عشر سنين تضربه عليها، وتراقبه وتحاسبه، ومثل ذلك في بقية العبادات.(234/23)
أهمية الحب في التربية
وهذا من أعظم الدروس بالنسبة للصبيان والصغار، ومن المهم جداً أن يكون المربي الذي يربيهم يستطيع كسب قلوبهم بالمحبة والمودة، أما إذا أبغضوه أو كرهوه؛ فإنه لا يمكن أن يربيهم؛ لأن تربية الأطفال عن طريق الضرب والقسوة فقط لا تكفي، بل هي تربية فاشلة، لابد أن يربيهم عن طريق المحبة، والقناعة، ويكون الضرب علاجاً لحالات معينة، وهذه قضية خطيرة يجهلها كثيرٌ من الناس، فلابد أن يغرس الإنسان محبته في قلوب الأطفال من الأب أو الأم، أو المربي أياً كان هو، مدرساً في مدرسة، أو مركز، أو غير ذلك.
لاحظ فيما سبق لطف الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة الصبيان حتى إنهم يقعون في حجره ويقبلهم صلى الله عليه وسلم ويضمهم، هذه لها أثر كبير في محبة الأطفال للمربي، الهدية: يهدي النبي عليه الصلاة والسلام الهدية لـ أم خالد الثوب ولا يكتفي بالهدية بل يلبسها إياه، ويقول لها: {هذا ثوب جميل يا أم خالد، انظري إلى هذه الأعلام والخطوط والأشجار الموجودة في هذا الثوب} فترتفع معنوياتها وتفرح بهذا الثوب، فالهدية لا شك تقرب المربي من نفس الطفل وتحببه إليه، إضافة إلى وسائل كثيرة.
فاللطف وحسن المعاملة وطيب الكلام والممازحة مع الطفل والإهداء له والترغيب كل ذلك يحبب المربي إليه، ويكون ذلك سبباً في القبول.(234/24)
أهمية النزول إلى مستوى الأطفال
أحياناً يريد أحدنا أن يربي الأطفال، فتجده يكلمهم، كما يتكلم مع طلاب في مدرسة ثانوية، أو حتى جامعة.
عبارات لا يفهمونها، ومصطلحات غريبة، وقصص من الصعب أن يدركوها، ومعانٍ فوق مستواهم، وحينئذ يستغرب لماذا يشرد الطفل؟! لماذا لا ينتبه؟! ولماذا لم يفهم القصة؟! لأن الكلام الذي تقوله له فوق مستواه، فلا بد أن تنزل لمستوى الطفل بحيث تخاطبه باللهجة التي يفهمها، والأسلوب الذي يعرفه، وتبتعد عن استخدام مصطلحات غريبة، أو معانٍ لا يدركها، أو قضايا بعيدة عن عقليته وفهمه وتفكيره، فلابد من تبسيط هذه المعاني، وأن ينزل الإنسان إلى مستوى هؤلاء الأطفال، ويبلغها إليهم بالطريقة التي تناسبهم.(234/25)
شحن عواطف الأطفال ذكوراً كانوا أم إناثاً
العاطفة لها تأثير كبير جداً في حياة الإنسان، وافهموا أيها الإخوة أن الكبار الذين يُحَطِّمون، هم لم يجدوا العاطفة في صغرهم فانتقموا في الكبر من المجتمع، ولذلك من المهم جداً، أن يحرص الأب والأم والمربي على أن يشبع الأطفال من الحنان والعاطفة.
بالنسبة للأم من أهم وسائل العاطفة الإرضاع الطبيعي، ولذلك يقول المختصون لو اضطرت الأم إلى إرضاع الطفل رضاعة غير طبيعية ينبغي أن يكون عند الرضاعة على صدرها، وأن تضمه إلى صدرها؛ لأنه يكتسب نوعاً من الحنان في ذلك، فيجد الحنان، ويجد العاطفة.
وكذلك الأب: انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يحمل الأطفال على كتفيه أو يجعلهم في حجره، أو يضمهم إليه، أو يقبلهم أو يشمهم، أو يعانقهم كما سبق معنا، كل هذه الأشياء تشبع الأطفال بالحنان والعطف، فيرضعونه في الصغر، ويعطونهم لغيرهم في الكبر، وهذه من أهم الجوانب التي يحتاج إليها الطفل، حتى ينشأ متوازناً سليماً.(234/26)
الأولاد ابتلاء من الله لنا
أخيراً: الأولاد ذكوراً كانوا أم إناثاً هم ابتلاء، فحينما يولدون يبتلى الإنسان برعايتهم وبرزقهم وبالقيام على شئونهم وبتربيتهم، وبالمحافظة على صحتهم، فالإنسان يسعى وراءهم، والله عز وجل كتب هذا في نفوس الآباء برحمته ليستمر البشر على ظهر هذه الأرض، ويقوما بعبوديتهم له جل وعلا وعمارة الدنيا، ثم هم ابتلاء بعد ذلك حينما ينزل بهم قضاء الله تعالى وقدره بالموت، فيحزن لذلك الآباء، وكم من أب بكى ابنه بدموع حارة.
ولعلي أذكر منهم الشاعر المعروف أبا الحسن التهامي الذي رثا ابنه حين مات في قصيدة رائعة، ومن ضمن هذه القصيدة يقول: يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحار جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفر من الأسفار ومثل الشاعر ابن الرومي توفي له ولد، فرثاه بقصيدة دالية جميلة من عيون الشعر العربي، يقول فيها: محمد ما شيء توهم سلوة لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد أرى أخويك الباقيين كليهما يكونان للأحزان أورى من الزند وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقد لكلٍ مكانٌ لا يسد اختلاله مكان أخيه من صبور ولا جلد إلى غير ذلك، وربما يكون من أعظم البلاء أن يبتلى الأب بوقوع ابنه في شرك الانحراف، ولذلك فإن على الأب، أن يُعنى بصلاح ولده، واستقامة خلقه ودينه، أكثر ما يُعنى بصحته وعافيته وسلامته.
رزقني الله تعالى وإياكم الذرية الصالحة.
ووفقني وإياكم إلى تربيتهم، والقيام عليهم، ورزقنا برهم، وجعلهم ذخراً لنا يوم نلقاه، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(234/27)
الأسئلة(234/28)
دعوة الأم عل ولدها
السؤال
ما رأيكم ببعض النساء تدعو على طفلها ولا تقصد، كالعمى والموت وغيره؟
الجواب
لا ينبغي، أن يدعو الوالد على ولده إلا بخير، ويعود لسانه على أنه لا يدعو عليه، والمؤسف أن هذا كثير وموجود عند النساء بكثرة، سواء عند الجاهلات أم المتعلمات أحياناً، وكما أسلفت إن الدعاء لا يفيد في تربية الأطفال، وقد يصادف باباً مفتوحاً فيستجاب الدعاء، فيندم الوالد، لكن على الأم إذا غضبت على الولد، فيمكن أن تؤدبه بالتوبيخ والتهديد وبالضرب الغير المبرح، أو بحرمانه من شيء، أو بالوعيد بأن تخبر والده أو بغير ذلك.(234/29)
الإجابة على أسئلة الأطفال
السؤال
كثيراً ما تواجهنا أسئلة خطيرة في الاعتقاد فكيف نجيبهم؟
الجواب
يجابون كما ذكرت بالنزول إلى مستواهم، وقد يجابون بقدر ما يفهمون ويعقلون، ويحاول أن يقرب إليهم ما هو غائب عن عيونهم يقرب إليهم إلى الغائب بالأشياء الحاضرة، إلا إذا كان بالأمور الغيبية؛ فإنه لا ينبغي ذلك.(234/30)
فائدة العطف على الصغار
السؤال يقول: من المعلوم أن الصغار لا يذكرون عطف الكبار عليهم، فما هي الفائدة؟
الجواب
الفائدة فائدة نفسية؛ لأنه لا يذكر أن والده أخذه في حضنه، ووضعه في حجره، لا يذكر هذا، لكن يظهر هذا في سلوك الطفل، فالطفل الذي رضع الحنان تجد عنده خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وسريع الاهتداء، وعنده عطف على الفقراء والمساكين واليتامى، وعنده اعتدال وإحسان إلى الجيران، بخلاف الآخر الذي لم يجد الحنان، فعنده قسوة في قلبه، وقد يتحول الأمر أحياناً إلى أن يتحول هذا إلى إنسان عنده حقد على المجتمع، ويحرص على تدمير هذا المجتمع.(234/31)
ملابس الأطفال الصغار
السؤال
ما رأيكم في ملابس الأطفال الصغار؟
الجواب
ينبغي أن لا يدرب الأطفال الصغار -خاصةً البنات- على الملابس السافرة، ينبغي أن لا يدرب على ذلك.
فالبنت الصغيرة أحياناً يكون شبابها قوياً فيكبر جسمها، ولو كان عمرها صغيراً، وتتعرض للناس وتقف عند الباب، أو تخرج أو ما أشبه ذلك، فيجب أن لا تعود الأم الأطفال على الملابس السافرة حتى وإن كانوا صغاراً.(234/32)
حكم الأناشيد
السؤال
ما حكم الأناشيد؟
الجواب
أرى أن الأناشيد كما قالت عائشة رضي الله عنها في الشعر: هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فلا بأس بالأناشيد إذا كان بين الحين والآخر، إزالة الملل والسأم، بشرط أن تكون معانيها حسنة، وألا يكثر الإنسان منها حتى تكون همه وشغله الشاغل، كما قال الإمام البخاري في باب (من كان غالب عليه الشعر) وساق قوله عليه الصلاة والسلام: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً} وألا تكون الأناشيد على أنغام الموسيقى، وأن لا تكون لها آلات وطبول وما أشبه ذلك.(234/33)
تسمية الولد باسم جده
السؤال
جرت العادة أن الوالد يسمي ابنه على اسم والده، وإذا لم يسمه حصل في نفس الوالد شيء، في حين أن بعضهم لا يسمي بذلك بحجة أن ذلك يميت ذكر والده وهو حي، وبعضهم يسمي بأسماء غريبة بعيدة ما توجيهاتكم؟
الجواب
ذكرت أن لي محاضرة في موضوع التسمية ولها ثلاث حلقات.
إن تسمية الابن بتسمية الوالد لا حرج فيها، يقول عليه الصلاة والسلام: {ولد لي الليلة غلامٌ، فسميته باسم أبي إبراهيم} فإذا كان هذا يسر الوالد، وكان اسم الوالد حسناً، فلا بأس أن تسميه باسم الوالد، وإن كان الوالد لا يريد ذلك فلا تسميه باسمه.
وإن كان الأمر عنده سيان، فاختر له الاسم المناسب.(234/34)
الصبيان والمساجد
السؤال
كيف نجمع بين الأمر بتجنيب الصبيان والأحداث المساجد ووجودهم فيها؟
الجواب
حديث: {جنبوا صبيانكم مساجدكم} لا يصح، وأما من كانوا فوق سن السابعة وما فوقها، فقد سمعتم الحديث، بأمرهم بالصلاة.
ولكن يدربوا على حرمة المساجد، ومعرفة الآداب المتعلقة بها.(234/35)
الأطفال والتلفاز
السؤال
لجهاز التلفاز أثرٌ في تنشئة الأطفال فبماذا توصوننا؟
الجواب
نوصي أولاً: بالاستغناء عن هذا الجهاز، وألا يكون على مرأى من الأطفال، فإنه حين وجوده، يصعب عليك أن تتحكم فيه، وتأثيره بليغ، والمؤسف أن آثاره تتعدى إلى العقيدة؛ لأن كثيراً من البرامج التي تقدم -أول وأظهر ما يبين فيها-، أنها تظهر الشخصيات البشرية على أنهم أصحاب قدرات خارقة حتى كأنهم آلهة، وقد يستقر في ذهن الطفل أن هذا إله.
بل حدثني واحد؛ أنه لما رأى مجموعة من الأطفال تمثالاً أو نصباً وهو يزاح عنه الستار، كان الأطفال يشيرون ويسألون أمهاتهم عما إذا كان هذا هو إلههم، فالصبي يرسخ في ذهنه أشياء معينة، ولذلك يوجد كتاب جيد، أوصي بقراءته اسمه (بصمات على ولدي) يتحدث عن الآثار الضارة للتلفاز على الأطفال.
السؤال: ما هي الطريقة المثلى للتخلص من التلفاز؟ الجواب: الطريقة المثلى هي التحطيم.(234/36)
حديث (لاعبه سبعاً)
السؤال يقول: لاعبه سبعاً، وحدثه سبعاً، وأدبه سبعاً، هل هذا حديث؟
الجواب
هذا ليس بحديث.(234/37)
مصير أطفال الكفار في الآخرة
السؤال
قلت إن أطفال اليهود حطب جهنم، هل يعاقب الأطفال إن لم يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم، الرجاء التبيين الكامل؟
الجواب
الذي يظهر، أن هذا لم يكن طفلاً، بمعنى أنه ليس مكلفاً بل الأظهر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم {الحمد لله الذي أنقذه من النار} إما أن يكون هذا الرجل مميزاً، وإما أن يكون صبياً، والله تعالى أعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قصد لما شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أصبح من المسلمين ومن أهل الجنة حتماً، بخلاف إذا مات على كفره، حتى لو كان صبياً؛ لأنه قد يكون من أهل النار، الله أعلم بما كان.
والكلام الذي يتعلق بالأطفال الذي يطلب الأخ التبيين الكامل لها، هذه المسألة فيها عشرة أقوال ذكرها الإمام ابن القيم في كتاب أحكام أهل الذمة، وأشرت إلى شيءٍ منها في كتابي حوار مع الغزالي يمكن أن ترجع إليه وتجد فيه -إن شاء الله- إشارة إلى القول الراجح.(234/38)
المشروع في تحنيك الأطفال
السؤال
قلت إن تحنيك المولود خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، فهل يعني ذلك أنه لا يشرع تحنيك المولود، علماً أن له فوائد صحية؟
الجواب
لا، لست أقصد لا يشرع تحنيكه، لكن أقصد أنه ليس من المشروع أن يذهب الناس بأطفالهم إلى أولي الفضل ليحنكوه.(234/39)
حكم الكذب على الأطفال
السؤال
أحياناً يتم إقناع الطفل بأساليب كاذبة، فهل هذا مقبول؟
الجواب
في الحديث الصحيح عند أبي داود وغيره، أن أم عبد الله بن أمية قالت له: يا عبد الله تعال أعطك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تعطينه؟ فقالت: تمرة قال: إنكِ لو لم تفعلي كتبت عليكِ كذبة} فلا يجوز تربية الطفل بالكذب بحالٍ من الأحوال.(234/40)
أصول الإيمان
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن الإيمان وأهميته، فبدأ بذكر تعدد نعم الله تعالى؛ وأن أعظمها نعمة الدين (الإيمان) وذكر أنه (أي الإيمان) شرط لدخول الجنة، وجاء بقصة الرجل الشجاع الذي كان في إحدى الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وحكم النبي عليه أنه في النار، وبين صفات الطائفة المستثناة من الخسران المذكور في سورة العصر، وبين أهمية استحضار النية الصالحة في كل عمل، وأوضح إمكانية نصر الله لهذا الدين بالرجل الفاجر، وبين أن قاتل نفسه ليس مرتداً على الصحيح، ثم ذكر أن خاتمة الإنسان تحدد مصيره يوم القيامة، وأن العمل -ومنه عمل القلب- سبب دخول الجنة.(235/1)
نعم الله كثيرة وأعظمها نعمة الدين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده نبينا ورسولنا محمد الذي بعثه الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] .
إن رحمة الله تعالى لعبيده ببعثه هذا النبي المختار تتجلى في الدنيا وفي الآخرة، فأما رحمته تعالى لنا وللبشرية كلها في الدنيا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أن منَّ علينا بهذا الدين الذي ينظم جميع شئون دنيانا، سواء في علاقتنا بعضنا ببعض، أو علاقتنا بغيرنا، أو في علاقة الفرد بالمجتمع، أو في علاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى، كما منَّ علينا سبحانه بأن بعث هذا النبي المختار صلى الله عليه وسلم يحمل الدين والإيمان الذي من تمسك به يشعر بالطمأنينة والسعادة، كما وعد سبحانه حينما أهبط أبانا آدم إلى الأرض وأمنا حواء، فقال سبحانه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] وتوعد من أعرض عن هذه الهداية بالمعيشة الضنك في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123-127] وواعد سبحانه المؤمنين ذكراناً كانوا أو إناثاً أنه سيهبهم الحياة السعيدة في الدنيا فقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] وفي الآية الأخرى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] .
أيها إلاخوة: إن كثيراً من النعم لا يدركها ولا يعرف قيمتها إلا من فقدها، ولو نظرنا إلى ما يتمتع به مجتمعنا -والحمد لله- من الاطمئنان والسكينة والهدوء، وقسنا ذلك بما تعانيه الأمم الأخرى، لأدركنا عظيم نعمة الله علينا بالإيمان، هذا ونحن مقصرون ومفرطون، فكيف لو استمسكنا بعروة الله الوثقى؟! وحققنا مدلول الإيمان الحقيقي؟! إذاً لعشنا عيشة كما قال عنها بعض السلف: [[لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف]] إنكم تسمعون بين الفينة والفينة، بل تسمعون في اليوم الواحد أخباراً عديدة عن البلاد الأوروبية وغيرها، في أوروبا أو أمريكا أو روسيا أو سواها من بلاد العالم، التي تعيش في الجاهلية الجهلاء، والتي لم تستظل بظل الإسلام، ولم تستنر بنوره، ولم تقتبس من هدي محمد صلى الله عليه وسلم، تسمعون في اليوم الواحد أخباراً عديدة عن المآسي والمصاعب التي يعانونها، ويكفي أنهم يصدرون إحصائيات انتحار بالدقيقة أو ربما بما دون ذلك أحياناً! إن أي واحد منهم -نظراً لخواء قلبه وفراغ روحه وعدم شعوره بالهدف الذي خلق من أجله- يضيق من الحياة، ويتبرم منها لأدنى مشكلة يمكن أن تعرض له، وهذا وحده يكفي لنعرف عظيم نعمة الإيمان.
إن إيمان الإنسان بالله، وإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه المرسلين، وإيمانه بالقضاء والقدر، لهو نعمة كبرى، تتجلى في الدنيا أولاً، وإذا كان هذا شيء منها فإن السعادة العظمى للمؤمن هي في الآخرة: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43] .(235/2)
الإيمان شرط لدخول الجنة
إذا كنا ندرك تماما أن الناس يوم القيامة ينقسمون إلى معسكرين لا ثالث لهما: إما إلى جنة، وإما إلى نار، هذا هو المصير الذي لا بد أن يصير إليه كل إنسان، وكل مؤمن بالله لا يتردد ولا يشك في هذه الحقيقة فهو يعلم أن مهر دخول الجنة، أو جواز دخول الجنة هو الإيمان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ولذا فإن الله تبارك وتعالى حرّم على من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم -بعد أن تبلغه بعثته- حرّم عليه الجنة، فقال في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -أي: من أمة الدعوة سواء من اليهود أو النصارى أو المشركين أو غيرهم- يهوديٌ ولا نصرانيٌ ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار} .(235/3)
قصة وعبرة
وقد أحببت أن أبدأ كلمتي هذه بقصة أو حادثة رواها لنا الإمام مسلم في صحيحه، وفيها لنا عبرة أي عبرة، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر كان هناك رجل من المسلمين يقاتل قتالاً شديداً ويبلي بلاءً حسناً، حتى إنه لم يدع للمشركين شاذّة ولا فاذة إلا أتى عليها يضربها بسيفه، فاجتمع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! ما أغنى عنا أحد اليوم ما أغنى عنا فلان -لم يبل أحد في الحرب والقتال مثل بلاء فلان بن فلان هذا- فقال لهم الصادق المصدوق المؤيد بالوحي من السماء: هو في النار، فاستغرب المسلمون ذلك أشد الاستغراب، وكاد بعض المسلمين أن يرتاب ويشك في الأمر -إذا كان هذا في النار فمن سيكون في الجنة إذاً- فقالوا: إنه قتل يا رسول الله كثيراً من المشركين، قال: هو إلى النار، فقال رجل منهم أنا صاحبه -يعني: أنا الذي سأتبع هذا الرجل في كل خطواته، وأعرف السر الذي من أجله حكم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل بالنار- فصار يتبع هذا الرجل خطوة بخطوة، فجاءت إشاعة عنه أنه قتل، ووجد أنه لم يقتل، وإنما أصابته جراح شديدة، ولا يزال حياً وفيه رمق، فجزع هذا الرجل من الجراحة التي أصابته، فقام فوضع ذباب السيف في صدره فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره، فجاء هذا الرجل يقول: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله -وكان هذا الرجل من قبل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله- ولذلك استغرب الرسول صلى الله عليه وسلم من تجديد النطق بالشهادتين، وعرف أنه لم يجدد ذلك إلا لأمر حصل أو علامة اطلع عليها تؤيد نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه بما جاء به، ولذلك لما قال له: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ -ما الأمر- فقال الرجل: يا رسول الله! الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار، ذهبت فوجدته لم يمت وإنما جرح جرحاً شديداً، فجزع فقام فاتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره ثم مات، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اذهب يا فلان -لواحد من أصحابه- فأذن في الناس أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وإن الله ليعز هذا الدين بالرجل الفاجر!} هكذا في رواية أبي هريرة أما في رواية سهل بن سعد فإنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة} .
فدعونا أيها الإخوة نتأمل قليلاً في معاني الكلمات التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من ينادي بها في الناس، إنه لم يأمر بالنداء بها إلا لأنها من القضايا التي يجب أن يعلمها العام والخاص، والصغير والكبير، والجديد والقديم في إسلامه.
القضية الأولى: أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، فمهما عمل الإنسان من الأعمال بدون إيمان بالله، فإن هذه الأعمال لا تقربه إلى الله، بل تبعده عن الله، ولا تدخله الجنة، بل تزيد من توغله في دركات النار! انظروا -مثلاً- إلى المنافقين لقد كانوا يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويحجون ويصومون، بل ويجاهدون معه صلى الله عليه وسلم! ومنهم من يقتل في المعركة، ومع ذلك لم تزدهم هذه الأعمال قربة من الله ولا قربة من الجنة، بل حكم الله عز وجل عليهم بأنهم أحط درجة في النار من الكفار أنفسهم ومن المشركين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] فالكافر الحقيقي والمشرك الحقيقي هو في النار فوق المنافقين، فأعمال المنافقين التي ظاهرها أنها أعمال صالحة لم تزدهم إلا انحطاطاً وسفولاً في دركات جهنم والعياذ بالله لماذا؟ لأنها فقدت الجذر التي تمتد به في الأرض، فقدت الأصل الذي تنتسب إليه فصارت أعمالاً حابطة لا قيمة لها، فقدت الإيمان بالله.
وانظروا إلى قوله تعالى في شأن المرائين: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] هو مصلٍ، ولذلك يتوعد بالويل وهو العذاب؛ ليس لأنه مصلٍ ولكن لأنه كما قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:5-7] .
إذاً هذا المصلي الذي تجشم المتاعب، وقد يكون قام لصلاة الفجر -مثلاً- واغتسل بالماء البارد، ومشى في الجو البارد، وصلى مع الناس، تجشم كل هذه المتاعب، ومع ذلك كان جزاؤه أن يتوعده الله عز وجل بالويل وهو العذاب، لأنه فقد الأصل -الإيمان- الذي تنسب إليه هذه الأعمال وتكون به أعمالاً صالحة.
فالمنافقون والمراءون لم تزدهم أعمالهم -التي قصدوا بها ما عند الناس- من الله إلا بعداً، ويوم القيامة يقول الله تبارك وتعالى لهم بعد أن يثيب المؤمنين: {اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء} وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الله تبارك وتعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} وفي لفظ: {فهو للذي أشرك وأنا منه بريء} فكل عمل عمله الإنسان قصد فيه غير وجه الله، أو قصد فيه وجه الله مع أمرٍ آخر، فإن هذا العمل يكون حابطاً وهباءً منثوراً! لا بل لا يخرج الإنسان منه كفافاً لا له ولا عليه، بل إنه في موازين سيئاته يوم القيامة.(235/4)
الطائفة المستثناة من الخسران
إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] خسر مطبق في الدنيا والآخرة، ثم استثنى فقط طائفة واحدة ووصفهم بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3] فهذا هو الشرط الأول، وبانتفاء هذا الشرط لا يكون لكل عمل عمله الإنسان ثمرة أو فائدة.
وهنا قد يقول قائل: إننا نجد كثيراً من الناس يقومون بأعمال صالحة تنفع الناس في الدنيا، فهذا فاجر -مثلاً- يتصدق وينفق الأموال الطائلة، ويحسن إلى اليتامى والمساكين، ويساعد المسلمين والمجاهدين وغيرهم فهل تقولون: إنَّ عمله حابط، وأنه هباء منثور، فأقول
الجواب
نعم بدون تردد! إن كان قصده من هذا العمل أن يُمدح، أو يُثنى عليه، أو يُقال: إنه جواد أو إنه كريم، فإن عمله حابط، ويقلب عليه سيئات يوم القيامة، فيقول قائل: إذا كان الله لا يظلم أحداً ولا يضيع عنده شيء، ألا يجازي هذا الإنسان ولو بعض الجزاء؟! فأقول: بلى إن الله لا يضيع عنده شيء مهما دق، وقد سمعتم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] مثقال ذرة، يعني الهباءة الصغيرة التي ترى في الشمس، أو الذرة النملة الصغيرة مثقال ذرة: لا يضيع عند الله خيراً أو شراً: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] هؤلاء الذين ينفقون ويتصدقون من أجل أن يقال: إنهم أجواد كرماء، يجزيهم الله -تعالى- عن أعمالهم بالثناء الحسن في الدنيا، فيكتب اسمه في الجريدة -مثلاً- ويكتب اسمه في الإعلانات، (إن فلان بن فلان تصدق) فهذا جزاؤه من عمله؛ لأنه قصد هذا، فجازاه الله بأن كتب له ثناءً حسناً عند الناس أن فلاناً قد تصدق، وهذا هو كل حظه مما أنفق، ومثل الإنسان الذي يصلي من أجل أن يمدح ومن أجل أن يقال: إنه يصلي، فهذا جزاؤه في الدنيا عاجل غير آجل، أن يتكلم الناس عنه فيقولون: (فلان رجل صالح محافظ على الصلاة) هذا أجره وهذا جزاؤه، أما يوم القيامة فقد أخبرنا الله -جل وعلا- أن أعماله حابطة لا قيمة لها البتة، بل هي عليه -كما ذكرت -سيئات! إذاً: لا بد من الشرط الأول: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3] قبل أن يعملوا الصالحات لا بد أن يؤمنوا، فإذا آمنوا بنوا على هذا الأصل البناء وهو العمل الصالح: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] انظر إلى هذا الرجل الذي ذكرت لكم شأنه، إنه مقاتل لا يدع شاذةً ولا فاذة، وقد أبلى البلاء الحسن حتى جرح جرحاً بليغاً في المعركة، وهذا أغلى ما يملك، ولذلك يمدح الشاعر رجلاً فيقول: يجود بالنفس إن ظن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود فيمدح رجلاً بأنه يجود بنفسه، وأغنى ما يملكه الإنسان هو نفسه، إذاً أغلى وأقوى عمل يمكن أن يعمله الإنسان هو الجهاد في سبيل الله في المعركة، قتال الكفار، ومع أن ذلك الرجل الذي قاتل قتالاً مستميتاً يكون جزاؤه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتوعده بالنار، لماذا؟ لأن الأصل الذي يقوم عليه هذا العمل مفقود، وهو الإيمان، فيأمر صلى الله عليه وسلم من ينادي: {إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة} وهنا قبل أن أغادر هذه النقطة إلى النقطة الثانية، أذكركم بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهذا الحديث يجب أن نخاف إذا سمعناه.(235/5)
قد ينصر الله الدين بالرجل الفاجر
القضية الثانية التي أراد منا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نفقهها بهذه المناسبة هي قوله صلى الله عليه وسلم: {وإن الله ليعز هذا الدين بالرجل الفاجر} وهذا يعني إما أن هذا الرجل كان مشركاً منافقاً فيكون معنى الفجور هنا الكفر والعياذ بالله ويكون المعنى أن الرجل الفاجر قد ينفع الله به الدين، كمثل المقاتل في المعركة يقاتل رياء أو سمعة أو حمية أو طلباً للغنيمة، فينصر الله به المسلمين وإن كان آثماً لعمله ذلك، فهذا الاحتمال الأول: أن يكون الرجل منافقاً، الاحتمال الثاني: أن يكون الرجل فاسقاً غير منافق، ويكون ذنبه وجرمه أنه قتل نفسه.(235/6)
قاتل النفس ليس مرتداً
قتل النفس وهو ما يعرف بالانتحار، جريمة كبرى، وكبيرة من الكبائر، وخطيئة من الخطايا، لكن مما لا شك فيه أن قاتل نفسه لا يحكم عليه بالكفر المخرج من الملة والخلود في النار، والله أعلم والدليل على ذلك:- أولاً: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وأما الدليل الخاص في هذه المسألة فهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الطفيل بن عمرو الدوسي هاجر هو ورجل من قومه إلى المدينة، فكأن هذا الرجل المرافق للطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه لما سكن المدينة اجتواها واستوخمها، وأصابه شيء من حمَّاها، فضاق به المقام فيها، فقام هذا الرجل إلى مشاقص كانت عنده- وهي السهام العريضة - فقطع بها براجمة -والبراجم هي: المفاصل في كل أصبع- فصار دمه ينزف حتى مات، فلما نام الطفيل بن عمرو في تلك الليلة رآه في المنام في هيئة حسنة، وقد غطى يديه بثوبه، انظروا إلى هذا العجب هذه الرؤية العجيبة؛ رآه في المنام في هيئة حسنة وقد غطى يديه بثوبه، فقال: ما صنع الله بك؟ قال غفر الله لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم قال: فما شأن يديك؟ لماذا أنت مغطٍ يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك، فلما أصبح الطفيل، قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقص عليه هذه الرؤيا العجيبة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {اللهم وليديه فاغفر} فالشاهد من هذا الحديث أولا: هذه الرؤيا وهي رؤيا حق، وقد رأى الطفيل هذا الرجل في هيئة حسنة مع أنه قتل نفسه، وقد يقول قائل: إن الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي، وهذا صحيح.
الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر هذه الرؤيا حين سمعها، بل وزاد عليها أنه دعا لذلك الرجل بالمغفرة، فقال: {وليديه فاغفر} الشاهد من ذلك: أن قاتل نفسه لا يُحكم عليه بالردة عن الإسلام فيما أعلم، بل هو كمن قتل غيره من المسلمين يُحكم عليه بأنه ارتكب جرماً عظيماً وموبقة من الموبقات وكبيرة من كبائر الذنوب، وإن استحل هذا العمل فهو كافر، أما إن فعل وندم على ما فعل قبل أن تخرج روحه، فهذه والله أعلم نوع من التوبة ويرجى لمثله أن يتوب الله عليه، وإن عذبه فمصيره -إن شاء الله- إلى المغفرة.
فيحتمل أن يكون هذا الرجل الذي قتل نفسه في معركة خيبر ليس كافراً، وإنما هو مسلم غلبته الجراح فقتل نفسه، فحكم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه في النار، يعني أنه سيعذب في النار بهذه الخطيئة التي ارتكبها، ولا يلزم من ذلك أن يكون خالداً مخلداً في نار جهنم خلود الكفار والمشركين هذا فيما يتعلق بالرواية الأولى وهي قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وإن الله يعز هذا الدين بالرجل الفاجر} .(235/7)
أول من تسعر بهم النار
أيها الإخوة: يجب على كل مسلم يسمع هذا الحديث أن يرتعد ويخاف، لأن راويه وهو أبو هريرة، كان حين يريد أن يحدث بهذا الحديث، ينشغ ويشهق حتى يغمى عليه، ثم يفيق، ثم يغمى عليه أخرى ثم يفيق، ثم يغمى عليه ثالثة، ثم يقول هذا الحديث؛ لأنه حديث رهيب فعلاً، يقول أبو هريرة رضي الله عنه سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: {أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثه} اسمعوا أيها الإخوة، واحذروا أن يكون أحد منا ممن يخشى عليه أن يكون أحد هذه الأصناف الثلاثة، إنهم ليسوا ثلاثة أفراد، بل هم ثلاثة أصناف من الناس، الأول منهم: رجل قاتل في المعركة حتى قُتل، فيأتي به الله تبارك وتعالى يوم القيامة فيعرفه نعمه فيعرفها، أنه كان شجاعاً قوياً باسلاً مقداماً، فيقول الله تبارك وتعالى له: فماذا عملت فيها؟ فيقول: يا رب قاتلت فيك حتى قتلت، فيقول الله عز وجل له: كذبت! ولكنك فعلت ليقال هو جريء، وقد قيل، ثم يأمر الله عز وجل به فيسحب إلى النار، هذا الحديث -أقول لكم- في صحيح مسلم وهو من الكتب التي أجمعت الأمة على صحتها، الصنف الثاني من الناس: رجل آتاه الله مالاً في الدنيا فأنفق وتصدق، فيأتي به الله يوم القيامة فيعرفه نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: يا رب أنفقت فيك وتصدقت، فيقول الله عز وجل له: كذبت! ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، نصيبه من عمله أنه مدح في الدنيا بهذا العمل لا أكثر، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار، ثم يأتي بالثالث: وهو رجل آتاه الله العلم فعِلم في الدنيا وعلَّم، فيأتي به الله تعالى يوم القيامة فيعرفه نعمه فيعرفها، فيقول له: ماذا عملت فيها؟ فيقول: تعلمت فيك العلم وعلمته، فيقول الله عز وجل له: كذبت! ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، أو هو قارئ، فقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار، هؤلاء على لسان الصادق المصدوق هم أول من تسعر بهم النار، إنهم عملوا في الظاهر أعمالاً صالحة في الدنيا، إما جهاداً في سبيل الله، أو إنفاقاً، أو علماً وتعليماً، ومع ذلك هم أول من تسعر بهم النار؛ لأنهم لا يقصدون وجه الله فيما عملوا، إنما قصدوا وجه فلان وفلان من الناس، وهذا هو الشرك والعياذ بالله.(235/8)
استحضار النية الصالحة في كل عمل
إني أوصي نفسي، وأوصي كل مؤمن، أن يخاف الله في نفسه، وأن يتذكر أن من واجبه أن يستحضر النية الصالحة في كل عمل يعمله، فإن النية الصالحة تجعل الأعمال العادية الدنيوية البحتة عبادات، وفقدان النية تجعل العبادات أوزاراً على ظهر الإنسان، انظروا إلى جماع الرجل لزوجته على سبيل المثال، وهو أمر من الأمور الدنيوية العادية التي ركبها الله في كل واحد من البشر، هذا العمل العادي يتحول بالنية إلى عمل يؤجر عليه الإنسان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، يقول في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أيضاً: {كل معروف صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته وتحمله عليها -يعني الرجل الكهل الذي لا يستطيع أن يركب الدابة - أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة} {-بل- وتبسمك في وجه أخيك صدقة} الله أكبر! ابتسامة يفترُّ عنها ثغر الإنسان تكتب له حسنة؛ لأنه أدخل بها السرور إلى قلب أخيه المسلم {وتفرغ من دلوك في دلو أخيك صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟! قال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر} إذاً القضية الأولى: النية الصالحة وبها تتحول الأعمال الدنيوية العادية إلى عبادات يثاب عليها الإنسان، وبفقدها تتحول العبادات إلى أوزار يبوء بإثمها العبد يوم القيامة، ولذلك قال بعضهم: (الموفقون من الناس عاداتهم عبادات، والمحرومون من الناس عباداتهم عادات) .(235/9)
خاتمة الإنسان تحدد مصيره
أما الرواية الثانية وكلاهما كما ذكرت أولاً في صحيح مسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة} فدعونا نتأمل قليلاً في معنى هذه الكلمة التي تحمل أيضاً أكثر من معنى؛ لأنها قيلت بمناسبة هذا الرجل، فيحتمل أن يكون معنى الكلمة: أن العبد قد يعمل طيلة عمره بالطاعات فيختم له والعياذ بالله بخاتمة السوء، فيموت على الكفر والشرك، فيكون من أهل النار، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: {إن أحدكم يجمع في بطن أمه} إلخ الحديث حتى قال صلى الله عليه وسلم: {فوالذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها} فهذا رجلٌ عمل خيراً فختم له والعياذ بالله بخاتمة السوء، ثم قال: {وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} وهذا رجلٌ أسرف على نفسه في المعاصي، ثم تاب قبل أن تغرغر روحه وقبل أن يعاين الملائكة فقبل الله توبته، وغفر له وأدخله الجنة، ولذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا جلس مع أصحابه قال: خبروني عن رجل يدخل الجنة ما سجد لله سجدة؟ فيتحدثون فيما بينهم فيقول لهم: رجل من اليهود لما كان في معركة أحد قال: أين الناس؟ أين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أين المسلمون؟ قالوا: خرجوا للقتال، فترك ما كان في يديه، فخرج إلى أحد فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أُسلم أو أقاتل؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أسلم ثم قاتل، فأسلم وقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم قاتل فقتل في المعركة فدخل الجنة ولم يسجد لله سجدة، وهذا مصداق ما ذكرت لكم في النقطة الأولى، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: أسلم ثم قاتل، فالقتال قبل الإسلام لا ينفع، ولذلك بوب البخاري على هذا الحديث بقوله: (باب عمل صالح قبل القتال) واستشهد بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] .
الاحتمال الأول: أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، أن المقصود أن العبد قد يعمل الخير فيسبق عليه ما كتب عليه في القدر، فيتحول إلى المعاصي والعياذ بالله فيختم له بالسوء، وكان السلف يخافون من سوء الخاتمة.
والرجل الذي يعمل الموبقات والخطايا، ثم يفتح الله عليه قبل أن يموت فيعمل الصالحات فيدخل بها الجنة، ويكون المعنى: أن هذا الرجل عمل صالحاً ثم ختم له بأن انتحر والعياذ بالله كما هو واضح في سياق القصة.
الاحتمال الثاني في معنى هذا الحديث: أن يكون الرجل يعمل في الظاهر بالطاعات، وهو في الحقيقة على النقيض من ذلك، أو يعمل في الظاهر بالمعاصي وحقيقته على الضد من ذلك، وأمر الطاعات واضح ومعروف للجميع، أن يكون الرجل كما ذكرنا منافقاً أو مرائياً، يتظاهر بالأعمال الصالحة من أجل الناس، فهذا يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو في الحقيقة من أهل النار.(235/10)
علم القلب من موجبات حسن الخاتمة
ولكن الأمر الذي قد يشكل عليكم، كيف يكون يعمل بعمل أهل النار وهو من أهل الجنة؟ إنسان مسرف على نفسه مات وهو يقترف كثيراً من المعاصي، ومع ذلك نقول إنه من أهل الجنة كيف يكون ذلك؟ فأقول: الجواب هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: {أن رجلاً من بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه، فقال لهم: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإن الأبعد -يعني نفسه- لم يعمل خيراً قط، فإذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم انظروا يوماً شديد الريح فذروني فيه، فوالله لئن قدر الله على ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله عز وجل هذا الإنسان فمثل بين يديه بعدما مات، عبداً سوياً كما كان، والله على كل شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فقال: يا عبدي ما حملك على هذا؟ قال مخافتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له} والحديث متفق عليه.
وقد يقول قائل: كيف يغفر لهذا الرجل مع أنه أنكر قدرة الله عز وجل؟ فأقول: إنه كان جاهلاً، وممن يعذر بجهله كما هو في القصة، فكان ليس قادراً على أن يتعلم، ولا يجد من يعلمه، ويجهل أن الله عز وجل قادر على بعثه وإحيائه بعد موته بعد ما يسحق ويحرق ويذر في يوم شديد الريح، فغفر الله له؛ ليس لأنه عمل أعمالاً بجوارحه، ولكن لأنه عمل عملاً بقلبه، وما هذا العمل الذي عمله بقلبه فاستحق به المغفرة؟ إنه الخوف من الله، وأعمال القلوب.
أيها الإخوة: لا تقل أهمية عن أعمال الجوارح، انظروا -مثلاً- إلى رجلين الأول منهما: رجلٌ مصلٍ، صائم، عابد، مزكٍ، كثير الصدقات، وأعمال البر، ولكن فيه عيباً واحداً هو أنه معجب بعمله، مغتر بما فعل، مغرور بذلك، هذا الأول، عمله فيما يبدو للناس من أحسن الأعمال، ولكن عنده هذه العقدة وهي: الغرور بعمله، والإعجاب والإدلاء على الله بنعمه، وآخر مسرف على نفسه، واقع في المعاصي، ولكنه مسلم مصلٍ وعنده في قلبه شعور شديد بالندم والخطيئة، والخوف من الله، والذم للنفس، والتوبيح لها، فأيهما أقرب إلى الله زلفى -ماذا ترون- الذي يظهر أن الثاني أقرب إلى الله زلفى؛ لأنه مسلم، عَمَلُ قلبه من الخوف والانكسار يقربه إلى الله، أما ذلك الإنسان العامل بالطاعات في الظاهر، فربما يكون هذا العجب والغرور محبطاً لعمله والعياذ بالله ولذلك في الصحيح {أن رجلين من بني إسرائيل أحدهما مسرف على نفسه بالمعاصي، والآخر عابد فكان هذا العابد يقول للمسرف: يا فلان اتق الله ودع ما تصنع وينهاه عن فعله حتى مل منه فقال: (والله لا يغفر الله لفلان) فغفر الله له، وأحبط عمله} غفر الله للعاصي المنكسر القريب من الله المخبت الذي يوبخه ضميره، وأحبط عمل العابد المغتر بما فعل المتألي على الله؛ لأن عملك -أيها الإنسان- مهما كان افترض أن حياتك مضت في سجود وركوع، كل ما هو عندك فهو من عند الله فسجودك منة، وقدرتك على العبادة وتوفيقك في العبادة هو منة من الله، ولذلك يقول بعض الشعراء: إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر إذا كان شكرك للنعمة هو نفسه نعمة؛ لأن الله وفقك للشكر، فبذلك ستجد نفسك في نِِعم تتجدد، وكلما شكرت نعمة كان الشكر نعمة تستحق الشكر، وهكذا تطول الأيام ويتصل العمر وأنت لم تؤد ولا بعض حق الله عليك، ولكن الله تبارك وتعالى يرضي منّا باليسير: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] .(235/11)
العمل سبب دخول الجنة
وقبل أن أختم الكلام عن هذه القضية أحب أن أنبه إلى أمر أخشى أن يسبق إلى الأذهان، قد يقول البعض: إن في هذا الكلام شيئا من تهوين أمر المعاصي، وأنه ما دام الإنسان العاصي بخوفه وإخباته قد يدخل الجنة، والمطيع بطاعته التي أدت به إلى الغرور والعجب قد يدخل النار، قد يفهم البعض من هذا التهوينَ من شأن العمل الصالح، أو العمل السيئ، فأقول: كلا!! إن الأصل الثابت الذي لا شك فيه والذي تتظافر عليه نصوص الكتاب والسنة؛ أن الإنسان يدخل الجنة بعمله، ويدخل النار بعمله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] فالإنسان يدخل الجنة برحمة الله التي لم يؤهله لها إلا عمله الصالح: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156] ليس للقاعدين والكسالى {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف:156] وكذلك أهل النار إنما دخلوا النار بعدل الله، واستحقوا النار بأعمالهم السيئة؛ فالأصل الثابت المطرد الذي لا تردد فيه ولا إشكال أن العبد يدخل الجنة بعمله ويدخل النار بعمله.(235/12)
الإيمان القلبي لا بد أن يظهر على الجوارح
إن العمل الصالح أصل، وأي أثر للإيمان في القلب لا بد أن يظهر في الجوارح، ولذلك أضرب لكم مثلاًَ من الأعمال، وهو الذي قد يشكل على كثير من الناس: لقد أجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فيما رواه الترمذي بسند صحيح أن تارك الصلاة كافر، فقال عبد الله بن شقيق رضي الله عنه: [[لم يكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة]] فالآن الصلاة عمل من الأعمال، وتركها كفر مخرج من الملة، والأدلة على ذلك موجودة في القرآن كما هي مذكورة في مواضعها، وليس هذا مجالاً للحديث عنها، فإذا قال قائل: لماذا كان هذا العمل وهو الصلاة مكفراً كفراً مخرجاً من الملة بخلاف بقية الأعمال الأخرى؟ فأقول: لقد قرر الشيخ ابن القيم رحمه الله في كتابه الذي سماه: الصلاة أن من ترك الصلاة بالكلية لا يصليها لا مع الجماعة ولا في بيته، فإنه يستدل بهذا العمل- وهو تركه للصلاة- على أن قلبه خالٍ من الإيمان! بالكلية؛ لأن كل ذرة من الإيمان في القلب لا بد وأن يظهر لها ولو بعض أثر بسيط في الجوارح، فأضعف الإيمان هو الذي يدفع صاحبه لأداء الصلاة ولو في البيت، فإذا ترك الصلاة حتى في البيت عرفنا أن هذا الإنسان ليس في قلبه ولا مثقال حبة من خردل من إيمان، ولذلك في حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما في الصحيحين في شأن الشفاعة أن الله عز وجل يقول: {أخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان} يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من الإيمان، هذا بعد أن يعذب في النار ما شاء الله، يخرج من النار، فنقول: إن الظاهر من كلام الشيخ ابن القيم وعدد من العلماء أن هذا القليل من الإيمان الموجود في القلب، لا بد أن يؤثر ولو أثراً بسيطاً في أعمال الجوارح، أما من عُدِم منه العمل بالكلية فإننا نستدل بذلك على عدم الإيمان من قلبه بالكلية والعياذ بالله.
إذاً: نحن لا نهون من شأن الأعمال الظاهرة، ولا نهون من خطر المعاصي وآثارها وأنها بريد الكفر كما كان السلف يقولون، ولا نهون من شأن الأعمال الصالحة، وأنها من أعظم الأسباب لدخول الجنة، ولكننا نقول مع هذا وذاك: إن الأعمال ليست مقصورة على أعمال الجوارح فحسب، بل هي عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح.
أيها الإخوة: إلى هذا الحد أكتفي وأدعو الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل، ويتوب علينا، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.(235/13)
أنواع العمل
ولكنني أقول: إن العمل ليس هو عمل الجوراح فحسب، بل العمل ثلاثة أنواع: عمل القلب: وهو أولها وأوله الإيمان كما ذكرت، والنية الصالحة، والتوجه إلى الله.
وثانيها: عمل اللسان، وهو أن ينطق الإنسان بلسانه بالشهادتين أولاً وهو المعبر لدخول الجنة، ثم أعمال اللسان من الذكر والدعاء والتسبيح وغيره.
وثالثها: هو عمل بقية الجوارح من صلاة وصيام وزكاة وحج وأمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر وغير ذلك، وإذا فقد أحد هذه الأشياء الثلاثة، لم ينفع الباقي، إن فقد أمر منها بالكلية فالباقي لا قيمة له، فإن فُقِد عمل القلب تماماً فالباقي لا قيمة له، وإن فقد عمل اللسان فالباقي لا قيمة له، وإن فقد عمل الجوراح، فالباقي لا قيمة له، فلو أن إنساناً قال لنا- حين نأمره بالصلاة أو غيرها من أعمال الخير- التقوى هاهنا، كما يقول بعض المضللين والجهال: التقوى هاهنا، لا أحتاج أن أعمل صالحاً؛ لأن قلبي نظيف.
نقول له: إن كنت مسلماً فاعلم أن الإسلام ثلاثة أشياء: عمل القلب واللسان والجوارح، التقوى هاهنا، هاهنا أصل التقوى، ولكن التقوى تظهر على الجوارح، ومن المستحيل أن توجد ذرة من تقوى أو إيمان في القلب ولا يظهر لها أثر على جوارح الإنسان، فلا بد من الثلاثة.
وقد صح أن رجلين من اليهود أتيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهما حَبْران من أحبارهما، فقالا: يا محمد -ونقول صلى الله عليه وسلم- إننا نريد أن نسألك عن مسائل لا يعلمها في الدنيا إلا نبي أو رجل أو رجلان، فقال صلى الله عليه وسلم: أينفعكم إن أخبرتكم؟ أصل الأصل الذي نتحدث عنه ليس المهم أن يعلم الإنسان فقط، بل لا بد أن يعتقد وينطق ويعمل، أينفعكم إن أخبرتكم؟ فقالا له: نسمع بآذاننا -أشاروا إلى أنهم لن ينتفعوا بذلك، ولكنهم سيسمعون، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه المسائل- منها: ما أول طعام أهل الجنة؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: زيادة كبد الحوت، ثم سألوه سؤالاً آخراً: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: على الصراط، ثم سألوه: ما الذي يجعل الولد ذكراً أو أنثى؟ وفي بعض الروايات ما الذي يجعل الشبه ينزع إلى أخواله أو إلى أعمامه، أو إلى أبيه أو إلى أمه؟ فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأنه إن غلب ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكراً، أو كان شبهه إلى أبيه، وإن غلب ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى أو جاء شبهه بأمه، فقالا له: -واسمعوا هذا الشاهد من الحديث- صدقت وإنا نشهد إنك لنبي، وقاما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلا يديه ورجليه، وقالا: صدقت وإنك لنبي، فهؤلاء مؤمنون بالله أنه واحد، وأضافوا إلى ذلك الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يتبعوه صلى الله عليه وسلم في أعمال الجوارح.(235/14)
الأسئلة(235/15)
امرأة حاضت وهي صائمة بعد أذان المغرب ولم تصلِ بعد
السؤال
ما حكم من جاءتها العادة الشهرية بعد أذان المغرب ولكن قبل الصلاة، هل صيامها صحيح أم لا؟
الجواب
السؤال عن الصيام الآن، يعني امرأة صائمة، فبعد أذان المغرب جاءتها العادة الشهرية قبل أن تصلى المغرب، فهل صيامها صحيح أم لا؟ قبل هذا أسأل: متى يفطر الصائم؟ من المعلوم أن الصائم يفطر إذا غربت الشمس، والمؤذنون المؤتمنون جزاهم الله خيراً يؤذنون إعلاماً للناس (أن الشمس قد غربت، فأفطروا) إذاً إذا كانت لم تأتها العادة إلا بعد غياب الشمس فإن صومها ذلك صحيح.(235/16)
حكم كشف الوجه في الصلاة في الحرم
السؤال
هل يجوز أن تصلي المرأة كاشفة وجهها في الحرم المكي أو النبوي والرجال يرونها من قريب أو من بعيد، خاصة عمال النظافة؟ وما حكم الإسلام في الغناء الديني المصحوب بالموسيقى، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما قضية كشف الوجه فلا تجوز وهذا هو الرأي الصحيح الدارج عليه العلماء في هذه البلاد وغيرها، أن كشف المرأة لوجهها لا يجوز، وبناء عليه يجب على المرأة أن تستر وجهها في الصلاة وغيرها، حينما يكون في حضرتها رجال أجانب.
أما قضية الغناء الديني فلا أدري من أين جاءت هذه التسمية، فهذه تسمية متناقضة؛ لأنه ليس هناك شيء اسمه غناء ديني، فأما الأناشيد التي فيها ترغيب أو ترهيب، أو حث أو تشجيع، وليس فيها موسيقى ولا تكسر وتثنٍ في الأصوات، فهذه جائزة، ومع ذلك ينبغي ألا تكون غالبة على الإنسان، فلا يصلح أن يدخل الإنسان البيت وهو يردد النشيد، ويركب السيارة وهو يسمع النشيد، ويأتي إلى المدرسة وهو يردد النشيد، ولذلك بوب الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه فقال (باب من كان الغالب عليه الشعر) وأدخل تحت هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً، خير له من أن يمتلئ شعراً} أما إن كان في حدود معقولة، وشعر إسلامي جيد، فهذا جائز وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن من الشعر لحكمة} وكان يطلب صلى الله عليه وسلم من الشريد بن سويد أن ينشده من شعر أمية بن أبي الصلت، وكلما قرأ قافية قال له صلى الله عليه وسلم: هيه؛ يعني زدني حتى قرأ عليه مائة بيت، والنصوص في ذلك كثيرة، أما الشعر المصحوب بالموسيقى، فهذا لا يجوز، حتى لو كان -مثلما ذكرت الأخت- شعراً دينياً أو يتحدث عن قضايا دينية، وإن كنت لا أوافق على تسميته بهذا الاسم.(235/17)
الفرح والحزن عند المسلم
السؤال
هذه أخت تسأل وتقول: إننا نعيش هذه الأيام مناسبة كروية، والبعض قد يدخله هزيمة نفسية بسبب من يشجع، فقد يحزن ويخرج من البيت وهو حزين، فما حكم هذا؟
الجواب
أقول إنني حزين لهذا السؤال، نعم لقد كان أسلافنا وأجدادنا يفرحون ويحزنون فعلاً كما نفرح ونحزن، لكن بم كانوا يفرحون ويحزنون؟! وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً كان الطفل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يبلغ سن التكليف والرشد، تعلن المعركة فيأتي يتطاول على قدميه حتى يقبله الرسول صلى الله عليه وسلم في الجيش، فإذا رده الرسول صلى الله عليه وسلم رجع يبكي إلى أمه، يقول ردني الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يعتبر أن الفوز هو أن ينجح الفريق الذي يشجع مثلاً، لقد ذهب جماعة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وهو رئيس قبيلة من قبائل المشركين، وكان مع هؤلاء القوم حرام بن ملحان وهو خال أنس بن مالك رضى الله عنه، وكان رئيسهم، فلما وقف حرام بن ملحان -وهذا الحديث في صحيح البخاري، ولذلك أرجو أن تلقوا أسماعكم له- لما وقف حرام بن ملحان أمام هذا الرجل يدعوه إلى الله عز وجل ويذكره بالآخرة، ويبين له بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب الإيمان به، أشار هذا الطاغية إلى رجل من أصحابه أن اقتل هذا الرجل، وقد كان العرب في الجاهلية لا يقتلون الرسول المبعوث من قبيلة أخرى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكم} فكان من الأعراف المرعية أن الرسل لا تقتل، لكن لما خاضوا المعركة مع الإسلام نسوا جميع أعرافهم وتقاليدهم وعاداتهم، فجاء رجل يقال له جبار بن سلمى كان مشركاً من جماعة عامر بن الطفيل، فجاء بخنجر، فسدده إلى بطن حرام بن ملحان رضي الله عنه ففار الدم من بطنه، أمام هذا الموقف الذي يؤمن فيه الكافر، ويعي فيه الشاعر، ما تلعثم هذا الصحابي ولا تردد، بل قال كلمة خلدها التاريخ، وضع يديه - أيها الإخوة- هكذا بجوار بعضهما ثم استقبل الدم النازل منه بقوة وحرارة، وصبه على رأسه، وقال: فزت ورب الكعبة!! الله أكبر، إن هذا لهو الفوز العظيم، ولذلك يروي بعض أهل السير أن هذا الرجل القاتل استغرب: أشد الاستغراب كيف يقول هذا الرجل هذا الكلام رغم أنه الآن يقتل؟! فقد الدنيا، وفقد الزوجة والمال والأولاد، يغادر الدنيا، وهو يقول: فزت ورب الكعبة! وهو لا يمثل هنا، وإنما موقف جاد، فزت ورب الكعبة، فيقول بعض أهل السير إن هذا الرجل الذي طعنه بدأت الكلمة هذه ترن في رأسه طويلاً، حتى جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم وحسن إسلامه! بسبب هذه الكلمة.
أيها الإخوة: الولاء والبراء يجب أن يكون لله، اليوم تجد البيت على نفسه بسبب هذا البلاء الذي دخل علينا، يجب أن ندرك أن من أهم وأعظم خصائص الإيمان أن نوالي في الله ونعادي في الله، أنا أحب المؤمن مهما كان لونه أو بلده أو وظيفته، أو مهما كان مستواه ومنصبه، وأبغض المنافق مهما كان، أما الفاسق فأحبه بقدر إيمانه، وأبغضه بقدر فسقه، أما أن تكون القضايا حباً في الدنيا، وموالاة فيها وبغضاً فيها، فإننا على خطر عظيم، ولذلك أنا قلت لكم قبل قليل: إن هذه الأمة مقبلة ومقدمة على أخطار عظيمة، ما لم ينتبه الغيورون ويجدوا في معالجة الأمر، فإن الأمر كائن لا محالة، ولعلكم تلمسون بوادر خطيرة لمثل هذه القضايا.(235/18)
أساليب التخلص من الرياء
السؤال
يقول لقد تكلمت عن الرياء والسمعة، وشددت فيها وعظمتها، فالسؤال: كيف يمكن للمسلم التخلص من الرياء والسمعة ونحوهما؟
الجواب
يمكن ذلك بأسباب: أولاً: كثرة التفكير في عظمة الله سبحانه وتعالى؛ لأنك إذا تصورت أو عرفت شيئاً من عظمة الله، عرفت أن من الغبن كل الغبن أن تقصد بعملك غيره، هذه نقطة.
الأمر الثاني: أن تتذكر ما أعد الله للمؤمنين، وما أعد للكافرين والمنافقين والمرائين، وتحاول أن تحضر هذا في قلبك.
الأمر الثالث: أن تتذكر نعم الله عليك، وتديم التفكير والنظر فيها، لتعلم أن كل ما تعلمه لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى نعمه سبحانه وتعالى.
وأخيراً: فإنه لا بد من الجهاد، وأقول: الجهاد قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فمن جاهد فليبشر بالهداية، وهذا وعد من الله، والله لا يخلف الميعاد، وقد قرأت عليكم الآية، فمن جاهد في طلب الهداية لا بد أن تأتيه الهداية، لكن لا يمكن أن تجاهد اليوم، وتأتيك الهداية غداً، جاهد ومعنى الجهاد أن تجاهد وتصابر وترابط ولا تيأس والله عز وجل قريب مجيب.(235/19)
إظهار الانسان عباداته أمام الناس
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد، هل يعتبر من الأمور الحسنة استعراض الإنسان بعض العبادات أمام زملائه، وقصده في ذلك الدعوة إلى الخير، أم أنه من الأعمال التي تدخل في الرياء نرجو التوضيح؟
الجواب
أما استعراض الإنسان عمله أمام غيره، ففي نظري أن الأصل ألا يفعل الإنسان ذلك، بل يحرص على عمل السر؛ لأن الإنسان قد يقول العمل، وقصده أن يقتدي به الآخرون، ثم يصير الأمر إلى أن يغريه الشيطان، فيدخل في باب الرياء أو العجب أو الغرور ولكن في حالات نادرة جداً قد يوجد ذلك، وأضرب لها مثلاً بما ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال يوم من الأيام: {من رجل زار مريضاً؟ فقال أبو بكر أنا، من أطعم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، من أصبح صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة} فـ أبو بكر بناءً على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم بين بعض الأعمال الصالحة التي عملها، أما كون الإنسان يذكر الأعمال التي فعلها فلا، فأمام الإنسان وسائل كثيرة، بإمكانه أن يدعو الناس بها إلى العمل الصالح غير أن يقول: (أنا عملت كذا وكذا) !(235/20)
إكرام نعمة الطعام
السؤال
يسأل أن هذه -أكرمكم الله- البيارات يجمع فيها الطعام مع غيره من الأشياء فهل يجوز ذلك؟
الجواب
أقول إننا يجب أن نكرم نعم الله التي أنعم الله بها علينا خشية زوالها إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم فالذي أرى أن الأولى والأجدر بكل فرد منّا، أن يحرص أصلاً على بيارة خاصة للطعام، وهذا الذي أرى أنه جدير بكل مسلم، أما التساهل في ذلك فلا ينبغي.(235/21)
جلسة الاستراحة
السؤال
ما حكم قول الواحد للآخر: (أطال الله عمرك) ؟ وما حكم جلسة الاستراحة؟ وأنا سريع الغضب فبماذا تنصحني؟
الجواب
أما الدعاء بطول العمر، كغيره من الأدعية، فإني أرى أن الإنسان إن دعا بطول العمر فليدع معه بصلاح العمل، فكم من إنسان طال عمره فتمنى الموت! والشاعر يقول: وحسب المنايا أن يكن أمانيا فطول العمر قد يكون وبالاً على الإنسان في دنياه وأخراه، فالدعاء بطول العمر مجرداً لا يصلح، وإنما إن دعوت بغيره فحسن، وإن دعوت بطول العمر فادعُ معه بصلاح العمل، فقل: جعلك الله ممن طال عمره وحسن عمله، فهذا -فيما أرى- لا بأس به.
أما جلسة الاستراحة وهل هي مخالفة للإمام: قد يسأل بعض الناس ما هي؟ فأقول هي أن يجلس الإنسان إذا كان في وتر من صلاته بعد أن يقوم من السجود قبل أن يقوم للركعة، أي إذا كان في صلاة الظهر مثلاً، فصلى الركعة الأولى وأراد أن يقوم إلى الركعة الثانية جلس قليلاً كما يجلس بين السجدتين ثم قام، وإذا كان في الثالثة وأراد أن يقوم للرابعة جلس قليلاً ثم قام، فهذه سماها بعض الفقهاء جلسة الاستراحة، وهي ثابتة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مالك بن الحويرث، وثابتة من طريق وائل بن حجر وأبي حميد الساعدي وغيرهم، وقد اختلف العلماء فيها، فمن العلماء من قال أنها مشروعة على الإطلاق في جميع الأحوال، وبهذا يفتي شيخنا عبد العزيز بن باز -حفظه الله- ومن العلماء من قال إنها مكروهة، وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، ومن العلماء من قال بالتفصيل فقال: إما أن يشرع أن تفعل في حال دون حال، يعني أن تفعل في بعض الأحيان وبعض الأحيان تترك، وإما أن تفعل إذا احتيج إليها وتترك مع عدم الحاجة، فيفعلها الشيخ الكبير المحتاج إليها، ويتركها الشاب الذي لا يحتاج إليها، أما كونها مخالفة للإمام، فمن رأى أن جلسة الاستراحة سنة، وفعلها خلف الإمام، فإنه لا ينكر عليه؛ كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية لا ننكر عليه، وإن كان الأولى أن يتابع الإمام إذا كان الإمام لا يجلس للاستراحة، ولكن على العموم فيما يتعلق بفعل السنن، فإنني أنصح إخواني أن يراعوا في تطبيقهم للسنة، الحكمة والموعظة الحسنة، فبعض العوام قد يستنكرون ما يجهلون، والناس أعداء ما جهلوا، فيحتاجون إلى من يعلمهم السنة من العلماء الذين يثقون بدينهم، فإذا عرفوا السنة قبلوها وعملوها ولم ينكروا على من عملها.
أما سرعة الغضب فالرجل الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أوصني، فأوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم مراراً يقول له: {لا تغضب} فهذا يقول إني أغضب، فنقول له وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لك أن: لا تغضب، والمعنى أن الإنسان يدافع الغضب في نفسه، ولذلك في الحديث إن كنت قائماً فاقعد، وإن كنت قاعداً فاضطجع، وأمر صلى الله عليه وسلم الغاضب بالوضوء، وأقول كل شيء ممكن أن يتحقق بالممارسة والتمرين، وإنني أعرف كثيراً من الناس عندهم شيء من الغضب والانفعال فوق المعتاد والطبيعي، ولكن بالممارسة والتدريب والحرص والتنبيه على أخطائه صار الإنسان يتهذب قليلاً قليلاً، حتى استطاع أن يزيل كثيراً من هذا الداء، فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلم والفقه بالتفقه، فعلى الإنسان أن يختار له صاحباً يبادله الود، ويطلب منه أن ينبهه على أخطائه أولاً بأول، حتى يستطيع أن يتلافى هذه الأخطاء، ثم على الإنسان أن يعلم نفسه ألا يتصرف في حال الغضب، وهذه قضية خطيرة جداً، عود نفسك أنك في حال الغضب تعطل جميع أعمالك، فلا تتصرف وأنت غضبان، وكم من إنسان في حال الغضب يقوم بعمل يهدم أشياء كثيرة يهدم بيته، فيطلق زوجته مثلاً، وربما تكون آخر الطلقات الثلاث ثم يأتي يبكي ويتمسح، ويقول: (طلقت زوجتى) على الإنسان أن ينتبه دائماً بأنه مطالب بألا يتصرف في حال الغضب.(235/22)
زواج الفتاة من رجل فاسق
السؤال
سؤال من أحد الأخوات، يقول السؤال فضيلة الشيخ، دائماً نسمع ونقرأ من مشايخنا الأفاضل الدعوة والترغيب إلى الزواج جزاهم الله خيراً، ولكن أنا فتاة يتقدم لي أشخاص فيهم من المفسقات ما يكفي لرفضهم، وأرغب لصاحب الدين وفي نفس الوقت يشجعون على الزواج دون تفريق بين هذا الصنف وأصحاب الدين، فهل ترى أن أنتظر أنا ومن في موقفي حتى يأتي من نرغب به، أم نقبل بمن به مفسقات مع أني أمقته في نفسي؟ وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
بالنسبة لقضية الترغيب في الزواج لم تأت من قبل المشايخ جزاهم الله خيراً، بل هم تبع فيها لإمام الجميع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} رواه مسلم، أما بالنسبة لقضية التفريق بين الناس فأقول: نعم، وأحمد الله من قلبي أن يوجد في فتيات المسلمين من تميز بين الصالح والطالح؛ لأن المرأة لا شك أنها بعد الزواج في الموقف الأضعف، والزوج هو سيدها وقيمها وولي أمرها، فإذا كان زوجها منحرفاً عن الجادة، أو متلبساً بالمعاصي والمنكرات، فهي إما أن توافقه فيما هو فيه، وإما أن تتحول حياتها معه إلى جحيم لا يطاق، فأنصح أختي المسلمة، بل أخواتي المسلمات بأن يتوجهن إلى الله تبارك وتعالى ويتوكلن عليه، ويعلمن أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فما من امرأة مسلمة ترفض رجلاً لأنها ترى عليه قصوراً واضحاً في دينه، إلا وييسر الله عز وجل لها من ترغب فيه ممن يجمع بين الدين والخلق وسائر الصفات المطلوبة في الرجال.
كما أني بالمناسبة أستغرب أن يكون هذا موقف الفتاة بينما ربما يكون ولي الأمر متساهلاً في ذلك، في حين أن الموقف الطبيعي أن يكون ولي الأمر هو الآخر حريصاً على أن لا يضع هذه الأمانة إلا في موضعها الطبيعي، ليست المرأة مجرد ثقل في البيت تريد أن تضعه في أي مكان، المرأة أمانة في عنقك، وأنت مسئول عنها قطعاً، سواء فهمت هذا أو لم تفهمه، فلا بد أن تبحث لها عن الكفء المناسب، بل لا بد أن تيسر لهؤلاء الأكفاء من أمور النكاح ما يبعد من الفتنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير} نعم كانت فتنة وفسادٌ كبير، إن وجود أعداد رهيبة من الشباب والفتيات قد تعدوا سن الزواج، إنه أعظم فتنة.
وإني أقول بالمناسبة: إن أعظم خطر يهدد الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، هو أن يأتيها الغزو عن طريق المرأة، فالمرأة هي مربية الأجيال، مربية الأطفال، وهي قيمة البيت؛ فإذا غزيت بيوتنا، وغزيت حصوننا من الداخل، فلندرك حينئذٍ أننا على شفى هلكة، فأقول من واجبنا أيها الإخوة أن نصغي للمنادين الذين يصيحون ليلاً ونهاراً ويطالبون بأن يعي أولياء الأمور هذه القضية، ويحرصوا على تسهيل الأمر ما استطاعوا، ليس في بناتهم وأولادهم فحسب، بل يتقوا الله في هذه الأمة المسلمة التي يوشك أن ينزل بها من النكبات والمصائب مالا يخطر على بال، إن من يتساهل في هذا الأمر كمن يرى أن البنزين قد أوقدت جنبه النيران، ثم لا يحرك ساكناً، مع أنه يقطع أن الحريق لا بد أن يشب لا محالة، فقد ركب الله في كل إنسان سواء كان ذكراً أو أنثى الميل إلى الطرف الثاني، وهذه غريزة وحكمة لله؛ ليستمر النسل البشري ويستمر إعمار الأرض، فلماذا نتجاهل هذا الأمر؟! وإني أقول أيضاً بالمناسبة: من الأشياء التي لاحظتها أن كثيراً من الآباء يمنحون أبناءهم وبناتهم ثقة لا يستحقونها؛ لأني أعرف ابني منذ طفولته ونعومة أظفاره، وأذكره يوم كان بريئاً لا يفكر إلا في أموره القريبة، يكبر وأنسى أنه يكبر، وأنسى أن مشاعر الرجولة أو مشاعر الأنوثة بدأت تتحرك فيه، فلذلك تجد كثيراً من الناس حتى الطيبين يمنحون أبناءهم ثقة كما قلت لا يجب أن تكون، ابنك أو ابنتك وإن كانوا كذلك، إلا أنه يدور في قلوبهم وعقولهم ما يدور في عقول وقلوب الناس، فيجب أن نكون يقظين ومنتبهين، ويجب أن نهتم بالطرف الآخر، يجب أن نعلّم النسوة بأمر الدين، يجب أن نهتم بهن، ونحل مشكلاتهن، ونحرص عليهن، قبل أن يحل بنا ما حل بالأمم الأخرى، وأسأل الله أن يحمي هذه الأمة من ذلك، فإن كان هذا واقعاً لا محالة، فإني أسأل الله أن يقبضنا إليه غير مفتونين!(235/23)
مدافعة الرياء
السؤال
الحمد لله أنني إن شاء الله مستقيم، لكن أحياناً أُحدِّث نفسي بالنفاق، وذلك حينما أقوم بعمل خيري، فما العمل وما الحل؟
الجواب
بالنسبة للرياء، لا شك أن أمره مخيف، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخافه على أمته، ولكن في بعض الأحيان تكون مداخل الشيطان فيها من اللطف والخفاء بحيث تنطلي على كثير من الناس، فقد يبدأ الإنسان بعمل صالح، فيوسوس له الشيطان أنَّ عمله هذا ليس لوجه الله، وإنما هو رياء وسمعة، ولا يزال به حتى يترك هذا العمل، ولا ينشط إليه مرة أخرى، فأقول: إن الإنسان إذا بدأ العمل بنية صالحة، ثم طرأ عليه الرياء، فيجب عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يسمح للرياء أن يستقر في قلبه، ويدافعه ما استطاع، ولا يكثر من التفكير بالرياء والناس، ويجاهد نفسه في ذلك، ويستمر على هذه الأعمال؛ لأن الشيطان قد يشكك الإنسان في نيته -وأن يكون قصد الرياء- طمعاً بأن يترك الإنسان الأعمال الصالحة، فكما أن العمل من أجل العباد لا يجوز، فكذلك ترك العمل خوف الرياء لا يجوز، بل يجب على الإنسان أن يعمل، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يسمح للرياء أن يستقر في قلبه والله أعلم.(235/24)
ثناء الناس على الإنسان المخلص
السؤال
ما حكم من تصدق بصدقة ونشر في الصحف مثلاً وهو لا يقصد بصدقته الذكر ولكن ذكره غيره؟
الجواب
هذا السؤال أجاب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم حين سأله أبو ذر رضي الله عنه عن الرجل يعمل العمل الصالح فيمدحه الناس فيعجبه ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {تلك عاجل بشرى المؤمن} فإذا كان دافعك إلى العمل وجه الله والدار الآخرة وابتغاء ما عند الله، ثم حصل أن نشر هذا الأمر بدون إرادة منك ولا قصد ولم يكن قصدك أن يتحدث الناس عنك؛ فإن هذا لا يكون رياء، وإن لم يعجب الإنسان بحديث الناس عنه، وتمنى أنهم لم يعلموا، فلا شك عندي أن هذه هي الصورة الأكمل وعلى الإنسان أن يحرص على ألا يعلم الناس أعماله، ولا يتحدثوا بها، فإن تحدثوا بها كره ذلك، ولكن لو لم يكره ذلك، وكان قصده ابتغاء وجه الله، فالله أعلم أن هذا لا يضر بعد انتهاء العمل.(235/25)
حكم زكاة الحلي الملبوس
السؤال
وردت أسئلة من النساء حول زكاة حلي الذهب الملبوس؟ ما حكم ذلك؟
الجواب
هذا أيها الإخوة سؤال فقهي اختلف فيه العلماء من الصحابة فمن بعدهم، فكان من الصحابة من يرى وجوب زكاة الحلي، وكان منهم من لا يرى ذلك، ولاختلاف الصحابة اختلف من بعدهم من التابعين إلى علمائنا في هذا العصر، ولكن الذي أعلمه والله أعلم بالصواب أن الأقرب للمرأة أن تزكي حليها؛ لأن هذا أسعد بالأدلة من جهة، ولأنه أحوط من جهة أخرى، ولأنه أقرب إلى غرض الإسلام الذي لا يرمي إلى تباهي النساء بالحلي وكثرة الذهب وغيرها من ألوان الحلي، فالأقرب هو أنه ينبغي للمرأة أن تزكي حليها إذا بلغ نصاباً.(235/26)
قص شعر المرأة
السؤال
ورد كلامٌ كذلك -فضيلة الشيخ- حول موضوع قص الشعر عند المرأة من الأمام أو الخلف؟
الجواب
بالنسبة لقص الشعر هو أيضاً قضية فقهية، وأجيب بما أعلم، والعلم عند الله تعالى، أولاً: ورد في صحيح مسلم أن أمهات المؤمنين -رضوان الله عليهن- كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة، يعني يأخذن من جوانب رؤوسهن شيئاً حتى يقل الشعر ويكون كالوفرة، فيستدل بعض العلماء بهذا الحديث على جواز قص الشعر، هذا جانب، الجانب الآخر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة جداً تفوق الحصر، النهي عن التشبه باليهود، والنصارى في كل ما هو من خصائصهم، فأقول: إن كان قص الشعر إعجاباً بمن تعلمه المرأة وتراه من أولئك النسوة الغربيات اللائي يقصصن شعورهن، فلا شك أن هذا العمل يكون داخلاً في باب التشبه فيكون محرماً، لا لذاته ولكن لما لابسه من قضية التشبه، والأمة المسلمة لا بد أن تكون أمة عزيزة مستقلة تؤثر ولا تتأثر، لم يخلقنا الله تعالى لنتطفل على موائد الآخرين، ونأخذ ما عندهم، بل خلقنا من أجل أن ندعوهم ونهديهم ونقودهم فالمصيبة كل المصيبة أن نتحول إلى مجرد إمعات ومقلدين لغيرنا، فأقول: إن قص الشعر إن كان بقصد التشبه بالمشركين، أو أصلاً إنما جاء إلى هذه المرأة عن طريق رؤيتها لأولئك النسوة الغربيات اللاتي يقصصن شعورهن أو يزلن معظمها، فهذا يدخله التشبه، ولا يجوز، وإن كان الأمر الآخر فما سمعتم.(235/27)
خلط العمل الصالح بالسيء
السؤال
قوله من عمل عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ويعمل العمل السيئ وهو كاره له، أرجو التعليق على ذلك أثابكم الله؟
الجواب
أعتقد أن الجواب على هذا السؤال مر أثناء الكلمة، فلا حاجة لإعادته، وخلاصته أن المسلم يعمل العمل الصالح وتكون نيته صالحة وخالصة لوجه الله، وإن وقع في معصية فيجب عليه أن يتوب منها وجوباً ويقلع عنها، أما إن عمل صالحاً وخالط ذلك شرك أو رياء، فكما ذكرت أن هذه الأشياء إذا استولت على العمل بالكلية فهي محبطة له، وفي ذلك تفصيل لعله يكون في وقت آخر غير هذا الوقت.(235/28)
أستغفر الله
لا ينفك بنو آدم عن الخطأ والمعصية؛ فإن أصل خلقتهم من الطين الذي تخرج منه فتن الأرض وملذاتها، فيحنُّ الإنسان لأصله، ولولا أن الله -عز وجل- نفخ في أبي البشر آدم من روحه، لكان البشر والشياطين في درجة واحدة، وليست الخطورة من مجرد الوقوع في المعاصي والذنوب، فإنه لو لم يذنب البشر لذهب الله بهم وأتى بمن يذنب ليستغفر، وإنما الخطورة في الاستمرار على الذنوب وترك الاستغفار؛ الذي يكون على كل حال، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لزمه وجد فوائد كثيرة.(236/1)
الخطأ من طبيعة ابن آدم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فإن الخطأ -أيها الإخوة- هو من طبيعة ابن آدم، فإن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من طين الأرض، قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [ص:71] وقال الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] فالإنسان فيه هذه الطبيعة الطينية، الميل إلى الأشياء المادية؛ حيث رُكِّبت فيه الغرائزُ والشهوات، وأصبح للإنسان ميلٌ فطريٌّ طبيعيٌّ إلى شيءٍ من ذلك، بمقتضى حكمة الله جلَّ وعلا، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] .
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم} فإن الله تعالى خلق الملائكة المعصومين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وملأ بهم سماواته، فإن السماوات ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملكٌ واضع جبهته ساجدٌ لله عز وجل، أو راكعٌ، أو قائم.
وخلق الشياطين للشرِ والفساد والإفساد والإضلال والوسوسة، وخلق الِإنسان القابل للخير والشر، وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] .(236/2)
أصل الخير والشر
فالإنسان خلق من قبضةٍ من طين الأرض، ونفخ الله تعالى في أبينا آدم من روحه، فصار في الإنسان طبيعةٌ طينية ميالة إلى الشهوة والمعصية والذنب، كما أن فيه قابلية للخير والهدى والصلاح، والتزكي، فقد يستقيم الإنسان ويصلح حتى يكون أفضل من بعض الملائكة، كما أن الأنبياء أفضل من الملائكة.
وقد ينحرف الإنسان وينحط ويتردى حتى يصبح شراً من الشياطين -والعياذ بالله! - في بعض الأحوال، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم} أي أنَّ الله خلقكم بشراً، تذنبون فتستغفرون فيغفر لكم؛ لأن من أسمائه جلَّ وعلا: الغفور، الرحيم، الحليم، التواب، واسع المغفرة، غافر الذنب، وقابل التوب، الرحمن، الحليم، الكريم، الوهاب، الجواد، وهذه الأشياء بمقتضاها يغفر الله تعالى لمن يشاء من عباده، ويتجاوز عن سيئاتهم، وذنوبهم، وخطاياهم.(236/3)
خطورة الاستمرار على الذنوب
الإنسان طبيعته أن يخطئ، لكن الشيء المهم هو: أن لا ينقطع حبلك مع الله عز وجل، أن لا يُصِرَّ الإنسان على الخطأ والذنب، ولهذا قال سبحانه: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] .
فإن بعض الناس إذا وقع في الذنب جَرَّهُ هذا إلى ذنبٍ آخر، ثم آخر إلخ، حتى يجد الإنسان نفسه غارقاً في بحار الذنوب والمعاصي، وربما يختم له بخاتمة السوء لكثرة ذنوبه ومعاصيه، ولهذا قال بعض السلف: [[المعاصي بريد الكفر]] أي أن المعاصي ليست كفراً بذاتها إذا كانت من المعاصي العملية كالغيبة، أو النميمة، أو السرقة، أو الزنى أو غيرها، فهذا ليس كفراً بالله عز وجل، ولكن كثرة المعاصي قد تجر الإنسان -والعياذ بالله! - إلى الكفر بالله، وقد يختم له بسوء، فيخشى الإنسان أن تجره المعصية إلى الكفر، ولهذا يقول بعض الصالحين: والله ما أخشى الذنوب فإنها لعلى سبيل العفو والغفرانِ لكنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن فيخشى العبد أن تجره الذنوب إلى الانسلاخ من دينه والعياذ بالله! كما أن الإنسان يخشى على نفسه من أثر الذنب ومن جرَّائه أن يصل به هذا إلى القنوط من رحمة الله، ولا شك أن القنوط واليأس من رحمة الله ينقل الإنسان عن الملة: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] فالأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله ينقلان الإنسان عن دين الله عز وجل! فلذلك يخشى العبدُ من الذنب ومن المعصية.(236/4)
الاستغفار من أعظم الشرائع
ولهذا كان من أعظم ما شرعه الله تعالى لنا: كثرة الاستغفار، وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في مواضع كثيرة من كتابه، قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فهذا خطابٌ لسيد العابدين عليه الصلاة والسلام، جاء في الصحيح: {أنه عليه الصلاة والسلام قام الليل حتى تفطرت قدماه، فقالت له عائشة: أتصنع هذا يا رسول الله! وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً} .
وكان صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقولون: لا يفطر، وكان يقوم الليل أكثره، ربما قام نصف الليل أو ثلثيه أو ثلثه، وربما قام الليل كله إلا قليلاً، وكان عليه الصلاة والسلام كل حياته جهادٌ في سبيل الله، ودعوة إلى الله، وابتلاء، وصبر، ومع هذا كله فإن الله تعالى خاطبه بقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وخاطبه جلَّ وعلا بقوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:106] .
وخاطبه بقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55] وخاطبه -أيضاً-: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] .(236/5)
استغفار النبي صلى الله عليه وسلم
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد المستغفرين عليه الصلاة والسلام، فكان استغفاره ضروباً عجيبةً لا يعلمها إلا الله عز وجل، كان يستغفر الله تعالى في كل حال: وهو قائم، وهو قاعد، وهو مضطجع، وهو يصلي، وهو يتعبد، وهو نائم، وهو مستيقظ، كان يستغفر الله تعالى في كل حال.
فمن ذلك أنهم كانوا يحصون له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد -أحياناً- أكثر من سبعين مرة، وربما مائة مرة: {سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم} إلى غير ذلك من أصناف وضروب الاستغفار، حتى إنها ربما عدت له في المجلس الواحد سبعين مرة أو مائة مرة وهو يستغفر الله تعالى! وحتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء، ويستغفر ثلاث مرات كما قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه أبو داود: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثاً أو يستغفر ثلاثاً، فكان يكثر أن يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله} ومن ذلك أنه كان يستغفر الله تعالى في سجوده، فلما أنزل الله تعالى عليه قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] {كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن} كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها.
يتأول القرآن أي: يفعل ما أمره به القرآن، حين قال الله له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} .
وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم بين السجدتين: {اللهم اغفر لي، اللهم اغفر لي، اللهم اغفر لي، واجبرني، وعافني، واهدني، وارزقني} كما عند الترمذي وأبي داود، وهو حديثٌ صحيح.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه في آخر التشهد أن يقول أحدهم كما في حديث أبي بكر المتفق عليه أنه قال: {يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم} وفي رواية {ظلماً كبيراً} فهو كثيرٌ وهو كبير! أي أن العبد يتوسل إلى الله تعالى بعفوه ومغفرته أن يغفر له، وإلا فإنه يقول: إنني لا أستحق هذه المغفرة، إنما هي مغفرةٌ من عندك، محض تفضلٍ وامتنانٍ وكرم من جود الله وعطائه؛ لأنه هو الغفور الرحيم، وإلا فالعبد لا يستحق هذه المغفرة بحالٍ، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى ويستغفره في كل حال.
وقد أخذ هذا عنه أصحابه وأتباعه، حتى إنك ربما رأيت الرجل من الصالحين من السلف رضي الله عنهم يكثر من الاستغفار، حتى يقول من حوله: إن هذا الرجل قد وقع في ذنبٍ عظيم؛ لأنه يستغفر، وليس [أستغفر الله] كلمةً يرددها على لسانه، كما يقول بعضهم: أستغفر الله من أستغفر الله من كلمةٍ قُلتُها لم أدر معناها ليس يجري الاستغفار على لسانه دون فهمٍ ولا إدراك، بل يستغفر الله بقلبٍ مكسور، ونفسٍ مجروحة، وحُزنٍ عظيم على تفريطه وإهماله وتقصيره، فكان من رآه يظن أنه قد وقع في ذنبٍ عظيم، ولو تأملت حياته، لما وجدت فيها إلا الصوم، والصلاة، والعبادة، والذكر، والدعاء، والصدقة، والإحسان، لكنه شعورهم بالتقصير في حق الله جلَّ وعلا، فهكذا كان سيد العباد وسيد المستغفرين، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم، وهكذا كان أصحابه وأتباعه رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(236/6)
حقيقة الاستغفار
والاستغفار -أيها الإخوة- هو التعرض لنفحات الله جلَّ وعلا في أوقاتها المناسبة، كأوقات العبادة، وأدبار العبادة، وكأوقات إجابة الدعاء، وثلث الليل الأخير؛ وغيرها؛ فإن الله تعالى ينزل ويقول لعباده: من يستغفرني فأغفر له!!، فأين المستغفرون؟! وأين المنكسرون؟! وأين المقبلون على الله عز وجل؟! وأين المخبتون إلى الله؟! الله جلَّ وعلا وهو الغني ينزل إلى سماء الدنيا ويقول: من يستغفرني فأغفر له! ليس الله تعالى بحاجة إلى عباده!! {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس:68] وكما يقول جلَّ وعلا: {يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني!! يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} .
ذكر النووي رحمه الله تعالى في كتابه الأذكار: أن أعرابياً وُجدَ واقفاً عند الكعبة منكسراً لله عز وجل منطرحاً بين يديه، وهو يقول: (اللهم! إنَّ استغفاري مع إصراري على الذنبِ لؤمٌ!) لاحظ هذا الأعرابي مع جهله؛ لكن كيف ألهمه الله تعالى حسن الاستغفار! يقول: اللهم إنَّ استغفاري مع إصراري على الذنبِ لهو نوعٌ من اللؤمٌ، فأنا لئيم؛ إذاً أستغفرك يا رب، وأنا مصرٌ على ذنبي، (وإن تركي للاستغفار مع علمي بِسعة رحمتك لهو عجزٌ) فإن الله تعالى واسع المغفرة، (يا رب: أنا أتبغض إليك بالمعاصي مع عظيم حاجتي إليك، وأنت تتحببُ إليَّ بالنعم مع غناك عنَّي، يا من إذا وعد وفى، وإذا توعَّدَ تجاوز وعفى، أدخل عظيم جرمي في عظيم رحمتك يا أرحم الراحمين!) هذا التبتل، هذا الاستغفار والصدق، حتى من رجلٍ قد يكون من عامة الناس، لكن الله تعالى ألهمه بصدقِ إيمانه، وصحة قلبه، وسلامة نفسه: صدقَ الاستغفار، (اللهم إن استغفاري مع إصراري على الذنب لؤمٌ، وإن تركي للاستغفار مع علمي بسعة رحمتك عجزٌ، يا رب أنا أتبغض إليك بالذنوب مع عظيم حاجتي إليك، وأنت تتحببُ إليَّ بالنعم مع شدة غناك عني، يا من إذا وعد وفى، وإذا توعد تجاوز وعفى، أدخل عظيم جرمي في عظيم رحمتك، يا أرحم الراحمين!) .
ما للعباد عليه حقٌ واجبُ كلا ولا سعيٌ لديه ضائعٌ إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّموا فبفضله وهو الكريم الواسعُ فالله تعالى إذا توعد العبد، فقد يعفو عنه، وقد قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وإذا وعده فإن الله تعالى لا يخلف الميعاد! ويرهب ابن العم والجار صولتي ولا أنثني عن صولة المتهددِ وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلفُ إيعادي ومنجز موعدي فهذا من كرم الله تعالى وعظيم جوده أنه واسع المغفرة، إذا توعد العبد فقد يعفو عنه، وإذا وعده بالخير فإنه لا يخلف الميعاد، بل ينجزه لعبده.(236/7)
حال الاستغفار
الاستغفار يكون -أيها الأحبة- في كل حال، ليس الاستغفار خاصة بحال المعصية كما يتصور الجهال، كلا! بل الاستغفار يكون حتى في حال الطاعة، ولهذا فالله عز وجل أمر رسوله والمؤمنين أن يستغفروه وهم في حال التلبس بالإحرام، والنسك، والخضوع لله جلَّ وعلا، فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] .
فإذا أفاض الناس من عرفة مخبتين لله، ضاحين لمن أحرموا له، خالعين الدنيا كلها، أمرهم الله تعالى بأن يستغفروا الله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ثوبان في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا انصرف من صلاته قال: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله} فهو يستغفر الله تعالى عقب الطاعة!! وليس عقب المعصية، لماذا يستغفر العبد عقب الطاعة؟ لأسباب: أولاً: لأن هذه الطاعة التي يقوم بها البعد لا تخلو من تقصير، أو غفلة، أو سهو، أو تفريط، أو شيءٍ لا يحيط به الإنسان، أو أن الشيطان يتسلط على الإنسان فيصرفه عن صلاته، أو يصرفه عن حجه، أو عن عبادته، أو عن صومه، فيقول: "أستغفر الله عما يكون في هذه العبادة من نقصٍ، أو خطأ، أو سهوٍ، أو تقصير"، هذه واحدة.
ثانياً: أن استغفارك عقب الطاعة إشعارٌ بأن هذه الطاعة شيءٌ قليل إلى جنب ما يجب لله الجليل جلَّ وعلا! فماذا تبلغ طاعتك بالقياس إلى حق الله جلَّ وعلا؟! إنها -والله- لا تكاد تكون شيئاً مذكوراً، خاصةً إذا تذكرت أن هذه الطاعة نفسها هي من فضله وامتنانه وإحسانه جلَّ وعلا، فحينئذٍ العبد يستغفر الله، مثل الذي يقول: ربِ سامحني عن التقصير في أداء شكرك وحقك! ثالثاً: أن العبد قد يداخله نوعٌ من العُجْبُ والاغترار بعمله، وهذا العجب قد يحبط العمل، فإذا قال عقب العبادة: "أستغفرُ الله" معناه أن هذا العبد صاحب قلبٍ عارف بحق الله جلَّ وعلا، عارفٍ بتقصيره، معترفٍ بعظيم جرمه، وهذا بإذن الله تعالى يكون وقايةً من كيد الشيطان بإدخال العجب والغرور على الإنسان، فهذا من أسرار استغفار الإنسان عقب الطاعة، وإذا كانت حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -كلها- طاعةً لله جلَّ وعلا، كما وصفت لكم، من دعوة، إلى عبادة، إلى علم، إلى هجرة، إلى جهاد، إلى غزو، إلى حج، إلى عمرة، إلى قيام، إلى صيام، إلى نسك، إلى صدقة، إلى تعليم، إلى صبر، إلى أخلاق فكان صلى الله عليه وسلم، كما وصف الله عز جلَّ وأمره: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] .
هكذا كان صلى الله عليه وسلم، ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت للسائل: هل أنت تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: [[كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن]] ومع هذا كانت حياته كلها عبادة، ومع هذا في آخر حياته أنزل الله عليه قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] .
كان عمر رضي الله عنه يجمع كبار المهاجرين والأنصار في مجلسه، ويجمع معهم عبد الله بن عباس، فقال له بعض المهاجرين، يا أمير المؤمنين: إنك تأتي معنا بـ عبد الله بن عباس، وهو غلام صغير، كُلنا لنا أولادٌ في مثل سنه، فقال: إنه فقيهٌ عالمٌ!! ثم قال لهم: يا معشر المهاجرين! أرأيتم قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] ما تقولون في هذه السورة؟ فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم إذا جاء نصر الله والفتح أن يسبحه ويحمده ويستغفره، لا نعلم إلا ذلك، قال: فما تقول يا ابن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبره به ربه!! قال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم يا ابن عباس!! فعلم الصحابة رضي الله عنهم، لماذا كان عمر يقرب ابن عباس رضي الله عنه!! فكانت هذه السورة إيذاناً بقرب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمشروع للعبد أن يختم حياته بكثرة الاستغفار وكثرة التوبة إلى الملك الغفار جلَّ وعلا، ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في آخر عمره أن يسبح بحمد الله ويستغفره؛ إنه كان تواباً، فكان يسبح بحمد الله ويستغفره في قيامه وركوعه وسجوده وقعوده.(236/8)
في حال الغفلة
الحالة الثالثة: التي يستغفر العبد منها، هي: حال الغفلة، وكلنا خطاءون وكلنا غافلون، فأما الخطايا فحدث ولا حرج، فإن العبد لو نظر في خطاياه: ماذا جنت يداه؟ ماذا جنت عيناه؟ ماذا جنى لسانه؟ ماذا جنت أذنه؟ ماذا جنت قدمه؟ ماذا أكل؟ ماذا شرب؟ ماذا أخذ؟ ماذا أعطى؟ ماذا قال؟ ماذا سمع؟ ماذا نظر؟ لوجد أنه في حالٍ نسأل الله تعالى أن يستر علينا! ونقول: اللهم لا تفضحنا في الأرض، ولا يوم العرض، برحمتك يا أرحم الرحمين، فالعبد أحوج ما يكون إلى كثرة الاستغفار.
أما الحالة الثالثة فهي -أيضاً- من الظهور بمكان، وهي حال الغفلة، وما أكثر الغافلين الشاردين عن الله عز وجل، ألم تعلم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يقول -كما سبق- في المجلس الواحد مائة مرة: أستغفر الله الرسول عليه السلام يقول كما في حديث الأغر المزني وهو في صحيح مسلم يقول: {والله إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة في المجلس الواحد} يعني الرسول عليه الصلاة والسلام يشير إلى أنه يأتي -أحياناً- حالات يصبح في قلبه شيءٍ من السهو، يسهو، وقد يغفل عليه الصلاة والسلام، فيرى أن هذا في حقه تقصير صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثله في مقامه، وما أكرمه الله تعالى به، يكون أعظم من تلك الحال، فيستغفر الله تعالى مما يشعر به في قلبه.
وكان عليه الصلاة والسلام لشدة قربه إلى الله جلَّ وعلا يحس بأدنى شيء، حتى إنه في الصحيحين {أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى يوماً صلاة الظهر، ثم سلم من ركعتين، ولما سلم قام إلى خشبةٍ معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، وشبك بين أصابعه} وعادة التشبيك غالباً ما يستخدمها من يكون في قلبه شيء، وفي نفسه ضيق، أو في صدره حرج، ومع ذلك كأنه غضبان، وجد الصحابة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر التغير، فالصحابة رضي الله عنهم هابوا أن يكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سلم من ركعتين، وفيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب، لكن هابوا أن يكلموه، فقام رجلٌ يقال له ذو اليدين، واسمه الخرباق، في يده طول، ويكنى ذو اليدين، {فقال: يا رسول الله! قصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لا! ما قصرت ولا نسيت، يظن أنه صلى أربعاً عليه الصلاة والسلام، قال: لا.
بل نسيت يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فقام واستقبل القبلة، وصلى بهم، ثم سلم، ثم سجد للسهو عليه الصلاة والسلام} .
إذاً لما نسي -مع أنه سهى عليه الصلاة والسلام- بان أثر ترك هاتين الركعتين في وجهه عليه الصلاة والسلام وفي هيئته وفي محياه، فلمح الصحابة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر الغضب والتغير، أما نحنُ فكثيرٌ منا قد يغفل عن كثير من العبادة، وكثير من الصلاة، وكثير من الذكر، ولكن لا يشعر بذلك! جاء في بعض روايات بني إسرائيل أن رجلاً قال: يا رب! كم أعصيك ولا تعاقبني -يقول: يا رب أنا أسمع أنه من يعصي الله يعاقب، فيا رب! أنا كم مرة عصيتك ولا عاقبتني!! - فأوحى الله تعالى: يا عبدي! كم عاقبتك ولا تشعر!! الغفلة في قلبك عقوبة، ونسيان الذنب عقوبة، وضيق الرزق عقوبة، وفساد الولد عقوبة، وتسليط الآخرين عليك عقوبة، وغلبة الدَّين عقوبة، وقهر الرجال عقوبة، وما أكثر العقوبات! لكن أصحاب القلوب الميتة لا يَعُونَ ولا يشعرون! ولهذا: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء، قال: غفرانك!} يستغفر الله عز وجل، إذا خرج من الخلاء، لماذا؟ قال بعضهم: يستغفر صلى الله عليه وسلم من لحظاتٍ لم يتح له فيها أن يذكر الله تعالى، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله في كل أحيانه، كما في صحيح البخاري عن عائشة: {كان يذكر الله في كل أحيانه} لكن حال الخلاء لا يذكر الله تعالى فيه؛ لأنه لا يناسب ذكر الله، فإذا خرج من الخلاء قال: غفرانك، كأنه يستغفر من لحظات لم يتح له فيها أن يذكر الله تعالى، وقال آخرون: بل إن قوله صلى الله عليه وسلم: غفرانك! إشارةٌ إلى أنه عليه الصلاة والسلام (أو أن الإنسان) معترفٌ بالتقصير في شكر نعمة الله، الذي رزقه هذا الطعام والشراب وأساغه، وجعل الجسم يمتص أفضل ما فيه، ويتخلص مما لا فائدة منه، فيستغفر العبد من التقصير في شكر نعمة الله تعالى، فإذا خرج من الخلاء قال: غفرانك! وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وسنده صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له} فهذه كفارة المجلس.
أي مجلس فيه لغط، فيه كلام بدون فائدة، فيه إفاضة في الحديث، فيه فضول، فيه قولٌ لا خير فيه ولا فائدة من ورائه، وضربٌ بالكلام في كل وادٍ، ففي آخر المجلس تذكر الإنسان، فقال: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك"، فإن الله تعالى يغفر له، أما إن كان المجلس مجلس ذكرٍ وعلمٍ وعبادة، فإن هذه الكلمة تكون كالطابع تختم عليه، ولا يفتح ولا يكسر إلى يوم القيامة(236/9)
في حال العبادة
الحالة الأولى: التي يستغفر عندها العبد هي: حال العبادة، فإذا تلبس العبد بالعبادة، أو فرغ من العبادة، أقبل على الاستغفار، يدفع عن نفسه به، مَعَرَّة التقصير، أو مَعَرَّة الاغترار.(236/10)
في حال المعصية
الحالة الثانية: التي يستغفر عقبها العبد هي: حال المعصية، وهذا هو الذي يعرفه كثير من الناس، خاصةً من عامتهم، أن الاستغفار لا يكون إلا عن ذنب، فإذا قيل لأحدهم: استغفر الله، قال: وهل أذنبت؟!، ونسي: قوله صلى الله عليه وسلم: {كل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون} !.
فإن الله عز وجل أمر بالاستغفار حال الذنب، قال تعالى في وصف المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ويقول الله عز وجل في محكم تنزيله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] .
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد، كلما أذنب أن يقبل على الله ويستغفر، في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: {كنتُ إذا حدثني أحدٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديثاً استحلفته، فإذا حلف لي صدقته أي يقول: احلف بالله أنك سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام، يقول علي رضي الله عنه: وقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر!! أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبدٍ يذنبُ ذنباً، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: "اللهم إني أذنبتُ فاغفر لي"؛ إلا غفر الله تعالى له!!} والحديث صحيح.
انظر إلى سعة رحمة الله جلَّ وعلا: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] وقال جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] .
المهم لا ينقطع حبلك مع ذي الجلال والإكرام! لا تغفل عن هذا الإله الجليل الكريم الوهاب! تقبل عليه بقلبٍ منكسر! وتقول: "أستغفر الله" فيمحو عنك ما فَرَطَ من ذنوبك وسيئاتك وتقصيرك! تتوضأ وتصلي ركعتين، وتقبل على الله تعالى بقلبك وبدنك، وتقول: "اللهم إني ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنبي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم اغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"، فيقول الله عز وجل برحمته، وكرمه، وجوده: {عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لك!!} وأي شيء تريد أعظم من هذا؟! أعظم من أن يتجاوز عن ذنبك، ويحفظ لك حسناتك؟ فإذا جاء يوم القيامة أتتك حسناتك كاملةً موفورة، وعرض الله عز وجل عليك سيئاتك، فقال: {يا عبدي! أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} ثم تعطى كتاب حسناتك بيمينك، أي شيء تريد بعد هذا؟! وأي فضلٍ أعظم من هذا؟! {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] .
جاء الجارود بن المعلي سيد عبد القيس من البحرين إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أمير المؤمنين! إني رأيتُ حداً من حدود الله، حقٌ عليَّ أن أخبرك به، قال: وماذا رأيت؟ قال: رأيتُ قدامة بن مظعون يشرب الخمر، وقدامة بن مظعون! هذا أمير من الأمراء!! إنا لله وإنا إليه راجعون! أمير يشرب الخمر! فاستعظم عمر ذلك أيما استعظام! وقال: أرأيته؟! قال: والله رأيته يشرب الخمر، ومن هو قدامة بن مظعون أيضاً؟ هذا خال أولاد عمر، يعني أخو زوجته، خال عبد الله بن عمر، وخال حفصة، وقد ولاه عمر على إمارة البحرين، يشرب الخمر!! إنا لله وإنا إليه راجعون! أميرٌ يشرب الخمر!!، هل معك على هذا أحد؟ قال: نعم، اسأل أبا هريرة رضي الله عنه، فجاء بـ أبي هريرة، قال: هل رأيته؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيته يشرب الخمر، لكنني رأيته سكران يتقيأ! قال عمر: يا أبا هريرة! لقد تنطعت في الشهادة!! -هذا تنطع، مادام يتقيأ الخمر وهو سكران، معناه أنه شرب- فلما كان من الغد، جاء الجارود وقال: يا أمير المؤمنين! أقم على هذا الرجل - قدامة بن مظعون - كتاب الله؟ فكتب إليه عمر رسالة: تعال يا قدامة!!.
فجاء قدامة إلى المدينة من الغد وجاء الجارود وقال: يا أمير المؤمنين! أقم على هذا كتاب الله، قال له عمر: يا جارود! أنت شاهد أم خصم؟ قال: لا أنا شاهد، قال: فلقد أديت شهادتك وبرئت ذمتك واسكت؟ فما سكت، فلما كان بعد أيام جاء، وقال: يا أمير المؤمنين! أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر: والله لتسكتنَّ وإلا لأسوءنك، لأعاقبنك، وأعذبنك، ما علاقتك بالأمر؟ قد خرج من ذمتك؛ لأن الرجل - قدامة - كان مريضاً، وعمر كان يتريث حتى يشفى من مرضه ليقيم الحد عليه، فقال الجارود:والله يا عمر! ما هذا بالإنصاف، يشرب ابن عمك وتسوؤني، ما هذا بالإنصاف! فاستشار عمر المؤمنين، وقال: ماذا ترون؟ الرجل مريض: أأجلده أم أؤجل؟ قالوا: لا! نرى أن تنتظر حتى يعافى، انتظر أياماً، ثم غدا على المؤمنين، فقال: ماذا ترون معشر المؤمنين؟ قالوا: أن تنتظر حتى يعافى، قال: والله! لقد رأيت غير هذا، والله! لأن يلقى قدامة بن مظعون رَبَّه تحت السياط، أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله وفي عنقي حدٌ ما أقمته!!.
رحمك الله يا عمر! رحمك الله يا عمر! رحمة الله على تلك العظام! رحمة الله على تلك الأبدان! وأسكن أرواحهم الجنان! والله لأن يلقى قدامة الله تعالى تحت السياط، يعني ميتاً من أثر إقامة الحد، أحب إليَّ من أن ألقى الله تعالى وفي عنقي حدٌ ما أقمته، أخشى أن أموت قبل أن يشفى!! إذاً فاجلدوه، فجاءوا بـ قدامة، قال قدامة: حتى لو شربت الخمر ما لكم حق أن تجلدوني، قال: ولم؟ قال: لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] فتأول، قال عمر: لقد أخطأت التأويل، وارتكبت حداً من حدود الله، اجلدوه، فجلدوه، حتى أقاموا عليه حد الله عز وجل، أقاموا عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فغضب قدامة، وهجرَ عمر، وأصبح لا يكلمه، فهجره عمر وأعرض عنه، وحجَّا لا يكلم أحدهما الآخر.
فلما رجعوا نام عمر نومة، ثم استيقظ، وقال: أين قدامة؟ أين قدامة بن مظعون؟ قالوا: ما تريدُ به يا أمير المؤمنين؟ قال: لقد أتاني في منامي آتٍ وقال لي: صالح أخاك قدامة، صالح أخاك قدامة بن مظعون، صالحه، فأبى قدامة أن يأتي، فكتب إليه عمر: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى قدامة بن مظعون، السلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: يقول الله عز وجل: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] ذكَّره بهذه الآية، وأمره بالتوبة إلى الله عز وجل، من ذنوبه ومعاصيه، وأمره أن يتوب إلى الله عز وجل، فأ صلح ما بينه وبينه.
المهم ما أحوج المذنب العاصي إلى أن يُذَكَّر برحمة الله عز وجل، ويُحَثَّ على التوبة إلى الله تعالى، ويؤمر بالإقلاع عن ذنبه، والتوجه إلى ربه، والندم على ما فرط منه، وأن يعمل على أن يستوفي شروط التوبة المعروفة، لعل الله عز وجل أن يختم له بخير.(236/11)
فوائد الاستغفار
الصحيح أيها الإخوة: الاستغفار مما ينبغي أن يلازمه الإنسان في كل حال.
وللاستغفار فوائد عظيمة جداً، منها: مغفرة الذنوب، فإن الله تعالى وعد بذلك: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] وما أكثر الذنوب التي نقترفها، فلنحرقها بالاستغفار ومنها: رفع الدرجات، فإن العبد إذا استغفر الله تعالى رفع درجاته ومنزلته في الجنة ومنها: إزالة الغفلة عن القلوب، وإحداث اليقظة، والإقبال على الله تعالى بسبب الاستغفار ومنها أن الله تعالى يحفظ العبد من الإعجاب بعمله أو الاغترار بما قدم بكثرة الاستغفار ومنها: أن الله تعالى يجعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، كما جاء في الحديث -وإن كان فيه ضعف- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب} .
والحديث الآخر -وهو صحيح- حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك} من حفظ الله أن تستغفره من الذنوب والمعاصي.
وفي الحديث الآخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في سنن ابن ماجة، وسنده جيد كما يقول النووي:- {طوبى لمن وُجِدَ في صحيفته استغفارٌ كثير} وطوبى: شجرة في الجنة، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29] .
ماذا يضرك يا أخي الحبيب وأنت نائم، أو مضطجع، أو تأكل، أو تشرب، أو راكبٌ في سيارتك، أو تعاني أي عملٍ من عمل دنياك، أن تعود لسانك أن يكون رطباً بذكر الله تعالى واستغفاره، لا يضرك أبداً.
وأختم هذا المجلس الطيب بسيد الاستغفار: في الصحيح عن شداد بن أوس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سيد الاستغفار أن تقول: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قاله حين يمسيِ فمات من ليلته دخل الجنة، ومن قاله حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة} اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعيننا من الخيانة، اللهم أصلحنا يا حي يا قيوم، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم آمن فزعنا يوم الدين، اللهم آمن فزعنا يوم الدين، اللهم آمن فزعنا يوم الدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم صل على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(236/12)
الأسئلة(236/13)
الدعاء على الأخ للواقع في معصية
السؤال
لي أخ يشرب الدخان، وأنا لا أريده؛ لأنني إذا شممته ضاق صدري وانَكَتَمَ نفسي، ولهذا أسأل عن حكم الدعاء عليه أحياناً، فمن شدة ما أجد أدعو عليه، فماذا تنصحونني؟
الجواب
لا ينبغي أن تدعو عليه، بل ينبغي أن تدعو الله له، والرسول عليه الصلاة والسلام لقي من قومه ما لقي -كما تعلمون- حتى أخرجوه من بلده وآذوه، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: {أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً} ينبغي أن يتسع صدرك لأخيك، وألا تبخل عليه بالنصيحة، وتستمر معه في ذلك، وتوفر له بعض الكتب والأشرطة التي تبين ضرر التدخين من الناحية الشرعية، والمالية، والصحية وغيرها، وأما الدعاء فعليك أن تصرف الدعاء له، تدعو له، لا أن تدعوَ عليه.(236/14)
وضع الودائع في البنوك
السؤال
حكم وضع النقود في البنوك، كودائع وأمانات؟
الجواب
يوجد في البنوك صناديق تؤجر، يضع فيها الإنسان ماله، ويأخذ مفتاحها، فهذا لا بأس به، صناديق يستأجرها من البنك، ويضع فيها ما يشاء، فإذا احتاج الإنسان إلى الإيداع في البنوك ولابد، فليودع في بنك الراجحي؛ فإنه أهون الشرين.(236/15)
الحوقلة والتسبيح في الفرض
السؤال
بعض الناس حين يسمع آيات فيها وعدٌ، أو وعيد، أو ترغيب؛ يحوقل ويسبح وهو في الصلاة، فما الحكم؟
الجواب
لا حرج في ذلك، أما النافلة فلا حرج مطلقاً، ففي حديث حذيفة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل، وقرأ سورة البقرة، والنساء، وآل عمران، إذا مر بآياتٍ فيها تسبيح؛ سبّح، وإذا مر بآياتٍ فيها رحمة؛ سأل الله من فضله، وإذا مر بآياتٍ فيها تعوذٌ؛ استعاذ} فلا حرج في ذلك، أما الفرض، فقد اختلف فيه أهل العلم؛ منهم من قال: ما صح في النفل وجاز فيه؛ جاز في الفرض، ومنهم من قال: الفرض لم يرد فيه شيء؛ فيسكت عنه، والأمر إن شاء الله تعالى واسع.(236/16)
ستر وجه المرأة في الصلاة مع نساء
السؤال
إذا صلت المرأة مع النساء وهي ساترةٌ لوجهها، فهل عليها ذنب؟
الجواب
إذا كانت المرأة بحضرة النساء فإن الأولى لها ألا تستر وجهها، إذا كانت مطمئنة ألا يطلع عليها رجال، ولا ينظروا إليها، فلا تستر وجهها.(236/17)
حبوب منع الحيض وقت العمرة
السؤال
نريد الذهاب إلى مكة لأداء العمرة إن شاء الله، وقضاء عدة أيامٍ هناك، فهل يجوز تناول حبوب منع الدورة الشهرية، علماً أن هذه الحبوب لا تسبب أضراراً؟
الجواب
إذا كانت هذه الحبوب لا تسبب أضراراً، واحتاجت المرأة إلى تناولها حتى تقضي عمرتها، إلى حين قضاء العمرة، فلا حرج عليها في ذلك إن شاء الله تعالى.(236/18)
توجيه الابن لصحبة الأخيار
السؤال
إلقاء نصيحة لكل أبٍ يمنع ابنه من صحبة الأخيار، فهذا يحدث كثيراً! وقد حدث لشاب عنده إقبال لصحبة الأخيار!!
الجواب
الشاب لا بد له من صحبة، فإن منعته من صحبة الأخيار، فمعناه أنك فرضت عليه صحبة الأشرار؛ لأن الإنسان لا بد له ممن يصحبهم، فإما هؤلاء وإما أولئك، والأب الناصح لابنه يختار له من يكونون عوناً له على طاعة الله عز وجل.(236/19)
تدخل الأم في تربية الأب لأبنائه
السؤال
بعض الأولاد ينامون بعد السحور، ولا يقومون إلا عند الإفطار! وعندما يغضب الأب، ويحاول معالجة ذلك بلطف مرة، وبعنفٍ أخرى، ومن باب الدعابة -مرة ثالثة- تتدخل الأم وتخرب كل ذلك، وتقول سوف يصلح -إن شاء الله-!! فماذا تقول لهذا النوع من النساء، خاصةً وأن المسجد مليءٌ منهن الآن؟
الجواب
الواقع أن مسئولية الأم عن تربية الأولاد لا تقل عن مسئولية الأب، خاصةً إذا كانوا في مقتبل العمر، ومصيبة -فعلاً- أن بعض الأمهات غير المتعلمات ولا الواعيات تعتقد أن تربية الأب وتوجيهه، أو أمره أو نهيه، ليس في صالح الولد، ولذلك تود أن يكون الولد مطاع الكلمة في كل ما يحب، فتعتقد أن منعه من شيء أو أمره بشيء، أن ذلك ضررٌ عليه؛ ولهذا تكون ضد الأب، وهذا بسبب الجهل من قبل الأم، وربما نقول: إن الأب مسئول عن ذلك، مسئول -أولاً- حين لم يختر المرأة الصالحة، فاختار امرأةً -زوجةً له- لا تعينه على تربية أولاده، كما أنه مسئولٌ -ثانياً-، حين لم يقم بتربية هذه الزوجة، وتعليمها، وتفهيمها ما يجب عليها، وبالذات ما يتعلق بتربية أولادها.(236/20)
الفصل بين الفرض والنافلة
السؤال
سمعت أحد الإخوة سألك حول الذكر في التراويح، وقلت: -أنت- له: إن ذلك خاصٌ بين الفريضة والنافلة، أرجو توضيح ذلك
الجواب
لم أقل ما تصوره الأخ! إنما قلت: إن الإنسان إذا انتهى من الفريضة، كصلاة العشاء -مثلاً- لا ينبغي له أن يقرن بها نافلة، إلا أن يسبح ويذكر الله تعالى، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ألوانٌ من التسبيحات عقب الفريضة، مثل: {أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير} إلى غير ذلك مما ورد من الأذكار التي يفصل بها العبد بين الفرض والنافلة.(236/21)
العجلة للحاق بالصلاة
السؤال
الصحابي: أبو بكرة الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم عندما كبر وركع: {زادك الله حرصاً ولا تعد} هل من تفصيلٍ في هذه المسألة، هل هو جائز أم لا؟
الجواب
ينبغي للإنسان إذا جاء والإمام راكع ألا يسرع في مشيه، بل يمشي رويداً: {ائتوها وأنتم تمشون، ولا تأتوها وأنتم تسعون؛ فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا} .(236/22)
الأفضل في صيام التطوع
السؤال
ما هو الأفضل في صيام التطوع: جعله سراً، أم إعلانه للقدوة؟
الجواب
لا، الأفضل جعله سراً.(236/23)
الوفاء بالنذر
السؤال
كنتُ قد نذرت بأن أذبح ذبيحتين مع عشاء أدعو له بعض الناس، ولي رغبة -الآن- بأن أذبح وأوزع للفقراء رغبةً في الأجر؟
الجواب
ما دمت قد ألزمت نفسك بأن تذبح الذبيحتين، وتدعو إليها بعض الناس على عشاء، فيجب أن توفي بنذرك، فتذبح ذبحيتين، وتصلح عشاءً، وتدعو إليه بعض الناس.(236/24)
اغتسال المرأة قبل انقضاء الحيض
السؤال
أنا فتاةٌ كنتُ أجهل أحكام الغسل في بداية بلوغي، فكنتُ أغتسل قبل نهاية الدورة وأصلي، فما حكم الصلوات التي صليتها، علماً بأني فعلت ذلك قرابة ثلاث سنوات؟
الجواب
ما دامت المدة طويلة حدود ثلاث سنوات، وأنتِ جاهلة، فأرجو الله تعالى أن يعفو ويسامح؛ لأن قضاء صلاة ثلاث سنوات أمرٌ فيه مشقة، وإلا فالأصل أن هذا من الأمور التي لا تجهل، ومن كانت تعيش في أوساط المسلمين؛ ينبغي أن تتعلم وتسأل عما يشكل عليها من أمور دينها، وبكل حال فالأصل أن المرأة يجب عليها إذا انقضت دورتها أن تغتسل ثم تصلي، أما اغتسالها قبل انقضاء الدورة فإنه لا ينفعها.(236/25)
الوصية لمن ولد له بنات
السؤال
بماذا توصي من أكثر الله له البنات وحرم الذكور؟
الجواب
أقول أولاً: رِزْق الله تعالى لك بالبنات نعمة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات، فعلمهن وصبر، كنَّ له ستراً من النار} والحديث في الصحيح، فهذه نعمةٌ ساقها الله تعالى إليك، فعليك أن تحنو عليهن كل الحنو، وتحرص على تربيتهن، وتبحث لهن عن الأزواج الصالحين.(236/26)
أدب الأدعية ومعناها
ذكر الشيخ أن الاهتمام بالمظاهر سبب رئيسي ناتج عن البعد عن الحقيقة والامتثال، ثم شرع في بيان معاني جملة من الأدعية التي كثيراً ما يرددها المسلم، وربما يجهل كثيراً من معانيها فذكر على سبيل المثال معنى الاستعاذة وما فيها من معانٍ يغفل عنها المسلم، وبين كثيراً من الأدعية المندرجة تحت مسمى الاستعاذة- وتحدث عن جملة (الحوقلة) وبيَّن معناها، والاستفتاح في الصلاة وبين معناه، ثم بين معنى جمل أخرى من الأدعية مثل: (فتنة القبر واجعله الوارث منا، سبوح قدوس) ومعنى (سمع الله لمن حمده) وغيرها من الأدعية.(237/1)
إهمال الحقائق والاعتناء بالرسوم
الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيها الإخوة: جرت عادة الناس في جميع البلاد وجميع الملل والأديان، أنهم إذا أهملوا الحقائق اعتنوا بالرسوم، فإذا لم يهتموا بحقيقة الدين ولبه وجوهره، لا بد أن يعوضوا عن هذا التقصير أو النقص بشيء يخادعون ويوهمون به أنفسهم بأنهم ما زالوا على شيء من الدين، ولذلك كلما غفل الناس عن حقيقة الدين، اهتموا ببعض الرسوم التي قد تكون من الدين، وقد لا تكون من الدين أصلاً.
فعلى سبيل المثال: هذا القرآن أنزل ليدَّبروا آياته وليعملوا به، وليحكم حياتهم في الدقيق والجليل، فإذا كان الناس عاملين بهذا القرآن محكِّمين له، لم يجدوا في أنفسهم حاجة إلى أن يكتبوا المصحف بالذهب، أو أن يزخرفوه بهذه الزخارف، أو أن يطبعوه بالطبعات الفاخرة الأنيقة! لأن الحقيقة موجودة؛ فلا يضر أن يكون القرآن مكتوباً في العسف واللخاف والأوراق، كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، لكن إذا أهمل الناس حقيقة القرآن وتدبره وقراءته والعمل به، اهتموا وزادوا في الاهتمام ببعض الشكليات المتعلقة بالقرآن، فوجد -مثلاً- من كتب المصحف بالذهب بمبالغ طائلة هائلة، وحلاه وزينه، وزخرفه به، ووضعه على أربع قوائم، وليس هذا من تعظيم كلام الله عز وجل.
وعامة الناس ممن لا يملكون الذهب ليكتبوا به المصحف أقل ما يملك الواحد منهم أنه يمسك المصحف، فلو فرض أن المصحف سقط من يده فإنه يرفعه فيقبله ثم يضعه على جبهته.
ومثلاً: إذا كان المصحف أمامه فإنه لا يقبل أن يكون هناك أي شيء قد يفسره هو أنه أعلى منه وإلا عد ذلك تقصيراً في حق هذا المصحف، ولو وضع المصحف على الأرض فإنه لا يضعه على الأرض مباشرة، بل لا بد أن يحمله على شيء، يهتم بهذه الرسوم؛ لأنه قد أهمل الحقيقة فلا بد له أن يعوض.
كما تجد أن كثيراً من الناس يتعلق بالكعبة التي جعلها الله تبارك وتعالى قياماً للناس، فالمؤمن الذى يصلي إلى الكعبة في اليوم والليلة خمس فرائض، وما شاء الله تعالى له من النوافل ويحج ويعتمر، هذا يكفيه؛ لكن المسلم الذي قصر في هذا الأمر بل ربما فرط في الفرائض فضلاً عن النوافل، أو قد لا يكون حج أو اعتمر في عمره إلا مرة واحدة، أو ربما قصر في كثير من واجبات الفرائض، وربما أركانها، تجد أنه إذا جاء للكعبة يحاول أن يعمل بعض الرسوم التي تظهر تعظيم الكعبة، فترى منهم من يتمسح بها، ومنهم من يتعلق بأستارها وثيابها، ومنهم من إذا أراد أن يخرج من الحرم فإنه لا يولي الكعبة ظهره خارجاً، بل يمشي على ورائه حتى تظل الكعبة أمامه وبين ناظريه تعظيماً للكعبة، وهذا لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومما يقطع به كل ذي لب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج من المسجد الحرام جعل الكعبة وراءه وخرج، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لنقل إلينا؛ مع أن هذه المشية فيها من المنظر المزري والاستهجان ما لا يخفى على كل ذي لب أو مروءة، المهم أن المسلمين اليوم صاروا يهتمون بالرسوم والشكليات، ويغفلون عن الحقائق والأمور المعنوية المهمة.(237/2)
الأذكار والأدعية
ومثل هذا قضية الأذكار والأدعية، فكثيراً ما يردد المسلمون أذكاراً وأدعيةً كثيرة، لكن لو سألت المسلم: عن معنى ما يدعو به أو يذكر الله به؟ قلَّب يديه وقال: الله أعلم لا أدري، هذا كلام طيب يقوله الناس، وأنا أقول مثلهم، لكني لا أعرف معناه، ومن هذا المنطلق أحببت أن أقف مع بعض الأدعية والأذكار التي نكثر من تردادها وكثر السؤال عنها مع أن معانيها قد يكون فيها بعض الغموض وبعض الخفاء.(237/3)
معنى الاستعاذة
من ذلك مثلاً: الاستعاذة؛ فإن الإنسان كثيراً ما يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، وهذا وارد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن ما معنى (من همزه ونفخه ونفثه) ؟ هذا إشكال، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، وفسرها أئمة اللغة بالتالي: أما (الاستعاذة) فمعناها معروف وهو: الاعتصام بالله تعالى والالتجاء إليه من شر الشيطان.(237/4)
معنى: الهامة
وقوله: {من كل شيطان وهامة} الهامة هي: كل ما يهم، والمعروف أن الهامة واحدة الهوام، والهوام هو: ما يدب على وجه الأرض من العقارب والحيات وغيرها من الدواب المؤذية، التي يخشى على الإنسان منها، فيستعيذ العبد بالله تعالى وبكلماته التامة منها.(237/5)
معنى: عين لامة
وقوله: {ومن كل عين لامة} أما العين فهي معروفة، وهي ما يصيب الإنسان من نظرة حاسد تؤثر فيه، وقوله: لامة، أي أنها تلم بالإنسان وتصيبه وتقع عليه، فيستعيذ العبد، أو يعيذ من شاء، بقوله: أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.(237/6)
معنى: كلمات الله
ومما يدخل في الاستعاذة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين بقوله: {التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة} .
أما قوله: بكلمات الله التامة، فإن كلمات الله تعالى تامة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فأما كلماته الكونية، فهي التي يخلق بها {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
وأما كلماته الشرعية؛ فهو ما أنزله من الوحي على أنبيائه ورسله عليهم الصلاة السلام كالقرآن؛ فإنه كلام الله عز وجل ووصفها بأنها التامة؛ لأنه ليس في كلمات الله تعالى نقص في وجه من الوجوه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109] {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] ولذلك استدل الإمام أحمد رحمه الله بهذا الدعاء النبوي على أن القرآن منزل غير مخلوق، قال: لأن المخلوق لا بد فيه من النقص، وأما الكمال والتمام فهو لله عز وجل، ولهذا وصف كلمات الله تعالى بأنها تامة.(237/7)
معنى: النفث
وقوله: من (همزه ونفخه ونفثه) فالنفث هو: الشعر، والمقصود به الشعر السيئ الخبيث، كشعر الغزل الماجن الخليع، والغناء الرقيع الذي يحرك الشهوات، ويلهب العواطف، ويهيج الغرائز، ومثل: شعر الهجاء، الذي ينال فيه الإنسان من الناس، ويسب فلاناً ويعير علاناً.
ومثل: شعر المديح الذي يقع فيه كثير من الشعراء، فيبالغون في المديح، فيمدحون من يستحق ومن لا يستحق، بل الغالب أنهم لا يمدحون إلا من لا يستحق ممن يملك السلطان أو المال والنفوذ، فيمدحونه طمعاً في منصب أو مغنم أو مال، ويمدحونه بما ليس فيه حتى إن بعضهم يغلو فينزل المخلوق منزلة الخالق، قال أحدهم يمدح شخصاً: وأنت غيث الورى ما زلت رحمانا فأعطاه صفات الله عز وجل وأعطاه أسماءه، وقال آخر لحاكم فاجر باطني خبيث: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار فهذا من وسوسة الشيطان للشعراء الذين يرتزقون ويتكسبون بشعرهم، ويضعون القوافي على أبواب وأعتاب ذوي النفوذ والمال والجاه، لعلهم يحظون منهم بنظرة عطف أو مال أو منصب أو غير ذلك، وهذا من الشر الذي يستعاذ بالله تعالى منه، فهذا معنى قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.(237/8)
معنى: من همزه
أما قوله (من همزه) : همز الشيطان هو المؤتة يعني (الجنون) إذاً أنت حين تقول: أعوذ بالله من الشيطان من همزه، يعني من الجنون، لأن الشيطان -وهو المارد من الجن- قد يتلبس بالإنس فيدخله ويخالطه كما هو معروف، فيستعيذ العبد بالله من هذا الأمر، من أن يداخله الشيطان.(237/9)
معنى: من نفخه
أما قوله: (ونفخه) فالنفخ هو: الكبر، وذلك أن الشيطان ينفخ في نفس المتكبر، حتى يخيل إليه أنه شيء عظيم كبير، مع أن حقيقته أنه صغير، فينفخ فيه ويعظمه، ولهذا يقال: فلان منتفخ أي: مستكبر، فحين تقول: (من همزه ونفخه) النفخ: هو الكبر، فأنت تستعيذ بالله من وسوسة الشيطان لك بأنك تستكبر وتتعاظم على عباد الله، وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه {بطر الحق، وغمط الناس} .(237/10)
دعاء الاستفتاح
ومن الأدعية التي تحتاج إلى بيان: دعاء الاستفتاح؛ فإن العبد يقول بعد ما يكبر: {سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك} .(237/11)
معنى: تعالى جدك
قوله: {وتعالى جدك} الجد: هو الغنى والنصيب، فأنت إذا قلت: فلان جده سعيد، أي: حظه سعيد، وأنه ذو حظ عظيم، جده أي: حظه أو نصيبه أو غناه، فإذا قلت لله تعالى: (وتعالى جدك) فالمعنى علا جلال الله تعالى وعظمته وغناه وفضله، هذا هو المعنى لا غير، وعلو الله تعالى معروف، فهو علو بذاته، مستو على عرشه، فوق سماواته، وهو علو بصفاته جل وعلا، وهو علو بقدرته وقهره، وهو علو بجميع الوجوه.(237/12)
معنى: ولا ينفع ذا الجد منك الجد
وكذلك مما يدخل في هذا الباب الكلمة التي نقولها دائماً {اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} ما معناها؟ اسأل نفسك ترددها عقب كل صلاه ولا تدري ما معناها؟ المعنى: ذو الجد هو: ذو الغنى، وذو النصيب، وذو الحظ، لا ينفعه يارب منك جده وغناه وحظه ونصيبه، إنما ينفعه عمله الصالح، يعني: لا ينفع ذا الغنى منك الغنى، إنما ينفعه عمله، ولا ينفع ذا الملك منك ملكه إنما ينفعه عمله، ولا ينفع ذا الجاه منك جاهه إنما ينفعه عندك عمله، وهكذا لا ينفع ذا الجد: أي صاحب الجد، وصاحب الغنى، صاحب النصيب الدنيوي، لا ينفعه يا رب منك الجد الذى عنده، إنما ينفعه العمل الصالح الذى تقرب به إليك.(237/13)
معنى: سبحانك اللهم
أكثر الناس لا يعرفون معنى قوله: سبحانك اللهم وبحمدك، قولك: سبحان: هذا مصدر مأخوذ من "سبح" سبحت الله تسبيحاً وسبحانه، والمعنى: نزهت الله تعالى تنزيهاً، وبرأته تبرئه من كل ما لا يليق، برأته من النقص، والعيب، ومن العجز، والظلم، أي: برأته من جميع النقائص والعيوب التي تلحق البشر، أما الله تعالى فله الكمال والجلال والجمال.
فتقول: (سبحانك اللهم) هذا معناه، ومثله قولك: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربى العظيم، أي: أنزه الله من كل ما لا يليق به من صفات النقص التي توجد في المخلوقين.(237/14)
معنى: وبحمدك
معنى (وبحمدك) : أي: أنك سبحت الله بجميع آلائه ونعمه، وبحمد الله تعالى سبحته، أي: أن تسبيحك لله تعالى هو من الله تعالى، سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك، أي: بمعونتك لي كان مني هذا التنزيه لك، ولولا أن الله تعالى وفقك لتسبيحه تعالى وألهمك ذلك، لوقعت في ما وقع فيه غيرك، ممن نسبوا إلى الله تعالى الصاحبة، أو نسبوا إلى الله تعالى الشريك، وما أشبه هذا، فأنت تقول: وبحمدك، أي: وإنما سبحتك يا ربي بحمدك وبمعونتك التي هي الأخرى نعمة منك علي توجب حمداً آخر، وليس ذلك بحولي ولا بقوتي.(237/15)
معنى: تبارك اسمك
وقوله: تبارك اسمك، البركة هي: الخير الكثير الطيب الدائم، الذي لا يزول، ومنه أن الله تعالى قال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِه} [الفرقان:1] إلى غير ذلك.
فالبركة من الله تعالى وإليه، ولذلك لا يجوز أن تقول لمخلوق: إنه تبارك، إنما تبارك الله وحده، أما المخلوق فإنه مبارك باركه الله وحده، كما قال الله تعالى: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه} [الإسراء:1] {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً} [سبأ:18] فالبركة من الله تعالى، والمخلوق مبارك، وأما الخالق فإنه تبارك وتعالى.
فقولك: وتبارك اسمك، أي: أن اسم الله تعالى فيه الخير الكثير الطيب الدائم، وحيث ما ذكر اسم الله تعالى كانت البركة، ولهذا يشرع للعبد أن يكثر من ذكر اسم الله، وأن يبدأ أعماله بقوله: باسم الله، كما جاء في الحديث: {خمروا الآنية واذكروا اسم الله} يعني: تغطي الإناء وتقول: باسم الله {وأوكوا السقاء واذكروا اسم الله، وأجيفوا الأبواب (أي: أغلقوا الأبواب) واذكروا اسم الله، وأطفئوا السراج واذكروا اسم الله} فيذكر العبد اسم ربه جل وعلا في الليل والضحى، والصباح والمساء، وعلى كل شيء، تيمناً بهذا الاسم واستعاذه بالله جل وعلا.(237/16)
معنى: وهب المسيئين منا للمحسنين
ومن الأدعية التي ندعو بها أننا نقول في دعاء القنوت: اللهم اغفر لنا في ليلتنا هذه أجمعين وهب المسيئين منا للمحسنين.
قولك: وهب المسيئين منا للمحسنين، أولاً: نسأل هل يجوز هذا الدعاء أم لا يجوز؟ ثم إذا كان يجوز فما معناه؟ نعم يجوز، ومعناه: يا رب أدخل المسيئين منا والخطائين في شفاعة المحسنين الصالحين، وتقبل دعاءهم فيهم، وهذا وارد؛ فإن الله تعالى قد ينزل الرحمة على قوم ببركة رجل بينهم كما جاء في الحديث: {هم القوم لا يشقى جليسهم} وعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.
فلذلك تقول وهب المسيئين منا للمحسنين، وكأنك تقول: يا رب أنا ممن لا يستحق أن يستجاب دعاؤه لتقصيري وظلمي لنفسي، وتقصيري في حقك يا رب، لكن هبني لبعض الصالحين من حولي، ممن يدعونك دعاءً عاماً فتستجيب لهم وتنزل الرحمة على الجمع كله بمغفرتك ورحمتك لهم، ولهذا جاء في الحديث عند ابن ماجة وسنده صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم عرفة: {إن الله تطوَّل عليكم في جمعكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم وأعطى محسنكم ما سأل} وهذا فيه معنى الذل، والانكسار والعجز والافتقار من العبد لله الواحد القهار.(237/17)
معنى: واجعله الوارث منا
كذلك: {اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا، ما أبقيتنا، أو أحييتنا واجعله الوارث منا} ما معنى قوله: واجعله الوارث منا؟ نحن نرددها في كل قنوت، قد لا يكون أحد تفطن إلى معناها.
معنى قولك: واجعله الوارث منا، أي: يا رب إذا ضعفت قواي، وتناقصت من المرض، ومن الكبر والعجز أو غير ذلك؛ فاجعل سمعي وبصري وقوتي في جسمي، هي آخر ما يفقد مني، ومتعني بها إلى أن أموت، فأنزلها منزلة الوارث، وذلك لأن الوارث هو: من يبقى بعد موت مورثه.
فكذلك جعل هذه القوة التي هي السمع والبصر، بمنزلة الوارث.
وقوى الإنسان كلها تضعف، ويبقى السمع والبصر محفوظاً كأنه يرث الإنسان أي: يبقى معه إلى آخر عمره، فقوله: {واجعله الوارث منا} أي: اجعلها بمنزلة الوارث الذي يبقى بعد زوال غيره.
وقال بعضهم: إن قولك: "واجعله الوارث منا" أي: اجعلها في أعقابنا وذرياتنا من بعدنا، والمعنى الأول هو الأولى والأحسن والأظهر والله أعلم.(237/18)
معنى: أعوذ بالله من فتنة القبر
كذلك من الدعوات التي يدعو بها الناس: [أعوذ بالله من فتنه القبر] ما معنى فتنة القبر؟ فتنة القبر هي مسألة القبر وهو: الفتان الذى يوقى منه الشهيد.
وفي القبر فتن عظيمة منها: السؤال، وهو أن يسأل العبد في قبره {من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال له: نم قرير العين نومه العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، وأما الكافر أو المنافق فإنه يقول: هاه هاه لا أدري كنت أقول كما يقول الناس} هذا أخذ دينه بالتقليد ولم يهتم به.
ولهذا يخفق في الاختبار ويقول: لا أدري كنت أردد كلاماً نسيته، أسمع الناس يقولون شيئاً وأقول مثلهم دون بحث ولا تعلم، ولم يكن مؤمناً حق الإيمان، فيخفق في الاختبار، فهذه مسألة القبر، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة: إن العبد عندما يفتن في قبره؛ يأتيه ملكان أسودان، أزرقان، أحدهما: منكر، والآخر: نكير، منظرهما مخيف، ويسألانه هذه الأسئلة، وقد ذكر ابن الجوزي وغيره قصة مشهورة عند العوام أن عمر رضي الله عنه لما وسد في قبره جاءه الملكان من أجل أن يختبراه، فقام عمر وأمسك بالملكين وقال: [[من ربكما؟ ما دينكما؟ ومن نبيكما؟]] ؟ وهذه قصه مختلقة؛ لأن الوحي قد انقطع بموت الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا الخبر غيبي من عالم الآخرة، فمن الذي أخبرنا أن هذه القصة حصلت لـ عمر؟ اختلقتها عقول بعض الناس، ولفقوها وأشاعوها وتداولها الناس وصدقوها، والواقع أن هذه القصة لا أصل لها، وعمر ليس أفضل من أبي بكر ولا من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وما نقل هذا عن أحد منهم.
قد يقال: إن الأنبياء لهم شأنهم الخاص، فهذا أبو بكر رضي الله عنه لم ينقل عنه هذا، على كل حال هذا معنى فتنة القبر وهذا معنى مسألة القبر.(237/19)
معنى: سبوح قدوس رب الملائكة والروح
كثيراً ما يقول الداعي والمصلي: {سبوح قدوس رب الملائكة والروح} في سجوده أو ركوعه أو دعائه، سبوح: لعله عرف معناها مما سبق؛ لأنها من التسبيح (سبح يسبح تسبيحاً) أي: تنزه الله تعالى عن كل ما لا يليق به.
فقولك: (سبوح قدوس) يعني: الله المنزه عن كل نقص وكل عيب، كذلك قولك: (قدوس) هو: اسم من أسماء الله تعالى الملك القدوس السلام، وهو مأخوذ من القدس وهي الطهارة، ومنه بيت المقدس، يعني: بيت الطهر، البيت الذى فيه الطهر، أمة مقدسة أو غير مقدسة، يعني مطهرة أو غير مطهرة: {لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه} أي: لا طهرت ولا حفظت، فالقدس هو الطهارة، والقدوس معناه: الطاهر المنزه عن كل نقص، وقيل معنى ذلك: البركة، فيكون معنى تقدس: مثل قولك تبارك.(237/20)
معنى: سمع الله لمن حمده
كذلك يقول الإمام في صلاته عند العلماء والفقهاء يقول: (سمع الله لمن حمده) وكذلك يقولها المنفرد ويقولها المأموم أيضاً عند بعض العلماء، فما معنى: (سمع الله لمن حمده) ؟ سمع الله أي: استجاب الله سماع إجابة وقبول، لمن حمده: أي لمن أثنى عليه وشكر، فالإمام عندما يقول: (سمع الله لمن حمده) أي: كأن الإمام يقول لكم: قد استجاب الله تعالى لكل عبد حمد الله وشكره وأثنى عليه، إذاً يا معشر المأمومين احمدوا الله تعالى، هذا المعنى: سمع الله لمن حمده فاحمدوه، فتقول أنت أيها المأموم كما يقول المنفرد والإمام أيضاً: ربنا ولك الحمد فتستجيب استجابة سريعة لهذا الأمر، فكأن قوله: (سمع الله لمن حمده) تهييج وحث على حمد الله تعالى، وشكره.
ولهذا يقول المصلي: {ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد -أي: يا أهل الثناء والمجد أو أنت أهل الثناء والمجد- أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} وهذه أيضاً بينتها قبل قليل.(237/21)
معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله
وأيضاً كثيراً ما يقول المؤمن: لا حول ولا قوة إلا بالله، فما معنى لا حول ولا قوة إلا بالله؟ الحول: قيل هي الحيلة في الوصول إلى الشيء، وقيل الحول هو: التحول أي: الانتقال من حال إلى حال، والقوة هي القدرة على الشيء، فأنت حين تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، تعني: لا حيله في الوصول إلى شيء ولا تحول من حال إلى حال حسن، ومن حال فقر إلى غنى، ومن حال انحراف إلى هدى، ومن حال مرض إلى صحة وعافية، ومن حال ذل إلى قوة وعزة، ولا تحول من حال تكرهها إلى حال تحبها، ولا قوة على الاستمرار على ذلك، إلا بالله أي: بالاستعانة بالله، وبعون الله تعالى، وبتأييده لك.
وأما لو وكل الله العبد إلى قوته لهلك، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [[لا حول عن معصية الله -يعني: لا تحول عن معصية الله تعالى- إلا بعصمة الله تعالى، ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله]] .
وهذا كما قال الخطابي أحسن ما قيل: لا تحول عن المعصية إلى الطاعة إلا بعصمة الله، ولا قوة على الطاعة وصبر عليها إلا بعون الله تعالى، فهذا معنى قولك لا حول ولا قوة إلا بالله.(237/22)
معنى: أعوذ برضاك من سخطك
يقول الداعي: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك} وهذا كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده كما ذكرت عائشة رضي الله عنها وحديثها عند مسلم.
فقولك: {أعوذ برضاك من سخطك} الرضا: ضد السخط، والعفو: ضد العقوبة، فاستعاذ العبد برضوان الله تعالى من سخطه، يعني: يا رب: أدخلني في رضوانك؛ لئلا تسخط عليَّ، وأدخلني في عفوك لئلا تعاقبني بذنبي، وتأخذني بجريرتي وجريمتي {أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك} ثم وصل إلى الواحد الأحد الذى لا ضد له ولا مثل ولا ند.
ولهذا قال: {وبك منك} فالله تعالى لا ند له، فأظهر العبد العجز والانقطاع وفزع من الله إليه، واستعاذ بالله تعالى منه، واستجار بفضل الله تعالى من عدله، وفى هذا دليل على أن النفع والضر والمنع والعطاء بيد الله عز وجل ومصدرها من قبله تعالى.(237/23)
دعاء الأذان
مما يحتاج إلى بيان أن كثيراً من الناس يرددون بعد المؤذن: {اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذى وعدته} وقد يضيف بعضهم (إنك لا تخلف الميعاد) وهذا فيه أمور:(237/24)
معنى: هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة
الأول: ما معنى قوله: {اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة} ؟ أما الدعوة التامة؛ فالمقصود: الأذان؛ لأن الأذان دعوة تامة، مشتملة على معاني الإيمان والتوحيد، من وحدانية الله تعالى والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإيماء إلى البعث، والحث على إقامة الصلاة التي هى أعظم الشعائر العملية في الإسلام، فهى دعوة تامة لا نقص فيها، والله تعالى ربها، بخلاف دعوات الدنيا، فإنها دعوات ناقصة بلا شك.
(والصلاة القائمة) : أي: أن هذه الصلاة التي ينادي إليها المنادي ويدعو إليها الداعي هي صلاة قائمة، فهي صلاة سوف تقوم الآن، وصلاة سوف تقام بإذن الله تعالى إلى أن يشاء الله تعالى، فلا يزال في هذه الأرض من يذكر الله تعالى ويسبحه وينزهه ويصلي له، إلى أن يقبض الله أرواح المؤمنين في آخر الزمان.(237/25)
معنى: آت محمد الوسيلة والفضيلة
(آت محمد الوسيلة) الوسيلة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله تعالى، ويرجو صلى الله عليه وسلم أن يكون هو، ولذلك أوصانا أن ندعو بهذا الدعاء {آت محمداً الوسيلة والفضيلة} والفضيلة: من الفضل وهو الزيادة، تقول: هذا شيء فاضل يعني: زائد، ليس له حد ومنه: فضل الماء أي: باقي الماء، فالفضيلة هي الفاضل، والمعنى: أعط نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم الفضل في كل شيء، والعلو في الدرجات، فهو علو في الدنيا، وعلو في موقف القيامة، وعلو في الآخرة: علو في الحياة وفي الممات بحق تلك إحدى المعجزات فأعطى الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم الفضل والعلو في الدارين، بل في الدور كلها، {آت نبينا محمداً الوسيلة والفضيلة} وبعضهم يزيد: والدرجة العالية الرفيعة، وهذا لم يرد في الحديث.(237/26)
معنى: المقام المحمود
(وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) (والمقام المحمود: هو الذي أخبر الله تعالى به: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] وهو الشفاعة، فله صلى الله عليه وسلم الشفاعة، والشفاعات له صلى الله عليه وسلم كثيرة، كشفاعته في أهل الموقف، وشفاعته في قوم استحقوا النار أن لا يدخلوها، وشفاعته في قوم عذبوا في النار أن يخرجوا منها، وشفاعته في قوم من أهل الجنة أن ترفع درجاتهم، وشفاعته صلى الله عليه وسلم في أبي طالب، من أهل النار أن يخفف عنه العذاب، فهذا من شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما يدعو به العبد إذا قال: وابعثه مقاماً محموداً الذى وعدته.
إذاً: هذا هو الدعاء الوارد: {اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته} .(237/27)
لفظة إنك لا تخلف الميعاد
وبعض الناس يزيدون (إنك لا تخلف الميعاد) والحديث رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد وغيرهم، بدون هذه الزيادة، أما زيادة (إنك لا تخلف الميعاد) فهي عند البيهقي من طريق محمد بن عوف تفرد بها عن علي بن عياش، وقد روى الحديث عن علي بن عياش اثنا عشر إماماً كالإمام أحمد، والبخاري، وغيرهم، ولم يذكروا هذه الزيادة، فالصحيح أنها زيادة شاذة لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي للعبد أن يقولها، فإن قالها لا يحافظ عليها كما يحافظ على السنة، فليقتصر على القدر الوارد: {اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذى وعدته} .
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالشهادة آجالنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم فقهنا في ديننا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(237/28)
الأسئلة(237/29)
الأكل من المال الربوي
السؤال
أنا ابن لرجل يدير أحد البنوك وهم يقولون: إن البنك هذا يتعامل بالحرام، فهل حرام علي أن آكل وأشرب وألبس والحال هذا؟
الجواب
إذا كان المصدر الوحيد لوالدك هو راتب البنك وليس له مصدر آخر قط، فإنه لا يجوز لك أن تأكل وأن تشرب وأن تلبس مما عنده، أما إن كان والدك له مصادر مختلفة منها البنك، ومنها أموال ورثها عن أبيه أو جده، ومنها أن عنده مؤسسة أو أي مصدر آخر يدر عليه بعض المال، بمعنى أن عنده مصادر متعددة فلا بأس أن تأكل وتشرب وتلبس من ماله.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبلغنا ما يرضيك من أعمالنا، ووفقنا بالخير في معادنا ومآلنا، اللهم صل وسلم على رسولك وعبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.(237/30)
الدعاء والإخلال به
السؤال
أردد بعض الأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحياناً أقدم كلمة وأؤخر أخرى، فهل يؤدي هذا إلى الإضرار بالدعاء؟
الجواب
لا يخل ذلك- إن شاء الله - ما دمت لم تخل بمعنى الدعاء.(237/31)
ما يلزم في الدعاء
السؤال
هل يشترط في الدعاء معرفة معناه وتفسيره من قبل الداعي ولو كان يعلم أنه قد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا شك أن معرفة معنى الدعاء تجعل الإنسان خاشعاً وصادقاً في دعائه، أما الدعاء بحسب الثقة، بثقتك بالداعي تؤمن على دعائه فإن هذا لا يكفي.(237/32)
ذكر بعد الإقامة
السؤال
قول الإنسان حينما تقام الصلاة (أقامها الله وأدامها مادامت السماوات والأرض) هل ورد فيه شيء؟
الجواب
ورد فيه حديث لا يصح، ولهذا لا يشرع للإنسان أن يقول هذا الدعاء.(237/33)
حكم مسح عضو التبول بالمنديل
السؤال
أنا رجل عسكري ودائماً أكون لابساً اللبس العسكري، فهل إذا قضيت الحاجة وأردت الوضوء هل يجب علي غسل فرجي؟
الجواب
إذا تبول فإنه يجب عليه غسل الذكر بلا شك، سواءً بالماء أو غير الماء، فلو أنه مسح الذكر بالمناديل أو نحوها حتى زال عنها البول، فإن هذا يكفي ولا يلزم استخدام الماء في ذلك.(237/34)
الوسوسة في الصلاة
السؤال
أنا كثير السرحان في الصلاة مع أني اتعوذ من الشيطان عدة مرات، كيف أتخلص من ذلك؟
الجواب
هذا لا بد في التخلص منه من أمرين، الأمر الأول: تطهير الباطن، وهو تطهير القلب من الشواغل الدنيوية والاشتغال بالدنيا التي ملأت قلوب كثير من الناس، فأصبحوا حتى في صلاتهم يشتغلون بها.
الأمر الثاني: تطهير الظاهر؛ وذلك بإزالة الأشياء التي تشغل الإنسان عن صلاته، كأن يكون هناك أصوات تزعجة أو أن يكون في قبلته أموراً تلهيه.(237/35)
المحرم للمرأة
السؤال
من المعلوم أن المرأة لا يجوز لها أن تسافر إلا ومعها ذو محرم أو زوج، فما هو سن الصبي الذي إذا بلغه يكون محرماً؟
الجواب
إذا كان الصبي مميزاً، كأن يكون في الثانية عشرة، فلا بأس أن يصحب المرأة، أما إذا كان صغيراً فلا ينبغي أن تكتفي به.(237/36)
اقتراح للمحافظة على أوقات العلماء
السؤال
ذكرت بالأمس مشكلة ازدحام وقت العالم بسبب كثرة اتصال الناس به، وهذا صحيح لا شك فيه، وأقترح في هذه لمناسبة أن يحدد العلماء وقتاً معروفاً لدى الناس يمكن أن يتصلوا بهم في أثنائه، فإن هذا لا شك يخفف من المشكلة؟
الجواب
أما بالنسبة لأوقات العلماء فلا شك أن هذا طيب، والذي أعلمه أن كثيراً من العلماء قد حددوا وقتاً للاتصال بهم، أما بالنسبة لي فلا أعتقد أن عندي شيئاً كثيراً مما تستفيدون منه، ولكني مع ذلك أجلس على الهاتف بعد صلاة الظهر في شهر رمضان خاصة.(237/37)
حكم إحرام الحائض
السؤال
ما رأيك فيمن عزمت على العمرة وذهبت إلى الإحرام فوجدت نفسها حائضاً؟
الجواب
تحرم بالعمرة ولو كانت حائضاً ولكنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء.(237/38)
تغيير الاسم غير اللائق
السؤال
إذا كان اسمي غير لائق فهل يجوز لي أن أغيره وماذا يترتب عليه؟
الجواب
لا بأس بتغيير الاسم إذا كان غير لائق وغير مناسب، ولا يترتب على ذلك شيء، ويكون ذلك بموافقة الوالد ورضاه، لأنه هو الذي أحدث الاسم الأول، فلا ينبغي أن يترتب على هذا إثم أو قطيعة رحم، أو إغضاب للوالد، كما أن تغيير الاسم يترتب عليه بعض التبعات الرسمية، في الدوائر الرسمية وهذا أمر فيه بعض الكلفة، فإذا كان الاسم مقبولاً وليس فيه شهرة أو معنىً سيئ فالأولى تركه، أما إذا كان الاسم سيئاً وفيه معنى غير لائق فلا بأس بتغييره.(237/39)
أفعال العمرة
السؤال
أرجو توضيح العمرة من حيث: الطواف والسعي وغيرها، علماً أني سوف أسافر في الطائرة، ومتى الإحرام؟
الجواب
من أراد أن يسافر للعمرة فإن عليه أن يحرم من الميقات، وبالنسبه للمسافرين في الطائرة فإن العادة بأن المسئولين في الطائرة يخبرون المعتمرين بموعد الوصول إلى الميقات بقبل حوالي ربع ساعة، أو عشر دقائق، فحينئذٍ على الإنسان أن يحرم بأن يلبس ثيابه، فإذا حاذى إلى الميقات نوى الدخول في النسك ولبى بالعمرة، فإذا وصل إلى مكة طاف وسعى وحلق أو قصر، وحينئذٍ يكون انتهى من عمرته.(237/40)
حكم الدعاء للغير في الصلاة
السؤال
يقال: بإنه لا يجوز أن تدعو لغيرك في الصلاة حتى ولا والديك، فهل هذا صحيح؟
الجواب
لا، ليس بصحيح، فإنك تدعو في الصلاة بما أحببت من خيري الدنيا والآخرة، لك وللوالدين ولجميع المؤمنين، ومن جوامع الدعاء: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) .(237/41)
البنوك والمصارف الإسلامية
السؤال
سبق أن أشرت في مناسبة قريبة إلى أن الإنسان إذا كان مضطراً إلى التعامل مع البنوك بالإيداع فليتعامل مع بنك الراجحي فإنه أخف، ولكن هل سبق وأن غصتم في معاملات هذه البنك لتعلموا ذلك، أو يكفي في ذلك السماع فأرجو إيضاحها؟
الجواب
في الواقع مسألة الغوص هذه في معاملة البنك ليست بالأمر السهل، ولكني أعلم أن بنك الراجحي لا يسلم من معاملات ربوية وذلك علمته من أناس غاصوا -على حد تعبير الأخ السائل- حتى ذهبوا إلى معاملات البنك وغيرها في البنوك الغربية في أمريكا وسواها، ورأوا شيئاً من ذلك، لكن بالنسبة للإيداع لا شك أن الأمر فيه أوضح من بقية البنوك، لأنه يودع دون أن يكون هناك فوائد ربوية يعطيها للمودعين، فلذلك هو أهون الشرين على كل حال.(237/42)
حكم نية الطواف للمتوفي
السؤال
هل يجوز الطواف لأحد أقربائي إذا اعتمرت؟
الجواب
إن كان هذا القريب متوفى لا يستطيع العمل، فلا حرج أن تطوف وتنوي ذلك عنه وإن نويته لنفسك فأنت أحوج به وتدعو لمن مات من أقربائك.(237/43)
الجهر سهواً في القراءة السرية
السؤال
صليت في أحد المساجد صلاة الظهر في أحد الأيام الماضية، ولم يكن الإمام الرسمي موجوداً فصلى بنا المؤذن، فعندما كبر تكبيرة الإحرام جهر بقراءة الفاتحة فسبح من خلفه من المصلين ثم كبر مرة أخرى لما سمع التسبيحة من المصلين، فبعض المصلين كبر مرة أخرى، والبعض الآخر اكتفى بالتكبيرة الأولى، فهل صلاة الذي كبر ثانية صحيحة، أفيدونا؟
الجواب
يبدو لي بأن صلاة الجميع صحيحة، لأنهم كبروا تكبيراً صحيحاً وصلوا صلاة لا لبس فيها، فأما الذين لم يكبروا معه فهؤلاء لهم قدوة وأسوة بـ أبي بكر رضي الله عنه، فإنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من بني عمرو بن عوف، وكان أبو بكر قد كبر في الصلاة قبله وأم الناس، فتخلف أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم، أي: أن الإمام تأخرت تكبيرته عن تكبيرة المصلين في مثل هذه الحالة، لكن تكبيرهم السابق مع أبي بكر كان تكبيراً صحيحاً.(237/44)
أثر الدين على الشعوب
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن أثر الدين، وبدأ بمقدمة عن أن الدين مؤثر منذ آدم عليه السلام، ثم ذكر أن الفطرة التي فطر الله عليها الناس تدعوهم إلى التعبد والعبودية، وأن الإنسان عبد لا محالة سواء لله أو لسواه من الأنداد أو الشهوات، وأنه لا يمكن الوقوف في وجه الفطرة الداعية للتأله للإله، وضرب مثالاً بالاتحاد السوفيتي ومحاولته مصادمة الفطرة وسقوطه، ثم ذكر آثاراً للدين على بعض الأمم والمجتمعات مثل عرب الجاهلية واليهود والنصارى، واستطرد في بيان سبب تأييد النصارى لدولة إسرائيل رغم العداء التاريخي بين اليهود والنصارى، ثم ذكر توجيهات حول الدين وتأثيره على الأمة المسلمة، وأجاب على مجموعة أسئلة حول الموضوع.(238/1)
أثر الدين قضية تاريخية
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
إنها لفرصة طيبة ولحظات سعيدة نسأل الله تعالى أن تكون زيادة لنا من الإيمان والتقوى والقربى من الله عز وجل، وإنني لأشكركم على تجشمكم هذه الصعاب التي تلقونها في طريقكم إلى هذا المخيم، فإنها خطوات مكتوبة قال الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] .
وأشكر الإخوة القائمين على هذا المخيم، وخاصة بلدية مدينة عنيزة، التي سهرت على توفير الخدمات اللازمة له، وقامت به خير قيام، وإن هذه من أعظم المهمات، التي ينبغي أن تقوم بها مثل هذه المؤسسات والدوائر، وهي -أيضاً- بادرة طيبة وتجربة فريدة.
والموضوع هو (أثر الدين على الشعوب) هذا الموضوع في الواقع موضوع كبير جداً؛ لأن يتصور نتحدث عن أثر الدين كل الدين على الشعوب كل الشعوب، ويتصور أننا سوف نحيط به أو حتى بشيء كبير منه فهو يطلب محالاً؛ لأن هذا الموضوع في الواقع هو موضوع التاريخ كله، من لدن آدم عليه الصلاة والسلام، لا أقول إلى يوم الناس هذا بل إلى قيام الساعة، فإن الله عز وجل منذ خلق الإنسان وأهبطه إلى ظهر هذه الأرض، أنزل عليه الدين، فكان آدم عليه الصلاة والسلام أبو البشر {كان نبياً مكلماً} كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح البخاري لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام حديث الشفاعة، ذكر {أن الناس يأتون إلى آدم فيقولون: يا آدم أنت أول نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض} .
إذاً قضية الدين قضية تاريخية، تبدأ من بداية الإنسان وتنتهي بنهاية الكون، فلا يتصور أحد منكم أن أتحدث عن هذا الموضوع كما يدل عليه عنوانه؛ لكني أحببت أن ألقي بعض النظرات، وبعض المفاهيم، وبعض القضايا الكلية التي يمكن أن يستفيد منها الإنسان في موضوع كهذا الموضوع.(238/2)
الدين غريزة فطرية
فالدين هو غريزة فطرية ركبها الله عز وجل في كل مخلوق، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم:30] فالتدين جبلة مغروزة ومغروسة ومركوزة في كل إنسان، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية- ما من مولود إلا يولد على الفطرة -حتى يعرب عنه لسانه- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} .(238/3)
مفهوم الفطرة
ما هي الفطرة؟ الفطرة هي الصفاء والنقاء والاستعداد لقبول الهداية، والبحث عن الهداية -أيضاً- وهي التوحيد والإيمان والتطهر، سواء أكان التطهر باطناً بصلاح القلب، أم كان التطهر ظاهراً بصلاح الجوارح، لذلك عد النبي صلى الله عليه وآله سلم من الفطرة ومن سنن الفطرة: الاستحداد، والختان، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، فكل هذه الأشياء من الفطرة، ومثله السواك وغيره من الأشياء التي فيها طهارة للإنسان، في خلقه، وفي سلوكه، وفي ظاهره، وفي باطنه، وفي قلبه، وفي عقله، وكل هذه الأشياء تدخل تحت المفهوم العام للفطرة.(238/4)
ضرورة العبودية
إن الإنسان بطبيعته عابد ولابد أن كل إنسان عابد، ولا يمكن أن تجد في الكون إنساناً غير عابد، لهذا قال الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] إذاً الإنسان بين خَيَارين لا ثالث لهما، إما أن يعبد الله إما أن يعبد الشيطان، لهذا نهانا الله عز وجل عن الثاني وأمرنا بالأول فقال: ((أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ * وَأَنِ اعْبُدُونِي)) [يّس:60-61] إذاً أنت وغيرك من البشر كلهم عابدون، لكن منهم من يعبد الله، ومنهم من يعبد الشيطان.
ولهذا قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1-6] .
إذاً حتى الكافرون لهم دين يدينون به، بغض النظر عن ماذا يكون هذا الدين، منهم من يعبد -مثلاً- الحجر أوالشجر، ومنهم من يعبد الشيطان، وهناك طوائف مثل اليزيدية موجودون في بعض البلاد الإسلامية يعبدون الشيطان، وفي أوروبا وأمريكا ظهرت عبادة الشيطان في هذا العصر بشكل جديد، فيعبدونه فعلاً ويسمونه "شاتان"، ويعبدونه وله يسجدون، هذا في قلب الحضارة والتقدم، ويضعون وينصبون التماثيل للشيطان ويعبدونه!!.
إذاً، فالإنسان عابد ولابد، لكنه إما أن يكون عابداً لله عز وجل وإما أن يكون عابداً للشيطان، ولهذا -أيضاً- قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار} .
إذاً هو عبد، فعبوديته للشيء الذي سلب لبه، وأخذ قلبه، واستعبده، فصار يعمل من أجله، إن أحب فمن أجل الدرهم والدينار، وإن والى فمن أجله، وإن عادى فمن أجله، وليست القضية قضية الدرهم والدينار، فكل شيء تألهه الإنسان وملأ قلبه، وشغل قلبه، واستخدم جوارحه في تحصيله، فإنه يكون عبداً له.
ولهذا نقول -أيضاً-: إن هناك غير عبد الدرهم والدينار، فهناك عبد الشهوة واللذة، وهناك عبد الدنيا، وهناك عبد الكرسي، وهناك عبد الزوجة، وهناك عبد الشهرة.
فالعبوديات كثيرة جداً ولا تتناهى، فكل من تأله لشيء، وملك عليه قلبه، واستخدم جوارحه فيه، وارتكب ما حرم الله تعالى من أجله، فهو يكون عبداً لهذا الشيء الذي تأله قلبه.
إذاً القلب هو مثل إناء أو وعاء، لا بد أن يملأ؛ فإما أن تملأه بمواد طيبة نظيفة كالماء أو العسل أو غيره، وإما أن تملأه بمواد خبيثة نجسة ضارة، ولابد من هذا أو ذاك، وهما طريقان لابد للإنسان من أحدهما.(238/5)
العبودية في الإسلام
وفي عقيدة الإسلام هناك تصور واضح لهذا الموضوع، فمنذ أن وجد الإنسان، أي أنه من يوم أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، كان معه الدين الصحيح، وعلمه آدم لأولاده، حتى توارثه الأجيال جيلاً بعد جيل، كما قال الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال ابن عباس: [[كان بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى]] .
إذاً، لا يستخفنك أن الباطل له صولة وجولة ودولة، ولا تتعجب وتنظر حين تجد الإيمان ضعيفاً في بعض البلاد، بل في معظم البلاد، بل ربما في كل البلاد، والغلبة في غالب الأحيان للباطل وأهله، فلا تستغرب هذا!!؛ لأنه كما قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وتذكر أنه بعد آدم بعشرة قرون، كلهم على الهدى وعلى الإسلام، أمةً واحدةً ليس من بينهم أحد يشذ، قد يعصي الواحد منهم، فالمعصية أمر موجود طبيعي كما وقعت من آدم عليه الصلاة والسلام في الجنة ومن ابنيه أيضاً، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة:27] إلى قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة:30] ولكن كانوا جميعاً على التوحيد وعلى الهدى.
لم يكن بينهم من يشرك بالله عز وجل شيئاً، هذه عقيدة المسلمين في الإيمان وهذا أمر طبيعي؛ لأن كمال عدل الله عز وجل يقتضي أن لا يعذب البشر إلا بعد أن يقيم عليهم الحجة كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء:15] وكما قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] .
فكل أمة بعث الله فيها رسولاً بشيراً ونذيراً، يبشرهم ويأمرهم بالتوحيد والإيمان والتقوى، وينذرهم وينهاهم عن الشرك، والكفر والضلال، فكل أمم الدنيا بعث الله عز وجل فيهم نذيراً.
وأمة العرب هم من ذرية المؤمنين، ومن ذرية الأنبياء، لكن لا يمنع أن تكون الأمة العربية نبيها هو الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرب، كان من حكمة هذه البعثة وهذه النبوة أن لا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير كما قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة:19] وقال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس:6] بعض أهل العلم يقول: (ما أنذر آباؤهم) ما: هنا نافية.
أي ما أنذر أباؤهم من قبل، وعلى هذا يكون العرب نبيهم هو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وبعضهم يقول: (ما أنذر آباؤهم) أن (ما) هاهنا موصولة بمعنى الذي، يعني: لتنذر قوماً الذين أنذر أباؤهم، فتنذرهم النار التي أُنذرَها من قبلهم، وتذكرهم بالجنة، وتأمرهم بالمعروف الذي أُمِر به من قبلهم، وتنهاهم عن المنكر الذي نُهي عنه من قبلهم، وعلى كل حال فالتفسير أن قوله: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:6] نفي، أي: لم ينذر العرب من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.(238/6)
ضعف الإنسان بطبيعته
الإنسان بطبيعته -كما قلت- عابد، وذلك منذ أول نزوله إلى هذه الأرض، ومن الجوانب التي تدل على عبودية الإنسان وحاجته إلى التدين، أنه يشعر بالضعف بطبيعته، فهو مخلوق ضعيف محتاج، وهو يرى من حوله من مظاهر الكون، والسحاب، والمطر، والعواصف، والرعود، والبروق، والزلازل، والبراكين، والجبال، والأشجار، والأنهار والأكوان، بل يرى المرض الذي ينزل به، وبولده، وبزوجته، وبحبيبه، فلا يملك له دفعاً، ويرى الموت الذي ينزل قضاءً محتوماً على الكبير والصغير، والمأمور والأمير، والمملوك والملك، والجميع ينزل عليهم كما قال الله عز وجل: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:86-87] يعني: إن كنتم فعلاً صادقين أنه لا يوجد بعث ولا جزاء ولا حساب فهذا الآن الميت يحتضر وينزل به القضاء المحتوم، هل تستطيعون أن تدفعوا عنه؟! هيهات!!.
فالإنسان يشعر بضعفه، وقد خلق ضعيفاً محتاجاً، لذلك الله تعالى كمَّل ضعف الإنسان بالتدين، كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كلمة مضيئة جميلة: [[إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الاجتماع على الله عز وجل وفقراً لا يغنيه إلا دعاء الله -تعالى- والافتقار إليه، فإذا أعرض العبد عن ربه، أعرض الله تعالى عنه حتى لا يبالي في أي أودية الدنيا هلك]] .
إذاً هذا الضعف الفطري الموجود في الإنسان، لا يمكن أن القوى المادية من الابتكارات والاختراعات والتقنية والصناعة، والتقدم العلمي والحضاري، والطب والاكتشافات، والأموال والصولجان، والشُرط والأعوان والحشود، لا يمكن أن تسد هذا الفقر الموجود عند الإنسان، فلا بد أن يرجع الإنسان إلى طبيعته يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] إذاً يرجع الإنسان إلى طبيعته التي فطر عليها، بضعفه وبعجزه قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54] فالإنسان بدأ من الضعف ويعود إلى الضعف، والضعف أمرٌ ملازم للعبد لا مخلص له ولا مخرج منه.
أما النظريات الجاهلية فحدث ولا حرج، فمثلاً! في بعض الكتب والدراسات التي تتكلم عن قضية الأديان، يتكلمون عن تطور الأديان، ويعتقدون -لأنهم جاهليون ما استناروا بنور الوحي- أن الإنسان أول ما وجد على ظهر الأرض لم يكن هناك دين يرشده أو يوجهه، وكانت حوله هذه القوى الطبيعية التي لا يستطيع أن يواجهها، فكان يعبدها حتى إنهم زعموا أنه كان يعبد الطوطم، أو يعبد الحجر، أو الشجر، أو يعبد الأفلاك، أو ما شابه ذلك.
فيزعمون أن الإنسان أصله الشرك، والتوحيد طارئ عليه، والنظرة الإسلامية الصحيحة تنكر ذلك، وتقول: إن الإنسان أصله التوحيد، وإن الشرك طارئ عليه.
وعلى كل حال فالذين يتنكرون للأديان، مهما كثروا فهم قلة، ومنذ فجر التاريخ كم عدد الذين ينكرون وجود الله عز وجل؟! وكم عدد الذين لا يدينون بدين سماوي؟! إنهم شواذ، وأفراد قلائل لا وزن لهم ولا قيمة، لذلك كانوا على مدار التاريخ يستَخْفُون ويستترون.(238/7)
إنكار وجود الله في هذا العصر
أما في هذا العصر فقد حدثت ظاهرة قد تكون جديدة، وهي: أنه منذ عشرات السنين قامت دولة قوية -وهي روسيا الشيوعية- على أساس مبدأ إنكار وجود الله عز وجل والتنكر للأديان، وقامت بالحديد والنار، وكان اليهود وراء الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا، التي قامت فيما أعتقد عام 1917م بالتاريخ الميلادي.
وعلى كل حال فالمقصود أن الناس كانوا يتعجبون، ويقولون: سبحان الله! دولة قوية راسخة، ممكن لها! جذورها ضاربة في التربة، وأغصانها باسقة ممتدة، ولها أتباع! ولها دول تدين بدينها، وتتحالف معها في المشرق والمغرب، وحتى في جزيرة العرب وفي كل مكان، ومع ذلك هي دولة تقوم على أساس مبدأ الإلحاد وإنكار وجود الله عز وجل فكان الناس يتعجبون، وهذه من طبيعة الإنسان، قال تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] .
أي: أن أكثر الناس ليس لديه قدرة أن يبعد بنظره عن الواقع الذي يعيشه لينظر إلى الماضي -مثلاً- أو ينظر إلى المستقبل، فهو -غالباً- محصور بالواقع القريب، والآن انظر كيف أن الله عز وجل أبان لنا بعبرة قوية واضحة الآية الربانية، أن هذه الدولة التي قامت على أساس مبدأ الإلحاد والتنكر للفطرة البشرية، سقطت بين يوم وليلة، لماذا سقطت بين يوم وليله! ولم تسقط بالتدرج، سقطت دفعة واحدة؛ لأنها كانت دولة مدعومة بالحديد والنار والقوة.
وزعماء هذه الدولة مثل إستالين وغيرهم، كانوا نماذج للبطش والقتل والتشريد، حتى إنهم أسالوا دماء المسلمين في الجمهوريات التي يسمونها الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، إذ كانت مدناً إسلامية شهيرة وعريقة، ومعروفة في التاريخ كسمرقند وطشقند وبخارى، وغيرها من المدن العريقة التاريخية ذات السمعة المعروفة، فسحقوا هذه المدن، وسحقوا الإسلام فيها، وسحقوا النصرانية أيضاً، ودمروا كل شيء يمت إلى الدين بصلة، وحولوا المعابد سواء أكانت مساجد أم كنائس أم غيرها إلى إسطبلات للخيول، ومستودعات، بل أحياناً أماكن للفساد والرذيلة.
وخلال ستين أو سبعين سنة بل أكثر من ذلك، وهم يستخدمون كل ما أعطاهم الله عز وجل من القوة في إبادة جميع المشاعر الدينية، وإبادة حتى الانتماءات القومية، كون هذا من عنصر أو من جنسية أو من قوم، وهذا من قوم آخرين، أي: محاولة صهر الشعوب الروسية كلها في بوتقة واحدة، فما الذي حصل؟! بمجرد أن سقطت الشيوعية وتضعضعت وتزعزعت، ما الذي حدث؟ حدث أنهم لما استنشقوا عبير الحرية والهواء الطلق وبداية الانفتاح، أصبحنا نسمع عن كثير من هؤلاء أنهم رجعوا سبحان الله كأنهم أناس ساكتون ينتظرون متى تتاح الفرصة لهم! وهذا يعني أن الدين موجود في قلوبهم، لكنهم مضغوط عليهم ومحاربون؛ لذلك كانوا يعلمون أبناءهم الدين بطريقة سرية جداً، أي: كأن الدين عند الروس أشد خطورة من المخدر بلا شك، لذلك يحاربونه حرباً شعواء ولا يقبلون أي تسامح.
ففي مرة من المرات قام مجموعة من العلماء بزيارة روسيا في بعض المناسبات، والتقى العلماء بالمفتي-كما يسمونه- فما وجد شيئاً يستقبلهم به إلا أنه وضع أغنية لأحد المغنيات العربيات ليسمعهم إياها، فكان هذا هو الأسلوب الذي يستطيع أن يستقبلهم به، ويعبر عن محبته لهم، فما عندهم شيء، فالقرآن لا يوجد، وتعاليم الإسلام محيت، أو كاد القضاء المبرم على كل شيء يمت إلى الدين بصلة، وبمجرد ما تنفسوا تنفساً بسيطاً وبدت رائحة الانفتاح في روسيا؛ عاد النصارى إلى نصرانيتهم، وعمروا كنائسهم ومعابدهم ورجعوا إليها، والمسلمون هم الآخرون بدءوا يعودون إلى دينهم، وبدءوا يقبلون ويقيمون الجسور والعلاقات مع المسلمين في كل مكان.
وبدأنا نسمع أخباراً وأشياءً من وراء الستار الحديدي الذي ضرب على المسلمين زماناً طويلاً في الجمهوريات السوفيتية، إذاً الدين كان موجوداً مختفياً تحت أكوام من الرماد، وبمجرد ما أتيحت لهم فرصة عبروا عن تدينهم، وحتى القوميات رجعت، وأنتم تسمعون أخباراً في روسيا عن المطالبة بالاستقلال في عدد من جمهوريات البلطيق وغيرها، سواء جمهوريات إسلامية أم نصرانية.
هذا أمر يجعلنا نقول: إن الدين قضية فطرية غريزية، والذين يحاربون الدين أو يقفون في وجه الدين، لا يحاربون شخصاً معيناً، ولا يحاربون فئة معينة، ولا يحاربون مجتمعاً معيناً، إنما يحاربون الله عز وجل لكنهم بعد ذلك يحاربون فطرة مركوزة في كل إنسان، يتنفسها كالهواء، فهو كما يحتاج إلى الطعام وإلى الشراب؛ فإنه كذلك يحتاج إلى التدين، الذي يلبي ويشبع هذا الظمأ الموجود في روح الإنسان وفي قلبه.
فالدين أمر فطري جبلي لا حيلة في دفعه، والذين يحاربون الدين هم كما قيل في الشعر: كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل افعل ما شئت، ودبر، واقض ما أنت قاض، وخطط، واعمل، وحارب في السر والعلن، بكل وسيلة، واستخدم ما تملك من وسائل، ومن إمكانيات، ومن قوى، ومهما تكن لن تبلغ قوة الاتحاد السوفيتي في وقت من الأوقات، وفي النهاية يظهر الدين بقوته، لذلك حتى أعداء الدين من الفلاسفة وغيرهم آمنوا بأن الدين قدرٌ لا محالة في دفعه، ولا يمكن محاربته، لكن ممكن أن يقللوا من تأثير الدين في حياة الناس، أو يعملوا على ذلك، وممكن أن يحاولوا إعطاء الناس معلومات خاطئة عن الدين والمتدينين، فيشوهوا صورتهم -مثلاً- إلى غير ذلك.
لكن حرب الدين نفسه، هذه حرب خاسرة، والذي يحارب الدين وأهل التدين سوف يبوء بالخسران، والفشل، والخيبة، والذل، والعار، والنار.
وإن قضية الاتحاد السوفيتي وما جرى فيه، إنما أذكرها فقط لأبين لكم أن الذين يحاربون الدين، أو يتنكرون للدين أصلاً ولوجود لله عز وجل هم دائماً وأبداً شذاذ.
ولذلك يقولون: حتى في زمن هيمنة وقوة الاتحاد السوفيتي، لما ذهب رائد من رواد الفضاء إلى الطبقات العليا من الجو -كما يذكرون- ولما رجع تحدث بصورة المتأثر المؤمن بالله عز وجل وقال: إنني بعدما ارتفعت ونظرت إلى الكون، وإلى هذه المنظومات والأفلاك، وكذا وكذا وكذا، أي: ذكر أنه طفق يبحث عن الله، أي: أنه شعر في قلبه بأنه لابد من إله يدبر هذا الكون، ويدير شئونه، ويصرفه كيف يشاء.
فلما أدلى بهذا التصريح، فما هي إلا ساعات حتى غيروا هذا التصريح وقلبوا معناه إلى معنى آخر، ويذكر أن الرائد الفضائي فعلوا له ما فعلوا لمحاولة قتله، أو ما أشبه ذلك.(238/8)
مكانة الدين عند عرب الجاهلية
والنماذج من قضية التدين والدين ليست نماذج محددة -كما ذكرت لكم- ولا مانع أن نستعرض معكم -سواء أكانت من التاريخ أم من الواقع القريب- شيئاً منها، فمثلاً: العرب في الجاهلية كان عندهم بقايا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه البقايا تتمثل في أشياء مثلاً: الحرم الآمن، وهذا الحرم الآمن قد ورثوه عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فمسألة الحرم وتعظيم الحرم من تلك البقايا؛ لهذا كانت العرب لا تقاتل في الحرم، ومعروف في سبب فتح مكة، أن بعض قريش غاروا على خزاعة في الشهر الحرام، وفي المكان الآمن، وفي الحرم الآمن، وقتلوهم، حتى لما ذكروهم بالحرم، إذا واحدٌ منهم سيئ الطوية، سليط اللسان، قال كلمة كفرية عظيمة كان العرب يتناقلونها بشيء من الاستعظام لها، والاستهوال، أن إنساناً تبلغ به الوقاحة، ويبلغ به الإجرام إلى حد أنه يقول مثل تلك الكلمة في مثل هذا البلد الآمن، وفي مثل ذلك الشهر الآمن.
فأقول: من الأشياء التي كانت أيضاً عند العرب، قضية الأشهر الحرم، فكانوا يحرمون القتال في الشهر الحرام ولذلك لما اعتدى بعض المسلمين عليهم، كسرية عبد الله بن جحش، استعظمت قريش ذلك، وقالوا: استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام؛ فأنزل الله تعالى قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ} [البقرة:217] المهم كانت العرب إذا أرادت أو احتاجت إلى أن تقاتل لا تقاتل في الشهر الحرام.
ومن ذلك قضية تحريم المحرمات من النساء، هل كنت تعلم في الجاهلية أحداً من العرب يتجرأ على بعض المحارم بنكاح أو سفاح؟ أبداً، بل كانوا يعظمون الدين في قضايا المعاملات الاجتماعية، في حدود ما وصل إليهم، تعظيماً كبيراً، ولهذا كانت العرب قد ورثت بعض بقايا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكانت تعظمها غاية التعظيم، ولا تسمح لأحد بالمساس بها بحال من الأحوال.
أما قضية المشاعر، وما يتعلق بالحج والعمرة، فقريش لما حصل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما حدث، كانت تسأل أهل الكتاب، أمحمد صادق أم غير صادق؟! أهو على حق أم نحن على حق؟! ولهذا يقولون لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتوحيد الله عز وجل ونهاهم عن الشرك، قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7] ويعنون بالملة الآخرة النصرانية، وهم طبعاً ليسوا أهل كتاب، ولا يعرفون حقيقة الأديان، ولا ماذا فيها، وإنما سألوا بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، فقالوا لهم: إن هذا الشيء الذي جاء به محمد لا يعرف.
أما القصة المعروفة، لما صارت الأحزاب، وذهب بعض اليهود إلى قريش منهم - حيي بن أخطب وغيره- قالت لهم قريش: أخبرونا ما بيننا وبين محمد؟ أنحن على حق أم هو على حق؟ أينا أهدى سبيلاً؟ قالوا: بل أنتم أهدى سبيلاً، وهكذا وقفت اليهودية في صف الوثنية ضد التوحيد، وضد الإيمان، لمجرد العداء لهذا الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذم الله تعالى عليهم هذا الموقف الشائن القبيح فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:51-52] .
إذاً ما كانت العرب تعظم أهل الكتاب إلا من أصل تعظيمها للدين، بغض النظر عن كونه تعظيماً منحرفاً بعيداً، وقد أصيب بلوثات الوثنية، التي جاء بها عمرو بن لحي الخزاعي منالشام، فتأثرت بها الأمة العربية، بل إنها عبدت الأوثان والأصنام، كما هو معروف، وكان لكل قبيلة صنم يعبدونه، لكن حتى عبادتهم للصنم، على أي أساس عبدوه؟ {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] .(238/9)
أثر الإسلام في عرب الجاهلية
أما بعد الإسلام فماذا تقول في أمة أو فرد الدين معه! لا أقول منذ ولادته وتسميته بل قبل ذلك من يوم أن كان نطفة، بل قبل ذلك، فالإسلام نظم عملية لقاء الزوج بزوجته، بل قبل ذلك مسألة الزواج نفسها ضبطها الإسلام، بضوابط كثيرة جداً، تجعل من هذا العمل ليس عملاً عادياً، أو عملاً شهوانياً بحتاً، وإنما هو عملٌ محفوف بهداية الله عز وجل، محاط بتوجيهات القرآن والسنة.
ماذا تقول في أمة كان الأخذ بالثأر من أعظم عادات العرب، ويعدون أن عدم الأخذ بالثأر مذلة، فإذا قتل أبوه أو أخوه أو قريبه رأى أن عليه أن يأخذ بثأر من قُتل مهما تكن الظروف، فلما جاء الإسلام ضبطهم بهذا الأمر، فكان الواحد منهم يرى قاتل أبيه، فلا يعتدي عليه ولا يمسه بسوء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع جميع دماء الجاهلية، وجميع ثاراتها، كما قال عليه الصلاة والسلام في خطبته المعروفة في حجة الوداع.
مع أن مسألة الأخذ بالثأر كانت مغروسة ومركوزة وعميقة في نفوسهم، ومع ذلك تخلصوا منها وصبروا أنفسهم.
وكذلك كان العربي عزيزاً يأبى الضيم، كانت فيه أنفة وفيه قوة وفيه شهامة، لذلك ما كان من الممكن أن تأخذ من العربي قطرة ماء بالقوة، حتى لو يبذل روحه في سبيلها؛ أبداً.
وكان عندهم عزة وعندهم نخوة وكرامة، ومن أسباب ذلك أنهم تربوا في الصحراء، فتربوا على معاني الرجولة والمروءة والقوة والشجاعة، ولذلك ذكرت في بعض المناسبات أن رجلاً عربياً كان عنده فرس -خيل- جيدة وعريقة ونسيبه، اسمها "سكاب"، فجاءه ملك من الملوك يريد أن يأخذها منه، ما قال: الأمر بسيط والإنسان يفدي نفسه بماله.
لا، قال له: أبيت اللعن، هذه تحية كانت معروفة عند العرب في الجاهلية.
أبيت اللعن إن سكاب عِلْق نفيس لا يعار ولا يباع فلا تطمع أبيت اللعن فيها ومنعكها بشيء يستطاع ما دام أنني أتستطيع أن أمنعك هذا الفرس، فإنك لن تستطيع الحصول عليه بحال من الأحوال، مع أن العربي في مقابل ذلك كان كريماً، يمكن أن يعطي أغلى وأعز وأثمن ما يملك بدون مقابل، لأنه رجل كريم، يعطي قطعة من قلبه، وكان الشاعر العربي حتى في الجاهلية يقول: ولو أني حبيت الخلد فرداً لما أحببت في الخلد انفرادا فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا فكان عندهم معاني الكرم، ومع ذلك ما كان أحد يستطيع أن يأخذ منهم أموالهم بالقوة بحال من الأحول.
ولذلك العرب في الجاهلية، ما خضعوا لأحد أبداً، ولا جمعهم جامع، ولا ربطهم رابط، حتى جاء الإسلام فوحد صفوفهم تحت شعار السمع والطاعة لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع له ولا طاعة.(238/10)
أثر الدين على اليهود
ومن النماذج التي أحب أن أقف عندها بعض الشيء، قضية اليهود، واليهودية ديانة قديمة-كما تعلمون- فهم يزعمون أنهم أتباع لموسى عليه الصلاة والسلام، وقد تعرضت اليهودية في تاريخها الطويل، لحملات ضارية من التعذيب والتنكيل على يد ملوك، وزعماء كبار من النصارى ومن الوثنيين، وهذا -أيضاً- موجود في العصور المتأخرة -كما تعرفون- في ألمانيا وغيرها، وكيف يذكر في بعض المصادر أنهم كانوا يحرقون ويسحقون، وإن كانت هناك مبالغة في مثل هذه الأخبار على كل حال.
لكن المهم أن اليهود تعرضوا لحملات قاسية جداً، من حملات تصفية جسدية، وحرق بالنار، وقد ذكر بعض المؤرخين النصارى -أيضاً- قصصاً من اضطهاد النصارى لليهود يندى لها الجبين، وكيف كانوا يدفنونهم أحياءً في مقابر جماعية، وكيف كانوا يحرقونهم! وكيف كانوا يجعلون الشموع فوق رءوسهم ويوقدونهم حتى ينتهو! إلى غير ذلك، ومع هذا كله وعبر هذا التاريخ الطويل تجد أن اليهود اليوم ومنذ عشرات السنين تمكنوا من أن يجمعوا كلمتهم ويوحدوا صفوفهم في دولة فلسطين.
هذه الدولة تبدأ باسمها إسرائيل، اسم ديني لأن إسرائيل هو اسم للنبي يعقوب عليه السلام، فاسمها اسم ديني، فهذه الدولة تكونت من الأحزاب التي يسمونها أحزاباً متطرفة، مثل حزب كاهانا -هذا الذي قتل في أمريكا- وغيره، بل حتى جمهور الناس الساكنين فيها، وسائر الأحزاب الموجودة فيها والأشخاص تجد أنهم ينطلقون من منطلقات دينية، ويلتزمون بتعاليم دينهم التي استقرت عندهم الآن، وليس الدين الأصلي الذي نزل على موسى عليه الصلاة والسلام؛ ويحترمونها.
حتى إن أحدهم يقول: ليس اليهود هم الذين حفظوا التوراة، لكن التوراة هي التي حفظت اليهود، يعني أن اليهود ليسوا هم الذين حفظوا التوراة، وتناقلوها جيلاً بعد جيل، حتى وصلت إلى المعاصرين، لا! وإنما التوراة هي التي حفظت لليهود وحدتهم وتماسكهم، حتى استطاعوا في هذا العصر أن يجتمعوا تحت ظل دولة واحدة، ليست دولة ذات حدود، بل دولة تطمع أن تكون بلا حدود؛ فالآن هي دولة إسرائيل، وغداً يطمعون أن تكون دولة إسرائيل الكبرى.
وتدخل فيها أطرافاً من الدول المجاورة، ولعل قضية هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل الآن، والعدد فيها قد يقارب ثلاثمائة ألف مهاجر، لعل هذه خطوة كبيرة؛ لأنه لو تصورت ثلاثمائة ألف مهاجر إلى إسرائيل، هؤلاء أين سيسكنون؟! من أين سيعيشون؟! ماذا سيزرعون؟! وماذا سيعملون؟! وفي أي المصانع سيشتغلون؟! أنا أطرح هذا السؤال وأترك الإجابة عليه لك.
فهل تتصور أن دولة محدودة ودولة ضيقة ودولة محصورة يمكن أن تستوعب هذه الهجرة الكبيرة؟! خاصة إذا تذكرت أن العنصر الفلسطيني الموجود في إسرائيل يتوالد بكثرة، وهذا من الأشياء التي تزعج الغرب واليهود، (كثرة التناسل والتوالد في عالم المسلمين) .
لأنها شكلت عندهم خطورة، ولعل قضية ما يسمى بالانتفاضة هم أطفال، شكلوا لإسرائيل مشكلة كبيرة وخطيرة هزتهم هزة عنيفة، وما ذلك إلا لأسباب لا شك كثيرة، لكن موضوع الكثرة العددية أو ما يسمونه بالانفجار السكاني هذا من أخطر الأشياء التي تهدد وتواجه إسرائيل، فإذا أضفت إلى هذا أنهم زادوا الطين بلة، بثلاثمائة ألف مهاجر من روسيا وغيرها، أدركت أن إسرائيل تخطط جدياً وربما في القريب، تخطط لتوسع معين، وهذا التوسع نحن مطمئنون بحول الله وقوته، وواثقون بوعد الله تعالى ونصره عز وجل.
إنهم حينئذ يتجمعون لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: {تقاتلون اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} وفي رواية البزار وغيره: {على نهر الأردن أنتم شرقيه، وهم غربيه} .
إذاً ليتجمع اليهود ما تجمعوا، وليقضوا ما هم قاضون، وليحشدوا قواهم وإمكانياتهم، وليستعينوا بحلفائهم من الشرق والغرب، وليدعو مهاجريهم من روسيا وأمريكا وأوروبا وغيرها؛ فإنهم إنما يجتمعون لمعركة حاسمة فاصلة لمّا يشهدها التاريخ بعد، ولن تكون مع العرب الذين يرفعون شعار العروبة، ولا مع الذين يرفعون شعار الوطنية، ولا مع الذين يرفعون شعار القومية، ولا مع الذين يرفعون شعار الاشتراكية، إنما تكون مع حملة لا إله إلا الله محمد رسول الله، الذين تربوا عليها وآمنوا بها، وأشربتها قلوبهم، فأصبح الواحد منهم مجاهداً يمضي ويقول: ماض وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطُّرَف والآخر الذي يخاطب نفسه فيقول: أقول لها وقد طارت شُعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لن تطاعي فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع ومن لا يعتبط يسأمْ ويهرمْ وتسلمه المنون إلى انقطاع وما للمرء خير في حياة إذا ما عُدَّ من سَقَطِ المتاعِ(238/11)
أثر الدين على النصارى
أما النصارى والحديث عن تأثير النصرانية، طبعاً فالنصرانية الآن على حسب الإحصائيات هي أكبر ديانة من حيث عدد الأتباع، فهي أكبر ديانة، ويليها الإسلام، لكن من حيث النوعية هذا شيء آخر.
ويتوقع الكثيرون أن النصارى ضعفت صلتهم بدينهم، والواقع أن هذا تصور في غير محله، ويكفيك أن تتصور قضية الحروب الصليبية، فأكثر من ثلاث عشرة حملة كان الرهبان والقسس يجوبون فيها أنحاء أوروبا، ويدعون الناس إلى بلاد الإسلام وبلاد العرب التي تسيل سمناً وعسلاً ولبناً -كما يقولون- وكانت حملات ضارية فتاكة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، حتى إنهم فعلاً احتلوا عدداً من بلاد الإسلام، خاصة بلاد الشام، وظلت القدس بأيديهم فترة، والذين رأوا بيت المقدس يقولون: ما زالت بعض مرابط الخيول موجودة آثارها في بعض غرف المسجد، وبكى المسلمون بكاءً مراً في ذلك الوقت، وكانوا يعيشون أوضاعاً سيئة كالأوضاع التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم في كل مكان من الأرض، من تفكك داخلي وتشتت وضعف وتخلف وتأخر، ومع ذلك سلط عليهم أعداؤهم الخارجيون، حتى قال قائلهم يصف ما آل إليه الحال: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيب فحق ضائع وحمىً مباح وسيف قاطع ودم صبيب وكم من مسلم أمسى سليباً ومسلمة لها حرم سليب وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه ُنصِبَ الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوق وتمزيق المصاحف فيه طيب أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا(238/12)
نموذج من دعم بعض القسيسين لإسرائيل
هناك رجل مشهور جداً مبشر أو قسيس، لا أقول مبشر بل هو منصر أو قسيس أمريكي اسمه بلاكستون له كتاب اسمه "عيسى قادم" هذا الكتاب من أخطر الكتب، حتى إنه وزع منه أكثر من مليون نسخة، وهو أكثر كتاب انتشاراً في إحدى السنوات، وقد ترجم هذا الكتاب إلى نحو خمسين لغة، وطبع منه أكثر من مليون نسخة، وهذا الرجل هو أول من أسس ما يسمى باللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل، وقد جمع مجموعة معه عريضة ضخمة جداً تطالب بدعم إسرائيل ودعم اليهود، ووقعت من عدد كبير جداً من كبار الشخصيات الغربية.(238/13)
الدعوة إلى النصرانية
وهناك في العصر الحاضر شيء، يسمونه في أمريكا بالكنيسة الإلكترونية أو الكنيسة المرئية، وقد يطلقون عليه أحياناً الديانة في الوقت المناسب، يعنون بهذا البرامج الإذاعية والتليفزيونية الموجهة بالنصرانية، وهذه البرامج هائلة جداً، حتى إنها تمتلك عدداً كبيراً من المحطات الإذاعية، ومحطات التلفزة، فضلاً عن بعض البرامج التي قد يبث البرنامج الواحد منها من تسعمائة محطة أحياناً، حتى إنه في إحدى السنوات عام 1985م وجدوا أن عدد الذين يشاهدون مثل هذه البرامج أكثر من (40%) ، وغالبيتهم من كبار السن، ومن الأثرياء، ومن الذين يشاركون في الانتخابات، لذلك إذا تصورت أن ما يسمى بالمؤسسة اللاهوتية، أو الكنيسة في أمريكا تملك جيشاً هائلاً من هذه الإمكانيات الإعلامية، سواء أكانت هذه الإمكانات أجهزة بث إذاعي، أم كانت أجهزة تلفزة، فضلاً عن المجلات وغيرها، أدركت أنه لا يحتاج الأمريكي -مثلاً- إلى أن يذهب إلى الكنيسة في يوم من الأيام، بل أصبح الدين يأتي إليه وهو في بيته متكئ على أريكته، أو نائم على سريره، أو جالس مع زوجته أو مع أطفاله، ومع ذلك يشاهد هذه البرامج الدينية.
ولعلكم تعرفون -مثلاً- نماذج من هذه الأشياء، وهناك كتيب صغير عن هذا الموضوع ذاته، يتكلم عن بعض القُسس الذين يقومون بدور في الدعوة النصرانية، من ضمنهم جيمس بيكر وهو قسيس مشهور، وكذلك القس جيمي سواجارت، الذي حصلت له المناظرة مع أحمد ديدات وصارت له الفضيحة.(238/14)
شدة تأثير الدين النصراني في شعوبه
ومن شدة تأثير الدين فيهم، أن هذا الشعب الذي يقول عن نفسه إنه شعب متحضر، وشعب متنور، وشعب متعقل، وقل ما شئت، ويرون أن العالم كله لعبة في أيديهم.
مع ذلك فهذا أحد القُسس ظهر في يوم من الأيام على الشاشة وقال لهم: إنني أطلب منكم أن تدعموا الكنيسة بمبلغ كذا من المال -وذكر مبلغاً خيالياً جداً- وقال: إن الله أمرني أن أطلب منكم هذا المبلغ، فتبرع له الناس بمبالغ طائلة، بقي تقريباً من المبلغ ثلاثمائة مليون دولاراً تقريباً، أو ثلاثون مليوناً لا أدري بالضبط، المهم جاء قبل الموعد الذي حدده بيوم؛ لأنه قال: إذا ما جمع المبلغ قبل موعد كذا فإنني سأموت وسوف يهلكني الله عز وجل؛ لأنه طلب مني ذلك.
جاء قبل الموعد بليلة وقال للناس: فعلاً غداً موعد الموت، وقد بقي ثلاثون مليون دولار لم تصل إليَّ بعد، وفعلاً ما مضى على هذا الكلام إلا دقائق حتى جاءه هذا المبلغ بالكامل.
أي عقلية هذه؟! هذه تدل على أنها عقلية متخلفة وعقلية ضعيفة وعقلية واهية، لكن يبقى تأثير دينهم؛ لأنهم لم يجدوا الدين الحق، ولم يجدوا الإسلام الذي يدلهم على الطريق الصحيح، فأصبحوا يشبعون هذه الغريزة وهذه الفطرة الموجودة للتدين في نفوسهم، يشبعونها باتباع أشياء من هذه الأمور التي تضحك منها العجائز، في أكثر بلاد العالم تخلفاً وتأخراً وانحطاطاً، ومع ذلك هي أكاذيب تروج على كبار الدكاترة، وكبار الشخصيات، في بلاد تعد أنها مهد الحضارة والتقدم.
فلا نستغرب أن عدداً ممن رشحوا أنفسهم لرئاسة الولايات المتحدة، كانوا على صلة وثيقة بالتدين وبالقسس، بل هناك أكثر من قسيس رشح نفسه لمنصب الرئاسة، وهذا على أي حال هو من أهم الأسرار التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل؛ لأنهم يدركون أن الارتباط ارتباط ديني، ويقولون: إن العرب لا يستحقون البقاء، ولا يستحقون أي تعاون؛ لأنهم يحاربون اليهود.(238/15)
نظرتهم إلى الأمة العربية
هذه الأمة العربية في نظرهم أمة محتقرة، أمة ذليلة، وفي الواقع هناك بعض النصوص التي يتعجب منها الإنسان، كيف تبلغ بهم الجرأة، وتبلغ بهم الوقاحة إلى استخدام مثل هذا الكلام الذي لا يليق، في الوقت الذي يعتبرون أنفسهم محتاجين إلى العرب وإلى المسلمين.
فهذا واحد منهم اسمه روبرت سون يقول أحد الباحثين: لا يوجد في عقله سوى الأيام الأخيرة من هذا الزمان، وغزو السوفيت والعرب لإسرائيل، واللامسيحية، وتزايد الزلازل والبراكين، والمجيء الثاني للمسيح.
وتتمحور الإجابة عن هذه القضايا عنده في أن إعادة مولد إسرائيل هي الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية الكون قد بدأ، مع أنه مع مولد إسرائيل، فإن بقية النبوءات في زعمهم أخذت تتحقق بسرعة، ويبدو برنامجه باستمرار معادياً للعرب، وهو يعتبر العرب أعداء الله، ويعتبر أنه لا مجال للعدل مع الفلسطينيين، طالما أن رغبة الله -هكذا يعبر هذا الدنيء- في تأسيس إسرائيل، وفي تعيين حدودها.
وكذلك في فيلم اسمه "تفاحات الله" يقول هذا الفيلم -وهو فيلم وثائقي عن تاريخ الصهيونية- يقول: نحن نعرف المسيحيين من صميم قلوبنا، إن الله يقف بجانب إسرائيل وليس بجانب العرب الإرهابيين، وفي سنة (1982م) قدم في برنامج عنوانه: "إسرائيل مفتاح أمريكا للبقاء" استضاف القس مايك إيفانز أحد القسس المعروفين هناك.
فالمهم أن دعمهم لليهود وتخليهم عن العرب، مبني على قضايا دينية، ونبوءات توراتية، ويقولون في بعض إعلاناتهم: نحن ملتزمون بأمن إسرائيل، كما نؤمن بأن كل الأرض المقدسة هي ميراث للشعب اليهودي، غير قابل للنقل أو التصرف، وهو الوعد الذي أعطي لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولم يلغ قط، كما إن إنشاء إسرائيل الحديثة، هو إيفاء لا ينازع للنبوءة التوراتية، ونذير بمقدم المسيح، ونعتقد أن اليهود في أي مكان ما زالوا هم شعب الله المختار، وأن الله يبارك من يباركهم، ويلعن من يلعنهم.
وفي هذا الفيلم أو البرنامج "إسرائيل مفتاح أمريكا للبقاء" يناشد إيفانز هذا القسيس الشعب الأمريكي التقدم لتأييد أفضل صديق للولايات المتحدة، وذلك بتوقيع إعلان البركة لإسرائيل؛ لأن الرب أمره بوضوح بإنتاج هذا البرنامج الخاص بإسرائيل، وينشر إعلانات عن برنامجه باللغة العبرية أحياناً، ويصف نفسه بأنه رئيس جماعة عشاق إسرائيل وعشاق اليهود.
والكلام في هذا الموضوع طويل، وإنما أردت أن أشير إلى أن قضية الدين لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال، وما زال النصارى مثلهم مثل اليهود، يتوقعون اليوم الذي يهدم فيه المسجد الأقصى، ويبنى هيكل سليمان مكانه، ويتحدث المرشدون السياحيون الإسرائيليون عن الخطط الجاهزة لذلك، بما فيها مواد البناء، وإعداد لوازم الهيكل، والثياب الحريرية التي سوف يرتديها كهنة الهيكل بعد إنجازه.
ويزعمون أن هذا تم بناءً على إرادة الله، وأنهم يفضلون أن يكون المكان خالياً لبناء الهيكل، ومن الممكن أن ينهار المسجد والصخرة بإرادة الله، أو نتيجة زلزال، أو أي شئ آخر، والشيء الآخر هو أن يقوم رجل -كما زعموا- مجنون أسترالي ويحرق المسجد الأقصى، ويأتي مجنون آخر فيكمل العملية، وتقيد القضية على مجهول أو على مجنون.
فعلى كل حال، الدين يهيمن على حياة الناس في الشرق والغرب، ومن يتصور أن يحارب الدين، فهو ينطح بقرنه جبلاً لا يمكن أن يواجهه بحال من الأحوال، ومن يتصور أن الشعوب الغربية، أو الشرقية أو اليهود أو غيرهم، قد تخلوا عن دينهم وأصبحوا علمانيين، تحكمهم المصالح المادية فقط، فإنه -أيضاً- يتجاهل حقيقة مادية علمية، فإن هذا الكتاب الذي أتحدث عنه وغيره كثير مثل كتاب "الغرب في مواجهة إسرائيل" لـ مازن المطبقاني -مثلاً- وكذلك "الإسلام والكونجرس".
فهذه الكتب كتب وثائقية، وخاصة هذا الكتاب فهو رسالة دكتوراة تعتمد على وثائق في غاية الدقة، وتثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن الدين أكبر مؤثر في مواقف الغرب وفي دعمهم لليهود، وفي تخليهم عن العرب، وفي أشياء كثيرة، بل إنه ذكر أن هذه الجماعات عارضت أكثر من مرة صفقات أسلحة كان من المقترح أن تقدم لهذه البلاد، وأيدت بقوة أي صفقة أسلحة تدعم بها إسرائيل.(238/16)
تحول النصارى إلى علمانيين
الآن يتصور الكثيرون أن النصارى تحولوا إلى عِلمانيين، وأن الدول النصرانية تحولت إلى دول علمانية، والواقع أنه فعلاً من حيث ما يسمونه بالدستور، تحول إلى دستور علماني، بمعنى أنه -مثلاً لا يتدخل في أي دين، ولا يسمح للدين إلا في نطاق محدود.
لكن هذا في أمور معينة، أضرب مثالاً: إحدى المدارس النصرانية في أمريكا، طلبت من الحكومة أن تساعدها بأتوبيس، حتى تنقل الطلاب فيه، فبعد دراسة هذا الموضوع ودراسته، قرروا أنه لا يمكن صرف أتوبيس لهذه المدرسة قالوا: لأن الدستور دستور علماني، ونحن إذا دعمنا هذه المدرسة بأتوبيس، فربما يكون هناك ولي أمر لا يرغب أصلاً في نقل ولده للمدرسة، لكن إذا يسرنا سبيل النقل، قد يتحمس لمثل هذا العمل، إذاً نحن لا نتدخل.
ومن هذا المنطلق -أيضاً- نقل خبر في بعض الولايات، أنه في إحدى المدارس الحكومية -لاحظ الحكومية- أن الأطفال يرددون في الصباح نشيداً في روح دينية، أيها الرب القدير، باركنا ووالدينا وأساتذتنا وبلدنا؛ فهكذا ينشدون وهم نصارى، فعدّوا هذه مخالفة ومنعوا مثل هذا العمل، أي أنهم يمنعون ترديد أي نشيد ديني في المدارس.
ومثل ذلك مسألة تعليق الصور، والمسلمون نظرتهم للصور معروفة أصلاً، فلا يجوز تعليق الصور، وخاصة إذا كانت صور العظماء، فضلاً عن صور الأنبياء.
فإن الخلفيات التي تحكم سياسات هذه الدول، هي خلفيات دينية يقول أحدهم: رغم الاعتراف بمبدأ فصل الدين عن الكنيسة، أو فصل الكنيسة عن الدولة؛ فإن هذا لم يؤد إلى فصل الدين عن السياسة، بل إن تأثير الدين في الحياة الأمريكية ليمتزج بالتعليم، والطب، والأعمال، والفنون، والسياسة، وغيرها.
وإن جميع الجهود التي تبذل لعزل ناحية من نواحي الحياة عن الكنيسة ونفوذها قد ذهبت هباءً، فعن طريق الدين يمكن القيام بكل شيء.(238/17)
تحالف النصارى مع دولة إسرائيل
لعل من النماذج التي يمكن أن نتحدث عنها -مثلاً في قضية الدين، وأنا أعتمد في معلوماتي عن هذا الموضوع على عدة كتب، أهمها على الإطلاق كتاب مهم هو كتاب "البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني" هذا الكتاب يتحدث بشكل خاص عن الخلفية الدينية التي تحكم الغرب، تجاه نظرته إلى إسرائيل، ونظرته إلى العرب.
على سبيل المثال، يقول: إن الرجل الإنجليزي كان يقول: حينما أموت ستجد فلسطين مكتوبةً في قلبي، لماذا؟! لأنهم يعتقدون أن فلسطين هذه بلد فعلاً له قداسة مقدسة، وأن وجود النصارى التاريخي، ووجود اليهود مرتبط بفلسطين، وقد يتساءل بعضهم عن سر التحالف الكبير بين اليهود والنصارى، مع أن الله عز وجل قال في كتابه: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] .
لكن في التاريخ شهدنا نوعاً من الصراع بينهم.
فما سر هذا التحالف الكبير الذي يشهده الواقع المعاصر بينهم، منذ قامت دولة إسرائيل؟ إن من أهم الأسرار هو أن كثيراً مما يسمونه باللوبي الصهيوني، أو جماعات الضغط اللوبي - اللوبي معناه: الستار أو الرواق.
وهى تطلق على جماعات الضغط النصرانية المسيحية المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة- مؤيدة لها في كل مواقفها بشكل غريب.
حتى إنهم أيدوا دخولها إلى لبنان، وأيدوا مجازر صبرا وشاتيلا، وأيدوا ضرب المفاعلات النووية، وأيدوا كل عمل تقوم به إسرائيل من منطلق أن عندهم نبوءة، يزعمون أنها نبوءة توراتية سماوية بزعمهم، أن الله تعالى يبارك من يبارك اليهود ويلعن من يلعنهم.
فهذه العقلية هي التي تحكمهم، ولذلك يقولون: إن من نعمة الله تعالى عليهم أن وفقهم إلى دعم اليهود، والوقوف إلى جانب إسرائيل، حتى يباركهم الله تعالى، ويقول بعضهم: إن ما نعيشه من رغد ورفاهية وتمكين إنما هو بسبب وقوفنا بجانب من يسمونهم بشعب الله المختار.
لماذا؟! لأن عند النصارى عقيدة تقول: لن ينزل المسيح -طبعاً نزول المسيح يؤمنون به، كما نؤمن به نحن، لكن يؤمنون به بطريقة أخرى- حتى تقوم ما يسمونها بمملكة الله في زعمهم، وهذه المملكة في زعمهم ستقوم في فلسطين وما حولها، ثم في إسرائيل الكبرى، وستمتد ألف عام، وإذا قامت كان هذا هو البشير والإرهاص، بنزول المسيح، وإذا نزل المسيح زعم النصارى أنه سوف يقودهم، وأن اليهود سوف يتنصرون، ولهذا يقولون: لا تستعجلوا على اليهود الآن، ولا تعملوا على تنصيرهم، دعوهم وما هم فيه.
لماذا؟! لأنه إذا نزل المسيح فسوف يتبعونه ويتنصرون.
وهذا القدر بالذات، ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن المسيح الدجال يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة، فاليهود يتبعون المسيح لكن المسيح الدجال، وليس عيسى بن مريم الذي بشر النبي صلى الله عليه وسلم بنزوله، وجاء ما يدل على نزوله في القرآن الكريم.
وفي الواقع هناك أشياء كثيرة جداً في هذا المجال، وطرائف وأمور في غاية العجب في هذا الكتاب بالذات، منها أن هناك دعوى نصرانية عند من يسمونهم بالأصوليين النصارى، أو الأصوليين الصهيونيين وهم نصارى بطبيعة الحال، وجماعات كثيرة جداً في أمريكا، عندهم دعوى يقولون: إن الهنود الحمر الذين كانوا موجودين في أمريكا أنهم كانوا من القبائل الإسرائيلية، وهذا فيه إشعار إلى أن أمريكا دولة في الأصل يهودية، وأن الذين هاجروا من أوروبا، ومن بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وغيرها إلى الولايات المتحدة طردوا هؤلاء وقتلوهم، يعني: أنهم فعلوا هذا الفعل باليهود.
فالنصارى هناك بلا شك يتعاطفون مع إسرائيل، بل إن هناك كثيراً منهم قد تهودوا وأعلنوا خروجهم من الديانة النصرانية ودخولهم في اليهودية، ويزعمون أن شعبهم الشعب الغربي هو الشعب المختار لتحضير العالم، الذي جعل الله تعالى مهمة نشر الحضارة العالمية على يديه، ولهذا يتكلمون الآن بما يسمونه بالنظام العالمي، والسلام العالمي.(238/18)
الدين عند الأمة الإسلامية
وعلى كل حال فالدين باق وموجود، وإذا تحدثنا عن المسلمين فإن هذا الجمع الهائل الحاشد الذي نشهده الآن، والجموع التي تعمر المساجد في أيام الجمع؛ وتشهد المحاضرات والدروس، والإقبال الكبير على الكتاب الإسلامي، وعلى الشريط الإسلامي، والالتفاف حول العلماء وطلبة العلم، والمظاهر الدينية التي عمرت كل مكان، حتى إنك تسافر من بلد إلى آخر، فتشاهد في كل مجموعة أمتار في أوقات الصلوات مجموعات قد نزلت لتصلي، وتذكر الله عز وجل حتى وهي في الطريق، حتى وهي مأذون لها أن تجمع صلاة مع أخرى.
فهذا كله يدل على أن هذه الأمة خاصة أمة الإسلام، أمة كتب الله تعالى لدينها البقاء، وكتب لها الخلود إلى أن يشاء الله عز وجل فهي أمة باقية، أمة راسخة الجذور، باسقة الفروع، أمة لها النصر، ولها العز، ولها التمكين، ولها من الله عز وجل الخير، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} .
إذاً ينبغي أن ندرك أنه حين نتحدث عن اليهود، وعن النصارى، وعن الشيوعيين، فهذا الكلام يمكن أن ينجر على أي ديانة أخرى، لكننا نقول: إن دين الإسلام الذي جعله الله هداية للبشرية كلها، هو دينٌ قائم باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو النور الذي كتب الله تعالى أن يبقى، ليكون منارة يهتدي بهامن أراد الهداية، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] .
والأمة التي أنزل فيها هذا القرآن، وبعث فيها هذا النبي المختار عليه الصلاة والسلام، هي أكثر الأمم مسئولية في حمل وتبليغ رسالة الإسلام، لهذا قال معاوية رضي الله عنه كما في سنن أبي داود: [[والله يا معشر العرب إن لم تقوموا بهذا الدين لَغَيرُكم أجدر وأحرى ألا يقوم به]] .
فيجب أن ندرك مسئوليتنا في حمل رسالة الإسلام، وفي التعب والعناء والجهد من أجل الإسلام، فالكثيرون يحبون أن يعملوا شيئاً للإسلام، لكن ليس لديهم استعداد أن يضحوا.
والذي ليس لديه استعداد أن يضحي بوقت، أو يضحي بجهد، أو يضحي بأي أمر في سبيل هذا الدين؛ فإنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً، نحن رأينا كيف ضحت الأمم الأخرى حتى وصلت إلى ما أرادت، هل تعتقد أن هذه الأمم الممكنة اليوم مكنت بغير عناء؟! هل تعتقد أنها حصلت على نصر بارد وغنيمة بلا جهد؟! كلا، بل إن الله عز وجل كتب في سننه الكونية أن من يتعب، ويجهد، يجد نتيجة جهده، ولا يضيع سعيه، حتى الكافر إذا قام بعمل دنيوي وعمل الأسباب قد يحصل على النتائج.
أما المسلم إذا قصر في اتخاذ الأسباب يفلس ولا يحصل على النتائج، فلا بد أن ندرك أننا محتاجون إلى أن نضحي في سبيل هذا الدين، وأن نصدق مع الله عز وجل ويكون الإسلام همنا، نستيقظ عليه، وننام على اهتمامات وشئون وشجون المسلمين، ونجهد من أجله، ونفرح ونحزن في سبيله، وإذا وجد الجيل الذي هذا حاله، فلنثق ثقة تامة بأن عندنا وعد ممن يملك الوفاء، وممن لا يخلف الميعاد، أن الله تعالى ناصر دينه ومعلٍ كلمتَه ومذلٌ أعداءه، وأن كل أعداء الدين سوف يدخلون في جحورهم، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:87-88] وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] وقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] وقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] .
فلنثق بوعد الله، ولنتق الله تعالى في أنفسنا، ولنؤمن بالله تعالى، ولنجاهد في سبيل الله عز وجل ولنصبر، ولنصابر، ولنرابط، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] والحمد لله رب العالمين.(238/19)
الأسئلة(238/20)
انهيار النظريات الفلسفية
السؤال
انهارت كثير من النظريات الفلسفية التي تبعد الدين عن الحياة والإنسان، فهل الدين سبب في انهيارها كما هو سبب في انهيار الشيوعية؟
الجواب
نعم، كل شيء يعارض الدين يتحطم على صخرة الدين، كن مطمئناً ولا يراودك شك، فكل دين خاصة دين الإسلام؛ لأنه دين يتمتع بالحق المطلق، وكل شيء ضد الدين فهو إلى زوال، هذه قاعدة ينبغي ألا يشك فيها أي إنسان.(238/21)
هدم المسجد الأقصى
السؤال
هل هناك نص شرعي يدل على أن الأقصى لا يمكن أن يهدم؟
الجواب
لا أعلم نصاً على ذلك.(238/22)
طريقة التعامل مع شخص يقع في معاصٍ
السؤال
هذا يقترح على الإخوة في بلدته عنيزة أن يقيموا هذا المخيم كل سنة.
وهذا -إن شاء الله- اقتراح مسموع.
وثانياً يقول: ماذا أصنع مع أصدقائي الذين هم معي في المخيم، وقد يكون منهم من يسمع الغناء، أو ما أشبه ذلك أو يدخن؟
الجواب
عليك أن تصاحبهم معروفاً، وتنصح لهم في ذات الله عز وجل وتقول لهم الكلمة الطيبة، وتهديهم الكتاب والشريط، وتذكر لهم حكم الله ورسوله فيما يرتكبون من المعاصي، وتصبر عليهم.
لأن كثيراً من الشباب كما لاحظت، إذا نصح شخصاً مرة أو مرتين ظن أنه قد قام بالمسئولية وجاء يشتكي، ويقول: قلت فما نفع.
يا أخي النبي عليه الصلاة والسلام المبعوث والمؤيد بالوحي من السماء، كان يجلس عند قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً! والنبي عليه الصلاة والسلام طالما قال للناس: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
لو كانت كلمة واحدة أو مخاطبة مرة تكفي في هداية الإنسان ما احتجنا إلى جهد كبير.
فنحتاج منك يا أخي الحبيب مع الدعوة إلى الصبر، ادع مرة واثنتين وثلاث وعشرة ومائة، واصبر فربما توافق إحدى الكلمات قلبه، وهو مستعد للتقبل فيكتب الله تعالى هدايته ويكون هذا على يديك فيكون لك بذلك أجر.(238/23)
نصيحة للشباب في هذا الزمن
السؤال
ماذا تنصح الشباب في هذا الزمن العصيب؟
الجواب
أنصحهم بالصبر، والتريث، وعدم العجلة، وأنصحهم بالثقة بالله عز وجل، ووعده، وقضائه، وقدره، والاطمئنان إلى أن ما يكتبه الله تعالى لهذه الأمة هو خير، وإن جهلنا أسبابه وجهلنا وجه خيريته، لكن نثق بالله ونؤمن به، وأنا على ثقة تامة بأن كل ما يدور ويجري هو في صالح الإسلام والمسلمين.
وقد تحدثت عن ذلك بشيء من التفصيل في محاضرة بعنوان "خواطر في النصر والهزيمة" بما يغني عن الإعادة هنا، وكذلك السؤال بماذا تنصحني؟ يمكن أن يرجع الأخ إلى موضوع "دورنا في الأحداث".(238/24)
من الغلو في المدح
السؤال يقول: أروح وقد ختمت على فؤادي وقلبي أن يحل به سواكا ولو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا أحبك بكلي لا ببعضي وإن لم يبق حبك لي حراكا
الجواب
أستغفر الله!! في الحقيقة هذه الأبيات أحسب أن الأخ الكاتب ينتقدها، ويريد مني أن أبين وجه الخطأ فيها، ولا أرى أن الأخ يطلق مثل هذا الكلام على بشر، ولا يجوز هذا، وهذا لا شك أنه محرم فمثلاً: أروح وقد ختمت على فؤادي وقلبي أن يحل به سواكا أين الله؟! أين محبة الله في قلبك يا أخي؟! عفا الله عني وعنك.
ولو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا يا أخي: استغفر الله وتب إليه، فلا يجوز هذا، بالنسبة لله عز وجل لا ينظر إليه في الدنيا.(238/25)
التقدم في الدول الكافرة
السؤال
ما تفسيركم للتقدم الذي لا يخفى في الدول العربية والأوربية والأمريكية واليابان وغيرها، ونحن إذا تكلمنا لم نذكر سوى عيوبهم فقط؟
الجواب
هذه مشكلة فعلاً فكثير من الناس ينظرون إلى جانب واحد، فأحياناً تسمع ممن تربوا على موائد الغرب، لا يذكر إلا الإيجابيات، فيقول: هؤلاء القوم عندهم دقة في المواعيد، وعندهم انضباط وعندهم حرية، ويذكر بعض محاسنهم وينسى عيوبهم.
وهناك آخرون يذكرون هذه العيوب، وينسون أنه فعلاً هذه الأمم تقدمت في مجال التقنية، والتصنيع، والتكنولوجيا تقدماً هائلاً، وفي مجال علوم كثيرة، في مجال الطب، في مجال الاجتماع، وفي مجال العلوم، والدراسات تقدمت أيضاً، وهذا التقدم هو الحكمة التي أنَّى وجدها المسلم فهو أحق بها، وحين يسلك المسلمون الطريق الصحيح ويستخدمون الأسباب، سيصلون إلى نتائج أفضل من تلك النتائج التي توصل إليها أولئك.(238/26)
أمور تهم المرأة المسلمة
تحدث الشيخ قبل الإجابة عن الأسئلة عن أهمية مخاطبة المرأة من قبل الدعاة في منابر الدعوة ومن قبل الآباء والأزواج والإخوة، وذكر سهولة التأثير على المرأة لعاطفتها، وتكلم عن صمودها في وجه أعداء الإسلام، وحذر من استهداف الأعداء المرأة، وذكر بعض الوسائل التي تحمي المرأة من كيدهم.(239/1)
أهمية مخاطبة المرأة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيها الإخوة، أيتها الأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه لحظة وساعة مباركة إن شاء الله تعالى، نلتقي فيها معاً لمدارسة بعض المسائل والأسئلة والقضايا المتعلقة بالمرأة، وهذه الأمسية هي إجابة لأسئلة طرحت في محاضرات سابقة.
وقبل أن أبدأ بعرض هذه الأسئلة والإجابة على ما تيسر منها، أحب أن أشير إلى أمر مهم، فأقول: إن من الواجب اليوم على العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله تعالى أن يخاطبوا المرأة، يخاطبوها في المناسبات العامة، كهذه المناسبة، ويخاطبوها من خلال البيت كآباء، أو إخوة، أو أزواج أو غير ذلك؛ لأن المرأة نصف المجتمع -كما يقال- بل هي من حيث العدد، قد تكون أكثر من نصف المجتمع.
والمرأة قريبة العاطفة، ولديها الاستعداد للتأثر والانفعال بما تسمع، وبالمقابل فإن المرأة تتعرض اليوم لحملة شعواء من أعداء الإسلام في العالم الإسلامي، خاصة في هذا البلد بالذات، لأنهم يعتبرون أن هذه البلاد بلاد الحرمين هي آخر قلعة من قلاع الإسلام، وهي البلد الوحيد الذي مازال أهله يفتخرون بالحجاب الشرعي، وما زالت كثير من نسائه تفخر بتغطية وجهها، واستتارها عن الأجانب، وترفض الاختلاط بهم في المنتديات أو مقاعد الدراسة أو غيرها.
وهذا أمر يغيظ أعداء الإسلام كل الغيظ، يشعرون أنهم مازالوا عاجزين عن تغيير وضع المرأة؛ لذلك تجد أنهم يتكلمون -أحياناً- بكلمات تُنِمُّ عن شيء من اليأس، والشعور بأنهم يبذلون جهوداً كبيرة وتكون نتائجها قليلة، ولا أعني أنهم يائسون، بل العكس هم يزدادون جهداً يوماً بعد يوم، لكن إظهارهم أنهم يائسون كأنه وسيلة للتأثير على المرأة، وتحريك همم دعاة التخريب الذين يسمون دعاة تحرير المرأة لمزيد من الجهود.(239/2)
استهداف المرأة من قبل الأعداء
فالمرأة مستهدفة في عقيدتها، وفي دينها وأخلاقها، وفي عرضها وكرامتها، وهؤلاء الدعاة الذين لهم فحيح كفحيح الأفاعي، وهم يطرحون أنفسهم من خلال وسائل كثيرة، كل ما يريدون أن تكون المرأة سلعة معروضة في قارعة الطريق، وأقسم بالله الذي لا إله إلا هو أن هذا هو ما يسعون إليه ويركضون خلفه، أن تكون المرأة سلعة يستمتعون بها في العمل، وفي السوق، وفي المتجر، ويستمتعون بها في كل مكان.
إن الإنسان المؤمن، المتدين، الذي يخاف الله عز وجل ويرجو ثوابه، ويعرف حرمة النظر إلى المرأة الأجنبية وما لذلك من الآثار، إذا رأى المرأة تثور في نفسه العواطف، فلا يلجمها إلا بلجام التقوى والخوف من الله، فما بالك بسفيه من سفهاء القوم، وهم لا يخافون الله عز وجل، ولا تربوا في بيئة إسلامية، إنما غالبهم تربوا في أمريكا وأوروبا وغيرها، وعاشوا هناك في أجواء منحلة، واعتبروا أن تلك المجتمعات الكافرة هي المثل الأعلى الذي يتمنون أن تصبح البلاد الإسلامية يوماً من الأيام مثلهم.
يقول بعض خبثائهم: (إن المرأة لو سفرت وكشفت لأصبح هذا أمراً طبيعياً في بلادنا، كما هو أمر طبيعي في تلك البلاد) وهذا يكشف لكم -فعلاً- أن القوم يضمرون شراً، وإلا فلنسأل هؤلاء القوم، وهم أدرى بالبلاد التي عاشوا فيها والمجتمعات التي تربوا فيها، أعني بلاد أوروبا وأمريكا، لنسألهم إلى أي حد توجد العفة في تلك البلاد، كم يوجد من النساء العفيفات؟ لا يوجد إلا الندرة اليسيرة، واقرءوا إحصائيات القوم أنفسهم تجدوا أنها إحصائيات هائلة ورهيبة، تدل على أن تلك المجتمعات يندر أن يوجد فيها امرأة طاهرة، وإذا وجدت امرأة طاهرة اعتبروا أن هذه امرأة مريضة ومعقدة، وعرضوها على الطبيب! فكيف يقال: إنه أصبح أمراً طبيعياً؟ صحيح أن الإنسان الذي يجد جميع النساء سافرات أمامه يختار أجملهن، ولا يلتفت لمن هي أقل من ذلك، وهذا ما يقصدونه، لكن الرجل فطر على الميل إلى المرأة، والمرأة كذلك مهما كان الأمر.
فلننتبه -أيها الإخوة وأيتها الأخوات- جيداً لهذه المؤامرة التي تحبك خيوطها الآن، وتطرح في الساحة بشكل جاد، في محاولة لإخراج المرأة المسلمة من بيتها، لتكون ألعوبة يتلهى بها الرجل في كل مكان، وهذا من الأخطار العظيمة التي أشعر أن المجتمع يقاد إليها بقوى خفية مندسة في داخل المجتمع، فهم كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة في صحيح البخاري قال: {قوم من جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا، وهم دعاه على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها} ويا ليتهم يكونون صرحاء، ويكشفون عن حقيقة ما يريدون {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] .
أما أن يلفّوا المسألة بحجة أن هذه الأشياء تتم وفق تعاليم ديننا الحنيف، ووفق الشريعة الإسلامية، وبإشراف إسلامي وغير ذلك من العبارات التي يلطفون بها الجو، وإذا أرادوا أن يهجموا على تعاليم الإسلام في شأن المرأة هجموا على المجتمع، ولا يستطيعون أن يقولوا: إن الإسلام ظلم المرأة، هذا صعب عليهم؛ لأنهم يكشفون أنفسهم بهذه الطريقة، ولذلك يلجؤون فيقولون: المجتمع ظلم المرأة، المرأة مهضومة الحقوق في مجتمعنا، المرأة مضطهدة في مجتمعنا، المرأة يجب أن تعطى حقها، إلى آخره وهذه في كثير من الأحيان: كلمة باطل، وفي قليل من الأحيان: كلمة حق أريد بها باطل.(239/3)
واجب المسلم تجاه المرأة وأعدائها
فهذا العمل أو هذه الخطة التي تحبك اليوم وتعرض في بلاد الإسلام، يجب أن نكون جميعاً جنوداً لمقاومتها بكل وسيلة: أولاً: بمخاطبة المرأة المسلمة، من خلال المحاضرات، والخطب، والكتب، والرسائل وغيرها.
ثانياً: بجهودنا من خلال بيوتنا وغيرها، فالواجب على كل فرد منا أن يكون شرطياً عند باب بيته، يفتش جميع السلع والبضائع التي تدخل إلى البيت، وأعني بها يفتش جميع الأفكار التي تدخل للبيت، ينظر ما هي تصورات أخواته أو بناته أو زوجته داخل البيت عن القضايا الإسلامية، ما هي الكتب التي تقرؤها؟ ما هي الأشرطة التي تسمعها؟ ما هي المجلات التي تقتنيها؟ ما هي الأزياء والملابس التي تلبسها؟ والواقع -يا إخوة- أن سنة الله عز وجل أن الإنسان لو بذر بذرة في الصحراء وتركها، فإن الرياح تغطيها، وحرارة الشمس تقضي عليها فلا تنبت، وإن نبتت فسرعان ما تذبل وتموت، فالإنسان عليه أن يبذر البذرة ثم يتعاهدها بالسقي والرعاية وحمايتها من العوامل المؤثرة فيها حتى تقوم على سوقها، كذلك أختك وابنتك وزوجتك في البيت هي بذرة! عليك أولاً أن ترعاها بالتعليم والتربية، ثم تحرص على حمايتها من وسائل الهدم والتخريب، وما أكثر وسائل الهدم والتخريب، وما أكثرها!(239/4)
الأسئلة
أيها الإخوة والأخوات: أما فيما يتعلق بالأسئلة المطروحة فهي كثيرة ومتنوعة، وقد اخترت منها بعضها، فأبدأ أولاً ببعض الأسئلة الفقهية، ثم أنتقل إلى بعض الأسئلة الاجتماعية الأخرى:(239/5)
حكم صلاة المريض حال وضع المغذية
السؤالٍ: يسأل بعض المرضى الذين يوضع لهم المغذي: عن حكم صلاتهم وهو موجود فيهم، فهل هي صحيحة أم عليهم إعادتها؟
الجواب
الذي أعلم أن الصلاة في مثل هذه الحالة صحيحة؛ لأن المغذي يوضع في المريض لحاجة لا بد منها، فيصح له أن يتوضأ ويصلي في مثل هذه الحالة.(239/6)
حكم دخول الحائض إلى المسجد
السؤال
هل يجوز للمرأة الحائض أن تدخل المسجد للاستماع إلى المحاضرات أو الندوات الدينية؟
الجواب
لا يجوز لها أن تدخل المسجد للاستماع إلى المحاضرات والندوات الدينية، وذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث أم عطية رضي الله عنها، قالت: {أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى} .(239/7)
كيفية غسل شعر الرأس للمريضة حال الجنابة
السؤال
كيف تغسل المرأة شعر رأسها إذا كان ذلك يضر جيوبها الأنفية ويسبب لها صداعاً ورشحاً؟
الجواب
فالسنة أن تفيض المرأة على شعر رأسها ثلاثاً في الجنابة، ولكن ما دام هذا يضرها، ويسبب لها كما ذكرتَ صداعاً ورشحاً، ويؤثر في الجيوب الأنفية؛ فلا بأس أن تغسل شعر رأسها بأي طريقة أخرى، دون أن يصل الماء إلى وجهها ولا إلى جيوبها الأنفية.
هذا وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل، وأن يسددنا في أقوالنا وأفعالنا، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن إلا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(239/8)
خروج الدم حال الصلاة
السؤال
عن دم الإنسان هل يعد نجساً فيقطع الصلاة؟
الجواب
المسألة فيها كلام -أيضاً- لأهل العلم، والأظهر أن الدم لا يقطع الصلاة، بدليل أن الصحابة كانوا يصلون في دمائهم، وعمر رضي الله عنه صلى وهو طعين، وفي قصة الصحابي الذي كان في سرية فجاء العدو فرماه بسهم وكان الصحابي يصلي فنزعه واستمر في صلاته، ثم رماه بسهم آخر، ثم رماه بسهم ثالث، ثم أسرع في الصلاة، فعلم العدو فهرب، فلذلك القول بأن خروج الدم مبطل للصلاة وناقض للوضوء، فيه نظر والله أعلم.(239/9)
حكم ترتيل المرأة للقرآن أمام المدرس
السؤال
ما حكم ترتيل القرآن عند رجل مدرس خصوصاً أنه يثني على قراءتها، إذا كان لا يجوز فلماذا يدرس البنات رجل في المدارس؟
الجواب
لاشك أن قراءة القرآن بصوت رخيم فيه تأثير من المرأة وإثارة للرجل، فهو يثني عليها وتعجبه؛ لأنه يعجبه جمال صوتها ورخامة صوتها، فإن هذا فيه ضرر، فينبغي للفتاة المسلمة إذا قرأت أن تقرأ -إذا اضطرت إلى ذلك- أن تقرأ بصوت فيه قوة، وبعد عن الليونة أو التراخي في هذا الصوت، والأصل ألا يدرس المرأة إلا امرأة، لكن تدريس الرجال المكفوفين في مدارس البنات خاصة يبدو أنهم يعتبرونه من باب الحاجة، ولعل الله عز وجل أن يفتح على المسؤولين في هذه الجهات -وهم أناس طيبون وخيرون، ونعتقد فيهم الصلاح -ولله الحمد- أن يقضوا على هذا الأمر، ويستبدلوا بهؤلاء المكفوفين نسوة يدرسن النساء، والحمد لله عدد النساء المتخرجات اليوم كثير.(239/10)
حكم تبخير النساء لمسجدهن
السؤال
بعض النساء تأتي بالبخور في رمضان للنساء تقصد بذلك الخير؟
الجواب
المرأة إذا خرجت إلى المسجد لا يجوز لها أن تتطيب بأي أنواع الطيب، والحديث الصحيح عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {أيما امرأة مست طيباً ثم خرجت فمرت على رجال ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا} وفي بعض الألفاظ قال: (فهي زانية) والحديث في السنن وإسناده صحيح، وقوله: (فهي زانية) ليس هو حكم أبي هريرة، بل هذا حكم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن تخرج المرأة وهي تفلة: يعني بثياب بعيدة عن الزينة، وبعيدة عن الطيب، فإذا أرادت المرأة المسلمة أن تخرج إلى المسجد؛ فلا تتطيب، ومن باب الأولى ألا تطيب في المسجد، لا ببخور ولا بدهن ولا غيره، وإن كانت في المسجد منفردة ومنعزلة، إلا أنها تخرج فتمر من عند الرجال أو يمرون من عندها، فيجدوا ريحها.(239/11)
حكم تحية المسجد وقت المحاضرة
السؤال
بعض النساء يدخلن المسجد ولا يؤدين تحية المسجد، يقلن: إن المحاضر يلقي محاضرته، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
المسلم -رجلاً كان أو امرأة- إذا دخل المسجد فلا يصلح له أن يجلس حتى يصلي ركعتين، وفي حديث أبي قتادة في البخاري: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} -وهذا نهي فلا يجلس حتى يصلي ركعتين- بل وحتى حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة الجمعة، جاء رجل فجلس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين، وتجوز فيهما} فدل على أن تحية المسجد مشروعة بكل حال، حتى والإمام يخطب، فما بالك والمتحدث يلقي محاضرته؟! هذا من باب أولى ألا تجلس المرأة حتى تصلي ركعتين.(239/12)
مس فرج الطفل هل ينقض الوضوء
السؤال
إذا وضأت المرأة ابنها من النجاسة ينتقض وضوؤها أم لا؟
الجواب
إذا وضأته دون أن تلمس ذكره، دون أن تلمس فرجه، فإن وضوؤها لا ينتقض، أما إن لمست شيئاً من أعضائه: من قبله أو دبره، لمست شيئاً من فرجه: القبل أو الدبر، فهاهنا يأتي الكلام عن مس الفرج، وهل ينتقض الوضوء؟ فذهب جمع أهل العلم إلى أنه ناقض للوضوء، واستدلوا بحديث بسرة بنت صفوان في السنن وغيرها، وهو حديث صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من مس ذكره فليتوضأ} وفي لفظ آخر {من مس فرجه فليتوضأ} فلذلك ذهب جمع من أهل العلم إلى أن مس الذكر والفرج ناقض للوضوء، وعلى هذا فإذا وضأت المرأة ابنها من النجاسة فمست ذكره -مثلاً- وجب عليها أن تتوضأ، وبعض أهل العلم يقولون: لا يجب الوضوء إلا بمس الذكر بشهوة، وبعضهم يقول: إن الوضوء من مس الذكر مستحب وليس بواجب، والذي تميل إليه النفس -الآن- الوضوء من مس الذكر مطلقاً، سواء أكان مسه بشهوة أم بغير شهوة.(239/13)
خروج المني عند المداعبة هل يوجب الغسل
السؤال
إذا حدث بين الزوجين مداعبة فأنزل أحدهما المني، فهل عليه غسل أم وضوء؟
الجواب
لا شك أن خروج المني في مثل هذه الحالة موجب للغسل ولو لم يجامعها، فخروج المني هو أحد موجبات الغسل، وهو: أن يخرج المني دفقاً بلذة لا بدونها، فاذا أنزل الإنسان المني وهو يقظ أو نائم فعليه الغسل.(239/14)
الحجاب في الحرم المكي
السؤال
من المعروف أن المرأة تصلي ولا تستر وجهها، فإذا كانت في الحرم المكي -مثلاً- هل يجوز خلع الحجاب؟
الجواب
هي في الحرم بحضرة رجال أجانب، والمسجد عام ليس فيه مكان مخصص للنساء، ولذلك فالمرأة إذا كانت في الحرم المكي فعليها أن تستر وجهها عن الرجال الأجانب، إلا لو فرض أنه ليس حولها رجال.(239/15)
حكم قص الشعر للمرأة ولبس الكم القصير
السؤال
تقول: إن هذا السؤال يتبادر في ذهن كثير من الفتيات في أيامنا، وقد أردت السؤال عنه لكي أنصحهن عن ذلك، وهو: هل يجوز قص الشعر من الأمام وإلى الأعين، أو أسفل منها، لصغيرة أو لكبيرة بالغة، وعن لبس الكم القصير لتلك الطفلة الصغيرة أو للبالغة؟
الجواب
أما بالنسبة لقص الشعر، فمن العلماء من منع قص الشعر مطلقاً، ومنهم من أباحه بشروط وضوابط، والذي يظهر لي -والله أعلم بالصواب- أن قص الشعر يجوز بشروط، أما أنه يجوز فلأن مسلماً روى في صحيحه {أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة} وادعاء أن هذا خاص بأمهات المؤمنين لا يقوم عليه دليل، فهو دليل على جواز قص المرأة شعر رأسها سواء كانت كبيرة أم صغيرة، لكن بشروط: الشرط الأول: ألا يكون هذا القص شديداً بحيث تشبه الرجل، بعض النساء -كما حدثت- تقص شعر رأسها حتى كأنه شعر رجل، ويا سبحان الله! كيف يا إخوة ويا أخوات مسخت الفطرة في هذا الزمان؟! والله مسخت الفطرة -فعلاً- والإنسان العاقل المتأمل يجد هذا رأي العين، مثلاً: الرجل أصبح يطيل شعر رأسه، الرجل أصبح يطيل شعر رأسه ويضع السواد، والمرأة بالعكس صارت تقص شعر رأسها، بل هو في بعض الأحيان أقرب إلى الحلق! ما أدري لماذا نحن -أحياناً- كأننا نتحدى شرع رب العالمين من حيث نشعر أو لا نشعر!! الرجل -مثلاً- تجد أنه يحرص على إطالة ثوبه حتى إن ثوبه يمس الأرض، وبعضهم تجد ثوبه يسحب خلفه، وهذا من كمال فتوته فيما يحسب ويزين له الشيطان، والمرأة المطلوب منها التستر تجد أنها ترفع ثوبها، وتحرص على رفعه، ومن الظواهر المزعجة والمحزنة -فعلاً- والتي طالت شكوى الغيورين منها؛ أن كثيراً من الفتيات في المدارس، أصبحن يرفعن ثيابهن فوق الكعب، بل ربما فوق الكعب بأربعة أصابع، وكذلك ترفع العباءة، ما أدري أنحن مسلمون؟! وكلما أحببنا شيئاً فعلناه! لا، نحن محكومون بدين الله عز وجل، وهذا معنى كوننا مسلمين، المسلم لا يتصرف إلا بمقتضى دين الله وشرعه، لا يتصرف كما يحلو له، أو كما توحي إليه الموضة الجديدة أو التقليعة الجديدة، لا، بل يتصرف كما يأمره الله ورسوله، فالمرأة المسلمة يجب عليها أن تطيل ثوبها وتستر جميع جسمها عن الرجال الأجانب.
نعود إلى موضوع قص الشعر فأقول: إن القص يشترط فيه: أولاً: ألا يكون قصاً منهكاً للشعر حتى تكون المرأة كأنها رجل.
ثانياً: ألا يكون هذا القص تشبهاً بالكافرات؛ لأننا نجد أن بعض القصات التي تشتهر عند النساء، تكون قَصَّة معينة في زمن معين، تقليداً لفلانة وفلانة من حثالة أهل الأرض، فهذه قصة يسمونها -مثلاً- قصة الأسد أو غيرها، ويعتبرون أنها تقليداً لممثلة رأوها في التلفزيون أو في غيره، فهذا محرم ولا يجوز.
فالتشبه بالكفار لا يجوز، وتشبه المرأة بالرجال لا يجوز، أما لو قصت المرأة شعر رأسها -مثلاً- أو شعر رأس طفلها لتبعد هذا الشعر عن عينه لئلا يؤذيه أو لئلا يؤذيها بكثرة تسريحه -مثلاً- أو لتجمل لكن بغير تشبه، ففيما أعتقد أن هذا جائز، والمسألة كما ذكرت فيها خلاف.
أما فيما يتعلق بلبس الكم القصير للطفلة غير البالغة، أي الطفلة الصغيرة؛ فالأولى أن تلبسها أمها ثياباً طويلة حتى تعتاد ذلك؛ ولكن لا أرى أن هذا واجب عليها، أما بالنسبة للكبيرة البالغة، فلا يجوز أن تظهر بثوب كمه قصير في مجتمع رجالي، وهذا أمر معروف، أما لو ظهرت به في مجتمع من النساء، فهذا -أيضاً- فيه نوع من الدعوة إلى تقليص الملابس شيئاً فشيئاً، وتقليد هذه الموضات والتقليعات، فالأجدر بالمسلمة أن تتقي هذا الثوب ولو كانت في وسط نساء، هذا أحسن.(239/16)
كتب تهم المرأة المسلمة
السؤال
ما الكتب التي ترشدون النساء بقراءتها؟
الجواب
ذكرت إجمالاً بعض الكتب، يوجد كتب تتعلق بالمرأة، منها كتاب أو عدد من الكتب للشيخ أبي بكر الجزائري حول حجاب المرأة وحول أحكام المرأة المسلمة، وحول رسالة للفتاة السعودية والمسؤولين عنها.
ومنها كتاب الحجاب للشيخ ابن عثيمين، ومنها كتاب الحجاب للشيخ عبد القادر السندي، ومنها كتاب رسالة في الدماء الطبيعية للنساء للشيخ ابن عثيمين أيضاً، ومنها كتاب خطر التبرج والاختلاط لـ عبد الباقي رمضون، ومنها كتاب رسالة صغيرة وجيدة ويحسن نشرها لـ نعمة صدقي عنوانها التبرج، وهي رسالة مفيدة، ومنها كتاب المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم لـ عمر الأشقر، ومنها كتاب إعداد المرأة المسلمة لـ نَمِر، ومنها كتاب "صفات المرأة الصالحة"، وكتب أخرى كثيرة.(239/17)
حكم خروج المرأة إلى المحاضرات بدون إذن زوجها
السؤال
ما حكم خروج المرأة بدون إذن زوجها إلى مثل هذه الأماكن: كالمحاضرات، مع العلم أن زوجها لو علم لرضى بذلك؟
الجواب
إذا كانت تعلم أنه يرضى بذلك، ويرضى بخروجها بدون إذنه لمثل هذه الأشياء، فهذا جائز، أما إن كانت تخشى ألا يرضى، فإنه لا يجوز لها أن تخرج إلا بإذنه، فالأصل ألا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها بدون إذن زوجها، فإذا علمت أن زوجها يأذن لها في الخروج لشيء معين، أي: كأنه أعطاها إذناً عاماً وتفويضاً في الخروج -مثلاً- إلى المسجد، أو الخروج إلى مجالس الذكر، أو الخروج للمدرسة، فهذا جائز.(239/18)
حكم لبس النقاب
السؤال
تقول: ما حكم لبس المرأة للنقاب، وهو ما ينقب للعينين فقط، دون الوجه؟
الجواب
العينان لا شك فيهما جمال، بل هما من أكثر مواطن الجمال في المرأة، فالمرأة تلبس الحجاب الساتر إلا إذا احتاجت إلى ظهور عينيها أو إحداهما، لقراءة أو لتبصر الطريق أو لما أشبه ذلك فلا بأس بذلك، لكن يجب الحذر من هذه الموضات التي تلعب ببنات المسلمين حيث يصبح النقاب يوماً من الأيام موضة، تلبسه النساء بطريقة أكثر إثارة وأكثر بعداً عن الحجاب، وربما لو لم يوجد أصلاً لكان أبعد عن الإثارة.(239/19)
حديث أسماء في أن الوجه ليس بعورة
السؤال
هل يصل حديث أسماء بنت أبي بكر إلى درجة الصحة عندما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثوب رقيق فقال: {إذا بلغت المرأة المحيض لا يظهر منها إلا هذا وهذا وأشار إلى الوجه والكفين} ؟
الجواب
هذا الحديث رواه أبو داود من طريق الوليد عن سعد بن بشير عن خالد بن دريك عن عائشة وفيه أربع علل، منها أن الوليد هذا مدلس يدلس تدليس التسوية، ومنها أن سعد بن بشير أو بشير هذا ضعفه جمع من أهل العلم من أئمة الجرح والتعديل، ومنها أن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، فالحديث مرسل وإسناده منقطع، وليس بصحيح، ولذلك فليس فيه دليل على جواز كشف الوجه، بل الصحيح ما سلف من أن الوجه يجب ستره عن الأجانب.(239/20)
تفقه المرأة في أمور دينها
السؤال
نرجو التوجيه حول تفقه المرأة وما يجب فيه؟ أما فيما يتعلق بفقه المرأة: فالمرأة يجب أن تتفقه في الدين، يجب أن تعرف عقيدتها الصحيحة لتتقي الشبهات، ويجب أن تعرف الأحكام الفقهية التي تتعلق بها، خاصة الأحكام المتعلقة بالمرأة، ومن الكتب المفيدة في ذلك كتاب فقه السنة لـ سيد سابق، وهناك كتاب لـ صديق حسن خان اسمه كتاب حُسن الأسوة فيما ورد عن الله ورسوله في النسوة وهو كتاب لا بأس به، وينبغي أن تتعلم المرأة الآيات القرآنية عامة، والآيات المتعلقة بالنساء خاصة، وتفسيرها، ويجب أن تتعلم الآداب العامة في الإسلام، كأن تقرأ كتاب رياض الصالحين مثلاً، أو كتاب المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح أو كتاب الترغيب والترهيب للمنذري أو غيرها، وتكثر من قراءتها، وتحرص على قراءة قصص المسلمات الأُوَل، لأن فيها عبرة وتثبيت للقلب، وتأخذ منها المرأة المسلمة الأسوة والقدوة في هذا العصر الذي قد لا تجد فيه القدوة.(239/21)
لمس المرأة للرجل هل ينقض وضوءها
السؤال
ذكرت أن لمس الرجل للمرأة ينقض الوضوء، فما هو الحكم بالنسبة للمرأة؟
الجواب
لا، ليس بصحيح.
ما ذكرته أن لمس الرجل للمرأة لا ينقض الوضوء، سواء أكان بشهوة أم بغير شهوة، إلا أن يخرج من الإنسان شيء كالمذي، فحينئذ ينتقض وضوؤه بما خرج منه، وليس بلمس المرأة، فلمس الرجل للمرأة لا ينقض الوضوء، وكذلك لمس المرأة للرجل لا ينقض الوضوء.(239/22)
حكم الملابس الضيقة للنساء أمام المحارم
السؤال
بعض البنات لا يتحرجن من إبداء نحورهن أو لبس ألبسة ضيقة أمام إخوانهن المراهقين، فما توجيهكم في ذلك؟
الجواب
الحقيقة -فعلاً- هذا سؤال مهم: العلماء رحمهم الله ذكروا أن الإنسان إذا كانت تثور شهوته بالنظر إلى الرجال -مثلاً- فلا يجوز أن ينظر إليهم، وإذا كانت تثور شهوته بالنظر إلى المحارم، فلا يجوز له أن ينظر إليهن، ولا تستغربوا هذا! فقد حدثني أو ذكر لي أحد الشباب وهو في مقتبل عمره -صغير السن- أنه يجد ضيقاً وثوراناً لشهوته إذا ذهب ليزور بعض محارمه، كخالاته وعماته مثلاً، واستثبته في هذا الأمر، فأكده وأثبته، وذلك لقلة الإيمان في هذا العصر -هذا من جهة- ومن جهة ثانية لأن أبواق اليهودية العالمية وحميرها في الدنيا كلها تنفخ في الغريزة وإثارة الشهوة، فالشهوة تجد مثيرات في كل مكان، مثيرات صوتية من خلال الأغاني، من خلال الأصوات، مثيرات من خلال الصحف، مثيرات من خلال المجلات، مثيرات من خلال أوضاع النساء إلى آخره والله المستعان!! وقدر المسلم والمسلمة أن يعيش في هذا العصر المملوء بالفتن؛ لكن ليس حقاً أن نفر ونهرب، بل يجب أن ننزل للواقع بثقل، ونحرص على تغيير هذا الواقع ما استطعنا.
المقصود فيما يتعلق بالسؤال، أن الشاب المراهق أو غيره إن كانت تثور شهوته بالنظر إلى محارمه، أو إلى غيرهن، فلا يجوز له النظر إليهن، وكذلك الفتاة المسلمة ينبغي لها أن تتقي لبس الملابس المثيرة أو الملابس الضيقة أمام إخوانها من المراهقين، خاصة إذا كانت تعرف أن هؤلاء ليس لديهم تربية إسلامية، بل هم من الشباب الذين تربوا في الشوارع مع (الشلة) ومع الأصدقاء، ومعظم حياتهم في لهو ولعب، فمثل هؤلاء يمكن أن يكون هذا مدعاةً لثوران شهوتهم، فالأولى بالمسلمة أن تتقي ذلك.(239/23)
حكم نظر المرأة إلى الرجل
السؤال
ما حكم نظر المرأة إلى الرجل؟
الجواب
فأما نظر المرأة إلى الرجل -فكما سبق في أكثر من موضع- أن هذا النظر إن كان بشهوة فهو محرم ولا يجوز، وكل نظر بشهوة فهو محرم -بلا استثناء-، حتى نظر الرجل إلى الرجل والمرأة إلى المرأة بشهوة فهو محرم، حيثما وجدت الشهوة فالنظر محرم.
وإن كان نظر المرأة إلى الرجل بغير شهوة، وليس التركيز عليه بالنظر إليه لشخصه وإنما النظر إلى وضع عام، فهذا جائز وفي الحديث الصحيح أن عائشة رضي الله عنها {كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد} وهو في صحيح البخاري ومسلم، فهذا دليل، فهي لم تكن تنظر إلى أشخاصهم ولا يهمها من يكونوا، ولكن هي تنظر إلى لعبهم في المسجد، فالمرأة حين تنظر إلى الرجل نظر تحديق، وتحدق النظر فيه بشهوة، فهذا محرم ولا يجوز، وأقول: إن من الأشياء التي يجب أن ينبه إليها الإخوة والأخوات على حد سواء، أن هناك قضية مهمة جداً، العين والأذن هي منافذ إلى القلب، فما تسمعه بأذنك أو تراه بعينك فإن بصماته على قلبك، ولذلك الشاعر يقول:- كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر (يسر مقلته ما ضر مهجته) أي يسر عينه النظر الذي يضر قلبه، وبعض الناس والعياذ بالله يسقطون في هذا المقلب الذي حبكه الشيطان، فتكون هذه هي القاضية، قد ينظر الرجل إلى امرأة نظرة عابرة فيتعلق قلبه بها -والعياذ بالله! فيخسر دنياه وآخرته، وكذلك العكس فقد تنظر المرأة إلى رجل فتتعلق به، فتخسر دنياها وآخرتها، حتى إن منهم من يقول: إنه قد سيطر معشوقه ومحبوبه على قلبه؛ حتى إنه وهو يصلي ويضع جبهته في الأرض لرب العالمين ويسأل الله عز وجل؛ ليس في قلبه إلا هذا المحبوب -والعياذ بالله! وهذا شرك بالله عز وجل، فرغ القلب من محبة الله، فرغ من الإيمان بيوم الدين، فرغ من الرجاء والخوف، فرغ من الرغبة في الجنة والحذر من النار، وتمحض القلب ولو لوقت معين؛ فأصبح ليس فيه إلا هذا المعشوق، نسأل الله السلامة!! ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام نبهنا {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} فإذا كان الشيطان عدو يقاتلنا على أكثر من ميدان، فيجب أن ندرك أن منطقة الصراع التي يشتد حولها القتال هي القلب، فإذا استطاع الشيطان أن ينفذ إلى قلبك أو إلى قلبكِ، فحينئذ تكون الحصون قد سقطت، ويصبح الإنسان وهو يدافع الشيطان مثل القوم الذين هجم عليهم العدو وانتشر في الشوارع، فهم يقاتلون العدو في شوارع المدينة وطرقاتها، والنصر حينئذ ليس مستحيلاً، لكنه صعب، وعلى كل حال فكل داء له دواء، والحجة على الخلق ذكورهم وإناثهم قائمة بالقرآن والسنة؛ بالرسل، بالآيات الكونية والآيات الشرعية، بالمصلحين الذين أقام الله بهم الحجة، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء:15] وعلى الإنسان أن يملأ قلبه بالمواد الصالحة من الاشتغال بالخير، وحمل همَّ الدعوة إلى الله، وطلب العلم، ومحبة الله، والتفكير في الآخرة؛ لأن القلب المملوء بهذه المواد الصالحة لا مجال للشيطان فيه.
أما القلب الفارغ، فإن الشيطان يبيض فيه ويفرخ، ويتداعى الشياطين إليه، فهم يتراكضون فيه كما تتراكض الكلاب والذئاب في الصحراء الخالية المظلمة.(239/24)
المرأة والدعوة إلى الله
السؤال
هل الدعوة إلى الله واجبة عليها، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث إنها ترى بعض النساء قد تساهلن في الحجاب، أو أظهرن ما يجب ستره، فهل يجب عليها أمرهن بذلك؟
الجواب
أولاً: الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام، بل جميع أحكام الشريعة الأصل فيها العموم، إلا ما دل الدليل على اختصاصه بالرجل، أو على اختصاصه بالمرأة، فالمرأة كالرجل مخاطبة بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] والمرأة كالرجل مخاطبة بقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] والمرأة كالرجل مخاطبة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} فالحكم عام، والدعوة واجبة على الجنسين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليهما أيضاً.
ودور المرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة واجب في مجالات عديدة، فهو واجب عليها أن تدعو أولاً في بنات جنسها، لأن داعية النساء في الأصل أن تكون من بينهن، لأن تأثير المرأة على المرأة أقوى، وقدرتها على إقناعها أشد، ومعرفتها بمشكلاتها أكثر، وإمكانية اتصالها بها أقوى، ولذلك فدور المرأة المسلمة الداعية في دعوة بنات جنسها دور عظيم، ويجب ألا تجلس المرأة تنتظر أن يقوم العلماء -مثلاً- بالدعوة والأمر والنهي، بل تساهم هي في بنات جنسها بقدر ما تستطيع.
واليوم نجد أن مجتمعنا، وكل مجتمع مسلم فيه أسماء كثيرة من النساء المنحرفات، اللاتي تعرفهن البنات، وربما تكون هذه المرأة المنحرفة -مثلاً- أعلى تحاول كل فتاة أن تقتدي بها، فلو سألت البنت: ماذا تتمنين أن تكوني؟ تتمنين أن تكوني مثل من؟ قالت: مثل فلانة، فذكرت لك -مثلاً- مطربة، أو ممثلة، أو صحفية، أو غيرها من النساء اللاتي عُرف عنهن الدعوة إلى الرذيلة والانحلال؛ لكن قلَّما نجد امرأة مسلمة متدينة، تقوم بدور الداعية المسلمة المصلحة بين النساء وتؤثر فيهن وترفع كلمة الله عز وجل، وتقيم الحجج الإلهية على النساء، وهذا أمر نفتقده ويجب أن يقوم من بين النساء من تنتدب لهذا الأمر، وتحتسب جهدها في سبيل الله عز وجل.
كذلك من دور المرأة في بيتها، سواء أكانت زوجة أم بنتاً أم أختاً، وبالتجربة تبين أن المرأة يمكن أن تؤثر حتى على أخيها أو أبيها، وهناك بيوت تغيرت بكاملها وانقلبت بسبب صلاح بنت واحدة في البيت، فأثرت في البيت كله، ومن المجالات التي تؤثر فيها مع زوجها، فبعض النساء الطيبات قد تبتلى بزوج غير صالح، فحينئذ عليها أن تحرص على هدايته وإصلاحه ما استطاعت، كثير من النساء تسأل -أحياناً مثلاً- زوجي يشرب الخمر، هل يجوز لي أن أبقى في عصمته؟ زوجي يدخن، زوجي يأمرني مثلاً أن أسجل له المباريات التي تعرض في التليفزيون على أشرطة فيديو -مثلاً- زوجي يسمع الغناء ويجلس أمام التلفاز ويطلب مني أن أجلس معه، زوجي يحضر مجلات سيئة إلى آخر الأسئلة هذا يدل: أولاً: على ما سبق: أنه أحياناً قد تجبر على من لا تريد، وقد تكون امرأة صالحة.
ويدل ثانياً: على أن بعض النساء لا تختار الرجل الصالح المناسب، وعلى كل حال إذا بليت المرأة بذلك، فالموقف الأول: أن عليها أن تقوم بالإصلاح، والرجل إذا أحب المرأة واقتنع بها يمكن أن يتأثر بها، وكثير من الرجال هداهم الله بسبب زوجاتهم بعد أن فشل في هدايتهم أصحابهم وأصدقاؤهم، ودور المرأة -أيضاً-في الدعوة مع أولادها، فالمرأة محضن يتربى فيه الأولاد، وكما قيل: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق ولذلك أعداء الإسلام حين يعملون على إفساد المرأة، لا يقصدون المرأة بذاتها، بل يعرفون أنها إذا فسدت فسد المجتمع كله.(239/25)
حكم صوت المرأة
السؤال
هل صوت المرأة بذاته عورة؟ الحواب: صوت المرأة بذاته ليس بعورة، فقد كانت النساء تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم وتخاطبه في أمور الدين والدنيا، ومن الأمثلة: المرأة التي قالت: {يا رسول الله، غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً تأتينا فتذكرنا فيه} والحديث في البخاري، والحديث الآخر: لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء: {إني رأيتكن أكثر حطب جهنم، قامت امرأة وقالت: يا رسول الله، لماذا كنا أكثر حطب جهنم؟} طبعاً هي لا تسأل على سبيل الاعتراض، لكن تسأل لتعرف السبب حتى تتقيه وتجتنبه، وكذلك المرأة التي قتل ابنها أم حارثة فقالت: {يا رسول الله، أخبرني إن كان حارثة في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك فليرين الله ما أصنع -تريد أنها ستبكي عليه- فقال: أهبلت يا أم حارثة؟! إنها جنان! وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى} .
والأحاديث في هذا كثيرة جداً لا تنحصر، وكانت المرأة تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكلم الرجال أيضاً كـ أبي بكر وعمر وغيرهما، فيما تحتاج في أمور دينها ودنياها، لكن بلا خضوع، ولا إطالة، وبلا استرسال في الكلام فيما لا فائدة فيه؛ لأن الشيطان حاضر في مثل هذه المواقع.(239/26)
زواج المرأة بدون إذنها
السؤال
بعض الآباء يزوجون بناتهم بلا إذنهن، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
بينه الرسول صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث خنساء بنت خذام {أن أباها زوجها بدون إذنها وكانت ثيباً فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاحها} .
وفي الحديث عن ابن عباس رضى الله عنه {أن امرأة زوجها أبوها وهي جارية بكر بدون إذنها فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم} والحديث رواه أصحاب السنن، وسنده صحيح.
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا تنكح الثيب حتى تستأمر} وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن إذن البكر أن تسكت {وإذنها صماتها} .
فهذه الأحاديث دلت على أنه لا يجوز، وليس من حق الأب أن يكره ابنته لا بكراً ولا ثيباً على الزواج من رجل لا تريده، وهذا قول جمهور السلف وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد يقول: (وهو الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه) وهذا الحكم الموافق لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد رد نكاح الثيب التي أكرهت، وخير البكر بين أن تبقى أو تفارق زوجها، فحكم بأن البكر والثيب لا تكره على من لا تريد وهو الموافق لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر باستئذان البكر واستئمار الثيب، البكر تستأذن، والثيب تستأمر، وهو الموافق لنهيه صلى الله عليه وسلم، حيث {نهى عن تزويج البكر حتى تستأذن، وعن تزويج الثيب حتى تستأمر} وهو الموافق لمصلحة المرأة، لأن من المعلوم أن إكراه المرأة على رجل لا تريده في الغالب يؤدي إلى أحد حالين:- إما إلى الطلاق، والطلاق -بلا شك- مضر بالمرأة ضرراً كبيراً، أو أن تبقى المرأة في عصمة الزوج وهو يؤذيها ويضطهدها، وهي لا تريده، إما لأمر ديني أو لأمر دنيوي -أيضاً- وهو الموافق لأصول الشريعة، فإن من المعلوم أن المرأة لا يجوز لأبيها أن يأخذ شيئاً من مالها بغير حق، ولا أن يتصرف فيه بغير إذنها، فكيف يجوز له أن يتصرف في جسدها وفي بضعها وفي حياتها بدون إذنها، بل بما يخالف رغبتها، ونجد اليوم في المجتمع حالات كثيرة من حالات الزواج تنتهي بالفراق وبمشكلات طويلة عريضة قد يكون الأب نفسه يتأثر منها، والسبب هو: أن الأب أو الأم -أحياناً- ضغطوا بطريقة معينة حتى أقنعوا وأجبروا هذه المرأة، لا أقول: أقنعوا.
فالإقناع وارد، لكن أقول: حتى أجبروا الفتاة على الزواج من رجل لا تريده، الأم تظل تقنع الأب: لا نريد إلا فلان، لأنه قريبها -مثلاً-، فالأب بدوره يكره الفتاة عليه، أو يكون الأب يريد هذا الرجل بغرض من الأغراض.
وقد يقول بعض الناس: إن المرأة قد تريد رجلاً فاسقاً، وأنا لا أريد إلا رجلاً صالحاً، فنقول: نعم، من حق الولي أن يرفض الرجل الفاسق، بل يجب عليه ألا يقبل لموليته إلا رجلاً صالحاً، فهي أمانة في عنقه لا يضعها إلا في موضعها الصحيح، فلا تقبل إلا رجلاً صالحاً، لكن لا تكرهها عليه، وبعض الآباء -أيضاً- يقول: إن البنت قد تطيل البقاء في البيت وتعزف عن الزواج حتى يفوتها الركب، وهي لا تدرك المصلحة في ذلك، فيريد أن يكرهها؛ لأنه يعرف أن في هذا مصلحتها، والجواب أن يقال أولاً: إن على الأب أن يقنع البنت بوسائل الإقناع أن المصلحة في ذلك، ويستعين بكل ذي رأي من أهلها كأمها وأخواتها أو غير ذلك.
ثانياً: على الأب أن يضغط على البنت أنه لابد أن تتزوج، لكن لا يلزمها بشخص معين، لابد أن تتزوج من رجل كفء، فلان أو فلان أو فلان لا أشترط شرطاً بعينه، المهم لابد من الزواج.(239/27)
حكم ابتداء النساء بالسلام
السؤال
عن حكم ابتداء النساء بالسلام؟ أهو عورة أم لا؟
الجواب
أما سلام المرأة على المرأة فهو مشروع كما يسلم الرجل على الرجل، وكذلك سلام المرأة على محارمها، كأبيها أو زوجها أو أخيها ونحوهم، فيشرع لها أن تسلم عليهم، وأن يسلموا عليها فترد عليهم السلام.
أما إن كانت المرأة أجنبية فالأمر فيه تفصيل: فإن كانت المرأة كبيرة السن والفتنة مندفعة، فحينئذ لا بأس أن يسلم عليها وأن ترد عليه السلام، ولذلك فقد روى أبو داود في سننه عن أسماء بنت يزيد قالت: {مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسوة في المسجد فألوى بيده بالسلام} والحديث رواه -أيضاً- الترمذي وقال: حديث حسن، وكذلك روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه {أنهم إذا كان يوم الجمعة مروا على امرأة عجوز من الأنصار، كانت تطبخ لهم السلق، قال: فسلمنا عليها فأطعمتنا من هذا السلق} .
فهذا دليل على أنه إذا اندفعت الفتنة جاز للرجل أن يسلم على المرأة، أما إذا كانت الفتنة موجودة أو متوقعة الوجود؛ كما إذا كانت المرأة شابة ومنفردة، ودواعي الشهوة قائمة، والدين رقيق، فحينئذ لا يشرع السلام دفعاً للفتنة، ولذلك سئل الإمام مالك رحمه الله: عن السلام على المرأة، فقال: [[أما المرأة المتجالة فلا بأس -يعني المرأة الكبيرة- وأما المرأة الشابة فلا أستحبه]] والسبب الفتنة؛ فإن وجدت الفتنة فلا يسلم، ولا يجوز السلام، وإن كانت الفتنة بعيدة ومندفعة، جاز السلام حينئذ.
أما هل هو عورة أم لا؟ فأقول: إن الله عز وجل أدب زوجات نبيه صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين بأدب عظيم {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] فلا تخضعن بالقول، فالمرأة لا يجوز لها أن تخضع بالقول؛ لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، وإذا كان هذا أدباً ربى الله عز وجل به عائشة وخديجة وحفصة وأم سلمة وزينب وسودة وهن النساء الطاهرات اللاتي اختارهن رب العالمين على علم ليكن زوجات محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، يقال لهن: لا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، فأي امرأة ترغب عن سنة زوجات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورضي الله عنهن؟! وأي إنسان يمكن أن يقول: إن هذا خاص بهن؟! كلا! بل غيرهن من باب الأولى، فلا يجوز للمرأة أن تخضع بالقول، فتلين الكلام وتتغنج به بالصورة التي تدعو إلى الإثارة، وصوت المرأة يثير كما يثير مرآها.
وكما تعرفون الشاعر الذي يقول:- يا قومِ أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحياناً فالصوت يثير كما يثير مرأى المرأة، بل وأشد أحياناً، فلا يجوز للمسلمة أن تخضع بالقول للرجال الأجانب، أما مخاطبة الرجال الأجانب فيما تحتاجه المرأة من أمور دينها أو دنياها من سؤال، أو طلب علم، أو تجارة، أو غير ذلك، أو سواه، فإنه جائز.(239/28)
حكم تغطية المرأة للوجه والشعر والرقبة والنحر
السؤال
عن حكم تغطية المرأة لوجهها، والسؤال عما تقع فيه بعض النساء من إظهار شيء من شعرها، أو نحرها أو رقبتها؟
الجواب
الصحيح -أيضاً- أن تغطية المرأة لوجهها واجب، ولا يجوز لها إبداؤه.
أما في موضوع الشعر فهو إجماع من أهل العلم، أنه لا يجوز للمرأة أن تبدي شيئاً من شعرها للأجانب.
أما الوجه فالصحيح -أيضاً- أنه لا يجوز، والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن والسنة، فمن الأدلة: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] والخمار هو ما تضعه المرأة على رأسها، فقد أرشد الله عز وجل المرأة المؤمنة حينئذٍ في هذه الآية إلى أن تسدل هذا الخمار من رأسها على وجهها حتى يضرب على جيبها، والجيب هو فتحة الثوب من الأمام، فبناءً على ذلك هذه الآية أمر بتغطية الرأس والوجه والنحر والرقبة، حتى يكون الخمار منسدلاً يضرب على الجيب، وهذا ظاهر في الوجوب.
ومنها قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية، فقوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) يشمل أنواع الزينة، ومن أعظم أنواع الزينة: الوجه، وكل إنسان لو سألته عن موضع النظر والإعجاب والجمال من المرأة، لقال لك: إنه الوجه، فالوجه هو مجتمع الزينة، وهذه ضرورة يجدها كل إنسان في نفسه، أول ما ينظر الإنسان إلى المرأة -والمسلم لا ينظر إلا لمن تحل له- فإنه ينظر إلى وجهها، فالوجه هو مجتمع الزينة والجمال، وأكثر ما توصف المرأة بالجمال لجمال وجهها، فتغطية الوجه أولى من تغطية غيره، كتغطية القدمين -مثلاً- أو تغطية الكفين، أو تغطية الذراعين.
أقول: إنه أولى بالوجوب، فالفتنة فيه أعظم من الفتنة بها، ومن الأدلة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59] فهو إشارة إلى أن المرأة الحرة المسلمة، يجب عليها أن تتستر تستراً كاملاً، وتغطي جميع بدنها وتلبس الجلباب أو الملاءة أو العباءة التي تستر جميع جسمها، حتى تتميز بذلك فلا تؤذى، ومن حكمة الله عز وجل أن المرأة إذا تسترت هذا التستر المشروع، فإنها لو مرت بفساق لم يلتفتوا إليها؛ لأنهم يشعرون حينئذٍ أن هذه المرأة: امرأة عفيفة طاهرة بعيدة عن الريبة، بل إنهم يحتقرون أنفسهم حيث ورطوا أنفسهم فيما حرم الله، وهذه المرأة ترفعت عن ذلك، أما إذا رأوا المرأة المتبذلة فإنهم يطمعون فيها حينئذٍ، وينظرون إليها، وقد يؤذونها.
ومن الأدلة من السنة النبوية، ما روت عائشة رضي الله عنها، أنها قالت أو ذكرت في حجتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الركبان إذا حاذوهن أسدلت إحداهن جلبابها على وجهها، فإذا جاوزوهن كشفنه، تقول: [[كان الركبان إذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه]] والحديث رواه أبو داود وله شواهد.
ومن المعروف أن المرأة لا يجوز لها أن تغطي وجهها في الإحرام، فكونها تغطي وجهها في هذه الحالة دليل على وجوب ستره عن الرجال الأجانب، وقد يقال: أن هذا خاص بأمهات المؤمنين، فمما يدفع هذه الخصوصية ما روته فاطمة بنت المنذر رحمها الله أنها كانت تخرج مع نسوة معها، مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها في الحج [[فإذا حاذاهن الركبان غطين وجوههن]] والحديث رواه مالك في الموطأ وغيره بإسناد صحيح، فـ أسماء بنت أبي بكر وفاطمة بنت المنذر، ومن معهن من النساء يغطين وجوههن حال الإحرام إذا حاذاهن الرجال، وهذا دليل على وجوب تغطية المرأة وجهها عن الرجال الأجانب، بل إن تغطية المرأة وجهها عن الرجال الأجانب هو أمر معروف حتى في الجاهلية الأولى، ففي الجاهلية الأولى كانت المرأة تغطي وجهها عن الرجال الأجانب، واسمعوا ما يقول عنترة في بيته المشهور يصف امرأة يقول:- سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد يعني امرأة سقط منها نصيفها، وهو ما تغطي به وجهها بغير قصد منها، فتناولت النصيف أو الغطاء بيد واتقتهم -أي حاولت أن تغطي نفسها عنهم باليد الأخرى- فهذا شأن المرأة في الجاهلية، فما بالك بالمرأة في الإسلام.
وكثير من الأخوات المسلمات -هداهن الله- يقصرن في شأن الحجاب بصور عديدة، منها: أن بعض النساء تلبس حجاباً شفافاً، لا يستر وجهها وإنما يخفي ما قد يكون في هذا الوجه من سوء خلقة أو قبح، ويظهر الوجه كأنه وجه جميل، فيكون لامعاً مثيراً دافعاً للفضول والتطلع، وبعض النساء تلبس حجاباً صغيراً بحجم دائرة الوجه، حتى يبرز أسفل ذقنها أو تبرز رقبتها ويبرز نحرها وتجد أنها تتكلف كثيراً في المحافظة على هذا الحجاب، فلا تستطيع أن تلتفت يمنة أو يسرة، أو ترفع رأسها محافظة على هذا الحجاب، ويا سبحان الله! ما دامت هذه المرأة المسلمة حريصة على التستر، حريصة على ألا يظهر منها شيء، ولا يرى الرجال منها شيئاً، وتتقي ذلك، فما أدري أي شيطان رجيم نفخ في نفوس المسلمات، فصارت المرأة مضطرة أن تساير الموضة في كل حال! وإذا وجدت على صديقاتها أو قريباتها مثل هذا الأمر، اضطرت إلى أن تفعل مثل ما يفعلن تجنباً من أن توصف بأنها امرأة قديمة، أو أنها (زي قديم) أو شكل قديم أو كما يقولون: (دقة قديمة) أو ما أشبه ذلك!! وما أدري كيف ذلك ونحن نعتز بالإسلام ونفخر بهذا الدين الذي شرفنا الله به! والمفترض في المسلم والمسلمة أن يحرص حتى على إبراز السنن أمام الناس، يفتخر بأنه متبع لمحمد صلى الله عليه وسلم ومطيع لله عز وجل، وليعود الناس على هذا الأمر، ولقد رأيت في بلاد غير إسلامية الحجاب فيها موضع سخرية وموضع استغراب، أشد الاستغراب، أخوات مسلمات يمشين وقد سترن أجسادهن، ولبسن الحجاب على رؤوسهن حتى لا يرى الإنسان منهن أدنى شيء.
وهذا والله الفخر! أن تظل المسلمة متمسكة بهذا الحجاب، حريصة على إظهاره وإبرازه، وما يدرينا لو وجد من بين الأخوات المسلمات اليوم نساء يعتززن بالحجاب الإسلامي؛ لما مضى وقت قصير إلا والحجاب أمر شائع لدى كل النساء؟! وربما ينتقل أيضاً إلى نساء أخريات، لأن المرأة تحب التقليد في الغالب، خاصة إذا وجدت امرأة قوية الشخصية تفرض هذا الأمر، ولا تبالي بمن يخالفها، فحق على المرأة المسلمة أن تتحجب حجاباً كاملاً تقصد من ورائه الاستتار وليس الإثارة، وتعتز بهذا الحجاب، وبإظهاره أمام النساء الأخريات، والدعوة إليه ومحاربة من ينكره.(239/29)
حكم تخصيص المرأة ثوباً خاصاً للصلاة
السؤال
سؤال حول صلاة المرأة، وهل يجب عليها أن تخصص لصلاتها ثياباً خاصة؟
الجواب
أنه لا يجب على المرأة أن تخصص لصلاتها ثياباً خاصة، كما هو جارٍ به العرف في مجتمعنا، وإنما على المرأة أن تصلي في أي ثوب تتحقق فيه الشروط الشرعية، ولذلك في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم {كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس وهي بنت ابنته صلى الله عليه وسلم، فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها} فهو يصلي عليه الصلاة والسلام بهذا الثوب الذي يحمل عليه هذه الطفلة، وما تركه لأنه يحمل طفلاً عليه ويخشى أن يكون وصلت إليه نجاسة.
وكذلك ورد عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: [[ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا رأت فيه شيئاً من أثر الحيض قالت بريقها هكذا، فمصعته أو قصعته بظفرها]] وفي حديث آخر أنها كانت تصلي فيه، والحديث رواه البخاري.
وفي الصحيحين أيضاً عن أسماء {أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: تحته ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه ثم تصلي فيه} فدل على أن المرأة لها أن تصلي في الثوب الذي تحيض فيه، وأن تصلي في الثوب الذي تحمل أطفالها فيه، شريطة أن يكون هذا الثوب طاهراً غير نجس، أي: شريطة ألا تعلم أن في هذا الثوب نجاسة، أما إن علمت فيه نجاسة، فيجب عليها أن تزيل هذه النجاسة، ثم لا بأس أن تصلي في هذا الثوب.
إذاً لا يشترط أن تصلي في ثوب خاص، بل يكفي أن تصلي في ثوب طاهر تتوافر فيه الشروط.
والشروط في هذا الثوب هو: أن يكون ساتراً للمرأة في صلاتها إلا وجهها، فوجهها في الصلاة ليس بعورة باتفاق أهل العلم إذا لم يوجد عندها أجانب، فوجهها ليس بعورة في الصلاة، فلا يلزمها أن تستره.
أما الكفان والقدمان ففيهما خلاف بين أهل العلم، والأولى بالمرأة أن تستر كفيها وقدميها في الصلاة، لما روت أم سلمة كما في سنن أبي داود {أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أتصلي إحدانا في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان ساتراً يغطي ظهور قدميها} فإذا لبست المرأة المسلمة هذا الثوب الساتر، صلت فيه ولو لم يكن ثوباً خاصاً بالصلاة، وبعض النساء لو خرجت خارج بيتها؛ فإنها قد تؤخر الصلاة كما إذا كان في مناسبة وليمة أو عرس أو غيره تقول: ليس معها ثوب صلاتها، فقد تؤخر الصلاة حتى يفوت وقت الفضيلة، وربما أخرت الصلاة حتى يخرج الوقت؛ من أجل أن ترجع إلى بيتها فتصلي في ثوب صلاتها، وهذا لا يجوز لها، فلا يجوز لها أن تؤخر الصلاة عن وقتها بحال من الأحوال.(239/30)
حكم مصافحة المرأة الأجنبية
السؤال
عن حكم مصافحة المرأة الأجنبية؟
الجواب
الصحيح أنه ليس للرجل أن يمس امرأة أجنبية عنه -ليست محرماً له- لا بمصافحة ولا بغيرها إلا لضرورة، كما في حالة التطبيب ونحوها.
أما مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية منه فإنه لا يجوز ذلك، لأن عائشة رضي الله عنها قالت كما في البخاري وغيره-: [[لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، إلا امرأة يملكها]] ما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة، إلا يد زوجته أو يد أمة يملكها، وفي البيعة كان يقول صلى الله عليه وسلم: {قد بايعتكن كلاماً، وإني لا أصافح النساء، وإنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة} فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم المعصوم عليه الصلاة والسلام، وفي حالة البيعة التي تستدعي المصافحة لصحة البيعة، ومع ذلك لم يصافح المرأة، فغيره من باب الأولى.
ومما هو نص في هذه المسألة ما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات كما يقول المنذري، وهو إسناد جيد كما يقول الألباني، عن معقل بن يسار رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له} ؛ وذلك لأن الرجل إذا نظر إلى المرأة تحركت شهوته، فإذا زاد على ذلك بأن صافحها أو مسها كان داعي الشهوة حينئذٍ أقوى وأشد، ومظنة الوقوع في الفاحشة أدعى وآكد، ولذلك حسم المشرع باب الفتنة من أصله، فلا يجوز للرجل أن يصافح المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تصافح الرجل الأجنبي بحال من الأحوال.(239/31)
هل النوم ناقض للوضوء
السؤال
أحد الأسئلة يسأل عن موضوع قد لا يتعلق بالمرأة بصفة خاصة لكنه شامل وهو حول النوم وهل هو ناقض للوضوء أم لا؟
الجواب
أهل العلم قد اختلفوا في حكم النوم هل ينقض الوضوء أم لا؟ على أقوال كثيرة، أوصلها النووي في شرحه لصحيح مسلم إلى ثمانية أقوال.
فمن العلماء من قال: إن النوم ناقض للوضوء مطلقاً، ومنهم من قال: إن النوم لا ينقض الوضوء مطلقاً، والذي رجحه كثير من أهل العلم المحققين: القول بالتفصيل، وهو أن النوم ينقض الوضوء إذا كان نوماً مستغرقاً لا يبقى معه إدراك، أما إذا نعس المسلم أو أغفى إغفاءة يسيرة، وهو يشعر بما حوله فلا ينتقض وضوؤه، حتى ولو كان على جنبه؛ لكن إذا نام بحيث لم يبق معه إدراك، واستغرق في النوم، حتى إنه لو تكلم أحد أو خاطبه لا يسمعه، فحينئذٍ ينتقض وضوؤه بهذا النوم.
والدليل على ذلك: أن هناك أحاديث دلت على أن النوم ينقض الوضوء، ومن هذه الأحاديث حديث صفوان بن عسال الذي يقول فيه: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننزع خفافنا إذا كنا سفراً ثلاثة أيام بلياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط أو بول أو نوم} معنى الحديث أن الإنسان يمسح على الخفين إذا أتى ناقضاً من هذه النواقض، وهي: الغائط والبول والنوم، فقالوا: إن النوم في هذا الحديث عده النبي صلى الله عليه وسلم ناقضاً للوضوء، كالغائط والبول، والحديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وصححه ابن خزيمة والترمذي والخطابي، وحسنه البخاري.
إذاً الحديث حجة وظاهره يدل على أن النوم ينقض الوضوء.
وبالمقابل فقد صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: {كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخفق رؤوسهم، ثم يقومون إلى الصلاة ولا يتوضئون} وهذا الحديث صحيح أيضاً رواه أبو داود والترمذي وصححه الدارقطني.
فكونهم تخفق رؤوسهم، بل ورد أنهم يضعون جنوبهم، وفي رواية أنه يسمع لهم غطيط، ثم يقومون إلى الصلاة ولا يتوضئون، دليل على أن النوم غير ناقض للوضوء.
إذاً الجمع بين حديث صفوان بن عسال الأول، وبين حديث أنس هذا، أن يقال: إن النوم إن كان نوماً مستغرقاً، ولا يبقى معه إدراك ولا شعور للإنسان بما حوله، فإنه ينقض الوضوء؛ لأنه حينئذٍ مظنة حصول الحدث، وفي هذه الحالة -في حالة النوم المستغرق- لو أحدث الإنسان لما شعر إذا كان مستغرقاً في النوم، وهذه من علامات النوم المستغرق، أما إن كان إغفاءة يسيرة أو نعاساً فإنه لا ينقض الوضوء، حتى لو كان مضطجعاً، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم {كان يصلي ركعتي الفجر، ثم يضطجع على جنبه الأيمن، ثم يناديه بلال بالصلاة فيقوم يصلي صلى الله عليه وسلم} .(239/32)
لمس المرأة هل ينقض الوضوء؟
السؤال
في نواقض الوضوء، وهو يتعلق بحكم مس المرأة بشهوة، أو بغير شهوة، أينقض الوضوء أم لا؟
الجواب
وهذه المسألة -أيضاً- قد اختلف العلماء فيها.
فمن العلماء من قال: إن مس المرأة ناقض للوضوء بكل حال، سواء أكان بشهوة أم بغير شهوة، واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] قال: (أو لامستم النساء) قالوا: والملامسة تطلق على اللمس، ولو باليد، بدليل أن هناك قراءة أخرى: (أو لمستم النساء) وفي حديث أبي هريرة في الصحيح، لما ذكر أن ابن آدم كتب عليه حظه من الزنا، ذكر {واليد زناها اللَّمس، أو اللُّمس} فلذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن مس المرأة باليد ناقض للوضوء ولو كان بغير شهوة، وبعضهم قال ينقض إن كان بشهوة؛ لأن مس المرأة بشهوة مظنة خروج شيء منه كالمذي مثلاً.
والقول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، سواء أكان بشهوة أم بغير شهوة، إلا أن يخرج من الإنسان شيء، فلو مس الإنسان امرأته فخرج منه شيء، فحينئذٍ ينتقض وضوؤه بما خرج منه، وليس بمسه للمرأة، وهذا الحكم الذي ذكرته له أدلة عديدة، منها: حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم [[كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ]] فهذا لمس منه صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه وبشهوة، ومع ذلك كان يخرج فيصلي ولا يتوضأ، وهذا الحديث ورد من طرق كثيرة، أورد منها البيهقي في كتاب الخلافيات عشر طرق، فهو يصح بمجموع هذه الطرق، ولذلك صححه ابن عبد البر وغيره من أهل العلم.
ومن الأدلة على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء: ما روته عائشة رضي الله عنها -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم [[كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة، فإذا قام مدت رجليها، فإذا أراد أن يسجد غمزها فقبضت رجليها، تقول: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح]] والحديث متفق عليه وفي لفظ للنسائي إسناده صحيح {أنه إذا أراد أن يسجد مسها برجلها} فهذا نص بأنه يمسها برجله من دون حائل، ومع ذلك لم ينتقض وضوؤه صلى الله عليه وسلم، بل كان مستمراً في صلاته.
ومن الأدلة أيضاً ما رواه مسلم عنها أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في الفراش فخرجت تبحث عنه، فوقعت يدها على قدميه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وهو يقول: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك} فوقعت يدها عليه صلى الله عليه وسلم فلم ينتقض وضوؤه عليه الصلاة والسلام بذلك، هذا مع أن عدم انتقاض الوضوء بمس المرأة هو الأصل الذي لا ينتقل منه إلا بدليل، وهو من الأمور التي تكثر البلوى بها، فإن الرجل قد يقع منه أن يمس امرأته فيأخذ منها شيئاً، أو يعطيها شيئاً أو ما أشبه ذلك، وقد يمسها بشهوة، وهذا كان يحصل من الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أصحابه كثيراً، ومن غيرهم، فالحاجة داعية إلى بيان الحكم في ذلك، فلو كان ناقضاً للوضوء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
يحدثني أحد الشباب، وأبوه ممن يعتقدون بأن مس المرأة ينقض الوضوء بكل حال، فيقول: إن أباه يجد عناءً كبيراً في هذه المسألة، حيث إنه يتوضأ -مثلاً- في يوم العيد، ويلبس ثيابه، ويستعد للخروج من البيت، فيطلب من زوجته أو من غيرها أن تناوله شيئاً من ثيابه أو سواها، فإذا أخذها ومس طرف إصبعه طرف إصبعها بدأ يدعو بالويل والثبور! ثم خلع ثيابه ورجع كي يتوضأ وهكذا، وقال: قد تتكرر منه هذه الحالة مرات عديدة!! فالأمر -إن شاء الله- في ذلك واسع، إلا أن يخرج من الإنسان شيء بمسه للمرأة بشهوة، فحينئذٍ يجب عليه أن يتوضأ لذلك.(239/33)
المعالم المنجية من شؤم المعصية
من عقائد أهل السنة أن الله سبحانه وتعالى خالق المعصية كما أنه خالق الطاعة، وله سبحانه في ذلك حكم عظيمة وجليلة.
وفي هذا الدرس المبارك استخراج لبعض هذه الحكم، مع بيان أصناف العصاة، ومعالم كل صنف.(240/1)
الحِكَم من خلق المعصية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
الحمد لله رب العالمين، فلقد بدأ المسجد والحلقة والمحاضرة والمركز والمجلس العلمي، يختطف جمهور الكرة والأغنية والشاشة وغيرها، وأصبحنا نشهد انتصار الإسلام صباح مساء من خلال هذه الجموع التي تحرص على استماع الكلمة الطيبة، وتحرص على حضور المحاضرة والدرس والموعظة، في حين أصبحت المجالات الأخرى تفقد جمهورها شيئاً فشيئا، وهذه خطوات محمودة في طريق انتصار الإسلام في هذه البلاد وفي كل البلاد بإذن الله تعالى، قال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] .
عنوان هذه المحاضرة التي تلقى في هذه الليلة، ليلة الخميس 27 من شهر ذي القعدة لعام 1410هجرية في هذا المسجد وهو جامع الخليل بالدمام، "المعالم المنجية من شؤم المعصية" وأستسمحكم عذراً إذ أقول: إننا حين نتكلم عن المعصية، فكأننا حذاقها وفلاسفتها والخبراء فيها، فهي أرض قد ترددنا فيها وبلاد قد عرفناها، ويا ليتنا إذ نتكلم عن الطاعة ووسائلها وأسبابها ومعالمها، نعلم من ذلك ما نعلمه من شأن المعاصي.
لقد خلق الله عز وجل المعصية في هذه الدنيا بحكمته، فالله تعالى قادر على أن يجعل الخلق كلهم على قلب رجل واحد، وقد فعل سبحانه وتعالى ذلك فيما يتعلق بالملائكة، فقد خلق خلقاً عنده شأنهم كما ذكر في كتابه: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26-27] وقال الله عز وجل: {مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ولكنه تعالى خلق الخلق وقدر أن يكون الإنسان قابل للهدى والضلال، والخير والشر: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وقال تعالى أيضاً: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] .(240/2)
الابتلاء والاختبار
ولذلك فإن أعظم حكمة في خلق المعصية هي الابتلاء والاختبار، بحيث أإن الإنسان ليس مكرهاً على الطاعة مجبولاً عليها بفطرته، كلا؛ بل هو بفطرته قابل للهدى والضلال، ولو شاء الله عز وجل لجعل الخلق كلهم أمة واحدة كما قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118] يعني: على الهدى، ثم قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119] يعني: للابتلاء الذي يترتب عليه اختلافهم وانقسامهم، ثم قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] .
إذاً لا حيلة، فكما أن هناك جنة فهناك نار، وكما أن هناك طاعة فهناك معصية، وكما أن هناك ملائكة فهناك شياطين، وكما أن هناك أبرار فهناك فجار، ولا بد من هذا، وهذه حكمة الله عز وجل وهذا هو الذي يتحقق به الابتلاء والاختبار والتمييز، وإلا فلو كان الناس كلهم مجبولين على الطاعة لما تميز أحد عن أحد، ولا مدح طائع، ولا ذم عاص؛ لأن الخلق كلهم صاروا على قلب رجل واحد.(240/3)
إبراز فضل المؤمنين ومكانتهم
ومن أعظم حكم وجود المعصية وخلقها أيضاً: إبراز فضل المؤمنين ومكانتهم واستقامتهم، فلولا طغيان فرعون وجبروته وظلمه، لما ظهر فضل موسى عليه الصلاة والسلام وإيمانه وتقواه وكرمه وصبره، ولولا تسلط النمرود وتألهه وتعاظمه وادعاؤه، لما ظهر للناس فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وصبره ومكانته عند الله عز وجل حتى إنه يلقى في النار فيصبر لله عز وجل ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال ابن عباس -رضى الله عنه-: [[حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) [آل عمران:173]] ] .
ولولا ظلم اليهود وبطشهم وماديتهم وقسوتهم وفسادهم، لما ظهر للناس فضل عيسى عليه الصلاة والسلام وصبره، وتواضعه، وتسامحه، وإيمانه، وبره، وتقواه.
ولولا ظلم قريش، وطغيانها، وكفرها، وتمردها، وعنادها، ومن ورائها الدنيا كلها، لما ظهر للناس فضل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصبرهم على دين الله عز وجل، وتحملهم المشاق في سبيله، وتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الله تعالى، فإن من أعظم حكم وجود المعصية أن يظهر الله تعالى فضل الفضلاء، فيبرز الأنبياء الصادقون، ويبرز المجاهدون، والمؤمنون، والمتقون، فتبين حقائق الرجال، وتظهر جواهرهم ومعادنهم وتتميز، هذا في الدنيا.
أما في الآخرة فكما قال الله عز وجل: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21] يقول القائل: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف فضل عرف العود يعني هذا العود الذي يتبخر به الناس، لولا أن النار تشتعل فيه فتظهر رائحته وطيبه ما عرف الناس ذلك، إذن كذلك الأبرار والصالحون، إذا مسهم أذى الفجار وظلمهم وإيذاؤهم وطغيانهم ظهرت معادنهم وحقائقهم، وتميزت وصفت، فبانوا أصفى من الزجاج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأقوى إيماناً، وأرسخ من الجبال الراسيات.(240/4)
تحقيق الوحدانية لله عزوجل
ومن أعظم حكم وجود المعصية وخلقها، تحقيق الوحدانية لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته، وأنه بيده القضاء والقدر، فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، فإن العبد حينئذ يحصل له من التسليم والانقياد لله عز وجل وإدراكه للعجز التام المطلق عن الحول والطول والقوة إلا بالله تعالى، فيفزع من الله تبارك وتعالى إليه، ولذلك يقول العبد: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك} لأنه يدرك بوجود المعصية أن الله تعالى هو الذي خلق المعصية، وهو مصرف العباد، ومقلب قلوبهم وموجهها على حسب ما تقتضيه حكمته جلَّ وعلا وعدله، وحينئذ يدرك العبد أن الألوهية الحقة هي لله، وأن الربوبية والملك والتدبير هي لله جلَّ وعلا، فيفزع من الله تبارك وتعالى إليه، لهذا يقول الله عز وجل في آخر سورة التوبة: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117] إلى أن قال: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] لاحظ، ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن العبد إذا رأى المعصية سواء في نفسه أم في غيره، أدرك أن مقامه مقام العبودية، والعجز، والتسليم، والانقياد، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله جلَّ وعلا.(240/5)
تحقيق معاني أسماء الله وصفاته
ومن حِكم وجود المعصية: تحقيق معاني أسماء الله تعالى وصفاته، فإن الله تعالى من أسمائه الخالق، وهذا الاسم يتجلى في خلق السماوات والأرض، والأملاك، والأفلاك، والبشر، والبهائم، والدواب، والملائكة، وغيرها.
ومن أسمائه الرزَّاق، ومن مظهر وأثر هذا الاسم أن الله تعالى يرزق الطير في ثكناتها، ويرزق السباع، ويرزق الحيات في جحورها، ويرزق الإنسان، ولو كُتِبَ للعبد رزق في أعماق أعماق البحار لقيضه الله تعالى له فيصل إليه.
ومن أسمائه تعالى أنه المحيي المميت، فهو من شأنه أن يحيي ويميت، وفي كل لحظة في الدنيا يحيي الله تعالى آلاف الأحياء، ويميت آلافاً أخرى، فلا تزال الدنيا كلها في حركة متجددة من الحياة والموت بإذن الواحد القهار جل وعلا!.
وكذلك من أسمائه جل وعلا أنه الرحمن الرحيم، وهذه الرحمة تتجلى في صور شتى منها رحمته تعالى بالعصاة، ومن أسمائه الغفور ولو لم يكن هناك أناس يخطئون فيستغفرون فيغفر لهم، لما ظهر أثر هذا الاسم الجليل العظيم "الغفور"!.
ومن أسمائه "الحليم" فلولا أن هناك من يخطئ في جنب الله تعالى، ويظلم نفسه، ويعصي ويبارز الله تعالى فيحلم الله تبارك وتعالى عليه، ويعفو عنه، ولا يعاجله بالعقوبة، لما ظهر للناس شرف هذا الاسم وعظمته وقدره.
وهكذا كان من حكم وجود المعصية ظهور آثار أسماء الله تعالى الحسنى، مثل الرحمن والرحيم والغفور والحليم، ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] وورد في السنن عن أبي ذر {أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة كاملة حتى أصبح يقرأ هذه الآية ويبكي {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] } ولاحظ كيف ختم الآية بقوله: {أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] ولم يقل أنت الغفور الرحيم؛ ليشعر بأن مغفرته جل وعلا للعصاة من عباده، ليست عن عجز عن المعاقبة، كلا! وليست عن عدم معرفة بالحق، كلا! وإنما يغفر لهم مع أنه العزيز الذي قهر وغلب وقَدِرَ جل وعلا، ومع أنه الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، ومع ذلك كله فإنه يغفر لعباده ولا يعاجلهم بالعقوبة.(240/6)
إظهار الإيمان وتقوية شواهده
ومن أعظم حكم خلق المعصية: إظهار حقيقة الإيمان وتقوية شواهده للمؤمنين والصادقين، وذلك حين يرون آثار الطاعة والمعصية في حياتهم، فإن الله عز وجل ذكر في كتابه، بل وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث أثر الطاعة وأثر المعصية، أثر الطاعة على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الأمم في استقامة أحوالها، سواء فيما يتعلق بقلوبهم وسعادتهم واطمئنانهم وروحهم وإيمانهم، أم فيما يتعلق برزقهم وسعة ما يعطيهم الله تعالى من المأكل والمشرب والمطاعم والملاذ، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] وبالمقابل قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] .
قال بعض السلف: المعيشة الضنك هي عذاب القبر، والواقع أن المعيشة الضنك هي أوسع من هذا كله، فالمعيشة الضنك في الدنيا بضيق الصدر والهم والحزن والقلق الذي يخيم على قلب العاصي، حتى كأن الدنيا في عينه أضيق من ثقب إبرة، ولو أجلبت وراءه الشُّرَط والأعوان، والأنصار، والأموال، والدنيا، والمواكب، فإن هذا الإنسان يعيش قلبه في ضيق لا يعلمه إلا الله، كما قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله- وقد مر به موكب من بعض العصاة قال: [[إنهم وإن هَمْلَجَتْ بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]] .
ولذلك إذا رأيت العاصي رأيت في نفسه من الذل والصغار، مصداق ما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وجُعل الذلة والصغار علىمن خالف أمري} وبالمقابل إذا رأيت المطيع رأيت فيه من العزة والقوة والمنطق والإيمان والثقة والثبات، ما يليق بموقعه عبداً مطيعاً مخبتاً لله جل وعلا.
والمقصود أن من حِكَم خلق المعصية أن يرى الناس بأعينهم مصداق هذا، فإن عصى الإنسان ربه وجد أن أثر المعصية في نفسه، وفي ولده، وفي زوجته، وفي ماله، وفي خدمه، وفي عبيده، وفي سيارته، وفي كل شيء، حتى قال بعض السلف: والله إني لأعصى الله عز وجل فأرى أثر ذلك في خُلُقِ زوجتي، وفي سير دابتي، فإن عصى الله تعالى أصبح ينظر أين عقوبة هذه المعصية؟!! فيجد اليوم زوجته قد أساءت معاملته، وتكلمت عليه بكلام قاس، وبكلام شديد، وأغلظت له، ولم تجهز له الطعام كما ينبغي، وما حققت له ما يريد، ودخل عليها يريد أن يرى الابتسامة التي تعوَّد عليها، ويرى الصدر المنشرح، ويرى الكلمة الطيبة، فوجد الاكفهرار، والتقطيب، والإعراض، ما هو السبب؟ السبب: تعلمه أنت، وهي لا تعلمه، لكن العبد مسير في هذه الأمور، فالله عز وجل أظهر أثر المعصية في خلق زوجتك، وفي دابتك، وفي سيارتك، وفي رزقك.
كم من إنسان يذهب يطلب الرزق؟ اليوم أسس شركة، فيجد بعد فترة أن الشركة قد انهارت ولا بد من التصفية، فذهب يحاول أن يشتغل بالزراعة، فكانت النتيجة واحدة، وذهب في طريق ثالث، ورابع، وخامس، فوجد أن الأبواب كلها مغلقة أمامه، فنقول له: ارجع حاسب نفسك، وانظر فإن البلاء في نفسك، والبلاء في داخلك!.
وهذه ليست قاعدة مطردة، فأنت قد تجد كافراً موسعاً له في الرزق، لكن هذه القاعدة إنما تصدق في شأن من أراد الله به خيراً، فإن الله تعالى يرسل له النذر، والتعليمات، والتوجيهات، والتنبيهات، أما الإنسان الذي لا يحبه الله فلا يبالي به في أي واد هلك، فإن الله تعالى يمد له من الدنيا مدا، وكلما زاد في المعصية ربما زاد الله له في الرزق، ووسَّع عليه وأعطاه حتى يقبضه الله عز وجل وهو أكفر ما كان، وأعصى ما كان، وأقسى ما كان، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] فيمد الله تعالى لهم في الدنيا مدا، حتى يلقوا الله تعالى بآثامهم وذنوبهم كاملة موفورة، فيأخذهم بها أخذ عزيز مقتدر.
فإن رأى العبد أثر المعصية في نفسه وفي مجتمعه، وفي أسرته، وفيمن حوله، أدرك صدق ما جاءت به الرسل، وأن الأمر حق لا مرية فيه، وهذا لا يحدث إلا لمن في قلبه بعض الحياة، وإلا فإن الإنسان الذي قلبه قد مات والعياذ بالله فإنه يفسر الأمور تفسيراً مادياً؛ لأنه لا يؤمن بما وراء الأحداث المشهودة من قدر الله وإرادته وتدبيره، فإذا رأى في الأمور الدنيوية تعكيراً أو تأخيراً فسره تفسيراً معيناً، فيقول: والله هذا الأمر بسبب سوء الحسابات، وعطل السيارة وبسبب كذا وكذا، وخلق الزوجة بسبب كذا، وهكذا يفسر الأمور تفسيراً مادياً قريباً، ويغفل عما وراء الأحداث، ونحن لا ننكر الأسباب، ولكن وراء الأسباب أسباب، ووراء الأسباب مسبب الأسباب وخالقها جل وعلا والمؤمن يدرك هذه المعاني ويلحظها، أما الغافل فإنه يمضي قدماً لا يلوي على شيء حتى يهلك في قبره.
انظر مثلاً إلى ما ذكره بعض الصالحين، ذكر الإمام المنذري في الترغيب والترهيب قصة عن الإمام البيهقي أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن المبارك -رضى الله عنه وأرضاه- وقال له: يا أبا عبد الرحمن إن في ركبتي قرحه قد نبتت منذ سبع سنين، وقد عرضتها على جميع الأطباء، وذهبت وجئت وعالجت، وما تركت أحداً إلا أتيته، فما نفع ذلك ولا أجد شيئاً فماذا ترى لي يا أبا عبد الرحمن بارك الله فيك؟ قال له عبد الله بن المبارك: اذهب إلى مكان يحتاج الماء فاحفر فيه بئراً وسبلها للناس، فإن شاء الله تعالى كلما خرج الماء وانتفع به الناس نقص هذا الدم الذي يخرج من ركبتك وشفاك الله تعالى، ففعل هذا الرجل، فما هي إلا أزمنة يسيرة حتى شفاه الله تعالى.
هذه القصة في ميزان الطب، حين تأتي للطب كعلم محدث فليست عنده خانة معينة لهذا الأمر، لكن في مجال الأمور الشرعية والمشاهدات الحسية، فإن هذا الأمر يرى عياناً لا شك فيه ولا تردد، ولسنا في حاجة إلى قصة حصلت في عهد عبد الله بن المبارك، أو قصة أخرى، أو ثالثة، أو رابعة، أو عاشرة، فإن كل امرئ منا يرى في حياته من مثل هذه القصة الأشياء الكثيرة، حتى العلم الحديث بدأ يحاول أن يفسر هذه الأمور ويجد لها موقعاً صحيحاً، لأنها حقائق لا تقبل الجدل والخلاف حولها.
ومثل هذه القصة التي تدل على أثر الطاعة في صحة الإنسان واستقامة حاله، وشفائه مما يعانى من أمراض، ما ذكره البيهقي، عن الشيخ أبا عبد الله الحاكم، وهو شيخ البيهقي، وهو صاحب المستدرك أنه نبت في وجهه قروح وجروح أيضاً، وعرض نفسه على الأطباء فما نفع ذلك شيئاً، فجاء إلى الإمام أبي عثمان الصابوني وهو من أئمة أهل السنة والجماعة وهو في مجلسه يوم الجمعة، وفي مجلسه خلق كثير، فقال له: يا أبا عثمان قد ترى ما في وجهي من القروح والجروح، فلو دعوتم الله تبارك وتعالى لي؛ لعل الله تعالى أن يشفيني من هذا الأمر الذي شوهني، فرفع أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- يديه ودعا وأمن الحضور وضجوا رجالاً ونساء بالبكاء والدعاء للإمام أبي عبد الله الحاكم؛ لأنه من أئمة الإسلام، ومن رجاله العظام، ومن شيوخ أهل السنة والجماعة، فلما كانت الجمعة الثانية كتبت امرأة ورقة وألقت بها في المجلس، وإذا بها تقول: إنني بعد أن رجعت إلى بيتي دعوت الله عز وجل لـ أبا عبد الله الحاكم أن يشفيه، فلما نمت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: قولي لـ أبي عبد الله الحاكم يتصدق وليسق المسلمين الماء، لعل الله أن يشفيه، فأخبرت أبا عبد الله الحاكم بذلك فتصدق وحفر الآبار وأجراها على المسلمين، فما هو إلا وقت يسير حتى شفاه الله تبارك وتعالى وعافاه.
أيضاً: قصة أبي عبد الله الحاكم هذه لما تبحث عن خانتها في الطب أو أي صيدلية تصرف مثل هذا فلا يوجد، لكن الذي يعلم أمور التشريع يدرك أنه، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] فالعلم لا يزال يحبو، حتى علم الطب مع أنه من العلوم المتقدمة لا يزال يحبو وأمامه مجالات واسعة ومجاهيل كبيرة، هو فيها يحتاج إلى دليل، وهذا الدليل هو الشرع والوحي والنص السماوي.
ومن عجيب وغريب ما يروى في هذا الباب -أيضاً- ما ذكره الطرطوشي وغيره: أن هناك رجلاً كان اسمه نظام الملك، وكان وزيراً لأحد سلاطين السلاجقة، فكان نظام الملك هذا رجلاً صالحاً يتصدق بالأموال على الفقراء، والمساكين، والمحتاجين، وطلاب العلم، والدعاة، والمصلحين، حتى قيل إنه كان يدفع سنوياً ستمائة ألف دينار يوزعها على هؤلاء من خزينة بيت مال المسلمين، يوزعها عليهم ولا يترك طالب علم، ولا محتاج، ولا إمام، ولا عالم، ولا داعيه، إلا أجرى له من ذلك شيئاً كثيراً، فجاءه يوماً السلطان السلجوقي وهو أبو الفتوح، وكان شاباً أصغر منه سناً، فقال له: يا أبتِ! -يعني: يسميه هكذا من باب الإجلال لكبر سنه- قد بلغني أنك تصرف ستمائة ألف دينار من خزينتنا على هؤلاء الناس الذين لا ينفعوننا بشيء، فلا هم جنود في أيديهم سلاح، ولا هم حراس، ولا شرط، ولا أعوان، ولا كتاب، ولا شيء، وهم هناك في المساجد، أو في حلق العلم، أو في دروس العلم، أو في غير ذلك، فلماذا تصرف هذا المال لهم كلهم؟! فقال له نظام الملك: يا ولدي أنا شيخ كبير السن أعجمي لو عرضتُ في سوق من يزيد -يعني كما نقول نحن في لسان العصر الحاضر في سوق الحراج- لا أساوي خمسة دراهم، وأنت كذلك غلام تركي، لو عر(240/7)