السفر والركوب مع غير محرم
ش
السؤال
تقول: أرجو توضيح حكم النساء اللاتي يذهبن إلى الدراسة خارج البلاد، ويذهبن مع سائق لا يصطحب سواهن أو زوجته، كذلك أيضاً بعض الطالبات تفاجئ عندما تركب أتوبيس حتى في داخل البلاد أن السائق ليس معه امرأة وأنها هي وحدها أو طالبة أو طالبتين معها؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم حذر في الأحاديث الصحيحة من أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فبعضها أطلق هكذا أن تسافر المرأة، وفي بعضها مسيرة يوم وليلة، وبعضها مسيرة ثلاثة أيام، فسفر المرأة بغير محرم واستقدام المرأة أيضاً بغير مَحرَم مُحَرَّم، فالفتاة التي تسافر بدون محرم تقع في الإثم، والعائلة التي تستقدم امرأة للخدمة أو لغيرها ليس معها محرم أيضاً تقع في الإثم وتشارك فيه، فعلى المرأة المسلمة ألا تسافر إلا مع ذي محرم، وحين تكون داخل البلد ويكون مع السائق امرأته -مثلاً- فهذا لا بأس به، أما لو وجدت الفتاة أنه لا يصحب زوجته معه وقد تكون وحدها في الأتوبيس، فحينئذٍ عليها أن تبلغ عن هذا الأمر، لأن الجهات المسئولة فيما اعتقد تمنع السائق إلا أن يكون أو تكون بصحبته زوجته.(203/24)
مصافحة المحارم وتقبيلهم
السؤال
هل يجوز التقبيل والمصافحة للمحارم، غير الزوج؟
الجواب
التقبيل والمصافحة، أما المصافحة للمحارم فجائزة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن مصافحة المرأة الأجنبية، أما فيما يتعلق بالتقبيل فأيضاً ورد ما يدل على جواز ذلك لكن ينبغي أن ينتبه إلى الفرق بين المحارم، فرق بين الأب -مثلاً- وبين الأخ، فالأب أقرب وأشد علاقة بابنته من الأخ بأخته، ولذلك فإن الأخ عليه أن يتجنب أن يقبل أخته يعني أن يقبلها في فمها -مثلاً- وإنما لا بأس من المعانقة عند القدوم من السفر أو ما أشبه ذلك عند القدوم من غيبة طويلة، وأما الأب فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه قَبَّلَ عائشة رضي الله عنها وينبغي أن ينتبه إلى أن كل أمر يثير شهوة الإنسان ويحرك غريزته فهو محرم حتى ولو كان مباحاً في الأصل، وفي هذا العصر أيها الإخوة وجدت مغريات كثيرة، ووجد نوع من المسخ في الفطر، ولذلك تسمعون بين الآونة والأخرى عن محرم قد ينتهك عرض محرمه وهو محرم لها، كأخته والعياذ بالله أو قريبته التي تحرم عليه، بل ربما يقع أعظم من ذلك، ولذلك يجب التنبيه إلى أنه حتى هذه الأشياء إذا كانت مثار شهوة، أو غريزة، أو تدعوا إلى الفتنة فإنها تكون محرمة حينئذ، فالأب يحرم عليه أن ينظر إلى ابنته بشهوة، والأخ يحرم عليه أن ينظر إلى أخته بشهوة، ومن باب أولى أن يكون التقبيل كذلك.(203/25)
أحكام شعر الرأس للمرأة
السؤال
تسأل كثير من النساء عن التصرف في شعر الرأس في تقصيره، أو تسريحه، أو ما أشبه ذلك، أو جعله ضفيرة واحدة، فحبذا لو بينت لنا ما يجوز من ذلك وما لا يجوز؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد ففيما يتعلق بموضوع الشعر وكيفية تصرف المرأة في شعرها، هناك جانبان لا بد من مراعاتهما: الأول: أن الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حرم على المسلمين ذكرانهم وإناثهم التشبه بالكافرين فقال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فحذرنا سبحانه أن نكون كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تشبه بقوم فهو منهم} وهذا اللفظ عام {من تشبه بقوم فهو منهم} أي: في الخير والشر، وإن كان سياق الحديث يدل على أن التشبه المنهي عنه هو المقصود بالأصالة، ولكن يمكن أن يكون معنى الحديث عاماً، فمن تشبه بالصالحين والسلف والصحابة والتابعين رجالاً ونساءً فهو منهم، ومن تشبه بالمشركين واليهود والنصارى فهو منهم، والفتاة التي تتشبه -مثلاً- بعارضات الأزياء، وبالممثلات، وبالمغنيات، فهي تحشر معهن، وهى معدودة منهن في شرع الله، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وهذا هو مضمون قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فإن التشبه نوع من التولي، فأي عمل فيه تشبه أو يقصد من ورائه التشبه بالمشركين فهو حرام، سواء كان في اللباس، أو في غيره لهذا العموم.
ولذلك فكون بعض الفتيات تتابع الموضات والأزياء والتسريحات كما يقولون ففي كل وقت تسريحة لها طريقة خاصة ونظام خاص، وهذه التسريحة تصدر من عند أصحاب التجميل ودور الأزياء وتصفيف الشعر في الدول الأوروبية، وتصدر إلى البلاد الإسلامية، فتراها الفتاة المسلمة ظاهرة على الممثلة -مثلاً- أو المغنية، فتقلدها في ذلك، وهذا أثر آخر من آثار مشاهدة المسرحيات والأغاني وغيرها من الأمور التي حرمها الله عز وجل على المسلمين، ففي مثل هذه الحال يحرم على المرأة المسلمة التشبه بهؤلاء النسوة في مثل هذه الأشياء.
بل ينبغي على المسلمة أن تكون مستقلة بأمورها وأعمالها وطريقتها في الحياة وطريقتها في التجمل وما أشبه ذلك، أما فيما عدا ذلك فالأصل الإباحة، وقد ورد في صحيح مسلم أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة، وهذا يدل أيضاً على الجواز، ومثله أيضاً طريقة تسريح الشعر وكيفية جدله هل يكون بهذه الطريقة أم بتلك، كل هذه الأشياء الأصل فيها الإذن، إلا إن كان المقصود بشيء منها التشبه بالمشركين فحينئذٍ يكون محرماً، لا لذاته لكن لدخول قصد التشبه فيه، والله أعلم.(203/26)
أحاديث موضوعة متداولة
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن خطورة الكذب بصفة عامة، وخاصة إذا كان على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه موجب للنار، وكيف أن الأحاديث الموضوعة مطعن في الدين، وأن مجموعة من أعداء الدين من الكفرة والرافضة حاولوا دس كثير من الأحاديث عند المسلمين، وما زالوا، ثم ذكر نماذج من الأحاديث الموضوعة، مبيناً الواجب تجاه أي حديث موضوع، ثم أجاب عن جملة من الأسئلة في هذا الموضوع.(204/1)
خطورة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إخوتي الكرام: إن الله تبارك وتعالى حرّم في كتابه العزيز أخلاقاً ذميمة، منها: الكذب عليه أو على خلقه.
بل لعن الكاذبين، كما في قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] .
وإن من أشد الكذب وأعظمه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أنه يتضمن مع الكذب الذي هو خصلة ذميمة، آثاراً سيئة كثيرة: منها: إدخال شيء في الدين ليس منه؛ إذ أن القول المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتضمن تحريم أمر أو تحليل آخر، أو تفضيل شيء، أو وعدٍ، أو وعيدٍ، أو خبر، أو نحو ذلك.
ومنها: الحط من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المتجرئ على الافتراء على الرسول عليه الصلاة والسلام، قد سقطت من قلبه هيبته صلى الله عليه وسلم؛ فتجرأ على التقول عليه بما لم يقل.
ولذلك كان الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم كبيرة من كبائر الذنوب، وإثماً عظيماً بالاتفاق، بل إن من أهل العلم من اعتبره كفراً بالله عزوجل، ولا شك أن من استحلَّ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كافر بالله العظيم.(204/2)
الأدلة على تحريم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: {من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} .
وهذا حديث متواتر، ورد عن جمع كبير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم جمع كبير من التابعين، حتى إن بعضهم قال: رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم نحو (200) من أصحابه، وذكر له الإمام ابن الجوزي في الموضوعات نحو (80) طريقاً، وصنف فيه بعض العلماء مصنفات مستقلة، حيث صنف فيه الطبراني مثلاً جزءاً في حديث: {من كذب عليّ متعمداً} .
وقد رواه البخاري ومسلم يرمز له في صحيحيهما، وغيرهما من أهل العلم، وفيه نص على تحريم الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وعلى أنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ يستحق فاعله الوعيد بالنار {فليتبوأ مقعده من النار} وفي لفظٍ: {فليلج النار} .
وما ذلك إلا لما يتضمنه من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم من التحريف في الدين، وإدخال شيء ليس منه في ضمنه، والحط من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من المثالب والمضار.
ولقد بُليَ الإسلام والمسلمون منذ زمن بعيدٍ، بمن يفترون على الله وعلى رسوله الكذب، ويُلصقون بالإسلام ما ليس منه، ويدعون أنه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأما القرآن الكريم، فلم يكن لأحد أن يستطيع أو يحاول أن يدخل فيه شيئاً ليس منه؛ وذلك لأن الله تكفَّل بحفظه، كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .(204/3)
موقف يدل على حفظ الله لكتابه
إن في القرآن الكريم من البلاغة والإعجاز، ما لا يستطيع أحد من البشر أن يدخل فيه شيئاً، ولذلك ذكر القرطبي وغيره من المفسرين، قصة حدثت في عهد بعض خلفاء بني العباس، وهي: أن يهودياً دخل على هذا الخليفة، فتكلم في حضرته بكلام أعجب الخليفة، فدعاه إلى الإسلام فرفض، ثم خرج من عنده، فلما مضت سنة دخل هذا الرجل على الخليفة، وهو يقول: يا أمير المؤمنين، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتعجب الخليفة من ذلك، وقال له: إني دعوتك العام المنصرم إلى الإسلام فأبيت، وكان حرياً أن تُسلم لما رأيت من عقلك وحلمك وعلمك، فما الذي دعاك اليوم إلى الإسلام؟! فقال: يا أمير المؤمنين، إنني خرجت من عندك فأحببت أن أبتلي وأختبر الأديان كلها، فأتيت بنسخة من التوراة، وكنت أحسن الخط، فكتبت منها كتباً، وحرفت فيها وغيرت وبدلت، ثم وقفت بها على باب بيعة من بيع اليهود، فاشتروها مني بأغلى الأثمان.
ثم أتيت إلى نسخة من الإنجيل، فكتبت منها كتباً، فحرفت فيها وبدلت وزدت ونقصت، ووقفت بها على باب الكنيسة، فاشتراها مني النصارى بأغلى الأثمان.
ثم عمدت إلى نسخة من المصحف فكتبتها، وحرفت فيها وغيرت وزدت ونقصت، ووقفت بها على باب الجامع، فوقف الناس بعد الصلاة عندي، ونظروا في هذه النسخ، وقلبوها؛ فاكتشفوا ما فيها من التحريف والتزوير، والنقص والزيادة، فأخذوها مني وأحرقوها، وضربوني عند باب المسجد، فعرفت أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله، فذلك الذي دعاني إلى الإسلام.
وهذا مصداق قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] على ما هو مشتهر عند أكثر علماء الأصول وغيرهم، من أن المقصود بالذكر في هذه الآية هو: القرآن.
وإن كان الإمام ابن حزم رحمه الله، ذهب في كتابه إحكام الأحكام إلى أن المقصود بالذكر: القرآن والسنة.
وبناءً عليه؛ فإنه يستحيل أن يدخل أحد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، ويروج هذا الحديث على أهل العلم وهو غير صحيح.
وهذا حقيقة، أنه لا يمكن أن يصدق العلماء ما افتري على الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحاديث.(204/4)
محاولة بعض أعداء الدين اختلاق الأحاديث
كثير من أعداء الإسلام حاولوا أن يختلقوا الأحاديث، ويلصقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم منذ عهد متقدم.
وذلك لأغراض شتى: إما أن يكون فعلهم هذا لأنهم زنادقة؛ يريدون أن يدخلوا في الدين ما ليس منه، أو يريدون أن يشوهوا صورة الإسلام عند الناس، أو يريدون أن يلبسوا على المسلمين دينهم؛ كما كان الرافضة يختلقون الأحاديث ويلصقونها على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك الزنادقة وغيرهم، وهم أكثر من يشتغل بوضع الأحاديث على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد يكون وضع الأحاديث لسبب آخر كالعصبية المذهبية مثلاً: التعصب لشيخ من المشايخ، أو لإمام من الأئمة، أو لبلدٍ من البلدان، أو لنحلة من النحل، أو لطائفة من الطوائف، أو لغير ذلك.
ولكن الزنادقة في الغالب، هم المشتغلون المعنيون بالافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أدخلوا في الإسلام كثيراً من الأحاديث، لَبّست على كثير من المسلمين دينهم، وليس الغريب أن يشتغل الزنادقة والملحدون والرافضة بهذا، وإنما الغريب أن تروج هذا الأحاديث على المسلمين، ويتناقلوها فيما بينهم! حتى إن كثيراً من الأحاديث التي تشتهر عند العامة ويتناقلونها، هي من الأحاديث الضعيفة، أو الموضوعة في غالب الأحيان.(204/5)
اعتناء العلماء ببيان الأحاديث الموضوعة
وقد عني كثير من أهل العلم ببيان الأحاديث الموضوعة، والتحذير منها، وبيان من وضعها.
وممن ألف في ذلك مثلاً: الإمام ابن عراق في كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ومنهم الإمام ابن الجوزي في كتاب الموضوعات وفي كتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، ومنهم الإمام الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، ومنهم الإمام ابن تيمية، وابن القيم، والسيوطي، وغيرهم من أهل العلم.
وممن جمع الأحاديث الضعيفة والموضوعة من المعاصرين، الشيخ الألباني حيث ألف كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأخرج منه مجلدين، وكذلك جمع الأحاديث الضعيفة والموضوعة، في الجامع الصغير وزيادته في كتاب مطبوع في ثلاثة مجلدات، سماه ضعيف الجامع الصغير وزيادته وأدخل فيه الضعيف والموضوع.
أقول: عني العلماء منذ القديم ببيان الأحاديث الموضوعة والتحذير منها، ولكن تجدر الإشارة في هذه العُجالة؛ إلى أن جمع الأحاديث الموضوعة وحصرها أمر متعسر أو متعذر؛ وذلك لأن الافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينتهي، فكما كذب المتقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكذب عليه الملحدون في هذا العصر وفي العصور القادمة.(204/6)
انتشار طبع ونشر الأحاديث الموضوعة بين الناس
أيها الإخوة في هذا العصر الذي عم فيه الجهل بالإسلام جملة، راج عند كثير من المسلمين أحاديث منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدءوا ينشرونها بكل وسيلة.
ومن الغريب أنك تجد أحياناً إنساناً طيباً صالحاً محتسباً يقف في الطائرة مثلاً، أو في مكتبة من المكتبات، أو في مدرسة، فيقوم بتوزيع ورقة كتب فيها حديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا.
وهذا الحديث طويل فيه وعد أو وعيد، أو تحذير من بعض المعاصي والذنوب والآثام، وتجد هذا الإنسان مجتهداً في نشر هذا الحديث، فإذا انتهت هذه الأوراق سارع في تصويرها وتوزيعها.
وكثيراً ما تسمع أنه في بعض مدارس البنات، وفي أوساط النساء توزع هذه الأحاديث، فإذا نظرت في هذه الأحاديث؛ وجدتها في الغالب أحاديث موضوعة، فينشط أهل العلم من الخطباء والعلماء في التحذير منها، فيتركها الناس فترة من الزمن، وما هي إلا أيام وليالٍ حتى يعاود الناس نشر هذه الأحاديث وتوزيعها.
وهذا أمرٌ غريب، يجعل الإنسان يظن أنه قد يكون وراء نشر هذه الأحاديث في بعض الأحيان؛ أناس يتقصدون ترويجها أو إشاعتها، فضلاً عن الجهال الذين يوزعون كل ما وقع في أيديهم.(204/7)
أهمية معرفة القواعد العامة في تمييز الحديث الموضوع من الصحيح
إن من المهم أن يعرف الإنسان بعض القواعد العامة التي يُرجع إليها في تمييز الموضوع وبيانه، ولذلك يَحسُن الرجوع إلى كتاب المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن القيم رحمه الله؛ فإنه عني في هذا الكتاب ببيان القواعد العامة التي تضبط الأحاديث الموضوعة، وذلك مثل: كون الحديث فيه من المجازفات والمبالغات ما لا يتوقع صدوره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كحديث: {من قال لا إله إلا الله؛ خلق الله من هذه الكلمة طائراً له سبعون ألف جناح، في كل جناح سبعون ألف ريشة} أو {خلق الله من هذه الكلمة طائراً له سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يستغفر لقائلها} أو نحو ذلك من المجازفات التي يرفضها العقل.
ومثل: قاعدة أن ما خالف الأصول المستقرة في الدين فهو غير صحيح.
وذلك كحديث: {أن من كان اسمه أحمد، أو محمد، فإنه لا يدخل النار} لأن من المعلوم ضرورة من دين الإسلام؛ أن الإنسان يدخل الجنة أو يدخل النار بعمله، كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم:40-41] .
وكذلك قاعدة: أن الأحاديث التي تخالف الحس الثابت فهي غير صحيحة، مثل: بعض الأحاديث التي تذكر فضائل ألوان من الطعام؛ كالباذنجان مثلاً، أو الأرز، أو الهريسة أو غيرها، وتنسب لها من الفوائد ما يقطع الأطباء وغيرهم بأنه كذب؛ كحديث: {الباذنجان لما أُكل له} .
كذلك قاعدة: أن ما خالف التاريخ فهو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كالأحاديث الواردة أن دولة بني العباس تبقى إلى آخر الدهر، فقد ثبت تاريخياً أن هذه الدولة سقطت وانتهت.
ومثله: الأحاديث التي وردت في ذكر تواريخ معينة تقع فيها حوادث معينة، مثل: أنه في سنة كذا وكذا يحدث كذا وكذا يحدث رجَّة، أو صيحة، أو ما أشبه ذلك.
فهذه كلها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك حصر الإمام ابن القيم رحمه الله، بعض الأبواب والفصول من العلم، التي لا يصح فيها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه ميزة لهذا الكتاب لا تكاد توجد في غيره؛ أعني بها ذكر الضوابط العامة التي يُعرف بها الحديث الموضوع، وكذلك ذكر جُمل من العلم لم يصح فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث.(204/8)
نماذج من الأحاديث الموضوعة المنتشرة
بين يديَّ الآن بعض الأحاديث الموضوعة التي يكثر السؤال عنها، ويكثر ترويجها بين الرجال والنساء، أحببت التنبيه عليها.(204/9)
أحاديث موضوعة في عقوبات بعض النساء
وهناك ورقة انتشرت في أوساط النساء، ووزعت في المدارس وغيرها، وهي ورقة عريضة طويلة منسوبة إلى علي رضي الله عنه: أنه دخل هو وفاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه يبكي.
فقال له علي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما يبكيك؟ فذكر له الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه عرج به إلى السماء فرأى مشاهد للنساء، منها امرأة معلقة بلسانها، ومنها امرأة معلقة بشعرها، ومنها امرأة معلقة بثدييها، ومنها امرأة معلقة بعرقوبيها، ومنها ومنها وذكر مشاهد بشعة يشمئز منها القلب وتأباها النفس، ثم ذكر أن هذه الأشياء هي عقوبات لبعض ما تفعله النساء في الدنيا من الغيبة، أو النميمة، أو ما أشبه ذلك.
ومبالغة في توثيق هذا الحديث، كتب في هذه الورقة أن الحديث منقول عن بحار الأنوار، وهو كتاب من كتب الرافضة للمجلسي، يقع في نحو مائة وعشرة مجلدات، كلها كذب وافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكما ذكرت؛ يُستغرب أن ينتشر مثل هذا الحديث المنسوب إلى مثل هذا الكتاب الرافضي، بين أهل السنة والجماعة، وأن ينشروه ويتداولوه.
وأنتم جميعاً تتذكرون الحديث الذي انتشر عند الناس في عقوبة تارك صلاة الجماعة، وأنه يبتلي بأربع عشرة خصلة، وهذا الحديث مكذوب موضوع، ذكر ذلك الذهبي في ميزان الاعتدال، وابن حجر في لسان الميزان وغيرهم.
وكثير من الناس يتساهلون -كما رأيت- في نشر مثل هذه الأحاديث، ويقولون إن فيها ردعاً للناس عن هذه المعاصي.
فيا سبحان الله! أولاً: إن فيما صح من السنة، وفي تحذير القرآن الكريم من الخصال المذمومة غُنية وكفاية، فما بالنا ننشر الأحاديث الموضوعة من أجل التحذير من ذلك.
ثم إن في نشر مثل ذلك إثم أعظم -في كثير من الأحيان- من إثم هذه الخصلة المُحذر منها، فإن في نشر هذه الموضوعات إثماً عظيماً بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترويج الكذب، والجرأة عليه صلى الله عليه وسلم، وإدخال شيء في الدين ليس منه.
ثم إن فيه تعويداً للناس ألا يرعووا عن هذه الأشياء؛ إلا بذكر هذا الوعيد الشديد.
وفيها -في كثير من الأحيان- تشجيع للمنحرفين والفُساق والزنادقة والكفرة، على الحط من قدر الدين؛ لأن هذه الأحاديث الموضوعة في غالب الأحيان -فيها وقاحة وقلة أدب وشناعة وبشاعة، تشمئز منها النفوس، وترفضها الفطرة السليمة، ويأباها العقل، فنشرها هو تشجيع للزنادقة والكفار؛ أن يحطوا من قدر الإسلام، وقدر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما انتشر بين الناس حديث ضعيف أو موضوع؛ إلا وجهلوا قدره من الأحاديث الصحيحة، كما قيل: ما انتشرت بين الناس بدعة إلا ورُفع مثلها من السُنة.
فالناس إذا انتشرت بينهم الأحاديث الموضوعة؛ جهلوا كثيراً من الأحاديث الصحيحة أو الحسنة بل إذا سمعوا حديثاً صحيحاً فيه نهي عن ذلك دون أن يكون فيه وعيد شديد؛ فإن نفوسهم لا تتحرك لمثل ذلك، إضافة إلى ما في هذا من الآثار السيئة الكثيرة.(204/10)
أحاديث موضوعة في الحث على التوجه لأهل القبور
2- ومن الأحاديث التي يقطع سامعها بأنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تردد، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نُسب إليه كذباً وزوراً، أنه قال: {إذا ضاقت عليكم الأمور فعليكم بأهل القبور} .
وهذا الحديث حكم عليه ابن تيمية وغيره من أهل العلم؛ بأنه كذب مختلق، افتراه القبوريون على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والغريب أنه في هذه البلاد التي حماها الله عز وجل من القبور وتعظيمها، والطواف بها، والاعتقاد بأهلها؛ نُشر مثل هذا الحديث في هذه الورقة مع تعديل بسيط وهو: {إذا ضاقت عليكم الأمور فعليكم بزيارة القبور} ونُشر أو كُتب إلى جواره قوله، أو افتراؤه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يحبون الدنيا وينسون الآخرة، ويحبون المال وينسون الحساب…} إلى آخر هذه الموضوعة: {وأنه من لم يصل الصبح فليس في وجهه نور، ومن لم يصل الظهر فليس في رزقه بركة… إلى آخر ما قال.(204/11)
أحاديث موضوعة في فضل بعض الآيات
من هذه الأحاديث حديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومضمونه: {أن الله عزوجل، حين أنزل بعض الآيات كآية الكرسي وآخر سورة البقرة، وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران:26] وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] تعلقن بالعرش، وقلن يا رب: كيف تنزلنا إلى هذه الدنيا دار المعصية ودار الإثم؟ فقال الله عز وجل: إنه لا يقرأ بكن إنسان في يوم إلا أعطيته من الأجر كذا وكذا، وأسكنته حظيرة القدس، ونظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وقضيت له في كل يوم سبعين حاجة؛ أدناها أن أغفر له ذنوبه، وأعذته من شر كل عدو، ونصرته عليه} إلى آخر ما ورد في هذا الحديث.
وهذا الحديث، يقطع كل عاقل بأنه مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثل هذه المجازفة في هذه الأشياء لا تتوقع، ولا تنتظر في الإسلام.
وكيف يكون غفران الذنوب لهذا الإنسان هو أدنى أمر يعطيه الله لقارئ هذه الآيات.
ثم إننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في فضائل آيات أخرى؛ كسورة الإخلاص: أنها تعدل ثلث القرآن، وهذا ثابت في أحاديث كثيرة، ومع ذلك لم يذكر لها هذه الفضائل الواردة في هذا الحديث.
وهذا الحديث أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة، وقد ذكر ابن حبان: أنه من الأحاديث الموضوعة، وكذلك ذكر هذا الإمام ابن الجوزي.(204/12)
الواجب تجاه نشر تلك الأحاديث
واجبنا أيها الإخوة: أولاً: أن نتثبت في الأحاديث التي ننسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا سمعنا حديثاً منسوباً إليه عليه الصلاة والسلام تأباه عقولنا وفطرنا، وتشمئز منه نفوسنا، فعلينا أن نسأل عنه، أو نرجع إلى الكتب التي عنيت ببيان الأحاديث، حتى نعرف صحته من ضعفه.
ولست أدعو الإخوة إلى معرفة الأحاديث الموضوعة؛ فإن معرفتها أمر متعسر، أو متعذر كما ذكرت.
ولذلك إذا لم يعرف العلماء حديثاً فليس بحديث؛ لأن الوضع لا يتناهى، وقد يضع الكذابون في هذا العصر، أو في عصور قادمة أحاديث على الرسول عليه الصلاة والسلام.
لكن عليك أن تشتغل بالحديث الحسن والصحيح، ففيه غنية عن الحديث الضعيف والموضوع، وإذا سمعت حديثاً تشمئز منه أو تشك فيه؛ فعليك أن تتثبت منه، وتسأل عنه أهل العلم، وخاصة هذه الأحاديث التي يشتغل الناس بطباعتها وتصويرها وترويجها بين الناس.
علينا أن لا نشارك في إشاعتها إلا بعد التثبت منها، فإذا علمنا أنها أحاديث ضعيفة؛ فلنحذر منها، ولنكتب في أسفل كل ورقة منها: أن هذا الحديث مكذوب موضوع، قال فيه فلان كذا، وقال فيه فلان كذا، حتى نساهم في تحذير الناس منه.
ثم إن علينا أن نشتغل بالسنة الصحيحة، وخاصة صحيح البخاري ومسلم، والسنن الأربع، فإن الإنسان بحاجة إلى أن يعرف الحديث الصحيح، ليكون نبراساً له في هذه الحياة.
أسأل الله أن يرزقني وإياكم العلم بالسنة، وأن يوفقني وإياكم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا ممن عمل بسنته، ونصح لأمته، وشرب من حوضه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(204/13)
الأسئلة(204/14)
الجمع بين (لعن الدنيا وعدم سب الدهر)
السؤال
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تسبوا الدهر} وفي حديث آخر {الدنيا ملعونة} كيف نجمع بين الحديثين؟ وما صحتهما؟
الجواب
الحديثان صحيحان، الأول: حديث قدسي: {يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} وفي لفظ: {لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر} .
والحديث الثاني: يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: {الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً} .
وليس بين الحديثين تعارض، فأما النهي عن سب الدهر؛ فالمقصود: نهي الإنسان عن سب الأيام والليالي، والأزمان، كما يقع فيه كثير من الناس إذا نزلت به نازلة، نسبها إلى الدهر والأيام والليالي.
وقد امتلأت دواوين الشعراء والأدباء وغيرهم؛ بسب الأيام والليالي وغير ذلك، مع أن الواقع أن هذه الأشياء مخلوقة مربوبة، وأن التصرف والتدبير بيد الله، ولذلك عقب بقوله سبحانه، {وأنا الدهر} وفي اللفظ الآخر: {فإن الله هو الدهر} أي: هو الذي يدبر هذا الدهر ويصرفه بيده الأمر يقلب الليل والنهار.
فالذي يسب الدهر هو في الواقع يسب الله عز وجل، وفي مآل الأمر؛ لأن الدهر مخلوق مسير.
وأما الحديث الآخر، ففيه إشارة إلى أن ما في الدنيا من الأموال، والزخارف، والزينة، والبهارج، لا قيمة لها ولا نفع بها؛ إلا أن تكون في طاعة الله عز وجل.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {الدنيا معلونة ملعون ما فيها} فليس المقصود لعن الأيام والليالي، ولا لعن الدهر، وإنما المقصود: لعن هذه الأشياء التي يتعلق بها الناس، وتلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ولذلك استثنى بقوله: {إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً} .
فالناس الذين انصرفوا عن الذكر والعلم والشرع، هم بلا شك معرضون للعنة، ولذلك ورد لعن شارب الخمر، ولعن المرابي، ولعن أصحاب كثير من المعاصي.
وهاهنا قال: {إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً} .
وكذلك الإنسان الذي يشتغل، أو الأعمال التي تشغل الإنسان عن طاعة الله، من الأمور المحرمة، أو الأمور المباحة في الأصل، هي أشغلت عن الإسلام، وأدت إلى أمر محرم أو إلى تقصير؛ فإنها تعرض الإنسان للعنة حينئذٍ وبذلك يعلم الإنسان أنه ليس بين الحديثين تعارض.(204/15)
حال حديث (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم)
السؤال
هل هذا حديث صحيح: {من تعلم لغة قوم أمن مكرهم} ؛ لأن كثيراً من الناس يحبون تعلم اللغات الأجنبية لأجل هذا الحديث؟
الجواب
الحديث لا يصح، حديث: {من تعلم لغة قومٍ أمن مكرهم} لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن في معناه نظر؛ لأن أمن مكر القوم ليس فقط بتعلم لغتهم، فكم من قوم يمكرون بشخص وهم من جنسه ومن بني جلدته، ويتكلمون بلسانه، ومع ذلك يمكرون به ويخادعونه، فوسائل المخادعة كثيرة حتى للأقوام الذين بعضهم من بعض، بل إن مكر القوم الذين هم منك وفيك -في معظم الأحيان- أبلغ من مكر الأباعد.
اللهم إلا أني أقول: إنه لو كان بينهم، لربما تكلموا بكلام يقصدون فيه الإساءة إليه بلغتهم وهو لا يفهمه، لكن هذا فيه بُعد.
فالحديث ليس بصحيح من حيث الإسناد ولا من حيث المعنى.
ولا شك أن الحديث باطل وموضوع، ويتنافى مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم} .
وعمر رضي الله عنه يقول: [[لا تعلموا رطانة الأعاجم]] .
ثم -أيضاً- الواقع عكسه، نقول: من تعلم لغة قوم سافر إليهم، من تعلم لغة قومٍ في الغالب ذهب إليهم.
فهذا يكون من الدواعي للسفر إلى أمريكا وأوروبا، إذا كان الإنسان يعرف اللغة يقول: أنا أعبر عن نفسي، وأعرف اللغة، وأمشي مع الناس.
فالأمر بالعكس، ويسوغ أن يقول قائل: من تعلم لغة قومٍ ذهب إليهم أو سافر إليهم.
فالحديث موضوع ولا أصل له، ولا خطام له ولا زمام.
ولم يتعلم أحد من صحابة الرسول اللغة الأجنبية، ما تعلمها إلا زيد لحاجة الرسول صلى الله عليه وسلم.(204/16)
العبث في الصلاة
السؤال
نرى كثيراً من المسلمين يتحركون في صلاتهم، ولا يعطون الصلاة حقها من الخشوع، وبعضهم يقدم رجله وهو في الصف ويؤخرها، فما حكم ذلك؟
الجواب
مما لاشك فيه أن الخشوع في الصلاة مطلوب، فينبغي للمسلم والمسلمة إذا دخل في الصلاة أن يُشغل نفسه بذكر الله، وبتلاوة كتابه، وبتعظيم الله، ويحرص كل الحرص على أنه لا يعبث.
ومن الحكم التي من أجلها يمسك المصلي يده الشمال بيده اليمين: من أجل قلة الحركة، ومن أجل أنه يكون أخشع، وأكثر ذلاً واستكانة بين يدي الله تعالى.
فالعبث في الصلاة لا يجوز، ولكن تحديده بثلاث حركات يبطل الصلاة -كما قاله البعض- نقول هذا لا دليل عليه، لا دليل على قول من قال: إن ثلاث حركات تبطل الصلاة، إنما الذي يُبطل الصلاة الحركة بثلاثة شروط:- إذا كانت الحركة من غير جنس الصلاة، وكانت الحركة كثيرة، وكانت الحركة لغير حاجة؛ فحينئذٍ الحركة تبطل الصلاة.
وحذيفة رضي الله عنه رأى رجلاً يخفف الصلاة، ويعبث في صلاته، فعابه وأخبره بأنه ما صلى منذ صلى.
وأحد الصحابة رأى إنساناً يعبث، فقال: [[لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه]] .
فينبغي للمسلم والمسلمة أن يحرص كل الحرص ألا يعبث في الصلاة.
وكثير من المصلين يعبث مثلاً: في غترته، وفي ساعته، ويمسس ملابسه، ويلمس أنفه، ويمسس لحيته.
وهذا كله لا داعي له ولا حاجة، والعبث إذا كان ليس له داع ولا ضرورة ولا حاجة، فلا يجوز.
أما إذا كانت الحركة لحاجة، كما كان الرسول يلتفت إلى الشاب، وكما كان الرسول -أيضاً- خلع نعليه وهو يصلي، وكما كان الرسول يحمل أمامة بنت بنته إذا قام، وإذا سجد وضعها.
فهذه حركة لحاجة، وإذا كان ذلك لحاجة فإنه جائز والحالة هذه.
ومن المعلوم أن كثيراً من الناس في كثير من الأمصار، يعيبون على أهل نجد لكثرة الحركة، وهذا صحيح، الحركة موجودة عند أهل نجد أكثر مما هي موجودة عند الآخرين، وهذا شيء مُشاهد.
فينبغي لنا جميعاً أن نحرص كل الحرص أن لا نعبث في الصلاة، إلا لضرورة ماسة وحاجة لا بد منها.
وكما قلت، أظن قاله بعض العلماء، أو هو عند الشافعية، أو وجه عند الشافعية: أن ثلاث حركات تبطل الصلاة، وهذا لا دليل عليه.
لكن الحركة تبطل الصلاة بثلاثة شروط: إذا كانت الحركة كثيرة، وكانت من غير جنس الصلاة، وكانت متوالية؛ فإذا توفرت هذه الشروط فإن الصلاة تبطل والحالة هذه.(204/17)
التوجه إلى القبلة للمريض
السؤال
هل يجوز أن يصلي المريض المغرب وهو على السرير، نائماً على ظهره غير متجه إلى القبلة، وهو خائف؛ لأن المغذي في يده، ولا يستطيع أن يصلي والحال هكذا؟
الجواب
يجوز للمسلم، عملاً بقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم} وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
فإذا استطاع المريض أن يتجه إلى القبلة وجب عليه، وإذا لم يستطع وكان السرير لغير الجهة، فيحاول إذا أمكن أنه على جنبه الأيمن أو على الأيسر استقبل القبلة وجب، وإذا ما أمكن فإنه يصلي إلى أي جهة، وتعتبر صلاته -والحمد لله- صحيحة.(204/18)
الجماعة في غير المسجد
السؤال
هل يجوز لخمسة أشخاص أن يصلوا جماعة، وهم يبعدون عن المسجد خمس دقائق إذا مشوا على أرجلهم؟
الجواب
إذا كان السؤال كما ذكر السائل، لا يبعدون عن المسجد إلا مسافة خمس دقائق أو عشر دقائق؛ فالمسافة هذه تعتبر قريبة، فإذا كانت الحال كما ذكر، فلا يجوز أن يصلوا إلا في المسجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] .
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر} .
وقال علي رضي الله عنه: [[لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]] وجار المسجد هو: من سمع النداء.
وإذا كان في لغة العرب والعادة أن الجار يعتبر إلى أربعين بيتاً من كل جانب، فإذا كان هكذا فلا يجوز لهم أن يصلوا إلا في المسجد، إلا في حالة ضرورة، أو في حالة تسوغ لهم أن لا يذهبوا إلى المسجد.
أما إذا انتفت الموانع، وزالت المحاذير، فلا يجوز لكل مسلم إلا أن يصلي في المسجد، وخصوصاً إذا لم يكن عليه في ذلك مشقة شديدة، ولا هناك خوف، فيجب أن يصلي في المسجد.
فخمس دقائق كما ذكر السائل، هذه مسافة قريبة جداً، والصلاة في المسجد مشروعة لحكم إلهية، وقد ذكر بعض العلماء ست عشرة حكمة، كلها شرعت من أجلها صلاة الجماعة.(204/19)
حول صحة حديث (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)
السؤال
ما صحة حديث {ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة} ؟
الجواب
الحديث الصحيح بلفظ: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة} .
لكن لفظ: {ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة} هذا ليس بصحيح.
فالرسول في وقت التحديث لم يوجد قبره بعد، فبعض الأحاديث منسوبة ومكتوبة {ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة} فهذا ليس بصحيح والصحيح هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة} .
والروضة الآن جُعل عليها علامات؛ الأعمدة البيض الموجودة في مقدم مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومجعول في أسفل كل عمود ما يقارب مترين، أو مترين ونصف أبيض، هذا هو تحديد الروضة من جميع جهاتها الأربع.(204/20)
بداية وضع الأحاديث
السؤال
متى بدأ الوضع في الحديث، وما أشهر الكتب التي أُلفت من أعداء الإسلام في الأحاديث الضعيفة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، لم يوجد الوضع في الحديث النبوي، أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بصورة ظاهرة معروفة أو مشهورة.
وإن كان لا يمنع أن يوجد من المنافقين من يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفتري عليه، واستمر الأمر على ذلك زمناً طويلاً حتى بدأت الفتن بين المسلمين، ووجد ما يسمى بالفرق الإسلامية من خوارج، ثم رافضة، ثم معتزلة، فحينئذٍ بدأ الوضع في الحديث النبوي، في أواخر عهود الصحابة رضي الله عنهم حتى إن ابن عباس رضي الله عنه، كان عنده رجل من التابعين، يقال له: بشير بن كعب العدوي، فكان يقول لـ ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فلا يلتفت إليه ابن عباس.
فقال بشير: أيا ابن عباس مالي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تلتفت إليَّ.
قال ابن عباس: [[إنا كنا إذا سمعنا رجلاً يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا -يعني: ارتفعت إليه أبصارهم ينظرون إليه، شوقاً ولهفاً لمعرفة ما يقول.
قال- فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف]] .
وكذلك قال محمد بن سيرين: [[لما وقعت الفتنة، قالوا هاتوا لنا رجالكم، حتى نعرف أهل السنة فنأخذ عنهم، ونعرف أهل البدعة فلا نأخذ عنهم]] .
فبداية الوضع في أواخر عهود الخلفاء الراشدين، حيث بدأت الفرق الإسلامية، من الخوارج، والرافضة وغيرهم، وإن كان الخوارج لا يُعرف عنهم كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يحرمون الكذب، بل ويعتبرونه كفراً.
وأكثر الفرق ولوغاً في هذه الجريمة، هم الرافضة الذين كانوا -كما يقول أحد شيوخهم-: إذا استحسنوا كلاماً جعلوه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الكتب التي أُلفت في الأحاديث الموضوعة، فأظن أنني أشرت إليها سابقاً.(204/21)
بعض تعريفات المصطلح
السؤال
ما المقصود بهذه التعريفات، مثلاً عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، أو موقوفاً، أو مرسلاً، أو حسن، أو صحيح؟
الجواب
المقصود بالحديث الصحيح، هو: ما ثبت نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى غيره ممن نُسب إليه، بنقل العدل الضابط إلى منتهاه، بسندٍ متصل، مع سلامته من الشذوذ ومن العلة القادحة.
وأما الحسن: فهو ما ثبت أيضاً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أو إلى من ينتهي إليه بنقل عدل خفيف الضبط غير تام الضبط، مع السلامة أيضاً من الشذوذ ومن العلة القادحة.
وأما الضعيف: فهو ما ليس بحسن ولا صحيح؛ أي ما لم توجد فيه شروط الحديث الصحيح، ولا شروط الحسن.
وأما المرسل: فبعض علماء الحديث يطلقونه على المنقطع، سواء كان الانقطاع في آخر السند من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام، أم في أثناء السند.
ولكن المشهور عند المتأخرين -خاصة- أن المرسل: هو ما رفعه التابعي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن يقول الحسن البصري، أو سعيد بن المسيب أو غيرهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يسمى "مرسل" وهو نوع من أنواع المنقطع.
وأما المرفوع: فهو ما انتهى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الصحابي مثلاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا مرفوع.
أما الموقوف: فهو ما انتهى إلى الصحابي من قوله، مثل: قال أبو بكر، أو قال عمر، أو نحو ذلك.
وأما المقطوع: فهو ما انتهى إلى التابعي من قوله هو أيضاً، مثل قال وهب بن منبه، قال الحسن البصري، قال عمرو بن ميمون الأودي، إلى آخره فهذا يُسمى مقطوعاً.(204/22)
(59) وسيلة لمقاومة التنصير
التنصير حركة عالمية تقف وراءها مؤسسات عالمية ودول قوية، والانحلال النصراني والشهوات قد تغري المسلمين وخاصة الشباب، والدعم المالي يعمل على إخراج البائسين من الإسلام، وهذا الدرس ضمن سلسلة دروس تتعلق بالتنصير ينبغي لكل مسلم اقتناؤها ونشرها، وهنا تجد (59) وسيلة لمقاومة ذلك التيار الخبيث.(205/1)
أسباب الحديث عن التنصير وفضحه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عنوان هذا المجلس (59 طريقة لمحاربة التنصير) وهو الدرس السبعون في ليلة الإثنين الثالث من ربيع الأول من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشر للهجرة.
يتساءل البعض: لماذا تسع وخمسون؟ فأقول: لأننا معنيون جداً بدعوة الآخرين إلى المشاركة معنا، في النظر والتفكير والدعوة إلى الله ومحاربة أعداء الله، فتركت هذه الخانة الستين حتى يجهد كل واحد ذهنه في معرفتها والوصول إليها، وبالتأكيد سنتمكن -إن شاء الله- من جعل هذه الطرق بالمئات بدلاً من كونها خمسين طريقة أو ستين طريقة.
نعم أيها الإخوة طال الحديث عن موضوع التنصير أكثر مما كنت أتوقع، وأكثر مما كنت أحب، ولكنه أقل مما يجب لمقاومة هذا المد والخطر ومحاربته وفضحه.
لماذا نتحدث عن موضوعات التنصير وأسراره وأخباره علانية؟(205/2)
عدم توجيه الحديث ضد أحد
رابعاً: هذه المعلومات التي قلناها ونقولها ليست موجهة ضد أحد، ولذلك أستغرب أن يقف أحد ضد الدرس الذي تكلمنا في المجلس السابق، أو يسعى إلى عدم انتشاره أو عدم سماع الناس له، النصارى يصدرون إحصائيات ومعلومات كبيرة، أما هنا فأقول ليس الحديث عن الواقع أفظع من الواقع نفسه، إذا كنتم تنزعجون من هذا الحديث عن الواقع فكيف رضيتم بهذا الواقع، وكيف أقررتموه؟! إن من المحزن حقاً أن تسمح -مثلاً- لفتاة لك بها صلة قربى؛ بأن تبرز محاسنها ومفاتنها وزينتها وتحرك مشاعر الشباب المراهق تجاهها، ثم لا تسمح لأحد بأن يصف حال هذه الفتاة ويحذرها ويحذر غيرها، إنني أدعو الجميع إلى السعي إلى نشر مثل هذا الحديث الذي فيه مقاومة لكيد النصارى، وهذا أقل ما يجب على المسلم تجاه كيد مخطط مدروس، تقف وراءه مؤسسات ومنظمات ضخمة، بل تقف وراءه دول، بل يقف وراءه مجلس الكنائس العالمي الذي يجعل العديد من الدول في إبطه ويديرها كيف يشاء.(205/3)
عدم جدوى السرية
أولاً: أنا على قناعة تامة بأن المخططات المدروسة من قبل النصارى أو العلمانيين أو غيرهم من أعداء الإسلام لا يمكن أن تحارب عن طريق المراسلات السرية الخاصة التي يكون مصيرها مجهولاً، إما الملفات أو الأدراج المتكدسة على أحسن الأحوال، وقد يكون مصيرها الضياع، فالخطط المدروسة لا تحارب بالرسائل الخجولة التي ترسل هنا أو تبعث هناك، هذا أولاً.(205/4)
مساهمة الكل بما يستطيع
ثانياً: المساهمة في الحل، ومقاومة كيد أعداء الله عز وجل ليست مهمة أحد بعينه، ليست مهمة المسئول فقط، ولا مهمة العالم، بل هي مهمة كل إنسان مسلم، ومن شأن الجميع حشد مثل هذه المعلومات والحديث عنها، ونشرها وهذا يرفع مستوى الوعي بالمخطط المدروس من النصارى ويجعل خطة النصارى صعبة في مثل تلك المجتمعات التي تدرك ماذا يريدون وكيف يخططون، وإلى ماذا يهدفون؟(205/5)
لرفع درجة الوعي عند كل مسلم
ثالثاً: إن الحديث عن مثل هذه الأمور أمر عادي؛ فلماذا التخوف ونحن منذ سنوات نسمع العديد من الناس يتوهمون أن الإعلان بالحديث عن مثل ذلك يحدث سلبيات كبيرة، ولكن الواقع أثبت إخفاق هذه الظنون، وأنها لا تمت إلى الواقع بصلة، وأنه لا يحدث من جراء المجاهرة بفضح أساليب أعداء الدين؛ أكثر من ارتفاع درجة الوعي لدى المسلم العادي وهذا مطلوب لدى كل المخلصين للإسلام.(205/6)
أصداء الحديث عن التنصير
ثانياً: أصداء؛ إن هناك قناعة بأن أباطيل الصليب لن تروج -بإذن الله تعالى- في ذلك المجتمع الواعي، وقد أكد هذه القناعة مجموعة كبيرة من المراسلات والتجاوبات التي هي أصداء للأحاديث السابقة في موضوع التنصير أشير إليها بإيجاز حفظاً للوقت:(205/7)
التقارير
كما وصلني كم كبير من ملحوظات الإخوة المستمعين المتعلقة بالتنصير أذكرها بإيجاز أيضاً: منها تقارير عديدة جديدة عن إحدى الشركات الكبرى التي أشرت إلى وجود نشاط تنصيري متميز في أوساطها، ومنها تقرير عن فرقة اسمها اليورن أكين، وهذه الفرقة التنصيرية منتشرة في الولايات المتحدة الأمريكية ونيجيريا والفلبين وهي تعني (المولود من جديد) وتهدف إلى كسر طوق الجمود الديني لدى النصارى، وهي فرقة انضباطية منظمة، أو إن شئت قلت جماعة تخرج المنصرين وتبثهم في أنحاء العالم، وتلزم أتباعها باجتماعات أسبوعية على مدار العام، ولا تختلف كثيراً عن الأصول النصرانية المعروفة، بل هي تحاول صياغة الأصول النصرانية بأسلوب جديد وإلباسها لباس الحداثة، حتى تكون مقبولة أكثر لدى الإنسان في هذا العصر، ولها وجود قوي في أوساط الفلبينيين الموجودين في العالم الإسلامي ومنطقة الخليج والجزيرة العربية، ولا تقتصر على النصارى، بل تبذل جهوداً كبيرة لرد المسلمين الذين أسلموا حديثاً عن دينهم.
وآخر بعث إلي ببعض العبارات الموجودة على سيارات النصارى الموجودة في أسواقنا وشوارعنا، وقد كتبها باللغة الإنجليزية ولكن هذه ترجمة بعضها (إذا لم تجد الماء لك أن تشرب الويسكي) وهو خمر اسكتلندي شهير، هذه كلمة موجودة على بعض سيارات النصارى، في سيارة أخرى مكتوب (إذا لم تجد سكناً فهلم لتنام معي) ثالث مكتوب: (أنا أحب القديس ميجن) .
رابع أرسل إلي بطاقة معايدة، أرسلوها إليه بمناسبة عيد الأضحى، ويقول: يرسلونها في الأعياد الإسلامية الأضحى والفطر، وتوزعها إحدى الشركات الألمانية التي نوهت عنها في إحدى الدروس السابقة.
وخامس بعث إلي بالإعلان عن مشرفات الأمن المطلوبات لإحدى المستشفيات، ونشر هذا الإعلان في جريدة اليوم، وذكر لي أن هذا الإعلان يخص المستشفى التعليمي بالخبر، وذلك عن طريقة شركة المجال.
وسادس بعث إلي بمفاجأة من جريدة عكاظ نشرت يوم السبت 24/2 رحلة إلى بريطانيا لطلاب المدارس لمدة شهر تشمل الإعاشة والسكن والدراسة والزيارات، {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر:35] جريدة تنشر دعوة لأولاد المسلمين في المدارس المتوسطة والثانوية ليرحلوا إلى بريطانيا لمدة شهر يعيشوا مع أسر كافرة، ويسكنوا معها، ويدرسوا في مدارس النصارى، ويقوموا بالزيارات إلى معالم بلادهم.
وسابع أرسل إلي قصاصة من جريدة الشرق الأوسط في التاريخ نفسه 24/2 هو عبارة عن إعلان الفرصة الأخيرة للحصول على الإقامة والجنسية في كندا، إعلان للمسلمين أن بإمكانهم الحصول على جنسية في كندا وهي دولة نصرانية والإقامة هناك، وهناك كافة التسهيلات لهم.
ولا أذيع سراً إذا قلت لكم: إن المسلمين الذين يهربون من الفقر والمجاعة في الصومال -مثلاً- يذهبون إلى بلاد أوروبا، وأكثر من مليون مسلم صومالي مقيمون الآن في بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية والأمريكية، ويجدون هناك من وسائل الاستقبال والخدمة والتسهيل الشيء العظيم، فيسكنونهم هناك في إسكانات تضاهي الإسكانات الموجودة هنا، ويعطونهم راتباً يسمونه بدل بطالة، ويغرونهم بكافة الإغراءات للبقاء هناك، وأخذ الجنسية، والتزوج بالنصرانيات حتى يذوب هؤلاء في المجتمعات النصرانية.
وثامن بعث إلي قصاصة من شركة أطلس؛ حيث تقيم مهرجاناً رائعاً -كما تقول- تسميه المهرجان الحر، ويوافق ذلك يوم عيد الميلاد الذي يحتفل فيه النصارى، وهذا المهرجان هو للبنين والبنات.
وتاسع أرسل إلي قصاصة من صوت الكويت فيها إعلان عن حضانة اسمها حضانة المثنى تحت إشراف مدرسة الكويت الإنجليزية، والقائمون على هذه المدرسة هيئة بريطانية متخصصة لغتها الأم اللغة الإنجليزية من أجل حضانة أولاد وبنات المسلمين.
وعاشر بعث إلي بقصاصة من جريدة هندية تباع في أسواق المسلمين اسمها إنديان إكسبرس في 5/1/1413هـ تعلن هذه الجريدة عن أناجيل توزع مجاناً، وترسل بالبريد فقط ما عليك إلا أن ترسل عنوانك.
ولك أن تبكي أن الإعلام يملك أن يرخص لجريدة من هذا النوع، تعلن للمسلمين عن الأناجيل، وتعلن عناوين لمؤسسات في الولايات المتحدة وغيرها من الممكن أن تستقبل مراسلاتكم وترد عليكم، وتبعث لكم بالإنجيل مجاناً، ولكن قد يجد صعوبة في الترخيص لبعض المواد الإسلامية التي تقاوم النصارى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وآخر لفت نظري إلى موضوع التنصير في اليمن وأنني لم أتحدث عنه، وضرب مثالاً بجمعية أطباء بلا حدود والتي يطوف أعضاؤها الوديان والجبال في اليمن، ومن قبل نشرت جريدة المسلمون عن منصرة غربية تمكنت من تنصير عشرات الأسر في اليمن، وهناك تقارير خطيرة عن بعض المستشفيات التخصصية ودور المنصرين فيها، وتساهلهم في استقبال الحالات المرضية بل الحالات الخطيرة التي تأتي عن طريق الإسعاف وشتمهم للحجاب الشرعي، وتضييقهم على المسلمين.
أيضاً هناك حركة جديدة اسمها أخوة نصرانية في نقط، يبدو من أوراقها أنها تشتغل في جامعة من أكبر الجامعات الموجودة في منطقة الجزيرة العربية، وفي التقرير موضوعات الدروس وأماكنها ومن يلقيها وأسئلة حول هذه الدروس، إضافة إلى تقرير وصلني عن الإذاعات التنصيرية في العالم والموجهة خصيصاً إلى الخليج والجزيرة العربية.
هناك تقرير صحفي نشرته مجلة التايمز خلال العام الفائت بعنوان (آفاق الأسقف الجديدة) وهو مهم جداً، ولولا ضيق الوقت لذكرته لكم، وهو يتحدث عن الجهود في المجالات الجديدة للنصارى في دول الاتحاد السوفيتي، ويوغسلافيا ودول البلطيق عموماً وفي أوروبا الشرقية ولعله يأتي له مناسبة في المستقبل إن شاء الله.
وهناك أيضاً تقرير آخر نشر في مجلة إسبانية اسمها فيدا نوفيا في العدد رقم 1721 عنوانه (ما أصعب أن يكون المرء نصرانياً في الجزيرة العربية) وخلاصة ما فيه هذا التقرير في كلام كثير جداً ربما يقارب عشرين صفحة من المعلومات المهمة فيه يقول: في الجزيرة يعيش أكثر من نصف مليون كاثوليكي وهذه إحصائية جديدة، أنا ذكرت لكم في المجلس السابق والذي قبله أن الإحصائية القديمة خمسين ألف، فتبينوا خلال سنوات عديدة تضاعف العدد إلى خمسمائة ألف، نصف مليون كاثوليكي دعك من البروتستانت والأرثوذكس، والكاثوليك فقط نصف مليون، منهم في دبي خمسين ألف، وفي أبو ظبي مثل هذا العدد، وثلاثمائة وثمانون ألف منهم في منطقة الجزيرة العربية غالبهم من الفلبينيين والكوريين، ويوجد عدد منهم في مجال التقنيات المتقدمة.
هناك مسئول في الخليج هو مسئول عن المنطقة التي تضم الجزيرة والإمارات وقطر والبحرين واليمن، أنشط مجالات التنصير هو التعليم، فالمدارس الكاثوليكية فيها أكثر من إحدى عشر ألف وستمائة طالب، منهم -وهذا هو المحزن- خمسة آلاف من النصارى في مقابل سبعة آلاف من أولاد المسلمين يشكلون نسبة (61%) في هذه المدارس، ويقول التقرير أيضاً: في الماضي حتى عام 77م كان هنالك بحريني يزور منطقة الجزيرة العربية شهرياً لتفقد الجالية النصرانية، ويرخص له بتقديم الخدمات الدينية في البعثات الأمريكية وشركات متعددة، وكان هناك آخر من بيروت يزور منطقة أخرى في الجزيرة العربية لإقامة الشعائر الدينية في بعض السفارات في مدينة كانت مقراً للسفارات والقنصليات الأجنبية.
أما في عام 77م وما بعده فقد سمح لبعض القساوسة في إدارة الصلوات في بعض الشركات، وتقديم الخدمات الروحية للموظفين الكاثوليك في منطقة الجزيرة، وسرد مجموعة من القسس والجمعيات النصرانية التي كشفت في هذه البلاد، وتم ترحيل بعض العاملين فيها.(205/8)
اليقظة
ثانياً: أحدثت هذه المناقشات لدى العديد من الإخوة المستمعين؛ يقظة تجاه موضوع النصارى وهي أقل ما يجب، ومن أجمل البشريات أن بعض الإخوة في الخطوط الجوية في المنطقة الشرقية لاحظوا وجود طبيبة نصرانية هندية تعمل في عيادة الخطوط، واكتشفوا أنها تقوم بتوزيع نسخ من الإنجيل لبعض الموظفين، وتم القبض عليها والتحقيق معها، وقد اعترفت -والحمد لله- ونسأل الله أن تتسارع بقية الإجراءات في هذا الموضوع.
كما قامت مجموعات من الشباب ببعث رسائل مناصحة كثيرة لجهات عديدة يوجد فيها تسيب أخلاقي، أو يكون فيها وجود للنصارى، أو نشاط لهم.(205/9)
رسائل
أحد الإخوة كتب يستأذن في تفريغ تلك المحاضرات لتنقيحها وطباعتها، وآخر كان أسرع وأعجل، فبعث إلي بكتيب مطبوع بالآلة الكاتبة عنوانه (التنصير وخطره على العالم الإسلامي الجزء الأول) وهو خلاصة تلك المحاضرات السابقة، ويشمل أولاً: وسائل المنصرين، ثانياً: التنصير في العالم الإسلامي، وقد قام الأخ الكريم باختصار بعض الموضوعات، وقدمها بصورة جيدة فجزاه الله خيراً، وآخرون أيضاً اتصلوا في مثل هذا الموضوع.
عموماً: موضوع التنصير يحتاج إلى جهد مضاعف، والكتب موجودة، ولا أريد أن يكون البحث عن التنصير الذي قدمته مجرد تكرار لجهود الآخرين، فسأنتظر فيه بعض الوقت حتى ينضج أكثر؛ مع أنني أقدم وافر الدعاء للإخوة الذين قدموا هذا الموضوع أو فرغوه أو اختصروه فجزاهم الله تعالى خيراً، وهذا جزء من الجهد الذي أعتبره تشجيعاً للحديث عن هذه الموضوعات الخطيرة.(205/10)
وسائل مقاومة التنصير
النقطة الثالثة: وهي بيت القصيد، كيف نقاوم التنصير؟ إنني أدعو جميع الإخوة الفضلاء سواء الإخوة في الإعلام، أو الإخوة المستمعين إلى هذا الحديث، أو الإخوة في محلات التسجيل الإسلامية أن يسعوا إلى نشر هذا الكلام؛ لما فيه من توعية المسلمين بالدور الذي يمكن أن يقوموا به في مواجهة التنصير، وقد وصلتني مجموعة من الخطب والمقالات والاقتراحات؛ بل والكتب المتعلقة بهذا، وهو يدل على درجة الوعي المرتفعة لدى الإخوة المستمعين.
وصلتني رسالة عنوانها (صيحة نذير في مقاومة التنصير) كما وصلتني رسالة أخرى عنوانها: (خطة مقترحة لمحاربة النشاط التنصيري) فجزى الله تعالى أولئك الذين راسلوني خير الجزاء، وأمامي تسع وخمسون خطة لمقاومة التنصير، كاد أحد الإخوة أن يفسد علي الرقم؛ لأنه بعث إلي الآن بقصاصة فيها خطة يمكن أن تعتبر خطة جديدة، ولكنني سوف أدخلها ضمن أحد الأرقام ليبقى الرقم شاغراً كما أسلفت.
وتسع وخمسون خطة تتطلب ألا يأخذ الحديث عن كل واحدة منها أكثر من دقيقة فأستعين بالله تعالى:(205/11)
الأشرطة السمعية
إعداد أشرطة سمعية لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ويكون إعداد هذه الأشرطة بأسلوب جذاب بالعربية أولاً، ثم يترجم إلى لغات أخرى، مع مراعاة حسن الصوت، واستخدام المؤثرات الصوتية المقبولة، والسعي لتوزيع هذه الأشرطة بكميات كبيرة لدى غير المسلمين وفي جميع البلاد.(205/12)
أصحاب اللغة الإنجليزية
على من يجيدون اللغة الإنجليزية مسئولية كبيرة؛ خاصة في إبراز الجوانب المهمة التي ينبغي أن يعرف بها غير المسلمين، وإدارة الحوارات والمناقشات بكل مناسبة معهم، ومجادلتهم بالتي هي أحسن كما قال الله عز وجل {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] .(205/13)
إيجاد مكاتب للاستقدام
إيجاد مكاتب للاستقدام تحرص على التزام الشروط الإسلامية، فلا تستقدم إلا المسلمين ولا تستقدم النصارى، وتحرص على اختيار الأفضل والأتقى والأدين، ولا تستقدم أي حالة تكون مخالفة للشرع.(205/14)
هيئات ذات طابع شمولي
إنشاء الهيئات والجمعيات ذات الطابع الشمولي في الدعوة إلى الله تعالى، ومقاومة التنصير، وسوف أذكر نماذج لهذه الهيئات والجمعيات.(205/15)
محاربة العادات النصرانية
محاربة العادات النصرانية في الأعياد والمناسبات والزواج واللباس والشعارات وغيرها.(205/16)
الدعاء
الدعاء، أن ندعو الله تعالى دائماً وأبداً في كل عمل نقوم به من الأعمال الخيرية أن يكلله الله تعال بالنجاح {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة} ويقول: {من لم يسأل الله يغضب عليه} ويؤسفني أيها الأحبة أن أقول لكم: إن دين الإسلام هو الدين الذي ربط الإنسان بأن يسأل الله تعالى بدون واسطة، فلا يجوز أن تجعل بينك وبين الله وسيط في الدعاء، بل تسأل الله تعالى مباشرة (يا رب أسألك الجنة وأعوذ بك من النار) أو تسأل الله كل ما أهمك من أمر دينك ودنياك، ومع ذلك تجد تقصيراً كبيراً من المسلمين في أمر الدعاء.
أما النصارى فعلى رغم أن دينهم يجعل هناك وسائط بين الناس وبين الله، ويجعل هؤلاء القسس الذين يعترف الإنسان أمامهم؛ إلا أنني لاحظت من خلال تصفحي لكتب كثيرة من كتب التنصير أنهم يوصون المنصر بأن يكثر من الدعاء في كل عمل، وفي كل حركة يدعو للمسلم ويصبر عليه ويدعو الله بالتوفيق، بل إنهم يوصون بعضهم بعضاً من خلال المراسلات بالدعاء، وربما قرأت عليكم في المجلس السابق شيئاً يسيراً من ذلك.(205/17)
إخراج غير المسلمين من البلاد المقدسة
يجب إخراج جميع النصارى واليهود وغير المسلمين من البلاد المقدسة، فلا يكونون في العمل لا في الصحة، ولا في غيرها إلا المسلمين، وفي المسلمين غنية وكفاية والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] .(205/18)
الحذر من السفارات الأجنبية ومدارسها
التنبيه والحذر من الدور الذي تقوم به السفارات الأجنبية ومدارسها في الاتصال بالمواطنين، أو مراسلتهم، أو مهاتفتهم، أو إشراكهم في نشاطاتها، وينبغي أن يكون هنالك رقابة عليها، وتحديد لمجالات عملها، ومنعها من الاتصال بالمواطنين.(205/19)
العناية بالعمال المسلمين
العناية بالعمال المسلمين الموجودين هنا وفي كل بلد إسلامي؛ في تعليمهم ورعايتهم ورفع الظلم الذي يقع عليهم من قبل مكفوليهم مثل: تأخير الرواتب والمضايقة وإسكانهم في أماكن غير لائقة، بل ينبغي أن يكون هدفنا رفع الظلم عن جميع من يكون موجوداً هنا، إنها الفرصة التي يستغلها النصارى لمد يد العون للضعفاء، فهم يعتبرون أن الأوضاع السيئة للعمال والضعفاء فرصة لا تعوض لدعوتهم إلى النصرانية، وتحقيق ما يحتاجون إليه، فينبغي أن نسبقهم مع أن الدين الإسلامي أصلاً يوجب علينا أن نرفع الظلم عن المظلومين، فالمسلم نصير المظلوم حيث كان وأياً كان.(205/20)
إبراز قصص من أسلم
إبراز قصص بعض النصارى الذين أسلموا، مثل كتاب لماذا أسلم هؤلاء؟ أو كتاب رجال ونساء أسلموا وهو عبارة عن أجزاء، مثلما يسعى النصارى إلى تزوير أسماء بعض الناس وتصوير أنهم كانوا مسلمين ثم تنصروا بعد ذلك؛ لأن هذا يحدث أثراً نفسياً كبيراً لدى أصحاب الدين السابق.
فينبغي أن نشهر ونعلن أسماء النصارى الذين أسلموا من خلال الكتابات، ومن خلال تقديمهم للناس، ولكن ينبغي ألا نبالغ في هذا الإشهار والإظهار حتى يضر بهؤلاء المسلمين أنفسهم، وأن نعطيهم القياد ونسلم إليهم الزمام؛ فقد يوجد عندهم لوثات وتأثرات وآثار من ماضيهم، وقد نجني عليهم حينما نسلط عليهم الأضواء كثيراً، فنتسبب في بعض الأمراض والآفات التي تصيبهم، فينبغي أن يكون هناك قدر من الاعتدال في هذا الأمر.(205/21)
العناية بالمناطق النائية
العناية بالمناطق النائية كالقرى والهجر، ومثلها الدول البعيدة عن مراكز العلم، وينبغي أن يكون هناك تضحية في هذا السبيل كما نضحي من أجل زيادة الراتب مثلاً، إنني أعرف مجموعة من الشباب رضوا أن يجلس الواحد منهم في منطقة نائية لا يوجد فيها كهرباء، ولا تكييف ولا خدمات رغبة في أن يكون مدرساً، ويقبل راتباً كبيراً، فلماذا لا نضحي من أجل الدين كما نضحي من أجل الدنيا؛ على الأقل ينبغي أن نصبر إذا عيينا هناك، ولا نستعجل في المجيء إلى أهلينا، ويكون لنا دور في توعية المسلمين ودعوتهم وإصلاح أوضاعهم.(205/22)
مناظرة قساوسة النصارى
أسلوب المناظرة خاصة للراسخين في العلم مع قساوسة النصارى، وينبغي أن يكون هذا الأسلوب مضبوطاً بضوابط تضمن الاستفادة منه وتجنب سلبياته.(205/23)
دعم المسلمين الذين يحاربون النصارى
دعم المسلمين الذين يحاربون النصارى؛ مثلما نجد اليوم حرب المسلمين ضد النصارى في السودان، أو حرب المسلمين ضد النصارى في الفلبين، وأخطر من ذلك كله حرب المسلمين ضد النصارى في البوسنة والهرسك، فلا بد من دعم قوي للمسلمين بكافة وسائل الدعم، من الدعم المالي لهم، والدعم الإغاثي، والدعم الإنساني، ولكن هناك دعم آخر يجب أن يتفطن له ألا وهو دعمهم بدعوتهم إلى الله تعالى، فإنهم لن ينتصروا بالبندقية وحدها، بل ينتصروا بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآية} [غافر:51] {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] فلماذا لا يقوم أعداد من الشباب المؤهلين في الذهاب إلى المسلمين في يوغسلافيا -مثلاً- ويدعونهم إلى الله، ويعلمونهم العقيدة الصحيحة، ويربونهم على الأخلاق الفاضلة ويساعدونهم على الأمور التي يحتاجون إليها.
وإنني أود أن أقول بهذه المناسبة: إنني يمكن أن أستقبل اسم أي شاب يرغب في المشاركة في هذا العمل، كما أن من الممكن أن يسجل اسمه لدى مكتب الدعوة، أو لدى بعض الإخوة الذين لديهم جهود في هذا المجال كالشيخ صالح السلطان أو غيره من الإخوان؛ حتى يمكن تنظيم هؤلاء الشباب، ومعرفة من يناسب منهم لهذا العمل، وتزويدهم ببعض الوصايا والنصائح والملاحظات؛ ليقوموا بدور الدعوة إلى الله تعالى في أوساط إخوانهم المسلمين هناك، ولعل كما قيل: (رب ضارة نافعة) لعل ما لقيه إخواننا المسلمون هناك من النصارى يكون سبباً في التفاتنا إليهم، ودعوتنا لهم، وتصحيحنا لأوضاعهم الأخلاقية والدينية والعقائدية وغيرها.(205/24)
دعاة متخصصون في دراسة النصرانية
تخريج فريق من الدعاة، بل فرق من الدعاة المتخصصين في دراسة النصرانية والتعامل مع المنتسبين إليها، ودراسة وثائقها، ويمكن أن يتولى هذا العمل الجليل معهد للتبشير الإسلامي يقوم عليه بعض الدعاة، ويكون هذا المعهد عبارة عن أقسام: قسم لإخراج وإعداد الدعاة من الرجال، وقسم لإعداد الداعيات من النساء، وقسم لدراسة التنصير وإعداد الخطط والإحصائيات المتعلقة به إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج إليها.(205/25)
بذل النصيحة
النصيحة لكل من يلحظ عليه شيء من التساهل أو التقصير أو التفريط في ذلك، أو يظن أنه قد وقع في شراك المنصرين، أو يكون قد استقدمهم لعمل أو وظيفة أو خبرة أو غير ذلك، وبذل الجهد في إقناعه بإبعادهم واستقدام مسلمين بديلاً عن هؤلاء، وينبغي أن تكون النصيحة بالكلمة الطيبة والزيارة، والكتيب والشريط وغير ذلك من وسائل الإقناع، وعدم اليأس من ذلك.(205/26)
مقاطعة النشاطات المخالفة للشرع
مقاطعة جميع النشاطات المخالفة للشرع، سواء كان وراءها النصارى أو غيرهم؛ مثل المدارس الأجنبية والمؤسسات المشبوهة وبيوت الربا والإعلام الفاسد، كأشرطة الفيديو، والبث المباشر، والصحف المنحرفة وغير ذلك.(205/27)
الولوج إلى التخصصات العلمية المختلفة
الولوج إلى التخصصات العلمية المختلفة، ووجود متخصصين من الشباب في كل هذه الأمور، فلن تكون أمور الأمة بخير ما دامت الخبرة التي تحتاجها يملكها عدوها، وليس في عقول المسلمين نقص -والحمد لله- عن غيرهم، بل هم رواد الحضارة في فترة من فترات التاريخ، فينبغي أن يبادر أصحاب القدرات والخبرات والإمكانيات إلى التخصصات والدراسات العلمية الجادة، ويسعوا إلى اكتشاف أسرار التقنية ونقلها إلى بلاد المسلمين؛ ليتم الاستغناء عن الخبراء من اليهود والنصارى وغيرهم.(205/28)
رعاية الشباب
العناية برعاية الشباب، ومؤسساتها المختلفة ونواديها ومخيماتها ونشاطاتها، وحمايتها من البلاء الذي يهددها، وحماية الشباب من السفر إلى الخارج للرياضة أو اللعب أو حضور المخيمات أو المعسكرات التي تقام هناك، وإبعاد اللاعبين الأجانب عن النوادي الرياضية، ومثله أيضاً إبعاد المدربين الأجانب، والحرص على تصحيح الأوضاع التي تتعلق بتربية الشباب وإعدادهم وإصلاحهم.
كما أنه ينبغي التنبيه إلى خطورة النشاط التنصيري في مجال الرياضة، من خلال الدورات الرياضية التي تقام في كل مكان -كما سبق أن نوهت إلى ذلك- ومن خلال اللاعبين الذين يستقدمون بعشرات الآلاف من الريالات ومن خلال المدربين.(205/29)
حماية الشباب من الاختلاط
حماية الشباب من الاختلاط بغير المسلمين، ومنعهم من السفر إلى بلادهم أو الاتصال بهم، وحفظ عقائدهم وأخلاقهم، ومنع الإعلام وخاصة الصحافة من نشر الإعلانات الدعائية، كما يجب منع الخطوط الجوية من الدعاية للسياحة في الخارج، وإعلان أسماء وعناوين الفنادق وأماكن اللهو والقمار والفساد في العالم، ومطالبتها بالإعلان عن المراكز الإسلامية والجمعيات والمساجد وأماكن الإصلاح.
وينبغي في مقابل ذلك تشجيع السفر من قبل الموثوقين للدعوة إلى الله، والتعليم، وغير ذلك من المصالح العلمية أو العملية التي تحتاجها الأمة في كل بلد من بلادها.(205/30)
إصلاح مناهج التعليم
إصلاح مناهج التعليم بما يضمن تخرج الطالب المؤمن الموحد المدرك لصديقه من عدوه، المرتبط بإسلامه وتاريخه ومجتمعه، الموقن بعقيدة الولاء والبراء، المحب للمؤمنين، المبغض لاليهود والنصارى والمشركين، إنه لا يخدم الأجيال شيئاً أن تلغى عنهم مثلاً الحروب الصليبية، أو تحذف كلمة العدو الصهيوني، أو تغيب عنهم عبارة الجهاد الإسلامي، وهذا إن حدث فهو تأكيد على أن المدارس الرسمية لا تخدم قضايا الأمة، ولا تمثل منهجها الصحيح، وهو انشطار خطير في المجتمع.
ويجب أن يكون لنا جميعاً دور كبير في إصلاح المناهج، وبناء النشء وتصحيح الأوضاع بقدر المستطاع خاصة من لهم صلة بعملية التعليم، من الأساتذة والموجهين والمدراء والمسئولين وغيرهم في جميع البلاد الإسلامية.(205/31)
النزول إلى الميدان
النزول إلى الميدان وعدم الهروب، إن مجرد الكلام عن فساد هذا الجهاز أو ذاك، أو هذه الشركة أو تلك لا يحقق شيئاً كبيراً، وهو ذاته لم يكن ليتم لولا وجود عناصر متدينة غيورة ترفض المنكر وتحاربه داخل تلك الأجهزة، ولهذا يجب أن يوجد في المستشفيات والإدارات المختلفة والشركات والمؤسسات من الصالحين من تقوم بهم الكفاية في مقاومة المنكر ونشر الدعوة والمعروف، وأن يبذلوا كل ما يستطيعون في الدعوة إلى الله تعالى وإصلاح الأحوال، فإن مجرد الشكوى لا تكفي.(205/32)
الحذر من التيارات العلمانية والحداثية
الحذر من التيارات العلمانية والتيارات الحداثية التي هي في حقيقتها الوجه الفكري والأدبي للتنصير، أو على أقل الأحوال هي إحدى الحلفاء التاريخيين للنصرانية، لقد فاتني في المجلس السابق أن أذكر لكم في محاضرة (صانعو الخيام) أن المحور السابع للتنصير هو حرب الصحوة الإسلامية بالتحالف مع العلمانيين، وإليك هذا الخبر: في 1/6/83م نشرت وكالة كونا وكالة الأنباء الكويتية هذا الخبر، قال النائب في مجلس النواب اللبناني واسمه خاتشيك بامكيان: إنه لمس في الكويت عطفاً خاصاً على قضايا لبنان، واستطرد يقول: كان الهدف من الزيارة إلى الكويت زيارة الجاليات، وتأمين الارتباط بين الكنائس والعلمانيين في منطقة الخليج العربي، إن هؤلاء العلمانيين هم أولاً خريجي المدارس الأجنبية، سواء في بلاد المسلمين أو في جامعات الغرب، وهم ثانياً كالنصارى يتشدقون بالوحدة الوطنية التي تجمع المسلم إلى اليهودي إلى النصراني، خاصة حين يكونون يمثلون أقلية في أحد البلاد.
وهم أيضاً يتحدثون عن الحرية الشخصية، وتطوير البلاد الإسلامية على النمط الغربي، وإذا كان النصارى يتحالفون مع الجميع فإن أفضل حليف لهم هم العلمانيون الذين فقدوا الغيرة الدينية والنخوة الإسلامية، والحداثيون الذين يدعون إلى التغيير الدائم المستمر، وعلى أقل الأحوال فإن هناك عدواً مشتركاً للنصارى وللعلمانيين وللحداثيين هو الإسلام والصحوة الإسلامية، وهم يتجمعون في مواجهة هذا الخطر المشترك.(205/33)
القضاء العاجل على بوادر التنصير المكتشفة
الحسم الصارم والقضاء العاجل على أي بادرة تنصيرية يتم اكتشافها، إنني لا أرى بحال من الأحوال التسامح مع القسس والرهبان الذين يكتشفون بحجة الرغبة في إسلامهم أو هدايتهم، خاصة إذا كانوا من أصحاب الخبرات العالية كالأطباء والمهندسين ونحوهم؛ لأن هؤلاء كثيراً ما يتسترون بالإسلام إذا ضاق عليهم الأمر، وكشفوا وفضحوا، أو كان لهم هدف.
الكثيرون منا يعرفون اليوم ما مدى صحة إسلام نابليون بونابرت الذي كان يخاطب المسلمين فيقول: من عبد الله نابليون بونابرت إلى من يليه من إخوانه المسلمين، والكثيرون أيضاً يشككون في مدى صدق إسلام سان جون فيلبي الذي جاء إلى هذه البلاد وقام بدور وسمى نفسه عبد الله تنبي، والكثيرون يتساءلون عن شكسبير وما مصيره، وكثير من الرحالة الغربيين الذين جاءوا إلى هذه البلاد، ولاحظوا تمسك أهلها بالدين وقوتهم في الحق وحماسهم له؛ أعلنوا إسلامهم حتى يتمكنوا من البقاء بين المسلمين ودخول البلد الحرام وغير ذلك، بل إن الجاسوسية تعتمد في أحيان كثيرة على مثل هؤلاء الذين يظهرون الإسلام.
إننا يجب أن نشرد بكل من نكتشف أنه يدعو للنصرانية في بلاد الإسلام، يجب أن نشرد بهم من خلفهم ونجعلهم عبرة لغيرهم، ونجعل الأسلوب الحاسم القوي يجعل الآخرين يكفون عن نشاطهم التنصيري المعادي للإسلام.(205/34)
تحصين الشباب المسافرين إلى الخارج
تحصين الشباب المسافرين إلى الخارج من مخاطر التنصير، سواء كانوا مسافرين للدراسة أو العمل أو غير ذلك، ويكون التحصين بأمرين: الأول: العلم الصحيح الشرعي الذي يقاومون به الشبهات.
والثاني: الدين والورع والخوف من الله عز وجل الذي يقاومون به المغريات والشهوات، ولا بد من تزويدهم بالمعلومات الكافية عن مخططات النصارى وأهدافهم، وتعميق الأهداف الإسلامية لديهم ليعودوا أوفياء لدينهم وأمتهم مخلصين لما ذهبوا من أجله.(205/35)
تغطية نفقات الدعوة
المساهمة الفعالة في تغطية نفقات الدعوة إلى الله تعالى وتكاليفها من قبل أثرياء المسلمين، إنني أتعجب حين أرى المشاعر تتفاعل أحياناً مع مشكلة شخصية، يعرضها متسول أمام المصلين وقد يكون صادقاً أو كاذباً، ولا أرى المشاعر ذاتها مع مأساة أمة بأكملها تحارب في دينها وفي عقيدتها بل في طعامها وشرابها ولباسها.
إنني أتعجب أيضاً من التسارع في عمليات الإغاثة -وهو مطلب حميد سديد، ونحن بحمد الله ممن يساهم فيه ويدعو إليه- ولكننا لا نرى تسارعاً مشابهاً أو مماثلاً في دعم المشاريع الدعوية التي هي خير وأبقى، وأنفع في العاجل والآجل.(205/36)
كوكبة من الدعاة الرحالين
ضرورة وجود كوكبة من الدعاة المخلصين المتفرغين الذين لا همَّ لهم إلا جوب آفاق البلاد الإسلامية طولاً وعرضاً رحالون؛ مهمتهم معرفة أحوال المسلمين، ومعرفة ما يحتاجونه وما يهددهم ودعوتهم إلى الله تعالى، وهم قادرون بإذن الله على رسم سبل العلاج والمساهمة فيها.
إنه ليس يجوز أن تظل الدعوة إلى الله تعالى هماً ثانوياً لبعض الدعاة، يفكر فيها الواحد سويعة من يومه وليلته؛ وبعدما رجع إلى البيت مكدوداً مهموماً من أعباء العمل والوظيفية الرسمية التي استهلكت طاقته، وجد أن المشاكل البيتية تنتظره وتأخذ أكثر وقته، فربما فرغ لدعوته إن كان مجتهداً ساعة من اليوم والليلة.
وقولوا لي بالله عليكم: من منا الذي يفرغ من يومه وليلته ساعة للدعوة إلى الله تعالى؟ لكن حتى هذا لو حصل فإنه لا يكفي، بل يجب أن يوجد دعاة مخلصون متفرغون لأمر الدعوة، متفرغون من كل شيء، وينبغي أن يسعى المسلمون إلى توفير المرتبات الكافية لهؤلاء؛ ليقوموا بمهمتهم وهم آمنون مطمئنون.(205/37)
رسم المناهج المناسبة لدعوة غير المسلمين
رسم المناهج المناسبة لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام التي تعتمد على معرفة أكاذيب النصرانية، وتناقضات ما يسمى عندهم بالكتاب المقدس، وتقيم الأدلة على أن الإسلام ناسخ للأديان كلها، وأن الإسلام يوجب على أتباعه الإيمان بموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] وتزود هؤلاء الدعاة بالأجوبة الصحيحة عن شبهات النصارى واحتيالاتهم الفكرية.(205/38)
إصدار الفتاوى في حكم استقدام النصارى
إصدار الفتاوى الصريحة والواضحة في حكم استقدام النصارى على كافة الأصعدة، الصعيد الاجتماعي هل يجوز أن نستقدم النصرانيات كخادمات مثلاً أو ممرضات أو خبيرات اجتماعيات؟ وعلى الصعيد الصحي: كأطباء أو فنيين أو ممرضين؟ وعلى الصعيد الأمني والصعيد الاقتصادي والصعيد العسكري وحكم الثقة بالنصارى!! وحكم تمكينهم من ممارسة نشاطهم وعملهم؛ أو إعانتهم على إخواننا المسلمين بأي لون من ألوان الإعانة والمساعدة.(205/39)
مواجهة السفن الجاثمة في منطقة الخليج العربي
منع السفن العائمة الجاثمة في منطقة الخليج العربي، والتي تمارس ألواناً من التنصير، والبث التلفازي، وتوزيع الكتب والمجلات والصلبان، وإقامة المعارض، ومعالجة المرضى، وتنظيم الحفلات الراقصة الماجنة، وهي تعرض أحياناً فيها السخرية بالدين وأهله، وقد اطلعت على تقرير يكشف عن إحدى هذه السفن قامت بنشر فيلم يسخر من المسلمين ومن صلاة المسلمين، في قيامهم وقعودهم وركوعهم وسجودهم، وهو موجه إلى المسلمين في منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية.(205/40)
معاملة النشاط التنصيري كأصحاب الجرائم
معاملة النشاط التنصيري في العالم الإسلامي كله كما يعامل مروجو البضائع الفاسدة والمواد المحرمة، والمخدرات، والمبادئ غير المرغوب فيها أمنياً أو اجتماعياً.
إننا نعلم أن أي بلد إسلامي لو اكتشف شبكة للتجسس، أو وكراً للمخابرات لدولة أجنبية لقام بإعداد الملفات المطولة عنه، وحقق معه تحقيقاً دقيقاً وقام بترحيل هؤلاء سريعاً، وربما سجنوا أزمنة طويلة، وربما ساءت العلاقات مع ذلك البلد بسبب هذا العمل العدائي، وأخطر من ذلك لو كشف بلد إسلامي منظمة أو خلية تسعى إلى التخريب والتفجير في أي بلد من البلاد، فلماذا لا نعتبر أن هؤلاء النصارى هم فعلاً دعاة إلى التخريب والتفجير في البلاد الإسلامية، وهم فعلاً عبارة عن جواسيس وطوابير للبلاد الغربية وأجهزة المخابرات الأجنبية؟(205/41)
منع الشركات الأجنبية من الدعوة لأعيادهم
منع الشركات الأجنبية من الدعوة إلى أعياد الميلاد، أو أعياد الشكر، أو الهلويين، أو القيامة، أو الحب، أو غيرها من أعياد النصارى، أو الأعياد الشركية، أو البدعية، والرقابة الصارمة عليها، والسعي لتقليص عدد النصارى فيها بكل وسيلة وإحلال المسلمين محلهم.(205/42)
التيقظ للنشاط الماروني
التيقظ للنشاط الماروني التجاري والإداري، إن الموارنة اللبنانيين من أكثر النصارى تلطفاً ونعومة ولباقة، وقد اتضح أن لهم نشاطاً واسعاً من خلال وجودهم في الشركات والمطاعم والمتاجر، وكثيراً ما يشتغلون كمدراء لأعمال بعض التجار، وكبار المسؤولين، وقد نشطوا في ترتيب وإدارة عمليات البغاء والاستفادة من الأعداد الكبيرة من الممرضات والمضيفات في الخطوط وغيرها.(205/43)
مراكز التوعية للنساء
إنشاء مراكز للتوعية الإسلامية للنساء، ودعوة النساء غير المسلمات إلى الإسلام، وتقوم على هذه المراكز بعض الأخوات المحتسبات، وتنشط في أوساط الممرضات والمضيفات وغيرهن، إنني أعلم أن إحدى الجمعيات النسائية اعتذرت عن إقامة ندوة أو محاضرة للتعريف بالإسلام في أوساط الجاليات من النساء غير المسلمات؛ بحجة أن هذا العمل المسئولة عنه جهات أخرى، وكأننا أصبحنا نخجل من إظهار ديننا أو الدعوة إليه، على حين يجاهرون هم بدينهم في بلادنا، ويغزوننا في عقر دارنا، فنشكو إلى الله تعالى قوتهم وضعفنا، وشجاعتهم وجبننا، وإقدامهم وتراجعنا.(205/44)
منع إنشاء مدارس أجنبية
منع إنشاء مدارس أجنبية في بلاد الإسلام، وفي حالة افتتاحها فيجب إخضاعها للرقابة المباشرة الصارمة والإشراف المستمر من الجهات التعليمية، والحيلولة دون دخول أولاد المسلمين إلى تلك المدارس، ومنع تلك المدارس والقائمين عليها من كل ما يخالف الإسلام، كالرقص والاختلاط والملابس الفاضحة والاحتفال بالأعياد البدعية والشركية، وضرورة تخصيص دروس في هذه المدارس للإسلام يتولاها الأكفاء، ويقومون بدعوة الأولاد إلى الإسلام، ويجب أن يتتبع أي نشاط من هذا القبيل، وتعرف ما هي المناهج، وما هي الكتب التي تدرس في هذه المدارس، وماذا يجري في داخل هذه المباني.(205/45)
مقاومةالبث الإعلامي التنصيري
يجب مقاومة البث الإعلامي التخريبي والتنصيري، لقد رأينا التشويش على إذاعات كثيرة ذات توجه سياسي مخالف، ورأينا أنه أفلح وبذلت فيه جهود كبيرة، فلماذا لا نشوش أيضاً على تلك الإذاعات التنصيرية التي تسعى إلى تغيير عقول المسلمين؟ ولماذا لا نمنع استيراد وبيع وتصنيع تلك الأطباق التي تستقبل البث المباشر، والتي رأيناها انتشرت في جميع بلاد المسلمين، ولم أكن أتصور أنها تنتشر في هذا البلد المبارك بهذه السرعة، فقد وصلتني معلومات تدل على أنه يوجد الآن ما يزيد على عشرين بيتاً ركبت فيها دشوش تستقبل البث المباشر، وهذا يذكرنا بواجب النصيحة من قبل الجيران وجماعة المسجد والأقارب وغيرهم.
لماذا لا يمنع استيرادها وبيعها وتصنيعها؟ بل لماذا تقوم بعض الجهات بملاحقة فتوى إمامنا الشيخ عبد العزيز بن باز التي بين فيها تحريم شراء أو استيراد أو تصنيع مثل هذه الأشياء؟ وتحقق مع من يقوم بتصوير هذه الفتوى أو ينشرها؟! إن هذا لشيء عجاب!! فتوى يقوم بإصدارها سماحة الشيخ عبد العزيز تحارب في بعض البلاد، ويمنع تصويرها أو تعليقها في المسجد، ويُحقَّق مع من صورها!! إنا لله وإنا إليه راجعون، ومثل ذلك منع بث المسلسلات التي تحمل أفكاراً تنصيرية، أو صلبان أو حفلات راقصة أو خمور في القنوات التلفزيونية، ومنع ذلك كله في الأفلام، أفلام الفيديو أيضاً.
إن إعلامنا يجب أن يكون أداة لخدمة الدين، والتمكين له في عقول الناس وقلوبهم وواقعهم وطاعة الله تعالى ورسوله {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] .(205/46)
لجان لمحاربة المنكرات والشعارات النصرانية
تشكيل لجان متخصصة لمحاربة المنكرات في كل بلد أو شركة أو حي أو مؤسسة، تحمل هذه اللجان على عاتقها محاربة أعياد النصارى، ومحاربة الشعارات النصرانية، وكسر الصلبان، ومحاربة البطاقات التي يهنئون بها في أعيادهم، أو البالونات التي تظهر فيها شعاراتهم أو غير ذلك، وتتعاون هذه اللجان الكثيرة مع الجهات المختصة في ذلك، ومع المحتسبين والأخيار والعلماء والدعاة.(205/47)
محاربة البضائع التنصيرية
محاربة أي بضاعة تمت إلى التنصير بصلة، أو تكون مبنية على فكرة تنصيرية كبعض لعب الأطفال، والأدوات المدرسية، والملابس فضلاً عن برامج الكمبيوتر والأشرطة والمواد التعليمية، وتشديد المراقبة عليها، ومثله تشديد المراقبة على الرسائل والطرود البريدية المشتبه فيها، وكلنا ينبغي أن نكون جنوداً في هذا الميدان.(205/48)
إبعاد العاملين النصارى
إبعاد جميع العاملين من النصارى عن بلاد الإسلام، من السائقين، والخدم، والممرضين، والموظفين، والصيادلة وغيرهم، خاصة تلك المهن التي يسهل وجود مسلمين فيها، ومثله السعي الجاد في توظيف المسلمين في الأعمال التي تتطلب خبرة عالية، وعدم تولية أحد من النصارى المسئولية على أحد من المسلمين، والحذر من السائقين والخدم في البيوت وغيرها ولا يسمح لها أن تقوم على رعاية الأطفال وتربيتهم، فتربيهم على عادات النصارى وتقاليدهم.
ولا بد أن يتناول هذا الموضوع من خلال خطب، وكتيبات، ومحاضرات، ومقالات، وأحاديث في المجالس، ومناقشات، ولا بد أن يصدر العلماء المعروفون الموثوقون رسائل وبيانات وفتاوى مع تزويدها بالحقائق والوثائق والمعلومات المؤثرة في الناس.(205/49)
المستشفيات الأهلية الخيرية
إنشاء المستشفيات الأهلية الخيرية، واستجلاب الأطباء والطبيبات المسلمين، والممرضين والفنيين وغيرها؛ لحماية المسلمين والمسلمات من خطر النصارى الذين يسعون إلى تحديد النسل أو تقليله، أو تعقيم المسلمات، أو الإساءة إلى بعض المرضى من المسلمين، كما ثبت لدينا ذلك في حالات عديدة.(205/50)
تسهيل مهمة الاتصال
تسهيل مهمة الاتصال بالعلماء والدعاة والمكاتب الإسلامية، ومكاتب الدعاة والعلماء وطلبة العلم، وكذلك المراكز الإسلامية، وذلك عن طريق نشر العناوين وأرقام الهواتف وأرقام الفاكس وغير ذلك، ونحن نجد اليوم أن كثيراً من المؤسسات كالخطوط الجوية مثلاً، أو المؤسسات التنصيرية أو غيرها تسعى إلى أسماء الفنادق وأرقامها وعناوينها لتسهيل مهمة الاتصال بها، أو تسعى إلى نشر أسماء الجامعات التنصيرية في أستراليا أو أوروبا أو أمريكا لدعوة الشباب إلى الاتصال بها، فلماذا لا يسعى المسلمون باستمرار إلى نشر أرقام وعناوين وهواتف وفاكسات المؤسسات الخيرية الإسلامية والمراكز والمكاتب والعلماء والدعاة وغيرهم في أنحاء العالم.(205/51)
المنح الجامعية
تيسير المنح الجامعية للطلاب المسلمين في الجامعات الإسلامية، مع الحرص على تأهيلهم ليعودوا دعاة إلى الله عز وجل، من خلال جهد دعوي مكثف، وليس أن يعودوا كما أتوا خلوا الوفاض إلا من الذكريات السيئة عن المعاملة التي ربما لقوها من البعض، أو أن يتحول بعضهم إلى متسكعين يطرقون الأبواب، ويريقون كرامتهم وماء وجوههم أمام فلان وفلان.
إن مما يؤسف له أن يفلح النصارى في استقدام أعداد كبيرة من أولاد المسلمين ويربوهم، بل وينفقوا عليهم على حساب الكنيسة، وأن يفلح الرافضة في استقطاب أعداد أخرى من أولاد أهل السنة على حين أن أهل السنة لا يستقبلون من هؤلاء إلا القليل، وحتى الحالات التي يستقبل فيها بعض هؤلاء الطلاب، فإنهم لا يلقون العناية اللازمة.(205/52)
صندوق خيري
إيجاد صندوق خيري للدعوة؛ هذا الصندوق عبارة عن أموال دعوية ليست حكراً على أحد، تبرعات تستثمر ويصرف ريعها لصالح المشاريع الإسلامية؛ لئلا تظل الدعوة مرهونة بالمحسن الكبير فلان، والمتبرع فلان الذين بذلوا وبذلوا وأكثروا، ولكن قد يعرض لهم من العوارض الدنيوية ما يوقف عطاءهم ولو لم يكن إلا الموت لكفى.
لقد رأينا مباني هائلة في نيويورك مخصصة لمجلس الكنائس العالمي تسير السيارة بجوارها أكثر من عشر دقائق أو ربع ساعة، فلماذا لا يكون ثمة مشاريع استثمارية للأعمال الإسلامية الدعوية الخيرية، ولماذا لا يكون هناك أموال مخصصة للدعوة والدعاة؟ ولماذا يظل الدعاة محتاجين إلى فلان وإلى العمل الفلاني؟ وإلى الوظيفة الفلانية؟ إننا لو تصورنا أن الحضور فقط -وهذا مجرد مثال- تخلى الواحد منهم عن ألف ريال على مدى شهر واحد لكان معنى ذلك أننا جمعنا مبالغ طائلة، فلو تصورنا أن هذه المبالغ بدلاً من أن تجمع لعمل إسلامي في بلد معين إغاثة أو مساعدة، أو دعم لمشروع جهادي؛ لو أنها جمعت وجعلت في مشروع خيري استثماري لكان هذا المبلغ يدر على مدار العام ربما أضعاف المبلغ الأصلي لتصرف في مجالات الخير وأعماله.(205/53)
العناية بالمسلمين الجدد
العناية الخاصة بالمسلمين الجدد، فإننا نجد النصارى يعتنون كثيراً بالذين دخلوا في دينهم حديثاً، ويشعرون بأن الداخل حديثاً في الدين يشعر بغربة لا بد من إزالتها.
ليست مهمتنا -أيها الإخوة- في أعمالنا ومكاتبنا ودعوتنا؛ ليست مهمتنا دعائية إعلانية، نحاول أن نكتب في الجرائد كل أسبوع عشرين فلبيني يشهرون إسلامهم ثم ينتهي دورنا عند هذا الحد، أو ربما نكتفي بمجرد أن نقوم بعمل الختان الشرعي لهم في المستشفيات، لا، مهمتنا تبدأ من يوم أن دخل هذا الإنسان في الإسلام، فلا بد أن نحتضنه ونعلمه ونتلطف معه بحسن الخلق وندعوه إلى الله عز وجل، ونؤلف قلبه على الخير، ونعمل على الاتصال به بالهدية، بالكلمة الطيبة، بالزيارة، بالدعوة، والعزيمة، والمناسبة، ومحاولة تعميق الإسلام في قلبه، كيف نتوقع أن يثبت هذا الإنسان على الإسلام، وهو في بلاد التوحيد يلقى السخرية، ويلقى العجرفة من بعض رؤسائه، ويلقى المضايقة أحياناً حتى في بيئات إسلامية، وقد يضطر إلى ترك عمله كما سبق بسبب المضايقة، فكيف نتوقع أن يصبر على دينه.
إنني أقول لكم من واقع صلة قوية بأعداد ممن أعلنوا إسلامهم؛ أقول: إن أكثر هؤلاء لا يعرف مصيرهم، ولا ينبغي أن نكتفي بالإعلان في الصحف الذي يهيج القسس والرهبان ويؤججهم ويحرضهم، فيقولون: انظروا إلى المسلمين كيف أسلموا، وكيف فعلوا في الوقت الذي لم نستفد من هؤلاء إلا أقل القليل.(205/54)
التوعية على مستوى العامة
توعية المسلمين بخطر التنصير على مستوى العامة، ومن ذلك مثلاً: إعداد الخطب عن طرق نشر التنصير بين المسلمين ووسائله الجديدة التي يمكن أن تتسلل إلى الناس وهم لا يشعرون.
ثانياً: إعداد مطويات مختصرة بلغات شتى عن التنصير وخطره، ومثلها مطويات أخرى عن النصرانية وأنها دين فاسد منسوخ محرف.
ثالثاً: دعوة بعض المهتمين بلقاء التنصير إلى لقاءات مع الطلاب، والمثقفين، وأساتذة الجامعات، ومع عامة المسلمين لبيان مخططات النصارى، ويضاف إلى ذلك إعداد المقالات والملاحق الصحفية عن هذا الموضوع.(205/55)
برامج كمبيوتر
تصميم وعمل برامج كمبيوتر على الشريط الممغنط؛ تتسم بالسهولة والوضوح والاعتماد على المنهج الشرعي الصحيح المبني على الكتاب والسنة، ونشر هذه البرامج في مجال الكمبيوتر عن طريق الشبكات الدولية للكمبيوتر.(205/56)
فتح شعبة في مكاتب الإفتاء لمواجهة التنصير
فتح شعبة أو إدارة خاصة في مكاتب الإفتاء لمواجهة التنصير في البلاد الإسلامية، ويمكن أن تستعين هذه الشعبة بالخبراء والمختصين، وبالذات أولئك الذين يجيدون لغات أخرى غير اللغة العربية، كما يمكن أن تساهم المؤسسات والجمعيات الرسمية وغير الرسمية في المبادرة لمثل هذا العمل، إننا أمام مجموعة من المؤسسات والهيئات الخيرية التي يمكن أن تفتح شعبة لمكافحة ومقاومة التنصير.(205/57)
المراسلة
أسلوب المراسلة، ويمكن أن تتولاه بعض المكاتب الخيرية، أو مكتب آخر يقوم بهذا العمل، أو بعض الجمعيات تقوم بالاتصال عبر البريد أو الفاكس، أو غيره من وسائل الاتصال المعاصرة مع فئات مستقبلين من الناس في أنحاء العالم، كما أن من السهل جداً أن يقوم أي واحد من الشباب العادي بمثل هذا الدور من خلال الحصول على أسماء وعناوين كثيرة في الصحف والمجلات والإذاعات وغيرها -وهي موجودة- ويمكن من خلالها مراسلة أصحاب هذه العناوين وهذه الأسماء، وتزويدهم بالكتب والأشرطة والكلمات النيرة ودعوتهم إلى الله تعالى.
وأحذر من أن يفكر بعض الشباب بمراسلة الفتيات اللاتي يعلن عن أسمائهن بهدف الدعوة، لا، دع الفتاة تدعوها فتاة أخرى متدينة، أما أنت فبإمكانك مراسلة الشباب الذين يعلنون عن عناوينهم ودعوتهم إلى الله تعالى، وتزويدهم بالكتب النافعة، وينبغي أن تراعي الوضوح والصدق فيما ترسله إلى هؤلاء الناس؛ فإن الغالب منهم يغلب عليهم الجهل وعدم المعرفة، فعليك أن تبدأ معهم من نقطة الصفر، وتدعوهم إلى الله تعالى وتزودهم بالكتب النيرة النافعة الواضحة المزودة بالأدلة الشرعية من القرآن والسنة.(205/58)
المكاتب الخيرية
ينبغي أن يكون لكل داعية مرموق، أو طالب علم موثوق مكتباً يعاونه فيه مجموعة من الشباب المخلصين، يتولى هذا المكتب مجموعة من الأعمال الخيرية والإغاثية والدعوية والعلمية، مثل كفالة مجموعة من الدعاة في الخارج، ولو عشرة في أي بلد إسلامي، كل داعية ربما يكفيه ما يعادل ألف ريال أو أقل من ذلك، فيكون عشرة دعاة بعشرة آلاف ريال شهرياً، ومن هو التاجر الذي لا يستطيع أن يوفر عشرة آلاف ريال لعشرة من الدعاة يكفلهم في أي بلد إسلامي ليقوموا بمهمة الدعوة إلى الله تعالى، ويتفرغوا لهذا العمل الجريء؛ مع الإشراف على هؤلاء الدعاة، وبعث من يطمئن على سلامة الأحوال، وتزويدهم بالكتب والنشرات والوسائل التي تجعل دعوتهم ناجحة.
كما أن من مهمة هذا المكتب المقترح تيسير طباعة بعض الكتب والكتيبات والنشرات المفيدة باللغة العربية وغيرها من اللغات الأخرى، كما أن من مهمته المشاركة في المشاريع الدعوية الأخرى بقدر الإمكان، إضافة إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين وتيسير أمر الزواج للعصمة من الشر والفساد والسفر إلى الخارج؛ وأنت تعرف أن الأسلوب السابق يمكن أن يساهم فيه كثير من الناس، فيمكن أن يكون مشاركاً في إعداد نشاط هذا المكتب أو ذاك والمشاركة في بعض أعماله.(205/59)
دور الأيتام والأرامل والعجزة
إنشاء دور الأيتام والأرامل والعجزة؛ لرعاية المسلمين كباراً وصغاراً من الأطفال والفقراء وحمايتهم من الأيدي التي تتخطفهم، ونحن اليوم نرى ونشاهد بأعيننا كيف أن المؤسسات التنصيرية تتزاحم على أولاد المسلمين في الصومال؛ حتى يسجلهم أهلوهم في تلك المؤسسات ويرحلوا بهم إلى فرنسا وبريطانيا وأمريكا حيث يربون هناك بالجمعيات النصرانية ليخرجوا في المستقبل قسساً ودعاة للنصرانية.
ونرى بأعيننا كيف أن أطفال المسلمين في البوسنة والهرسك يرحلون إلى بلاد العالم كلها، ليتم تربيتهم في الكنائس والمعابد، وتستقبل إسرائيل أعداداً منهم، ويستقبل العالم الغربي الكافر منهم خاصة مركز النصرانية في إيطاليا أعداداً غفيرة منهم، أما المسلمون فلا زالوا إلى اليوم لم يفعلوا شيئاً من ذلك.
ما الذي يمنع أن تقوم المؤسسات الإسلامية، ويقوم أهل المال والخير من المسلمين بإقامة معسكرات ومخيمات ضخمة لأطفال المسلمين في مناطق البوسنة والهرسك ذاتها ففيها مناطق آمنة، ويستقبل هؤلاء الأطفال ويربوهم تربية إسلامية في بلادهم، لماذا في بلادهم؟ لأننا نريد أن يظلوا في بلادهم، لا نريد أن يرحلوا عن بلادهم، حتى تفرغ لالنصارى الذين يريدون أن يطهروها من المسلمين؛ لأن ذلك يحقق جزءاً من هدف الصرب، ليبقى هؤلاء في بلادهم ويعودوا إليها، ويدافعوا عنها ويجاهدوا في سبيل الله تعالى في تلك البلاد.
والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: {أنا وكافل اليتيم في الجنة وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى} .(205/60)
التحرك في أوقات الأزمات
التحرك في أوقات الأزمات بصفة استثنائية لإغاثة المنكوبين من الكوارث، والتفريج عن الملهوفين وقطع الطريق على النصارى، أو على أقل قليل مزاحمة النصارى، لقد أقام النصارى كما يسمونها جسوراً جوية لإغاثة أبناء الإسلام، والغريب أننا نستمع البارحة إلى تقارير من منظمة حقوق الطفولة تنتقد بشدة الجهود التي تقوم بها الأمم المتحدة لإعانة المسلمين في الصومال، وتقول: إنها جهود متأخرة جداً وتدعوا إلى الرثاء، معنى ذلك أن النصارى يتسابقون بصورة محمومة وغريبة على المسلمين هناك، فأين المسلمون؟ أين المنظمات الإسلامية الإغاثية؟ وأين الجهود الإسلامية؟ وأين الأموال الإسلامية؟!!(205/61)
النشاط الإعلامي
توسيع النشاط الإعلامي الإسلامي عن طريق طباعة الكتب والأشرطة والكتيبات والنشرات بشتى اللغات، ولكافة الطبقات والمستويات، وفي جميع الموضوعات، بل وشراء واستئجار الإذاعات ومحطات الإذاعات، ومحطات التلفزة للتبشير بدين الإسلام، إنه ميدان سباق وتنافس رهيب بين الطوائف النصرانية اليوم، ويجب أن يدخل المسلمون حلبة السباق واثقين بالنصر؛ لأن معهم الله تعالى الذي لا يغلب جنده.
إن من المهم استخدام الوسائل الجذابة والمؤثرة، واستخدام الطرق الحديثة للإعلان لدعوة الناس إلى الإسلام.(205/62)
لجنة لدراسة موضوع التنصير
إيجاد لجنة أو جمعية لدراسة موضوع التنصير ومتابعته وإعداد الدراسات والتقارير بشأنه، وحفظ الوثائق المتعلقة به، وإصدار النشرات الدورية التي تلاحق كل جديد في هذا المجال، ويمكن لهذه اللجنة أو لهذه الجمعية أن تتولى أمر الدعوة إلى قيام مؤتمر إسلامي عالمي عام يناقش موضوع التنصير، ويكون دورياً سنوياً مثلاً، أو كل أربع أو خمس سنوات يناقش موضوع التنصير من جميع جوانبه، وتقدم فيه الدراسات والبحوث وتصدر منه التوصيات والاقتراحات.
كما أن من الممكن إعداد الرسائل الجامعية للماجستير والدكتوراه وما قبل ذلك عن التنصير وأهدافه وتاريخه وخططه والجديد فيه.(205/63)
المدارس الأهلية الخيرية
تأسيس المدارس الخيرية الأهلية التي تعنى بالتربية الإسلامية، وإعداد الأجيال إعداداً صحيحاً، وتخريج الدعاة إلى الله تعالى، مع العناية بالمستوى العلمي والأكاديمي التي تظهر به هذه المدارس.
إن من الملاحظ أن الكثير من أولاد الأكابر والمسئولين يذهبون إلى المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين؛ بحجة أن هذه المدارس أكثر كفاءة، وأنها تتوفر فيها من الوسائل التعليمية والمختبرات ووسائل الترفيه ما لا يتوفر في غيرها، وهذه الأمور ليست حكراً على طبقة بعينها، بل يمكن أن تتوفر في مدارس خيرية إسلامية أهلية تكون محاضن لأولاد المسلمين.(205/64)
مؤسسات خيرية
قيام مؤسسات طبية خيرية إسلامية تستثمر جهود الأطباء، وتقتطع من جهودهم ولو شيئاً يسيراً؛ لتطبيب المسلمين في كل مكان، ويصاحب ذلك جهد دعوي لعودتهم إلى الله تعالى، ودعوتهم إلى التوبة من الذنوب والمعاصي والآثام، إن دور الطبيب المسلم يجب أن يقوم حتى ولو كان دوراً فردياً، فلا يجوز أن ننتظر قيام تلك المؤسسات مع أنها يجب أن تقوم، إنما ينبغي أن يقوم الطبيب المسلم بدوره حتى لو كان دوره جهداً فردياً، ما هو الذي يمنع الطبيب المسلم أن يقضي إجازته السنوية في أحد البلاد الإسلامية يعالج المرضى ويعطيهم مع جرعة الدواء كلمة طيبة، ودعوة إلى الله عز وجل، وتذكيراً بوجوب طاعته، وتحذيراً من معصيته وبياناً لخطر اليهود والنصارى على المسلمين.(205/65)
المراكز الإسلامية
بناء المراكز الإسلامية في العالم، المراكز المتكاملة التي تحتوي على المساجد والمدارس والمكتبات إلى غير ذلك لتكون ملجئاً وملاذاً بعد الله تعالى -وبإذنه- للمسلمين سواء في بلادهم؛ البلاد الإسلامية أو في البلاد الغربية؛ حيث يلاقون محاولات شتى من التكفير والتذويب في المجتمعات الغربية الكافرة.(205/66)
حماية الشباب
بذل الجهود لحماية الشباب والفتيات من الغزو السلوكي المنحرف؛ المتمثل في وسائل الإعلام المتعددة والمتاحة، فلا بد من عمل دعوي جاد يكتسح تجمعات الشباب، ومجتمعات الفتيات، ويربطهم بالدين، ويحملهم مسئولية الدفاع عنه، ويكشف لهم حجم المؤامرة التي تحاك ضدهم.
إن من المجرب أنه حتى أولئك الشباب الذين قد يبدو عليهم شيء من التقصير في التزامهم بالإسلام عندما تحدثهم عن مسئوليتهم في الدعوة إلى الله، وعن الخطر الذي يهددهم، وعن الكيد الذي يقوم به النصارى أن قلوبهم تكون أكثر استعداداً للخير، وأكثر وعياً وإدراكاً للمسئولية، فلماذا لا نخاطب مثل هؤلاء الشباب بمثل هذا الحديث.
إن أمامك دوراً شخصياً ينتظرك في هذا المجال مع إخوانك، وقرابتك، وزملائك، ومع معارفك أن تدعوهم إلى الله عز وجل، وتحصنهم ضد الغزو المنحرف سواء كان غزواً تنصيرياً أو غزواً تخريبياً.(205/67)
العلم والتوعية
نشر العلم الشرعي الصحيح بين المسلمين وتوعيتهم بأمر دينهم عقيدة وأحكاماً وأخلاقاًَ وذلك لحمايتهم من التأثر بالآخرين، إنه لا مكان للوثات التنصير في العقول البصيرة، ولا في القلوب اليقظة، وإنما خطر المنصرين على الجهلة والغافلين، ولذلك ينبغي أن يرتب أمر توعية المسلمين ونشر الدعوة الصحيحة فيما بنيهم في كل مكان، وينبغي أن يكون هناك جهات كما سوف أتحدث تهتم بأمر ترتيب الرحلات للشباب الراغبين في دعوة المسلمين من خريجي الجامعات الشرعية، والمزودين بالعلم الصحيح؛ ليتسنى لهم قضاء الإجازات أو بعضها بين أوساط المسلمين في جميع البلاد ودعوتهم إلى الله عز وجل.(205/68)
الدعوة في أوساط النصارى
توسيع نشاط الدعوة إلى الله تعالى في أوساط النصارى من المقيمين في بلاد الإسلام وغيرهم، وإنشاء المكاتب المتخصصة لذلك لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، واستخدام كافة الأساليب المباحة الشرعية من طباعة الكتب باللغات المختلفة، ونسخ الأشرطة وإعداد الدعاة وتنظيم الدورات وغير ذلك، وهذا يحقق عدة أهداف: أولها: هداية من شاء الله تعالى هدايته منهم {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فكسب أشخاص جدد للإسلام أمر كبير.
ثانياً: إنه وسيلة فعالة لإحباط جهود النصارى.
ثالثا: إن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فهو يواجه الكيد التنصيري بوسائل مكافئة.
رابعاً: في ذلك فضح لأعمال المنصرين؛ لأن هؤلاء المسلمين الذين دخلوا في الإسلام حديثاً يعرفون بني قومهم وخططهم، وربما حضروا معهم في بعض الأعياد والمناسبات وغيرها؛ فيقومون بالتبليغ عنهم وكشف خططهم وأعمالهم.
إن من واجبنا جميعاً كأفراد فضلاً عن الواجب الجماعي أن نسعى إلى دعوة العمال والمناقشة معهم والتأثير عليهم، فما من إنسان منا إلا وقد احتك يوماً من الأيام بالعمال من غير المسلمين إلا ما ندر، فلماذا لا يجعل من احتكاكه معهم فرصة لدعوتهم للإسلام، وتشكيكهم في الأديان الباطلة التي يعتنقونها، وحثهم على التفكير على الأقل في قضية الدين، والبحث عن الدين الحق؛ لعل الله تعالى أن يهديهم إلى سواء السبيل وإلى الصراط المستقيم.(205/69)
اليقظة والمراقبة
اليقظة لنشاطات المنصرين وتكثيف المراقبة عليهم بشتى الوسائل، وتبليغ العلماء والمشايخ والمختصين بكل ما يكتشف من ذلك أو يرتاب في أمره، ويتحمل المسئولية العظمى في ذلك: أولاً: أولئك العاملون بجوار النصارى من المسلمين في المستشفيات والمؤسسات والشركات وغيرها، فهم أقدر على مراقبة زملائهم من غيرهم.
ثانياً: يتحمل المسئولية العظمى في ذلك بعض العاملين في المؤسسات التي تتعلق بالمراقبة، مثل: هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنها تستطيع أن تقوم بدور كبير في ذلك، إضافة إلى الجهات الأمنية وغيرها، ومما يتعلق بذلك في موضوع اليقظة لنشاط المنصرين إعداد الدروس والمحاضرات والكتب والنشرات عن نشاطهم التنصيري.(205/70)
نموذج لعمل المشاريع والهيئات الإسلامية
الآن أختم هذه التوصيات التسع والخمسين بنموذج لعمل المشاريع والهيئات الإسلامية التي يمكن أن تقدم.
من وسائل مقاومة التنصير كما ذكرت الدعوة إلى الله، والمطلوب في الدعوة هو العمل المؤسس الجماعي المنظم المدعوم بميزانيات موازية أو مقاربة مما هو بأيدي المنصرين، ولذا لابد من إنشاء عشرات المؤسسات والمنظمات والهيئات الخيرية والدعوية؛ التي تساهم في سد هذه الثغرة، ومقاومة التنصير الذي يتمدد في غيبة وفراغ الدعاة إلى الله، وهذا أنموذج مقترح لإحدى هذه المنظمات، نموذج متكامل ولكنه صغير.(205/71)
الخطوات الابتدائية لهذا العمل
1- قيام مجموعة من أساتذة الجامعات أو إحدى الجامعات بأخذ زمام المبادرة.
2- قيام هذه المجموعة بالاتصال بالعلماء والدعاة وأخذ المرئيات والبدء بالخطة التنفيذية.
3- قيام هذه المجموعة بالاتصال بالتجار والتقنيين وأخذ مرئياتهم ومدى استعدادهم، مع ملاحظة ما يلي: أولاً: وجوب تعاون هؤلاء المؤسسين من أهل الخير والبذل؛ حتى ولو كان هناك اختلافات لا تتعلق بالعمل وسبله.
ثانياً: الاستعانة بجهود المؤسسات والهيئات القائمة والموجودة في الساحة والسابقة في هذا المضمار.
ثالثاً: وضوح الأهداف والسبل من البداية، وألا نخادع أنفسنا بالتعويل على أشياء ليس لها مردود عملي جاد.
4- وضع مؤتمر أو ندوة في الداخل أو الخارج؛ لجمع المؤسسين أو من ينوب عنهم بإشهار هذه المؤسسة وإعلانها والموافقة على تكليف القائمين المباشرين لها، وتكليف مدير عام مؤسس لها.
5- وضع نظام إداري مرن وجيد يضمن عدم سيطرة جهة معينة على الهيئة، وعدم استبداد القائمين أو المباشرين عليها، وإيجاد نظام محاسبي دقيق لأقسامها الكبرى الاقتصادية لاستثمار الإغاثة في الدعوة.(205/72)
موجبات النجاح
بعون الله تعالى فإن أي عمل تتوفر فيه العوامل التالية فلا بد له من النجاح؛ ولا بد من الإشارة إلى أن أول هذه العوامل هو الإخلاص لله تعالى، وأن يكون المراد بهذا العمل وجه الله عز وجل لا غير، والبعد عن مناطق تأثير الأنظمة السياسية أو الحركات أو الجماعات المشبوهة.
ثانياً: تكوين لجنة عليا للإدارة والإشراف مكونة من العلماء الموثوقين والمعروفين عالمياً، ومن التجار وأصحاب رؤوس الأموال الصالحين، ومن أصحاب الخبرة العملية في الميادين الثلاثة السابقة.
ثالثاً: إيجاد مصادر دخل ثابتة من خلال تخصيص جزء من التبرعات للعمل الاقتصادي النافع للمسلمين والمدر للأرباح.
رابعاً: أن يكون المركز الرئيسي لهذه الهيئة في أحد البلاد الإسلامية، أو البلاد الغربية المعروفة بمرونة أنظمتها، وتوافر وسائل الاتصال فيها، وتوافر الكوادر الخيرة والعاملة في أنحاء البلاد الإسلامية.(205/73)
وسائل العمل
الوسيلة الأولى: التعليم: بافتتاح المدارس العربية والإسلامية العادية والراقية في الدول المحتاجة لحماية أبناء المسلمين، وإعداد الكوادر القادرة على المساهمة في الدعوة والإصلاح والإدارة في ذلك البلد، وذلك فيما يتعلق بالمدارس ما دون الثانوية، ثم ابتعاث النجباء من هؤلاء الطلاب إلى الجامعات الإسلامية المقامة في أنحاء الأرض، أو افتتاح جامعة أو أكثر في الدول الغربية ما دام ذلك ممكناً ومتاحاً، وكذلك الإعداد الفني والمهني للشباب المسلم لسد الحاجة الموجودة، وتمكينهم من الاستغناء عن الآخرين.
ومن ذلك أيضاً طباعة وتوزيع ونشر الكتب المدرسية والتعليمية، وإعطاء منح لبعض الطلاب الدارسين في الغرب حين يرى صلاح ذلك الفرد وما يماثل هذا من الجهود.
الوسيلة الثانية: الإغاثة: وذلك بتتبع أحوال المسلمين في كل مكان، وتقديم العون، وإيجاد الأوقاف المخصصة لذلك، وعدم قصر العون والإغاثة على شكلها الحالي، بل مده إلى الإغاثة الوقائية، ونعني بالإغاثة الوقائية الإغاثة قبل حصول الكارثة، وكذلك مده إلى الإغاثة الجذرية، ونعني بها توفير الحل الجذري للكارثة، مثل تمكين الناس من إيجاد مزارع أو أعمال يستغنون بها، أو الإغاثة التنموية، ونعني بها توفير الإمكانات والمصادر الكافية لتلافي الكارثة بإذن الله تعالى مستقبلاً، وفي ذلك يكون إيجاد الأوقاف.
وكذلك الإغاثة الطبية والغذائية وغيرها مما يعرف بالإغاثة الإنسانية، والتمدد والاتساع والشمول في عمليات الإغاثة، بحيث يتم عمليات التضييق على المنظمات التنصيرية في هذا المجال الخطير.
الوسيلة الثالثة: الإعلام: وذلك بإيجاد وكالات الأنباء على اختلاف مهماتها وأشكالها، ابتداء من أنباء التلفون، ومروراً بأنباء الفاكس، ووصولاً للبث العالمي للأنباء بالطرق العلمية المعروفة، وإيجاد المحطات الإذاعية الصوتية انطلاقاً من الدول التي تسمح بذلك، وشراء مثل هذه المحطات، ورفع درجة كفاءتها، بل إيجاد محطات البث في الدول التي تسمح في ذلك كبعض الدول الغربية، والعمل على تطوير أساليب العمل الإعلامي، وإيجاد قنوات كافية للتمويل، وإيجاد المطبوعات المتنوعة الأسبوعية والشهرية واليومية التي تلبي حاجة القراء، وطباعة وترجمة الكتب والنشرات وغير ذلك.(205/74)
الاسم والأهداف
الاسم المقترح: الهيئة العالمية الإسلامية للدعوة والإغاثة، أو أي اسم آخر.
الأهداف: 1- القيام بجهد عالمي لنشر الإسلام عن طريق التعليم والدعوة والإغاثة.
2- التخفيف من آلام ومشاكل المسلمين بتقديم العون المادي والعمل.
3- الدفاع عن المسلمين إعلامياً وجهادياً، والمساهمة في جهود المصالحات بين المسلمين، وإيجاد ونشر الفكر السليم الذي يخدم المسلمين في هذه المرحلة.(205/75)
الأسئلة(205/76)
شاب تأثر بالنصارى
السؤال
أحد الشباب من خريجي البعثات يقول: لا فرق بين الإسلام والنصارى، وأن بينهما فرق يسير، وهو في أحد البنوك؟
الجواب
هذه عواقب وآثار الدراسة في المدارس الأجنبية، أو التربي على أيدي بعض هؤلاء النصارى، ولا شك أن كثيراً ممن ذهبوا إلى هناك استطاعوا -والحمد لله- أن يعودوا سالمين ويخرجوا من نار الحضارة الغربية، ولكن هناك أعداد كبيرة -أيضاً- رجعت بفكر غريب دخيل على هذه البلاد، وكانت مستعمرات فكرية لالنصارى في بلاد المسلمين.(205/77)
هل اللغة تحول دون التنصير
السؤال
ما رأيك فيمن يقول لا خوف من التنصير من خلال البث المباشر لأن اللغة ستقف حائلاً دون ذلك؟
الجواب
أولاً: اللغة لن تقف حائلاً دون الصورة العارية الخليعة التي تؤثر في هؤلاء الشباب، واللغة لن تقف حائلاً دون تحريك همة هذا الشاب الذي رأى تلك المغريات، أن يذهب مرة أخرى للسفر إلى تلك البلاد، ليرى بعينه على الطبيعة ما رآه على الشاشة، فضلاً عن أن هذا الإنسان قد يستطيع أن يتجاوز حاجز اللغة، وستجد الكثيرين يجيدون اللغة، وأتساءل ما دام أنه لا يجيد لغة البث؟! فلماذا إذاً يقتني هذا الجهاز؟(205/78)
دعوة النصارى وقراءة كتبهم
السؤال
إذا أردت أن أدعو أحداً من النصارى، فهل لا بد لي من قراءة كتبهم؟
الجواب
لا، أبداً عليك أن تدعوهم إلى كتاب الله تعالى، وميزة دين الإسلام أنه دين بحمد الله واضح سهل ليس فيه تعقيد ولا صعوبة، فتستطيع أن تدعوه إلى إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، هو الذي يجب أن تتوجه إليه بالعبادة وتدعوه سبحانه، والرسل كلهم نؤمن بهم ونحبهم، ولكننا لا نعبدهم وإنما نعبد الله تعالى، ونؤمن بالدار الآخرة، فتجد أنها عقيدة واضحة سهلة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن هذا الدين يسر} .(205/79)
الدعوة واللغة
السؤال
إنني أرغب بدعوة أهل الديانات الأخرى لكن اللغة تحول بيني وبين ذلك؟
الجواب
إذاً عليك أن تدعو إخوانك العرب وإخوانك من المسلمين.(205/80)
مقاطعة النصارى
السؤال
ما رأيك في مقاطعة الكفار والنصارى، وأصحاب الصيدليات والموبيليا والمتاجر التي يعمل فيها أقباط مصريون؟
الجواب
أنا أرى أنه من الصعب أن نطالب بهذا، لكننا نطالب الإخوة أن يستبعدوا دائماً وأبداً العمال والموظفين النصارى، وأن يستعملوا بدلاً منهم المسلمين، وهم بحمد الله موجودون.(205/81)
تأجير البيوت للنصارى
السؤال
ما رأيكم في الذين يؤجرون شققهم للنصارى داخل الحارات، ويخشى من بث سمومهم بجميع الوسائل بين الشباب؟
الجواب
نعم، رأينا من يؤجرون في داخل الحارات ويستقبلون بعض الشباب، ويقيمون بعض الأعياد وبعض المناسبات، ويؤذون الناس من جيرانهم وغيره، وهذا لا شك أنه ليس من حق إخوانك المسلمين عليك خاصة من الجيران، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه} .(205/82)
اللامبالاة بالتنصير
السؤال
ما رأيك فيمن يقول: دع عنك التحذير من النصارى، فنحن لسنا أغبياء، نحن نعرف ديننا؟
الجواب
من خلال الدروس التي سبقت تبين أن الأمر يتطلب مزيداً من اليقظة والانتباه، وأن مجرد الاعتماد على أن الناس يعرفون لا يكفي.(205/83)
فلبيني أسلم وصار داعية
السؤال
في إحدى زياراتي للفليبين رأيت شخصاً أسلم عن طريق المراسلة، والآن هذا الشخص يدعو إلى الله ولكنه يحتاج إلى الدعم بالكتب وغيرها؟
الجواب
عليك أن تقوم بدعمه وإذا لم تستطع فتستعين بغيرك ممن يملكون ذلك.
أختم هذه المحاضرة بكلمة سريعة: بعد أن سمعت الآن عليك أن تسمع المحاضرة مرة أخرى، ويكون معك ورقة وقلم وتقوم بالآتي: أولاً: تسجل الأعمال التي تستطيع أنت بذاتك وبشخصك أن تقوم بها، دعنا من التعويل على الجهات الأخرى، نريد أن تسجل الأعمال التي تستطيع أنت شخصياً أن تقوم بها من خلال الأشياء التي ذكرناها هذا أولاً.
ثانياً: ينبغي أن تحرص على أن تسجل أي وسيلة أو طريقة أخرى لمقاومة التنصير وتواصلنا بها، هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(205/84)
مشروع من هنا نقاوم التنصير
السؤال
يقترح قيام مشروع يطلق عليه (من هنا نقاوم التنصير) بحيث تجمع تبرعات من خلال هذا الدرس لطباعة هذه الحلقات على أشرطة كاسيت، وعلى شكل كتيبات، وتوزع على مختلف الشركات في جميع المناطق؟
الجواب
في الواقع إنني متحرج من جمع التبرعات لمثل هذه الدروس، لكن هناك عمل أشمل وأعظم وأكبر من ذلك، وهو أن نجمع التبرعات الآن، ولتكن تبرعات الآن ولفترة معينة على مدى أسبوع مثلاً، بحيث يمكن من لم يأت بها الآن أن يأتي بها في الأسبوع القادم؛ لتخصص هذه التبرعات لصالح الدعوة إلى الله تعالى عموماً، بمعنى أن تجعل في مشاريع خيرية استثمارية أو مساهمات في شركات، يكون استثمارها ناجحاً، ويصرف ريع هذه الأعمال في سبل الخير وأعماله على وجه الإجمال والعموم.
فنطمع من الإخوة أن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا العمل الجليل الكبير الخطير العظيم، ونطلب من الإخوة بعد الصلاة أن يقوموا بجمع التبرعات من الإخوة الحاضرين في هذا المجلس لهذا الغرض، والزكاة لا تدخل في هذا، إنما نقصد التبرعات والصدقات التطوعية.(205/85)
دور الشاب المسلم في بيته
مما امتاز به الدين الإسلامي على بقية الأديان اهتمامه بالروابط الأسرية، وقد اعتنى الإسلام بحقوق الوالدين وقرن عقوقهما بالشرك به، وأمر بالإحسان إليهما في القول والعمل، وإحسان صحبتهما وتقديمها على الجهاد الكفائي.
ومن الأخطاء في حق الوالدين الانشغال عنهما والتبرم من تصرفاتهما وسوء معاملتهما، ثم ذكر دور الشاب داخل بيته في القيام بواجب الدعوة والإرشاد والتوجيه، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(206/1)
عناية الإسلام بالروابط الأسرية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيها الإخوة إن هذا الدين الذي شرفنا الله تعالى به، وهو دين الإسلام جاء ديناً متميزاً عن جميع الأنظمة البشرية والشرائع الوضعية, وأقام الإسلام مجتمعاً متميزاً عن جميع المجتمعات البشرية الأخرى؛ فإن الأمة التي بناها الإسلام سواء على مستوى الفرد، أم مستوى الأسرة، أم على مستوى المجتمع كانت أمة متميزة في التاريخ كله, من أوله إلى آخره.
ومن جوانب هذا التميز الذي امتاز به دين الإسلام عن غيره: عناية الإسلام بالروابط الأسرية, سواء رابطة الابن بأبيه أم رابطة الأب بأبنائه، أم الزوج بزوجته، أم الأخ بأخيه وهكذا، فكوَّن الإسلام أسرة قوية متماسكة.(206/2)
حال الأسرة عند الغرب
وإذا نظرت إلى المجتمعات الموجودة على ظهر الأرض؛ وجدت أن المجتمعات الأوروبية الكافرة مجتمعات متمزقة ومتشتتة، لا يعرف الابن أباه, ولا يعرف الأب ابنه، ولا الأخ أخاه, إلا أن يلتقي به في عرض الشارع؛ فيسلم عليه بيده وهو يمشي دون أن يتوقف لأداء التحية.
فإذا نظرت إلى جيل الآباء من كبار السن، وجدت أنهم يوضعون في أماكن خاصة لهم؛ حين ينتهون من الحياة ويعجزون عن المواصلة في أعمالهم يودعون في هذه المراكز الخاصة بهم أو المستشفيات أو غيرها ولا أحد يهتم بشئونهم، حتى إن الذين عاشوا هناك وشاهدوا بأعينهم، يقولون: إن الأب يشعر بعظيم الامتنان لابنه لو زاره مرة في الشهر! ويقول أحدهم: إنني قد زرت أحد الآباء في هذه المراكز، فوجدته معجباً بي، ويثني عليّ أبلغ الثناء ويبجلني ويمجدني، ويقول: إن له ابناً لا يكاد يوجد له مثيل في عالمنا اليوم! فقلت له: وماذا يصنع لك ابنك؟ قال: إنه لا يتركني من الزيارة في كل شهر مرة, ولو دعته ظروف إلى تأخير الزيارة، فإنه يتصل بي بالهاتف حتى يعتذر عن هذه الزيارة!! ومع ذلك فإن هذا الأب يعتقد ويظن أن ابنه ابناً مثالياً يكاد لا يوجد له مثيل! وذلك لأن تلك المجتمعات الكافرة لم تستظل بظل الإسلام, ولم تعرف الحقوق التي جعلها الإسلام -داخل الأسرة- للأب على أبنائه، وللابن على أبيه, والأخ على أخيه وهكذا وهذا جانب من جوانب التميز التي انفرد بها الإسلام عن غيره من الأنظمة البشرية، وانفرد بها المجتمع الإسلامي عن غيره من المجتمعات.
والموضوع الذي نتحدث عنه وهو "دور الشاب المسلم في بيته" هو يعبر عن جزء من هذه القضية الكلية؛ ولذلك، فإنني سأقتصر على الحديث عن هذا الموضوع؛ بل عن جوانب فيه.(206/3)
عناية الإسلام بحقوق الوالدين
إن الإسلام قد عني ببيان حقوق الوالدين على أبنائهما في القرآن والسنة:(206/4)
بر الرسول عليه الصلاة والسلام
إنك حين تنظر إلى قائد الدعوة الأولى محمد صلى الله عليه وسلم تجد من بره وحبه الشيء العظيم، فقد روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى قبر أمه، فنزل فيه، وبكى بكاءً طويلاً، وأبكى من حوله, فسأله الصحابة رضي الله عنهم عن سر هذا البكاء، فقال عليه الصلاة والسلام: {استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي, واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي} وذلك لأن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ماتا مشركين، فكان حراماً أن يستغفر لهما، كما قال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] .
ولذلك بكى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستغفر لها، وإنما نزل في قبرها، وبكى بكاءً طويلاً, -ولا شك- أن بكاءه كان إشفاقاً عليها من هذا المصير الذي ينتظرها.(206/5)
قصة كلاب وأبيه
وفي هذا الباب يذكر أصحاب السير والتراجم قصة حصلت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه, خلاصة هذه القصة: [[أن رجلاً اسمه أمية ابن الأشقر الكناني، وقد هاجر هذا الرجل إلى المدينة وسكنها فولد له ولد اسمه كلاب , وبعد أن كبر وترعرع في بيئة إسلامية ونشأ على محبة الإسلام ومحبة الخير, سأل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما هي أفضل الأعمال التي أتقرب بها إلى الله عز وجل؟ فقالا له: أفضل الأعمال الجهاد في سبيل الله, فرغب كلاب بن أمية في الخروج للجهاد, وجاء إلى أمير المؤمنين عمر، وقال له: إني أريد أن أخرج في سبيل الله, فمنعه أبوه، وقال: كيف تخرج، وتتركنا شيخين كبيرين ليس لنا من يقوم بشئوننا غيرك, فما زال كلاب يراجع أباه حتى أرضاه وأقنعه، فسمح له بالخروج, فأذن له عمر، فخرج في جيش المسلمين الغازي إلى بلاد فارس, وأطال كلاب الغيبة عن أبيه، وبينما كان أبوه يوماً من الأيام جالساً تحت ظل شجرة إذا سمع حمامة تنوء، فتذكر ولده وحنَّ واشتاق إليه وبكى! فلما رأته زوجته بكت مثله، وأنشأ أمية يقول أبياتاً من الشعر يعبر بها عن حنينه واشتياقه إلى ابنه الذي خرج في الغزو وتركه وأمه شيخين كبيرين, يقول: لمن شيخان قد نشدا كلابا كتاب الله لو قبل الكتابا يشير إلى أنه وزوجته قد طلبا من ابنهما كلاب أن لا يخرج للغزو، وذكراه بكتاب الله الذي يأمره بالبر بهما, ثم يقول: إذا هتفت حمامة بطن وجٍ على بيضاتها ذكرا كلابا تركت أباك مرعشةً يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا ثم ذهب أمية من غده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه, وألقى أمامه قصيدة مؤثرة يشتاق فيها إلى ابنه، ويطلب من عمر أن يرده إليه؛ بل إنه زاد على ذلك فقال -وهو يعرف خوف عمر من الله تعالى ورقته- يقول: سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساط وأدعو الله مجتهداً عليه ببطن الأخشبين إلى بقاع يعني أنه سوف يستعدي الله تعالى الذي دفع الحجيج إلى عرفات؛ رغبة فيما عنده, ويدعو الله في مكة على عمر الذي أذن لابنه للخروج في الغزو، وجعله يترك أبويه؛ مع أن هذا الابن لم يخرج إلا بإذنهما؛ فلما سمع عمر رضي الله عنه هذه القصيدة تأثر! وسأله عن ابنه فقال: إنه قد خرج في غزو إلى فارس, فأرسل عمر بالبريد يطلب أن يرجع هذا الابن إلى المدينة, فلما رجع دعا عمر أباه, فقال له: ما أعظم عمل كان ابنك يحسن به إليك؟! فقال هذا الشيخ الكبير: إن ابني كان يحسن إليَّ بأعمال عظيمة لا أحصيها.
فسأل عمر الابن من دون أن يعلم الأب بأنه قد حضر من الغزو, فقال: ماذا كنت تصنع لأبيك؟ قال: إني كنت آتي بالناقة الحلوب، فأريحها ثم أغسل ضرعها حتى إذا برد حلبت له فسقيته؛ فطلب عمر من كلاب أن يحلب لأبيه كما كان يحلب بعادته، ثم سلّم هذا الحليب إلى أمية فلما أخذ الإناء، وفيه الحليب وشربه قال: والله إني لأجد في هذا رائحة كلاب؛ فبكى عمر، وبكى من حوله, ثم قال له: إن الله قد أقر عينك بابنك، فجاء إليه ابنه وقبله وعانقه وهو يبكي! وطلب منه أن يلازمه حتى الموت, وفعلاً بقي كلاب إلى جانب أبيه حتى مات]] .
وهذه القصة رواها عدد من أصحاب السير والأدب، منهم: البيهقي في المحاسن والمساوي, والصلاح الصفدي في نفح الأمنيان, وأبو الفرج الأصفهاني وغيرهم.
هذه القصة، تدل على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة السابقة من أن الاشتغال ببر الوالدين، والإحسان إليهما، مقدم في حالة الاحتياج، حتى على الجهاد في سبيل الله عز وجل.(206/6)
حقوق الوالدين من السنة
أما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهي كثيرة جداً، منها ما ورد في الصحيح، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف، قيل: من يا رسول الله؟ -من هو هذا الرجل الذي يرغم أنفه وأن يكون أنفه في التراب في الرغام علامة الذل الذي أصابه- قال: من أدرك أبويه، أو أحدهما عند الكبر ثم لم يدخل بسببه الجنة} .
إذاً: فالأبوان بابان إلى الجنة، وإذا أدرك الإنسان أبويه، أو أحدهما عند الكبر، ولم يكونا سبيلاً إلى دخوله الجنة ببره بهما، وإحسانه إليهما؛ فهو إنسان يستحق أن يدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصيبه ذل، وأن يرغم أنفه.
وفي الحديث الآخر: في الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -رجل يتساءل عن أحق الناس بأن يحسن صحبته- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك, قال: ثم من؟ قال: أبوك} .
إذاً: ليس أحق الناس بحسن صحابتك هو الصديق! أو الزوجة! كلا؛ أحق الناس بالصحبة الحسنة منك، والخلق الجميل هي الأم ثم الأم ثم الأم وفي الرابعة تأتي منزلة الأب؛ وعلى كل حال فالوالدان هما أحق الناس بحسن الصحابة, وفي حديث ثالث في صحيح مسلم -أيضاً- قَدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد -يريد أن يخرج إلى الجهاد في سبيل الله- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أحيٌ والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد} .
فرده النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى الغزو والجهاد؛ رغم ما للجهاد من أهمية عظمى في الإسلام, ورغم أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله؛ مع ذلك كله رده النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى الجهاد، وقال له: ارجع إلى أبويك فجاهد فيهما, وفي لفظ آخر: {أن رجلاً قال: يا رسول الله جئت إليك لأجاهد معك، وتركت أبويّ يبكيان؟ قال له صلى الله عليه وسلم: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما} .(206/7)
حقوق الوالدين من القرآن الكريم
يقول الله عز وجل في كتابه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] فيقرن سبحانه وتعالى الإحسان إلى الوالدين مع إفراده بالعبادة, كما قرن النبي صلى الله عليه وسلم: عقوق الوالدين مع الشرك بالله معد الكبائر, ثم يفصل تعالى في حقوق الوالدين فيقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23-24] .
فلا تقل لهما أف: وكلمة أف كلمة تقال عند الضيق والتبرم والتضجر, وهي كلمة بسيطة جداً, وإذا كان الله تعالى قد نهى عن أن يقول الابن لأبويه كلمة تدل على ضيقه وتضجره وهي كلمة أف؛ فإنه من باب أولى أن ينهى عن ما هو أشد من ذلك؛ كأن تقول لهما قولا غليظاً أو تتعدى ذلك بالإساءة إليهما باليد أو بغيرها.
ويحث الله سبحانه وتعالى على بر الوالدين، والإحسان إليهما في آيات كثيرة؛ بل ويشير إلى أنه حتى في حالة كون الأبوين مشركين، فإن الإنسان مطالب بالإحسان إليهما، وأن يصاحبهما في الدنيا معروفاً؛ دون أن يطيعهما في معصية الله عز وجل.(206/8)
حال الواقع مع الوالدين
إذا كانت هذه هي المنزلة التي بوَّأها الإسلام للأبوين, فدعونا ننظر في واقعنا القريب ونتأمل مدى التزامنا بهذه التوجيهات الربانية، وهذه التعليمات النبوية.(206/9)
بر الشباب للوالدين
إننا نجد بحمد الله، كثيراً من الشباب قد بروا آباءهم, وأحسنوا إليهم أيما إحسان؛ بل إنك تستغرب حينما تجد بعض الشباب، حتى من غير الملتزمين بالإسلام التزاماً صحيحاً! تجدهم حريصين على الإحسان إلى أبويهم, والبر بهما, وخدمتهم بشكل عجيب! وهذا نابع من فطرة سليمة وشعور بحق الأبوين! وإذا كان هذا يحصل أحياناً من أناس غير ملتزمين بالإسلام التزاماً صحيحاً؛ فهو يحصل بشكل أعظم وأكبر من الشباب الملتزمين بالإسلام، والذين يعرفون حقوق الأبوين.
ولذلك فإن الأب الذي يدرك مصلحته، يحرص على استقامة ابنه؛ لأنه يعرف أن أول من يجني ثمرة هذه الاستقامة هو الأب نفسه, فإن الابن المستقيم يعرف حق الأبوين، ويقدرهما حق قدرهما.(206/10)
أخطاء في حق الوالدين
إن ما ذكرناه لا يعني عدم الوقوع في الأخطاء، فهناك العديد من الأخطاء يقع فيها بعض الشباب تجاه أبويهم, وسوف أشير إلى بعض هذه الأخطاء بصورة مختصرة.
فمن هذه الأخطاء:(206/11)
الضيق من تصرفات الوالدين
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب: التبرم من تصرفات الوالدين -الضيق من أفعالهما وأقوالهما- والسبب في هذا: هو أنَّ الأبوين غالباً من جيل آخر غير الجيل الذي منه الشاب بمعنى أن الفاصل الزمني بين الأب والابن كبير ولذلك فإن ثقافة الأب ومعلوماته تختلف كثيراً عن ثقافة الابن ومعلوماته, في أشياء كثيرة من أمور الحياة فيما يتعلق بالدراسة، وفيما يتعلق بالأصدقاء، وفيما يتعلق بقيادة السيارة مثلاً إلى آخره.
ولذلك فالأب من منطلق أنه أب يصدر توجيهات لابنه باستمرار, والابن يدرك في بعض الأحيان أن هذه التوجيهات غير مناسبة, وقد تكون فعلاً غير مناسبة, وقد تكون مناسبة -أحياناً- لكن عليك في جميع الأحوال أن تقابل توجيهات الأبوين بصدر رحب, فإن كانت صحيحة فاقبلها واعمل بها, وإن كانت خاطئة، فعليك أن تصرفها بطريقة حكيمة، ولا تواجه أباك أو أمك في وجوههم بما يكرهون.(206/12)
سوء معاملة الوالدين
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب: سوء معاملة الأبوين بالقول، أو بالفعل وعدم التلطف لهما، ومن الواجب على الشاب أن يحرص على الكلمة الطيبة من الأبوين, في الصباح وفي المساء, يصبحهما بالخير ويمسيهما بالخير, ويحرص على السؤال عن أحوالهما, يلبي طلباتهما إلى غير ذلك.(206/13)
تقدم الآخرين على الأبوين
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب: تقديم الأصدقاء على الأبوين، أو تقديم الزوجة والأولاد على الأبوين، وهذا قد يكون -أحياناً- أمراً صحيحاً، أي: أن الشاب يقدم أصدقاءه، أو زوجته، أو أولاده على أبويه, وقد يكون في بعض الأحيان لديهما شعور نفسي بأن الابن قد أصبح يفضل غيرهما عليهما, ولو لم يكن لهذا رصيد من الواقع.
فعلى الشاب -الحكيم- أن يحرص على تجنب التصرفات التي قد تشعر الأبوين بأنه يفضل غيرهما عليهما, لأن الأب والأم يشعران بأنهم -كما يعبرون- هم شمس على رءوس الذوائب, والشاب يستقبل الحياة, فكل تصرف تجاه صديقه أو زوجته، أو ولده يفسر من الأبوين أن هذا الابن قد أصبح يزاحم عليهما، بل قد أصبح لا يعيرهما الاهتمام الكامل.(206/14)
الانشغال بالأعمال عن طاعتهما
إن بعض الشباب قد ينشغل بأعماله عن طاعة أبويه وبرهما؛ فقد ينشغل بأعمال عادية, كالعمل الوظيفي مثلاً، أو كالدراسة أو غيرها, بل إنك تجد من الشباب من ينشغل بالدعوة إلى الله، وصحبة الشباب الطيبين, والمشاركة في النشاطات الخيرية -من المراكز والدروس العلمية وغيرها- ينشغل بذلك عن طاعة أبويه.
والواجب على الشاب: أن يحسن التوفيق بين هذا وهذا, فإن هذه كلها واجبات منوطة في عنق الشاب, فهو مطالب ببر والديه، ومطالب بتعلم العلم, وحفظ القرآن, وصحبة الأخيار, والقيام بالواجبات الأخرى.
وعلى الشاب أن يحرص على القيام بهذه الأشياء كلها جنباً إلى جنب؛ فلا يزيد في بعضها على حساب البعض الآخر, ولا ينقص من بعضها لانشغاله بغيرهما.(206/15)
قصة جريج مع أمه
وإنني أذكر لك في هذه المناسبة قصة طريفة يجب على كل شاب أن يتأملها, وهذه القصة في الأصل رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما, ولكنني سأذكرها بشكل أوسع مما في الصحيحين حتى تظهر بصورتها المتكاملة.
وهي أن رجلاً من بني إسرائيل كان يشتغل في التجارة, فوجد أن التجارة تزيد يوماً وتنقص يوماً, ففي بعض الأيام تكثر أمواله وتنمو تجارته، وفي أيام أخرى تكسد تجارته وتقل أمواله, فقال: لا بد أن أبحث عن تجارة لا تبور, فسأل أهل العلم، فدلُّوه على العبادة والتزهد والرهبانية فبنى له صومعة، وجلس يتعبد فيها, وكانت له أم تحبه أشد الحب وأزكاه, فتأتي إليه، وتصيح من أدنى الصومعة باسمه -وكان اسمه جريج - فتقول له: يا جريج , فيطل عليها من أعلى الصومعة، فتحدثه وتبين له حاجتها, فيقضي ما تحتاجه من الأمور، أو تكتفي برؤيته, وقد رضيت بذلك، واطمأنت به.
وفي أحد الأيام جاءت كعادتها إلى أسفل الصومعة، وصاحت بأعلى صوتها: يا جريج يا جريج! فصادف أن جريجاً كان يصلي، فوقع في حيرة! يا رب! أمي وصلاتي -هل أجيب نداء أمي أم أستمر في صلاتي وعبادتي- فلم يجبها, وغلَّب أن يستمر في عبادته؛ ثم صاحت به مرة أخرى: يا جريج يا جريج! فقال بينه وبين نفسه: يا رب! أمي وصلاتي, واستمر في عبادته؛ فنادته مرة ثالثة, فقال: يا رب! أمي وصلاتي, واستمر على عبادته, فغضبت أمه من ذلك، وقالت: أسأل الله ألا يميتك حتى يريك وجوه المومسات -المومسات جمع مومس, والمومس هي: البغي الزانية والعياذ بالله- وقد كنت أتعجب من هذه الدعوة، وأتساءل! لماذا اختارت أم جريج هذه الدعوة؟! ولو دعت عليه بالفاحشة لوقع فيها كما ورد؛ لكن الله عز وجل صرف لسانها عن هذه الدعوة؛ فدعت عليه بهذه الدعوة وهي أن يريه الله المومسات, فكنت أتعجب، وأتساءل عن سر اختيارها لهذه الدعوة, حتى ظهر لي، والله أعلم أن مناسبة هذه الدعوة: أن جريجاً لما كانت العادة أنه إذا نادته أمه أشرف عليها من أعلى الصومعة, وكلمها وكلمته وانبسطت إليه, فرجعت وقد قرت عينها بمخاطبتها لابنها, ففي هذه المرة حرمها من أن تنظر إلى وجهه أو ينظر إلى وجهها -بسبب انشغاله بالعبادة- فدعت عليه دعوة تناسب الخطأ الذي صدر منه, وكأنها تقول: أما وقد انشغلت عن النظر إلى وجه أمك؛ فإني أسأل الله ألا تموت حتى ترى وجوه المومسات.
ومرت الأيام وكان في هذه القرية امرأة بغي, يضرب المثل بحسنها وجمالها, فكان الناس يوماً من الأيام يتحدثون عن جريج، وما بلغ من العبادة, فقالت: إنني أستطيع أن أفتنه! فقالوا: فافعلي إن استطعتي؛ فخرجت وتجمَّلت وتعرضت له، فلم يأبه بها ولم يلتفت إليها, وظل مقبلاً على عبادته، فجاءت إلى راعٍ بقرب الصومعة، فأمكنته من نفسها, وقيل: إن هذه البنت كانت أيضاً راعية غنم, وقيل: إنها كانت بنت الملك, وقيل: إنها كانت بغي, والأقرب فيما يظهر أنها كانت بغي, لأنها لو كانت بنت ملك؛ لكان الغالب أن لا تلتفت إلى الراعي، ولا تمكنه من نفسها, فالأقرب أنها كانت بغياً, بل قد وردت بهذا روايات صحيحة.
فحملت من الراعي فسألها الناس: من أين حملت؟ قالت: هو من جريج , وبلغ الخبر ملك هذه القرية, فأرسل إلى جريج يطلب أن يحضر إلى مجلسه, فذهب مجموعة من الناس إلى الصومعة التي يتعبد فيها, وصوتوا إليه يطلبون منه النزول, وكان منشغلاً بصلاته فلم يلتفت إليهم, فبدءوا بالفئوس يضربون الصومعة ليهدموها, فلما رأى هذا الصنيع أتم صلاته، وأشرف عليهم، فقال: ما لكم؟ قالوا: انزل إلينا وبدءوا يسبونه ويشتمونه.
فتدلى من الحبل ونزل إليهم، فجرجروه وتلتلوه، وبدءوا يضربونه ويعيرونه، وما زالوا به، حتى ذهبوا به إلى مجلس الملك ولما كان في عرض الطريق مر ببيت كانت تجلس فيه النساء الزانيات والعياذ بالله ورأى النساء فيه، فتبسم! فقالوا: لم يتبسم حتى رأى بيت البغايا! -هذا دليل جديد على أن الرجل يظهر الإيمان والعبادة والنسك ويبطن خلاف ما يظهر- وأخبروا الملك بذلك بعد أن وصلوا إليه, فقال له الملك: أنت جريج الذي صار مثلاً لزهده وعبادته تفعل بالمرأة ما فعلت من وقاعها حتى حملت منك؟! قال: أو قد ولدت؟ قالوا: نعم, قال: فأين الغلام, فأحضروه إليه, فصلى جريج ركعتين، ثم جاء إلى الغلام فطعنه في بطنه بيده وقال له: باغوس -وباغوس يعني: صغير أو صبي- أسألك بالله من أبوك؟ فنطق هذا الغلام، وقال: أبي الراعي, فتعجب الناس وأكبروا جريجاً، وعظموه وبدءوا يتمسحون به ويطلبون منه الدعاء! وقالوا له: نبني لك صومعتك من ذهب, وقد هدموها, قال: لا، قالوا: نبنيها من فضة؟ قال: لا أعيدوها من طين كما كانت.
فسألوه: يا جريج لما رأيت بيوت الزواني، وأنت في طريقك إلى مجلس الملك ابتسمت! فلم كنت تبتسم؟! قال: إني قد رأيت بيوتهن، ورأيت وجوههن، فابتسمت، لأنني عرفت أن دعوة أمي قد أحاطت بي؛ فإنها دعت عليَّ ألا أموت حتى أرى وجوه المومسات, فلما رأيت وجوههن ابتسمت لذلك.
!! والقصة هي أولاً -كما ذكرت- قصة صحيحة, رواها البخاري في مواضع من صحيحه, ورواها مسلم والإمام أحمد وغيرهم.
وفي هذه القصة عبر كثيرة جداً من أهمها: العبرة الأولى: أن الإنسان يجب أن يعرف قدر أبويه, حتى وهو يشتغل بالعبادة، أو الدعوة، أو بالعلم النافع، أو بحفظ القرآن، وقد يقول قائل: هل أترك هذه الأعمال؟ أقول: لا, لكن عليك أن تتلطف بهما وأن تدرك أن برهما واجب, خاصة إذا احتاجا إليك, ولا يعدم الشاب الحكيم لا يعدم وسيلة صحيحة يستطيع بها أن يوفق بين بر الوالدين، وبين القيام بالواجبات الأخرى المنوطة به.
العبرة الثانية: وفي القصة أيضاً دليل على أن دعوة الأم على ابنها مستجابة, ولو كان الابن منشغلاً، ومنصرفاً في أمور حميدة, فإن هذه المرأة دعت على ابنها فأجيب دعاؤها، ولذلك فعلى الشاب أن يتقي دعوة أبويه، وأن يحرص على كسب رضاهما، ودعواتهما الصالحة.
وفي القصة عبر ودروس أخرى قد لا يتسع المجال لسردها, وبإمكان من يحرص على أخذ الفوائد من هذه القصة أن يرجع إلى فتح الباري، في كتاب الأنبياء ليجد الكلام المفصل الذي ذكره الإمام الحافظ ابن حجر حول هذه القصة.(206/16)
دور الشاب في البيت
أيها الإخوة هناك أمر آخر يتعلق بواجب الشاب ودوره في بيته فيما عدا موضوع الأبوين، فأقول: يجب على الشاب أن يحرص على بناء شخصية قوية داخل البيت, وذلك يكون بأمرين:(206/17)
الأمر الأول: القيام بواجب الدعوة والإرشاد والتوجيه
من الخطأ أن يكون الشاب مستقيماً مهتدياً، وقد يكون ملتحقاً بحلقة من حلقات تحفيظ القرآن، ويتعلم العلم, فإذا جئت إلى بيته وجدت البيت، بيتاً منحرفاً، فيه أجهزة منحرفة -فيه التلفزيون، وفيه الفيديو، وفيه المجلات السيئة- ووجدت البنات والأولاد يتلقون المعلومات والثقافة من غير هذا الابن.
فعلى الشاب أن يحرص على توجيه وإرشاد البيت عن طريق: قراءة الكتب المفيدة, ونشر الكتاب, ونشر الشريط المفيد الذي يحتوي على مواد طيبة كالقرآن الكريم، أو أحاديث أو خطب أو فتاوى لأهل العلم أو غير ذلك, ويحرص على التوجيه وربط إخوته بأصدقاء طيبين والتأثير على إخواته بكل وسيلة ممكنة.
وهذا الأمر يستفيد منه الشاب فوائد كثيرة تتبين بالأمر الثاني، وإنما قصدت هذا الأمر لأن كثيراً من الشباب يتساءلون في هذه الأيام أسئلة لا تنتهي، يقول الواحد منهم: أنا شاب مستقيم ولله الحمد وبيتي فيه كذا وكذا فما هي الطريقة الصحيحة في معالجة هذه الأشياء؟! وبعض الشباب قد يتصرفون بصورة غير صحيحة، فأقول: إذا قمت بواجب الإرشاد والتوجيه، فإنك تكون قد بنيت جبهة في البيت، وكونت رأياً عاماً مؤيداً لك من إخوانك ومن أخواتك, فلو افتُرِض أن في البيت وسيلة من وسائل الإفساد لم تصبح أنت وحدك الذي تحارب هذه الوسيلة، أصبح إخوتك وأخواتك -أيضاً- يحاربون هذه الوسيلة بل أغلبهم, فسهل عليك التخلص منها وإخراجها من البيت.(206/18)
الأمر الثاني: القيام بواجب النهي عن المنكر داخل البيت
لا بد من القيام بواجب الدعوة والتوجيه داخل البيت, ثم لا بد من القيام بواجب تغيير المنكر, فإذا وجدت منكرات داخل البيت، فليس الحل هو أن تخرج وتهرب من البيت, فالهروب ليس حلاًَ، وليس الحل هو أن تقوم بمحاربة هذا المنكر بتكوين جبهة قوية عن طريق العنف والشدة! كلا لا بد من سلوك السبيل الأمثل, والحكمة والموعظة الحسنة, وعليك أن تسعى لإخراجها بالوسيلة المناسبة، وتستعين بمن تربوا على يديك داخل البيت، وتوصي لأبويك من يقتنعون به، حتى يمكن إخراج هذه الأجهزة، وتغيير هذه المنكرات, فإن لم تستطع فعليك أن تقاطعها، وتربي إخوانك وأخواتك على مقاطعتها, فإذا وجد عدد من الإخوة والأخوات مقتنعين بإخراج هذه الأشياء؛ فحينئذٍ لا بأس بالتصرف الذي يفعله بعض الشباب، وهو أن يقوم بإزالة هذا المنكر بطريقة قد يكون فيها شيء من الشدة, لكنها شدة في موضعها.
بعض الشباب -مثلاً- اهتدى وكان بيته كله منحرفاً حتى الأبوان, وبدأ هذا الشاب -وهو واحد- بحملة للدعوة داخل البيت، وما هي إلا أشهر حتى استطاع التأثير في أخواته فاستقمن والتزمن بالإسلام, ثم أثر في عدد من إخوته, ثم قام هؤلاء بمجموعهم بإخراج الأجهزة المنحرفة، والمجلات المنحرفة وغيرها من البيت وأعدموها فاستسلم الأبوان لهذا الأمر.
بل إن هذا المد الطيب قد سرى إلى الأبوين، فبدأ الأب يحافظ على صلاة الجماعة في المسجد, وبدأت الأم أيضاً تحرص على فعل أمور الخير, وهذه قدوة حسنة لكل شاب مسلم، فعلى الشاب أن يحرص على أن يكون ذا شخصية قوية في البيت, حتى يستطيع أن يشارك برأيه في سائر الأمور التي يحتاج إليها الأهل، وعليه أن يحرص -حين تواجهه مشكلة، ويعجز عن حلها- على أن يستعين بأساتذته ومشايخه وأشياخه الذين لا يعدم منهم رأياً حسناً.
هذا مجمل ما أحببت أن أقوله في هذه العجالة، وأرجو الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(206/19)
الأسئلة(206/20)
الآباء حجر عثرة في طريق صلاح الأبناء
السؤال
قد يكون أحد الأبوين حجر عثرة في طريقي في سبيل الاهتداء، إما من سوء فهم، أو من سوء قصد, كأن يمنعني من الالتحاق بحلقات القرآن، أو مصاحبة الأخيار, فهل أطيعهما في ذلك أم أعصيهما؟ أرشدوني أثابكم الله.
الجواب
في الواقع أن مثل هذا السؤال ليس الجواب أن يقال لهذا الشاب: يجوز لك معصية أبويك -مثلاً- والتحق بالحلقة, كما أنه ليس الجواب أن يقال: اترك الحلقة، واترك مجالات العلم وأطع والديك, ليس الجواب هذا ولا ذاك.
إن الشاب في معظم الحالات يستطيع بالحكمة أولاً، وبالاستمرار والمحاولة ثانياً أن يوفق بين الأمرين, وهناك عدد كبير جداً من الشباب كانوا يواجهون مثل هذه الحالات، وفي النهاية استطاعوا التغلب عليها.
مثلاً قد يكون عند الأب سوء فهم، فإذا رأى أن الابن حريص ومصر، وفي نفس الوقت هو حريص على طاعة أبيه, فإن الأب يلين عند ذلك, فينظر في هؤلاء الأصدقاء فيجدهم أصدقاء طيبين وصالحين, فيرتاح ويطمئن, وقد يكون الأب يريد ابنه لأعماله الدنيوية، حتى يكون معه في البيع أو الشراء أو في المزرعة, فإذا رأى الأب إن الابن يحرص على قضاء حاجاته في أوقات فراغه، مع مشاركته في الأنشطة الخيرية الأخرى، فإنه يرضى بهذا القدر, وقد يدرك الأب أن ابنه، لو كان منحرفاً لما نفعه بأي صورة من الصور, فهو الآن حين استقام أصبح ينفعه في أشياء كثيرة.
وفي النهاية لو أصرَّ الأب -مثلاً- على ابنه أنه لا يمكن أن يصحب الطيبين، ولا أن يحضر هذه الحلقات فيجوز للابن أن يحضر الحلقات وأن يصحب الطيبين، وأن يحرص على رضا أبيه ما استطاع، ويلين له في القول، ويحرص على قضاء حاجاته، ومساعدته في أعمال دنيوية وغير ذلك.(206/21)
قصة جريج
السؤال
فضيلة الشيخ من وقع له مثل قصة جريج هل يجيب أمه, أو يستمر في صلاته؟ وهل هذه القصة تعتبر شرعاً لنا؟ أرجو إفادتنا في هذا الموضوع.
الجواب
القصة حصلت، وجريج يصلي فنادته أمه, فامتنع من إجابتها, فالسائل يسأل لو افترض أنه يصلي فدعته أمه، فهل يجيبها أم لا؟ وهذا سؤال وجيه.
والجواب عليه: أن العلماء اختلفوا في ذلك, فمنهم من قال: يجيبها إن كان في نافلة، ولا يجيبها إن كان فريضة, ومنهم من قال: يجيبها إن كان في نافلة، أو كان في فريضة وقتها موسع، ولا يجيبها إن كان في فريضة ضاق وقتها, ومنهم من قال: لا يجيبها, وهناك قول لعله أقرب للصواب, وهو أنه ينظر في حال الأم، فإن كانت الأم تتأثر وتغضب وتنفعل لو لم يجبها الابن، وكان هو في صلاة نافلة، فإنه يجيبها حينئذٍ, أما إن كانت الأم لا تتأثر من ذلك ولا تغضب له أو علمت أنه في صلاة؛ لأن النساء والرجال عندنا إذا علموا أن ابنهم في صلاة لا يغضبون عليه لو لم يجبهم, فلو جهر مثلاً بآية ليشعر أمه أو أباه بأنه يصلي؛ لسكتت أمه وسكت أبوه عن مناداته حينئذٍ، حتى يفرغ من صلاته.
لكن لو افترض أن هناك أماً عندها حالة من العصبية والانفعال أو ما أشبه ذلك, ولا يمكن أن تقبل من ابنها إلا أن يجيبها، أو أنها في حالة تدعو إلى إجابتها، كأن تكون مستعجلة، فلا بأس أن يجيبها حينئذٍ والله أعلم.
أما سؤال: هل شرع من قبلنا شرع لنا؟ فهذه المسألة اختلف فيها الأصوليون، لكنهم اتفقوا على أنه ليس بشرع لنا فيما ورد في شرعنا ما ينسخه أي أن: الذين قالوا: بأنه شرع لنا, قالوا: ما لم ينسخ.
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.(206/22)
الله أكبر سقطت كابل
الحديث عن قضية من أهم القضايا وأبرزها، تكاتف من أجلها المسلمون وضحوا في سبيلها بكل غالٍ ونفيس، رفع لواءها مجاهدون دخلوا التاريخ من بابه الواسع، وسطروا بدمائهم أنصع البطولات؛ لكن يبقى لكل جهد بشريٍ قصور، وقضية أفغانستان هذه خلاصتها دامية من بدايتها ودامية في نهايتها.
والباطل مهما تغطرس فلا بد له من نهاية ولكابل قصة مع هذه النكسة.
ومعاركٌ تنتظرها وتستدعي خوضها لكلِّ مجاهدي كابل وذلك ليس إلا لأن أخطاراً تتهددها من القريب والبعيد.(207/1)
التفاؤل بسقوط كابل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛ هذا هو الدرس السادس والخمسون من سلسلة الدروس العلمية العامة في هذه الليلة ليلة الاثنين 18/شوال/1412هـ، وقد اخترت أن يكون عنوان هذا المجلس "الله أكبر خربت خيبر"، وقياساً على ذلك نقول: الله أكبر سقطت كابل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] .
روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة باب ما يذكر في الفخذ ومسلم أيضاً في صحيحه كتاب الجهاد باب غزوة خيبر عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا خيبر، قال أنس فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم} وهذا هو مأخذ الإمام البخاري رحمه الله في تبويبه على هذا الحديث، قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم القرية قال: {الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال: وخرج القوم -أي: اليهود- إلى أعمالهم، فرأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقالوا: محمد والخميس -والخميس هو: الجيش- قال رضي الله عنه وأرضاه: وأصمناها عنوةً} أي: أنهم أخذوها بالقوة والقتال، وقد كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: {الله أكبر خربت خيبر} وهو على أبوابها، وعلى مشارفها، لأن ذلك كان إيذاناً بأن وعد الله تعالى بسقوطها وخرابها حقاً لا يتخلف، وأن الله تعالى يورثها أولئك المؤمنين الذين كانوا يستضعفون، فأورثهم الله تعالى مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها.
فلا عجب -إذاً- أن نقول: الله أكبر سقطت كابل وإن لم تكن سقطت كلها بعد {إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين} نقول ذلك تفاؤلاً بسقوطها، وثقة بوعد الله تعالى الذي لا يتخلف؛ بل نقوله إعلاناً حقيقياً لسقوط كابل، فإن سقوط كابل يعني سقوط النظام الكافر الشيوعي الملحد الذي كان يحكمها، وقد تهاوى هذا النظام، وسقطت أركانه، وتباعدت أطرافه، وهربت رموزه ذات اليمين، وذات الشمال، فمنهم من انتحر كما فعل وزير الأمن، ومنهم من هرب يلوذ بالسفرات يبحث عن الأمن وهو رئيس ذلك النظام، ومنهم من اختفى، فلا يعلم أين هو، وهذا هو شأن الله وصنيعه في المكذبين والطغاة والمعاندين، وللظالمين والكافرين أمثالها، وهذا السقوط وإن سميناه سقوطاً إلا أنه في حقيقته ارتفاعٌ وشموخٌ، إنه طهارةٌ لكابل من رجس الطواغيت الذين طالما دنسوها، إنه ارتفاع إلى قمم المجد الجديد الذي نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يحققه للمسلمين في أفغانستان، وفي كل مكان بإذنه جل وعلا.
إنه سقوط الطفل في حجر أمه الحنون الرؤوم.(207/2)
الوضع الحالي لمدينتي كابل وجلال أباد
وعلى أي حال، فإن كابل محاصرةً الآن بجنود المجاهدين، فأما من الجنوب، فإنه يحاصرها حكمتيار بجنوده التابعين للحزب الإسلامي، وهم جمٌ غفيرٌ، وأما من الشمال؛ فإنه يحاصرها أحمد شاه مسعود بجنوده الذين قدموا من الشمال فضلاً عن الذين تحالفوا معهم من الضباط في داخل كابل، وجميع ممرات كابل الرئيسية قد سقطت بيد المجاهدين، ويصح أن نقول: إن قوات المجاهدين الآن على مسافة حوالي ثلاثة، أو أربعة كيلو مترات من قصر الرئاسة في كابل، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه المدينة تذعن لحكم الإسلام، وتدين له، وتدين به.
المدينة الوحيدة التي لا زالت تتمنع هي مدينة جلال أباد، وهي من كبريات المدن في أفغانستان، وهي لم تسقط بعد، ولكن المسألة مسألة وقت، وهناك مفاوضات بين حاميتها وبين المجاهدين، وكل ما في الأمر أنهم يريدون نوعاً من الحماية، وربما نوعاً من المشاركة، وما دام أن السلاح الجوي في أيدي المجاهدين، فإنه لا تستطيع جلال أباد، ولا غيرها أن تمتنع منهم.
أما رموز النظام السابق، فكما أسلفت فإن زعيم أفغانستان السابق لجئ إلى الأمم المتحدة، واختفى هناك خوفاً من بطش المجاهدين، ووزير خارجيته أصبح يصفه بأنه دكتاتور، وأنه عميل، ويتهمه بالخيانة العظمى، ويطالب بمحاكمته، أما وزير دفاعه، فقد اختفى، وأما وزير أمنه، فقد انتحر، وقتل نفسه -والعياذ بالله- وقد شكل في أعقاب ذلك مجلس عسكري مكون من عدة شخصيات من رموز الحكومة السابقة برئاسة الجنرال/ محمد نبي عظيمي، وأخشى ما يخشى أن يكون هذا المجلس العسكري هو حجر عثرة في طريق مواصلة المجاهدين في خطواتهم إلى أعماق كابل، وإلى قيام الحكم الإسلامي فيها.
هذا موجز الأخبار والمعلومات التي وصلت من خلال المصادر الإعلامية، ومن خلال المصادر الشفوية، ومن خلال رسائل كثيرة وصلتني من الإخوة المجاهدين داخل أفغانستان وخارجها.(207/3)
ثمرة الجهاد الأفغاني
أيها الأحبة إن تساقط الأقاليم والولايات والمدن في أيدي المجاهدين واحدة بعد أخرى كما تتساقط أوراق الخريف لم يكن إلا ثمرة جهاد طويل دام ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً، وبذلت في هذا الجهاد أرواحٌ لعلني لا أبالغ إذا قلت إنها تقدر بمئات الآلاف، وأسأل الله جل وعلا أن يكونوا شهداء في سبيله، كما بذلت فيه أموال طائلة هائلة لا يعلم مداها وقدرها إلا الله عز وجل، كما أوقفت عليها جهود جبارة من التخطيط والعمل والتدريب؛ فضلاً عن جهود أخرى في مجالات متعددة كالإعلام والتعليم، فضلاً عن تضحيات جسام لا تكاد تحد، ولا توصف، وقد كان هذا الذي جرى من تساقط الولايات هو -بإذن الله تعالى- ثمرةً لهذا الجهاد الطويل المرير.
فلا غرابة إذاً أن تشرئب أعناق المسلمين لهذا النصر الكبير، وتتشنف أسماعهم لأخبارهم، وتشرق وجوههم بعلامات الفرحة الغامرة وهم يسمعون أنباء تساقط المدن واحدة بعد أخرى في أيدي المجاهدين، ولا غرابة أيضاً أن تنزعج لذلك قلوب المنافقين وترتعد فرائصهم، فيبدو على فلتات ألسنتهم، وعلى صفحات جرائدهم ومجلاتهم ما كانت تكنه قلوبهم المريضة من عداوة للإسلام والمسلمين، فتجدهم يدقون طبول الحرب الأهلية التي يراهنون على أنها سوف تحتدم بين فصائل المجاهدين.
ولا غرابة أيضاً أن يضع المسلمون أيديهم على قلوبهم لهفةً إلى اكتمال هذا النصر المبين وتكليله لقيام حكومة إسلامية من فصائل المجاهدين تحكم أفغانستان، وتقودها إلى بر الخير والأمن والإيمان، وتحميها من شر التفرق والتشرذم والاختلاف، وما ينجم عنه من ويلات وفتن ومحن وحروب طاحنة.
ولا غرابة أن يتنادى الغيورون من أهل الإسلام إلى ضرورة التواصل مع المجاهدين، ومع قياداتهم دعماً ومساندةً ونصحاً لهم، وجهوداً متصلةً للتوفيق بينهم، وتسديد خطواتهم وآرائهم، وما هذه الجلسة المباركة إلا نوعٌ من المشاركة، فإذا كانت الموانع والأسباب عن الشخوص والذهاب إلى إخواننا المجاهدين هناك، ومشاركتهم في آلامهم ومعاناتهم مشاركةً مباشرة تحول دون ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فلا أقل من كلمة تتعدى وتتحدى حدود الزمان والمكان لتصل إلى الآذان آذان أولئك الإخوة المرابطين على الثغور، وإلى الله تعالى عاقبة الأمور.
أيها الأحبة اشتركنا جميعاً في الاستماع من أفواه الرواة، ومن الوسائل الأخرى، أو قراءة أعداد كبيرة من الأخبار المتعلقة بالوضع الأخير في أفغانستان، والذي بدأت ملامحه تبين من أول شهر رمضان المبارك، فمن ذلك أن عدداً كبيراً من الولايات بدأت تتساقط، وتستسلم للمجاهدين دون قتال، أو بقتال يسير، أو عنيف، المهم أنه ينتهي بسقوطها في أيدي المجاهدين، وقد كان من أول الولايات التي سقطت في أيدي المجاهدين مزار شريف، وقائدها: دوستم الذي يقال: إن تحت يده خمسين ألف مقاتل ورامي أنضم بهم كلهم إلى صفوف المجاهدين، وقد كان هذا في شهر رمضان المبارك، ثم بعد ذلك ولاية بروان وبها قواعد لصواريخ اسكود، وما يزيد عن أربعين طائرة مقاتلة، وقد سقطت في أيدي المجاهدين، ثم سقطت قاعدة بجرام، وهي قاعدة جوية، بل هي أكبر قاعدة جوية في أفغانستان، وقد أعلنت وكالات الأنباء عن سقوطها، وأن في هذه القاعدة ما يزيد عن مائة وواحد وستين طائرة كلها سقطت في أيدي المجاهدين، ومثلها قاعدة سنداند وهي أيضاً قاعدة جوية كبيرة تحتل المرتبة الثانية بعد قاعدة بجرام، ثم تهاوت عدد من المدن كمدينة غزني التي ينتسب إليها القائد الغزنوي الشهير الذي فتح بلاد الهند، وغزاها سبع مرات، وكان له قصة مشهورة معروفة؛ حيث أنه لما أراد قتل الصنم، حاول الهنود أن يرشوه بالذهب، فأعطوه ذهباً كثيراً مقابل ألا يكسر، وألا يحرق هذا الصنم، فأخذ الذهب وحرق الصنم، وبذلك كان الشاعر: محمد إقبال رحمه الله يقول مذكراً بهذا الحادث: كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا لو كان غير المسلمين لحازها ذهباً وصاغ الحلي والدينارا فيقول: إن المسلمين لا يمكن أن يبيعوا توحيدهم وعقيدتهم بشيء مهما غلا ثمنه، فقد سقطت مدينة غزني الشهيرة بأيدي المجاهدين، كما سقطت مدينة قندز وهي ثالث مدن أفغانستان، ثم هلمند، ثم هرات، ثم مدينة بادغيث، وأخيراً كابل، فإن كابل قد سقط مطارها في أيدي ضباط متحالفين مع أحد فصائل المجاهدين، وقد صرح مندوب الأمم المتحدة حينما ذهب إلى هناك بأنه رأى الجنود في مطار كابل وهم غير الجنود المعتادين الذين كان يشاهدهم من قبل، ويشاع أن هناك أحياء من كابل قد سقطت أيضاً في أيدي المجاهدين، بل وصلني خبرٌ قبل أن أصل إلى هذا المكان بدقائق من باكستان أن مجموعات من المجاهدين التابعة للحزب الإسلامي دخلت إلى أحياء من كابل، ووصلت إلى السجن، وفتحت أبواب السجن، وأخرجت آلافاً من المساجين والمجاهدين المسلمين الذين كانوا معتقلين في ذلك السجن.(207/4)
فتحت وربك بالعقيدة كابل
وقد كنت -أيها الأحبة- أبحث خلال إعدادي لهذه المحاضرة عن قصيدة تعطر بها أسماعكم، فضاق الوقت عن ذلك، وأتيت إلى هذا المجلس وأنا أشعر بأنني أتمنى أن لو وجدت تلك القصيدة التي تناسب المقام، ولكن قدر الله وما شاء فعل، وقد فات الأوان، فلما جلست هنا وصليت تحية المسجد، وضع الإخوة في يدي ورقة، فتأملتها، فإذا هي قصيدة جميلة قالها بهذه المناسبة، يقول الأستاذ/ سليمان العبيد: فتحت وربك بالعقيدة كابل والله يحكم ما يريد ويفعلُ سقطت بأيدي الصابرين وسلمت وانهار حصنٌ للعمالة باطلُ هانوا وكانوا خائنين لشعبهم من أجل ماذا حاربوه وناضلوا؟ ألرضى الشيوعي ذبحوا أطفاله يا ويلهم ماذا جناه الأعزلُ؟ تربو على المليون عدة من قضوا فدماؤهم فوق الجبال هطلُ بين السفوح تقطعت أوصالهم أجداثهم في كل وادٍ تنزلُ ومضى الشيوعي للبوار فولولوا هيهات لولا كان حزباً يعقلُ خدعوه بالمبثوث من دبابةٍ وبطائرات للقنابل تحملُ ومدافعٍ للراجمات ثقيلةٍ واسكود شيءٌ في المعارك هائلُ هذي ظننت بأن ستمنع أهلها إن القتال عقيدةٌ يا جاهلُ هذي تدمر لو تقاتل كافراً لرأيته من رعبه يترعبلُ أما الأسود المؤمنون فكلما قوي التحدي حطموه وهللوا من كان ظن بنادقاً مخزونةً ستظل في عصر القذائف تقتلُ أو كان ظن بأن جنداً عزلاً ستفل حزباً باللذائذ يركلُ أو كان ظن بأن خيمة معدمٍ ستدك قصر الكرملين فيبطلُ يا للعجائب بيد أن الله ذو أمرٍ إذا يقضيه، حتماً يحصلُ يا ليت عزاماً تمتع ساعةً معنا بنصرٍ وجهه المتهللُ سيسرُّ من هذا وتأنس روحه وجميل والشهداء حيث تحملوا قدموا إلى الرحمن أكرم راحمٍ وبصبر هم وقت الطعان تجملوا ومن العجائب مجلس الأمن الذي يقضي بجورٍ ليس يوماً يعدلُ فيقول: هِبُّوا أنقذوا إخواننا بقيادة رهن الإشارة فاعملوا أفما تزال وبعد عقدٍ كاملٍ وحصاد ما بذلوا تكيد وتشغلُ اسمع لحاك الله خلِ سبيلهم كي ينقذوا إخوانهم، هل تفعلوا؟ أو يستميت المسلمون جميعهم كي يرفع اليوم الأسى المتطاولُ دع عنك في أفغان أسد كريهةٍ لهمُ سهامٌ بالفرائص تدخلُ كم كنت أنت بكيت دمعة كافرٍ ودماءنا في كل صقعٍ ترسلُ(207/5)
انتصار المجاهدون في أفغانستان
هذا النصر الكبير هلل له المسلمون وكبروا في كل مكان، لستم أنتم الوحيدون الذين هللوا وكبروا لهذا النصر المبين وفرحوا به، لقد سر به المسلمون في كل مكان خاصةً وهم يعيشون أياماً صعبةً حالكة، يواجههم فيها عدوٌ كافر في كل بلد.
ففي الجزائر مناحةٌ وسجون عميقة، وأحكامٌ يمكن أن تصل إلى حد الإعدام بقيادات المسلمين هناك.
وفي تونس ألوان من التعذيب يندى لها الجبين حتى إن منظمة حقوق الإنسان وهي منظمة نصرانية كتبت تقريراً يندهش منه كل إنسان عمَّا يلاقيه المسلمون في سجون تونس، وعددهم يزيد على ثلاثين ألفاً.
وفي يوغسلافيا شن الصرب النصارى على المسلمين في البوسنة والهرسك منذ أسبوع هجوماً عنيفاً يذبحونهم ذبح الخراف، ويهدمون بيوتهم عليهم، ويقتلونهم في الشوارع والأزقة، وقد حاصروا المدينة، ثم احتلوا الأحياء الجديدة منها، وهم في طريقهم إلى السيطرة الكاملة على المدينة، بل يقول رئيس الدولة هناك وهو مسلم اسمه/ علي عزت، يقول: إذا لم يتدخل أحدٌ من المسلمين لحمايتنا، فأعلنوا من الغد البكاء على المسلمين هناك، وهناك خزان مخصص للغاز السام تتجه إليه قذائف الصرب النصارى لمحاولة تفجيره، فقد رمي منذ أيام بما يزيد على أربعين قذيفة، ولو تفجر، لكانت كارثة لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، إضافة إلى ما يعانيه المسلمون في بلاد كثيرة.
ففي وسط هذا الليل المظلم لاحت بوارق من الأمل للمسلمين فيما جرى في أفغانستان، فلا أحد يلومهم، ولا يثرب عليهم إذا أشرقت قلوبهم بالفرحة، نسأل الله تعالى أن يتم علينا جميعاً هذه الفرحة، ورغبةً مني في أن تكلل هذه الفرحة بفرحة أخرى وهي فرحة قيام الحكم الإسلامي في أفغانستان، فإنني رأيت أن أقل الواجب أن نخاطب إخواننا المجاهدين هناك، وخاصةً قياداتهم في مثل هذا المجلس المبارك ببعض المخاوف التي نضع أيدينا على قلوبنا خشية أن يتحقق منها شيء، فيكون ذلك تأخيراً لما نؤمله ونرجوه من قيام الحكم الإسلامي في أفغانستان.
إن التحدي الأول الذي يواجه إخواننا المجاهدين هناك الآن هو التفرق والتنازع والتوزع والتشتت، والله عز وجل يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ويقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فقد جعل الفشل وذهاب الريح في المعارك أثراً من آثار التنازع والتفكك والتشتت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: {إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا، -أو تطيعوا- من ولاه الله أمركم، ويكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} .
فليتق الله إخواننا المجاهدون، وليجمعوا كلمتهم، إن القدرة على الارتفاع عن حظوظ النفس، والسمو إلى الآفاق الرحبة في إيثار ما عند الله تعالى مما هو خيرٌ وأبقى، هو الانتصار الأكبر الذي ينتظره المجاهدين.(207/6)
المسلمون معكم ولو بالدعاء
أيها المجاهدون، وأيها القادة وأيتها الأحزاب إذا كنتم أنتم في الميادين والثغور, فالمسلمون في كل مكان معكم في المحاريب والدور, يزودونكم بالدعاء ويقولون: كما قال الله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129] .
لقد أهلك الله تعالى عدوكم ورأيتم هذا بأعينكم؛ ولكن بقي الاستخلاف، والله تعالى إنما يستخلف من قال في حقهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] فكونوا أيها الأحبة من هؤلاء فإن المسلمين بأمس الحاجة إليكم.(207/7)
أكاذيب على الجهاد الأفغاني
إن الصحافة الغربية والعربية، والإعلام الغربي والعربي في كثير من قنواته ووسائله، يراهن على الاقتتال بين المجاهدين, خاصة بين الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، وبين الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني , وبالذات الجناح الذي يقوده أحمد شاه مسعود , بل إن بعض تلك الوسائل مما تحمله بقلبها من الغيظ على المسلمين، وتمني الحرب فيما بينهم, أصبحت تفتعل أخباراً وهمية عن حصول قتال في بعض المناطق بين هذين الطرفين, ولكنَّ اتصالات مباشرة مع القادة الميدانيين بلغني بها عدد من الإخوة تنفي حصول هذا القتال، وتثبت أنَّ كل ما ذكر لا يعدو أن يكون مجرد إشاعات، وترويجات من بعض الصحف ووسائل الإعلام التي تتمنى أن يقع ذلك.
ومع الأسف الشديد أن عدداً من الصحف الناطقة باللغة العربية، كصحيفة الشرق الأوسط وصوت الكويت والحياة وغيرها فضلاً عن بعض الإذاعات العربية، وبعض الإذاعات الأجنبية، كلندن وغيرها, تروج لمثل هذه الأمور وتؤكد المواجهة بين أحمد شاه مسعود وبين القائد الثاني قلب الدين حكمتيار.
أقول: إنهم يفتعلون ويروجون لمثل هذه المواجهة المزعومة التي خلقتها أوهامهم وعقولهم، وأمانيهم، ويتعمدون إثارة النواحي القبلية، فتجد أن كثيراً من هذه الصحف ووسائل الإعلام تتحدث عن أحمد شاه مسعود، وأنه ينتسب إلى قبيلة الطاجيك، بينما قلب الدين حكمتيار ينتسب إلى قبيلة البشتو, وتحاول أن تثير هذه النعرة القبلية لافتعال خصومة بين قبيلتين من القبائل هناك, أو تحاول أن تثير النواحي الحزبية، حيث أن أحمد شاه مسعود يتبع للجمعية الإسلامية وقلب الدين حكمتيار هو قائد الحزب الإسلامي, فتحاول إثارة مواجهة بين الحزب والجمعية, أو تحاول إثارة المنافسة بين الشخصين في الجهود الذي بذلاها في الجهاد، وفي تحقيق النصر الكبير هناك, فلكل منهما جهد, فأما حكمتيار فإن له جهداً كبيراً منذ أول جهاد على كافة الجبهات, وأما أحمد شاه مسعود فقد كان قائداً ميدانياً كبيراً تابعاً لـ برهان الدين رباني في مناطق الشمال.
والأخبار على أي حال تشير إلى عزم حكمتيار على دخول كابل بالقوة إذا لم تستسلم, بينما يميل أحمد شاه إلى الحل السلمي، والتنسيق مع الضباط الذين يمكن أن ينضموا إلى المجاهدين، بل ربما أعلنوا له أنهم ينضمون إليه شريطة المشاركة، أو وجود نوع من المشاركة لهم في حكومة جديدة.(207/8)
بيان من أطراف الصراع في أفغانستان
وقد وصلني في هذا اليوم بيانات مختلفة من الطرفين، فوصلني بيان من الحزب الإسلامي يحذر من تدخل دولة مجاورة, وأعتقد أن هذه الدولة المجاورة على الأرجح هي إيران, وأنها تحاول أن تستغل بعض الأقليات داخل أفغانستان، لإثارة النعرات، وتمزيق الجهاد هناك, وإيجاد موضع قدم للشيعة هناك, هذا في تقديري أن المقصود هي إيران، وإن كان البيان لم يحددها على سبيل الدقة, ولكنه أشار إلى دولة مجاورة تحاول استغلال النواحي العرقية واللغوية، كما يقول البيان, ودعا إلى توحيد الصف، ومواصلة الجهاد والقضاء على كل المحاولات التي يتشبث بها رموز النظام السابق، حتى يتحقق النصر المبين والكامل, وتقوم حكومة للمجاهدين ممثلة فيها كل الأحزاب، وكل الأطراف، وكل المناطق، وكل الطوائف.
وبمقابل ذلك وصلني من الجمعية بيانان من المندوبية العامة لها, في أحدهما أن القائد أحمد شاه مسعود يطمئن المسلمين ويطالب زعماء المجاهدين في بيشاور أن يشكلوا الحكومة الجهادية فوراً لتسلم السلطة في كابل, وقد حذر البيان من الاستماع إلى إشاعات الحاقدين والحاسدين حول قادة الجهاد وانتصاراتهم.
كما أبدى البيان أسفه؛ لأن بعض الصحف لا تشعر بالمسؤولية، وتضم صوتها إلى صوت الإعلام المغرضة في إثارة النعرات الجاهلية النتنة في أفغانستان, هكذا يقول البيان.
كما وصلني بيان آخر حول الموضوع نفسه، ومن الجهة ذاتها, وفيه تطمين لقادة الجهاد الميدانيين، وتحذير من الدعايات التي تحاول أن تخترق الصف، وتحذير من الانسياق وراء مخططات العدو الذي يحاول تفريق الصف إلى شمال وجنوب, أو إلى أصحاب هذه اللغة أو تلك, وينادي بقيام حكومةٍ إسلامية تمثل فيها جميع الأحزاب.
كتبت إليَّ الجمعية اليوم خطاباً تعرب فيه عن بالغ سرورها بهذه المحاضرة التي علموا بإقامتها، ويطمئنوني إلى أنه لا تنسيق ولا علاقة بينهم في الجمعية، وبين الرافضة، وأن الرافضة شرذمةٌ قليلون في أفغانستان ولا يعبأ بهم.
وأشكر عبد الأحد الذي وافاني بهذه الرسالة، وأقول: حسب المعلومات فإن عدد الشيعة في أفغانستان هو حوالي (10%) وهم يسكنون في مناطق محدودة, وتقف وراءهم إيران؛ لإثبات موقع لهم في أي حكومة تشكل في أفغانستان.(207/9)
الواجب على قادة الجهاد في أفغانستان
إن من واجب الطرفين "الحزب الإسلامي، والجمعية الإسلامية" إن من واجبهم جميعاً الجلوس على مائدة المفاوضات، فالتفاهم بينهم أولى من التفاهم بينهم وبين أي طرفٍ آخر, وإن من الواجب على رجالات الجهاد في أفغانستان أن يروا الله تعالى من أنفسهم خيراً، في التدخل لدى كافة الأطراف للإصلاح ورأب بالصدع, كما إنه من الواجب على العلماء، والمشايخ ورجال الدعوة، أن يساهموا في الأمر سواء بالاتصال الشخصي بالذهاب إلى هناك، أو بالمراسلة، أو بالمهاتفة، أو بغير ذلك من الوسائل والأسباب.
وإنني أحمل الإخوة الموجودين هناك من العرب، وغيرهم من رموز الجهاد ورؤوسه، الذين كان لهم قدم صدق، أن يتدخلوا لدى القادة، ولدى من هم حول القادة، ولدى مستشاريهم، ولدى رؤساء دوائر الأحزاب، أن يتدخلوا بصورة قوية وحازمة لتوحيد الصف، وإزالة أي بادرةٍ من بوادر الخلاف قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء:84] .
ونسأل الله تعالى أن ينصر المجاهدين، ويوحد صفهم ويجمع كلمتهم، ويقيهم شر أنفسهم، وشر عدوهم.
ولا يفوتني أن أشير إلى أنه قد هاتفني في هذا اليوم الأخ أبو عبد الله أسامة بن لادن، وحدثني عن قدوم بعض المشايخ إلى إسلام أباد، للصلح بين الأطراف من هذا البلد، وعسى الله أن يكلل الجهود بالنجاح, ونرجو أن تكون جهوداً مثمرة، وأن تتبعها جهودٌ أخرى كثيرة من كل المسلمين, وأقول: إن واجبنا جميعاً أن نضاعف جهودنا في هذا الباب، حتى من لا يملك إلا الدعاء، بأن يوحد الله تعالى كلمة المجاهدين، ويجمع كلمتهم، ويجعلهم إخوةً متحابين متناصرين، ويكلل جهدهم بالنجاح، ويقيم على أيديهم دولة الإسلام في أفغانستان, ومن لا يملك إلا الدعاء فعليه أن يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء.
إن قيام دولة للإسلام في كابل أمرٌ عظيم, وإننا سننسى متاعب ثلاث عشرة سنة كلها, بل سوف نذكرها بمزيد من الفخر، والفرح والإكبار، إذا تصورنا أنها أثمرت قيام حكومةٍ إسلامية في أفغانستان؛ لكن لو كانت الأخرى -لا قدر الله- وآل الأمر إلى نوعٍ من الخلافات بين المجاهدين، أو المواجهة أو المعارك, فكم سوف تكون الكارثة عظيمة؟ وكيف سيكون وقعها حاداً وكبيراً على قلوب المسلمين جميعاً, نسأل الله تعالى ألا يكون ذلك.(207/10)
نداء إلى قادة المجاهدين
إنني أنادي قادة المجاهدين وأقول لهم: اتقوا الله تعالى: ليس في أنفسكم فحسب, ولا في أحزابكم فحسب, ولا في الشعب الأفغاني فحسب, بل اتقوا الله تعالى في أمة الإسلام التي كانت ولا زالت معكم خطوةً بخطوة، والتي علقت عليكم الآمال العظام, وفاخرت بكم أمم الأرض كلها, وتغنت ببطولاتكم الحربية زماناً طويلاً، فدعوها تتغنى الآن ببطولات الانتصار على النفس, وعلى المؤثرات القريبة، فهي معركة أخرى لا تقل أثراً ولا خطراً عن المعارك العسكرية.
إنه لكي يتم النصر ويكتمل للمجاهدين، لا بد من توحيد صفوفهم, والصورة المعقولة التي نتطلع إليها هي أن ينسق المجاهدون مواقفهم فيما بينهم, وأن يرسموا القنوات التي يتم من خلالها التفاهم حول أي مشكلة, ويتفقوا على تجنب استخدام القوة لحل أي مشكلةٍ تنجم فيما بينهم.
فالمسلمون الذين كانوا يبتهجون بكل معركةٍ يثيرها المجاهدون مع الشيوعيين، لا يريدون أبداً أن يسمعوا معركة داخل الصف المسلم.
فيا معشر أحبابنا في أفغانستان نسألكم بالله العظيم الذي تحبونه وتعبدونه، وتجاهدون في سبيله, ونسألكم بالله العظيم الذي تقوم السماوات والأرض بأمره, ونسألكم بالله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه ألا تشمتوا بنا وبكم الأعداء, وألا تروعوا قلوبنا بسماع ما يسوء, وأن تصمموا على صناعة النصر الكامل المبين, بإذن الله تعالى رب العالمين.(207/11)
انتصار المجاهدين في أفغانستان انتصار لكل المسلمين
إن الانتصار للمجاهدين في أفغانستان، ليس نصراً لهم في بلادهم فحسب, بل هو نصرٌ للمسلمين في كل مكان, وإن المسلمين -ونحن جزءٌ منهم- يتطلعون بفارغ الصبر إلى ما تنجلي عنه هذه الأحداث المتلاحقة، إن المجاهدين ومن ورائهم المسلمون يعيشون جميعاً عصر الهيمنة الغربية, والتسلط الاستعماري الجديد, الذي أول ما يستهدف الأمة الإسلامية, وهيهات هيهات! أن يستطيع المسلمون الصمود في وجه الاستعمار النصراني الجديد, وهم دولٌ متفرقة متناحرة, فكيف نتوقع أن يصمدوا فيواجهوا هذا العدو الجديد، العدو الغربي النصراني، حين يكونون أحزاباً متفرقة داخل دولةٍ واحدة، وكيانٍ واحد.
إن الأمل الذي يراود قلوبنا أن تفلح أفغانستان المسلمة في الخروج من الحصار الذي يحاول فرضه عليها الأعداء, ولن تستطيع إلا إذا تجاوزت هذه الأحزاب والجمعيات القائمة فيها خلافاتها, واتفقت على صيغةٍ مقبولة تحقن الدماء وتضبط المسيرة.
بل إننا نحلم ونطمع أن يكون النصر للإسلام والمسلمين في أفغانستان مثلاً يحتذى لجيرانها الجدد، من الجمهوريات التي خرجت لتوها من الاتحاد السوفيتي، والغرب أخشى ما يخشى أن تتحول إلى جمهوريات إسلامية -فعلاً- وهي تملك ألواناً من السلاح لا يملكه المسلمون في بلادهم الأخرى, فيسلط الغرب عليهم إمكانياته وطاقاته، بل يسلط عليهم دولاً علمانية كتركيا، أو غيرها لمحاولة الحيلولة بينها وبين الإسلام, فلو قام للإسلام قائمة في أفغانستان لكان هذا -بإذن الله تعالى- سبباً ووسيلةً وذريعةً إلى امتداد الإسلام، وقيام حكمه في تلك الجمهوريات، التي طالما حكمها الإسلام قرونا طويلةً من الزمان.(207/12)
أخطار تهدد الجهاد في أفغانستان وتؤخر النصر
إن من أهم تأخر النصر فيما مضى، وتضخم التضحيات هو:(207/13)
طواغيت العالم
أيها الإخوة المجاهدون أيها القادة المناضلون إن العالم مليءٌ اليوم بالطواغيت الذين يسومون شعوبهم سوء العذاب, ويسرقون لقمة الخبز من أفواه المساكين, ومليءٌ بالعملاء الذي يبيعون مكاسب أمتهم للأعداء الكافرين, ومليء بالمتنافسين على الكراسي من عبيد الدنيا، والدرهم والدينار, فهو لا يحتاج إلى رقم جديد من هؤلاء؛ ولكنه يحتاج حكاماً من طرازٍ آخر، ومن نوعٍ فريد ممن قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] .
فبالله عليكم احرصوا على أن تكونوا من هؤلاء, وابذلوا جهودكم في توحيد الصف, وتلافوا الخلافات الجزئية, ولا مانع من التنازل أحياناً إذا لزم الأمر, وإلا فإن الله تعالى قد خاطب أفضل البشر بعد الأنبياء، وأكرم الناس على الله تعالى بعد الرسل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم من هم إيماناً وصدقاً وجهاداً، وإخلاصاً وتضحيةً وإيثاراً للآخرة، وإعراضاً عن الدنيا، وزهداً في مكاسبها، خاطبهم ربنا جل وعلا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] وقال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .(207/14)
الخطر الإيراني
الخطر الثالث الذي يهددهم هو: الخطر الإيراني, خاصة مع ظهور أنباء صحفية، وهي تحتاج إلى تأكيد عن وجود إنزال جوي من إيران، في القاعدة الجوية الثانية التي استطاع المجاهدون أن يسيطروا عليها, ووجود عدد لا بأس به من قوات الكومندوز الإيرانية, ومحاولة الاتصال ببعض الأطراف لافتعال الخصومة مع المجاهدين, فهؤلاء هذا هو دورهم, هم الطابور الخامس من خصوم السنة عبر التاريخ، مهمتهم سرقة الانتصارات، والوقيعة بين المسلمين، وإرباك الصف، وجر الأطراف المتنازعة إلى معارك فيما بينها قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] .
إن إيران على مدى ثلاثة عشر عاماً لم تتدخل مع المجاهدين, ولم تدعمهم ولا بعود كبريت, بل كانت شوكةً في صدورهم، وحلوقهم، فكيف الآن تدخلت، وأرسلت قوات لها، وحاولت أن تفسد بين المجاهدين؟! هذا جزء من مخططها لإقامة إمبراطورية كبيرة، تنطلق من إيران، وتشمل عدداً من الدول المجاورة, كما كان شاه إيران يحلم بذلك من قبل, فالتدخل في العراق واضح, ومعروفٌ أن إيران بعثت قوات جوية، وضربت مواقع للمعارضة في العراق, والتدخل في سوريا واضح, والتدخل في لبنان واضح, بل إن هناك أخباراً اليوم وأمس مفادها أن إيران قامت باحتلال أجزاء من أراضي أذربيجان وهي جمهورية استقلت حديثاً عن الاتحاد السوفيتي, واستولت على جزء من أراضيها المتاخمة والمجاورة لها, وهذا كله يتم وسط أنباء تتحدث عن ميزانية ضخمة للتسليح الإيراني, ومحاولة جادة للحصول على السلاح النووي، والإفادة من الخبراء السوفيت في هذا المجال.
فأقول: إنه يجب علينا، وعلى المسلمين جميعاً، وعلى إخواننا في أفغانستان، الحيلولة دون تلاعب أهواء الساسة بثمرات الجهاد في أفغانستان.(207/15)
التدخل الدولي
الخطر الثاني الذي يهدد إخواننا المجاهدين هناك ويجب أن يكون موضوعاً في الاعتبار هو: خطر التدخل الدولي.
ومن المعروف أنه بعد الحرب الباردة ونهايتها، أصبحت أمريكا تحاول أن تكون شرطياً في العالم كله, وهي تخشى من أفغانستان بالذات لأسباب: 1- أن أفغانستان أثبتت الأحداث عبر السنوات الماضية أنها عرينٌ، وأنها مأسدَةٌ يمكن أن تكون مقبرةً للطغاة والغزاة من أي لونٍ، أو جنسٍ كان, فهي بذلك مصدر قلق وإزعاج لهم.
2- جوار أفغانستان للجمهوريات الإسلامية التي خرجت لتوها من الاتحاد السوفيتي، والتي يمكن أن يحدث فيها ما لا يحمدون عليه.
3- جوار أفغانستان لباكستان، وهي دولةٌ شعبها مسلم، وحكومتها تحاول أن تقترب من الإسلام.
4- جوار أفغانستان لإيران.
وما أدراك ما إيران؟! وسوف أتحدث بعد قليل عن بعض المخاوف من إيران، هذا مع أنني أقول الآن وأعتقد أن الغرب ليس راضياً حتى عن وضع الحكومة الرافضية في إيران؛ لأنه لا يريد أن يقوم لأي حكومةٍ أخرى قائمة، إلا أن تكون حكومةً نصرانية, وأي حكومة أخرى قد يهادنها، أو يسالمها لفترةٍ مؤقتة لأنه لا بديل عنها؛ لكن حينما يتمكن من إيجاد حكوماتٍ علمانية، بحتة لا تؤمن بدينٍ ولا بعقيدة، حتى ولو كانت عقيدةً فاسدة أو ديناً منحرفاً, فإنه لن يتردد في دعم العلمانيين للقضاء على كل أصحاب العقائد, حتى ولو كانت عقائدهم منحرفة.
وعموماً فإن الغرب يبدي مخاوفه بشكل مستمر مما يسميه بالحكومات الأصولية, فموقف الغرب مثلاً من السودان معروف, وموقف الغرب من الجزائر معروف, وموقفه من يوغسلافيا معروف, أما موقف الغرب من أفغانستان فقد أصبح حديثُ المجالس وسارت به الركبان, ولم يعد بحاجة إلى ذكرٍ أو بيان، وقد عرضت الأمم المتحدة حلاً يتمثل في إيجاد حكومةٍ مؤقتة من حوالي (16) شخصاً نشرت جريدة الحياة أسماءهم، وليس في هؤلاء شخصٌ واحدُ من المجاهدين, أو على صلة تذكِّرُ بهم, واعتبرت أن هذه الحكومة محايدة ليست من المجاهدين، ولا من الحكومة القائمة يوم أعلن هذا الحل.
ولكن الحسم العسكري الذي لجأ إليه المجاهدون، ووفقهم الله تعالى إليه، قد أسقط هذا الخيار الذي عرضته الأمم المتحدة, فحاولت أن توسع آفاق المشاركة، وتعد المجاهدين بإمكانية أن توجد لهم مقاعد؛ ولكن يبدو أن هذا الحل على أي حال قد تعدته الأحداث، وتجاوزته إلى غير رجعه, لكن يمكن أن تقدمه الأمم المتحدة، أو بعض الدول المجاورة، أو بعض الدول الأخرى بأسلوبٍ آخر.
هناك بالتأكيد وجود لبعض القوات، ولو يسيرة من الأمم المتحدة في كابل, بل هناك أخبار تقول: بأن استيفان مندوبهم يسعى في الوقيعة بين حكمتيار، وبين أحمد شاه مسعود , فيذهب إلى هذا تارةً، ويذهب إلى هذا تارةً أخرى، ويسعى بالوقيعة بينهم.
أيها الأحبة هنا وأيها الأحبة هناك في أفغانستان باسم الأمم المتحدة دمرت دولٌ قائمة ممكنة، وقضي على أسلحة هائلة واقتصاد غني, وبعدما مارست الأمم المتحدة التخلص من جميع الأسلحة في العراق, ها أنتم ترون الأمم المتحدة تسعى إلى القضاء على كل ألوان التسليح الموجود في ليبيا ومن ثم الانتقال إلى البلاد الإسلامية الأخرى، التي أشرت إلى شيء منها للقضاء عليها.
وباسم الأمم المتحدة مورست ألوان من الإذلال للشعوب الإسلامية، حتى أن هناك أخباراً تقول: إن عدد الذين ماتوا جوعاً وعطشاً وعرياً في العراق يزيدون على مائة وعشرين ألفاً!! وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} , فما بالك بمائة وعشرين ألف إنسان؟!! بل هم مسلمون من هذا البلد المنكوب بحكومته أولاً, والمنكوب بتسلط الأعداء عليه ثانياً.
ولا يبعد أبداً أن تسعى القوى النصرانية إلى الإفادة من أي بادرة تناقض بين المجاهدين في أفغانستان، لتجعل من أفغانستان ضحيةً جديدة للأمم المتحدة, فهي تبحث عن موطئ قدم للتدخل هناك.
وليس من المتيسر بعد أن قضى الإخوة المجاهدون ثلاثة عشر عاماً في قتال الروس، وأسقط الله تعالى الشيوعية، وكان لهم دورٌ ومشاركة وسببٌ في ذلك، أن تبدأ أو أن نتسبب في بدء معركةٍ جديدة مع الغرب النصراني الكافر، المدجج بالسلاح, فيجب أن ندق طبول الخطر من الحلول والمحاولات التي يمكن أن تقوم بها الأمم المتحدة، للتدخل باسم حقن الدماء، وباسم حماية الشعب، وباسم عدم المواجهة, حتى أن بعضهم يقول: إننا نتدخل من أجل عدم وجود مواجهة بين المجاهدين بعضهم مع بعض, وما عهدناهم غيورين على الدم الإسلامي إلى هذا الحد.(207/16)
الاختلاف والتنازع
الخطر الأول هو: الاختلاف والتنازع, وأخشى ما يخشاه المخلصون أن يكون الاختلاف والتنازع الآن سببا ًفي ضعف الثمرة, أو خطفها من أيدي المجاهدين ليظفر بها غيرهم، ممن لم يكن لهم في الجهاد أيُّ دورٍ أو مكانة, سواء من أركان النظام السابق، أو من غيرهم.
ولذلك يتعين على جميع الفصائل الجهادية في أفغانستان -وهذا أمرٌ مهم جداً- أن تتقي الله تعالى ولا تستبد برأيها, ولا يجوز لأي فصيلٍ من الفصائل أن يقوم بتشكيل حكومةٍ جزئية من ذات نفسها؛ لأن معنى ذلك هو التوتر، وتصعيد الأحداث، وافتعال المواجهة, بل يجب أن يتم تشكيل الحكومة المؤقتة بالتشاور والتفاوض مع كافة الأطراف الجهادية بدون استثناء، من أهل السنة الذين كان لهم دورٌ في الجهاد، وفي تحقيق هذا النصر, لتقوم هذه الحكومة بضبط الأمن وحفظ الإدارة، وتسيير الأمور، ريثما تتيسر الأوضاع لقيام حكومةٍ أكثر دقة، وأكثر انضباطاً يرضى عنها الجميع.
وإننا يجب أن ننادي جميعاً كل من يملك شيئاً أن يبذله في سبيل توحيد المجاهدين, وفي سبيل تجنيبهم شر الاصطدام والمواجهة, فالجهود الإسلامية المكثفة، هي التي يمكن أن تحول بإذن الله تعالى دون ذلك, ولا يجوز لنا أبداً معاشر المسلمين في كل مكان، لا يجوز لنا أن نقف متفرجين، نسمع الأخبار من الإذاعات، أو نقرأها من الصحف ثم ننحي باللائمة على هذا الطرف، أو ذاك، أو على فلان أو فلان! لا يجوز هذا أبداًَ، بل يجب أن يتدخل كل القادرين -وكلنا بإذن الله تعالى قادرون ولو على الشيء اليسير- لمحاولة جمع كلمة المجاهدين، والوصول إلى إقامة حكومة مشتركة من كل الفصائل التي شاركت في عملية الجهاد عبر ثلاثة عشر عاماً.
هذا هو الخطر الأكبر الذي يهدد إخواننا المجاهدين هناك، خطر التنازع والتفرق, وإننا نقوله، وقلوبنا فرحةٌ مسرورةٌ بهذا النصر الكبير الذي حققه الله على أيديهم، بعدما كادت قلوب كثير من الناس أن تستيئس، ونرجو أن يكون الأمر كما قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] .
ونرجو أن يكون الحال كما قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] .(207/17)
خوض معارك لابد منها
أيها الإخوة المجاهدون أيها الزعماء يا قادة الأحزاب بل يا كل القادرين ويا أصحاب النفوذ إن المعركة مع الشيوعية في أفغانستان ربما تكون قد انتهت فعلاً، بل هي قد انتهت بحمد الله تعالى, وقد ساهم المجاهدون كما أسلفت وكان لهم دور في الأزمات الاقتصادية التي سقط بسببها الاتحاد السوفيتي, ولذلك عرف الناس لهم هذا ولكن ثمة معارك جديدة وعديدة يجب أن تخوضوها:(207/18)
المعركة الأولى: المعركة مع النفس
المعركة مع النفس في مقاومة الهوى، والأثرة، وإيثار المصالح الإسلامية العليا، والرغبة فيما عند الله عز وجل فالآخرة خير وأبقى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] ويمكن تفويض أطرافٍ محايدة من العلماء المعروفين، للإصلاح بين المختلفين: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] والله تعالى أمر في بعض الأمور بإيجاد الحكومات بين الأطراف المتنازعة, وهذه من هذا السبيل.(207/19)
المعركة مع الجهل
إن الانهماك في العمل العسكري على مدى السنوات الطويلة الماضية، لا شك أن له آثاره البعيدة في انشغال المسلمين جميعاً هناك، عن الاشتغال بالعلم، والتعليم، والدعوة, فضلاً عن أن الشعب الأفغاني كغيره من الشعوب الإسلامية الأخرى، يحتاج أصلاً إلى جهودٍ كبيرةٍ في الإصلاح، والتعليم والدعوة ورفع الجهل عنه.
تعليمهم دين الله عز وجل الصحيح المبرأ من البدع والخرافات, الموافق لما جاء في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أصولاً وفروعاً, فإن الناس لا يمكن أن يجتمعوا إلا على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, فلنتفق على هذا القدر الذي يجمع عليه المسلمون جميعاً, وأن نتفق للتحاكم إلى الكتاب والسنة، وإلى العلماء العاملين بهما, وندع ما سوى ذلك, ولنربِّ الناس على الدين الصحيح أصولاً وفروعاً، عقيدةً وشريعة، عسى الله تعالى أن يجعل من هذا النصر ذريعة وسبيلا إلى انتصارات أخرى أكبر وأوسع، فإننا نطمعُ بأن تكون الرقعة الإسلامية كلها أرضاً للحكم الإسلامي، ثم تمتد لمواجهة الكفر المدجج بالسلاح في الغرب والشرق.
ومن التعليم -أيضاً- الذي يحتاجون إليه التعليم المدني الذي يحتاجونه، باعتبارهم دولةً إسلاميةً فتية.(207/20)
المعركة مع الفقر
وكذلك المعركة مع الفقر والسعي الجاد لإعمار أفغانستان, وإصلاحها اقتصادياً وزراعياً؛ فإنها قد لقيت أثناء الحرب من التدمير، والحرق وغير ذلك، على أيدي رموز النظام السابق وعملائه الشيء الكثير, فهي أحوجُ ما تكون الآن إلى مقاومة ومحاربة الفقر الموجود, وقد كاد الفقر أن يكون كفراً, والحاكم المسلم من أولى مهماته، وأكبر حاجاته أن يسعى إلى إغناء الناس -على الأقل- في الحاجات الضرورية؛ لأن هذا مما شرع وجود الحاكم في الإسلام من أجله, فهو أحد الوظائف التي يقوم الحاكم بتوفيرها.(207/21)
المعركة مع الجريمة
كذلك المطالبة باستتباب الأمن وضبط الأحوال, وتطبيق حدود الله تعالى على عباده, وتنظيم القضاء الشرعي, وغير ذلك وبشكل عام، فحتى حين تقوم حكومة إسلامية للمجاهدين في أفغانستان, ليس معنى هذا نهاية المطاف أبداً, بل إنهم ورثوا بلداً قد حطمته الحروب، وأكلت الأخضر واليابس, والناس يتطلعون إلى ما يصنعه المجاهدون لهم هناك, من الخدمات والتيسيرات، وجميع دول الدنيا اليوم تتسابق إلى إرضاء شعوبها بتوفير ما يحتاجونه, وتهيئة الحياة الكريمة لهم, وهذا قبل ذلك كله، هو ما ينشده الإسلام ويدعو إليه.
ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، ضمن حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه, ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به} , وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه: {ما من عبدٍ يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة} , وفي صحيح مسلم أيضاً عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن شر الرعاء الحطمة} , أي: الذي يسوق رعيته بالقوة والشدة.
فإننا ندعو المجاهدين إلى أن ينتقلوا إلى هذه الآفاق الواسعة، ويكونوا على مستوى التحدي الذي يواجههم الآن في أفغانستان, ونحن على ثقةٍ كبيرة -إن شاء الله- أنهم أهلٌ لهذه المهمة, ونسأل الله تعالى أن يرينا فيهم ما تقر به عيوننا.
إن المعركة الآن تبدأ وفق مرحلةٍ جديدة، ولا يجوز أن تلقي باللوم والمسؤولية على إخواننا المجاهدين في أفغانستان، ثم نتخلى! كلا ثم كلا! إن دورهم كبير؛ ولكن ثمة دور للمسلمين في كل مكان, بل نقول الآن: بدأ الجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النسائي وغيره, الآن بدأ القتال والجهاد الجدي العظيم, ولذلك فما أحوج المسلمين في أفغانستان إلى الدعم المادي من إخوانهم المسلمين, المتمثل في التبرعات التي يجب أن تستمر, لإقامة المدارس، وبناء المساجد، والإعمار, ومساعدة الفقراء, ونشر الكتب, ونشر العلم، والقيام بالدعوة, وتحقيق مطامح المسلمين هناك في كل مجالاتها, وتحصين هذا البلد ضد خصومه الداخليين والخارجيين.
فيجب أن تستمر جهود المسلمين في هذا البلد، وفي كل بلد لدعم إخواننا المجاهدين في أفغانستان، ويجب أن يكون هذا النصر الكبير الذي نسمع به الآن, ونسأل الله تعالى أن يتمه، أن يكون حافزاً ودافعاً لأصحاب الأموال للمساهمة في دعم الجهاد الأفغاني, ويجب أن يكون هذا الدعم وهذا من نافلة القول، في أيدٍ أمينة توصله إلى من تعتقد أنه لها أهل وتصرفه في الميادين التي تناسب, ولا نكتفي بهذا الدعم؛ بل لا بد من الدعم المادي بكافة صوره, فإن الدعم المادي يجب أن يستمر إعلامياً، ودعوياً، وبكل وسيلةٍ وأسلوبٍ نستطيع بها أن ندعم إخواننا المجاهدين هناك.
وإنني أعتبر أيها الأحبة أن رفع الأكف بالضراعة والدعاء إلى رب العالمين، خاصةً في الأسحار, وفي أوقات إجابة الدعاء, أنه من أعظم أسباب النصر والتمكين, وقد رأينا بأعيننا آثار هذا الدعاء في أمور كثيرة رأيناها وسمعناها.
فينبغي أن نرفع أيدينا بدعوات ضارعة حارة إلى الله عز وجل.
الخاتمة: ولهذا أختم هذا المجلس الحافل العامر المبارك بهذا الدعاء الذي أسأل الله ألا يحجبه: اللهم يا مالك يوم الدين، ويا ناصر المستضعفين ويا جابر المنكسرين، ويا غياث المستغيثين يا الله يا الله يا حي يا قيوم يا من لا إله إلا هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد, اللهم إن آمال المسلمين قد تعلقت بالجهاد في أفغانستان, فحقق فيما يرضيك آمالهم, وبلغهم سؤلهم وأقر عيونهم بقيام دولة تحكم بالإسلام هناك, اللهم اجمع كلمة المجاهدين على الحق يا رحيم, اللهم ألّف بين قلوبهم, اللهم اهدهم سبل السلام, اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور, اللهم جنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم جنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم جنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم اكفهم شر نفوسهم، وشر كل ذي شر, وشر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم, اللهم إنهم حفاةٌ فاحملهم, وعراةٌ فاكسهم, وجياعٌ فأطعمهم, ومتفرقون فاجمعهم.
اللهم اجمع قلوبهم على الهدى, وأبعدهم عن أسباب الردى, اللهم من أرادهم بسوء من داخلهم أو خارجهم فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره، وأدر عليه دائرة السوء يا حي يا قيوم, اللهم إن قلوب المسلمين مجروحة مكلومة، مما حصل لهم من بقاع كثيرة، آخرها ما أصابهم في الجزائر, وفي تونس وفي يوغسلافيا وفي بورما فيا سامع الصوت ويا سابق الفوت، ويا محول الأحوال، ويا من يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ويرزق من يشاء بغير حساب، نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت, وإذا دعيت به أجبت, أن تجبر كسر قلوبهم وقلوب المسلمين بتحقيق النصر لهم في أفغانستان عاجلاً غير آجل, وأن تجمع الأطراف كلها على الحق يا رحمن يا رحيم, وأن تزيل أسباب العداوة والشحناء فيما بينهم.
اللهم وفق علماء المسلمين ودعاتهم إلى أن يقوموا بواجبهم في الإصلاح، وجمع الكلمة بين المجاهدين, اللهم وفق سائر المسلمين إلى مناصرة إخوانهم في أفغانستان، وفي غيرها بالقول والفعل والدعاء.
اللهم يا حي يا قيوم يا قريب يا مجيب، يا واحد يا أحد يا صمد, يا الله هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان, إنه لا حول ولا قوة إلا بك, فلا تكلهم إلى أنفسهم، ولا إلى أحد من خلقك يا حي يا قيوم, وكن بهم رؤوفاً رحيما إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(207/22)
مشاركة
مشاركة: هذا أحد الإخوة جادت قريحته بقصيدة، أو لعله حفظها، لا أدري بالضبط, لكن على كل حال، هي أبياتٌ جميلة لا بأس أن نشنف أسماعكم بها, يقول: الله أكبر للجهاد فكبروا إن الذي نصر المهيمن ينصر هزمت جموع الكافرين بكابل أما الذين يتاجرون تبخَّر عشر من الأعوام زادت أربعٌ وأشاوس الإيمان فيها تزأر قد جاءها الدب المدل بنفسه يعلو جبين الدب لون أحمر طبعاً للقصيدة بقية!!(207/23)
الأسئلة(207/24)
قنوت النوازل
السؤال
هل يشرع قنوت النوازل في هذه المناسبة التي تعتبر مناسبة حرجة, ومما يساعد على الدعاء بجمع شمل المسلمين وتوفيقهم؟
الجواب
والله إنها مناسبة حرجة وحساسة جداً الآن, وأنا أعتبر أن هذه ثمرة ثلاثة عشر عاماً، الآن يمكن أن تقطف لصالح المسلمين, وهو ما نتمناه ونسأل الله أن يحققه، أو لصالح غيرهم, وهو ما نسأل الله تعالى أن لا يكون.
فالدعاء لهم بكل وسيلة، وبكل مناسبة مطلوب, وليس بشرط أن يكون هذا عن طريق القنوت, فإما عن طريق القنوت، وإما أن يدعو لهم الإنسان في سجوده, وإما أن يدعو لهم على انفراد, وإما أن يدعو لهم في مثل الاجتماعات كصلاة الجمعة، أو في آخر الليل, وبعد الصلوات المكتوبات إلى غير ذلك من أوقات، وأحوال الإجابة للدعاء التي يرجى معها الإجابة.(207/25)
لكل أمة نخالة
السؤال
نسمع كثيراً عن انتصار المجاهدين الأفغان, وإذا قلت لأحد من الناس هنا بانتصارهم لا يأبه بكلامك، ويقول: انظر إليهم هنا لا يحافظون على الصلاة، ولا على غيرها, فكيف ينصرون وهم كذلك؟ ما رأيكم وما نصيحتك لهؤلاء؟
الجواب
من قال لك أنهم لا يحافظون على الصلاة هنا، ونحن نرى كثيراً منهم بحمد الله من المحافظين على الصلاة؛ ولكن كل أمةٍ وكل شعب له سقط وله نخالة وله حثالة, فلا عبرة بهؤلاء ولا يقاس عليهم غيرهم.
والواقع يثبت أن الأفغان, من الشعوب الصابرة الأبية، الصامدة المجاهدة الشجاعة, ففيهم خير كثير، وعندهم إن شاء الله استعداد لتقبل الخير, متى سلك الذين يدعون إليه الأسلوب الحسن, ونسأل الله أن يوفق الدعاة أيضاً إلى الانتشار في أوساط الناس هناك ودعوتهم إلى الله تعالى.(207/26)
انقلابٌ بين المجاهدين
السؤال
حدثني عن الانقلاب هناك, ومدى آثاره السلبية والإيجابية على الجهاد؟
الجواب
لعل الأخ يقصد بالانقلاب ما حصل بين أحمد شاه مسعود، وبين الضباط الذين كانوا من النظام السابق، ثم انتفضوا عليه وانقلبوا عليه, فيبدو أن هناك نوعاً من التنسيق بين أحمد شاه مسعود وهو قائد جبهة تابعة لـ برهان الدين رباني، الجمعية الإسلامية، وبين عدد من القادة والضباط الذين كانوا تابعين سابقاً للحكومة, وترتب عليه ما ترتب من سقوط عدد من ولايات في أيديهم، وعدد من القواعد, ولذلك تشكل المجلس من محمد نبي عظيمي، ومجموعة معه, بل الأخبار تؤكد أن هناك لقاءً بين محمد نبي عظيمي، وبعض أو إحدى فصائل المجاهدين, ولعل هذا هو سر من أسرار خطورة الخلاف الذي يمكن أن ينجم هناك.(207/27)
مناصرة ودعاء
السؤال
نرجو التركيز على مناصرة إخواننا هناك, فالجميع يكيد، وحجم الكيد كبير، ويحتاج منا إلى جهدٍ كبير ودعاءٍ وبذل ودفاع, وعدم ترديد الإشاعات والأكاذيب, ففي ذلك عون لإخواننا بإذن الله تعالى, والرجاء منكم تذكيرنا والجميع بذلك، والوقوف مع إخواننا في خندق واحد؟ فلقد تعودنا على تضخيم الخلافات سواء فيما حصل في أفغانستان، أو في غيرها، وبفضل الله فوت المجاهدون الفرصة وقضوا عليها فيما سبق, ونسأل الله أن يقضوا عليها فيما يأتي؟
الجواب
نعم نشاطر الأخ هذا الدعاء, ونسأل الله تعالى أن يجمع كلمة المجاهدين على الحق إنه على كل شيء قدير.(207/28)
مصدر تلقي الأخبار
السؤال
من أين نأخذ الأخبار الموثوقة عن المجاهدين الأفغان وعن المسلمين في كل مكان؟
الجواب
هذه إحدى المشكلات والمعضلات؛ لكن هناك بعض الصحف تنشر أخباراً أحياناً أصح وأدق من غيرها, فيمكن للإنسان أن يستفيد منها, وبالنسبة للمجاهدين الأفغان, فهناك مجموعة من المجلات يصدرها المجاهدون هناك ويمكن أن يستفاد منها.(207/29)
حرب على المجاهدين العرب في باكستان
السؤال
هل صحيح أن المجاهدين العرب طردوا من باكستان، وأغلقت مكاتبهم وضيافتهم؟ وماذا تتوقع أن يكون مصير المجاهدين العرب بعد فتح كابل؟
الجواب
نعم، المجاهدون الذين كانوا يقيمون في بيشاور قد أغلقت مضافاتهم منذ يومين أو أكثر, وطلب منهم المغادرة، وقد غادر منهم من غادر إلى داخل أفغانستان, وبقيت مضافاتهم باسم هيئة الإغاثة وغيرها من الجهات الأخرى, فهذا الخبر الذي أشار إليه الأخ خبر صحيح.
هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً, وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً, ونسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يقر أعيينا بنصر الإسلام والمسلمين في أفغانستان, وفي كل مكان إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم بحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك(207/30)
دور الشباب الذين جاهدوا في أفغانستان
السؤال
ما هو دور الشباب، وخصوصاً الذين كانوا يذهبون للجهاد هناك بعد الفتح إن شاء الله في أفغانستان, وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هؤلاء دورهم أكبر من دور غيرهم؛ نظراً لأنهم يتمتعون بصلاتٍ ببعض المجاهدين، وببعض القادة، ونحن في هذا الظرف أحوج ما نكون إلى مناصحة المجاهدين على كافة المستويات, فالنصيحة ليست للقادة فحسب, بل القادة يحتاجون إلى أن نذكرهم بالله تعالى, ونطالبهم بوحدة الصف وجمع الكلمة, وننقل هذا المطلب الإسلامي العالمي الملح إلى كل الأطراف, وإلى كل الطبقات، وإلى كل الصفوف، حتى يكون هناك اتجاهٌ قوي داخل المجاهدين أنفسهم وفي جميع الأحزاب نحو وحدة الصف, وجمع الكلمة, والبعد عن الاختلاف والتناحر.(207/31)
صحة ما يقال في أحمد شاه مسعود
السؤال
سمعنا أن القائد أحمد شاه مسعود فيه كلام! فما هو رأيك؟!
الجواب
الواقع وصلتني أوراق كثيرة, لكن من الواجب علينا ومن عادتي، أن لا أتكلم إلا بعدما أتثبت بشكل واضح لا يقبل الجدل، والشك في مثل هذه الأمور, خاصةً وأن القضية فيها أطراف عديدة, فالإنسان يخشى أن يقع في مثل هذه الأمور فيما لا يرضاه الله تعالى، فالتثبت والتبين واجب وعدم المسارعة في تصديق ما يقال: حتى يبين على ذلك أدلة وشواهد عملية لا تقبل الجدل، أو حقائق لا شك فيها ولا ريب.
ولم يثبت لي شيء من ذلك, وأنا أتكلم عن نفسي بطبيعة الحال.(207/32)
دور المسلمين تجاه أفغانستان
السؤال
ما هو دور الشباب المسلم تجاه أفغانستان هل هو محصور بتحقيق النصر وعدم الخلاف، أم أن هناك مساهمات أخرى في ذلك؟
الجواب
أبداً، والله يا أخي, أنا أتصور أن المسلمين ينبغي أن يمارسوا دوراً كبيراً تجاه أفغانستان، فالذي يستطيع أن يتصل بالهاتف فعليه أن يتصل بهم, والذي يستطيع أن يرسل برقيةً أو خطاب فعليه أن يرسل, أو فليذهب بنفسه, أو يكتب كتاباً ويرسله مع أحد الذاهبين, كل ذلك للتأكيد على قضية أساسية واحدة، وهي ضرورة جمع كلمة المجاهدين وتوحيد صفهم وتجنب أي لونٍ من الصدام والخلاف فيما بينهم.
الجانب الثاني والدور الثاني المطلوب: هو الدعم كما ذكرت, الدعم المعنوي وتبني القضية, والدعم المادي بالمال وغيره, والدعاء من أهم وأعظم الوسائل، فينبغي أن ندعو الله مخلصين أن ينصر الله تعالى الإسلام هناك, وأن يقر عيوننا بقيام دولة تحكم دين الله تعالى وتنشر شريعته.(207/33)
خطبة عن النصر في أفغانستان
السؤال
ما رأيك في الخطبة في صلاة الجمعة عن هذا النصر؟ وإذا كان هذا رأيك فما هي التعليمات التي تقترح أن تقال في الخطبة؟
الجواب
الكلام عن هذا النصر طيب, وأقترح أن يركز على بعض المعاني التي سبقت, باعتبار أن أي كلمة الآن تقال يمكن أن تصل إلى أفغانستان, وأعتقد أنه لو خطب جماعة كبيرة من المسلمين عن هذا النصر وأرسلوا نداءً حاراً إلى إخوانهم المجاهدين هناك بجمع الكلمة, وتوحيد الصف، وتجنب الخلاف, وبالمطالبة بالأشياء الأخرى التي يحتاجها الموقف، أن هذا سوف يصل وحسب علمي أن إخواننا المجاهدين والقادة هناك يشتاقون إلى الكلمة التي يسمعونها من إخوانهم المسلمين، ومن هذا البلد خاصة.
فلنقل هذه الكلمة ولنبذل فيها الجهد, ولنستفد من اجتماع المسلمين في مثل هذا الجمع, وفي الجُمَعْ وغيرها في دعاء الله تعالى أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان.(207/34)
التدخل الخارجي في أفغانستان
السؤال
ألا يخشى من تدخل خارجي في هذا الوقت, كتدخل الهند مثلاً؟
الجواب
هذا من الصعب البت به الآن حتى تتطور الأحداث, فإذا كتب الله تعالى أن تنتهي الأحداث إلى حد وجود اتفاق بين المجاهدين، وتشكيل حكومة مشتركة؛ فإن الأمر يمكن أن ينتهي بإذن الله تعالى نهايةً طيبة.
لكن إذا كانت الأخرى، وكان هناك تشتت، وصار السلاح الإسلامي يوجه إلى الصدر الإسلامي، فكل شيء ممكن، وكل شيء محتمل, وكل إنسان في هذه الغنيمة سهم, ونسأل الله تعالى أن يكف بأس الذين كفروا.(207/35)
الأمة تمر بمرحلة جديدة
في هذا الدرس تكلم الشيخان سليمان العودة ومحمد الفوزان حول موضوع الصراع مع العدو في هذه المرحلة، وكانت ندوة مشتركة، بدأت بمقدمة عن المواجهة وعلنية الصراع في المواجهة ووسائلها، بعد تعديدهما لوسائل الأعداء وأنواعهم ونظرتهم للمسلمين، ثم تمت الإجابة بين الشيخين بالتناوب عن طائفة من الأسئلة حول الموضوع.(208/1)
الأمة تمر بمرحلة جديدة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، إمام المجاهدين، وسيد المتعبدين، بذل نفسه في ذات الله جل وعلا، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين من ربه، وقد رأى بعينه نصر الله عز وجل لهذا الدين، كما قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] .
نعم أيها الأحبة: لقد أحببت أن يكون عنوان المحاضرة بذاته معبراً ودالاً على معنىً يفهمه من قرأه أو سمعه، حتى ولو لم يسمع مضمونه، إن الأمة تمر بمرحلة جديدة، وهذه القضية قضية مسلَّمة أو يجب أن تكون مسلَّمة للجميع، لا أظن أن هناك من يجادل في هذا، إلا أولئك الناس الذين انسلخوا عن الأمة، أقول: انسلخوا؛ إما بتبنيهم لمذاهب وأديان ونظريات وقيم مخالفة لما عليه أمتهم، كالعلمانيين، والحداثيين، واليساريين، والقوميين، وغيرهم، وحتى هؤلاء يوافقوننا على أن الأمة تمر بمرحلة جديدة، لكنهم يفسرون هذه المرحلة تفسيراً آخر، وإما إنسان قد رضي من الغنيمة بالإياب، وعزل نفسه عن الواقع، فأصبح لا يسمع ولا يبصر ولا يفكر ولا يعي ولا يشعر ولا يدري ارتفعت الأمة أم انخفضت، علت أم هبطت، عزَّت أم ذلَّت، فما دام أنه قد سلمت له دنياه، ومادام المرتب يقبض في آخر الشهر كاملاً غير منقوص، ومادامت المؤن والأرز والسكر والشاي والقهوة والطحين متوفرة، وما دامت الكهرباء والغاز متوفرة، إذاً فالأمة لا تمر بمرحلة جديدة؛ لأن المرحلة الجديدة عند هذا الإنسان هي أن ينفد الطحين، أو ينتهي السكر من الأسواق، أو ما أشبه ذلك، لأنه إنسان أصبح همه مقصوراً على شهواته الذاتية الخاصة، لا يعيش آلام الأمة ولا همومها، إنما يعيش آلام نفسه وهمومها، فلو بُخِسَ من دنياه شيئاً يسيراً لأقام الدنيا وأقعدها، لكن لا يضيره ما بُخِسَ بل ما بُخِسَتْ الأمةُ كلُّها من أمر دينه، فهذا قد ينازعنا أيضاً في أن الأمة تمر بمرحلة جديدة.
وإلا فمن عدا هؤلاء من مختلف المشارب، والنظرات، والاتجاهات، والأفكار، والبيئات، يتفقون على أن الأمة المسلمة تعيش مرحلة جديدة، ووضعاً غريباً، لم يسبق أن عاشته قبل على كافة المستويات، حين نقول: مرحلة جديدة لا يجب أن تتصوروا أيها الأحبة أننا نقصد أنها مرحلة سلبية من كل جوانبها، أبداً، إنها مرحلة جديدة بسلبياتها وإيجابياتها، وخيرها وشرها، ونورها وظلامها، وحسنها وقبيحها، لكنها مرحلة جديدة.(208/2)
مواجهة السلف الصالح للمستجدات
يجب أن نواجه كل مرحلة بما يلائمها، وهذا ما تعلمناه من السلف الصالح رضي الله عنهم، فكانوا يجددون من القضايا والوسائل والطرائق، بقدر ما يستجد من التحديات والمشكلات.
وأذكر لذلك مثلاً قد يكون شكلياً، لكن المقصود أن نعي أنه يجب أن نغير وسائلنا، بتغير وسائل الأعداء: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهود الصحابة أيضاً -كان الناس يختلفون في حكم كتابة الحديث النبوي- فمنهم من يقول بتحريم كتابة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الكتابة يجب أن تكون مقصورة على القرآن الكريم فحسب، حتى لا يختلط القرآن بالسنة ويحتج هؤلاء بمثل حديث أبي سعيد: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتبَ عنِّي شيئاً غير القرآن فليمحه} .
وظل الناس يختلفون حتى كان من الصحابة من ينهى -ومن أشهرهم عمر - عن كتابة الحديث والسنة.
وبعد ذلك مرَّ بالمسلمين تحدٍ جديد، وهو من جهة غياب ووفاة الأصحاب الذين لقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وسمعوا منه مباشرة، وحاجة الناس إلى الكتابة والتدوين وضبط المصحف من جهة أخرى، بحيث أمن الالتباس، فصار هناك تحديات جديدة ترتبت على أن المحذور زال، وهو خشية اختلاط القرآن بالسنة، فما عاد يُخَافُ؛ لأن القرآن مضبوط في السطور والصدور، والأمر الذي حدث صار يُولِّد عندنا الخوف على السنة من أن تزول أو تنسى أو يضيع شيء منها؛ فلذلك ألهم الله عز وجل المسلمين كتابة السنة، بل والإجماع على جواز كتابة السنة، فقد اندرس الخلاف الذي كان موجوداً في عهد الصحابة وانقرض، وأجمعت الأمة على ضرورة إحداث وسيلة جديدة لتواجه المرحلة الجديدة، وهي كتابة السنة النبوية لمواجهة الأوضاع الجديدة التي طرأت على الأمة الإسلامية.
هذا المثل الصغير يمكن أن نعمِّمَه في قضايا كثيرة جداً، كما أنك لا تواجه المدفعية والصاروخ والحرب المدججة، بالسيف والخنجر والسكين والحجر؛ كذلك لا يمكن أن تواجه خطط الأعداء الجديدة الطارئة بوسائل قديمة مألوفة لا بد من تطوير وسائل مواجهة كيد العدو، ولهذا كان الحديث عن أن الأمة تمر بمرحلة جديدة.(208/3)
كيفية التعامل مع المرحلة الجديدة
ويجب على طلبة العلم والدعاة أن يدركوا هذه المرحلة؛ حتى يتعاملوا معها تعاملاً مناسباً، فليس صحيحاً أن نكون دائماً متوقفين عند أساليب معينة للدعوة، وطرق معينة في الدعوة، ووسائل معينة في التبليغ، لا نعرف ولا نحسن إلا هذه الأشياء؛ يتغير الناس، وتتغير الدنيا، وتتغير أساليب الأعداء، ونحن على طرائقنا السابقة! هذا لا يصلح.(208/4)
خصائص المرحلة الجديدة
ولهذه المرحلة التي تمر بها الأمة الإسلامية اليوم في أنحاء الأرض كافة، وفي هذه البلاد بشكل خاص، لهذه المرحلة خصائص وسمات ومظاهر، لعل من أبرزها وهي القضية الأولي التي سأتحدث عنها هي:(208/5)
مبررات لعلنية الصراع
هذا مظهر من مظاهر المرحلة الجديدة التي تمر بها الأمة وتمر بها الدعوة، وهذا المظهر يتمثل في علانية الصراع والعداء للإسلام، وقلت: إن هذه العلنية تنم عن أمرين: الأول: أن العدو يشعر بقوته وبضعفنا.
والثاني: أن العدو يشعر بأن هذه مرحلة متقدمة من مراحل القضاء على الإسلام، قد تكون هذه آخر مرحلة؛ إما أن يترتب عليها انتصاره، وهذا يعني القضاء على الإسلام، أو يترتب عليها انتصار الإسلام وأهل الإسلام، وهذا يعني تراجع العدو سنين أو قروناً إلى الوراء.(208/6)
من مكائد اليهود
لماذا لم نخض معهم معارك حاسمة؟
الجواب
إن اليهود دائماً فيهم قلة في العدد، وربما ضعف في العُدة غالباً، ولذلك يتجنبون ساحات الصراع المعلنة، ما يقاتل في الشارع إنما يمين، ويسار، غيلة، غدر، خيانة، تخطيط، مؤامرة، دس، كل هذا يمارسونه ولذلك لو نظرت في الجانب الآخر من عمل اليهود، مثلاً: الفتن التي دارت في التاريخ الإسلامي كان اليهود وراءها، المؤامرات التي قامت دبرها اليهود، عمليات الاغتيال، كان لليهود فيها نصيب كبير، المذاهب والملل والنحل التي ظهرت كالرافضة مثلاً، والقدرية وغيرها كان اليهود من ورائها، يؤججونها ويضعون الحطب على النار، لكنهم لا يواجهون!! الخلافة العثمانية أسقطوها، لكن كيف أسقطوها؟ أسقطوها بالحيلة، والالتفاف من هنا ومن هنا، والخدعة، وتأليب العدو، وتحريك وتأليب الأعداء الآخرين، يقاتلون بالوكالة عنهم، واليهود سالمون! إذاً متى يظهر العدو؟ يظهر العدو عندما يحس بقوته وضعف خصمه؛ فحينئذٍ يعلنها صريحة، وكذلك: الظهور تقريباً هو آخر مرحلة، وهذه قضية خطيرة! ظهور الحرب من العدو هذه آخر مرحلة عنده؛ الآن هو يريد أن ينازلك في الميدان العام؛ فإما أن ينتصر عليك، ومعناه أنه حقق القضاء على الإسلام فيما يحسب ويظن، وإما أن تنتصر ومعنى ذلك أنه سيتراجع إلى الوراء ربما قروناً طويلة.
وهذا يؤكد عليك أن تدرك فعلاً أهمية هذه المرحلة، وأن الصراع الآن بدأ يأخذ فيها طابعاً علنياً، سواء على مستوى العالم، أي: إن أعلنت الأمم موقفها من الإسلام، ممثلاً فيما يسمونه بالأصولية أحياناً، أو الإسلام المتطرف -كما يقولون- أو المتشدد، أو أي عبارة أخرى يستخدمونها ويقصدون بها الإسلام الصحيح، الذي يرفض المرونة خارج الإطار الشرعي، ويرفض المجاملة، ويرفض النفاق، فأعلن العالم شرقيه وغربيه وتنادت الأمم كلها بلا استثناء ضد هذا الإسلام، وعلى النطاق الداخلي لا شك أن خصوم الإسلام وهم كثير من علمانيين، ويساريين، وحداثيين، وأصحاب شهوات أيضاً -وهؤلاء يجب أن نضعهم في الاعتبار- أصبحوا الآن يعلنون مطالبهم، ويعلنون مآربهم، ويعلنون أمانيهم، التي كانت أمس تقال في كلام لين، وفي عبارات منمقة، وفي كلمات مستورة، قد يجهل الناس ما وراءها، اليوم أصبحت تقال بلغة أكثر وضوحاً، وأكثر صراحة، وأكثر بياناً وبلاغة، وأصبح يفهمها الكثير من الناس، وإن كان عندهم شيء أكثر من هذا.
لأن الذي يقول لك اليوم نحن نريد هذه الأشياء وفق تعاليم الإسلام، ووفق شريعتنا السمحة، ووفق تقاليدنا الدينية، غداً سوف يقول لك: لماذا نتمسك بهذه التقاليد البالية؟! ولماذا نظل مصرين على أمور تعداها الزمان؟ ولماذا العالم كله يتطور ونحن باقون في مكاننا؟ ما أعني بكلامي أنهم أعطوك كل ما عندهم، لكنهم الآن مشوا خطوة إلى الأمام؛ في إعلان الصراع على الإسلام وأهل الإسلام.(208/7)
ملحوظة تاريخية
ولذلك كنت أتحدث إلى الإخوة ونحن في الطريق، أنني توقفت وتعجبت من قضية تأريخية، قلَّ من رأيته أشار إليها، وهي أن الله عز وجل أشار في القرآن الكريم إلى اليهود وأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] .
ومع أنهم أشد الناس عداوةً للذين آمنوا؛ فهل تتذكرون معركة من معارك التأريخ الحاسمة الفاصلة المشهورة دارت بين المسلمين وبين اليهود؟ هل تتذكرون معركة؟ ما أتذكر، صحيح أن هناك معارك مشهورة واليهود طرف فيها، مثل غزوة خيبر أو بني قريظة لكن لم يكن هناك معركة بالمعنى الحقيقي؛ فبنو قريظة نزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أنزلهم على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وانتهى أمرهم بعدما خانوا ونقضوا العهد، وكذلك في خيبر: صحيح أنه حصل قتال، لكن لم يكن بذلك القتال الضاري القوي، إنما كان قتالاً على نطاق محدود، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام أقر أهل خيبر على مزارعهم، أقرهم عليها وقال: {نقركم فيها إلى ما شاء الله} يشتغلون بالزرع ولهم شطر ما يخرج منها، وهذا دليل على أنه لم تكن كلها فتحت حرباً، كما أشار إلى ذلك ابن القيم وغيره.
وعلى كل حال هذه مسألة تأريخية ومسألة فقهية، إنما المقصود أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت المعارك مع اليهود محدودة، لكن المعارك الكبرى بدر، وأحد، الخندق، وفتح مكة إلى غير ذلك من المعارك الشهيرة، كانت مع الشرك، ثم بعد ذلك المعارك مع النصارى، وهذه المعارك طويلة استغرقت جزءاً كبيراً من التاريخ، وظل المسلمون قروناً، عدوهم الأكبر اللدود هم النصارى، خاضوا معهم معارك ضارية، سواء في بلاد الشام، أو في مصر، أو في الأندلس، أو في غيرها، فكانت خصومتهم مع النصارى هي الخصومة الأقوى والأعنف.
والفرس لهم مع المسلمين معارك، صولات وجولات، لعل من أشهرها القادسية، المقصود أن أقول لكم بالنسبة لليهود: معاركنا معهم محدودة لا أستطيع أن أتذكر اسم معركة شهيرة كبيرة حاسمة كانت الخصومة فيها علانية بين المسلمين وبين اليهود!! أريد أن أتساءل لماذا؟ مادام ثبت لنا في القرآن الكريم أن اليهود هم أشد الناس عداوة؟!(208/8)
علنية الصراع بين الحق والباطل
قضية علنية الصراع بين الحق والباطل: إن الصراع بين الحق والباطل أصبح علنياً، أو يوشك أن يكون علنياً في كل المجالات، أما مسألة الصراع بين الحق والباطل، فهذه قضية مفروغ منها، ولا أرى ما يدعو أن أتحدث عنها ألبتة، إنها قضية مقررة مفروغ منها!! سنة من سنن الله عز وجل، {دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] هذه خصومة بين الحق والباطل، خصومة في ذات الله جل وعلا {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] على كافة المستويات؛ فالصراع بين الحق والباطل سنة أزلية، ما أذعنت الدنيا لخير محض، ولا أذعنت لشر محض في أحلك الظروف، وحين يهيمن الكفر على الدنيا، كان يوجد فئة قائمة بأمر الله عز وجل، ولو قلت!! وفي الأزمان التي يستوثق فيها أمر الإسلام ويدين الناس لربهم، لا تعدم الأرض من فاجرٍ أو كافرٍ أو فاسقٍ أو منافق، إلا ما شاء ربك، فالصراع بين الحق والباطل معروف لا داعي أن نتوقف عنده.
لكن الصراع أحياناً يكون صراعاً خفياً، وأحياناً يكون صراعاً علنياً في وضح النهار وتحت أشعة الشمس فربما في ظروف مضت كان الصراع مستتراً مستخفياً، يكيد وتكيد، والكيد غالباً يكون هو اللطف والتدبير الخفي، كما قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] وقال أيضاً: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] .
فالكيد غالباً يطلق على التدبير الخفي، أما الآن فمع الكيد الخفي أصبحت ساحة الصراع علنية!! بمعنى أن التحديات التي تواجهها الأمة تحديات مكثفة معلنة، تستهدف الأمة الإسلامية في أعز ما تملك؛ في عقيدتها، في أخلاقها، في عفتها وكرامتها، في اعتزازها بدينها واستقلالها عن كيد أعدائها، والتبعية المطلقة لهم فهي تستهدف الأمة في وجودها في الواقع، وقد انتقلت المعركة من السر إلى العلن، لأن العدو في الماضي كان يحس بأنه ضعيف، وربما يرى أنه ليس من مصلحته أن يواجه.(208/9)
التكالب على الأمة الإسلامية
أترك المظهر الثاني من مظاهر هذه المرحلة ليتحدث عنه أخي الشيخ:- محمد الفوزان.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فقد تحدث الشيخ سلمان عن المظهر الأول: وهو العلنية، وأتى على كثيرٍ من هذا المظهر، ومن المظهر الثاني أيضاً، إلا أن التأكيد عليه أمر مهم، وهو مظهر التكالب، كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله!؟ قال: بل أنتم كثير! ولكنكم غثاء كغثاء السيل} ونحن لسنا في مرحلة التداعي، بل تعدينا مرحلة التداعي، التداعي جاء من قبل مائة عام!! قبل قرنٍ من الزمان تداعت علينا الأمم، واستعمرتنا كما تقول، واحتلوا بلادنا احتلالاً صريحاً، لم يبقوا في العالم الإسلامي إلا أجزاء يسيرة كانت تتمتع بالعقيدة السلفية كمثل هذه البلاد، ماذا عملوا؟ لما وقعت الفرصة في أيديهم، أعدوا لها العدة الكبيرة حتى لا يفلت الزمام مرة ثانية، وخططوا الخطط الكبيرة التي سمعتم عنها الكثير وقرأتم عنها الكثير فيما يسمى بالغزو الفكري، وغُزيت البلاد فكرياً وإعلامياً واقتصادياً، وعمل لها مخططات طويلة الأجل بعيدة المدى ضاربة في الأمة في أعماقها، بحيث لا تستطيع هذه الأمة أن تنهض ومر الزمان سريعاً وهم يرقصون؛ لأنهم وجدوا ثمار هذه المخططات يانعة، وقد أنتجت.(208/10)
كيد الكافرين
وكما يعملون التجارب في قسم الطب على الحيوانات -إذا أرادوا عمل مصل جديد، أو دواء جديد؛ أول ما يجربون، يجربونه على حيوانات، وينظرون هل هذا المصل الجديد وهذا الاكتشاف الجديد أَثَّرَ على الحيوانات سلباً وإيجاباً- عملوا العمل نفسه وبنفس الخطة في المجتمعات الإسلامية، فبدأوا يرصدون: عملنا كذا، ما هي آثاره؟ كذا وكذا مائة عمل، ألف عمل، ولديهم من المستشرقين ومن المخابرات ومن كل شيء ما يرصد: ما هي آثار هذه الخطط في المجتمعات؟(208/11)
الصحوة الإسلامية
وفي نهاية هذا القرن حدث أمر آخر، حدث انبعاث في العالم الإسلامي، وانبعاث يتحرك بسرعة -كما تقول زعيمتهم- أسرعَ من تفكيرهم، تقول: إن الأحداث أسرع من تفكيرنا؛ ولذا علينا أن نتخذ خطوات حازمة، وأنتم تعلمون، وكلكم شاهد هذا: أي خراف ذبحتموها أو أي حيوان في آخر لحظة، تكون عنده صحوة الموت، يصحو فيها ثم يعود يهمد، هُم الآن وبكل تفاؤل، وبكل أمل، نقول: هُم الآن في صحوة الموت -إذا كنا على مستوى الأحداث- هم في صحوة الموت.
لأن الأحداث فعلاً سبقتهم، كيف تعمل هذه الخطط، تغرق الأمة هذا الإغراق، ومع ذلك تنهض وتنتشر وتقوم وتعود إلى ذاتيتها، وتعود إلى دينها؟!! بعد مائة سنة من التخدير، تعود كأنها فتية إن هذا سر، كما أشار الشيخ هم في آخر لحظة، إما أن ينتصروا فيقضوا على الأمة وعلى تاريخها وعلى حضارتها، ويؤخروا تقدمها فترة طويلة، أو يندحروا إلى قرون عديدة، ليُصبح هذا القرن القادم، الذي نطمع إن شاء الله أنه هو قرن الإسلام، وهو قرن الانتصار، وهو قرن الصحوة، وهو قرن الإسلام بإذن الله.
الذي لم يكن لديه تصورات سابقة صحيحة، وعلى رأسها العقيدة السلفية، إذا حدث له حادثة انزعج، واختلت موازينه، فلا يعرف يقيم، ولا يعرف يعادي، ولا يعرف يوالي، ولا يعرف من هو العدو الدائم، ولا العدو المؤقت ولا شئ! تختل الموازين لديه!!!! أخوك شقيقك وإن أخطأ عليك، إلا أن عداوته مؤقتة، يعود ينظر رحمه وجلته، فيعود إليه رشده يوماً من الأيام، لكن الذي يختلف معك في الدين، هذا عداوته دائمة، خصوصاً إذا كان يدعو إلى ملته ونحلته، ولهذا تكالب علينا الأعداء، تكالباً إذا قلنا: إنه لم يحدث على مدار التاريخ مثل هذا التكالب، فلسنا مبالغين، ومع ذلك نحن متفائلون، ولكن هذا التفاؤل يجب أن يتبعه عمل، وما لم يتبعه عمل فإنه لا يحقق شيئاً.(208/12)
آثار هذا التكالب
التكالب علينا اليوم من كل مكان؛ من الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، وأمر عجيب جداً، تكالب على الأمة الإسلامية، حتى وصل التكالب إلى تمزيق شعوبها، وإذكاء العداوة بينهم، لقد كان -وكما تعلمون- في السابق يختلف حاكم مع حاكم آخر، دولة مع دولة، لكن تبقى الشعوب الأمور بينها مفتوحة ولكن هذا التكالب الجديد استطاع بوسائله الكثيرة أن يحرك ضمائر الشعوب وقلوبها، وأن يثير العداوات بينها، وحتى الذين يرفعون لواء الدعوة، اختلطت عندهم الأوراق، لماذا؟ كما أسلفت سابقاً، لاختلال الميزان الأصلي وهو ميزان العقيدة!! فلما اختل، اختلت معه الموازين الأخرى، ولهذا مثل هذه الأحداث دعوة للأمة لمراجعة أفكارها، ومراجعة عقائدها، ومراجعة أصولها وثوابتها.
هذا التكالب الذي ظهر من كل الأطراف: الأطراف المشجعة، المسالمة، المصفق لها، المنافقة، في الحقيقة استأسدت وظهرت تتكلم بجرأةٍ لم تكن تتكلم بها من قبل! على المستوى الداخلي والخارجي، أطراف كانت مسالمة، حتى اليساريين قبل الأحداث بقليل في كل صحفهم، سواء كانت في الكويت، أو في مصر، أو في كل مكان -كانوا يتحدثون عن التعددية، وكيف نجتمع مع الإسلاميين؟ وكيف نعمل أحزاباً متماثلة؟ وهكذا إلى آخره، الآن انظر إلى صحفهم! اختلف المجال تماماً، أسوأ من ذي قبل، حتى كتبوا تقارير عن الجماعات الإسلامية وغيرها، والنشاط الإسلامي: كتبوها باللغة الإنجليزية، كأنهم يؤلبون الأعداء على هذه الجماعات بالسر، كما قال الشيخ: نفاق، عندنا هنا يكتبون كتابات طيبة، ولنتعاون ولنتفق ولنوجد تعددية سياسية إلى آخره، الآن كشَّروا عن أنيابهم، وأحسوا أن الفرصة مواتية، وتلاحظون هذا واضحاً في صحفهم وكتاباتهم ومقالاتهم إلى آخره.
لا أريد أن أذكُر ما تسمعونه كثيراً، فلا يحتاج أن أذكر لكم الاتفاقات الموجودة، لا في السوق الأوربية، ولا في الأحلاف، لكن هذه الأشياء يرددها الإعلام صباح مساء، وجاءت متكالبة بشكل عجيب جداً وكأنها ممكنة.
هذا المظهر الثاني من مظاهر مرور الأمة بالمرحلة الجديدة أترك المظهر الثالث لفضيلة الشيخ ليحدثكم.(208/13)
العمل على تفكيك البنية الاجتماعية للمسلمين
لو سألنا أيها الإخوة سؤالاً لعله بدهيٌّ، لكنني أريد أن أخرج منه إلى ما أقول.
السؤال
ما هو هدف الأعداء من كل ما يعملون؟ لا داعي لأن نتلمس الإجابة عند فلان أو علان، أو تختلف وجهات نظرنا في الموضوع، نرجع إلى القرآن الكريم لنجد الجواب الإلهي الرباني، وكل مسلم يؤمن بهذا القرآن، فلا بد أن يصدق به.
الجواب
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] .
"الجواب" {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] .
هذا كلام الله جل وعلا {وَلَنْ تَرْضَى} [البقرة:120] لن: نفيٌ مُطلق، لا يمكن أن يرضوا أبداً بحال إلا إذا تحققت هذه الغاية {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] إذاً رقم واحد: نستطيع أن نقول الهدف الأعلى لكل هذه الحروب والمعارك والصراعات والمقاومات والمخططات، يتلخص في كلمة واحدة وهي إخراج المسلمين عن دينهم!(208/14)
قضية الاختلاط
هذا المثل الصارخ الذي قد تشمئزون منه أنتم، انقلوه إلى صور أقرب من هذه، وصور أقل من هذه، قد يوجد نظام، مثلاً: يمنع الاختلاط، والاختلاط هو ذريعة الزنا، كما هو معروف، فماذا يصنعون؟ أول ما يصنعون أنهم يُكثرون من الخرق، خرق هذا النظام في المدرسة الفلانية، وفي الحرم الجامعي الفلاني، وفي المكان الفلاني، وفي المؤسسة الفلانية، وفي الشركة الفلانية، وفي وفي المهم أصبح الناس يألفون القصص والأخبار التي تتحدث عن خرق هذه الأنظمة، وجود اختلاط هنا وهنا وهنا بعد سنة سنتين ثلاث، يصبح هناك ضرورة في نظر الكثيرين داعية إلى تغيير النظام الذي يمنع، بحيث يسمح بهذا الأمر، حفظاً لهيبة النظام، ومن أجل أن تكون الأمور طبيعية، وأصبح هذا الأمر اعتيادياً، فلا تستطيع أنت أو غيرك أن تقول: لا؛ لأن هذا يشهد بقوة القرار الذي صدر ويؤيده، بعد ذلك تنتقل المعركة إلى خطوة ثالثة، ورابعة، وعاشرة، ولذلك تجدون الآن أن هناك تحركاً على أكثر من صعيد لتمزيق وتغيير وضع المرأة المسلمة.
مثلاً: خلط الرجل بالمرأة في الجامعة، مطالبات، وهمسات، وكتابات صحفية، وبدايات في عدد من المؤسسات، والجامعات، إذا وجد اختلاط، هذه تعتبر بداية، يعتبرونها بداية مشجعة، يمكن إذا مرَّت بسلام أن يكون لها ما بعدها، تنتقل مثلاً إلى قضية الخطوط مثلاً، فتجد عدة تجاوزات، سواء في إسكانات المضيفات، أو في أوضاعهن في الطائرات، أو حتى أحياناً تصوير بشكل معين، أو إيجاد بطاقات للنساء.
تنتقل إلى مجال ثالث -مثلاً- تجد في مجال الإكثار من قضية الحفلات المختلطة، والتدريب على الرقص والسباحة ومباريات المسابقات، إلى غير ذلك، تنتقل إلى المستشفيات فتجد عالماً آخر غريباً، كأنه جزء من غير المجتمع الذي يعيش فيه، فيه من الاختلاط، فيه من السفور، فيه من التبرج، فيه من ظهور المرأة بزينتها؛ الشيء الكثير، تنتقل مثلاً إلى مجال الفن والأدب والإعلام، تجد مسرحية هنا، ومسرحية هناك، ورقصات فلكلورية شعبية، يختلط فيها الرجال بالنساء، تنتقل إلى مجال الصحافة تجد ضرباً على هذا الوتر، تنتقل إلى مجال التمريض، فتجد مثل ذلك وأكثر منه، وتوسع في هذا الباب بشكل يؤكد أن القضية مقصود منها بالذات إخراج المرأة، حتى أصبحنا نسمع أصواتاً تنادي لماذا لا ندرب المرأة على السلاح الخفيف؟ لأنه من الممكن أن يذهب الرجل إلى ميدان المعركة، وتبقى الجبهة الداخلية للمرأة، لا بد أن تدافع عن نفسها، كذلك لو ذهبت لتمرض هؤلاء المقاتلين، فإنها قد تواجه موقفاً تحتاج فيه إلى الدفاع عن نفسها، لماذا لا ندربها على السلاح؟ لماذا لا ندربها على أمور الدفاع المدني مثلاً؟ إذاً تجاوزٌ هنا وهنا وهنا!! شركات النقل الجماعي، الخطوط، الإعلام، يمين، يسار، ويصبح الأمر كما قال الشاعر: تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٍ ما يصيدُ فلو كان سهماً واحداً لاتقيتُه ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ أقول: ورابع، وعاشر، وعشرون، ومائة، فكل هذه تؤكد أن هناك تحركاً قوياً لإخراج المرأة من بيتها، وليس المقصود المرأة فقط، بل المجتمع كله، هذا مجرد مثال.(208/15)
تأجيج العداوات والعصبيات
لو انتقلنا إلى ما هو أوسع إلى المجتمع لوجدنا الأمر الذي أشار الأستاذ الشيخ محمد إلى طرف منه، وهو قضية تمزيق المجتمع، لا أقول تمزيق الشعوب الإسلامية، هذا أمر أصبح الآن ظاهراً مشهوراً، لو سألنا الإخوة الحاضرين، لوجدنا أننا كلنا قد استجبنا لهذا الداء، فأصبحنا نجد في المجالس والحديث العام -مثلاً- الجنسية الفلانية، والجنسية الفلانية، وأن هؤلاء لا خير فيهم، وهؤلاء مجرمون، وهؤلاء لصوص، وهؤلاء وهؤلاء وهم يتكلمون عنا أيضاً، فأصبحت عداوات متشابكة! القضية التي نعنيها قضية العداء داخل الشعب الواحد، ونحن لا نقول: الشعب الواحد، لأن الإسلام هو الرابطة وليست الجنسية، لكن مع ذلك تجد الشعب الواحد المسلم قد أصبحت العداوات تلعب فيه لعباً، أصبح هناك جهود قوية لتدعيم وتعميق العداوة، مثلاً: بين الكبير والصغير، بين الرجل والمرأة، بين المدني والعسكري، بين المسئول والمواطن، بين كل طرف وكل طرف، يحاول زرع عداوات عميقة، وثقوا أن هذه العداوات سوف تستخدم لتحقيق مصالح أعداء الإسلام، لأنهم يريدون أولاً أن يهزوا البنية الاجتماعية، يهزوا التلاحم والترابط الموجود بين المسلمين، حتى يستخدموا هذه الورقة كما يشاءون، وكما يريدون.(208/16)
من أحوال المرأة المعاصرة
أستطيع أن أقول لكم: إن المرأة في العالم الإسلامي تعيش أوضاعاً لا توجد ولا حتى في أوربا، مررت ببلد إسلامي عريق، عدد سكانه يزيد على مائة وثلاثين مليون مسلم، والله إن العاهرات والداعرات على قارعة الطريق تشير للغادين والرائحين بكل صفاقة وقذارة وبذاءة!! وأمور تشمئز منها حتى الجاهلية! الكافر لو بُعث لما أطاقها فضلاً عن المؤمن الموحد!! أما من يذهبون إلى شواطئ البحار فهذا أمر آخر، دعك من الذين يذهبون إلى دور السينما، دعك من أماكن الدعارة الرسمية المرخص لها في عدد من البلاد كبير، دعك من هذا كله، لكن المهم أن هذه البلاد هي التي لا زالت تحتفظ بقدر لا بأس به من المحافظة، وهم دائماً يملكون خطة أنهم يشيعون قدراً معيناً من التسيب، ثم يطالبون أن يكون هذا التسيب أمر منظماً.
أضرب لكم مثلاً: في مصر كان هناك دعارة، منظمة رسمية معلنة سابقاً، يؤخذ تراخيص لأماكن الدعارة، ثم جاء وقت من الأوقات أغلقت ومنعت هذه الأشياء، فكان عدد من الصحفيين، يطالبون بإعادة بيوت الدعارة!! لماذا تطالبون؟ هل أنتم من روادها؟ قالوا: لا.
هم طبعاً معروف وضعهم، لكنهم يقولون: لا لسنا من روادها، لكن نحن نقول: إذا وجدت دعارة منظمة، يضمن الإشراف الصحي عليها، حتى ما تنتشر الأمراض والأوبئة، ويضمن أخذ الرسوم الجمركية، إن سميت رسوماً، أو ضرائب، ويضمن ترتيب الأمور، ويضمن ألا يلجأ الناس إلى المداخل، وإلى الاغتصاب، وإلى الاختطاف، وإلى الشذوذ المهم يأتون بمسوغات.
فهم أولاً: أشاعوا الرذيلة، وبعدما أشاعوها جعلوها أمراً رسمياً.(208/17)
المرأة في أتون الصراع
تمزيق المجتمع الكلام فيه يطول، ولا أريد أن أستأثر، ولكن أضرب لكم أمثلة، مثلاً: قضية المرأة، تنظيمات وتشريعات الإسلام في المرأة متميزة، أي أن المرأة عالم آخر غير الرجل، في البيت: لها مكان خاص، مدخل خاص، مخرج خاص في المسجد: لها موقع خاص في المدرسة، في الشارع، في الملابس، في الأحكام المرأة متميزة عن الرجل: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] في كثير من الأمور بتميز كامل المرأة عالم، والرجل عالم آخر، صحيح بينهما روابط وعلاقات وود متبادل، لكن يبقى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] لم يطق الكفار أن يروا المرأة المسلمة تلبس البشت، والعباءة، وتغطي رأسها ووجهها بالجلباب، وقد قرأت في تقارير غربية يقولون: إن رؤية المرأة بهذا الشكل، لا تتيح لك كثيراً من الخيال، معنى كلامهم لا تستطيع أن تتخيل كيف وضع المرأة في بلاد المسلمين، الصورة أمامك، امرأة تمشي في الشارع، ما ترى منها شيئاً من أم رأسها إلى أخمص قدميها.
حتى إذا وجد عندهم حالات نادرة أن الفتاة لا تعاشر رجلاً بالحرام، أهلها يعتبرونها مشكلة! ويذهبون بها إلى الطبيب! فهم قوم من طينة أخرى، شكلٍ آخر، تاريخ آخر، عقلية أخرى، أخلاقية أخرى، أما النساء المتزوجات، فنسبة (70%) من النساء المتزوجات عندهم على علاقة غير شرعية على علاقة مع رجل آخر، فما يطيقون هذا الوضع بالنسبة للمرأة المسلمة، وهذا الوضع يهددهم، مع أننا ضعفاء نحن المسلمين، وما عندنا دعوة جادة إليهم، ولسنا الآن نملك حضارة، نستطيع أن نفرضها على العالم، ولسنا نملك القوة، لكن مجرد وجود نمط متميز من وضع خاص للمرأة، هذا يخيفهم وفي نفس الوقت، يخيف أذيالهم المندسين في صفوفنا، يخيف العلمانيين، يخيف الحداثيين، اليساريين، أصحاب الشهوات: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] .
إذاً لا بد من إخراج المرأة عندهم، ويستدلون على ما يريدون بأنه وفق تقاليد ديننا الحنيف، وشريعتنا السمحة!! ووفق الموروثات، وعمر رضي الله عنه يقول، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول والله تعالى يقول، وكل هذه الأدلة والعبارات تستخدم من قبلهم في مرحلة معينة! المهم نحقق ما نريد، هذا منطقهم، مسألة إخراج المرأة، أو مسألة تحرير المرأة، كما يعبرون، يعتبرونها قضية مصيرية يراهنون عليها، لا بد أن نرمي بثقلنا لإخراج المرأة، ولا شك أنكم تعرفون أن وضع المرأة في العالم الإسلامي كله -والله المستعان-، وضعٌ غير مرضي عنه.(208/18)
مراحلهم في تحويل المسلمين عن دينهم
ولذلك أقول بصراحةٍ تامة: "من حقهم أن ينذعروا ويخافوا من الإسلام، ويعملوا على تحويل المسلمين عن دينهم إلى الكفر بشتى ملله" هذا مبدأ ربما توقفت عنده بعض الشيء؛ لأنني أعتبر أنه منطلق مهم فمهمٌ جداً أن ندرك أن الهدف النهائي لهم إخراج المسلمين من دينهم، لكنهم ليسوا أغبياء، ولذلك يقولون هم وغيرهم "ما لا يدرك كله لا يترك جله" وليس صحيحاً أنني آتي لمسلم متعبد، مقيم للشعائر، غيور "تستطيع أن تقول: مسلم قوي الإيمان والإسلام"، ثم أريد أن ينتقل من ذلك إلى كفر صراح بواح، هم يمشون بخطوات؛ فالخطوة الأولى: أنهم بُلُوا -وهذه من نعم الله عز وجل- أن خيراتهم في بلاد المسلمين، فهذا البترول الذي تنعم به البلاد الإسلامية، وتحتوي أراضيها على أكبر رصيد في العالم له هو الذي تَحكَّم في العالم كله، لا في اقتصاد العالم فقط، ولكن يتحكم في العالم كله: اقتصاده وسياسته وتصنيعه، وكل شئ!! ولو توقف البترول لانشلت حضارة العالم، وهذا البترول هو من ممتلكات المسلمين التي وهبهم الله عز وجل إياها، فهم ينزعجون لذلك أشد الانزعاج، حتى إنني قرأت وسمعت في بعض التقارير والعياذ بالله أنهم يقولون: إنهم كانوا يفكرون في أن هذه الثروة العظيمة عند المسلمين، يجب النظر فيها ويقولون بلغتهم هم: يجب تصحيح خطأ الإله!!، والعياذ بالله الذي وضع هذه الثروة عند قوم لا يستأهلونها ولا يستحقونها، كان يجب أن تكون هذه الثروة في بلادهم، هذا موقفهم، ولا شك في صفاقة هؤلاء القوم وكفرهم العظيم بالله جل وعلا، فلا يستغرب منهم مثل هذا الأمر، فقد أعلنوا الكفر صراحاً بواحاً، قبل ذلك بدهور وقرون.
المقصود أن المسلمين يتحكمون في مصير العالم، ليسوا أمة على هامش التاريخ الآن! حتى مع كونهم أمة ضعيفة، فكان من أهم الأهداف المرحلية للأعداء أن يضمنوا مصالحهم الحيوية، سواء كانت مصالح اقتصادية، أو مصالح سياسية أو غيرها، فإن تحققت لهم مصالحهم فإنهم لا يكتفون بهذا ينتقلون إلى خطوة وراء ذلك، وهي أنهم يريدون أن يستمر هذا الضمان، بمعنى أنهم بدءوا بالوقاية، الآن يقول لك: صحيح أن مصالحنا مضمونة، لكن نخشى أن يأتي تهديد يوماً من الأيام يهدد هذه المصالح، من أي جهة كانت.
إذاً لا بد أن نضع الأساليب الوقائية التي تضمن أن تظل هذه المصالح جارية دون توقف، فإن تحقق لهم ذلك انتقلوا إلى خطوة ثالثة، وهي أن مجرد وجود المسلمين بتجمعهم وتكاتفهم واتحاد كلمتهم، وكونهم يشكلون مجتمعاً متميزاً بأخلاقيات معينة، وشكليات معينة، ومظاهر معينة ورسوم معينة، وعقائد معينة هذا يشكل خطراً علينا لأنه يجعل هناك مجتمعاً يمكن أن يكون نمطاً لحضارة جديدة.
إذاً لابد من تفكيك البنية الاجتماعية للمسلمين، هذا الذي أستطيع أن أقول أنه المظهر الثالث من مظاهر الحرب الجديدة، هو العمل على تفكيك البنية الاجتماعية للمسلمين، وتمزيق المجتمع.(208/19)
سبب خوفهم من المسلمين
لا يرون إنهاء المسلمين إلا خيراً لهم، لماذا؟ لأن وجود المسلم خطرٌ عليهم وما لم نعِ هذه الحقيقة -أيها الإخوة- فنحن نعيش في غباء وغفلة وغيبة عن الواقع! ألا تلاحظون -أيها الإخوة- أن المسلم الصادق الآن هو الطرف الوحيد الذي بقي متمرداً على خطط الأعداء، الآن اليوم تسمع حرب في أقصى الدنيا أو المشرق أو المغرب، في فيتنام أو في أي مدينة أو أي دولة من دول العالم، وحروب طاحنة، وتسمع الأخبار على مدى سنوات، كذلك في بعض الدول الإسلامية أو التي كانت إسلامية، مثل لبنان وسواها، قد تسمع حرب ضارية، ودماء تسيل، والأخبار تتصدر الصحف، توجد دول لا نعلم في أي مكان في الدنيا، نيكاراجوا، في أي مكان وهكذا، فالحرب في الدنيا كثيرة هذه الحرب المشتعلة، اليوم مشتعلة وغداً تنتهي وتتحول إلى رماد؛ لأن هؤلاء المقاتلين، عبارة -كما يقولون- عن أحجار على رقعة الشطرنج!! يحركهم اللاعب، فإذا أراد أن يسكن الأمر، توقف وتوقفت الحرب؛ ولذلك تنتهي الحروب في يوم وليلة، لكن إذا كان في الحرب طرفٌ إسلامي، انظر ما الذي يحصل، تستمر الحروب، وتتفق إرادة روسيا وأمريكا على إيقافها، ومع ذلك تظل الحرب مشتعلة، ولعل أبرز مثال قضية أفغانستان، الآن ظهرت القضية واضحة، أمريكا وروسيا، متفقتان على قضية أفغانستان، وقد التقتا على حل واحد، ولكن مع ذلك الحرب لا تزال مشتعلة، ولا يزال أوارها يحرق الأخضر واليابس، لماذا؟ لأن في الحرب طرفاً ليس خاضعاً لروسيا ولا أمريكا، وهو الطرف الإسلامي، إذاً من حقهم -أيها الإخوة- أن يخافوا من الإسلام؛ لأن الإسلام هو المتمرد عليهم دائماً وأبداً، وحملة رسالة الإسلام هم الذين يرفضون الولاء للشرق أو للغرب؛ لأنهم أعطوا ولاءهم سلفاً لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين، ورضوا أن يحيوا ويموتوا في سبيل الله، وقال قائلهم: الموت في سبيل الله حياة.
رضيت في حبك الأيام جائرةً فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب ولو ملكتُ خياري والدنا عرضت بكل إغرائها في فنها العجب لما رأت غير إصراري على سنني وأعادها اليأس بعد الهد والنصبِ قلبي خليٌ عن الدنيا ومطَّلبي ربي فليس سراب العيش من أدب هؤلاء الذين تعلقت قلوبهم بالآخرة، وبالجنة، بالنظر إلى وجه الله الكريم، بالتمتع بالنعيم الذي أعده الله تعالى للمؤمنين، هؤلاء هم الذين أربكوا مخططات الشرق والغرب، وأعجزوا اليهود والنصارى والمشركين وحيرَّوهم.(208/20)
إبعاد العقيدة عن ساحة المعركة
هكذا يجب أن نفهم هذا الأمر ببساطة ومع الأسف فإن المضللين اليوم أصبحوا يشككون الأمة حتى في البدهيات، ونسينا دوافعهم العقائدية الدينية، وأصبحنا نردد خلف غلمان الصحافة والإعلام كلماتٍ جوفاءَ لا معنى لها، لازلنا نسمع الآن بآذاننا أخبارهم: هدم المساجد وإقامة المعابد في مكانها، ومازلنا نشاهد بأم أعيننا أخبار ذبح المسلمين كما تذبح الخراف.
وربما رأى بعضكم ما حصل في عدد من بلاد العالم حين -وهذا موجود مصور الآن ثابت- كانوا يدخلون عليهم وهم يصلون الجمعة، فيرشونهم رشاً، ويبيدون خضراءهم، ويقضون عليهم عن آخرهم، حتى ربما انجلت معركة من هذا القبيل وليست معركة في الواقع، لأنها ضربة من طرف واحد! ربما انجلت عن خمسمائة أو ألف قتيل في مسجد واحد وهم راكعون أو ساجدون كما حصل في سيريلانكا، وغيرها!! إذاً العداوة ظاهرة، الحرب دينية، بطرس الناسك الذي كان يجول شوارع أوروبا ويدعو الناس إلى الحرب ضد الإسلام، هو نفسه ما زال موجوداً لكن بدلاً من أن يركب حماراً أصبح يركب طائرة! واليهود الذين كانوا بالأمس يتنادون لثارات خيبر هم يهود إسرائيل اليوم! والشيوعيون الذين قتلوا في عام واحد أكثر من ثلاثة ملايين مسلم فيما يسمى بالجمهوريات السوفيتية هم الشيوعيون اليوم الحُمْر! والمشركون الوثنيون، الذين هم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا هم مشركو اليوم! الذي تغير اليوم هو لهجة الخطاب، أصبح الناس مهذبين، لو مررت من عنده فضربك بطرف كتفه، لرجع إليك يمسح على ظهرك، ويقول لك: آسف آسف، يعتذر لكن لا مانع عنده في نفس الوقت أنه يتدرب على كيفية صناعة الرشاش والمدفعية، حتى يصوبك بها من بعيد، ويقتلك ويقتل أهلك من ورائك، تغير الأسلوب، الإنسان المهذب الذي بقي لك عنده قرش أو ريال يبحث عنك حتى يوصله إليك، لا مانع أنه يرسم مخططاً لسرقة بنك.
إذاً يجب أن نتفطن لهذه الأمور، لا نقرأ بعيوننا فقط! لا، يجب أن نقرأ ويكون عندنا خلفية شرعية نفهم بها الأمور، نفهم بها الحقائق.
لا تظن أن التقدم والحضارة والرقي المادي والتصنيع، أنه غيَّر من عقلية الرجل الكافر شيئاً، لا!! هذا العداء الذي يحمله الكافر للمسلم باقٍ بحاله، لكنه أخذ طابعاً معيناً ووضع عليه غلاف جميل، جذاب، مزوق، بحيث أنك أصبحت أيها المسلم -بحكم أنك صريح وواضح- حين تقول: إن هذا كافر، يقال لك: هذب ألفاظك كافر!! لماذا أنت هكذا دائماً غليظ وعباراتك قاسية؟ لفظة كافر لفظة سب ما تليق! هو يختلف معك لكن هو يرى أن ما هو عليه صحيح، وأنت ترى ما أنت عليه صحيحاً، إذاً لا ينبغي أن تقول هذا! هذا منطقهم، يُريدونك أن تستخدم نفس أساليبهم، هو يكيد لك ويضمر لك عداءً مستحكما، لكنه يبتسم في وجهك، ويربت على كتفك، ويحسن إليك، ويعاملك بلطف، وهو في نفس الوقت، يسن خنجراً ويسمم السكين حتى يذبحك بها، ليس هناك مانع، ولذلك يقول الشاعر الذي يتعجب من حالهم حين كان لا يعرف حقيقة أمرهم، يقول: قتل امرئٍ في غابة جريمةٌ لا تغتفر وقتل شعبٍ كاملٍ مسألةٌ فيها نظر يعني هم يكيلون بمكيالين: المكيال الأول: للمسلمين، فالمسلمون عندهم أرقام بلا رصيد، مُسلم أو مائة أو ألف أو عشرة آلاف، أو مائة ألف، أو مليون مسلم، لا يشكلون شيئاً، ثم تخفيف ورحمة!(208/21)
السلاح السريع
المظهر الرابع من مظاهر هذه المرحلة الجديدة: أن الحرب هذه مدججة بالسلاح السريع، ولو نظرنا إلى تاريخ الإسلام الطويل وإلى تشريعه، لوجدنا أن المسجد والبيت والحلقة والمدرسة والشارع والسوق كلها يدعم بعضها بعضاً، لا يمكن أن يحصل هناك تناقض، بين ما يتلقاه الطفل من أبيه وأمه، وما يتلقاه في حلقة التعليم والكتاب، أو في المدرسة، ولا يمكن أن يوجد تناقض بين ما يتلقاه من هنا، ومن البيت، ومن الحلقة، وما يتلقاه في المسجد، كذلك لا يمكن أن يوجد تناقض بين هذا وبين ما يتلقاه في شارعه، وفي سوقه، كذلك لا يوجد تناقض بين ما يسمعه، ويقرؤه، ويراه، من أخبار حكامه وسلاطينه، ووزرائهم وقضاتهم، لكن هذه الحرب الجديدة جاءت تحمل معها سلاحاً حديثاً عجيباً من كل طرف.(208/22)
أسلوب التنظيم والإدارة
أيضاً عندهم أسلوب التنظيم والإدارة والتكتيك، وهذا شيء ومع الأسف الشديد، أنهم تفوقوا علينا فيه تفوقاً كبيراً فجاءوا من كل ناحية، فإن خرجت في الشارع قابلوك في الداخل: في البيت، في المدرسة، في السوق، في محلك، في صندوق بريدك، في كل شيء، أتوك بهذا الشكل.
مما جعلك تحس أن المسألة أكبر من حجمك الطبيعي، وهذا من كيدهم، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] .
هذه أهم من الحرب المدججة بالسلاح، لأن هذه الحرب تواكب الحرب -حرب القنابل والطائرات- وجاءت معها؛ لأنها هي الممهد الحقيقي، الذي عمل سنوات، والآن جاء عمل بقوة، لم نكن نتصورها، فمثلاً سيكون هناك بث مباشر، سيكون هناك بث من باخرات معينة، سيكون بثاً موجهاً فقط للعالم الإسلامي، ولهذه البلاد بالذات؛ لأنها -كما يقولون- هي مهد الأصولية، لا نستأثر بهذا الحديث ونهول من أعمال أعدائنا، وننظر في الأهم من ذلك، وهو كيف نواجه هذا الواقع المؤلم؟ هذا الواقع المر؟ ألا من عمل؟ ألا من خطط؟ ألا من رأي؟ كل هذا ممكن.(208/23)
الإعلام
ومن أبرز هذه الأسلحة التي استطاعت -أو حاولت- أن تعمل على خلخلة البنية الاجتماعية -كما أشار الشيخ-: الإعلام بكل وسائله، جاء مواكباً مع من يحملون السلاح، وتأكيداً على ما سبق أنهم لا ينظرون إلى وقت قصير، بل جعلوا هناك شيئاً اسمه القناعة، فأنت إذا أردت أن تؤثر على الناس لابد أن تكسب ثقتهم ورضاهم، ما الذي عملوا هم؟ عملوا إذاعات لسواد عيون المسلمين ولمصلحتهم!! تسمع إذاعة لندن، وصوت أمريكا، تسمع من هذه الإذاعات، هذا على المستوى الخارجي، ونجد أن عليها إجماعاً عربياً وإسلامياً أنها أصدق القوم مونتكارلو، فمن أين نأخذ أخبارنا، ونستقيها؟! أخبارنا نستقيها من أعدائنا؛ لأننا حدنا؛ لأن الإعلام الداخلي والإعلام الإسلامي ما قال الحقيقة!! إما أن يقول نصف الحقيقة أو أن يقول غير الحقيقة، وإذا تكشفت الأمور، أصبح الإنسان لا يثق بالإذاعة الفلانية ولا الصحيفة الفلانية ولا المكان الفلاني، فبدأت الثقة في العدو، هذا أول كسب كسبوه، فأصبحنا من أين نأخذ تحليلنا، من لندن، أو مونتكارلو، أو إسرائيل، أو صوت واشنطن إلخ، هذا جزء من الحرب.
الجزء الآخر ما يعدون له، وما يرونه قريباً: البث المباشر، الذي يعتبرونه سلاحاً قوياً ونفاذاً في خلخلة وتغيير البنية الاجتماعية، وإيجاد ما يظنون، لأنك إذا فتحت التليفزيون ترى هذا، وإذا فتحت الإذاعة الفلانية، تقول كذا، وذا يقول كذا، مع كثرة ترديد الكذب، كما قال هتلر: ردد الكذب مرة، مرتين، وخمس، حتى يرى الناس أنه صدق! تسمع التقرير في لندن، متوافق مع مونتكارلوا، متوافق مع صوت أمريكا، أو متوافق مع إسرائيل، وهو الذي يأتيك في الصحيفة الفلانية، المكان الفلاني، إذاً هذا خبر صدق، وتحليل صادق! لولا أنه صادق، لما أجمعوا عليه! ولهذا جاءت الحرب بسلاح حديث، المسلمون ليسوا على مستوى المواجهة، لأنه حتى لو كان عندك إذاعة، قالت: أنا ما أذيع إلا الحق من أين تأخذ؟ وكالات الأنباء كلها بأيديهم، فاستخدموا هذا السلاح من أجل ضرب المسلمين أيضاً في الداخل وضعوا عدداً من الصحف، وإذا كان أهل الداخل لا يريدونها، فماذا يعملون؟ يضعون اسمها خارجياً، وهي تصدر داخلياً، تجدها في لندن، ولكنها تأتي في الفاكس والأقمار الصناعية لتطلع في جدة أو في أي مكان آخر، المهم أنها غير خاضعة للرقابة داخلياً، ولكنها ما عملت إلا لهذه البلاد من أجل خلخلة بنيتها الاجتماعية.
ما يكفي هذا، الآن جاءوا لحماية ما يبثونه بالسلاح، لأنه قد يوجد من الأصوليين يوماً من الأيام -أو يخافون من هذا- من يقتحم مكبراتهم وأماكن بثهم وغير ذلك فتحبط الخطة! قد يُعمل شيء من هذا؛ فهم جاءوا ليكونوا قريبين من أجل إذا حدث أي شيء، يتدخلون تدخلاً مباشراً سافراً، وكما قلنا إن حالهم كأنهم في صحوة موت، لم يبق شيء، آخر الأوراق سيلعبون بها، انتهى كل شيء لا بد من التدخل المباشر.(208/24)
التعليم
أيضاً من الوسائل الحديثة والسلاح الحديث الذي سلكوه: التعليم، سواء التغريب، والبعثات، وإن كانت البعثات في الأخير لما أحسوا بفشلها، قللوا منها، لأنها ما عادت تثمر الإثمار الذي كانت تثمره سابقاً، فرؤي أنه لا جدوى لها، فبدءوا بأسلوب آخر، وهو إيجاد دورات مدارس، أشياء داخل البلاد الإسلامية، حتى يمكن تطعيم هؤلاء بشيء مما يزعمون أنه حرية لهم، أو تغييراً اجتماعياً يريدون بثه في المجتمع.(208/25)
المؤسسات الجاهزة
الأمر الثالث: المؤسسات، وقد أشار الشيخ إلى عدد المؤسسات التي واكبت المشروع، وكانت جاهزة، فلا يمكن أن يكون هناك خطوط وطيران إلا برجل وامرأة ومضيفات، وكأن المستشفيات ما تصلح إلا أن يكون فيها نساء عند الرجال وهكذا، جعلوها عندنا كالحقيقة الثابتة الماثلة التي لا يمكن أن تقبل زلزلة أو زعزعة، وهذا -طبعاً- نوع من الانتكاسة، لأنهم كانوا في وقتٍ سابقاً لما أرادوا أن يضعوا النقود، ويصكوا النقود، وضعوا عليها اسم أمير المؤمنين، لأنهم تصوروا أنه لا يوجد مقابل إلا بهذا الشكل!! واليوم دارت الدائرة -والله المستعان- فتصورنا أنه لا يمكن أن توجد المستشفيات إلا بفساد! إلا بإيجاد نساء كاسيات عاريات، نساء تأتي للرجال وهكذا! المهم أننا أصبحنا نرى مثل هذه القضايا، نوعاً من المسلمات، وكأنه لا يمكن أن يكون هناك مستشفى خاص بالنساء أو مستشفى خاص بالرجال، أو غير ذلك، المهم أن هناك عدداً من المؤسسات جاهزة للتطبيق، وهذا من التخطيط المسبق الذي ما انتبهنا له، فإذا وجد الحدث انتبهنا، وانتباهاتنا كانت متأخرة.(208/26)
التحذير من تهويل أمر الأعداء
ونبدأ الحديث عن كيفية المواجهة ومع فضيلة الشيخ سلمان: نعم ربما كان الحديث السابق أيها الإخوة كله حديثاً عن نوع من الوصف أو التحليل للواقع الذي تعيشه الأمة، والمرحلة الجديدة التي بدأت تطل عليها، ولسنا نزعم أن ما قلناه كافٍ! كلا، بل إن الكلام في هذا الأمر يطول، ولكن حسناً فعل الأخ الشيخ محمد في الانتقال إلى النقطة الثانية، لأن النقطة الثانية هي الأهم، وقد استأثرت الأولى بأكثر الحديث لأنها جاءت في الأول، ولابد أن تسبق، لكن النقطة الثانية أهم، لأنه قد يرتب بعض الإخوة على الكلام السابق، أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون!! ومعنى ذلك أنهم جاءونا من فوقنا ومن تحت أرجلنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن أمامنا ومن ورائنا! فلم يبقَ إلا أن نكف أيدينا، وننتظر حتى يأتينا الموت، قد يحدث هذا! إذاً قد يحدث استجابة غير صحيحة للحديث عن الواقع الذي وصفناه، وهنا تأتي أهمية المواجهة، أيضاً من ناحية أخري -أيها الأحبة- بعض الإخوة، بعض الشباب، بعض المتحمسين، قد يسترسل ويفيض في الحديث عن الواقع، وكلما جلس أو قعد أو قام أو ذهب أو جاء قال: حصل كذا، وفي المكان الفلاني كذا، وهنا منكر، وهنا منكر، هناك فساد، ويوجد كذا، وبعد هذا يقول: الدنيا كلها مدبرة، وعالم الغرب يشتغل، وهكذا أصبحنا نتصور أننا نتحرك وسط مؤامرة محبوكة! وهذا غلط، هؤلاء الناس من الكفار ليسوا آلهة، إنهم بشر، وبشر ضعفاء وشيخهم وأستاذهم إبليس، تلا عليكم الشيخ ما قال الله تعالى في شأنه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] .
ليس كل شيء مخططاً لا، هم استغلوا ضعفنا، واستغلوا نقصنا، واستغلوا غفلتنا، فكان هذا سر نجاحهم، ولو كنا أقوياء لتحطمت كل مؤامراتهم على صخرة: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] .
هم ما غفلوا يوماً من الأيام، لكن يوم أن كانت الأمة قوية، كانت مثل الجسد القوي، قد يأتيه الجرثوم، ثم يخرج منه ويغادره، أما الآن فقد أصبحت الأمة ضعيفة، فقدت المناعة، أصبحت مثل المريض الذي فقد المناعة، أي مرض، أي جرثومة، ولو كانت ضعيفة تأتيها، لا تزال تفعل فعلها في الجسم، حتى تقتله! فالحذر الحذر -أيها الإخوة- أن نفهم أن معنى ذلك أن نضع يداً على يد، وكبِّر الوسادة، ودع الناس تذهب وتأتي، وهذا الأمر لا يعنيك، وأنت لست منه في قبيلٍ ولا دبير، وهذا ما لا طاقة لك به! هذا من تخويف الشيطان لأوليائه، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] .
ما معنى الآية؟ {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] يعني: يخوفكم أولياءه، يكبرهم في عيونكم، حتى تخافوهم، يخوف الناس، من أوليائه، هذا معنى الآية.
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) يجعلكم تخافون أولياءه، لأنهم أولياؤه فهو يكبرهم ويضخمهم، ولذلك تجد الناس يتصورون أن الدنيا كلها لعبة إسرائيل، -فمثلاً- هناك كتاب اسمه الدنيا لعبة إسرائيل وسبق أن تكلمت عن كتاب بروتوكولات حكماء صهيون وعدد من عشرات المصنفات التي تُبالغ في تضخيم قوة اليهود مثلاً، حتى تصورنا أن الواحد مثل ما قال بعض الأدباء، قال: الواحد منا إذا أراد أن يأكل الغداء، قال: انتبه لو يكون فيه ماسوني، والعشاء لو يكون فيه ماسوني!! فعلاً استسلمت عقول الناس، وبالغوا في تضخيم قوة العدو بالشكل الذي صار عليه الآن، ليس أن المبالغة تولَّد عنها قوة المقاومة وشدة الحماس، لا، مبالغة تجعل الإنسان يائساً وعاجزاً، ولا يستطيع أن يصنع شيئاً، فهو أمام مؤامرة محبوكة هي سوف تجري وتنفذ شاء أم أبى، رضي أم سخط، فليس له من الأمر شيء، ومن المصلحة ألا يتدخل!! هكذا تصور الناس، وهذا خطأٌُ عظيم.(208/27)
الإيجابية
المهم أن يكون هذا في يده لا في قلبه، وتكون القضية التي تملأ قلبه هي قضية الإسلام والمسلمين، فهذه القضية أولاً لا بد منها، وهي قضية أن نكون إيجابيين وفاعلين، وأن نحذر من اليأس والشعور بأننا لا نستطيع أن نصنع شيئاً، يقول أحد القادة وقد سألوه: لماذا انتصرت؟ قال: من قال لي: لا أستطيع، أقول له: حاول، ومن قال لي: مستحيل، أقول له: جرب.
لماذا لم يفعل هذا الإنسان؟ لماذا دائماً نفتعل بعض العقبات والأوهام، ونجعلها حاجزاً يمنعنا من العمل؟ جرب.
ما هناك خسارة، أنت إذا قمت بعمل، كتبت خطاباً لمسئول، أو نصيحة، أو رسالة، أو ذهبت إليه وزرته، أو زرت العالم الفلاني، أو تكلمت، أو ذكرت، أو خطبت، أو أمرت، أو نهيت، بذلت الجهد الذي تستطيعه.
جرب فلن تخسر شيئاً، إن نفع الجهد خاصةً إذا كان جهداً مدروساً فبها، وإذا لم ينفع فعلى الأقل كتب لك الأجر، وكتب لك الاجتهاد، والخطأ وارد، والذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، أما الذي يعمل لابد أن يخطئ، إلا أن يكون معصوماً يأتيه الوحي من السماء، وقد انقطع الوحي بموت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، فبقي أنا وأنت وفلان وعلان، نجتهد نخطئ مرة، ونصيب مرة، لكن إذا كانت النية سليمة وصحيحة فإن الله عز وجل يتولى الصالحين، والخطأ يجب أن يوضع في إطاره الطبيعي، فلا تضخمه، يمكن أن مرة، لكن تصيب عشراً، وحتى ذاك الخطأ ليس بلازم أن يكون خطأ.
هناك مثل عربي، العرب إذا واحد منهم ندم يقول: ندمت ندامة الكسعي.
فمن هو الكسعي؟ الكسعي رجل كان يصنع السهام، ففي إحدى الليالي كان يصنع قوساً وسهماً ويرمي، فتبين له أنه ما أصاب في الظلام، رمى مرة ثانية ما أصاب، رمى مرة ثالثة ما أصاب، فكسر ما صنع من شدة غضبه، فلما أصبح الصباح ذهب يمشي، فوجد أن السهام التي رمى بها كلها قد أصابت الذي يريد! أصابت الهدف، لكن لأنه في الظلام يحسب أنها ما أصابت، فندم ندماً شديداً على أنه كسر قوسه، فصار مضرب المثل حتى قال الشاعر: ندمتُ نَدامة الكسعي لما غدت مني مُطلقة نوار ُ أنت يمكن أن ترمي سهماً تحسب أنه ما أصاب، وعندما يذهب الليل ويأتي النور يتبين لك أنه أصاب، لكنك لم تدر في ذلك الوقت.
وهذا المثل، مثل دقيق أيها الإخوة، ما تدرى أنت الذي أصاب والذي ما أصاب، فمن الممكن أن يكون لديك عمل قمت به وتزدريه، ويتبين أن هذا العمل أحدث أثراً بعيد المدى، ومن الممكن أن ترى أنه وفعل وفعل، وفي النهاية يتبين أن هذا العمل هباء في هباء، فلا تضخم الخطأ اجتهد واستشر أيضاً، لا تستقل برأيك، استشر من تثق به، من زميل أو طالب علم أو عالم أو شيخ أو نحوه ممن جربت السداد في رأيه، والأمور البسيطة أيضاً لا تحتاج إلى استشارة، لا يحتاج أن تستشير أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن منكر أو تقول كلمة حق أو تكتب رسالة أو نصيحة أو برقية أو كلاماً! هذا لا يحتاج إلى استشارة.(208/28)
المؤهل لخوض الصراع
أنا أريد أن أسأل نفسي وأسألكم -أيها الإخوة- سؤالاً يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ودعونا ننتهي من الكلام الفارغ، وننتقل إلى أن نكون عمليين وإيجابيين، إما أن نتصرف بصورة صحيحة، وإلا فلا داعي أن نشغل الناس بالكلام والقيل والقال، ونحن ما صنعنا شيئاً، نريد أن نسأل أنفسنا: هل نحن نغار للإسلام؟ هل نحن نغضب للإسلام؟ هل نحن نتأثر من قضية الإسلام؟ أم أن قضية الإسلام والمسلمين أصبحت في هامش التفكير عندنا، بل ربما لا تعنينا في شيء، وربما إن فكرنا فيها نفكر دقائق، ثم نشتغل بتفاصيل أحوالنا، أذهب بزوجتي إلى المستوصف، وأذهب بولدي إلى المدرسة، وآتي بالعلاج، ثم أذهب إلى السوق، ثم أذهب للعمل، وهكذا تجدني أربعاً وعشرين ساعة أنتقل من عمل تفصيلي إلى عمل تفصيلي، والله ما عندي وقت أفكر في قضية الإسلام والمسلمين، إذا كان الأمر كذلك، فمن الآن انسحب، وابق خارج دائرة المواجهة.
نحن نريد رجالاً من جنس الرجال الذين قال لهم يوشع بن نون كما في صحيح مسلم، لما أراد أن يغزو، قال عليه الصلاة والسلام: {غزا نبي من الأنبياء -هو يوشع بن نون - فلما قَرُبَ من القرية أوشكت الشمس على الغروب} لاحظ كيف أن الناس الجادين المضحين يسخر لهم الله عز وجل نواميس الكون، حتى إذا احتاجوا إلى خوارق الآيات يجريها الله لهم!! فهناك شيء اسمه كرامات، فإن أنت عجزت فإن الله عز وجل يدبر في السماء شيئاً لا تتوقعه، فهذا النبي لما رأى الشمس أوشكت أن تغرب خاطبها وقال لها: {أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها فوقفت الشمس} هذا حديث صحيح.
قفي يا أُختَ يُوشعَ خبرينا أحاديثَ القرون الغابرينا ثم غزا وانتصر على أعدائه، المهم ماذا قال للذين معه؟ هذا الشاهد الجُندْ الذين معه؟ لما أراد أن يخرج بالناس قال: {لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولم يدخل بها} .
رجل عقد على امرأة وما دخل عليها حتى الآن، هذا ينسحب من الجيش؛ لأن قلبه مشغول بهذه الزوجة، ما عنده وقت، ولا عنده جهد، ولا عنده اهتمام لقضية الإسلام، هذا لا يصلح لنا، ينسحب، ثم: {ولا يتبعني رجل اشترى إبلاً، أو بقراً، أو غنما، وهو ينتظر ولادها وإنتاجها} .
رجل عنده إبل، وينتظر هذه الناقة تلد، وكذا وكذا، ويريد أن يثمرها وينميها، هذا يجلس عند إبله وبقره وغنمه، ما يصلح للجهاد، {ولا يتبعني رجل ابتنى داراً ولما يرفع سقفها} .
ورجل أصلح (الفلة) وبقي التبليط، والدهان، وأشياء، وتكميلات، فهو مشغول، يوم مع السباك، ويوم مع الدهَّان، ويوم مع المبلط! هذا لا يصلح لنا، هذا يجلس عند (فلته) يبقى أن يتبعنا الإنسان الذي تُشغِل قلبه قضية الإسلام والمسلمين الشخص الذي يحترق للإسلام، يغضب لله ورسوله، الشخص الذي يقول: "أريد أن أصنع شيئاً" هذا مرحباً به، وإن كان يشتغل بالدنيا لا مانع، الدنيا تكون في يده لا في قلبه، وإن كان له زوجة، وإن كان عنده أطفال، فالله عز وجل يقول {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] وفي آية أخرى {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] .(208/29)
الخوف وعقيدة التوحيد
بل أقول: إن هذا ينافي عقيدة التوحيد الصادقة القوية النقية في نفوس المؤمنين عقيدة التوحيد التي تدرك أن مقاليد الأمور كلها بيد الله جل وعلا، وأن الأمر يُدبر في السماء، وما هؤلاء البشر إلا أدوات، يريدون هم، ويريد الله عز وجل، فيقع ما يريد الله، ولا يقع ما يريد المخلوق.
[[يريد عبدي وأريد، وما لعبدي إلا ما أريد]] هذا جاء في بعض الآثار، والمعنى صحيح على كل حال، دل عليه القرآن والسنة، بغض النظر عن الأثر وعدم ثبوته، المهم إياك إياك أن تهتز ثقتك برب العالمين، ثم ثقتك بهذا الدين، ثم ثقتك بأنك تستطيع أن تصنع شيئاً، بل شيئاً كثيراً.
محمد إقبال شاعر الإسلام في الهند يحذرك من أن تزهد في نفسك، أو تزدريَ شخصك الكريم، أو ترى أنك عاجز، لا تستطيع أن تصنع شيئاً، لا، هذا لا يصلح أبداً، يقول: وتَزعمُ أنك جُرمٌ صغير وفيِكَ انطوى العالمُ الأكبرُ لا تزدرِ نفسك، أقول لبعض الإخوة: حتى المريض الذي يُحمل في النقالة في المستشفى من غرفة إلى غرفة، أو يظل في غرفة الإنعاش، هذا المريض، -والله الذي لا إله إلا هو- يستطيع أن يصنع الكثير للإسلام، بشرط أن توجد عنده همة وإرادة أن يصنع شيئاً للإسلام، بشرط أن يكون فعالاً إيجابياً يعمل على التغيير يستطيع أن يدعو الله عز وجل، والدعاء سلاحُُ كبير، يستطيع أن يفكر ويخطط، والناس كلهم يمشون على أثر المخطط، ممكن أن نكون نحن أصحاب الأجسام القوية الكبيرة، وأصحاب القدرات، وأصحاب الأكف، والسواعد المفتولة، نحن جميعاً قد يسيرنا إنسان يرسم لنا خطة فنمشي عليها وننفذها، وراسم هذه الخطة هل استخدم يده في رسمها أو رجله؟ ماذا استخدم؟ استخدم عقله، والمريض الذي يُحمل على النقالة ربما يتمتع بتفكير وعقل وهدوء وإمكانية النظر للأمور أكثر مما يتمتع الصحيح أحياناً يستطيع أن يقول الكلمة يستطيع أن يشعر الشعور الصحيح.(208/30)
وسائل المواجهة
هذه أنا اعتبرها مقدمة ضرورية في كيفية المواجهة، لأننا سننتقل بعد ذلك إلى الكلام عن الوسائل، أو بعض وسائل المواجهة، أهم من الوسائل أن يوجد عندنا الشخص المستعد لاستخدام الوسائل، وإلا فيمكن أن نعطيك عشرين وسيلة، وفي النهاية ما أصبنا شيئاً؛ لأنه ليس عندنا الإنسان الذي يبحث عن الوسيلة، أما إذا وجد الذي يبحث عن الوسيلة، فنحن بخير، لأن المثل يقول: "الحاجة أمُّ الاختراع" إذا كنت صادقاً، وتُريد أن تُغير، فالوسائل كثيرة، وسنذكر شيئاً من هذه الوسائل.
هذا الكلام مثل ما أشار الشيخ ضروري جداً لبدء المواجهة؛ لأن كثرة التخوفات تُحبط الإنسان من القيام بأي عمل يمكن أن يُثمر في المجتمع، فأنت يمكن أن تدعو كافراً للإسلام فلا يسلم، فيسبب آثار العداء للإسلام، وعلى هذا قس، قد تدعو فاسقاً إلخ، تبدأ التخوفات تزيد عليك بشكل لم تكن تتصور أن يأتيك، ونحن ما أمرنا بهذا الشيء، أمرنا أن نعمل، أمرنا أن نجتهد في الحدود التي نراها، والإنسان لا يستطيع أن يري الغيب.(208/31)
الوعي الشامل
ونحن نحتاج إلى الوعي في كل شيء، نحتاج إلى وعي سياسي، وإلى وعي اجتماعي، وإلى وعي اقتصادي الخ، من أنواع الوعي.
إذا لم نفهم في أمور السياسة، لا نستطيع أن نعرف كيف نغير المجتمع، لأننا لا نعرف كيف تأتي الأوضاع وكيف تدار الأمور، وإذا لم نفهم في عملية التغيير الاجتماعي، كيف تكون، كيف تنشر الفضيلة؟ وكيف يقضى على الرذيلة؟! أعداؤنا عرفوا كيف ينشرون الفضيلة، وما هي أساليب نشر الفضيلة فاستغلوها، ونحن بحاجة إلى أن نعرف ما هي وسائل نشر الفضيلة اجتماعياً؟ وكيف نتغلغل اجتماعياً، وكيف تكون دعوتنا مؤثرة في جميع الأوساط الاجتماعية؟ في البيت، والمدرسة، والشارع، والقرية، والمدينة، وفي كل شيء.
إذاً نحتاج إلى وعي اجتماعي، ما هي المؤثرات الاجتماعية التي تؤثر على الناس؟ الاقتصاد، فلا يمكن أن تصل دعوتنا إلى مستوى رشيد وهي تعطي ظهرها للاقتصاد، وأهلها إذا نظرت إليهم نظرت إلى أهل الفقر، في وسائلهم، في إمكاناتهم، في أشيائهم، لماذا؟ {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وقال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] .
نحن بحاجة إلى أن نقول للناس هذا الكلام، فكلما جاء حث على الجهاد في سبيل الله، جاء جاء معه اقتران بالمال، فالجهاد بالنفس والمال دائماً، كيف نهتم بمعيشة الناس واهتماماتهم؟ حتى نعرف كيف نؤثر فيهم؟ أما أن يأتي اليساريون، والعلمانيون وغيرهم ويهتمون بقضايا الناس وهم كاذبون، منافقون، غير صادقين، ويتكلمون عن قضايا الناس بالكلام فقط، ثم ينتخبهم الناس ويتصورون أنهم منقذون، حتى إذا حققوا لهم وأعطوهم أعلى المناصب، مكروا بهم وغدروا بهم.(208/32)
كيفية تحقيق الوعي
إذاً نحن بحاجة إلى الوعي في كل المجالات، كيف نحقق الوعي؟ نحقق الوعي بأحد أمرين: أولاً: بالاستفادة من أهل الاختصاص أياً كان، فلا يصح أبداً أن نرى شخصاً تقدم في مجال معين، ونطلب منه أن يعطينا الرأي في كل المجالات، قد يكون الشخص من كثرة قراءته في السياسة، واستماعه وتحليلاته ذو رؤية سياسية جيدة، لكن لا توجد عنده رؤية شرعية، ولا رؤية اقتصادية، ولا رؤية اجتماعية، فلا يمكن أبداً أن نجعله هكذا، وربما شخص آخر تفقه فعلاً، قرأ كتب الفقه القديم بشكل جيد جداً، لكنه لا يعيش الواقع، لا يستطيع أن يُعطينا فتوى اجتماعية، كيف يوجه المجتمع، كيف يعيش؟ إذاً نحن بحاجة إلى أهل الاختصاص، ولو رأينا إلى أعدائنا مع الأسف الشديد، لوجدنا أنهم يسألون كل شخص في أدق تخصصاته، خُذ مثالاً بسيطاً، انظر إذاعة لندن بين السائل والمجيب، اسمع السؤال، واسمع من يجيب، لا يوجد عندهم أحد اسمه مجيب الأسئلة!!، كما يكون عندنا في بلادنا الإسلامية مع الأسف، إذا وجد من يجيب على الأسئلة فيتم توجيه كل الأسئلة إليه، اسأل ما شئت، في أي تخصص، اسأل!! لكن هم إذا جاء السؤال يذهبون إلى أدق واحد في هذا التخصص، ويعطوه السؤال، ويجيب، وإذا ما وجدوا في بلادهم، جاءوا إلى بلاد أخرى، يبحثون عن أفهم واحد في هذه القضية فيسألونه، لأنه قد يكون الشخص أمضى خمس سنوات من عمره يدرس قضية واحدة، إذا لم يُسأل مثل هذا، من يسأل؟ والاجتهاد كما تعلمون يتعدد قد يكون في قضية واحدة أو اثنتين، ما يجوز أن تقلد فيها، لأنك وصلت فيها إلى حكم لا يجوز لك أن تقلد غيرك.
وهكذا فنحن بحاجة إذا أردنا أن نعي أنه لا يمكن لكل شخص أن يفهم في كل المجالات، وأن يصل لكل ما يكتب، فلو أراد شخص أن يقرأ ما يُكتب في تخصصه فقط، وأعطى عمر ستين سنه، يقرأ أربعة وعشرين ساعة، ما استطاع أن يقرأ خمس ما يكتب، إذاً ما يستطيع، ولكن يأخذ الزبد من أهل الاختصاص، ويفهم في حياته، من أجل أن يسير، ويعرف طريقه.
إذاً فالوعي ضروري جداً، أول درجات الوعي: الوعي في تخصصك الذي تعمله، إذا كنت تعمل في مجال الاجتماع، تغير اجتماعياً، لابد أن تعرف كيف تغير، ما هو النشاط الاجتماعي لا يمكن أن تغير الاجتماع، وأنت ما تعرف كيف تعيش مع الاجتماع، إذا كنت تمارس الاقتصاد، ما يمكن أن تغير في الاقتصاد، وتؤثر أنت لا تدري ماذا يكون في الاقتصاد، في أي مجال إذاً أنت بحاجة إلى الوعي في هذا المجال، على وجه الخصوص، ثم الوعي في المجالات الأخرى على وجه العموم.
حقيقية نحن بدأنا نستلمكم أيها الإخوة، من واحد إلى آخر، لكن هذا حتى تتوبوا ولا تطلبونا للشخوص إليكم مرةً أخرى، الحقيقة الشيخ محمد بارك الله فيه، أشار إلى قضية مهمة، وهي قضية الوعي بأساليب الوعي المختلفة، كضمانة لكيفية المواجهة السليمة، سواء الوعي بمخططات العدو، أم الوعي بمتطلبات المرحلة، أم الوعي بوسائل التغيير الممكنة.(208/33)
ترك الجدل والتمشير للعمل
ومن الوسائل المهمة التشمير للعمل، مع التقليل من الكلام والجدل غير النافع في الأمور الجانبية.
فإن المقصود من كل ما يقال إنما هو العمل الذي هو ثمرة الإيمان ودليله، وأمَّا كثرة الكلام والجدل -الذي نشاهده الآن في واقع المسلمين- ليس منه كبير فائدة، فينبغي الاهتمام بالاستفادة من الأصول العامة والعمل على أساسها، والإعراض عن الإغراق في التنظير الذي لا جدوى من ورائه، فقد نتجادل طويلاً في مسألة، وبعد الجدل الطويل -مثلما يقول علماء الأصول- يأتي السؤال ما هي ثمرة الخلاف؟ والنتيجة بعد ما اختلفنا أو اتفقنا، وماذا يترتب على هذا؟ ما هي الثمرة؟ فإما ان لا تكون هناك ثمرة، أو نذهب نبحث عن جزئية يسيرة ونقول: هذه ثمرة من ثمرات الخلاف.
يترتب على هذا، أن تجد أن المسلمين عمروا مجالسهم بجدل عقيم، مثلاً افترض أن هناك منكراً من المنكرات، موجود في مكان كذا، اجتمعنا نحن عشرة من طلاب العلم، كيف نغير هذا المنكر؟ قال واحد: نغير هذا المنكر بالكتابة، وقال ثاني: نغيره بالمراسلة، قال ثالث: لا، نذهب بأنفسنا لنغير هذا المنكر، قال رابع: لا يصلح هذا ولا ذاك، ينبغي أن يذهب واحد ويبحث عن المسئول عن هذا المنكر ويدعوه، قال خامس: لا، نتصل، وقال عاشر!! وهكذا أصبح عندنا عشرة آراء، ثم بدأنا نتجادل جدلاً طويلاً حول أي هذه الآراء أصوب، بينما نحن في حمى الجدل والأخذ والعطاء، إذ بهذا المنكر قد ولد منكراً آخر بمكان ثان فصار عندنا خلاف جديد بأيهما نبدأ، هل بالمنكر القديم أم بالمنكر الجديد؟ قال واحد: لا، نبدأ بالمنكر القديم؛ لأنه أعمق وأخطر، والمنكر الجديد فرع عنه، وإذا زال الأصل زال الفرع، قال ثان: لا يا إخوان، المنكر القديم صعب إزالته الآن، لأنه أصبح مستقراً، لكن المنكر الجديد سهل إزالته؛ لأنه لم يستقر بعد، والناس عندهم استعداد لتقبل إزالة هذا المنكر.
وبينما نحن نختلف حول أيهما نبدأ إزالة المنكر الجديد أو القديم، إذا بمنكر ثالث يتولد، وهكذا تكسرت النصال على النصال، والقوم في حمى جدلهم العقيم حول الوسيلة الصحيحة، وحول التنظير، وحول الكلام، وحول القيل والقال.
فجاءهم رجل رشيد وقال لهم: يا قوم إن كنتم أهل جدل وكلام، فهذا شأن الفلاسفة من قبلكم طالما تجادلوا، وبيزنطة تسقط في أيدي الأعداء، كما يقول المثل.
كان الفلاسفة يتجادلون في بيزنطة وهي من المدن اليونانية، أيهما الأصل الدجاجة أم البيضة؟ فاختلفوا في هذا على قولين، في الوقت الذي كانت فيه خيول الأعداء على مشارف المدينة؛ حتى سقطت، وجاء الأعداء إلى هؤلاء الفلاسفة وعرفوهم عملياً أيهما كانت أول الدجاجة أم البيضة؟ فكانوا في أيدي أعدائهم كالدجاج، لماذا؟ لأنهم أشغلوا وقتهم في جدل عقيم، لا جدوى من ورائه، في الواقع هذا الجدل البيزنطي، ما أكثره في واقع المسلمين! دعونا يا إخواننا من الجدل بارك الله فيكم، انزلوا إلى الميدان، اشتغلوا، وكل واحد اقتنع بشيء يعمله، أنت الذي تنكر المنكر الأول، اذهب له، والذي يريد المنكر الثاني يذهب له، والذي سيغير بالكتاب يغير بالكتاب، والذي سيغير بالقول بغير بالقول، قد علم كل أناس مشربهم، كل إنسان له ما يناسبه وما يقتنع به، لكننا سنلتقي بالتأكيد على هدف واحد، وهو إزالة هذا المنكر، أو ذاك، وقل مثل هذا في أي قضية تعرض لنا؟! إذاً فكثير من القضايا النظرية التي نتكلم عنها أمور جدلية عقيمة، ربما لا يكون من ورائها طائل ولا من تحتها ثمرة، ولكن ضيَّعنا بها أوقاتنا، مثلاً نتفق على أمور عملية كثيرة، كل المسلمين متفقون على وجوب الدعوة إلى الله، فهل دعونا؟ كل المسلمين متفقون على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل أمرنا ونهينا؟ كل المسلمين متفقون على وجوب النصيحة فهل نصحنا؟ كل المسلمين متفقون على وجوب الوحدة وجمع الكلمة بين أهل السنة والجماعة، فهل اتفقنا؟ أم أننا ظللنا نتجادل في أوضاع الدول السياسية مثلاً، نتجادل في أساليب الدعوة، نتجادل في خطط الأعداء وكيفية تحليلها، نتجادل في أمور كثيرة، لكن الشيء الوحيد الذي لم نُحس أن ننزل فيه، هو أن ننزل للميدان ونعمل، وندع الجدل جانباً، ونقول: الكلمة أصبحت الآن للعمل، كما قال أبو تمام: السيف أصدق إنباءً من الكُتبِ في حدِّه الحد بين الجِد والَلعِبِ العمل هو الذي يثبت واقعك، أعرف يا أخي كثيراً من الدعاة، كانوا يتجادلون جدلاً عميقاً وعقيماً أيضاً، حول كذا أحسن، أو كذا أحسن، لكن تجد رجلاً منهم مغامراً، ينزل للساحة، وينزل للميدان، فيعمل، فتجد الجميع يمشون وراءه ويصدقونه فيما قال، مع أنه ما ناقشهم، ولا جادلهم، لكنه شق الطريق فأيدوه وزال الجدل، وقطعت جهيزة قول كل خطيب، كما يقال.
فلا داعي أن نُغرق أنفسنا يا أحبتي في جدل عقيم، في أمور كثيرة، أمور نظرية، ليس لها تأثير في الواقع، دعونا ننزل للميدان، ونواجه المعركة بأساليب مناسبة.(208/34)
رفع سقف الاهتمامات
وأهم الاهتمامات وأولى الوسائل رفع اهتماماتنا من الأمور الفرعية إلى الأمور الكلية، في كل شيء، وإن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها، في كل شيء، حتى في اهتماماتنا الدنيوية، حتى في أعمالنا، فقبل أن أصل إلى الأشياء، أود أن أتكلم عما نراه في الحياة، في أعمالنا، في تجارتنا، في زراعتنا، في أعمالنا، لا نأخذ أعمال الدنيا القريبة، لتكن اهتماماتنا عالية، هممنا راقية، حتى نستطيع أن نؤثر في المجتمع، أما إذا كانت اهتماماتنا في الأشياء البسيطة، وجُل تفكيرنا مقصور فيها، فإننا لا نستطيع أن نُغيِّر، لو انتقلت بكم بعيداً في التاريخ إلى سقوط الأندلس، لوجدت أن كل واحد من الناس يقول لك: من أسباب السقوط ملوك الطوائف، الذين انشغل بعضهم في بعض، ما انشغل هؤلاء الملوك بعضهم في بعض؛ إلاَّ وقد انشغل شعبهم من قبل بعضهم في بعض، انشغلوا بأشياء لا تفيدهم، ولا تثمر لمجتمعهم، فانشغل أسيادهم، وكما تكونوا يولى عليكم.
الإسلام جاء بكل خير، نحن نقول ليس هناك شيء في الإسلام صغير، أو غير مهم، أو لا يدعى إليه، أو نتنازل عن شيء من السنة أياً كانت، ما دُمنا نستطيع تطبيق السنة، فلا يوجد شيء غير مهم، إذا كُنا لا ننتصر بتطبيق السنة، فهل ننتصر بترك السنة؟ هذا لا يمكن أبداً، سواء أكانت سنة ظاهرة أم خفية، هذه السنن هي وقودنا وهي زادنا، ولا يمكن أن نتخلى عنها، أو نتنازل عنها، أو نفرط في الإسلام، أو نشدده، أو نجدع منه، ليس من حقنا أبداً، الشيء القليل لو ركنَّا إلى أهل الباطل، يؤاخذنا ربنا عليه، لكن الوقت يختلف، والأمور تختلف، والاهتمامات تختلف، رأس الاهتمامات العقيدة، وإصلاح عقائد الناس واهتماماتهم ورفع شأنهم هذا رأس الأمور، أما أن تتحول اهتماماتنا إلى أشياء تفصيلية نضيع فيها جهوداً وأوقاتاً، وهي كلها اجتهادات من اجتهادات البشر الذين يصيبون ويخطئون، سواء أكانت اجتهادات بتنظيمات، أو في تخريجات لأحاديث نبوية، واستدلالات، ونجعل هذا هو جُل اهتمامنا، ونلزم الناس به، وهو اجتهاد فلان، وإن كان عالماً جليلاً، لكنه اجتهاده، فلا نجعل هذا المحور هو كل قضايانا، وكل اجتهادنا وكأن ما في الدنيا شيء إلا هذا، ونترك أحاديث صريحة متواترة، فلو نظرت في الموجودين، لوجدت عدداً كثيراً، أو الكل، أو الأغلب، يعرف عن أمور العبادات أشياء دقيقة وتفصيلية، ولكن إذا نظرت إلى فقه المعاملات، لوجدت جهلاً ذريعاً جداً، أحاديث ربُما لم تمر عليها طيلة حياتك، لماذا؟ لأن اهتمام الوسط كان بهذه، والإسلام هو هذا وهو هذا، هو احبس حتى يمتلئ زرعك، وهو المال، وهو الاستثمار، وهو الدولة، وهو الشورى، وكل هذه موجودة في الإسلام، لماذا أغمضنا عنها عيناً، وفتحنا عيناً أخرى؟ صحيحُُ أن العبادات جُزء من حياتنا اليومية، لنعرف صلاتنا وصيامنا وزكاتنا، لكن أيضاً يجب ألا نغفل عن الجانب الثاني، عن تأثيرنا في المجتمع، عن وجودنا، إذاً يجب أن ترتفع اهتماماتنا، خصوصاً في مرحلة الأزمات، فإذا وجد عندنا من الدعاة الكثرة الكاثرة التي تجعلنا حتى دقائق الأعمال نوليها من الاهتمام الشيء الكثير، فهذا أمر محمود، ولنطمح إلى اليوم الذي تصل فيه الدعوة إلينا، ولكن إذا كان الدعاة كما تشاهدون، من القلة، وقلة الوقت أيضاً وغير ذلك، فهل معنى ذلك أن تنصرف الاهتمامات إلى الأشياء البسيطة؟ لا بد أن تكون اهتماماتنا عالية وقوية، وأن نهتم بالأشياء الأساسية، كاجتماع المسلمين مثلاً، ونصحهم وتناصحهم، واعتبار أنه ليس هناك شخص منزه عن الخطأ، والقبول من الشخص من صالح كلامه وحديثه وعمله والتعاون معه فيما هو سائر في هذا المجال، حتى لا يكون بعضنا سيفاً على بعض، ونكون أضعف ما نكون على الأعداء دائماً إذا كان الناس مشغولون بجبهتهم الداخلية، فهم أضعف الناس عن مواجهة أعدائهم، أما إذا استطاعوا أن يحصنوا جبهتهم الداخلية ويعرف كل واحدٍ مقدار نفسه، ومقدار غيره، فلا يتقدم على غيره، ولا يحتقر نفسه في مجاله، كلٌ يؤدي ما هو مطلوب منه، عندئذٍ نستطيع أن نُربي أنفسنا، ونربي المجتمع، ونعرف أن كل واحدٍ منا يقوم بدور مهم، ولننظر إلى مثال بسيط من الأمثلة:- جاء أحد الصحابة رضي الله عنهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فقالوا: هو في حديقة بني فلان، فذهب، فقال: لأكونن حاجب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، وجاء أبو بكر وعمر ودخلوا، فكل واحد عرف مكانه ودوره، وليس دور هذا يختلف عن دور هذا أبداً، فكل ميسر لما خلق له، والرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء وافتقد المرأة! ماذا كانت تعمل؟ كانت تقم المسجد، أين هي؟ فذهب عليه الصلاة والسلام يصلي عليها، لا يوجد إنسان دوره غير مهم، سواء أكان رئيس الدولة أم خادماً في المدرسة، كله سواء، وقد ينال الشخص الأضعف من الأجر أضعاف أضعاف ما ينال ذاك، لأن هذا خفت عليه المئونة، وهذا ثقلت عليه، وكلٌ بحسابه، إن قام بها فالأجر لمن كانت مئونته كبيرة كثير، وإن فرط فالوزر كبير أيضاً، وهذا الذي في عمل صغير، إن فرط فالوزر قليل لأن، الحمل ضعيف أصلاً، وإن أجاد فالأجر كثير.
فليس هناك شخص غير مهم، المهم أن تتوحد اهتماماتنا، وأن تترفع اهتماماتنا عن الأشياء الصغيرة، ألا يكون همنا نقد فلان، أو عدد أخطاء فلان، كما يقول أحد الدعاة: لو بدأنا بهذا المشروع، هذا فيه كذا وهذا كذا، ما وجدنا في العالم الإسلامي ثلاثة أشخاص تتفق عليهم الكلمة، فنحن بحاجة لرفع الهمة، لأننا اليوم نواجه أعداءً من كل مكان، نحن بحاجة إلى الالتحام على عقيدة سلفية، ودعوة محمدية، ونصرة للسنة، بكل ما فيها، وتطبيق لها بحذافيرها، وأن ندعو الناس إليها، لكن أيضاً لو نظرنا للأحاديث التي وردت لوجدنا أن هناك اختلافاً كثيراً، فيما ورد في هذا الباب وما ورد في غيره، فيما ورد في هذه القضية، وما ورد في غيرها.
وأترك لفضيلة الشيخ ليتحدث عن الوسيلة الثانية: نعم أفاد وأجاد الشيخ محمد فيما قال -بارك الله فيه- في قضية ضرورة ترشيد الاهتمامات وتصحيحها، وأن يُعطى كل شيء قدره، فإن الله عز وجل بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالحكمة.
والحكمة: وضع الشيء في موضعه، وإعطاء كل ذي حق حقه، ونهى الله عز وجل عن الظلم ومن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، أو البخس، كما قال الله عز وجل: {ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً} [الكهف:33] .
فالبخس والنقص من الظلم، سواء بالنسبة للأشخاص مثلاً أم بالنسبة للأعمال، بالنسبة للأشخاص تجد أننا نحن المسلمين كما قال فينا أبو فراس الحمداني: ونحن أناس لا توسُط بيننا لنا الصدرُ دُون العالمينَ أو القبرُ فليس عندنا أنصاف حلول؛ إما أن يكون هذا إبليساً، أو يكون قديساً كما يقولون، ما عندنا إنسان فيه خير وشر، وفيه هدى وانحراف، وفيه صلاح وفساد، ما نعرف هذا، فإما أن نبجل هذا الإنسان ونجعله كأنه كاملاً لا نقص فيه، فإذا وجدنا عليه خطأً أنزلناه إلى الحضيض، أما بالنسبة للأعمال فكذلك؛ إما أن يعمل الإنسان ما يظن أنه العمل الكامل المقبول، أو يقصر تقصيراً كبيراً، بحجة أنه لم يستطع القيام بالتكاليف الشرعية، مع أنه من الممكن -بل من الواجب- أن يتمسك الإنسان بما يستطيعه أو يقدر عليه من الأمور والأعمال الصالحة، ويستغفر الله من تقصيره أو خطأه أو معاصيه؛ ويحاول أن يحسن وضعه مع الوقت.(208/35)
إحياء الشعائر الإسلامية
أتحدث عن جانب آخر، وهو قضية إحياء الشعائر الإسلامية في مجال المواجهة لأن الله عز وجل ما ترك أمهً بدون نبي يرشدها: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115] .
فبين الله عز وجل لنا ما نتقي، كما أنه عز وجل بين لنا ما نفعل، فالدين أمرُُ ونهي، تحليل وتحريم، ولذلك هناك شعائر شرعية أو واجبات شرعية هي أساس للمواجهة.(208/36)
الاهتمام بالقرى والأرياف
وأؤكد على قضية أعتقد أنها مهمة في مثل هذه البلاد، وهي القرى والأرياف، القرى بحاجة إلى العناية، لأنكم تعلمون ما ينتشر فيها من الجهل والفراغ، فهي بحاجة إلى كل الوسائل السابقة، وبالذات على الأخص الأشرطة، لأن لها تأثيراً عجيباً، وسهلة على الدعاة، وكذلك نقلها ونشرها بين الناس وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(208/37)
تعليق حول الدعاء والضغط الجماهيري
في الواقع تعليق ختامي، أعود أولاً لأذكر قضية "ندامة الكسعي" وفيما ذكره الشيخ في موضوع الضغط واستخدام وسائل الضغط.
الدعاء: أمر تفوضه إلى الله عز وجل، تدعو الله، الأمر بيد الله يجيبك أو لا يجيبك، لكن الرسول صلى الله عله وسلم أمر العبد بأن يدعو، وأنه لن يخسر، إما أن يجيبه الله فيما أراد، وإما أن يصرف عنه من الشر مثله، وإما أن يدخره له ليوم الحساب وهو أحوج.
بالنسبة للضغط الجماهيري: لابد من ذلك في كل شيء، في كل عملٍ صالح، مثلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء أكان عن طريق الخطاب، أم الكتاب، أم الاتصال، أم الضغط الاجتماعي، وتحريك جمهور الأمة، ضد هذه المنكرات التي أصبحت تنتشر وتتسع، إما أن يزول المنكر، أو يخف المنكر، أو على الأقل تضمن ألاَّ يأتي منكر آخر بعده مباشرة، لأنه إذا كان هذا موقف الناس من هذا المنكر، معنى ذلك أنهم غير مهيئين الآن لتقبل منكرات أخرى، فقد يؤجل منكر آخر ولو بقي هذا المنكر، وهناك جانبان: الجانب الأول: فأنت لا تقل: "تكلمنا ولا تغير"؛ لأنه وإن لم يتغير، إلا أنه ربما انكفَّ شرُُ كان سيأتي، فلا تكن نظرتك قريبة سطحية دونية.
الجانب الثاني: قضية أن نكون عمليين كما أشرنا في البداية، وكما ذكر الشيخ محمد الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] .
هذه الآية التي أذكر أنني قرأت في سنن النسائي وسنده صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنه أنها نزلت في بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، كانوا يقولون: لِمَ لا يَأمُرُناَ الله بالقتال، فلما أمروا إذا فريقُُ منهم يخشون الناس كخشية الله، أو أشد خشية، إذاً بعض الناس، يقول: لا يفيد، لا يفيد؛ لأن لديه نية، ولأنه يريد أن يغير هذه الأمور بالقوة، وهذا أمر غير متاح له، فلا يعمل شيئاً، وربما لو فتح مجال جهاد في سبيل الله عز وجل، لوجدت هذا الإنسان أول الناكصين والناكثين والمتأخرين، فالإنسان الذي يعمل القليل هو المهيأ ليعمل الكثير.
وفي ختام هذا المجلس: نعتذر إليكم من الإطالة والإملال، ونسأل الله عز وجل أن يكون هذا الكلام نافعاً، مُرضياً له، نافعاً لعباده: سامعهم ومتكلمهم، إنه على كل شيء قدير، وأن يغفر لنا خطأنا وزللنا وتقصيرنا، ويوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح والتوبة النصوح، وأن يجعلنا أولياء للإسلام مجاهدين في سبيله، دعاة إليه، وأن يجعلنا شُجاً في حلوق أعداء الدين أياً كانوا، أن يغيظهم بنا كما قال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] .
أسأل الله أن يغيظ بنا الكفار، قولوا: آمين، أسأل الله أن يغيظ بنا الكفار، وأن يقر بنا جميعاً عيون المؤمنين والمسلمين في كل مكان، وأن يغفر لنا ويعيننا على أنفسنا، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(208/38)
قضية الجهاد
الجانب الثاني:- هو جانب الجهاد في سبيل الله عز وجل، والكلام في الجهاد يطول، وقد لا نكون محتاجين كثيراً للحديث عن هذا الأمر، فأترك المجال والفرصة لأخينا الشيخ محمد.(208/39)
اقتحام الإعلام
الوسيلة الأخيرة التي سنتحدث عنها: أقول قبل قليل صورنا الوسائل الحديثة التي يستخدمونها، وبالمقابل استخدامنا للوسائل الحديثة ضعيف، أُولى هذه الوسائل الإعلام، بكافة إمكاناته المتاحة أمامنا، أي وسيلة ممكنة متاحة أمامنا نستغلها ككتابة في صحيفة، أي صحيفة كانت، لأن كلمة الحق لن تضيع، ولها روادها، وستجد من يقرأ لما تكتب، وستجد بعد فترة صاحب الصحيفة يخطب ودك لتكتب، لأن كتابتك لها مذاق خاص، ونوع خاص، وأنتم الذين تتابعون الجرائد والصحف والمجلات، تعرفون بعض الكتاب، قد لا يأتيك بحقائق، ولكن كتابته ساحرة، لأنه يشخص بعض الأوضاع الاجتماعية ويعالجها، وإذا استطعنا أن نمشي تخطيطاً، وتكتيكاً، وهدوءاً، ومعالجة، فلا يكون لمعالجاتنا انفعالات، لأننا دائما إذا كتبنا، نسينا أن هذه الصحيفة كل يوم تكتب، تُملأ بالهراء، فأنت جئت بكل ما عندك في مقال واحد.
الجانب الأول: أنت لو أشرت إلى قضية أو قضيتين، بهدوء واستطعت أن تصل إلى عقل القارئ لا عاطفته، لاستطعت أن تحركه نحو الخير.
الجانب الثاني: الأشرطة.
وعلى رأسها أشرطة العلم، لأنه لا يتوفر اليوم عَاَلِمْ في كل مدينة وقرية وريف، لكن هناك أشرطة سدت المسد، هذه وسائل حديثه، نستطيع أن ننشر الأشرطة على أوسع نطاق، التي كما أسلفت سابقاً تستطيع أن تنشر الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغير ذلك، لأن هذه فرصة متاحة لنا، فرصة كبيرة نستطيعها، هذا إعلام قوي، وإعلام موجه، وإعلام محفوظ، فلو أتيت براديو لشخص تقول له اسمع، فسيكون فيه غث وسمين، لكن هذه الأشرطة من الإعلام المحفوظ التي فيها الخير الكثير، وليس فيها من الشر إلا ما ندر وعن غير قصد.(208/40)
الضغط الجماهيري
ومن الوسائل الحديثة هناك شيء اسمه الضغط الجماهيري، وهو ضغط على كل منكر، فلو وجد منكر في المدرسة، ووجد مدير متصلب لموقف معين، أرأيتم لو أن عشرة من أولياء أمور الطلبة، وعشرة، وثلاثة، وخمسة من المدرسين وأربعة منهم كلهم اتصلوا بمدير المدرسة، كلهم يؤكدون على هذا المنكر، ألا يستحي، ألا يخجل، ألا يغير، بلى والله، وإن لم يغير خفف.
إذاً نحن بحاجة إلى ضغط على كل شيء نجده في المجتمع، أي منكر نقوم بشيء تجاهه -أياً كان- نحن بحاجة إلى أن نستخدم هذه الأساليب التي غابت عنا زمناً، حتى نصل إلى الخير الذي نريد.(208/41)
العمل الاجتماعي
من الأشياء المهمة ومن الوسائل الحديثة: العمل الاجتماعي على كافة أبوابه، سواء أكان عملاً إصلاحياً، أم عملاً اجتماعياً، لفقراء، لمساكين، لأصحاب حاجات، لتغيير، لإصلاح، المهم أن نقوم بهذا العمل الاجتماعي على أوسع نطاق، بالإضافة إلى العمل الاجتماعي، لا بد أن يكون لنا امتداد واسع جداً، وهذا المكان هو الشعب، ما لم نكن نحن وجمهور الأمة سوياً، فلن نعمل شيئاً، نكون مثل السمك في البحر إذا خرجت ماتت، مهما كنا، احسب عددنا الآن هنا، لا نمثل شيئاً، لكن إذا استطعنا أن نكون شيئاً اجتماعياً، لا تستطيع أي وسيلة من وسائل الإعلام، أو أي أمر أن يردنا، فكيف يستطيع أحد أن يؤثر على أهلك وعلى زملائك وعلى أصدقائك؟! لا يستطيع وأنت بينهم تعطيهم الرأي الصحيح، تنير لهم الطريق، لا يستطيع أن يقتحم هذه الحصون وأنت موجود، أما إذا تسربلت واختفيت، أصبح ليس لك وجود، أنت بحاجة إلى أن تقرأ أي شيء تراه وتسمعه، بحاجة إلى أن تعطي فيه وجهة نظرك، حتى لو لم تكن وجهة النظر السليمة مائة بالمائة، لكن بحاجة أن تقول شيئاً، حتى لو أنك بحاجة أن تقول: إن هذا خطأ، ولو لم أعرف ما هو الصواب، لكن أعرف أن هذا خطأ، أيضا أؤكد على ما ذكرته سابقاً، التخصص فلا يتصور إنسان أنه سوف ينقذ هذه الأمة، أو أنه الرجل الوحيد الذي ستحرر الأمة على يديه، فيبدأ يفكر ويخطط وينظر ويبعد ويقرب ويصلح، وهذا العمل كبير ما يستطيع أن يعمله، وهذا صغير ما يليق به أن يعمله، ثم ما يعمل شيئاً.
تعمل بالممكن والمتاح، لنصل إلى غير الممكن، ولو نظرنا إلى المسلمين قبل الإذن لهم بالجهاد، ماذا قيل لهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] ما أعجبهم، لماذا؟ لم نؤمر بالقتال، ولم نؤمر بالزكاة، فنحن أمامنا وسائل متاحة، إذا استطعنا أن نستغلها ونهتدي لها، لاستطعنا أن نصل إلى ما بعدها، وثقوا ثقة تامة أنه إذا عمل الإنسان بالممكن والمتاح، وصل إلى غير الممكن، وغير المتاح.(208/42)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مثلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قضية خطيرة شرعية غائبة عن كثير من المجتمعات، وفي الإسلام كانت الحسبة هي كل شيء، اقرأ في أي كتاب من كتب الاحتساب، مثل كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة، أو كتاب الحسبة في الإسلام لـ ابن تيمية، أو أي كتاب من الكتب التي تحدثت عن المجتمع التاريخي للمسلمين، بلوغ الأرب مثلاً أو غيرها، نجد أن الحسبة في الإسلام كانت كل شيء، حسبة على الأسواق، حسبة على النساء، على الرجال، والولاة، والعمال، والشوارع، كانت الحسبة تقوم بمهمة الشرطة، والبلدية، والمرور، والغرفة التجارية، والغرفة الصناعية، وجهات عديدة جداً، كلها كانت مجموعة في عمل يطلق عليه الحسبة.
وهي تنطلق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الميدان الاجتماعي والمجال الاقتصادي والأخلاقي والسياسي وغيرها، حُسِرَ هذا المفهوم وانحسر وضمر في نفوس المسلمين، حتى أصبح المسلم ما يفهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه يمر بالشارع ويقول للناس صلوا هداكم الله، هذا أمر بالمعروف صحيح، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إطاره أشمل من هذا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سُلطة قوية راسخة تزيل المنكر وتثبت المعروف، وتمنع تلويث البيئة العامة، صحيح هي لا تستطيع أن تطهر المجتمع نهائياً من جميع ألوان المنكرات، لأن هذا الأمر لا يمكن، لكنها تستطيع أن تعطيك تقريراً عن أن البيئة العامة نظيفة، الجو ليس فيه جراثيم، تُلَوِّثُ وتصيب أجساد الناس بالمرض، فينشأ الناس في بيئة نظيفة صالحة، الذي يريد الخير يلقاه، والذي يريد الشر يجد ألف عقبة وعقبة أمامه، وليس العكس أن الذي يريد الخير يجد العقبات في البيت وفي الشارع وفي المدرسة وفي كل مكان، والذي يريد الشر يجد الباب مفتوحاً أمامه على مصراعيه، مهمة الحسبة أن يظل المجتمع مجتمعاً مسلماً، لأن كلمة مسلم هذه، ليست مجرد -كما يقال- ماركة مسجلة، تطبع على مجتمع فيصبح مسلماً، لا!!! لا.
المجتمع المسلم ميزته أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقط لا غير، هذه الميزة الأساسية أن المجتمع المسلم مجتمع قام على المعروف والأمر به، وعلى ترك المنكر والنهي عنه، قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] .
وعلى العكس المنافقون والمنافقات، من هم المنافقون؟ لا تظن أن المنافقين ناس انتهوا من الأرض، فهم في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لا.
العلمانيون منافقون يرفضون الموت، ويقولون -مثلاً- وفق شريعتنا السمحة، وديننا القويم، وعاداتنا الدينية، وموروثاتنا، ثم تحت هذه الكلمة المطاطة يدخلون ما يشاءون من ألوان الفساد والنفاق، هؤلاء منافقون، لأنهم لا يستطيعون إعلانها الآن، أنهم ضد الإسلام، لا، يقولون: وفق ديننا السمح، وشريعتنا الغراء، وموروثاتنا الاجتماعية، إلى آخره.
العلمانيون منافقون، والحداثيون منافقون، واليساريون منافقون، والقوميون منافقون، وإنما صاروا منافقين؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطرحوا حقيقة ما لديهم من آراء وأفكار، فهم يتمسحون بالإسلام، ويتكلمون عن الإسلام، وعن تاريخ الإسلام، وعن شخصيات الإسلام، وقد يقومون ببعض الشعائر مثل ذر الرماد في العيون، لكن في قلوبهم مرضُُ فزادهم الله مرضاً، فلا بُد من إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل نطاق، وابدأ ببيتك، فقد تكون بنتك أو أمك أو أختك أو زوجتك هي إحدى المتأثرات بالحرب الإعلامية التي تكلمنا عنها قبل قليل، ومن الممكن أن تكون في المستقبل من دعاة تحرير المرأة، ماذا يمنع عن هذا!!! لو نظرت إلى بعض الداعيات إلى تحرير المرأة، قد تجدها بنت شيخ مثلاً، وبعض المغنيات قد تجد أباها شيخاً، أو عالماً، أو قارئاً.
إذاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبدأ بنفسك وبيتك ومجتمعك وسوقك ومتجرك وفصلك في المدرسة وشركتك، وانتقل بعد ذلك إلى المجال الأرحب: المجتمع.(208/43)
الأسئلة(208/44)
أجهزة الفساد في البيوت
السؤال
أرجو توجيه كلمة خاصة للشباب عن حقيقة الإعلام الفاسد الذي نواجهه أو قد يواجهنا؛ لأننا نجد كثيراً من الشباب الملتزم يوجد في بيته أجهزة الفساد، والبعض منهم يرى أنها لا تشكل خطراً على الفرد والأسرة؟
الجواب
نعم الحقيقة هذه مشكلة، لأن بعض الشباب، يتكلمون عن غيرهم، وكأنهم هم غير مقصودين، مثل ما قرأت في بعض الكتب، يقول الشيخ محمد أمين المصري رحمه الله: كان هناك خطيب في الشام يتكلم عن قضية غلاء المهور ووجوب تخفيض المهور، وألا يغالي الناس في صداق النساء، يقول: فكان عنده بنت، فلما جاء زواجها، طلب مهراً عالياً وأسرف وبذخ وبالغ، فقيل له في ذلك، فهز رأسه وهز كتفيه منفعلاً، وقال: هل تريدون أن تكون بنتي أقل من بنات الناس؟!، أين كلامك بالأمس؟ أين ما كنت تقول بالأمس هذا حدث عملي واقعي، كلام الذي كنت تقوله! كلام الداعية تجد أنه ينتقد المجتمع، وينتقد القريب والصغير والعالم والحاكم، لكن لو تأتي إلى بيته تجد فيه أحياناً عشرات الأخطاء ولا من تصحيح، وربما لو قلت له في ذلك، قال: الزوجة قد تعترض، حسناً لماذا لا تفترض أنه والله حتى هذه المنكرات في الواقع ربما يكون سبب عدم تغييرها أنه هناك من يعترض.
إذا كان في بيتك خمسة أفراد، ومع ذلك تأتي المعارضة، وتترك أشياء كثيرة من أجلهم، فما بالك بغيرك؟ هو أكثر عذراً بهذا!! طيب إذا نحن فتحنا هذا الباب معناه أن المنكرات تبقى بحجة أن الناس يطلبونها أو يريدونها! وهذا خطر كبير، لا أعتقد أن داعية يصدق أو يرضى به، هل سوف تصبح أيها الداعية، بواباً على شاشة التلفاز! تغلق وتفتح؟ إذا جاءت مادة فاسدة أغلقت، وإذا جاءت مادة صالحة فتحت من أجل الأطفال، هل سوف تترك عملك وذهابك وإيابك وصلاتك ودعوتك لتكون بواباً على التلفاز؟! هذا غير صحيح، إذاً معنى ذلك أنك سوف تهتم من أهل البيت، هل تربي أهل البيت؟ هذا السؤال أنت الذي سوف تجيب عليه، عندك نساء قد لا يكن تربين تربية سليمة، عندك صغار، عندك شباب، عندك مراهقون، إذاً الحل هو أن تنظف بيتك من أجهزة الفساد.(208/45)
توسيع دائرة الأمر والنهي
السؤال
ما رأيكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجماعي، كما هو موجود في الرياض؟
الجواب
هذا أمرُُ طيب، ولكن مثل ما وجد في الرياض، ينبغي أن يتحمس له أهله من العلماء والقضاة، والدعاة الكبار ويكونون هم علية القوم فيه، فإن لم يكن كذلك، فأقول الوسائل الأخرى، بأشكال ثانية متاحة في أي مجال، مجالات كثيرة، سواء كانت في السوق، في المدارس، نستطيع أن ننظر في المجالات الأخرى، بغرض أن نعمل أذهاننا وتفكيرنا في كيف نزيل هذا المنكر، ويصبح هذا المنكر مزالاً، عندئذ ستتفتق أفكارنا عن أشياء جديدة، قد تكون طبقت في جهة أخرى، وقد تكون لم تطبق، لأن السوق لو قام به مجموعة، وعملوا فيه أيضاً وفتحوا محلات، قاموا على عمل هذا خير قيام، أصبحوا هم يديرون السوق، ويتحكمون في السوق، ويستطيعون أن يجعلوا للسوق هيبة وهيلمان، لكن لم تكن له، لأنهم جزء من السوق وتجاره أما أن يكون الإنكار هذا مقصوراً على طلبة العلم فقط، هذا لا يكفي، مفروض أن المجتمع كله يتفاعل، ولكن طلبة العلم، يجب أن يوجهوا الجميع.(208/46)
محلات الفيديو
السؤال
ما رأيكم في الأسلوب الأنجح بالنسبة لمحلات الفيديو؟
الجواب
والله إغلاقها!! الأسلوب الأنجح هو إغلاقها، لأنها شر، اللهم أشرطة نادرة، وهي موجودة في غير هذه المحلات مثل المؤسسات الإسلامية، وينبغي مناصحة أهلها، ومخاطبة المسلمين بشأنها، ومراقبتهم من قبل الجهات المختصة، كل ذلك من الوسائل المفيدة.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(208/47)
ضياع الوقت في المخيمات
السؤال
حياً الله ضيوفاً حلوا بأرض المخيم، بعض الشباب حينما علموا أن هذا المخيم لا يجتمع إلا على النشاط الرياضي والثقافي كأنهم رفضوا الاشتراك فيه، وبعض الشباب يبتعدون عن مثل هذه المخيمات وتجمع الشباب، لما فيهما من بعض إضاعة الوقت، فما رد فضيلتكم على هذين الصنفين من الشباب؟
الجواب
الوقت لا يضيع في مثل هذه المخيمات، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلاعب أهله، يلاعب الأولاد، يلاعب الصبيان، وإذا جاء الإنسان هنا، فإن هذا ليس من إضاعة الوقت، لأنه قد يكون هو متشبع بفكرة، وإذا جاء اختلف، قد يكون عنده خلق "ما يستطيع أن يعايش الآخرين" فإذا جاء تهذب وهكذا، فمثل هذه الاجتماعات وهذه اللقاءات أقول: إنها زاد قد تصل أحياناً إلى أن تكون زاداً شهرياً، يعني دفعة لشهر كامل للشاب، حتى وإن كان عالماً، أو طالب علم كبير، يحس حين يأتي ويرى الناس سواء كانوا سامعين له، أو سامعاً لهم ولأفكارهم، وتصوراتهم، وتطلعاتهم، فإنه يندفع اندفاعاً عجيباً، لا يعرف إلا من جرب هذا، هذا الجانب الثاني، الجانب الأول: مثل ما أشرنا في استخدام الوسائل، فلا مانع أبداً من استخدام أي وسيلة مناسبة للترويح عن النفس، ولئلا يكون هذا المخيم، يغلب عليه طابع معين من الركود والجلوس، فإذا كان الواحد منا قد تعلم من خلال فترة طويلة، من اللقاءات والحلق، وغيرها، على أنه مستعد ساعتين، أو ثلاث ساعات يستمع، فإن غيره، لا يستطيع أن يجلس ولو نصف ساعة، ليستمع إلى كلام جاد، ولا بد من مراعاة ظروفهم، والتوسط مطلوب دائماً ونحن أمة وسط، لا إفراط في هذا الجانب، ولا تفريط في ذلك.(208/48)
دعوة المحاربين للدين
السؤال
هل دعوة هؤلاء الصليبيين ومن معهم للإسلام واردة في هذه الظروف؟
الجواب
نعم الدعوة واجبة، وأنا أقول للإخوة أن التتر جاءوا غازين لبلاد الإسلام، ومع ذلك، كما قال محمد إقبال: بغت أمم التتار فأدركتها من الإيمان عاقبة الأماني فمنهم من أسلم، فهؤلاء القوم الآن وهم الصليبيون ومن معهم وإن كانوا الآن يعتبرون منتصرين وأقوياء ومتقدمين بالنسبة للمسلمين من ناحية الحضارة والعلم المادي، إلا أن هذا لا يمنع، إنهم فقراء وعطاش في مجال التغذية الروحية، والإيمان، والعلم، والخُلق، ولذلك هم يتطلعون إلى هذا الأمر، وعندهم قابلية للإسلام، وهذا أمرُُ معروف، ومن الميزات التي تميزهم أن عندهم استطلاع عجيب، ونهم غريب، لكننا لم نهتم له بالجهد في الواقع، إلا جهد مقل، وهو جهدُُ ضعيف، أستطيع أن أقول بكل اطمئنان: إن الذي يبذل حتى الآن هو جهود فردية محدودة لنشر الإسلام أو دعوتهم إليه، ولا تزال دون المستوى المطلوب.(208/49)
دور خطباء الجمعة
السؤال
ما هو دور الخطباء خاصةً بعد أن كان العداء على الإسلام معلناً من جميع الأعداء، أقصد خطباء الجمعة، ما هو دورهم من على المنبر؟
الجواب
إذا استطاع الخطباء أن يوحدوا اهتمامهم، وأن ينصرفوا إلى قضايا المجتمع الرئيسة، ويطلقوها جميعاً، لا أقصد في خطبة واحدة، وفي يوم واحد، لكن أن يحس الناس كلهم، أن كل الخطباء متضامنين مع هذا المجتمع، متفاعلين معه، يحسون بإحساساته، يعيشون له، وآلامه، وآماله، فإنهم حينئذٍ يستطيعون أن يؤثروا في هذا المجتمع، ويغيروا بالكلمة الطيبة، التغيير المطلوب، أما إذا بقيت المسألة على خطيبٍ في مدينة كذا، وخطيبٍ في مدينة كذا الخ، فإنهم يعتبرون عند الناس، شتات، والمطلوب من الخطباء أن يتقوا الله، إنما شرعت هذه الخطبة في الجمعة لتوعية الناس، ولتبصيرهم في أمور دينهم ودنياهم، لا تضاع في كلام لا فائدة فيه، إما أن يكون تحت الأرض، أو فوق السماء، ودائماً يكون ترديده هذه مشكلة، والرسول صلى الله عليه وسلم، خطب بخطب، ولما جاء أبو بكر لم يعد خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل خطب بخطب أخرى، ولما جاء عمر خطب بخطب أخرى تناسب الحياة والواقع، فاختلفت الصورة، فالذين يريدون اليوم من الخطيب أن يكون مقراءً يردد كلمات يقرأها من كتاب كذا أو من كتاب كذا، ولا يعيش لآلام الأمة وآمالها، هم يهمشون دوره، ويحجمون دوره، والمسكين الخطيب، ماذا يعمل في هذه السويعة؟ ربع ساعة أو نصف ساعة بالأسبوع، الإذاعة من جهة، والتلفزيون من جهة، والصحف من جهة، والإعلام الخارجي من جهة وبشكل مكثف طيلة الأسبوع الماضي، اطلعت على كتاب كذا، ما يدري الخطيب هل هو يصحح الأوضاع الفاسدة، أو يبدأ بطرح أشياء جديدة وهكذا.
فإن لم يكن الخطيب على مستوى الساعة ومستوى الأحداث، فإن هذه مصيبة من مصائب الأمة، وعلى الخطباء أن ينظروا في المسئولية التي حُمِّلت على أعناقهم، فكما يطالبون الآخرين بمسئولياتهم هم الآخرون مطالبون بمسئولياتهم أيضاً، فإن عليهم مسئولية تجاه المجتمع، المجتمع ائتمنك في هذا المكان لتقول الكلمة الصادقة، فإما أن تقول الكلمة الصادقة، وإما تتخلى عن هذا الموقع لمن يقول الكلمة الصادقة.(208/50)
مجابهة البث التلفزيوني الهابط
السؤال
يقول لنا القادمون من المنطقة الشرقية بأن هناك محطات بث تلفزيوني تغطي المنطقة، تبث الأفلام الجنسية الخالصة، وهي محطة تلفزيون أرامكو، ومحطة تلفزيون تبث للقوات الأجنبية، ومحطة تبث من دبي، ما الموقف من ذلك، وكيف درء هذا الخطر بالنسبة للقاطنين في المنطقة الشرقية؟
الجواب
هذا يؤكد لكم أيها الإخوة ما ذكرته أثناء المحاضرة أو الندوة أن الحرب الآن علنية، ففي الماضي.
ممكن شريط الفيديو الجنسي، أو رقص أو كذا يسرب بين الشباب ويتناقلونه سراً، ويعاقب عليه النظام، لكن اليوم لا تستبعد مثل هذه الأخبار سواء صحت أو لم تصح، ستصح غداً، ولذلك هناك يأتي دورنا -دور المواجهة- ليست القضية قضية شريط يحارب بطريقة أو بأخرى، لا، القضية أكبر من ذلك، ولهذا نحن علينا مسؤليات كبيرة، كل إنسان يحاسب نفسه، عليك مسئولية حماية نفسك وبيتك، هذا واجب، حماية من تستطيع، توعية الناس، القيام بدورك في مجالك، افترض، أنك إمام مسجد، خطيب، واعظ، داعية، مدرس، من خلال عملك تقوم بجهد في هذا المضمار، حديث في هذه القضية، كلام عن خطورتها، تنتقل إلى مدى أوسع وأبعد من ذلك، أنت داعية، مهتم، ننتقل إلى النقطة ماهي البدائل؟ هل فعلاً سوف يغزونا العدو بهذه الطريقة؟ ونحن لا نزال نتجادل في جدوى مشاركة أجهزة الإعلام، لا، هنا ينبعث كوكبة من الدعاة ينذرون أنفسهم لهذا الميدان، يستخدمون السلاح ليردوه في صدر العدو، لو كنا أمة قوية، حتى البث المباشر، نستغله للإسلام، لأنهم معهم من يؤجرون محطة، أو قناة تبث وسائل دعوة، تبث تعريفاً بالإسلام، وهذا وجد عند بعض الشباب في أمريكا، قد يستأجرون ساعة مثلاً، يبثون فيها برامج إسلامية، الناس يأتون بغاية الشوق واللهفة يتساءلون عن الإسلام الذي سمعوا عنه وعنه الخ.
هذه أمور قد تكون ليست الآن قريبة، لكن يجب أن تكون من ضمن اهتماماتنا وأفكارنا في المستقبل القريب.(208/51)
تحرير المرأة
السؤال
هل سمعتم ما حصل في مدينة الرياض يوم الثلاثاء من احتجاج على رفع الحجاب، وإذا سمعتم فما هو تعليقكم على هذه القضية الخطرة، وتعرفون كيف بدأ الحجاب في مصر، كما حصل في الرياض؟
الجواب
هذا السؤال مكون من فقرتين، يقول هل سمعتم هذا أولاً، الثاني إذا سمعتم، فما هو تعليقكم؟ أنا أجيب على الفقرة الأولى هل سمعتم؟ أقول نعم وأترك الفقرة الثانية إلى الشيخ محمد أقول: نعم سمعنا، وأقول لكم: اتخذنا ما نراه مناسباً، لكن ماهو دروكم فالموضوع فعلاً بحاجة أن تتضافر عليه جميع الجهود لثلاثة أمور: لوقف هذا الشر، ولوقف شرٌ منه، وللبراءة أمام الله وأمام أنفسنا، أمس يمكن أن يتحدث أحد الإخوان، أو أحد المشائخ، أو أحد طلبة العلم، عن القضية وخطورتها، فيقول لك أبداً، أنت تقول أموراً ما تحتمل، وأنت نظرتك متشائمة للواقع، تقول هذا الواقع، بكل ثقله غداً تخرج فتجد واحدة ليس اسمها هدى الشعراوي؟ لا اسمها من بناتنا، لها اسم وقبيلة وعائلة وقد يكون عمها شيخ، أو له تاريخ عريق، وبيت علم، وطلبة علم، هذه مصيبة، فإذا نحن لم نقف وقفة جادة فعلاً بكافة اتجاهاتها، المدرس في مدرسته، وصاحب السوق في سوقه، والخطيب في خطبته، وهذا على صعيد التبيين للناس بما حدث، وأن هذا منذر سوء وخطر، كذلك نحن بحاجة إلى مكاتبة المسئولين بكافة قطاعاتهم، وكافة تخصصاتهم، لأنه كل تخصص عندهم من هذا شيء، يعني كل وزارة فيها قسم نسائي، وغداً قد تفتح لنا أبوابها الحمر، فكل إنسان يجب أن يسأل نفسه ماذا قدم لما حدث؟ قبل أن تختلط علينا الأوراق فعلاً، هذا أمر في بدايته، قبل أن نقول بعد فترة: إن الأوراق اختلطت ولا ندري من أين نبدأ.
حقيقة ما ذكره الشيخ محمد فيه كفاية في التعليق على مثل هذا الحدث، وعلى كل حال، أنا أعتبر أن هذا طرف السكين، الأمر الذي جرى طرف السكين، ويجب أن ندرك أن هذا قد يكون لنا اختبار، لأن هناك قوة تعمل في الظلام، والآن جاء دور العلنية، كما تحدثنا في المحاضرة، علانية الصراع والمواجهة، فأروا الله تعالى من أنفسكم قوة وشجاعة في مواجهة هذه الأمور بحزم، لأن هذا جزء من كل، وقد أصبحت الأمور تنبعث علينا من كل جهة.
تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ لكنَّ خراشاً يجب أن يستغيث بالله عز وجل، ثم بمجموعة من أبناء قبيلته، ويكون كل واحد منهم معه بندقية يصيد ما يستطيع من الظباء، بحيث يواجه خراش هذه الظباء المتكاثرة، يواجهها بقوة مكافئة، يجب أن يشتغل الجميع، يعمل الجميع، ولا تكن القضية قضية (ما تعليقكم) (وما دوركم) ؟ وإلا ماذا فعل ابن باز؟ وإلا ماذا فعل فلان أو علان، كل واحد منا يجب أن يكون هو ابن باز، بقدر ما يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أنت حدد لنفسك أولاً ما هو الدور الذي تستطيع أن تفعله؟ دعونا يا إخواني من التلاوم.
دعونا نفكر تفكيراً واقعياً هات ورقة صغيرة مربعة وقلم، واكتب بالضبط، ما هو الدور الذي سوف تستطيع عليه أنت بارك الله فيك؟ ماذا تستطيع؟ حدد لنا، ما أعتقد أنكم سوف تقولون: لا أستطيع شيئاً، إن كنت رجلاً، فلن تقول هذا، حتى لو كنت امرأة، المرأة تستطيع أن تصنع الكثير، وكما سلف، إذاً، حدد لنا بالضبط ما هو الدور الذي تستطيعه؟ رسالة خطية، خطاب، اتصال هاتفي، كلمة، موعظة، نصيحة، خطبة، توعية، دعوة، ولو بكلمة طيبة، فإذا حددت حبراً على الورق انطلق بالتطبيق على الواقع، ما جرى في الرياض، وما جرى في غير الرياض، وما سيجري في الرياض، وفي غير الرياض، سوف يتحطم على صخرة الإصرار الإسلامي، على أن نظل محافظين على الإسلام عقيدةً وسلوكاً وعملاً، وأن يكون الإسلام شعارنا وظاهرنا وباطننا وسرنا وعلانيتنا، وأن لا نرضى بغير الإسلام ديناً لا في مجال السياسة، ولا في مجال الاقتصاد، ولا في مجال العلاقات الاجتماعية، ولا في أي مجالٍ من المجالات.(208/52)
الولاء والبراء
السؤال
في خضم الأحداث الجديدة، فإن الكثير من الناس، اختلطت عليه قضية الولاء والبراء من يوالي ومن يعادي، فهل هناك من كلمة توجيهية، حول هذا الموضوع؟
الجواب
هذا الموضوع -من المواضيع- التي يجب ألا تختلط فيها الأوراق، لأنه من مواضيع العقيدة، الولاء لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين، دائماً، وبالذات أعمال القلوب هذه ليس فيها جدال ولا مواربة، ولا فيها مرحلية، ولا فيها ما نستطيع، قد يأتي رجل إلى امرأة ويغتصبها، لكنه لا يستطيع أن يصل إلى قلبها أبداً إذا كانت كارهة، أي أن هذا الأمر لا يقبل جدالاً، ولا يقبل نقاشاً، ولا يقبل تنازلاً، ولا يقبل مهادنة، وهو الكره القلبي، الكره للكافر بكفره، والفاسق بفسقه، والفاجر بفجوره، والحب للمؤمنين، ولكتاب الله، ولرسوله، ولسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه يجب ألا تختلف الأوراق فيها أبداً، يجب ألا تغيب هذه القضية في لحظة من لحظات الإنسان، من لحظة رشده إلى وفاته، أبداً لا تتغير في يوم من الأيام، الذي يتغير طريقة التعامل، الذي يتغير طريقة النصرة للمسلمين، كيف تكون؟ نصرة لسان، أو نصرة سنان، كذلك الأعداء الكفار، أما بُغْضهمْ، فهذا لا يتغير أبداً، يجب أن يكون بُغضهم من الأشياء التي نتعاهد بها قلوبنا، حب المؤمنين وبغض الكافرين، ما ينفك عنا أبداً، لكن الواقع العملي هو الذي قد يتغير بسبب المصالح والمفاسد، بمعنى لو أن واحداً ممن يبغض الكفار، يأخذ رشاشاً ويضرب به بعضاً من اليهود والنصارى، قد يُضرب بسبب هذه الضربة ألوف، وهو قد يقدر المصلحة، فيتركها إذا كانت الضربة أكثر منها، لكن أعمال القلوب، ليس فيها أي تنازل، يجب أن يكون البغض قائم دائماً للكفار، بكافة أشكاله ونحله، وللكفر أيضاً، وللفسق، دائماً قلوبنا يجب ألا تتنازل أو تضعف عن هذا الشيء، ولكن الأشياء العملية، هي التي يكون فيها الجوانب المرحلية، تقدير قوتك، وضعفك، وآثار المنكر، وتغيير الأثر المترتب عليك، هذا الفقه في هذا، أما الأول فما يحتاج إلى نقاش أو جدال، يجب أن يكون مستقراً لدى كل مسلم وكل مؤمن، أن هذه قضية أساسية، وقضية من قضايا دينه، من رأى منكم منهم أحداً فليقل: كفرنا بكم وبدى بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا، هذا الذي يجب أن يكون دائماً هو السائد، الذي يختلف في وجهات النظر، هو طريقة التعامل، أو طريقة الإنكار، أما الأول فلا يختلف.(208/53)
الغيرة على الدين
السؤال
يكثر الحديث عن الغيرة على الإسلام، وكثيراً ما يخطر في بالي ذلك، والمطلوب ما هي الطريقة الصحيحة لتنمية شعور الغيرة على الإسلام، خاصةً وأن الإنسان في مرحلة الطلب، وقد يكون التفكيرُ الكثير في ذلك عائقُُ عن ذلك، فجزاك الله خيراً؟
الجواب
جميل وجود هذا الشعور، وينمى فيما أنت متجه إليه، فمثلاً: شاب في مرحلة الطلب، الأمة أحوج ما تكون اليوم إلى العلماء، ولا ننظر إلى الأمة في قطر من الأقطار، بل في مجموعها، هي بحاجة إلى العلماء، أقل شيء موجود عندها هم العلماء، فهي بحاجة إليهم، أنت في مرحلة الطلب، اشحذ هذه الهمة، وهذه الغيرة على الإسلام، أن تكون عالماً، أن تكوّن من نفسك ذلك العالم الذي يحل مشاكل الأمم، لأن العلم موجود من حيث الكتب، لكن إنما فقد العلم بموت العلماء، أنت إذا وجد عندك هذا الشعور، نَمِّ هذا الشعورَ تنميةً قوية، لتكن ذلك الرجل! لا تقل أين الأمة؟ قل أنا ذلك الرجل، أنا واحد من الذين سيغيرون مسار الأمة واتجاهها، تصور نفسك أعلى واحد موجود في الأمة، وابذل لتصل إلى هذه المنزلة، سواءً وصلت إليها، أو تصل إلى أعلى منزله ممكن أن يصل إليها مثلك، ووجود الغيرة، هذا هو أهم الدوافع، إذا كان عندك غيرة فعلاً، فلماذا تنام وتترك طلب العلم؟ وتترك مدارسة المسائل؟ لما لا تحفظ هذه المسائل، وتجد فيها، وتجد في طلب العلم، حتى تدرك ما أدركه غيرك في عشر سنوات، تدركه أنت في خمس وتصرف الخمس الباقية في عملٍ أكثر ثمرة، ثم إن هذا لا يردك عن عمل شيء مثمر للأمة، ولو كان بسيطاً، الفكرة البسيطة لتغيير المنكر الذي أمامك، والرسول ربطه بالرؤية، {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} هذا لديه منكر وهو في طريقك وأنت ذاهب إلى طلب العلم، وأنت راجع منه، فلم لا تنكر، لا تعش أحلام اليقظة، وتتصور أنك لم تصل بعد إلى منزلة التغيير والإنكار، أنت في هذا الطريق، قد لا تذهب إلى أماكن أخرى يوجد فيها منكرات، لكن في طريقك أيضاً لا تكون سلبياً، في بيتك، في مدرستك، في الأشياء التي تمر بها، ونم هذه الغيرة بما أنت فيه خصوصاً إذا كان طلب علم، فإنه مما يفرغ له الوقت، وتستثمر فيها الجهود، ويستثمر فيه هذا الشباب.(208/54)
الإعداد العقدي والعسكري
السؤال
الكرة ستكون علينا من هذه القوات، فإن كان كذلك، فكيف الإعداد العقدي والعسكري للشباب؟
الجواب
الأمة دائماً في حالة حرب، المسلمون، هذا شأنهم، نحن ندالُ عليهم، ويدالون علينا، والحرب بيننا وبين الكفار سجال، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، سواء الكفار من الكفار الأصليين، كاليهود والنصارى والمشركين وغيرهم، أم الكفار الذين كفرهم طارئ من أبناء بلدتنا، الذين يتكلمون بلغتنا وهم أعدى من الجرب.
والمدعون هو الإسلام سيفهمُ مع الأعادي على أبنائه النجب يخادعون به أو يتقون به وما له منهم رفد سوى الخُطب إن العروبة ثوبُُ يخدعون به وهم يرومون طعن الدين والعرب فهذا الطابور الخامس من المرتدين أخطر علينا من أعدائنا الأصليين، لأنهم يحملون لافتات إسلامية، وأسماء إسلامية، وقد يلبس الواحد منهم ثوباً فضفاضاً وغترةً مكوية وطاقيةً بيضاء، ويلبس لباسنا، ويحمل أسماءنا، ومنا ومن بلدٍ عربي ومع ذلك يحمل فكراً دخيلاً، فهو طابور خامس لأعداء الإسلام!!.
فنحن في حالة حرب سجال، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لا تزال هذه الأمة تقاتل، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال، إذاً الإعداد همُُ دائم، ينبغي أن يكون هماً دائماً في كافة ألوانه وصوره وأشكاله، سواء الإعداد التربوي بالعلم، بالعمل، بالعبادة، بالفهم، بالوعي، بجمع الكلمة، بنزع الخوف من القلوب، بالتدريب، بكافة الوسائل.(208/55)
الفردية في اتخاذ القرار
السؤال
هل معنى هذا أنها "أمريكا وبريطانيا" حكومات شرعية؟ الإجابة للشيخ سلمان أيضاً:
الجواب
ليس المقصود أنها شرعية، ليست شرعية على كل حال، حتى نضع المصطلحات في نصابها، هي ليست شرعية، لكن المقصود أنها تمت بطريقةٍ طبيعية ومألوفة وسليمة، وكما يعبرون هم عنها طريقة ديمقراطية، الأمم في أزمنة ضعفها، يصبح الفرد عندها كل شيء، -مثلاً- خذ أقرب مثال يتحدث عنه الناس الآن، قضية صدام واجتياح الكويت، بغض النظر عن كل الخلفيات، هل هذا القرار فردي، أم هو قرار أمة؟ لا شك أنه قرار فردي، ولو صار قرار آخر بالانسحاب من الكويت، من الذي يتخذ هذا القرار؟ هو قرار واحد، إذاً ليست القضية قضية صدام صدام يذهب ويجيء، وصدام رمز، وهو أهون عند الله عز وجل وأقل شأناً من أن يكون له هذا الزخم وهذا التأثير الهائل، لكن القضية قضية أنه عرين الأسد، والعرين الذي لا يخلو من العظام، لأن القضية أن الداء الموجود يمكن أن يخرج لنا آلافاً، من جنس هذا الإنسان الذي يتخذ قرارً يجر الأمة كلها وراءه إلى الهاوية، لماذا؟ لأن الأمر منه بدأ وإليه ينتهي.(208/56)
الإنكار للمنكر بالتواصل مع صاحبه
السؤال
ذكرتم في شريط فقه إنكار المنكر، أنه إذا أعلن شيء يغضب الله ورسوله، فإنه يجب على طلبة العلم، أن يتصلوا على من أعلن ذلك، بأن ينصحوه، وينكروا عليه، فهذا طيب، ولكن يا شيخ قد يكون هناك أمرُُ منكر من جهة رسمية، وأعلنت إحدى الصحف، فهل من الحكمة، أن يتصل إلى تلك الصحيفة، وينكر عليها، وقد يترتب على ذلك مآسٍ؟
الجواب
على كل حال، ليس المعنى أن تتصل بالصحيفة إذا نشرت الخبر، لا، بل يمكن أن نقول الحمد لله أن الأمر ظهر، بحيث يمكن إنكاره، فيُتصل حينئذٍ بالمصدر، الذي كان سبباً في ظهور هذا المنكر، يتصل فيه، ويخوف بالله عز وجل، ويذكر بأنه أمين على جماعة المسلمين وأعراضهم وأموالهم وأخلاقهم، ويجب أن يكون حفيظاً لهذه الأمانة.
وبالمناسبة أيها الأحبة، كلمة أرى أنها مهمة، وهي المقارنة مع عدونا، يفعل الكثير، ويقنع باليسير، ونحن نعمل شيئاً يسيراً ونريد نتائج عظيمة! هذا من انتكاسنا في الواقع، النصارى يبذلون جهوداً جبارةً، ويرسلون مئات الآلاف من المنصرين في كل مكان، ويعقدون المؤتمرات، وينشئون الإذاعات والمستشفيات، والمدارس، والمؤسسات والصحف، والجمعيات، ولهم عمل جبار يتعجب منه الإنسان، ثم يقنعون أحياناً بأن يتنصر واحد، أو يرتد واحد، أو ما أشبه ذلك ويعتبرون هذه نتيجة ومؤشر ليبشر بعضهم بعضاً، يفعلون الكثير، ويقنعون بنتيجة يسيرة، أما نحن الآن نفعل القليل، ثم نريد نتائج كبيرة، فأريد مثلاً بمجرد اتصال، الإتصال كلفني دقيقتين، وبالنسبة للمبلغ المالي يمكن عشرة ريالات قيمة الإتصال، لكنني أريد في مقابل عشرة ريالات بذلتها، ودقيقتين من وقتي غير الثمين، ولا مؤاحذة أريد أن تكون النتيجة عاجلة، هي القضاء على هذا المنكر وزواله، وإذا لم يحصل صار عندي إحباط، والمرة الثانية إذا قال لي واحد: اتصل أو اكتب أو تكلم أو أنكر، قلت: لا توجد فائدة فقد فعلنا، لا بل افعل وافعل، وكرر واستمر، وهذا طريقك، ولو لم يحصل شيء إلا براءة ذمتك، وأن تلقى الله عز وجل، وقد أخليت ساحتك من المسئولية، في هذا الأمر: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخي} [المائدة:25] .(208/57)
الانفصال بين الشعوب وحكامها
السؤال
ما مدى صحة هذه المقولة: إن حكومة أمريكا إذا دخلت حرباً دخل معها شعبها، أما كثيرٌ من الحكومات في العالم الثالث، فإن الحكومة لا تمثل إلا السياسة، أما الشعب فبعيدُُ عن رغباتها، ولذلك فهي إذا دخلت حرباً فلن تكون بقوة وشراسة الحرب التي يدخلها كلٌ من أمريكا أو بريطانيا؟
الجواب
القضية هذه صحيحة، إذا أردتم تفصيلاً، فإن الله قد ذكر أمر المؤمنين بأنه أمرُُ شوري، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] هذه الديمقراطيات الموجودة في بريطانيا وأمريكا جعلت أن أي قرار لا يخرج إلا وقد نقد ومحص وظهر، المهم أنه القوي الذي استطاع بأساليبها الدعائية، أو أي شكل، أن يفرض هذا القرار، سواء كان هذا القرار، بحد ذاته، صالحاً أم طالحاً، لكن الشعب، كله يحس أن الأغلبية مع هذا القرار، أياً كان اتخاذ هذا القرار، ومن هذا قرارات الحرب، فإذا دخلت في حربٍ دخلتها ومعها أغلبية كاسحة من الشعب، تؤيد هذه الحرب، ولذا أصبحت كما يقول هذا القائل: إنها حربُُ للحكومة والشعب معاً، لأن الحكومة أصلاً انتخبت، أما في دول العالم الثالث، فهذا لا يكون، لأن الحاكم إما متغلب عليهم بالسيف، أو جاءت الدولة من وراء الستار، من الدول الكبرى ونصبت، أو حزب استغل الظروف وعمل ثورة، هذه حكومات العالم الثالث مع الأسف الشديد، لأن المسلمين ضاع أمرهم، ذهب أهل الحل والعقد الذين يدرسون في الفقه، فأصبح الحاكم لا يمثل الشعب، الحاكم يعيش في وادي مصالحه، هو ومصالح طبقته أياً كانت هذه الطبقة، أسرية، أو طبقة حزبية، أو أي طبقة أخرى، المهم يعيش بطبقة معينة، أو أصحاب رءوس الأموال وهكذا، فهو لا يمثل الشعب، ولذا إذا دخل حرباً، رغم أن الحرب تأتي على الجميع، إن انتصر له ولشعبه، وإن هزم أول من يذهب أيضاً شعبه، إذ يُنهبون مع الناهبين، لأنهم أصلاً غير مؤيدين لهذا، وأصلاً ما أخذ رأيهم حتى يعرف هل هم مؤيدون أم معارضون، وهذا تفصيل لكلام القائل، عن الحكومة الأمريكية والبريطانية، وغيرها من حكومات العالم الثالث.(208/58)
سير الخطط المرسومة
السؤال
الناظر الآن في أحداث الخليج عموماً، وخصوصاً ممن لم يساير الأحداث، يتصور أن الأوراق قد اختلطت، وأن الخطط التي كانت مرسومة قد خرجت عما كان مراداً لها، فهل هذا واقع؟ أم أن الخطط التي كانت مرسومة لا زالت تسير كالمراد منها؟
الجواب
دائماً أقول يجب أن نعطي الناس حجمهم المعقول، لا يكبر الناس في عيوننا حتى يغطوا على أفهامنا! مهما كبر الناس، ولو كانت أمريكا أو روسيا أو إسرائيل أو أي دولة كبيرة، يجب أن نعتبرهم أنهم بشر، ويخططون ويكيدون ويفشلون أيضاً، لا نكبر الناس فنصغر أنفسنا ونصغر إمكانياتنا، فهنا يبيض الشيطان ويفرّخ! لا يرسمون ويخططون، ويفاجؤون بأشياء كثيرة ما كانت لهم في حساب، ويغيرون خططهم بناءً على هذه الأشياء التي فوجئوا بها، بل إن الغالب أنهم بسبب التجربة التي أخذوها، عادوا الآن لا يرسمون أشياء تفصيلية دقيقة، من إلى، لا، بل يأتون باحتمالات كثيرة، عندهم عشرة احتمالات، كلها من الممكن أن تقع، وكل احتمال منها قد يضعون له ما يكافئه وما يواجهه، وأحياناً تختلط الأوراق فعلاً، مثل الشخص إذا كان في غابة سحرية كما يقولون، كلما نظر إلى شجرة انتقلت من مكانها إلى مكانٍ آخر، فأصبحت الدنيا تدور بأسرها، إن من أهداف اليهود ووسائلهم، أن يعملوا على شبك القضايا الدولية بأطراف عديدة، وجعلها غامضة، بحيث يعجز الناس عن فتح رموزها وحل أسرارها، حتى يعرض الناس بعد ذلك عن النظر والتحليل في هذه القضايا، ويسلموا الأمر إليهم، لكن على العاقل وإن عجز عن حل التفاصيل، وربط الأمور بعضها ببعض، أن يكون عنده ثوابت لا تقبل التغيرات، والثوابت هذه حتى في القرآن الكريم والسنة النبوية موجودة، وما يعقلها إلا العالم.(208/59)
استخدام أساليب الأعداء
السؤال
لقد قلت عفا الله عنك لا بد أن يواجه الأعداء بنفس أساليبهم، فكيف إذا كان أسلوبهم هذا لا يرضي الله ورسوله، وفيه من المفاسد ما الله به عليم، مثل اللعب في الأندية وغيرها؟
الجواب
حين نقول: أساليب الأعداء، لا نعني نفس الأسلوب بالتفصيل، لكن نقصد جوهر الأسلوب، مثلاً الأعداء اليوم في الإعلام يخاطبون الإنسان بأمور مثيرة مشوقة، نفسية الإنسان وطبيعته ترغب في هذه الأشياء، مثلاً: الطفل يرغب في أشياء كثيرة بحكم طفولته، الشاب يرغب في أشياء كثيرة، في طريقة التنوير، وفي الإثارة، وفي الجاذبية، وفي طريقة الخطاب، وفي طريقة الحوار، وفي أشياء كثيرة، فلا مانع أن نستغل هذا الاسلوب بالدعوة إلى الله عزوجل، وليس بالضروري أن استغله بالأشياء التي أستغله بها العدو من أمور محرمة، كنشر الصور المحرمة مثلاً، أو الكلام الحرام، أو البذاءة أو ما شابه ذلك، لأن هذا يخاطب غيره في الإسلام، لا، أنا استغل مثلاً حب الاستطلاع الموجود عند الإنسان، استغله في إثارة شوقه إلى معرفة أمور، ثم أعرفه بقضايا شرعية مثلاً، قل مثل ذلك بالنسبة لوسائل الأندية، الأعداء يقيمونها في كل مكان، للإفساد والاصطياد ونشر الرذيلة، وغير ذلك، لكن ما الذي يمنع من فكرة إقامة النوادي العلمية والثقافية، والنوادي الأخرى التي يكون من ورائها جمع الشباب، ولا مانع أن تكون في أمور مباحة تدعو الشباب وتناسب طبائعهم، والفترة الزمنية التي يعيشونها، ومع ذلك يضاف إلى ذلك أن تربي الأخلاق والفضيلة والمعاني النبيلة في نفوسهم، أما إذا استخدم العدو وسيلة محرمة في جميع الظروف، لا شك أن المسلم، لا يسئ، ولا يتوصل إلى طاعة الله بمعصيته، [[إن ما عند الله لا ينال بمعصيته]] كما قال عمر رضي الله عنه، نحن متعبدون بالغايات والوسائل، يجب أن تكون غايتنا شرعية، ووسيلتنا أيضاً شرعية، فلا يمكن أن نستخدم أسلوباً أو أمراً محرماً، لنصل إلى أمرٍ شرعي أو مباح، أبداً بل نصل للذين نريد بأساليبنا الشرعية المباحة ووسائلنا المتاحة أيضاً، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولن يكلف إلا ما نطيقه، لكن عندما نقول مثلاً: إن من الأساليب الحديثة التي بدأت تستخدم أسلوب الضغط الجماهيري لأي أمر، أي أمر يريدونه يعملون له تمهيداً جماهيرياً، ضغطاً جماهيرياً، بحيث أن الناس إذا جاء هذا الأمر قبلوه، الشاهد أنه أسلوب من الأساليب، لم تحرم الدعوة من هذا الأسلوب؟ ينبغي أن لا نكون نحن عاطفيين: إذا أردنا شيئاً اليوم حققناه، وإلا تنازلنا عنه، -مثال بسيط- حين تذهب إلى قرية وتتكلم فيها كلمة عن أي أمر أو أي منكر من المنكرات الظاهرة، لا تتصور أن يزول هذا المنكر بتلك الكلمة، لكن هذه الكلمة هي من أساليب الضغط الجماهيرية التي تجعل توطئة لما يأتي بعدها، وحين ننبه في مدرسة عن منكر، هذا يتكلم، وهذا يقول، وهذا يرد، فبعد فترة نرى أن الجمهور جميعاً يغضب على صاحب المنكر ويصبح مستقبحاً من كافة الطبقات، ليس من طبقة واحدة، بل من الكبار والصغار والمسئولين، وغير المسئولين، والنساء، وغير ذلك! المهم هذا الأسلوب الذي تعمله المجتمع كله غير راضٍ عنك، غير مقتنعٍ، وهذا أسلوب ضغط جماهيري، يجب أن يكون من أعمال الدعوة الموجودة، وقد استخدمها الأعداء، الأعداء إذا أرادو شيئاً، بكل وسائلهم، أقاموا ضغطاً، فحين يريدون عمل شيء، يأتون بكل أسلوب ضغطي لا يتصور، فستجد هذه الإذاعة تتكلم، وهذه الصحيفة، وهذا وهذا، حتى أنك تشعر أنه فعلاً وصلك المدد، ما بقي شيء، نحن بحاجة لاستخدام هذا الأسلوب، دع الطرف الآخر، كيد الضعيف مع هذا الضعف يجعلنا نتكلم بقوة حتى ما يفكر بالكيد مرة ثانية، وبهذا نستطيع أن نستخدم، هذا الذي نريده، أيضاً ممكن نستفيد من أصل، فكرة النادي نحن لا نجلب الناس بالكرة مثلاً، لكن المهم أننا عرفنا أن الشاب يميل إلى التجمع يحتاج إلى حب أشياء معينة من التغيير والتسلية، لماذا نجعل الوقت كله جاد، إذاً نحن بحاجة إلى المزيد من الأسلوب، نحن بحاجة لمعرفة أساليبهم، دراسة المنطقة دراسة علمية، لماذا لم ينفع هذا الأسلوب؟ جرب أسلوباً آخر، مثلاً في مصر نجح، جاءوا إلى السعودية جربوه أو إلى أي مكان لم ينجح، لماذا؟ جلسوا يدرسون المنطقة، ما هي العوائق التي أعاقتهم؟ نأتي نحن نطبق نفس الأسلوب، جربت هذا الأسلوب في مدينة من المدن، حتى في مدينة من مدن الدولة الواحدة، لم ينجح هنا، نجح في المدينة تنقل التجربة ربما لا ينجح، لماذا؟ هناك سر، إذاً لا بد أن ندرس المنطقة واهتماماتها، احتياجاتها، رغباتها، حتى نصل بدعوتنا، كما قال شيخ الإسلام: إذا عرف مقصود الشرع، توصل إليه بأقصر الوسائل، أو كما قال.(208/60)
التغيير في النفس
السؤال
إنطلاقاً من قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] أقول: ما هي أفضل الوسائل وأحسنها التي من خلالها يستطيع الفرد المسلم أن يغير ما بنفسه، لكي يظهر بدينه أولاً.
ثم بأمورٍ أخرى، وهل نحن نخالف تطبيق هذه الآية الكريمة التي أظن والله أعلم أن نجاة الأمة على ضوئها؟
الجواب
التغيير: لا شك بأن التغيير أول ما يبدأ يبدأ في النفس، فإذا كانت هذه الفكرة الخاطرة قوية أشغلت البال، ثم تحولت إلى عملٍ واقعي، ومن هنا يبدأ التغيير، ولو تأملنا إلى الآية الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] فهناك تغيير يبدأ من النفس، يبدأ فعلاً إذا أحسسنا بظلام هذا الواقع، وفساد الواقع، أو أن الواقع يصل إلى درجة عشرة أو عشرين بالمائة، ونحن نحتاج إلى رفعه إلى مستويات أعلى، حتى نكون على مستوى المواجهة مع الأمة، فإنه يبدأ بالتغيير في النفس، ولو أخذنا مثالاً بسيطاً، هذا الرجل الصحابي الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: {يطلع عليكم رجل من أهل الجنة} وتعرفون قصته قصة ابن عمر معه، ولما رآه قال له: لماذا؟ قال: إني إذا قمت -تعار بالليل- إذا انتبه ذكر الله، وليس في قلبه حقد لمسلم أنا أسألك، لو كل واحد منكم مر عليه هذا الأمر، أيٌّ شخص منكم مر عليه قضية من القضايا أشغلت باله، سواء كانت في بيته، في سوقه، في عمله، في سيارته، أثناء هذه الحادثة إذا أتيت تتوضأ خطرت لك، إذا أتيت تنام خطرت، إذا انتبهت في الليل خطرت، أول ما تبادر هي، إذاً هذا الرجل الذي كان تفكيره في الله، استحق هذه المرتبة، إذا استطعنا أن ننقل قضايا الأمة وقضايا التغيير في المجتمع، وقضايا التغيير في أنفسنا إلى هذا الهم، والأمثلة كثيرة على ذلك في تاريخنا الإسلامي سواء من الفقهاء الذين كان الواحد منهم يسهر الليل ليفكر في مسألة، لو كان الواحد منا أمْر المسلمين يشغل باله، ويفكر به في نومه، إذا كان عندك مشكلة تجد فعلاً قد سيطرت على تفكيرك وخيالك سيطرة تامة، بحيث إذا انتبهت في الليل، أول ما يبين أمامك هذه المشكلة، ولو استطعت أن تنقل الواقع الذي تعيشه إلى هذا الهم لاستطعت أن تغير أو بدأت تغير، بحيث أن الذي يحس بالمشلكة يبدأ يغير منها، أما الذي لا يحس بها، يحس أن الأمر يعني غيره دائماً، لا يمكن أن يغير، إذا سمع ناصحاً ينصح عن أي قضية، مذكراً يذكر أي قضية، اعتبر من النصح للآخرين، وليس له، لا يمكن أن يغير، لكن لِمَ لا يتهم نفسه دائماً؟ وأنه هو المقصود بالدرجة الأولى، ليفتش عن نفسه، ويطمئن، هل هذا التقصير عنده أو لا؟ إذا كان غير موجود فأيضاً هو مقصر من جانب آخر، أنه لم ينه عنه، هذا تقصير موجود في المجتمع، وهذا تقصير بحد ذاته، فيبدأ يغير نفسه، ثم يغير من مجتمعه.
ولا شك أن هذه الآية منطلق نفسي عظيم، منطلق اجتماعي كبير للتغيير، لأنك إذا غيرت ما في نفسك، تستطيع أن تغير ما بنفوس الآخرين، ويتأكد الآخرون أنك مستعدُُ للتغيير، وأنك غيرت فعلاً، استطعت أن تتغلب على أي عارض أمامك، وغيرت، وإن الناس قد يتأثرون بشكلك بمظهرك فقط بأسلوبك بسلوكك كل هذا مظهر من مظاهر التغيير لأنك غيرت ما بنفسك، فتغير ما بواقعك.(208/61)
حول المعركة الحاسمة مع اليهود
السؤال
إنني أحبك في الله وبعد، فلقد قلت أنك لا تذكر معركة حاسمة بين اليهود والمسلمين إلى الآن؛ مع أنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، هل احتلال اليهود للأرض المقدسة والمسجد الأقصى لا يعتبر هجوماً على المسلمين وحرباً شعواء معهم؟
الجواب
أحبك الله، أما ما ذكرته من احتلالهم فإنه لا يعارض ما أسلفته، لأنني أقول: لا أعرف معركة حاسمة معهم، يعني في التاريخ الإسلامي، أما الآن فقد بدأ التحرش من قبل اليهود للمسلمين، لسبب هو أنهم بدأوا يتجمعون من أصقاع الدنيا، ولذلك، يسمون شذاذ الآفاق، لأنهم كانوا مشردين، مطرودين، في كل ناحية منهم أفرادُُ قلائل، يسامون سوء العذاب، في ألمانيا، وفي روسيا، وفي البلاد العربية، وفي غيرها، حتى تجمعوا في إسرائيل، ويجب أن نؤمن إيماناً حاسماً جازماً بأن تجمعهم الآن في إسرائيل هو لتحقيق موعود النبي صلى الله عليه وسلم، هناك حديث ربما سمعتموه مني في غير هذه المناسبة، لكنني أتلذذ بإعادته، وهو ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {تقاتلون اليهود، حتى يقول الحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله} وفي رواية: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله} وفي رواية: {إلا شجر الغرقد، فإنه من شجر اليهود} بل في رواية مفرحة سارة مطمئنة، رواها البزار والطبراني بسند حسن، كما يقول الهيثمي والغماري عن مهيكب بن صريب السكوني وصريب السكوني رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تقاتلون المشركين على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه} يا -سبحان الله-، بهذا التحديد، ويقول الشيخ الألباني، بأن هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده أبان بن صالح القرشي، وهو ضعيف، فأقول هذا عجب من عجب.
لأن الحديث أولاً: ليس في الحلال والحرام، وإنما هو في بشرى بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم عنه وَالأَوْلَىْ الأخذ بِهَا، الأمر الثاني: أرأيت لو جاء هذا الحديث من طرق براوٍ آخر ضعيف، ألا يقوي الراوي الضعيف الأول ويشده؟ بلى يقويه ويشده، خاصة لأن ضعفه ليس بتهمة، وإنما هو لضعفٍ في الحفظ، وليس شديد الضعف، فإذا كان وجود راوٍ آخر نقل الحديث يقويه، ألا يقوي الحديثَ الواقعُ الماثل للعيان، الذي لم يكن معروفاً عند السلف، والذي لم يوجد إلا في هذا العصر، من كون اليهود يتجمعون على نهر الأردن، يعني ربما كان كثير من السابقين يقول: هذا غريب سبحان الله، ربما قالوا: إنه مما يضعف الحديث بعد اليهود من نهر الأردن، شرقيه وغربيه، فقد كان في أيدي المسلمين، فأين يأتي اليهود، أما الآن فقد بدأت النبوءة تتحقق، وبدأنا نعلم بصحة الحديث، لأن الحديث الضعيف ليس حديثاً مقطوعاً بضعفه، إنما نتوقف في حكمه، فإذا جاء ما يشهد بقوته قويناه، وهناك واقعُُ ماثل للعيان شاهد في الواقع، وهو أنه بدأ اليهود يتجمعون، وهم الآن يواجهون المسلمين من ضفة أخرى من نهر الأردن، وهذا يجعل كل مسلم واعٍ عاقل مصدق يقطع بأن هذه النبوءة بدأت تتحقق، وأن لنا مع اليهود معركة حاسمة لم تحدث في التاريخ، لكنها ستحدث في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.(208/62)
نظرة في أحاديث الفتن
ينتشر بين الفينة والأخرى الحديث حول أحاديث فتن آخر الزمان وأشراط الساعة، ويحاول بعض الناس تفسير بعض النصوص بنوع من التكلف، أو تنزيلها على أوقات وأزمنة وأماكن باجتهادات خاطئة، وخاصة في هذه الأزمان المتأخرة، ورغم أن المسلمين متعبدون بالأوامر الشرعية من الله عز وجل، وليسوا متعبدين بالأوامر القدرية، إلا أن الكثير من الناس ينساقون خلف أوهام تؤدي بهم لمحاذير شرعية.(209/1)
ما المقصود بالفتن؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه ليلة الإثنين الموافق الثاني عشر من شهر ربيع الأول لعام (1411هـ) للهجرة، وهذا هو الدرس الحادي والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة، موضوع الدرس في هذه الليلة هو "نظرة في أحاديث الفتن".
أيها الإخوة: إن وموضوع هذه الليلة في غاية الأهمية: وسوف أتناوله في عدة نقاط، أولها: ما هي الفتن؟ وما هو المقصود بها؟(209/2)
معناها في الاصطلاح
فكل هذا من معاني الفتنة، ومعناها في الاصطلاح غالباً: أن الفتنة تطلق على ما يقع في الأمة، ويعرض لها من آثار الشهوات والشبهات من الخلاف والقتال، فكل خلاف بين الأمة أو قتال، هو إما بسبب شهوة، أي أن الإنسان يتسلط يريد العلو في الأرض ويريد الفساد، أو بسبب شبهة عرضت له فرأى فيها الحق باطلاً أو رأى الباطل حقاً، فيقع نتيجة ذلك اختلاف وتنازع وتطاحن، هذا الخلاف والتنازع والتطاحن والقتال يسمى: فتنة.(209/3)
معنى الفتنة في اللغة
فأقول: الفتن مأخوذة من فَتَنَ الذهب، إذا وضعه في النار وأوقد عليه حتى يتميز الذهب الصحيح من الذهب المغشوش، هذا أصل الفتن.
وللفتن في القرآن الكريم والسنة النبوية معانٍ منها: العذاب، فيقال: الفتنة بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:13-14] ذوقوا فتنتكم: أي: ذوقوا عذابكم.
ومن معاني الفتنة أيضاً: صرف الإنسان عن دينه، سواء كان هذا الصرف بالقوة والشدة والبطش، أو كان بالشبهات والشهوات والترغيب ونحوها، وهذا كثير في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217] وكما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] وكما في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] وكما في قوله عز وجل: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83] أي: يصرفهم عن دينهم {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73] يعني يصرفونك عنه إلى غيره {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49] أي: يصرفونك عن الدين والقرآن والوحي إلى شئ آخر غيره.
ومن معاني الفتنة: الزيغ والضلال والانحراف، سواء كان ذلك بالكفر والشرك أو بالمعصية مما دون الكفر والشرك، كما في قوله عز وجل: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] فتنتم أنفسكم أي: أضللتموها، وكما في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران:7] وابتغاء الضلال، ابتغاء الانحراف، وكما في قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] أي: زيغ فيهلكون، كما قال الإمام أحمد: لعله إن رد بعض قوله -أي: قول النبي صلى الله عليه وسلم- أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك.
وأخيراً: فإن من معاني الفتنة الابتلاء، والاختبار، والامتحان، كما في قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] ولقد فتنا الذين من قبلهم، أي: اختبرناهم وبلوناهم {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام:53] أي: ابتلينا بعضهم ببعض.(209/4)
اهتمام العلماء بأحاديث الفتن
النقطة الثانية: اهتمام العلماء بأحاديث الفتن، فالعلماء وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم، قد اهتموا بأحاديث الفتن اهتماماً كبيراً وإن لم تشغلهم عن ما هو أهم منها كما سيأتي، لكن من اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بأحاديث الفتن، ما رواه الشيخان عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: {كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني} .
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه ف حذيفة رضي الله عنه عرف الشر لا للشر لكن ليتقيه ويحذر منه، ولذلك كان حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخبير بالمنافقين، وأحوالهم، وأسمائهم، وأوصافهم، وكذلك كان العالم بالفتن، ولذلك جاء في الصحيحين أيضاً: {أن عمر بن الخطاب قال يوماً لبعض الصحابة: أيكم يذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة، فقال حذيفة رضي الله عنه: أنا أحفظه! قال: إنك عليها لجريء تعالَ اذكر لنا! فقال حذيفة رضي الله عنه: فتنة الرجل في أهله، وماله، تكفرها الصلاة، والصوم، والحج، والصدقة، فقال عمر رضي الله عنه: ليس عن هذا أسألك، إنما أسألك عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال: مالك ومالها يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها باباً مغلقاً، أنت عنه بعيد، فقال له عمر: رضي الله عنه أيفتح هذا الباب المغلق أم يكسر؟ قال حذيفة: بل يكسر، قال: هذا حري ألا يغلق أبداً} قال بعض الرواة: [[فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فأمرنا مسروق -ومسروق هو أحد التابعين، وهو ابن الأجدع - فجاء إلى حذيفة وسأله: قال له من الباب؟ قال: عمر رضي الله عنه، هذا هو الباب الذي يحول دون الفتن فقتله هو كسر الباب، فقال: هل كان عمر يدري أنه هو الباب؟ قال: نعم يدرى، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط]] ، أي أخبرته بهذا، وأخبرته أنه هو الباب الذي يحول بين الأمة وبين الفتن.
إذاً: الصحابة رضي الله عنهم كان من بينهم من يهتم بأخبار الفتن وأحوالها، ويتتبعها ويسأل عنها ليحذرها ويحذر الناس منها، ثم جاء بعد ذلك العلماء فصنفوا الكتب، كما فعل البخاري، ومسلم، وأبو داود، الترمذي، والنسائي، وابن ماجة وغيرهم، فكانوا إذا ألفوا وجمعوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: كتاب الفتن، أو كتاب الملاحم وأشراط الساعة، ثم يذكرون بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في الفتن.
ثم جاء علماء آخرون فألفوا وصنفوا كتباً خاصة، حول أحاديث الفتن، وقد صنف في أحاديث الفتن جماعة كثيرة من أهل العلم، منهم: نعيم بن حماد، له كتاب مخطوط اسمه الفتن والملاحم ومنهم: حنبل بن إسحاق الشيباني، له كتاب اسمه "الفتن" وهو مخطوط أيضاً، ولا أدري أهو موجود أيضاً أم لا.
ومنهم أيضاً: أبو عمرو الداني، الذي صنف كتاباً أسماه "السنن الواردة في الفتن" وهو مخطوط.
ومنهم أبو الغنائم الكوفي، صنف كتابا أسماه "الفتن".
ومنهم الحافظ ابن كثير، له كتاب "النهاية في الفتن والملاحم" وقد يسميه بعض الناس (الفتن والملاحم) ومن هؤلاء كتاب "الملاحم" لـ أبي الحسن بن المنادى، وهناك الكتب الواردة في أشراط الساعة، مثل: "الإذاعة فيما كان وما يكون بين يدي الساعة" لـ صديق حسن خان، وكتاب "الإشاعة لأشراط الساعة" للبرزنجي، وهناك كتب خاصة في أنواع معينة من الفتن.
فمثلاً: الدجال، هناك كتب خاصة في أحاديث الدجال، ككتاب "التصريح لما تواتر في نزول المسيح"، وهناك أحاديث في عيسى بن مريم، وهناك كتب خاصة في المهدي قديمة وجديدة، هذه الكتب من كتب الملاحم ويذكرون فيها كثيراً من كتب الفتن، ومن الكتب المعاصرة وهى كثيرة كتاب "إتحاف الجماعة" وهو كتاب ضخم جامع للشيخ عبد الله بن حمود التويجري، "إتحاف الجماعة في أحاديث الفتن وأشراط الساعة" وهو كتاب ضخم جامع حاشد، جمع فيه كثيراً من الأحاديث الواردة في ذلك، وهناك كتاب جديد اسمه "مجموعة أخبار في الزمان وأشراط الساعة" للشيخ عبد الله بن سليمان المشعلي، من علماء هذا البلد، وهناك كتاب "أشراط الساعة" لـ يوسف الوابل وهو رسالة ماجستير في جامعة أم القرى، قسم العقيدة في كلية الشريعة عام (1404هـ) إلى كتب كثيرة جداً في الفتن والملاحم وأحاديثها.(209/5)
أماكن الفتن
النقطة الثالثة: أماكن الفتن: وتقل وتكثر؛ فليس هناك مكان في الدنيا معصوم من الفتن كلها، فقد يعصم مكان ما من بعض الفتن، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر مثلاً {أن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة، فعلى كل بلد منهما وأنقابهما ملائكة يحرسونهما، لكن يتزلزل البلد ويرجف ثلاث رجفات، فيخرج إلى الدجال كل منافق ومنافقة} فهذه البلاد معصومة من الدجال، لكنها ليست معصومة من الفتن الأخرى، فالفتن كثيرة.(209/6)
خروج هولاكو من جهة الشرق
بلاد المشرق هي من مواطن الفتن، وقد ظهر منها مثل هذه الفتنة كما ظهرت فتن عظيمة، مثلاً: هولاكو جاء من جهة المشرق ومن تلك البوادي، وكانوا قوماً متوحشين، فانساحوا إلى بلاد الإسلام، وهتكوا الأعراض، وأتوا على الحرث والنسل، والأخضر واليابس، وأسقطوا دولة الخلافة، وعاثوا في الأرض فساداً وكانوا من أعظم الفتن التي مرت بالمسلمين.(209/7)
الحرب بين العراق وإيران وحرب الخليج
ومن فتنهم المتأخرة تلك الحرب التي دمرت الأخضر واليابس، القتال بين العراق وإيران والتي استمرت ثمان سنوات وذهب من قتلاها مئات الألوف، فضلاً عن الأموال الكثيرة التي ذهبت بسببها، فهذا يدل على ما جبل عليه أهل تلك البلاد من البطش، والشدة، والعنف، والحب للحروب، وإثارة الفتن.
وكذلك هذه الفتنة التي يعيشها المسلمون اليوم فإنها جاءت من قبل تلك البلاد.
فما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم واقع لا محالة، وأقل البلاد فتناً وأكثرها اطمئناناً وأبعدها عن القتل والقتال وسفك الدماء، تلك المواطن التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها من مواطن الإسلام، وذلك كبلاد الشام وبلاد اليمن والجزيرة العربية بشكل عام وخاصة أرض الحجاز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه المواطن أنها من الأماكن التي يفيء إليها الإسلام ويرجع إليها، وحين تتحقق الغربة يكون الإسلام في مجمله ومعظمه في تلك البلاد، وهذه ليست قاعدة مطردة، فقد يكون بلد من هذه البلاد يوماً من الأيام تغلب عليه أهل الشر والفساد، وحكموه كما حكمت النصيرية والشيوعية، وكما حكمت أديان وملل ومذاهب، لكن العبرة بالغالب، فلا يشكل على الإنسان أمام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجد وقت من الأوقات حكم فيه بعض هذه البلاد قوم غير مؤمنين، أو حكمت بغير ما أنزل الله عز وجل، فالعبرة بغالب الأحوال.(209/8)
فتنة قتل الحسين
إضافة إلى أنه خرج من جهة العراق أو انساح إلى بلاد الإسلام من جهة العراق فتن كثيرة، لعل من أولها قضية الحسين رضي الله عنه ورحمه الله، فإن أهل العراق كاتبوا الحسين أن يخرج إليهم وكتبوا إليه الرسائل، قالوا له: تعال، فعندنا القوة والنجدة والبأس والشجاعة، نحن مستعدون أن نحميك ونقاتل دونك، فقال له عبد الله بن عمر: دع هؤلاء لا تذهب إليهم، يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تخرج إلى هؤلاء، فأصر أن يخرج، فلما رآه عبد الله بن عمر مصراً خرج معه إلى أطراف المدينة ثم ضمه إليه وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل.
وهكذا كان، فإن أهل العراق لما جاءهم الحسين رضي الله عنه تخلوا عنه، وخذلوه في كربلاء حتى قتل شهيداً رضي الله عنه، وتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين نام مرة ثم استيقظ وهو يبكي، فقالت له أم سلمة: يا رسول الله! ما يبكيك؟ قال: {أُريت مقتل ابني هذا -وكان عنده فأشار إليه- وأوتيت بتربة من تربته حمراء} .
أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحساب فقتلوا حسيناً رضي الله عنه، والغريب في الأمر أنهم بعد ما قتلوه صاروا يقيمون المآتم في مثل ذلك اليوم حزناً على قتله، ويضربون وجوههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما فعلتم بأنفسكم المهم أنهم تسببوا في قتل الحسين رضي الله عنه، وتخلوا عنه وخذلوه أيما خذلان.
ولذلك لما جاءوا إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه يسألونه عن قتل المحرم للبعوضة؟ قال: قاتلكم الله يا أهل العراق، ما أجرأكم على الكبيرة وأسألكم عن الصغيرة، تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسألون عن البعوضة! الذي قتل الحسين لا يحتاج أن يسأل عن البعوضة.(209/9)
أماكن الفتن عبر التأريخ
وهذا هو الذي حدث، فإنك لو قرأت التأريخ لوجدت كثيراً من الفتن التي ألمت بالمسلمين خرجت من العراق، خذ على سبيل المثال الفتن الاعتقادية، التي عصفت بالأمة ومزقت وحدتها وخربت عقول الناس، من أين خرجت؟ خرجت من الكوفة والبصرة وما حولهما.
فمثلاً: الرافضة نشأتهم في العراق، وكان لهم فيها هيمنة وسيطرة وعلو وفساد في أزمنة كثيرة وإلى يومنا هذا، وهم يشكلون كثرة فيها.
وكذلك المعتزلة الذين ألَّهُوا العقل وحكَّموه وعبثوا بالنصوص وخربوا عقول الأمة، وعبثوا بها أيضاً، خرجوا من البصرة وما حولها.
وكذلك الخوارج أين كان ظهورهم وانتشارهم؟ من العراق، ولذلك لما جاءت المرأة إلى عائشة رضي الله عنها، وقالت: [[ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت لها عائشة: أحرورية أنت؟]] أي: من أهل الحرورة، وحرورة بلد في العراق نشأ فيها الخوارج وتغلبوا عليهم وانتشروا فيما حولها.
إذاً الخوارج والرافضة والمعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة إنما خرجت من العراق وانتشرت منه إلى أنحاء بلاد الإسلام، وهؤلاء أصحاب الفتن الاعتقادية كان لهم -باستثناء المعتزلة- كان لهم وجود عسكري وقوة، فكانوا يقاتلون، مثل الخوارج، أقلقوا الخلافة الإسلامية زماناً طويلاً، وكان لهم دول في بلاد المغرب وما حولها، وأزعجوا المسلمين أيما إزعاج، وكانوا أهل بأس ونجدة وشدة وقوة، وتأريخهم معروف: أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعِ فإنك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لن تطاعِ فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع ويقول آخر منهم: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ولكن أَحِنْ يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله زالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف فالخوارج كانوا أهل قوة وشجاعة وبأس ونجدة، وكان ظهورهم من العراق، وأقلقوا راحة المسلمين إقلاقاً عظيماً، فكلما تجمع عشرة منهم قاموا بثورة ضد الخلافة وحاربوا الجيوش؛ وقد ينتصرون على أضعافهم بما تميزوا به من القوة والشدة، وهذا معروف شأنهم.(209/10)
بلاد المشرق من أماكن الفتن
ومن أهم أماكن الفتن التي تكثر الفتن فيها وتخرج الفتن منها، بلاد المشرق، وقد ثبت في هذا أحاديث من أشهرها وأصحها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو مستقبل المشرق -جهة المشرق بالنسبة للمدينة المنورة- يقول: {ألا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان، ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشرق} والمقصود بالمشرق بادية العراق ونواحيها وما وراءها أيضاً، حتى إن بلاد فارس تدخل في ذلك؛ ولذلك كان المتقدمون يسمونها "عراق العجم" باعتبار أنها مرتبطة بها ومتصلة.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى تلك البلاد (نجد) بلاد المشرق، وهى بادية العراق وما حولها، سماها النبي صلى الله عليه وسلم (نجداً) وذلك لارتفاعها، والنجد هو: كل ما علا وارتفع، تقول: أنجد فلان -أي: ارتفع- وكذلك أتهم: أي دخل في تهامة، وهكذا، فالنجد هو: المرتفع، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم بلاد العراق (نجد) ، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي رواه البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال في الثانية أو في الثالثة: هناك الزلازل والفتن حيث يطلع قرن الشيطان} قال الإمام الخطابي رحمه الله: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة نجدة بادية العراق ونواحيها فصرح الإمام الخطابي بأن المقصود بنجد: جهة المشرق، وهى بادية العراق ونواحيها.(209/11)
أزمنة الفتن
النقطة الرابعة: أزمنة الفتنة: والفتنة قد تكثر في زمان وتقل في زمان، أما بدايات النقص فهي قديمة جداً، بداية النقص وظهور الفتن قديمة جداً.(209/12)
انتهاء عهد الخلفاء الراشدين
انتهاء عهد الخلفاء الراشدين هو من بدايات النقص أيضاً كما جاء في سنن أبي داود وابن ماجة ومسند الإمام أحمد عن سفينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء} فأشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن انتهاء عهد الخلفاء الراشدين هو من بدايات النقص أيضاً، وفي حديث جابر بن سمرة وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة خفية: فسألوا عنها فقال: كلهم من قريش} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمتد أمر الإسلام وقيامه ودوران رحاه إلى اثني عشر خليفة ثم بعد ذلك يبدأ النقص.(209/13)
انتهاء عهد القرون المفضلة
نقص آخر أيضاً: انتهاء القرون المفضلة؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرون الأولى فاضلة، كما في حديث عمران بن حصين وابن مسعود وحديثه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة} ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مجيء أقوام {يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن} يشتغلون بالدنيا، والترف، والمال، حتى تكبر بطونهم وتكثر شحومهم، ويشتغلون بالدنيا عن الآخرة.
فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن انتهاء القرون الفاضلة يعتبر من بدايات النقص التي تلم بالمسلمين، ومع هذا كله فإن الخير في الأمة كثير وسوف أشير إلى شيء من ذلك فيما يأتي.(209/14)
موت النبي صلى الله عليه وسلم
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما ذكر الفتن قال: {اعدد ستاً بين يدي الساعة، موتي} اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أن موته هو من بدايات الفتن، فموت النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، ولذلك كان أول خلاف حدث بين المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بساعات، وهو الخلاف في من يكون أجدر بالخلافة والحكم، حتى استتب أمرهم واستقر بقوة إيمانهم، وصدقهم، ويقينهم، وبعدهم عن المطامع الدنيوية، سرعان ما انحل هذا الخلاف واتفقوا على أبي بكر رضي الله عنه فبايعوه، ولم يختلف عليه منهم اثنان، لكن حصل بينهم في سقيفة بني ساعدة كلام وحديث ومجادلات في من هو أجدر بالخلافة.(209/15)
مقتل عمر رضي الله عنه
بعد ذلك مقتل عمر رضي الله عنه، مقتل عمر هو من بدايات النقص، وقد سبق أن ذكرت حديث حذيفة رضي الله عنه والذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر هو الباب الذي إذا انكسر طلعت فتن جديدة على المسلمين.(209/16)
بين الشرع والقدر
النقطة الخامسة: وهى وقفه مهمة مع أحاديث الفتن اخترت أن أضع لها عنوان (بين الشرع والقدر) هل نحن متعبدون بالعمل بالشرع أم متعبدون بالعمل بالقدر؟ أيهما الذي تُعبِّدنا بالعمل به؟ لقد تعبدنا بالعمل بالشرع، لا بالعمل بالقدر، فقد نجد شيئاً نهى الله تعالى عنه في كتابه ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك أخبر الله تعالى أو أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر سيقع، فنحن لا علاقة لنا بكونه سيقع أو لن يقع، إنما علاقتنا أن نحمي أنفسنا من هذا الأمر ونجاهد وننهى غيرنا عنه، أما وقوعه أو عدم وقوعه فهو أمر إلى الله عز وجل.(209/17)
وقوع الشرك في هذه الأمة
ولعل من أبرز وأظهر الأدلة: قضية الشرك، فالنصوص القرآنية والنبوية الواردة في النهى عن الشرك لا أظنها تحتاج إلى ذكر أو بيان؛ لأن الشرك هو أكبر الكبائر وأعظم الذنوب أن تجعل لله نداً وهو خلقك، ولذلك فإن معظم ما ورد من النصوص القرآنية والنبوية كانت في التحذير من الشرك بألوانه وأنواعه، سواء الشرك في الربوبية، أو الشرك في الألوهية، أو الشرك في الأسماء والصفات، أو الشرك الظاهر أو الخفي إلى غير ذلك، فالشرك هو أعظم الذنوب على الإطلاق، وقد نهى الله ورسوله عنه أيما نهي، ومع ذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشرك سيقع، بل أخبر عليه الصلاة والسلام: أن الشرك سيقع حتى من المنتسبين للإسلام، بل حتى في جزيرة العرب، وخذ على سبيل المثال هذين الحديثين: الحديث الأول: ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخُلَصة} ذو الخلصة: صنم كانوا يعبدونه يسمى ذو الخلصة، وقد حطمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر مع ذلك أن الساعة لن تقوم حتى تأتي نساء دوس يعني قبائل من قبائل العرب في الحجاز، فتضطرب إلياتهن، ويدرن ويتحركن ويذهبن إلى ذي الخلصة، أي: يعبد من دون الله عز وجل، فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه في آخر الزمان تعبد الأصنام هذه في كل مكان، إذا كانت عبدت في هذه الجزيرة فمن باب أولى أن تعبد في غيرها من بلاد الدنيا.
مثال آخر: حديث ثوبان، وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} يعبدون الأوثان سواء كانت أوثاناً حسية كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أوثاناً معنوية مثل: عبادة الطاغوت، والقانون والحكم بغير ما أنزل الله؛ هذه عبادة الوثن، أو عبادة البشر مثل: أن تطيعهم في معصية الله عز وجل، تطيع فلاناً، لأنه عالم أو حاكم أو غير ذلك، وأنت تعرف في قرارة نفسك وبعلمك أن هذا الأمر الذي أطعته فيه هو في معصية الله عز وجل، فهذه من العبادة.
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم إذاً: قد يحدث أن يخبرنا الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم بأن أمراً من الأمور سيقع، ومع ذلك فهذا الأمر منهي عنه، فنقول: نحن متعبدون بأمر الله ونهيه عن هذا الأمر، أما كونه سيقع أو لا يقع هذا لا حيلة لنا فيه.(209/18)
التشبه بالكفار
مثل آخر يتعلق بأحاديث الفتن: موضوع التشبه بالكفار، فالنهي عن التشبه بالكفار ورد فيه أيضاً آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فنهى عن التشبه باليهود والنصارى.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند جيد، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن تشبه بقوم فهو منهم} فالتشبه بالمشركين لا يجوز مطلقاً، سواء اليهود أو النصارى أو عبدة الأوثان أو غيرهم، فيما هو من خصائصهم سواء في أعمالهم أو في أمور السياسة أو في أمور الاقتصاد أو في أمور السلوك أو في الأخلاق أو في الأفكار، لا يجوز التشبه بهم بحال من الأحوال، ومع ذلك فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن التشبه سيقع، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه، ومثله حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} فجحر الضب لا يوجد أضيق منه، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام لو حصل أن اليهود والنصارى دخلوا جحر ضب، فإنكم ستحاولون أن تدخلوا جحر الضب وراء اليهود والنصارى! {قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن!} أي: ليس هناك إلا هم: اليهود والنصارى، وفي الحديث الآخر {لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى إنه لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك} الله أكبر! نسأل الله العفو والعافية، إن الإنسان يستحي أن يتحدث بهذا أمام الناس، فضلاً عن أن يأتي زوجته، فكيف بمحارمه؟ فكيف بأمه؟ والعياذ بالله، لو وجد في الأمم الأخرى من يصنع ذلك لوجد في هذه الأمة من يصنع ذلك، {قالوا: يا رسول الله! فارس والروم، قال: من القوم إلا أولئك} .
إذاً: اليهود، النصارى، الروم، فارس وغيرهم من الأمم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك نوعاً من التشبه سوف يقع، فلا تعارض، نقول: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم سيقع لكن نحن مطالبون ومتعبدون بأن ننهى عن التشبه، نمتنع منه في نفوسنا، نمنع أولادنا وزوجاتنا وأهل بيتنا ومن نملك، نحذر الناس من هذا الأمر، نؤلف الكتب ونلقى المحاضرات ونتكلم عن هذا الأمر، ونبين للناس خطورته، ثم لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون من هذه الأمة من لا يسمع لنا، لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون في هذه الأمة أصحاب الفكر المستغرب، من الذين تربوا على موائد الشرق والغرب، وأعجبوا بالمفكرين الغربيين من اليهود والنصارى فحذوا حذوهم وصاروا على نهجهم، وصاروا يعظمونهم ويعتبرون أن هؤلاء هم المفكرون الحقيقيون، وأن الحياة تفهم من خلال أفكارهم، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد من أعجب بالأدباء والشعراء الغربيين، وليس المقصود مجرد الإعجاب بأدبهم وتشعرهم بل الإعجاب بشخصياتهم وحياتهم، فصار يحاول أن يعيش وفق ما عاشوا حتى لو كانوا يعيشون في تعاسة وشقاء لأعجبه أن يعيش في هذه التعاسة والشقاء، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} .
فإذا كان الغرب يعيش في شقاء وجحيم ونسب الانتحار والتدمير نسب مرتفعة، أعجب كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام ممن تربوا على موائد الغرب أن ينقلوا إلينا تعاسة هؤلاء الغربيين ويحاولوا أن يدخلوها في هذه الأمة، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد في الأمة من ينقل القوانين الغربية ويحكمها في دماء المسلمين أو أموالهم أو أبشارهم أو أخلاقهم، لا يضيرنا ذلك مادمنا قمنا بما يجب علينا من التحذير من ذلك، والنهي عنه وبذل ما نستطيع في منعه، وقمنا فيما يتعلق بأشخاصنا ومن نملك بالمنع من هذا الأمر، فإن الإنسان متعبد كما بالشرع واتباعه لا باتباع القدر، ولا يقعد هذا الأمر من هممنا؛ فإننا نعلم أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس عاماً، لهو لم يخبر أن الأمة كلها سوف تتبع اليهود والنصارى، بل أخبر أن من الأمة من يفعل ذلك فئام من أمته، طوائف من أمته ومعنى ذلك أنه لا يزال في هذه الأمة فئام وطوائف أخرى كثيرة بقيت على الدين الصحيح، ولم تقبل لا ما كان عند اليهود ولا ما كان عند النصارى ولا فارس والروم ولا غيرها، بل رضيت بمنهج الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.(209/19)
قتال اليهود
مثل آخر: قتال اليهود وهو معلوم وقد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة: {أن المسلمين سيقاتلون اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر ويقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا اليهودي ورائي تعالَ فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود} وحديث آخر يستحق العجب، فقد روى البزار بسند حسن والطبراني وابن مندة في كتاب معرفة الصحابة، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/349) وقال: رجال البزار ثقات، عن نُهَيْك بن صريم السكوني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال، على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه} سبحان الله! صدق الله ورسوله هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، يقول الراوي: {ولا أدري أين الأردن يومئذ} .
إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أننا سوف نقاتل المشركين -واليهود من المشركين- على نهر الأردن نحن على شرقيه وهم على غربيه، حتى إن آخرنا وبقيتنا يقاتلون المسيح الدجال، وذلك فيما بعد والراوي يقول: أنقل الحديث وأنا يومئذٍ لا أدرى أين يكون الأردن، لكن أنقل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيا سبحان الله! انظر: الآن اليهود يتجمعون لتحقيق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يثلج صدر كل مؤمن بحيث يقطع قطعاً جازماً لا شك فيه ولا ريب في تحقيق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن لنا مع اليهود جولة قادمة منتصرة، فنقول: يا معشر اليهود! اصنعوا ما بدا لكم، وألَّبوا واجمعوا وتنادوا واصنعوا، فإن جيش محمد صلى الله عليه وسلم سوف يعود.
فالمقصود من هذا الحديث الذي ذكرته فقط للتنبيه، لكن موضوع قتال المسلمين لليهود، الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، حين نعلم بهذا الحديث هل يسرنا -مثلاً- أن اليهود احتلوا فلسطين وما حولها، أبداً لا يسرنا ذلك، أي مسلم لا يسره بأن تقع البلاد التي بارك الله حولها في أيدي اليهود؟! أيُّ مسلم يسره ذلك؟! على منابت تاريخ وأرض هدى من الرسالات ذات الجدر والسمق على الخليل وكم ضاءت منائرها في المسجد الحرم الأقصى من اليفق على منابت قدس المجد باركها وحولها الله وهى اليوم في الربق مسرى الرسول وأولى القبلتين بها واحر قلباه ماذا للفخار بقي عيناي عيناي ويل الهول صورته في أدمعي حيثما يممت من أفق مالي أرى الصخرة الشماء من كمد تدوي وعهدي بها مرفوعة العنق ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحبو الدنا من طهره الغدق واليوم دنسه فجر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفسق وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفي على الغرق لو استطاع لألقى نفسه حُمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق وظلت الكعبة الغراء باكية وغم كل أذان غمة الشرق وقائلين: يهود قلت: واحربا أجل! يهود يهود الذل والفسق يا نائمين انظروا فالله من أزل أرسى نواميسه في الخلق كالفلق هم حاربونا برأي واحد عددٌ قِلٌ ولكن مضاء ثابت النسق يحدوهم أمل يمضي به عمل ونحن وا سوأتا في ظلة الحمق زاغت عقائدنا حارت قواعدنا أما الرءوس فرأي غير متفق البعض يحسب أن الحرب جعجعة والبعض في غفلة والبعض في نفق إذاً: لا يوجد مسلم يسره أن ينتصر اليهود أو يحتلوا فلسطين ليتحقق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يسرك أن تقرأ في الصحف اليوم أن مئات الألوف من اليهود يهاجرون من الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل؟ وتقول: الحمد لله هم يتجمعون حتى نقتلهم؟ كلا، لا يسر المسلم بذلك.
هل يسرك ما تقرأ في الأخبار والصحف والتقارير من التقنية الهائلة، والتقدم العلمي، والقوة الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية والحضارية التي تتميز بها هذه الدولة، التي هي شوكة في جسم الأمة؟! كلا والله، فإن كل مسلم يسوءه ذلك ولا يسره.
لكن إذا حزن لذلك واغتم له وامتلأ قلبه غيظاً وهماً وكمداً حتى كاد الأمر أن يؤول به إلى اليأس، قلنا له: لا تيئس: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أنهم وإن فعلوا ما فعلوا إلا أن لنا معهم جولة نحن فيها المنتصرون بإذن الله عز وجل، وهذا ما قاله لك رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذاً نحن متعبدون بكراهية هذه الأعمال كلها، كراهية تجمع اليهود، إن الله تعالى يكرهه فنحن نكرهه أيضاً، وهذا الذي تُعبِّدنا به هذا الشرع، نحن متعبدون بالحزن لهذا الأمر، ومتعبدون بكراهية القوة التي يملكون، كراهية مجيئهم من أقاصي الدنيا إلى فلسطين، كل ذلك نحن نكرهه، ونحن متعبدون بذلك، بل نحن متعبدون بالحزن، فإن الحزن الذي تحزنه إذا سمعت بأخبار اليهود وتقدمهم وتجمعهم من كل مكان، هذا حزن محمود تؤجر عليه بإذن الله عز وجل.
ولو كان لك قوة أو تأوي إلى ركن شديد، لكان يجب عليك أن تبذل ما في وسعك لمنع هذا الأمر، فلو أننا نحن المسلمين نملك قوة إعلامية، أو قوة اقتصادية، أو قوة سياسية، أو قوة عسكرية نستطيع بها أن نمنع مجيء اليهود من الاتحاد السوفيتي أو من بلاد أوروبا إلى فلسطين، لوجب علينا أن نستخدم هذه القوة الإعلامية، أو الاقتصادية، أو غيرها في منعهم.
إذاً: كان يجب أن نبذل ما نستطيع في ذلك، لكن إذا لم نستطع نقول لهم: لا بأس، انتظروا فهناك يوم قادم سوف يفصل الله تعالى بيننا وبينكم وهو خير الفاصلين.(209/20)
افتراق الأمة
أيضاً من أحاديث الفتن: الأحاديث التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق الأمة، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام: {أن هذه الأمة سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة} هذا حديث صحيح روي عن أكثر من ستة عشر صحابياً، أن هذه الأمة سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة {كلها في النار إلا واحدة} هذا خبر أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهى من الفتن، لكن في المقابل عندنا شرع، ما هذا الشرع؟ الشرع أن الله عز وجل يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] إذاً: فالله أمرنا بالوحدة والاعتصام بحبله وعدم الافتراق يقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159] ويقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً ومنها: أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} .
فالقرآن والسنة "الشرع" يأمرنا بالتوحيد والوحدة وأن نجتمع على كلمة الله عز وجل، فيجب أن نسعى للوحدة بين المؤمنين، وتوحيد الكلمة وجمع الصف على الكتاب والسنة والعقيدة الصحيحة، وأن نبذل جهدنا في هذا بقدر ما نستطيع، ومع ذلك فعندنا يقين وقناعه، راسخة أنه مع جهدنا وتضحيتنا وبذل ما نستطيع مع ذلك كله، فإننا نعلم أن ما نبذله له ثمرة طيبة، ولكن لن يكون من ثمرته أن الأمة كلها تجتمع على عقيدة واحدة، وعلى مذهب واحد، وعلى حكم واحد، وعلى رأي واحد في كل شئ، هذا لن يكون والله تعالى أعلم، إنما نحن نبذل ما نستطيع، وهذا هو الشرع الذي تعبدنا به، أما القدر الذي سيقع فهو أمر إلى الله عز وجل ليس لنا منه شيء.
إذا هذه قاعدة مهمة، مهمة، مهمة -أقولها ثلاثاً- وهى: أنه يجب أن نفرق بين الشرع والقدر، لقد أخبر الرسول عليه السلام أن فتناً ستقع وأمرنا بأمور، فنحن نأتمر بما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، أما وقوع الفتن وعدم وقوعها فهذا أمر آخر لسنا منه في شيء.(209/21)
بين الأصل والاستثناء
النقطة السادسة: وهى أيضاً أمر مهم كسابقه وقد اخترت لها عنوان (بين الأصل والاستثناء) وأعني بهذا العنوان: أن عندنا أصولاً لا يختلف عليها اثنان من المسلمين.(209/22)
وجوب الجماعة
من الأصول: وجوب الجماعة والاجتماع على الطاعة، ومن ذلك: صلاة الجماعة؛ لكن الاجتماع على الخير والطاعة وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ووحدة الصف -كما سبق- هذا من الأصول، كذلك صلة الرحم لا يختلف اثنان من المسلمين بوجوب صلة الرحم، وبر الوالدين والأقارب وصلتهم والإحسان إليهم وبذل ما تستطيع لهم، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب بإجماع المسلمين إما وجوباً عينياً أو وجوباً كفائياً، كل المسلمين يقولون: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(209/23)
الجهاد في سبيل الله
الجهاد في سبيل الله شريعة باتفاق المسلمين ولو قال شخص: إن الجهاد ليس مطلوباً أبداً ولا في حال من الأحوال، يكون بذلك كافراً، نبين له الحق؛ فإن أصر يكون كافراً.
فالجهاد شريعة ماضية بإجماع المسلمين، هذا أصل ليس فيه خلاف، لكن هناك استثناءً من هذا الأصل، ما هو الاستثناء؟ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً من الأيام لأصحابه: {كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس} يغربل الناس غربلة: أي ينخلون نخلاً فيذهب الطيب ويبقى الخبيث، ويبقى حثالة من الناس، والحثالة: هي الوسخ الذي يكون في أسفل الإناء، بعدما يشربه الإنسان تبقى فيه حثالة {تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه هكذا، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: يا رسول الله! بم تأمرني حينئذٍ؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم} والحديث صحيح رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وقال الحاكم: صحيح، وكذا صححه جماعة من أهل العلم كـ ابن حجر والعراقي والمنذري وغيرهم وسنده صحيح، أو سنده حسن وله طرق كثيرة فهو حديث صحيح.
المهم في هذا الحديث أن الرسول عليه السلام ذكر أنه إذا كانت الفتن واختلف الناس ومرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا، أَقْبِلْ على أمر خاصتك، على نفسك وزوجتك وأولادك وقراباتك، واترك أمر العامة، هذا مثال، ومثال آخر في الباب نفسه حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن أبا أمية الشعباني قال لـ أبي ثعلبة الخشني: ماذا تقول في تفسير الآية؟ قال له أبو ثعلبة: أي آية؟ قال له: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] قال له: لقد سألت عنها خبيراً، سألت عن هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: {بل ائتمروا بالمعروف، وتناهو عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأىٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبضٍ على الجمر، للصابر فيهن أجر خمسين يعملون مثل عمله، قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم، قال: بل منكم} والحديث رواه الترمذي وصححه ورواه ابن ماجة والحاكم وصححه أيضاً ورواه البيهقي في شعب الإيمان وغيرهم، والحديث له شواهد يصح بها.
إذاً: في حديث عبد الله بن عمرو وأبي ثعلبة ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة صفات، إذا وجدت في شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، ففي ذلك الوقت أي مؤمن صادق يسعه أن يترك الناس ويقبل على نفسه، لا تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر، ولا تتعلم، ولا تجاهد، ولا ولا، لكن متى يحدث هذا؟ الحديثان ذكرا لنا مجموعة صفات أذكرها لكم باختصار:(209/24)
صفات قوم آخر الزمان(209/25)
الصفة الأولى
أنهم حثالة، إذا بقي فيهم حثالة، والحثالة هي بقية الإناء، ومعنى ذلك أن هؤلاء الناس لا خلق ولا دين ولا مروءةَ لهم.(209/26)
الصفة الثانية
قوم مرجت عهودهم وأماناتهم، مرجت أي: ضعفت وصاروا ليس عندهم عهد ولا أمانة- يعدك ويخلفك، تأتمنه فيخونك، تحدثه ويحدثك فيكذب، وهكذا، ولذلك قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب كيف الأمر إذا بقي فيه حثالة؟ ثم ذكر حديث حذيفة رضي الله عنه في نزع الأمانة من قلوب الناس، وقال في آخره أن حذيفة رضي الله عنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {حتى إنه ليقال: إن في بني فلان رجلا أميناً} أي: أن الناس كلهم ليس عندهم أمانة، حتى أصبحت القبيلة بأكملها ليس فيها أمين إلا واحداً، فالناس يتكلمون، فيقول أحدهم: سبحان الله! قبيلة كذا فيها فلان، رجل أمين، البلد الفلاني قد يكون سكانه مليون أو أكثر فيه فلان رجل أمين، أما البقية فقد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا.(209/27)
الصفة الثالثة
وهي التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم اختلفوا فصاروا هكذا، وهذا إشارة إلى شدة اختلافهم وتنازعهم ومع الاختلاف فكل واحد يُخطِّئ الآخر، وهذا يذم هذا، وهذا ينتقض هذا، وهذا يخطئ هذا، اختلفوا وصاروا هكذا لا تدري من المحق من المبطل، ومن الصادق من الكاذب، ومن الجاد من الهازل.
ولا شك أن هذه الصفات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو وجد شيء منها الآن! بل وجدت بدايتها منذ زمن بعيد، منذ عهود التابعين؛ بل منذ أواخر عهد الصحابة وجدت بدايات، فمثلاً: ضعف الدين وجد، ضعف اليقين وجد، ضعف الأمانة وجد، نقض العهود وجد، اختلاف الناس وجد وهو موجود الآن، فقد يقول بعضكم: هذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف الناس اليوم كل إنسان يدعي أنه على الحق وغيره على الباطل.
وكل يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر له بوصل وضاعت الأمور فلا ندري من نصدق، ولا ندري الصواب من الخطأ، ولا ندري ولا ندري، فيأتي إنسان فيصور الواقع الذي يعيشه ويطبقه على هذا الحديث، نقول له: لا، رفقاً، انتظر قليلاً.(209/28)
الصفة الرابعة
ذكر في حديث أبي ثعلبة {إذا رأيت شحاً مطاعاً} الشح هو: الحرص مع البخل، رجل حريص وبخيل بالمال أطاع نفسه في الشح، وهذا الشحيح أصبح مطاعاً، لا تجده إنساناً كريماً إلا ما قل وما ندر.
{وهوى متبعاً} يتبع الإنسان هواه فيعرض عن الكتاب ويعرض عن السنة وعن الحق ولا يطيع إلا هواه {ودنيا مؤثرة} يؤثر الدنيا على الآخرة وهذا بداية الكفر، كما قال عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] وقال: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] فيؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ولا يبالي الواحد منهم ما أصابه في دينه إذا سلمت له الدنيا، {وإعجاب كل ذي رأى برأيه} فلم يَعُدْ يسمع لا آية ولا حديثاً ولا قول عالم ولا شيخ بل يكفيه ما عنده.
أنا لست أنكر أن هذه الأمور كلها يوجد شيء منها الآن، خذ على سبيل المثال: الإعجاب بالرأي، والله الذي لا إله غيره إنني أشهد أنك إذا سمعت حديث بعض الناس في مجالسهم أو في غير ذلك، تقول: سبحان الله! هذا إعجاب كل ذي رأي برأيه، يتكلم الواحد منهم عن قضية شرعية مختلف فيها، فالعلماء اختلفوا فيها، والصحابة اختلفوا فيها، والأمة اختلفت فيها، فيقرر رأيه وقوله حتى كأنه حق وما سواه باطل، حتى كأنه أتاه وحي بأن هذا الأمر حق وهذا الرأي حق.
وهذا من إعجاب المرء برأيه، حتى إنك تجد الإنسان والعياذ بالله قد يكون -أحياناً- عنده رأي خطأ وفاسد وباطل، ومع ذلك يتعصب لهذا الرأي، وتتشبع به نفسه، ويمتلئ به قلبه، حتى إنه إذا وجد من يخالفه في هذا الرأي يغضب ويكاد يتمزق من الحسرة، وربما من الغيرة والغضب لله وللرسول أيضاً، لكن تلبس عنده الإعجاب بالرأي بما يعتقد أنه حق وشرع وصحيح.
لكن هذا ليس عاماً فما زال في الأمة بحمد الله؛ من الكبار والعلماء، وطلاب العلم، والعامة من لا تجده معجباً برأيه، قد يعتقد برأيه فإذا ناقشته فيه قال: جزاك الله خيراً، والله قد أصبت، وما ظاهرة رجوع الناس إلى مذهب أهل السنة والجماعة واعتقادهم به وتخليهم عن كثير من البدع، إلا دليل على ذلك، ومظاهر تراجع كثير من الناس عن المذاهب الفاسدة المادية من اليسارية والقومية والناصرية والشيوعية ومجيئهم إلى الإسلام إلا دليل على ذلك، وما رجوع بعض العلماء عن أقوالهم إلا دليل على ذلك.
فالعالم قد يقول لك: من كنت أفتيته بكذا فليرجع إليَّ؛ فأنا رجعت عن قولي وتبين لي أن ما قلته له خطأ وأن الصواب كيت وكيت، وهذا دليل على أنه لا يوجد عنده إعجاب بالرأي، وإلا لتمسك برأيه وما تراجع عنه.
إذاً، الإعجاب بالرأي موجود لكن لم ينتشر في الأمة بحيث أن الأمر وقع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإعجاب كل ذي رأي -كل من ألفاظ العموم- وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه} ما زالت الأمة في خير كثير.
إذاً: هذه الصفات السبع إذا وجدت أستطيع أن أقول لكم: لا تأمروا بالمعروف ولا تنهوا عن المنكر، لماذا؟ لأنه لا فائدة من الأمر والنهى، ما دام أن كل واحد معجب برأيه، والهوى متبع، والدنيا مؤثرة، والشح مطاع، وهؤلاء القوم صاروا حثالة ومرجت أماناتهم وعهودهم واختلفوا وصاروا هكذا، إذا تحقق (100%) ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ لا يُؤمر بمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما شرع للمصلحة، وما دام لن يتحقق الامتثال فلا فائدة، فنقول للآمر حينئذٍ.
-إذا وجد هذا- أمسك عليك نفسك، أمسك لسانك واحفظ نفسك، حتى لا تصاب بأذى وتتعرض لاضطهاد، أو تضييق، أو إزعاج، أو تؤذى في نفسك، أو أهلك، أو ولدك، أو مالك، أو أصحابك، فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر.
لكن متى يتحقق هذا؟ أو متى نحكم على واقع معين بأنه قد تحقق فيه هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأريد أن أشير إلى أن أصول الأحداث وبداياتها كانت موجودة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال حذيفة في الحديث السابق -حديث نزع الأمانة- قال: [[ولقد مر علي زمان ما أبالي أيكم بايعت]]-ليس عندي مانع أي واحد أبيع له ولا آخذ منه المال- يقول: إن كان مؤمناً يرده علي إيمانه وإن كان كافراً يرده علي ساعيه فالأمور مضبوطة إذا كان مسلماً يرجع لي بالمال، وإذا كان غير مسلم فالجهات المسئولة تحفظ لي مالي، هكذا ثم يقول حذيفة: [[أما اليوم فما أبايع إلا فلاناً وفلاناً وفلاناً]] ذكراً أناساً معدودين هم الذين يبايعهم، أما البقية فلا يبايعهم.
إذاً: البدايات موجودة منذ عهد الصحابة، لكن متى تحقق الأمر الذي يجعلنا بمنجاة، ويبيح لنا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، هل تحقق هذا؟ كلا، لم يتحقق هذا، ومازلنا مطالبين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فيما مضى وفي الوقت الحاضر أيضاً.
فالبداية وجدت منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم كما ذكر حذيفة رضي الله عنه، وأما فيما عدا ذلك فإن كل عالم في عصره يخيل إليه أن الأمر يوشك أن يكون.
فمثلاً: أذكر أن ابن بطال رحمه الله أحد شراح البخاري وهو فقيه مالكي، لما تكلم عن حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويكثر الزنى} إلى آخر الحديث، قال ابن بطال رحمه الله: جميع ما تضمنه هذا الحديث من أشراط الساعة رأيناها عياناً، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وألقي الشح، وعمت الفتن، وكثر القتل إلى آخر الحديث.
وعقب عليه الحافظ ابن حجر بقوله: إن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله يعني وجود الشح مع وجود الكرم، ووجود الجهل مع وجود العلم، ووجود القتل مع وجود الأمن، ولم يكن أمراً عاماً.
قال ابن حجر: وقد مضى على الوقت الذي تكلم فيه ابن بطال ثلاثمائة وخمسون سنة والأمور في ازدياد.
ومن الطريف أن الخطابي في كتاب "العزلة" روى حديثاً عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قال: [[إنها كانت تتمثل بهذه الأبيات- تقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتحدثون مخافة وملاذة ويعاب قائلهم وإن لم يشرب]] أي: أنهم قوم يكثرون من الكلام، ويحاولون أن يخطِّئوا الآخرين وإن لم يكونوا مخطئين، هكذا تقول عائشة رضي الله عنها، تقرأ هذه الأبيات وهي للبيد، فتقول عائشة رضي الله عنها: [[ويح لبيد! كيف لو أدرك هذا الزمان!]] يعني الذي كانت فيه عائشة رضي الله عنها.
يقول عروة بعدما روى الحديث: [[كيف لو بقيت عائشة رضي الله عنها حتى أدركت الزمان الذي نحن فيه؟!]] بعد هذا يقول هشام بن عروة: [[كيف لو أدرك أبي - عروة - هذا الزمان الذي أنا فيه؟! ولما قالوا لسلمة بن شبيب وهو أحد رواة الحديث أيضاً قالوا له: يا أبا الفضل! كيف تقول أنت؟! فعروة تكلم وهشام بن عروة تكلم وعائشة تكلمت، وأنت كيف تقول؟! تقول: كيف لو عاشوا -قال: ما عسى مثلي أن يقول! أنا أقول: "على رأسي التراب"]] .
التراب على رأسي، بل أنا لا أستحق أن أقول شيئاً أبداً، هؤلاء الذين ذكرتهم يقولون ما سبق، وكيف لو عاش فلان؟! أنا لا أقول: كيف لو عاش فلان؟ أنا أقول: التراب على رأسي؟ أي: كأنه رضي الله عنه يقول: أنا أذم نفسي وأوبخ نفسي ولا أتكلم في الآخرين.
فهذا محمول منهم على الزراية بأنفسهم وواقعهم وذمه، ولا يلزم أن يكون هذا دليلاً على تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي يريد أن يقول: إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو تحقق في هذا الوقت يلزمه أن يراعي ثلاثة أمور: الأمر الأول: ألاَّ يحكم إلا إذا تحققت فيه الشروط، هل هو عالم بالشرع مثلاً؟ إذا لم يكن عالماً بالشرع فليس من حقه أن يحكم، وإلا فبعض الجهال قد يرى هذا الوقت، فيقول: أبداً، الواقع ممتاز، ونحن في أحسن حال، بل إن بعض المنحرفين قد يخيل إليه أن الأمة ما مرت في زمن أحسن من تلك الأزمنة التي يعيش فيها؛ لأنه يقيس الأمور ليس بمقياس الشرع بل بمقياس الهوى، مقياس الدنيا، فلا بد أن يكون الذي يحكم على الواقع عالماً بالشرع، ولا يكفي العلم بالشرع -أيضاً- فقد يكون عالماً بالشرع لكنه غير عالم بالواقع، لا يدرى ما الناس عليه، فإذا كان من البيت للمسجد ما رأى منكراً في حياته قط، يقول: والله الأمور -والحمد لله- جيدة، لكن لو أخذته مرة في رحلة وذهبت به إلى أحد الأسواق، أو الحدائق، أو غيرها فرأى من المنكرات لربما فقد وعيه من شدة ما فوجئ به.
فلا بد من العلم بالشرع مع العلم بالواقع، أن نعرف الواقع.
وهناك صفة أخرى، وهي: أن يكون الإنسان فيه اعتدال بطبعه، فبعض الناس حاد المزاج ينظر إلى الجانب المظلم، مثل ما يقال في المثل: لو أتيت بكأس نصفه فارغ ونصفه الآخر ممتلئ بالماء، فتأتي به لإنسان فتقول له: صف لي هذا الكأس؟ فيقول لك: هذا الكأس، نصفه فارغ، فهو نظر إلى الفراغ الموجود في الأعلى، فقال: نصفه فارغ، وهذه نصف الحقيقة.
وتأتى لإنسان آخر، فتقول له: صف لي هذا الكأس؟ فيقول لك: هذا الكأس نصفه ممتلئ، فهو نظر إلى النصف الممتلئ.
وتأتي لإنسان ثالث، فيقول لك: كلاهما أصاب هذا وصف شيئاً وهذا وصف شيئاً آخر.
إذاً: قد تأتي لإنسان عنده نوع من النظرة التشاؤمية للواقع، فيقول لك: الواقع فيه كذا وحصل من تبرج النساء وفساد الشباب وضياع الأمور، وكذا وكذا، فيذكر لك سلسلة وقائمة من الانحرافات، حتى يخيل إليك أن الدنيا كلها رقعة سو(209/29)
بين اليأس والأمل
النقطة السابعة: وهذه وقفة أخرى وقد اخترت لها عنواناً اسمه "بين اليأس والأمل".
فكثير ممن يتكلمون في الفتن لا يتقنون إلا الأحاديث التي تدل على اليأس.
مثلاً: إذا تكلم أحد في الفتن أو سمع كلاماً حول أحاديث الفتن تبادر إلى ذهنه، حديث أنس رضي الله عنه: {لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم} سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، والحديث لاشك فيه صحيح رواه البخاري أو حديث: {لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدباراً} أو حديث: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أكل أمن حلال أو من حرام} هذا في صحيح البخاري.
فيدب اليأس إلى نفوس الناس، وكأن القائل منهم يقول: هذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع وآل الأمر إليه، فلا فائدة، ولا حيلة، ولا داعي لأن نقوم نحن بواجبنا في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، والجهاد، وغير ذلك؛ لأن الأمور قد انتهت وهذا فيه عدة أخطاء:-(209/30)
النظر إلى أحاديث اليأس دون غيرها خطأ
منها: أن الإنسان غفل عن الجانب الآخر من تلك الأحاديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: {لا يأتيكم زمان إلا الذي بعده شر منه} -مثلاً- هو نفسه الذي قال: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} .
فأخبر أن الأمة يتجدد لها الدين في رأس كل مائة سنة، وتتحسن الأمور والأوضاع والأحوال، لكن في الإجمال لاشك أن الأمة تسير في طريق تنازلي إجمالاً، لكن يكون في الأمة زمان أحسن مما قبله، كما هو الحال بالنسبة لعصور المجددين -مثلاً- الإمام محمد بن عبد الوهاب جاء إلى بلاد نجد وهم يعبدون الأصنام والأوثان، وبينهم من الحروب والتطاحن ما هو معروف في تاريخ نجد فدعاهم، وجمعهم على كلمة الإخلاص، ووحد الله تعالى قلوبهم وصفى به عقائدهم، وأقام دعوة راسخة قوية صلبة على مر العصور.
إذا، ليس الأمر مطرداً، فالذي قال: {لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه} .
هو الذي قال: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} وهو عليه الصلاة والسلام الذي قال: في حديث عمران} هو الذي عليه الصلاة والسلام قال: كما في حديث أنس وهو حديث صحيح: {أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره} ليس المقصود أن آخر الأمة مثل أولها (100%) سواء بسواء، إنما المقصود أن آخر الأمة في الخيرية والقوة حتى ليلتبس على الناس أهو خير أم أوله، وإلا ففضل الأولين مشهود لا يشك به أحد، فالذي قال هذا، هو الذي قال هذا فلماذا تأخذ الأحاديث التي فيها يأس وتترك الأحاديث التي فيها الأمل؟(209/31)
واجبنا تجاه أحاديث اليأس
أقول: ينبغي أن ننظر في هذه الأحاديث نظرة تأمل، وألا نسمح لليأس أن يتسرب إلى قلوبنا، خاصة إذا تذكرنا المبشرات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قضية الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وبقاء الجهاد والتجديد، وبقاء الخيرية في هذه الأمة، وانتصار هذه الأمة على الروم والترك واليهود والدجال وغيرهم.
ومنها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الصابر من هذه الأمة على دينه له أجر خمسين يعملون مثل عمله من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم} ومع ذلك يجب الاعتدال، فحينما نقول هذا لا نعني أننا ننتظر رجالاً كرجال القرن الأول يظهرون بيننا! كلا، يجب أن ننظر نظرة واقعية، وندرك أن كل عصر له رجاله، وليس صحيحاً أن نطلب المحال بحيث إذا قيل للإنسان: أين العلماء؟ قال: في "ثلاجة" وهي مقبرة معروفة ببريدة، هذا صحيح "ثلاجة" فيها علماء لكن أيضاً -الحمد لله- الأمر كما قال الأول: إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول فالأمة فيها خير كثير، وفيها علماء فطاحل جهابذة يستسقى بدعائهم المطر من السماء، ويتعبد لله تعالى بسؤالهم وفتياهم واتباعهم وطاعتهم فيما بلغوا من دين الله وشرعه، وهم أئمة وقفوا أنفسهم على هذا الدين، وهناك طلاب علم كثيرون، نذروا أنفسهم لهذا العمل.
ليس صحيحاً أن أرحام النساء عقمت فلا تلد! ليس صحيحاً أن نتصور أن الأمة -مثلاً- بعد شيخ الإسلام ابن تيمية انتهت؛ صحيح أن ابن تيمية علم راسخ ربما لم يأتِ بعده مثله، بل أجزم أنه لم يأتِ بعده مثله، لكن مع ذلك هناك رجال كثير في هذه الأمة، هناك علماء، وهناك جهابذة، وهناك مصلحون، وهناك دعاة، وهناك مجاهدون، وهناك أئمة، بل إنني أقول: إن الأمة نفسها تشارك في صناعة هؤلاء الأئمة، فإن العالم إذا كان في وسط قوم يعظمونه ويقدرونه ويوقرونه ويعرفون له قدره، فإن هذا يزيد من ارتفاعه ومكانته كما قال أحدهم: إنما عَظُمَتْ بصغار عظموك.
فالعالم إذا أحاط به الناس وأخذوا عنه وقدّروه وبجلوه واحترمته الخاصة والعامة، وأصبح له مكانته، فليس من السهل أن يخطئه أحد أو يعارضه أحد أو يقف في وجهه أحد، لكن إذا كان هذا العالم مركوناً لا يلتفت إليه أحد أصبح في الأمة مثل الذهب الذي في معدنه لم يعلم به أحد، فالأمة هي التي تشارك في صناعة العلماء والقادة والدعاة وإعدادهم وإخراجهم، فينبغي ألا نقوم دائماً بلوم الآخرين وننسى الدور الذي كان يجب علينا أن نؤديه.(209/32)
الاعتماد على الأحاديث الضعيفة من أسباب اليأس
الخطأ الثاني الذي يقع فيه أولئك الذين ينظرون نظرة يأس للأحداث والأحاديث: أنهم أحياناً يستأنسون ببعض الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة، وذلك لأن العلماء الذين صنفوا في الفتن تساهلوا، مثل نعيم بن حماد -مثلاً- وأبي عمرو الداني ومثله الحكيم الترمذي والديلمي وكثير من هؤلاء العلماء يذكرون في الفتن خاصة أحاديث ضعيفة وأحياناً أحاديث موضوعة، فإذا قرأت تدرك أنه موضوع فتجد أحياناً، حديثاً ربما يكون أربع صفحات أو خمس صفحات يذكر الفتن وهو غالباً لا يصح، فلا ينبغي التساهل في رواية تلك الأحاديث، خاصة إذا كانت أحاديث تذم الواقع.
فمثلاً: بعض الأحاديث تتكلم بذم الناس "ذهب الناس وبقي النسناس"، "رأيت الناس أخبر ثقله"، "بعد مائة سنة لا يبقى مولود لله فيه حاجة" مثل هذه الأحاديث لا تصح، لكن بعض الناس يفرحون بها، من أجل يعرض عن الناس ويتركهم ويقول: هؤلاء الناس لا خير فيهم ولا تلتفت إليهم، هؤلاء الناس فيهم وفيهم، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فيعتمد على أحاديث ضعيفة أو موضوعة في ذم الناس.
وإذا انتقل إلى العلماء بدأ يذم العلماء وينتقص منهم، ويقول: هؤلاء لم يفعلوا ولم يفعلوا وفيهم وفيهم، ثم يذهب يستأنس بحديثين أو ثلاثة أحاديث موضوعة، في ذم أهل العلم وأن من أهل العلم من يمسخ في آخر الزمان قردة وخنازير، وأنهم يتعلمون العلم لغير وجه الله تعالى وإلى آخره، فيستشهد ويستأنس بهذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة في الحط من أقدار علماء عصره، ولا نشك أن هناك أحاديث صحيحة في هذا الباب؛ وهناك علماء ينطبق عليهم الكلام، لكن ينبغي أن توضع هذه الأمور في مواضعها.
هناك -مثلاً- من يترك الزواج ويترك إنجاب الأولاد، فتقول له: لماذا؟ يقول: هذا الزمان زمان مظلم، الولد تتعب فيه لا تدري كيف يتربى؟ ولا تدري، ولا تدري، ثم يأتي لك بحديث مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يأتي على الناس زمان لأن يربي أحدهم جرو كلب، خيرٌ له من أن يربي ولداً من صلبه} هذا الحديث رواه الحاكم وغيره وفيه ضعف، يقول: أنا لا أريد أن أربي أولاداً ولا أهتم بهم، لماذا؟ الكلاب خير منهم، هذا ليس منطقاً، وليس صحيحاً، هذه نظرة تشاؤمية، نظرة سوداوية، ينبغي لطلبة العلم أن يحرصوا على إخراج الناس من هذا النفق المظلم، وجعلهم يعيشون في النور.(209/33)
كثرة اشتغال الناس بأحاديث الفتن
نقطة أخيرة: قضية الاشتغال بأحاديث الفتن، فمن الأشياء التي يطول عجبي منها كثرة اشتغال الناس بأحاديث الفتن، ولو فرزت لكم هذه الأسئلة التي جاءتني منكم الآن، بل أسئلة المجلس السابق والذي قبله لوجدنا (50%) منها تدور حول أحاديث الفتن، وجاءتني أسئلة شفوية كثيرة تدور حول بعض الأحاديث الواردة في أمور الفتن، لماذا يهتم الناس بأحاديث الفتن؟ يهتمون بها في نظري لسببين:-(209/34)
أسباب اشتغال الناس بأحاديث الفتن
السبب الأول: هو استكشاف المجهول، فالإنسان من طبيعته يحب أن يعرف المستقبل، ويستكشف المجهول فيحاول أن يعرف ذلك من خلال بعض النصوص الواردة والتي تكشف ما قد يقع في المستقبل، فلذلك يقرأ في هذه الأحاديث.
السبب الثاني وهو أهم: أن الناس يؤثرون دائماً ألا يعملوا، فنحن دائماً نحب ألا نعمل، نحب أن نتكلم لكن لا نحب أن نعمل، فأحاديث الفتن -أحياناً- يتخذها بعض الناس مهرباً من العمل.
فمثلاً: إذا وجد الأحاديث الواردة في المهدي، قال: لا داعي للعمل علينا أن ننتظر، نسينا أن كل واحد منا يجب أن يكون مهدياً يدعو إلى الله عز وجل، يهتدي بهدي الله عز وجل ويدعو إلى الله عز وجل، أما المهدي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فنحن ما تُعُبِدْنا بأن ننتظره متى يأتي؟ بعد مائة سنة أو مائتين أقل أو أكثر، الله أعلم، هذا غيب عند الله عز وجل، ما تعبدنا بأن ننتظر شخصاً معيناً، إنما تعبدنا بأن نقوم بالواجب، ندعو إلى الله ونتعلم ونتعبد ونجاهد هذا هو المطلوب، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، أما انتظار شخص معين فهذا لم نُتَعَبَّد به كما تفعله الرافضة، فهم منذ مئات السنين وهم عند سرداب سامراء ينتظرون مهديهم الذي لا يخرج أبداً، حتى ضحك منهم الناس وقال لهم أحد الشعراء:- ما آن للسرداب أن يلد الذي أوجدتموه بجهلكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فإنكم خلقتم العنقاء والغيلانا يقول: أنتم مجانين، منذ مئات السنين وأنتم تنتظرون! والغريب أن عندهم فرساناً وخيولاً ربطوها ينتظرونه، وكلما حصلت حركة قالوا: جاء، جاء، ويدعون في كتبهم يقولون: عجل الله فرجه وسهل مخرجه.
هل يصلح أن يكون أهل السنة ينتظرون مهدياً بهذه الطريقة، المهدي سيخرج لكن متى؟ هذا علمه عند ربي في كتاب، نحن مطالبون بأن نعبد الله بالدعوة والجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وألا ننتظر أحداً، لا ننتظر أحداً يقوم بهذه المهمة بالنيابة عنا.(209/35)
حاجة الناس في هذا الزمن بدل الاشتغال بأحاديث الفتن
بعض الناس يهربون بأحاديث الفتن من الواقع، ويهربون من العمل، وينسون أنه في أزمنة الفتن الأمر يستوجب زيادة.
مثلاً: إذا كثرت الفتن مثل زماننا هذا فليس معناه أن يترك الإنسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالعكس لقد زاد الأمر وجوباً! وليس معناه أن يترك الإنسان الجهر بكلمة الحق في زمن الفتنة، لا.
وإن زمان الفتنة يوجب أن يزيد الناس من الجهر بكلمة الحق، وإعلانها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الناس أحوج ما يكونون إليها، وإلا إذا اتضحت الأمور وبانت لم تعد هناك فائدة من الكلام، وإذا استقام الناس والتزموا بالمعروف فلا فائدة من النهي عن المنكر.
فالناس أحوج ما يكونون إلى الأمر بالمعروف إذا تركوه، وأحوج ما يكونون إلى النهي عن المنكر، إذا وقعوا فيه، وأحوج ما يكونون إلى بيان الحق إذا التبس الأمر عليهم، فإذا ظهر الأمر لم يبقَ لأحد فضل ولا كلام.(209/36)
تطبيق أحاديث الفتن على الواقع
من الأحاديث التي وردت -وكنت ذكرتها، وجاءت في بعض الأسئلة الواردة الآن- كثير من الناس يرددون حديثاً في هذه الأيام رواه مسلم في صحيحه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {يوشك ألا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قالوا: يا رسول الله: ممَ ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ما بأيديهم} .
فبعض الناس يطبق هذا الحديث على الواقع، وأنا أرى أنه ينبغى ألا يتسامح المبتدئ أو الإنسان العادي أو العامي في تطبيق هذا الحديث، فالعلماء لهم شأنهم إذا رأوا ذلك، لكن بالنسبة لنا فينبغي ألا ندخل في هذا الباب؛ لأن هذا الحديث نفسه لو تأتي إلى عالم قديم مثل النووي -مثلاً- راجع شرح الحديث في شرح مسلم قال النووي: لقد وقع هذا في زماننا، وأخبر أن العجم استولوا على العراق في زمانه ومنعوا ألا يجبى إليه شئ، هذا مثال.
مثال آخر كثيراً ما يورده الناس أيضاً في هذا الزمان وفي غيره، وهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {من أن المسلمين يصالحون الروم صلحاً آمناً، ثم يغزون وإياهم عدواً من ورائهم فيغدرون، ويأتون في ثمانين غاية تحت كل غاية ثمانين ألفاً، ويشترط المسلمون الشرط على الموت وينتصر المسلمون في النهاية} .
وهناك أحاديث أخرى من هذا القبيل.
أيضاً بعض الناس يطبقون هذا الحديث على الواقع وهذا الحديث وإن كان أهل العلم ذكروا أنه لم يقع، كما قال ابن المنير فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر قال: "أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر إلى هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد، وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمتقين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون ضعف أو أضعاف ما هو عليه الآن".
هكذا يقول ابن المنير انتهى كلامه، لكن نجد أحد المؤلفين المعاصرين وهو الغماري فسر هذا في كتاب له سماه "مطابقة الاختراعات العصرية" فسره بحلف الأمريكان والعرب لقتال الروس.
فإذاً أقول: لسنا متعبدين بتطبيق أحاديث الفتن على الواقع، لا، لا نطبق الأحاديث على الواقع بل ندع الواقع هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمر قلنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ويزيدنا الأمر إيماناً وتسليماً، أما أن نأتي نحن ونتكلف -أحياناً- في تأويل النصوص وتطبيقها على واقع معين، فأرى أن هذا لا يصلح للعلماء، وإن صلح للعلماء أو طلبة العلم المتقدمين المبرزين الفقهاء فإنه لا يصلح للعامة ولا ينبغي لهم أن يشتغلوا بهذا الأمر، مع أن هذا الأمر يدعوهم -أحياناً- إلى ترك الاشتغال بالعمل والجد والاجتهاد، وأن يعتمدوا فقط على الانتظار، والانتظار وحده لا يصنع شيئاً، بل هذا قد يوحي لهم بأن يتصرفوا -أحياناً- تصرفات غير مشروعة، بإيحاء لا شعوري فيتصرفون تصرفاً غير جيد بسبب توقعهم أن هذا هو الحال الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو نظرنا إلى الصحابة رضي الله عنهم لوجدنا أن اشتغالهم بأحاديث الفتن لم يصرفهم عن الاشتغال بالحلال والحرام، ومعرفة الشرع، ولذلك قال حذيفة رضي الله عنه: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكرها، علمه من علمه، وجهله من جهله} حتى قال حذيفة رضي الله عنه: {إن كنت لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه} والحديث متفق عليه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم جميع الفتن ومع ذلك ذكر حذيفة لنا شيئاً منها ونسي شيئاً منها.
عمرو بن أخطب يقول كما في صحيح مسلم: {صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم صعد المنبر فخطب حتى جاء الظهر، فنزل وصلى الظهر ثم صعد وخطب حتى جاء العصر فنزل وصلى العصر، وصعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم بما كان وما هو كائن فأعلمنا أحفظنا} أي أن من الصحابة من علم وحفظ ومنهم من نسي.
المشكلة إذاً مشكلة تطبيق النصوص على الواقع، كم من قوم ضلوا -مثلاً- بسبب تطبيقهم للنصوص على واقع معين، ولعل من أظهر الأمثلة المهدية، كم من قوم ادعوا المهدية في زمن بني أمية وبني العباس، ومهدي المغرب المهدي بن تومرت، ومهدي السودان محمد بن أحمد الذي ادعى المهدية، وكون مجموعة لا تزال معروفة إلى اليوم باسم الأنصار حزب الأمة كما يسمونه في السودان وغيرهم كثير، ادعوا المهدية بالباطل بسبب أنهم طبقوا النصوص على الواقع وهم ليسوا أهلاً لذلك.
ومن الطريف حديث: {نجد قرن الشيطان} الذي ذكرته قبل قليل، وأن العلماء ذكروا أن المقصود بنجد نجد العراق، من المغرضين الحاقدين من فسروه بأن المقصود نجد هذه التي نحن فيها الآن، وفسروا قرن الشيطان بالدعوات الإصلاحية التي خرجت في هذه البلاد، وهذا من سوء رأيهم وصنيعهم وفساد قصدهم.
وهناك مؤلف أحببت أن أنبه إليه في نهاية هذه المحاضرة اسمه: "مطابقة الاختراعات العصرية لما جاء به سيد البرية" لمؤلف اسمه أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، وهذا المؤلَّف طريف وغريب في الوقت نفسه، فإن مؤلفه تجشم الأمر الذي حذَّرت منه، وحاول أن يطبق النصوص على الواقع بطريقة غير صحيحة في كثير من المواضع، -مثلاً- تكلم عن قضية الطائرات والسيارات، وكما يقول: "الأوتومبيل" والقطارات والمطر الصناعي، وقضية المغاسل، وأشياء كثيرة جداً مما جاء في هذا العصر، حاول أن يبحث لها عن حديث يدل على أنها سوف تظهر، وتكلف لذلك تكلفاً عظيماً يُذَمُ ولا يُحْمد، حتى أن من العجائب أنه فسر قوله عز وجل: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] العشار هي النوق، يقول: تعطيل العشار لوجود "الأوتومبيل وبوابير" سكة الحديد، فالناس استغنوا عن ركوب الإبل لوجود السيارات وقاطرات السكة الحديدية، -مثلاً- مع أن هذا يوم القيامة، ومثله: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] هذا -أيضاً- يوم القيامة، تحشر الوحوش فيقتص للشاة القرناء من الشاة الجلحاء؛ ثم يقال لها: كوني تراباً وهو يقول: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي: جمعت في حديقة الحيوان كما هو واقع، ثم أخذ يتكلم عن حديقة الحيوان، وأنه لا يجوز جمع الحيوانات في الحدائق، إلى آخر ذلك، وفعل مثل ذلك بأحاديث كثيرة، فأردت أن أنبه إلى أن هذا مسلك خطير، والغريب أنه في آخر الكتاب لما تكلم عن الطائفة المنصورة وأنها باقية قال: -غفر الله لنا وله- فبنا وبأمثالنا، يدفع الله الضلال عن هذه الأمة، بل لا نبالغ إذا قلنا -طبعاً (نا) هذه نون الجمع لكنه عظم نفسه- لا نبالغ إذا قلنا قد وردت الإشارة إلينا والحمد لله على نعمته، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا ظهرت فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة المال؛ فالقائمون بكتاب الله سراً وعلانية كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار} يقول: فليس في مغربنا بل ولا في الشمال الإفريقي أحد قائم بالكتاب والسنة إلا أنا! هذا لا شك أنه غير صحيح.
فنقول سامحه الله وغفر الله لنا وله.(209/37)
الأسئلة(209/38)
الخلو في تتبع الأخبار
السؤال
ما رأيك في من يجعل أكثر وقته لسماع الأخبار ومطالعة الصحف خاصة في هذه الأيام؟
الجواب
لا.
العدل مطلوب، وحتى الذي يسمع الأخبار أو يقرأ الصحف يجب أن يقرأ ويسمع بتمحص، لكي لا يدخل كل شيء إلى عقله وقلبه، بل يمحص بعض الأشياء فيقبل ويرد وفق مقياس سليم دقيق.(209/39)
استئصال أمة الإسلام
السؤال
هل يمكن أن يحصل استئصال لأمة الإجابة؟
الجواب
لا يحصل إلا قبيل قيام الساعة عند ظهور الأشراط الكبرى، فيبعث الله تعالى ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين، مسها مس الحرير، وريحها ريح المسك، تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في الأرض إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(209/40)
فترة توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
هل ينعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا وجدت هذه الأدوات السبع أو الصفات السبع؟
الجواب
إذا وجدت وتحققت فعلاً فحينئذٍ ما عاد يؤمر بمعروف وينهى عن منكر، وحينئذٍ قربت الساعة، فيرسل الله عز وجل ريحاً طيبة تقبض أرواح المؤمنين، ويرفع القرآن من المصاحف وصدور الرجال، ويأتي ذو السويقتين من الحبشة إلى الكعبة فيهدمها، فحينئذ هذا آخر الزمان ولا يبقى أحد في الأرض يقول: الله الله.(209/41)
عبادة بعض أهل الجزيرة للشيطان
السؤال
هذا يسأل عن الحديث الذي ذكرته قبل قليل، وذكر عبادة الأصنام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في الجزيرة؟
الجواب
أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، بعضهم قال: أيس الشيطان، لكن مع يأسه فإن الله أخبر أن الشيطان سوف يعود إليه الأمل من جديد، يعود إليه الأمل في آخر الزمن إذا رأى فساد الناس، وبعضهم قال: أن يعبده المصلون يعني المؤمنون التائبون العابدون، هؤلاء لا ينحرفون إلى الوثنية، بل يعبد الشيطان والأوثان قوم كانوا على الشرك أو أنشئوا عليه إلى غير ذلك.(209/42)
حديث الجساسة
السؤال
في أي كتاب يوجد حديث الجساسة؟
الجواب
يوجد في صحيح مسلم.(209/43)
فتن الشهوة
السؤال
افتُتنَ بعض المرات عن طريق التلفون بالنساء، لماذا لم تشيروا إلى هذه الفتنة؟
الجواب
هذه فتنة الأهل والمال، فتنة الشهوة، وتحتاج إلى حديث خاص.(209/44)
مدح الخصال الطيبة في الكفار
السؤال
ما رأيك في من يعجب بالتزام الكفرة في مواعيدهم ويمدحهم؟
الجواب
مدح الكفار بما فيهم من الخصائص الطيبة، هذا من العدل ولذلك لما ذكر كـ عمرو بن العاص رضي الله عنه، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {تقوم الساعة والروم أكثر الناس قال: رضي الله عنه: أما إنهم على ذلك، إن فيهم خصالاً خمساً وذكر من خصالهم: أنهم أصبر الناس عند المصيبة وأسرع الناس إفاقة، وأعدل الناس مع المسكين والفقير، وأرحم الناس على الولد، وقال: خامسة حسنة جميلة: أمنعهم من ظلم الملوك} يعني: أن فيهم من القوة والاجتماع ما يمنعهم من أن يتسلط عليهم باغٍ أو طاغٍ، فذكر الكفار بأن فيهم خصالاً حسنة هذا لا يعني الإعجاب بهم.(209/45)
التمسك بالدين وقت الفتن وغيره
السؤال
عندما حصلت أحداث أزمة الخليج دب إلى الناس في البلاد الهلع والخوف وحسبوا لهذه الأحداث ألف حساب، وبالغوا في هذا الأمر حتى ارتكبوا مخالفات شرعية، وقد استبان خلل كثير من الناس وظهر لهم بعض الأغلاط والأخطاء سواء عن جهل أو خوف، مثل الخوف على ممتلكاتهم وأموالهم والخوف من أعدائهم والتهيؤ للفرار وضعف التوكل وعدم الثقة بالله عز وجل؟
الجواب
نعم، هذه نقطة مهمة جداً، حتى حين تنظر إلى واقع الناس تجد أنه لما حصلت الأحداث زاد المصلون في المساجد، ففي مسجدنا -مثلاً- زاد عدد المصلين في صلاة الفجر النصف، بعد ذلك بدأ العدد يتناقص حتى آل الأمر وأصبح شيئاً عادياً، لماذا؟! أنا أعتقد أن عذاب الله عز وجل لن يندفع عنا بقوة من قوى الأرض، إذا كنا مؤمنين فعلاً ونعتقد أن العذاب إن نزل بنا فإنما ينزل بذنوبنا، فهل نعتقد أن عذاب الله يدفع عنا بالوسائل المادية! فالله عز وجل عنده من الجنود مالا يعلمه إلا هو: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] .
فإذا كتب على أمة من الأمم العذاب فوالله لا تدفع عنها قوة مهما تكن، فينبغي للعبد أن يخاف الله عز وجل وأن يظل مرتبطاً بهذا، وأن يكون في قلبه توكل على الله وثقة به وخوف منه أن يراجع نفسه ويصحح أعماله.
وأنبه إلى أمر من هذه الأمور: فالله عز وجل لما ذكر العقوبة للأمم في كتابه ذكر أنه يأخذ الأمم على غفلة، {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] {ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] إذاً العذاب إذا أتى يأتي على غفلة، فإذا رأيت الأمة تأتيها المحن والفتن والزلازل والتنبيهات مرة بعد مرة وهي تنتبه لحظة ثم تعود إلى نومها، فَخَفْ من ذلك.
علينا أن نوعي الناس وأن نهز قلوبهم، ونقول لهم: عودوا إلى الله عز وجل، توبوا إلى الله توبة نصوحاً.(209/46)
يا أهل الكويت
في هذا الموضوع خطاب صريح لأهل الكويت يتناول قضية الغزو العراقي: مسبباته، وكيفية التعامل مع الابتلاءات والذنوب التي اقترفناها حتى حلت بنا العقوبة، وما هو المخرج من هذه الأزمة.(210/1)
وقفات مع أهل الكويت
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد أيها الإخوة الكرام: هذا هو الدرس السابع عشر من الدروس العلمية العامة، وإن كان هو الدرس الأول في هذا المسجد، ونسأل الله تعالى أن تكون نقلته إلى هذا المسجد نقلةً مباركة، وهذه ليلة التاسع والعشرين من شهر المحرم لعام 1411 للهجرة.
أيها الإخوة: لقد تحدثت في المجلس السابق عن جانب من الأحداث التي عصفت بمنطقة الخليج وما حولها، وقلبت الموازين في نفوس كثيرٍ من الناس، وأحدثت هزةً لكثيرٍ من المجتمعات، وكان أول ضحيةٍ لهذه الفعلة هو شعب الكويت، وهو جزءٌ لا يتجزأ من هذه الأمة، نرتبط معه برابطة الدين، والعقيدة أولاً، ثم برابطة الجوار ثانياً، ثم رابطة النسب ثالثاً؛ ولذلك فقد رأيت من المناسب أن أخصص هذه الحلقة للحديث مع أولئك الإخوة، ومن ثم جعلت عنوانها (يا أهل الكويت) .
أهل الكويت وأبناء العمومة هل تشكون جرحاً فلا نشكو له ألما إذا حزنتم حزناً في القلوب لكم كالأم تحمل من همِّ ابنها سقما وكم نظرنا بكم نعماً يجسمها لنا السرور فكانت عندنا نعما ونبذل المال لم نُحمل عليه كما يرعى الكريم حقوق الأهل والذمما صبراً على الدهر إن جلت مصائبه إن المصائب مما يوقظ الأمما إذا المقاتل من أخلاقهم سلمت فكل شيء على آثارها سلما هل سمعتم بإنسان ٍيُرَحَّبُ به في داره، وبيته، ومنزله، إن الترحيب إنما يكون بالغريب البعيد أو الضيف الطارئ، أما الأهل فهم يرحبون ويحيُّون، ولكن هذه الحدود، والسدود، والعوازل المصطنعة التي رسمها الاستعمار، ومزقت المسلمين شر ممزق، وفرقت بين بعضهم بعضاً، وأوجبت علينا أن نقول لكم: مرحباً، وإننا إذ نفسح لكم في قلوبنا، وفي بيوتنا ونتقاسم معكم ما ملكت أيدينا، إنما نرد إليكم بعض الجميل الذي قدمتموه لنا، ونقضي لكم بعض الديون.
ولقد علم المطلعون على أحوال الشعوب الإسلامية في المشرق والمغرب، أن أموال الأثرياء الصالحين من أهل الكويت، كانت وراء قيام كثيرٍ من المشاريع الخيرية الدعوية، فكم من مسجد بنت، ومدارس أسست، ومستشفيات أقامت، وحفرت من آبار، وطبعت من كتب، ووظفت من دعاة، فهذه صنائع المعروف التي قدمتموها يا أهل الكويت، وهي بإذن الله تقيكم مصارع السوء، فتكون نوراً لكم في طريقكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: {والصبر ضياء، والصدقة برهان} .(210/2)
المصيبة مصيبة الدين
يا أهل الكويت: إن العاقل من يقول: إن أصبتُ في مالي، أو رزئت في أهلي، أو تضررت في بدني، فلن أصاب في ديني وصبري واحتسابي، ولسوف أصبر حتى أحول هذه المحنة إلى منحةٍ من الله تعالى، والمغبون كل الغبن هو من خسر دنياه، أو بعض دنياه، ثم جزع وتأفف وتضجر، وتسخط على قضاء الله تعالى وقدره، فدمر آخرته بيده، وأخرب بيته بيمناه، فلا دنياه رجعت، ولا آخرته سلمت، أما المؤمن الصابر، فقد فاز بالصبر كما فاز بالأجر.
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما يصيب المؤمن من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا غمٍ ولا أذى إلا كفر الله بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها} متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: {ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة} رواه البخاري.
وكتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه علي رضي الله عنه يسأله كيف أنت؟ فرد عليه علي من قلب المحنة، ولب المصيبة بأبياتٍ من الشعر يقول فيها: فإن تسألنِّي كيف أنت فإنني جليدٌ على عرض الزمان صليب عزيز عليَّ أن تُرى بي كآبة فيفرح واشٍ أو يساء حبيب فأنا أتحمل المصائب، وأتجلد لها فلا يظهر على وجهي حزنٌ أو كآبةٌ، يحزن لها صديقٌ أو يسر لها عدو.
وكان رجل من أهل الأندلس يعيش في نعمةٍ ما بعدها نعمة، مالٌ، وأهلٌ، وولد، وحبورٌ، وقصورٌ، وجمالٌ، وكمال، فزالت عنه هذه الأشياء كلها فكان يقول: صبرت على الأيام لما تولَّت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت فيا عجباً للقلب كيف اصطباره وللنفس بعد العز كيف استذلت وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت تاقت وإلا استذلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت وقلت لها يا نفس موتي كريمةً فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت إذاً يتذكر الإنسان هذه المعاني، فيدرك أن هذا منطق من يبتلى أو يصاب بعد أن يكون الله تعالى وسع عليه في يوم من الدهر.
ولذلك يقول ابن الوردي أيضا وهو من شعراء بني أمية، يصف حاله بعد أن تغير، وتقلبت به الأيام يقول: ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبة أو رهبة عظماؤها فلما انتهت أيامنا علقت بنا شدائد أيام قليل رخاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجه رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها وكان إلينا في السرور ابتسامها فصار علينا في الهموم بكاؤها(210/3)
الابتلاء بالحسنات والسيئات
والابتلاء سنة الله تبارك وتعالى، يبتلي الناس بالحسنات والسيئات، كما قال عز وجل {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] .
وقال الله تعالى عن بني إسرائيل في آياتٍ تزلزل الجبال الراسيات وفي سياقٍ يهز القلوب هزاً، وهو ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، قال سبحانه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] انظر كيف حرم الله تبارك وتعالى عليهم أن يصطادوا السمك في يوم السبت، وأحله لهم فيما وراء ذلك، فكانت السمك تأتي في يوم السبت كثيرة، ظاهرةً على سطح الماء، كبيرةً مغرية، أما فيما عدا يوم السبت، فإنه لا يأتيهم شيءٌ ابتلاءً لهم على كفرهم، وعنادهم، فَنُهوا عن صيدها في ذلك اليوم فلم ينتهوا، فعاقبهم الله عز وجل، قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:164-165] فذكر الله عز وجل نجاة الآمرين بالمعروف الناهين عن السوء، وذكر هلاك الباغين المعتدين الفاسقين، وسكت عن الساكتين، فلم يبين هل هم في الناجين أم في الهالكين، قال تعال: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:165-168] .
إن الله تعالى يبتلي بالحسنات كما يبتلي بالسيئات، ويبتلي بالغنى، ويبتلي بالفقر، يبتلي بالصحة، ويبتلي بالمرض، يبتلي بالنصر، ويبتلي بالهزيمة، يبتلي بالقوة، ويبتلي بالضعف، كل ذلك ابتلاءٌ وامتحان ولذلك قال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] وقال تعالى: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15-16] كلا! ليس هذا هو المقياس، فالغنى يكون للمؤمن والكافر، والصحة تكون للطائع والعاصي، والمال يكون للفاسق والمؤمن، وأما المقياس الحق فهو الإيمان بالله وتقواه وتصريف هذه النعم فيما يرضي الله سبحانه.(210/4)
ابتلاء المؤمن
واعلم أخي المسلم أن الله تعالى قد ينعم على العبد بالبلوى فيكون المرض، أو الخوف، أو الحزن، أو فقدان المال، أو الأهل، أو بعض ما في اليد، يكون ذلك سبباً في نعمٍ كثيرةٍ للعبد، وكم من نقمةٍ في طيها ألفُ نعمة، فقد يكون ذلك سبباً في توبةٍ إلى الله، أو مراجعةِ حساب، أو تصحيح مسيرة، أو تعديل خطأ، (وربما صحت الأبدان بالعلَلِ) كما أن الله تعالى قد يبتلي آخرين بالنعم، يسوقها إليهم سوقاً، ويصبها عليهم صباً؛ لينظر كيف يعملون.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم ولهذا لما حدث لسليمان عليه السلام ما حدث من نعمة الله تعالى، وأعطاه الله ملكاً عظيماً لم يكن لأحدٍ من قبله ولا لمن بعده كما دعا بقوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] وسخر الله له الشياطين يعملون بأمره، وسخر له الريح تجرى بأمره رخاءً فقال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] وكذلك لما سمع عليه السلام كلام النمل وهمس بعضها لبعض وهي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] فشعر بجليل نعمة الله تعالى عليه، إذ سخر له ما سخر، وعلمه منطق الطير، فعرف ما تقول النمل، {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] .(210/5)
الابتلاء سنة الله في خلقه
يا أهل الكويت: إن ما أصابكم ليس بدعة من الأمر، ولا غريباً من السنن؛ بل هو سنة الله تعالى في عباده قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .
فيومٌ علينا، ويوم لنا ويوم نُساء ويوم نُسر قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] وقال سبحانه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويفك عارياً، ويشفي سقيماً]] .
إن المؤمن ينتظر هذا وذاك، فإن اغتنى ووسع الله تبارك وتعالى عليه، لم يصبه الأشر والبطر، ولم ينس حق الله سبحانه وتعالى في المال، وإن افتقر، ولم يحزن ولم يجزع؛ بل هو يعبد الله تعالى بالصبر على الضراء، والشكر على النعماء، عن أبى يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} رواه مسلم.(210/6)
أمورٌ تعين على الصبر في النكبات
إن مما يساعد المؤمن على الصبر في النكبات والأزمات والمحن والملمات أمور:(210/7)
انتظار الفرج عبادة
يا أهل الكويت: إن انتظار الفرج عبادة، فثقوا بالله، وأيقنوا يقيناً لا يخالطه شك أن على الباغي تدور الدوائر، عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من ذنب أحرى أن يعجل الله العقوبة لصاحبه في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي} رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي والحاكم وابن حبان وغيرهم، فالباغي مرتعه وخيم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23] وهذا كان معروفاً حتى لدى العرب في الجاهلية قبل أن يستنيروا بنور الإسلام، فكانوا يعرفون أنه ما بغى أحد على أحد؛ إلا عاجله الله تعالى بالعقوبة في الدنيا، فاطمئنوا لذلك وثقوا به، واعلموه علم اليقين كما تعلمون أن الليلة قبل غد، وكما تعلمون أن اليوم بعد الأمس، ثقوا بالله تعالى أن الذي طغى وبغى، وتجاوز حده، واعتدى على الآمنين الأبرياء، لابد أن يأخذه الله تعالى أخذ عزيزٍ مقتدر، وهذه سنة الله تعالى في خلقه، ونقول -إن شاء الله- تحقيقاً لا تعليقاً.(210/8)
المصيبة ليست مصيبة الكويت فقط
يا أهل الكويت إن المصيبة ليست مصيبتكم، وإن كنتم بعض ضحاياها، إنها مصيبة الأمة كلها من أدناها إلى أقصاها، وتباً لمسلم لا يشعر بمصائب إخوانه المسلمين في كل مكان.
أفي الضحى وعيون الجند ناظرة تسبى النساء ويؤذى الأهل والحشم ويسفك الدم في أرض الكويت ضحىً وتستباح بها الأعراض والحرم ويستحف عقول الناس طاغية أعداؤه الدين والأخلاق والشيم مَوِّهْ على الناس أو غَالِطْهُمُ عبثاً فليس تكتمهم ما ليس ينكتم كفا الجزيرة ما جروا لها سفهاً وما يحاول في أطرافها العجم إنه جرح في قلب كل مسلم تصديقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} .(210/9)
تصور حدوث مصيبة أعظم
تصور أن المصيبة كان يمكن أن تكون أعظم مما كان، ففاقد المال -مثلاً- يتصور أنه كان يمكن أن يفقد الولد أيضاً، وفاقد الولد يتصور أنه كان يمكن أن يفقد النفس أيضاً، ومن أصيب بمرضٍ هين يتصور أن مرضه كان يمكن أن يكون مرضاً خطيراً مستعصياً لا علاج له، ومن كان مرضه غير مؤلمٍ يتذكر الذين يتقلبون الليل لا ينامونه من شدة الألم، وهكذا كل من أصيب بمصيبة، تذكر من هو أشد منه مصيبةً منه، فإذا زاد تذكره حتى يتذكر المعذبين في نار جهنم وما يقاسون من الآلام، والسعير، والحر الذي لا يمكن أن يتصوره إنسان في هذه الدار، فيتضرع لله تعالى أن لا يجمع له بين عذابين وأن لا يجعل في قلبه خوفين؛ خوفٌ في الدنيا، وخوفٌ في الآخرة، وعذابٌ في الدنيا، وعذاب النار.
وقد يدفع الله تبارك وتعالى عنك بهذه المصيبة شراً لم تكن تتصوره أو تتوقعه، تصور معي أن شعباً هُجِّرَ من بلده، وأخرج من داره بغير حق، وشرد من وطنه، فربما كان هذا الوطن بعد حينٍ ميداناً لحربٍ تقضي على الأخضر واليابس، أو محلاً لأسلحةٍ كيماوية تدمر الإنسان تدميراً، أو ميداناً لقنابل جرثومية لا تبقي ولا تذر، فحينئذٍ يتذكر الإنسان أن كل مصيبة يمكن أن يكون في طيها نعمة، وأنه إذا ما ابتلي بمصيبةٍ يتذكر ما هو أكبر منها.(210/10)
احمد الله على نعمٍ كثيرة
أخي الكريم تذكر النعم الأخرى التي أعطاك الله تبارك وتعالى ومنحك إياها، فالعقل نعمة، والسمع نعمة، والبصر نعمة، والأعضاء كلها نعم، والنفس نعمة، والحياةُ نعمة، وفوق ذلك كلِّه، وأعظم منه وأكبر، وأجل نعمة الإيمان والإسلام.
ولذلك لما قيل لـ عروة بن الزبير رضي الله عنه بعد أن مات أحد أولاده بالفجأة، وأفاق من عملية جراحية قطعت فيها رجله من الآكلة فقيل له: احتسب عند الله ولدك فلاناً، فرفع رأسه إلى السماء وقال: [[اللهم لك الحمد، اللهم إن كنت قد أخذت فقد أعطيت، وإن كنت قد ابتليت فقد عافيت]] نعم أخذ الله تعالى منه عضواً وأعطاه أربعة، وأخذ منه ولداً وأعطاه بنين عددا، فلذلك شكر الله تبارك وتعالى، ولم ينس نعمه الأخرى.(210/11)
معرفة أجر الصابر
من الأمور التي تعين على الصبر، معرفة أجر الصابر، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] فذكر الله تعالى أن عليهم صلاةً منه، حيث يذكرهم في الملأ الأعلى، ويثني عليهم بصبرهم فيقول لملائكته: انظروا إلى عبدي، أخذت منه ماله فصبر، أخذت منه ولده فصبر، ولم يكن قوله إلا أن قال: ربي لك الحمد، أشهدكم أني قد كتبت له الجنة، وبنيت له بيتاً في الجنة، وسميته بيت الصبر، أو بيت الحمد.
حتى إن أهل العافية في الدنيا إذا صاروا إلى موقف القيامة، ورأوا ما أعطى الله تبارك وتعالى الصابرين، من أنه يصب عليهم الجزاء والأجر صباً بلا حسابٍ، ولا وزنٍ، ولا كيلٍ، يتمنى أهل العافية حينئذٍ أن تكون جلودهم قرضت بالمقاريض، وأن يكونوا عاشوا في هذه الدنيا على جمرٍ، حتى يكون لهم مثل ذلك الأجر.(210/12)
الجزع لا يرد الذاهب
من الأمور المعينة على الصبر: معرفة أن الجزع لا يرد الذاهب، ولا يرفع النازل، وإنما يزيد في الحسرة والقهر، ويضاعف المصيبة، ويملأ القلب هماً وغما، وحزناً وكمدا، خاصة وأن الله تبارك وتعالى يتخلى عن الجازعين، ويتركهم وأنفسهم، فتتلاعب بهم الوساوس، والهواجس قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] أما من يجزع؛ فالله تبارك وتعالى ليس معه بل يتركه لنفسه ولشيطانه.(210/13)
الصبر من أسباب زوال المكروه
من الأمور أيضاً: معرفة أن الصبر من أعظم أسباب زوال المكروه، ولذلك أمر الله تبارك وتعالى بالاستعانة به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] وقال عليه الصلاة والسلام: {والصبر ضياء} ، وهذا يوسف صلى الله عليه وسلم يفقد أبويه، ويعيش في الجب، ثم يعيش غربةً في مصر، ثم يعيش آلاماً جسيمة في بيت العزيز، ثم يطعن في عرضه، ويُودَعُ في السجن، فيفقد كل شيء، ويفقد المال، ويفقد حنان الوالد، يفقد الحرية، ويفقد البلد، ويفقد كل شيءٍ إلا إيمانه بالله عز وجل، وما هي إلا سنوات حتى يتحول إلى نعمةٍ ما بعدها نعمة، ويصبح على خزائن الأرض ملِكاً لمصر، حتى يأتيه إخوته يطلبون منه ما يطلبون ويقول بعد ذلك مفسراً ما حدث له: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ويقول تعالى: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] .
إذاً، الصابر يملك قلباً قوياً، يستطيع به أن يقاوم الشدائد ويبدأ به حياةً جديدة، ويصابر ويثابر حتى يصل إلى ما يريد، أما الجزوع فإنه ذو قلبٍ يائس، وقلب محطم، وقلب لعبت فيه العواصف، ولعبت فيه المحن، وقلب لعبت فيه الشدائد، وقلبٌ لا يملك التوكل على الله عز وجل فيأويه، ويرده ذلك إلى اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل.(210/14)
الأمل يعيين على الصبر
من الأمور المعينة على الصبر أيضاً: الأمل، فإن الإنسان يعيش على الأمل، ولولا الأمل لبطل العمل قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] قال الشاعر: أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحةُ الأمل لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس، اليائس ميت، واليأس كفر، وينبغي للإنسان مهما حصل له؛ أن يدرك أنه يعيش على آمال عريضةً يعلقها بالله عز وجل، وينتظر من الله تبارك وتعالى كل ما يرجو ويأمل، ويحذر منه كل ما يخاف.(210/15)
النفس وما تعودت
الأمر الأخير من الأمور المعينة على الصبر: أن يدرك الإنسان أن النفس وما تعودت، فإذا عودت النفس على الصبر؛ اعتادت، وإذا عودتها على الجزع؛ ظلَّت في قلقٍ مقعدٍ مقيم قال الشاعر: والنفس طامعةٌ إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليلٍ تقنع ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} فإن العبد إذا عود نفسه على الصبر والتحملُ؛ اعتادت وصبرت وتحملت {ومن يتصبر يصبره الله} أي: أن الصبر عطاءٌ يعطيه الله تبارك وتعالى من يعلم أنهم يجاهدون قلوبهم على الصبر، ولذلك قال: {وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} .(210/16)
اللجوء إلى الله تعالى والانكسار بين يديه
قال الله عز وجل {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] أي: أن من يصبر على المصيبة؛ يصبره الله عز وجل، ويجعل في قلبه روحاً، وطِيباً، ويقيناً، ويسليه عما فقد، ومن ذلك الدعاء الخاشع المتضرع لله عز وجل، فإنه من الانكسار بين يدي الله تعالى ومن أقرب الأسباب والزلفى إليه.(210/17)
المصائب سببها الذنوب
يا أهل الكويت، بل يا أهل الإسلام الذين أصيبوا جميعاً بنكبة إخوانهم: إن الله جل وعلا يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] ويقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ويقول: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155] وهذا يقتضي ضرورة المراجعة، فهذه المصائب والنكبات، ليست إلا ببعض ذنوبنا، وأثراً من جرائمنا وأخطائنا، وجزءاً من عقوباتنا حين قصرنا وفرطنا في ديننا.
يقول أحد المشردين الذين طردوا من بلادهم: بكى عليَّ الصدى واللحن والوتر ولم أزل لعذاب الشعر أنتظر أَوْمَتْ إليَّ سواقيه فقلت لها مات الربيع ومات العطر والزهر فلا تظني صلاة الوحي آتية إن المصلين للإلهام قد عبروا إنا غريبان ساق الظلم أدمعنا إلى بلاد بها يستصرخ القدر ولا ديار ولا أهل ولا وطن ولا حياة ولا عيش ولا عُمْرُ مشردون بلا تيه فلو طلبوا تجدد التيه في الآفاق ما قدروا يلقى الشريد فجاج الأرض واسعة لكنهم بمدى أنفاسهم حشروا في خيمة من نسيج الوهم لفقها ضمير باغ على الإسلام يأتمر أوهى وأوهن خيطاً من سياسته لو مسها الضوء لانقدَّت بها السُّترُ لعلها غضبة الرحمن إن لنا درباً تعالت به الصيحات والنذر سرنا بعيداً وحدنا عنه فاختلطت بنا الدروب وصبت فوقنا الغِيَر لعلها صيحة جاءت معاتبة ولا تكاد لها الأعناق تنكسر هذه المصائب تعليم، وهي تأديب، وهي تربية، فقد يسمع الإنسان الموعظة من على المنبر، أو يسمع الكلمة تتلى، أو الآية تقرأ، أو الحديث يذكر، فيمر به دون أن يتوقف، ودون أن يصيخ له سمعاً، أو يصغي له قلباً، أو يقف، أو يعتبر، ولكنه يرى هذه المصيبة تنزل به، أو بإخوانه، فتهزه هزا وتذكره أن الأمر جدٌ:- الأمر جد وهو غير مزاح فاعمل لنفسك صالحا يا صاح {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * ومَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13-14] النذر التي كان يقولها الصالحون، والتحذيرات التي كان يطلقها المؤمنون، والآيات التي كانت تقرع أسماعنا، جدٌ لا هزل فيها بحالٍ من الأحوال، ومن لم يصدق بالقول فإنه يصدق بالفعل، وها هي النذر تترى من بين أيدينا، ومن خلفنا، وهذه بعض ذنوبنا وما أكثر ذنوبنا!(210/18)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأخيراً: فإن من أعظم المنكرات التي عمت وطمت في بلادنا كلها من أقصاها إلى أقصاها، وكل بلاد الإسلام لنا بلاد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصبحنا نؤمن بما يسميه الغربيون (بالحرية الشخصية) في أوروبا -والعياذ بالله - بعض المسلمين الذين هاجروا إلى هناك، وتزوجوا، تجد المسلم منهم تأتي ابنته بصديقها وتنام معه بإحدى الغرف، فلا يستطيع الأب المسلم أن ينكر عليها، ولو ضرب الأب المسلم ولده ضربةً خفيفةً على رأسه، فإن الطفل الذي عمره عشر سنوات يرفع السماعة على البوليس ليأتي ويأخذ الأب ويفتح معه محضر تحقيق، لماذا تضرب الولد وما هي الأسباب، وقد يعاقبه على ذلك!! فانخدعنا بهذه الحرية الزائفة، وأصبحنا نؤمن بأن كل واحدٍ يفعل ما يحلو له، فإذا رأيت إنساناً يفعل منكراً، فأولاً: تستحي أن تنكر عليه، ولو رأيت إنساناً ينكر عليه، لربما قلت: يا أخي دعه، مالك وماله، مالك ومال الناس (خليه على راحته، على حريته، اترك هذا الأمر) .
فالعجب كل العجب أيها الإخوة! أننا في الوقت الذي تركنا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحولنا إلى النقيض، فأصبحنا في حالاتٍ كثيرة نأمر بالمنكر وننهى عن المعروف، وهذا لابد منه، لأن الإنسان لابد له أن يأمر وينهى، فإن لم يأمر بالمعروف أمر بالمنكر، وإن لم ينه عن المنكر نهى عن المعروف.
أرأيتم كيف إن مجتمعاتنا اليوم أصبحت تستغرب صلاح بعض الشباب؟! فإذا رأينا شاباً يعفي لحيته، أو يقصر ثوبه ضحكنا، وقلنا ما هذا؟! هذا مجنون، هذا عنده أفكار غريبة، هذا متطرف، وإذا رأينا فتاةً تلبس غطاءً على وجهها، وتغطي سائر جسدها، وتلبس قفازين بيديها، وتلبس العباءة وهي تخرج للجامعة، ضحكنا، وقلنا: ما هذه التي تمشي كأنها خيمة، هذه تريدنا أن نعود إلى عصر الحريم! والناس في القرن العشرين، وهذه تلبس عباءة، وغطاء على وجهها، فأصبحنا نأمر بالمنكر وننهى عن المعروف، بهذه الطريقة، وإذا أراد الشاب أو الفتاة أن يهتدي؛ وجد مائة عقبة وعقبة في طريقه، وأول من يقف في طريقه أحياناً الوالد والوالدة والبيت.
فهذه من أعظم المنكرات التي يجب أن نحدث منها توبةً صادقة، وعلاج كل ما سبق: هو أن نرجع إلى الله عز وجل القائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فيجب أن نقبل على الله تعالى بقلوبٍ قد انكسرت من هول المصيبة، وأقول: المصيبة مصيبتنا جميعاً، وندرك أن الدور علينا، أي إذا كان أحدنا يقول: هذه مصيبة الإخوة في الكويت نقول له: الدور علينا، والمصائب، والمعائب، والمنكرات التي أتحدث عنها، موجودة في كل بلد إسلامي، سواء هذا البلد الذي نحن فيه أم الكويت أو جميع البلاد الأخرى، وإن كانت توجد بنسبٍ متفاوتةٍ تكثر أو تقل.(210/19)
التمكين للكافرين والفاسقين في جزيرة العرب
لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُخرجَ المشركون واليهود، والنصارى من جزيرة العرب، حتى رأينا الكنائس بأعيننا في دول الخليج العربي، وهي تضارع المساجد في بنائها، وفخامتها وتصميمها وكثرتها، ورأينا المدارس التنصيرية، وكل أمةٍ من الأمم الكافرة في بعض دول الخليج العربي لها مدرسةٌ أو مدارس، فالهندوس لهم مدارس والسيخ لهم مدارس، والمجوس لهم مدارس، والعلمانيون لهم مدارس، والنصارى لهم مدارس، وهلم جرا.
ومكنَّاهم من ممارسة نشاطاتهم في الدعوة إلى دينهم، من خلال النشرات والمجلات، وبعض البرامج، والمدارس كما ذكرت، إلى غير ذلك من الوسائل التي استغلوها أبشع استغلال في تحويل أبنائنا عن الإسلام وجعلهم بلا دين.(210/20)
الأحزاب العلمانية
إن الأحزاب العلمانية هي جزءٌ من الكفر والفسوق التي تنادي بدولةٍ لا دين لها، ومجتمع لا دين له، كيف مكنا لها وسمحنا بوجودها وأذنا لها، وجعلناها أحزاباً رسمية، وأدخلناها في برلماناتنا، وجعلناها تقود جزءاً من الشعب، بل إن الأمر آل أيها الإخوة: إلى أن المواطنين في بعض البلاد من المسلمين، يعطون ولاءهم لحزبٍ علماني، فقد يوجد في البلد حزبٌ علماني يعلن في برنامجه أن الدين لا علاقة له بالسياسة، والدين لا علاقة له بالحياة، ونحن نسعى في تطوير الاقتصاد، وفي تطوير الزراعة، والصناعة، ومن أجل حرية المرأة، وفي كذا، وفي كذا، ثم يقولون هذا برنامجنا، فتجد كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام يصوتون لهذا الحزب، ويعطونه ولاءهم، ويصوتون لمرشحيهم في الانتخابات، وبأسبابهم يصلون إلى البرلمانات، ومجالس الأمة، ويكونون حرباً على الإسلام وأهل الإسلام، ولا شك أن تطوير الاقتصاد واجب، وتطوير الزراعة واجب، وتطوير الصناعة واجب، والعناية بحاجات الناس الدنيوية كل ذلك واجب، لكن هذا كله ينبغي أن يكون في إطار الإسلام والعقيدة الإسلامية، والله تعالى قد فصل لنا في الكتاب كل شيء.(210/21)
ترك الصلاة
ومن المنكرات الكبرى التي نقع فيها ترك الصلاة، وترك الصلاة ردةٌ عن الإسلام، فمن ترك الصلاة بالكلية فهو خارج عن الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وقد روى أهل السنن بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وخذ إحصائية أي بلد من البلاد، ثم انظر كم عدد رواد المساجد في هذا البلد، قد لا يصل عدد رواد المساجد إلى (20%) من عدد المواطنين، ولنفترض أن (20%) أيضاً يصلون في بيوتهم، أو أماكن عملهم، فهل يصح أن نقول بأن من المسلمين (60%) لا يؤدون الصلاة بالكلية؟! لا في البيت، ولا في المسجد، ومعنى ذلك أنهم يرتكبون كفراً بالله العظيم بتركهم الصلاة، ثم بعد ذلك نعجب كيف تصيبنا المصيبة؟! وكيف تنزل بنا النازلة؟! وهذا لا يكون.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] .(210/22)
الظلم وتفاوت الطبقات بين الشعوب
أنت ترى في مجتمعاتنا غنياً يملك القصور الفارهة، والسيارات الفخمة، والأموال الطائلة، والأرصدة الهائلة، والمزارع الواسعة، وترى إلى جوار ذلك فقيراً يسكن في كوخٍ، وقد لا يجد لقمة العيش التي يقتات بها، أو يطعم بها بنيه، وهذا من أسباب سخط الله تبارك وتعالى على القرى، فإن الله تعالى ما أعطانا الأموال حتى نبني بها القصور ونفاخر بها، ونمتلك بها الأماكن الضخمة في بلاد أوروبا، وأمريكا، وفرنسا، وإنما أعطانا المال حتى ننفقه في سبيله ونقوم بحقه جل وعلا فيه.(210/23)
الربا وأكل الحرام
إن الربا ما كان في مالٍ إلا محقه وأتلفه بحالٍ من الأحوال، واقتصادنا في بلاد العالم الإسلامي كله، إنما يقوم على الربا وهذه البنوك التي تصادم منارات المساجد في كل مكان، هي محادةٌ لله تعالى ورسوله، وهي بيوت الفساد والرذيلة والمعصية، ووجودها هو إعلانٌ صريحٌ صارخٌ للحرب على الله عز وجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:178-179] أينا لم يدخل جيبه درهمٌ من ربا، أينا لا يمتلك في البنك حساباً يضارب فيه بصور بعضها ربوية، وقد يأخذ من البنك فوائد على إيداعات بالربا، أي مسلمٍ اليوم خاصة من الأثرياء والتجار، يتحرى ألا يدخل جيبه إلا قرش من حلال، حتى لو ضاعت عليه بعض الصفقات.
فلينظر العاقل، وليعتبر وليتعظ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن كل جسم نبت على سحت فالنار أولى به} وكل مال كان من الربا فإن مصيره في هذه الدنيا الخسار والبوار، وكم من تجار في بلادنا زالت تجارتهم، وأقفرت أيديهم، وصفرت، وأصبح الواحد منهم لا يجد مائة ريال يشتري بها حاجته اليومية، ولو بحثت لوجدت أن السبب هو الربا أو منع الزكاة.(210/24)
فساد الأخلاق
فساد الأخلاق وما أدراك ما فساد الخلاق؟! قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] فشهوات البطن، وشهوات الفرج، التي أصبح كثيرٌ من المسلمين خاصةً في دول الخليج العربي يركضون وراءها، وحين تذهب إلى تلك البلاد، وتنظر في الشواطئ، حتى في بلادنا نحن؛ فإنك ترى ما لا يسرُ بحالٍ من الأحوال، وفي المزارع، والفنادق، والإسكانات -أحياناً- إذا رأى الإنسان بعض ذلك، أو سمع من رأى، فإنه يتوقع العذاب العاجل، حتى لقد وصل الحال إلى أنك -أحياناً- قد تجد النساء عاريات على شواطئ البحار، وبجوارهن الشباب وهم أيضاً شبه عراة.
وفي بعض الصحف والمجلات، كنت أقرأ ما يكتبونه للفتاة الكويتية، كيف تستطيع أن تصل إلى الشاب إذا رأته على شاطئ البحر لتمارس معه الجريمة، فيقولون مثلاً: أظهري يوماً من الأيام أنك تحسين بصداعٍ في الرأس، ثم تأتين له وتقولين إنني بحاجة إلى المساعدة؛ لأنني أحس بصداع وتكون هذه بداية، حتى تفعلي معه ما تشائين، هذا الأمر لم يعد سراً، ولم يعد مقصوراً على بيت من البيوت، أو على أسرة من الأسر، بل أصبح أمراً ظاهراً مشهوراً، وفي عدد من هذه البلاد يتحدث الناس به وكأنه ليس سراً، بل لقد حدثني بعض الإخوة: أن بعض البلاد التي قل دخلها من البترول أصبحت تتاجر باستقدام العاهرات من بلاد كافرة، وتتيح الفرص في الأسواق الحرة للشباب، حتى يكون هذا سبباً في إقبالهم على تلك الأسواق وشرائهم منها، خاصةً حين تكون أسواقاً ليس عليها إقبال.
إلى هذا الحد بارزنا الله تعالى بالمعصية، وبالغنا في الشهوات، وظننا أن الدنيا كأسٌ، وخمرةٌ، وامرأة، ونسينا قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] ونسينا الرقيب العتيد الذي يحصي كل ما يفعله الإنسان.(210/25)
مولاة الكفار
وذلك على المستوى الرسمي، بكون الدول تلقي بأنفسها بين يدي حكومات كافرة في أمريكا، أو في أوروبا، أو في غيرها، وتستجدي منهم كل شيء، وتعطيهم فروض الولاء والطاعة المطلقة، فتعتبرهم إخواناً وتحييهم، وترحب بهم في بلادها، وتزورهم في بلادهم، وتعتبر أن العلاقة والصداقة معهم أقوى وأمتن وأقوى من العلاقة والصداقة مع المسلمين، وتزيد على ذلك بأن تقبل أوامرهم في إيذاء المؤمنين، واضطهاد الصالحين، أو الحكم بالقوانين، أو غير ذلك مما هو مضادٌ لشريعة الله عز وجل.
لقد والينا أعداء الله تعالى، وأحببناهم من قلوبنا، ونسينا الفيصل بين الإيمان والكفر، حتى أصبح الواحد منا، قد يستقبل الكافر بالبشر والترحاب، ويهش له ويبش، ويخاطبه بألطف العبارات، فيقول له: يا سيدي، يا أخي، أو يا حبيبي، أو يا مستر فلان، أو غير ذلك من العبارات، التي لا تدل إلا على التكريم، والولاء والمحبة والتقدير والتبجيل، وقد ترى مسلماً مستضعفاً فلا ترفع له رأساً، ولا تكترث له، ولو كان يصوم النهار ويقوم الليل؛ فهذه الموالاة للكفار هي من أسرار هزيمتنا؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فالولاء للكافرين هو أيضاً من أسباب الردة عن الدين.(210/26)
الحكم بغير ما أنزل الله
من ذنوبنا: الحكم بغير ما أنزل الله، حيث حكمنا عباد الله تعالى بشريعة غير شريعته، وقانونٍ غير قانونه، ونظامٍ غير نظامه، وحكَّمنا في رقاب الناس ودمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، قوانين الكفار من الأمريكان، أو الفرنسيين أو غيرهم، وأقصينا شريعة الله تبارك وتعالى وجعلناها وراءنا ظهريا، وهذه جريمةٌ كبرى، بل هو كفرٌ بالله العظيم القائل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] والقائل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] والله تعالى ينتقم لدينه وشريعته ممن يحكمون بغير شرعه، فيأخذهم أخذةً قوية، وقد يعاقبهم بمن هو أكفر منهم، وأفسق وأطغى قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وقد يقول الفرد العادي: وأي ذنبٍ لي حين يحكمني الحكام بغير شريعة الله، فنقول: كلا، فكلنا مسئولون، فلم يكن الحاكم ليحكم الناس بالقانون الوضعي لو كان يعرف أنهم لا يرضونه، ولم يكن ليحكمهم بالقانون الوضعي؛ لو تصور أن الناس يخرجون في الشوارع بهتافات تعلن أنها لا تقبلُ إلا حكم الإسلام، ولا تقبل إلا دين محمد عليه الصلاة والسلام، لكنه عرف أن الناس قد يقبلون القانون، بل ربما فضلوه أحياناً على شريعة الله.
وكم من إنسانٍ يدعي الإسلام، ومع ذلك يرفض أن يتحاكم إلى شريعة الله؛ لأنه يخشى أن يكون الحكم عليه، كم من سارقٍ كبيرٍ لا يريد أن يقام حد السرقة؛ لأنه أول المقطوعين، وكم من زانٍ يقيم بيوت الدعارة، ومواخير البغاء والرذيلة في بيته، أو مزرعته، أو فندقه، لا يريد أن يقام حكم الله! لأنه يعرف أنه أول المرجومين، وأول من تطالهم يد شريعة الله عز وجل، وبهؤلاء وأمثالهم خذلنا، ومن هؤلاء أُتينا، وهؤلاء هم سر فشلنا، وهزيمتنا، وهم سر ضياعنا، وضعفنا.(210/27)
كيفية الخروج من الأزمة
وإذا أردنا أن نخرج من هذه الأزمة فعلاً فهناك طريقتان:(210/28)
الاقتناع بأن المصائب بسبب ذنوبنا
فنسأل أنفسنا: هل نحن مقتنعون بأن ما أصابنا هو فعلاً بسبب ذنوبنا؟ أم أننا مازلنا نفسر الأمر تفسيراً مادياً؟ أنا لست أنكر أن مطامع البعث العراقي هي السبب فيما جرى، وحزب البعث العراقي يخطط لما يسميه بالوحدة القومية، التي تكلم عنها ميشيل عفلق في كتابه سبيل البعث وقال نحن لا نؤمن بالوحدة الساكنة التي تأتي من نفسها، إنما نؤمن بالوحدة الثورية المقتحمة المهاجمة، فهم ينادون بالوحدة، ويقولون: لا مناص لنا إذا أردنا أن نكون واقعيين من أن نؤمن بأنه لابد من معركة شرسة، فحزب البعث الذي يحكم العراق ويحكم سوريا أيضاً، ينادي بوحدة عربية، لا تأتي من قبل نفسها ساكنة وإنما تأتي على الجثث والأشلاء والدماء، وتتم بالحديد والنار، هذا صحيح، وهذا من الأسباب؛ لكن من الذي حرك هؤلاء؟ ومن الذي دعاهم؟ ومن الذي مكن لهم؟ إنها ذنوبنا، ذنوبنا التي خذلتنا في المواجهة، وجعلت هؤلاء الأعداء وغيرهم يتسلطون علينا، ولو لم يتسلط علينا حزب البعث لتسلط علينا غيرهم، ومن قبل تسلطت علينا إسرائيل وتسلط علينا النصارى، وسامتنا شعوبٌ كثيرةٌ سوء العذاب، حتى أصبح حال المسلمين كما قال الأول: إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجدا فريدا بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه فأول خطوة أن نسأل أنفسنا: هل اقتنعنا فعلاً أن ما أصابنا من مصيبة فبما كسبت أيدينا؟ وهذا قول الله عز وجل، أم مازلنا نغالط، ونجادل في الحقائق، ونقول: هذه لها أسبابٌ مادية وهي: كيت، وكيت، وكيت، والأسباب المادية كلها صحيحة وعلى العين والرأس؛ لكن وراء الأسباب المادية السبب الشرعي.(210/29)
إزالة السبب الشرعي
الخطوة الأخرى هي: إزالة السبب الشرعي، أعني: التوبة إلى الله تعالى من جميع الذنوب والمعاصي، والصدق، والإقبال عليه، والولاء للمؤمنين، والبراءة من الكافرين، وأن نعقد العزم على أن لا نحكم إلا بشريعة الله جل وعلا، وألا نوالي ولا نعادي إلا في ذات الله تبارك وتعالى، وأن يكون هوانا تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فوالله الذي لا إله غيره لو علم الله من قلوبنا الصدق في ذلك لكان إلينا بالنصر أسرع، ولكن متى يحدث هذا؟!(210/30)
دور الشباب المتدين
يا أهل الكويت: إنه ما من شابٍ متدين أو غير شابٍ إلا وأنتم في سويداء قلبه، وفي بؤرة اهتمامه، وتعبيراً عن شدة الاهتمام والتلاحم.
لقد رأينا الشباب المؤمن كيف يضحي، فمن الشباب المؤمن من يعمل عشرين ساعة في اليوم والليلة في أعمال الإغاثة على الحدود، في الخفجي، والرقعي، والحفر، والرياض وفي غيرها، ومن الشباب المؤمن من يغامر فيركب السيارة، ويقطع الرمال الطويلة، ويخرج من الحدود السعودية إلى الكويت؛ ليقوم بإنقاذ أسرةٍ جاء عائلها ولم يتمكن من إحضارها، ويلقون في سبيل ذلك المصاعب، والمتاعب، والمخاطر، حتى إنهم قد يقبض عليهم من قبل القوات العراقية، وقد يحقق معهم، بل حدث أن أطلق على بعضهم الرصاص، ولكن الله سلم، ومن الشباب من يصبح في القصيم ويمسي في الحفر، ويبيت عند أهله في الرياض، ليواصل العمل مرةً أخرى، وهكذا غفل الشباب عن أولادهم وذهلوا عن زوجاتهم، وتركوا أعمالهم، واستماتوا في سبيل نصرة إخوانهم وإعانتهم في مثل هذه الأزمة الحرجة.(210/31)
دور الشباب العاصي
لقد فشل في هذه المهمة الشاب الذي تعود أن يجلس في مدرجات الكرة، وفشل الشاب الذي تعود على (التفحيط) في الشوارع، وفشل فيها الشاب الذي لا يجيد إلا سماع الأغاني والتلذذ بها، ونجح فيها الشاب المؤمن المتدين، نجح فيها رهبان الليل أصحاب الأيدي المتوضئة، والجباه المتتفنة، والقلوب الحية، ونجح أصحاب اللِّحى، أصحاب الثياب القصيرة، وأصحاب التعبد لله عز وجل، شباب الصحوة الإسلامية، وأثبتوا للأمة كلها أنهم هم الذين تعدهم الأمة للنوائب والشدائد والملمات، وحين أقول هذا فإنما أريد من ورائه الشد على أعضاد هؤلاء الشباب، ودعوتهم إلى مزيدٍ من العطاء، فقد بيضتم أيها الشباب وجوهنا، ورفعتم رءوسنا، وكنتم كما قال أحدهم عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه: كنت أرى سعيداً وكأنه راهب يطوف على نساء الحي وهو يقول: هل لكن حاجة فأشتريها، هل لكن كذا؟ هل لكن كذا؟ إنه يشعر أنه يقوم بعبادةٍ حين يفعل مثل هذا العمل.(210/32)
جزءٌ من الواجب
أيها الشباب: إن هذا العمل الذي تقومون به ليس تطوعاً، بل إنه جزءٌ من الواجب الإسلامي الكبير الذي حملناه على أعناقنا منذ رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، ورضينا بأخوة الإسلام رابطةً ونسباً بيننا، ولذلك قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: إذا ظننت أنك إذا قضيت حاجة أخيك أنك صنعت إليه معروفاً، كلا! بل هو الذي صنع إليك المعروف حين خصك بهذه الحاجة وطلبها منك، فليكن هذا شعارنا، وإيانا أن يكون فيما نبذل أو ننفق شيئاً من المن والأذى، بل ينبغي أن ندرك أننا نعمل لأنفسنا، وأن الواحد منا يبذل وهو يتوقع أنه قد يصاب يوماً من الأيام بهذه المصيبة، فيرجو أن يقيض الله تبارك وتعالى له من يدفع عنه، كما دفع هو عن غيره.(210/33)
ملاحظات ووصايا لأهل الكويت
يا أهل الكويت: لعلي أستسمحكم عذراً في تقديم هذه الملاحظة بين أيديكم، ألا وهي: أننا ندرك ولا شك أن ثمة فروقاً كبيرةً بين المجتمعات الإسلامية، فلكل مجتمعٍ ظروفه، ولكل مجتمعٍ أوضاعه وأحواله، فالمجتمعات الإسلامية تتفاوت تفاوتاً بعيداً في مدى التزامها بالسلوك الإسلامي، والأخلاقيات الإسلامية، وهذا مما لا يحتاج إلى بيان.
ومراعاة هذه الفروق من الضرورات التي لا محيص لنا عنها بحالٍ من الأحوال، فنحن نريد أن نكون جسداً واحداً ولحمةً واحدة، ويعز علينا ويؤذينا ويحرجنا أن يتعرض أخٌ من إخواننا، أو أخت من أخواتنا لاعتداءٍ من فاسقٍ، أو سوء ظن من صالح، ولذلك أقدم لإخواني الكويتيين ولأخواتي هذه الملاحظات:(210/34)
تربية الأولاد
الذي أود أن أذكر به وهو خطيرٌ أيضاً قضية تربية الأولاد، فقد لفت نظري أني أجد مجموعة من الصغار ومن الشباب، أيضاً قد يمشون في الشوارع في ساعاتٍ متأخرة من الليل، وقد يتحدثون بل قد يبيتون في مكانٍ ليس مناسباً، وهذا منهم على سبيل الثقة، ولكن من الذي يُؤَمِّننا أيها الإخوة أن يكون أحد هؤلاء الشباب ضحية لصرعى المخدرات؟! وهم الذين يعبثون بهذه المجتمعات أشد العبث، وهم الذين تقف وراءهم قوى أجنبية تريد بهذه البلاد وأهلها شراً، فمن الذي يؤمننا أن يكون أحد أطفالنا ضحية بعض الخبثاء الذين يبحثون عن الفاحشة حيث كانت؟! إنهم يستدرجون الشاب بالابتسامة، وبالكلمة، وبالخدمة اركب في السيارة مثلاً، اركب معنا وقد يخدمونه ببعض الأمور، وقد يلعبون معه الكرة إلى غير ذلك، حتى تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، ولا شك أن في الشباب خيرٌ كثير من شبابنا ومن غيرهم، لكنني أقول لماذا نغفل عن مراقبة شبابنا؟! هذا فقط هو ما أريد أن أقوله.
وليس صحيحاً أن نتركهم للسوء أو لغيره.(210/35)
وضع المرأة
وهذا من الأمور التي تحتاج إلى بيان، إن هناك فارقاً كبيراً فيما يتعلق بوضع المرأة، فإن المرأة بحمد الله في مجتمعنا السعودي لا تزال تحتفظ بأشياء كثيرة، منها عدم الخلوة بالأجانب، ومنها منع الاختلاط في المدارس، أو المؤسسات، أو غيرها، ومنها الحجاب كاملاً بما في ذلك تغطية الوجه، ولذلك فإن المجتمع كله بره وفاجره، مؤمنه وفاسقه، يستغرب أشد الاستغراب أن يري امرأة تمشي في الشارع، وهي كاشفةً عن وجهها، فأما الفاسق، فإنه إذا رأى هذا المشهد سارع إلى ظنه أن هذه المرأة امرأة ليست صالحة، وفيها ما فيها، فقد يعاكسها أو يؤذيها، أو يتعرض لها، وأما الصالح فإنه إذا رأى هذا المشهد ظن أن هذه المرأة أيضاً ليس لديها دينٌ صحيح، ولذلك كشفت عن وجهها، وقد تكون امرأة صالحة، ولكن عادتها أنها تكشف عن وجهها.
فأقول: أما من حيث الدليل فقد دلت أدلةٌ شرعية كثيرةٌ ذكرتها في غير هذه المناسبة على أن المرأة المؤمنة يجب عليها أن تغطي وجهها عن الرجال الأجانب، ومن الأدلة على ذلك أن أمهات المؤمنين كن يغطين وجوههن عن الرجال الأجانب حتى في حال الإحرام، مع أن المرأة حال الإحرام لا يجوز لها أن تغطي وجهها، إلا إذا كان عندها رجالٌ أجانب، ومن الأدلة على ذلك قول الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] فإن الضرب بالخمار على الجيب يعني تغطية الوجه، وإنما يسمى الخمار هو غطاء الرأس وغطاء الوجه، وحتى أهل الجاهلية كانوا يتقون أن ينكشف وجه المرأة، أو ينظر إليه حتى قال الشاعر عن امرأة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد أي وضعت يدها أمام وجهها حتى لا يراها الناس ولا ينظرون إليها، ولذلك فإن من الخطأ أن تخرج أختٌ كويتية وهي سافرةٌ الوجه للشارع، أو تظهر أمام رجل أجنبي في المدرسة مثلاً، أو تخرج للسوق، أو غير ذلك، بل يجب أن تستعد بعباءةٍ وغطاءٍ لوجهها، وغير ذلك مما تحتاجه؛ لأن هذا أولاً كما ذكرت هو قولٌ قوي في الشرع له ما يؤيده من الأدلة، ومذهب جماعة من العلماء.
ثانياً: فإنه أمرٌ مستقر في هذه البلدة، مألوف بل غيره مما يستنكر، ويستغرب على كافة الأصعدة، فمن كانت من الأخوات مقتنعة بأن الحجاب واجبٌ شرعي فلتتحجب، ومن لم تقتنع، فإننا نقول لها: تحجبي على الأقل مراعاةً لمشاعر الآخرين، واحتراماً لعاداتهم التي جروا عليها، ونقول هذا على سبيل التنزل لهم.
ومن الأشياء المتعلقة بموضوع المرأة أيضاً: قضية الاختلاط، فإن وضع الإخوة الحالي قد يؤدي إلى اختلاط المرأة بالرجل، ونحن ندرك أن هذا الأمر قد يقود إلى فسادٍ عريض، وأين نحن من أولئك الرجال الذين كان الواحد منهم يحس بالنخوة، والشهامة فيحمي المرأة، ويحامي دونها، ولا يهم بالنظر إليها، فضلاً عما هو وراء ذلك، حتى في الجاهلية كان الناس يتقون هذا، وقد قال بعض شعرائهم: أرى دار جاري إن تغيَّب حقبةً علي حراماً بعده إن دخلتها قليل سؤالي جارتي عن شئونها إذا غاب رب البيت عنها هجرتها أليس قبيحاً أن يُخبَّر أنني إذا كان عنها شاحط الدار زرتها يرى أنه يعاب عليه أنه إذا غاب جاره جاء إلى زوجته، فيهجرها حتى يعود الزوج، ويقول حاتم الطائي: ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تنزل القدر ما ضر جاراً لي أجاوره ألا يكون لبابه ستر أغضي إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر ومع الأسف هذا منطقُ كافرٍ، فأين منطق كثيرٍ من المسلمين؟! والثالث يقول: شرت جارتي سترا فضول لأنني جعلت جفوني ما حييت لها سترا وما جارتي إلا كأمي وإني لأحفظها سراً وأحفظها جهرا بعثت إليها أنعمي وتنعمي فلست مُحِلاً منك وجهاً ولا شعرا فبالنسبة للإخوة عليهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا ينظروا إلى ما حرم الله.
قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وبالنسبة للأخوات: فإن على الأخت المؤمنة أن تكون مبالغةً في الحجاب، بعيدة عن التبرج بالزينة، أو الخضوع بالقول، أو فعل أي أمرٍ من شأنه أن يوهم الرجال بأن في قلبها مرض.
ومن ذلك -أيضاً- ما حُدِّثت به في هذا البلد وغيره: أن عدداً من الأخوات الكويتيات قد تخرج إلى السوق، وتقود السيارة، ولا شك أن هذه قضية غير سائغة لا شرعاً ولا عرفاً، أما من حيث الشرع فيكفي، أن هناك فتوى لجماعةٍ من كبار العلماء في المملكة بتحريم قيادة المرأة للسيارة، وحتى على فرض أن هذا التحريم لظروفٍ خاصة، فإن المجتمع يمنع ذلك، وقوانين الدولة أيضاً تمنع أن تقود المرأة السيارة، ولذلك فإنه لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن تخرج أختٌ تقود السيارة، وهي تستطيع أن تقوم بشئونها بغير هذه الطريقة، فتستعين بغيرها في ذلك، فضلاً عن أن هذا الأمر قد يجر متاعب أخرى ربما لا تكون بتصور بعض الأخوات اللاتي يقدمن على هذا العمل.
إنني حين أتحدث عن مثل هذه الملاحظات، لا يعني هذا فقدان الثقة ببعضهم، كلا.
وإن كنت أقول ما من أحدٍ إلا وفي قلبه داعٍ من دواعي الشهوة والغريزة، حتى المؤمن وحتى المؤمنة، يوجد فيه ذلك، لكن يدفعه بالإيمان بالله والتوكل عليه، وما من مجتمعٍ إلا ويوجد فيه قدرٌ من الناس رجالٌ ونساء يكون في قلوبهم مرض، مرض الشهوة والميل للحرام، وحرص على انتهاك الحرمات، وهؤلاء لا شك بأنهم جزءٌ من المجتمع، فإذا تحدثنا عن المجتمع السعودي -مثلاً- عرفنا أن كل مدينة يوجد فيها أسرة أو أسر أو أفراد من هذا النمط، وعلى هذا الطراز ويحتاجون إلى أن يؤخذوا بالقوة، وإذا تصورنا المجتمع الكويتي مثلاً، وقد خرج بقضه وقضيضه حتى إنني سمعت في بعض الإحصائيات، أن عدد الأسر التي خرجت يزيد على خمسمائة ألف أٍسرة، إذا تصورنا هذا العدد الهائل، فإننا نجزم أن فيمن خرج من يكون في الأصل، وفي أول حياته غير متدين، ومن يكون علمانياً وبيته بعيدٌ عن الدين، بل من قد يكون من أصحاب مذاهب، أو اتجاهاتٍ أخرى، هذا كله قد يوجد قلَّ أو كثر، ولذلك فإننا نعتقد ونعتبر أن ذكر مثل هذه الملاحظات أمر في غاية الأهمية.(210/36)
المحافظة على الصلوات في الجماعة
أما الصلاة فهي الفيصل بين الكفر والإيمان، وأما أداؤها في المسجد فهو واجب، ولم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه الرجل الأعمى الذي جاءه يشكو إليه أنه بعيد الدار وليس له قائدٌ يقوده ويكون معه {قال له: أتسمع النداء.
قال: نعم قال: فأجب} ولذلك كان الرأي الصحيح أن الصلاة مع الجماعة فرض على كل فردٍ مسلم من الذكور، وحتى صلاة الفجر، فإنها واجبة ولذلك قال أنس وغيره: [[كنا إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]] .
بل هي أوجب من غيرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا} فحذار حذار أن يحصل منكم أيها الإخوة تفريط في أداء الصلاة مع الجماعة، والمساجد التي ندعوكم إلى التردد عليها وأن تكونوا من روادها، هي التي تؤوي أولئك الشباب الذين كانوا خير عونٍ لإخوانهم في مهمتهم وأزماتهم.
إن المساجد هي التي تشهد البذل والعطاء، والقلوب الحية المشفقة الباذلة المعطية، ولذلك يجب أن تكون المساجد ميداناً للقاء بيننا، والتعارف مع إخواننا، وإذا أردت أن تعرف حقيقة المجتمع، فإن هذا المسجد هو الذي يؤوي صفوته، وخياره، ولهذا يجب أن نستعد لأداء الصلوات مع الجماعة في كل وقت، وأن نعمل على توفير الأسباب المعينة على ذلك، كالنوم مبكراً مثلاً، وإعداد ساعة أو غيرها مما ينبه الإنسان، والتعرف على مكان المسجد، ودعوة الآخرين ممن يقصرون في ذلك إلى الصلاة، فإذا كان في المجموعة شابٌ يصلي في المسجد، فإن عليه أن يحمل لإخوانه الآخرين هذه الهدية وهذه النصيحة ويبلغهم بهذا الرجاء.(210/37)
الأسئلة(210/38)
جنود الإسلام
السؤال يقول: أغلب شباب المسلمين همه بناء حياته الخاصة، وليس للإسلام في حياته أي اهتمام فقط تهمه العمارة، والزوجة الجميلة، والمزرعة، وهذا هو الذي أخرنا كثيراً، أرجو التنبيه على هذا؟
الجواب
هذا صحيح، فالمسلمون من حيث العدد كثرة، لكن الذين يهتمون بالإسلام كقضية هم قليل، بل أغلب الناس يهمه أمره الخاص، وربما يحدث تجاوزات حتى في أموره الخاصة، والواقع أن الإسلام لن يقوم إلا على أكتاف وسواعد أولئك الذين نذروا أنفسهم للإسلام، واختاروا طريق الدين، وحين نقول: نذروا أنفسهم للإسلام، لا يعني أنك لن تتمتع بالزوجة الجميلة، ولن تتمتع بالمال، ولن تتمتع بالبيت، ولن تتمتع بالسيارة، أبداً.
كل ذلك يمكن أن يتم ويمكن أن توظفه في سبيل الله عز وجل.(210/39)
حماسٌ من أجل الدعوة
السؤال
ما رأيك في وضع حلقات في مجتمعات الإخوة الكويتيين، والبحث في هذا الموضوع مع الجهات المختصة كالجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم والإفتاء وغيرها، والشباب لن يعجز، وأنا ممن يمكن أن يساهم في هذا الموضوع؟
الجواب
الواقع أن هذا أمرٌ طيب، وإن شاء الله سوف يكون من ذلك شيءٌ ولا يستغنى عن جهود الشباب، ممن يكون عنده حكمة في المخاطبة والحديث، وقدرة على مراعاة مشاعر الآخرين والوصول إلى قلوبهم.(210/40)
وسائل للدعوة
السؤال
وهذا سؤالٌ يتكلم عن الشباب الكويتيين والقيام معهم برحلات إلى البر، وإهداء أشرطة وغيرها؛ لئلا يقع بعضهم ضحيةً في أيدي الشباب المنحرفين من شباب مجتمعنا؟
الجواب
هو الآخر اقتراحٌ جيد، لكنه يفتقد إلى التطبيق.(210/41)
ابتلاء العصاة
السؤال
هل العاصي يبتلى؟
الجواب
الابتلاء من عند الله تعالى، فيبتلي من يشاء، يبتلي المؤمن، ويبتلي الفاسق، ويبتلي العاصي، فقد يبتلي الله تعالى المؤمن بالفاسق، وقد يبتلي الفاسق بمن هو أفسق منه، وقد يبتلي الفاسق أو المؤمن بالكافر، وهذه كلها لا يستدرك فيها على القدر.
ولا يقال لماذا؟ لأن لماذا هنا غير واردة، والمخلوق لا يقول للخالق لماذا؟ لكن يقول لنفسه: لماذا؟ ويمكن أن أقول: لماذا أصابني ما أصابني؟ فأرد: أصابني لأنني فعلت، وفعلت، وفعلت لكن لا تسأل الله فتقول: لماذا؟ لأن الله تعالى هو الخالق الذي يخلق ما يشاء ويختار، ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يرفع بأسه عنَّا، وأن يهبنا منه رحمةً ويغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا ويثبت أقدامنا وينصرنا على القوم الكافرين، وأن يوفقنا للتوبة النصوح، وأن يعافينا من المصائب، في ديننا ودنيانا، وأن يتوب علينا، وأن يهدينا سواء السبيل، ونسأله جل وعلا أن يرينا في أعداء الإسلام والمسلمين عجائب قدرته، وأن يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، اللهم إنهم لا يعجزونك، فخذهم يا قويٌ يا عزيز، اللهم إنهم لا يعجزونك فخذهم يا قوي يا عزيز، اللهم كلَّ رايةٍ رفعت تنادي بلا إله إلا الله وتريد أن يكون الحكم لله فأعزها وأعز أهلها، واجعل العاقبة لها، وكل راية رفعت ليكون الحكم للطاغوت ولِتُهينَ العلماء، والمؤمنين، والدعاة، والصالحين، فبقوتك وحولك وطولك يا قوي يا عزيز نَكِّس هذه الراية، واجعل أهلها غنيمةً في أيدي المؤمنين، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم اهدِ قلوبنا إليك، اللهم نور بصائرنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم اجعل ما أصابنا عبرةً لنا، اللهم اجعله سبباً واصلاً بنا إلى طاعتك والتوبة إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(210/42)
الابتلاء في الخير
السؤال
كيف يكون الابتلاء بالخير؟
الجواب
يكون الابتلاء بالخير، كما يكون الابتلاء بالشر فإن الله تعالى يعطي الإنسان المال؛ ليبتليه هل ينفق المال فيما يرضي الله أم لا؟ يعطيه الصحة ابتلاءً؛ لينظر هل يستفيد من هذه الصحة في الدعوة إلى الله، ومساعدة الضعفاء، أم لا؟ وإذا أعطاه الشباب، والقوة، واللسان والخطابة، وكل نعمة يعطيها الله تبارك وتعالى للعبد فهي ابتلاء؛ لينظر هل يستفيد منها فيما يرضي الله أم يستغلها فيما يسخطه؟(210/43)
الأمريكيات في المنطقة الشرقية
السؤال يقول: قد قدمت للتو من المنطقة الشرقية، ورأيت الأمريكيات تذهبن في مناطق عديدة فما موقفنا من هذا العدد الهائل وكيف نتصرف؟
الجواب
في الواقع أننا يجب أن نفكر تفكيراً عملياً فنقول: هؤلاء النساء، بل والرجال الأمريكان، موجودون عندنا، هذا واقعٌ لا داعي لأن نجادل فيه، أو نتردد فيه، إذاً ما هو الحل! المصيبة حين يسأل أمريكي رجلاً مسلماً، فيقول له مثلاً: أين الكنيسة أريد أن أصلي؟ يقول له: ما عندنا هنا كنائس، عندنا مساجد؟ فيقول: وما هي المساجد؟! قال: هذه بيوت المسلمين أماكن العبادة! فيقول: ما هو الإسلام؟ أريد أسلم علمني ما هو الإسلام، يقول: ليس هذا وقته، فنحن مشغولون بأهم من ذلك، (بعدين) !! هذه هي المصيبة! المصيبة أن الرجل النصراني أصبح يحس أنه بحاجة أن يتدين ويبحث عن الكنيسة، لماذا؟ لأنه يكون على شفا حفرة، أو قد يموت الآن، على الأقل فهو يريد أن يتعبد على حسب علمه وفهمه، والمسلم يقول: ليس هذا وقته ولا يعلمه الدين، ومن الممكن أن نحدث أثراً كبيراً جداً حتى في الجنود والجنديات الأمريكان لو نشرنا عندهم كتباً بلغتهم، ووجد من يتحدث معهم، ونظمت جهود في ذلك، أعتقد اعتقاداً كبيراً أنه سوف يكون لذلك أثر.
ويؤسفني أن أقول: إن العراق -وبسرعةٍ هائلة ونجاح لا شك فيه- كوَّن إذاعة تنطق باللغة الإنجليزية وتخاطب الجنود الأمريكان، وقد التقط بعض الشباب هذه الإذاعة، وهي تقول للجنود: كيف تقاتلون أيها الجنود الأمريكان النبلاء في بلادٍ بعيدةٍ عن بلادكم؟! هل تدرون أن الواحد منكم سوف يعود إلى بلده وهو ملفوف بنعش وهو لا يدري من أجل ماذا قاتل؟! وهو يدافع عن أمورِ شأنها كذا، وكذا، وكذا ويقاتل شعوباً تريد البحث عن الحرية وتريد، وتريد، وتريد؟! وهكذا ربما يحاولون أن يحطموا معنوياتهم، وقد يفلحون في ذلك، مع أنهم يوجهون إذاعة إلى السعوديين ويوجهون إذاعة إلى المصريين.
أما نحن فلا زلنا عند أم احديجان وإذا انتقلنا فإلى أغنية، أو دندنة، أو ما أشبه، ومن المؤسف أن يكون هذا تفكيرنا، وهذا تصورنا، وهذا تخطيطنا وهذا إعدادنا للمعركة.(210/44)
حزب البعث ما حقيقته
السؤال
ما هو مذهب حزب البعث وما حقيقته؟ وما أهدافه؟
الجواب
حزب البعث أنشأه رجل نصراني اسمه ميشيل عفلق كان في سوريا ثم طرد منها وذهب إلى العراق وقد هلك في العام الماضي، وله كتبٌ كثيرةٌ منها كتاب: في سبيل البعث وهو منظر البعثية، ويقوم حزب البعث على أصولٍ ينادي ببعث الأمة العربية، وإحياء الأمة، ووحدة الأمة، وحدتها على أساس القومية العربية، يعني العربي المسلم إلى جوار الكافر، وإلى جوار النصراني، وإلى جوار اليهودي، أمةٌ واحدة فهذه من مبادئه القومية ومن مبادئه الاشتراكية.
الاشتراكية تعني: نهب أموال الأغنياء لتكون لهم، بحيث يظل الجميع فقراء، هذه تسمى اشتراكية عندهم، وقد رأينا ما آل إليه أمر هذه الاشتراكية عند التطبيق العملي في البلاد العربية.
ومن مبادئه: الثورية، فإن حزب البعث يقوم على أساس الثورة المسلحة، ويؤمن بالحل العسكري، كما قرأت عليكم بعض عبارات ميشيل عفلق الذي يقول: "نحن لا نؤمن بالوحدة الساكنة التي تأتي من نفسها، إنما نؤمن بالوحدة المقتحمة القوية، نؤمن بالوحدة الثورية، وإذا كنا واقعيين فيجب أن ندرك أنه لا مفر من المعركة الشرسة مع قوى الرجعية" والرجعية ما هي؟ هي القوى أي: جميع القوى في المنطقة العربية، يعتبرونها قوى رجعية مثل الإسلام.
مثلاً: الحكومات المنتسبة إلى الإسلام، الشعوب المتمسكة بالدين، كل هذه يعتبرونها قوى رجعية ولابد من مقاومتها، بخلاف إسرائيل فهي قوةٌ تقدمية عندهم، ولذلك لم يضروها بشيءٍ ولا يفكرون بحربها، إنما يفكرون بحرب القوى الرجعية كما يعبرون، والعراق اليوم يعتبر هو الممثل الحقيقي لحزب البعث بنص ميشيل عفلق، لأن سوريا تخلت عن البعث الحقيقي وتقمصت راية النصيرية، الذين هم بعض غلاة الرافضة الذين تسلقوا على حزب البعث حتى وصلوا إلى السلطة، ولذلك هرب كثيرٌ من البعثيين السوريين إلى العراق فأصبح العراق هو الذي يرفع راية البعث وينادي بها.(210/45)
هكذا علم الأنبياء
ما بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل إلى الناس إلا من أجل قضية العبادة لله الواحد التي هي سبب الخلق، فجاء الأنبياء ليعلموا الناس حقيقة كلمة لا إله إلا الله وكان من الطبيعي أنهم سيلقون من ألوان الأذى والمواجهة الشيء الكثير الذي يحتاج إلى صبر، وقد كانوا رجاله، وذلك الأذى الذي لاقاه الأنبياء لاقاه من بعدهم الدعاة الصالحون الذين اقتفوا أثرهم في دعوة الناس للتوحيد ونبذ الشرك، رغم أن شرك الأمم المتأخرة في ألوان جديدة ومستحدثة؛ لكن يؤدي إلى نفس المصير.
ولا إله إلا الله لها مقتضيات مهمة لمن يرفع شعارها، ومنهم الدعاة الصادقون الصابرون في هذا الزمن، والذين يفرح المؤمن بعلوهم، ويفرح المنافق بما يلقونه من أذى.(211/1)
مهمة الرسل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه من أنبياء الله ورسله الذين حملوا الرسالة وأدوها وبلغوها وجاهدوا في الله حق جهاده حتى أتاهم اليقين من ربهم، فصلوات الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين وسلامه، وجزاهم الله تعالى عنا أفضل الجزاء وأكمله وأعظمه وأوفاه.
هذا الاسم الكريم اللامع العظيم الجميل: (الأنبياء) على مدار التاريخ كانوا يبعثون ويجاهدون ويصابرون، وكانوا منارات يهتدي بها الناس في الظلمات، وطالما تحملوا ما تحملوا، ولقوا ما لقوا، وصبروا على الأذى من أقوامهم، لا يرجون جزاءً ولا شكوراً، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، كل همهم أن يعبِّدوا الناس لرب العالمين جل وعلا، كل نبيٍ منهم كان يبعث إلى قومه على حين فترة؛ فيناديهم ليلاً ونهاراً ويخاطبهم سراً وجهاراً، ويتحمل في سبيل دعوته ما يلقى من صدود وأذى وتكذيب؛ ولذلك كتب الله تعالى لهم الذكرى الحسنة في هذه الدنيا، فما من إنسان إلا ويهش لسماع ذكرهم ويفرح بحديثهم ويثني عليهم ويحبهم ويصلي ويسلم عليهم كلما ذكروا، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وما أعد الله لهم في الدار الآخرة من المنازل العليا في الدنيا والدرجات في الجنة هو فوق ما يخطر على بال المتأملين.
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست، فقال: يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: قم فصلِّ، قال: فقمت فصليت فجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال: قلت: يا رسول الله وللإنس شياطين! قال: نعم، قلت: يا رسول الله ما الصلاة؟ قال: خير موضوعٍ من شاء أقل ومن شاء أكثر، قال: قلت: يا رسول الله! فما الصوم؟ قال: فرضٌ مجزٍ وعند الله مزيد، قال: قلت يا رسول الله، فالصدقة! قال: أضعاف مضاعفة، قال: قلت يا رسول الله، ما أفضلها -أو أيهما أفضل-؟ قال: جهدٌ من مقلٍ، وسرٌ إلى فقير -جهدٌ من مقل أي: ولو كانت صدقة قليلة ولكنها هي ما يملكها الإنسان وما يستطيعه- قال: قلت يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم عليه السلام، قلت ونبيٌ كان؟ قال: نعم، نبيٌ مكلم، قال: قلت يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر، جماً غفيراً- وفي بعض الطرق والروايات قال: وخمسة عشر- قال: قلت يا رسول الله! أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] } وهذا الحديث رواه النسائي في كتابه السنن الكبرى ورواه البزار وغيرهم وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، وللحديث شواهد منها حديث أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه عند الإمام أحمد وفيه علي بن زيد بن جدعان، وللحديث طرق أخرى عند ابن حبان وغيره.(211/2)
الفرق بين دعوة الرسل وصلاح بعض الصالحين غير الدعاة
تلاحظون الفرق الكبير بين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من المصلحين؛ وبين غيرهم ممن قد يكونون صالحين ولكنهم لم يقاوموا الفساد ولم يحاربوه، رضوا بالطريق السهل اللين الذي ليس فيه عناء ولا جهد، فمثلاً في الجاهلية كان يوجد الحنفاء الذين لا يعبدون إلا الله ولا يرتكبون المخالفات الشرعية، ولا يتعرضون للناس في شيء، فلم يكن ينالهم من الناس شيء.
على سبيل المثال زيد بن عمرو بن نفيل وقد كان موجوداً في مكة كما هو معروف في الجاهلية، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر: أن زيد بن عمرو بن نفيل لقي النبي صلى الله عليه وسلم بأسفل بلدح -وهو جبل ووادٍ بين مكة وجدة على طريق التنعيم أو غيره- فلقي النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه زيد بن حارثة، وقد قدمت وقربت للنبي صلى الله عليه وسلم سفرة من طعامٍ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدنو منها فيأكل، فقال: إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله تعالى عليه، وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان ينكر على قريش ذبائحهم، ويقول: يا معشر قريش، الشاة خلقها الله تعالى، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض -يعني العشب- ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له، وكان يصرح لقريش بإنكار عباداتهم، فيقول: هجرت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور فلا عُزّى أطيع ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور ولكن أعبد الرحمن ربي كذلك يفعل الجلد الصبور وكان يقف قبالة الكعبة ويستعيذ بالله تعالى ويسأله ويتحنث ويتعبد ويقول: عذت بما عاذ به إبراهم مستقبل الكعبة وهو قائم يقول أنفي لك عانٍ راغم مهما تجشمني فإني جاشم وانظر كيف القلب المؤمن، والحي، والموحد، يخاطب الله تعالى ولا يعبد غيره، ويقول: أعوذ بك يا ربي كما عاذ بك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين وقف مستقبل القبلة يدعوك، ويسألك ويستعيذ بك، ويقول: أنفي لك راغمٌ في التراب، ذليلٌ بين يديك، ومهما تحملني فأنا أتحمله في سبيلك.
وكان يقول: يا معشر قريش إياكم والربا فإنه يورث الفقر، وكان يأتي إلى الرجل وعنده جارية يريد أن يئدها ويقتلها من بناته، ويقول له: لا تقتلها، أي ذنبٍ فعلت حتى تقتلها؟ إذا كان يشق عليك أن تطعمها وتكسوها فهاتها لي فأنا أطعمها وأكسوها، فيأخذها منه ويطعمها ويكسوها، فإذا كبرت قال لأبيها: إن شئت أخذتها وإن شئت أبقيتها عندي، ولذلك تمدّح ََالشاعر بأنه ينتسب إلى مثل هذا الرجل فقال: ومنا الذي منع الوائدات وأحياء الوئيد فلم يوءد لكن زيد بن عمرو بن نفيل ومجموعة من الحنفاء في مكة لم يكن لهم أي تأثير، لماذا؟ لأنهم كانوا أشبه باليائسين من الإصلاح، ولأنهم يرون أن العالم كله يعج بألوان الشرك والوثنية والانحراف، والقاذورات الأخلاقية، والنظم وغيرها من الأشياء؛ التي يرون أن لا طاقة لهم ولا قبل لهم بها، فكانوا يرضون بصلاح أنفسهم فقط، ويدعون ما وراء ذلك، حتى وإن بدر منهم كلمات أو توجيهات أو مشاركات فهي أشياء جزئية ومحدودة ومعدودة وفي نطاق معين، أما أن يكون عندهم خطة للإصلاح الكامل في كل شئون الحياة، فهذا ما لم يكونوا يستطيعونه، ولهذا بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأيده بهؤلاء الصحاب الكرام، الذين جاهدوا إلى جواره عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم وأرضاهم.(211/3)
تنكر قريش لمألوفاتها من أجل الدفاع عن عقيدتها
فأنت تجد الفرق -مثلاً- بين زيد بن عمرو بن نفيل هذا الذي لم ينقل أنه لقي من قريش شيئاً، وقد يسخرون منه، وقد يردون دعوته، لكن وقف هذا الأمر عند هذا الحد، ولما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ففي البداية لم يكن يدعو إلا إلى التوحيد: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قولوا: لا إله إلا الله، فماذا لقي صلى الله عليه وسلم؟ ما تركوا أسلوباً من أساليب الحرب إلا سلكوه، وذموه، وخالفوه حتى فيما كانت قريش تتعاهده، وما كنت العرب تفتخر به.
وعلى سبيل المثال: كان العرب يفتخرون بالكرم -إكرام الضيف- تفتخر به حتى في جاهليتها، وهناك أجواد كرماء معروفون في الجاهلية، منهم -مثلاً- عبد الله بن جدعان، كان معروفاً بمكة وكان كريماً يقري الضيفان حتى إنه يبعث أناساً في مشارقمكة ومغاربها ينادون من أراد الطعام فليأت إلى دار عبد الله بن جدعان، ولذلك مدحه أمية بن أبي الصلت فقال: له داعٍ بمكة مشمعلٌ وآخر فوق دارتها ينادي إلى قطع من الشيزى ملاء لباب البر يُلبَك بالشهاد أي أن له دعاة ينادون الناس إلى قطع من ألوان الخشب وغيرها من الأواني التي فيها العسل وألوان الأطعمة الجميلة والبر وغير ذلك، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به من آمن، حاربوهم حتى حاصروهم في شعب أبي طالب ومنعوا عنهم الطعام والشراب، حتى إن الواحد منهم يذهب من أجل أن يقضي حاجته فيجد تحته شيئاً فينظر فإذا هي قطعة من القد -جلد يابس- فيأتي فيطحنه ويسفه ويشرب عليه الماء فيتقوى به أياماً، وحتى كانت قريش تسمع تضاغيهم وتضاغي أطفالهم، وتسمع صياحهم فلا تلين لها قناة، ولا تتحرك في قلوبها دوافع الرحمة.
بل أشد من ذلك، لما ضايقوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بمكة، فروا بدينهم إلى الحبشة، فلم تقل قريش: هؤلاء قومٌ خرجوا منا فدعوهم وما ذهبوا إليه، لا، بل صاروا يطاردونهم ويلاحقونهم مثل ما تعرفون الآن، فالآن يوجد في العالم جهاز يسمونه جهاز الإنتربول أو البوليس الدولي، هذا مهمته ملاحقة من يسميهم العالم بالمجرمين في أي مكان، لا تحده الحدود ولا القيود ولا السدود.
فهكذا قريش لما ذهب الصحابة إلى الحبشة، لم ترض بمقامهم هناك، بل عزمت أن تبعث إلى الحبشة من يحاول أن يوغر صدر رئيسها وملكها عليهم ليخرجهم من أرضه، فبعثوا عبد الله بن أمية وعمرو بن العاص وغيرهم إلى النجاشي ليقولوا له: إن هؤلاء القوم فيهم وفيهم، وقومهم أبصر بهم فردهم إليهم.
انظر إلى هذه الحرب، وانظر كيف تنكرت قريش لمألوفاتها الجاهلية من إكرام الضيوف، والحرص عليهم.
وأين قصائدهم وأشعارهم ومعلقاتهم؟! كل المعلقات السبع وغيرها مليئة بالمدح بالكرم والجود والسخاء، كل ذلك ضاع لما صارت المعركة بين التوحيد والشرك، هذا كله لم يلقه زيد بن عمرو بن نفيل، ولا أمية بن أبي الصلت ولا غيرهم ممن كانوا حنفاء في الجاهلية، لم يلقوا من قريش شيئاً يذكر، وكانت تحترمهم في أحيان كثيرة، لماذا؟ لأنهم لم يعلنوها دعوة صريحة مجلجلة في نوادي قريش وأحيائها، ولم يجمعوا الناس على كلمة التوحيد، ولم يقدموا للناس خطة إصلاحية تبدأ في الحياة من أولها إلى آخرها، كلا؛ وإنما كانوا يعايشون الوضع الفاسد المنحرف الذي كان في الجاهلية، وربما أنكروا بألسنتهم في حدودٍ ضيقة.(211/4)
مقاومة الانحراف المتأصل
هذا الجم الغفير من أنبياء الله ورسله الذين هم ثلاثمائة وبضعة عشر، كلهم رفعوا راية الإصلاح في وسط مجتمعات سيطر عليها الفساد بكل صوره وألوانه، ولم يكتفوا بمجرد صلاح أنفسهم، فلم يكن من بينهم قط واحد رضي بأن يعيش بين قومٍ ضالين منحرفين وهو مخالفٌ لهم، أبداً إلا أن يصدع بدعوة الحق والتوحيد بين أظهرهم، ولهذا كان الراجح من أقوال أهل العلم في التفريق بين النبي والرسول: هو أن النبي من جاء مجدداً لدعوة من قبله ولم يأت بشريعة جديدة، وإلا فكلهم بعثوا دعاة لأقوامهم مجددين لدين الله عز وجل مجاهدين في سبيل الله، وهم يحملون راية الإصلاح.
والإصلاح يعني: أنك سوف تقاوم وتنكر أشياء تعارف الناس عليها وألفوها وأصبحت جزءاً من موروثهم ومن تقاليدهم ومن حياتهم، ومن عاداتهم، فأنت سوف تقاومها وتحاربها وقد تكون أشياءً متأصلة في قلوبهم وأي أمرٍ آصل وأعظم في قلوب الناس من أمر العقائد.
فإذا كان الناس في مجتمعٍ ما نشأوا منذ طفولتهم وولادتهم وتربوا وترعرعوا على عبادة أصنام (طوطم) أو شجر أو حجر أو شخص أو غير ذلك، ويظنونه إلههم ويتعبدون له، فيأتي النبي يفاجئهم بهذا الأمر الذي هو مستقرٌ في قلوبهم: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:66-67] فينكر عليهم عبادة غير الله، ويحارب هذا الشرك المتأصل المستقر في قلوبهم.(211/5)
وسائل الطواغيت في مواجهة دعوة الأنبياء
قد واجه الأنبياء عليهم صلوات ربهم وسلامه، حملات إعلامية شرسة تستهدف تشكيك الناس في نياتهم ومقاصدهم ومآربهم، وتشكيك الناس في مناهجهم ودعواتهم، وتشكيك الناس في وسائلهم، وتشكيك الناس في مستقبلهم.(211/6)
نصر الله تعالى لأنبيائه
ومثله كلام آزر لابنه إبراهيم الذي كان يقول له: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] اتركني، دعني وما أنا فيه، ويهدده بالرجم إذا لم يتوقف عن الدعوة، الرجم! أين عواطف الأبوة؟! أين حنان الأبوة؟! كل ذلك ضاع لما صارت القضية قضية الإيمان والكفر، وقضية التوحيد والشرك، فهاهو آزر مع أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يخاطبه بأرق وألطف العبارات: يا أبت يا أبت: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45] .
فالمسألة لديه مسألة خوف على والده، ومسألة شفقة وحرص على حمايته من عذاب الله، ومع ذلك يواجه هذا كله بقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} والملأ من خلف آزر ومن أمامه، يقول بعضهم لبعض ويتواصون بإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68] ولم يعلموا أن الله تعالى قال {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70] : {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51] أما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنجى.
وما زال الحنفاء إلى قيام الساعة يعتبرونه إماماً وقدوةً لهم عليهم الصلاة والسلام، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل كان دعوة إبراهيم، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أنا دعوة أبي إبراهيم} وجعل الله له لسان صدق في الآخرين؛ حتى المسلم في صلاته يقول: {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم} وتجد المسلم وهو يحج يصلي خلف مقام إبراهيم ركعتين؛ كما أمر الله سبحانه وتعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] وكما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فجعل له الله لسان صدق في الآخرين، ونجاه الله تعالى من كيدهم ومكرهم، أما في الآخرة فمعلوم أن العاقبة للمتقين والعاقبة للتقوى، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث سمرة الطويل رؤيته لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في الجنة ومن حوله من أطفال المؤمنين.(211/7)
تشكيك الناس في مستقبل الرسل
أما تشكيكهم في مستقبل الرسل عليهم الصلاة والسلام فذلك مثل قول فرعون عن موسى ومن معه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] .
انظر كيف التعبير: شرذمة قليلون {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55-56] فكان فرعون يظن -أو هكذا يريد أن يصور للناس المخدوعين بخطبه الرنانة- أن موسى ومن معه مجرد حفنة من الناس المشاغبين، وأن أمرهم سوف ينتهي بمجرد نزول قوات الأمن إلى الشوارع، واستخدام القوة ضدهم؛ بذلك سوف ينتهي أمرهم وينحسم، ولهذا قال: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:55] أسخطونا وأزعجونا وآذونا، ونحن سوف نجعل حداً ونضع حداً لهذا الأمر: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] لا تظنوا أننا غافلون عنهم فعندنا إمكانيات، وعندنا أجهزة وعندنا قوة، وعندنا وسائل كثيرة، فلا تظنوا أن وسائل الأمن، والمباحث، والاستخبارات العالمية، لا تظنوا أنها وليدة الساعة؛ بل هي موجودة منذ العصر الأول، وما قول فرعون: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] إلا نوعٌ من الإشارة والتهديد والإرهاب بالقوة التي يظن أنها سوف تغني عنه شيئاً أو تنفعه أو تقاوم دعوة الله عز وجل.
ولم يكن فرعون يدري أن المصير الذي ينتظره هو أن يصبح جثة هامدة تلعب بها الأمواج، ثم يلقيه البحر إلى الساحل، هذا إلهكم الذي كنتم تعبدون، وهذا فرعون الذي ملأ الدنيا صراخاً وضجيجاً وتهديداً ووعيداً هاهو جثة هامدة ألقاه الموج في الساحل والله سبحانه وتعالى يقول: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] .
هذا مصير المستكبرين، هذا مصير الطغاة، هذا مصير أعداء الرسل، أما موسى ومن معه فإن الله تعالى ما زال ينقلهم من نصر إلى نصر حتى كتب الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام، ما هو معروفٌ في التاريخ، هذا نموذج من تشكيك الطغاة بمستقبل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(211/8)
تشكيك الناس في وسائل الرسل
شككوا الناس في وسائل الرسل التي يدعون الناس بها.
فمثلاً: قالوا لنوح عليه الصلاة والسلام: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود:32] .
فاعتبروا الدعوة نوعاً من الجدال، وقولهم: فأكثرت جدالنا، يوحي بتبرمهم وضيقهم، وهذا لا يقوله إلا إنسان انقطعت عنه الحجة؛ ولم يعد يملك أسلوباً للرد، ولهذا قالوا: أطلت علينا في الكلام، فإذا كان عندك شيء فهاته سواءً أكان عذاباً أو عقوبة أو زلزلة أو غير ذلك، ائتنا بما تعدنا، أما مسألة الجدال والدعوة فما لنا بها من حاجة.
ومرة أخرى يقولون لنبيٍ آخر: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] فالله تعالى كان يبعث الرسل في علية أقوامهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] فكان الرسل الذين يبعثهم الله عز وجل أهل فصاحة وبلاغة وبيان، ويعطيهم الله قوة في الحجة، ويمنحهم من ذلك ما يقيم به الحجة على أممهم وأقوامهم، كما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم.
ولهذا لما بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام، قال موسى داعياً ومنادياً ربه عز وجل: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:27-32] إلى قول الله عز وجل: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] فحل الله عقدة لسانه، فكان بيناً فصيحاً بليغاً، وآزره، وأعانه بأخيه هارون عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان فرعون يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] فيعيره بحبسة كانت في لسانه قبل النبوة، مسألة اصطياد -كما يقال- في الماء العكر، فهو يقول: لا يكاد يبين أي: لا توجد عنده فصاحة ولا عنده بلاغة، وهنا يقولون لشعيب: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] هم يفقهون، ويعرفون، لكن قلوبهم في صدود وفي عمى؛ لا يريدون أصلاً أن يفهموا فيتعمدون الصدود عن الحق والإعراض عنه بكل وسيلة.
ولذلك تجد أن الإنسان الذي يتابع اليوم ما يكتبه أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، أنهم يقعون في تناقضات ليس لها أول ولا آخر، حتى يسخر منهم الإنسان العادي، وربما كانوا -أحياناً- أذكياء، وربما كانوا عقلاء، وربما كانوا عباقرة، ولكن وقوعهم في هذا التناقض؛ لأنهم يحملون الباطل وسبحان الله!! الأرض والسماوات قامت بالحق، فما من إنسان يدافع عن الباطل إلا ويفضحه الله عز وجل، وما من إنسان يدافع عن الحق إلا ويجعل الله تعالى السداد والصواب على لسانه.
وكذلك حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبعث في جزيرة العرب، كان في ذروة الفصاحة والبلاغة ومع ذلك لم يستطيعوا أن يقولوا مثل ما قيل من قبل: {مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] ؛ لأن كلامه مما لا يستطيعون أن يحولوا بين الناس وبينه، ولهذا قالوا: ساحر يفرق بين المرء وزوجه، ويفرق بين المرء وأخيه، ويفرق بين المرء وابنه، وما يزالون بالناس حتى يحاولوا ألا يسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم جاءوا إلى الطفيل، وما زالوا به -وكان رجلاً عاقلاً لبيباً- حتى وضع القطن في أذنيه؛ حتى لا يسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم يدركون أن للحق سلطاناً على القلوب، ولذلك يفرضون - وهو ما يسمى بلغة العصر الحاضر- التعتيم الإعلامي على الدعوة، ومحاصرتها، وفرض القيود عليها، وحربها؛ لأنهم يعرفون أن كلمة الحق لها سلطان على القلوب، ولها رواج في النفوس، ولها رنين في الآذان، وما أن يسمع الناس بها حتى تنجلي عنهم الغشاوة وينقشع عنهم الظلام، ولهذا يحاولون أن يحولوا بين الناس دائماً وأبداً وبين كلمة الحق بكافة الوسائل.(211/9)
تشكيك الناس في مناهج الرسل
شككوا الناس في مناهج الرسل، وفي دعوتهم، وهذا كثير: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60] {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66] {إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32] {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] إلى غير ذلك، حتى قال قوم شعيب لشعيب: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] فهذه سخرية به أن دعوتك ليست مقبولة ولا صادقة، وأنك تتكلم من ضلالة قد وقعت في عقلك، أو من سفاهة تفكيرك، وأن كلامك مردود غير مقبول، فشككوا في دعوتهم وفي مناهجهم وأنهم لا يستطيعون الإصلاح.
الذين جاءوا يدعون الناس إلى التوحيد، ويدعونهم مع التوحيد إلى إصلاح حياتهم على وفق شريعة الله تعالى -كان خصومهم يقولون للناس: إن هؤلاء الرسل لا يستطيعون الإصلاح ولا يملكون الخطة الواضحة للإصلاح، وإنهم ينطلقون من بساطة في التفكير، ومن ضعف في العقل ولذلك لا تتبعوهم ولا تطيعوهم.(211/10)
تشكيك الناس في مقاصد الرسل
قال الله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] يعني أن قريشاً يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على دينهم دين الشرك، لماذا؟ قالوا: لأن هذا شيءٌ يراد أي: أن محمداً يريد أن يكون رئيساً وسيداً وملكاً وحاكماً عليكم، ويريد المقاصد الدنيوية، وليس قصده وجه الله، ولا قصده الدعوة إلى الله، والنجاة في الدار الآخرة، وإنما قصده أن يصل إلى الحكم.
وانظر كيف يغالطون أنفسهم، لأنهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد مالاً أعطيناك حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد الزواج اخترنا لك أجمل فتاة في مكة وزوجناك، فلما انتهوا قرأ عليهم شيئاً من القرآن، ومع ذلك لما رأوا صبره وإصراره قالوا: إن هذا لشيء يراد.
ومن قبل قال فرعون وقومه عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] ففرعون من أجل أن يضمن نفوس الجماهير أن لا تميل مع موسى ولا تتأثر بدعوته، حاول أن يضع حاجزاً، ما هو هذا الحاجز؟ الحاجز أن فرعون كان يقول لموسى ولاحظ كيف التناقض عند فرعون فهو رجل يقول للناس {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ويبتز الناس، ويأخذ أموالهم، ويأخذ خيراتهم، ويفرض الضرائب عليهم، ويأخذ من يريد من بناتهم، ويستبد حتى يريدهم أن يعبدوه، ومع ذلك لما دعا موسى ماذا قال؟ -قال: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] فيقول للناس: هذان موسى وهارون يريدان أن تكون لهما الكبرياء في الأرض، وأنت ماذا تفعل الآن؟! لقد مارست ألواناً من فرض الذل على الناس! تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم من أجل الخدمة؛ ومن أجل أن تتمتع بهن متاعاً حيوانياً بهيمياً، ولما قام موسى وهارون يدعوان إلى الله تعالى، ويدعوان الناس إلى الخروج من طغيانك ومن تسلطك ومن بطشك، تقول: وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين!! وليس الغريب أمر فرعون فإن فرعون طاغية أحس بالخطر فأصبح يضرب يمنة ويسرة بلا عقل ولا تفكير، ولكن الغريب أمر تلك الجماهير المضللة التي تصدقه وتطيعه وتتابعه فيما يقول، هؤلاء الجنود الذين قاوموا موسى عليه السلام وحاربوه ومشوا وراءه حتى وصلوا إلى البحر، هؤلاء الجنود أين عقولهم؟! أين تفكيرهم؟! أين إدراكهم؟! أين إنسانيتهم؟! {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] .
المهم أن فرعون ومن بعده من أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يشككون الناس في نيات الرسل، وفي مقاصدهم، وأنهم لا يقصدون نجاة الناس؛ وإنما يقصدون التسلط على الناس وأن تكون لهم الكبرياء، وأن يصلوا إلى الحكم، هذا الكلام قيل حرفياً عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذكره الله تعالى في كتابه حتى يعتبر به المعتبرون: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] هذه الكلمات معادة، وهذا شريطٌ مكرر: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] .(211/11)
أنواع أذى الكفار للدعاة والمصلحين
لما صرخ النبي صلى الله عليه وسلم وجهر بدعوته بين أظهر المشركين بمكة، ضاقوا به ذرعاً، وتآمروا به وكشف الله أبعاد تلك المؤامرة، فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] فقد وضعت ثلاث خطط عرضت في ذلك المجلس: {لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وفي كثير من الأحيان يتصور الناس أن الوسائل والخطط التي تحاك ضد الإسلام وأهله أنها وليدة اليوم؛ لأنهم لا يقرؤون التاريخ ولا يقفون موقف المعتبر، فأنت تجد أن هذه الخطط هي بالذات ما يستخدم اليوم ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان.
أما قوله سبحانه: (لِيُثْبِتُوكَ) فالمقصود بها فكرة الحصار، يسمونها في العصر الحاضر فرض الإقامة الجبرية، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من السفر من مكة ومغادرتها، والهجرة إلى أي مكان آخر في الدنيا ونشر دعوته، أو قد يقصدون بها السجن، وإيثاق النبي صلى الله عليه وسلم بالقيود والأغلال بحيث لا يستطيع أن يتحرك.
هذا معنى قوله: (لِيُثْبِتُوكَ) .
وأما القتل والتصفية الجسدية فأمرها واضح، وأما الإخراج فمعناه فكرة النفي، نفي الرسول صلى الله عليه وسلم من البلاد وطرده منها {لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] هذا تفسير الآية كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه، فيما رواه عنه عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والخطيب البغدادي وغيرهم.(211/12)
أسلوب ماكر في محاربة الدعوة
أن أولئك الأذكياء أولئك الذين يحاربون الرسول صلى الله عليه وسلم ليس على طريقة: آيات شيطانية، إنما على طريقة أخرى، على طريقة: سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم -يطلقون عليه هكذا- ثم يضعون شريعته وتعليماته على الرفوف، لا يأتون بها إلا في المناسبات: في الموالد أو الوفيات أو غير ذلك، أما فيما سوى ذلك فهم يحاربون دينه وشريعته، ويحاربون من يدعو إلى دينه ومن يدعو إلى شريعته.(211/13)
قوة الحق
لم تكن قريش تتصور وهي تحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، أنها تحارب رجلاً كتب الله أن يكون أتباعه في كل عصر يعدون بالملايين، وأنها تحارب رجلاً كتب الله تعالى أن تضج المآذن باسمه الكريم في كل يوم وليلة خمس مرات في طول بلاد الدنيا وعرضها، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه كي يجله فذو العرش محمود وهذا محمد فلم يكن يخطر في بالهم أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم سوف يكونون قوة تحسب لها قوة الدنيا ألف حساب، بعد مضي مئات السنين على موته عليه الصلاة والسلام.
بل لم يكن يخطر في بالهم أن تموج بلاد الإسلام بمظاهر السخط العارم لمجرد أن شخصاً دعياً أفاكاً نال من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، كما فعل سلمان رشدي حين أصدر كتاباً في بريطانيا سماه آيات شيطانية، نال فيه من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أزواجه أمهات المؤمنين ومن أصحابه، فقامت المظاهرات العارمة في شرق البلاد وغربها؛ بل حتى في بلاد الكفر تطالب بمحاكمة هذا الرجل وقتله، وترتب على ذلك آثار سياسية بعيدة المدى.
وهذا يكشف لكم عن ذكاء أولئك الذين يحاربون الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته ودينه من خلال أسلوب المناورة، فهم يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، بل قد يقيمون الموالد بالمناسبات المختلفة، بمناسبة المولد وبمناسبة الهجرة، وبمناسبة الإسراء والمعراج إلى غير ذلك من المناسبات الغير شرعية، يقيمونها ويتغنون بمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ويرددون الأناشيد والقصائد الجميلة، ولكنهم بعد ذلك يمزقون شريعته من خلال خططهم الرهيبة؛ أما هذا الرجل المأثوم المأفوك المسكين فاختفى وما زال مختفياً لا يدرى أين هو مختفٍ؟! خوفاً، ورعباً، وهلعاً، وفزعاً حتى أنه أعلن التوبة وأعلن الرجوع عما فعل، فلم ينفعه ذلك، والدائرة التي نشرت الكتاب تعرضت إلى ما تعرضت له، سخط المسلمين لا يتوقف ولا ينتهي لماذا؟ لأنه أعلن.(211/14)
أهمية الموضوع
بعد هذا الحديث الذي قد يكون فيه شيٌ من الاستطراد عما لقيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أقول كيف لا يكون هذا الموضوع، موضوع: هكذا علّم الأنبياء، الذي هو موضوع هذه الجلسة؛ كيف لا يكون جديراً بالحديث عنه لتذكير الذين يسيرون على خطى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن هذا هو ما واجهه زعماؤهم وسادتهم وقادتهم، فكيف يطمعون هم أن يسيروا في طريق آمن مطمئن؟! أم كيف يطمعون أن تبحر سفينتهم في ريحٍ رخاءٍ وجوٍ هادئٍ بعيدٍ عن هدير الأمواج، وصفير العواصف؟! وهذا لم يكن يحصل حتى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين كانوا مؤيدين بالوحي من السماء، وكيف لا يكون هذا الموضوع جديراً بالكلام عنه، ونحن في فترة من فترات تجديد هذا الدين، الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الفترة نأمل أن تثمر في تمكين الإسلام وأهله في الأرض، وهلاكاً لعدوهم كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لما شكوا إليه قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129] .
فنحن نطمع أن تثمر هذه الصحوة المباركة وهذا الإحياء الكبير لدين الله عز وجل في الأرض؛ أن يثمر تمكيناً للإسلام ولأهل الإسلام في أرض الإسلام، وأن يثمر هلاكاً لأعداء الدين في كل مكان، وما أحوج المجددين إلى أن يراجعوا سيرة المصلحين الأوائل، أعني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لينظروا إلى ماذا دعا أولئك الأنبياء، وما هي حقيقة دعوتهم، وكيف دعوا، وماذا لقوا؟ وإجمالاً فإني أعتقد أن طرق موضوع دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مما لا يحتاج إلى تعليل، ولا إلى تسويغ فالجميع كلهم يؤمنون بأهمية الحديث عن دعوة الأنبياء والمرسلين والحمد لله رب العالمين.(211/15)
أهمية توحيد الألوهية
المقصود أن المصلحين قد غفلوا عن هذا الركن العظيم أو كادوا أن ينشغلوا عنه بغيره، أعني ركن توحيد العبادة، توحيد الألوهية، توحيد الله تعالى وعدم صرف شيءٍ من ألوان العبادة دق أو جل لغير الله عز وجل، وتوحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد، ولكن البشر جبلوا على الإيمان بالله والاعتراف بوجوده فطرةً؛ ولذلك سرعان ما تهاوت وانهارت معاقل الشيوعية؛ لأنها كانت تقوم على أساس إنكار وجود الله عز وجل، والذين كانوا يدندنون بالإلحاد في بلادنا وفي بلاد الإسلام وفي غيرها، كان كثير منهم ينطلقون من حماسات سياسية أكثر من أن ينطلقوا من قناعات عقلية، وكأن الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى -والله تعالى أعلم- كأنه تراجع كثيراً ولم يعد الآن خطراً يهدد الإيمان، وإن كان الناس يحتاجون دائماً وأبداً إلى تذكيرهم وإزالة الشكوك والشبهات من نفوسهم.
وتوحيد الأسماء والصفات يحتاج إلى كشف وإلى حديثٍ وبيان لكثرة الانحراف فيه وكثرة الفرق المخالفة، وقد جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام بتعريف الناس بربهم الحق بأسمائه وبصفاته وبأفعاله جل وعلا، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة} .
ولكن يبقى موضوع توحيد الألوهية هو المركز الذي تدور حوله المعركة الكبرى، وكيف لا يكون الأمر كذلك؟! ونحن نجد أن المعركة مع الأنبياء وأتباعهم كانت حول هذا الركن العظيم؟! لم تكن المعركة خلافاً حول فرعية من فرعيات الفقه أبداً، بل الرسل أنفسهم عليهم الصلاة والسلام قد تعددت شرائعهم؛ لأن الشرائع تختلف من وقتٍ لآخر ومن بلدٍ إلى آخر أو أمة لأخرى، إذ أن الشرائع إنما جاءت لتنظيم حياة الناس فيما يحقق المصلحة العاجلة لهم، وفيما يضمن لهم المصلحة في الدار الآخرة، ولذلك اختلفت شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أبناء علات دينهم واحد وهو التوحيد أما شرائعه فهي شتى مختلفة، فلم تكن المعركة قط -وأقولها مرة أخرى- لم تكن قط بين الأنبياء وبين خصومهم معركة على جزئية من الجزئيات؛ لا، ولا كانت معركة على فرعية من الفرعيات؛ لا، ولا كانت معركة على مسألة من المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص والتي فيها مجال للأخذ والرد؛ كلا، وألف كلا.(211/16)
صور من الشرك الواقع في هذا العصر
وحدثني أحد الإخوة وهو من إحدى الدول الإفريقية قال: الناس في بلدي جاءهم منذ زمن رجل كان يهودياً فتظاهر بالإسلام، ولبس جبة وعمامة، وأصبح يتظاهر بالنسك، فأعجب الناس به واغتروا، فكان يأخذ من أموالهم ما يشاء، ويستبد بهم ما شاء، ويأخذ من مزارعهم، حتى بلغت به الوقاحة وبلغت به الجرأة أنه لا يأذن لرجلٍ أن يتزوج إلا ويبيت هذا الذي يدعي الولاية عند زوجته الليلة الأولى، ويأتي منها ما يأتي الرجل من امرأته، فضاق الناس به ذرعاً لكنهم لا يستطيعون أن يصنعوا به شيئاً؛ لأنه في نظرهم ولي والأولياء تسلم لهم أحوالهم -هكذا يقولون- فلذلك ما كانوا ليصنعوا به شيئاً، حتى كان ذات يوم زواج أحد الشباب فدخل هذا الولي على زوجته فأتى منها ما يأتي الرجل من امرأته، فلما دخل عليها زوجها الحقيقي سألها، فقالت: نعم.
فأصابته غيرة وغضب وأخذ مسدسه وأفرغ رصاصاته في رأس هذا الرجل وأرداه قتيلاً، فتسامع الناس، وقالوا: قتل الولي قتل الولي! من قتله؟ قالوا: قتله فلان: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68] فأتوا إليه وقتلوه، قتلوا هذا الشاب انتصاراً لذلك الولي، وبعد فترة بدأت تتكشف الأمور، وبدأ يتبين أن هذا الرجل الذي يدعي الولاية كاذب، وأنه سرق من فلان، وخان فلاناً، وأنه غدر وأنه كذا، ففاحت الروائح النتنة، وكما يقال في المثل: إذا سقط الجمل كثرت سكاكينه، فبدأ كل واحد يذكر فضيحة، ويقول صار له معي كذا، ولكنني ظننت الأمر بخلاف ذلك، وثالث ورابع، فعرف الناس أن هذا الرجل مخادع وبدءوا يترحمون على ذلك الشاب الذي كتب الله نجاتهم من هذا الإنسان على يده، فكيف عبروا عن سخطهم على ذلك المدعي للولاية؟ وكيف عبروا عن تقديرهم لذلك الشاب الذي قتلوه ظلماً؟ لقد جاءوا إلى قبر هذا الولي المدعي فصاروا يرجمونه بسبعة أحجار متتابعات مثل حصى الخذف، كما يرجم الحاج أو يرمي الجمار، ثم إذا انتهوا منه ذهبوا إلى قبر ذلك الشاب الصالح -نرجو أن يكون صالحاً- فصاروا يطوفون به سبعة أشواط متتابعات يكبرون عند كل شوطٍ.
فهذه صورة من صور عبادة غير الله التي توجد في أوساط المسلمين، وقد رأيت بعيني في بلدٍ آسيوي آخر، أن المسلمين وكانوا فقراء جياعاً، ولا يزالون، فكثير منهم لا يستطيعون الحج إلى بيت الله الحرام، فقام رجل في السبعين من عمره وابتكر لهم ديناً جديداً وعبادة جديدة، وقال: ليس هناك حاجة أن تتحملوا هذه المئات بل الألوف من الكيلومترات إلى مكة وأنتم لا تستطيعون؛ فابتكر حجاً للفقراء، فذهب إلى جبلٍ هناك ووضع فيه مكاناً للتعبد يشبه الكعبة، وأمر الناس أن يحجوا إلى ذلك المكان في وقت عيد الأضحى، فكان يتبعه على ذلك ألوف يَصِلُون إلى أكثر من ستين ألفاً فيخطب فيهم خطبة في يوم عرفة، ويأتون بالهدايا والقرابين من الغنم وغيرها فيسرحونها ويسيبونها في تلك الجبال، ولا يتعرض لها أحد، فهم يمارسون ألواناً وطقوساً من العبادات تضاهي ما يمارسه ويعمله المسلمون حين يحجون إلى بيت الله الحرام.
فهذه ألوان من الشرك الظاهر الصارخ الموجود في بلاد المسلمين، والذي قد يصعب على كثير من المنتسبين إلى الإسلام تمييزه أو معرفة أنه شركٌ مخالفٌ لأصل توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإذا كان هذا على مستوى الدهماء أو العامة أو السذج، فإننا نجد كثيراً ممن يعتبرون مثقفين ومدركين، ممن استهوتهم بعض المذاهب الفاسدة فعطلت مداركهم وعقولهم أنهم يتعلقون بالبشر ويتألهون لهم، حتى يقول أحدهم وهو معاصر يخاطب علياً رضي الله عنه: أبا حسن ٍ أنت عين الإله وعنوان قدرته السامية وأنت المحيط بعلم الغيوب فهل عنك تعزب من خافية لك الأمر إن شئت تنجي غداً وإن شئت تسفع بالناصية فماذا بقي لله عز وجل؟! إذا كان علي رضي الله عنه هو المحيط بعلم الغيوب، وهو الإله، وهو عنوان القدرة، وأنه لا تخفى عليه خافية، وأن الأمر له من شاء أنجاه ومن شاء أخذه بالناصية وأرداه بنار جهنم؟! نتساءل: ماذا بقي لله تعالى رب العالمين إذاً؟!: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:13-14](211/17)
أنواع الشرك في الأمم المتأخرة
فهذه الصور الساذجة من الشرك كانت تتناسب وما زالت تتناسب مع عقليات الأمم البدائية المتخلفة، ولكن للمثقفين والمتعلمين في أزمنة الحضارة وللدول الراقية ألواناً وألوناً كثيرة من الشرك، منها ما ذكرت ومنها غيره، فليست بالضرورة أن تكون الأوثان والأصنام أشجاراً أو أحجاراً أو طواطم أو غير ذلك، بل قد تكون بشراً يعبدون من دون الله تعالى، ويطاعون فيما لا يطاع فيه إلا الله، فيحللون فيطاعون، ويحرمون فيطاعون، ويأمرون بما يخالف شريعة الله، فيطاعون، ويأمرون بالباطل فيطاعون، وينهون عما أمر الله تعالى به فيطاعون، وتصرف لهم من أنواع العبادة من الحب والخوف والرجاء والرغبة والرهبة والخشية وغير ذلك، تصرف لهم بعض هذه الأنواع أو تصرف لهم كل الأنواع، ونحن لا نشك أن القوم الذين كانوا يتبعون فرعون كانوا مشركين، وليس بالضرورة أن يكون لديهم أصنام، يكفيهم هذا الصنم الأكبر (هبل) الذي هو فرعون، كيف كانوا يصرفون له أنواع العبادة، وكيف كانوا يتألهون له في قلوبهم، وقد تكون صور الشرك بطاعة بعض القوانين والأنظمة المخالفة لشريعة الله تعالى، وقد تكون بصرف الولاء والحب والبغض للكافرين والمنافقين والمعاندين إلى غير ذلك من صور الشرك التي تحتاج إلى تفصيل وبيان.(211/18)
وضوح التوحيد
المقصود أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قدموا هذه المسألة -مسألة التوحيد- واضحة بلا تعقيد، وليس من المصلحة أن نشعر الناس أن مسألة العبودية والوحدانية مسألة صعبة، وأنه لا يقوم بها ولا يفهمها إلا أفرادٌ قلائل من الناس، وأنه لا يستطيع إدراكها إلا الأذكياء، على العكس إننا نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المدينة كان يأتيه الأعرابي الذي كان طول حياته في الشرك، فيجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً عشر دقائق أو ربع ساعة أو نصف ساعة، وقل -إن شئت- ساعة أو ساعتين فيعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دينه بدءاً بالتوحيد، ويخرج هذا الأعرابي لا أقول مسلماً فقط، لا، بل يخرج مؤمناً داعيةً إلى الله تعالى، يأتي إلى قومه فيقول لهم: لا لات، ولا عزى، كفرت بها وبمن يعبدونها من دون الله، فتأتي إليه زوجته فيطردها ويبعدها ويقول: فرق الإسلام بيني وبينك.
فالقضية واضحة سهلة يفهمها كل إنسان متعلماً كان أو غير متعلم، عربياً كان أو غير عربي، ويمكن أن نبين للناس أنهم يستطيعون أن يفهموا هذه الحقيقة بكل يسر وسهولة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يحتاجون إلينا ولا إلى غيرنا في ذلك، إلا بقدر ما توضح لهم معاني الآيات القرآنية، ومعاني الأحاديث النبوية، فالمسألة ليست مسألة تقليد لفلان أو علان، لا.
بل المسألة أن هذا كلام الله تعالى في كتابه، وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وليس بينك وبين كتاب الله تعالى وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجز ولا حائل، حتى غير العربي، لو قرأت عليه آيات التوحيد من القرآن وشرحت له معناها، لامتلأ قلبه بها وآمن، ولا داعي أن ندخل الناس في متاهات وفي أمور ليست لهم حاجة إليها، يكفي أن يفهموا التوحيد كما فهمه أتباع الرسل الأوائل عليهم الصلاة والسلام.
ولا يجوز أن يكون ورثة الأنبياء كبعض المعلمين الذين يشعرون الطلاب -أحياناً- بأن الفهم يكون بواسطتهم فحسب، إذا كان المعلم يريد أن يأخذ عنده الطالب درساً خصوصياً؛ يشعره بأن المادة صعبة وأنه ليس من السهل أن تفهمها، ولا بد أن تأخذ عندي دروساً خصوصية في مقابل مادي، فأصحاب المطامع المادية قد يفعلون ذلك.
وكذلك لا يجوز أن يكون ورثة الأنبياء كبعض الساسة الذين يستأثرون هم -فيما زعموا- بفهم الأمور وإدراك مقاصدها وأبعادها، ويستكثرون على غيرهم من الناس -حتى من العقلاء والمثقفين ومن أساتذة الجامعات- يستكثرون على غيرهم أن يشارك في رأي، أو أن يتحدث في قضية، ويقولون: هذا لا يدرك أبعاد الموضوع.
أي موضوع لا يدرك أبعاده؟ وما هي أبعاد هذا الموضوع؟! إذا كان الناس والحمد لله يفهمون دينهم، يفهمون كتاب ربهم، فكيف لا يفهمون أبعاد موضوع من موضوعات الدنيا؟! أو القضايا التي يعايشونها ويسمعونها ويقفون قريباً منها؟! إن حملة التوحيد وورثة الأنبياء ينبغي أن يقدموا الدين، والتوحيد، ويقدموا ما لديهم للناس بصورة واضحة مباشرة، يسهل على الناس فهمها، وتقرب إلى أذهان الناس.
إذاً مسألة توحيد العبادة هي أعظم المسائل التي بذل من أجلها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ودعوا الناس إلى عبادة الله وحده، ونبذ الآلهة المعبودة من دونه، وما أحوج المسلمين اليوم فضلاً عن غير المسلمين من الأمم الكافرة الوثنية والكتابية.
ما أحوجهم إلى دعوتهم إلى توحيد العبادة، ونحن نرى أن منهم -أعني من المسلمين- من يعبد غير الله تعالى بقلبه أو بأعماله، فيدعو فلاناً من الموتى ليكشف ضره أو يرجوه لنجاته يوم القيامة، أو يذبح له، أو ينذر لقبره أو يطوف به.(211/19)
القضية التي دعا من أجلها الأنبياء
القضية الأساسية الكبرى والمحور الأعظم الذي يدور حوله جهاد الأنبياء، وتدور حوله دعوتهم، والمسألة التي دعوا إليها جميعاً وحاربوا من أجلها، وسالموا من أجلها، وأوذوا في سبيلها، واستغرقت عليهم دقائقهم وساعاتهم وأيامهم ولياليهم، وكانت ديدنهم ولهجهم؛ ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً هي: قضية سهلة واضحة بعيدة عن التعقيد، بعيدة عن الغموض، بعيدة عن الإشكال، يفهمها الإنسان البسيط، يفهمها الأعرابي الراكض وراء غنمه في مجاهل الصحراء، كما يفهمها الفيلسوف في صومعته، كما يفهمها العالم في مختبره، يفهمها المتعلم والأمي على حدٍ سواء؛ لأنها قضية بُعثوا بها إلى الناس كلهم، لم يبعثوا للأذكياء فقط، ولا للمتعلمين فقط، بل بعثوا لكل الناس.
ولذلك كانت القضية واضحة لا إشكال فيها، وهي: قضية عبادة الله تعالى وترك عبادة غيره، وهذا جزء من اليسر الذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم به الدين: {إن هذا الدين يسر} كما في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة، فجزء من اليسر هو اليسر في العقيدة، فأنت تجد عقيدة الإسلام ليس فيها غموض ولا صعوبة ولا تعقيد ولا إشكال، ومن السهل جداً على أي إنسان أن تشرح له كلمة التوحيد في عشر دقائق فينطق بها وقد فهمها ووعاها.
لكن حين تنتقل -مثلاً- إلى دين النصارى تجد أن في عقيدتهم من التعقيد ما يجعل كبار الأذكياء والعباقرة يحارون فيه، ويعجزون عن فهمه، فما بالك بالبسطاء، والسذج من الناس الذين، هم عن فهمه أعجز، بل هم يسلمون بما يقوله لهم القساوسة، ويقولون: اعصب عينيك واعتقد وأنت أعمى، أما في الإسلام فالأمر واضح ليس فيه إشكال ولا تعقيد.
ولذلك القضية كلها اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أو لا إله إلا الله، أي لا معبود بحقٍ إلا الله عز وجل، وهذا معناه توجه الإنسان بقلبه وبجوارحه كلها وبكل أعماله إلى الله تعالى، وخلع جميع الأوثان والأنداد التي يتأله الإنسان لها ويعبدها من دون الله أو مع الله، وليس بالضرورة أن تكون الآلهة أصناماً وأحجاراً وأشجاراً وطواطم فهذا كان موجوداً في زمن الجاهلية الساذجة المغفلة البسيطة، الذي كان الواحد منهم -كما قيل- يعبد التمرة فإذا جاع أكلها، وكما ذكر أبو رجاء العطاردي وهو من المخضرمين أنه في الجاهلية كان الأعراب يبحث أحدهم في الصحراء عن أربعة أحجار فيضع ثلاثة منها أثافي لقدره ينصب عليها القدر، أما الرابع فهو يضعه في القبلة يصلي إليه، وإذا لم يجد حجراً فإنه يأتي ويحثو حثوه من تراب ثم يحلب عليها الشاة ثم يعبدها.(211/20)
الانحراف عن أولويات الدعوة
لقد كانت المعركة وكان الخلاف الجوهري بين الطرفين هو الخلاف بين التوحيد والشرك، الخلاف بين النص والهوى، الخلاف بين عبادة الله وعبادة الطاغوت، أفلا يتفطن لذلك أقوامٌ ممن يعنون بأمر الإسلام؟! أو هكذا يظن بهم، ألا يجددون حقيقة الدعوة والاتباع للأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟! فيخوضوا المعركة التي خاضها الأنبياء، التي خاضها أئمتهم من قبل، ولا يتشاغلوا بُبنَيّات الطريق عن هذه المعركة الكبرى، ويجعلون الهموم كلها هماً واحداً وهذا دأب المصلحين والمجددين على مدار التاريخ.
ما هي المعركة التي خاضها ابن تيمية رحمه الله مع خصومه؟ بالدرجة الأولى كانت معركة التوحيد والوحدانية والدعوة إلى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ومحاربة كل صور وألوان الشرك سواءً أكان شركاً في العبادة، أم شركاً في الطاعة والاتباع إلى غير ذلك، وهكذا الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو مجدد في هذه البلاد، وكثير من الناس لا يزالون يقتنون كتبه ويسمعونها ويقرؤونها بل ويحفظونها، لكنهم يغفلون أو يتغافلون، فما هي المعركة التي أثارها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب؟ هل أثار معركة في خلافٍ فقهي؟ لا، هل أثار معركة في خلاف في قضية جانبية؟ لا، المعركة التي أثارها رحمه الله هي المعركة مع صور الشرك التي كانت تضرب في هذه البلاد، عبادة غير الله تعالى، فدعا الناس إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، ولذلك لا تجد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا لأتباعه وتلاميذه لا تجد لهم فقهاً مستقلاً، فقههم هو فقه الأئمة من قبلهم، يختارون ما يرون أنه أقرب للدليل، وليسوا كما قيل عنهم مذهب خامس؛ لا، بل مذهبهم هو مذهب من قبلهم من الأئمة والعلماء، إنما كانت المعركة التي خاضوها وحاربوا من أجلها وأوذوا من أجلها وصبروا هي معركة التوحيد مع الشرك.
أما كثيرٌ من المنتسبين إلى العلم وإلى الدعوة فإنهم يثيرون معارك وهمية، ومعارك جانبية، وطواحين في الهواء مع من حولهم من الناس، معركة مع فلان؛ لأنه خالف في فرعية، ومعركة مع علان؛ لأنه خالفه في جزئية، ثم تتوالى الكتب وتتوالى الرسائل والأشرطة، ولا يوجد مانع أحياناً من المناظرات، فإذا لم تُجْدِ المناظرات فإننا نلجأ أحياناً إلى نوعٍ من المباهلة، كل ذلك في قضايا ليست بالتأكيد هي القضايا التي جاء الأنبياء ليقولوها للناس، وليست القضايا التي وضحها الأنبياء ودعو إليها، وليست هي القضايا التي بدأ القرآن وأعاد حولها، وليست هي القضايا التي دندن حولها المصلحون منذ فجر التأريخ إلى اليوم؛ لا؛ وإنما هي قضايا -في الغالب- فرعية، وقضايا تحتمل الخلاف، وقضايا ليس فيها هدىً وظلال، وإنما قد يكون فيها خطأ وصواب، وقد يكون الخطأ هنا أو هنا أو قد يكون جزءاً من الصواب هنا أو جزءاً من الصواب هناك والقضية نسبية.(211/21)
صعوبة هذا الطريق
وهذا هو الطريق الصعب الطويل الشاق الذي اختاره الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ويجب أن يختاره أتباعهم مهما يكلفهم ذلك من جهدٍ ومشقة وعناء، ولو ظل الناس اليوم، وكل يوم، وإلى يوم الدين يتكلمون فقط عن جانبٍ واحد من جوانب لا إله إلا الله، ويحاربون لوناً من ألوان الشرك يتعلق بالأوضاع الشعبية فقط؛ لما تعرض لهم أحد، ولما وقف في وجوههم أحد، حتى الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا يدعون إلى جزءٍ واحد، وإنما قال بعضهم كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: {إن هذا الدين لا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه} .
إن كلمة لا إله إلا الله تقتضي تحرير الإنسان من الولاء لغير الله، وتحريره من الولاء للطاغوت، والولاء للمشركين، ولليهود، وللنصارى، والولاء للعلمانيين، وللمنافقين؛ بل ينبغي أن يكون ولاؤه للمؤمنين، وهذا أمر واضح.
إذا كان في قلبك إيمان وحرارة، فأنت إذا سمعت أن هناك معركة في أي مكان في الدنيا، في الجزائر، أو في مصر، أو في الأردن أو في أي مكان، سواءً معركة عسكرية أم معركة سياسية أم معركة إعلامية بين الحق والباطل، فإنك لا تملك قلبك أصلاً إن كنت مؤمناً، لا تملك قلبك من الميل إلى صف المؤمنين، والفرح بانتصارهم، والدعاء لهم، والحزن لما يصيبهم.(211/22)
علامة المؤمن والمنافق
ولذلك كان من علامات المؤمن: الفرح بانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم، والحزن لانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن علامات المنافقين: الفرح بانخفاض دين الرسول عليه الصلاة والسلام، والحزن لارتفاع دين الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنت تجد المنافق لا يملك نفسه فإذا رأى ما يسيء بالمؤمنين؛ فرح وسر ودندن وأعلن وتكلم وجاهر وبين ما في قلبه من النفاق والعياذ بالله؛ لأن ولاءه لغير المؤمنين، فقضية الولاء قضية جوهرية وقضية أساسية؛ حتى قال بعض أهل العلم: إنه لم يرد في القرآن الكريم من القضايا بعد توحيد الألوهية ولم يرد آيات بعد موضوع توحيد الألوهية مثل ما ورد في قضية الولاء والبراء.
فأنت تحب المسلم الموحد وترجو له الانتصار، وتدعو له، وتتعاطف معه، وتتكلم بالدفاع عنه، وترى أن هذا دين تتعبد الله تعالى فيه، لا تفكر ما هي النتائج، ولا تفكر هل هو منصور أو مخذول، لأن المنافقين طريقتهم: إن رأوا الغلبة لهؤلاء أيدوهم وآزروهم، وإن رأوا الغلبة لهؤلاء أيدوهم وآزروهم، ولهذا قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141] فهم يلعبون على الحبلين -كما يقال- هنا وهنا.
مثل ما يروى أن رجلاً قام خطيباً فكان أمامه مجموعة من أهل السنة ومجموعة من الشيعة فقالوا له: أيهما أفضل أبو بكر أم علي؟ وهذا رجل يريد أن يرضي كل الأطراف، فقال: الأفضل منهما من كانت ابنته تحته! كلمة غامضة كلٌ يفهمها على ما يريد فخرج أهل السنة فرحين مسرورين، يقولون: إن أبا بكر ابنته زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحت الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرج الشيعة كذلك فرحين مسرورين، يقولون: فضَّل علياً لأن ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم تحت علي رضي الله عنه وهي فاطمة.
فأحياناً يقول المنافق كلاماً يرضي هؤلاء، ويقول كلاماً يرضي هؤلاء، فإن انتصر هؤلاء يقول: أنا كنت معكم، وإن انتصر هؤلاء يقول: ألم أكن معكم؟ إنك تجد أن أي قضية تحصل من قضايا الإسلام خاصة في أزمنة الضعف والاضطهاد يبين فيها رؤوس النفاق فيظاهرون المشركين ويظاهرون العلمانيين، ويؤيدونهم وينصرونهم ويستخدمون كل ما أعطاهم الله تعالى في نصرتهم عكس ما عليه الأنبياء: ماذا يقول الأنبياء؟! ماذا يقول موسى عليه السلام؟!: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] لاحظ قوله: لن أكون ظهيراً لهم، لا أنصرهم ولا أساعدهم.
أما كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، وهم لا يحققون التوحيد حقيقةً، ولم تقم في نفوسهم معالم البراءة من المشركين والعلمانيين، بل قام في نفوسهم والعياذ بالله النفاق الأكبر الاعتقادي المخرج من الدين، والذي جعلهم يتعاطفون مع المشركين في كل مكان، وينصرونهم على المؤمنين ويفرحون بارتفاع كلمتهم، تجد أنهم قالوا -بلسان حالهم- بما أنعمت عليَّ فسوف أكون ظهيراً للمجرمين وأنصرهم، وأستخدم ما أعطيتني في تأييدهم ومظاهرتهم على المسلمين.(211/23)
حقيقة الدعوة إلى دين الله
ونحن نخاطب الجماهير التي تثق بكلمتنا، وتصدق ما نقول وهي بحمد الله تعالى كثيرة؛ فنقول لهم: إننا -والله-وكذلك سائر دعاة الإسلام المخلصين وبحمد الله تعالى وهم كثير في أرض الإسلام لا يسعون لجلب مصالح شخصية لأنفسهم قط، ولو أرادوا ذلك لعرفوا طريقه، ولكنهم اختاروا الطريق الصعب، الطريق الذي فيه السخرية والتعتيم الإعلامي، وفيه تحطيم المواهب، ومناصبة العداء، وفيه اتهام طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] كذبوا وأوذوا وسجنوا وقتلوا، قال الله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146] وفي قراءة (وكأيِّن مِنْ نَبٍّي قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فالأنبياء قتل منهم من قتل، وبنو إسرائيل كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، وجرح منهم من جرح، بل سيدهم صلى الله عليه وسلم جرح في أحد، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته صلى الله عليه وسلم، وشج رأسه، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم} هذا هو الطريق الصعب.
فالأنبياء منعوا من الخروج من بلادهم، وحوصروا، وكان أعظم هدفٍ لهم هو النصر أو الشهادة، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن يستشهد في سبيل الله: {وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل} وقال عليه الصلاة والسلام: {والله لوددت أني غدوت مع أصحابي بحصن الجبل} قال ذلك في إحدى المعارك والحديث في مسند أحمد وغيره وسنده صحيح، فلم يكونوا يطمعون في دنيا، ولم يطمحوا إلى منصب، بل كانوا أزهد الناس في المناصب.
ويعلم الله تعالى أن دعاة الإسلام الصادقين -وهذا ما أعرفه عن نفسي وعنهم- أنهم من أزهد الناس فيما يتنافس فيه أهل الدنيا، وفيما تشرئب إليه أعناق الكثيرين ممن يتهمون الدعاة، وكما قال أحد الدعاة المهتدين: (والله لأن أكون موزع بريد في دولة تحكم بالإسلام، خيرٌ وأحب إليَّ من أن أكون حاكماً أو وزيراً في أرض لا تحكم بشريعة الله تعالى) .
ولكننا نتدين ونتعبد بأننا نعتبر أن السياسة جزءاً من الدين، وأن اعتقاد انفصال السياسة عن الدين كفرٌ وردة عن شريعة الله تعالى، وأن من مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام التي بعثوا بها: إصلاح الفساد السياسي واستدراكه، والله تعالى يقول {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] الكافرون، الظالمون، ويقول الله سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] ويقول: {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] ويقول {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] في كل شئون الحياة، في الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والإعلام، والإدارة، وفي كل أمرٍ من أمور الحياة.
وفي الفترة المكية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم الآيات القرآنية التي تنعي على المشركين تحكيمهم شريعة غير شريعة ربهم، وتعتبر هذا أحد ألوان الشرك التي وقعوا فيها، والتي جاء الرسول لإخراجهم منها، وهذا جزء من معنى لا إله إلا الله، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] وكل مسألة في الدنيا لله ولرسوله فيها حكم، وللطاغوت فيها رأيٌ، -كما سبق من قبل- فهذا دين الله وهذا دين الطاغوت، فلا بد من مقارعة رأي الطاغوت الذي يعرض في كثير من الأحيان بترويج إعلاميّ مذهل، وبأساليب متفننة، وبطرائق ماكرة خبيثة، استخدمت أرقى ما توصل إليه الفكر البشري من التقنية، ومعرفة بطبائع النفوس ومداخلها ومنحنياتها ومنعطفاتها، فلا بد من مواجهة هذا الترويج الإعلامي ببيان حكم الشرع الواضح البين الذي ترتاح إليه النفوس وتبرأ به الذمم.(211/24)
مقتضيات كلمة لا إله إلا الله
فلا إله إلا الله: تقتضي أن لا يتوجه الإنسان بصلاته وزكاته ونسكه لغير الله تعالى، فمن قال لا إله إلا الله ثم دعا نبياً أو ولياً فقد نقض لا إله إلا الله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] .
ولا إله إلا الله: تقتضي صياغة النظام الاقتصادي حسبما يريد الله تعالى، بعيداً عن أنظمة الشرق الشيوعية وبعيداً عن أنظمة الغرب الربوية الرأسمالية، وإذا كانت أنظمة الشرق الشيوعية قد تهاوت وانهارت وانتهت، فإن أنظمة الغرب الربوية الرأسمالية لا تزال قائمة تضرب بجرانها في بلاد العالم كلها، ولا يزال الواقع يوحي بأن هناك مزيداً من الانغماس في النظام الربوي الغربي المخالف لشريعة الله عز وجل، فلا إله إلا الله تقتضي البعد عن أنظمة الشرق الشيوعية، كما تقتضي البعد عن أنظمة الغرب الرأسمالية.
وتقتضي البعد أيضاً عن الفساد المالي الذي ينخر في بلاد المسلمين، وشعيب عليه السلام دعا الناس إلى التوحيد وفي الوقت نفسه كان يقول لهم: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84] فلا يعني أننا سوف نتوقف عن معالجة أمور الواقع حتى ننتهي من تأسيس التوحيد، بل نحن ندعو الناس إلى التوحيد وفي الوقت نفسه نقول لهم: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84] .
ولا إله إلا الله: تقتضي أن لا تؤخذ الأحكام والتشريعات والنظم والقوانين من غير الكتاب والسنة.
إذ أن هناك في الحياة منهاجان: دين الله، ودين الملك، دين الله: هو عبادة الله وحده، ولهذا قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] دين الله عز وجل واضح وكلمة: لا إله إلا الله؛ تقتضي إفراد الله تعالى بالعبادة، ومن ذلك أنه لا يملك أن يقال: هذا حلال وهذا حرام، وهذا حق وهذا باطل، وهذا صواب وهذا خطأ، وهذا صحيح، وهذا فاسد إلا الله عز وجل.
ولذلك فإن الحكم بما أنزل الله هو جزء لا يتجزأ من كلمة لا إله إلا الله، والحكم بغير شريعة الله تعالى هو نقض لهذه الكلمة وهو شرك بالله تعالى؛ لأن الذي حكم بغير شريعة الله رضي أن يكون هذا المشرع أو المقنن إلهاً تؤخذ منه الأحكام والتشريعات، فهو الذي يضع الحدود، وهو الذي يحلل الحلال، وهو الذي يحرم الحرام، والله سبحانه وتعالى يقول: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وفي قراءة سبعيه {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] أي: لا تشرك مع الله تعالى أحداً في الحكم، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .
فلا يملك أحد حتى العالم الكبير الفحل حين يقول: هذا حلال وهذا حرام؛ إنما هو معبر عن حكم الله ورسوله وترجمان عن الكتاب والسنة، لا يأتي بشيءٍ من قبل نفسه، فمن دونه من باب أولى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29] كما قال الله عز وجل عن الملائكة، فلا يملك أحد أن يحلل أو يحرم أو يشرع إلا الله تعالى، ومن ادعى ذلك فقد نازع الله تعالى وحارب الله في حكمه وأمره واتخذ نفسه رباً من دون الله، ومن أطاعه في تشريع أو تحليل أو تحريم أو تقنين فقد اتخذه إلهاً من دون الله عز وجل.
والذين يعتبرون الدعوة إلى تحكيم شريعة الله نوعاً من تسييس الدين، أي: جعل الدين مطية -كما يعبرون في صحفهم وإعلامهم الفاسد اليوم- لأغراض سياسية، ويجعلون الداعين إلى ذلك داعين إلى مطامع ومآرب وأغراض ومقاصد ذاتية، هؤلاء الناس إنما يرددون ما يقوله أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام من قبل في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام كما أسلفت.(211/25)
ضرورة العودة إلى إحياء قضية وحدانية الله
ينبغي أن نعود إلى إحياء قضية الوحدانية والتوحيد -توحيد العبادة- ودعوة الناس إليه، وتربيتهم عليه، وأن يكون هذا هو محور حديثنا، وأن تكون هذه هي المعركة التي نملك الاستعداد لأن نثيرها في كل زمان ومكان، وأتساءل أيها الأحبة: كم محاضرة، وكم من كتاب، وكم من مقالة، وكم من مجلس، وكم من شريط نملكه في قضية توحيد الألوهية؟! ولا تستكثر على مثل هذه القضية، وتقول: قضية -كما ذكرت آنفاً- واضحة لا داعي للإطالة حولها؛ لا، إن كلمة لا إله إلا الله لم تكن مجرد شعار يرفع أو كلمة تقال باللسان، وإلا لتسارع إليها المشركون، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلمة تدين لكم بها العرب وتملكون بها العجم، قالوا: نعم وأبيك وألف كلمة} كلمة أمرها سهل، ولكن الأمر أبعد من ذلك، كلمة لا إله إلا الله هي يسيرة، اللام والألف والهاء كل إنسان يستطيع أن ينطق بها العربي والعجمي والطفل الصغير، بل الإنسان الألثغ يستطيع أن يقول لا إله إلا الله بيسر وسهولة.
فليست المشكلة هي أن ينطق الناس بهذه الكلمة فحسب؛ لا، قضية لا إله إلا الله والمعركة التي نتحدث عنها هي معركة صياغة الحياة كلها وفق شريعة الله ونظامه.(211/26)
المعركة بين الشعارات والحقائق
وعموماً فكلمة لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة ولكنها صياغة كاملة للحياة: حياة الفرد والجماعة من الميلاد والوجود إلى العدم والوفاة، وليست مجرد شعار يرفع سواء أكان مكتوباً أو مقروءاً، ولكنها حقيقة، والذين يهاجمون المسلمين اليوم ويهاجمون دعاة الإسلام بحجة أنهم يرفعون الشعارات، يعلمون جيداً أن الذين يرفعون الشعارات هم أولئك الحكام الذين وعدوا شعوبهم بجنان الدنيا، ووعدوا شعوبهم بالرفاهية، وبالوحدة، وبالنصر على الأعداء، ثم تبخرت هذه الوعود.
صارت مواعيد عرقوب لهم مثلاً وما مواعيدها إلا الأباطيل وحينئذٍ عرفت الشعوب من هم الذين يحملون الحقيقة، ومن هم الذين يتبنون قضاياها، ومن هم الذين يدعون إلى الحق والذين يجب أن يتبعوا، فأقبلت عليهم وانجفلت إليهم، كما حدث في مصر والجزائر وتونس والأردن وجميع بلاد الإسلام بدون استثناء، وحينئذٍ سقطت الشعارات الوهمية.
أين الشعارات؟! أين المالئون بها الدنيا فَكَمْ زوَّروا بها التاريخ والكتبا فلا خيول بني حمدان راقصةٌ زهواً ولا المتنبي مالئ حلباً وقبر خالد في حمص تلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا يا رُبَّ حي رخام القبر مسكنه ورب ميتٍ على أقدامه انتصبا يا بن الوليد ألا سيف تؤجره فإن أسيافهم قد أصبحت خشبا فلا إله إلا الله ليست مغانم شخصية، ولا مطامع يسعى إلى تحصيلها الدعاة، بل هي ما ضحى الدعاة من أجله، فارقوا حياتهم وقبلوا الحياة في غياهب السجون؛ حرصاً على تحقيقها، ومن قبل لم يكن أحد من رسل الله يدعو لنفسه، قال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] .
لم يقم نبيٌ من الأنبياء قط يدعو الناس إلى أن يعبدوه ويجعلوه رباً من دون الله، كلا، ولا يأمرهم أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً من دون الله، بل هو يأمرهم ويربيهم ويعلمهم طاعة الله تعالى وعبادته ونبذ ما سواه، يربي قلوبهم على أن النفع والضر والمنع والعطاء لا يملكه إلا الله، وأن الآجال بيد الله، وأن الإنسان لا يملك لأخيه الإنسان نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وأن كلمة الحق لا تباعد الرزق، ولا تقرب الأجل، وأن الله تعالى هو وحده الخافض الرافع القابض الباسط الضار النافع؛ الذي مقاليد الأمور جميعها بيده.
فتمتلئ قلوبهم حباً لله، ورغبة فيما عنده، وشوقاً إليه، وخوفاً منه، ورجاءً فيه، وحينئذٍ يخرج من القلب حب المخلوقين، وتعظيم المخلوقين، والخوف من المخلوقين، فتجد أن الإنسان في قلبه جلال الله تعالى وعظمته وهيبته، فيتكلم في الحق ولا يبالي، ويقول الحق ولا يبالي، ولا يخاف في الله لومة لائم، ويصدع بما يؤمر ويعرض عن المشركين، وينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، ويدعو إلى الله في كل مكان، ويصبر ولا يقيم لهذه الدنيا وزناً، وإن كان يستمتع بها فيما أحل الله له، فهي كالمطية يستخدمها ولا يخدمها، يركبها إلى ما يكون فيه مرضاة الله تعالى والنجاة في الدار الآخرة.(211/27)
ميدان المعركة
أيها الأحبة وإذا كان موضوع المعركة بين الحق والباطل هو توحيد الألوهية؛ فإن ميدان المعركة -كما رأيتم وعلمتم- هو الحياة كلها بمجملها وتفاصيلها التي تتنازعها طائفتان: عباد الله، وعباد الطاغوت، ولا شك أن عباد الطاغوت يعملون على تجهيل الشعوب دائماً وأبداً بحقيقة التوحيد، وأن التوحيد يشمل فقط جانباً من جوانب الحياة، وذلك ليسهل لهم خداع الناس وتضليلهم بالخطب، بحيث إذا ادعى إنسان -مجرد دعوة- أنه يحكم بالشرع، وأنه يدعو إلى الدين وأنه وأنه صدقه الناس لأنهم لا يعرفون حقيقة التوحيد، وأنه شاملٌ لجميع مجالات الحياة، ليقولوا له: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] كيف تنقض بفعلك في كل لحظة وكل ساعة ما تقوله بلسانك؟! وأيضاً ليتمكنوا من تشكيك الأمة بالدعاة إلى الله عز وجل، وأنهم لا يقصدون الدعوة إلى الدين، وإنما يقصدون الدعوة إلى مطامع أو أغراضٍ شخصية.(211/28)
آلة الحرب ووسائلها
إن آلة هذه الحرب -بين الشرك والتوحيد- هي كل وسيلة يمكن استخدامها، فعباد الطاغوت لا يتورعون عن استخدام كل الوسائل، بما في ذلك الكذب والتهريج والتضليل والخداع والتلصص والتجسس وإلى غير ذلك، وإذا كانت الغاية عندهم فاسدة، وهي الشرك والعبودية لغير الله، وتعبيد الناس لغير الله! فالوسيلة عندهم فاسدة أيضاً، وهم لا يتورعون عن استخدام كل وسيلة تقع في أيديهم، بل يتعدى الأمر عندهم إلى استخدام البطش والتنكيل والسجن والتشريد والقتل.
وسترى أن الدول التي تتكلم عن حقوق الإنسان، لا تقيم وزناً للإنسان المسلم بحالٍ من الأحوال بل تستخدم ضده حتى أسلحة الدمار الشامل، وفعلاً استخدمت ضده أسلحة الدمار الشامل، أليس الإفقار مما استخدموه ضد الإنسان المسلم؟ بلى، وقد حاولوا إفقار المسلم حتى ينشغل بلقمة العيش وما زال الأمر كذلك، والمسلمون يموتون جوعاً في أماكن كثيرة من بلاد الدنيا، والله الذي لا إله غيره إن الطفل يتضور جوعاً ثم يموت وأنت تراه بعينك.
واستخدموا سلاح التجهيل، تجهيل المسلمين بحيث يصيرون جهالاً بدينهم، فلا يعملون به ولا يدعون إليه، ولا يصبرون في سبيله، ولا يتبعون دعاته، وكذلك تجهيل المسلمين بدنياهم، فأصبح المسلمون لا يحسنون ديناً ولا دنيا؛ ليظلوا عيالاً على أعداء الإسلام.
ومن أسلحة الدمار الشامل إغراق المسلمين في المرض والبؤس والفناء لتصفيتهم جسدياً والقضاء عليهم.
أما الإنسان الذي يجب أن ترعى حقوقه وتحفظ كرامته فهو فقط الإنسان الأبيض، الإنسان الأوربي، أما الإنسان المسلم فلا قيمة له عندهم.
إن هناك معارك كثيرة يخوضها الدعاة إلى الله تعالى مع الباطل في كل مجالات الحياة، ولكن هناك المعركة الكبرى: وهي المعركة بين الإيمان والكفر، المعركة بين الشرك والتوحيد، وإذا جاز لنا أن نستخدم مصطلحات اللاعبين فإننا نقول: إن المعركة بين التوحيد والشرك وبين الإيمان والكفر هي أم المعارك.(211/29)
حقيقة دعوة أتباع الرسل
ودعاة الرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا على الجادة، ودعاة الإسلام كانوا على الجادة نفسها، لا يدعون الناس إلى مذهب من المذاهب الفقهية -مثلاً- ولا يدعون الناس إلى جماعة من الجماعات العاملة للإسلام، ولا يفرضون على الناس اجتهاداً في مسألة من المسائل التي هي قابلة للأخذ والرد؛ ولا يدعون إلى شخصٍ مهما كان قدره ومنزلته وجلالته اللهم إلا شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو إمام الأئمة وسيد المتبوعين، ونحن ندعو الناس إلى الاقتداء به ومتابعته ظاهراً وباطناً، فإن رآنا الناس - معاشر دعاة الإسلام -يوماً من الأيام ندعو إلى سوى ذلك- أي: إلى العبودية لغير الله تعالى في مجال من مجالات الحياة، أو ندعو إلى اتباع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالٍ من مجالات الحياة فليردوا علينا جميعاً دعوتنا وليضربوا بها في وجوهنا.
إن الدعوة هي إلى كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، هما توحيدان: توحيد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، والطاعة، وتوحيد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع له فيما جاء به عن ربه تعالى.(211/30)
الأسئلة(211/31)
حكم من يفرح لهزيمة المؤمنين
السؤال
ألا يُخشى على عقيدة من يتمنى ويحب أن ينتصر العلمانيون في الجزائر أو غيرها على إخواننا المسلمين هناك؟
الجواب
بلى، هذا مظهر من مظاهر النفاق ولا شك في ذلك، وإلا ما معنى أنك تجد أناساً يرفعون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم -وهذا شيءٍ نعرفه منهم، حتى أنهم في غالبيتهم على معتقدٍ صحيح، وسلفيون وأصحاب أصالة كبيرة، واتجاه سليم- ومع ذلك تجد ممن ينتسب إلى الدين من يحاربهم، ويتمنى القضاء عليهم، وفي مقابلهم يؤيد علمانيين والعياذ بالله يحكمون بالكفر والطاغوت، كيف يجمع هذا مع عقيدة لا إله إلا الله في قلبٍ واحد؟! وقد تكلمت قبل قليل عن قضية الولاء والبراء.(211/32)
حكمة تعدد الرسل
السؤال
يقول أرجو الإفادة عن الحكمة من تعدد الرسل، وهل منها زوال شريعة الله أو زوال بعضها أو عدم العمل بها، أو عدم بلوغها لمكان أو جماعة؟
الجواب
أما تعدد الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن ذلك لإقامة الحجة على الناس، فكان في بني إسرائيل أنبياء كثيرون؛ ربما وُجِدَ في القرية أو في البلد أو في الأمة أو في الجماعة منهم نبيٌ، ولذلك كانوا كثيرين لكثرة انحراف بني إسرائيل، وكثرة حاجتهم إلى الإصلاح والمتابعة، وكذلك إذا درست شريعة نبي وصار الناس في ضلال؛ فإن الله تعالى يبعث نبياً آخر ورسولاً من بعده يجدد شريعته، أو يدعو الناس إلى الدين.(211/33)
تعدد جراحات المسلمين
السؤال
لا يخفى عليكم ما يجري في العالم الإسلامي، بل في العالم كله من اضطهاد للمسلمين، وإني لأعجب من بعض الدعاة حيث يركزون على منطقة دون أخرى، وإن كان الواجب تقديم الأهم فالأهم، لكن أن ننسى أغلبها فليس من العدل، فلو نظرنا للواقع فلا نسمع إلا عن فلسطين وأفغانستان والجزائر وأما غيرها من المناطق الإسلامية، فلا نسمع الحديث عنها، وأقصد مثلاً: كشمير والفلبين والصومال والسودان واليمن وليبيا وسوريا وتونس والولايات السوفيتية.
وغيرها كثير، وإنني أعجب أن أسمع أن إيران هي التي تدافع عن المناطق الإسلامية؛ وإن كنت أثق أن دفاع إيران هو دفاعٌ إعلاميٌ فقط وإلا فهي حربٌ على أهل السنة، ولكن من يدرك هذا؟! أرجو منكم ومن العلماء توضيح هذا الأمر، ثم ما هي عقيدة أهل أذربيجان؟
الجواب
أذربيجان -على ما أعلم- فيها أكثرية شيعية، أما الولايات الأخرى فالأكثرية فيها منسوبون إلى أهل السنة وإن كانت قد أثرت فيهم الأسلحة التي ذكرتها من قبل، وهي: الإفقار والتجهيل، فصار كثير منهم جاهلاً بدين الله لكنهم على استعداد أن يتعلموا.
أما قضية عدد من البلاد فماذا تركت يا أخي بارك الله فيك! في بلاد الأفغان جرحٌ عميق نازفٌ يستجيش كل ضمير وعلى أرض مصر مليون جرحٍ وبكل الدنا نِدَاء مستجير ففي كل وادٍ بنو سعد، والجراحات كثيرة، ونحن نتمنى أن تكثر الأصوات التي تدافع عن المسلمين والتي تدعو إلى الإسلام، وأن لا يظل المسلمون مجرد متفرجين أو مجرد مستمعين يستعذبون حديث هذا، ويستطيبون حديث ذاك، أين أنت أيها الأخ السائل وأمثالك ممن يحسون بآلام المسلمين؟! نريد منابر كثيرة تتأبى على الحصر والعد، ولا يسهل القضاء عليها، نريد منابر لا تتوقف أبداً، تدافع عن قضايا المسلمين في كل مكان، والفرص بحمد لله كثيرة ومن يريد أن يقول كلمة الحق يجد ألف وسيلة ووسيلة لقول هذه الكلمة، أما الصوت الواحد أو الأصوات المحدودة فإنها ستظل محدودة، ولن تستطيع أن تغطي إلا رقعةً محدودة من الزمان، ورقعة محدودة من المكان.(211/34)
واجب الأمة تجاه علمائها
هذا الدرس فيه بيان لواجب الأمة تجاه علمائها، بالالتفاف حولهم، والرجوع إليهم وسؤالهم فيما يتعلق بالشرع، والوقوف إلى جانبهم، وتوقيرهم وتبجيلهم من غير إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير.
كما أنه يحتوي على مواصفات العلماء الذين يستحقون ذلك.(212/1)
الصحوة الإسلامية ولاءٌ حقيقي للإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم على عبدك ونبيك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي الكرام! إن حفاوتكم وحسن استقبالكم وحرصكم على الخير مما يشجع الإنسان على تكرار الحضور والمشاركة في مثل هذه الأمسيات الطيبة والمحاضرات، وإن كان ما يقدمه الإنسان هو جهد المقل، ولكن من باب المشاركة وعرض الإنسان ما لديه من آراء على أنظار إخوانه وأصحابه وأحبابه، ولذلك فإنني أقول: إن مثل هذه الجموع الطيبة، التي تحيي هذه المحاضرات، وتقبل عليها، هو السر في اختياري لموضوع هذه المحاضرة (واجب الأمة تجاه علمائها) .(212/2)
الصحوة وطلب العلم الشرعي
إننا نشهد اليوم نهضة إسلامية عامة وخاصة؛ عامة على كافة المستويات، وخاصة على مستوى الشباب، ومن في حكمهم، وهذه النهضة ليست مجرد حب للإسلام، أو إقبال على العبادات والشعائر، كلا، بل هي صحوة إسلامية تهدف إلى معرفة حكم الله ورسوله في الدقائق والتفاصيل.
في وقت مضى كان هناك ناس يقبلون على الإسلام، لكن غالبهم ليس لديهم إلا مجرد العواطف، والولاء الغامض للإسلام، أما اليوم فأنت أصبحت تجد الشاب المقبل على الإسلام لا يكتفي بمجرد الحب لهذا الدين، والولاء له، وإقامة شعائر الإسلام، بل إنه حريص على تلقي العلم الشرعي الذي ينير له الطريق، ويجعله خبيراً بتفاصيل الأمور، ولذلك تجد الشاب حريصاً على معرفة كل دقيق وجديد، مما يتعلق بأمر دينه، كيف يصلي؟ كيف يذكر الله؟ كيف يسبح؟ كيف يصوم؟ كيف يحج؟ كيف يدعو؟ وهذه لا شك بشارة أن هذه الصحوة الإسلامية صحوة مبنية على العلم والتعلم، وعلى الدليل من الكتاب والسنة، وليست مجرد ولاء غامض لهذا الدين.
لقد أصبح الشاب من يوم أن يتوجه يحرص على معرفة الفقه في الدين، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية في الصحيح: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فإننا نرجو أن يكون الله عز وجل أراد بهؤلاء الشباب المؤمنين في كل مكان أراد بهم خيراً، حين فتح قلوبهم على التوجه إلى الفقه في الدين، والازدياد من الهدى، وأن ينهلوا من ينابيع الكتاب والسنة، وأصبح الشاب لا يكتفي مثلما كان الأمر بالأمس القريب، بمجرد أن يسأل الشيخ، ما حكم كذا؟ فيقول له: حلال أو حرام، ثم يذهب الشاب فيطبق، لا، أصبح الشاب حريصاً على أن يعرف الحكم، ويعرف دليله، ويعرف القول الراجح في كل مسألة، ويعرف الصحيح من غيره، وهذه كما ذكرت نعمة كبيرة، ولذلك شهد الإقبال على العلم الشرعي ما لا عهد له به من توجه هؤلاء الشباب.
أَمَا إنني لا أقول: طلاب كليات الشريعة وأصول الدين، والدراسات الإسلامية في جامعاتنا وغيرها، كلا؛ بل وحتى طلاب الكليات الأخرى، من طب، أو هندسة، أو علوم، أو غيرها، تجد الواحد منهم حريصاً على معرفة أحكام دينه بأدلتها، حريصاً على معرفة كيف يصلي، وكيف يركع، وكيف يسجد، وكيف يسلم، لأن هذه أمور ليس مبناها على التقليد، ولا مبناها على العادة، إنما مبناها على حديث: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وحديث: {خذوا عني مناسككم} أمور مبناها على التوقيف، والنقل الصحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
بل وليس فقط طلاب الجامعات، تجد الطالب في المستوى الثانوي بعد أن يهديه الله عز وجل للإسلام والخير تجده يحرص على معرفة تفاصيل هذه الأحكام.(212/3)
واجبنا نحو علماء الأمة(212/4)
التعظيم عند الأمم المنسوبة للإسلام
وهكذا نجد في العصر الحاضر أن الأمم الوثنية ومن ظاهاها من الأمم المنسوبة للإسلام، إذا أردوا أن يعبروا عن تعظيمهم لشخص، علقوا صورته، أو نصبوا تمثاله، وفي كثير من البلاد الإسلامية، تمشي حتى في الشوارع العامة، تجد حتى في الأرصفة تماثيل هؤلاء، وكذلك في الساحات العامة، فإذا أخبرك الناس قالوا: هذا تمثال فلان وهذا تمثال فلان، هذا زعيم، وهذا رئيس، وهذا عالم، وهذا مفكر، وهذا كذا، فيعبرون عن تعظيمهم لهم بنصب التماثيل لهم، وهذا كما أسلفت مظهر من مظاهر الوثنية، التي جاء الإسلام بمحقها، والقضاء عليها، ومحاربتها.
قد يعبرون بصور أخرى، مثل أن يطلقوا اسم العالم على ساحة، أو مؤسسة، أو شارع، أو مدرسة، أو غيرها، أو يذكرونه في أجهزة إعلامهم، أو في أناشيدهم الوطنية كما يسمونها، إلى غير ذلك، هذا شأن كثير من الأمم غير المسلمة.(212/5)
الأمة الإسلامية بريئة من كل صور الوثنية
أما الأمة الإسلامية فإن لها قاعدة، وهي أن كل خير موجود عند الأمم الأخرى فعند الأمة الإسلامية أحسنه، وأفضله، وأزكاه، وكل شر موجود عند الأمم الأخرى فإن الأمة الإسلامية قد سلمت منه بإذن الله إلا ما شذ وندر.
فمثلاً حين ننظر إلى بناء القبور وتعليق الصور والتماثيل، وما أشبه ذلك من التعبيرات المحرمة، أو الشركية، نجد أن الله عز وجل قد وقى المسلمين شر مثل هذه اللوثات الوثنية، وحين كان يوجد مثل هذا الأمر من بعض الجهال والدهماء، كان يلاقى بالإنكار من العلماء، والرد على فاعليه، وسخطه، وبيان أنه لا يرضي الله ورسوله.
ولذلك لا يزال يوجد في الأمة الإسلامية، من يوم وجدت فيها هذه المظاهر إلى اليوم، لا زال يوجد فيها صوت غالب مهيمن مسيطر يقول للناس: إن بناء المساجد على القبور، أو دفن الأموات في المساجد، أو تعليق صور العظماء، أو وضع التماثيل لهم، إنه أمر محرم بإجماع الأمة، وأنه شرك في غالب الأحيان، وذريعة إلى الشرك أحياناً أخرى.
فهذه الصور المنبوذة المكروهة وقى الله الأمة الإسلامية شر إقرارها أو قبولها، إلا في حالات مهما كثرت يقيض الله عز وجل من يرفضها ويأباها.(212/6)
تبجيل العلماء عند الوثنيين
أيها الإخوة! وكل أمة من الأمم تتخذ لها قيادات علمية وفكرية، تعظمها وتبجلها وتقدرها، بحسب الأسلوب الذي يتناسب معها، فمن هذه الأمم -أعني الأمم كافة- من تسلك في سبيل تبجيل وتعظيم علمائها أن تبني على قبورهم المساجد، تعبيراً عن تعظيمها لهذا العالم، كما فعلت الأمم الكتابية الضالة، اليهود والنصارى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجداً} فهؤلاء القوم الضالون، والمغضوب عليهم، تعبيراً عن تعظيمهم لعلمائهم كانوا إذا مات العالم أو النبي بنوا على قبره مسجداً، كما قال القوم أيضاً عن أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] بناء المسجد على القبر، أو دفن الميت في المسجد، هذا تعبير وثني مخالف لعقيدة التوحيد.
لكن هذا شأن الأمم الوثنية، من اليهود والنصارى وغيرهم، كذلك قد يعبرون عن تعظيمهم لعلمائهم بتصويرهم، وتعليق صورهم في أماكن العبادات، وهذا أيضاً وقع فيه أهل الكتاب، ولذلك لما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكرتا له كنيسة رأينها بالحبشة، وأن فيها صوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله} وكان أول من وقع في هذا المنزلق الوثني هم قوم نوح كما في صحيح البخاري عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] [[إنها أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى من بعدهم أن صوروا هؤلاء القوم، وانصبوا لهم هذه الصور ففعلوا، ولم تعبد، فلما مات أولئك القوم، وجاء من بعدهم ونسي العلم عبدت]] ، فتصوير هؤلاء هو أيضاً مظهر من مظاهر احتفال الأمم الوثنية بعظمائها.(212/7)
من هم علماء الأمة
إخوتي الكرام! وحين أقول: واجب الأمة تجاه علمائها، فإننا نعني بطبيعة الحال، وبالدرجة الأولى علماء الشريعة، المبلغون للأمة حكم الله ورسوله، في دقيق الأمور وكبيرها، لأن الأمة من يوم أن رضيت بالإسلام ديناً، قد عقدت العزم على أن هؤلاء العلماء هم الوسيلة إلى معرفة حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمقصود أيضاً بهؤلاء العلماء؛ علماء الكتاب والسنة، العلماء العاملون، فإن مفهوم العلم عند سلف هذه الأمة وأئمتها، كان يعني العلم الصحيح، المبني على الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، والذي يورث صاحبه الخشية في قلبه، وفي جوارحه، والعمل بما علم.(212/8)
الوسائل الصحيحة للتعبير عن احترام العلماء
أما الوسائل الصحيحة للتعبير عن احترام العلماء، وتقديرهم، وتبجيلهم، فكما ذكرت للأمة الإسلامية من ذلك أوفره وأطيبه وأزكاه، ومع ذلك فإن للمسلمين تميزاً في هذا الجانب، أستطيع أن أشير إلى جانب منه في النقاط التالية:(212/9)
التقدير للعلم والدين لا للأشخاص
الجانب الآخر من جوانب التميز، أن الأمة الإسلامية حين تقدر علماءها لا تقدرهم لأشخاصهم، وإنما تقدرهم لهذا العلم والدين والهدي الذي حملوه، ولذلك فإن الولاء الحقيقي عند المسلمين ليس للشخص، بل للعلم الذي يحمله، والدين الذي يبلغه، والهدى الذي ينشره، ولذلك تجد أن المسلمين حين يقع من عالم -كائناً من كان- خطأ ويقول جماهير العلماء من حوله أنه أخطأ، فإن هذه الأمة لا تتمسك بهذا الخطأ لأن فلان قاله، بل تعرف أن تقول لهذا العالم: إنك هاهنا أخطأت، وخطؤك هذا لا ينزل قدرك عندنا، ولا يحط مرتبتك، فإنه ليس في ميزاننا نحن المسلمين إما (100%) أو صفر، عندنا الولاء للحق، فنحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال، وحين يقع خطأ معروف مشهور من عالم مهما كان قدره، وتقول العلماء كافة: فلان أخطأ، يقول خلفهم المسلمون: فلان أخطأ، وهذا الخطأ عثرة ينهض منها، ولا يحط من قدره، ولا يوجب أن يسقط مكانه ومنزلته عند الأمة، كما أنه لا يوجب أن يتابع في خطئه الذي وقع فيه، ولا زالت الأمة تسمع أنه ينبه على خطأ الرجال، فيقال: فلان أخطأ في هذه المسألة، وفلان أخطأ في هذه المسألة، وهذا لا يضر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاًُ أن تعد معايبه ولذلك أيضاً كان الإمام مالك يقول: لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم ويقول آخر: لو أنك تتبعت شذوذات العلماء لاجتمع فيك الشر كله، ومن قبل كان عمر بن الخطاب يقول: كما في حديث عمران بن حدير: {أتدري ما يهدم الإسلام؟ قال: لا، قال: يهدم الإسلام ثلاث: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين} فكان السلف يحذرون من زلة العالم، يحذرون من التحذير المعتدل، الذي يحتاج إلى أن يفقهه الخلف من بعدهم، فيدرك أن الأمة الإسلامية ضمن ولائها وتقديرها للعلماء إنما تواليهم للعلم الذي يحملوه، فإذا أخطأ الواحد منهم لم تجد نفسها محتاجة إلى أن تتابعه في الخطأ، كما أنها ليست محتاجة إلى أن ترفضه لأنه أخطأ، إن الذي لا يخطئ هو النبي عليه الصلاة والسلام، أما من عداه فإنهم يخطئون، ونحن نعرف أننا لو رفضنا كل إنسان لأنه أخطأ خطأ أو عشرة أو مائة، لوجدنا أننا بلا قيادات وبلا زعامات وبلا شخصيات، حتى الصحابة رضي الله عنهم؛ نعرف أنهم اختلفوا في مسائل كثيرة، وخطَّأ بعضهم بعضاً في مسائل كثيرة، والعلماء من بعدهم قالوا: الصواب في المسألة الفلانية مع فلان، والراجح في المسألة الفلانية مع فلان، وهذا لا يعني الحط من قدر فلان، بل هو مجتهد له أجر الاجتهاد، وغيره مجتهد له أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة.
فهذه لا بد من فقهها -ووعيها أيها الإخوان- لئلا تطيش الموازين عندنا، إن من المشكلات أن من الناس -من المسلمين- من يعتبر أنه خَلْفَ هذا العالم، على طول الطريق: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد إن أصاب أصبنا وإن أخطأ أخطأنا، وهذا منهج جاهلي، وفي المقابل تجد أن هناك من يعالج هذا الخطأ بخطأ آخر، فإذا وقع من عالم زلة أو غلط أو سقطة أو ثنتان أو ثلاث سقط من عينه، وأصبح يتحدث فيه، ولا يعتبره شيئاً، وربما أكثر من ذكر هذه الغلطة والسقطة، ومن هو الذي لا يغلط، سبحان الله! الميزان في نفس المسلم الفقيه معتدل، هذا تميز آخر يتميز به المسلم عن غيره من الأمم الأخرى.(212/10)
تميز علماء الأمة من حيث الكم والكيف
التميز الأول: أنه لا يوجد في أمة من الأمم، من العظماء والعلماء، مثلما يوجد في الأمة الإسلامية، لا من حيث الكيف ولا من حيث الكم، فأما من حيث الكم فمن يستطيع أن يجمع لنا في أي أمة، مهما عظمت، وكثرت، وامتدت من الفرس والرومان، والصين والهند وغيرهم، أن يجمع لنا من الأسماء اللامعة عبر التاريخ مثلما حفلت به هذه الأمة، يقول أحد المستشرقين الألمان: إن علم الجرح والتعديل -وهذا مثال- يترجم لخمسمائة ألف إنسان في هذه الأمة، وهذا علم لا يوجد في أي أمة من الأمم الأخرى، فالأسماء اللامعة توجد في هذه الأمة بشكل لا نظير له عند الأمم الأخرى، وكل من له ذكر، حتى في إسناد حديث، حفظت الأمة اسمه وترجمته، ومدى دقته في الحفظ وسلوكه، إلى غير ذلك، فما بالك بالعلماء والعظماء والدعاة والصالحين والمجاهدين وغيرهم! ولو أردنا أن نعد على سبيل الأمثلة لطال بنا المقام، لكن انظر مثلاً، الخلفاء الراشدون، العشرة المبشرون، بالجنة أهل بدر، أهل بيعة الرضوان، السابقون، ثم انظر إلى جماهير من التابعين، انظر للأئمة الأربعة، باعتبارهم ممن أطبقت الأمة على الاقتداء بهم، الأئمة الستة، أصحاب الكتب الستة في السنة، انظر إلى علماء الأمة الذين أتوا بعد ذلك كـ ابن تيمية وابن القيم وابن حجر والعراقي والعز بن عبد السلام، ثم انظر إلى الذين أتوا في آخر هذه الأمة من المجددين، والعلماء والمفكرين والمصلحين، كالإمام محمد بن عبد الوهاب، ونذير حسين، من الذين جاءوا بعدهم أيضاً رشيد رضا، ثم طبقة أخيرة كالشيخ أحمد محمد شاكر، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ الألباني، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ الهلالي، إلى غير ذلك من علماء هذه الجزيرة، ومن علماء الهند، ومن علماء المغرب، ومن علماء الشام، ومصر وغيرها، من الذين ساروا على منهج السلف الصالح واقتدوا بهم، وحاذروا الوقوع في البدع الاعتقادية والعملية، فتجد عندك من ذلك جمعاً غفيراً لا يكاد يأتي عليه الحصر والعد.
أما من حيث الكيف؛ فهو أيضاً أمر لا عهد للأمم به، وأنتم لو كتب لكم أن تقرأوا بعض تراجم لمن يسمون بالعظماء عند الأمم الأخرى، لوجدت الواحد منهم قد يكون بارزاً في مجال، ولكنك قد تجده في المجالات الأخرى في الحضيض، ولو قرأتم بعض سير العظماء الأوروبيين وغيرهم، لوجدتم بعض العظماء عندهم وفي نظرهم، قد تجدونه شاذاً في النواحي الأخلاقية، في سلوكه، في معاملته، في بيته، ولهم في ذلك قصص وطرائف وأعاجيب يضحك منها الإنسان العادي عندنا نحن المسلمين.
ومع ذلك يصفقون لهم ويهللون، ويملئون الدنيا بذكرهم، حتى أصبح كثير من ذرية المسلمين يعرفون عن أعلام الغرب ما لا يعرفون عن أعلام الإسلام، مع أن أولئك الأعلام في نظر الغربيين لا يستحقون أن يقرنوا بوجه من الوجوه بالمسلم، ولذلك فإنني أعتب على ذلك الشاعر الذي يقول: عمر بن الخطاب أفضل من لينين مليون مرة أو يزيد، من يقرن عمر بن الخطاب بـ لينين ولا مليون مرة ولا أكثر، من يقرن أصحاب الجنة بأصحاب النار؟ قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] من يقرن الأبطال الذين لا زالت الدنيا تحتفل بآثارهم وتفرح بتراثهم وتعيش على ما نقلوه لها من الهدى والعلم، بأولئك القمامات الذين لا زالت الدنيا تشقى في بلاد كثيرة بفكرهم الملوث، وآثارهم الرديئة، ومخلفاتهم العفنة، لا مقارنة بين هؤلاء وهؤلاء، هذا جانب من جوانب التميز التي تميزت بها الأمة الإسلامية عن أمم الدنيا كلها، من حيث العظماء كماً وكيفاً.(212/11)
جوانب معاملة الأمة لعلمائها
أما جوانب الواجب الذي يجب على الأمة كلها، وعلى شباب الإسلام بصفة خاصة، أن يعاملوا به علماء الإسلام، فإنه واجب كبير، وأقتصر على ذكر ست نقاط هي:(212/12)
إيصال المنكرات إلى العلماء
الواجب السادس والأخير: هو أن يلتف الناس حول علمائهم في إيصال المنكرات التي تقع إليهم، وطلب تغييرها وإنكارها من هؤلاء العلماء، وذلك لأن العلماء من أولي الأمر، الذين أناط الله بهم مسئولية التغيير والإصلاح في الواقع، فأولوا الأمر هم العلماء والأمراء، ولذلك فإن على الناس أن يفزعوا بعد الله جل وعلا إلى علمائهم حين يرون المنكرات تفشو حولهم، وهذه القضية مهمة، لأن الأمة الإسلامية بأسرها وقعت ضحايا منكرات عظيمة وخطيرة، فأنت حين تأتي إلى أبواب العقائد تجد أن الإلحاد أصبح يكتسح طبقة من شباب الأمة، كـ الشيوعية والعلمانية والحداثية، وغيرها من الأفكار الضالة المخالفة للإسلام، فضلاً عن البدع الاعتقادية الغليظة، مثل التصوف الذي أصبح يكتسح أيضاً حتى بعض المتجهين إلى الإسلام، من الفتيان والفتيات، وأصبح له دعاة يدعون الناس إليه ويجمعون الناس عليه، أيضاً ينفخون في صور وشخصيات الصوفية في هذا العصر، ويلمعونها ويدعون الناس إليها.
وأصبح له رصيد كبير مع الأسف في بعض المجتمعات الإسلامية، كذلك البدع العملية وترك الصلوات، والبدع في العبادات، والحوادث التي لم تكن موجودة في عهد السلف، ووقوع الناس فيها، وانحرافهم عنها، فضلاً عن الانحرافات السلوكية، من انتشار الاختلاط والسفور والتبرج والخلوة، وما يترتب على ذلك من هتك الأعراض والوقوع في الشذوذ، وكون هناك أجهزة ووسائل كثيرة من وسائل الإعلام في كل البلاد الإسلامية، أصبحت تساهم مساهمة فعالة في مثل هذه الميادين، وأصبحت أشرطة الفيديو والأغاني والتلفزيونات في البلاد الإسلامية تعمل على تطبيع كثير من المنكرات، بحيث أن الإنسان لا يستغرب أن الرجل يخلو بامرأة أو يقبلها، أو أن المرأة تظهر سافرة حاسرة عن شعرها ورقبتها ونحرها، وربما ذراعيها وعضديها وساقيها، وتصاحب الرجال وتصادقهم، وقد تقع الخيانة، وبالمقابل أصبحت في كثير من الأحيان تعمل على تعميق غربة الشرائع الإسلامية.
ففي الوقت الذي تجد أن مسألة تعدد الزوجات -على سبيل المثال- أصبحت شعيرة غريبة، وأصبح موضوع تعدد الخليلات أمراً معروفاً في بعض المجتمعات، على الأقل في شعور الناس، وأذكر في ذلك طرفة ذكرها أحد العلماء، يقول: في إحدى البلاد الإسلامية ولم يسمها، كان تعدد الزوجات ممنوعاً، ولكن صادف أن رجلاً تزوج باثنتين، فأحد أصدقائه حصل بينه وبينه خصومة، وقال له: أنا سوف أوقع فيك، وذهب للسلطة الرسمية للشرطة، وقال لهم: فلان واقع في الجريمة! قالوا: كيف؟ قال: عنده زوجتان، قالوا: صحيح! قال: نعم، وسجل لهم بلاغاً إن فلاناً عنده زوجتان، فجاءت الشرطة تراقب هذا الإنسان، وفعلاً اكتشفوا أنه يتردد على بيتين، فقبض عليه متلبساً بالجرم المشهود، وبعد أن أحضروه، قال لهم: يا ناس أبداً أنتم مخطئون، قالوا: قد وجدناك وراقبناك، قال: نعم، صحيح هذه زوجة، وتلك كانت خليلة أو عشيقة، فاعتذورا إليه وردوه بكل أدب واحترام إلى بيته!! والعهدة على الناقل، ولا أظنه إلا صادقاً وليس هذا بغريب، فقد رأينا من غربة شرائع الإسلام في بعض البلاد أمراً عجباً.(212/13)
حماية ظهور العلماء
الواجب الخامس: هو حماية ظهور هؤلاء العلماء، وذلك بأن يحمل الإنسان على عاتقه ألا يرضى ولا يأذن لأحد بأن يحط من قدر هؤلاء العلماء، أو ينال منهم، كثير ما تسمع بعض الناس يقول لك: يا أخي! هذا العالم مداهن، هذا العالم ساكت عن الحق، هذا العالم فيه كذا، هذا ضعيف، هذا فيه غفلة، هذا ليس عنده معرفة بالواقع، إلى غير ذلك من الطعون التي يوجهها كثير من الناس إلى علماء الأمة، علماء أهل السنة والجماعة، فالإنسان يجب عليه أن يحمل على عاتقه حماية ظهور هؤلاء العلماء، ويحتسب -أولاً- أن يكون ممن ذب عن عرض أخيه المسلم، وقد صح في الحديث من حديث أسماء بنت يزيد عند أحمد والطبراني وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من ذب عن عرض أخيه المسلم في غيبته أو بالغيبة كان حقاً على الله عز وجل أن يعتقه من النار} فهذا أخوك المسلم أولاً، ثم هو بعد ذلك ليس هو مجرد أخ، بل هو من قادة الأمة وعلمائها، وله من الحق ما ليس لغيره.
ولذلك على الإنسان أولاً: أن يدرك أن هؤلاء العلماء النيل منهم ليس كالنيل من غيرهم، ولذلك يقول ابن عساكر: اعلم أخي! أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، وهذا ملحوظ.
أيها الإخوة! إنني أعرف رجالاً كانوا ينالون من أهل العلم المعروفين، الذين أسلمت الأمة لهم القيادة، فقال لأحدهم قائل، سمعه يقول في حق عالم جليل من علمائنا فقال له رجل: والله ليكونن لهذه الكلمة شأن، وفعلاً ما مر غير وقت يسير حتى كان هذا الذي ينال من العلماء ضل وانحرف عن سواء السبيل، والعياذ بالله! وأصبح في حال يرثى لها، فلحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، يعني كل إنسان ينتقص العلماء ويزدريهم غالباً يهتك ستره في الدنيا قبل الآخرة.
ونحن نقول لمن ينال من علمائنا، ويحط من قدرهم، نقول له أولاً: أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا نحن لا نقول: علماؤنا معصومون، ولا نقول: إنهم أنبياء، ولا نقول: إنهم ملائكة، لكننا نقول: إنهم من أفضل البشر ومن خير البرية، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] والذي ينال منهم ينال من أفضل طبقات الأمة، ومهما يكن في العالم من التقصير، فيكفيه فخراً أنه في الوقت الذي أكون أنا وأنت مشغولون بالبيع والشراء والصفقات والدراسة وأعمالنا الدنيوية، هذا العالم قد انقطع عن كل هذه الأمور، وتفرغ للفقه في الدين والعبادة والعلم والتعليم، وغير ذلك من الجهود العظيمة.
يكفيه هذا فخراً، هذا العالم في يوم من الأيام كان طالباً في الكلية، كان زملاؤه في الكلية يعدون بالمئات كلهم ذهبوا، لا يعرفهم الناس، لا يعرفون إلا فلاناً لماذا؟ لأنه استمر في الطلب والعلم والتعليم والدعوة، حتى نفع الله به، وسد الله بيده ثغرة للأمة.
وثانياً نقول: هؤلاء علماؤنا، وبهم نفتخر، فلماذا يكونون هم بيت القصيد؟! وهم موضع السهم؟! لماذا تغفل عن العلمانيين ودعاة الضلالة، وكثير من الفساق والفجار، وحملة الأفكار الأرضية والمذاهب الوضعية، ودعاة الفتنة والفساد لماذا تغفلون عنهم؟! لماذا يلقى هؤلاء الحظوة؟! وهذا أمر غريب أيها الإخوة! المنحرفون حتى المنحرفون يبجلون قادتهم، ولذلك تجد كثيراً ما يطبق الناس على مدح فلان، فلان ناجح في عمله، قام بخدمات جليلة، أمين مخلص جاد، وهات من هذه الألقاب الفضفاضة الفخمة، لماذا؟ لأن أولياءهم من شياطين الإنس نجحوا في تضليل الناس والتغرير بهم، وتلميع شخصياتهم وصورهم، فصاروا هم العلماء والأدباء والشعراء والعاملين والمخلصين، وأضفوا عليهم من الألقاب فوق ما يستحقون! في حين أن الدعاة وطلاب العلم وأهل الخير والصلاح خذلوا علماءهم، ورضوا بأن ينال منهم، فهذا لا يكون ولا ينبغي أن يكون.
كذلك أضيف أنه ما قد يوجد عند العالم من تقصير قد يكون طبيعياً من جهة، ومن جهة قد نتحمل نحن مسئوليته، لأن من واجبنا نحن أن نوصل إلى العالم ما نرى وجوب إيصاله، فمثلاً لكي يكون العالم بصيراً بالواقع، يحتاج إلى أن يكون الناس جسوراً يوصلون إليه ما يرون في الواقع من أمور، وإلا فالعالم ليس كالشمس يشرق على جزء كبير من الدنيا، بل الشمس لا تشرق على الدنيا كلها، وإذا أشرقت على بلاد غابت عن بلاد أخرى، فانشغاله بالعلم والتعليم، وأمور ومهام ومشاغل كثيرة، قد يلهيه عن أمور أخرى فعلاً، ويصبح ليس لديه الملكة الكافية، فمن واجب الناس أن يحرصوا على إيصال مثل هذه الأمور لعلمائهم، وإيصال ما قد يقال من الأمور التي من المهم أن يعرفها العالم.(212/14)
الانتفاع بالعلم
الواجب الرابع هو: الانتفاع بعلم هؤلاء العلماء، والانتفاع يكون على صور شتى: أولاً: إجماعهم حجة، فإذا أطبق العلماء واتفقوا على حكم فهو حجة، لا يسع أحد أن يخالفهم، بل يجب على الأمة أن تتابعهم في ذلك.
أما إذا اختلفوا فإن الإنسان حينئذ قد يكون عامياً، يقول: أنا والله لا أقرأ ولا أكتب، ولا أميز بين الحديث الصحيح وغيره، ولا أفهم معاني القرآن والسنة، فنقول: ما دمت عامياً فواجبك أن تكون مقلداً لمن تثق بدينه من العلماء، سواء من العلماء الأحياء أو الأموات، تقول: أثق بعلم الإمام أحمد، الشافعي، مالك، أبي حنيفة، عالم معاصر من العلماء المعتبرين، تقلده فيما ينزل بك من الوقائع والأشياء التي تحتاج إلى معرفة حكم الله ورسوله.
وقد نقل بعض الأصوليين كـ ابن قدامة وغيره؛ الإجماع على أن العامي فرضه التقليد، ومذهبه مذهب مفتيه، فالعامي لا يفقه الأدلة، هذا بالنسبة لك إن كنت عامياً.
أما إن كنت طالب علم فأنت تتبعه، والاتباع هو أن تسأله عن الحكم، وتسأله عن الدليل، وحينئذٍ إن كان ما أفتاك به بدليله صحيحاً، ولم يبن لك خلاف ذلك قبلته، وإن رأيت هناك قولاً آخر أقوى منه وأجدر بالاتباع، فأنت تنتقل من عالم إلى عالم آخر، فلا زلت في إطار العلماء، أما إن كان الإنسان عالماً فهو حينئذ نظير لهذا العالم، إن وافقه حمده، وإن خالفه شكره، لأنه خالفه بمقتضى الدليل الشرعي، وهذا لا يوجب خصومة ولا عداء: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم والعالم المحقق لا يأتي بشيء من كيسه، إنما يأتي بفهم فهمه من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من قواعد متفق عليها بين أهل العلم.(212/15)
ضرورة الالتفاف حول العلماء
الواجب الثالث هو: ضرورة الالتفاف حول العلماء، وكثرة مخالطتهم ومجالستهم، والقرب والدنو منهم، وذلك ليأخذ عنهم الإنسان العلم، وليس العلم فقط، العلم! ليس مجرد علوم نظرية يتلقاها الإنسان، العلم هو في الواقع سلوك، فأنت كما تتعلم الحكم الشرعي بالدليل، كذلك يجب أن تتعلم الخلق الفاضل، والهدي المستقيم، والسلوك والأدب والتعقل والتريث والصبر من العالم.
وقولوا لي بالله عليكم! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل كانوا فقط يتعلمون منه عن طريق الدروس؟ هل كان يعقد لهم محاضرات وخطب، فيجلس يتكلم وهم يسمعون؟ لا وإن كان هذا يقع؛ لكن كانوا في معايشة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامته وسفره وضعنه وحله وترحاله وغزوه وحربه وسلمه وبيته ومسجده وسوقه، يعايشونه عليه الصلاة والسلام ويتابعونه ويتعلمون من خلقه مثلما يتعلمون من قوله عليه الصلاة والسلام.
فمسألة تعلم الإنسان من الشيخ حسن الخلق والصبر والحلم والرزانة والأدب والهدي والسمت، لا تقل أهمية عن تعلم العلم المجرد من الأحكام والأصول والفروع والأدلة والآيات والأحاديث ونحوها، فلا بد من صحبتهم لهذه الأشياء كلها، هذه الصحبة كانت سمتاً يميز علماء السلف، وأضرب لكم أمثلة يسيرة في ذلك: 1- من أشهر الأمثلة في ذلك قصة عبد الله بن المبارك، لما زار الرقة كان يسمى أمير المؤمنين في الحديث -وعبد الله بن المبارك من الشخصيات التي تجمع فيها ما تفرق في غيرها، ارجع إلى سيرته واقرأ ماذا يعجبك في عبد الله بن المبارك، إن قلت العلم فالعلم، إن قلت الحديث فالحديث، إن قلت الكرم والجود والسخاء فذاك، إن قلت الجهاد والغزو والشجاعة، إن قلت العبادة سبحان الله! إنه شخصية جامعة، المهم عبد الله بن المبارك من أئمة السلف وعلمائهم وجهابذتهم- زار الرقة بلد بالمشرق، وصادف في زيارته أن هارون الرشيد أمير المؤمنين في الواقع، ذاك أمير المؤمنين في الحديث وذاك أمير المؤمنين في السياسة والحكم، زار الرقة أيضاً، فانجفل الناس إلى عبد الله بن المبارك وامتلأت الشوارع، وارتفع الغبار، وتقطعت النعال، كان مع هارون الرشيد أم ولد، يعني أمة وطئها هارون الرشيد فولدت له، فتعجبت! موكب هارون الرشيد في هذا الاتجاه والناس ذاهبون في اتجاه آخر، فتلفتت وقالت: ما شأن الناس؟! إلى أين يذهبون؟! مسكينة ظنت أنهم ضلوا الطريق! فقال لها بعض من حولها: إن عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث قد قدم الرقة، فالناس قد انجفلوا إليه، فحركت رأسها وقالت: هذا والله هو الملك لا ملك هارون الرشيد الذي يقاد إليه الناس بالسياط والشرط والقوة.
فضمير الأمة الإسلامية كان وراء العلماء وحول العلماء، وإذا قدم العالم كانت البلدة تخرج لاستقباله، وإذا تحدث أنصت الناس له.
2- كم كان يحضر مجلس الإمام أحمد في بغداد بعدما فتن وصبر؟ قدر بعض العلماء كـ ابن الجوزي وغيره من يحضرون مجلسه بخمسة آلاف نسمة.
3- انظر على سبيل المثال شيخ الإسلام ابن تيمية كيف كان ابن تيمية؟، لأنه كان فعلاً مع الأمة في الواقع، كانت قلوب الناس معه كما ذكر ابن القيم والذهبي وغيرهما، العامة كلهم كانوا مع ابن تيمية رحمه الله، ولذلك كان السلطان يخاف من ابن تيمية ويخشى منه، فلا يمسه ولا يؤذيه، حتى أن ابن تيمية كان يخرج في الأسواق، ويغير المنكرات، ويكسر أواني الخمر ويهريقها، وخرج إلى جبل كسروان فقطع أشجارهم وفرقهم وأنكر عليهم، وما كان أحد يستطيع أن يتعرض له، بل كان ابن تيمية يقف أمام السلطان المملوكي في مصر، ويقول لهم: إن كنتم تخليتم عن الشام فإننا نقيم للشام حاكماً يحوطه ويحميه في زمن الخوف ويستغله في زمن الأمن، قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] ومع ذلك ما كان السلطان يستطيع أن يتصدى لـ ابن تيمية بشيء، لأن ضمير الأمة وقلوب الناس كانت مع ابن تيمية.
ولذلك فإن التفاف الناس حول علمائهم الصادقين العاملين، علماء أهل السنة والجماعة رمز يميز هذه الأمة، وهو ضمانة من وجهين: ضمانة للعامة حتى تكون قياداتها قيادات علمية وشرعية وعقائدية موثوقة، وبالمقابل ضمانة للعلماء حتى يتمكنوا من القيام بدورهم الدعوي والعلمي والواقعي وهم آمنون، وسيأتي مزيد من إلقاء الضوء على هذه النقطة بالذات.
4- العز بن عبد السلام يذكر بعض مترجميه أن العز بن عبد السلام لما خرج إلى مصر - العز بن عبد السلام بطبيعته في الحال كان في الشام فلما جاء الصليبيون ومالأهم حاكم الشام قطع العز بن عبد السلام الدعاء له على الخطبة، وتكلم عليه، فأمره السلطان بالخروج فخرج، ثم سجنه في خيمة في أحد الأماكن، وكان السلطان في نفس الوقت في خيمة مجاورة، يتفاوض مع بعض رسل الصليبيين، فسمع هذا الصليبي العز بن عبد السلام وهو يقرأ القرآن ويهلل ويسبح، فقال: من هذا؟ قال الحاكم: هذا رجل من علمائنا، عارضنا فيما نعمله معكم من المفاوضة فسجناه، فقال الرجل: والله لو كان هذا الحبر عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها! عالم يتخذ هذا الموقف، هذا يبجل ويعظم، المهم خرج العز بن عبد السلام إلى مصر ومكث فيها وقتاً طويلاً، كان يحكمها المماليك، وهم عبيد مملوكون أرقاء، فقال العز بن عبد السلام: لا بد أن تباعوا ويحرج عليكم بالمزاد العلني، ثم بعد ذلك إن شئتم أن تعودوا للسلطة فعودوا، أما أن تحكموا الناس وأنتم عبيد، فهذا لا يمكن، المهم قالوا له: أخرج من البلد، فخرج في موكب متواضع، راكب على حمار ومعه زوجته، وقد وضع أثاثه على هذا الحمار، وخرج هذا الموكب البسيط، فخرجت معه مصر كلها، فجاء الناس إلى السلطان، وقالوا: خرج العز بن عبد السلام فخرجت مصر وراءه! فمن تحكم إذاً إذا خرج الناس، فأمره بالعودة واسترضاه وحقق له ما يريد!(212/16)
الصبر على شدة العلماء
الواجب الثاني: أن من واجبنا أن نصبر على ما قد يبدر أو يبدو من الشيخ الذي نتلقى عنه ونأخذ منه مما قد نعتبره نحن جفوة، أو شدة علينا، وقديماً قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقسُ أحياناً على من يرحم كان علماء السلف رحمهم الله أحياناً يتعمدون أن يؤدبوا الطالب بكلمة أو بلفظة أو بعبارة معينة، لأن هذا الطالب يحتاج إلى ضربة معلم كما يقال، تجعله يعتدل، قد يشتط الطالب، قد يزداد، قد يعجب بنفسه، قد يتعدى حده، فيحتاج إلى كلمة تكون كالضربة من الشيخ يؤدب بها الطالب، ويقول له: أخطأت، والذي لا يتحمل هذا الأمر لا يمكن أن يكون عالماً، ولذلك قال مجاهد كما ذكره البخاري تعليقاً [[لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر]] لأن المستكبر يأنف من الذل في سبيل طلب العلم، وابن عباس رضي الله عنهما يقول: [[ذللت طالباً فعززت مطلوباً]] لاحظ ذللت طالباً فعززت مطلوباً، أي أنه يوم كان طالباً كان يذل نفسه بين يدي الشيخ، لا يقول: أنا فلان بن فلان ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا الذي دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء مشغولون بحرثهم وزرعهم وتجارتهم، لماذا أركض وراءهم؟ لا، كان يذل نفسه بين يدي عالم وشيخ، فعز مطلوباً، فلما حصل على العلم أكرمه الناس وأعزوه، وصاروا يضربون إليه أكباد الإبل من كل مكان.
أيها الإخوة! المهم ينبغي أن نفرق بين صنفين من الناس: هناك صنف من العلماء، أو من المنسوبين إلى العلم، قد ينال من الشباب أو من الصالحين أو من الدعاة أو من طلاب العلم، ويقع فيهم ويلمزهم ويتكلم فيهم، من دافع البغض والشنآن والوقيعة والعداء للسنة، فهذا لا كرامة له، ولا نقول: إنه يجب تبجيله واحترامه وكذا وكذا، لكن هناك عالم من منطلق الحب والمودة، والحرص على الإصلاح، وتجنب العثرة، واتقاء الخطأ، قد يوجه وقد يرشد وقد يخطِّئ وقد يضيق، فنفرق بين هذا وهذا.
والإنسان إذا لم يستطع أن يميز عدوه من صديقه فهو في غاية الجهل، لأن صديقك الحقيقي هو من يقول لك: أصبت إذا أصبت، ويقول لك: أخطأت إذا أخطأت، أما من يصوبك على طول الطريق فهو عدو لك، وكذلك من يتحامل عليك، ويحوِّل صوابك إلى خطأ، فهو عدو أيضاً وكما قيل: إذا محاسني اللائي أذل بها صارت عيوباً فقل لي كيف أعتذر فلا بد من تحمل ما قد يبدر من الشيخ، مما قد يعده الطالب جفوة أو شدة أو قسوة في حقه: ومن لم يذق ذل التعلم ساعة تجرع كأس الجهل طول حياته(212/17)
الاحترام والتقدير
فالواجب الأول: هو واجب الاحترام والتقدير، ومعرفة الفضل، وحسن الخلق، والتلطف في السؤال، والاستفتاء، والاستعادة والمراجعة وغير ذلك، وهذا ما كان السلف يفعلونه، حسن الخلق مع العالم تقديره احترامه.
في مستدرك الحاكم أن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كان يأخذ بركاب زيد بن ثابت ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا، ومرة أخرى ابن عباس رضي الله عنه، كما في فضائل الصحابة للإمام أحمد وغيره، كان يأتي إلى الرجل من الصحابة يريد أن يأخذ عنه الحديث، فيجد أنه في القيلولة نائم، فلا يطرق عليه الباب ولا يؤذيه، بل يتوسد ثوبه وينام عند باب هذا الرجل، حتى تأتي الريح وتسفي على ابن عباس التراب، فإذا استيقظ الرجل وخرج لصلاة العصر وجد الرجل نائماً عند بابه، فسلم عليه وقال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أرسلت إلي فأتيتك، يعظمون ابن عباس لعلمه ولأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[لا أنت أحق أن يؤتى إليك]] ثم يسأله عن هذا الحديث ويرجع.
كان الناس يوقرون ويقدرون علماءهم، الإمام أحمد رحمه الله كان يجلس بين يدي خلف الأحمر كما ذكر بعض أهل العلم ويقول له: لا أقعد إلا بين يديك هكذا أُدِّبنا مع علمائنا، ومثله كان الشافعي وغيره من أهل العلم يفعلون مع معلميهم وأساتذتهم ومشايخهم، أما إني لا أقول كما يقول الغزالي صاحب إحياء علوم الدين، يقول: إنه يجب أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله، فإن هذا تسليم لا يعرف في الإسلام، ولكن لعلنا نستعين بعبارة ابن جماعة الكناني في تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم، حيث يقول: إنه يجب أن يكون بين يدي شيخه كالمريض بين يدي الطبيب فلا شك أن الجهل داء ودواؤه العلم، وكما أن الجاهل مريض فالعالم طبيب، ولذلك فإنه ينبغي للطالب أن يتحلى بحسن الأدب، والتلطف مع شيخه، وتقديره في السؤال وفي المراجعة، وفي استعادته للكلام، ولو حدث من شيخه غلط أو خطأ، فإنه يراجع بأدب وحسن سلوك، وليس بالضرورة أن يواجهه هكذا في وجهه، ويقول: هذا من الشجاعة وهذا من الجراءة في قول الحق أخطأت، وهذا ليس بصحيح، وأنت وفلان قال: غير هذا، فهذا ليس من الأدب، وليس من التقدير، هؤلاء أناس بذلوا وقتهم للعلم وللتعليم، وللجهاد في العلم والدعوة في واقع الناس، فمن حقهم أن يجدوا الاهتمام ويجدوا الأدب، ويجدوا التقدير الذي يدعو غيره إلى أن يحذوا حذوه، ويدعوهم إلى أن يستمروا في ما هم فيه من العطاء والبذل والتضحية في هذا السبيل.
أيها الإخوة: من المؤسف أن علماء المبتدعة يجدون من عامة أهل البدع التقدير والاحترام والتبجيل، والمبالغة في ذلك، التي تصل إلى حد الغلو الذي لا يرضاه الله ورسوله، فنجد مثلاً من الرافضة تعظيماً لزعمائهم، وهذا أمر ملحوظ مشاهد، تجدونهم يسيرون خلفهم ويبجلونهم ويعظمونهم، ويتقصدون أن يشعروا الناس كلهم بأنهم خلف علمائهم، وأن العالم في المحل الأرفع عندهم، وكذلك المعتزلة، وغيرهم من أهل البدع، على سبيل المثال واصل بن عطاء شيخ المعتزلة كان له أتباع ومريدون، لو قال لهم: اذهبوا إلى الصين أو السند أو الهند لركضوا ولم يترددوا عما يقول؛ ولذلك يمدحه أحد الشعراء بقوله -يمدح هذا المبتدع الضال بقوله-: له خلف بحر الصين في كل بلدة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر رجال دعاة لا يَفلُّ عزيمهم تهكُّم جبار ولا كيد ماكر إذا قال مروا في الشتاء تسارعوا وإن جاء حر لم يخف شهر ناجر هم أهل دين الله في كل بلدة وأرباب فتياها وأهل التشاجر يعني يمدح هؤلاء الناس، بأنهم مطيعون لشيخهم في الضلالة واصل بن عطاء، وليس المقصود أن أهل السنة والجماعة يجب أن يكونوا مع علمائهم كأهل البدعة والضلالة، لا؛ لكن هناك قدر يخل به بعض الصالحين، ونحن كما أسلفت نفرق بين تقدير العالم وتبجيله واحترامه، وأن نتعمد إشعار الناس كلهم بأننا نقدر علماءنا، ونعظمهم، وهكذا أمرنا أن نصنع بهم، كما يقول ابن عباس، نفرق بين هذا وبين كون العالم له موقع لا نتخطى موقعه به، فالعالم ليس نبياً ولكنه وريث النبي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر} فورثة الأنبياء لهم قدر، لهم مكانة، لهم فضل، لكنهم ليسوا بأنبياء، بحيث لا يرد عليهم ولا يناقشون، ولا يراجعون، ولا يسألون عن الدليل، فلا بد من التفريق بين هذا وهذا.(212/18)
كيفية تغيير المنكرات
هذه جوانب من منكرات أصبحت تزخر بها المجتمعات الإسلامية، بطبيعة الحال ليس موقف المسلمين منها موقف المتفرج من هذه المنكرات، ولا موقف هز الرءوس، ولا موقف مجرد التضجر من هذه الأشياء، لا، هذه أمور تحتاج إلى أشياء عملية، ولكن الحلول العملية ما تكون بيوم وليلة، وكما قيل: ما حدث في جيل أو قرن لا يصلح في يوم، تحتاج المسألة إلى وقت، وإلى صبر، وإلى تريث، وتحتاج بالدرجة الأولى إلى حكمة في معرفة كيفية معالجة هذه المنكرات، فلذلك أنا أشير إلى نقاط أساسية في هذه القضية:(212/19)
الطريقة السليمة في تغيير المنكر
الدور الثاني الذي يقوم به العالم هو: أنه قد يوجه الإنسان إلى تغيير المنكر بالطريقة السليمة؛ وذلك لأن العلماء السابقين كالإمام الجويني والغزالي وابن تيمية وغيرهم من أهل العلم، حين تحدثوا عن إنكار المنكر، واستخدام القوة في تغيير المنكر، قالوا: إنه لا بد أن يضبط ذلك بالحكمة وبالمصلحة، من يقدر المصلحة؟ أنا وأنت قد يبدو لنا مصلحة عابرة ونؤثرها، ونغفل عن مصلحة أخرى، أو مفسدة كبيرة، لكنها ليست قريبة، بل تحدث بعد ذلك، ولذلك فإنه لا ضابط لهذا الأمر إلا أن تربطه بأهل العلم، فتقول: ليس من حق أي فرد شاباً كان أو غيره، أن يقوم بتغيير المنكر بالقوة ما دام ليس بجهة رسمية، إلا بعد إذن العلماء المعتبرين، الذين أطبقت الأمة على الأخذ عنهم، من علماء أهل السنة والجماعة.
فهم الذين يقدرون المصلحة، أما كون بعض المخلصين في بعض البلاد الإسلامية سمعوا أنه في بلد معين حفل غنائي يقام، فقاموا وقالوا: لا بد أن نوقف هذا الحفل، وقاموا بالقوة واقتحموا وكسروا!! فعلاً نجحوا في تأخير الحفل، فبدلاً من أن يقام اليوم، أقيم بعد أسبوع، لكن الحفل أقيم، والمنكر ما زال، لكن وقع في مقابل ذلك مفاسد عظيمة، من التضييق على أهل الخير، وسد الأبواب عليهم، وتشويه صورتهم، وإيذائهم وسجنهم وتشريدهم، وإحداث شرطة خاصة بمثل هذه الأعمال، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تخفى عليكم، فمسألة تقدير المصلحة أصبحت خاضعة لاندفاعات بعض المخلصين، والإخلاص وحده لا يكفي، بل لا بد مع الإخلاص من بعد النظر، وسعة الأفق، وتقدير المصالح والمفاسد بصورة حقيقية.
ولذلك فإن دور العلماء أن يضبطوا هذه الحركة، فلا يأذنوا لأي إنسان غيور أن يقوم بالتغيير بالقوة بمجرد قناعته بأن هذا منكر لا بد أن يزول، وبالتالي يبقى المنكر، ويزول هذا الإنسان ويذهب، كما قال ابن خلدون: مأزوراً غير مأجور؛ لأنه ما عرف الطريق الصحيح في التغيير والإصلاح، لا تتخلى عن العالم، تقول: العالم ما أنكر! لا، اجعل نفسك حول العالم، بحيث يكون للعالم قوة، ويتحدث من مركز، في نفس الوقت أنت محكوم بقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] والعلماء نصوا على: أن الإنسان يجب عليه أن يغير المنكر إذا أمن الضرر على نفسه، فإذا كان في ذلك ضرر على نفسك، لم يجب عليك الإنكار، فكيف إذا كان في ذلك ضرر على الناس! أحياناً قد تغير المنكر ويترتب على تغييرك منكر أعظم منه.
وليست المشكلة ضرر على الإنسان نفسه؛ قد يقول الإنسان: أنا أتحمل الضرر ولا أبالي، وفي سبيل الله، لكن قدِّر هل سيترتب على هذا التغيير ضرر لغيرك، ومفاسد على الصالحين وعلى الدعاة وعلى العلماء وعلى الغيورين؟ فحينئذ يجب أن تتوقف، وبعض الشر أهون من بعض.(212/20)
براءة الذمة بعد تبليغ العلماء
أخيراً: فإن الإنسان إذا بلغ، وقال ما يجب عليه بالعبارة الصحيحة الصريحة، وبالأسلوب الذي يستطيع، وأقام الحجة على العالم، أنه في بلد كذا منكر كذا وكذا، وهذه هي الأدلة، وهذه هي الوثائق، أو على المسئول كأن يكون من أهل الحسبة، أو سلطان أو غيره، حينئذ نقول لك: يا أخي! ذمتك بريئة، ذمتك برئت، لأن هذا غاية ما تستطيع، وليس بيدك قوة وسلطة تغير بها.
وهذا الموضوع قد أطلت فيه بعض الشيء، لأنه من الأمور التي يكثر سؤال الناس عنه، واستفسارهم حوله، خاصة وقد أصبحت المنكرات بالشكل الذي أومأت إلى شيء منه في بداية هذه النقطة، وعمت وأطمت، وأصبحت تقلق بال الغيورين.(212/21)
واقع تغيير المنكر
إخوتي الكرام: أنا أقول لكم هذا الكلام، ولكن علم الله أنني وغيري من الناس، الذين عندهم ولو بعض الغيرة على الدين، إذا رأى المنكر عياناً يفور دمه ويغلي، وربما يحدث منه أشياء هو نفسه لا يرتضيها، لكن مع ذلك ينبغي أن نوطن أنفسنا على الحكمة، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} ليست الشجاعة أن تقول: أنا والله أغير المنكر بالقوة، وتصبح كالذي يضرب رأسه في الجبل! لا، الشجاعة والقوة والشدة التي يثني عليها عليه الصلاة والسلام أنك ترى المنكر فيقع عندك من الغليان والانفعال الشيء الكثير، ومع ذلك تحاول أن تضبط نفسك، لتغير بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا لم يجد ذلك، ولم يكن بيدك سلطة رسمية، اكتفيت بذلك وبلغت ولاة الأمر، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ودعوت الله عز وجل بأن يغير هذا الأمر، ويهيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، والدعاء هو سلاح المؤمن.
خاتمة: إخوتي الكرام! أقول لكم في نهاية هذه المحاضرة، كما قلت لكم في بداية ونهاية محاضرة الأمس، هذه الأشياء التي أقولها لكم هي اجتهادات من عندي، فإن كانت حقاً فمن الله وله جل وعلا المن والفضل، وإن كانت خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منها بريئان، وأسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم ممن يهدون بالحق وبه يعدلون، اللهم اجعلنا ممن يهدون بالحق وبه يعدلون، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم أصلحنا وأصلح بنا وأصلح لنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم انفعنا وانفع بنا، اللهم لا إله إلا أنت أنت القوي ونحن الضعفاء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا من جودك وعطائك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم تقبل منا، واغفر لنا ولإخواننا المسلمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(212/22)
دور العلماء في تغيير المنكرات العامة
النقطة الأولى: مسألة دور العلماء، وذلك فيما يتعلق بالمنكرات العامة، التي لا يستطيع الإنسان أن ينكرها بمفرده، هناك منكر فردي، أنت وجدت إنساناً عليه منكر، تقول: يا أخي! اتق الله ودع ما تصنع، هذا لا يحتاج أنك تذهب إلى سماحة الشيخ ابن باز، أو الشيخ ابن عثيمين، فتقول له: فلان يشرب الدخان، أو فلان يشرب الخمر، هذا تقول له: يا فلان اتق الله ودع ما تصنع، لكنني أعني بذلك المنكرات العامة، والمنكرات الكبيرة، والمنكرات الرسمية، والمنكرات المنتشرة، التي هي فوق طاقة الفرد أحياناً.
أولاً: لا بد أن تبلغها للعلماء، وهذا التبليغ يكون بصورة موثقة وليس مجرد كلام، لأن بعض الناس يكون عنده نوع من الحساسية المفرطة، تجعله يبالغ في ذكر المنكرات، وقد قابلت بعض الشباب مثلاً، فوجدته يتحدث بحرقة وربما انفعال فوق اللزوم، ويقول: يا أخي! البلد فيه كذا وفيه كذا، في إحدى البلاد، ويحدثك عن بعض الأوضاع، فإذا قلت له: اذهب، أنا أريد أن أرى بعيني، جاء بك إلى شباب جالسين على الرصيف مثلاً، وقال لك: هؤلاء يوجد عندهم فجور ولواط، أرني إياها! قال: هذا كبير وهذا صغير، وهذا كذا، وهم يضحكون ويدخنون، صحيح أن هذا وضع غير جيد، وضع مشبوه، والتدخين محرم، لكن مسألة أنه يكمل الرواية من خياله هذا لا ينبغي أن يكون! وبعض الناس يوجد عندهم نوع من عدم التوازن، يجعلهم يبالغون في ذكر المنكرات، ولذلك حين تذكر للعالم منكراً لا بد أن تكون دقيقاً، ولا بد أن توثق ذكر هذا المنكر بصورة جيدة.
ثانياً: بعد أن تذكر هذا للعالم، أو لمن يسعه التغيير من أهل الحسبة، أو من القائمين على هذا الأمر، بعد ذلك العالم قد ينكر وقد يعجز عن الإنكار، وهنا يأتي دور قول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فليس من حقك أن تنفض يدك وتقول: يا أخي! العلماء تخلوا، العلماء لا ينكرون، العلماء لا يفعلون، قد يكون أنكر لكنك ما علمت، والإنكار لا يعني بالضرورة أن المنكر زال، بذل العالم جهده، والعالم ليس سلطة في كل حال يغير الأمور بمجرد قلم، العالم قد يستطيع وقد يعجز، لكن إذا قام بما يجب عليه، هذا الذي يسعه بينه وبين الله جل وعلا.
وكم من مواقف وجهود كبيرة نعرفها لأهل العلم، لا يعرفها الناس، وهم يلومونهم، وقد لا يدرون مواقفهم القوية الشجاعة، والعالم لا يؤثر أن يتحدث الناس عنه بهذه المواقف، بل يفضل أن تكون بعيدة عن حديث الناس وكلامهم، لأنه أقرب إلى الصدق، وأبعد عن الرياء، وأقرب إلى الحكمة وتحقيق المصلحة أيضاً.(212/23)
الأسئلة(212/24)
هجر ملامح الشخصية الإسلامية
السؤال
ما هي الطريقة المثلى لنصح بعض الشيوخ الدكاترة، الذين يهملون ملامح الشخصية الإسلامية من حلق اللحى، وإسبال الثياب، وغيرها؟
الجواب
من المؤسف اليوم أن سمت العالم الذي كان عليه السلف الصالح أصبح مفقوداً لدى كثير ممن يلقنون الطلاب، وبعضهم قد يقول لك هذه قشور! وهذه مشكلة؛ لأنه أين أثر العلم في سمت وسلوك العالم، أين أثره؟! العالم من علماء السلف كان يرى أثر علمه في سلوكه وزهده وتوقيره وعمله وقوله وفعله، واليوم أصبح بعض من ينسبون إلى التعليم والتدريس، والكلام في الشرعيات، تجد أنه حليق اللحية، قد أطال ثوبه تحت الكعبين، وقد تشبه بالكفار في زيه وهيئته وشكله وحديثه، وربما تجده مدخناً في بعض الحالات، بل ربما يقع في بعض المنكرات العقدية كزيارة بعض الأضرحة والوقوف عندها، وما أشبه ذلك، هذه مصيبة في الحقيقة، وهذا يدل على فقر وندرة في العالم الشرعي الصحيح، لأن العبرة ليست في حجم المعلومات التي يحصلها الإنسان، فقد يكون الإنسان فحلاً وبحراً في العلوم، لكن هذا العلم ما ظهر في سلوكه فكيف أتقبل العلم من إنسان؛ أنا أرى على سلوكه ومظهره الانحراف؟! الآن أنا أجد العامي ملتزم بالسلوك الإسلامي العادي الذي يعرفه كل إنسان، العامي تجده قد أعفى لحيته، وقصر ثوبه فوق الكعبين، والتزم بالسلوك الإسلامي في مظهره، فكيف لي أن أتقبل من عالم أخل بهذه الأوليات المطلوبة للشخصية الإسلامية!!(212/25)
واجب طلاب العلوم التدريبية والفقه
السؤال
نحن طلاب العلوم التدريبية كالطب والهندسة، مطالبون بأن نتخصص في علومنا لخدمة أمتنا، فهل يطلب منا أن نتفقه على أصول مذهب من المذاهب، أم نطلب العلم من طريق الأخذ من كل فن بطرف، والأخذ بالراجح فقط؟
الجواب
أولاً طالب العلوم التجريبية كالطلب والهندسة وغيره، لا بد له فيما يتعلق بالشرعيات من معرفة فروض الكفايات، معرفة العقيدة الصحيحة، لأن العقيدة لا بد أن يعرفها كل إنسان، ولا يعذر أحد بالتقصير في ذلك ولو كان طبيباًَ أو مهندساً، أو في أي فن من الفنون، أو علم من العلوم، كذلك معرفة العلوم التي يحتاجها في عباداته، كأحكام الطهارة والصلاة والغسل، وأحكام المعاشرة الزوجية وآدابها إذا كان متزوجاً، أحكام الله ورسوله بما يتعلق في مهنته، هذه فروض عين لابد أن يتعلمها، أما فيما يتعلق بفروض الكفايات فينبغي له أن يقدم منها المهم، فقد يكون بعض الأطباء والمهندسين لديهم ملكة عقلية قوية، وهذا موجود، وعنده قدرة أن يجمع بين تخصصه بل وبين النبوغ في تخصصه، وبين أن يأخذ قدراً طيباً من العلوم الشرعية، وإلماماً بها، وهذا حسن وطيب، وهو ولله الحمد موجود وظاهرة جيدة، وملفتة للنظر، وأحياناً قد لا يملك ذلك فنقول: يأخذ بقدر ما يستطيع، أما فيما يتعلق بالقضايا الفقهية فيرجع الأمر إلى ما ذكرت، الإنسان عليه إن كان مقلداً أن يقلد من يثق بعلمه ودينه، وإن كان يقول: أنا طالب علم وأستطيع أن أميز الراجح والمرجوح، ولو بضرب من التمييز، بحيث لا يختلف أنه يتنقل بين أقوال العلماء المشهورين، ولا يأخذ بشذوذات وآراء شاذة، أو آراء مخالفة للإجماع، فهذا طيب؛ إن كان عنده قدرة على أن يبحث المسائل بحثاً متعمقاً، ويصل إلى القول الراجح، فهذا هو الأكمل والأفضل.(212/26)
أخلاق الأنبياء والعلماء
السؤال
أرجو التنبيه على مسألة أخلاق شبابنا المستقيم، وأخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم، وأين نحن من أقواله صلى الله عليه وسلم، ولماذا لا نزن أخلاقنا بأخلاقه صلى الله عليه وسلم؟! وأرجو أن توجه السؤال لنا جميعاً: أين نحن من تعلم القرآن الكريم، وحفظه حروفاًَ وحدوداً، أليس هذا أول معالم الطريق إلى الله تعالى والدار الآخرة؟!
الجواب
بلى والله، أما مسألة الخلق فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه مالك في الموطأ وابن سعد وغيرهما يقول: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} ويقول: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} فحدد صلى الله عليه وسلم مهمته ورسالته في تتميم مكارم الأخلاق وصالحها، فإن قلنا: الأخلاق تشمل معاملة العبد لربه، ومعاملته للعباد، فلا إشكال، وإلا فيكون المقصود أن قوله إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، المقصود بيان أهمية الخلق في الإسلام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم {الحج عرفة} يعني أن عرفة أهم ركن في الحج، فالأخلاق أيها الإخوة! باب عظيم، والناس كانوا يعرفون جمال الإسلام من خلال أخلاق أهله، فكان اليهود إذا رأوا أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، أو أخلاق بعض الصحابة قالوا: هذه أخلاق أنبياء، ثم أسلم بعضهم، هذه أخلاق أنبياء، وفي ذلك قصص عجيبة، بل والله من بعض علمائنا ودعاتنا المعاصرين، من إذا عايشته وعاشرته، ورأيت من حلمه وسعة باله، ولطفه وحسن خلقه، ما يجعلك تقول هذه والله أخلاق أنبياء، وكما أسلفت نحن لا ينبغي أن نأخذ عن علمائنا فقط الأحكام المجردة والعلم النظري، ينبغي أن نأخذ عنهم السمت والهدي، والخلق الحسن، والله نسع الناس بأخلاقنا ولا نسعهم بأعمالنا، ولو ملكنا حسن الخلق، والتلطف والتودد، والإحسان إلى الخلق، لانفتح علينا من أبواب الخير والصلاح الشيء العظيم، وإنني أعتقد أن هذا الإقبال من الناس على الإسلام، لعل من أسبابه وجود بعض الصالحين، ذوي الخلق الحسن، الذين قرب الناس منهم وهداهم الله تعالى على أيديهم.
كذلك مسألة الاهتمام بالقرآن الكريم هذا أمر صحيح، بعض الطلاب قد تجده أحياناً لا يتقن قراءة القرآن نظراً فضلاً عن حفظه، فضلاً عن حفظ معانيه، فضلاً عن العمل به، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] .(212/27)
انتقاء الشيوخ
السؤال
ماذا كان موقف السلف من القرون المفضلة من أصحاب البدع، وإن كان فيهم أصحاب خير؟ ومن هذا المنطلق ما موقف طالب العلم من العلماء المعاصرين، الذين يجمعون بين البدعة في المنهج والعقيدة وبين العلم في بعض فروع الشريعة؟ هل نقرأ لهم ونسمع أشرطتهم؟ أم نطرحها جانباً، ولا نقرأ أو نسمع إلا من نثق بعقيدته والتزامه بالسنة جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما الشاب في بداية الطلب والتحصيل فأرى أن يختار الشيخ والعالم، وكان العلماء المتقدمون يهتمون باختيار الشيخ؛ لأن شخصية الشيخ تنعكس على تلميذه، كيفما كان، وآثاره تبدو فيه، وبصماته فيه واضحة فينبغي للطالب في بداية الطلب أن يختار شيخه، ممن يكون موثوقاً بعلمه وعمله، وعقيدته وصلاحه وعبادته، لأنه سيتأثر به لا محالة، فإذا تمكن الطالب من هذه العلوم، وحصل منها، وأصبح محتاجاً إلى قراءة كتب من عليهم ملاحظات في سلوكهم أو عقيدتهم أو آرائهم أو سماع بعض أشرطتهم لغرض فلا بأس بذلك، مع الحذر مما يوجد فيها من أخطاء أو مخالفات.(212/28)
طلب العلم يكون بالتتلمذ وبالشريط
السؤال
هل ترى طلب العلم عن طريق الأشرطة للعلماء المعاصرين، أم التتلمذ بين أيدي المشايخ؟
الجواب
الطلب يكون بهذا وهذا، فإذا أمكن أن يتتلمذ الطالب بين يدي الشيخ فهذا أفضل وأطيب، لأنه يتحقق له ما أسلفت من مشاهدة الشيخ، والتخلق بأخلاقه، والتحلي بأدبه، والنهل من معينه، وفي حضور المجلس خير وبركة وتفرغ، لأن الطالب لما يحضر للدرس غالباً ما يكون مفرغاً نفسه لهذا العمل، فيكون أكثر تحصيلاً، بخلاف الشريط، فإنه قد يسمعه في السيارة، يسمعه وهو مشغول الذهن، لكن إذا تعذر الأول انتقل إلى الثاني، والثاني بديل حسن لمن تحول ظروفه دون الانتقال إلى أماكن العلماء، أو حضور حلقاتهم ومجالس علمهم، وينبغي مع سماع الأشرطة أن يكون هناك تواصل، بأن يسجل الإنسان بعض الأشياء ويكتبها، ويتصل بالشيخ بين الحين والآخر، يستفسره عما أشكل، ويزوره أحياناً، ويسلم عليه ليكون هناك صلة قلبية بينهما.(212/29)
كيف ندعو أهل البدع؟
السؤال
كنت خرافياً صوفياً ومنَّ الله علي بالهداية إلى دعوة الكتاب والسنة، ما زلت أعرف الكثير من الخرافيين، لا هَمَّ لهم إلا شتم وسب سماحة الشيخ ابن باز والشيخ الألباني حفظهما الله عز وجل، وقدحهم بالافتراءات، فما واجبي تجاههم، وكيف نوقف الوباء، علماً أن العلاقة بهم شبه مقطوعة؟
الجواب
هذه مشكلة، ومثل هذا السؤال يؤكد لكم ما ذكرت لكم قبل قليل، في قضية انتشار المنكرات والبدع والخرافات، والصوفية في كثير من البلاد الإسلامية، وغفلة بعض العلماء والدعاة عن المجتمع، أحياناً العلماء والدعاة يكونون منحازين في الجامعة، أوفي المدرسة، أو في حلقات معينة، والمجتمع تنخر فيه مبادئ ومذاهب ونشاطات وأعمال وهم بمعزل عنه، وهذه والله مصيبة! واجب العالم، وطالب العلم، والداعية أن ينزل للمجتمع، ينزل للميدان، ميدان الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين السنة والبدعة، بين الهدى والضلال، وهذا الأخ ضريبة الهداية، وقد مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالهداية، ونسأل الله أن يختم لنا وله بالخير، وأن يعمل على إنقاذ من استطاع من هؤلاء القوم فلا يقطع العلاقة معهم، بل يراسلهم ويناصحهم، ويأتيهم بالمداخل المناسبة، فرداً فرداً، لا يبدأ بهم بالمجموعة، فكما قيل: الكثرة تغلب الشجاعة، لكن يبدأ بهم واحداً واحداً، ويحاول أن يدخل بعض الأفكار عليهم، ولا يطلب منهم في البداية أن يقبلوا ما يقول، لكن يستمعوا له على الأقل، اقرأ هذا الكتاب، اسمع هذا الشريط، ويناقشه في مثل هذه الأمور لعل الله أن يهديهم، كما أنه إن كان هؤلاء القوم يؤثرون في بعض الناس، فعليه أن يعمل على منع تأثيرهم بأن يسبق إليه، إذا علمت أنهم يحاولون أن يجروا بعض الناس إلى ما هم فيه، تحاول أن تسبق وتؤثر في هؤلاء الناس لأن الإنسان يكون أحياناً كما قيل: مناخ من سبق، بعض الناس مناخ من سبق، إن سبق إليه أصحاب البدعة أخذوه، وإن سبق إليه أهل السنة أخذوه.(212/30)
حكم تجريح العلماء وهجر كتبهم
السؤال
هل يحق لنا تجريح العلماء، وعدم حضور محاضراتهم، أو قراءة كتبهم، لمجرد الاختلاف معهم في الرأي؟
الجواب
لا يحق، ولو كل واحد اختلف معك في الرأي سوف تهجره وتتركه، ما بقي معك أحد، مسألة الرأي، رأيي ورأيك ورأي فلان هي مجرد آراء، لا نستطيع أن نلزم الناس بها، حتى الاختلاف في المسائل الفقهية، السلف منهجهم واضح في هذه القضايا، أولاً قضية الأشخاص نحن لا نتعبد بأشخاص، والله فلان من أحبه أحببناه، ومن كرهه كرهناه، لا، نحن نعرف الأشخاص بالحق، ولا نعرف الحق بالأشخاص والرجال، ولذلك نحن نوقر العلماء والدعاة والعاملين، لكن لا نعتبر أننا نتعبد الله تعالى بحب من أحبوا، وبغض من أبغضوا، أو حب من أحبهم وبغض من أبغضهم، حتى ولو كان حباً طبيعياً أو بغضاً طبيعياً، هذا لا ينبغي، كذلك كونه خالفك في مسألة فقهية، خالفك في مسألة من المسائل، ولو فرض أنك المصيب وهو المخطئ، وقولك الراجح وقوله المرجوح، وأنت الصواب وهو الباطل، هذا لا يعني أنك تهجره، هذه الاختلافات حتى الصحابة اختلفوا فيها، فمن يأتيني بمثال أن الصحابة فرطوا بحقوق الأخوة لمجرد الاختلاف في مسألة، أو عشر مسائل، أو مائة مسألة فقهية، لا يا إخوان! حقوق الأخوة أعظم، بل بالعكس كان الصحابة يتخلى الواحد منهم عن الأمر الفاضل إلى الأمر المفضول حفاظاً على حقوق الأخوة، وحفظاً للوجه، وجمعاً للكلمة.
ابن مسعود رضي الله عنه صلى خلف عثمان بمنى أربع ركعات، مع أنه يرى أنه ركعتان في السفر، كغيره من الصحابة، وقال: [[وددت أن نصيبي من أربع ركعتان متقبلتان]] واسترجع، وقال: [[إنا لله وإنا إليه راجعون]] ومع ذلك صلى خلف عثمان أربع ركعات، ولما قيل له في ذلك، كيف تنكر عليه وتصلي خلفه؟! قال: [[الخلاف شر]] فرأى أن جمع الكلمة ولو على الأمر المفضول أولى من الاختلاف بين الأمر المفضول والفاضل، وكثيراً ما تكلم ابن تيمية في هذه المسألة، في كتاب القواعد النورانية، وابن القيم في زاد المعاد وغيرهما، وأطالوا في هذه القضية، هذا من الفقه الذي يحتاجه شباب الدعوة الإسلامية، إن خلافك مع زميلك، أو شيخ من الشيوخ، في مسألة فقهية، أو في اجتهاد من اجتهادات الواقع، أو في رأي ما، لن يبقى لك أحد! هل أنت تقيم الناس حسب رأيك الخاص! هذا لا يصلح.(212/31)
حكم اتخاذ الصور للضرورة
السؤال
عندي صور للشهادات، والحفيظة وضعتها في جيب قميص لي، لا أستعملها إلا لوقت الحاجة، هل هذا يدخل في التحريم؟ وهل الملائكة لا تدخل الغرفة التي فيها الصور؟
الجواب
كلا! لا يدخل هذا في التحريم، لأن هذا -حتى مع القول بأن هذه الصور من الصور الممنوعة- من الصور التي يقتنيها الإنسان للحاجة، وليس لمجرد الاقتناء أو العبث.(212/32)
حكم الكلام حول أخطاء العلماء
السؤال
بعض طلاب العلم يطعنون في بعض العلماء من حيث أن عقيدته أشعرية، أو ما شابه ذلك، فهل يجوز أن نحذر من هؤلاء العلماء أو لا؟
الجواب
إذا وجد عالم عنده انحراف في عقيدته؛ سواء انحراف في كل عقيدته، أو في جانب منها، فلا يمنع هذا من أن يبين للناس، وخاصة من قد يغترون به أو يقرءون كتبه، أن هذا العالم وقع في خطئه الفلاني ولو كان عالماً جليلاً، فالتنبيه على خطأ وقع فيه لا يعني الحط من قدره كما أسلفنا، بل بالعكس أنت يمكن أن تلتمس له عذر في خطئه، يعني أحياناً يقول لك بعض الشباب: يا أخي! النووي قال كذا، وابن حجر قال كذا، ويذكر لك علماء أجلاء جهابذة، هؤلاء علماء، ونحن جميعاً نتعبد الله بمحبتهم، لكن هذا لا يعني أننا نتابعهم في كل شيء، فنحن نخطئهم في مسائل خاصة من مسائل العقيدة، ونتبع من هو أفضل وأجل منهم، كالأئمة الأربعة، والأئمة الستة، والصحابة، والتابعين فنحن ما تركنا مثلاً قول النووي، أو قول ابن حجر لقولي أو لقول فلان، تركناهم لقول جماهير الأمة، من هم أفضل منهم وأسبق وأعلم، وقد نقول نلتمس لهذا العالم عذراً، أنه اجتهد في هذه المسألة وأخطأ، وقد يكون الكلام الذي قاله محتمل، أو غير ذلك، لكن على كل حال متابعتهم في هذا الأمر غير جائزة ولا سائغة.(212/33)
النية وحدها لا تكفي
السؤال
ما قولكم في بعض الناس، إذا نصحته عن شيء يخالف الشرع قال: إنما الأعمال بالنيات؟
الجواب
نقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات} فأثبت عليه السلام أمرين: الأعمال والنيات، فكل عمل يعمله الإنسان لا بد له من نية، فلو عمل عملاً بدون نية، أو بنية سيئة، لكان عمله إما أن يكون لا شيء إن كان بغير نية، وإن كان بنية سيئة فهو وبال عليه، مهما كان هذا العمل، فلا بد من أعمال صالحة، ولا بد من نيات، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله} فمثل بالهجرة كمثال، يعني لا بد من الهجرة فالهجرة عمل، ومع الهجرة وهي عمل لا بد من نية، أن تكون هجرة الإنسان إلى الله ورسوله، وليست إلى الدنيا، ولا من أجل امرأة يتزوجها.
كذلك الصلاة {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُون * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} [الماعون:4-6] فالزكاة والصلاة والحج، هذه الأعمال المقصودة في الحديث، أما الأعمال السيئة فلا تحتاج إلى نية أصلاً، لأن العمل السيئ سيء بذاته، فالإنسان حين يفجر ويشرب الخمر، ويسرق المال، لا يحتاج إلى نية، هذا العمل أصلاً عمله باختياره فهو عمل سيئ، ولا شك إن عمله بقصد فهو آثم عليه حينئذ، وأما دعواه أن قلبه سليم وعمله سيئ، فهذا يناقض قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} فقد أثبت عليه الصلاة والسلام أن صلاح القلب يعني صلاح الجسد كله، فإذا وجدت إنساناً جسده كله صالح، فأعماله صالحة، وأقواله صالحة، وعباداته صالحة، فاعلم أن قلبه صالح {إذا صلحت صلح الجسد كله} .
وبالعكس إذا وجدت إنساناً أخلاقه سيئة، وعباداته رديئة، وأقواله بذيئة، فاعلم أن قلبه فاسد، وكما قال عيسى بن مريم: من ثمارهم تعرفونهم.(212/34)
الرد على الغزالي
السؤال
سمعنا أنك قد رددت على أحد العلماء الذين قالوا بأن الغناء حلال، فهل استجاب هذا العالم لمقالكم ونصحكم، وما كان رده؟
الجواب
نعم تحدثت في بعض المناسبات عن بعض الأقوال والآراء والأفكار التي كتبها الشيخ الغزالي في عدد من كتبه، ومنها رأيه في موضوع الغناء، وكذلك رأيه في قضية حجاب المرأة، إلى مسائل أخرى كثيرة، وقد بلغني من مصادر عديدة أن هذه الأشرطة وصلت إليه، ولكني لم أعلم بعد ماذا كان موقفه منها.(212/35)
حكم الخلوة بالأجنبية
السؤال
لي أخ أكبر مني يُحضِر إلى المنزل فتاة، وقد اتفق مع أهلها بأن يخطبها ويتزوجها، وإذا قمت بمعارضته قال لي: لو لم تنته فلسوف أفعل وأفعل ما أشاء، علماً بأني لو تركته فإنه يحافظ على الصلوات ويفعل الخيرات الكثيرة فماذا أفعل؟
الجواب
لا شك أن عمل هذا الإنسان منكر عظيم، أن يخلو بهذه الفتاة وهو لم يعقد عليها، ولو كان في نيته أن يخطبها، فإنها لا زالت أجنبية منه ما دام العقد لم يتم، فإن كان هذا الأخ صادقاً بأنه يريد أن يخطب هذه الفتاة ويتزوجها، فلماذا لا يعقد عليها؟! لأنه بمجرد وجود العقد يحل له أن يخلو بها، أما أن يخلو بها بحجة أنه يريد أن يتزوجها، يعني يريد أن يعقد عليها فهذا حرام، ولذلك عليك أن تفهم أخاك بأن عليه إذا كان صادقاً في هذه النية، عليه أن يعقد عليها وبذلك يزول عنه الحرج، وإذا كان غير صادق فإنه لا يجوز له أن يخادع الناس، ويرتكب ما حرم الله جل وعلا بهذه الطريقة.
ولذلك عليك أن تستمر بنصحه وإرشاده، وألا تنصاع لهذا الأمر الذي يهددك به، بل تناصحه بالأسلوب الحسن، وتبذل جهدك معه، ولا بأس أن تتحدث مع أهل البنت أيضاً مع والدها، أو إخوانها، عن مثل هذا العمل، وأنه لا يليق ولا يجوز.(212/36)
الاعتدال مع العلماء
السؤال
هل يجوز مدح العلماء مدحاً كثيراً، أو يجوز تشويه سمعتهم، وما الحل؟
الجواب
الحل هو الاعتدال، الدين دائماً جاء بالعدل، ودين الله دائماً بين الغالي والجافي، فالذي يبالغ في مدح العلماء وتبجيلهم، وإعطائهم فوق قدرهم، ويغلو في ذلك فهذا مخطئ، وكذلك الذي يحط من قدر العلماء، ويشوه سمعتهم مخطئ، والواجب أن الإنسان يكون في ذلك معتدلاً كما أشرت في ذلك.(212/37)
نصح العالم المخطئ
السؤال
إذا أخطأ أحد العلماء فكيف ننصحه؟ وما حكم من يسكت عن نصيحته بسبب المجاملة؟
الجواب
الغالب أن العالم إذا أخطأ يقيض له عالم آخر، لأن العامي، وطالب العلم، والمبتدئ قد لا يدرك خطأ العالم غالباً، وقد يخيل إليه أنه أخطأ والواقع أنه مصيب، وإنما الخطأ هو في قصور هذا الإنسان وفهمه لما يريده العالم، وهذا لا يعني تزكية العالم مطلقاً، بأنه لا يخطئ مطلقاً، لا لكن هذا يعني الإشارة إلى أنه قد يتصور الإنسان أن العالم مخطئ في هذه المسألة ويكون هو المخطئ، فالذي يستطيع أن يقدر خطأ العالم هو العالم مثله، ولكن لو فرض أن العالم وقع في خطأ حقيقي ما فيه كلام بسبب غفلة أو سهو أو غير ذلك، يبلغه الإنسان بتلطف، ولذلك ذكر ابن جماعة في كتابه القيم، الذي أنصح طلاب العلم بقراءته ليتعلموا الأدب مع شيوخهم وعلمائهم "تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم" ذكر أنه: إذا كان الطالب يقرأ على الشيخ وردَّ على الشيخ خطأً فإن على الطالب أولاً أن يعيد العبارة، يعيدها من قبل حتى يبين للعالم المعنى الصحيح، فإذا رد عليه مرة أخرى فإن الطالب يقرأها كما يريد الشيخ، لكن بصيغة الاستفهام، فإذا أصر العالم عليها فإن الطالب يقرأها ثم يراجعه بعد ذلك، ويسأله عن معناها بينه وبينه.(212/38)
حرمة المرور بين يدي المصلي
السؤال
أثناء أداء صلاة المغرب كان هناك أحد الإخوان يمر أمام المصلين، ومشى أمام أحد الصفوف من أوله إلى آخره، أفيدونا هل يجوز له ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما إذا كان مروره من بين يدي الصف، يعني بين المصلي وبين موضع سجوده، أو سترته إن كان له سترة، فهذا لا يجوز لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن المرور بين يدي المصلي أنه: {لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه} أما إن كان مروره من وراء ذلك فهذا لا يضر، إن كان الأمر كما فهمت قبل الصلاة، أما إن كان أثناء الصلاة فهذا لا يضر، لأن سترة الإمام سترة للمأموم، ولذلك ابن عباس رضي الله عنه كما في حديث البخاري، قال: ذكر أنه جاء على حمار أتان، وهو يومئذ قد ناهز الاحتلام، ومر بين يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك عليه أحد، لأنهم كانوا مأمومين يصلون بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم.(212/39)
حكم العمل في الكوافير
السؤال
لي أخوات يعملن في تصليح شعور النساء، وأخذن هذا العمل وظيفة يتقاضين عليها مالاً، وهذه الطريقة تسمى في أيامنا بالكوافير، فما حكم هذا العمل؟ وما حكم أخذ المال فيه؟
الجواب
إن كان هذا العمل الذي تعمله المرأة ليس فيه منكر أو محرم، مثل قص شعور النساء بطريقة غربية وعن طريق تسريحات جديدة، لأن مسالة التسريحات أصبحت مشكلة، بحيث إن النساء يتابعن يوماً بيوم التسريحات الموجودة في الغرب، فقص المرأة لشعر رأسها على الطريقة الغربية، قصة فرنسية، قصة كذا وكذا، فهذا محرم ولا يجوز، أو كانت أيضاً قصة تبالغ وتنهك المرأة فيها شعر رأسها حتى كأنها رجل، تصبح مثل الولد، حتى أظن النساء يسمينها بذلك الاسم، يسمينها قصة ولادية، بحيث إن المرأة تقص شعر رأسها حتى تغدو كأنها شاب! نسأل الله العافية من انتكاس الفطرة، ومحاربتها، الرجل يطلق شعره ويطوله، والمرأة تقص شعرها، فلا يجوز التشبه بالرجال من قبل المرأة، أما إن كان عملها في تسريح شعر النساء وتصفيفه أمر معتدل، ليس فيه منكر ولا مخالفة شرعية، وليس أيضاً في هذا العمل محظور آخر، فما أعلم في هذا بأس.(212/40)
دور العلماء تجاه البدع والمنكرات
السؤال
نود أن نعرف ما هو دور العلماء تجاه العامة، حيث إن البدع منتشرة في كل مكان، وأن الشباب يسافر بكثرة إلى بلاد الإباحية، حيث الموت والدعارة، فما هو دور العلماء تجاه وقف هذه المساوئ؟
الجواب
الحقيقة هذا دورنا جميعاً، دور المجتمع بكافة قطاعاته، والعلماء يقفون في رأس القائمة كما أسلفت فدوري ودورك لا يعني أننا تخلينا، أنا أستطيع أن أقوم بدور تجاه إخوتي، تجاه أقاربي، تجاه جيراني بالإصلاح والدعوة والأمر والنهي، وأبذل ما أستطيعه، لأن هذا خطر يكتسح الأمة كلها، ولا بد من النفير العام لمقاومة هذه المنكرات، كل إنسان له دور، لكن العلماء دورهم أكبر، وخاصة في المنكرات العامة كما ذكرت، والمنكرات الرسمية، والمنكرات التي يتعذر علي وعليك كأفراد القيام بها، وأحياناً يبدو لي -والله تعالى أعلم- أن العالم ينكر، لكن قد لا يستطيع أن يزيل المنكر لأن العالم كما أسلفت ليس سلطة، بل هو مجتهد يقوم بواجبه، فقد يُسمع له وقد لا يحدث ذلك أحياناً.
وعلى كل حال كما قال الله جل وعلا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
وبعض الإخوة يسألونني، يقولون: هناك في مصر وفي بلاد كثيرة جداً من بلاد العالم، ولا أكتفي ببلدي، توجد منكرات كذا وكذا، وتجد الواحد يسرد عليك قائمة طويلة عريضة، ولا بد من الإنكار والتغيير، صحيح الإنسان يغير بقدر ما يستطيع، لكن لا يعني ذلك أنه يلزم أن نفلح في التغيير، ثم هذه منكرات أحياناً قديمة، ووجدت واستقرت في قلوب الناس فتغييرها يحتاج أحياناً إلى وقت.
وأنا أقول: البشائر طيبة، الآن كون الشباب غيور متحمس للتغيير والإنكار، وما اقتصر الشاب على مجرد الصلاح والتردد على المسجد، صار يحمل هم الدعوة إلى الله، هم الإصلاح، هم التغيير، أنا أقول: هذه بشرى لكن هذه البشرى يجب أن تضبط بأن يقال للشاب: اعمل بهدوء، اعمل بحكمة، اعمل برفق، حتى تستطيع أن تصل، ووالله الذي لا إله إلا هو أجزم أو أكاد أجزم لو أن كل داعية تحلى بالصبر والحكمة، والرفق والاتزان في تغيير المنكر، ما مر وقت طويل إلا وقد أفلح الدعاة إلى الله عز وجل في إزالة منكرات كثيرة من المجتمع، لأن الذي يتخلل المجتمع بهدوء وسهولة تقل معارضته من قبل جميع الناس، وبالتالي يستطيع أن يصل إلى ما يريد، لكن الذي يغير بقوة يستثير الناس ضده، ويستفز الناس ضده، وبالتالي يقف الناس في وجهه، فيحاربونه حتى يسقطوه، وقد يتأثر هو نفسه، ويقع في هذه المنكرات أو ييأس من روح الله جل وعلا.(212/41)
أسماء أبواب المساجد
السؤال
ما حكم المسجد الذي لكل باب فيه اسم، مثل: باب الفاروق وحمزة وعلي وغيرهم؟
الجواب
لا بأس في ذلك، وهذا لتمييز الأبواب بعضها عن بعض بحكم تباعدها وليس في هذا من حرج.(212/42)
كيف يبدأ الطالب طلبه للعلم؟
السؤال
سلام الله عليك ورحمته وبركاته، جزاكم الله خيراً، كيف أطلب العلم وبأي كتاب تنصحني بعد أن أحفظ كتاب الله؟
الجواب
وعليك سلام الله ورحمته وبركاته، الكلام في موضوع العلم أسلفت البارحة إشارة عابرة، وأجد أني مرة أخرى مضطر إلى أن أذكر بعض الإخوة من الشباب أنه قد سبق الحديث في موضوع العلم والتعليم، في عدد من الأشرطة أشرت إليها، ولا بأس أن أعيدها وأضيف إليها، منها محاضرة: الطريقة المثلى للتفقه في الدين: {ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين} ومنها: محاضرة: من وسائل التعلم، ومنها: من آفات القراء، وفي هذه المحاضرات إشارة إلى العلوم وبعض ما يمكن أن يبدأ به الإنسان.(212/43)
حكم نُسُك التمتع
السؤال
هل نُسُك التمتع واجب؟
الجواب
جماهير أهل العلم على أن التمتع ليس بواجب، وهذا هو الصحيح لقول عائشة رضي الله عنها: {فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، ومنا من أهل بحج وعمرة} وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف، ولم يخالف في ذلك إلا أفراد كـ ابن عباس رضي الله عنه، وأظن شيخ الإسلام، ابن القيم كذلك، ومن المعاصرين الألباني قال بهذا القول، وهو اجتهاد مرجوح.(212/44)
موقفنا من أهل البدع
السؤال
من المعلوم أن لأهل السنة علماء، كما أن لأهل البدعة علماء؛ سواء أكانوا متصوفة، أو أشاعرة، أو غيرهم، وإذا تكلم أحد الشباب عن عالم منهم، محذراً منهم ومن عقيدتهم الباطلة، تجد بعض أنصارهم وبعض المخدوعين يدافعون عنهم، ويرددون بأن لحوم العلماء مسمومة، وفي الوقت نفسه لا يتورعون عن غيبة علماء السنة وعلماء الحديث، ووصفهم بأنهم جهلة ومتسلفون، إلى غير ذلك فما تقولون؟
الجواب
هذا صحيح وهذا طبيعي، فكما ذكرت أهل السنة يلتفون حول علمائهم، وأهل البدعة يلتفون حول شيوخهم، ممن يعتبرونهم هم علماء، ولكن على الإنسان أن يحرص على أنه إذا تحدث عن أحد من هؤلاء، أن يتحدث عنه بعلم، لأن بعض الناس أحياناً قد يتحدث عن إنسان لكن بدون أن يكون لديه عنه علم صحيح، وبالتالي يكون موقفه ضعيفاً، فيقول: فلان إنه فيه كذا وكذا، قد يأتي إنسان يقول: أثبت لي هذا الأمر، أين قرأت هذا الكلام؟ أين وجدته؟ فلا يجد جواباً، فعلى الإنسان إذا تحدث عن عالم، أو منسوب إلى العلم من هؤلاء، أن يتحدث عن بصيرة ويكون لديه خلفية، ولذلك إذا كان الإنسان يعاصر ويختلط بقوم مخدوعين بإنسان من شيوخ الضلالة والبدعة، عليه أن يعرف الثغرات المعروفة عند هؤلاء الشيوخ، والأخطاء الموجودة عندهم، حتى يستطيع أن يتحدث عنها ويقنع هؤلاء بها.(212/45)
واجبات حمل الأمانة
الأمانة حمل عظيم أبت حمله السماوات والأرض والجبال وحملها الإنسان، وهذه لمحة سريعة موجزة عن الأمانة وعظمها على كل فرد في المجتمع.(213/1)
أنواع الأمانة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:69-71] {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:70] أما بعد:- أيها المسلمون! إن كل إنسان على طهر هذه الأرض قد حمل أمانة عجزت عن حملها السماوات والأرض كما قال تعالى: {فأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنْسَانُ} [الأحزاب:70] والأمانة أمانتان:(213/2)
الأمانة الخاصة
أما الأمانة الثانية فهي الأمانة الخاصة، التي تكون على كل إنسان بحسب موقعه ومسئوليته، فالحاكم يحمل أمانة رعاية شئون الناس، والنصيحة لهم، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {ما من والٍ يسترعيه الله على رعية ثم لم يحطهم بنصحه إلا حرم الله عليه الجنة} فالحاكم مؤتمن على رعيته التي تولاها، يجب عليه أن ينصح لهم، والنصيحة لفظ عام، أي أن يقوم هذا الحاكم بالعمل على كل ما يكون سبباً لخير الناس، في دينهم ودنياهم، ومن ذلك -مثلاً- أنه يجب على هذا الحاكم أن يرفق برعيته، فلا يحملهم من المسئوليات، أو الأنظمة، أو التكاليف، أو الضرائب، أو غيرها ما يشق عليهم ويثقل كواهلهم، ولذلك ورد عن عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم رفق الله تعالى به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم شق الله تعالى عليه} فمن واجب الحاكم أن يرفق برعيته، فلا يحملهم مالا يطيقون.(213/3)
الأمانة العامة
الأمانة الأولى: هي أمانة عامة، وهي أن الله تعالى قد ائتمن كل عبد مكلف، على القيام بالدين وطاعة رب العالمين، واتباع الأنبياء والمرسلين.
فكل إنسان عاقل، رشيد، بالغ، قد حمل أمانة الدين، فعليه أن يقوم بالدين، باعتقاد العقيدة الصحيحة في الله تعالى وألوهيته وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، وفي معرفة الإيمان والإسلام، وفي العمل بما أوجب الله تبارك وتعالى والانتهاء عما نهى عنه، فهذه أمانة عامة قد حُمِّلها كل إنسان.
ولقد كان سلف الأمة -رضي الله عنهم وأرضاهم- يدركون قيمة هذه الأمانة وعظمتها، فيشفقون منها، ويتمنون أنهم لم يحملوها، حتى لقد روي عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يقول: [[وددت لو أني شجرة تعضد]] ونقل عن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه تمنى أن يكون شاة يذبحها أهلها فيأكلوها ويستفيدوا من جلدها، وذلك لأنهم عرفوا قيمة هذه الأمانة وعظمتها، وأنهم مسئولون عنها بين يدي الله عز وجل فأشفقوا منها وفزعوا وخافوا، وهذا لا يعارض أنهم يشعرون أحياناً بتكريم الله تعالى لهم، حين جعلهم من البشر الذين اصطفاهم وكرمهم كما قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .
وشعورهم بأن الله تعالى قد اختارهم حين جعلهم من أتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتكريم الله لهم حين بشر بعضهم بالجنة كما ثبت عن العشرة، ومنهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبو عبيدة، وغيرهم، فكانوا يشعرون بتكريم الله تعالى لهم بإنسانيتهم، وبإسلامهم، وباتباعهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وببشارتهم بالجنة، ومع ذلك ففي بعض الأحيان يتذكر الواحد منهم هول يوم القيامة، والوقوف بين يدي الله جل وعلا، والصراط فيتمنى أنه لم يخلق، أو يتمنى أنه شجرة تعضد، أو يتمنى أنه شاة تذبح.
أيها الإخوة المؤمنون إن هذه هي الأمانة العامة التي هي على كتف كل واحد منا، بل هي على كتف كل إنسان بلغه هذا الدين قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] فالمسلم والكافر والطائع والعاصي مكلفون ومؤتمنون، ويوم القيامة عما عملوا مسئولون قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] هذه هي الأمانة الأولى.(213/4)
من الأمانات التي تحملها الحكام
ومن مسئوليات الحاكم ومن الأمانات التي حملها المحافظة على حاجات الناس وضرورياتهم، فالناس بحاجة إلى من يحافظ على أموالهم من اللصوص، والسرّاق، وقطاع الطرق، والظلمة، وغيرهم.
فمن مهمات الحاكم أن يعمل على تأمين أموال الناس، بحيث لا يصيب أموالهم ما يضرهم، أو يجتاح هذه الأموال، أو يبخسها أو ينقصها، وهو إن عمل ذلك يكون قد عمل عملاً يرضي الله تعالى عنه، ويكون سبباً في نجاته يوم الحساب.
ولذلك شرع الإسلام الحدود، من قطع يد السارق، وإقامة حد الحرابة على قطاع الطرق، إلى غير ذلك من الحدود كل ذلك لتأمين الناس وردع المجرمين، ومنع من تسول له نفسه بالجريمة، فمنعه من ذلك لأنه يعرف ماذا ينتظره، أما إذا لم تقم هذه الحدود فحينئذ يأتي قول الناس: [[من أمن العقوبة أساء الأدب]] .(213/5)
العدل بين الناس
ومن الأمانات الملقاة على كاهل الحاكم: أن يقوم بالعدل بين الناس، ورضي الله تعالى عن أمير المؤمنين عمر حين ظهر يوماً من الأيام على المنبر فقال: (أيها الناس اسمعوا وأطيعوا، فقام إليه رجل من المسلمين وقال له: يا ابن الخطاب لا سمع لك ولا طاعة، قال ولم رحمك الله؟ قال لأنك قد أعطيتنا ثوباً ثوباً وأخذت أنت ثوبين، فلا نسمع لك ولا نطيع وقد استأثرت من دوننا بهذا المال الذي أفاءه الله على المسلمين -فلم يأمر به عمر بن الخطاب إلى السجن ولا إلى التعذيب، وإنما قال-: أين عبد الله بن عمر؟ فقال هأنذا يا أمير المؤمنين، قال: أنشدك بالله من أين لي هذا الثوب؟ قال: هو ثوبي قد أهديته لك يا أمير المؤمنين، فقال ذلك الرجل: أما الآن يا أمير المؤمنين فقل نسمع لك ونطيع) .
وهو الذي كان يقول رضي الله عنه وأرضاه: (لو عثرت بغلة في العراق لعلمت أن الله سائلني عنها لم لمْ تسو لها الطريق يا عمر) فمهمة الحاكم إقامة العدالة بين الناس، من غير تمييز بينهم، لا بحسب ألوانهم، فلا فرق بين أبيض وأسود، ولا بحسب أنسابهم، فلا قيمة في الإسلام لكلمة هذا من قبيلة كذا وهذا من عائلة كذا، وهذا من أسرة كذا، وهذا قبيلي وهذا غير قبيلي، كل هذه الأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
إن بلالاً الحبشي، وصهيباً الرومي، وسلمان الفارسي، وأبا بكر القرشي كلهم يقفون على قدم المساواة في الإسلام، بل كان عمر رضي الله عنه يقول: (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا) يعني بلال بن رباح، فهذه أمانة خاصة.(213/6)
مسؤوليات الوزراء ونحوهم
وكذلك من الأمانات الخاصة الأمانة الملقاة على عاتق الوزير، والمسئول، والأمير، وغيرهم: القيام بأعمالهم، واختيار الأكفاء والصالحين، وتوليتهم للمناصب والمهمات، وكذلك مراقبتهم ومعرفة ما أخطئوا، ومحاسبتهم على ما يفعلون، بحيث لا يظلمون الناس، وعليهم أن يعرفوا بأنهم ما وضعوا على الناس ليضربوا أبشارهم، ولا ليأخذوا أموالهم، ولا ليستأثروا من دونهم، ولا ليسيئوا إليهم، ولكن كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما بعثتهم إليكم ليعلموكم دينكم، وليقسموا فيكم فيئكم) هذه هي الولاية، وهذه هي المناصب في الإسلام، ليعلموكم دينكم وليقسموا فيكم فيئكم، وهو الأموال التي أفاءها الله تعالى على المسلمين.
وإذا حدث من مسئول -كَبُرَ أو صَغُر- خطأ ما، وجب محاسبته وردعه.
عندما فتح المسلمون مصر كان الفاتح عمرو بن العاص رضي الله عنه وكان له ولد اسمه محمد، فتسابق محمد بن عمرو بن العاص أمير مصر، تسابق مع رجل من الأقباط فسبقه، فقام محمد بن عمرو بن العاص فضرب القبطي ضربة بيده أو بسوطه، فخرج هذا القبطي من مصر إلى المدينة المنورة حتى دخل على أمير المؤمنين، فشكى له الحال، فأرسل عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وأمره أن يأتي ويأتي ابنه معه وحاكمهم حتى ثبت الحق للقبطي، فأخذ عمر من محمد بن أمير مصر الحق لهذا القبطي، ووبخ عمرو بن العاص وقال له: [[يا بن العاص! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]] لم يمنعه كون أبيه أميراً أن يأخذ الحق منه، فبالعدل والحق قامت السماوات والأرض.
وكذلك من الطرائف والقصص العجيبة، ما ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ولى رجلاً على إحدى مدن العراق، فكان هذا الرجل شاعراً يحب الشعر، ففي أحد الأيام كان يتغنى بأبيات من الشعر ويقول: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها بنعمان يسقى في زجاج وحنتم يعني زوجته، يقول: إن زوجها -وهو يعني نفسه- يُسقى الخمر في كئوس وقوارير.
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتفلم لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم يعني: أنه يتغنى بشرب الخمر ويقول لعل عمر بن الخطاب لو علم بذلك لحزن وساءه ذلك، فوصلت الأبيات إلى عمر رضي الله عنه فهز رأسه وقال: [[نعم والله إنه ليسوئني ذلك، ثم قال للمسلمين: من رأى هذا الرجل فليخبره أني قد عزلته، فعزل الرجل وجاء إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وقال له: والله يا أمير المؤمنين ما شربت الخمر قط، ولكنها أبيات قلتها أتغنى بها، فقال له عمر: فإنا قد عزلناك، ووالله لا تلي لنا عملاً أبدا]] هكذا كان عمر رضي الله عنه يعامل ولاته ومن أقامهم على شئون المسلمين إذا حدث منهم من الفعل أو من القول ما يتنافى مع المهمة التي وكلوا إليها.(213/7)
الحفاظ على أموال الناس وأعراضهم وأبدانهم
وكما أن الحاكم مطالب بتأمين الناس على أموالهم فهو مطالب بتأمين الناس على أبدانهم، بمنع من يعتدي عليهم بالضرب، أو القتل، أو الجرح، أو ما أشبه ذلك، ولهذا شرع الإسلام القصاص؛ لمنع المعتدين والظالمين من الاعتداء على أبدان الناس.
ومن مهمة الحاكم وأمانته المحافظة على أعراض الناس، بمنع من يعتدي عليهم أو على زوجاتهم أو بناتهم، بالزنى أو باللواط، أو بالقذف، أو بالسب، أو بالشتم، أو بنحو ذلك، ولهذا أيضاً شرعت عقوبات معينة كعقوبة رجم الزاني إن كان محصناً، وجلده إن كان غير محصن، وجلد القاذف، وتعزير المعتدين على الأعراض أو غيرها فيما دون الحدود، لحماية هذه الأعراض.
وكما أن الحاكم مطالب بتأمين الناس على أبدانهم وأموالهم وأعراضهم، فهو مطالب أيضاً بصفة أكبر وأعظم بتأمين الناس على أديانهم، لماذا؟ لأن الإنسان لو اعتدي على بدنه بالقتل مثلاً، وكان شخصاً مؤمناً مسلماً، لكان مصيره إلى الجنة بإذن الله تعالى، لكن لو اعتدي عليه في دينه فصُدَّ عن الإسلام، وأثيرت أمامه الشبهات، حتى شك في الدين والعياذ بالله أو أثيرت أمامه الشهوات حتى وقع في الحرام فإن مصيره إلى النار إن لم يتجاوز الله تعالى عنه، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] يعني أن فتنة الناس عن دينهم بالشهوات أو بالشبهات أعظم من قتلهم، فالمقتول قد يكون شهيداً في سبيل الله، لكن الذي افتتن عن دينه وارتكب ما حرم الله، أو وقع في شبهة، فقد وقع في أمر عظيم لا نجاة له منه إلا بالتوبة، ولذلك كان الحاكم في الإسلام مطالباً بحماية أديان الناس، ومنع الذي يثيرون الشبهات، سواء أكانوا يثيرونها في أجهزة الإعلام: من إذاعة، وتلفزة، وصحافة، وغيرها، أم ينشرونها في كتب، أو يثيرونها في مجلات، أو في بيوتهم، أو في مجالسهم، أو يثيرونها بأي شكل من الأشكال.
فواجب على الحاكم المسلم متى علم أن شخصاً، أو مؤسسة، أو جريدة، أو جهة تقوم بفتنة الناس عن دينهم بإثارة الشبهات في الدين أو بدعوة الناس للشهوات، عن طريق عرض الصور الخليعة، والأغاني الماجنة، وعن طريق الإثارة، وتحريك الغرائز، وعن طريق إتاحة الفرصة للرذيلة، متى علم ذلك كان حقاً عليه أن يقوم بالأمانة التي ائتمنه الله عليها بأن يقوم على هؤلاء بمنعهم وردعهم عما يقومون به.(213/8)
المسئوليات الخاصة ملقاة على عواتق الجميع(213/9)
مسئولية الآباء أمام الأبناء
أيها الإخوة: الكثير منا يظن أن المسئولية كلها ملقاة على عاتق الحاكم، والأمير، والوزير، والمسئول، ومن عادة الإنسان أنه يحب أن يلقي باللائمة على غيره؛ لكن الإسلام يقول لنا: لا.
ليس الأمر كذلك، بل إن هذه المسئوليات الخاصة ملقاة على عواتقنا جميعاً، فالأب -مثلاً- وكثير منكم آباء على عاتقه أمانة رعاية أولاده، وكما أن ولدك لو مرض في ساعة متأخرة من الليل، وارتفعت درجة الحرارة عنده، فلا بد أنك ستذهب به إلى الإسعاف، وتسهر الليل من أجله، ولو لم تجد له علاجاً في هذا البلد لذهبت به إلى بلد آخر، ولو استدعى الأمر أن تسافر به إلى بلاد الغرب أو الشرق للعلاج لفعلت، ولبذلت الغالي والنفيس، وهذا حق، لأن الرحمة وضعها الله في قلوب عباده، ولكن، يجب أن تكون عنايتك بأخلاق ولدك وسيرته وتدينه، أعظم من ذلك.
لكن كم هو مؤسف -أيها الإخوة- أن بعضكم وأقول بعضكم لأني لا أريد أن تظنوا أن الحديث يتناول أناساً غائبين عنا، فالحديث عنا وعن الغائبين، أن بعضكم قد يعتني بصحة ولده، ويلبسه أجمل الثياب، ويشتري له أجمل الأثاث، ويحمله على السيارة إلى المدرسة، ويطعمه من أحسن الطعام، ويحرص على راحته، لكنه لا يهتم بإصلاح دينه، ولا تربيته على الأخلاق الفاضلة، وإذا رأى من ولده اعوجاجاً أو انحرافاً فإنه يقول: يكبر ويعقل، ولا يدري هذا المسكين أنه قد لا يكبر، وأنه إن كبر فما أكثر الصوارف، وأن الإنسان إذا نشأ على شيء وشب عليه كبر عليه: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه فمن الأمانة الملقاة عليك أيها الأب أن تربي ولدك تربية حسنة منذ طفولته، بل أقول: قبل طفولته، بل قبل ولادته، بل قبل وجوده! بأن تختار المرأة الصالحة، فهي المحضن المناسب لتربية الطفل، ثم بعد ولادته فلا يأكل إلا حلالاً، وامنعه من أن يسمع ما يسخط الله، أو يقول الكلام الفاحش البذيء، أو ينظر المناظر المحرمة، ورَبِّه على طاعة الله تعالى، وليست التربية هي الضرب والجلد، وإنما الضرب والجلد عند الحاجة إليه، والأصل في التربية أن تكون بالتعليم، والتفهيم، والقصص، والأخبار، والسلوك الحسن، والقدوة الحسنة.(213/10)
مسئولية المعلمين
ومن الأمانة الخاصة الملقاة على عواتق المدرس والمعلم: أن يعلم طلابه العلم النافع، ويجنبهم ما يضرهم في دينهم ودنياهم، وأن يحرص على تربية أخلاقهم وسلوكهم، ويكون قدوة حسنة صالحة لهم، وأن يعدل بينهم، فلا يظلم بعضهم لسبب أو لأخر ببخس الدرجات، أو بالضغط عليه، أو بالاستخفاف به أمام زملائه، أو بما أشبه ذلك من الطرق والأساليب التي تحطم الطالب، وتؤثر فيه وتخجله أمام زملائه.
وأن لا يعتبر أن عمله مجرد إيصال المعلومات إلى أذهانهم، بل يجب أن يربي أخلاقهم ليربطهم بالدين ويخوفهم بالله عز وجل مع إعطائهم المادة التي يجب أن يعطيها لهم.
أيها المسلمون: إنها أمانة عظيمة، وإن كنا لا نعيها اليوم، فإنا قد نعيها في يوم يكون قد فات فيه الأوان، ولات ساعة مندم، أقول قولي هذا وأستغفر الله، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، ويتب عليكم إنه هو الغفور الرحيم.(213/11)
الغزو الخبيث الصامت على الأبناء
الخطبة الثانية: الحمد لله حمداً كثيراً، كما يحب ربنا ويرضى، وأصلي وأسلم على خاتم رسله نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: إن هذا العصر الذي تعيشونه، عصر مليء بالفتن والشهوات، وشبابكم مهدد من جهات عديدة، فالمخدرات تفتك بالشباب، وهناك أجهزة عالمية تسعى إلى نشر المخدرات في العالم كله، وخاصة في هذه البلاد؛ لأنهم يعرفون أنها هي المعقل الأخير للإسلام، وأنهم إذا اقتحموها وقضوا على شبابها، فقد أصابوا المسلمين في عقر دارهم، وشبابكم مهددون بأجهزة الإعلام الفاسدة المنحلة، من أجهزة مسموعة أو مرئية، أو مقروءة، أو غيرها، وهي تبث السموم وأحياناً قد تبث السم في الدسم، وتغري الشباب بالكلمة الجميلة، والصورة الفاتنة، والقصيدة، والأغنية، والمنظر، وغير ذلك.
وشبابكم مهددون بكثير من الكتب، التي تثير الشبهات حول الإسلام، وكثير من الشباب يسافرون إلى بلاد أخرى، من بلاد الرذيلة، خاصة في الإجازات حيث يستمتعون بالحرام، من شراب، وزنا، وفسوق، وكل ما يسخط الله -جل وعلا- وبعضهم يذهبون ويرجعون وقد اصطادتهم أجهزة خبيثة هناك، وجندتهم لخدمتها وتحقيق أغراضها، لنشر الرذيلة والفساد في بلاد المسلمين، فيرجع بعضهم - بل أكثرهم- وقد تحلل من أخلاقه، ويرجع بعضهم وقد حمل أفكاراً معادية للإسلام، وصار يشكك في الدين والعياذ بالله فيجب عليكم أن تنتبهوا إلى هذا الخطر، ولا بد أن تدركوا أن الزمان يتغير.
قبل عشرين سنة كان يحدث من بعض الشباب شيء من الفسوق أو العوج، لكنه سرعان ما يتعدل ويسلك مسيرة آبائه وأقاربه ويهتدي، أما اليوم فالأمر ليس كذلك، لأن المغريات كثيرة، والفتن كثيرة، والشهوات كثيرة، وإذا وقع الشاب في شراك شيء من ذلك فإنه من الصعب أن يخرج منه.
خذ على سبيل المثال: المخدرات، الشاب الذي يقع ضحية المخدرات كيف يخرج منها؟! إذا أصبح مدمناً أصبح من العسير أن يتخلص منها، حتى أن بعضهم يأكل أو يتعاطى هذه المخدرات وهو يعلم أنه يموت الآن، لأنه اعتاد عليها فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياته، وأصبح مدمناً لها فلا يستطيع أن يتخلص منها والعياذ بالله وهذه عقوبة عاجلة لهؤلاء، فانتبهوا -بارك الله فيكم- لأولادكم منذ الصغر، وارعوا الأمانة التي ائتمنكم الله عليها.(213/12)
وختاماً
أسأل الله أن يرزقني وإياكم حسن القيام على من ولانا، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم ول علينا خيارنا واكفنا شر شرارنا، اللهم ول علينا من يخافك ويتقيك، ويرعى الأمانة فينا يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك علماً نافعا وعملاً صالحا، ورزقاً حلالاً واسعا، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الدنيا والآخرة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(213/13)
الأمانة على الزوجات والبنات
وكذلك تفطنوا لزوجاتكم وبناتكم فلا يكون الواحد منا مثل ذلك الرجل الذي قد حركه السيل الجارف وهو ينظر إلى السماء ويقول: اليوم غيم، اليوم وادي، أو سيل أو طوفان، فالفساد يكتسح كثيراً من المجتمعات، فكيف تغفل عن زوجتك في البيت؟! وكيف تغفل عن ابنتك؟! وهل تدري ماذا يجري في البيت؟! وهل تدري ماذا تأتي به ابنتك من الصحف والمجلات والأشرطة؟! وهل تدري ماذا تستمع؟! وهل تدري كيف تستخدم الهاتف؟! وهل تدري من صديقاتها؟! وما هو الحديث الذي يدور بينها وبين صديقاتها؟! ما الذي يدريك أن ابنتك لا تشاهد أفلاماً محرمة، ولا تسمع أغاني محرمة، ولا تقرأ مجلات محرمةٍ داعرةً تربي البنت على الرذيلة والانحلال؟! وما الذي يدريك أن تكون ابنتك تتحدث مع بعض صديقات السوء عن صديقي فلان، وأقمت علاقة مع فلان، وهذه صورة علان؟! وما الذي يدريك أن تكون بنتك تستخدم الهاتف أحياناً لغرض المعاكسة والاتصال، والتعرف على الشباب؟! إنني أعلم أيها الإخوة من خلال معلومات مؤكدة وصلتني، أن هناك عدداً غير قليل من بناتنا، وآباؤهن من الصالحين الطيبين الحريصين الغيورين، ومع ذلك تقع البنت في مثل ذلك دون أن يعلم والدها، وقد تتوب وهو لم يعلم بشيء من ذلك، وقد جاءتني رسائل في هذا المضمون عديدة تدل على أن كثيراً من البيوت قد خربت دون أن يعلم المسئولون عنها، وأن الذئاب البشرية من هؤلاء الشباب المنحرفين يفتكون بعدد غير قليل من فتياتنا بدون علم أولياء أمورهن، أَمَا إني لا أعممُ هذا الكلام ولست أقول: إن كل البيوت كذلك، ولا كل البنات كذلك، بل فيهن القانتات الصالحات الحافظات للغيب بما حفظ الله، وفيهن الدينات العفيفات وهن كثير -والحمد لله- ولكن مع ذلك يجب أن ننتبه لئلا تتخرب بيوتنا ونحن لا نشعر.(213/14)
هشيم الصحافة الكويتية
الصحافة من وسائل الإعلام واسعة الانتشار، حيث لها جمهور كبير يتداولها ويقرؤها، وهي إما أن تكون وسيلة خير وإصلاح للمجتمع، وإما أن تكون وسيلة إغراق وإفساد، كما هو الحاصل في معظم الصحف في بلاد العالم الإسلامي، والعالم ككل، إلا ما رحم ربي.
وقد حدثت بعض التجاوزات من بعض الصحف الكويتية، وخاصة بعد حرب الخليج الثانية والتي تم فيها تحرير الكويت من الغزو العراقي البعثي، التي أدت إلى تهالك كثير من الصحفيين هناك في محاولة جر المجتمع الكويتي إلى النموذج الغربي الكافر.(214/1)
أمانة الكلمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
هذا هو الدرس الخمسون والأخير من سلسلة الدروس العلمية العامة لهذه الفترة، ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين العاشر من جمادى الآخرة لعام ألف وأربعمائة واثنتي عشرة للهجرة.
وأتمثل بين يدي وأنا أتحدث إليكم في هذا الموضوع ما رواه الترمذي في سننه وحسنه عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من رد عن عرض أخيه بالغيب رد الله عن وجهه النار يوم القيامة} وأسأل الله جل وعلا أن أكون وإياكم من الذابين عن أعراض إخواننا المؤمنين بما نستطيع وأقل ما نستطيعه هو سلاح الكلمة.
الكلمة -أيها الأحبة- أمانة في عنق المتحدث سواءً أكان هذا المتحدث خطيباً يعتلي أعواد المنابر، أم كان متحدثاً، أم كان كاتباً، أم صحفياً، أم غير ذلك.
وهي أمانة عظمى إذ أن الكلمة هي أول كل شيء، فالجنة تدخل بكلمة: لا إله إلا الله.
وكلمة الكفر التي هي: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] هي التي تهوي بصاحبها إلى نار جهنم وبئس القرار، والحرب تبدأ بكلمة والصلح يبدأ بكلمة.
وإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام والإنسان المؤتمن على هذه الكلمة خطيباً كان، أو إعلامياً، أو صحفياً، أو شاعراً، أو كاتباً، أو قصاصاً ينبغي أن يتمثل أفضل الصفات وأنبلها، ويفترض أن يكون موجهاً، ومرشداً، وداعياً، ومعلماً قبل أن يكون مالكاً فقط لزمام الكلمة بجودة الحديث، ينبغي أن يكون على مستوى التوجيه الذي يحمله للمجتمع، فلا يتسلم هذا المنصب إلا أنبل الناس، وأفضل الناس، وأقدر الناس على التفكير، وأصدق الناس، وأصلح الناس.(214/2)
مشكلة تردي المفاهيم والتصورات
وفي الوقت نفسه الذي أصبحنا فيه نحرص على إقامة الروابط والعلاقات مع العدو الكافر يهودياً كان أم نصرانياً، ومهما يكن لونه، أصبحنا نمزق الروابط والعلاقات مع أصدقائنا، وأشقائنا، وإخواننا، وجيراننا، ونتنكر لهم، وقد ندعو إلى مقاطعتهم، أو حربهم، أو سوء الظن بهم، فأي تردٍ في المفاهيم والتصورات أعظم من هذا؟! لقد تنكرنا أو تنكر بعضنا للمجاهدين الأفغان، فأصبحنا نقرأ في تلك الصحافة: أن المجاهدين الأفغان ليسوا سوى عملاء لأمريكا وأنهم يحاربون عملاء روسيا، فالحرب في أفغانستان هي حرب بين أمريكا وروسيا بالوكالة، حرب بين عملاء أمريكا وعملاء روسيا، وأنها أسلحة أمريكية في وجه أسلحة روسية.
أصبحنا نتنكر للجماعات الإسلامية في كل بلد إسلامي، ونرميها بكل البذاءات، وكل الألفاظ الشنيعة، وأقل ما يمكن أن نقول لهم: إنهم وقفوا مع صدام حسين، ومع غزو العراق للكويت، وأنهم انتهازيون، وأنهم ذوو أهداف مادية سياسية، وأنهم لا يعنيهم أمر الإسلام إنما الإسلام بالنسبة لهم هو مجرد حصالة نقود، أو مجرد ثوب يلبسونه صباحاً يخلعونه مساءً.
أصبحنا نطلق هذه العبارات على كل الجماعات الإسلامية، وعلى كل من يرفعون راية الدعوة إلى الإسلام في كل بلد، وهذا والله من الظلم الكبير.
تنكرنا لعلماء الدين، فأصبحنا نصفهم بكل نقيصة، نصفهم بالجهل، بالتخلف، بالتطرف، بالعنف، نصفهم بكل الألفاظ البذيئة التي نحفظها في قاموسنا.
وأخيراً: تنكرنا لشباب البلاد أنفسهم، فأصبحنا نصب عليهم جام غضبنا، ومرير حقدنا، ونستخدم ألفاظ البذاءة، والسباب، والشتائم لنسود بها صفحات جرائدنا، ومجلاتنا، وصحفنا، في محاولة إلهاب السياط في ظهور هؤلاء الأبرياء.
أي تردٍّ في المفاهيم والتصورات أعظم من هذا؟!(214/3)
النقد البناء
فالنقد البناء -أيها الإخوة- ضرورة للفرد، والمجتمع، والجماعة، والأمة، ومن قبل تحدثت في درس بعنوان: لماذا نخاف من النقد؟! فلسنا نريد أن يمارس الإنسان -صحفياً، أو خطيباً، أو متحدثاً- لسنا نريد منه أن يمارس فقط دور الإعلام الرسمي الذي تنتهي مهمته عند حد التطبيل الفارغ، ومدح المنجزات الوهمية، وطمس الحقائق وحجبها عن الأمة، بل نحن نريد أن يمارس دوره في النقد البناء، لكن وفق الضوابط والأصول الشرعية البعيدة عن التشنج، والتجريح، والسباب، والشتائم، وغير ذلك والتي تجعل مصلحة الأمة العليا نصب عينيها فيما تقوم به من نقد بناء هادف.
وإن من النقد: نقد المجتمع بكل مؤسساته، بدءاً من المؤسسات العليا الحاكمة المتنفذة، ومروراً بالمؤسسات الحكومية والشعبية، وانتهاءً بالمواطن العادي، فالمواطن يحتاج إلى من يوجهه ويرشده، كما يحتاج إلى من يدافع عن حقوقه المعيشية والإنسانية، ويحتاج إلى من ينتزع له لقمة الخبز من أفواه اللصوص الكبار الذين لا تطالهم يد القانون في كثير من الأحيان، بل ربما كانوا أحياناً هم القانون نفسه، أولئك الذين يجري في عروقهم الدم المقدس في زعمهم!! والذين استعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهامتهم أحراراً!! أيها الأحبة: إن الصحافة تفقد مصداقيتها حين تكون صحافة مجاملة، همها التربيت على أكتاف الحكام، والتصفيق للمعتدين على أعراض الناس، وحرياتهم، وممتلكاتهم، وحقوقهم، فالصحافة هي نَفَس الإنسان، ويفترض أن تكون تعبيراً حقيقياً عن مشاكله، وهمومه، وطموحاته، وآماله، وآلامه، وتطلعاته أما أن تمارس الصحافة دورها بشكل مقلوب، فهذه هي النكسة العظمى، والإجحاف الكبير بحق الأمة، وهذا هو التنكر للرسالة التي كان يجب على الصحافة أن تحملها.
إننا ننتظر من الصحافة بجميع مؤسساتها أن تكون مدافعاً شجاعاً عن مصالح المجتمع، وأن تكون منبراً حراً لصوت الحق، وأن تكون أداة فعالة لبناء الأمة، بناءً عقائدياً يحفظ للأمة استقلالها في وجه عواصف التغيير، ويمنحها الثقة بذاتها، وتأريخها، ومستقبلها، وشخصيتها المستقلة، وفي الوقت نفسه ننتظر من الصحافة أن تكون مجالاً صالحاً للنقد البناء الهادف النزيه مهما يكن هذا النقد مراً على النفوس، فهذا هو العهد المأخوذ على خير القرون كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: فيما أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: [[وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم]] .(214/4)
الشخصية الإسلامية
أيها الإخوة: إنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق، أن يتكلم هؤلاء المتربعون على عرش الصحافة عن الانتهاكات التي لا تنتهي لعقائد الناس، والتي أصبحت تؤرق المسلم، وتقلقه، وتجعله يعيش في عناء كبير، حتى وهو في بلده وبين أهله وعشيرته، لقد أصبح الكثير من الناس يعتقدون أن الكافر يهودياً كان أو نصرانياً أقرب إليهم وشيجة، ولحمه من أخيهم المسلم، وأن الأجنبي أقرب إليهم من أخيهم في النسب والعرق.
فأين حمية الإسلام إذاً؟! وإذا لم تكن حمية الإسلام، فأين نخوة العروبة التي كان أبو جهل، وأبو لهب ينتخون بها ويتنادون إليها؟! أين الموقف الناضج من ذوبان الشخصية الإسلامية في شخصية المستعمر؟ سواء كان هذا المستعمر أمريكياً، أم بريطانياً، حتى أصبحنا نجد المواطن العادي في أكثر من بلد قد يسمى ولده -كما سمعتم وقرأتم- بجورج بوش عبد الله! والآخر يلبس قلادة عليها صورة تاتشر! والثالث يقدم مشروعاً رسمياً لتسمية أحد الشوارع الرئيسية بـ تاتشر أيضاً!! ثم يشترط أحد الحضور أن يكون هذا الشارع -على حد تعبيره-: "سنع وزين"، لابد أن يكون شارعاً يليق بمستواها! وآخر أو أخرى تتكلم في التلفاز بلسان عربي غير مبين، وتفتخر بأن عشيقها أمريكي وهي بنت خمسة عشر عاماً! وفي ذات الوقت نجد بعض المقالات في صحف تكتب بالأحرف العربية، تنادي بإعادة النظر في العداوة مع إسرائيل؛ لأن إسرائيل وقفت معنا في حرب الخليج موقفاً لا بأس به، كما تقول تلك المقالة.
وهل إذا وقفت معنا إسرائيل، أو وقفت معنا تاتشر، أو وقفت معنا أي قوة أخرى في الدنيا في حرب سابقة أو في حرب لاحقة؟ هل فعلت ذلك من أجل سواد عيوننا؟! هل فعلت ذلك كما يراد لنا أن نفهم مناصرةً لقضايا العدل، والسلام، ورعاية لأخلاقيات وحقوق الإنسان؟! هل لهذه المصطلحات والكلمات وجود في قاموس السياسة المعاصرة؟! هل نحن نضحك على أنفسنا؟! كلا، إنهم وقفوا معنا من أجل مصالحهم، ومن أجل حفظ اقتصادهم، ومن أجل ضمان هذا العرق النابض في بلادهم، وقفوا وقفة من أجل أنفسهم لا من أجلنا، ويجب أن ندرك ذلك حق الإدراك، فهم لا يعنيهم من يحكم المسلمين، بقدر ما يعنيهم أن يكون الذي يحكمهم يضمن لهم مصالحهم، وأن تصل إليهم دون أي تأخير أو تعكير.(214/5)
من صور انحراف الصحافة الكويتية
لقد أصبح المثقف الآن يقول: انتهى عهد العنتريات العربية، وجاء عهد التفكير المنطقي الواقعي البعيد عن التشنج، جاء عهد النظرة المعتدلة التي لا تنظر إلى العالم من منطلق العداء للعالم كله، إنما من منطلق المصالح المتبادلة، وحين تدخل إلى التفاصيل تجد أحدهم يقول تفسيراً للكلام السابق: إنه قد آمن بالإمبريالية، وآمن بالاستعمار، فهم الضمادة التي تلتف حول جروحنا، وعملهم هو ترسيخ لمبادئ الحرية، والكرامة، والإنسانية.
ماذا لو طولب بمحاكمة مثل هؤلاء الناس بتهمة الولاء للاستعمار؟!(214/6)
رسالة الصحفي الحقيقية
إنه مما يوصل هؤلاء الصحفيين إلى رضوان الله لو أرادوه، ويؤهلهم، ويوصلهم أيضاً إلى قلوب الناس أن يظهروا مزيداً من الاهتمام بالمعاناة اليومية التي يعيشها الإنسان بعد فترة من التدمير، وفقدان الحاجات الضرورية، ووجود صعوبات جمة في الدراسة، والتوظيف، والمعيشة والنقل وغير ذلك.
إننا نحتاج إلى من يدافع عن عقائد الناس، كما نحتاج إلى من يدافع عن أخلاقهم، ونحتاج إلى من يدافع عن حاجاتهم اليومية، وأقواتهم، وهمومهم الضرورية.
وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعاني الثلاثة وغيرها في حديث ابن مسعود المتفق عليه لما قال: {يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك} فهذا يتكلم عن قضية العقيدة، وأن من أهم القضايا التي يحملها كل مسلم ضرورة تصحيح العقيدة من خلال المنبر الذي يملكه، ويتكلم عن ضرورة الحفاظ على أخلاقيات المجتمع، ووجود قدر من الأمن الأخلاقي، والأمن الاجتماعي في كل مجتمع تظلله راية الإسلام.
ويتكلم عن قضية الحاجات الضرورية للناس، وضرورة الحفاظ على حياة الناس، وعلى أقواتهم، وعلى ضروراتهم.(214/7)
الانحراف في مقاومة الفساد الأخلاقي
وبغض النظر عن تأثير الفساد الأخلاقي والاجتماعي فيما يجري ويقع على الأمم والشعوب، وهذه قضية دينية مسلمة مقررة، ولا يلزم منها أن يكون المصاب أكثر خطأً، وأكثر فساداً من غيره لكن الله تعالى يبتلي بحكمته كما يشاء، دون أن يكون هذا دليلاً على أن الآخرين الذين هم بمنجاة من هذا العقاب أنهم أفضل من المبتلين بغض النظر عن هذا وذاك.
فيا ليت هؤلاء الذين سخَّروا أقلامهم للانتقاد وانتقاد الأخيار، والسخرية بهم، ليتهم صبوا جهودهم في مقاومة الفساد الذي تنشره وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، والتي تعرض صوراً يشيب منها الرأس، ففي إحدى المرات تعرض صورة رجل لبناني يحمل معه ولداً جميلاً، فيقول بكل تبجح: إنه يحمل هذا الولد حتى يصطاد به الفتيات الكويتيات، لأنه ولد جميل، ويتحدث القادمون من هناك عن ممارسات وإن كنا نرجو أن تكون محدودة، إلا أنها قد تقع أحياناً أمام سمع وبصر المارة يقشعر منها الجلد، ولو علم بها رجل الجاهلية الأول لأنكرها وانتفض من ذلك في قبره.
بل الغريب أن هناك محاولات أخرى لتطبيعها واعتبارها أمراً عادياً، فلا تستغرب أن يكتب أحدهم في جريدة صوت الكويت يقول: إنه قد رأى في بريطانيا شاباً وفتاة غارقين في بحر من القبل لمدة نصف ساعة أو أكثر دون مضايقة من أحد، وبعيداً عن أعين ونظر الركاب الإنجليز، وهذا أمر عادي جداً ولا غبار عليه، ومع ذلك يقول: الجو هناك هادئ، وبديع -في لندن طبعاً- والأمطار هادئة، والأسواق ممتلئة بالخيرات، والشعب يتمتع بالرخاء، وإمكانية أن تُجتاح بريطانيا من قبل إحدى الدول المجاورة أمر غير وارد، ويطالب بأن يكون هذا المنظر الذي شاهده في بريطانيا أن يكون موجوداً في الكويت، وألا يكون عليه أي اعتراض، ويتساءل متى يأتي اليوم الذي يحصل فيه مثل هذا في أرض الكويت؟! فالقضية محاولة جلب التعاسة الغربية إلى بلاد الإسلام، وليست هذه مختفية في حيز ضيق أو زاوية، وإنما هي ممارسة علنية تكتب على صفحات الجرائد والمجلات، وأكثر من ذلك أنها تشترى بأموالنا.(214/8)
الهجوم على الجماعات الإسلامية
كما أصبح كثيرون يشكون -مثلاً- في قضية العقوبات الإلهية التي ينزلها الله تعالى بمن يخالفون أمره، وأصبحنا نجد حملة ضارية شرسة في عدد من الصحف على مجموعة من الدعاة لمجرد أنهم قالوا: إن ما نزل من البلاء والمصيبة كان بسبب ذنوبنا ومعاصينا، وهل هذا الأمر يحتاج إلى إثبات بعد أن قال الله تعالى لصفوة البشر بعد الرسل والأنبياء لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أصابهم ما أصابهم، قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ؟! فكيف نعتقد الآن أننا بمنجاة من عقوبة الله تعالى؟! لقد وقف كثيرون ضد من فسروا الحدث بأنه عقاب، وقالوا: يجب عليكم إذاً أن تعتقدوا أن الحرب ضد عدوان العراق كانت حراماً، وأن هؤلاء الذين احتلوا بلاد الكويت كانوا جنود الله، ثم قال أحدهم: فلماذا وقفتم ضد الاحتلال؟ ولماذا طالبتم بالجهاد أنتم والجماعات الدينية الأخرى؟ وهاهنا يطول عجبي! فإنهم قبل قليل كانوا يتهمون الجماعات الدينية -كما يسمونها-، ويتهمون الدعاة إلى الله تعالى، بأنهم وقفوا مع العراق ضد الكويت، وأيدوا احتلال الكويت فإذا بهم ينقلبون في موقف من المواقف، ويقولون: إذاً فلماذا وقفتم ضد الاحتلال، وطالبتم بالجهاد أنتم والجماعات الدينية؟ فيعترفون بأن الجماعات الدينية -كما يسمونها- وأن الدعاة إلى الله تعالى قد وقفوا ضد الاحتلال وقاوموه، وطالبوا بالجهاد لكن هذا الاعتراف لا يدوم إنما يقولونه فقط عند الحاجة، ثم يقلبون ظهر المجن ليقولوا لهم كلاماً آخر إذا احتاجوا إليه.
وأحدهم كتب مقالاً عنوانه: (البطريركية والقساوسة الجدد) ، صب فيه جام غضبه على مجموعة من الدعاة؛ لأنهم دعوا الناس إلى تقوى الله تعالى، وخوفوهم عقابه، وقالوا لهم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] وقال: كلا، ليس ما أصابنا بما كسبت أيدينا، ولكن مصيبة الكويت سببها كثرة الجماعات الدينية التي جعلت الإسلام حصالة نقود، وكلما طالت ذقونهم، وقصرت (دشاديشهم) -هذه عبارته- صغرت عقولهم، وعندما ظهروا على الساحة انحبس المطر، وجف الضرع، ومات الزرع، وكثرت المصائب، ومزقت الأوراق، وقطعت الأرحام، وارتفعت حالات الطلاق، وقل الزواج، وكثر السفر إلى بانكوك، وكثرت مصائب الله تعالى بها عليم.
إنها لمصيبة أن تنسينا المنافسة غير الشريفة مبادئ العدل التي نتغنى بها، والذي به قامت السماوات والأرض، فنستغل هذا المنبر الشريف -الصحافة- لأفكار وأقوال وآراء غير شريفة، وعبارات غير نظيفة نلصقها بأولئك الذين لا نحبهم.(214/9)
الانحراف في حب الاستعمار
الاستعمار الذي يعلم الله أننا كنا بالأمس نقرأ في كتب التاريخ أن هناك أناساً كانوا أعواناً للاستعمار في بلاد المشرق العربي الإسلامي، وفي بلاد الشام وغيرها، فنتعجب!! ونقول: هل بلغ التردي بمسلم أن يكون حليفاً للاستعمار ضد أبناء دينه وبلده؟! وإذا بنا اليوم نقرأ في صحف توزع في مكتباتنا، وبقالاتنا، وأسواقنا، وتدخل إلى بيوتنا عمّن يتغنى بأمجاد الاستعمار، ويقول: إن الاستعمار هو الضمادة التي تلتف حول جروحنا، وهو الذي يعمل على ترسيخ مبادئ الحرية، والكرامة الإنسانية.
إنها هزيمة كبرى في ظل هيمنة أمريكا والغرب، وفي ظل تفوق إسرائيل، وخيانة للأمة وتأريخها ومستقبلها أن يوجد بيننا من يقول: ما المانع من إقامة قواعد عسكرية لهم في بلادنا؟! فنحن بحاجة إليهم ليدافعوا عنا كما نحن بحاجة إلى صناعتهم وتعميرهم لبلادنا المخربة.
إنها كارثة والله أن تذوب حواجز العقيدة مع هؤلاء، لتقوم بدلها حواجز مع بني جلدتنا، وأولاد أسرنا لمجرد أنهم كانوا متحمسين للإسلام أكثر منا.
وإنها لكارثة أكبر أن تصبح بديهيات الدين مجالاً للأخذ والرد، والجدال، فالبراءة من المشركين اليوم لا وجود لها في قاموس طائفة ممن يتسنمون على عرش الصحافة، فقد ضاعت عندهم الأوراق، واختلطت الحدود، وضاعت المفاهيم فأصبح الكافر المشرك صديقاً ودوداً حبيباً لماذا؟! لأنه وقف معهم فيما يزعمون ويدعون، وأصبح الصديق المؤمن عدواً؛ لأنه في نظرهم يقاوم طغيان الغرب، أو طغيان الشرق.(214/10)
صور الانحرافات المتفشية في المجتمع
إنه كان من المنتظر أن يكون ثمة فترة مراجعة وتصحيح للحقبة الماضية من التأريخ، وفترة مكاشفة للنفس وصدق مع الله تعالى، بدلاً من أن تكون الفترة فترة هجوم على طبقة من أنبل وأفضل طبقات المجتمع.
كان المنتظر أن نكتشف في هذه الفترة الحسد الذي كان يأكل قلوب طائفة منا، وقد جاء في سنن أبي داود: {إياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب} وأن نكتشف الظلم الذي كان يحكم حياتنا الاجتماعية والسياسية، وفي الصحيحين: {الظلم ظلمات يوم القيامة} وكان من المنتظر أن نكتشف الرياء الذي كان يهيمن على تصرفاتنا، واحتفالاتنا، واجتماعاتنا فيجعلها مكروهة ممقوتة بعيدة عن الصدق والوضوح، وفي مسند أحمد عن محمود بن لبيد مرفوعاً: {إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء} وسنده حسن.
كان من المنتظر أن نكتشف ظن السوء الذي يخيم على قلوبنا، ويحكم نظرتنا إلى الآخرين من بني جنسنا وبني ديننا، ويحكم علاقة بعضنا ببعض، وفي الحديث: {إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث} وهو في الصحيحين، وأن نكتشف الغش، والخديعة، والاستئثار عن الرعية بالمال والسلطان، وإثقال الكواهل بالرسوم والضرائب، وفي المتفق عليه {ما من وال يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة} وأيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه} رواه مسلم.
كان من المنتظر أن نكتشف السلب والنهب بغير حق، وضياع الثروات في غير طائل، وفي صحيح البخاري عن خولة الأنصارية مرفوعاً: {إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة} .
وكان من المنتظر أن نكتشف الفحش، والبذاءة، والسباب في أساليبنا، وفي عباراتنا، وفي إعلامنا، وفي صحافتنا، وفي ألسنتنا، وفي أقوالنا ومقالاتنا، وفي حديث أبي الدرداء الذي رواه الترمذي وصححه: {إن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء} وفي حديث آخر في الصحيح: {إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة} .
كان من المنتظر أن نكتشف الاستكبار في الأرض، والتعاظم على عباد الله من الفقراء، والعمال، والمعوزين، والمحتاجين، والضعفاء، وغيرهم الذين بسببهم تدفع الآفات، والمصائب، وبدعائهم يستمطر المطر من السماء.
وفي حديث ابن عمر: {من تعاظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله تعالى وهو عليه غضبان} وفي الحديث الآخر: {من ضار مسلماً ضاره الله، ومن شاق مسلماً شقَّ الله عليه} رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
وكان من المنتظر أن نكتشف ونتخلص من الجاسوسية، التي جعلت كثيرين كأنهم يعيشون في عالم من الأشباح والمخاوف، أو غابة من الأوهام، وفي القرآن يقول الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: {من تسمع حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة} .
كان من المنتظر أن نكتشف ونعالج تلك الأمراض الفتاكة التي تفتك بمجتمعنا، وتحتاج إلى اليد الحانية التي تعالجها، وتشخصها، وتجعلنا أمام أنفسنا في العراء وجهاً لوجه.
وقد كان في هذه الموضوعات وغيرها غُنْيَةُ، أي غنية عن إثارة المعارك الحامية مع الآخرين، ممن لا يملكون صوتاً كصوتنا، ولا بذاءة كبذاءتنا، ولا قلة حياء كقلة حيائنا.(214/11)
تركز هجمة الصحافة الكويتية على الملتزمين بالدين
إن الكل مندهشٌ من هذه الحملة الصحفية الكويتية، خاصة على شباب الدعوة الإسلامية، ونحن لا نخرج أحداً من الإسلام بذنب إلا الشرك بالله تعالى اللهم إلا المكفرات المعروفة التي تكلم عنها أهل العلم، وأقول هذا؛ لئلا يخرج علينا أحد في الغد أو بعد غد ويقول: أنتم تكفروننا، وأنتم تخرجوننا من الإسلام.
ولكننا نعلم ويعلم الناس أن الشباب المستهدفين بهذه الحملة الظالمة الآثمة هم عُمَّار المساجد، وهم أهل حلق الذكر، وهم طلاب العلم، وهم حملة الدعوة، وهم الملتزمون بالسلوك الإسلامي، المتحمسون لقضية الدعوة إلى الله تعالى أكثر من غيرهم.
وهذه الحملة تتمركز غالباً حول محورين:(214/12)
من صور التناقض
ثم يقول: إن هذه الجماعات الدينية ذات أهداف سياسية تتستر باسم الدين، وأقول: يا سبحان الله!! هذا عجيب! الآن ممارسة السياسة حلال للجميع إلا للإسلاميين، إلا للمسلمين والدعاة وأهل العلم وأهل الخير والعلماء، هؤلاء حرام عليهم أن يتكلموا في السياسة، ولا تظنوا أن هذا الكلام من عندي، لا، بل نشروا هم في صحيفة صوت الكويت مقالاً صريحاً عنوانه: حوار هادئ حول العلمانية، يقول: إنه لابد من عزل الدين في جانب معين؛ لأن رجل الدين يفترض أنه رجل ورع وزاهد وفاضل ونقي وغير ذلك، والسياسة فيها منعطفات، ومناورات، ومداورات، ولف، ودوران، ومظاهرات، وأمور، وصراخ، وأشياء لا تليق برجل الدين، فرجل الدين يجب أن ينزوي إلا إذا باع دينه بدنياه فإنه حينئذٍ ينزل إلى ميدان الواقع، وإلى ميدان السياسة، فالآن لم يعودوا يجاملون، بل أصبحوا يصرحون بضرورة طرح العلمانية، وأن رجل الدين -كما يسمونه هم وإن أنكروا وذلك أحياناً لأنهم متناقضون- أنه ينبغي أن ينعزل في المسجد، ويكون بعيداً عن ممارسة أي دور في السياسة وأي دور في المجتمع.
أحرام على بلابله الدوحُ حلال للطير من كل جنس مثال ثالث أيضاً: كتب أحدهم مقالاً في جريدة سيارة، هو عبارة عن رسالة يقول إن أحد الناس كتبها إليه، يقول: إنهم يسألونني عن زوجتي إذا لقوني قد أركبتها في السيارة، هل هي زوجتك أم لا؟ وما هي الدلالة؟ ثم يجعلون الزوجة في غرفة والرجل في غرفة، وبعد ذلك يسألون الزوجة ما لون غرفة النوم، وما نوع المناديل التي تستخدمونها؟ وما شكل البيت؟ وما اسم أكبر الأولاد؟ وما اسم كذا؟ وما شكل كذا؟ وما حتى يتأكدوا من هذه المعلومات هل هي زوجتك فعلاً أم ليست بزوجتك؟ إنك تنشر لنا رسالة من أحد القراء، وصحيح أن هذا القارئ يزكي نفسه يقول: والله العظيم أنا أصلي، وأصوم، وكذا، ونحن لا نتهم هذا القارئ، ولا نتهمك أنت هل الرسالة حقيقية أو مزورة؟ هذا أمر نتركه، أمر غيب لله لأننا لا نريد أن نتكلم أو نتوقع شيئاً معيناً، لكننا جميعاً لا نستطيع أن نحكم على جهة معينة دون أن نسمع كلام الطرف الثاني.
ما هو الذي حصل لهذا الرجل؟ وما الذي حدث منه؟ وهل من المعقول أن تنشر في صفحات طويلة رسالة من قارئ؟ لا نعرف من هو؟ ولا ندري هل هو صادق أم غير صادق؟ ولم نسمع كلام الطرف الآخر، ولم نعرف في أي مكان حصل هذا الأمر!! لماذا يستهدف مثل هذا الجهاز بمثل هذه الحرب الشعواء علماً بأننا نعرف أن هناك أجهزة كثيرة مشابهة؟ هناك جهاز المرور، جهاز الشرطة، جهاز الأمن، وكل هذه الأجهزة تقوم على مصالح الناس، وكل هذه الأجهزة لها تجاوزات: فرجل المرور يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يدعي على إنسان أنه قطع الإشارة ولم يفعل، وإذا كان الإنسان لو اشتكى إلى تلك الجهة أو هذه ربما لا تستمع إليه؛ لأنهم يقولون: لو سمعنا شكاوى المواطنين ما أثبتنا ولا مخالفة مرورية واحدة مثلاً.
فإنني أقول إن جهاز الهيئات على أتم استعداد لتلقي أي شكوى حقيقية من إنسان، والنظر فيها، ومعرفة أبعادها، وإذا ثبت أن هناك إنساناً تجاوز أو أخطأ فسوف يلقى جزاءه.
وهذا بخلاف كثير من الأجهزة الحكومية الأخرى، فإنه من الصعب أن تتقبل شكاوى المواطنين، وقد حصل هذا لي ولغيري فنحن نجد كثيراً من الأجهزة يقول: لا أستطيع، وإن كنت أعتقد أنه يمكن أن يقع الخطأ لكني لا يمكن أن أتقبل أية شكوى؛ لأن هذا سوف يفتح علينا باباً واسعاً، وتجاوزات رجال الأمن حدِّث ولا حرج.
ففي بلاد الإسلام في طولها وعرضها لا تسأل أجهزة الأمن عما فعلت، وقد تتدخل في خصوصيات الناس، وقد تتجسس على الناس، وقد تكشف أوراقهم، وقد تراقبهم ولم نجد في هذه الصحف من تكلم عن ذلك أبداً، وإنما تكلموا عن -ما يسمونه- بتجسس الأخيار، ورقابة ما يسمونه برقابة الطيبين عليهم.
ولا أدري ما هو الدافع إلى السكوت عن ذاك والتركيز على هذا؟! بالرغم من أن الأمر بالنسبة لهم لا يعدو أن يكون وهماً كبيراً.(214/13)
محاولة تأليب العوام
ورابع تكلم عن هذا الجهاز، وقال: إن هذه تجربة مستوردة، وهي مستوردة من دولة مجاورة، وهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور، حتى قال: إنه يحتمل أن تقوم حربٌ أهلية إذا قام مثل هذا الجهاز في الكويت، لأنه سوف يكون هناك ضرورة أن يدافع الناس عن أنفسهم، وفي الوقت نفسه يصورها بأنها ميليشيات يسمونها ميليشيات الأمر والنهي، أي: يصورونها بأنها دولة داخل الدولة، وأنها تهدد أمن البلاد، وأنها، وهذه نبرة معروفة لمحاولة التخويف من أي نشاط إسلامي بأنه يهدد أمن البلاد، وأنه خطر على الحكام.
إذاً عليكم أيها الحكام أن تقاوموا هذا النشاط، وتحاربوه، وتأخذوا حذركم منه فإنه يهدد وجودكم، ويهدد استقراركم، ويهدد كراسيكم.
وهي كما قيل: (شنشنة أعرفها من أخزم) بالرغم من أنهم يعترفون بأن دور هذه الهيئات لم يتعد أن يكون إعلانات على الصحف، بل إن أحدهم قال: تتصدر إعلاناتها الصحف على استحياء.
إذاً إعلانات في الصحف، وعلى استحياء أيضاً، ومع ذلك صار هناك تهديد بأن هذه يمكن أن تقلب نظام الحكم في البلد، وأنها ميليشيات، وأنها يمكن أن تكون النهاية حروب أهلية! وآخر كتب حواراً مع داعية في حلقتين، وهو كلام والله ساقط، حتى على المستوى اللغوي، وعلى المستوى الصحفي، أتعجب أين الرقابة الصحفية من مثل ذلك الكلام الذي لا يستحق أن أنقله أو أتكلم عنه؟! ثم ركز هؤلاء على تأييد الأعمال القمعية ضد الحركات الإسلامية في الجزائر وفي غيرها، وأيدوا هذا العمل، وقالوا عنها كثيراً مما قالوا، ومثل ذلك أمر عجيب: ففي الوقت الذي يتكلمون فيه هم عن إطلاق الحريات، ويطالبون -بما يسمونه- بالديمقراطية، كأنهم يعتبرون أن الديمقراطية حق لهم فقط أما من ينتسبون إلى الإسلام، والدعوة الإسلامية فإنه يجب أن يقاوموا بالحديد وبالنار.
ليس فقط حرمانهم من الحقوق في الصحافة والكتابة؛ لا، ولا حرمانهم من الحقوق في الكلام في المساجد فإن أحدهم -أحد هؤلاء الصحفيين- لما سمع خطيباً يدافع عن المتدينين اتصل بوزير الأوقاف يطالبه بفصل هذا الخطيب، فهو حصار إلى هذا الحد، وإلى هذه الدرجة، ومقاومة بهذه الصورة! إذاً، هم يريدون حريات لهم هم فقط، أما من ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية، أما رجال الإسلام ودعاته، فإنهم لا يكتفون فقط بحرمانهم من الحقوق الإنسانية في الكتابة في الصحف، أو الكلام على أعواد المنابر -مثلاً- أو في الدروس وغيرها، وإنما حتى يطالبون بأن يكون مكانهم السجون؛ لأنهم يتهمون دائماً وأبداً بأنهم خطر على أمن البلاد، وعلى استقلالها، وعلى استقرارها، ولله في خلقه شئون! وبعضهم إذا عاتبته قال لك أنا لا أتكلم عن الجميع، أنا أتكلم عن البعض، وهذا في الواقع أمر عجيب! من هذا البعض الذي تتحدث عنه؟! ولماذا تتكلم عن البعض وتترك البعض الآخر؟! لماذا لا تذكرون الصورة الأخرى المشرقة لدعاة الإسلام ورجاله؟! حتى تستطيع أن تقول إنك منصف وعادل كما زعمت، وحتى حديثك عن هذا البعض، لماذا يكون حديثاً متشنجاً، منفعلاً، بعيداً عن الموضوعية، وبعيداً عن التعقل، وبعيداً عن الإنصاف؟ لماذا تتعرض لشخصيات الناس وحرياتهم وحقوقهم الخاصة؟! بعض الجمعيات في الكويت منعت بعض هذه الصحف أن تباع، فثارت ضجة في تلك الصحف، وقالوا: هذه الجمعية حكومة داخل الحكومة، دولة داخل الدولة، وقالوا: نخشى أن يتطور الأمر إلى إرهاب فكري، وما علاقتكم أنتم بثقافة الناس؟ وماذا يقرءون؟ وماذا يشترون؟ إلى حد أن بعضهم من تناقضه قال: إنهم لما منعوا بيع هذه الصحف ارتفعت مبيعاتها، وارتفع الإقبال عليها، ثم تناقض بعد قليل، وقال: إن منعهم لبيع هذه الصحف كان تمهيداً للانتخابات في تلك الجمعية وهذا أمر عجيب!.
إذاً: منع الصحف يرفع شعبية الجمعية عند الناس، هذا معنى قوله إنه تمهيد للانتخابات، وهو يزعم أن مبيعات الصحف قد ارتفعت بسبب منعها، وهذا تناقض ظاهر!(214/14)
من صور الهجوم
أحدهم كتب مقالاً عنوانه: (المجرم حين يصبح رجل دين) وتكلم بكلام قاسٍ على طبقة يقول: إنهم شبعوا من الفساد، وارتكبوا ألوان الجرائم، ثم أظهروا التوبة، وصاروا ينظرون إلى الناس نظرة شك وريبة، ويلاحقون الناس، ويتجسسون على عوراتهم، ثم صار يتهم هؤلاء بشتى التهم.
إن النقد له ضوابطه يا أخي، والشتم ليس من شيمة المسلم، واتهام النيات لا معنى له، فأنت -مثلاً- لو قال لك إنسان: إنك شخص متهم، أو إنك عميل، أو أنك تمارس أخلاقيات غير جيدة في الخفاء، أو إنك تمارس محاولة الحصول على الشهرة على أكتاف الآخرين، لما كنت ترضى بهذا بحال من الأحوال، ولكنت تكتب عنه كثيراً، وتشهر به، وتقول له: ما الذي جعلك تطلع على ما في قلبي؟! أو تتجسس عليّ في بيتي؟! فما بالك أصبحت تمارس هذا الدور الذي تنتقده مع الآخرين، فتتهمهم بشتى التهم وتجعل العنوان: (المجرم حين يصبح رجل دين) .
بل الأغرب من ذلك أن هذا الشخص نفسه قال في مقال له: واحد لحيته مثل التيس -هكذا!! - يقول لي: لماذا تتكلم عن رجال الدين، ورد عليه بقوله: قلت له: الإسلام ليس فيه رجال دين، يا سبحان الله!! أولاً: كلمة أن هذا الإنسان لحيته شكلها كذا، هذا الكلام ليس من كلام المنطق، ولا من كلام العقل، وإذا تركنا قضية الإسلام جانباً، لنناقشكم من منطلق الحرية الشخصية التي تتكلمون عنها، أليس من حقي كمواطن -ودعك من قضية وأنني مسلم- وإنني أربي لحيتي كما يحلو لي؟! وأنت تستغل جريدة رسمية سيارة لتسخر من لحيتي وشكل لحيتي، عيب!! أقول لك: عيب! لأن كثيراً من الناس لا تؤثر فيه مكلمة حرام، بل كلمة كفر قد لا تهز مشاعرهم.
ثم هو نفسه يقول في مقاله السابق: (المجرم حين يصبح رجل دين) ، هذا هو العنوان وعندما يقول له أحدهم: لماذا تسخر من رجال الدين؟ يقول له: الإسلام ليس فيه رجال دين.
إذاً: لماذا بالأمس استخدمت لفظ رجل دين، واليوم أصبحت تتناقض؟! ومرة أخرى كتب مقالاً يزعم أنه رسالة من أحد القراء، لفت نظري فيه -وكله يلفت النظر- لكن هذا الإنسان يقول: رجل نظر إلى زوجتي وهي معي في السيارة، وقال لها: "غطي وجهك يا فاجرة!! " متى حصل هذا؟! وأين حصل هذا؟! ثم ما هو التعليق؟! يقول هذا الإنسان: كل ما أستطيع أن أعلق عليه أنه بالنسبة لشعر رأسه وشعر لحيته عنده كثافة في الإنتاج وسوء في التوزيع، أي أن الشعر كثير لكنه غير منظم.
يا سبحان الله أهذا كلام! أهذا نقد!! هذا شتم، وسباب، وبذاءة، ونحن كنا نربأ ببعض هؤلاء أن يصلوا إلى هذا الحضيض الذي أوصلوا أنفسهم إليه، فعبروا عن مشاعر الحقد التي لا يحملها الإنسان الشريف الفاضل النبيل.(214/15)
اتهام النيات والمقاصد
نموذج آخر: أحدهم كتب عن هذه الهيئة التطوعية يقول: إن هذه الهيئة التطوعية ليست سوى تغيير لوجوه الجماعات الدينية التي وقفت مع صدام حسين، فيقول: إن الجماعات الدينية وقفت مع العراق، فاحترقت وأصبحت ليس لها قيمة؛ ولذلك يسمونها المقبورة المدفونة، فلما تغير الأمر أرادوا أن يغيروا الوجوه ويلبسوا ثوباً جديداً فظهروا علينا بمظهر الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
تغيير في الوجوه فقط، وقيادات جديدة.
أولاً: قبل قليل كنتم تعترفون بأنفسكم -وهذا كلام مكتوب وكل ما أقوله بوثائق- كنتم تعترفون بأن الجماعات الدينية -كما تسمونها- وقفت ضد الغزو، وحاربت وقاومت، وكانت وقوداً، وأنها أعلنت الجهاد، وقبل ذلك كان هذا الأمر معروفاً، فما بالكم الآن تتهمونها بأنها وقفت مع الاحتلال العراقي؟! هذه نقطة.
النقطة الثانية: لماذا اتهام النيات؟.
أثبت لنا بالوثائق، والحقائق، والكلام العلمي البعيد عن التهويل والمبالغة، أثبت لنا ما تقوله وتدعيه، هذه صحف القوم قبل الغزو العراقي وأثناءه وبعده كانت تتكلم عن هذا الموضوع بشكل واضح، كانت تنتقد هذا الغزو، وتنكره، وتعلن الحرب عليه، وتجند إمكانياتها لذلك، ومن هو الذي يجهل مواقف الصحافة الإسلامية من حزب البعث العراقي وغير العراقي منذ عشرات السنين.(214/16)
المحور الأول في الهجمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المحور الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبب هذا الهجوم هو الإعلان عن إقامة هيئة شرعية أهلية محتسبة تقوم بمحاولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة الطيبة، وكل ما عملته تلك الجمعية، أو تلك الهيئة هو أنها أصدرت بعض الخطابات، وبعض الإعلانات، وبعض الدعوات الكريمة الطيبة التي لا تعدو أن تكون أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر بالكلمة فقط، عبر قصاصة صحيفة، أو إعلان يعلق في مكان معين ولم تتعد ذلك، ولكننا وجدنا حملة ضارية شرسة على مثل هذا اللون من النشاط، وأضرب لكم نماذج من هذا الكلام البعيد عن النظرة المنطقية، البعيد عن الحوار الهادئ الهادف الذي طالما تكلموا عنه.(214/17)
المحور الثاني في الهجمة: المرأة
المحور الثاني: الذي هجموا عليه هجوماً غريباً هو المرأة، ومع تيار التغريب، وتغيير هوية المجتمع وبروز ألوان من الأعمال الغريبة على مجتمع الكويت المسلم فإننا نجد ألواناً ومقالات وصوراً عجيبة من الهجوم، على سبيل المثال منها ما يلي:(214/18)
شعار المرأة الجديدة
نقطة رابعة في موضوع المرأة: يتعلق بطرح شعار يسمونه: المرأة الجديدة، وهو شعار قديم في الواقع، لكنهم طرحوه من جديد، حتى إن إحدهن تقول: الدور الرئيسي للمرأة هو خروج المرأة من المنزل، والبحث عن إمكانياتها، واكتشاف مواهبها لتحقيق مكانتها الذاتية.
هذا هو الدور الرئيسي! وتطرح بعد ذلك أنه يوجد حكم في لندن يعتبر أن معاشرة الرجل لزوجته بغير رضاها جريمة، ثم تقول: أنا صفقت لهذا الحكم، وتمنيت حصوله في الكويت، وفي كل دول العالم.
والغريب أن هناك أحكاماً في لندن وفي غير لندن لا تؤاخذ على الزنا، والسفاح، والجريمة، والشذوذ الجنسي، ولم نجد انتقاداً لها، إنما وجدنا تصفيقاً فقط لقرار يعاقب الرجل الذي يعاشر زوجته بغير رضاها.
ثم تقول: إن المرأة بإمكانها التجرد من أنوثتها، وتجاهل دورها التقليدي.
وما أدري إذا تجردت المرأة من أنوثتها أي مجتمع سوف نعيش فيه! سيكون مجتمعاً كله مجتمع رجال!(214/19)
محاربة الحجاب
النقطة الثالثة: تقول: أو يقولون ويعتبرون أن الحجاب والنقاب تخلف، وتقليد بالٍ، يقول أحدهم: انتكس المسلمون وضاعوا في (الكازوزة) ، وأنا في الواقع لا أدري ما هي (الكازوزة) ؟! فلعل أحدكم يراجع القاموس المحيط، وينظر لنا ما هي (الكازوزة) ! يقول: انتكس المسلمون وضاعوا في (الكازوزة) عندما ارتدت نساؤهم النقاب، وارتدى كباتن الكرة (بتاعهم) الشورت الإسلامي!! إذاً: هذا هو سر تخلف المسلمين، وينتهي التخلف ويستطيع المسلمون أن يصنعوا القنبلة النووية، وينتصروا على عدوهم الشرقي والغربي بمجرد خلع نسائهم للنقاب! هذا مؤدى الكلام، ثم ختم كلامه قائلاً: متى يكف علماء الدين عندنا عن تهديدنا بالنار؛ لأننا نرتدي الأحذية ولا نرتدي الأخفاف؟! وأنا لا أجد في نفسي حاجة إلى التعليق على مثل هذا الكلام.
وإحداهن تقول من باب تقرير أن الفتاة لا يوجد هناك داع أن تلبس النقاب، تقول: ما هو مسموح به في الحرم الشريف ينبغي أن يكون مسموحاً به في الحرم الجامعي، وهذه حجة ما يجدها أحد غيرها، -تقول- لماذا النقاب؟ ليس له داعٍ، فكشف الوجه والاختلاط مادام مسموحاً به في الحرم الشريف، فينبغي أن يكون مسموحاً به في الحرم الجامعي، بجامع أن كل منهما حرم.(214/20)
محاربة الفتيات الملتزمات بالنقاب
النقطة الثانية: فيما يتعلق بقضية المرأة: هو تأييد منع المنقبات من قيادة السيارة، ثم منع المنقبات من دخول الجامعة والمستشفى، مرة بحجة الأمن، والمحافظة على الأمن، ومرة بحجة أن المريض يحتاج إلى أن ينظر إلى وجه المرأة الطبيبة، ومرة ثالثة لأن الأستاذ المعلم يريد أن يقرأ أثر التعليم على تغيرات وجهها.
ومن أطرف وأعجب ما قرأت أن أحدهم قال: من الممكن أن يتنكر رجل في صورة امرأة ويلبس النقاب، يقول: ربما كانت المنقبة ولداً، يقول: أو ربما كانت جاسوساً إسرائيلياً جاء يتجول بين ربوعنا مطمئناً تحت نقاب يقال إنه الزي الإسلامي، والإسلام منه براء.
وأقول: أبشر بالكثير إذا تمت قضية الصلح الذي يدار الآن بين العرب وإسرائيل، فأبشر في بلدك وبلدي وبلاد الإسلام كلها، بأمواج كاسحة من الجواسيس الإسرائيليين لن يحتاجوا إلى أن يلبسوا النقاب أبداً، ولن يحتاجوا إلى أن يتستروا، بل سوف يتحركون في وضح النهار، وفي الهواء الطلق، وسوف يستقبلهم بعض بني قومنا في بيوتهم، ويفرحون بمقدمهم، ويجلسون معهم في الفنادق، ويديرون معهم الندوات والحوارات، وسيتكلمون معهم في ندوات عن كيفية القضاء على الأصولية؟ وكيفية محاربة ومقاومة التيارات الإسلامية؟ وكيفية القضاء على النقاب والحجاب والجلباب؟ أبشر بهذا وأكثر منه إذا تم ما يريدون من الصلح مع إسرائيل، والذي يعقدون له المؤتمرات بعد المؤتمرات، فهذا طريف جداً أنه يقول: يمكن أن تكون جاسوساً إسرائيلياً.
وهناك امرأة من الكبيرات -كبيرات السن- كتبت مقالاً عنوانه: أنا حرة، وتقول: ينبغي أن نمنع النقاب وإن كان من باب الحرية الشخصية، لكن نخشى غداً أن يأتي الشباب، ويصبغوا شعورهم بألوان مختلفة من باب الحرية الشخصية، وما أدري هل هي تستطيع أن تمنع هؤلاء الشباب لو فعلوا أم لا؟! فهذا سؤال يحتاج إلى أن يطرح! كما أنها قالت للدكتور الذي هو عميد كلية الطب، قالت له بلهجتها: برافو عليك يا فلان قرارك صائب، ولو كنت أملك من الأمر شيئاً لسيرت معك دورية من الشرطة لتحمل البنات على التزام هذا القرار بالقوة -هذه هي الديمقراطية التي ينادون بها- ثم قالت في الأخير: وتقبل مني هدية قبلة على جبهتك على رغم شهقة المنقبات المستهجنة، هكذا تقول!!(214/21)
المطالبة بالحقوق الانتخابية والتشريعية
النقطة الأولى: المطالبة بحقوق المرأة التشريعية، والانتخابية، حتى إن إحداهن أصبحت مديرة تحرير لإحدى الصحف، فكتب أحدهم معلقاً على ذلك يقول: ليت الرجل الظالم يعطي المرأة ما تستحقه من حقوق، ويتيح لها فرص الإبداع، يعطي المرأة! لماذا تطلب من الرجل أن يعطي المرأة ما تستحقه من حقوق ويمنحها فرصة الإبداع؟! إن المرأة تستطيع أن تحصل على حقوقها، وتصل إلى ما تريده من الإبداع، وفق كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم دون أن تأخذ إذناً منك، أو من غيرك بهذا الأمر.
ومما يؤكد لك أن القضية ليست مجرد الحصول على حقوق تشريعية في الانتخاب أو الترشيح؛ لا، بل الأمر أبعد من ذلك- فقد كتبت إحداهن من لندن مقالاً هو كما يلي: وهو في صوت الكويت، عنوانه: المساواة أساس البناء السليم، واسمع ماذا تقول: من خلال متابعتي لمنبر القراء لفت نظري تناول كثير من الإخوة لقضية المرأة بأسلوب لم يعد ملائماً لعصرنا الذي تتقدم فيه الشعوب أكثر مما نتقدم نحن، ولذلك دفعتني هذه الآراء لكتابة هذا الرأي حول وضعية المرأة في مجتمعنا العربي، حتى نثير حولها النقاش، ونرفع عنها وصاية الرجل، فالمرأة ذلك المخلوق البشري الذي يصر غالبية الرجال على وصفه بالكائن الجميل، الوديع، محاولة منهم دغدغة المشاعر، والغرور الأنثوي عبر إطراء فارغ الفحوى والمعنى، وإقناعاً للنفس بتناسي حقيقة هذا الكائن القوي النشيط، الذي بات يشكل خطراً على ما اكتسبوه قسراً عبر حقب زمنية بعيدة، بالتحكم بمصيره، والوصاية عليه دون إذن، أو انتخاب مسبق من صاحبة الشأن: المرأة.
هذا المخلوق بقدرته على العطاء اللامحدود، وإنكاره للذات، وبقائه في الظل كالجندي المجهول؛ يستحق منا أن نعيد قراءة وفتح ملف قضيته الأزلية بتمعن واهتمام، وهي قضية يمكن اختصارها بكلمة واحدة هي: "المساواة"، ولنثبت فعلاً تطبيق المعنى الحقيقي لشعارات نطلقها هنا وهناك، مثل التحضر، والحرية، والسلام، ومادمنا نقترب من توديع عامنا الحالي، والذي كان غنياً بأحداثه السريعة، فإنني أجدها فرصة لدعوة بنات جنسي بمطالبة هذه المنظمات الإنسانية بطرح قضيتنا العادلة عبر الأروقة، والزوايا المعنية، وعدم الاستهانة بمطلبنا في المساواة، الذي تتحدد عليه ملامح الأسس الرئيسية لمفهوم الحضارة والرقي.
ثم تختم بقولها: إن مطلبنا محدد وجوهري: ارفعوا الوصاية وامنحونا استقلالاً ذاتياً، إذ لم نعد قُصَّراً، بل كبرنا، وكبرت معنا كل المفاهيم للقيم والكفاءة والجدارة لكي نستطيع أن نمد أيدينا دون خوف من نكث للعهود، ونسير معاً جنباً إلى جنب نبني مستقبلاً عادلاً مليئاً بالحب والسلام، مبنياً على الثقة المتبادلة، والمنافسة الشريفة التي تعطي للجميع حقوقاً وفرصاً متساوية، وعندها فقط نستطيع أن نقول: بأننا نعيش في عالم متحضر حقاً.
ثم تقول في ثنايا المقال: إنها ليست تطالب فقط بخلع الحجاب، وما أشبه ذلك، فهذا أمر انتهى، ومثل هذه القشور قد انتهينا من المطالبة بإبعادها، لكنها تريد أمراً أبعد وأكبر من ذلك، وهو أن تكون المرأة والرجل على قدم المساواة في جميع الحقوق وجميع الفرص، إلى هذا الحد! وكتب آخر يعلق على هذا المقال، ونشر، وكنت أظنه يرد عليها أو ينتقدها، وإذا به وهو آخر من بريطانيا، وأنا أستغرب أن معظم المقالات، ومعظم الكتابات تدور حول لندن، فكتب الآخر من لندن يقول: إن المرأة يجب ألا تنتظر الرجل حتى يعطيها حقوقها التي تطالب بها قبل قليل، وإنما يجب أن تنتزع هي هذه الحقوق بالقوة من خلال إصرارها، وصبرها، وعنادها، وإلحاحها، وإننا يجب أن نربي المجتمع رجالاً ونساء على معرفة حقوق المرأة والمحافظة عليها.
وهناك امرأة في الكويت تدير ديوانية مختلطة.
وفي الوقت الذي يطالبون فيه بحقوق المرأة نراهم يحجبون هذه الحقوق عن جزء من أهم أجزاء المجتمع بحجة العلمنة مرة، وبحجة سوء استخدام السلطة مرة أخرى.(214/22)
الموقف الواجب من تلك البذاءات
أيها الإخوة: هذا الكلام الكثير الذي آذيت به مسامعكم هو جزء قليل جداً من أكوام لا تنتهي من القصاصات الصحفية التي وصلت إليّ، ولعل ما وصل إليّ -بجهود من الإخوان جزاهم الله خيراً- لعله قليل من كثير مما يقال ويكتب.
فما هو موقفنا من مثل هذه البذاءات التي لا تنتهي؟ أود أن أرسل مجموعة من الرسائل التي لم يحملها البريد في نهاية هذه الجلسة:(214/23)
رسالة للعلماء والدعاة والخطباء
الرسالة الرابعة: هي لإخواني من العلماء، وطلبة العلم، والمشايخ، والدعاة، والخطباء: بضرورة تناول هذا الموضوع، ومعالجته، والتعبير عن أحاسيس الناس، ومشاعرهم الملتهبة تجاه مثل هذه الأساليب غير اللائقة، وإيصال صوت الرفض إلى كل أذن سواء كانت أذن الأشخاص الرسميين، أو أذن رجال الصحافة هنا، أو رجال الصحافة هناك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري عن أنس: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} فالآن نجد أن إخواننا المسلمين مظلومون، ولابد من نصرهم.
ونصرهم يكون بتناول هذا الموضوع، ومعالجته، وتحريض الناس على أن يساهموا في إيقاف هذا العمل، وإيقاف هذا الظلم الفادح الكبير، وإيقاف هؤلاء الناس عند حدهم.
لابد أن يتناول الخطباء، والمتحدثون، والوعاظ، وطلبة العلم وغيرهم مثل هذا الموضوع؛ توعية للناس، ولابد أن يقولوا، فالكلمة الطيبة تصل إلى كل مكان، ولابد أن تحمل بإذن الله تعالى إلى الأشخاص الذين تعنيهم أياً كانوا، أما أن نسكت ونقول: ليس في أيدينا شيء فهذا لا يجوز بحال.(214/24)
رسالة للشباب المسلم في الكويت
أما الرسالة الخامسة والأخيرة: فهي للشباب المسلم في الكويت، بضرورة الصبر والاحتساب.
ومحاولة الرد ممكنة على مثل هذه الأمور، لكن لا يجوز أبداً أن يكون الرد بالأساليب العنيفة التي قد يستفزهم أمثال هؤلاء إليها، فإن الله تعالى يقول: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] .
فليس من اللائق أبداً أن يكون الرد بأساليب العنف، فإن هؤلاء دائماً وأبداً يحاولون أن يشيروا إلى دعاة الإسلام ورجاله بأنهم لا يتعاملون إلا بالعنف، والشدة، والقوة.
فأنا أقول: إن رجال الإسلام ودعاته في الكويت هم على ثغرة من ثغور الإسلام.
فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلهم، وعليهم أن يتكلموا بكلمة الحق، ويرفعوا صوته من خلال المنبر، والكلمة، والكتاب، والصحيفة، والمقالة، وكل وسيلة ممكنة، لكن ينبغي أن يقتصر الأمر على هذا الحد.
وأسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(214/25)
رسالة إلى المتعاملين مع تلك الصحف
أما الرسالة الثانية: فإنها لأولئك الذين يتعاونون، ويتعاملون مع هذه الصحف بأية طريقة، شركات التوزيع -مثلاً- التي تقوم بتوزيع هذه الصحف، ومحلات البيع من المكتبات والبقالات وغيرها التي تبيعها للقراء والمواطنين، بل حتى المواطن العادي الذي يشتري هذه الجريدة ليقرأها، لأي غرض من الأغراض، أطالب الجميع بضرورة الكف عن التعاون مع هذه الصحف لا توزيعاً، ولا عرضاً، ولا شراءً، ولا غير ذلك وحتى تكف هذه الصحف، وتغير مسلكها، وتحترم مشاعر الناس، فإذا فعلت عاد الأمر إلى نصابه.
أما أن نشتري بأموالنا مثل هذا الكلام البذيء والقذر الذي ذكرت لكم، نشتري كلاماً يعتبر نقضاً لأساسيات الدين وأصوله، كلاماً يشكك في قضية حاكمية الإسلام، وكلاماً آخر يشكك في حكم الإسلام في موقع المرأة في المجتمع، وكلاماً ثالثاً يتناول العلماء، وكلاماً رابعاً يتناول الدعاة ونشتري هذا، فإن هذا لا يجوز بحال من الأحوال! وإنني أقول لو أن كل متدين أو مؤمن أو صالح توقف عن شراء هذه الجرائد لعرفت هذه الجرائد ما هو الكلام الذي يجب أن تقوله.
ولكننا نشتريها -مع الأسف الشديد- فنساعدها من حيث لا نشعر في مثل هذا الكلام الذي تقول، وإنني أنادي وأطالب كل مسلم يسمع هذا الكلام، أن يكون عنصر خيرٍ وبناء، وأن يكون إيجابياً، وأقل درجات الإيجابية التي نطلبها منك أن تكف عن شراء هذه الصحف، ثم نطالبك بأكثر من ذلك، أن تتكلم في المجالس والمنتديات، ومع من تعرف ومع أصحاب البقالات ومع القريب والبعيد عن مثل هذا الكلام، وتطالبهم بأن يتخذوا موقفاً مشابهاً.
ثم نطالبك بأكثر من ذلك أن تتصل بهذه الصحف، وبمن يتعاونون معها، وتطالبهم بالكف عن مثل هذا الأسلوب، وأن يراعوا الله -تعالى- في الأمانة التي ائتمنوا عليها، فإنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
إذا لم تقف هذا الموقف الذي هو أضعف الإيمان الآن، فغداً سوف تبدأ هذه الصحف تتناولك أنت، وسيتطور الأمر أكثر من ذلك فإن الليل يبين من أوله.(214/26)
رسالة للقائمين على وزارة الإعلام
الرسالة الثالثة: هي للقائمين على وزارة الإعلام في هذا البلد، وهم الذين يرخصون ويأذنون بدخول هذه الصحف، وهم الذين يشرفون عليها ويأذنون بطباعتها، وإنني أعلم أنهم قد غضبوا يوماً من الأيام؛ لأن صحيفة مصرية تكلمت عن أحد الخرافيين في هذا البلد، وانتقدت كتاباً كتبه، فغضبوا غضباً شديداً، وأنزلوا عقوبة أو كادوا بمن رخص لهذه الصحيفة، مع أن الكاتب في تلك الصحيفة المصرية ما قال إلا حقاً، فيا سبحان الله!! كيف يكون هذا الغضب بهذه الطريقة ولا يكون الغضب لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أمام صحف تقول مثل هذا الكلام الذي ذكرته قبل قليل؟!! فإننا ننادي، ونطالب القائمين على وزارة الإعلام، وعلى أجهزة الرقابة فيها بمنع بيع ذلك الكلام الفاسد في بلاد الحرمين الشريفين، والحفاظ على مشاعر المواطنين، ولو أن هذه الصحف أوقفت حتى تغير من أسلوبها، وطريقتها لكان الأمر مختلفاً.
وأقول: ينبغي أن يكون هذا المطلب على كل لسان، وأن نتصل جميعاً بالمسئولين في هذه الوزارة ونلقي على مسامعهم هذا الطلب العادل المنصف.(214/27)
رسالة إلى القائمين على تلك الصحف
أما الرسالة الأولى: فإني أبعث بها إلى القائمين على تلك الصحافة أولاً، فأقول لهم: اتقوا الله واعدلوا.
إنكم تتكلمون عن السلوك الحضاري، والسلوك الحضاري ليس شعاراً يرفع إنما هو ممارسة، وليس من السلوك الحضاري استغلال الإمكانيات للإساءة إلى الآخرين، أو إثارة الأحقاد الشخصية، أو تبادل السباب والشتائم.
إن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أننا لا نزال نعيش في عصر العنتريات اللفظية التي لا طائل من ورائها.
إن البعيدين من الناس لم يسمعوا إلا صوتكم فوجدوه صوتاً مرتفعاً خشناً، صوتاً يحمل الألفاظ البذيئة، وكلمات السباب، والشتم، والعار، والسخرية، ولكنهم لم يسمعوا من الطرف الآخر شيئاً يدل على أنه كان يجب أن تقولوا ما قلتم، فاتقوا الله تعالى فيما تقولون وفيما تكتبون.
إننا نذكركم الله تعالى، نذكركم الإسلام الذي ينتسب إليه معظمكم، كما تدل على ذلك أسماؤكم، أن تحافظوا عليه، وأن تتقوا الله تعالى في بني دينكم في مثل هذه الكلمات والعبارات النابية التي أحلف بالله أنها لم تطلق من قبلكم على أحد قط، حتى على أشد الناس عداوة لكم الآن، وحتى على جيرانكم الذين اجتاحوكم يوماً من الأيام.
كما أننا نطالبكم بإتاحة الفرصة للآراء الأخرى المخالفة لكم، الذين يحملون صوت الإسلام ويبلغونه للناس، أن تتيحوا لهم الرأي ليتكلموا عما في نفوسهم، وأن تعطوهم فرصة ليردوا عليكم، ويفندوا مثل هذه الأقوال والادعاءات الباطلة فهذا مقتضى الحرية والديمقراطية التي تتكلمون عنها وتطالبون بها.
كما أننا نطالبكم حينما تنتقدون المجتمع بكل طبقاته، أو تنتقدون أجهزة الدولة أن تحرصوا على النقد البناء الذي يراعي الأمانة، والعدل، وألا يكون همكم مجرد شتم أو سب أو تجريح، فإن هذا لا يمكن أن يزيل مرضاً، أو يعالج خطأً، وإنما سوف يزيد الهوة بين أفراد المجتمع.
نحن نطالب بالنقد البناء، حتى لأنفسنا، وللمؤسسات الإسلامية، ولطلبة العلم، وللكتب الإسلامية، ويوم كنتم قبل سنوات تتكلمون عن الجماعات الإسلامية لم يقل عنكم أحد شيئاً، رغم أن كلامكم كان فيه شدة، وقسوة، وعنف، وبعد عن الموضوعية، أما أن يصل الأمر إلى هذا المستوى الذي وصل إليه الآن فإنه لا يمكن السكوت على هذا بحال من الأحوال.
نحن نوافق على نقد بناء، نقد هادف، نقد موضوعي يستهدف الإصلاح، أما الاستفزاز، والإثارة، والسخرية فهذا لا يمكن أن يقبله عاقل، ولا منصف، ولا راعٍ للأمانة مهما يكن.
أما الفئة الثانية من الصحفيين: فهم الصحفيون في هذا البلد، فإني أطالبهم بأن يقفوا من مثل هذه الحملة موقفاً هو الذي يقتضيه الإسلام، وتقتضيه أخوة الدين، فإنه لا يجوز أبداً أن يتعاونوا مع أولئك في مثل هذا الموقف، وإنني أعلم أن بعض هذه الصحف تطبع في هذه البلاد، ومؤسسة عكاظ -مثلاً- هي التي تطبع جريدة السياسة الكويتية على حسب علمي، وهذا لا يجوز أبداً؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، فعليهم أن يكفوا عما هم عليه، وإلا فليتبرءوا من طباعة مثل هذه الجريدة في مثل هذا المكان.
كما إننا نطالب الصحفيين بأن لا يقفوا هكذا فقط، بل ينبغي أن يردوا على مثل هذه الحملات الظالمة الآثمة، وألا يكونوا ظهيراً للمجرمين: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] وقد رأينا ولاحظنا في بعض صحفنا أنها بدأت تمارس هذا الدور نفسه، ولكن بطريقة مهذبة، فإن الهجوم مثلاً على جهاز هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح ظاهراً في عديد من صحفنا.(214/28)
الأسئلة(214/29)
طرق الرد على أولئك الكتاب المنحرفين
السؤال
هل يرد على هؤلاء الكتاب من جهة أو بماذا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
آمين وأنت أيضاً فجزاك الله خيراً، أما الرد عليهم فينبغي أن يرد عليهم بكل أسلوب ممكن.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.(214/30)
الحرية المطلوبة
السؤال
أشرتم في المجلس السابق إلى الحرية المتاحة في الغرب الكافر، وكما تعلمون أن الحرية على إطلاقها سلاح ذو حدين، فكما تتاح لك الحرية في الدعوة إلى الله، تتاح لغيرك بالدعوة إلى الإلحاد والفجور، وكما تتاح حرية العبادة للمسلم، تتاح لغيره بارتكاب المعاصي، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
في الواقع نحن لا نطالب بالحرية المتاحة في بلاد الغرب أبداً، كيف نطالب بذلك وعندنا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! نحن لا نطالب إلا بما في القرآن والسنة، نطالب بأن يحكم فينا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] .
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} ويقول عليه الصلاة والسلام: {أفضل الجهاد كلمة عدل تقال عند سلطان جائر} إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، ولما قام الرجل وأنكر قال له أبو سعيد الخدري: [[أما هذا فقد قضى ما عليه]] .
أما ما يوجد في بلاد الغرب من الإباحية فهذا ليس حرية، وإنما هو بهيمية، ونحن تكلمنا في المجلس السابق أو الذي قبله عن جانب موجود عندهم فعلاً، وهو أن أفرادهم يعطون الشخص شيئاً من الاعتبار، وهذا أمر موجود، وإذا أثنيت على ما هو موجود عندهم فلا يعني أننا نطالب به، أو بمثله، أو نعتبر أن هذا هو الوضع المثالي.
ولكنني أقول وبكل صراحة: هذا الوضع الذي عندهم على فساده خيرٌ من الأوضاع الموجودة في بلاد الإسلام، لسبب: وهو أنهم قد يتيحون الحرية للمسلم وغيره، أما في بلاد الإسلام فالحرية متاحة لأهل الفساد كما ذكرت، ومتاحة لأهل الإلحاد، وكثيرٌ منهم ينشرون سمومهم، ولعلك اطلعت الآن على شيء يسير منها، وعندي من الكتب، والمجلات، والجرائد، والقصص، ودواوين الشعر، والله إلحاد يطبع في بلاد الإسلام، وبعضه كفر، وإباحة، وبعضه شذوذ جنسي، من السحاق، واللواط، وغيره، يتمدح بكل هذه الأمور ويطبع ويباع في بلاد الإسلام.
دعك من هذا، تجد ألوان الأفلام السيئة تباع في كل مكان ومرخصة، ولا تباع في السوق السوداء، بل تباع في السوق البيضاء علانية.
بل إنك تجد صوراً في الأجهزة الرسمية الإعلامية يندى لها الجبين، فالآن الحرية متاحة في كل بلاد الإسلام لألوان من الانحراف والمخالفة، لكنها غير متاحة لمن يقاوم هذا الأمر، أو ينكره، أو يقوم بتوجيه الناس ضده، أو دعوة الناس إلى محاربته.(214/31)
حقيقة الدعوة
السؤال
ما رأيكم أن تقصر المحاضرة على توجيه المسلمين إلى الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق، والمبادرة إلى أداء الفرائض، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون تلميح أو تصريح بحق المسئولين؛ لأن ذلك قد يشوه ويجسد ويثير الفتن، وبالتالي يُوقَفُ المصلحون ويفقد الناس الإصلاح لا سمح الله؟
الجواب
يا أخي هذا عجيب! نحن ندعو إلى الإسلام، والإسلام ليس مقصوراً على ما ذكرت من توجيه المسلمين إلى الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ذكرت، يتطلب الأمر بالمعروف ولو كان مغفولاً عنه، وذكر النهي عن المنكر ولو كان مفعولاً -مثلاً- فمن هو الذي يعتبر أن الكلام عن الربا أنه من إثارة الفتن؟ أو أنه فيه تعريضاً أو تصريحاً؟ أبداً، لا يجوز السكوت على مثل هذه المنكرات المعلنة، بل يجب أن يتكلم عنها، وما أدري ما هي هذه الحساسية عند بعض الناس وبعض الإخوان هداهم الله.
فكلما حصل شيء قالوا: تثور الفتن، وكأن الأمة جاهزة ما بقي عليها إلا أن يتكلم فلان حتى تثور فتنة تأتي على الأخضر واليابس، ولا تبقي ولا تذر، لماذا هذه الحساسية؟ نحن نجد أن بلاد الدنيا كلها من شرقها إلى غربها يتكلم فيها أناس بما يشاءون، وبما يريدون، من قريب أو من بعيد، وما ثارت فتن، وما رأوا إلا كل خير.
ولعلي أذكر لك مثالاً واحداً يا أخي، ففي بلاد كثيرة بل كل بلاد الدنيا، قد يقوم شخص كبير ربما يكون أكبر مسئول يتكلم، ويخطب في ألوف، أو عشرات الألوف، فيتكلم عليه بصوت مرتفع واحد من الجماهير، فيسكت المسئول وينتظر هذا الإنسان، ويأتي هذا الإنسان يتخطى الصفوف حتى يصل فإذا وصل وجدوا أنه شخص معتوه!! فأبعدوه ثم واصل ذاك الإنسان حديثه وخطبته.
فمثل هذه الأنماط وهذه النماذج، لماذا في بلاد العالم كله تكون أموراً جارية وقائمة ولم تحدث فتناً؟ بل بالعكس هم أكثر استقراراً، وأكثر أماناً، وأكثر رفاهية من غيرهم، في حين أنه في بلاد الإسلام دائماً وأبداً نقال: لا تقل شيئاً حتى لا تثور فتنة.
لا بد أن نحدد ما هي الفتنة؟ وما معنى الفتنة؟ ومتى تثور الفتنة؟ وإلى متى نظل نعاني من هذه العقد النفسية؟ وهذه المخاوف الوهمية؟ فإن شئت أن تنظر في الواقع فهذا الواقع ذكرناه لك، ويعرفه الجميع، بل في العالم كله صحف، وإذاعات، ومحطات تلفزة، ومؤسسات، بل وأحزاب قائمة همها معارضة الجهات الحاكمة في كل بلاد الدنيا، ولم تحصل فتن.
هذا هو الواقع، وإذا أردت أن تنظر إلى التأريخ فقد حدثناك قبل أيام، أو أسابيع عن تأريخ المسلمين، وأن الخليفة الأعظم يقف على المنبر ويقول: اسمعوا وأطيعوا، فيقوم فرد من الرعية ويقول: لا سمع ولا طاعة.
ويناقشه في الأمور على مرأى ومسمع من الناس، وكانوا أكثر تديناً، وصلاحاً، واستقامة، ووعياً، وعقلاً منا.
فلماذا نظل نحن دائماً وأبداً نخاف من كل شيء؟! إن أمر إنسان بمعروف، أو نهى عن منكر، أو وجّه، أو أصلح، أو انتقد، قيل: تثور فتنة! فما رأينا إلا الخير، ولا يحصل إن شاء الله إلا الخير، والفتن إنما تثور إذا سكت الناس، وبدأت تغلي في قلوبهم مشاعر الكراهية، والبغضاء، والحقد، ثم لا يُتَنَفَّس عنها، هذا هو الذي يثير الفتنة، ويجعل الناس جاهزين لكل طالب فتنة، أو صاحب فتنة أن يسيروا وراءه حتى ولو كان على باطل.
أما إذا تُحدِّث مع الناس بقال الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُمروا بالمعروف، ونُهوا عن المنكر، حتى لو كان هذا المعروف متروكاً، أو كان هذا المنكر مفعولاً ولو على مستوى رسمي فإن هذا لا يحدث الفتن إنما هذا هو الخير.
وبشكل عام أنصحك يا أخي، وأنصح من يذهبون مذهبك، ويرون رأيك: ألا يحكموا آراءهم في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم أن يقرءوا في القرآن وفي السنة وينظروا بماذا أمر الله؟ وبماذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فإذا وجدوا أن في القرآن والسنة، أو في سيرة القرون المفضلة ما يشهد لهم، ويدل على أنه يجب أن يسكت الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والداعون إلى الإصلاح ولو علانية، إذا وجدوا هذا فحبذا.
أما إذا وجدوا أن هذه مجرد آراءً فردية، ومجرد عقد ومخاوف نفسية ناتجة من أناس ربما ليس لهم اطلاع على التاريخ ولا معرفة بالواقع، فحينئذٍ ليعذرونا إذا لم نستجب لهم أو نلتفت إلى أقوالهم.(214/32)
أسماء الصحف الكويتية المنحرفة
السؤال
ذكرتم جريدة صوت الكويت، ولم تتطرقوا للسياسة، بل اكتفيتم بجريدة سيارة ولم تذكروا أسماء هؤلاء للتحذير منهم، والدعوة للمحلات بمقاطعتها؟
الجواب
أما الصحف فقد أصبحت واضحة، فإن أكثر الصحف التي تكلمت هي: صوت الكويت، وكذلك صحيفة السياسة تكلمت كثيراً، وربما كان معظم النقل الذي نقلت عن هاتين الصحيفتين، وفي اعتقادي أنني تكلمت عنهما ربما أكون وهمت في ذلك، أو غفلت عنه.(214/33)
التعليق على مقالة الكاتبة من بريطانيا
السؤال
عرضت مقالة المرأة التي أرسلتها من بريطانيا، وكانت بأسلوب فيه شيء من الإقناع، ولم ترد عليها، ألا ترى أن في ذلك بلبلة، خاصة إذا سمعتها امرأة؟
الجواب
ليس هناك وقت لأن أرد على مثل تلك الأقوال، ولكن خلاصة الكلام أن هذه المرأة التي كاتبت من بريطانيا، تقول: نطالب بالمساواة، ونطالب برفع قوامة الرجل على المرأة، فهل المسلم بحاجة إلى من يقنعه بالقوامة بعد قول الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] .
كما إنني أقول: إن المرأة السوية غير المنحرفة، هي تحب أن تكون في ظل رجل، وقد كتب ذلك في صحف، أن المرأة تريده قوياً، أي: المرأة تريد أن يكون زوجها قوياً، ومعروف أن المرأة إذا كان زوجها ضعيفاً ويطيعها في كل شيء فإنها تحتقره وتزدريه، وكل ما شعرت المرأة بقوة الرجل، ليس بقسوته أو شدته ولكن قوته كلما شعرت بأنها ترتاح إليه أكثر.
فهذا أولاً دين: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] .
وثانياً: هو فطرة كامنة في المرأة، وهذه المرأة التي كتبت أنا لا أعتقد إلا أنها امرأة تعيش ردة فعل معينة، أو ضغوطاً نفسية، أو مشاكل معينة دعتها إلى مثل ذلك.(214/34)
سلاح الدعاء
السؤال
في هذا الزمن ومع كثرة الفتن نحن نملك سلاحاً فتاكاً هلا أشرتم إليه وحثثتم عليه ألا وهو سهام الليل؟
الجواب
نعم، سهام الليل لا تخطئ، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجل وللأجل انقضاء فنحن ندعو أيضاً إلى استخدام هذا الدعاء بكل مناسبة، والمؤمن ينبغي ألا يغفل عن ذلك أبداً، فيدعو الله تعالى بأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويذل أعداءه ومحاربي دينه، وكلما صدق المسلم مع ربه في ذلك كان ذلك أدعى للإجابة.(214/35)
المجلة الإسلامية المقترحة
السؤال
نريد مجلة إسلامية تتكلم بلسان شباب الصحوة الإسلامية؟
الجواب
هذا مطلب عزيز، وقد كان من المطالب التي أتمناها وأن يكون هناك مجلة أو نشرة صغيرة تتكلم عن أحوال المسلمين في كل مكان، بشكل واضح، ومنصف، وعقلاني بعيد عن العاطفة والانفعال، تتكلم بصوت هادئ، بصوت نزيه، بصوت ناقد لا مانع ولكن بنقد بناء لا نقداً هداماً.
كما كنت أتمنى أن توجد نشرة ولو صغيرة تتكلم عن النشاطات الإسلامية في العالم الإسلامي.
إننا نجد إشادة كبيرة في بعض الصحف بعمل بسيط قد يحضره عشرة أو عشرات من الناس، لكننا نجد تعتيماً إعلامياً على نشاطات قد يحضرها ألوف من الدروس العلمية، والمحاضرات، والنشاطات الإسلامية، والدورات وغيرها، وجهود تحفيظ القرآن الكريم، وجهود جامعات إسلامية نجد تعتيماً كبيراً على ذلك.
كما أننا نحتاج إلى نشرة ولو صغيرة تتكلم عن الشريط الإسلامي، فمرة كتبت لي إحدى الأخوات تقول: أنا كنت فتاة منحرفة، ثم تاب الله تعالى علي، وبعدما اهتديت أصبحت أنظر إلى كل عمل قمت به في الماضي فأقوم الآن بعمل يشابهه في سبيل الله، ففي الماضي -مثلاً- كنت أتابع مجلات الفيديو، والتلفاز، وآخر الأفلام، فبعدما هداني الله عز وجل فكرت -على الأقل- أن أقترح عليكم يا معشر العلماء، وطلبة العلم، والدعاة، أن تقوموا بإنشاء مجلة أو نشرة تتابع أخبار الشريط الإسلامي، فهذا الشريط جديد تقوم بعرضه، هذا شريط قديم تقوم بنبشه، ولفت نظر الناس إليه، والقيام بتلخيص لبعض الأشرطة، وغير ذلك من تصنيف، وفهرسة، وكذا الحديث عن نشاطات معينة، من نقد، ملاحظات، اقتراح موضوعات للحديث عنها في الشريط الإسلامي، إلى غير ذلك من الزوايا، والمجالات، والأمور التي يمكن أن يتبناها بعض الناس أو بعض المؤسسات ونرجو أن نراها إن شاء الله عاجلاً غير آجل.(214/36)
حرية التعبير
السؤال
قد يحتج محتج بأن المكتوب في هذه الصحف هو صوت آخر منطلق من حرية التعبير، فأين الصوت الإسلامي ليدافع؟
الجواب
في الواقع ليست حرية التعبير هي حرية الشتم أبداً، وهذه ليست حرية في التعبير، حرية التعبير أن الإنسان يعبر عن رأي في أمر يقبل اختلاف وجهات النظر فيه، وهذا ممكن، أما أن يستغل الإنسان موقعه كصحفي، أو كاتب زاوية، في النيل من أناس يبغضهم، أو يعاديهم، أو يحقد عليهم، ثم يتكلم عن صفاتهم، عن شكلهم، يشتمهم ويسبهم، فهذا في الواقع أن حرية التعبير في واد وهذا في وادٍ آخر.(214/37)
عموم الانحراف الصحفي عربياً وإسلامياً
السؤال
هل هذا الانقلاب في المفاهيم خاص بالصحف الكويتية، أم أن لصحفنا نصيب من هذا الزيف؟
الجواب
هذا ليس خاصاً بالصحف، وإنما هو عام في المجتمعات العربية والإسلامية التي يراد لها أن تتقبل التعايش مع الكفار، وقد أشرت إلى جانب من هذا، وجزء منه محاولة تطبيع العلاقة مع الكافر: مع النصراني، واليهودي، والمرتد، والملحد، ومحاولة التعايش مع هذا الإنسان، وأنه أمر عادي وأن ينسى المسلم أن هؤلاء كفار يجب حربهم، وبغضهم، والعمل على الخلاص منهم بكل وسيلة.(214/38)
واجب الأفراد
السؤال
هؤلاء الذين يتصدون للدين وأهله في الصحافة، لماذا لا تقوم -جزاك الله خيراً- وجميع الدعاة وأهل الخير بالتصدي لهم في المجلات الإسلامية الصادعة بالحق، مثل: المجتمع، والإصلاح، والبلاغ، ولواء الإسلام؟ وما هو المطلوب منا نحن الأشخاص العاديين والموظفين الصغار؟
الجواب
المهمة يا أخي مهمة الجميع، وصحيح أن الدعاة والخطباء قد يكون لهم دور من خلال المنابر والدروس، وأرجو أن يؤدوه، ولكن أيضاً ينبغي أن يكون كل إنسان منا له دور، فإن الخطيب يمكن أن يوجه الدور لك أنت يا من تسمي نفسك بالشخص العادي والموظف الصغير، أنك تحاول أن توعي من حولك في إدارتك الحكومية، أو في بيتك، أو في حيِّك، بضرورة اتخاذ موقف من هذه الصحف حتى تعدل مسيرتها، وتصحح اتجاهها.
فإذا قمت أنت بهذا الدور نجح الخطيب في أداء دوره، ولكن إذا نادى الخطيب، وصار ينادي أمواتاً فلا جدوى: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ وأرجو أن لا نكون محتاجين إلى أن نردد هذين البيتين يوماً من الأيام.(214/39)
زيادة نبرة الانحراف الصحفي بعد التحرير
السؤال
هل هذه النبرة في صحفهم من قديم، أم أنها ظهرت الآن بمخالطة الكفار المتمركزين في البلاد؟
الجواب
في الواقع أن هذه النبرة أو هذه الأمور قد تكون منذ القديم لكن ليس بهذه الصيغة، وليست بهذه الصورة، فيبدو أنه بعد التحرير حصل هناك تغير في المفاهيم، وتغير في النفسيات، وتغير في العقليات، وأحس بأن هناك إلحاحاً من بعض الرموز الصحفية بمحاولة جعل الكويت صورة من العالم الغربي، وباختصار هذا الشعور موجود في عقليات ونفسيات عدد غير قليل فيما يبدو من رموز الصحافة عندهم.(214/40)
الكتابة في المجلات الإسلامية
السؤال
أجد في نفسي القدرة على الكتابة في الصحافة، وأتمنى أن أكتب في بعض الصحف، كالبيان، والمجتمع ما رأيكم أولاً في هاتين المجلتين؟ ثم هل يشترط للكتابة فيهما أن يكون ضمن التحرير؟ أو ما الطريق إلى ذلك؟
الجواب
الكتابة في هاتين المجلتين أو في غيرهما لمن يجد القدرة على ذلك في دعوة إلى الله، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، هو أمر جيد ولا يشترط أن يكون من التحرير، فهم يستقبلون أي رسالة من قارئ، وحتى بعض هذه الصحف قد تنشر كتابات معارضة، أو كتابات من بعض الشباب الطيبين، وقد رأيت بعض الكتابات فيها، وإن كانت كتابات قليلة وقصيرة، لكن يوجد هذا.(214/41)
الاتصال بالمسئولين عن تلك الصحف
السؤال
لو تكلمت وأعدت على نقطة وهي: أن يكثر المواطنون من الإرسال والاتصال على المعنيين والمسئولين؟
الجواب
لقد تكلمت عن ذلك، وإنني أحاول أن أقول أيها الإخوة: إنه يجب علينا جميعاً أن نبذل ما نستطيع في نشر هذا الكلام في كل مجالسنا، وفي أحاديثنا لفترة معينة، وينبغي أن نعلم فعلاً أن هذا الأمر يمكن أن يغير من أمور كثيرة، وأعطيكم مثالاً على ذلك: إحدى الصحف تكلمت في يوم من الأيام عن أحد الدعاة، وطلبة العلم وشهرت به بأسلوب معين، ودون أي جهد يقول لي أحد الذين يقمون على التوزيع: لقد انخفض توزيع هذه الجريدة بنسبة أكثر من ثلاثين في المائة، ثم علق على ذلك بقوله: إن الناس اليوم متدينون، ويبحثون عن الأشياء الطيبة والأشياء الدينية.
فأقول: إذا كان هذا لمجرد تناول شخص داعية، فما بالك لو أننا جميعاً قمنا بحملة مكثفة نوصل من خلالها رسالة إلى هؤلاء القوم، وإلى غيرهم: أن الذين يقرءون لكم كثير منهم لا يرتضون ما تقولون، ولا يريدون أن يسمعوا منكم مثل هذا الكلام، فإما أن تعدلوا، وإما أن تهجروا وتقاطعوا.
وأضعف الإيمان أن تقاطعوا هذه الصحف، ولكن أمامكم أكثر من هذا، أن تطالبوا الناس بمقاطعتها: أقاربكم، جيرانكم، أهل الحي، أهل البقالة الموجودة في الحي، ولا يكفي هذا، بل لا بد من مخاطبة الصحف إما بالهاتف أو بالرسائل، ولا يكفي هذا لا بد من مخاطبة المسئولين هنا وهناك، بضرورة إيقاف هذه الصحف.
كما إني أدعوكم إلى الاتصال الهاتفي بالجهات المساعدة، كشركات التوزيع، وشركات الطباعة وغيرها، وتخويفهم بالله، والضغط عليهم بإيقاف مثل هذا السيل الكاسح الجارف، من الهجوم على شعائر الإسلام، وعلى رجال الإسلام ودعاته.
فلا يجوز أبداً أن يقال اليوم: إن الإسلام لا بواكي له.
لا يجوز أن يقال هذا أبداً، إنني أقول لكم بصراحة أيها الإخوة: رأيت صحفنا السعودية غضبت في يوم من الأيام على الصحف الكويتية، لماذا غضبت؟ غضبت لأنها تقول: إن الصحف الكويتية أصبحت تشيد كثيراً بالدور الغربي، ولا تتحدث كثيراً ولا قليلاً عن الدور السعودي في تحرير الكويت، وقد غضبوا لهذا الأمر، وكتبوا حتى وجدت أن الصحف الكويتية قد عدلت سيرتها، وصححت، وبدأت تكتب، وتثني وتشيد بما يسمى بالدور السعودي.
فما بالنا لا نغضب أيضاً وقد انتهكت حرمات الله، وما بالنا لا نغضب وقد اعتدي على الدين، وما بالنا لا نغضب وقد أوذي الدعاة إلى الله عز وجل.(214/42)
حديث حول منهج السلف
تطرق الشيخ لمنهج السلف الصالح رضوان الله عليهم في الدعوة، وفي العلم وفي الجهاد، وفي أمور السياسة.
كما أنه يمثل دعوة صريحة لكل العاملين في حقل الدعوة إلى الله، تدعوهم إلى الوحدة، وتضافر الجهود وتصفية المنهج.(215/1)
مقدمات عن الموضوع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه المحاضرة هي بعنوان "حديث حول منهج السلف".
وهي تنعقد في هذا المسجد، مسجد التنعيم بمكة المباركة، في هذه الليلة -ليلة الثلاثاء- الموافق العاشر من شهر شعبان، من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، فيا أيها الإخوة الحضور من أهل مكة البلد الحرام، وقاطنيها وساكنيها، ويا أيها الحضور الطارئون على مكة، القادمون إليها، السلام عليكم جميعاً ورحمته تعالى وبركاته: أحبائي يا مهوى الفؤاد تحيةً تجوز إليكم كل سدٍ وعائقِ لقد هدني شوق إليكم مبرحٌ وقرح جفني دافقٌ بعد دافقِ وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداءٍ سعوا بالبوائقِ فمنهم عدو كاشرٌ عن عدائه ومنهم عدوٌ في ثياب الأصادقِ ومنهم قريب أعظم الخطب قربه له فيكم فعل العدو المفارقِ أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً ولم تطلبوا إلا حقير الدوانقِ فسدَّدَ في درب الجهاد خطاكُمُ وجنبكم فيه خفي المزالقِ أيها الإخوة الأحبة! حديثي إليكم في هذه الليلة ينتظم في سبعة عناوين: الأول: مقدمات، هذا الحديث ليس محاضرة علمية عميقة دقيقة حول هذا الموضوع الكبير الخطير، موضوع منهج السلف، أو موضوع المنهج، فقد كان أصل عنوان هذه المحاضرة حديث في المنهج، ثم رأى الإخوة الفضلاء المشايخ القائمون على هذه المحاضرة تعديل العنوان كما أعلن، وحسناً فعلوا، فقد أصابوا ما في النفس وما في القلب، فإن المقصود بالمنهج هو المنهج الشرعي، الذي كان عليه السلف، سلف هذه الأمة وأئمتها رضي الله عنهم أجمعين.
فهذا الحديث ليس حديثاً علمياً عميقاً، ولكنه حديث من طرف الذهن، وفي موضوعات نتذاكر فيها ونتباحث، فهو كما يقال: تفكير بصوت مسموع، فما كان منه من صواب فمن الله تعالى وحده، وهو المستحق للحمد، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله منه بريئان وإني أسألكم ما وجدتم من حق فاقبلوه قبولاً حسناً، فأنتم حريون بذلك، وهو به حري، وما وجدتم من خطأ فردوه على قائله كائناً من كان، فإن العبرة بالحق لا بمن قاله.(215/2)
ضرورة الحديث عن المنهج
ثانياً: الحديث عن المنهج أصبح اليوم ضرورة، لأسباب عديدة منها:(215/3)
اطراد مسيرة الإنسان وانتظامها
أولاً: إن مسألة المنهج مسألة مهمة في اطراد مسيرة الإنسان، سواء أكانت مسيرته العلمية أم العملية، وسواء أكان الإنسان فرداً أم جماعة، بحيث تنتظم مسيرته وَتطَّرِدُ ولا تتذبذب، فأنت تجد بعض الناس له في كل يوم مشية، وله في كل واد منهج وطريق، فهو يهدم اليوم ما بنى بالأمس، ويهدم غداً ما بناه اليوم، لماذا؟! لأنه ليس له منهج واضح ينطلق منه في علمه، فهو يبدأ اليوم بحفظ القرآن، فإذا حفظ من القرآن شيئاً، قال: وجدت الناس قد ذهبوا بعلم الحديث، فترك حفظ القرآن وأقبل على حفظ الحديث، فإذا أخذ منه شيئاً قال: المهم علم الفقه والحلال والحرام، فترك علم الحديث وذهب إلى الفقه، وهكذا يقضي عمره كله يتذوق العلوم، ويتذوق الفنون، ويتذوق المناهج، ويتذوق الطرائق، ولا يخرج منها بطائل.(215/4)
انضباط الصحوة الإسلامية بمنهج شرعي واضح
إذاً المنهج ضروري أولاً: في اطِّراد مسيرة الإنسان، وانتظامها وانضباطها، وعدم تذبذبها؟ والمنهج مهم ثانياً: لأننا اليوم نعيش صحوة إسلامية شاملة، في كل مجالات الحياة، وفي كل بقاع الأرض، صحوة يعيشها الرجال وتعيشها النساء، صحوة يعيشها الكبار ويعيشها الصغار، صحوة تعيشها بلاد الإسلام كلها، ومالم تكن هذه الصحوة منضبطة بمنهج شرعي واضح، فإنها قد تضيع كما يضيع ماء الأمطار إذا تدفق في الوديان، ثم انطلق إلى الصحاري، فلم ينتفع منه أحد، بل قد تضيع كما تضيع مياه الأمطار، إذا انطلقت إلى المزارع والحقول والمباني، فهدمتها وأغرقتها، وأتت على الأخضر واليابس فيها.
إذاً إن هذه الصحوة الإسلامية تحتاج أن تكون صحوةً بناءةً راشدةً، قويةً مثمرةً ناضجةً، تأتي بالري، وتأتي بالخير، تحتاج إلى منهج يضبطها، ويقوم مسيرتها، ويوجه صفها، ويقود خطاها.(215/5)
تجلية كلمة المنهج
ثالثاً:- ونحن نحتاج إلى المنهج لأننا بحاجة إلى تجلية هذا المعنى، وبيان هذه الكلمة، كلمة المنهج، التي كثر استعمالها الآن دون وضوح في الدلالة، فإنني أكاد لا أعرف كلمة أكثر تردداً على ألسنتنا اليوم من كلمة المنهج، ولكن حينما تسأل أي متحدث، ما هو المنهج؟ وماذا تقصد بالمنهج؟ وماذا تريد به؟ فربما قلَّب عينيه وحملق فيك! وشعر بأنه -فعلاً- بحاجة إلى أن يجلي هذه الكلمة، ويوضح معناها.(215/6)
تأصيل شرعي لكلمة المنهج
العنوان الثاني: هو حديث عن هذه الكلمة في أصلها الشرعي: جاءت هذه الكلمة في القرآن الكريم في قوله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] وجاءت -أيضاً- في أحاديث من أشهرها الحديث الصحيح: {تكون فيكم النبوة ما شاء الله تعالى أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله تعالى أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكاً جبرياً، ثم يكون ملكاً عاضاً، ثم يكون فيكم خلافة على منهاج النبوة.
ثم سكت صلى الله عليه وآله وسلم} .
إذاً المنهاج أو المنهج يُعنى بها الطريقة التي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حكم الأمة، فإنه عليه الصلاة والسلام، وإن كان نبياً مرسلاً مؤيداً بالوحي من السماء، إلا أنه كان حاكماً في أمته، يقيم الحدود، ويجبي الزكاة ويوزعها، ويبعث العمال إلى الأمصار، ويأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويعقد العقود، ويقيم الحروب ويبرم معاهدات السلام، كما هو معروف في تفاصيل سيرته عليه الصلاة والسلام.(215/7)
معنى تكون خلافة على منهاج النبوة
فإذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: {تكون خلافة على منهاج النبوة} فالمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام، زكى الخلفاء الراشدين من أصحابه، أنهم يحكمون بهديه وسيرته بالعدل والإنصاف، والحكم بما أنزل الله، وعدم التغيير أو التبديل، وهكذا زكى النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة الراشدة التي تأتي في آخر الزمان على منهاج النبوة، وقد ذهب بعضهم على أن المقصود خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، والأقرب والله تعالى أعلم أن الخلافة على منهاج النبوة، قد تكون هي خلافة في آخر الزمان، على يد المهدي الموعود، الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بظهوره، فإنه سكت بعدها مما يدل على أنها آخر الأمر، ونهاية المشوار، وأنها الخلافة التي يجتمع عليها المسلمون، وهذا لا يمنع أن يوجد في تاريخ الإسلام كله، سواء في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أم في من بعده من خلفاء بني أمية، أم بني العباس، أم من بعدهم، أم من يأتي به الله تعالى، أن يكون في الأمة من يحكم بالعدل والقسط، في رقعة محدودة من المكان، أو في حيز محدود من الزمان، فهذا لا مانع منه، بل الظاهر والأقرب والله أعلم، أن ظهور المهدي عليه السلام، لا بد أن يكون له إرهاصات وبشائر ودلائل تسبقه، في هداية الناس وصلاحهم وانتظام أمرهم، ووجود نوع من الخير فيهم، فإن المهدي الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم لا يبعث إلى أمة ميتة، ينفخ فيها الحياة، كلا، إنه لا يحي الموتى، ولكنه يبعث إلى أمة قد دبت فيها الحياة، ووجدت فيها الهداية، وهي بحاجة إلى قيادة ربانية، فيختار الله تبارك وتعالى لها برحمته وقوته هذا الرجل الراشد، الذي يقود الأمة في تلك الأزمنة المظلمة، فهذا معنى قوله: {ثم تكون خلافة على منهاج النبوة} يعني على طريقة النبوة، على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هديه في الحكم بالقسط والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة شريعة الله تعالى في عباده.(215/8)
كلمة منهج بحسب ما تضاف إليه
والملحوظ أن معنى الكلمة، كلمة المنهاج، سواء أفي الآية الكريمة أم الحديث أو غيرهما، جاء معنىً عاماً غير محدد، فهو يعني الطريقة أو السنة، أو السبيل، أو ما أشبه ذلك من المعاني، إذاً فكلمة المنهج أو المنهاج، هي كلمة عامة مجملة، وهي تكتسب معناها بحسب ما تضاف إليه، فحين نقول مثلاً منهاج النبوة، نعني به طريقة النبوة في الحكم والسياسية، كما جاء في الحديث، وحين نقول منهاج السنة، كما في كتاب ابن تيمية رحمه الله تعالى منهاج السنة النبوية في نقد كلام الشيعة والقدرية فإن المقصود الطريقة الواردة في السنة، في أبواب الاعتقاد كلها، في أبواب الإيمان، في أبواب أسماء الله تعالى وصفاته، في أبواب الصحابة رضي الله عنهم، في النبوات، في الإيمان باليوم الآخر، في الجنة والنار، وما أشبه ذلك من أبواب الاعتقاد المفصلة المعروفة، والمقصود بها -أيضاً- المخالفة لما عليه أهل البدع، من الرافضة والمعتزلة والقدرية، وغيرهم، الذين تنكبوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، وخالفوا ما كانوا عليه.
ولهذا كان العلماء يؤلفون كتباً يسمونها كتب السنة، كما في كتاب السنة للإمام اللالكائي، ولـ ابن نصر المروزي، ولـ عبد الله بن أحمد، وللأثرم، ولـ ابن أبي زمنين وغيرهم، ويقصدون بها تدوين أبواب الاعتقاد، التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتي خالف فيها المخالفون، الذين غيروا وبدلوا.
وهكذا حين نقول: منهاج فلان من الناس، فإن المقصود طريقته وقواعده وأسسه، التي صار عليها في مصنفاته، أو في علمه أو دعوته، فحين نقول: -مثلاً- منهاج الإمام الطبري في التفسير، نفصد بها الأسس التي صار عليها الطبري في تفسيره كتاب الله تعالى، وفي تأليف كتابه العظيم المعروف في ذلك، من الأخذ من القرآن ومن الحديث، ومن أقوال السلف، والسياق بالإسناد، واختيار الراجح، وما أشبه ذلك من القواعد الأساسية الكلية التي صار عليها، وهكذا حين نقول: المنهج الدراسي، أو المنهاج المدرسي، نقصد به المقررات التي يراد من الطلاب أن يدرسوها، في مكان أو زمان، أو مدرسة أو مستوى معين.
إذاً كلمة المنهج كلمة عامة، تكتسب معناها بحسب ما تضاف إليه، بل إن هذه الكلمة قد تستخدم في الخير أو في الشر، فأنت تقول: هذا منهج الصالحين، وهذا منهج الضالين، ولهذا قال الشاعر:- أمامك فانظر أي نهجيك تنهجُ طريقان شيء مستقيم وأعوجٌ ألا أيها الناس طال ضريركم لآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا إذاً فهو يقول: طريقان ومنهجان، منهج الحق ومنهج الباطل، منهج الهُدى ومنهج الضلال، ومنهج الخطأ ومنهج الصواب، منهج الإيمان ومنهج الكفر، ومنهج التقوى ومنهج الفجور، فكلاهما يسمى منهجاً، وبهذا ندرك أن هذه الكلمة كلمة عامة، تكتسب المعنى بحسب ما تضاف إليه، فإذا قلنا: منهج السلف، كما هو ظاهر في العنوان، فالمقصود الطريقة التي كان عليها السلف رضي الله عنهم، لكن في ماذا؟ في كل شيء، منهجهم رضي الله عنهم في الاعتقاد، في أبواب الإيمان بالله، والأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، منهج السلف الصالح في الإيمان بالدار الآخرة، منهج السلف الصالح في الصحابة، وفي الخلق والسلوك، والعبادة، وفي التعليم، وفي الجهاد، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن المقصود به حينئذٍ المنهج والطريقة العامة، التي تحكم كل شئون الحياة، ولا تغادر منها صغيرة ولا كبيرة، ولا تترك منها شاذة ولا فاذة، فإن السلف الصالح رضي الله عنهم كان منهم من يعقدون مجالس العلم في المساجد، ومنهم من يذهبون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مجالات الحياة، ويحتسبون على الصغير والكبير، وكان منهم من يذهبون إلى ميادين القتال، ويجاهدون في سبيل الله، ويرابطون على الثغور، وكانوا جميعاً مثلاً أعلى، في أخلاقهم مع أهلهم، وفي تعليمهم، وفي عبادتهم، وفي تقواهم وإخلاصهم، وفي دعوتهم إلى الله، في كل أعمال الخير، فهذا هو المنهج الذي كانوا عليه.(215/9)
الكلمة المظلومة
العنوان الثالث: الكلمة المظلومة، إنه لا يكاد يضاهي هذه الكلمة كلمة أخرى في ترددها على الألسن، ألسن الكبار والصغار، ألسن العلماء وغير العلماء، المختصين وغير المختصين، حتى إنك تجد الكثيرين يرددون هذه الكلمة، وكأننا حين نرددها نريد أن نعوض بهذا الترديد عن الشعور بالحاجة إلى ضبط المسير، فكلنا متفقون على ضرورة تصحيح المسير، وضبط الخطوات، والمراجعة والانضباط، وعدم التردد أو التذبذب، أو تكرار الأخطاء التي وقع فيها غيرنا، ولكن الكثيرين ربما يحتاجون إلى مزيد من التوجيه في هذا.(215/10)
الترديد وحده لا يكفي
يظن بعضهم أن مجرد ترديد كلمة المنهج يغني في هذا، والواقع أنه لا يغني، فنحن -أحياناً- مثل المريض الذي يذهب إلى الطبيب فيقول له الطبيب: بإمكانك أن تشتري نوعاً من الدواء -وليكن إسبرين- فبدلاً من أن يتعاطى هذا العلاج ويشتريه، فإنه يلجأ إلى ترديد هذه الكلمة أسبرين، إسبرين، اسبرين، ويظن أن هذا الترداد ربما شفاه من الصداع.
وأحياناً نردد هذه الكلمة وكأننا نعوض بها عن فقد الدليل الشرعي، فإن الجميع متفقون -أو يجب أن يكونوا متفقين- على أن العبرة ليست بكلام فلان، مهما كان قدره أو منزلته أو علمه أو جاهه أو مكانته الواقعية أو التاريخية، وإنما العبرة بالدليل، قال الله، قال رسول الله، أو بإجماع علماء هذه الأمة، فإذا لم يكن لدي دليل صريح صحيح، فإنني قد أزين هذا المنهج، وأزركشه لأحتمي به، وربما أحاول أن أجعل كلمةً لشخص ما، من السابقين أو اللاحقين، ولو كان إماماً أو حجة، فضلاً عن أن يكون شخصاً عادياً، ربما أحاول أن أجعل هذه الكلمة دليلاً، كيف أجعلها دليلاً وهي كلام بشر؟! يحتاج إلى أن يستدل له، لا أن تستدل به، أحاول أن أجعلها دليلاً، فحين أربطها بكلمة المنهج، فأقول: المنهج كذا، ولهذا قال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، ثم أظن بذلك أنني صنعت شيئاً، ولا أدلَّ على كون هذه الكلمة مظنونة مظلومة، من حديث مثلي عنها في هذا المجال، والله تعالى وحده هو المستعان.(215/11)
لا مشاحة في الاصطلاح
نعم إن الاصطلاح أمر سائغ فبإمكانك أن تصطلح كما تشاء، وكما يقول العلماء: لا مشاحة في الاصطلاح، يعني أي طائفة من الفقهاء، أو الأصوليين، أو المفسرين، أو المؤرخين، أو علماء الاجتماع، أو علماء النفس، أو غيرهم، فبإمكانهم أن يتفقوا على مصطلحات معينة في علمهم، تعبر عن بعض المعاني التي تتكرر لضمان عدم التكرار، ولما أشبه ذلك، فهذا أمر لا بأس به، بل لا يوجد علم أبداً إلا وبه مصطلحات خاصة بأهله، يتداولونها فيما بينهم، وقد يتداولها الناس، ولكنها تظل مصطلحات لا تتحول إلى شريعة ملزمة، ولا تتحول إلى نص واجب الاتباع على كل أحد، ولا تتحول إلى دعوة قائمة، لا يسع أحد أن يخالفها في حال.(215/12)
مناهج شتى
العنوان الرابع: "مناهج شتى" إننا اليوم أمام مناهج شتى في كل مجالات الحياة، وإذا حصرنا الحديث في المجال الشرعي، لوجدنا أن للعلماء مناهج مختلفة.(215/13)
كيف نواجه التعصب المذهبي
إذاً نحن أمام منهجين أو طريقين: المنهج الأول: الذي يدعو إلى تحطيم المذاهب، والقضاء عليها، وإعلان الحرب جملةً وتفصيلاً، من دون تمييز، وهذا المنهج قد ينجح في إخراج بعضهم من المذاهب، ولكنه ينجح -أيضاً- في غرس عداوات عند آخرين.
المنهج الثاني: هو الذي يقول: لا نحارب المذهب باسمه ضرورة، لأن الاسم المجرد مباح، ولكننا نحارب اتباع أقوال الأئمة، وترك الكتاب والسنة، أو اتباع قول فلان إذا تبين أنه مخالف للدليل، وهكذا هذا المثال يمكن أن نطبقه بالنسبة لوسائل الإصلاح والتغيير، والدعوة الموجودة اليوم، فمن الممكن -مثلاً- إعلان الحرب على مناهجها المختلفة، بالنظر إلى ماذا؟ بالنظر إلى الحزبيات القائمة والموجودة، التي أقول: إنها تعصف بشباب هذه الأمة كالإعصار، وتشق صفوفهم، وتمزق وحدتهم، وتوغر قلوب بعضهم على بعض، وكذلك النظر إلى الأخطاء الموروثة، التي تتكرر مرة بعد مرة، والنظر إلى التجارب الفاشلة الموجودة هناك وهناك، وفي بلاد كثيرة.
إذاً من الممكن أن ينظر إنسان إلى هذه السلبيات، فيعلن الحرب عليها كلها جميعاً، وهذا منهج في مواجهة هذا الواقع وهناك منهج آخر، يستطيع أن يميز في هذه المناهج، والطرائق، ووسائل الدعوة، بين الحلال والحرام، وبين النافع والضار، فيشيد بالنافع والمباح، أو المشروع، ويثني عليه، ويمنع الضار، أو المحرم، وينكره، ويدعو إلى تركه ومباعدته، بالأسلوب الحسن، بقدر المستطاع، فإن الحرام لا يجامل فيه أحد، لا يجامل أحد في الحرام، بل يجب النهي عنه بدليله، وما عند الله تعالى لا ينال بمعصيته أبداً، فلا يمكن أن تكون الدعوة بوسيلة محرمة أبداً، ولا يمكن أن يكون الأمر بالمعروف أوالجهاد بأسلوب لا يحله الله تعالى ولا رسوله، بل الله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، تعني بعلم وبمعرفة، معرفة بالحلال والحرام، ومعرفة بنصوص الشرع.
ويقول الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] فقال: ادع إلى سبيل ربك، فلا بد أن تعرف سبيل الله، وسبيل الله هو دينه، هو منهجه، هو طريقته التي أمر بها عباده، ولا يمكن أن يدعو إليها إنسان وهو لا يعرفها.
إذاً لا بد أن يعرف الإنسان الحرام، فينهى عنه ويحذر منه، ولا يجوز أن يفعل الإنسان الحرام، حتى ولو كان بنية صالحة، فإن النية الصالحة لا تقلب الحرام إلى حلال بحال من الأحوال، بل يبقى الحرام حراماً، والنية أمرها عند الله تعالى، نحن ليس لنا علاقة بقلبك، علاقتنا بعملك هذا، أنه حرام، ولا يجوز، قال الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نيتك وقصدك فنحن منه براء، لا ندري منه شيئاً، وأنت أمرك إلى الله عز وجل.
الحرام إذاً هو ما حرمه الله تعالى ورسوله، إما بنهي صريح لا صارف له، أو وعيد على فاعله، أو ما أشبه ذلك، سواء أكان من صغائر الذنوب، أم من كبائرها، فما كان حراماً فلا يجوز أن نتذرع به إلى دعوة، ولا إلى علم، ولا إلى جهاد، ولا إلى أمر، ولا إلى نهي، أما ما لا يدخل في دائرة الحرام، ولكننا لم نعجب به، أو لا نراه، أو لا يتفق مع قناعات ذاتية موجودة عندنا، أو لا يتفق مع تربية تَربَّيَنا عليها، أو لا يتفق مع ما تلقيناه، فهذا من الممكن أن نتركه، وندعه ولا نستخدمه، ونعرض عنه، لكننا لا نحتسب على فاعله بالإنكار والعيب والذنب، ما دام أننا لا نستطيع أن نقول: إنه حرام.(215/14)
كيفية الاحتساب في مسائل الخلاف
أما إذا كان الأمر أننا نقول: هو حرام، وطرف آخر يقول: لا، ليس حراماً فها هنا وجد خلاف، هل هو من باب الحرام فيجب تركه؟ أم هل هو من المباح فيجوز فعله؟ فهنا بإمكاننا سلوك أحد سبيلين: السبيل الأول: الجدال بالتي هي أحسن، فلا مانع أن تناقشني وأناقشك بدون رفع أصوات، ولا مغاضبة ولا مساخطة، ولا يسوء ظنك بي، ولا تجد عليَّ في نفسك، لكن ناقشني بالتي هي أحسن، وبالكلمة الطيبة، وربك جل وعلا قال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] وقال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] الكلمة الطيبة: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الاسراء:53] فالمناقشة والأخذ والعطاء ربما يتبين لك فيها شيء لم يكن واضحاً، أو على الأقل تعذر الآخر، أو ربما يتبين له الحق فيأخذ به، فإذا لم يكن النقاش ممكناً، أو لم يوصل إلى نتيجة فهناك حلٌ آخر.
السبيل الثاني:- الرجوع إلى العلماء للاستنارة بعلمهم، كما قال الله عز وجل في موضعين من كتابه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وأهل الذكر، هم أهل العلم، العلم بالقرآن، والعلم بالسنة، وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند أهل السنن، في قصة صاحب الشجة، أنه عليه الصلاة والسلام قال لبعض أصحابه {قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال} فالرجوع إلى أهل العلم ومناقشتهم والاجتماع عندهم، والأخذ من علمهم، هذا من أسباب توحيد الكلمة، والوصول إلى الحق، وأحياناً قد يكون الخلاف لفظياً، أو شبه لفظي، وأضرب لذلك مثلاً واحداً، أن الخلاف أحياناً قد يطول ويعرض، ولو تأمله العاقل لوجد أنه أقرب من قريب، أو أن الخلاف يسير، يحتمل ويحتمل.(215/15)
هدم المناهج أصلح أم تعديلها؟!
يا ترى ما هو الأنسب أمام هذه المناهج المختلفة؟ هل الأنسب والأقرب لمقاصد الشرع هو هدم هذه المناهج على رءوس أصحابها كما يقال؟ والقضاء عليهم، وإعلان الحرب؟ أم هل الأنسب هو السعي في الإصلاح والتعديل؟ لتكون متناسبة مع النص، مع القرآن، مع الحديث، مع الدليل الشرعي.
أيها الأحبة إنني وأنا أتحدث إليكم في مثل هذا الأمر، فإنه يعلم الله تعالى، أن ليس في قلبي إلا الحب للمؤمنين المخلصين لدينهم، مهما تعددت مناهجهم، واختلفت طرائقهم، وتباينت اجتهاداتهم، متى ما كانوا ملتزمين بالقاعدة العظمى، التي هي قاعدة الرد إلى الله والرسول {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] فهذا هو بيت القصيد، وهذا هو المحك الذي ندعو الناس إليه، ولأنه من الخطأ أن أدعو الناس إلى شخصي، أو طريقي، أو إلى منهجي، أو إلى مذهبي، أو إلى اجتهادي، أو إلى رأيي، فإنه على أحسن الأحوال كما كان يقول الإمام الشافعي رحمه الله: [[هو صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب]] والواحد منا قد يقول اليوم كلمة ويرجع عنها غداً.
إذاً فإن القضية هي الدعوة إلى الكتاب والسنة، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فأما رأيي أنا ورأيك أنت، ورأي زيد، ورأي عبيد، فهو كلام وقول، قد يوافق الكتاب والسنة يؤخذ به لا لأنه فلان، ولكن لأنه يوافق الكتاب والسنة، وقد يكون اجتهاداً في غير محله، فيرد على قائله كما أسلفت.(215/16)
مأساة التعصب المذهبي
وأضرب لذلك -مثلاً- يتعلق أيضاً بموضوع المذاهب الفقهية، وإنما اخترت موضوع المذاهب الفقهية، لأنه أوضح وأظهر، فإن من الممكن ونحن الآن أمام مذاهب مختلفة، أشهرها المذاهب الأربعة، ولكن هناك أكثر من عشرة مذاهب غالبها موجود، أو كلها موجودة في العالم الإسلامي، وهناك مذهب الأوزاعي، وهناك مذهب الظاهري، وهناك مذهب سفيان، وهناك -بطبيعة الحال- مذهب أهل الحديث، إلى غير ذلك من المذاهب الفقهية، هذه المذاهب من الممكن أن يعلن الإنسان الحرب عليها بصورة واضحة، وعلى دعاتها وعلى فقهائها، لماذا؟ لأن هناك تعصباً مذهبياً يعصف بالعالم الإسلامي.
أقول: يوجد على مستوى العامة، بل حتى على مستوى الفقهاء والمفتين في معظم بلاد العالم الإسلامي، تعصب مذهبي، ويوجد تمسك بالموروث، حتى لو كان مخالفاً لما تدل عليه ظاهر النصوص، من القرآن والحديث، ولكن بسبب الإلفة والعادة، والتلقي في الصغر، وكون هذا الأمر معروفاً في المجتمع، يصعب على الإنسان أن يغير رأيه، أو قناعته بهذا الحكم أو بهذه المسألة الفقهية، وربما صار هذا التعصب بلاءً، حتى إنه ليس من الأسرار أنه كان هناك معارك تاريخية، وهدمت بيوت، وقامت معارك، وقتل أشخاص، وسالت دماء، بسبب بعض ألوان التعصب المذهبي، الذي حصل بين بعض الطوائف في بغداد، وفي بلاد المشرق وفي غيرها، فقد يقول قائل: هذا بسبب هذه المذاهب، إذاً فلا بد من الحرب عليها، وتحريم الانتساب المجرد إليها، ودعوة الناس إلى رفضها ونبذها! وهذا على كلٍ هو رأي، ونستطيع أن نعبر عنه بأنه منهج، منهج يدعو إلى نبذ المذاهب كلها، حتى مجرد الانتساب إلى هذه المذاهب، والأخذ من الكتاب والسنة فحسب، ونحن -جميعاً- متفقون على أنه يجب الأخذ من الكتاب والسنة وإجماع الأمة فحسب.
ولكن هل ترفض هذه المذاهب، ويُدعى الناس إلى الأخذ من الكتاب والسنة؟ أم أنه يمكن أن يُربَّى الناس على الأخذ من الكتاب والسنة، ولو كانوا منتسبين؟ فمجرد الانتساب لا يضر، يعني كونك تقول مثلاً: أنا شافعي، أو حنبلي، أو أنا مالكي، أو أنا حنفي ليست العبرة بمجرد الاسم، فهذا مثل ما تقول: أنا من قبيلة كذا، أو أنا من بلد كذا، لكن العبرة إذا كنت شافعياً، ثم عرفت دليلاً مخالفاً لمذهب إمامك، أتتبع الدليل أم تتبع مذهب الإمام، فإن كنت تتبع الدليل، فهذا لا يضر أما إن كنت تتبع مذهب الإمام، وتترك الدليل فهذا يضرك، ولو تخليت عن الاسم، ولو خلعت النسبة، لكنك تركت الرجوع إلى الدليل الشرعي.
إذاً العبرة بالطواعية والانقياد للدليل الشرعي، وليست بمجرد الأسماء، مع أننا نقول: إن الأسماء -أيضاً- ليست ملزمة، ولا شريعة قائمة، ولا قال أحد من أهل العلم: إنه يجب على كل أحد أن يتسمى باسم معين، أو اسم خاص، اللهم إلا الأسماء الشرعية، الإيمان والإسلام، وما أشبه ذلك، أما هذه الأسماء وهذه النسب، فهي أمور ليست واجبة على أحد بحال من الأحوال.
وعلى كل حال قد يرى إنسان أن يعلن الحرب على هذه المناهج كما أشرت، وهذا منهج، ولكنه يستنفر عداوات الكثير، وعداوات ضخمة، وأحياناً يواجه مع الأسف حججاً علمية في كثير من البلاد، وتصبح المسألة بين شد وجذب، ويصبح معظم الناس لا يفقهون من الأمر شيئاً، ولكن هناك في المقابل منهج آخر، منهج لا يعلن الحرب على الاسم، لأن المشكلة ليست في الاسم بذاته، ولكن يعلن الحرب على الانحراف الموجود في المضمون، والموجود في الواقع، الذي هو تَرْكُ الدليل الشرعي إلى قول فلان، ورأي علان، فهذا المنهج لا يستهدف الإطاحة بالمذاهب كأسماء وعناوين ولافتات، ولا يحاربها لذاتها، ولكنه يحارب التعصب الممقوت، ويحارب التقليد، خاصة التقليد الأعمى غير المبصر، الذي ليس اتباعاً للدليل، ولكنه تقليد لفلان وفلان، بغير حجة شرعية.
ويدعو هذا المنهج إلى العناية بالدليل الشرعي، بكلام الله عز وجل، وكلام الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام، ويحارب أشد الحرب تلك الفئة التي تعرف الدليل الشرعي، ثم تعرض عنه، تعصباً لمذهب، أو إمام أو قول: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت: قال الله ضجوا وعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قِرنٌ مماحك وإن قلت: قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك مسالك المهم هؤلاء الذين يرفضون الدليل، أو يقولون: كل نص خالف المذهب فهو منسوخ، أو مؤول، وإنما نقرأ القرآن والسنة لمجرد التبرك، لا شك أن هذا إلغاء للنص الشرعي، وتعبيد للناس بما لم يُعبِّدْهم الله تعالى به، ومن نعم الله تعالى على الأمة في هذا الوقت، أنها أصبحت تبحث عن الدليل، وتبحث عن (قال الله) (قال رسول الله) وإذا تكلمت مع إنسان بقول، أو أفتيته بفتوى قال لك: أين الدليل؟ أو ما هي الحجة؟ أو ما أشبه ذلك، وهذه لا شك من ظواهر الصحوة الإيجابية، التي يجب العمل على تعميقها، وتنميتها، وتوسيعها بقدر المستطاع.(215/17)
المناهج في الفقه والأصول
فمثلاً: في الفقه، هناك مناهج كثيرة للاستنباط، فطريقة الإمام الشافعي في الاستنباط ليست كطريقة الإمام مالك، وطريقة أبي حنيفة ليست كطريقة أحمد، وطريقة الأوزاعي ليست كطريقة سفيان الثوري، وهكذا، ففي مجال الفقه، واستنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة، يختلفون في ذلك اختلافاً واسعاً، ومثل ذلك الحال في الدراسات الأصولية، فأصول الأحناف غير أصول الشافعية.(215/18)
المناهج في التفسير
ومثله أيضاً في التفسير، فتفسير القرطبي ليس كتفسير الطبري، وتفسير ابن عطية ليس كتفسير أبي حيان، ولكل واحد منهم منهج خاص يميزه في الدراسة والاستنباط، ويختلف به عن غيره من العلماء، سواء أكانوا من علماء فنه أم من علماء آخرين، إنك حين تنظر في مناهج الدعوة والعمل، تجد أن مناهج العلماء تختلف.(215/19)
المناهج في الدعوة والعمل
وأضرب لك مثلاً واحداً فقط، هذا الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فالذي يقرأ سيرته وتاريخه وعلمه وجهاده، يبدو له جلياً واضحاً، أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، تميز بمنهج خاص متكامل، في دعوته وعلمه وجهاده، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، تميز به عن كثير من علماء عصره، ولهذا ظل شيخ الإسلام ابن تيمية متفرغاً لدعوته، لعلمه وجهاده، ينتقل من بلد إلى بلد، بل ينتقل أحياناً من سجن إلى آخر، وناظر كثيراً من الفقهاء، واختلف معهم، واتفق مع آخرين، وناقشهم وناقشوه، وناظرهم وناظروه، بل ومنهم من قال فيه ما قال، وحاربه وتسبب له، بل بعضهم سعى في الوشاية به إلى أن يقتل، ومع ذلك ظل شيخ الإسلام ابن تيمية ملتزماً سنن العدل، والبعد عن الظلم والعدوان، والانتقام والانتصار للنفس، وغير ذلك من المعاني.
ومن المعلوم أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يتقلد وظيفة قط طيلة عمره.
لم يتول القضاء، أو أي عمل آخر، ليس لأنه يعتقد أن الوظائف حرام! كلا، بل هو يعتقد أن الوظائف قد تصل إلى حد الوجوب أحياناً، كما صرح في فتاويه بذلك، ولكن لأنه يرى بالنسبة له هو شخصياً، أن بقاءه في الميدان الطلق، يذهب إلى هنا ويذهب إلى هناك، يقول كلمة الحق، ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، يحتسب على الكبار وعلى الصغار، وعلى العلماء، وعلى العامة وعلى الخاصة، وعلى الجميع، رأى أن هذا هو الأليق بحاله.
وكان له تلاميذ ومريدون، يذهبون معه، وينقلون علمه، ويكتبون عنه، ويأمرون معه بالمعروف، وينهون معه عن المنكر، حتى إنهم ذهبوا إلى جبال النصيرية، وقطعوا أشجارهم، واحتسبوا عليهم، وألزموهم بالسنة، وحتى أنهم يرون الخمور فيريقونها في الشوارع، ويرون المنكرات فينكرونها، وما ذلك إلا لأن السلطة المركزية ضعفت في عهد ابن تيمية رحمه الله، فلم تكن تغير المنكرات، ولم تكن تأمر بالمعروف كما يجب، وأصبح في إمكان العلماء أن يقوموا بذلك، والله تعالى يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وأولو الأمر كما هو معروف: هم العلماء والأمراء، فطاعة العلماء واجبة -أيضاً-، كما يطاع الأمير في طاعة الله تعالى، طاعة بالمعروف.
فالمهم أن ابن تيمية رحمه الله كان له منهج واضح متميز، في علمه ودعوته، وجهاده، وفي أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وهذا هو المقصود، أما تميزه في المجالات الأخرى، فهذا أمر ظاهر معروف، ولكن ليس هو مجال حديثنا، وإلا فإنه كان شجاعاً في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح، وتحريتها والاستدلال بطريقة لم يكد يسبق إليها، إلى غير ذلك من ألوان العلوم، التي فتح الله تعالى بها على هذا الإمام، الذي ندر أن يوجد مثله.
واليوم نجد أن مناهج الدعوة إلى الله قد تنوعت وتعددت، وكثرت في معظم بلاد الإسلام، بل في كل بلاد الإسلام، فكلٌ له منهج وله طريقة يدعو بها إلى الله تعالى، أو يأمر بها بالمعروف، وينهى عن المنكر، أو حتى يعلم الناس فيها القرآن والسنة.(215/20)
وسائل الدعوة مبنية على الإباحة أم التوقيف
مسألة وسائل الدعوة، هل وسائل الدعوة إلى الله تعالى، وسائل توقيفية؟ بمعنى أنها من عند الله، ومن عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لأحد أن يستخدم وسيلة من وسائل الدعوة، إلا أن يكون قد جاء إذن شرعي بها، أم أن وسائل الدعوة مبنية على الإباحة؟ ويجوز استخدام كل وسيلة مالم تكن محرمة.(215/21)
القول الثاني: وسائل الدعوة مباحة
أما القائلون بعدم التوقيف، يعني أن وسائل الدعوة مباحة، فالأصل فيها هو الإباحة، وكل وسيلة ليست محرمة، يجوز أن تستخدم للدعوة إذا ظن الإنسان أنها تنفع، فإنهم يُوَاِفُقون، أو يجب أن يوافقوا على ما سبق، ولكنهم يرون جواز استخدام كل أسلوب أو ذريعة، تؤدي إلى الغرض، ما لم تكن حراماً، ومن ذلك مثلاً: أسلوب تأليف قلوب الناس على الخير، تأليف قلوبهم بالدعوة إلى الطعام، أو السفر معهم، أو الرحلة أو المشاركة في بعض أعمالهم المباحة، أو تطييب خواطرهم، وإزالة الوحشة منهم، بكل أمر مباح.
ولا يمكن أن يقال: إن من تأليف القلوب والدعوة إلى الله، أن تذهب إلى قوم على لهو، ولعب، ورقص، وسكرٍ، وعربدة، وفجور، وتكون معهم على ذلك، لأنك تؤلف قلوبهم، أو لأن هذه وسيلة دعوة، هذا لا يجوز، ولا يمكن أن يكون أبداً، لأن الأمر محرم ومفروغ منه، لكن هب أنهم على أمر مباح، وأنت لا تريده لنفسك، ولكنك رأيت أن مشاركتهم فيه قد تكون سبباً في تألف قلوبهم أو تقريبها، أو تحبيبها إلى الخير، أو ما أشبه ذلك من الأمور، يعني من باب تأليف القلوب، الذي عمل به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا يتفق الطرفان معاً، القائلون بأن وسائل الدعوة توقيفية، أو الذين يقولون: إنها ليست توقيفية، على أنه لا يشترط للوسيلة من وسائل الدعوة، أن يكون منصوصاً عليها بذاتها وعينها، مع أننا لو قلنا: إن الوسائل توقيفية محضة، كالقرب المحضة، كالعبادات، لم يكن كافياً أن تكون الوسيلة لها أصل في الشرع، بل يجب أن يكون منصوصاً عليها في وقتها، وفي سببها، وفي صفتها، وفي زمانها، وفي مكانها.
مثال ذلك: الصلاة، الصلاة عبادة، والعبادات توقيفية، أي: لا يجوز لواحد أن يأتي من عنده بصلاة لم تشرع، ويأمر الناس بها، بل يجب أن تكون الصلاة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مأثورة في عدد ركعاتها، مأثورة في صفات ركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، مأثورة في أسبابها، كصلاة الضحى، أو كصلاة الوضوء، أو كصلاة الاستخارة أو صلاة الفتح، أو ما أشبه ذلك، مأثورة في زمنها، مأثورة في مكانها، إلى غير ذلك، فها هنا بالنسبة للصلاة كل هذه الأشياء محددة.
لكن لو نظرنا إلى مثال آخر، وهو التعليم: هل يمكن أن نقول: التعليم وسائله توقيفية مثل ما هو الحال بالنسبة للصلاة؟ ولو قلنا ذلك لوجدنا أن الصورة الموجودة اليوم، بل الموجودة منذ سنوات، بل منذ قرون في العالم الإسلامي للتعليم، لم تكن موجودة في الصدر الأول، فالمراحل والمناهج الدراسية، والكتب والشهادات، والامتحانات، وطريقة التدريس، وطريقة السكن، وتسجيل الطلاب، وتدوينهم وتصنيفهم، وغير ذلك، كل هذه الأشياء لم تكن موجودة بتفاصيلها، في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل لم تكن الكتب قد ألفت آن ذاك.
ولما هم الصحابة رضي الله عنهم بتدوين السنة، احتج بعضهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في حديث أبي سعيد: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} ولكن ترجح الرأي القائل بمشروعية الكتابة، بل بوجوبها لنصوص كثيرة معروفة، وللحاجة الماسة، خشية ضياع السنة النبوية.
إذاً لو نظرنا إلى التعليم، واعتبرناه أمراً عبادياً توقيفياً، يجب أن يكون منصوصاً، بزمانه، ومكانه، وصفاته، وسببه وعدده، وما أشبه ذلك، لم نجد أن الصورة القائمة هي الصورة الموجودة في العهد الأول، ولكن نقول: نعم العلم الشرعي عبادة، يجب أن يقصد فيه وجه الله، ويراد به ما عند الله تعالى، ولا يقصد به عرض من أعراض الدنيا، ويخلص الإنسان فيه النية، ويرافقه بالعلم النافع، وبالعمل الصالح، وبالدعوة، وبالخلق الفاضل، وما أشبه ذلك، ولكن لا يلزم أن تكون كل هذه التفاصيل منصوصاً عليها بذاتها، وإن كان لها أصلٌ في ما هو موجودٌ في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لو قلنا: إن الأمر تعبدي محض، لم يكن كافياً وجود الأصل، بل لا بد من وجود النص على التفاصيل.
أرأيت لو نظم أحدٌ أمر الصلاة، كما ينظم التعليم مثلاً، فجعل لكل فئة من الناس زماناً خاصاً لصلاة خاصة، ومكاناً خاصاً وطريقة خاصة يتعبدون بها، أفيجوز هذا؟ كلا، لا يجوز.
إذاً نخلص من هذا إلى أن السعي في إصلاح المناهج الدعوية، وإعادتها إلى الكتاب والسنة، فيه خير كثير إن شاء الله تعالى، ثم لا يمنع بعد ذلك أن تتنوع النشاطات، فهذا ينشط مع العامة، وهذا ينشط مع الخاصة، وهذا يتحرك في أوساط الشعب، وهذا يتحرك في الدوائر الرسمية، وهذا يشتغل بالمال، وهذا يشتغل بالجهاد، والجميع متفقون على المنهج الشرعي الصحيح، على الكتاب، والسنة، على الرد إلى الله والرسول، وعلى عدم التعصب، وعلى عدم ازدراء الآخرين، أو تنقصهم أو الاستخفاف بجهدهم.
إننا نحتاج إلى هذا كله، ونحتاج إلى الصبر، وسعة البال، والحلم والحكمة، وأن نقابل الإساءة بالإحسان، والمنكر بالمعروف، وأن يكون لسان حال الواحد منا، كما أمر الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .
إننا أيها الإخوة! نغضب لأنفسنا وأشخاصنا، أكثر مما نغضب لمنهجنا، أتدري كيف؟ أضرب لك مثالاً، لك جار لا يصلي الصلوات، وأنت اليوم صابر عليه، على مدى سنوات، ربما سنتين أو ثلاث، وأنت تقول: نصبر عليه، ندعوه إلى الله تعالى، نسلك معه الأسلوب الحسن، بالمراسلة، وبالاتصال، وبالزيارة، وبذلت معه مجهوداً كبيراً، وأنت صابر، ثم لقيته يوماً من الأيام، فدعوته إلى الله تعالى، فقال لك: مالك ولي؟ دعني وشأني! أنت فيك كذا، ثم طفق يسبك ويشتمك، ويتكلم فيك، فتجد أنك حينئذٍ غضبت أشد الغضب، وفار دمك، وانشدت أعصابك، ثم قلت: لا يمكن أن نصبر عليه أبداً، هذا الإنسان ليس فيه خير، هذا من سنوات لا يصلي، لابد أن يخرج هذا اليوم من المنزل.
إذاً لماذا هذا الغضب ادخرته لموقف شخصي؟ لماذا ما غضبت يوم كان هذا الإنسان مفرطاً في شعيرة من الشعائر؟ وربما كان أهله، أهل بيته، أحياناً يشتكون منه، أنه لا يؤدي الصلاة، أو يشرب الخمر، أو ربما يقع في معاصٍ، وكنت صابراً، فلما مسك في شخصك بعض الأذى تجد الواحد منا انشدت أعصابه وغضب، وهاهنا تبين لك أن غضبك وغضبي حينئذ كان للشخص، انتصاراً للنفس، أكثر من كونه انتصاراً للمنهج، ويجب أن يكون لسان حالك، كما قال الأول: أي في ما بينك وبين إخوانك من الدعاة، وإخوانك من طلبة العلم، وزملائك: وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدَ إن المروءة والصبر والرجولة والإيمان والخلق الكريم، هي التي تحتاج إلى الرجال، أما المعاملة بالمثل، والشد، أو ما أشبه ذلك، فهذه كل أحد قد يحسنها.(215/22)
القول الأول: وسائل الدعوة توقيفية
القائلون بأن وسائل الدعوة توقيفية، يعنون -والله أعلم- أن جوهر الدعوة من عند الله تعالى، فلا بد من الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة، ولا بد من تربية الناس على هذا المعنى العظيم، الذي بعث من أجله الرسل، وأنزلت من أجله الكتب، وعقدت من أجله ألوية الجهاد، ألا وهو دعوة الناس إلى عبادة الله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2] {قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} فهذا المعنى العظيم يجب دعوة الناس إليه، وتربيتهم عليه، وتعليمهم له، والدندنة حول هذا المعنى دون كللٍ أو ملل، فهذا لا شك أنه حقٌ كله، ويجب أن يكون موضوع اتفاق بين الجميع.(215/23)
دعوة إلى التعاون بين الدعاة
إننا نحتاج إلى كل الجهود، وإلى كل الطاقات المخلصة المثقفة معنا، إلى الرد إلى الله والرسول، وعلى العمل بالكتاب والسنة، وعلى المنهج الشرعي السلفي الصحيح، نحتاج إلى هذا كله، وهو أمر عظيم لا تقوم به فئة، فكيف تستطيع فئة أن تقوم بالجهاد في التعليم، في تعليم الناس العقيدة، وفي تعليم الأحكام، وفي تفقيه الناس في دينهم، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الدعوة، وفي الوعظ، وفي الجهاد، إلى غير ذلك من الأبواب العظيمة، كل هذا لا يمكن أن يقوم به إلا مجموع الأمة، ومجموع فئاتها المخلصة، القائمة على المنهج الصحيح، التي لم تتلوث أو تتلطخ ببدعة أو انحراف، ومهما أخلصت فئة واحدة، أو اجتهدت فإنها لا تستطيع أن تغطي كل هذه الميادين.(215/24)
تخصص الدعاة في جميع الجوانب
إذاً: مادمت ملتزماً بالحق، وبما دل عليه الكتاب والسنة، في أبواب الاعتقاد وفي أبواب العبادة، وفي أبواب الأخلاق، وفي الأمور كلها، ما الذي يمنع من أن يتخصص بعضنا في الدعوة، إلى جانب يحسنه ولا يحسن غيره؟! فتعتني أنت بالوعظ، لأن الله تعالى أعطاك قلباً رقيقاً، وأعطاك لساناً عذباً، وأعطاك استحضاراً للنصوص، وأعطاك قدرة على التأثير، فأنت تشتغل بالوعظ، وترقق قلوب الناس، مع مراعاة الضوابط، ولا تستدل بحديث موضوع، ولا بحديث ضعيف، ولا تدخل إلى أبواب الانحراف والغلو، وعليك بمراعاة الضوابط الشرعية، ولو غلب هذا الجانب عليك، وعرفت به ولم تعرف بغيره، فإن هذا لا يضر.
وآخر: يعتني بتعليم الناس العقيدة، وأبوابها ونصوصها، ويدعوهم إليها، ويربيهم عليها، ولا يكل ولا يمل من ذلك، ولو غلب هذا الأمر عليه وعرف به، إخراجاً للكتب، وتأليفاً، وتدريساً، وتعليماً، وخطابةً، وغير ذلك، فإن هذا يسد فراغاً تحتاجه الأمة أيما حاجة، بل هو أعظم حاجة تحتاجها الأمة، أن تقوى قلوبها بالمعتقد الصحيح، الذي يربطها بمحبة الله تعالى وخوفه ورجاءه، وألاَّ يخافوا إلا الله.
وثالث: يشتغل بالفقه والفُتيا، وبيان الحلال والحرام بالدليل، حتى لو عرف بذلك ولم يعرف بغيره.
ورابع: يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بكل وسيلة مباحة، ولو ذهبت روحه في ذلك، وقد ذُكِرَ للإمام أحمد رحمه الله تعالى رجلٌ عالمٌ فاضلٌ من زملائه وخلصائه، وهو الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، الذي صُلِبَ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صُلِبَ على الأعواد في الميدان عام، فقام الإمام أحمد ودعا له وتَرَحَّمَ عليه، وقال: ذلك رجل هانت عليه نفسه في ذات الله تعالى.
إذاً ما الذي يمنع أن ينبري من الأمة رجال مجاهدون؟ همهم الجهاد في ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بكل وسيلة، وبكل سبيل، ولو ذهبت أرواحهم في هذا السبيل، فقائلهم يقول: ربِّ لك الحمد لا أحصي الجميل إذا نفًَّست يوماً شكاة القلب في كربِ فلا تؤاخذ إذا زل اللسان وما شيءٌ سوى الحمد في الضراء يجمل بي لك الحياة كما ترضى بشاشتها فيما تحب وإن باتت على غضبِ رضيت في حبك الأيام جائرة فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذبِ شكراً لفضلك إذ حملت كاهلنا مما وثقت بنا ما كان من نُوَبِ ولا يمنع -أيضاً- أن يكون هناك خامس، يهتم بتحليل الأحداث السياسية، وآثارها على العالم الإسلامي.
وسادس يهتم بتحليل الأحداث الاقتصادية.
وسابع يهتم بتحليل الأحداث الاجتماعية، وموقف المسلمين منها، هكذا يُكَمِّلُ بعضهم بعضاً، فهذا الأمر يتحقق وفق شروط:(215/25)
شروط قاعدة [التكميل]
الشرط الأول: أن يكون الجميع ملتزمين بالمنهج، المنهج الحق، ما هو المنهج؟ المنهج ثلاثة فروع:- قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة.
هذه هي أصول المنهج، فنعني بالمنهج هذا، ويبقى لكل فرد أو لكل فئة منا اجتهادهم الخاص الذي لا يخالف هذا المنهج، فهذه قاعدة مشتركة عند كل الطوائف، أن يكونوا ملتزمين بالمنهج الحق.
الشرط الثاني: أن يكمل بعضهم بعضاً، ويعزز بعضهم بعضاً، ويتناصروا فيما بينهم على الحق، ومن التناصر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} فإن كان ظالماً فتنصره بردعه عن الظلم، وإن كان مظلوماً، فإنك تأخذ حقه وهكذا، تنصره مخطئاً أو مصيباً، فإن كان مصيباً فانصره بتعزيز ما قال، وإن كان مخطئاً فخذ على يده وبَيِّنْ له الحق.
إذاً فلا بد من التناصر فيما بيننا، وأن تكون العلاقة علاقة محبة ووئام، وقلوب سليمة، متراصة اليد مع اليد، والقلب مع القلب، والنفس مع النفس، لا أن تكون علاقة تناحر وتباغض، وتشاحن وتقاطع، وكل امرئ يجاذب الآخر وينازعه، وهذا هو مقتضى نصوص الشريعة، قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] .
إذاً لا يمكن أن يخرجوا كلهم للجهاد، ولا للعلم، لكن يخرج منهم طائفة للجهاد، وطوائف للعلم، ليتحقق بذلك التعليم، ويتحقق بذلك الجهاد، وهم يكمل بعضهم بعضاً، ويتناوبون القيام بفروض الكفاية.
وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فأمر سبحانه بأن يتعاون المؤمنون فيما بينهم، على كل بر وتقوى، من طاعة الله، والدعوة إلى دينه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك.
وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] وقال صلى الله عليه وسلم: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضاً} والحديث الآخر وكلاهما في الصحيح: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} هل رأيت إنساناً يقطع عضواً منه، أو يجرحه، أو يشقه بالسكين، أو يؤلمه؟ كلا، لا يفعل ذلك، فهكذا المؤمن للمؤمن، فهو مثل اليدين، تغسل إحداهما الأخرى، فإن رأى منه صواباً فرح وسُر، واستنار وجهه، وأشرق قلبه، وإن رأى منه خطأً انزعج، وبئس لذلك، وضاق صدره، وتمنى أن لم يقع، ثم ناصحه بالأسلوب الذي يظن أنه يؤدي إلى المقصود.(215/26)
اتفاق كلمة الدعاة
لماذا لا تتظافر جهود المخلصين على الإصلاح؟ ولماذا لا يتفق المسلمون على كلمة سواء؟ إن الله تعالى يقول في القرآن: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] أفيعجز المسلمون أن يدعوا بعضهم بعضاً إلى كلمة سواء، على كتاب الله، وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، دعني أتخلص من كل قناعتي الشخصية، وكل آرائي الذاتية، وكل اجتهادي، دعها جانباً، وكذلك أنت، وتعالَ إلى هذا القرآن المحفوظ، وتعال إلى الحديث الثابت بالإسناد الصحيح، وتعال إلى إجماع الأمة، ودعنا من بنيات الطريق: فهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق إن المسلمين أهل كتاب وسنة، فهم أولى بالدعوة إلى توحيد الله تعالى وحده، وألاَّ يشركوا به شيئاً، وألاَّ يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، لا من السلاطين الطغاة، الذين بدلوا نعمة الله كفراً، وبدلوا شريعة الله تعالى، وتلاعبوا بأحكامه، وحكموا الأمة بغير كتاب الله، ولا من العلماء الذين إنما هم أدلاء على طريق الحق، يدلون الناس على الحق، ويرشدونهم إليه بالكلام الشرعي، بالحديث، بالدليل من كتاب أو سنة، ولا يتخذ بعضناً بعضاً أرباباً من دون الله، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] .(215/27)
المنهج وليس الأشخاص
إن من أخطر الأمور أيها الأحبة أن يكون التعلق بالأشخاص وليس بالمنهج، والواقع أن الله تعالى أمرنا باتباع شريعته، وباتباع الدين، وباتباع الشريعة، وباتباع الحق لا بالأشخاص، حتى قال سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] ولهذا لما أشيع في معركة أُحد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، جلس بعض الأنصار، ووضعوا رءوسهم على أيديهم، فمر بهم رجل من الصحابة، فقال لماذا جلستم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يحمل الراية كما فعل مصعب بن عمير رضي الله عنه، ويردد هذه الآية الكريمة: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] .(215/28)
الاسم لا يكفي
العنوان السابع والأخير: الاسم لا يكفي: إن أعظم الأسماء هي الأسماء التي ذكرها الله تعالى في كتابه، الإسلام، والإيمان، {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78] وسمانا الله تعالى المؤمنين أيضاً: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعض} [التوبة:71] ومع ذلك يوجد من يتسمى بالإسلام، وقد يوجد من يتسمى بالإيمان، ويكون عنده خلل عظيم، أو تقصير، بل قد يوجد من يدعي الإسلام وهو كافر، وهؤلاء المنافقون، كانوا موجودين بين ظهراني المؤمنين، وكانوا كفاراً، وهم في الدرك الأسفل من النار، وقد ادعوا الإسلام فلم تنفعهم الدعوى: والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياءُ وأدعى قوم الإيمان فأكذبهم الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] .
إذاً: قد يدعي الواحد منا أنه مؤمن، ومسلم، وداعية، وعالم، وكذا، وكذا، وعلى المنهج الصحيح، وعلى طريقة الأمة السابقة، وعلى طريقة السلف الصالح، وعلى طريقة العلماء، وعلى وعلى، والمهم في ذلك كله أن تكون هذه الأشياء يعززها الإنسان بالفعل، ويعززها بالتطبيق، ويعززها بالخلق وبالعلم، لأن هذا هو المعتبر، فإذا سمع الناس هذا الكلام، ووجدوا تطبيقا يقولوا: صدق.
وإنَّ أحسن قول أنت قائله قول يقال إذا أنشدته صَدق فأقول: إن أحسن دعوة أنت مدعيها، هي الدعوى التي إذا قلتها أشار الناس إليك بالأكف، وقالوا: صدقت صدقت، أما الدعوى المجردة، فلا تكفي، قال الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:123-124] المهم أن المسألة ليست بالأماني، ولا بالتمني، ولا بالتحلى، كما قال الحسن البصري رحمه الله: [[ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]] .
إذاً العبرة بالسلوك وبالعمل، والاسم وحده لا يكفي، وقد قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:18] وقال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] فهذه أحلام وتطلعات، ورغبات، لكن: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] فالبرهان هو العمل، والبرهان هو التطبيق.
فعلينا أن نكون عمليين فيما ندعو إليه، فندعو الناس بأفعالنا، ونزكي أنفسنا بالعبادة، وبالعلم، وبالعقيدة الصحيحة، وبالتقوى، ولا مانع بعد ذلك إذا لزم الأمر أن تزكيها بشيء من الكلام، ترى أن له حاجة.
أسأل الله تعالى أن يغفر لنا أجمعين، وأن يستر علينا، وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي يقربنا إليه، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً.(215/29)
ما ليس من المنهج
العنوان االسادس: ما ليس من المنهج: قد يبدو جلياً أن المنهج هو الخطوط العريضة، ويعني القواعد الكلية والأساسية، التي تندرج تحتها كل تفصيلات، ولهذا ينبغي أن يكون المنهج محل اتفاق، أو على الأقل أن يكون المنهج ثابتاً بنص شرعي أو إجماع، وأحياناً قد يدخل بعض الدعاة المجتهدين في المنهج أشياء لا تثبت في الشرع، ولا يمكن أن نقول بشرعيتها، فضلاً عن أن نقول بوجوبها.
فمثلاً: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا تجردت عن الأمر، فمثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام إذا فعل شيئاً، ولم يأمر به، فهل هذا الفعل المجرد من الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على الوجوب؟ أقول: لا يدل على الوجب، وقد يدل على الاستحباب، أو على الإباحة والجواز بحسب المقام، ونوع هذا الشيء، فقد يدل على الاستحباب، كما هو الحال في العبادات، وقد يدل على الجواز كما إذا كان فعلاً بعد الحظر، أو ما أشبه ذلك.
المهم أن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، فكوني أعد أن الأفعال المجردة منهجاً يجب اتباعه، واقتفاءه حرفاً بحرف، بالترتيب نفسه، والتسلسل نفسه، والتاريخ نفسه، فإن هذا فيه نظر، فبعض الناس مثلاً يقول: المرحلة الأولى الدعوة السرية، ثم الدعوة العلنية، ثم العرض على القبائل، ويسميه بعض الإخوان وبعض الدعاة المجتهدين، يسمونه طلب النصرة، يعني: طلب النصرة للدين، من أقوام غير مؤمنين، ثم الهجرة، ثم الجهاد، ثم يرتبون أشياء كثيرة.
نقول: شيء من ذلك قد حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو فرضنا أن قريشاً آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأسلمت الأمر لله، لم يكن حينئذٍ هناك حاجة إلى العرض على القبائل، لأن هذه القبيلة أسلمت، وتعهدت بحماية الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً هذا الأمر أمر دعى إليه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ظروف الدعوة ومتطلباتها وحاجاتها، فلا يمكن أن نقول: إنه نص يجب اتباعه، أو أنه مبدأ متسلسل في الدعوة؛ بل إن هذه الأشياء هي أفعال تدل إجمالاً على وجوب الدعوة، وعلى وجوب التبليغ إلى الأمم والقبائل كلها، أما اعتبار أن هذا التسلسل بهذا الترتيب، وأنه لا يجوز الإخلال به، ولا تقديم شيء على شيء، فهذا ليس بواجب، وليس بصحيح، ومن قال: إن هذا التسلسل نفسه تعبدي، بل إن كثيراً منه هو أمر اتفاقي، حتى خروج النبي صلى الله عليه وسلم في بدر، من المعروف أنهم لم يخرجوا للقتال، وإنما خرجوا للعير، وأراد الله تعالى أن يكون القتال {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] فكانوا يتمنون أن يدركوا العير ولا يحصل قتال، ولكن الله تعالى أراد غير ذلك.
إذاً لابد أن ندرك أن المنهج ينبغي أن يضبط بضوابط شرعية صحيحة، وأمور متفق عليها، أما اعتبار أن التسلسل التاريخي، حتى إن بعض الناس مثلاً يقول: نحن الآن في الفترة المكية، فلا نعمل شيئاً مما كان في الفترة المدنية، وهذا تجزئة للدين، وتبعيض له، وقول بوجود نسخ في الشرع، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(215/30)
وضع الشخص في إطاره الطبيعي
والمهم أن الانحراف وارد على الإنسان، خاصة مادام في حال الحياة، فأنت إذا اعتبرت الشخص منهجاً، قلت: لماذا قال كذا؟ ولماذا لم يتكلم بكذا؟ ولماذا فعل كذا؟ ولماذا بالغ في كذا؟ ولماذا نقص في كذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ لكنك لو وضعت هذا الشخص في وضعه الطبيعي، في وضعه الصحيح، من كونه واعظاً، أو فقيهاً، أو مفتياً، أو داعيةً، أو محللاً سياسياً، أو ما شئت، فلا تطالبه بأكثر من ذلك، اطلب منه الشيء الذي يحسنه، والذي يقدر عليه، والذي يجيده، ولا تطالبه بما لا يجيد، ولا تعتقد أنك تدعو إلى ما دعى إليه فلان، ففلان دعى إلى جانب، وأنت تحتاج إلى جوانب يكملها غيره.
فلا تقصر نفسك على هذا الإنسان، لا تقرأ إلا له، ولا تسمع إلا منه، ولا تتلمذ إلا على يديه! لا! خذ الحق ممن جاء به، وَنوِّع من المشارب، وخذ من أهل العلم كلهم، ومن الدعاة كلهم، واسمع واقرأ كل حق، وعسى الله تعالى أن ينفعك بما تقرأ وبما تسمع، المهم لا تعد أن الشخص منهجاً بحال من الأحوال، فإنك حينئذٍ تضر نفسك، وتضر هذا الإنسان، بل يجب أن تضعه في وضعه الصحيح، فإذا كان هذا الشخص نافعاً، فقل: هذه حالة إيجابية، ففلان جزاه الله خيراً، واعظ جيد، ولكنه غير فقيه، إذا كان وعظه منضبطاً بالضوابط الشرعية.
نقول: هذا الذي نريده، ونحتاجه، والقلوب اليوم قد قست، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فتحتاج هذا الإنسان، أن يرقق قلوب الناس، ولا نطالبه بأكثر مما يمكن، نقول: هذه حالة إيجابية، نثني عليها، ونؤيدها، ونزكيها، ونطلب من الناس أن يستمعوا إليه في الوعظ، ولكن الفتيا تؤخذ من غيره.
إذاً أنت إذا نظرت إلى هذا الإنسان على أنه حالة إيجابية وظاهرة طيبة، أثنيت على الخير، وانتقدت الأخطاء والملاحظات، والمنهج لا يؤخذ من هذا الإنسان، بل يؤخذ من الأمة بجملتها، فإن الأمة بجملتها تمثل المنهج، فالأمة معصومة، ولا يمكن أن تجتمع على ضلالة، كما جاء في الحديث وله شواهد، أن الأمة لا يمكن أن تجتمع أو تتفق على ضلالة، وهذا يغطي جانباً، وغيره يغطي جوانب أخرى، وإذا كان عند هذا خطأ فإن الآخرين يصححون هذا الخطأ.
إذاً فالعصمة للمنهج، للقرآن، للرسول عليه الصلاة والسلام، والرسل معصومون فيما يبلغون عن ربهم عز وجل، أما الأشخاص البشر، فلا عصمة لهم، ولا ينبغي أن يؤخذ المنهج من شخص أبداً، ولا أن تعدَّ طريقة فلان منهجاً يتبع أبداً.
وانظر في التاريخ تجد أن ابن الجوزي مثلاً، أين ستصنفه؟ هو بالدرجة الأولى واعظ، وخبير بشئون النفوس، وابن قدامة، لا بد أن تضعه في قائمة الفقهاء، ولكن حينما تنتقل إلى ابن الأثير، فتجد أنه مؤرخ، أما المزي فهو في الغالب محدث، لا يمنع أن هؤلاء لهم مشاركات في ألوان مختلفة من العلوم، كما ذكرت، فإن كل واحد منهم ما قصر نفسه على علم بعينه، لكنه اشتهر بعلم أكثر من غيره، وله مشاركات أخرى، وقد يوجد من جمع علوماً كثيرة، لكن لا يلزم من بروزه في علم، أن يبرز في كل علم، ولا يلزم من حديثه في مسألة أو أمر، أن يتحدث في كل أمر، وليس من شرط المعلم أو الداعية أن يكون معصوماً، وإلا لم يدعُ أحد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام.
وإننا يجب أن نفرق بين الشرع وبين العالم، وبين الفقيه أو الداعي، فالشرع رباني، نص من كتاب أو سنة، أما العالم والفقيه فهو إنسان بشر، بذل وسعه في معرفة الحق بالدليل.
وهو مع هذا عرضة للخطأ، وله أجران إن أصاب، وأجر واحد إن أخطأ، وفتواه اجتهاد، وقوله اجتهاد، وكلامه اجتهاد، وتحليله اجتهاد، فإذا كان يتحدث في قضية شرعية ليس فيها نص، نقول: هذا اجتهاد، وقد يخالف غيره من أهل العلم، فما بالك إذا كان يتحدث في نصيحة اجتماعية! وفي حل مشكلة بين الزوجين، هل نستطيع أن نقول: إن هذا الأمر لا بد منه؟ فقد يجتهد برأي ينصح به، ويكون الحق خلافه، بل ما بالك إذا كان يتحدث في مسألة اقتصادية؟ ما بالك إذا كان يتحدث في هذه المسألة؟ من الممكن جداً أن يخطئ، وما بالك إذا كان يتكلم في قضية سياسية؟ يحللها أو يدرس أبعادها، أليس مظنة الخطأ؟! والمختصون في هذا الأمر يخطئون، فغيرهم من باب أولى، وهو لا يجوز أن يكون مترجماً عن الله والرسول عليه الصلاة والسلام، ولا متكلماً بلسان الشرع، ولا معبراً عن المنهج، وإنما هو يمثل نفسه، ويعبر عن رأيه الشخصي.
ولذلك الكثيرون إذا وثقوا بشخص أصبحوا يتلقون كل ما يستمعون منه، مباشرة أو بواسطة، يتلقون بقدر كبير من التسليم، والانقياد، وعدم التأمل، وعدم الدراسة، وعدم التحري، وعدم التمحيص، وهذا خطأ؛ لأنه يختصر الأمة في أفراد، والأمة التي تختصر في أفراد، أمة إلى ضياع، وإلى بوار، وما دمر الأمة وقضى على إنجازاتها وامتيازاتها، إلا يوم لُخِّصَتْ في أفراد، سواء أكان ذلك في المجال العلمي، أم في المجال السياسي، أم في المجال الدعوي.
ففي المجال العلمي نجد أن رجلاً، أو رجالاً، يصبح الناس لا يقبلون إلا كلام فلان، ليس فقط في المسائل الخاصة، فهذا طبيعي، لكن حتى في المسائل العادية، فلو أراد إنسان -مثلاً- أن يسأل عن كفارة اليمين، أو عن مسائل معروفة، ثابتة بنص من كتاب أو سنة، ربما لا يسأل عنها عالماً معروفاً في بلده، أو فقيهاً، أو مفتياً، حتى يسأل غيره، مما ترتب عليه مشقة كبيرة، وعبء عظيم على بعض العلماء، وبعض المفتين، وبعض المشهورين، الذين نذروا أنفسهم لله تعالى في هذا السبيل.
وأما في المجال السياسي فالأمر معروف، فقد أصبحت الأمة راضية لنفسها بأن لا تفكر، ولا تنظر ولا تتأمل، ولا تدرس المصالح والمفاسد، ولا تستخدم عقلها، ولا سمعها لتسمع، ولا بصرها لتنظر، لأنه كما يتردد وينقل الجميع، أن الإنسان يستمتع برحلة ممتعة هادئة هانئة، وقد ترك الأمر لغيره، حتى دون أن يسأل أو يناقش، مع أن الله تعالى جعل الأمة كلها مسئولة، ولم يجعل المسئولية العلمية، ولا السياسية، ولا الدعوية، على شخص واحد، كذلك الحال بالنسبة للدعوة، فقد يجد بعض الناس، أو بعض الشباب شخصاً يعجب به! فيستمع إليه، ويتابعه، ويقرأ له، حتى ينطبع بشخصيته، ويعجب بآرائه كلها، فلا يصبح لديه قدرة على التمحيص، ولا على المراجعة، ولا على الرد، وهذا خطأ لأنه يختصر الأمة -كما ذكرت- في أفراده، والله تعالى يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] مع أن الرسول عليه السلام مؤيد بالوحي من السماء، فالمشاورة فيها تعزيز للعقول، وتنمية للمواهب، وجعل الجميع يشعرون بأن الأمر لهم، وهو شأنهم وقضيتهم، وهذه لكم أنتم، وليست لي، وإذا وقع خطأ ستتحملونه جميعاً، لن يتحمله العَالِم وحده، ولا الحاكم وحده، ولا الداعية وحده، بل سوف يتحمله الجميع، ولهذا واجب أن يشارك الجميع بالرأي وبالمشورة وبالنقد البناء الهادف، وبالدعاء، وبكل وسيلة ممكنة.
فإن أهل الشريعة علماء، أو دعاة، هم في الجملة أقدر من غيرهم على معرفة الصواب واتباعه في الجملة، لكن هذا لا يلزم منه صوابهم في كل مسألة، ولا يلزم أن يؤخذ قولهم في كل أمر، أو نظرهم على أنه صواب قطعي، بل هو اجتهاد، وهو محل نظر، ولذلك تجد أن اختياراتنا تتأثر أحياناً بطبائعنا، ببيئتنا، بنمط تفكيرنا، ولا تثريب علينا في ذلك، لأنه كما قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فالنص الشرعي محفوظ {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] لكن عمل الإنسان في الاستنباط والاستدلال، وتطبيق النص على المحل واستخراجه، هذا العمل اجتهاد من الإنسان، يتأثر بطبيعته، ببيئته، بأسلوب تفكيره، ولا تثريب عليه، إذا بذل وسعه في ذلك قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] .
وإن من الخطورة بمكان أيها الأحبة أن تتمحور الصحوة الإسلامية، حول أشخاص، أو أن تتمحور الأمة كلها على أشخاص، سواء أكان ذلك على الصعيد السياسي، أم على الصعيد العلمي، أم على الصعيد الدعوى، وقد محضتكم النصيحة بهذا الكلام.
وكم مرة اتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح(215/31)
التعلق بالأشخاص من أسباب الردة
إن من صور الردة التعلق بالأشخاص لا بالدين، ولا بالمنهج، ولهذا المرتدون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت شبهتهم أنهم يقولون: لا ندفع زكاتنا إلا لمن صلاته سكن لنا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فقالوا: مات الذي صلاته سكن لنا، فلا ندفع زكاتنا بعد ذلك لأحد، وقال قائلهم:- أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيالعباد الله ما لـ أبي بكر أيورثها بكراً إذ مات بعده وتلك لعمر الله قاصمة الظهر فقام عليهم الصحابة رضي الله عنهم وقاتلوهم أجمعين، وإنما كان من أسباب ردتهم تعلقهم بالأشخاص، والأشخاص يذهبون ويجيئون، وينبغي أن نراعي أمراً مهماً جداً، وهو أن المنهج معصوم، أما الأشخاص فغير معصومين، ولذلك إذا ارتبطنا بالمنهج ضَمِنَّا أن لا نقع في خطأ، لكن إذا ارتبطنا بأشخاص، فإن هؤلاء الأشخاص، ربما يتبين منهم أخطاء كثيرة.(215/32)
أخطاء يقع فيها الأشخاص
يتبين منهم ما يأتي: أولاً: النقص الجبلي الفطري الموجود في الإنسان، فإن الإنسان ضعيف بطبعه، مجبول على النقص بأصل تكوينه، وهذا الأمر لا ينفك عن الإنسان بحال، فهو عاجز عن أن يشتمل على أمور الخير كلها، ومن هو من الناس القادر على أن يقوم بكل الواجبات؟! وكل الفروض، حتى فروض الكفايات، وكل السنن، وكل المستحبات، لا أحد يقدر على ذلك كله.
ثانياً: الخطأ، وكما قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث الترمذي: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} حتى أبو بكر رضي الله عنه قال في حديث الرؤيا: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! دعني أعبر هذه الرؤيا، فعبرها أبو بكر، فقال: والله يا رسول الله! لتخبرني أصبت أم أخطأت؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أبا بكر أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً} والحديث صحيح.
إذاً الخطأ من شيمة الإنسان ومن طبعه، وإن كان قليلاً عند السابقين، فما بالك بأهل هذا الزمن، إنهم معدن الخطأ ومظنته، وليس عجيباً أن يخطئوا بل العجيب أن لا يخطئوا، إلا من عصم الله عز وجل، فنسأل الله أن يعصمنا من الخطأ والزلل، إنه على كل شيء قدير.
وقد أخطأ عمر، ففي الأثر المشهور أنه وقف على المنبر وتكلم، فردت عليه امرأة، وهذا الأثر احتج به ابن تيمية رحمه الله تعالى، وصححه السيوطي، وغير واحد من أهل العلم، وليس مشكلاً أن يصح أولا يصح، فالمهم أن عمر قام على المنبر يتكلم في تحديد الصداق، والنهي عنه، فقامت امرأة فردت عليه فقال عمر: -يخاطب نفسه-[[أخطأ عمر وأصابت امرأة]] الحق يؤخذ ممن جاء به، والحق لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، إذاً يجب أن ندرك أن الخطأ من شيمة الإنسان.
ثالثاً: الذي يتعرض له الإنسان -أيضاً- هو: الانحراف، فقد يضل والعياذ بالله بعد الهدى، ولهذا استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم، من الحَوْر بعد الكَوْر، يعني الضلال بعد الهدى {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:92] وكان عليه الصلاة والسلام يكثر أن يقول: {يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك} ونعرف أن ممن أسلموا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبايعوه، من ارتدوا عن دينهم، كـ عبيد الله بن جحش، الذي ارتد وتنصر في الحبشة، ومات هناك نصرانياً، وكـ الرَّجال بن عنفوة، الذي أسلم ثم ارتد في اليمامة، وكان من وزراء مسيلمة الكذاب، وقد جاء في الحديث: {أن ضرسه في النار أعظم من جبل أُحد} وهناك من ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام مرة أخرى، كما هو معروف.(215/33)
الأسئلة(215/34)
لا تعارض بين الجهاد وطلب العلم
السؤال يقول: هناك نوعان من الشباب في حينا، وهم من الشباب الملتزمين، شباب يدعو إلى طلب العلم، ويرفض الجهاد في هذه الفترة، وشباب يدعو إلى الجهاد، وهذان دائماً في نقاش حاد، وكل منهما يحمل في قلبه حقداً على الآخر فأفيدونا؟
الجواب
الجهاد لا خلاف عليه، وطلب العلم -أيضاً- لا خلاف عليه، بل كلاهما من شرائع الدين المتفق على شرعيتها، وعلى وجوبها، أما الحقد فقد أجمع أهل العلم على أنه حرام، وأنه لا يجوز أن يحمل المسلم في قلبه حقداً، ولعل من العجيب أننا قد نختلف أحياناً بين أمرين، كلاهما فاضل، لكن أحدهما أفضل من الآخر، لكننا اتفقنا على أمر محرم بالإجماع، وهو أن الواحد يحمل في قلبه على الآخر شيئاً، كالبغضاء في القلوب، والتنافر والكراهية هذه محرمة بإجماع المسلمين، بل هي من أمراض القلوب، التي إذا دخلتها فتكت فيها، فعليهم أن يسعوا إلى إصلاح قلوبهم، ويتعبدوا الله تعالى بنزاهة القلب، وألاَّ يحملوا في قلوبهم على مسلم حقداً، ولا ضغينةً، ولا كراهيةً، ولا بغضاء، وإذا اختلفوا فليتناقشوا بالحكمة والهدوء، والأسلوب الحسن، وإذا لم يصلوا إلى نتيجة، فلا مانع أن يراجعوا من يعتقدون أنه أفضل وأعلم منهم، وأبعد نظراً، وهم لابد واصلون إلى الحق، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] .(215/35)
الانتصار للمناهج الخاصة
السؤال
حيث إنه تعددت المناهج والطرق في زماننا هذا، وكل واحد يدَّعي الصحة لمنهجه هو، ويخطئ الآخر، ويزعم أنهم مجانبون للصحة، مبتدعون في الدين، فهلاَّ توحد المنهج في تبليغ الدعوة كي يؤتي ثماره؟
الجواب
هنا ذكرتني بقضية، وهي أننا انشغلنا وانهمكنا بنصرة المناهج الخاصة، عن نصرة الشريعة والدين، كلنا متفقون على وجود ألوان من المحرمات، والمنكرات، والكبائر، بل والبدع الغليظة العظيمة في بلاد الإٍسلام، وأحياناً تصل إلى حد والعياذ بالله مناقضة الدين، كلنا متفقون على ذلك، لكننا لم نشتغل بحرب هذه الأشياء، لماذا؟! لأننا مشغولون بحرب بعضنا بعضاً، وكل امرئ منا مشغول بالانتصار للمنهج الخاص، وطريقته الخاصة، وجماعته الخاصة، وفئته الخاصة، واجتهاداته الشخصية، وهذا من أعظم الخطأ، بل ينبغي أن يكون الانتصار لدين الله تعالى، وكتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.(215/36)
آخر أخبار البوسنة
السؤال
ما آخر أخبار المسلمين في البوسنة؟
الجواب
من آخر الأخبار أن الله تعالى كتب للإخوة المسلمين هناك نصراً عظيماً، في مناطق الشرق، وقد اتصل بي أحد الإخوة الذين ابتعثناهم إلى هناك، قبل أربعة أيام أو خمسة، وبشرني أن الكروات يركبون الشاحنات بالعشرات، بل بالمئات، هاربين من وجه الزحف الإسلامي، وأن فئات منهم يعبرون نهر أدرينا إلى الضواحي في الجانب الآخر من النهر.
وهناك أيضاً بشارة أخرى، وهي أن الله تعالى، قد أوقع بين الكروات والصرب، أوقع بينهم بأساً شديداً، فبينهم الآن حروب طاحنة، ومعارك شرسة، ونسأل الله تعالى أن يزيد مابينهم، وأن يُدقَّ ما بينهم عطر منشم، وأن ينصر المسلمين نصراً مؤزراً، إنه على كل شيء قدير.
الخاتمة: اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، يا حي يا قيوم!! والحمد لله رب العالمين.(215/37)
حديث إلى مغترب
المغتربون في الغرب وغيره من بلاد الكفار كثير وبعضهم مع زوجته وأولاده، وهذا الدرس عصارة فوائد وحلول لمشاكل يعاني منها المغترب المسلم والمغتربة المسلمة، وقد خبر الشيخ هذه المشاكل واستقرأ حلولها من الكتاب والسنة والتجربة، وقد بث هذه الحلول في هذا الدرس النافع الذي ينبغي أن يستفيد منه كل مسلم: فالمغترب لعلاج مشاكله، وغير المغترب للنظر في أحوال المسلمين وكيفية وضع الحلول لها.(216/1)
الغربة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، إخوتي وأخواتي في الله قبل أن ننتقل إلى فضيلة الشيخ سلمان العودة، هناك بعض التعليمات والإعلانات الهامة أرجو من أحبتي في جميع المراكز كتابتها: أولاً: هناك إشراف إلكتروني على هذا المؤتمر الهاتفي كل عشر دقائق من قبل موظف السنترال، ولكن إذا فقد الاتصال بأي مركز؛ فيمكنه الرجوع للشبكة عن طريق الاتصال بموظف السنترال على الرقم التالي [] .
ثانياً: سوف يكون لنا مؤتمر هاتفي مع أحد علماء أو مفكري هذه الأمة كل يوم سبت من شهر رمضان إن شاء الله.
ثالثاً: حفاظاً على أوقات إخوانكم في مركز الدعوة الإسلامية هنا؛ فإنه لم يتم الاتصال بالمراكز أو الأماكن لدعوتهم في المشاركة في اللقاءات القادمة؛ حيث إن الدعوة وصلتكم الآن للاشتراك إلى نهاية شهر رمضان فعلى الراغبين في المشاركة في المؤتمرات القادمة أن يبعثوا رقم الاشتراك المخفض وهو ثلاثون دولاراً أمريكياً لكل مؤتمر على العنوان التالي: إسلامك دعوة [ISL
الجواب
MICD
الجواب
W
الجواب
] .
رابعاً: بناءً على طلب فضيلة الشيخ حفظه الله وهو ألا تسجل هذه المحاضرة؛ ما لم يكن التسجيل واضحاً نرجو من جميع الإخوة والأخوات الامتناع عن التسجيل في جميع الأماكن علماً بأن هناك مختصين في مركز الدعوة ودار مكة سوف يقومون بالتسجيل الواضح، والإخراج المنظم، وعلى الراغبين في الحصول على هذه المحاضرة مراسلة مركز الدعوة أو دار مكة.
خامساً: يسر مركز الدعوة أن يعلن للإخوة والأخوات عن مفاجأة سارة عن ضيفنا يوم السبت القادم إن شاء الله وفي الموعد نفسه، وهو واحد من أكبر علماء هذه الأمة فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أطال الله عمره، ونفعنا بعلمه، هذا الضيف يشاركنا هذه الليلة في الاستماع إلى هذا المؤتمر الهاتفي من الأردن بناءً على طلبه نرجو الله أن يرزقه الصحة والعافية ولجميع المسلمين إنه سميع مجيب.
سادساً: بناءً على طلب فضيلة الشيخ محمد الألباني حفظه الله ولأسباب صحية إن المؤتمر القادم سوف يقتصر على الأسئلة الفقهية فقط التي تهم المسلمين أرجو إرسال أسئلتكم ابتداء من هذه الليلة على العنوان السابق أو رقم الفاكس التالي [210000902] الآن يسعدنا أن ننتقل إلى فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة.
السلام عليكم يا شيخنا.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
شيخنا حفظكم الله إخوانكم المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا في أكثر من ثمانين مركزاً يقرئونكم السلام ويباركون لكم هذا الشهر، سائلين الله أن يتقبل منا ومنكم ومن سائر المسلمين صيامه وقيامه.
أحبتي في الله من منا لا يعيش الغربة في هذه البلاد، فبعضنا يعيش غربة الأهل، والبعض يعيش غربة الوطن، ولكنا جميعاً نعيش غربة الدين وإنها لغربة، لذا فإن مركز الدعوة الإسلامية في مدينة شامبين وبالتعاون مع المركز الإسلامي في مدينة إروان يقدمون سلسلة من اللقاءات الهاتفية مع بعض علماء ومفكري هذه الأمة.
في الأسبوع الماضي كان لنا لقاء مع فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين حفظه الله، وموعدنا الليلة مع فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة بعنوان: "حديث إلى مغترب" فتفضل يا شيخنا حفظك الله ونفعنا بعلمك.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وسلم تسليماً كثيراً، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد أيها الإخوة والأخوات، يسعدني كثيراً أن أتحدث إليكم في هذه اللحظات المباركة- إن شاء الله تعالى- وفي صباح هذا اليوم الأحد الرابع عشر من رمضان، وإنه ليسعدني أن أتحدث إليكم أيما سعادة، ولا يفوتني أبداً أن أشكر أولئك الإخوة الذين سهروا في تنظيم هذا اللقاء وترتيبه، إنها فكرة رائدة جميلة أن يتم تنظيم مؤتمر هاتفي يستمع فيه إخوة وأخوات في ولايات شتى إلى حديثٍ ما، وإنه ليسعدني أكثر وأكثر أن أسمع الآن من أخي المقدم أن فضيلة الشيخ الوالد/ محمد ناصر الدين الألباني هو أيضاً يستمع إلى هذا الحديث، فإنني بقدر ما أشعر بغبطةٍ؛ فإني أشعر بأن حديث مثلي في هذا الموقع نوع من الفضول، ولكن هي بلوى أسأل الله تعالى أن يعينني عليها.
أيها الإخوة إن الأحق بمثل هذا الحديث هو فضيلة الشيخ وأمثاله من العلماء الذين شابوا في العلم والتعليم والعمل والدعوة إلى الله تعالى- أسأل الله تعالى أن يبارك في أعمالهم وأعمارهم وأن ينفعنا جميعاً بعلومهم.
أيها الأحبة هذا اللقاء يتم في هذا الشهر الكريم، وفي مثل ذلك الجو الإيماني القوي عقب أداء فريضة من فرائض الله تعالى وعقب قيام ليلة من ليالي هذا الشهر، فهي فرصة لا تعوض، ومهما يطل الوقت فهو قصير، ولهذا فإنني أستأذنكم في الدخول إلى الموضوع وقد قسمت الموضوع إلى ثلاثة أجزاء أو ثلاث نقاط:(216/2)
أنواع الغربة
ماذا نعني بالمغترب؟ إن الغربة قد تطلق أحياناً على نزوح الإنسان عن وطنه واغترابه عن أهله؛ فيقال: رجل غريب، أي: بعيد عن وطنه كما قال الشاعر: وإني والعبسي في أرض مذحج غريبان شتى الدار مختلفان وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مذحج الغربان والغريب عن وطنه عادةً تكون أموره مبنية على التوقيت وعدم التعلق بالأشياء؛ لأنه يؤمل الرجوع يوماً بعد يوم، ولهذا لما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يوصي ابن عمر رضي الله عنه بالتخفف من الدنيا والتقلل منها، قال له كما في صحيح البخاري: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} إذاً هذه الغربة الحسية غربة الإنسان عن وطنه وعن أهله وعن أسرته.
المعنى الثاني: أنها تطلق على الغربة المعنوية، وهي غربة الدين كما في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن ابن عمر: {إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها} ومثله أيضاً ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} هذه الغربة هي غربة الدين وغربة الطريق.(216/3)
صور غربة الدين
الغربة المعنوية لها أكثر من صورة:(216/4)
غربة المسلم بين الكفار
غربة المسلمين بين الكافرين من أهل الملل الأخرى كاليهود والنصارى والوثنيين والمنافقين ونحوهم، فهذه غربة، والمسلمون مهما يكثروا فهم قليل كما قال الله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض} فهم قليل من كثير.
إذاً: هذه حقيقة شرعية قدرية أن المؤمنين بالنسبة إلى الكفار قليل، وهذا ما نلاحظه في الإحصائيات، فإن الإحصائيات تقول: إن عدد المسلمين يشكلون خُمُس سكان الكرة الأرضية، مع أن هذه الإحصائية يدخل فيها المسلمون الجغرافيون- كما يقال- ومنهم من لا صلة لهم بالإسلام قط إلا بالاسم، أو بشهادة الميلاد، أو بالبلد الذي ينتمون إليه، بل ومنهم من هم حرب على الإسلام، سواءً من أهل المذاهب الضالة، والأحزاب الكافرة، والبدع الظاهرة أم غير هؤلاء، وهذه الحقيقة، حقيقة أن المسلمين في الجملة غرباء بين أهل الأرض يجب أن نفهمها بتوازن واعتدال، والذين يطمعون بتطهير الدنيا كلها من الكفر والشرك مخطئون، بل لا يزال الصراع قائم بين التوحيد والشرك حتى يلتقي المسيح ابن مريم عليه السلام مع المسيح الدجال ويقتله بباب لد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس يتصورون الآن أننا بالدبلوماسية الهادئة -كما يقال- وبالطرق السياسية المرنة؛ نستطيع أن نوصل الإسلام إلى العالم، وهذه في نظري أشبه بأحلام النائمين، إن بعض الإخوة خاصة من أولئك الذين عاشوا طويلاً في بلاد الغرب قد يواجهون أحياناً نوعيات، وأفراداً من الناس أو حتى جمعيات لا تحمل حقداً ظاهراً مكشوفاً على الإسلام، أو قد يقال عنها: إنها تقف في مناصرة بعض القضايا الإسلامية والعربية كما يعبرون في قضية فلسطين مثلاً أو قضية البوسنة والهرسك أو ما سواهما.
وهذا ليس بالأمر الغريب، ففي الجاهلية الأولى كان يوجد أمثال عبد الله بن أريقط، وكان يوم الهجرة مشركاً، ومع ذلك استأجره النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يصحبهم في طريق الهجرة، حيث كان مأموناً من جهة، ومن جهة أخرى كان هادياً دليلاً بصيراً بالطريق، وفي مثل هؤلاء يقول الله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] ؛ لكن كم عدد هؤلاء الذين لا يحملون حقداً ظاهراً منصوباً صارخاً على الإسلام والمسلمين؟ إنهم لا يشكلون ظاهرة ملفتة للنظر في أوساط الأمم الكافرة، وواجب الدعوة لهؤلاء ولغيرهم دعوتهم إلى الله تعالى قائم؛ مع البراءة من شركهم وكفرهم وعدم إقرارهم على ذلك.
لكن يجب أن نعلم ونتعلم من الحديث السابق نفسه وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً وهو يأرزُ بين المسجدين} - أي مسجد مكة والمدينة، فيجب أن نفهم من ذلك أنه حين أسلم المسلمون من تلك البلاد الغربية، ومهما يوجد تعاطف مع الإسلام من بعض الأفراد أو بعض الجمعيات؛ فإن تلك البلاد تظل في جملتها، وجمهورها، وقياداتها السياسية والعلمية والإعلامية تظل خصماً لدوداً للإسلام والمسلمين، والإسلام يعرف ويعود وينتظم، ويحن إلى البلاد التي خرج منها أول مرة، فهي بلاد الإسلام التي سيعود إليها كما بدأ منها، وأهلها هم حملة الإسلام وحماته في الجملة.
إذاً يجب أن نعرف أن مثل هذه الظواهر، كوجود تعاطف مع الإسلام من بعض الأفراد، أو من بعض الجماعات تعاطفاً ظاهرياً لفظياً، أو حتى تعاطفاً حقيقياً إن هذا لا يعني أننا نستطيع أن نحول هذه البلاد إلى بلاد إسلامية أو نوصل الإسلام إلى جميع أفرادها، مع أن هذا لا يعني أبداً تقليل الجهود التي يجب أن نقوم بها في دعوتهم إلى الله عز وجل كما أن أولئك الذين يتخذون من هذه الحقيقة أعني: (حقيقة قلة المسلمين بالنسبة إلى الكفار) الذين يتخذون منها تكئةً للقعود عن دعوة غير المسلمين، وعدم بذل الجهد في دعوتهم هم أيضاً مخطئون، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا بقلة المسلمين بالقياس إلى الكفار لم يمنعه ذلك ولا أصحابه من بذل الجهد في دعوتهم، واستفراغ الوسع في ذلك حتى هدى الله تعالى على أيديهم من شاء هدايته.
وها نحن أيها الإخوة والأخوات، نراكم اليوم في هذا العالم الكافر، فما هو المطلوب منكم؟ إنه ليس مطلوباً أن تنقلوا لهؤلاء -كما تعبر بعض الجهات- التراث الشعبي والعادات الاجتماعية الموروثة، كلا، ولا أن تصدروا الآراء الخاصة والاتجاهات المحددة، ولكن أن تقدموا لهم دين الله تعالى، وهذا الوقت الذي تطورت فيه وسائل الاتصال وأصبح الإنسان كما يقال: يعطس هنا فتشمتونه أنتم على بعد آلاف الأميال، ويتحدث فتسمعونه، إن الغرب ما يزال لا يعرف عن الإسلام اليوم إلا أنه دين السيف، والرق، وتعدد الزوجات، ثلاث قضايا يشهرونها في وجه كل مسلم وكل داعية إلى الإسلام، أنه دين السيف، ودين الرق، ودين تعدد الزوجات.
ونقول نحن المسلمين: نعم.
نؤمن أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بالسيف، كما قال عليه الصلاة والسلام: بعثت بالسيف بين يدي الساعة} والحديث عند أحمد وأبي داود من حديث ابن عمر وسنده جيد، وهذا يعني الجهاد في سبيل الله، وأعتقد أننا لسنا بحاجة إلى كبير جهد الآن لإقناع الغربيين بذلك، في ظل هيمنة النظام الغربي على عدد من الدول العربية والإسلامية، وغيرها عن طريق التدخل العسكري المباشر لحماية مصالحه الاقتصادية، أو تحقيق مصالحه السياسية، أو ضمان مستقبله كما يخطط ويرتب، وفي ظل تجاهل الدول كلها لصرخات المسلمين المستضعفين في البوسنة والهرسك ما بين نساء مغتصبات يزيد عددهن على مائة وعشرين ألف امرأة مسلمة، وما بين أطفال أبرياء يزيد عدد النازحين منهم على خمسة وعشرين ألف طفل، وما بين شيوخ عاجزين، بل والعالم كله يشارك في الجريمة من خلال منع المسلمين من الحصول على السلاح للدفاع عن أنفسهم على حين يصل السلاح إلى عدوهم الصرب من إيطاليا ورومانيا وروسيا وغيرها، بل ويقاتل إلى جانب الصرب أكثر من عشرة آلاف شاب روسي كما ذكرت وكالات الأنباء.
إذاً: لماذا يستكثرون على المسلمين ما يفعلونه هم أنفسهم في الدفاع عن أنفسهم وعن مصالحهم؟ هذا مع الفارق الكبير! فالجهاد الإسلامي ليس جهاداً لصالح عرق من الأعراق، أو شعب من الشعوب، أو لفرض هيمنة جهة بعينها، بل هو جهاد لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ونصر دين الله عز وجل كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} .
إذاً، لسنا في حاجة إلى كبير جهد لإقناعهم عن قضية الجهاد في الإسلام في مثل هذا الحال، ومثل ذلك موضوع الرق مثلاً، فهو إحدى ثمرات الإصرار على الكفر ومواجهته الإسلام بالقوة.
وأيضاً موضوع تعدد الزوجات هو شريعة إلهية ثابتة بنص قرآني، ولن نستحي من ذلك أبداً، ولن نلف أو ندور أو نجامل في تقريرها، والله تعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ثم هو من موجب الوضوح والنزاهة والنظافة في دين الإسلام، ولا بديل عن ذلك بالفوضى الجنسية التي يعيشها الغرب.
أيها الأحبة: إننا لم نقدم لهم إسلاماً مطوراً يتلاءم مع أذواقهم ومع أمزجتهم، بل هذا الإسلام -إن صحت تسميته إسلاماً- لا يثيرهم ولا يحتوي على عنصر الجاذبية الكافية التي تغريهم وتشدهم إلى دراسته والقناعة به، لا، سوف نقدم لهم الإسلام الصحيح كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكما جاء في القرآن الكريم، وكما جاء على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام في صحيح الأحاديث، وكما فهمه ووثقه السلف الصالح رضي الله عنهم، وعلى رأسهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم الفيصل في تحديد المعنى الصحيح في النصوص الشرعية.
إن هذه إحدى مسئوليات المغترب أنه ينقل الإسلام بكلماته وبعباراته وبدعوته وبشعاراته، وقبل ذلك وبعده بسلوكه العملي والخلقي، وعبادته واعتزازه بالدين وثقته بما عنده من الحق، إذاً الصورة الأولى من صور الغربة التي يعيشها المسلمون هي: غربة المسلم بين الكفار.(216/5)
غربة المسلم المستقيم بين المسلمين
أما الصورة الثانية فهي أخف منها، وهي: غربة المسلم المستقيم المتبع للسنة بين المسلمين أنفسهم، وهي غربة المسلم الملتزم بالطريق النبوي الصحيح في وسط عالم من المسلمين شرقاً أو غرباً، وهي غربة المسلم الملتزم السماوي وسط عالم من اللاهثين وراء أقوال الرجال وآرائهم، قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] وهي غربة المسلم الملتزم بالفهم السلفي وسط عالم من المفاهيم المنحرفة التي تحاول التوفيق بين الإسلام وبين تراث البشر، سواء أكان تراثاً يونانياً أم رومانياً أم عربياً أم شيئاً آخر، قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62] وإن غربة هؤلاء المسلمين العاملين الملتزمين بالسنة قولاً وعملاً، غربتهم قد تكون في كثير من الأحوال أشد من غربة المسلمين بين أهل الملل الأخرى، وكلما ما زاد تمسك المسلم الغريب بالسنة زادت غربته، وقل مشاكلوه وكثر مخالفوه، فهو مسافر في طريق طويل كلما قطع فيه مرحلة سقط بعض من حوله، والمسلم لا يعجب أن يحاربه الكفار، بل العجب إن لم يفعلوا! ولكنه يعجب أشد العجب أن يكون إخوانه في الدين أحياناً هم الذين يفعلون ذلك! وهذا هو الجرح الذي لا يندمل! وقديماً قيل: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهنَّدِ ولهذا قال أبو بكر بن عياش رحمه الله تعالى: [[السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان]] .
وهذا أيضاً يضاعف المسئولية عليكم أنتم أيها الشباب، على المسلم المهتدي الموفق الملتزم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة السلف رضي الله عنهم في مسئوليتهم في دعوة المسلمين إلى تحقيق الإسلام، والعمل على تصفية فهمهم للإسلام عقيدةً وأحكاماً، عباداتٍ وأخلاقاً ومعاملاتٍ، إضافة إلى مسئوليته الثابتة والأصلية في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام لئلا تجتالهم البدع والأهواء، ولذلك قال بعض الأئمة: [[إن من رحمة الله تعالى بالأعجمي إذا استقام أن يوفق لصاحب سنة]] .
إن الإنسان إذاً دخل في الإسلام وصورة الإسلام في ذهنه مشوهة أو منحرفة أو مشوبة بضلال أو بدعة أو فساد فإن من الصعب جداً تعديله بعد ذلك، وكما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا(216/6)
الجزء الثاني من الموضوع: نصائح للمغترب(216/7)
تحقيق الأخوة الإسلامية بين كل الجنسيات
الوصية الرابعة: هذه البلاد التي تقيمون فيها تستقبل مسلمين من كل الجنسيات ومن كل الدول، إنها فرصة لتحقيق معنى الأخوة الإسلامية، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] .
أحبتي الكرام: إن من السهل علينا أن نتحدث نظرياً عن الأخوة، وأن يحول هذا الحديث إلى أناشيد نترنم بها أحياناً أو كلمات نجريها على ألسنتنا، لكن المحك الحقيقي والعملي يبرز خلالاً عظيمة جداً في حقوق الأخوة فيما بيننا.
نعم، إن مناصرة قضايا المسلمين في كل مكان وتأييد المسلمين في حال القوة أو في حال الضعف دليل من دلائل الأخوة، فأما تأييد المسلمين في حال القوة والنجاح فهو منطلق من منطق حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي يقول: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه} فهذا حال القوة، حال البناء الذي يشد بعضه بعضاً، ويقف بعضه إلى جانب بعض، فهكذا المسلمون في حال القوة، فكل الأعمال، وألوان البذل، والعلم، والدعوة، والإصلاح والجهاد التي تقع في أي رقعة من بلاد الإسلام، بل من بلاد العالم يجب أن نكون أنصاراً لها قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] .
ومثل ذلك أيضاً الوقوف بجانب المسلمين المضطهدين في كل مكان في حال الضعف، من منطلق الحديث الآخر {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} إن حالة الضعف تحتاج إلى ود ورحمة وعطف ومساعدة، وتحتاج إلى اليد الحانية التي تعين هذا الضعيف.
إن المسلمين اليوم يعانون في معظم ديارهم ألواناً من التسلط والإذلال في فلسطين مثلاً وفي العراق والمغرب وتونس والجزائر وفي البوسنة والهرسك وفي كشمير والفلبين وفي جمهوريات آسيا الوسطى وطاجكستان والصومال، وفي بلاد كثيرة.
والغرب مع الأسف الشديد يقف أحياناً إعلامياً ومظهرياً مع هؤلاء المضطهدين، وأحياناً يتدخل في بلاد عدة لمصالحه السياسية والاقتصادية باسم الإنسانية، وباسم الإغاثة، وباسم الدعم، بل يتدخل بغرض التنصير وتحويل المسلمين عن دينهم.
ولهذا وجدنا من المسلمين من بدأ يفقد الثقة في إخوانه، ويعيد النظر في العدواة مع الغرب وعداوة النصارى، ولا بأس أن أذكر لكم مثلاً: بلد من البلاد الإسلامية كان أهله يتمتعون بقوة في البراءة من المشركين؛ حتى إن بعضهم يقولون في البوادي والمناطق النائية: (نسأل الله أن يميتنا قبل أن نرى بأعيننا وجه كافر) ويقولون: (إذا شرب الكافر من إناء؛ فلا بد أن نغسله سبع مرات كما يغسل من شرب الكلب) هكذا بلغت بهم الحساسية واليقظة ضد الكفار، مع أن هذا الأمر ليس له أصل في الشرع، مسألة غسل الإناء من شربهم، ولكن المقصود أن أضرب مثلاً فحسب، وهؤلاء المسلمون قام خطيب في بلادهم بعدما تدخل العدو الكافر باسم الإنسانية وباسم الحماية، وباسم الإغاثة، فتغيرت الصورة عند كثير من المسلمين، قام الخطيب في بلد منكوب وفي منبر الجمعة ليقول للناس: (إن النصرانية دين رحيم ودين متسامح، وهو دين قديم ودين سماوي يجب أن نعترف به، وأن نحب أهله وألا نبغضهم، وألا نحمل لهم العداوة، بل وأن نعطي الفرصة لكل من أراد أن يدخل في دينهم فمن حقه أن يختار هذا الدين الرحيم) .
انظر كيف فعل التدخل الغربي فعله في عقول بعض المنتسبين إلى الإسلام وغيَّر مفاهيمهم، بل أخرجهم من دينهم بهذه النظرات التي ألغت شعورهم بأن الإسلام هو الدين الوحيد الحق، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] إنها ردة تطل برأسها في عدد من بلاد المسلمين، يقف وراءها أولئك الذئاب الذين جاءوا يلبسون مسوح الضأن باسم الإنسانية والإغاثة، ويقف وراءهم أيضاً أولئك المسلمون الذين أسلموا إخوانهم لأعدائهم وتخلوا عن مناصرة قضاياهم.
أحبتي: إن هذا يوجب علينا أن نتولى مناصرة قضايا المسلمين، ولو من الناحية الإعلامية، وأنتم تملكونها هنا أكثر من غيركم، لقد أعطوا لكم فرص الاتصال، والإعلام، والأعمال الإعلامية، وفرص الحرية المتاحة لكم بما لا يوجد في بلادٍ كثيرة، فأين الأصوات المدافعة عن حوزات الإسلام؟ بل المطلوب منكم أكثر من ذلك، المطلوب منكم: المؤسسات الإغاثية، والإنسانية، والتعليمية، والدعوية، ودور الأيتام، وإيواء اللاجئين، وغير ذلك مما تطيقونه أنتم وتستطيعون أن تعملوه لحماية المسلمين من الردة والخروج من الدين، ومثل ذلك أيضاً جهود جمع التبرعات لصالح المسلمين.
إنها واجبات علينا جميعاً، وهي أسلم طريق لحماية المسلمين من الكفر والردة، كما أنها أسلم طريق لحمايتهم من الأفكار المنحرفة والعقائد الضالة التي تستغل هي الأخرى ظروف المسلمين الصعبة فتأتيهم في مثل هذا الموضع.
أيها الإخوة الكرام: أنتم تعلمون تعاليم نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لقد أخبرنا في الحديث الصحيح المتفق عليه: {أن امرأة دخلت الجنة في كلب سقته، فشكر الله لها، فغفر الله لها، فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال عليه الصلاة والسلام: في كل كبد رطبة أجرٌ} فما بالك بآلاف بل ملايين من المسلمين.
فما داموا داخل دائرة الإسلام، فلهم علينا واجب المساعدة والإعانة والنصرة، ويجب أن نعلم أن أول معنى من معاني النصرة هو: تصحيح دينهم، وتصحيح مفاهيمهم، وتصوراتهم، وعقائدهم، وعباداتهم، وأخلاقياتهم، لتكون هي الإسلام الحق، وليس إسلاماً موروثاً فيه كثير من التغيير والانحراف والتبديل، فهذا أول ما هو مطلوب لنصرتهم، وهو جزء كبير من هذه النصرة ويبدأ ذلك بإيوائهم وتعليمهم ومساعدتهم وعلاجهم وإطعامهم إلى غير ذلك، هذا نموذج فيما تحدثت عنه في قضية تحقيق الأخوة الإسلامية عملياً وعدم الاقتصار على إدارة الحديث عنها من الناحية النظرية فحسب.
النموذج الثاني: إننا نجد أن من ثمار التدخل الغربي في بلاد المسلمين سواء في الصومال، أم فيالخليج وفي بلادٍ كثيرة؛ أن من ثمار التدخل الغربي أن العداوة تحولت فيما بين المسلمين، وأصبح كثير منهم ينظر إلى الآخر بريبة وشك، بينما ينظر إلى عدوه الكافر المعلن الصريح بقدرٍ كبير من الاحترام، إنه يؤسفني جداً أن أقول إن عدداً من الناس، لا أقول من العامة، بل من الدعاة، بل من خواص الدعاة -أحياناً - أنه يقول: إن العداوة للغرب هي أمور ورثناها من أدبيات العقود السابقة -سبحان الله! - أين نصوص القرآن الكريم الصريحة في عداوة الكفار وحربهم وبغضهم للمسلمين؟! قال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] وقال: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] وقال: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8] .
وبالمقابل أصبحنا نشهر السهام ضد بعضنا، وتحولت العداوة -خاصةً بعد حرب الخليج الثانية كما تسمى- تحولت إلى عداوة بين المسلمين المنتمين إلى بلاد مختلفة.
إن هذا القرار أو تلك القرارات لم تكن قرارات الشعوب، ولم يكن للشعب فيها رأي أصلاً ولا مشورة، إلا أن الآثار العميقة محفورة في ذاكرة الناس، ولا تزال ترسبات ما جرى في السابق تعمل عملها في المسلمين خاصة حسبما اطلعت ورأيت من خلال زياراتٍ عدة في بلاد الغرب، ففي ظل التوجيه الإعلامي الذي يستثمر تلك الحادثة نجد أن كثيراً من المسلمين أصبحوا ينظرون إلى الفئة الأخرى نظرة ريبة، فأهل الخليج -مثلاً- والعراق وفلسطين والشام والمغرب أصبح هناك في النفوس أشياء وأشياء وحزازات، مع الأسف الشديد.
أيها الأحبة: كيف تفعل مثل هذه الأشياء فعلها في نفوسنا؟! أين معاني الأخوة الدينية؟! أين معاني الأخوة الإيمانية؟! أين نصوص القرآن الكريم التي تؤكد على أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض وهم إخوة فيما بينهم من دون الناس؟! وأن العقيدة يجب أن توحدنا وتجمع شملنا، لماذا ضعف هذا التأثير وقوي تأثير حادثة معينة في ظروف معينة بغض النظر عن تفاصيل الأمور وعن تحديد نسبة الخطأ ونسبة الصواب؟! لكن، لماذا لا نجعل روابط الأخوة الدينية الإيمانية أقوى من مثل هذه العوامل المؤقتة؟! ولماذا لا ندرك أننا في أمس الحاجة إلى أن نقترب من بعضنا، ونتناصح فيما بيننا، ونتعلم من بعضنا خاصة مع أولئك الناس الذين تجمعنا معهم رابطة العقيدة الحقة النظيفة؛ من توحيد الله عز وجل والإيمان بألوهيته، والإيمان بربوبيته، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بالدار الآخرة، والإيمان بالجنة والنار، والإيمان بتلك القضايا العظمى، والإيمان بقواعد الإسلام وأركانه العظام، إنها أساسٌ عظيم في التقارب بين المؤمنين، وتوحيد كلمتهم، وجعل عداوتهم في عدوهم الكافر، أو جعل عداوتهم لمن يخالفهم في العقيدة ويخالفهم في المبدأ، أو في المنهج.
أما أن يتعادوا فيما بينهم بسبب الانتساب والانتماء إلى هذا البلد أو ذاك، أو اتخاذ موقف معين، فإن هذا من وسواس الشيطان الذي يجب علينا أن نتخلص منه، وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم} فهو لا يفتأ يسير العداوة بين المسلمين ويحرش بعضهم على بعض، ويوغر صدور بعضهم على بعض، ويجعل بعضهم يسيء الظن في الآخر لشق صفوفهم، ويشغل بعضهم ببعض عن عدوهم.(216/8)
إيجاد البيئة المناسبة للمسلم
النصيحة الثانية: لقد عشت بين أظهركم أكثر من مرة وزرتكم في أمريكا، وفي كندا، وفي عدد من المراكز، وعدد من الولايات، وسمعت أسئلة كثيرة من الإخوة واستفتاءات وتساؤلات يقف الإنسان أمامها حيران، والقاعدة العامة في مثل تلك الأسئلة والاستفسارات هناك هي: البحث عن رخص تلائم الظروف التي يعيشونها والأوضاع التي يواجهونها.
وقد يجدون -أحياناً- شيئاً من هذه الرخص من بعض من يسألونهم، لكنني أنصح الإخوة بدلاً من ذلك أن يسلكوا الطريق العملي، طريق العزيمة، وطريق القوة، وهو السعي الدؤوب الجاد في تحقيق الشروط الشرعية في حياتهم العملية حيث يسكنون، أي: أن يحاول المسلم أن يوجد في المنطقة المحيطة به أو البلد الذي يعيش فيه، أن يوجد كل المرافق والوسائل والمتطلبات التي يحتاجها وجوده.
نعم، إن المساجد كثيرة وربما تُعد بالمئات في هذا البلد والمراكز الإسلامية كذلك، وهي بداية لتكوين مجتمعات إسلامية يجتمع فيها المسلمون رجالاً ونساءً لأداء الصلوات، أداء صلاة الجماعة وصلاة القيام في رمضان، ولدعوة النشاطات الإسلامية الخيرية، وينبغي أن ينبثق من هذه المساجد والمراكز مؤسسات لأعمال مختلفة تحقق للمسلمين أن يعملوا على تطبيق دينهم إسلامياً، وأضرب لذلك مثلاً واحداً من أسهل وأقرب الأمثلة: يكثر السؤال مثلاً عن حكم اللحوم الموجودة في تلك البلاد، وما يحل منها وما لا يحل، والأكل وماذا يأكل الإنسان، وهل يأكل في مطاعمهم؟ لماذا لا يكون لدينا إمكانية أن نوفر الذبح الحلال وعلى الطريقة الإسلامية؟ وأن نوفر المطاعم الإسلامية، وأن نوفر سائر المرافق التي يحتاجها المسلم في هذه البلاد؟ لماذا يقتصر دورنا على مجرد الاستفتاء والسؤال للبحث عن رخص أو فتاوى تتعلق بحال ضرورةٍ أو حاجة؟!(216/9)
استفادة الدارسين وتفوقهم في دراستهم
الوصية الثالثة: إن معظم الإخوة المغتربين هم من الطلاب، وهم دارسون يقيم الواحد منهم في هذا البلد سنوات لمرحلة الماجستير وأخرى للدكتوراه، ثم يعود إلى بلده، وهذه في الغالب لا توجد في بلادهم.
لقد كنا قبل زمن -أيها الأحبة- نتوجس خيفة من هؤلاء القادمين من بلاد الغرب، لقد تعودنا أن يكونوا ممن تغيرت أفكارهم وأتوا وقد تخلى الكثير منهم عن مبادئ دينهم الحقيقية، وأصبحوا رسلاً للغرب في بلادهم، نعم أسماؤهم عربية وإسلامية وملابسهم هي كذلك، أما عقولهم وقلوبهم أمرها مختلف.
أما اليوم فنحمد الله تعالى على أننا أصبحنا نلاحظ أن الشباب في تلك البلاد ممن يدرسون تلك التخصصات العلمية، وربما لا أكون مبالغاً أن أقول: إنهم أكثر التزاماً من كثير من الجامعات الموجودة في البلاد الإسلامية نفسها، وهذا يبشر بخير كثير إن شاء الله، ونرجو أن يكون إرهاصاً لقرب تحقيق الوعد الرباني للمسلمين في التمكين في الأرض، وقرب عودة الأمة إلى دينها ورجوعها إلى كتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام، ومراجعتها للطريق الصحيح، وذلك هو بداية عزها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر الصحيح: {إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لاينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} فأرجو أن يكون هذا بداية لرجوع حقيقي للأمة كلها إلى دينها.
إنني أوصي أولئك الإخوة الذين مَنَّ الله تعالى عليهم بالهداية والصلاح والاستقامة؛ أن يحرصوا على أن ينتجوا وينجزوا في مجال تخصصهم أيضاً، بحيث يكونون مبرزين، ويرجعون وقد حصلوا على العلم الذي تعبوا في البحث عنه وتغربوا من أجل الحصول عليه، حتى يتحقق بذلك استغناء المسلمين عن عدوهم واكتفاؤهم الذاتي، ولا نريد أن يظل المسلمون عالةً على أعدائهم حتى في هذه العلوم التي لا تعرف بلداً بعينه وليست لها جنسية، بل هي فيمن يسعى في تحصيلها.
وقد كانت هذه العلوم في يوم من الأيام في جامعات المسلمين، ثم انتقلت إلى بلاد الغرب وطوروها وأضافوا إليها أحياناً أشياء كثيرة من آثار فكرهم المنحرف، وكفرهم بالله عز وجل وضلالهم، فنودّ من الإخوة الشباب أن يحملوا على عاتقهم تلك المهمة الجليلة، مهمة نقل تقنية العلم المجدي المباح الذي يحتاجه المسلمون، ونقل ذلك إلى بلاد المسلمين وإلى الجامعات الإسلامية، وإلى مراكز البحث؛ ليتحقق بذلك استغناء المسلمين عن عدوهم واكتفاؤهم الذاتي في هذا المجال الخطير.(216/10)
ترك المقام في دار الكفر إلا لضرورة
أولاً: أخي المغترب، أختي المغتربة: كم تحملت في إقامتك في هذا البلد الذي يقوم نفوذه على غير أساس الإسلام، وتقوم قوانينه على غير هذا الأساس، وتقوم علاقاته على مثل ذلك! فأنت تواجه مشكلةً في كل لحظة، مشكلة في أداء الصلاة، ومشكلة في أداء الجمعة، ومشكلة في قضية التعليم، وفي العلاج، والسفر، والزوجة، والأطفال، والدراسة، وفي الأكل والشرب والصيام، وفي معظم تفاصيل الحياة.
إن الذي يعيش في مثل هذه المجتمعات التي تقوم على أساس الكفر، ويشيد بنيانها عليه، يشعر فعلاً بالمعنى الشرعي لتلك النصوص التي تطالب المسلم بالهجرة إلى بلد الإسلام متى وجد، ويفهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين} رواه النسائي وسنده صحيح وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث سمرة {من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله} أي: اجتمع معه وساكنه وآكله وشاربه وخالطه دون حاجة فإنه مثله.
إن ذلك يؤكد على أهمية المجتمع في التأثير على أفراده وتسهيل مهماتهم أو تعقيدها، هذه التقاليد الجسيمة التي تواجهها أخي المغترب، وأنتِ أختي المغتربة لماذا احتملتم هذا كله؟ قد يكون الإنسان أحياناً ملزماً بذلك لا خيار له فيه، فالشخص الذي فر بدينه من بلد يضطهد فيه المسلمون، وما أكثر البلاد التي يضطهد فيها المسلمون اليوم! حتى من تلك البلاد التي تسكنها غالبية مسلمة، ومثل هذا الإنسان الذي فر بدينه لا خيار له في كثيرٍ من الأحيان.
ويؤسفني أن أقول: إن كثيراً من المسلمين يجدون التسهيلات في البلاد الغربية الكافرة في الإقامة وتوفير الخدمات، بل ومنح الرواتب، وما يسمى ببدل البطالة، وتسهيل المهمة للأطفال، بل وإعطائهم الجنسيات بكل سهولة، وهذا ما نجده حصل للمسلمين الذين خرجوا من المجاعة في الصومال، أو خرجوا من التعذيب والاضطهاد في كثير من البلاد، أما بلاد الإسلام فقلما تستقبل مثل هؤلاء، فمثل هؤلاء الملزمون بذلك الفارون بدينهم لا خيار لهم، لكن قد يوجد أيضاً فئة أخرى تكون محتاجة للمجيء، لا على سبيل الضرورة والإلزام، وإنما للحاجة والمصلحة الظاهرة والدراسة في بعض التخصصات التي يحتاجها المسلمون في بلادهم ولا تتوفر هناك، أو العلاج الذي لا يتوفر في بعض البلاد الإسلامية، أو ما شابه ذلك من الحاجات التي تدعو إلى هذا.
هناك فئة ثالثة قد تكون جاءت بإرادتها المحضة واستقرت هناك، أي هنا عندكم دون أي ضغط أو إكراه أو ضرورة أو حتى حاجة، ومثل هؤلاء لا شك أنه يخشى عليهم من الضرر العظيم، ومن الوعيد النبوي السابق الذكر: {أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين} {من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله} .
إن المسلم ينبغي أن يكون في مجتمع على أقل تقدير تظهر فيه شعائر الإسلام أو بعضها، فالأذان مثلاً يرتفع، ويسمع نداءه ودويه في تلك البلاد، أو ظهور شهر رمضان، وكون المجتمع في جملته صائماً، هذا مع أنني لا أقلل أبداً من الآثار العظيمة للتغريب والعلمنة التي أثرت في بلاد المسلمين كثيراً حتى كاد الإسلام أن يندرس في بعضهم، ولا تعرف من آثار الإسلام إلا الأذان، وإلا منائر المساجد الشاهقة في عدد من البلاد والعواصم وبعض آثار مشابهة.
إذاً القضية أو النصيحة الأولى: إن وجود الإنسان في هذه البلدة إذا كان لضرورة لا خيار له فيه أو كان لحاجة كدراسة أو علاج أو ما شابه ذلك فلا اعتراض.
أما إن أتى الإنسان برغبته المحضة واختياره الذاتي، دون ضغط أو ضرورة فعليه أن يراجع حاله ويرتب أموره بشكل صحيح.(216/11)
الجزء الثالث: حديث إلى مغتربة
إنني أشكر أولاً الأخوات اللاتي اتصلن بي وشرحن لي بعض الظروف والمعاناة التي تواجهها المغتربة في تلك الديار، وإنني أقدر كثيراً الظروف الصعبة التي تمر بها المرأة في بلاد الغربة، فالرجل لا شك أقدر على تجاوز الصعوبات والسلبيات من المرأة.(216/12)
من أسباب معاناة المرأة هناك
المرأة تعاني أكثر من الرجل لأسباب كثيرة منها: الفراغ النفسي التي تواجهه في مثل تلك البيئة الغربية، حيث لا تكاد تعرف أحداً؛ حتى زوجها مشغول وأطفالها ربما كانوا في المدرسة، فتظل قعيدة بيتها وحيدة فريدة، ولا شك أنها مطالبة أن تستغل وقتها بذكر الله عز وجل واستغفاره، وقراءة القرآن، وطلب العلم النافع، والقيام بإعداد الأعمال المفيدة وتهيئة الأمور لزوجها بقدر المستطاع؛ لكن ومع هذا كله يظل هناك فراغ نفسي عند المرأة.
وأيضاً من الأسباب التي تزيد معاناتها: حصول أحداث كثيرة دون أن تتمكن من الذهاب إلى أهلها كوفاة قريب مثلاً، أو يقع لها هي أحداث كمرض أو ولاده، أو ما أشبه ذلك، ويقع ذلك كله وهي في بلد الغربة بعيداً عن أهلها، بعيداً عن أمها، وعن أبيها، وعن قرابتها، وقد تقع أحداث عامة في البلاد، مشاكل أو مصائب أو حروب أو فيضانات أو ما أشبه ذلك، وهي بعيدةٌ عن بلدها لا تدري ما أصاب أهلها.
أيضاً من الأسباب التي تزيد من معاناتها: طول المدة، فأحياناً إذا ما تصورنا مرحلة الماجستير ثم الدكتوراه، قد تطول لمدة عشر سنوات، وربما أكثر من ذلك أحيانا، وتظل المرأة فيها في مثل ذلك الجو الغريب المشحون، إضافة إلى أن هذه المرأة قد تكون ضحت بأشياء كثيرة في بلدها يوم جاءت بقصد مرافقة الزوج ومساعدته ومساندته، واعفاف فرجه، وغض بصره، والوقوف إلى جواره، إن هذا يؤكد عليكم أنتم أيها الإخوة الشباب أن تبذلوا جهودكم في الوقوف مع أخواتكم، ومحاولة تقدير الظروف التي يعانينها، وتلمس وتحسس المشكلات التي يواجهنها، نعم، أنا أدرك أنكم أنتم الآخرون تواجهون مشكلات قد تكون أكثر، ولكن الذي يجعلني أقول هذا أن الرجل أقدر على تحمل ذلك وعلى القيام به، وهو القيم كما قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُوَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] .(216/13)
من مشكلات المرأة
إن المرأة تعاني مشكلات جمة منها:(216/14)
رابعاً: التلفزيون
المشكلة الرابعة: مشكلة التلفزيون -ومع الأسف- حسبما لاحظت أنه يندر وجود البيت الذي يخلو من التلفاز في مثل تلك البلاد الغربية، أعني: من بيوت الشباب المتدينين، بل كثير منهم يشتركون فيما يسمى (بالكيبل) الذي من خلاله يشاهدون قنوات خاصة وبالأجرة، وبعضهم يجلس ساعات أمام التلفاز في متابعة مسلسل مثلاً أو فيلم أو برنامج، وتسجيل الملاحظات، أو ما أشبه ذلك.
ويكون هذا نوعاً من تطوير اللغة مثلاً، وأنه مطالب به في المدرسة ليأخذ عليه مقابل درجات كواجب مكلف به، وينسى هذا الأخ التأثير الكبير لهذا الجهاز على المرأة نفسها خلال مشاهداتها ورؤيتها، والتأثير العميق على الأطفال الذي لا يمكن محوه إلا بالصعوبة الكبيرة، فالطفل كالورقة البيضاء يكتب فيها، بل والتأثير العميق حتى عليه هو في عقله وفي قلبه وفي تفكيره، وفي حساسيته من المنكرات وفي كراهيته لوجوه أهل النار وأعمالهم، فمع الوقت يألف ذلك كله.
بل ربما يستملحه ويستسيغه ويستحسنه، ويصبح أمراً مألوفا، ثم يتطور الأمر إلى نوع من التقليد والمحاكاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: -كما في سنن أبي داود وغيره وهو حديث صحيح كما أسلفت- {ومن تشبه بقوم فهو منهم} فمن أعظم قنوات الدعوة إلى التشبه كثرة الجلوس أمامهم؛ أمام التلفاز، ومشاهدتهم، وتقمص شخصياتهم، وترسم خطاهم سواءً من قبل الزوج أو الزوجة أو الأطفال.
فمسئولية الزوج والزوجة في هذا الموضوع كبيرة وهي: أن يتعاونوا على البر والتقوى، على حماية أنفسهم وأطفالهم ومجتمعهم من مثل هذه القنوات والمؤثرات التي تساهم مساهمة كبيرة في تغيير عقولهم.
الخاتمة أيها الإخوة والأخوات: الحديث كما يقول المثل (ذو شجون) وأرى أني قد أطلت واسترسلت وأني قد أخذت من الوقت المخصص للأسئلة نحو خمس دقائق تقريباً فأنا أعيد في ختام هذه الكلمة: أولاً: شكري لله تعالى الذي كان هذا اللقاء بمنه وفضله وكرمه، وهو يستحق الحمد وأهله، فلله تعالى الحمد والشكر على ذلك.
ثانياً: شكري للإخوة الذين ساهموا في تنظيم هذا اللقاء وترتيبه وسهروا على ذلك وجزاهم الله تعالى خيراً.
ثالثاً: إنني أعلن لكم جميعاً أني أحبكم في الله تعالى، وأفرح برؤيتكم وأستمع أخباركم، وأتتبع أموركم؛ فإن رأيتكم على خير فرحت وسررت، وإن رأيتكم على خلاف ذلك، حزنت وبئست؛ فأنا أعيش معكم، وأحمل همومكم، وأتمنى لقاءكم، وأسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يكتب لي معكم لقاءاتٍ ولقاءات، وأن يزيدنا جميعاً من الإيمان والتقوى، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ثم إنه لا يفوتني أن أسدي وافر الشكر وجزيل الثناء لأستاذي وشيخي الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني الذي علمت من الأخ المقدم أنه يستمع لهذه الكلمات فإني والله أحبه في الله وأدعو له، وأذكره فأكاد أبكي شوقاً إلى لقائه، والجلوس إليه، والأنس بحديثه، وتقبيل رأسه، فأسأل الله تعالى أن يكتب لي معه لقاءً في هذه الحياة الدنيا، وإذا سبق في علمه تعالى أن ذلك لا يكون؛ فأسأل الله تعالى أن يجمعني به في مستقر رحمته، في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وأسأل الله تعالى أن يبارك في عمره ويرزقه الصحة والعافية ليقوم بمزيد من الجهود فيما ندب نفسه له من تصفية السنة النبوية وتصحيحها؛ ذلك المشروع الضخم العظيم الذي يعتبر قناة لتصحيح أحوال المسلمين عقائد وأحكاماً، أصولاً وفروعاً.
وجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير الجزاء وشكر الله لكم جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(216/15)
ثانياً: قضية الأولاد والأطفال
المشكلة الثانية التي تعانيها المرأة: قضية الأولاد والأطفال ومشكلة الحفاظ على الأطفال في مثل هذا الجو الغربي مشكلة صعبة جداً، وتربيتهم أصعب، وتعليمهم اللغة العربية أمر شاق.
أما تدريبهم وتربيتهم على الإسلام، وعلى أحكامه، وعلى عقائده، وعلى عباداته، فهو أمر يتطلب جهداً مضاعفاً حين يبدأ هؤلاء الأطفال يذهبون إلى المدارس، وكثير منهم يذهبون إلى المدارس الأمريكية مع الأسف، ويحتاجون إلى جهد كبير لتصحيح الأفكار التي أخذوها في المدرسة والأشياء التي شاهدوها هناك، وإزالة الرواسب التي علقت بعقولهم، وهذا الجهد تقوم به المرأة ولا شك، وهي أولى من يقوم به، وهو نوع من الجهاد الذي تشارك الرجل فيه، لكن الرجل -أيضاً- في حاجة بأن يقوم بجهد في هذا المجال، وأن يساهم مع الزوجة بقدر ما يستطيع وألا يتركها وحدها في الميدان.(216/16)
ثالثاً: الشعور بالعزلة
المشكلة الثالثة: مشكلة الاعتزال، حيث الزوج مشغول كما أسلفت، والنشاطات للمرأة والجهود لتعليمها العلم الشرعي وتربيتها على العبادات وعلى الخير قد تكون قليلة، وربما هي في رمضان أفضل من غيره، لكن في سائر السنة أقل.
والمجتمع الغربي مجتمع مختلط، ومجتمع سافر وإباحي، ومجتمع متبرج، وبالتالي المناظر المغرية كثيرة، وكل مكان يذهب إليه الرجل أو تذهب إليه المرأة فيه إحراجات لا تنتهي.
ولذلك يخرج الزوج ولكنه يدع الزوجة في كثير من الأحيان في المنزل، ويمنعها أن تمشي ولو على السيارة عبر الشوارع، وهذا قد لا يفعله بعض الإخوة، وبعض المؤسسات الطلابية التي تقوم على جهود الطلاب، وعلى أسرهم وعلى عوائلهم، وقد يكون فيها مناسبات لتجمعات نسائية.
لكن إذا كانت أحاديث مفيدة واجتماعات نافعة وأشياء يستفيد منها الإنسان في دينه أو في دنياه فهذا شيء طيب، أما الاجتماع على حديث ضار أو على تلاقي الناس -مثلاً- أو على غناء أو ما أشبه ذلك، فهذا مما يزيد الطين بلة كما يقال، ويجب أن نكون نحن في أسرنا ومؤسساتنا الطلابية ومدارسنا ومراكزنا ونوادينا صورة صادقة على المسلم الملتزم المتدين البعيد عن كل ما يعارض الإسلام.
إذاً على الزوج مسؤولية في محاولة إزالة هذا الشعور العميق بالعزلة الذي تعانيه المرأة في مثل ذلك المجتمع.(216/17)
أولاً: العلاقة مع الزوج
إن الزوج مشغول في دراسته مشغولٌ في الكلية مثلاً، أو في المكتبة أو مع الزملاء أو في لقاءات، أو أحياناً في وقت الفراغ ربما يقوم بجلسات ترفيهية يزيل عن نفسه تعب الجدية والمواصلة في العمل، أما المرأة فهي تعاني أكثر وهي بحاجة إلى مساعدته والوقوف معها، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين {استوصوا بالنساء خيراً} إنها بحاجة إلى كلمة طيبة، إلى جلسة معها ولو خفيفة إلى تطييب خاطرها، وربما يكفيها ابتسامة، أو كلمة، أو تعزية من زوجها تطيب خاطرها وتزيل ما في نفسها.
أيضاً مما يتعلق بذلك أن بعض الإخوة يتحدثون في قضية لها علاقة بمثل هذا الموضوع، وهي مسألة تعدد الزوجات، وهي كما أسلفت قضية شرعية لا تحتاج إلى فتوى فقد أفتى فيها رب العالمين حيث يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع} [النساء:3] فلا يملك رجل ولا امرأة أن يعترض على حكم الله عز وجل كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] .
لكن لماذا يجعل الأخ الكريم الشاب هذه القضية قضية حية على لسانه دائماً وأبداً؟ لماذا يحدث المرأة بها داخلاً وخارجاً وبكل الطرق؟ مع أنه قد تكون فكرة الزواج الثاني عنده بعيدة أو على الأقل مؤجلة؛ ولكنه مع ذلك يثيرها على لسانه مما يسبب للزوجة ضيقاً أو تبرماً أو شعورها بأنها ضحَّت بتضحية في غير محلها، أو ما أشبه ذلك! ولكن إذا عزمت فتوكل على الله، وسوف تقول لك: لن أمنعك ولا أستطيع أن أمنعك، وإن كانت لا تريد ذلك ولا تحبه، المهم أن يكون الإنسان حكيماً في معالجة هذه القضية، وألا يضيِّق صدر المرأة بذلك، وأن لا يكثر الحديث عنها خاصة في مثل هذه الأوضاع الصعبة التي تعيشها الفتاة، فبعض الفتيات في المقابل يعشن حساسية مفرطة تجاه هذا الموضوع، ربما لتأثير وسائل الإعلام، حتى إن بعض النساء تعتبر أن الزواج الثاني نوعٌ من الخيانة من الزوج، وهذا خطأ كبير.
فهو أي: الزواج الثاني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ليس حراماً، ولا حتى مكروهاً في حالة إمكانية العدل، بل بعض العلماء يقول هو الأصل ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] وبغض النظر عن هذه القضية الفقهية، وهل الأصل التعدد أو عدم التعدد، إلا أن المقصود أن هذا ليس خيانة وليس خطأً يرتكبه الزوج، إنما إذا أصر الزوج وصمم على تعدد الزوجات، أو على الزواج بأخرى؛ فيجب أن يكون ذلك بصورة سليمة وبعيدة عن الإثارة أو الاستفزاز.(216/18)
الأسئلة(216/19)
المخرج من الواقع المؤلم
السؤال
إن الناظر إلى واقع الأمة العربية والإسلامية ينتابه حزن شديد بسبب المآسي والآلام التي تعاني منها، كيف ترون سماحة الشيخ في تصوركم وباختصار الخروج من هذا الواقع الأليم أمام كثيرٍ من الأنظمة التي تنتسب للإسلام، وأمام نظام عالمي جديد تحكمه دولة واحدة، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
أولاً أدعو الإخوة إلى ألا يعظموا كثيراً من شأن قوى الكفر، فإنها ليست هي المشكلة، إن التدبير الحقيقي في السماء وليس في البيت الأبيض ولا في غيره، لقد أسقط الله سبحانه وتعالى الامبراطورية الشرقية روسيا، ولم تشفع لها رءوسها النووية، ولا صواريخها عابرات القارات، ولا أسلحتها الفتاكة، ولا ملايين الجنود في جيوشها، ولا ملايين الجنود في مخابراتها، بل أصبحت أمماً متفككة ودولاً تحارب بعضها بعضاً وأصبحت تعاني من الأزمات والمشاكل، مما ينذر بانفجارات هائلة في ذلك العالم الذي لا يزال مظلماً بما كان يسمى بـ الاتحاد السوفيتي.
إذاً علينا أن ندرك أن ما يسمى بالنظام الدولي الجديد أو هيمنة النظام الرأسمالي على العالم، إن هذه الأشياء أسماء ولها تأثير نفسي، وهي أحياناً تعمل نوعاً من الضغط المعنوي، ولكن مع ذلك فالأمر كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] .
والحمد لله رب العالمين.(216/20)
العوامل الداخلية في تربية المسلمين
السؤال
كثيراً ما نسمع أن الأساليب المتبعة في تعليم وتربية المسلمين، والعوامل المحيطة بهم في المجتمعات المسلمة، هي أشد خطراً على الإسلام والمسلمين من العوامل الخارجية التي تأتي من أعداء الإسلام والمسلمين من الخارج، بما فيها محاربة الإسلام من قبل أعداء المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم، ما مدى صحة هذا الكلام، وما هو المقصود بالعوامل الداخلية التي تشكل خطراً على شباب المسلمين؟
الجواب
الله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] نعم، إذا تمكن المسلمون من تحقيق هذين الشرطين وهما: الصبر والتقوى، تمكنوا من إحباط كل المؤامرات الخارجية التي تحاك وتدبر ضدهم، ولذلك ندرك الخطورة الكبيرة لعملاء الغرب وعملاء الكفار بين المسلمين والمنافقين الذين يعيشون بين المسلمين وهم في الحقيقة ولاؤهم للكفر والشرك وأهله؛ لأنهم من بني جلدتنا كما وصف صلى الله عليه وسلم كما في حديث حذيفة المتفق عليه: {يتكلمون بألسنتنا} ولكنهم مع ذلك يمثلون أهداف أعداء الإسلام.
إن تأثير المناهج الدراسية في العالم الإسلامي كله تأثير واضح وبصماته قوية في عقول الطلاب، ولا يقل أثراً عنها الإعلام الغربي والعالمي أيضاً في صياغته للناس في عقولهم وقلوبهم وأخلاقهم وسلوكهم وغير ذلك، فالعدو استطاع أن ينفذ إلى المسلمين من خلال هذه الوسائل، وأن يوظفها لصالحه، وعلى كل حال من السهل أن نلقي بمسئوليتنا ونلقي بضعفنا ونلقي بأخطائنا على العدو، فنتهمه دائماً وأبداً في كل ما جرى لنا، ولكن هذا أحياناً يشكل نوعاً من المهرب النفسي من الاعتراف بالخطأ، وبالمسئولية، والاعتراف بضرورة التصحيح؛ لأنك إذا قلت: إن العدو هو الذي فعل وفعل، معنى ذلك أنه لا حيلة؛ لأن العدو سيظل عدوك وسيظل شرساً بقدر ما يستطيع، لكن إذا اعتُرِف بقدر من المسئولية عليّ أنا شخصياً وعليك أنت، سيكون هناك فرصة للتصحيح والمراجعة، ولهذا أنزل الله سبحانه وتعالى -بعد معركة أحد وبعد أن هُزم المسلمون- نزلت الآيات من (سورة آل عمران) تلقن المسلمين الدروس التي يجب أن يأخذوها من هذه الهزيمة.
فالمصائب التي تواجه المسلمين اليوم مثلاً في يوغسلافيا أو الصومال أو أفغانستان أو مصر أو فلسطين أو الجزائر أو تونس أو في أي بلد، لا يصح أن تمر دون وقفة محاسبة نصدق الله تعالى فيها، ونراجع خطواتنا وأعمالنا ونياتنا ومقاصدنا والتزامنا بدين الله تعالى، عقيدةً وشريعةً وأحكاماً وأخلاقاً ومعاملةً للناس، إن الله تعالى حكمٌ عدلٌ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44] وهو يقول في كتابه {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ويقول: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] فمن المهم جداً أن نبرز الجانب الذاتي في المصائب التي نزلت بالمسلمين.(216/21)
تغير المواقف مع مرور الوقت
السؤال
يلاحظ الإنسان تغييراً في المواقف لدى بعض الناس مع مرور الوقت، فهل مرور الوقت له تأثير على طرق التفكير لدى الناس، وهل الزمن عامل مؤثر بحد ذاته؟ وما هي العوامل المؤثرة على طرق التفكير وما هو الطريق السليم إلى تكوين الفكر السليم لدى الناس؟ وما هو الضابط الشرعي لدى المسلم في اتخاذ موقف معين في القضايا الخلافية التي لم يرد فيها نصٌ في الكتاب ولا في السنة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
ليست قضية الزمن، بل هي قضية الظروف التي تحدث فتؤثر في أفكار كثير من الناس بسبب الضعف الشرعي لدى الناس، والإنسان الذي ينطلق من منطلق شرعي مواقفه غالباً تتسم بالثبات والاستقرار؛ لأنه يأوي إلى ركن شديد وإلى ركن ركيز، وهو القواعد الشرعية، والنصوص الواضحة، سيكون موقفه أكثر ثباتاً وأكثر استقراراً.
أما إذا فقد هذا الأصل بسبب الضعف الشرعي، أو عدم الإنصات لعلماء الشريعة وفقهائها وحفاظها، فحينئذٍ سيعتمد على رأيه الخاص وعلى قناعاته الشخصية التي تؤثر فيها الأوضاع، بل تؤثر فيها وسائل الإعلام أحياناً، فهو لم ير هذا الحدث بعينه، وإنما سمع بأذنه تقارير وأخباراً ومعلومات قد تكون صحيحة وقد تكون مُعدلة أو مزورة، بغرض التأثير على عقول الناس، وكثير من المواقف مبنية على نوع من الترويج الإعلامي الذي قد يكون مقصوداً أصلاً، ويراعي الظروف النفسية للمستمعين.
وهذا أمر ربما أكثر الإخوة المستمعين يدركه أكثر مني، أي: إن الإعلام يدرس نفسيات المشاهدين والمستمعين ويخاطب هذه النفسيات بأسلوب مؤثر، فهذا يجعل مواقف بعض الناس تتغير، فربما في حال الحدث يكون له رأي، وبعد مضي فترة طويلة يبرد تأثير الحدث عليه فتتغير قناعاته وتتغير آراؤه، وربما تبرز له أمور أخرى غير هذه، هذا جانب مهم وهو قضية تأثير الأحداث في نفوس الناس.
أما قضية الزمن فهذا جانب آخر، وهو أن الإنسان في مراحل عمره له مميزات، فمثلاً: مرحلة الشباب تتسم بالقوة وتتسم بالشجاعة والإقدام وحب المغامرة، ولكن قد ينقصها قدر من الأناة، وقدر من الروية، والتثبت والصبر، بخلاف ما إذا بلغ الإنسان أشده أي فوق الأربعين أو جاوزها، فحينئذٍ قد يميل إلى التأني والتروي وعدم العجلة، وإعطاء نفسه فرصة في تأمل الأمور ودراستها، ومن ثم الحكم عليها بعد ذلك، وههنا يكون للسنِّ تأثير في أسلوب معالجة الإنسان للموضوع أو للتفكير.(216/22)
الأحوال في أفغانستان
السؤال
كثرت الأخبار وتضاربت حول ما عليه الوضع في أفغانستان حتى أصبح الحليم حيرانَ من أجل فهم ما يجري هناك، فهل لديكم ما يشفي غليلنا، وما مدى تقبل قادة الجهاد للدعوات التي قدمتها بعض الدول الإسلامية كالسعودية وباكستانوآخر دعوى هي مناداة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز الى الاحتكام لبعض علماء المسلمين، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
الحقيقة ما يجري في أفغانستان يؤسفنا جداً، وبعد أربعة عشر عاماً من الأعمال، وترقب المسلمين، ودعم المسلمين كلهم، وكل الشعوب الإسلامية شاركت في الدعم الذي كان منقطع النظير، أربعة عشر عاماً من الترقب والانتظار ويصل الحال إلى مثل هذه المواجهة العسكرية الشرسة بين قوتين حليفتين في الجهاد وهم الحزب الإسلامي والجمعية الإسلامية.
ليس لديَّ في الحقيقة صورة أستطيع أن أقدمها للإخوة وأتحمل مسئوليتها؛ لأن الوضع بالنسبة لي غامض وغير واضح، واعتمادي هو على ما ينشر في الصحف، أو كما في الإذاعات وهذا لا يعتمد عليه، ولكن سمعت وقرأت أن هناك بوادر للصلح في باكستان، ولقاء بين زعيم الحزب الإسلامي وزعيم الجمعية، وبداية مسودة اتفاق بإشراف رئيس الحكومة الباكستانية ورئيس الاستخبارات السابق، ورئيس الجماعة الإسلامية القاضي حسين ونائبه، ولا زالت المشاورات هناك جارية، وما علمت أنه تم في ذلك شيءٌ واضح، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع شمل المسلمين في كل بقاع العالم الإسلامي على الحق، وأن يوحد صفوفهم على الهدى، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أولياءه ويذل فيه أعداءه في أفغانستان وفي غيرها إنه سميع مجيب.(216/23)
مأساة العراق
السؤال
يعيش خلقٌ من المسلمين في العراق تحت مأساة لا يعلمها إلا الله، فهم بين حكمٍ جائر وحصار ظالم، فما الحكم الشرعي في دعم النظام العالمي الجديد أو ما يسمى بالقوى الإلحادية بالهيمنة على بلاد المسلمين؟
الجواب
إنها مأساة من إحدى مآسي المسلمين، إن شعباً بأكمله، وعشرات الملايين من الناس يفرض عليها حصار بما فيهم من تقاة وصالحين وزهاد، وأهل علم، وأهل دعوة، وأهل اجتهاد وما فيهم من أطفال، بل وحتى هذه الأمم بأكملها يفرض عليها حصار حتى يتحول الكثير منهم، ويصبح البحث عن لقمة العيش الهم الأوحد والأكبر لهم، حيث الظروف الصعبة والقاسية التي أستطيع أن أقولها وأنا مطمئن: إنه لا يوجد بلدٌ آخر في العالم يعاني مثل هذه المأساة الرهيبة الكبيرة، إنه لغباء أن نعتقد أن العالم الغربي يقصد من وراء ذلك إسقاط النظام العراقي، بل إن العالم الغربي ربما يريد بقاء ذلك النظام ليحقق مصالح عدة: أولها: الحصول على التعويضات والمطالب التي يطالب بها.
ثانيها: مزيد في إنهاك القوة العسكرية في العراق والحصار عليه ومنعه من تجديد قوته.
ثالثاً: إنه يهدف من وراء ذلك أيضاً إلى إنهاك هذا الشعب المسلم وترسيخ جذور العداوة في نفوسهم ضد الشعوب الأخرى المجاورة لهم.
إضافة إلى أن هذا الرجل الذي يقف على سدة الحكم في العراق، لن يكون هناك من يستطيع أن يقوم بهذا الدور كما يقوم به هو، ولذلك عملوا هذا الحصار مع أن إمكانية تغيير النظام قائمة وأعتقد أن بمقدورهم وفي ميسورهم ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم، ولكن الأهداف أكبر من ذلك، إنها مسؤولية المسلمين جميعاً أن يقفوا مع إخوانهم، مع شعب العراق في دعمه وتأييده، إنه بحاجة الى الكتاب الإسلامي الذي يشرح له المنهج السلفي الصحيح ويعيده إلى الصواب، وقد بلغني من إخوة ثقات بأن عدداً من الشيعة في العراق بدأو يتحولون الى منهج أهل السنة وعلى طريقة سلفية واضحة، ويتحمسون في ذلك ويدعون إليه، وهذا يبشر بخير، وأهل السنة أيضاً عندهم صحوة منتشرة، ولكنها مستترة خوفاً من البطش والعسف والإرهاب، فضلاً عن أن الناس هناك يعانون مصائب جمة من جراء ذلك الحصار.
فكما أسلفت: أصبح الحصول على لقمة العيش قضية مكلفة وشاقة، ولك أن تتصور شعباً من الشعوب كم سيفقد من كرامته وأخلاقه واعتزازه إذا ظل سنوات يعاني من ذلك الحصار، فهي مسئوليتنا جميعاً وعلينا أن نتحمل المسئولية في أي بلدٍ آخر في الصومال أو البوسنة والهرسك أو السودان، أو مصر أو في غيرها.(216/24)
طبيعة الجهاد في البوسنة
السؤال
ما هو تصوركم لما عليه الجهاد في البوسنة والهرسك؟
الجواب
البوسنة والهرسك هم قوم يدافعون عن أنفسهم، والدفاع عن النفس مشروع، كما في الصحيحين: من قتل دون نفسه فهو شهيد} أو حتى ماله أو عرضه فهو شهيد، ومن حق الإنسان أن يدافع عن نفسه، لقد هوجموا على حين غرة، ولم يكونوا مستعدين ولم يكونوا مسلحين فهوجموا، فاحتاجوا إلى الدفاع عن أنفسهم في ظل ظروف في غاية الصعوبة سواءً من حيث قلة العدد، أو عدم التدريب أو قلة السلاح، أو طبيعة الموقع الذي يعيشون فيه، والآن هناك حصار شديد خاصة بعد أن أغلق الكروات الطريق عبر زغرب الموصل إلى مناطق البوسنة والهرسك، فلا يذهب أحدٌ إلى هناك إلا في حالاتٍ قليلة نادرة، الوضع الذين يعيشونه في الجملة وضع صعب، ولكن وبكل تأكيد فإن الصرب لم يكونوا يتوقعون بأن المعركة ستكون بهذه القوة، وبهذه الشراسة، ولقد كانوا يعتقدون أنهم في عيد الميلاد -ما يسمونه (بالكريسمس) - سوف يحتفلون بسقوط سراييفو وتسليم البوسنة والهرسك لهم، لكنهم فوجئوا أن الأمر أصعب مما يتصورون وأن الموقع العسكري للمسلمين يتقدم في بعض الأحيان، وأنه قتل من الصرب عدد يزيد على خمسة وثلاثين ألفاً حسب ما تقوله الإحصائيات، وهذا عدد كبير لم يكونوا يتوقعونه، وعلى كل حال نسأل الله تعالى أن ينصر الإسلام والمسلمين.
هناك توقعات غربية كثيرة بأن تتطور الحرب إلى منطقة البلقان وكوسوفو والسنجق، حتى ربما في ألبانيا، وربما يكون بداية لحرب شاملة، وتتوقع بعض التقارير البريطانية أن تكون هذه شرارة لتلك الحرب الشاملة التي إذا وقعت سوف تتضرر منها أوروبا وأمريكا، والخير فيما يختاره الله عز وجل.
علينا أن نكون صادقين مع الله عز وجل وأن نصلح سرائرنا، وأن نحرص على أن نكون كما يحب الله عز وجل علماً به وعملاً بدينه ودعوةً إليه، وصبراً على ما نلقاه في سبيله، وصدقاً وجهاداً وبلاءً وإخلاصاً للإسلام، وتخلياً عن كل ألوان العصبيات سواء كانت عصبية لبلد، أو عصبية لحزب، أو لقبيلة، أو لجماعة، أو لمؤسسة، علينا أن نكون مجردين للحق، وأن نصدق الله تعالى، ثم بعد ذلك ندرك الوعد النبوي كما في سنن النسائي وكما في الصحيحين أيضاً في قصة الأعرابي الذي قال له صلى الله عليه وسلم: {إن َتْصدُقِ الله تعالى يَصْدُقك} علينا أن نصدق الله لينجز الله لنا ما وعد.(216/25)
حماية مسلمي البوسنة والهرسك
السؤال
وردنا من ولاية أرزونا مدينة توسان ويقول فيه: قرر مؤتمر رابطة العالم الإسلامي المنعقد في جدة قبل فترة التدخل لحماية مسلمي البوسنة والهرسك عسكرياً إذا لم تفعل الأمم المتحدة شيئاً، هل نما إلى علمكم أي تطورات في هذا الموضوع؟
الجواب
الله المستعان اعتقد يا أخي أن العالم اليوم لا يحترم إلا القوة: ودعوى القوي كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها المسلمون اليوم عاجزون عن مثل ذلك العمل، وهم من التفرق والشتات والضعف والتقصير في دينهم والبعد عن كتاب ربهم وسنة محمد صلى الله عليه وسلم بحالٍ يعجزون معه عن حل مشاكلهم الخاصة، فضلاً عن أن يتدخلوا في مناطق أخرى كالبوسنة والهرسك، إن الغرب لا يعتبر هذه الأشياء جادة بقدر ما هي نوعٌ من الضغط الإعلامي، أو تهدئة مشاعر المسلمين أو ما أشبه ذلك، فهو ينظر إليها من هذا الاعتبار ولا يقيم لهم وزناً وكما قيل: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع فالصرب لا يخافون من المسلمين، بل هم يتحدون العالم كله؛ وما ذلك إلا لأنهم يدركون أن العالم يقف متفرجاً؛ لأنه يدرك أن الذين يقتلون ويضطهدون هم من المسلمين، ولو أن المقتولين كانوا من اليهود أو من النصارى ولو كانوا أعداداً قليلة لرأيت كيف يتدخل العالم، إنه يؤسفني أن أقرأ بأن المجاعة في شرق البوسنة والهرسك وصلت بالمسلمين إلى أن يأكلوا لحم الموتى منهم، أكثر من مائة ألف مسلم في عدد من المدن في شرق البوسنة والهرسك محاصرون اضطروا إلى أكل لحوم الموتى، ويؤسفني أن الناس ينتظرون ولادة ستين ألف طفل هم نتيجة اغتصاب مجموعة من نساء المسلمات ما بين ست سنوات إلى ستين أو سبعين سنة، فإلى الله المشتكى والله المستعان؛ لكن هذه الأشياء مع صعوبتها على النفس فإن المؤمن يدرك أن ما يقضيه الله سبحانه وتعالى هو خير، كما قال صلى الله عليه وسلم: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} .
إن الإخوة الذين قدموا من البوسنة والهرسك يبشرون أن هناك إقبالاً على التدين وصحوة إسلامية وعودة إلى المساجد، والتزاماً من قبل النساء بالحجاب، ووعياً في عقائد الناس وفي عقولهم وصلاحاً لم يكن ليحدث، لكن هذه الحرب ساهمت في إيقاظ ذلك، فعلينا أن نؤمن بأن ما يصنعه الله سبحانه وتعالى هو خيرٌ للمسلمين وإن لم تظهر نتائجه في الأوقات القريبة.(216/26)
حديث الساعة
مرت على الناس أزمة شديدة وأطلت عليهم حرب ضروس توقعوا فيها كل مصيبة، وهم لا يملكون أمامها شيئاً إلا شراء الحاجات المنزلية وادخارها لعلها تعدم مع الحرب، وهنا يبرز موقف العالم الصادق يبين للناس كيف يقفون عند الأزمات مؤنساً لهم بسير السلف، وما المواقف الصحيحة الواجبة في هذه الأزمات وجماعها الارتباط بالله سبحانه وتعالى.(217/1)
أسباب انشغال الأمة عن قضاياها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة الأحبة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن هذه الليلة التي نرجو الله تعالى أن تكون ليلة مباركة علينا وعليكم، وعلى جميع المسلمين، هي ليله الثلاثاء لعله الثامن والعشرون أو التاسع والعشرون، ولا نريد أن نؤرخ بالتاريخ الميلادي، وإن كان التاريخ الميلادي أصبح معروفاً عندكم بلا شك في هذه الليلة خاصة، حتى إن أحد الشباب من الرياض كتب إلي رسالة؛ يقترح أن يكون موضوع هذه المحاضرة (خمسة عشر يناير) يقول: لأن هذا العنوان لا يسمعه أحد إلا تعجب، وأحب أن يدرك ما وراءه.
أيها الإخوة: حديث الساعة، هو عن القضايا التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام، بل في هذه الشهور، بل في هذه السنين، ولعل من أعظم ما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم -أيها الأحبة- أنها أصبحت أمة معزولة عن قضاياها، ومشاكلها، وأمورها الكلية، فأصبح الفرد العادي في الأمة الإسلامية صاحب اهتمامات هامشية وفرعية وجزئية، ومشغولاً بقضايا لا قيمة لها عن القضايا الخطيرة والمؤثرة في حاضره ومستقبله.(217/2)
الفن وما شاكله
لعلك تجد أن كثيراً من المسلمين اليوم شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً مشغولين -مثلاً- بقضايا الفن والفنانين.
إنك لو ناديت أي صبي صغير، وطلبت منه أن يقرأ عليك أغنية، لقرأها دون أن يتردد أو يخطئ في حرف منها، لكن ربما لو طلبت منه أن يقرأ سورة من القرآن، لتلكأ وتردد وعجز عن ذلك، حتى أصبح الفن قضية كلية، وأصبح أصحابه يسمون نجوماً وأبطالاً، وما ذلك إلا لأن الأمة قد عظّمت هذا اللون، ولعلكم أيها الإخوة تلاحظون أننا في هذه الأيام نسمع جميعاً أخبار توبة الفنان المعروف محمد عبده، وتتناقل الصحف أخباراً مؤيدة أو معارضة، بحسب مزاج الصحيفة ورغبتها وطريقتها في العرض، ولا شك أن كل مسلم يسر بتوبة هذا الرجل أو غيره، وقد كنت كغيري ننتظر مثل هذا الخبر؛ لأن الرجل -كما سمعنا- فيه خير كثير إن شاء الله، ونرجو الله عز وجل أن يصحح توبته ويثبتنا وإياه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول: كل مسلم يسمع هذا الخبر يسر له، وكل مسلم يسمع قراءة الرجل لآخر سورة البقرة، وما فيها من التأثر لا يملك عينيه، وهو يرى هذا الرجل يقرأ آيات الله تعالى فيتأثر ويبكي، ويظهر هذا في صوته، ولا حرج في هذا، بل هذا هو الأمر الطبيعي، ولكن الأمر الذي أحب أن أتوقف عنده، إننا نجد في هذه الأيام، بل ومنذ زمن أن التائبين الراجعين إلى الله عز وجل يعدون بالألوف، بل بعشرات الألوف من كافة الأصناف وكافة الطوائف.
فربما تاب -مثلاً- عالم ذري كبير، وربما تاب مهندس عظيم، وربما تاب إنسان ذو مكانة كبيرة أو مسئول أو موظف، فلا يكاد يسمع بخبره أحد، فضلاً عن جماهير الشباب التي تئوب إلى الله عز وجل ولا يدري بها أحد، ولا يكترث لها أحد، فما هو سر اهتمام الأمة كلها بتوبة رجل؟ كما تهتم -مثلاً- بتوبة لاعب أو صلاحه واستقامته فتتناقل الناس في مجالسهم أخباره وأحاديثه وقصصه، وتكترث له أشد الاكتراث، السر هو أن الأمة أصلاً عظمت هذا اللون من الناس، فأصبحت تهتم بأخبارهم، وتتابعها أولاً بأول، وتعتني بها، وأصبح الخبر الذي يتعلق بهم، حتى لو كان خبراً عادياً، أصبح الناس يتناقلونه، فإذا كان الناس -مثلاً- يتناقلون جلسة فنية جديدة لفنانٍ ما، أو يتناقلون زيَّاً جديداً صنعه صانع معين، فما بالك إذا كان هناك خبر غير عادي، مثل خبر توبة هذا الإنسان، لا شك أن الدواعي تتوافر على تناقل هذا الخبر، وما ذلك إلا لأن الأمة قد كبرت الاهتمامات الهامشية والشكلية والجزئية في عقلها وحياتها وضخمتها فأصبحنا نسمى أهل الكرة أبطالاً! وذلك لأن مفهوم البطولة قد اختل عندنا.
ولا شك أن هذا جانب.(217/3)
الركض وراء لقمة العيش
الجانب الآخر الموجود عند أكثر الشعوب الإسلامية، هو الركض وراء لقمة العيش، فتجد كثيراً من المسلمين في كثير من البلاد، وإن شئت فقل في جميع البلاد إلا ما قل، أصبح الواحد منهم يركض وراء لقمة العيش، فالطوابير الطويلة مصفوفة تنتظر الخبز، وطوابير أخرى مثلها على المواد التموينية، وبعضهم في بعض البلاد يصرفون بطاقات ينتظرون لها أوقاتاً، ويصرفون فيها أعماراً، فأصبح الفرد المسلم مشغولاً بلقمة العيش، وكيف يستطيع الحصول عليها له ولزوجته ولبنيه ولبناته، ولذلك لا مجال عنده للتفكير بأمور الأمة، ولا بالقضايا المهمة؛ لأنه مشغول بلقمة العيش.(217/4)
الطموحات الدنيوية
أما آخرون وهم كثير فأصبح كل همهم أو جل همهم الطموحات الدنيوية، ولو أنك سألت فصلاً من الفصول الدراسية في مستوى متوسط أو ثانوي أو جامعي عن آمال وطموحات هؤلاء الشباب، لوجدت كثيراً منهم لا تتعدى طموحاتهم الأشياء القريبة، مثل أن يتمنى الواحد منهم مسكناً واسعاً، أو سيارةً فارهةً، أو زوجة حسناء جميلة، أو مرتباً فخماً ضخماً، أو وظيفةً مريحةً، أو ما أشبه ذلك، أما أن نفكر في قضايا الأمة، ويكون عند الواحد منا طموح أن يكون له دور في إصلاح الأمة، وتصحيح مسيرتها؛ وهذا قد لا يفكر فيه إلا الأفراد القلائل.(217/5)
الاهتمام بقضايا هامشية
هل نحن نلوم الأمة بهذا الكلام؟ نعم، لا شك نلوم الأمة، ولكنني أقول: مع لوم الأمة فإننا لا نشك في أن هذا الواقع الذي صرنا إليه، إنما هو نتاج جهود كبيرة من غيرنا، ممن حاولوا أن يقولوا لنا: دعوا التفكير في قضايا الأمة لغيركم، ولا تتدخلوا فيما لا يعنيكم، ويكفيكم أن تأكلوا وتشربوا، وتنعموا بالملبس والمأكل والمركب والمسكن، وبعد ذلك دعوا القيادة ودعوا التفكير في أمور الأمة، ودعوا النظر في قضاياها لغيركم، واعتبروا هذا الأمر شيئاً من تدخل الإنسان فيما لا يعنيه، فقضايا الأمة مهمشة، والأمة معزولة عن قضاياها، حتى القضايا الكبيرة الخطيرة!! أيها الإخوة: أرأيتم يوم دخلت الأمة الإسلامية، بل لا أقول: الأمة الإسلامية بل وإنما دخلت الأمة العربية، أو دخلت بعض الدول العربية الحرب مع إسرائيل عام (1956م) و (1967م) وغيرها، هل دخلتها باسم الإسلام؟! هل شعرت الأمة بأن المعركة معركتها؟! أبدا دخلت باسم العروبة، وكانت بعض الإذاعات العربية بدلاً من أن تعلن التوبة، والرجوع إلى الله عز وجل تقول عن طائرتها الميراج: ميراج علت واعتلت في الجو تتحدى القدر كأنها تتحدى الله عز وجل، في الوقت الذي هي أحوج ما تكون فيه إلى نصر الله عز وجل، وإلى عونه عز وجل، وإلى أن تكون مشاعر المسلمين معها، فكانت تعلن مثل هذا الكلام الكافر الفاجر.
فالأمة ذات اهتمامات مهمشة ومعزولة عن قضاياها الكبيرة، فضلاً عن القضايا الصغيرة، ومشغولة بمثل هذه الأمور -التي أشرت إليها- ولا شك أن المسئولية الحقيقية في الإسلام هي مسئولية الجميع، حتى الأتباع يسألون، وأنت حين تقرأ القرآن الكريم تجد قول الله عز وجل: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166-167] ويقول: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47-48] وفي الآية الأخرى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] ويقول الله عز وجل حكاية لكلام أهل النار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُم لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67-68] وكذلك يقول الله عز وجل عن فرعون وقومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِين فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:54-55] ويقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام:129] .
إذاً: ليس صحيحاً أبداً أن الإنسان غير مسئول، أو لا علاقة له بالأمر، أو لا دخل له بهذه القضايا، كلا، بل كل مسلم مسئول عن قضايا الأمة، دقت أم جلت، صغرت أم كبرت، ولا يعفيه من المسئولية أن يقول: ليس بيدي شيء، أو ما أشبه ذلك من الألفاظ.(217/6)
أمثلة من القرآن على الشعور بالمسئولية
أيها الإخوة: لو نظرنا في الأجيال القدوة، الأجيال السابقة من المؤمنين، سواء قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أم في الأجيال اللاحقة من المؤمنين؛ لوجدنا أنهم يتعاملون مع القضايا بطريقة أخرى مختلفة تماماً، ولعلي أضرب لكم بعض الأمثلة، فيما يتعلق بالأجيال من الأمم السابقة، يحكى لنا الله عز وجل عدة أخبار من أخبار هؤلاء الأقوام، فيها عبرة فمثلاً يقول الله عز وجل في سورة "يس": {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس:20-23] .
إنه رجل من أقصى المدينة يسعى يركض ركضاً، لماذا يأتي؟ لإنقاذ الموقف، لإعلان كلمة الحق {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينََ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20-21] ليس له غرض، ولم يكن سعيه خوفاً من فوات صفقة تجارية -مثلاً- ولا خوفاً على نفسه أو روحه، بل بالعكس كان يسعى إلى حتفه وهو يعلم ذلك، لأنه قتل بسبب جهره بكلمة الحق، وتعزيزه لموقف النبيين المرسلين، فقتل فقيل له: ادخل الجنة، فدخل الجنة: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26-27] .
إذاً: هذا رجل واحد، لكنه يركض؛ لأنه يشعر أنه مسئول، وكأنه يرى أن هذا الأمر لابد أن يبلِّغه قبل أن يموت، أو يهلك دونه، فجاء من أقصى المدينة يسعى.
كذلك الحال بالنسبة لقصة موسى عليه الصلاة والسلام، فإن الله عز وجل ذكر فيها: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] هذا الرجل الآن يريد أن يخبر موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الداعية النبي الرسول، يريد أن يخبره بأن هناك مؤامرة ضدك يا موسى، فعجل بالخروج، وانظر لنفسك مهرباً مما يحاك ويدبر في الخفاء، فهذا الرجل ربما كان يتعرض لخطر كبير، حين كشف القضية وفضحها، وبيّن الأمر لموسى، وربما يمسك القوم به، ويقولون: ما دام نجا موسى بسببك فلابد أن نأخذك أنت عوضاً عنه، ولكنه تجاهل كل هذه المخاوف، وجاء يركض ركضاً إلى موسى ليبلغه بالخبر قبل أن يقع موسى في هذه المؤامرة، فقال له يا موسى: إن الملأ -من هم الملأ؟ العلية، علية القوم والكبراء والأمراء والزعماء- يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين، فيخرج موسى عليه الصلاة والسلام خائفاً يترقب -كما ذكر الله عز وجل-.
لم يقل هذا الرجل هذه قضية لا شأن لي بها، وهذه قضية تخص علية القوم، تخص الملأ والكبراء، لا، بل رأى أنه ما دام علم بالخبر، وعلم بالمؤامرة التي تحاك ضد نبيٍ من أنبياء الله، ووليٍ من أولياء الله؛ فلابد أن يبلغه، ويقوم بواجبه في هذا الأمر، ولو قال: لا شأن لي بالأمر، ولا علاقة لي بالموضوع، وأنا خارج الدائرة، ما كان بلغ موسى خبر هذه المؤامرة عليه.(217/7)
أمثلة من حياة الصحابة
هناك أمثلة كثيرة من حياه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أكتفي بنماذج سريعة منها، تدل على أن كل فرد منهم، حتى صبيانهم كانوا يشعرون بنوع من الارتباط بقضايا الإسلام، وأنهم لا بد أن يشاركوا فيها بوجه أو بآخر.
فكم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حضروا المعارك وقاتلوا، وهم دون الحلم، كان بعضهم أبناء عشر وإحدى عشرة سنة، ومع ذلك كانوا يحملون السلاح، ويخوضون المعارك، وما خبر معاذ ومعوذ ابني عفراء عنا ببعيد، وهو خبر معروف في الصحيحين، ومثل عبيد بن أبي وقاص، وغيرهم كثير، أما أبناء أربع عشرة، وخمس عشرة، فحدث ولا حرج.
وكان الواحد منهم إذا رده الرسول عليه الصلاة والسلام عن المعركة لصغر سنه، كان يرجع إلى أمه يبكي وكأنه منع من أن يخرج في رحلة ممتعة مع زملائه وأقرانه، حتى استقبالهم للرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء مهاجراً عليه الصلاة والسلام من مكة، كان الأنصار يخرجون من كبار السن من الشيوخ، وحتى الأطفال ينتظرون مقدم النبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة، حتى إذا ارتفع النهار، واشتدت الشمس ولم يأت قطعوا الأمل من مجيئه، رجعوا إلى بيوتهم وهكذا، وحتى لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقدم من إحدى المعارك، كان الصبيان الصغار يستقبلون الرسول عليه الصلاة والسلام بالأهازيج، والأناشيد، التي يعبرون بها عن حبهم له، وفرحهم بمقدمه، وقصيدة طلع البدر علينا المشهورة، كانوا يقولونها عند مقدمه صلى الله عليه وسلم من تبوك: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع حتى الصبيان كانوا يرددونها، وحتى النساء كانت تتباشر، وتتخابر بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام سواء في حادثة الهجرة، أم في غير حادثة الهجرة، بل إنك تجد أدواراً بارزة لصغار السن، قد لا يقوم بها الكبار، وما دور أسماء بنت أبي بكر في نقل الطعام للرسول صلى الله عليه وسلم حين كان في الغار هو وأبوها؛ ما هو بخافٍ على أحد.(217/8)
أمثلة لما بعد الصحابة
بل لقد حفظ لنا التاريخ أشياء أشبه ما تكون بالأعاجيب، حتى إنني أذكر أنني قرأت في ترجمة، أو في تاريخ نور الدين محمود أنه قام يوماً من الأيام فخطب على المنبر، ودعا الناس إلى الجهاد ضد الصليبيين، فخرج الناس إلى بيوتهم، وربما كان منهم من يقول مثل ما نقول اليوم: لا شأن لنا بالموضوع!! وكانت امرأة تسمع الخطبة فتأثرت وبكت وانفعلت، ثم رجعت إلى بيتها، فبدأت تحاسب نفسها، وتقول: ما هو الدور الذي يجب أن أعمله؟ فكرت وقدرت، فرأت أنها لا تملك شيئاً، تقول الرواية والقصة: فلم تجد إلا أنها قطعت جديلتها (أي: شعر رأسها وضفيرتها) وبعثت بها إلى الأمير، وقالت له: إني لا أملك إلا هذه فضعها لفرسك، أو لفرس أحد جنودك، وبغض النظر عن كون تصرف المرأة خطأً أم صواباً، نحن لا نصوب هذا العمل الآن، لكنني أقول: المهم هو الفكرة نفسها، هو أن امرأة شعرت بأنها يجب أن تصنع شيئاً، وحينئذ تتفتق الحيلة عن أسباب ووسائل وطرق لم تكن تخطر على بال.
فربما أنا، وأنت، والثاني، والثالث نعجز عن ذكرها، لكن لو أن الأمة فكرت كلها، وكل فرد فيها فكر ماذا يجب أن أعمل؟ لكان عندنا مليون أو عشرة ملايين أو مائة مليون عقل كلها تفكر في أمر واحد، ولابد أن تخرج بنتائج مما لا تخطر على بال أحد.(217/9)
الخلل في هذا الجيل المعاصر
أما نحن هذا الجيل المعاصر، الذي أثرت فيه مخططات أعدائه الداخليين والخارجيين، بسبب ضعف الإيمان والتقوى وضعف الصبر، فإن هذا الجيل أصبح جيلاً متواكلاً، يكتفي أن يلقى بالمسئولية على الآخرين، فنحن نلقي بالمسئولية على الحكام، وأحياناً نلقى بالمسئولية على العلماء، ولا شك أن الحكام مسئولون، والعلماء مسئولون، ولكن نحن -أيضاً- جزء من المسئولية على أعناقنا قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] وقال: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام:129] وقال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] والعالم جزء من الأمة، والحاكم جزء من الأمة0(217/10)
اهتمام الأمم الأخرى بقضاياها وقضايانا
المؤسف أيها الأحبة أننا حين ننظر إلى الأمم الأخرى الكافرة، كاليهودية -مثلاً- أو النصارى، الأمم الغربية والشرقية، نجد أن هذه الأمم تهتم بقضاياها، بل تهتم بقضايانا اهتماماً كبيراً، ففي كل قضية -كالقضايا التي نعيشها اليوم- تجد هؤلاء القوم في ذروة الاهتمام، فهم لا ينتقلون -مثلاً- من مؤتمر إلا إلى مؤتمر آخر، والدراسات تشتغل صباح مساء، ومراكز الأبحاث والإحصائيات والجلسات والمناقشات والتحليلات الإخبارية والتنقلات، والرحلات والتجمعات واستبيانات الرأي العام -كما تسمى- جهود كبيرة، بل إن هناك وسائل حية تنقل الأحداث أولاً بأول -وعلى سبيل المثال- الكل أصبح يعرف الـ"سي إن إن" التي هي عبارة عن وكالة تلفزة أمريكية، مهمتها نشر الأخبار على مدى أربع وعشرين ساعة، وعن طريق الأقمار الصناعية، ويتابعون الأخبار أولاً بأول، ويصنعون رأي الناس من خلال أخبارهم، وفضلاً عما تقوم به مراكز الأبحاث المختصة، من دراسات موسعة فضلاً عن الاستبيانات والإحصائيات الكبيرة التي يجرونها في بلادهم، ولذلك يرصدون يوماً بعد يوم تغيرات الرأي العام، فأحياناً يقولون -مثلاً-: الشعب الفلاني يؤيد الحرب بنسبة كذا وكذا، وأحيانا يقولون: لا يؤيد الحرب بنسبة كذا وكذا، وأحياناً ترتفع النسبة، وأحياناً تنحدر.
فهم يتابعون أولاً بأول، من خلال وسائل معينه معروفة، يتابعون رأي الفرد العادي، حتى شعر الفرد العادي بأن له دوراً، وأن رأيه مؤثر، وسارت مظاهرات في شوارعهم ترفع اللافتات والأصوات تعبر عن رأي أو رأي آخر معارض له.
المهم أن هذه الشعوب الغربية، أصبحت تحس بأن هذه القضايا قضاياها، وأنها يجب أن تفكر فيها، ويجب أن تقدم رأياً فيها، وأنه ليس من حق ساستها وزعمائها أن يقطعوا أمراً دونها، ولا أن يقودوها إلى أي وجهة إلا بعد أن يأخذوا أراء الأمة في مثل هذه الأمور.(217/11)
عدم اهتمام المسلمين بقضاياهم
أما المسلمون فلا شك أن المسلم العادي، أصبح لا يكترث بمثل هذه القضايا إلا من خلال زاوية واحدة، تظهر من خلال الأحداث التي نعيشها الآن.
فما هو الأمر الذي فعلناه، ونحن نترقب -كما يقولون- ساعة الصفر! كل ما فعلناه، هو أننا التفتنا فوجدنا كل فرد منا حصل على مكاسب معينة، في سكنه وبيته وأهله ومؤسساته ومزارعه، فصار حريصاً على ألا يضيع شيئاً من هذه المكاسب، فركض الناس إلى تأمين معايشهم وأرزاقهم، وتأمين ما يحتاجون إليه في حالة توقف التيار الكهربائي، أو في حالة عدم إمكانية الخروج، أو ما أشبه ذلك، فأصبح الناس كل همهم أن يشتري واحد منهم سراجاً يضيء به بيته، حتى حدثني بعض الإخوة الثقات أن قيمة السراج وصلت إلى مائة وعشرين ريالاً، ويقول لي أحد الجيران: شاهدت معركة أمس في السوق، فبعض أصحاب المستودعات كان عندهم سرج منذ زمن قديم قد عفا عليها الزمن، وقد تركت -وكما يقول المثل: مصائب قوم عند قوم فوائد- فقام وأخرجها يقول: فاضطرب الناس حولها، وصار عراك شديد، وارتفعت الأصوات، وامتدت الأيدي، وأصبح الحصول على السراج أحياناً بالسوق السوداء.
!! إذاً المهم أن يوجد سراج يضيء بيتنا، وكذلك الأمتعة والأطعمة والمؤن فيشتري الإنسان كميات كبيرة منها تكفيه لسنوات، وكأن الواحد منا يفكر أنه في حالة حصول شيء -ونسأل الله أن يحفظنا وإياكم وسائر المسلمين- كل ما في الأمر أن الواحد سوف يغلق عليه بابه، ويجلس يأكل ويشرب! وإذا مات جيرانك جوعاً! لا يهمك أمرهم!! أين أنت حتى من الشاعر الجاهلي الذي يقول: ولو أني حبيت الخلد فرداً لما أحببت بالخلد انفرادا فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا هذا في الجاهلية، أما حين جاء الإسلام أصبح الأمر شيئاً آخر، كان الواحد يموت من أجل جرعة من ماء يسقيها أخاه، قال تعال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وأصبح الناس في حالة من الهلع والفزع والرعب، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فأقول: كل ما يحرص عليه الإنسان العادي اليوم هو أن يؤمن نفسه، ويؤمن معيشته، ويؤمن بيته بهذه الأشياء، ولا يفكر في أمر آخر وراء ذلك.
حتى إنني سمعت أن بعض الغربيين يقول: أنتم أحد رجلين إما شجعان أو مجانيين، إما شجعان شجاعة تجعل الإنسان لا يعبأ بالحرب ولا يبالي بها ولا يكترث لها، وإما إنكم لستم تفكرون تفكيراً صحيحاً، فإن العالم الآن البعيد يضطرب، فما بالك بالقريب، أنا لست أدعو إلى أن نظهر فزعاً أو هلعاً أو رعباً، ولكن سأتحدث عن قضية التوكل على الله عز وجل وأمور كثيرة إن شاء الله، لكنني أتعجب من أن كل همنا وتفكيرنا أصبح مقصوراً في تأمين معايشنا، والحفاظ على ما كسبنا، فالإنسان الذي عنده -على سبيل الفرض- عمارة قد بدأ بإنشائها، وإصلاحها أصبح ينظر إليها صباحاً مساءً، ويدير فيها النظر، وكأنه يقول: يا أسفاه على ما ضاع في بنائها، وهو يظن أنه لا يكملها، إذاً همه مربوط بهذه الأشياء المادية.(217/12)
واقعنا لا يؤهلنا للجهاد
إذا كان هذا هو الواقع -أيها الإخوة- فإنني أقول: إن هذا دليل على أننا لا نصلح للجهاد بهذا الشكل، لأن يوشع بن نون عليه الصلاة والسلام، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه لما غزا إحدى البلاد، فأوشكت الشمس على المغيب، قال لها: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً فتوقفت الشمس، توقفت لـ يوشع عليه الصلاة والسلام فغزا وانتصر، لكنه قبل غزوه -وهذا هو الشاهد- قال لقومه -اسمعوا هذه خطبة الجهاد-: لا يتبعني منكم رجل قد عقد على امرأة، ولمّا يدخل بها، أي: إنسان قلبه معلق بزوجته سيدخل عليها، هذا لا يصلح لنا، فلينصرف إلى زوجته، فانصرفت طائفة، فقال: لا يتبعني رجل قد ملك إبلاً وغنماً وهو ينتظر نتاجها وولادها، هذا لا يصلح لنا، فليذهب إلى بقره وغنمه وإبله.
ثم قال: لا يتبعني رجل بنى داراً ولما يرفع سقفها، فقلبه مشغول "بالفيلا" هذا لا يصلح للجهاد؛ لأنه يفكر بقضية الدهان والتبليط والسباكة، والأشياء التي لا تتناسب مع مشاعر وروح المجاهد في سبيل الله عز وجل! فانصرف هؤلاء، وهؤلاء، وهؤلاء، فغزا فانتصر، إلى آخر القصة المعروفة.
فالمهم أن الأمة المجاهدة، يجب أن تكون مجاهدة بحياة قلوبها، وبارتفاع معنوياتها، وبصدق إيمانها، وبصحة توكلها على الله عز وجل، وليس بتعلقها بهذه الأشياء الدنيوية.
أيها الإخوة: لا يفهم من كلامي هذا أني أعارض اتخاذ الأسباب، كلا، فإن اتخاذ الأسباب التي هي أسباب فعلاً، ما دامت مباحة لا بأس بها، يسأل كثير من الناس يقول: مثلاً وضع ما يسمى (بالشطرتون) على النوافذ، نحن لا نعتب على الناس أن يفعلوا هذا، لا نقول لهم افعلوا، لكن لا نعتب على من فعل هذا، فهو أمر عادي، سبب عادي، وإذا كان هناك خوف حقيقي من شيء، واتقاه الإنسان بسبب قد أباحه الله تعالى له، فليس المقصود أن نعتب على الإنسان بهذه الأمور، لكن العجب كل العجب، أن تكون كل اهتمامات الناس، وتفكيرهم، وأسئلتهم عن ذلك، فكم واحد الآن يسأل عما قضية ماذا يجب أن نصنع للإسلام! نادر، لكن مئات، بل ألوف يسألون كيف نصنع؟ هل نضع أشياء على النوافذ؟! ماذا نصنع بأولادنا؟! ماذا نصنع في بيتنا؟! هل نستخدم أو لا نستخدم؟! إذاً الذين يسألون عن سلامتهم الشخصية، وسلامة زوجاتهم، وسلامة أطفالهم ومعيشتهم، أعداد غفيرة من الناس، لكن الذين يسألون عن قضية الإسلام، وماذا يصنعون للإسلام؟ أستطيع أن أقول: إنهم أفراد قلائل، وهذا أمر لا شك خطير؛ لأنه يدل على أن مشاعر الأمة ما زالت دون المستوى المطلوب.
بعض الناس يسألون -أيضاً- عما يعرض الآن، أو يعلن للأمة في أجهزة الإعلام، من طلب الاحتياطات، وكيفية ما يصنعه الإنسان، ورأيت كثيراً يرون أن هذا الأسلوب في أجهزة الإعلام غير سليم وغير جيد، لأنه أوجد الرعب والفزع في نفوس الناس، ومع أنني ربما تحدثت سابقاً في قضايا كثيرة تتعلق بوضع الإعلام، وضرورة تصحيح الإعلام، وبناء الإعلام بناء يضمن أن توجد الأمة المجاهدة الصحيحة، إلا أنني في هذه المرة بالذات أقول في رأيي: أن شد مشاعر الناس في هذه الظروف لا بأس به، لماذا نظل دائماً أمة ترف؟! وأمة خوف، ورعب، لو مر قط من أمام أحدنا، ربما أصيب بهلع، وارتفع نبض القلب، أنظل إلى الأبد هكذا؟! لا دع الناس يسمعون مثل هذه الأخبار، ومثل هذه النذر، ويحسون أن هناك خطراً يهددهم، حتى ترتفع معنوياتهم، يرتفع إيمانهم، ويقبلون على ربهم.
الآن الناس -يا إخوان- في البلاد -مثلاً- التي تعودوا على سماع أزيز الرصاص وأصوات المدافع، وأصوات القنابل فيها، كما هي الحالة بالنسبة في لبنان مثلاً، أو في أفغانستان، أو أي بلد، أصبحت هذه الأشياء عادية جداً عندهم، فأصبح الطفل -مثلاً- قد يرى أمه تقتل الساعة، ثم يذهب إلى حال سبيله، فالأمر أصبح عادياً عنده، فكل أمر إذا اعتادت عليه الأمم والشعوب لم يعد يخيفها، فيمكن أول مرة ربما يفزع الناس ويرعبون وينزعجون؛ لكن بعد ذلك يتطبعون، ونحن في حاجة إلى أمة تتطبع على الجهاد وتحيى مشاعر الجهاد، وروح الجهاد، وليست أمة همها الأكل والشرب وهمها سلامتها الشخصية فحسب، لا! نحن نريد أمة تعيش لغيرها لا لنفسها، ونريد أفرادا يعيشون لأمتهم، نريد قلوباً قوية عزيزة، لا يخيفها أن تسمع صوت طائرة، أو تسمع صوت الإنذار.
ولذلك أقول: إن هذا الذي يحدث الآن كان يجب أن يحدث منذ زمن طويل، وكان يجب أن نربي الأمة ليس على الغناء واللهو والطرب والمشاعر والأشياء التي تحدر قلوبهم، وتميت ضمائرهم، وتجعلهم خامدين وميتين وخاملين، وأهل رخاوة وضعف واستحذاء وتأنث، لا! كنا من زمن بعيد بحاجة إلى أن نجند أجهزة إعلامنا، وأن نجند كل وسائل التربية عندنا إلى بناء جيل قوي، وبناء أمة مجاهدة؛ لأن الجهاد قدر هذه الأمة أمس واليوم وغداً، ويجب أن نعلم ذلك، ونصدقه.(217/13)
المواقف الصحيحة للأمة تجاه الأخطار
أيها الإخوة أما الموقف الصحيح، الذي يجب أن نتخذه في مثل هذه الظروف الصعبة، الحرجة التي تعيشها الأمة، فهو مما يطول الكلام فيه، لكنني أشير إلى بعض النقاط على سبيل الاختصار:(217/14)
الخروج من المظالم ونصر المظلومين
أمر خامس: هو ضرورة الخروج من المظالم ونصر المظلومين، أيها الإخوة: يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في حديث متفق عليه عن أنس: {انصر أخاك ظالما أو مظلوما} قال يا رسول: هذا أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: {تحجزه وتمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره} فينبغي أن نكون جميعاً في نصرة المظلومين منا، ونأخذ بحقهم بقدر ما نستطيع، ونتكلم في قضاياهم، وندافع عن مصالحهم مهما كان الذي ظلمهم، وأيضاً ننصر الظالمين؛ ليس بإعانتهم على ظلمهم وتأييد ما وقعوا فيه، وإنما بمنعهم من الظلم، وأن نقول لهم كلمة الحق لا نخاف في الله تعالى لومة لائم، ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} ولما جاءت أم سلمة من الحبشة، سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أعجب أمر رأته بالحبشة، فقالت: {يا رسول الله: رأيت امرأة عجوزاً تحمل قربة على ظهرها، فجاء شاب طائش فضربها وأسقطها، وسقطت القربة وانتثر الماء، فقامت هذه العجوز وقالت له: ستعلم يا غدر- أي يا غادر- إذا نزل الله عز وجل يوم القيامة لفصل القضاء، كيف يكون جزاؤك} فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الكلام وقال: {صدقت صدقت، لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} وفي حديث وإن كان فيه ضعف {إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم.
فقد تودع منها} .
إذاً: الأمة تهلك وتموت كغيرها إذا انتشر فيها الظلم، ولم يوجد من يغير الظلم، أو ينصر المظلومين، أو يقف إلى صفهم، مهما كان المظلوم، خذ -على سبيل المثال-: العمال.
العمال في مجتمعنا في كثير من الأحيان مظلومون، فقد يؤخر عنهم راتبهم، فلا يعطون رواتب أشهر متتابعة، وقد تبخس حقوقهم، وقد يظلمهم صاحب العمل، وقد يجور عليهم بالعمل، وقد يسيء معاملتهم، وقد يسكنهم -أحياناًً- في صناديق أو أماكن لا تصلح حتى للحيوانات، أليسوا بشراً؟! أليس عندهم إنسانية؟! خاصة أنهم قد يكونون مسلمين، أليس هذا صحيحاً؟! إذاً: لابد من أن نرفع الظلم عن المظلومين بكل وسيلة، ونعلم أن هذا من أسباب نصر الله -تبارك تعالى- لنا، وكذلك لابد أن نساعد الضعفاء والفقراء والمحتاجين والمعوزين، وأن نحرص على حقوقهم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في الحديث الصحيح: {ابغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون -لاحظ وتنصرون- بضعفائكم بدعائهم واستغفارهم} يا أخي: لا تستخف بالصبي الصغير -مثلاً- وبالمرأة الضعيفة وبالعجوز أو الشيخ المسن وبالرجل الضعيف وبضعيف العقل وبالفقير وبالمسكين ولا تستخف بهؤلاء أو تنظر إليهم شزراً، أولا تأبه بهم؛ لأن المقياس عند الله عز وجل ليس بهذه الأشياء الدنيوية أبداً، هؤلاء يجب أن تعطيهم حقهم، وتحفظ لهم مكانتهم، وتقدرهم، وتحاول أن تساعدهم بقدر ما تستطيع.
اذهب يا أخي إلى الأحياء الشعبية في أي مدينة وانظر كيف يعيشون، تجد كثيراً منهم قد لا يجدون لقمة العيش أحياناً!! وإلى جوارهم أصحاب قصور عامرة وفارهة، يتقلبون في ألوان النعيم!! إن هذا من أسباب هلاك الأمم، وقد يسلط الله علينا عدونا، بسبب مثل هذه الأمور.
فيجب أن نفزع إلى الله تعالى أيضاً بتوبة نصوح من السكوت على ألوان الظلم، ونفزع إليه بتوبة نصوح، من عدم الاهتمام بشئون الفقراء والضعفاء، بل نهتم بهم ونرعى شئونهم، ولا نكل ذلك -مثلاً- إلى جمعية فقط، وإن كان للجمعية دور طيب، بل كل فرد منا ينبغي أن يحرص على أن يقوم بدوره في هذا السبيل، وهذه كلها أمور لابد من مراعاتها.
مع ذلك لابد من نصر الشعوب المظلومة، هذا في داخل البلد -مثلاً- أو الدولة، لكن حتى الشعوب الإسلامية المظلومة، لابد أن تتذكر أنه ربما تبتلى أمة، أو دولة ببلوى بسبب إهمالها لصرخات شعب من الشعوب، ربما شعب من الشعوب منذ سنين طويلة، يئن ويصرخ ونحن نسمع، هذا إذا كنا مؤمنين فعلاً بأن الله تعالى يعاقب، وهو يعاقب ولا شك، فرب شعب من الشعوب صرخ على مسمع منا، فما أغثناه، فاليوم نحن نسدد الدين، وجاء الدور علينا.
فيجب أن ندرك أن من واجبنا الخروج، والتوبة من معصية، وهي نصرنا للشعوب الإسلامية في كل مكان، وعدم تعزيزنا لمواقفها، ويجب أن نكف عن إيذاء هؤلاء المؤمنين على أقل تقدير، إن لم نقم بنصرهم، فلا أقل من أن نكف شرنا عنهم.
يا أخي: لا تتكلم في المسلمين كلاماً عاماً، نحو الشعب الفلاني فيه كذا وكذا، لا يجوز لك هذا، وإياك إياك أن تقبل ضيماً لإخوانك المؤمنين أو تشهيراً بهم! أليس من المحزن -أيها الإخوة- أن نعلن للناس فيلماً يتكلم عن الشعب الأفغاني المجروح المطعون، الذي يعيش حرباً دموية منذ أكثر من عشر سنوات، أو اثنتي عشرة سنة مع عدو كافر كاسر، فيلماً يتكلم عن هذا الشعب، ويصور نساءه بأن المرأة منهن لا هم لها إلا أن تكون في حضن الرجل؟! وهو من صناعة أعدائنا الكفار الأمريكان، أليس هذا خذلاناً لهذه الشعوب المؤمنة؟! هذا الفيلم عرض، وهو يباع في المحلات، كما حدثني أكثر من واحد من الإخوة.
إذاً ينبغي أن ننصر الشعوب الإسلامية المظلومة في كل مكان، وأن نصغي إلى صرخاتهم، وندرك بأن هذه الصرخات هي صرخات مظلومين، والله إن لم ننصرهم سنصبح مثلهم يوماً من الأيام، وربما يكون الأمر كما ترون، فعلينا أن نتوب إلى الله عز وجل من مثل هذا.
أيها الإخوة: لقد رأينا كيف أورثت الثروات أحقاداً، وأججت ناراً، وحركت ضغائن ومزقت شعوباً، فلندرك أننا لو كنا كرماء على كافة المستويات، أفراداً وجماعات وشعوباً وحكومات، لو كنا كرماء مع المسلمين بشكل صحيح، وننصر قضايا المسلمين وقضايا الشعوب المسلمة المظلومة والمهضومة والمضطهدة، لو كان الأمر هكذا، لكان الأمر متغيراً بالنسبة لنا.
فعلينا أن نتوب إلى الله عز وجل من الغفلة عن المظلومين، والمهضومين، والفقراء، سواء أكانوا بيننا أم كانوا في أي بلد آخر.(217/15)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أمر آخر: هو قضية الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، وهو من أهم الواجبات التي يدفع الله بها العذاب عنا، وينصرنا بها، وحين أقول المعروف، أعني: كل المعروف وليس بعضه، وحين أقول المنكر أعني: كل المنكر وليس بعضه، فلابد أن نأمر بالمعروف كله، ولابد أن ننهى عن المنكر كله، ولا يمكن أن نكون كما قال الله عز وجل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] وكما قال عز وجل: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] فلابد أن نأمر بالمعروف كله، ولا بد أن ننهى عن المنكر كله، وترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على كافة المستويات، في البيت والشارع والمدرسة والبلد والمؤسسة والمدينة والدولة والمسجد فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القنوات وغيرها هو سبب الهلاك، وهو سبب اللعن، وهو سبب الاختلاف، يقول الله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78-79] .
فما بالك أيها الأخ الكريم بأمة ملعونة، تدخل المعركة وهي ملعونة، هل تنصر؟! هيهات!! أبداً، إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما سمع امرأة تلعن بعيراً لها أو ناقة، قال لها: {لا تصحبنا ناقة ملعونة} فتركوها فيقول الراوي: رأيتها تسير وحدها بعيداً عن الركب.
فإذاً الأمة ينبغي أن تخرج من غضب الله ولعنته، بأن تَصْدُق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تكون عرضة للتشتت والتفرق والاختلاف، فإن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سبب لتسليط الكافرين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن زينب بنت جحش: {أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه فزعاً يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه} فقالت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون، قال صلى الله عليه وسلم: {نعم، إذا كثر الخبث} تهلكون إذا كثر الخبث أي: ولم يوجد من يأمر بالمعروف، ولا من ينهى عن المنكر، إنه فتح اليوم -في ذلك اليوم الذي قال فيه الحديث- من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه، فما بالك بيومنا هذا، فقد فتح من ردم يأجوج ومأجوج بوابات واسعة عريضة!! ويجب علينا أن نتدارك هذا الأمر بتوبة صادقة إلى الله تعالى من ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن يكون كل امرئ منا قيّماً على أمور المسلمين، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يأمر نفسه وغيره بالمعروف، وينهى نفسه وغيره عن المنكر، وهذا واجبنا جميعاً، ألا ندع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة أو مهمة فئة معينة من الناس.
فإنها يمكن أن تمل وتتوقف، ويمكن أن تؤذى، ويمكن أن يضيق عليها، ويمكن أن يقول الناس فيها ما يقولون، لا! فنجعل هذه القضية مهمتنا جميعاً.
ولعل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضح رءوس الضلالة والكفر، والنفاق، الذين فضحهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله -تعالى- في كتابه سمى لنا أسماء الكفار، والكفر، مثل فرعون وقارون وهامان وأبي لهب، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم سمى لنا بعض الكافرين وبعض المنافقين، وفضحهم إلى يوم الدين.
فهكذا نقول: إن من واجب الأمة، أن تعرف أعداءها الحقيقيين مهما كانوا، ومهما تزينوا وتسموا بأسماء إسلامية، وخدعوا الناس بألفاظهم، وبهرجهم وقيلهم وقالهم، واستدلالاتهم بالنصوص القرآنية والنبوية، فإن كثيراً من هؤلاء الناس، شأنهم كما قيل: له ألف وجه بعدما ضاع وجهه فلم تدر فيها أي وجه تصدق فهو اليوم علماني كبير، وهو غداً فقيه متدين، وعالم جليل، ولا تدري أي وجه تصدق من هذه الوجوه، فيلبس لكل حادثة لبوسها!! أيها الإخوة: كثيراً ما يحتج بعض الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} وسنة سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم على رءوسنا، ومعاذ الله أن نحيد عنها قيد أنملة، وإن حدنا فإنا ظالمون، ولكن هل سمعتم أحداً يقول في هذا الوقت مثلاً: ما بال أقوام يجتاحون الكويت؟! هل سمعتم هذه اللهجة؟! ما سمعنا أحداً يقول هذا، بل إن هؤلاء لابد من تعريتهم وفضحهم وكشفهم، لأنهم طغاة يتحدث بهم العالم، من أقصاه إلى أدناه، ومن الطبيعي أن يسمع الناس كلهم بأسماء هؤلاء وحقائقهم وتاريخهم، وأن يفضحوا على رءوس الأشهاد، فنقول: فلان بن فلان، نقول: حاكم العراق، أو نسمي باسمه، ونقول: إنه فعل وفعل وفعل، ولا نكتفي بأن نقول ما بال أقوام يجتاحون الكويت.
كما أن هذا الكلام صحيح، وكلنا نصدق عليه، مثله تماماً يجب أن نقول فلان يقول عن الإسلام كذا وكذا، وفلان يقول على المسلمين كذا وكذا، وفلان يقول في الكتاب الفلاني كذا وكذا، بشرط أن نكون متوثقين، ومتأكدين من صدق ودقة المعلومات والحقائق التي ننقلها عنهم، فإن هذا من الواجب الذي أناطه الله تعالى بنا كما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] ولتستبين أي: تتضح وتظهر سبيل المجرمين.
وهذا جزء من معنى لا إله إلا الله، فهي نفي وإثبات، والنبي صلى الله عليه وسلم لما مُر عليه بجنازة أثنى عليها شر فقال: {وجبت وجبت} وقال: {أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار} ومن خلع جلباب الحياء فلا غيبة له.
وليس صحيحاً أن نترك العلمانيين والحداثيين يعبثون بمقدساتنا، وقيمنا وأخلاقنا، وعقائدنا وعقولنا، وأعراضنا وشبابنا وأموالنا أيضاً، ونسكت عنهم؛ لأننا لا نريد أن نسميهم.(217/16)
تصحيح العقيدة
أمر سابع: لابد من تصحيح العقيدة في النفوس، وهذا من الواجبات الضرورية التي ينبغي أن نسارع إليها، خاصة في مثل هذه الظروف، لأن العقيدة أصابها منذ زمن ما أصابها، وفي هذه الأحداث خاصة ظهر للعيان أن كثيراً من الناس لا يملكون من العقيدة إلا رسوماً حائلة وأثاراً قليلة، فمثلاً قضية التوكل على الله عز وجل غابت من نفوس الكثيرين مع أنها أمر اعتنى القرآن الكريم ببيانه أتم عناية قال الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] وقال: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس:85] وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] وقال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] .
إذاً التوكل على الله عز وجل هو من أعظم العدد التي نواجه بها عدونا، أن نثبت ونتوكل على الله عز وجل ونعلم أن التدبير الحقيقي في السماء، وليس في أروقة الأمم المتحدة، ولا في الكونجرس، ولا في الكنيست، ولا في أي مكان، إن التدبير الحقيقي في السماء، وأن هؤلاء البشر ما هم إلا أدوات هزيلة وضعيفة، يحقق الله بهم من قدره ما شاء.
ويا أخي الحبيب: اقرأ القرآن بروح، فاقرأ قول الله عز وجل لما ذكر قصة صالح فقال: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] وإن كل ما تسمع من الإذاعات، وتقرأ في الصحف والتقارير، والتحاليل الإخبارية، وكل هذه الأشياء داخلة تحت قول الله تعالى: {ومَكَرُوا مَكْراً} [النمل:50] فهذا مكرهم، لكن كثيراً من الناس غاب عنهم قول الله تعالى: {وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] الكفار لا يشعرون، هذا أمر طبيعي وهذا شأنهم؛ لأنهم غاب عنهم استحضار عظمة الله والإيمان والتوكل عليه، فلذلك هم لا يشعرون، ويظنون الأوراق كلها في أيديهم، وأن القرار الأخير عندهم، فهم لا يشعرون، كما وصفهم الله، لكن الله عز وجل خاطب المؤمن بقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:51-52] وقال أيضاً: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] .
إذاً لا تعتبر بمكر الكافرين، من البعثيين واليهود والنصارى والشيوعيين، والحلفاء في شرق البلاد وغربها، واعتبر مكر الله عز وجل وتوكل على الله كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217-220] وثق بأن الأمر كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] يعني: كافيه ومنقذه وحاميه وناصره، ومن كان الله عز وجل حسبه فلا يضيره أن تجتمع الدنيا كلها عليه.
أيها الإخوة: يجب أن نجعل الأسباب أسباباً فقط، ولا تتعدى الأسباب إلى أن نتوكل على الأسباب، ونؤمن أنها هي أول شيء وآخر شيء، لا! هناك أسئلة كثيرة، كما أتوقع تتعلق بالموضوع الذي ذكرته، قبل قليل وهي قضية الأسباب التي تذاع الآن، والتي تتخذ على مستوى الفرد.
هذه الأشياء كلها مادامت أسباباً فلا إشكال، لكن هناك فرقاً بين مذعور فزع، ويظن أن القضية تنتهي عند هذه الأسباب، وكل همه أنه عكف على الإذاعات والأخبار، ماذا ينتهي عنه الاجتماع الفلاني؟ وماذا ينتهي عنه القرار الفلاني؟ ويظن أن القضية تنتهي عند هذا الحد، وبين مؤمن موصول بالله عز وجل فهو واثق بأن الله تعالى يدبر خيراً لهذا الدين، وأن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر، وأن من يتوكل على الله فهو حسبه، وأن الله ينصر أولياءه، ورسله، وعباده، في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
فيكون في قلبه يقين وطمأنينة، ولذلك يذكر محمد إقبال في وصفه للمؤمنين: المؤمنون على عناية ربهم يتوكلون لا خوف يرهبهم ولا هم في الحوادث يحزنون لو مر واحدهم هم على فرعون يجتز الرءوسا لأراك في الإفصاح هاروناً وفي الإقدام موسى أي: أن المسلم في فصاحته كهارون، وفي إقدامه وشجاعته كموسى، وإن كان الذي أمامه كفرعون، فلابد من التوكل على الله عز وجل، وهذه الأسباب إن اتخذها وفعلها ما دامت أسباباً حقيقية وصحيحة، فلا حرج عليه، وإن ترك هذه الأسباب؛ لأنه يظن أنه لا حاجة لها بحسب اجتهاده، فلا حرج عليه أيضاً، أما الأسباب العامة التي تحتاجها الأمة من التعبئة والتجنيد والتدريب وبناء أمة مجاهدة ورفع معنويات الناس فهذا كله لا شك أنه من أهم الواجبات، ومع ذلك فلابد للأمة من التوكل على الله عز وجل.
ولم تكن قوتنا في يوم من الأيام كقوة عدونا، وما حاربنا عدونا في يوم من الأيام بقوتنا أبداً، إنما حاربناه بقوة الله عز وجل قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ويوم أن نعتمد على قوتنا، فضلاً على قوة غيرنا، فإن الله -تعالى- يتخلى عنا كما قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] .
ومن الموضوعات المتعلقة بموضوع تصحيح العقيدة أيضاً، قضية الإيمان بالقضاء والقدر: فهذا وقت الإيمان بالقضاء والقدر وهذه حاجته.
والمؤسف أيها الأحبة أن كثيرا من المسلمين الذين مُسخ الإسلام في قلوبهم وعقولهم، إذا وقع الواحد منهم في معصية قال: قضاء وقدر، هذا في الماضي، أما إذا جاء وقت الحاجة فعلاً إلى الإيمان بالقضاء والقدر، نسي القضاء والقدر، فيحتج به في غير محله، وينساه في محله، والواجب أنك الآن يظهر صدق إيمانك بالقضاء والقدر.
فأنت تعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في وصيته المعروفة: {أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف} أتؤمن بهذا؟ نعم تؤمن، وكما قال الله عز وجل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] تؤمن بأن الآجال مضروبة ومكتوبة، وأن الإنسان إذا جاء أجله لا يمكن أن يستقدم ساعة، ولا يستأخر ساعة، بل ولا لحظة، ولا ثانية، ولا أقل من ذلك قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61] وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49-50] وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] .
إلى غير ذلك من النصوص، التي تبين أن كل شيء عند الله مكتوب وموزون ومقدر بصفته ووقته ومكانه، فلا يتقدم ولا يتأخر ولا يتغير، ولا يزيد ولا ينقص.
فهذا لا يمنع الإنسان من فعل السبب، لكن يجعل في قلبه يقيناً، وروحاً وإيماناً وصبراً وثقةً.
فهذا الهلع والفزع يزول، وعلى الإنسان أن يفعل السبب ولا يبالي، بل كثير من الناس المؤمنين يفعل السبب امتثالاً للشرع، وهو لا يريد أن يفعله؛ لكن يفعله من باب الامتثال لأمر الله عز وجل بفعل الأسباب، وقد يترك السبب توكلاً على الله عز وجل، وقد جاء في حديث عمران بن حصين في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ذكر من هذه الأمة سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ولما سئل عنهم قال عليه الصلاة والسلام: {هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون} فينبغي أن يكون عندك إيمان بقضاء الله وقدره، وأن كل شيء مكتوب ومقدر، وأن من يهرب من بلد قد يهرب إلى الموت، فقد يهرب الإنسان إلى الموت وهو يفر من الموت.
ومن أهم العقائد التي أصابها ما أصابها في هذا الوقت عقيدة: الولاء والبراء التي مسخت والعياذ بالله من عقول كثير من الناس، وغاب عنهم التفريق بين المؤمن والكافر، فأصبحت تسمع أحياناً الثناء على الكافرين، وتسمع الحط من المؤمنين والمسلمين، وهذه مصيبة كبرى لأن الولاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هو للمؤمنين.
والبراءة هي من الكافرين والمنافقين، كما في آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل حيث قال: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] وقال: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] .
والمؤسف أن كثيراً من المسلمين اليوم، أصبحوا يمتدحون رءوس الكفر وطواغيته ورءوس الضلالة والفجور، ويثنون عليهم، لا أقول في أجهزة الإعلام فحسب، فإننا نسمع في أجهزة الإعلام أموراً مفزعة ومفضعة، حتى إننا نقرأ عن رئيس الولايات المتحدة -مثلاً- التعبير عنه بأنه أكبر(217/17)
التوبة والاستغفار من كل الذنوب
ومن الأسباب أو الوسائل المتعلقة بالموقف الصحيح، قضية التوبة والاستغفار، فإن الاستغفار من أسباب دفع العذاب والبلاء، كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] فالذين يستغفرون الله تعالى بصدق، يرفع الله عنهم العذاب، بسبب صدق استغفارهم.
فينبغي أن نكثر من قول: (استغفر الله، سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ومن ذلك سيد الاستغفار المعروف: {اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر كما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} وكما قال نوح عليه السلام: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] ومع الاستغفار لابد من التوبة، فإن العبد لا يسعه أن يستغفر، وهو مصر على ذنبه مقيم عليه، فلابد من التوبة من جميع الذنوب والمعاصي، وما أدراك ما هي الذنوب والمعاصي؟! إذا سمعت هذه الكلمة، ظن الناس أن الذنوب والمعاصي هي فقط الذنوب الظاهرة الفردية، ولا شك أن كل الذنوب يجب التوبة منها، فهي أن يتوب الإنسان من كل ذنب.
فيتوب من أكل الربا، ويتوب من أكل الحرام، ويتوب من سماع الغناء، ويتوب من كل معصية لله عز وجل، ويتوب من ترك الجماعة أو ترك الصلاة، وخاصة صلاة الفجر، ويتوب عن عقوق الوالدين، ويتوب من كل ذنب.
لكن أيضاً هناك ذنوب عامة، يجب أن نتوب إلى الله عز وجل منها، وهي ذنوب قد ابتليت بها الأمة كلها -فمثلاً- من هذه الذنوب التي يجب التوبة منها وعدم الإصرار عليها: التخلف، فالتخلف ذنب، فكون الأمة الإسلامية تعتمد على عدوها في كل شيء، حتى في الإبرة التي تخيط بها الثياب، هذا تخلف!! تخلف صناعي، وهو ذنبُ تحاسب عليه الأمة، وتأثم به، خاصة القادرين على ذلك، فنتوب إلى الله تعالى من التخلف، سواء كان تخلفاً اقتصادياً، أم تخلفاً صناعياً، أم تخلفا سياسياً، أم تخلفاً علمياً، في أي مجال من مجالات الحياة.
كيف نتوب؟! نتوب بأن نعقد العزم على أن نصحح وضعنا، وأن نبدأ بداية صحيحة في الوصول إلى التقنية التي تحتاجها الأمة، والتقدم العلمي في كل مجالات الحياة بحيث تظل الأمة الإسلامية هي الأمة القائدة الرائدة، وليست أمة تأخذ عن الآخرين، وتقلد غيرها من الشعوب، مع أن هذه الأمة لا ينقصها شيء، فأعظم ثروات الدنيا عندنا و (70%) من نفط العالم هو في هذه البلاد، فهي كما يقال: تعوم فوق حقل من النفط، ولا ينقصنا المال والثروة، ولا ينقصنا العدد البشري، فإن هذه الأمة الإسلامية هي في المرتبة الثانية، في عدد أفراد الديانات في العالم، وأكثر من خمس سكان الكرة الأرضية من المسلمين، ولا ينقصنا القدرات البشرية العقلية، فإن عندنا علماء ومفكرين ومختصين، ولكنهم مع الأسف في جامعات الغرب يعملون، وفي مراكز الأبحاث هناك يشتغلون, وقد استفاد الغرب من خبراتهم وإمكانياتهم، لكننا نحتاج إلى خطة حقيقية واضحة، تضمن لهذه الأمة أن تتوب إلى الله تعالى توبة نصوحاً من هذا التخلف الذي ظل يخيم عليها عشرات السنين.
فهذه من الذنوب.
ومن الذنوب أيضاً الركون إلى العدو، والله عز وجل يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] .
فإن ثقتنا بعدونا، واعتمادنا عليه، وطاعتنا للكافرين في كثير من أمور الحياة هي التي أوردتنا الموارد، وأوصلتنا إلى هذه المهالك التي نعيش فيها الآن، والله عز وجل يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] وبين عز وجل أن طاعة الكافرين دمار في الدنيا والآخرة، وأن من أطاع الذين كفروا، أو فئة من الذين كفروا، ردوه على أعقابه خاسراً كافراً والعياذ بالله.
فلا يجوز للمسلم أن يطيع الكافرين في هذه الأمور، بل ينبغي أن نعلم عداوتهم لنا ولديننا، وأن نعصيهم في هذه القضايا، وأن نطيع الله سبحانه وتعالى ورسوله، وأن نطيع الناصحين، فليس صحيحاً أن تثق بالكافر ولا تثق بالمسلم، على أي مستوى، الآن نفترض أن عندك مؤسسة في عمل، فتجد أن بعض أصحاب المؤسسات يقول: لا آتي بعمال مسلمين، فنقول له لماذا؟ يقول: لأنهم خونة!! فيأتي بكفار والعياذ بالله نقول له: كيف تثق بالكافر، ولا تثق بالمسلم؟! وهكذا الحال بالنسبة للشعوب الإسلامية، كثيرٌ من حكامها لا يثقون بشعوبهم، ويخافون منها، ومع ذلك يثقون بعدوهم، كيف تثق بعدوك ولا تثق بصديقك؟! هذه أيضاً من المعاصي التي يجب أن يتاب إلى الله عز وجل منها، فإن المسلم مهما كان أقربُ لك من غيره، ومهما كان عنده من التقصير والنقص والمعصية والخطأ، فمهما كان فالمسلم خير من غيره، وكما قال الله عز وجل: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] هذا حكم الله عز وجل في كتابه يتلى إلى يوم القيامة.
ومن الذنوب والمعاصي التي يجب أن نتوب إلى الله منها، إيثار المصالح على المبادئ، فكثيرٌ منا -أفراداً وجماعات ودولاً وحكومات- نؤثر مصالحنا على مبادئنا، وهذا خطأ كبير، فالأصل أن المبادئ هي التي تسيرنا، فالدين هو الذي يحكمنا في الدقيق والجليل، والمصالح تأتي تبعاً لذلك، وما كان مصلحة للدين، فهو مصلحة للدنيا، فليست علاقتنا مع الناس القريب والبعيد، وأمورنا كلها، مبنية على مصالح تتقلب وتتغير أبداً، فعندنا مبادئ وأسس وأصول وقواعد ثابتة واضحة لا تتغير، والمصالح تأتي تبعاً لذلك، ولا يمكن أن نقدم المصلحة على العقيدة أو على الدين أو على قواعد شرعية ثابتة مطردة، وليس صحيحاً أن نتلاعب بالمثل والأصول والدين بحجة أننا نبحث عن مصالح معينة، فكل هذه ذنوب يجب أن يتاب إلى الله منها، وأن نصحح معنى المعصية في نفوسنا.(217/18)
الاهتمام بقضايا المسلمين
أولاً: لا بد -كما أشرت إلى شيء من ذلك- أن نحس بمشكلات الأمة إحساساً حقيقياً، كما نحس بمشكلاتنا الخاصة، أنا أريد أن أعرض عليك يا أخي الحبيب مثالاً: لو أن رجلاً سبَّك، وقال فيك: فلان الذي فيه كذا وكذا، وأعطاك من ألفاظ السب، والشتم ما لم تسمع من قبل، ماذا كنت تصنع؟ الغالب أن الواحد منا يغضب، وينفعل لذلك ويتأثر، ويقوم بكل وسائل الإنكار على الذي سبه، وإن استطاع أن يدفع السب بيده فعل، فصفع هذا الإنسان أو ضربه، وإن لم يستطع سبه بصفة مقابلة، وشتمه كما شتمه، وإن لم يستطع فإنه يرفع به إلى الجهات المختصة، لطلب أخذ الحق منه0 فما بالك لو أن إنساناً جاء، وسب القبيلة التي تنتسب إليها، سواء أكان ذلك مشافهة أم ألف كتاباً يقول فيه قبيلة كذا فيها كذا وكذا، ما الذي كان سيحدث؟! كنا جميعاً نثور لهذا الأمر الذي حصل، كل أفراد القبيلة يقومون، وتتنوع وسائل الإنكار، بمكاتبة المسئولين، والإنكار على من أذن بطبع الكتاب، ومصادرة هذا الكتاب وحرقه، ومحاصرة المكتبات التي قامت ببيعه أو توزيعه، والضغط على المؤلف، والاتصال الهاتفي، وزيارته، وتوبيخه، حتى يضطر إلى أن يعلن اعتذاره، ويسحب ما قال ويعلن أنه أخطأ، أو يقول: هذا خطأ مطبعي، فالمهم أن الرجل -فعلاً- شعر بأنه يجب ألا يقول مثل هذا الكلام مرة أخرى.
فمثلما تغضب لنفسك، أو لبلدك، أو لقبيلتك نريد منك أن تغضب لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولإخوانك المسلمين فتكون قضايا المسلمين حية في قلبك، كما أن القضايا التي تخصك أيضاً حية في قلبك، أرأيت لو أن رجلاً تعرض لموضوع الترقية لما كنت ستترقى من رتبة إلى أخرى، فتعرض لها إنسان، وعرقل هذا المشروع، فإن أقل ما كنت تفعل أن تتكلم به في المجلس، فلان هذا الحسود والحقود والذي فيه وفيه، لقد تعرض لي وهو لا يضره الأمر بشيء، لكنه حقد علي، وتبدأ تتكلم عنه في كل مجلس.
ولو أن إنساناً أخذ أرضاً منك بغير حق وهي لك؟ فأقل ما كنت تصنع أنك تشكوه، فإذا عجزت عن استخلاص حقك منه، كنت تقول لأهل بيتك: الليلة أيقظوني قبل صلاه الفجر بساعة، قالوا يا فلان: ما هو السبب؟! ليست من عادتك -الله المستعان- أنك تقوم الليل، لعلك تقوم بالفرائض! تقول: نعم، لكن هناك فلان ظلمني، أنا الليلة سأخصص القيام للدعاء على فلان، لأن دعاء المظلوم مستجاب.
يا أخي: نحن نريد منك أن تهتم بقضايا الإسلام، مثلما تهتم بهذه القضايا، سواء بسواء، تتكلم في قضايا الأمة، مثلما تتكلم في قضاياك الشخصية في المجالس، وتوعي الناس مثلما توعيهم في موضوعك الخاص، وتدعو ربك، ولا مانع أن تقوم في إحدى الليالي خصيصاً لموضوع دعوة الله، تدعو الله عز وجل لأمر الإسلام والمسلمين، وتدعوه لتفريج كربات الإسلام والمسلمين.
إذاً القضية الأولى: أنه يجب علينا أن نهتم، ونكترث لقضايا الإسلام، وقضايا المسلمين في كل مكان، على الأقل كما نهتم ونكترث بقضايانا الشخصية وأمورنا الذاتية، فهذا أقل ما يجب0(217/19)
التوعية بين الناس
الأمر الثاني: أنك تتحدث عن هذه القضايا، ويعد هذا جزءاً من واجبك الشرعي، فنتحدث عن قضايا الأمة كلها، قضاياها العقائدية والدينية، وقضاياها السياسية، وقضاياها الاقتصادية، وقضاياها الإعلامية، وقضاياها العسكرية، فهذه ليست حكراً على أحد، وهذه كل مسلم مطالب بأن يكون له رأي صحيح مبني على الكتاب والسنة فيها، وأن يتكلم بهذا الرأي الصحيح في كل مجلس، ويوعي الناس بمثل هذه الأمور، ومن الخطأ أنك تقول: هذا من الفضول، وهذا كلام لا داعي له، أنا أشتغل بما يعنيني.
وما هو الذي يعنيك؟! هل هي فقط أمور الصلاة والصيام والحج؟! هذه كلها من الدين -لا شك-، لكن أيضاً من الدين أن تتكلم في قضايا الأمة والمصالح العامة، وتوعي الناس بها، وتبين إن كان لله ورسوله فيها حكم ظاهر عندك بينته، وإن لم يكن ظاهراً سألت عنه، ثم بينته للناس.
فنريد أن تتحدث عن هذه القضايا، ولا تعد الحديث فيها فضولاً، أو تدخّلاً فيما لا يعنيك، أو ما أشبه ذلك، من كلام بعض الناس الذين يعدون هذا إضاعة للوقت0(217/20)
اللجوء إلى الله بالدعاء والعبادة
الأمر الثالث: الذي نريده منك -وفقك الله وحماك- أن تقوم لله عز وجل بالقنوت والذكر، والعبادة والدعاء فإن هذا من أزمنة الدعاء، كما يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فيما رواه مسلم عن معقل بن يسار يقول عليه الصلاة والسلام: {العبادة في الهرج كهجرة إلي} يعني أن إقبال الناس على الله عز وجل بالعبادة في أزمنة الهرج، وهي أزمنة الفتن والقتل والقتال مثل الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وهذا فضل عظيم للعابد، لا يكون له في أي حال، إنما يكون في مثل أوقات الفتن، التي سماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوقات الهرج.
فنريد منك أن تقبل على العبادة وتفزع إلى الصلاة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، ومن العبادة ذكر الله عز وجل بألوان الذكر، من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، فإن هذا يقربك إلى الله عز وجل زلفى.
ومن العبادة أيضاً، القنوت، والدعاء لله -جل وعلا- فإن ميزة المؤمنين أنهم يتضرعون إلى الله -تعالى- والمؤسف أيها الإخوة أن الله حكى في القرآن الكريم حتى عن الكافرين، أنهم في أزمنة الشدة، يتضرعون إلى الله عز وجل {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] وقال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:22] دعوا الله مخلصين له الدين، واليوم أهل الإسلام وأهل التوحيد وأهل العقيدة الصحيحة -كما يقولون هم عن أنفسهم- تمر بهم الأزمات والنكبات والفتن والمحن، فلا يفكرون إلا في مواعيد الأمم المتحدة وقرارات بوش، وفيما ينتهي إليه اجتماع الكونجرس0 أما الإقبال على الله عز وجل والتضرع إلى الله تعالى، وما أصدق الدعاء، فكأن كثيراً من الناس ضعف في قلوبهم الاقتناع، والإيمان بتأثير الدعاء، كأن كل واحد يظن أن الأسباب المادية غلبت، فنظن أن الدعاء لا يصنع شيئاً0 أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجل وللأجل انقضاء فالدعاء من أعظم الأسلحة، التي ينبغى أن يتضرع بها المؤمنون، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر، يواجه عدواً ثلاثة أضعافهم من حيث العدد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في العريش، يرفع يديه إلى الله تعالى بالدعاء حتى يسقط رداؤه عن منكبه، وهو يقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة، لا تعبد بعد اليوم حتى يرى أبو بكر رضي الله عنه التأثر على رسول الله صلى الله عليه وسلم والشدة؛ فيعتنقه، ويلتزمه من ورائه ويقول: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك، فإن الله -تعالى- منجز لك ما وعد} فهذا هو صدق الدعاء وصدق اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى.
ولذلك فإن الدعاء، والبلاء يعتلجان ما بين السماء والأرض، فيرد الدعاء البلاء، {لا يرد القضاء إلا الدعاء} كما جاء في حديثٍ رواه سلمان وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد حسن: {لا يرد القضاء إلا الدعاء} فيصدق العبد في دعائه لله جل وعلا.
والدعاء يكمل الإنسان به العجز في الأسباب المادية، فلا تقعد فقط، وتدعو، لكن الدعاء من الأسباب الشرعية، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً في فتح مكة حرص على ألا يصل خبر الغزو إلى قريش، فوضع العيون والحراس على أنقاب المدينة، حتى لا يتسرب الخبر، هذا هو السبب المادي، ثم بعد ذلك قال: {اللهم عم عليهم فلا يصل إليهم الخبر} هذا هو السبب الشرعي، وهو الدعاء، فيجمع بين الأسباب المادية وبين الأسباب الشرعية، ويعلم أن الأسباب المادية لا ثمرة لها إلا بالأسباب الشرعية، والتي من أهمها الدعاء، وصدق اللجوء إلى الله عز وجل.
ولذلك فإن من المناسب جداً في نظري، أن يقنت الناس في مثل هذه الأيام، وأتعجب حين نقول: إن القنوت يشرع في النوازل، ولا نقنت الآن!! متى تكون النوازل؟! وما لون النوازل إذاً؟! هل هي حمراء؟! أو صفراء؟! إذا لم تكن الأزمات التي نعيش بها الآن، وتعيش بها الأمة هي من أعظم النوازل، بل لو قلت: إن الأمة لم تعش مثل هذه النوازل منذ عهد الحروب الصليبية، بل ربما منذ عهد النبوة، لما كان هذا غريباً، فالأمة ليس في هذا البلد فقط، بل في جميع بلاد الإسلام، تعيش من النوازل والزلازل والفتن والمحن والتفرق والتشريد وتسليط الطغاة والبغاة والأعداء، وتشتت العقائد والقواعد، ما لم يكن لها بمثله عهد منذ مئات السنين.
فهذه عين النوازل، فينبغي للناس أن يفزعوا إلى لله عز وجل بالقنوت في الفرائض ويدعوا، ليس لأنفسهم فقط، بل يدعون لأنفسهم ويكون صلب الدعاء هو الدعاء لهذه الأمة بالنصر والتمكين والفرج، وحمايتها من كيد عدوها، وندعو الله عز وجل أن يحمينا من كيد عدونا أياً كان هذا العدو، سواء أكان عدواً ظاهراً أم مستتراً، داخلياً أم خارجياً، فالأعداء كثر، وكما قال الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] فهناك أعداء ظاهرون، والعدو الظاهر يكون أمره أهون؛ لأنه يكافح ويواجه ويحارب، والمشكلة في العدو المستتر، سواء أكان هذا العدو المستتر، من المنافقين المندسين، أم كان من المتظاهرين بالصداقة: فمنهم عدو كاشر عن عدائه ومنهم عدو في ثياب الأصادق ومنهم قريب أعظم الخطب قربه له فيكم فعل العدو المفارق كم من عدو في ثياب صديق! ولذلك يجب أن ندعو الله عز وجل أن يحمي الأمة من كيد صديقها وعدوها -إن صح التعبير- ولا نكون مثل ذلك الذي يقول: اللهم اكفني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم.
نقول: لا، نحن لسنا كفيلين بأحد، اللهم اكفنا شر أعدائنا، وشر أصدقائنا -إن صح التعبير- وشر أنفسنا أيضاً، وشر شرارنا، فيدعو العبد ربه عز وجل بكل هذه الأشياء، ولعل من الأدعية المناسبة في مثل هذه الظروف، وإن لم يكن دعاء مشروعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه في معنى الدعاء المشروع، وأرى أنه مناسب، كما يقول بعض الصالحين يقول: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين.
فهذه إذا حصلت؛ فالحمد لله رب العالمين، لا نريد أفضل من هذا، أن يهلك الله -تعالى- الأعداء بعضهم ببعض، ثم يسلم هذه الأمة ويخرجها سالمة، ويحفظ لها قوتها، ويحفظ لها شبابها، ويحفظ لها رجالها، فنقول: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين وكما قال تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] المهم أن يقبل على ربه بصدق في الدعاء.(217/21)
دروس وعبر
وأخيراً لابد من أخذ الدروس والعبر من هذه الأحداث، ومن أهم الدروس والعبر التي نأخذها أن الدين والحق يجب أن يحرس بالقوة.
دعا المصطفى دهراً بمكة لم يجب وقد لان منه جانب وخطاب فلما دعا والسيف بالكف مصلت له أسلموا واستسلموا وأنابوا وأمامنا أمران: الوحي والقوة، من كان يريد الإقناع نقنعه بالوحي، ومن لا يريد نقنعه بالقوة.
وكما قيل: فما هو إلا الوحي أو حد مرهف تقيم جناه أخدعي كل مائل فهذا دواء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل وكذلك من الدروس المهمة، أن من الخطورة بمكان أن تضع الأمة مستقبلها في يد فرد واحد يجرها إلى الهاوية ويجرها إلى المهالك، فيتخذ قرارت خطيرة من اجتياح دول وإعلان حروب وأعمال كثيرة، دون أن يراجع في ذلك الأمة التي سوف تخوض المعركة معه، أو تبتلى بما ابتلي به، أو تخوض مهالك ولا أقول معارك، وما ذلك إلا بسبب أن الأمة الإسلامية -كما قلت- هُمِّشت، وأصبحت على الجانب، وأصبح القرار يتخذه فرد واحد.
فإذا كان طاغية اتخذ ما يشاء من القرارات، فيقتل من يشاء، ويبيد من يشاء، ويعزل من يشاء، ويتآمر على من يشاء، ويجتاح من الدول ما يشاء، ويفعل بأموال المسلمين وأعراضهم وأشخاصهم ما يشاء دون حسيب ولا رقيب، فهذه من أهم الأخطار التي بليت بها الأمة، ومن الدروس التي يجب أن نتعلمها هي: أن الأمة ما ضاعت إلا بسبب أن أمورها كانت بيد فرد واحد.
أيها الإخوة: في ختام هذا الحديث أود أن أذكر الإخوة جميعاً، بأننا ينبغي أن نكون واثقين بنصر الله تعالى للمؤمنين، وينبغي أن ندرك تماماً، أن كل ما يصنعه الله عز وجل ويدبره، ويقدره هو لخير الإسلام والمسلمين، فقد يظهر لنا بادي الرأي، أن أموراً فيها ضرر، ولكن عاقبتها إلى خير، فينبغي أن نكون أصحاب قلوب واثقة بالله عز وجل، وأن نرى بجميل الظن ما يصنعه الله تعالى لنا ولديننا ولأمتنا، وأن نعلم أن الأمة عاشت زماناً طويلاً في غيبوبة وغفلة وضعف، وأن هذه الأشياء سوف تحيي بإذن الله موات هذه الأمة، وترفع معنوياتها، وتجمع كلمتها، وتوحد صفها، وتنبهها إلى أخطائها، وتجعلها تعرف عدوها من صديقها.
إنني والله الذي لا إله غيره، واثق كل الثقة أن هذه الأمور التي حصلت في الماضي، والتي تقع الآن وفي المستقبل، أنها أشياء يدبرها الله تعالى لمصلحة هذا الدين، ومصلحة أهل هذا الدين.
وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع وأننا نتربص بهم ريب المنون، وننتظر الأيام التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أخبر أننا سنقاتل اليهود حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم، يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله، حتى جاء في رواية عند أبي نعيم، والبزار، والطبراني وسندها حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تقاتلون المشركين على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه} قال الراوي: والله ما أدري أين الأردن يومئذٍ.
إذاً هناك جولات قادمة لهذا الدين، وهناك زحف متدين من أهل لا إله إلا الله، سوف يكتسحون أعداء الله، من البعثيين، ومن اليهود، ومن النصارى، ومن جميع أعداء الدين، فإن جيش محمد صلى الله عليه وسلم سوف يعود.
وإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج(217/22)
الأسئلة(217/23)
إيقاف بعض المشائخ
السؤال
سمعنا بإيقاف بعض المشايخ الذين هم شريان مهم في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهل هذا الخبر صحيح؟ وإن كان ذلك فما هو واجبنا تجاه هذا الأمر؟
الجواب
واجبنا تجاه هذا الأمر بعد ما وقع، أن نقوم بدورنا في النصيحة فالدين النصيحة، وهذا جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا إنسان تعب لك فاتعب له أنت، وأنا أقول: إن العالم ليس من شأنه هو أن يطلب شيئاً لنفسه، بل من شأن الآخرين أن يطلبوا ما يكونون هم بحاجة إليه.(217/24)
أحداث الصومال
السؤال
إنك تعلم ما وصل إليه حالنا، خاصة في مجال الإعلام من الموالاة لغير المسلمين، وعدم توضيح الرؤية الصحيحة للأحداث، أريد توضيح ما يجرى في الصومال، أهو تحرير إسلامي أم غير إسلامي؟
الجواب
في الواقع إنني ليس لدي معرفة كاملة بما يجري في الصومال، حتى أستطيع أن أتحدث عنه؛ لكن الذي أعلمه أن الراية المرفوعة التي تتكلم عنها أجهزة الإعلام، هي ليست رايات إسلامية، وهناك مسلمون كثير، ودعاة إلى الله عز وجل منذ زمن طويل وهم يقاتلون في الصومال.(217/25)
رد القصيبي على الشيخ ناصر العمر
السؤال
يقول: لقد كتب أحدهم كتاباً عن علم كبير من أعلام الدعوة، ونجم ساطع وهو فضيلة الدكتور الشيخ ناصر العمر يناقش شريطاً من أشرطته (السكينة السكينة) هل لك من تعليق على هذا الكتاب؟
الجواب
السائل يقصد ما كتبه الدكتور غازي القصيبي بعنوان: يا أخي ناصر العمر اتق الله.
وأود أن أفيد الأخ القارئ أن الدكتور القصيبي صدر له بعد ذلك أربعة كتب أيضاً، فمعلوماتك قديمة، فالكتاب الثاني في أصول الفقه عنوانه: تتغير الفتوى، والثالث عنوانه: يا أخي عائض القرني: الله الله في دماء المسلمين.
والرابع عنوانه: يا أخي سلمان اعذرنا لا مكان لولاية الفقيه عندنا، وأحمد لله عز وجل أني عندما قرأت هذه الكتب لم يسوئني قراءتها، خاصة الكتاب المتعلق بي؛ لأنني رأيت أن الرجل -والحمد لله- ما قال شيئاً، ولم يكن يستطيع أن يقول شيئاً، فالذي بيته من زجاج في الأصل لا يستطيع أن يرمي الناس بالحجارة.
لكن هذا رماهم بالحجارة ولم تصب -ولله الحمد- لذلك أنا أرى أن أبلغ رد عليه هو نشر الشريط الذي قام هو بنقده، ونترك الحكم للناس يسمعون هذا، ويقرءون ذاك ويحكمون عقولهم في الأمرين.(217/26)
السفر إلى أمريكا
السؤال
ماذا عن سفرك لأمريكا؟
الجواب
كان السفر لحضور مؤتمر رابطة الشباب المسلم العربي، وقد حضر المؤتمر أكثر من ستة آلاف مسلم، من سائر الولايات، ومن جميع الجنسيات، وألقيت فيه دروس كثيرة، ومحاضرات عديدة، وكنت أحد المشاركين في هذا المؤتمر.(217/27)
كيفية مواجهة الأعداء
السؤال
نسمع أن من أهداف الغرب تغيير الكيانات، والخارطة العربية الإسلامية، وتحويلها إلى نظم علمانية وبعض الناس خائفون من هذه الأشياء؟
الجواب
ينبغي أن يحتاط الناس لكل أمر، ويترقبوا كل شيء، ويضرعوا إلى الله أن يحفظ لهم دينهم وأمنهم، وكرامتهم وأعراضهم، وأديانهم، وأن يكفيهم شر أعدائهم، الظاهرين والمستترين، الباطنين والمعلنين، وأن يصدقوا الله تعالى في هذا الدعاء، وهذا ما أرى أنه يسعهم، مع استخدام الوسائل الأخرى التي أشرت إليها.(217/28)
موسى صار نبياً بعد خروجه إلى مدين
السؤال
قلتم في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] قلتم: إن الرجل جاء يسعى، من أجل أن يخبر نبياً من أنبياء الله وداعية إلى الله، والمعروف عندنا أن موسى أوحي إليه، وصار نبياً بعد خروجه إلى مدين، أي بعد خروجه من مصر، وقصة الرجل الذي جاء يسعى كما هي الآية السابقة فما هو الصواب؟
الجواب
نعم هو صار نبياً أي هو باعتبار ما صار، لكن مقصودي أنه جاء لإخبار موسى عليه السلام بالمؤامرة لقتله، واغتياله.(217/29)
رؤيا مبشرة للمؤمنين
السؤال
ذكرت أن فتاة رأت رؤيا، فما هي هذه الرؤيا؟
الجواب
الرؤيا فيها خير وهي من المبشرات فلا بأس أن أذكرها، أخبرتني إحدى الأخوات أنها رأت رؤيا -هذا قبل شهر- أن طيوراً نزلت من السماء فجاء طير أبيض وجلس، ووقع أمامها، ومعه ورقة في منقاره، فقرأت الورقة فوجدت فيها أعلى الورقة مكتوباً فيه: أنه يجب على المسلمين جميعاً أن يجتمعوا، ويوحدوا صفهم ويجمعوا كلمتهم.
وفي أسفل الورقة مكتوب: بشرى للمسلمين بأنه سوف يكون لهم السلام.
وأمرها أن تبلغ هذا للناس، فأخبرتني فشككت في الأمر، وطلبت أن يحضر ولي أمرها، فحضر شخص من طرفها فاضل وطالب علم، وأخبرني أنها امرأة صادقة، وقد رأتِ الرؤيا فعلاً، وهي تخبر بها، فطلبت منه أن يأمرها بالاتصال بي مرة أخرى، فاتصلت مرة أخرى، وطلبت منها أن تقص علي الرؤيا، فقصتها كما قصتها أول مرة، مما أورثني شيئاً من الاطمئنان -إن شاء الله- على صدقها، ثم سألتها هل أنت من أهل قيام الليل؟ فقالت: لا، إنما أصلي الوتر فقط، فقلت: هل أنت من أهل الصيام؟ قالت لا، إنما أصوم مع أهلي إذا صاموا مثل عاشوراء، أو ما أشبه ذلك، فزادني هذا اطمئناناً، إلى أن المرأة صادقة.
لأنها لو كانت غير صادقة، لقالت: نعم أنا من أهل القيام والصيام؛ حتى يكون هذا مدعاة إلى قبول ما أخبرت به، ثم سألتها أسئلة تبين لي منها أنها امرأة - إن شاء الله- صاحبة قلب طاهر، وبعيد عن الغل والحقد والحسد والبغضاء للآخرين إلى آخره.
وهذا من أسباب صدق الرؤيا، وسألتها هل رأت قبل ذلك رؤيا؟ فقالت: لا، إلا إنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في المنام، مرتين رأيته طيفاً لا يتبين لي، والمرة الثالثة رأيته في بيت المقدس يصلي، وأنا وأختي نصلي وراءه، فلما انتهينا من الصلاة، جاء المشركون وقالوا: هل مر من هاهنا علي بن أبي طالب؟! فنظرت إليهم وقلت: لا، ما مر من ها هنا، فالتفت إلي الرسول صلى الله عليه وسلم وابتسم ابتسامة الرضا، ولما قالت: هذه الرؤيا أجهشت بالبكاء، ولم تتمالك نفسها.
ثم استحلفتها بالله بعد ما بينت لها عاقبة الكذب وخطورته، وبعد ما بينت لها عاقبة الكذب في الرؤيا أيضاً، وبعد ما بينت لها عاقبة الحلف كاذباً، فحلفت لي بالله العظيم أن ما أخبرتني به صحيح، وهذا إن شاء الله بشارة للمؤمنين.(217/30)
موقفنا إذا اندلعت الحرب
السؤال
هل نجاهد بالعصي؟ أم نقف نتفرج حتى نقتل في حالة اندلاع الحرب لا سمح الله؟ وما موقفنا؟
الجواب
الحقيقة هناك أسئلة لاشك أنني لا أستطيع الإجابة عليها، لأن الواقع لا يسمح بالإجابة عليها، لكن الذي أستطيع أن أقوله هو ما ذكرته لكم في هذه المحاضرة.
الخاتمة: وأسأل الله عز وجل في ختام هذا المجلس الطيب المبارك، أن يقينا شر أنفسنا، وشر أعدائنا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أنقذ بلاد المسلمين من كل ملحد وطاغوت، اللهم أنقذ بلاد المسلمين من كل ملحد وطاغوت، اللهم ول علينا خيارنا واكفنا شر شرارنا، اللهم اكفنا شر أعدائنا، اللهم اكفنا شر أعدائنا، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين، اللهم اهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين، اللهم اهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين لرفع راية لا إله إلا الله في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين لرفع راية لا إله إلا الله في كل مكان.
اللهم احفظ بلادك، وعبادك، وحرمك الآمن يا حي يا قيوم، اللهم احفظ بلادك، وعبادك، وحرمك الآمن يا حي يا قيوم.
اللهم جاهد عنا من لا نقوى جهاده، اللهم جاهد عنا من لا نقوى جهاده.
والحمد لله رب العالمين.(217/31)
المهم الإيمان
السؤال
يعيش معظم الناس حالة من الرعب، والخوف بسبب تأثير وسائل الإعلام، حتى أصبح الناس فريقين، احتاط الأول واشترى السرج، وخزن الجاز، وحصن بيته من جميع النواحي وسحب رصيده من البنك، والثاني لم يحرك ساكناً، ولم يتحرك واشترى شيئاً فمن أي الفريقين ترى أن أكون؟ وما هي نصيحتك للناس؟
الجواب
لعلي أشرت إلى شيء من النصيحة، وأنا أقول: ليس في الأمر مشكلة، يعني سواء هذا الفريق أم ذاك، فلا إشكال في الأمر، والمهم أن تكون قلوبنا قوية راسخة صلبة مؤمنة بالله عز وجل واثقة بنصره.(217/32)
الدفاع عن العلماء والدعاة
السؤال
كثر المتكلمون، والناهقون من أصحاب الآراء المشبوهة، حول دعاة الإسلام، وتشويه سمعتهم، سواء عند أوساط الناس، أم عند من يسمون بالمثقفين، فهل ينشر الإنسان ما يراه بين الناس؟
الجواب
نعم، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الولاء الذي تكلمت عنه أن يكون ولاؤك لأهل الإسلام ودعاة الإسلام والعلماء، والدعاة، وطلبة العلم، فإذا سمعت من ينال منهم، ويتكلم فيهم تدافع عنهم في كل مجلس، وفي كل ناد، وفي كل مناسبة، وتتكلم بما تعلم، وتعمل على إعطاء الصورة الصحيحة عن هؤلاء العلماء، وفي مقابل ذلك تعمل على فضح رءوس الضلالة من المنافقين في كل مكان.(217/33)
حتمية المواجهة
بيَّن الشيخ -حفظه الله- أن النصر والتمكين للحق مشروط بالإيمان الحق، وأن الله لن يحقق النصر إلاَّ لمن ينصره حقاً وصدقاً، ثم ذكر أسباب النصر وعوامله، وبين بعض من تلك العوامل، ثم ذكر طبيعة الصراع وحتميته، وبيَّن كثيراً من أغواره، ثم علق على قضية الصومال، كنموذج للصراع بين الحق والباطل، وكذلك البوسنة والهرسك، والسودان، واليمن، ثم بين ما يجب على المسلمين فعله تجاه قضية الإسلام.(218/1)
الإيمان والأسباب المؤثرة في النصر
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا هو الدرس الواحد والثمانون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين الثالث عشر من شهر جمادى الأولى من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، وحديثي إليكم في هذه الليلة ليس كما قلتُ لكم بالأمس أحاديث عابرة، بل هو حديث غير عابر حول موضوعٍ كبير، اخترت له عنواناً هو (حتمية المواجهة) .(218/2)
العفة من أعظم أسباب الشجاعة والنصر
ولهذا ذكر أولو العلم أن العفة من أعظم أسباب الشجاعة، الإنسان العفيف، البعيد عن المال الحرام أو المشتبه، والبعيد عن الشهوات، والبعيد عن اللذات المحرمة، فهذا الإنسان يرزقه الله تعالى في قلبه الشجاعة والقوة، أما ذلك الإنسان الراكض وراء الشهوات، والمحرمات، والمغريات، والذي همه إشباع بطنه، وفرجه، وملء جيبه، من حلال أو من حرام، فإن هذا الإنسان أسرع ما يكون فراراً من المعارك.
ولذلك فإن التاريخ يشهد أن الأمة تنهزم متى كانت تجري وراء شهواتها وملذاتها، وأن الأمة التي تربي نشأها وشبابها على العبودية للمصلحة، أو العبودية للذة؛ أن هذه الأمة ليس لديها نية صادقة للصمود أو المواجهة لعدوها.
إن الغربي الكافر اليوم إباحي شهواني، يجري وراء المتاع ولا يبين له شيء منه إلا أسرع إليه، فأي شيء يغري هذا الكافر إلى الصمود أو الصبر والثبات! وأي شيء يدعوه إلى خوض المعارك والاستبسال فيها! وأي شيء يجعله ينازل الموت ولا يخاف منه!!! لقد كان من آخر الأخبار أن الرئيس الأمريكي الجديد، قد سمح بالشذوذ الجنسي في قطاع الجيش، أو بمعنى آخر سمح للشاذين جنسياً أن يكونوا ضمن المجندين، والمقصود بالشذوذ الجنسي والعياذ بالله عمل قوم لوط أو سائر الفواحش، بين الرجال، أو بين النساء أو غير ذلك.
إن السماح بذلك في قطاع الجيش أثار موجة من الرعب والذعر والانتقاد، ولكنه يدل على مدى ما وصلت إليه تلك الجيوش من الانحلال الخلقي، ونحن نعلم جميعاً أن الجيوش الأمريكية والغربية التي جاست خلال الديار ومرت، وحاربت سواءٌ في الخليج أم في غيره، أنه يوجد أكثر من (10%) منهم من النساء، وبعض هؤلاء النساء، إن لم أقل كلهن جئن خصيصاً للترفيه عن الجنود، وإحياء الحفلات الراقصة، وإقناع الجنود بالبقاء في بلاد بعيدة عن أرضهم، إلى غير ذلك من المقاصد التي يسعون إليها في كل مكان نزلوا فيه.
ومثل هؤلاء نقطع يقيناً أنهم لا يملكون القوة على المواجهة، ولا الصبر، ولا يرغبون في الموت بحال من الأحوال، بل هم كما ذكر الله عز وجل: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] أي حياة كانت ولو كانت حياة الذل، أو حياة الفقر، أو البؤس، أو الشقاء، المهم أن الحياة عندهم هدف بذاته، فهم يسعون إلى البقاء فيها مهما كان فيها من الذل، ومن الهوان، ومن الفقر لأن الحياة عندهم هدف بذاته.
نعم لقد ملك الغرب ناصية الآلة، وطوع المادة، ونجح في الاختراع، ولكن المهم هو هذا الإنسان الذي يحرك الآلة ويديرها، والذي يستفيد من كل الاختراعات وهو وراءها، هذا الإنسان هو المهم، فمتى ما انهزم هذا الإنسان فإن الآلة لا تنفعه حينئذ.(218/3)
الهزيمة النفسية ودورها في الحروب
تقول التقارير الأمريكية نفسها: إن أكثر من (15%) من الذين شاركوا في عاصفة الصحراء كما يسمونها، يعانون اليوم من أزمات نفسيه حادة! حتى إن الكثير منهم ربما كان نتيجة المعاينة الطبية لهم أن يسرحوا من الخدمة، نعم أكثر من (15%) يعانون من أزمات نفسية حادة لمجرد أنهم سمعوا أزيز الطائرات، وسمعوا أصوات المدافع، وسمعوا طبول الحرب، فما بالك لو كانت حرباً حقيقية واجهوا فيها أي شعب من الشعوب، ورأوا إخوانهم يتساقطون أمامهم ومن بين أيديهم قتلى وجرحى؟! بل ما رأيك لو واجه الكفار -في أي موقع- مسلمين حقيقيين، يقاتلون عن عقيدة، وعن مبدأ، وإيمان، إنهم حينئذٍ سيكونون شيئاً آخر غير الذي ذكر لنا في التقارير؛ بل سيفرون فرار الجرذان من المعارك؛ وسوف يتركون وراءهم أكوام الأسلحة، والقوات، حيث لم تكن تنفعهم حصونهم من الله عز وجل، بل يأتيهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا كما وعد: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] من حيث لم يظنوا ولم يتوقعوا، ربما يتوقع الكافر أن يؤتى من الجو أو من البحر أو من البر، ولكنه أوتي من حيث لم يحتسب من قلبه، فأوتي بفقدان شجاعته، وفقدان قوته، وفقدان المواجهة والقدرة والصبر، ولهذا كانت الهزيمة النفسية هي أقسى وأشد ألوان الهزيمة في المعارك، ولك أن تتصور مقارنة سريعة بين هؤلاء القوم الذين كانوا يمشون، وأمامهم، ومن بين أيديهم، ومن فوقهم أعداد هائلة غريبة من الأسلحة والطائرات والقوى المختلفة التي ربما تستخدم لأول مرة، ومع ذلك يواجهون مثل هذه أن (15%) يذهبون ضحية الحروب النفسية، أو ضحية الأمراض النفسية.
لك أن تواجه ذلك وتقارنه بأولئك الإخوة الذين قاتلوا في أفغانستان، وكيف كان هؤلاء يضربون أروع الأمثلة في الصبر والبسالة والفداء، وكان الواحد منهم يموت أخوه وهو يشاهد، فيسرع إلى الموت وهو يتعجب لماذا مات أخوه وبقي هو! ويقول: لا خير في الحياة بعد فلان وفلان، ولهذا على رغم أنهم لم يكونوا يملكون أسلحة تذكر ولا قوةًَ تذكر، ولا تنظيماً، ولا خبرةً؛ إلا أن هؤلاء الشباب الذين كانوا في مقتبل العمر، وربما ترك الواحد منهم زوجته، وربما كان قد خطب وعقد، ولم يدخل عليها بعد، وربما ترك أهلاً ينتظرونه، وقد أتوا من بلاد فيها ألوان التيسيرات المادية، وألوان الترف، ومع ذلك ذهبوا إلى هناك وجلسوا سنوات طويلة، وقاوموا العدو الكافر حتى خرج من أفغانستان، وقُتِل مِنهم مَن قُتِل نسأل الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله، وجُرِح مِنهم مَن جُرِح.
ثم جاءوا، وأنت ترى اليوم في عيونهم شوقاً إلى أرض أخرى يقام فيها الجهاد، ترى في عيونهم، وتقرأ في وجوههم، وتسمع في كلماتهم، حسرات وزفرات على أنهم خاضوا المعارك وخرجوا منها ولم يقتلوا في سبيل الله عز وجل فهم ذهبوا يبحثون عن الموت، وعن القتل، وعن الشهادة في سبيل الله عز وجل.
فشعروا بأنهم حرموا شيئاً كثيراً، وهم يتربصون وينتظرون مواقع أخرى تدار فيها المعارك مع أعداء الله، حتى يذهبوا إلى هناك رجاء أن يحصلوا على ما لم يحصلوا عليه في أفغانستان، فأي فرق تجد بين هؤلاء وأولئك، والله ما رأينا أحداً منهم يعاني من مرض نفسي، ولا يعاني من أزمة، ولا يعاني إلا الشجاعة والقوة والبسالة، ويتمنى الواحد منهم أن يقتل في سبيل الله تعالى! مع أنهم شباب في مقتبل العمر، ولم يتلقوا تدريبات تذكر، وكانت بيئاتهم ربما غير ملائمة لإعدادهم بشكل صحيح.
ومع ذلك كله كانوا أقوى ما يكونون، وأشجع ما يكونون، وأصبر ما يكونون؛ لسبب واحد: أنهم كانوا يقاتلون عن عقيدة وعن مبدأٍ وعن دين، فأي فرق بين هؤلاء وبين أولئك الذي خضعوا لدراسات واختبارات، وألوان من الإعداد النفسي والمعنوي، مع أنهم يملكون قوة رهيبة، ومع ذلك انظر الفرق البعيد بين هؤلاء وهؤلاء.
بل إني أذكر لك أعجب من هذا: أحد الشباب منذ زمن كانت له أمٌ كبيرة السن، وكانت تسمع أخبار المجاهدين في أفغانستان فقالت: والله لا بد أن أذهب إلى هناك، وحاول ولدها أن يقنعها بعدم الذهاب، ولكن عبثاً أن يحاول إقناعها، وما زالت مصرة حتى ذهبت إلى هناك مع ولدها برفقته، وساعدت المجاهدين في بعض الأعمال المشروعة، ثم طاب خاطرها فعادت إلى بلادها.
إنه لا سواء بين من يبحث عن الموت، وبين من يهرب من الموت، وأي حيلة في إنسان يبحث عن الموت، أنت لو هددت إنساناً لهددته بالموت! فإذا كان هو يريد الموت لا معنى لهذا التهديد، وهذا لسان حالهم يقول: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخبر المطارف لا أريد أن أموت على سرير يكون عليها ألوان المطارف، والحشايا والثكايا، ويقول: ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله نزالون عن التزاحف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف بماذا نهدده؟ بالموت؟! ماض وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف(218/4)
صحة وصدق الإيمان بالله والدار الآخرة
وإذا كانت مسألة العفة عن الحرام كما ذكرنا، وتجنب الشهوات والمعاصي والموبقات، أو اللذات الممنوعة، إذا كانت هذه مثالاً استوحيناه من الآية الكريمة في قصة طالوت وجالوت، حيث كان أولئك الذين رفضوا أن يشربوا من الماء هم الصابرين المنتصرين، فإن ثمة معاني أخرى كثيرة ذات تأثير كبير في تحديد مسار المعركة مع الباطل.
منها مثلاً: صحة وصدق الإيمان بالله عز وجل والدار الآخرة، وما وعد الله تعالى المؤمنين والمتقين والصابرين، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] فإذا كان الناس يعيشون في هذه الدنيا ويقيسون أمورهم بالجدوى الدنيوية، فإن المؤمن الصادق يقيس ذلك بالجدوى الأخروية.
وهذا هو سر البسالة التاريخية للمسلمين الذين ضربوا في المعارك أروع الأمثلة، لأنهم يدركون أن ثمة داراً أخرى، وقد بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم كنموذج مجموعة من أصحابه للدعوة إلى الله تعالى فدخل أحدهم على عامر بن الطفيل، ودعاه إلى الله تعالى وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وأمره بالإيمان بالله ورسله، وكان عامر بن الطفيل طاغية مستكبراً، فأشار إلى رجل من ورائه فطعنه بالخنجر في بطنه، ثم جر السكين إلى سرته بل أسفل من ذلك، وظنوا أنهم بذلك صنعوا له شيئاً عظيماً، فاستقبل هذا الصحابي الجليل الدم النازف منه بغزارة بيديه، ثم صبه على رأسه ووجهه وصدره، وهو يقول: [الله أكبر! فزتُ ورب الكعبة] واسم هذا الصحابي: هو حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه، فاز بماذا؟ وقد ترك أزواجه، وترك أولاده، وترك أمواله، وترك الدنيا وراء ظهره؛ لقد فاز برضوان الله تعالى فاز بالشهادة، وقالها صادقاً؛ لأن موقف الموت ليس فيه إلا الصدق الخالص، قالها بصدق، بحرارة الإيمان، وبفرحة لقاء الله عز وجل [[فزتُ ورب الكعبة]] .
إن الناس يقيسون أمورهم بالدنيا، أما المؤمن فإنه يقيس ذلك بالجدوى الأخروية، وهو لا يمكن أن يعيش في الدنيا وأن يغفل عن الدار الآخرة، قال تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] نِعْمَ ذكرى الدار الآخرة، وأن تكون لهم في حساب ومن قلوبهم ونظرهم على بال.(218/5)
وضوح هدف المسلم المجاهد
من ذلك أيضاً: وضوح الهدف الذي يقاتل من أجله المسلم، فالمسلم يعرف لماذا يقاتل؟ ولماذا يصبر؟ ولماذا يموت؟ فإنه ليس قتال على عصبية عمياء، ولا على جاهلية، ولا على نعرة وطنية أو قومية، وليس مدفوعاً دفعاً إلى معركة، وأن الذي يستفيد منها غيره، فيستفيد منها الرئيس أو الزعيم، أو الطاغية، أو يستفيد منها الحزب، أو يستفيد منها شيخ القبيلة، أو ما أشبه ذلك، إنه مقبل على معركة يعرف أنها معركة الإسلام الكبرى، ويعلم أن المصلحة له قبل غيره، فهو إن مات مات شهيداً، وإن عاش عاش حميداً.
فهو يقول: سأثأر لكن لرب ودين وأمضي على سنتي في يقين فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين وإنا لَقَوْمٌ لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر وعلى سبيل الإجمال فإن الأمم الكافرة تستوحي نتائج المعارك من خلال الأرقام، والإحصائيات والدراسات النظرية، فإذا وجدت أنَّ عندها من الجنود مثلاً أربعمائة ألف جندي، وأنَّ عندها من الأسلحة والطائرات وألوان القوى الأعداد المحددة، فإنها توقن حينئذٍ أنها سوف تنتصر على ذلك الجيش، الذي هو أقل عدداً وعدة، وتستبعد الجانب العقدي، وتستبعد الجانب الأخلاقي، وتستبعد جانب القوة الإنسانية المتمثلة في الإيمان، وفي الشجاعة، وفي وضوح الهدف، وغير ذلك مما يؤثر في مسار المعركة تأثيراً بليغاً.(218/6)
الأخذ بالأسباب الشرعية
إن المسلم يؤمن بالأسباب المادية ولا شك، ولكنه لا يعتمد عليها وحدها، بل يجعل هناك مجالاً للتوكل على الله تعالى والتعويل على قدره، وتفويض الأمر إليه، وهذه كلها تعتبر أيضاً من الأسباب الشرعية، كما أن الأسباب عنده ليست هي الأسباب المباشرة فحسب.
فمثلاً: الدعاء من الأسباب، والاستنصار بالله تعالى من الأسباب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر، لقد كان في العريش يرفع يديه إلى السماء، ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم حتى سقط رداؤه عن منكبيه صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر والتزمه من خلفه، ووضع رداءه على كتفيه، وقال: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، فإن الله تعالى منجز لك ما وعد} ولما رأوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤاله ورغبته إلى الله تعالى علموا علم اليقين أنهم منصورون، وأن الله تعالى لا يخلف وعده، وسوف ينجز لنبيه صلى الله عليه وسلم ما وعد، وهكذا كان، فدارت الدائرة على المشركين، وانتصر المسلمون في تلك المعركة الحاسمة التي غيرت وجه التاريخ، وكان عدد المسلمين أقل من ثلث عدد المشركين، وكان المسلمون لا يملكون من الخيل والسلاح إلا القليل.
إذا جلجلت الله أكبر في الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك النِّدا هناك التقى الجمعان، جمع يقوده غرور أبي جهل كهِرٍ تأسَّدا وجمع عليه من هداه مهابة وحاديه بالآيات والصبر قد حدا وشمَّر خير الخلق عن ساعد الفدا وهز على رأس الطغاة المهنَّدا وجبريل في الأفقِ القريبِ مكبرٌ ليلقي الوَنَىَ والرعب في أنفس العدا وسرعان ما فرت قريش بجمعها وعافت أبا جهل هناك موسدا ينوء بها ثقل الغرام وهمُّه وتجرحها أسراً تريد لها الفدا وأنف أبي جهل تمرغ في الثرى وداسته أقدام الحفاة بما اعتدى ومن خاصم الرحمن خابت جهوده وضاعت مساعيه وأتعابه سدى وكيف يقوم الظلم في وجه شرعةٍ تسامت على كل الشرائع مقصدا سماوية الأغراض ساوت بنهجها جميع بني الدنيا مسوداً وسيدا فما فضلت قوماً لتحقر غيرهم ولا جحدت حقاً ولا أنكرت يدا تريد الهدى للناس والناس دأبهم يعادون من يدعو إلى الخير والهدى(218/7)
صور النصر
هناك حقيقة قرآنية عظيمة ذكرها الله تعالى في كتابه في مواضع عدة، وأثبتتها لنا الأحداث التاريخية، والوقائع القائمة اليوم فصارت في حس المسلم المطلع من المشهودات بعد أن كانت من الغيبيات، هذه الحقيقة تبين في قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] هذه الآية التي فيها وعد من الله تعالى بالنصر لمن نصروه، وأقاموا دينه، والتزموا بأمره وابتعدوا عن نهيه.
ومثله أيضاً قول الله عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] فذكر الله تعالى أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، فضلاً عن النصر الأكبر يوم القيامة، ونصرهم في الحياة الدنيا يكون بصور كثيرة منها: 1- النصر الحقيقي المباشر وهزيمة أعدائهم.
2- منها: إظهار الحق الذي يحملون.
3- ومنها: أن الله تعالى يمنحهم الصبر والثبات على دينهم، وعقيدتهم، وما يقولون، وما يدينون به، فيظلون صابرين كما صبر أصحاب الأخدود الذين عذبوا وأوذوا، وأحرقوا بالنار، فظلوا صامدين على مذهبهم ودينهم، وعقيدتهم، وذكرهم الله تعالى في كتابه في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1] .
ومثله قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] فإن هذه الآية صريحة في أن الله تعالى ينصر الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فجعل النصر معلقاً بشرط مستقبلي لا يعلمه إلا الله، فلا نستطيع مثلاً أن نؤكد أن هؤلاء المجاهدين، أو أن هؤلاء المقاتلين إن نصروا ثبتوا، وقاموا بشريعة الله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فكم من فئة أو طائفة قاتلت معلنة راية الدين، وأنها تجاهد في سبيل الله، فلما رزقها الله تعالى النصر نكلت عما كانت تدعو إليه، وغيرت وبدلت، وانحرفت عن منهجها وشريعة ربها.
ولهذا قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] ثم قال {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] فإذا رأيت مقاتلاً في سبيل الله رافعاً راية الدين، ومع ذلك هو لا ينصر فتذكر هذه الآية، فلعله لو نصر لغير وبدل، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] وقال الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] .(218/8)
حقيقة النصر
فالنصر حقيقة ليس بالقوة المادية فحسب، ولا بالكثرة البشرية العددية فحسب، وإنما حقيقة النصر من عند الله عز وجل فالله يؤتي النصر من يشاء، قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150] فمن استنصر بغير الله تعالى من قوى البشر والشرق والغرب والماديات، خذله الله تعالى وهزمه، ومن استنصر بالله واعتصم بالله تعالى كفاه.
إنَّ مجموع هذه الآيات وغيرها، تؤكد حقيقة أساسية وهي أنه إذا وجد الإيمان الصادق بالله عز وجل ووجد الالتزام الجاد بشريعته تعالى، فإن الله يبارك في القوة القليلة والجهد القليل، ويكمل ما نقص من الأسباب بإذنه، وحوله وقوته، فالله تعالى قوي عزيز، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .(218/9)
قصة طالوت وجالوت
من ضمن هذه الحقيقة القرآنية العظيمة، تأتي قصة طالوت وجالوت، التي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] وفيها عظة وعبرة، وفي آخرها: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] وقال: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] .
لقد رأينا في هذه القصة كيف انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة بإذن الله، وكيف قتل داود جالوت، وكيف ورث الله هؤلاء المؤمنين الملك والحكمة، ونصرهم على عدوهم، ولقد رأينا في هذه القصة التي ذكرها الله تعالى في كتابه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] أن هؤلاء القلة صبروا على الامتحان والابتلاء، فلما عُرِضَ هذا النهر العذب الفرات {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249] نهرٌ عذبٌ حلوٌ فراتٌ، وهم عطاش محتاجون إلى الماء، ومع ذلك يقع الاختبار {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] .
إنها شربة واحدة باليد، حتى يذوقوا حلاوته، فتتعلق به نفوسهم ليتم الاختبار والابتلاء، ويعلم الصادق الجاد المؤمن الممتثل لأمر الله، من ذلك الإنسان الذي إذا بان له الطمع أسرع إليه، وإذا عرضت له الدنيا ركض وراءها، وترك أمر الله عز وجل: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا} [البقرة:249] قال أولئك الذين شربوا وأكثروا وتجاوزوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} [البقرة:249] والذين صبروا في الاختبار، والذين لم يشربوا من النهر، قالوا كما ذكر الله عز وجل قالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] .
فثبتوا وصبروا، وكتب الله تعالى النصر ليس لهؤلاء الكثرة الذين شربوا، بل لتلك القلة التي صبرت ونجحت في الاختبار، وهذا درس ذكره الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الذين كانوا يقاتلون معه في بدر، وأحد، والخندق، وحنين، وغيرها، ليعلموا أن النصر إنما يكون بطاعة الله تعالى وبترك معاصيه، والابتعاد حتى عن الشبهات والمكروهات.(218/10)
النصر من عند الله
إن النصر من عند الله تعالى، والله تعالى يؤتي النصر من يشاء، وفي أوقات الأزمات يحتشد المسلمون، وتجتمع قلوبهم، ويرغبون إلى الله عز وجل في رفع الكرب، ودفع الشدة، وإزالة العناء، والنصر على الأعداء، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه: {أبغوني ضعفاءكم، هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم واستنصارهم} إن المؤمن يخوض المعركة وهو يعلم أن التدبير الحقيقي في السماء، وليس في البنتاجون، ولا في الكونجرس، ولافي مركز إدارة العمليات في فلوريدا أو في غيرها، وإنما هو التدبير الحقيقي في السماء، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] .(218/11)
القتال من أجل الدين
إن الصف المؤمن هم أنصار الله تعالى الذين غضبوا لله، وثأروا لدينه، ولم يغضبوا لأنفسهم ولا لدنياهم، ولا لتربة الوطن، ولم يقاتلوا من أجل شرف القبيلة، فلهذا ربما قاتل الواحد منهم أخاه، وقريبه، وابن بلده ووطنه، وربما قاتل سليل قبيلته متى ما كان كافراً محارباً لله تعالى ورسوله، والذين تقابلوا في بدر كما ذكر الله عز وجل في كتابه: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] .
فهذان الخصمان الذين التقوا في بدر، لم يكونوا قبائل شتى، ولا أمماً متباعدة، بل كان القرشي يقاتل القرشي، والعربي يقاتل العربي، ولكن الذي فرق بينهم هو الدين والعقيدة.(218/12)
جنود الله المؤثرة في النصر
إذا أراد الله تعالى نصر قوم يسر لهم من الأسباب ما لا يملكه البشر، فإذا كنا نعلم أن الإيمان والعفة ووضوح الهدف، وأن دعاء الله تعالى، كلها من الأسباب التي تؤثر تأثيراً كبيراً في نتيجة المعركة، فينبغي أن نعلم أنه لا يعلم جنود الله تعالى إلا هو، كما قال الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] .
فالملائكة -مثلاً- هم مع المؤمنين يقاتلون، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12] والناس، والرياح، والزلازل، والخسوف، والأمطار، وشدة البرد، والجليد، والأوبئة، والأمراض الفتاكة كلها من جنود الله تعالى، بل من جنود الله تعالى تفريق كلمة الأعداء، وزرع الخيانة في صفوهم، وإبطال مفعول أسلحتهم، وقنابلهم، وزرع الرعب والزلزلة في قلوبهم، كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام للنبي صلى الله عليه وسلم في معركة الأحزاب: {أوقد وضعت السلاح؟ إنَّ الملائكةَ لم تضعْ أسلحتها بعد، اذهب إلى بني قريضة فإني ذاهب إليهم فمزلزل بهم} .(218/13)
الصدق مع الله
إن الإيمان بأن النصر من عند الله تعالى وأن الله تعالى يمنحه للمؤمنين المخلصين الصادقين، إن هذا الإيمان ضرورة للأمة لكي تحقق إيمانها، وتلتزم بدينها، وتعود إلى شريعة ربها، وتراجع مسيرتها، وتتوب إلى الله تعالى من كل الذنوب، والأخطاء، والمعاصي، سواءً كانت ذنوباً فردية على سلوكنا الشخصي، أو في أُسرنا، أو في مجتمعاتنا، أو على مستوى الدول، فإننا نعلم أن ما عند الله تعالى لا ينال بمعصيته، وإنْ تساوينا نحن وعدونا في المعصية، فإنهم يغلبوننا بقوة العتاد والسلاح.
أما إن صدقنا الله تعالى وفرغنا قلوبنا من كل إرادة تخالف إرادة الله تعالى فوالله الذي لا إله غيره، لينصرنا الله تعالى نصراً عزيزاً مؤزراً، وأقول كما قال الإمام/ ابن تيمية رحمه الله، حينما حلف للمسلمين أنهم منصورون على التتار، قالوا له: قل إن شاء الله، قال: (أقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وإلا فالنصر حاصل لا محالة) .(218/14)
النصر بقوة الإيمان
إن خلاصة الكلام السابق -أيها الإخوة- يتلخص في كلمة واحدة هي: أن النصر لا يكون بقوة السلاح فقط، وإنما يكون بقوة الإيمان، وبالصدق مع الله تعالى، وبوضوح الهدف الذي يقاتل من أجله الإنسان، ويكون بالتوكل على الله، وأن جميع الآليات التي يملكها الشرق والغرب لا تبرر ولا تسوغ للمسلم أبداً أن يخاف من كثرتهم أو من قوتهم.(218/15)
فعالية الأسلحة القتالية
إن الزلزال الذي وعد به جبريل لم يكن زلزالاً أرضياً، فالحقائق التاريخية تؤكد أن المدينة لم تزلزل ببني قريضة، ولكنه زلزال أعظم في قلوبهم: الخوف، والرعب، والقلق، وتفرق الكلمة، وتشتت الرأي، والذعر الذي جعلهم غنيمة للمسلمين، وهذا لم يكن تاريخاً ماضياً فحسب، بل له أوضاع معاصرة كثيرة تدل على أن الأسلحة وحدها ليست سبباً للخوف، وأنه لا يجوز للمسلم أن يخاف من الغرب أو الشرق؛ لأنه يملك السلاح النووي، أو يملك الآليات العسكرية الدقيقة في التصويب مثلاً، أو يملك الطائرات، أو يملك القنابل، أو يملك المدافع، أو يملك ألوان السلاح المادي.
هذه الآليات الأمريكية الهائلة اليوم التي يملكها الدفاع الأمريكي، والتي كانت من أسباب تأخر وانهيار الاقتصاد في أمريكا، ومن أسباب المديونية الضخمة الذي تزيد على ثلاث ترليونات على ظهر الاقتصاد الأمريكي، هذه الأسلحة ربما كانت تصلح أيام التهديد الروسي وأيام الحرب الباردة، حيث كانت أمريكا تواجه تهديداً نووياً واضحاً فعالاً.
أما اليوم فربما كانت تلك الأسلحة لا تلائم ما يسمونه هم بالتهديد الإسلامي الذي هو عبارة عن دول إسلامية صغيرة، أو أجزاء من دول، أو جماعات، أو مجموعات فدائية أو شعوب متفرقة، وإن شئت فقل أيضاً: إن التهديد الإسلامي هو: عبارة عن كثافة بشرية هائلة تهدد بفكرها، وبعقيدتها وبسلوكها في غزو العالم الغربي من داخله، والهجوم عليه من خارجه.(218/16)
طبيعة الصراع وحتمية المواجهة
إن هذا الحديث هو مقدمة للحديث عن حتمية المواجهة مع أعداء الدين، وأنها هي الأخرى حقيقة قرآنية عظيمة، يجب أن نتحدث حولها كثيراً، ويجب أن نوصلها إلى كل عقل، وأن نقيم بنيانها في كل قلب، إن الإسلام والكفر في حرب قائمة لا تهدأ أبداً، وقد تحدثت على مدى أسابيع عن نظرة الغرب إلى المسلمين، ونظرة المسلمين إلى الغرب، ولكن لا حاجة بنا إلى تطويل الحديث وتشقيقه.
إن نصوص القرآن صريحة وواضحة في أن المعركة بين الحق والباطل لن تزول، وأن الكفر لا يرضى عنا إلا بأحد أمرين: 1- إما أن نستسلم له ونتخلى عن ديننا.
2- وإما أن يقاتلنا.(218/17)
انتهاء الثقة بالكفار
إنَّ الثقة بالكفار يجب أن تنتهي، ولا يجوز أبداً أن نأخذ تصورنا عن الأمم الكافرة، من خلال مجالستنا لبعض البسطاء من الكافرين، أو بعض الذين ربما كان الواحد منهم لا يحمل حقداً شخصياً على المسلمين، أو من خلال سماعنا لأخبار عن بعض الجمعيات الغربية التي يقولون: إنها تتعاطف مع القضايا العربية والإسلامية، لا، وليس التحليل الصحفي المُنْصِف الذي ينشر في بعض جرائدهم، ولا المقال الجريء، ولا الجمعية الإنسانية، ليست هذه الأشياء هي التي ترسم السياسة الغربية.(218/18)
قصة أصحاب الكهف
إنني لأعجب أشد العجب من أصحاب الكهف على رغم صغر سنهم، وحداثتهم، وقلة عددهم، وقرب عهدهم بالهداية، كما ذكر الله تعالى في كتابه، إلا أنهم كانوا بصحة يقينهم، وصدقهم، وإخلاصهم كانوا أذكى وأبرع، وأعرف من كثير من الناس الذين درسوا، ودرّسوا، وقرءوا، وكتبوا وخطبوا وتكلموا، ولكن شتان بينهما كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] وقال بعض السلف: مَن عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لا يعلم، فهؤلاء القوم أخلصوا لله، وأقبلوا على الله، وصدقوا مع الله، فجعل الله الحقائق الإيمانية في قلوبهم واضحة، لا تحتاج إلى دروس كثيرة، ولا إلى محاضرات، ولا إلى شيء.
فِتْيَةٌ خرجوا من قومهم، وأوَوا إلى الكهف! ما ذُكِرَ لنا: أنهم تلقوا علوماً كثيرة، ولا أنهم جلسوا زماناً طويلاً، وإنما ظاهر حالهم أنهم كانوا حديثي عهدٍ بالهداية، وقريبي عهد بالإيمان، فخرجوا من بيئات، بعضها بيئات الملوك وأبناء الملوك، ومع ذلك انظر ماذا كان تفكيرهم؟ وماذا كان حديثهم؟ وما هي نظرتهم؟ يقول الله عز وجل على لسانهم: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [الكهف:20] أي: يغلبوكم، وينتصروا عليكم، فليس أمامهم إلا أحد حلَّين: الحل الأول: {يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] وهذا تعبير عن القتل، سواء كان القتل بالرجم أم بالسيف أم بالبندقية أم بالرصاصة أم بغيره، {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] وإذا أنتم عدتم إلى ملتهم خسرتم خسراناً مبيناً.
والحل الثاني: هو القتل، وربما لا يصبر الإنسان على القتل، إن هذه هي الحقيقة الناصعة الظاهرة، التي يجب أن يؤمن بها كل مسلم.
والله لقد اندهشتُ -أيها الإخوة- وأنا أقرأ هذه الآية، وكأنني أقرؤها لأول مرة، وبين يدي تصريح لـ ريتشارد نيكسون -الرئيس الأمريكي الأسبق- يقول فيه: ليس أمامنا بالنسبة للمسلمين إلا أحد حلين: الأول: هو تقتيل المسلمين.
والثاني: هو التذويب.
وبغض النظر عن كونه اختار الحل الثاني، ورجحه، إلا أنهما على كُلِّ حالٍ أمران، أحلاهُما مُرٌّ.
فأي قيمة لمسلم قد ذُوِّبَ في المجتمعات الكافرة، وفقد معنى دينه وإيمانه.
إن بقاء المسلم على دينه، هو الصبر وهو النصر، حتى لو أوذِيَ، ولو سُجِنَ، ولو حُورب، ولو عُذب، ولو استُضعِف، ولو صودر ماله، ولو صُودرت كلمتُه، ولو فُعل به ما فُعل.
وإنَّ الهزيمة الحقيقية ليست أن يقتل المؤمن صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، بل الهزيمة الحقيقية: هي أن يتراجع المسلم عن دينه، كما قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:217] .(218/19)
الغرب في مواجهة المسلمين
إن السياسات الغربية ترسم في دوائر الاستخبارات الغربية، وترسم وراء الكواليس، ويرسمها أقوام تشبعوا بالحقد على المسلمين ويرسمها أقوام يضعون لكل شيء موضعاً، ويحتاطون لكل أمر مهما قل، ويحسبون لكل عدو أو خصم حسابه.
بل إنني أقول لكم: إن العالم اليوم يعيش تضليلاً واسع النطاق في المجال الإعلامي، وكأنه يراد للمسلمين أن يظلوا في غيبوبة عما يجري، حتى يفاجئوا بعدوهم وقد أحكم الحصار عليهم وكبلهم بالقيود والأغلال التي لا مخلص لهم منها.
ويبدو لي والله تعالى أعلم أن الغرب اليوم يتهيأ للمواجهة مع الإسلام بأسرع مما نتصور، أو أقول على أقل تقدير: يبدو أن الغرب يتخذ الاحتياطات الكافية لضمان محاصرة الاتجاهات الإصلاحية في أوساط المسلمين التي يسميها الأصولية بشكل واضح.(218/20)
تحسن الوضع في الصومال
إن الوضع في الصومال يتحسن بحمد الله تعالى يوماً بعد يوم، وقد جاءني مجموعة من الإخوة كنا بعثناهم قبل أسابيع، فجاءوا وأخبرونا أن الأوضاع في تحسن، وأن الله عز وجل أنزل على المسلمين هناك الأمطار، فاخضرت الأرض، وعادت الغابات، وتحسنت الأوضاع، وهدأت الرياح، وعاد المسلمون إلى مزارعهم، واستقرت الأوضاع الأمنية إلى حدٍ كبير، وأن كثيراً من مناطق الصومال الآن تعتبر أوضاعها جيدة، وانخفضت نسبة الوفيات إلى حدٍ كبير، بل في بعض المخيمات ربما يموت يومياً واحد، وربما تكون الإحصائية أقل من ذلك، صحيحٌ أن مقديشو وما حولها، وربما بعض مناطق الوسط لا زال فيها بعض الأوضاع الأمنية غير مستتبة، ولا زالت بحاجة إلى الإغاثة، ولكن الوضع بشكل عام في الصومال يعتبر متحسناً إلى درجة كبيرة.(218/21)
الإعلام وتحسن الوضع في الصومال
وهنا ملاحظة عجيبة وهي: أنَّ جميع الصحف لم تكد تذكرُ هذا الخبر أبداً، وإنما ذكره شهود العيان، لم تذكر الصحف هذا الخبر؟! لأن هذا الخبر يفوت على الغرب إمكانية التدخل، إذ لو استقرت أوضاع الصومال، وتحسنت أحوال المسلمين هناك لن يكون هناك حجة للغرب أن يتدخل في الصومال، ولهذا سكت عن تحسن الأوضاع.
بل إنني قرأت خبراً غريباً، يقول: (مجموعة من منظمات الإغاثة الغربية تستعد للمغادرة من الصومال) والواقع يقول: إنها تغادر لأنها حققت بعض مطالبها، أو تغادر لأن الأوضاع تحسنت، ولكن الخبر يقول: (إنها تغادر لأن الأوضاع الأمنية القلقة لا تسمح لها لأن تقوم بأعمال الإغاثة والمساعدات الإنسانية) .
فانظر لتدرك أن الإعلام العالمي محبوك، وأن الأخبار تصاغ بطريقة ذكية، وأن المسلم من حقه اليوم أن ينزع الثقة من وسائل الإعلام، وألا يعتبرها مصدراً قط، وأن على المسلمين أن يستقلوا بالمصادر الإعلامية الموثوقة التي تعتمد على رواية، وعلى أخبار موثوقة معتمدة من قبل أشخاص مسلمين، تعنيهم قضية الإسلام قبل أن يعنيهم الخبر الإعلامي.(218/22)
ما يجري وراء الكواليس
لقد حرص الغرب على أن يدشن هذا القرار، فاتخذ القرار، ثم بدأ في التنفيذ، ثم أسرعت الأمم المتحدة، وذلك كله من أجل هدفٍ يجب ألا يغيب عنا، وربما تقرأون في الصحف بعد أسبوعين: أن القوات الغربية التي تدخلت تحقق بعض النجاح، وهذا يعني أن التحسن الذي تعيشه الصومال اليوم، لن يعلن عنه إلا بعدما تصل تلك القوات، حتى يعتبر من إنتاجها، وثمرة لتدخلها، وأنه بسبب أنها حالت بين المتقاتلين، أو بسبب أنها حمت قوافل الإغاثة، وهكذا تظهر هذه النتائج التي كان للمسلمين فيها دور كبير أيضاً في تحسن الأوضاع في الصومال، وتظهر أنها بسبب تدخل أمريكي، أو بسبب قوات الأمم المتحدة، أو ما أشبه ذلك، وكثير من المسلمين سوف ينخدعون بمثل هذه الأقوال، ومثل هذه التحاليل، ومثل هذه الأخبار، التي عادةً ما تنشر في صدر الصحف، وبمنشيتات عريضة.
فأنا أقول لكم اليوم: إن أوضاع الصومال في تحسن كبير، بفضل الله تعالى ورحمته، ثم بفضل جهود كثير من المسلمين، ولا أنكر أيضاً أن القوى الغربية لها دور في ذلك بنيات معروفة مبيتة، المهم أن الأوضاع تحسنت كثيراً، وهذا التحسن لم يعلن عنه، لأنه يراد ألا يعلن عنه، إلا بعدما تتدخل القوات الغربية ليكون من بعض إنتاجها، وليكون مسوغاً، وليكون عنصر تضليل لكثير من المسلمين الذين لا يعرفون الحقائق.(218/23)
قرار الأمم المتحدة جاء بعد قرار أمريكا
لم تطلب جهة من الجهات من الغرب أن يتدخل، لا أطراف النزاع في الصومال، ولا الشعب الصومالي المسلم، ولا الدول المجاورة، ولا جامعة الدول العربية، ولا منظمة المؤتمر الإسلامي، ولا غيرها لا من الأفراد، ولا من الجماعات، ولا من الدول، ولا من المنظمات، فهاتوا لي أحداً طلب التدخل من أمريكا، بل إنني أقول: هل طلبت الأممُ المتحدة نفسُها من أمريكا أن تتدخل في الصومال؟
الجواب
كلا، وإنما كان قرار الأمم المتحدة قراراً تالياً لقرار أمريكا، وكأن بعض الدول أرادت ألا تنفرد أمريكا بذلك، فأحبت أن تشارك وتساهم في هذه الغنيمة.
ولم تكن الحوادث التي تعرَّض لها رجال الإغاثة في الصومال لم تكن كبيرة، ولا تعد شيئاً بالقياس إلى الحوادث التي تعرضوا لها في البوسنة والهرسك، أو في بعض المناطق الأخرى التي يكون فيها حاجة إلى الإغاثة، كانت حوادث عادية، وكان القتلى أفراداً معدودين، ولم يكن هناك كبير مشكلة في هذا الشأن.(218/24)
عدم التدخل السريع في البوسنة والهرسك
إنه في الوقت الذي تتدخل أمريكا بما يزيد على ثلاثين ألف جندياً من قوات المارينز، وتتدخل معها أكثر من اثنتي عشرة دولة من دول الكفر، فإننا نجد أن أوضاع المسلمين في البوسنة والهرسك لا تزال تشكل ضغطاً رهيباً عالمياً، ولا تزال الصيحات والنداءات تتوالى واحداً بعد الآخر، ولكن لا يبدو هناك أي نية قريبة ولا بعيدة لتدخل في ذلك الموضع.
وإنني أقول: من المستحيل أن يتدخل العالم الغربي في البوسنة والهرسك إلا في حالة واحدة، لوحظ أن هناك انتصارات للمسلمين، وأن القوة الإسلامية بدأت تتقدم، فحينئذٍ سوف يقوم بعملية تمثيلية مسرحية يعدها، ويتدخل بحجة الحيلولة بين الأطراف المتنازعة، للحيلولة دون انتشار الإسلام، ودون وجود إسلامي قوي هناك.
بل إن العالم الغربي كله، والأمم المتحدة أيضاً وهي الحكومة العالمية الظاهرة اليوم، لا يزالون يعترضون على مجرد السماح للمسلمين بشراء السلاح للدفاع عن أنفسهم، فهم يقولون: هناك حصار على كل الأطراف، والواقع أن صربيا لها حدود واسعة مشتركة مع عدد من الدول، ولها بحر، وهي تلقى معونات كثيرة، وليس هناك حصار عليها، لا من الناحية البرية، ولا من الناحية البحرية، بل بعض الدول الإسلامية تساعدها؛ فإيران زوَّدتها بالبترول، ومصر بعثت إليها بشحنات بترول أيضاً! وهذه من المضحكات المبكيات، فضلاً عن الدول المجاورة الغربية كلها، فضلاً عن الشركات الأمريكية والبريطانية والفرنسية فكل هؤلاء لم يفعلوا، ولم يمتثلوا للحصار المفروض على صربيا، أما المسلمون فإن بلادهم وحدودهم محصورة، فصربيا تحيط بهم، والكروات يحيطون بهم، فالمنطقة الوحيدة التي يمكن أن يأتيهم منها السلاح هي كرواتيا، أو من خلال إذن عالمي دولي بتصدير السلاح.
ولذلك يفرض على المسلمين حصار حقيقي صارم، أما عدُوُّهم فمع أنه يملك قوة كبيرة إلا أنه ليس عليه أي لون من ألوان الحصار، وكذلك الطائرات فقد فرضوا على صربيا ألا تُحَلِّقَ طائراتُها، والواقع أن صربيا تنتهك هذا الأمر يومياً عشرات المرات، ولا يملك العالم إلا أن يسكت عن هذه الأخبار، أو أن يدينها بالكلام فقط.
إذاً لماذا لا يحافظ العالم الغربي، ولا تحافظ الأمم المتحدة على هيبتها في البوسنة والهرسك؟ ولماذا دموع التماسيح التي تراق في الصومال لماذا لا تراق في أرض البوسنة والهرسك؟ لماذا تدخلوا هنا على الرغم أنه لم يطلبهم أحد، ولم يتدخلوا هناك مع أن الأصوات صمَّت آذانهم تطالبهم بالتدخل، وطالبت البوسنة والهرسك، وطالب العالم الإسلامي بأجمعه، وطالبت كثير من المنظمات الغربية، وطالب الإعلام الغربي، ومع ذلك لا يزالون يصمُّون آذانهم عن هذه النداءات وهذه الصيحات.
أين حقوق الإنسان من هذه الصور التي يعرضونها للأطفال المشردين، وللنساء، وللعجائز، وللكبار، وللقتلى؟! أين حقوق الإنسان؟!(218/25)
الوضع في الصومال
ولعلَّ آخر الأخبار في ذلك ما يتعلق بأرض الصومال.
إنَّ الصومال التي منيت سابقاً بألوان من المآسي والكوارث على المستوى البشري والإنساني، فإذا بنا نسمع خلال الأيام الماضية أن أمريكا اتخذت قراراً بإرسال ألف وثمانمائة مما يسمونهم بقوات (المارينز) وهي قوات التدخل السريع المدربة، وبالذات من الفرقة اثنين وثمانين التي كانت هي أول فرقة جاءت أثناء حرب الخليج الثانية، وأن هذا العدد ألف وثمانمائة إنما جاءوا ليهيئوا الفرصة لنزول ما بين ثلاثين إلى أربعين ألف مسلح أمريكي في أرض الصومال.
وسرعان ما وجدت الأمم المتحدة نفسها منساقة لتأييد القرار الأمريكي والركض وراءه، فقامت أكثر من اثنا عشر دولة في العالم بتأييد هذا القرار، ومن ضمن ذلك بعض الدول العربية التي أعلنت عن إمكانية المساعدة ببعض الجنود.
أربعون ألف جندياً أمريكياً وغربياً جاءوا إلى الصومال، والفِرَق التي جاءت، جاءت محمولة بحراً في أربع سفن، وبقية الفرق قد تأتي جواً، هذا أمر أعجب من سرعة اتخاذ القرار، سرعة تنفيذه، وأعجب من سرعة التنفيذ، أن الدوائر الغربية الأمريكية رفضت التصريح بالجهة التي سوف تذهب إليها تلك القوات أول الأمر، وقالت: إنها ذاهبة إلى منطقة العمليات في الشرق الأوسط.(218/26)
طبيعة تأييد قرار إرسال القوات الأمريكية إلى الصومال
وصرَّحت الصحف، حتى (خضراء الدمن) قرأتُها بالأمس في الطائرة، وإلا فأنا لا أشتريها كما قلت لكم مرات، وأنهى إخواني أن يشتروها، صرَّحت بأن هذا القرار الغامض اتخذ في ظروف معينة، فأشارت إلى أنه قرار غامض، وهذا أقل مما يجب أن يقال عن ذلك القرار؛ لأسباب عدة:(218/27)
مخالفة الأمم المتحدة للقانون الدولي
ليس في نظام الأمم المتحدة ما يحكم عليها ولا ما يتيح لها استخدام القوة؛ لتحقيق ما تسميه هي بـ (المساعدة الإنسانية) إن الشعار الظاهر أن هؤلاء ذهبوا من أجل حماية قوافل الإغاثة في الصومال هكذا يقولون، وليس في قانون الأمم المتحدة القانون الدولي ما يحتم على الأمم المتحدة اتخاذ مثل هذا القرار، وإنما كل ما تطالب به المساعدة الإنسانية وبذلها، أما إذا سرقت هذا المساعدة فإنها تكون معذورة في مثل هذه الأحوال، بل إنه حتى سرقة المساعدة في الصومال سوف تكون نافعة كثيراً للمحتاجين، لأن هذا الطعام المسروق في النهاية سوف يذهب إلى الناس بشكل أو بآخر، وسوف يصل إلى المحتاجين وسوف ينتفع منه الجياع والعطشى والمرضى.(218/28)
الصمت الطويل المدروس
لقد تأخرت الأمم المتحدة كثيراً عن تلك الكارثة، وصمتت عن الأصوات التي تنادي وتقول للعالم: إن ملايين البشر في الصومال مُقْبِلون على الموت جوعاً وعطشاً وفقراً ومرضاً، فصمت العالم طويلاً، وسكت، وتستر على الكارثة حتى بلغت مبلغاً عظيماً، وامتدت، وتعمقت، وتفاقمت، واتسع نطاقها.
وهذا الصمت لم يكن عن غفلة، ولم يكن عن عجز، ولكنه كان صمتاً مدروساً مقصوداً حتى تكون الصومال أرضاً خصبة لتحقيق ما يراد، والذي يراد كثير، يراد تنصير الصومال وهناك عشرات بل مئات المنظمات النصرانية تشتغل هناك، تشتغل بنقل أطفال المسلمين إلى بلاد أوروبا لتربيتهم على دين النصرانية هناك.
نعم، وهناك أيضاً النصارى الذين ينصرون المسلمين في الصومال نفسها، بل حتى الإغاثة الإسلامية يعملون على تضييق الحصار عليها، وعلى منعها ويحرصون على أن تتم من خلال وكالة غوث اللاجئين، وهي وكالة تابعة للأمم المتحدة، ويعمل فيها في الصومال نفسها مجموعات من النصارى بل من الإنجيليين المتعصبين، الذين يقدمون للمسلمين المساعدات المشروطة بقبول النصرانية.
إذاً لقد تأخرت الأمم المتحدة كثيراً عن المساعدة للصومال، وعن التدخل، وحينما تحدث أحد الأشخاص المُهِمِّين وهو الذي كان مندوباً للأمم المتحدة في الصومال: محمد سحنون حينما: تحدث عن ذلك، وانتقد أعمال هيئة الأمم المتحدة فَرَضُوا عليه الاستقالة! لأنهم يعتبرون أنه قام بفضيحة لهم، وكشف بعض الأوراق التي كان يجب أن تظل طي الكتمان، وألا تتحدث عنها الصحف، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يكشف بعض زيفهم.(218/29)
أهداف الغرب من التدخل في الصومال(218/30)
منح المزيد من الشرعية بمشاركة بعض الدول العربية
أما الهدف الثالث: فهو مشاركة بعض الدول العربية في هذا العمل، وما ذلك إلا لمنح مزيد من الشرعية، وإلا فهؤلاء لا يقدمون ولا يؤخرون، ولا ينفعون ولا يدفعون، وإنما هي: مجرد أن تكون حملة دولية عالمية ليس لها لون، وإنما يشارك فيها من بنغلاديش، ومن بلاد الدنيا، ومن المغرب ومن المشرق، فهذا يشارك بعشرة جنود، وهذا يشارك بعشرين، وهؤلاء يقومون بعملية الطبخ، وهؤلاء يقومون بالتنظيف، وما أشبه ذلك، وإن كانوا بمسمى جنود وضباط وما أشبه ذلك، وإنما المقصود: محاولة تضليل الناس بأن الحركة من خلال الأمم المتحدة وأنَّ الحركة دولية، وأنها ليست من دين معين، ولا من جهة معينة، وليس لها طابع خاص، إنها مزيد من التضليل للمسلمين، لئلاَّ يثيروا المشاعر الإسلامية كما فعلوا من قبل.
ومن الطريف: أننا نجد أن هناك منظمات ومؤسسات، كجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها لم يكن لها في هذا الأمر شيء، لا قليل ولا كثير، وليست منه في قبيل ولا دبير، بل إنني قرأت أن مسؤولة الخارجية البريطانية أبدت تخوفها من قرارات مؤتمر الخارجية الإسلامي الأخير الذي عقد في جدة فإلى الله المشتكى.(218/31)
محاصرة أوضاع دول إسلامية أخرى
إنَّ الهدف الثاني: هو محاصرة أوضاع دول إسلامية أخرى، فيخشى أن تهيمن عليها الأصولية، أو أن تكون لها نيات لدعم الإسلام وتقوية جانبه، إن نجاح السودان مثلاً في القضاء على النصارى في الجنوب كان مزعجاً للغربيين، ولذلك فالتقارير لا تتوقف أبداً وهي تتزامن اليوم مع ذلك القرار بالتدخل في الصومال، ففي الوقت الذي اتخذوا فيه قرار التدخل في الصومال، أصدروا بياناً ينتقد السودان في إهداره لحقوق الإنسان في الجنوب، ويهدد حكومة السودان، ويطالبها بإجراءات حاسمة.
وكان ذلك البيان والله أعلم إشارة إلى أن هناك ما وراءه، وأن هذه الدول الغربية قد لا يُستبعد أن تفكر بعملية إنزال أو احتلال في الجنوب السوداني، لحماية حقوق الإنسان، أو على أقل تقدير أن تقوم وهذا شبه مؤكد بدعم جون قَرَنْق والمتطرفين معه، فهذا هو أحد أهداف الحملة الصليبية على أرض الصومال، فالسودان هدف آخر أيضاً ولا شك لحماية النصارى في الجنوب، وللقضاء على الحكومة الأصولية القائمة هناك.
ومثله أيضاً ما يجري في اليمن، فإن الأوضاع في اليمن متفاقمة، والخشية الغربية من وجود إسلامي قوي في اليمن هي خشية كبيرة وهي في محلها، فإن تنامي الصحوة هناك، وعدم وجود أمن مستقر واختلال الأوضاع الحكومية يهدد الغرب بوجود حكومة إسلامية هناك، والغرب لا يريد يفاجأ بمثل هذه الأمور دون أن يحسب لها حساباً.
فلذلك جعل إلى جنوب الجزيرة العربية قواعد إسرائيلية معروفة، وجعل منطقة العمليات الغربية، إضافة إلى وجود بعض الدول الإفريقية، التي نجح الغرب في فرض النصرانية عليها، على مستوى الحكومات، وعلى مستوى الشعوب.(218/32)
الحيلولة دون وجود دولة إسلامية
إنَّه يتدخل أولاً: للحيلولة دون وجود دولة إسلامية في الصومال، ونزع سلاح الفرقاء، وهو يعني في الحقيقة نزع سلاح المسلمين، لأن هناك قوة إسلامية متنامية في الصومال، وقد ذكرت لكم في المجلس السابق نموذجاَ لهذه القوة، وإلا فإن الأمر أكبر مما ذكرت.
إذاً هناك عملية نزع سلاح المسلمين في الصومال، وفرض الوصاية أو الحماية الدولية على المسلمين هناك، والذين جاءوا لنزع السلاح من المسلمين، يجب أن تعلموا أنهم كانوا بالأمس يغذون جميع الفرقاء، فإن المتحاربين الرئيسيين في الصومال كليهما من العلمانيين، وهم مدعومون من إيطاليا، ومن الدول والقوى الغربية، بل لقد سقطت طائرة إغاثة في الصومال فوجد المسلمون فيها أسلحة تسرب إلى المتقاتلين! ومع ذلك جاءوا اليوم ليقولوا لنا: أتينا للننزع السلاح ونفرض الأمن على هذه الدولة المسلمة! إذاً الهدف الأول: هو الحيلولة دون وجود دولة إسلامية في الصومال، وفرض الوصاية الغربية، وإنني أقول لكم أيها الإخوة بملء فمي، ودون مدارات ولا مغاربة: لقد عادت عصور الاحتلال والاستعمار من جديد، وقد شهد من قبلنا، وشهد بعض كبار السن فينا، عصوراً كان الاستعمار فيها يرحل من بلاد المسلمين، ليجعل نوابه وعملاءه يقومون بالمهمة، أما اليوم فنحن والجيل الذي يعيش، نشهد ميلاد الاستعمار المباشر من جديد، ولم يعد الغرب يكتفي بوجود من يمثلونه في بلاد الإسلام، ولا يكتفي بوجود الوصاية غير المباشرة، بل إن الغرب أصبح يتدخل مباشرةً في البلاد الإسلامية، وقد قرأتُ بنفسي في الجرائد، ومنها جريدة الحياة كلاماً يتعلق عن فرض الوصاية الأمريكية على الصومال.(218/33)
المعركة قادمة
إن هذا الأمر إيذانٌ بأنه يجب على المسلمين أن يتدبروا أمرهم، وأن يدركوا أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن المواجهة مع أعداء الله تعالى من الكفار الصرحاء، ومن المنافقين الذين يمثلونهم في بلاد المسلمين، أمر لا ريب فيه، اليوم أو بعد سنة، أو بعد عشرين سنة أو متى ما كان في علم الله تعالى.
ولا يجوز أن نغتر وننخدع بما ينشر في الصحف من تحليل مثل هذه القرارات الأمريكية والغربية، التي قد يقولون فيها بأن هذه القرارات من أجل الحماية والإغاثة، وأنه قرار إنساني، وما أشبه ذلك، إن هذه الصحف كلها أعني الصحف العربية أجمعها سواءً صدرت في بلاد العرب، أو في بلاد الغرب، صحفٌ موجهة، تُمْلَى عليها الفكرة التي يجب أن تقال، وتعطى هذا الصحف حرية التعبير عن الفكرة المحددة وبالأسلوب التي تختاره، فالفكرة واحدة أما الأسلوب فهو مختلف.
إن ثمة أحداث كثيرة في جمهوريات أسيا الوسطى، وفي ألمانيا، وفرنسا، وأسبانيا بل وفي منطقة الشرق الأوسط كلها، بل وفي أمريكا ذاتها تؤكد أن العالم الغربي أصبح يعيش قلقاً من المد الإسلامي المتنامي، وأصبح يسابق الأحداث لحصار هذا المد، والحيلولة دون انتشاره، فماذا نحن فاعلون؟(218/34)
واجب المسلمين تجاه قضية الإسلام والمسلمين
إنَّ الواجب علينا معاشر الذين آمنوا بالله ورسله، أن نصدق الله تعالى في نصر دينه، والثبات عليه، والدفاع عن شريعته، ويتمثل ذلك بما يلي:(218/35)
الإعداد
الأمر الثاني الذي لا بد من دعوة المسلمين إليه، وأقول باختصار: الإعداد، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وقد سألني سائل هل ترى أن الإعداد فرض عين؟ فأقول: نعم الإعداد فرض عين، ولكن ماذا يعني الإعداد؟ إن الكثيرين اليوم يظنون أن معنى الإعداد هو فقط تدريب الناس على حمل السلاح، ووجود الأسلحة في أيدي المسلمين، وهذا لا شك أنه أحد صور الإعداد، ولكن هناك وراء ذلك ألوان وألوان.
هناك الإعداد العقائدي الإيماني الذي يكون به النصر، بتقوية قلوب المؤمنين، وتصحيح عقائدهم، وتربيتهم، وإحياء معاني التقوى في نفوسهم، وتربيتهم على الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والاستعداد للقاء الله عز وجل، فإنَّ هذا الإعداد العقائدي الإيماني لا بد منه.
هناك الإعداد العلمي الشرعي لتربية المؤمن الذي يعرف دينه، ويعرف الحلال والحرام، ويعرف متى يقاتل، ومتى لا يقاتل، ومتى يحارب، ومتى يسالم، ومن يتبع، ويفقه دين الله عز وجل عن علم وبصيرة، ولا يكون قتاله لمجرد الحماس، أو مجرد الاندفاع، أو مجرد الغيرة الغامضة، بل يكون قتاله عن علم ويقظة وبصيرة، فلا يستغله خصم ولا يوظفه عدو، بل يعرف عدوه من صديقه.
هناك الإعداد السلوكي والتربوي بحسن العبادة لله عز وجل وحسن الخلق، والسلامة من أمراض القلوب وآفاتها، هناك الخبرات والكفاءات المتنوعة في المعركة الكبرى التي يحتاجها المسلمون.(218/36)
المعركة ليست فقط معركة السلاح
إن المعركة ليست فقط معركة السلاح، إنها معركة ميدانها الحياة كلها، وعلى سبيل المثال: الإعلام، فأي قيمة لأمة لا تملك إعلاماً، ولا تملك آلة إعلامية تتزامن مع معركتها في ميدان القتال، فإن الإعلام يؤثر تأثيراً كبيراً في بناء الإنسان، وبناء الأمة، وتوجيه المعركة، وتوجيه الناس.
والإعلام يؤثر اليوم في عقول المسلمين، فيوصل إليهم أفكار الغرب، ونظرة الغرب، ويحقق أهداف الأمم الكافرة في بلاد الإسلام، وبناءً عليه أقول أين الإعلاميون المسلمون؟ وأين المؤسسات الإعلامية الإسلامية؟ مثال آخر: الاقتصاد: إن الاقتصاد شأنه عظيم وكبير، وأي أمة اقتصادها بيد عدوها فهي أمة مهزومة، ولا يمكن أبداً أن نتصور أن القتال في أوساط البلاد الإسلامية يقوم على التسول، وعلى الطلب من أفراد المسلمين من قرش وريال، إن الحرب بين المسلمين وبين عدوهم الكافر، يجب أن تقوم على: اقتصاد مدروس، ومؤسسات ناجحة، وعلى قوة إسلامية اقتصادية تدعم كل مشروع إسلامي، سواء كان مشروعاً عسكرياً قتالياً، أم كان مشروعاً دعوياً، أو كان مشروعاً إنسانياً إغاثياً، أو كان غير ذلك.(218/37)
القَدْر المطلوب من العُدَّة
إنه ليس المطلوب منا أن نكون بحجم قوة عدونا، ولكن المطلوب منا أمران: الأول: الصدق مع الله تعالى بقلوبنا وإخلاصنا.
الثاني: أن نبذل المستطاع في الإعداد، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60] وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7] .(218/38)
الإسلام هَمُّ الجميع
أولاً: لا يجوز أبداً أن تكون المعركة بين فئة من المسلمين والبقية يتفرجون، إن الحرب على الإسلام في بلد هي حرب على المسلمين جميعاً، وإن إعلان الحرب على المسلمين في الصومال مثلاً، يجب أن تكون إعلاناً للحرب على المسلمين في كل مكان، وفي البوسنة والهرسك نفس الكلام، وفي السودان نفس الشيء، وفي الجزائر وفي مصر، وفي كل بلاد الإسلام.
فحرب المسلمين في بلد هي: حرب على المسلمين في كل بلد، ويجب أن نتجاوز حدود الأرض والمكان، ونناصر قضايا المسلمين حيث كانت، تحقيقاً لمعنى الإخوة الإيمانية، قال الله تعالى {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإن استنصرك فانصره} .
كما لا يجوز أن تكون الحرب مثلاً مع رجال الإسلام، أو دعاة الإسلام، أو علماء الإسلام، أو الجماعات الإسلامية والشعوب تقف متفرجة لا تنفع ولا تدفع، بل يجب أن نعيد جسور الثقة ونقويها بين الشعوب، وبين حَمَلَة رسالة الإسلام، علماء كانوا أو دعاة، وإن على كل داعية، وطالب علم، وشيخ، أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر مع المسلمين جميعاً، وكل من أخذ بيده إلى معروف يفعل، أو منكر ينهى عنه أن يسارع إلى ذلك.
كما إنه يجب على دعاة الإسلام أن ينغمسوا في الشعوب، وأن يساعدوها بكل شيء، وأن يبذلوا لها من أوقاتهم، وعقولهم، وإمكانياتهم، ومشورتهم، وجهدهم، وعَرَقِهم ما يزيد من قناعة الشعوب؛ بأنها لا يمكن أن تنفصل عن هؤلاء الدعاة، وأنهم هم الممثلون الحقيقيون لها، وهم المدافعون الحقيقيون عن قضاياها، ويجب أن نحشد كل الإمكانيات في هذا السبيل، وألا نعوِّد أنفسنا حسن التخلص من الناس، بل نعود أنفسنا حسن المساعدة للناس بقدر ما نستطيع، ونتصدق من دينارنا، ودرهمنا، ومن صاع بُرِّنا، وصاع تمرنا، حتى ولو بشِقِّ تمرة، نتصدق بجاهنا، وبجسمنا، وبعقولنا، وبإمكانياتنا، وبرأينا وبما نستطيع به إيصال الخير للمسلمين سواء أكان خيراً أخروياً يتمثل في النصيحة للدين، أم خيراً دنيوياً يتمثل في إعانة المحتاج، ومساعدة الفقير، وإغاثة الملهوف، وبذل ما يمكن من الجاه والمال لكل المسلمين حيث كانوا.
إنَّ أعداء الإسلام يعملون قدر المستطاع على أن تكون الحرب موجهة نحو فئة، أو نحو أشخاص معينين، وأن يعملوا على تحييد المسلمين، وإبعادهم عن ميدان المعركة، لأنهم قد يملكون القضاء على شخص، أو على فئة، أو جماعة، أو راية، ولكنهم لا يملكون القضاء على الأمة الإسلامية بجملتها، لأن الأمة الإسلامية قد وقيت وحميت بإذن الله تعالى من عذاب الاستئصال، فهي باقية إلى قيام الساعة بإذن الله، كما وعد الله وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأمة باقية إلى قيام الساعة، فلن تزول إذاً، ومتى ما استطاع دعاة الإسلام أن ينغمسوا في هذه الأمة، وأن يكونوا هم وهي في خندق واحد، فالمستقبل واحد، والمصير واحد، والتحدي واحد، فإنه حينئذٍ سوف يسقط في أيدي الأعداء ولن يستطيعوا أن يصنعوا شيئاً.
ونحن نعلم أنَّ قَدَرَ الله تعالى غالبٌ، وأنَّ هذه الأمة منصورة، وأن أعداء الإسلام تقاس أعمارهم بالسنوات، أو بعشرات السنين، أما أعمار هذه الأمة فهي تقاس بالقرون والأحقاب وبمئات السنين، بل بآلاف السنين، ونحن نملك وعداً ربانياً بمعارك منتصرة منجزة للمسلمين مع عدوهم، فلا يجوز أن نيأس أو نهون، قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] .
لقد رأينا أن دولة كفيتنام تدخل فيها الأمريكان، مع أن المقاتلين كانوا من الكفار والشيوعيين، فقاتلوهم وحاربوهم وأعطوهم درساً لن ينسونه، وقد أصبحت قضية فيتنام في التاريخ الأمريكي، أصبحت شبحاً يهددهم ويخوفهم ويرعبهم، وقامت المظاهرات الطويلة العريضة في أنحاء أمريكا في شرقها وغربها تطالب بالخروج من ذلك التورط الذي لم يحسبوا له حساباً.
فهل نعتقد أن أهل الإسلام، وأهل التوحيد، والتضحية، والبسالة، والذين يفرحون بالموت في سبيل الله، والذين يطلبون الشهادة، هل نعتقد أنهم أقل شأناً، أو قدراً، أو عدداً، أو عدةً، أو تضحيةً، أو إيماناً بالهدف، وأنهم أقل من أولئك الكفار الشيوعيين الذين لقَّنوا الأمريكان درساً لم ينسوه ولن ينسوه أبداً.
إنه يجب أن يجتمع المسلمون المخلصون، وأن تتوحد صفوفهم، في مقاومة الكفر وأهله، فإلى متى نستمر، ونحن نمضغ خلافاتنا، ونترامى ونتراشق بالسباب، ونتبادل الاتهامات، أفي كل يوم لا تعقلون! أوَ يصح أن نسكت عن عدونا، وهو يتدخل مباشرة بقوته، وبسلاحه، وبجنوده، وبجمعياته، وينصِّر المسلمين، ومن رفض التنصير يتدخل عسكرياً لمقاتلته، ونزع سلاحه وفرض حكومة بوصاية أجنبية! أوَ يصح أن نسكت عن هذا العدو المعلن بحجة أننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً، ثم ننشغل فيما بيننا بإخواننا، فننشغل بالشتم والاتهام والسب! إخواننا في العقيدة وفي الدين وفي المنهج، ألا نخاف الله عز وجل؟ ألم يقل الله تبارك وتعالى للمؤمنين الصادقين: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] متى تدرك هذه الأمة حجم التحدي الذي تواجهه؟ متى نعرف ونعقل كما عرف وعَقِلَ لقيط بن حارثة وكان رجلاً جاهلياً رأى الحرب التي توجه إلى قومه، فقال تلك القصيدة التي سار بها الركبان يحذرهم، ويحثهم على الاستعداد لعدوهم: يا دار عمرة من محتلها الجرعا هاجت لك الهم والأحزان والجزعا بل أيها الراكب المسري على عجلٍ نحو الجزيرة مرتاداً ومنتجعا أبلغ إياداً وخلل في سراتِهمُ إني أرى الأمر إن لم أُعصَ قد نصعا يا لهف نفسي إن كانت أموركم شتى وأُحكِم أمرُ الناس واجتمعا ألا تخافون قوماً لا أبا لكُمُ مشوا إليكم كأمثال الدبا شرعا لو أن جمعهم راموا بهدته شُمَّ الشماريخ من ثهلان لانصدعا في كل يوم يسنُّون الحراب لكُم لا يهجعون إذا ما غافل هجعا لا حرف يشغلهم بل لا يرون لهم من دون قتلكم رياً ولا شِبعا وأنتم تحرثون الأرض من سفهٍ في كل ناحية تبغون مزدرعا وتلقحون حيال الشول آونةً وتنتجون بدار القلعة الربعا وتلبسون ثياب الأمن ضاحية لا تجمعون وهذا الليث قد جمعا ما لي أراكم نياماً في بَلهنيةٍ وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا وقد أظلكم من شطر ثغركم هول له ظلم يغشاكم قطعا صونوا خيولكُمُ واجلوا سيوفكمُ وحدِّدوا للقسيِّ النُّبل والشرعا واشروا بلادكم في حرز أنفسكم وحرز نسوتكم لا تهلكوا هلعا أذكوا العيون وراء السرح واحترسوا حتى ترى الخيل من تعدادها رجعا لا تثمروا المال للأعداء إنهمُ إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا هيهات ما زالت الأموال مذ أبَدٍ لأهلها إذ أصيبوا مرةً تبعا قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا وقلدوا أمركم لله دركُمُ رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ولا إذا عضَّ مكروهٌ به خشعا مسهَّدُ النوم تعنيه أموركم يروم منها إلى الأعداء مُطَّلعا ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره يكون مُتَّبِعاً يوماً ومُتَّبَعا لا يطعم النوم إلا ريث يحجزه همٌ تكاد حشاه تحطم الضلعا حتى استمرت على شزر مريرته مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعا عبل الذراع أبياً ذا مزابنةٍ في الحرب يحتبل الريبال والسبعا لقد محضت لكم ودي بلا ذخرٍ فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا إنني ادعوا كل مسلم وكل غيور إلى أن يعيد قراءة هذه الأبيات مرة أخرى، بؤساً لأمة زانها الله تعالى بالإسلام، وصانها بالتقوى، ومع ذلك وجد هذا الرجل الجاهلي من حسن المشورة، وقوة الرأي، وبعد النظر، وسداد الأمر ما غاب على كثيرين ممن قد يكونون في موقع الرأي أحياناً، وفي موقع المشورة، وفي موقع العلم، وفي موقع المسئولية، والله تعالى وحده المستعان.(218/39)
الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة
أيها الأحبة: إن الجهاد ماضٍِ إلى يوم القيامة، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية} فالجهاد باقٍ، والنية باقية، وعلينا أن ندرك أننا سوف نخوض المعارك مع أعدائنا، كما قلتُ اليومَ أو بعد سنةٍ أو بعد عشرين سنة نحن أو أولادنا، وأن هذا العدو الكافر شأنه شأن من تَحَدَّث عنه أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] .
وقد ظهروا على المسلمين بقوتهم، واقتصادهم وسلاحهم، فهم الآن يخيرون المسلمين بين أمرين: إما أن يكفروا، ويتنصروا، ويتخلوا عن دينهم، وإما القتال، ونحن نعلم أن المسلمين لن يرضوا بالدنية في دينهم، وإن ارتد منهم من ارتد فسوف يأتي الله تعالى بخير منهم كما وعد، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] .
فانظر كيف أشار إلى الجهاد هنا: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة:54] وكذلك في شأن المال قال الله تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .(218/40)
متفرقات من هنا وهناك
وهاهنا مجموعة من القصاصات والأوراق التي أحببت مشاركتكم فيها على عجل:(218/41)
جهاز هاتف نزل السوق
هذه قصاصة من جريدة عكاظ تتحدث عن خطر أصبح موجوداً في أسواق المسلمين اليوم، وهو: وجود بعض أجهزة الهاتف التي تحول صوت الرجل إلى امرأة، وصوت المرأة إلى رجل أو طفل أو كبير أو ما أشبه ذلك.
وهذه الأشياء تستخدم في المعاكسات الهاتفية، وتستخدم في الخداع، والغريب أن خلاصة هذا التحقيق في عكاظ الأسبوعية أن الجميع يتنصلون من المسئولية، فالأجهزة هذه تباع في جدة وفي الرياض وفي كل مكان، والجمارك تقول ليس لدينا مسئولية، والتجارة، والجميع، والبائع والمشتري كذلك، وإنني أتعجب من أمرٍ، هناك قوانين وأنظمة صريحة في منعه، ومع ذلك يباع علانية ولا أحد يفكر بمصادرته، أو منعه أو ملاحقته!(218/42)
الأسئلة(218/43)
زيارة المنطقة الشرقية
السؤال
يقول: هل لكم أن تحدثونا عن زيارتكم للمنطقة الشرقية؟
الجواب
قد جاءت لي عشرات الأسئلة من هذا القبيل، وسألني مشافهة ما يزيد على خمسين من الإخوة، فضلاً عن بعض الإخوة الذين اتصلوا بي مهاتفةً، وأنا أتعجب! هي زيارة شخصية، ليس فيها شيء يذكر، ولا داعي أن يشتغل الإخوة بذلك، وينبغي أن يقبلوا على ما ينفعهم ويخدمهم، ولم يحصل فيها بحمد الله تعالى إلا الخير، ذهبنا ثلاثة أيام إلى الأحساء والمنطقة الشرقية، وألقينا بعض الكلمات في التجمعات: تجمعات الطلاب، وأساتذة الجامعات، وتجمعات المسلمين، وكلمات في المساجد، وصلينا مع المسلمين، والتقينا بالمشايخ، والقضاة، والدعاة، وطلاب العلم، وخطباء المساجد، ورجال الدعوة، وجمهور المسلمين.
وحصلت مناسبات كبيرة، وعبر لنا المسلمون هناك عن جميل مشاعرهم، وصار هناك فرصة للإجابة على بعض الأسئلة والحديث عن بعض الموضوعات، أما بعض الإشاعات وبعض الأمور التي ينقلها إليكم الآخرون فينبغي ألا تشغلكم ولا تلقون لها بالاً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك، وكتابك، وعبادك الصالحين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشْغِلْه بنفسه، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم أنزل عليهم بأسَك الذي لا يُرَد عن القوم المجرمين، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً لهم يا رب العالمين، اللهم اجعلهم وما ملكوا غنيمة للمسلمين.(218/44)
جلسة مع مربّي
تكلم الشيخ عن المهمة التي يقوم بها المربي أو المدرس, ثم نبه على أن المدرس ينبغي أن يكون عمله من أجل الله عز وجل, ثم أرشد المربي للتحلي بالأخلاق الفاضلة والالتزام بالدين, وما هي الأسباب التي تحبب المدرس للطالب والأسباب التي تجعل العلاقة بين المدرس والطالب سيئة.(219/1)
وظيفة المدرس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا الدرس الثالث والسبعون من سلسلة الدروس العلمية العامة, وهو بعنوان "جلسة مع مربيْ" ينعقد في هذه الليلة ليلة (16/4/ 1413هـ) .(219/2)
المساهمة في إنشاء جيل
إنّ مما يحتاج إلى بيان: أن كل الجيل أو جله على أقل تقدير, يتربى على مقاعد الدراسة، وفي كثير من البلاد يصبح التعليم مجانياً أو إجبارياً، إما بقوة النظام، وإما بقوة الظرف الاجتماعي الذي يجعل الأب حريصاً على إلحاق أولاده وبناته بالمدارس، فالذين يقومون على تربية الجيل إذاً هم المدرسون وهم مربو الأمة.
ومن بين هؤلاء الطلاب الذين تلقي إليهم درسك أيها المربي النبيل, من بينهم أولئك الذين سيتحملون عبء المستقبل, فمنهم العلماء الموهوبون، ومنهم الفقهاء والمفتون، ومنهم المجاهدون الشجعان، ومنهم أرباب الصناعة، ومنهم الإداريون, ومنهم ومنهم , فإياك أن تحتقر عملك, أو تظن أنك تجهد نفسك في غير طائل, فربما كنت مساهماً، بل يقيناً أنت مساهم في صناعة الأمة وتنوير مستقبلها بإذن ربك عز وجل.(219/3)
بناء الشخصيات والعقول
إذا كان هناك من يساهم في بناء جزء من الجيل, فيبني الأجساد -مثلاً- سواء بالرياضة أم بالغذاء أم بالعلاج, والوقاية من الأمراض، أو كان هناك من يساهم في تحقيق الانضباط بالعسكرية وغيرها، أو كان هناك من يساهم في بناء الاقتصاد بالمال، فأنت شيء فوق ذلك كله يا أيها المعلم.
أنت تبني شخصية, وتنمي عقلاً, وتهدي -بإذن الله تعالى- قلباً وتصوغه ليكون صالحاً في كل ميدان، فإن كان جندياً كان ناجحاً وشجاعاً, يجعل همه الدفاع عن الدين وعن الحرمات والمقدسات, ويمضي وروحه على راحته, لا يهاب الموت، وإن كان اقتصادياً كان مخلصاً أميناً لا يستعبده المال ولا يستذله, وإن كان إدارياً كان عادلاً حكيماً يعرف كيف يضع النظام، وكيف ينفذه، وإن كان عالماً شرعياً كان ذلك التقي النقي الذي لا يقول على الله تعالى بغير علم، و {إن كان في الحراسة كان في الحراسة, وإن كان في الساقة كان في الساقة} كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم.(219/4)
القيام بميراث النبوة
ومع هذا وذاك, فأنت وريث النبي صلى الله عليه وسلم في علمه وعمله, إن كنت من المخلصين الصادقين، فأما أنك وريثه في علمه فنعم, أنت قد عقلت علماً ووعيته، وأول ذلك علم الشريعة، وعلم الاعتقاد, وعلم الحلال والحرام، الذي به النجاة في الدار الآخرة وبه الفلاح والسعادة في الدنيا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو الدرداء , وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم, قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظ وافر} وهذا حديث عظيم جليل, شرحه الحافظ ابن رجب في رسالة مفيدة مطبوعة، ولهذا جاء في صحيح البخاري: [[أن ابن عباس رضي الله عنه سُئل: هل ترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيء؟ قال: لا, ما ترك إلا ما بين الدفتين]] يعني: المصحف, ما ترك إلا العلم الشرعي, فإنه لم يورث ديناراً ولا درهماً, بل ما ورَّثهُ من المال وتركه صلى الله عليه وسلم فهو صدقة, وإنما ميراثه العلم الشرعي الذي أنت وأمثالك تشتغلون به وتتعاطونه تعلماً وتفقهاً ونشراً وغير ذلك, فهذا ميراثك من علم النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ميراثك من عملك فأنت تربي الناس بهذا العلم، وتدرسهم هذا الهدي, كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يفعلون، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] .
إذاً: فتدريس الكتاب وتعليمه ونشره, وتربية الناس عليه, هذه كانت مهمة الأنبياء, ومن قام بها فهو وريثهم, سواء كان اسمه مدرساً أم معلماً أم أستاذاً أم خطيباً أم داعية أم أي شيء آخر.
فأنت إذاً -إن صدقت- ورِيثُ النبي صلى الله عليه وسلم بحصولك على علم, ووريث له بقيامك بمهمة التدريس والتعليم, فحري بك أن تكون وريثاً له -أيضاً- في خلقك وعملك وهديك, فإن العلماء ما برزوا بمعلوماتهم فحسب, بل برزوا بعلمهم وعملهم, فهذا الحسن البصري , قال فيه بعض السلف: "ما غلبهم الحسن البصري بمزيد علم, فعلمه علمهم -يعني ما كان عنده فهو عندهم- وإنما غلبهم بالزهد في الدنيا" إنه ليس ثمة عمل آخر يعدل التدريس في أهميته وجدواه.
وإن مما يبهج النفس ويسر القلب, أن يكون عدد كبير من العاملين في هذا الحقل هم من الصالحين والغيورين على دينهم, والغيورين على مستقبل أمتهم وبلادهم, فإذا انضم إلى هؤلاء جهد وحماس كبير من هؤلاء, لضمنَّا بإذن الله تعالى مستقبل الأجيال, وتأكدنا من استمرارية الدعوة الإسلامية في نمائها وتوسعها وترسخ جذورها, وإنه لكائن إن شاء الله تعالى, وإن غداً لناظره قريب.(219/5)
دور المدرس والمربي
إن دورك أيها المدرس لا يقف عند حشو ذهن الطالب بالمعلومات الكثيرة, إن هذه المعلومات وحدها لا تصنع رجالاً ولا تبني أجيالاً، بل لا تنفع في دنيا ولا آخره؛ ما لم تكن معززة بالعمل الصالح الذي هو ثمرتها وغايتها.(219/6)
العلم وحده لا يكفي
إن إعداد الجيل إعداداً تربوياً صحيحاً لا يكون بالعلم وحده فقط، بل يكون بالعلم وبالعمل وبالأخلاق وبالسلوك, لهذا ينبغي أن تكون مهمة المدرس أمراً آخر أكبر من مجرد نقل المقرر إلى أذهان الطلاب, أو ختم المنهج الدراسي في نهاية العام, أو تصحيح أوراق الإجابة لينام بعد ذلك قرير العين, ويظن أنه قد أدى ما عليه, كلا! إن كل مدرسٍ مطالبٌ بأن يبني الدين والخلق في قلب الطالب, ويرسم الحق في عقله, ويُكَوِّن -بإذن الله تعالى- ذلك الإنسان السوي المستقيم في تفكيره ومشاعره, وفي أقواله وأعماله.
وذلك ليس على مدرس المواد الشرعية فقط, وإن كان مدرس المواد الشرعية يتحمل عبأً كبيراً؛ لأنه في نظر الطالب هو الشيخ الذي يتلقى عنه المعلومات: قال الله وقال الرسول, والحلال والحرام, ولكن حتى مدرس الرياضيات ينبغي أن يختار المثال المؤثر في ذهن الطالب.
فليس صحيحاً أن يختار المدرس -مثلاً- للمسائل الحسابية أن يختار الربح البسيط, والربح المركب الذي هو لون من ألوان الربا, وليس صحيحاً أن تكون الأمثلة تتراوح بين أعداد أجهزة الهدم والفساد والتخريب, أو بين أرقام الفوائد الربوية, أو بين إحصائيات غريبة, والتي لا تمت بصلة إلى ديننا ولا إلى مجتمعنا.
كذلك مدرس العلوم -مثلاً- فإنه يستطيع أن يبني مع كل معلومة جديدة يقدمها للطلاب لبنة في إيمانهم: إيمانهم بالله تعالى خالق الكون ومحبتهم لله عز وجل, وخوفهم منه, وإيمانهم بالدار الآخرة، وإيمانهم بالجنة والنار, فإن المدرس يستطيع أن يصنع من ذلك شيئاً كثيراً.
كذلك مدرس اللغة العربية يستطيع أن يربط اللغة بالشريعة, فاللغة هي وعاء الإسلام, وبها نزل القرآن الكريم, وبها تكلم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم, بل هو أفصح من نطق بالضاد, فينبغي أن تكون اللغة عنده وسيلة لتعميق مفاهيم الإيمان, وليست وسيلة إلى ترويج المبادئ العلمانية, أو الأفكار الحداثية, أو الدعاية للشخصيات ورموز الأدب الغربي والشرقي المناوئ للإسلام.
كذلك مدرس اللغة الإنجليزية يستطيع من خلال تلك اللغة, أن يعلمهم المصطلحات التي يحتاجون إليها والمقابل لها من المصطلحات الشرعية، وأن يبين لهم لماذا يدرسون هذه اللغة؟ وأن يسعى لتصحيح المفاسد الموجود في تلك المناهج, وإلى تربية عقول الطلاب, لا أن يجعل من تدريسه لهذه المادة -مثلاً- فرصة لنقل التعاسات الغربية, أو ربط الطلاب بمجتمعات أجنبية, أو دعوتهم لمشاهدة الأفلام, أو السفر إلى تلك البلاد, أو معايشة الأسر الكافرة بحجة تعلم اللغة.
حتى مدرس الرسم -مثلاً- يستطيع أن يربي الطالب على النظر في ملكوت السموات والأرض, وعلى أن يتجنب ما حرم الله تعالى من رسم ذوات الأرواح, وعلى أن يكون إنساناً معظماً لله تعالى متأملاً في بديع صنعه وخلقه.
وحتى مدرس الرياضة يستطيع أن يجعل من هذه الحصة التي ينظر إليها الكثير على أنها لمجرد الراحة بعد عناء الدروس, أن يجعل منها فرصة لتربية الطلاب على الأخلاق, وإبعاد الكلمات البذيئة الفاحشة من ألسنتهم, ومنعهم من التصرفات المنافية للأخلاق, وأقول مثل ذلك لجميع المدرسين.(219/7)
المدرس والمنهج
إن المدرس أكبر أهمية عندنا من المنهج, فأي قيمة عندنا لمنهج ممتاز إذا كان المدرس الذي يتناوله ويقدمه للطلاب, ليس على مستوى, وليس مخلصاً ولا غيوراً, بل يقدمه بغير اهتمام وبغير جدية, وبكثير من الرخاوة, بل ربما صور لهم المنهج بغير صورته التي هو فيها, فنحن لا نقلل من قيمة المنهج وأهميته, فلا شك أن له درواً كبيراً في ربط العملية التعليمية, وفي تنشئة الأجيال.
ولكن ينبغي أن نعلم أن المنهج لا يحقق الأهداف من ورائه، إلا إذا وجد المدرس الناجح الذي يسعى إلى تنفيذه, ولو أننا أمام منهج أقل كفاءة وأقل نجاحاً وتولاه مدرسون أكفاء لاستطاعوا -بإذن الله تعالى- بإخلاصهم, واجتهادهم, ومبادراتهم الشخصية أن يتغلبوا على عيوب المنهج وعلى نقائصه.(219/8)
حوار بين مدرس وطالب
وهذا حوار بين مدرس وطالب, ولقد رأينا في حياتنا العملية أعداداً من المدرسين كانوا وما زالوا يعيشون مع هؤلاء الصبية الصغار في المدارس, ويصبرون عليهم, ويتحملون عناءهم, ويلطفون بهم, ويرقونهم في مدارج الكمال بإذن الله, حتى تخرجت على أيديهم عشرات الأجيال, وليس غريباً أن تجد اليوم مدرساً قضى في ميادين التدريس ما يزيد على ثلاثين أو أربعين سنة, في المرحلة الابتدائية, فأي جهد عظيم هذا؟! إن هذا المدرس يقول بلسان حاله أو مقاله: حنانيك إني قد بليت بصبيةٍ أروح وأغدو كل يوم عليهم صغار نربيهم بملء عقولهم ونبنيهم لكننا نتهدم فمن كان يرثي قلبه لمعذب فأجدر شخص بالرثاء المعلم على كتفيه يبلغ المجد غيره فما هو إلا للتسلق سلم نعم، إنك تجد الكثير يتمدحون في أحاديثهم بأن فلاناً العالم أو الوزير أو المشير, قد تخرج من بين أيديهم, بينما هم لا يزالون قيد عملهم السابق, وهذا عمل كبير, وجهد عظيم, إذا قارنه الإخلاص لله تعالى باحتساب, فليبشر هؤلاء -بإذن الله- بأجر المرابط في سبيل الله.
أما الطالب، وأعني ذلك الطالب الذي أنقل لكم حواره, فلقد شطح به القول فتصور حادثة فردية ندت من مدرس لا يقام له وزن, أو ظاهرة محدودة ربما واجهها في جو معين خاص, فعمم هذه الحادثة ووسعها ونظر إلى المدرسين كلهم من خلالها, فقال في حديث شعري يخاطب أباه, وبعث إليّ الأخ الكريم يوسف بن عبد الله يقول: أبتاه هل من لحظة لشكايتي من ساقط متهور متمردِ هذا معلمنا الذي لا يرعوي عن غيه بلسانه أو باليدِ أبتاه كيف نطيعه؟ ويقودنا نحو الأماني وعينه في الأمردِ!! بل كيف يُرْشِدُ غيره ويدله وأنا أراه بحاجة للمرشدِ يعصي الإله مجاهراً ومعانداً كيف الهدى من مذنبٍ لا يهتدِي؟! النشء يأمل قدوةً ومربياً أتراه يا أبتِي بهذا يهتدي؟! قل للذي جمع الصغير مع الكبير هلاَّ بحثت عن التقي الأجودِ هلا درست بتؤدة وروية ضرر الخبيث على النقي الأحمدِ إني لأعجب كيف يصمت خيرة المسئولين عن أمر ذاك المفسدِ ويزيد من عجبي إذا ما جاءه تقديرهم لجهوده في محشدِ! قد كان يأتي والغرور يقوده متثنياً في سيره كمقيدِ وأغضُّ من طرفي إذا قابلته خوفاً أرى بالعين سوء المشهدِ ويكاد يخنقني الدخان إذا أتى فإذا مضى فمسرتي وتنهديِ زملاؤه أبتاه في أخلاقهم ملكوا القلوب فَمُلِّكُوا ما في اليدِ أبتاه لستُ بدارسٍ ومعلمي يأبى الصلاة جماعة في المسجدِ أبتاه لست بدارس ومعلمي ينهى عن الثوب الطويل ويرتدي أبتاه لست بآمنٍ من قُربه هل يُؤمَنُ الذئب الطليقُ على الجدي؟ عفواً أبي إن شئت يوماً أهتدي لا تُلقني كهشيمةٍ في موقدِ! إنني لست أنفي قط أن يوجد في قطاع التعليم مثل هذا الضعيف النفس, الذي حقه فعلاً أن يؤدب ويربى حتى يصلح نفسه وأهل بيته, قبل أن يؤتمن على فلذات الأكباد, ولكنني أعتقد أنها حالات قليلة, لا يجوز أن نقدمها عنواناً ونموذجاً للمدرسين الذين هم في الأعم -إن شاء الله تعالى- من الأخيار المخلصين, نحسبهم كذلك والله تعالى حسيبهم, ولا نزكي على الله أحداً.
وطالما أصدر بعضنا الأحكام المجملة التعميمية المبنية على أدلةٍ ناقصة, فنحن قد تعودنا إذا سمعنا شخصاً يقول: كلاماً أن نقول: الناس يقولون: كذا وكذا , وتعودنا إذا رأينا شخصاً يفعل عملاً مشيناً, أن نقول: الناس يفعلون كذا وكذا , فحولنا ما فعله فلان بعينه إلى أنه فعل الناس, وأن ما قاله ذاك الشخص الشاذ أو المنفرد, حولناه إلى أنه من قول الناس كلهم, دون أن نصدر أحكامنا الإجمالية عن دراسة وإحصاء ورويَّة, وهذا لا شك من الخطأ والظلم البين.
ثم إن هذا يذكرنا بقضية قائمة موجودة, ألا وهي أن الكثير من الطلاب يستحلون أعراض المدرسين, فما يكاد يجتمع ثلاثة أو حتى اثنان من الطلاب, إلا ووجدوا فرصتهم في الحديث عن المدرس الفلاني, في شكله وملبسه, وعن المدرس الآخر في كلمته التي يرددها, وعن الثالث عن حركات يديه, وعن رابع في طريقة جلوسه, وعن خامس عن طريقة مشيه، وهكذا يحلقون عيونهم بالمدرس أثناء الدرس ويراقبونه بدقة, ويكون فاكهة حديثهم في المجالس, بالكلام عنه بهذا الوصف أو ذاك.
ومثله -أيضاً- حديث بعض المدرسين عن أعراض الطلاب, سواء أكان ذلك في الفسح الدراسية أم في غيرها, فقد أصبح معروفاً ومألوفاً أن يتكلم عن ذاك الطالب, وما فيه من سوء الخلق, وعن آخر, وما فيه من تقصير, وعن ثالث وعن رابع , حتى في أشياء قد لا يكون ثمة ما يدعو إليها, ولا ما يوجبها, ولا يحتاج إليها في تقويم الطلاب, ولا معرفة أسلوب التعامل معهم, ولا في غير ذلك.
أما إذا كان هدفه النصيحة والتعرف على الطلاب بكيفية معاملاتهم, فهذا أمر لا بأس به, فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عرف الغيبة بقوله: {ذكرك أخاك بما يكره} وقد نهى الله عنها في القرآن, فقال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] فلا شك أن المؤمنين إخوة, كما ذكر الله تعالى سواء كانوا كباراً أم صغاراً, مدرسين أم طلاباً, رجالاً أم نساءً، فلا يحل لمسلم أن يقع في عرض أخيه المسلم بغير حق, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المسلم} .(219/9)
من يعامل المدرس؟
من تعامل؟ عذراً أيها المدرس النبيل, فنحن لا نقلل من بذلك وعطائك, إن الذي يراك عند نهاية اليوم الدراسي, وقد علاك الإجهاد والتعب والإعياء, وأنت تتحامل على نفسك, وتتماسك لمزيد من الدروس والحصص, إنه يشفق عليك غاية الإشفاق, لقد ظلمناك أيها المدرس النبيل يا مربي الجيل, حين أثقلناك بعدد كبير من الحصص, ينوء بحملها أشدَّاء الرجال, ثم قيدناك بدوام تطالب فيه بالحضور دون أن تكلف فيه بعمل معين, مما يعني حضوراً ليس له معنى, وتقييداً دون تكليف بأي عمل آخر, ثم كلفناك بهذا المنهج الذي يبدو بأحوال كثيرة أكبر من عقول الطلاب, ويبدو في أحيانٍ أخرى أوسع وأطول من الوقت المخصص له, فأصبح الهم هو إنهاء المنهج بأي وسيلة وبأي طريقة! ثم قيدناك بالكثير الكثير من الأنظمة التي تلاحقك, والقوانين الإدارية التي سرنا نلتزم بها إلتزاماً حرفياً, ونسينا أن النظام مجرد وسيلة إلى غاية, وليس غاية في ذاته, ولا هدفاً وليس وحياً منزلاً من السماء, فهل ترى يشغلك ذلك كله عن القيام بعملك الرئيس, الذي هو بناء الطالب المسلم؟! وهل نسمع عنك أنك تقول: إن المدرسة تتعامل مع قوالب ولا تميز بين مجتهد ولا مهمل، ولا بين حريص أو غيره، فمهمتي تقتصر على التحضير والتوقيع, والحضور والالتزام الظاهري بالأنظمة فقط.(219/10)
تعامل المدرس مع الله عز وجل
أخي المعلم أأنت تتعامل فقط مع الإدارة لتسلم من عقابها؟ أم أنك تتعامل مع الموجه لتسلم من عتابه؟! أم أنك تتعامل مع الله عز وجل الذي يعلم السر وأخفى؟! حدثني أحد الموجهين قال: كنت في مدرسة في إحدى المناطق, فدخلت على مدرس التوحيد, فكان يشرح باباً من الشرك: هو إرادة الإنسان بعمله الدنيا, فقام المدرس وجد واجتهد, وكتب في السبورة بالألوان كلها, وسأل الطلاب, وقام على قدميه, ورفع صوته وحرك يديه, ودار في الفصل, وزمجر وقدَّم وأخر, وكان خلال الدرس كله لا يهدأ أبداً, فلما بقي من الدرس دقائق, بدأ يسأل الطلاب أسئلة, فكان من ضمن الأسئلة التي وجهها إليهم: هات مثالاً لإرادة الإنسان بعمله الدنيا؟ فتحرك طالب في آخر الفصل, وربما أنه لم يتحرك قبل ذلك اليوم قط, وصفته ثقيل الجسم, كبير الهيئة, مخيف الصوت, فقام وقال: من إرادة الإنسان بعمله الدنيا أن يكون المدرس مهملاً غير مجتهد, ولا يحضر ولا يكتب على السبورة, ولا يقف على قدميه, فإذا علم بمجيء الموجه قام وكتب , وجدَّ واجتهد, وفعل وبذل ما يستطيع, قال: فنظرت إلى المدرس, فإذا هو في حالة يرثى لها, ولم ينقذه من ذلك إلا رنين الجرس, فخرج وخرجت معه, وكان يعتذر إليّ ويقول: إن الطالب لا يقصدني ولا يريدني.
أخي المعلم إنك تتعامل مع الله عز وجل الذي ترجو ما عنده, وترجو أن يكون هدى على يديك إنساناً إلى الخير, وذلك كما ذكر عليه الصلاة والسلام في حديث سهل بن سعد حينما بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى خيبر, وقال له: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً, خير لك من حمر النعم} .(219/11)
أجر المعلم
إنك ترجو أن تكون علَّمت إنساناً كيف يصلي, أو كيف يصوم, أو علمته خلقاً فاضلاً, أو أدباً شرعياً, فلك مثل أجره كلما صلى أو صام أو قام بتنفيذ هذا الخلق, أو ذاك الأدب, وفي حديث جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} وفي حديث أبي هريرة -أيضاً- أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء} والحديثان في الصحيح.
فهذا هو همك, وهذا جزاؤك, وهذا راتبك, إن المبلغ اليسير الذي تأخذه ليس هو مقابل عملك وجهدك, فجهدك وعملك أكبر من ذلك بكثير, وإنما هو لمجرد تفرغك لهذا العمل, فأما عملك فجزاؤه مع الإخلاص عند الله تعالى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر, إن الذي تتعاطاه هو من العلم النافع الذي لا يتوقف على حياتك, بل يبقى بعد مماتك.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له} فهذا من العلم الذي ينتفع به, أن تكون وَرَّثْتَ تلاميذ علمتهم الصلاة, وصلوا وعلموها الناس, وعلمتهم الخلق الفاضل, فكانوا دعاة إلى الله تعالى في الملأ وفي كل مكان.(219/12)
تضحية المعلم
أين التضحية؟! أخي المعلم لاشك أنك تسمع كما سمعنا أن هناك من يموتون في ميادين المعارك جهاداً في سبيل الله, وذوداً عن شريعة الله, ودفاعاً عن أعراض المؤمنين والمؤمنات, فهؤلاء الذين ماتوا قد بذلوا آخر ما يملكون, فإن آخر ما يملكه الإنسان روحه التي بين جنبيه, فإذا جاد بها فقد جاد بكل شيء.
يجود بالنفس إن ظن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود.(219/13)
المرابطة على ثغور التعليم
أنت تسمع كما سمعنا أن هناك من يبذل الأموال الطائلة في سبيل الله تعالى, لمشاريع الخير, أو الدعوة أو الجهاد, فما هي تضحيتك أنت؟! أتدري أن تضحيتك قد تكون أغلى من ذلك كله؟! إن الصبر على الطلاب, والجد في إعدادهم, والمرابطة على ثغور التعليم, أن تهبّ من خلالها رياح الانحراف, إن ذلك أمر عظيم, وأنت -إن أخلصت- تكون مرابطاً لحماية الطلاب من المدرس المنحرف, ومن تأثير أجهزة الإعلام, ومن قرناء السوء، ومن البيت المنحرف أحياناً, فأنت المدرس الذي نرجو منه أن يقوم بهذا الدور الكبير.
وأنت مرابط لحماية المناهج المدرسية, من أن تغير نحو الأسوأ, أو يدخلها انحراف, أو يدخلها معانٍ لا تتناسب مع القيم والأخلاقيات التي نشأت عليها مجتمعات الإسلام, فأنت تعرف ماذا جرى للمناهج, وماذا يجري عليها, فتكون عالماً بذلك كله, حريصاً على مقاومته بقدر ما تستطيع.
وأنت الذي يستطيع أن يسدد -بعون الله تعالى وقوته وحوله- نقص المناهج بجده واجتهاده وإخلاصه, وأنت أيضاً مرابط لحماية العملية التربوية بجوانبها المختلفة، وحمايتها من كل وسائل النقص أو الانحراف, كما أن غيرك مرابط في ثغور وميادين أخرى.
فهات بارك الله فيك, قدم لنا التضحيات.(219/14)
قصد المناطق النائية لنشر العلم
هل تريد أن نكون صرحاء معك؟ إذاً فاسمع.
قلنا لك يوماً: يا أخانا المعلم يا أيها الخريج اقصد القرى النائية, والمناطق البعيدة التي يعشعش فيها الجهل، ولا يوجد فيها بصيص من نور, لا عالم ولا مفتٍ ولا خطيب ولا مرشد ولا داعية, ولا مدرس قرآن, ولا معلم حديث, فاقصد تلك القرى وعلم فيها, واحتسب الأجر عند الله, وإن كانت بعيدة, وإن كان طريقها غير معبد, وإن كان فيها نقص في الخدمات, فامتنعت وتعذرت بظروف الأهل وظروف الزوجة, ومشاغل الأب ورغبة الوالدة, وغير ذلك من الأسباب والحيل والحجج التي تذرعت بها.
ثم رأيناك وقد ضاقت المدارس, وأصبح لزاماً عليك أن تعين في منطقة نائية بعيدة, فرأيناك قد تقبلت ذلك كله, وابتعدت وشطّت بك الديار, ونأى بك المزار, لماذا؟ لأنك مصر على التعليم, حيث فيه الميزات المادية ما ليس في غيره, ونحن نقول بقاؤك في التعليم خير, لكننا كنا نتمنى أن تكون تضحيتك تلك من أجل الله تعالى وفي سبيل الله.
ثم نحدثك اليوم وقد أصبحت نائياً بعيداً, مضطراً لذلك غير مختار, لماذا أنت مرتبط بطينة بلدك؟ تعد العدة وتخطط وتسعى وتتصل بكل من تعرف, وتحاول أن تجهز الوساطات والشفاعات, حتى تنتقل إلى بلدك مرة أخرى, وتعود إليها, لهذا لم نرك فتحت درساً لتحفيظ القرآن, ولا درساً لتعليم العلم الشرعي, ولا قمت بنشاطات ومشاريع خيرية, ودعوية في منطقتك, ولا خطبت الجمعة, ولا درست العلم, ولا قمت بمشروع توزيع الشريط الإسلامي, ولا مشروع لتوزيع الكتاب, ولا قامت زوجتك بدور مع النساء في تعليمهن, وإرشادهن, وتوجيههن, لماذا؟ لأن عينك على بلدك, ففي كل إجازة أنت تخطط وتسعى إلى الانتقال.
يا أيها المعلم ما دمت قد وضعت قصراً بغير اختيارك إلى تلك المنطقة النائية, فلماذا لا تحتسب الأجر عند الله تعالى, وتقول: ما دمت درست فيها, على الأقل أجلس خمس سنوات, تكون كافية للتعليم والتوجيه والإرشاد, وتخطب وتعلم وتدرس, ليكتب الله تعالى لك أجر هؤلاء القوم الذين هدوا على يديك, وتعلموا منك, وحفظتهم آية من كتاب الله, أو حديثاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم, أو حكماً من الأحكام التي يجهلونها, أو عقيدة لم يسمعوا بها من قبل, أو دفعت عنهم منكراً كان قائماً موجوداً متوارثاً بينهم, أو نتيجة لتأثير الإعلام أو غير ذلك مما هو موجود وقائم.
إن الكثير من المناطق النائية والقرى والهجر تعيش جهلاً مطبقاً يحتاج حتى إلى أقل طالب علم, هم لا يحتاجون إلى عالم غزير العلم, أو إلى مفتٍ يشار إليه بالبنان, من كان يحفظ جزء عمّ, ويعرف الأربعين النووية, ويعرف كيف يقيم الصلاة, ويعرف الأحكام الضرورية, فإنه يستطيع أن ينفعهم بذلك نفعاً عظيماً -بإذن الله تعالى- وقد ذهب إليهم أقوام من سائر الناس, ليسوا من المبرزين ولا من المقدمين ولا من الأوائل, ونفع الله بهم نفعاً عظيماً.
أما أنت في مدينتك العامرة بالدروس, العامرة بالحلق, فأنت لا تعدو أن تكون فرداً ضمن جمهور يستمعون إلى محاضرة, أو طالباً ضمن درس فيه عشرات أو مئات, أو واحداً ضمن أعداد كبيرة من الدعاة, فكيف رضيت بالقليل على الكثير, لماذا نكون طموحين في أمور الدنيا, ولا نكون طموحين في أمور الدين؟! هل تريد منا أن نصدق أنه يوجد من بين المربين والمدرسين, من يضحي من أجل الدنيا ومن أجل زيادة الراتب ولا يضحي في سبيل الله تعالى؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] نعم هذه الآية خوطب بها المؤمنون في شأن الجهاد, وسماها لله تعالى نفيراً، كما قال: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة:38] .
لكن هل تريد أن أقدم لك دليلاً على أن مسألة التعليم والدعوة والتدريس مع الإخلاص أنها هي أيضاً من النفير؟ بنص كلام السميع البصير, يقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] عفواً أيها المدرس الكريم, فإنما هذا العتاب نتيجة المحبة والتقدير للجهد الكبير الذي تبذله في هذا المجال الخطير.(219/15)
الحب طريق النجاح
أتعرف "الأكسير" الذي هو سر النجاح بإذن الله, إنه امتلاك قلوب الطلاب بكافة الوسائل المباحة, والعوام يقولون: الحب يعمي ويصم, وكم من سيئات ونقائص غطاها الحب وستر عليها, وكم من حسنات وكمالات ذهبت بها الكراهية والبغضاء.
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا(219/16)
وسائل امتلاك قلوب الطلاب
نصيحة ذهبية: إذا أردت أن تظفر منا بنصيحة ذهبية, تمسك بها بكلتا يديك, فهذه هي فخذها إليك: اجعل من همك امتلاك قلوب الطلاب بالوسائل المباحة المشروعة ومنها:(219/17)
البشاشة وحسن اللقاء
البشاشة وحسن اللقاء, قال صلى الله عليه وسلم: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} .
فليس من شروط المدرس أن يكون عابساً مكفهراً مقطباً لا يبتسم ولا يضحك, بل إن البشاشة والهشاشة واللين واللطف من الرفق الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه} .(219/18)
الهدوء وعدم مقابلة غضب الطلاب
الهدوء وعدم مقابلة غضب الطلاب, وأصواتهم بمثله, فأنت لست ممن يقابل الشر بمثله, بل عليك أن تكون حليماً هادئاً غير منفعل, وأن تتجنب الألفاظ السيئة, من ألفاظ السب والشتم واللعن والتعيير وغير ذلك.
وقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجنب مواجهة الناس بما فيهم، فلا تواجه الإنسان بما فيه, وتعيره بما فيه, بل احرص على أن تكون ناصحاً لا معيراً, والفرق بين النصيحة والتعيير فرق كبير, حتى العيوب الموجودة في الطالب لا ينبغي أن تعيّره بها, بل ينبغي أن تنصحه فيها نصيحة سرية هادئة بينك وبينه.
تعاهدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة(219/19)
الصبر على الطلاب
الصبر على الطلاب, وتعلم الحلم عليهم, أي: أن تستثار فلا تثور, والطلاب أحياناً يخططون لإثارة المدرس بكلمة أو فعل أو تصرف أو شيء, فعوّد نفسك على الحلم, والإنسان يجدها فرصة ليتعلم الحلم, والحلم سيد الأخلاق, قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {وإنما الحلم بالتحلم, وإنما العلم بالتعلم} وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد: {ومن يتصبر يصبره الله, ومن يستغنِ يغنه الله, ومن يستعفف يعفه الله, وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرٌ وأوسع من الصبر} .
فتعلم الصبر على الطلاب, والحلم عليهم، وعدم معاجلتهم بالعقوبة, ولو كانت العقوبة غضباً, أو توبيخاً فاجعل هذا آخر سهم في كنانتك.(219/20)
الأمانة في القيام بالواجب
فلا يتكلم الطلاب عنك سراً أنك مقصر في واجبك, أو تتخلف عن المادة, أو تتغيب عن الحصة, أو لا تقوم بتحضير الدرس تحضيراً كافياً, أو لا تقوم بأداء الواجب كما ينبغي.(219/21)
العدل
فإن التمييز بين الطلاب يحدث الغيرة فيما بينهم والبغضاء, وسوء الظن بالمدرس, واتهامه أحياناً بشتى التهم التي أقلها محاباة فلان, من أجل قرابته أو نسبه أو لأنه وطني, وذاك الآخر من غير البلد, أو لصفات شخصية أو لصفات جسدية, أو ما سوى ذلك.(219/22)
لا تكن امبراطورياً
لا تجعل من نفسك في الفصل امبراطوراً جباراً, إذا ظهرت تجمد الآخرون على حالهم, فلا يتكلمون ولا يتهامسون, ولا يتحركون قط, بل كن المحبب في قوله, والقريب إلى نفوسهم, السهل الممتنع, ذا أخلاق هادئة هينة رضية, وذا لطفٍ في المعاشرة, وحسنٍ في المعاملة, وصبرٍ على الطلاب, وعدم رفع للأصوات, ومع ذلك فهو محافظ على شخصيته, مَهيبٌ بين الطلاب, جادٌ في موضع الجد, هازل في موضع الهزل, فللجد موضعه, وللدعابة موضعها, وكما قيل: وللجد مني موضع لا أضيعه وللهزل مني والدعابة موضع إنّ الطلاب كثيراً ما يدرسون شخصية المعلم, ثم يتعاملون معها بدقة, فأحياناً يكتشفون أن هذا المعلم معلم متساهل, فربما امتهنوه, وامتهنوا شخصيته, وربما أدركوا أنه معلم جاد كل الجدية, صارم فسكتوا عنده.
ولكن ذلك السكوت الذي لا يصدر عن محبة, ولا يصدر عن تأثر, ولا يصدر عن إنصات للدرس, والوسط بين ذلك أن يكون المدرس بينه وبين الطلاب, كما قيل: "شعرة معاوية " إن أرخوها شدَّها, وإن شدوها أرخاها, بحيث يحافظ على الاتصال بهم, ويحافظ على هيبته, ومع ذلك يكون سمحاً رضياً, لا يعتبر أن مقياس النجاح في التدريس هو الهيبة, وأن الطلاب لا يعبثون عنده ولا يلعبون, ولا يتحركون ولا يتهامسون, هذا يستطيع أن يفعله الكثيرون بالقوة, لا بالاحترام والمحبة.(219/23)
دراسة أحوال الطلاب المشاغبين
عليك بالصلة المباشرة ببعض العناصر المشاغبة من الطلاب أو العناصر المتخلفة, أو العناصر التي يبدو عليها بعض الملاحظات, ومناقشتها على انفراد, فقد تكتشف أن هذا الطالب يعاني من مشكلة في البيت, أو مشكلة مع الأصدقاء, أو أنه واقع ضحية المخدرات, أو أنه يواجه أباً فاسداً في المنزل, أو غير ذلك, فتسارع إلى مشاركته ومساعدته في الحل.(219/24)
كن ناصحاً مخلصاً
فيدرك الطالب باستمرار أنك ناصح ومخلص, وتؤكد له ذلك باستمرار وبشكل عملي, نعم إن الكثير من الطلاب يعتبون على المدرس الجاد, ولا يحبونه؛ لأنهم يرون أنه يقف عقبة في طريقهم إلى النجاح, وإلى تجاوز هذه السنة مثلاً, وكيف السبيل إلى التخلص من ذلك؟! هناك سبل كثيرة منها ما أذكره الآن: أن يكون الطالب قد اقتنع فعلاً أنك ناصحٌ له, أنك لا تعامله بهذا الأسلوب من باب أنك إنسان بطبيعتك قاس وعنيد, ولا تحب الخير للناس, بل على النقيض بأنك تحب الخير لهم, وتسعى في مصلحتهم بكل وسيلة, وتضحي من أجلهم بما تستطيع, وأنت تحرص على إيصال المعلومات إليهم, وتبذل قصارى جهدك, وقد تعطيهم دروساً إضافية أحياناً, وقد تصبر عليهم وتبذل ما تستطيع, ولكنك تقنعهم عملياً, وهم أهل لأن يقتنعوا بذلك, بأن من مصلحتهم في المستقبل ألا ينجحوا إلا عن جدارة, فلو فرض أنك ساعدتهم في النجاح عن غير جدارة, لكانت هذه مشكلة تواجههم في العام القادم والذي بعده، ثم تواجههم بعد أن يتخرجوا, حينما يكونون مدرسين أو موظفين, بل قد تواجه الكثير منهم, حينما يصبح عند الواحد منهم يقظة إيمانية, وغيرة دينية في المستقبل, فيقول: أنا يوم كنت طالباً نجحت عن غير جدارة, نجحت بالغش مثلاً, أو بمساعدة من المدرس, حتى إنني أعلم أن الكثير من الإخوة والأخوات ربما تركوا أعمالهم ووظائفهم, وأنهم يقولون: نجحنا نتيجة الغش, أو نتيجة مساعدة المدرس وعن غير جدارة.
فتذكرهم بكل هذه الأشياء, وأنها هي السبب في تمسكك لئلا ينجح أحد منهم إلا عن جدارة, وكفاءة شخصية, وتركز هذا المعنى في نفوسهم دائماً حتى تمتلئ به قلوبهم.(219/25)
معالجة مشاكل الطلاب
تعاهد المشكلات لدى الطلاب, وتعرف عليها وساعدهم في حلها, حتى لو كانت المشكلات خارج المدرسة, مشكلة بيتية مثلاً, أو مع الأصدقاء, أو مع الجيران, أو مشكلة اجتماعية, أو مشكلة اقتصادية, أو مشكلة عائلية, إلى غير ذلك.(219/26)
عدم إدخال الإدارة في المشكلات مادام هناك سبيل إلى حلها
فإن الكثير من المدرسين يدخل المدير في أي مشكلة بينه وبين طالب, وهذا في الواقع ليس جيداً, بل ينبغي أن يحرص المدرس على حل المشكلات بصورة فردية وذاتية, وألاَّ يكون همه إثبات شخصيته أمام الطلاب, أو إهانة الطالب الذي أساء إليه, بل يكون المدرس ذا قلب كبير, لا يعمل بمبدأ المعاملة بالمثل, لا, ولا بمبدأ الانتصار للنفس من فلان وفلان, بل يفكر للمستقبل البعيد, ستلقى هذا الطالب يوماً من الأيام, وهو ضابط في الأمن, أو تلقاه وهو مسئول بالإدارة الحكومية, أو تلقاه وهو تاجر في الشركة الفلانية, فسيذكرك حينئذٍ ويشكرك على صبرك عليه, وتحملك لأخطائه, وحسن معاملتك له, وأنك كنت تحرص على حل مشكلاته بنفسك, وبطريقتك الخاصة, حتى تجاوز هذه المرحلة ونجح فيها, وكان لك بعد الله تعالى فضل كبير في ذلك, وأقل ما تظفر منه دعوة صالحة في ظهر الغيب, ربما نفعك الله بها أو رفعك, وإذا كان هذا في الدنيا, فما بالك في الآخرة؟ أن يأتي يوم القيامة أناس كنت سبباً في هدايتهم, أو في خروجهم من مشكلات, فإن الإحسان إلى الناس من أعظم القربات إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] .
فالإحسان إلى الخلق من أعظم العبادات, وأجل القربات, فأحسن إلى الطلاب, بتحمل أخطائهم عليك وعلى غيرك, وحسن معاملتهم ومساعدتهم في الخروج من مشكلاتهم, لماذا تجد الكثير من الطلاب أو بعضهم يبغضون هذا المعلم أو ذاك؟! هناك بلا شك حالات ليس فيها حل؛ لأن هناك طالباً -مثلاً- معروفاً بالمشاغبة, وسوء الخلق, وقد آذى الجميع, ولا يمكن الحصول على هذا الطالب, وعلى ثقته, وعلى مودته إلا بالتفريط, والإهمال, والتجاوز الذي لا يحتمل ولا يطاق, فدعك من هذا, فهذه حالة شاذة, ولا ننظر فيها ولا نتكلم عنها.(219/27)
أسباب كراهية الطالب للمدرس(219/28)
الغضب من أي حركة في الفصل
لكن قد يكون من أسباب الكراهية: الغضب من أي حركة في الفصل, وقد رأيت -وكنت عملت في حقل التعليم وما زلت- رأيت أن الكثير منا يغضبون من أي حركة في الفصل, فطالب يحرك قدمه على البلاط مثلاً, أو طالب يزيح ماسته قليلاً, أو طالب يتحرك, أو طالب يلتفت, كل هذه الحركات كثير ما ينظر المدرس إليها على أنها تستهدفه شخصياً, ويظن أن المقصود بهذه الحركة من الطالب استفزاز المدرس, أو إثبات عدم نجاحه, أو غير ذلك من المقاصد, وبالتالي يثأر المدرس لنفسه أحياناً ويغضب, مع أنه كان من الممكن أن يمرر هذه الأشياء ويمضيها ولا يلتفت إليها, وكما قيل: ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي وكثير من هذه الحركات قد تكون عادية ولا إرادية, بل طول الجلوس على الكرسي, وطول البقاء في الفصل خاصة في مثل تلك الفترة في سن المراهقة, تُحدِث مثل هذه الأشياء.(219/29)
تكثيف المادة على الطالب
ومن الأسباب التي تدعو إلى الكراهية أحياناً تكثيف المادة على الطالب, والعمل على استيعاب المنهج كله دون أي اعتبار آخر, فلا يقيم المدرس اعتباراً لظروف الطالب, ولا لظروف المقرر, ولا لظروف المدرسة, بل ولا للظروف الاجتماعية العامة, فأحياناً قد تكون هناك ظروف أدت إلى تأخير الدراسة, أو إلى تأجيل الدراسة, أو إلى إطالة الإجازة, أو إلى غير ذلك من الاعتبارات.(219/30)
التشديد في موضوع الأسئلة
التشديد في موضوع الأسئلة بحيث أن المدرس يضع أقسى وأقسى ما يمكن من السؤال للطالب, ويقول لا ينجح عندي طالب إلا وهو في غاية الجدارة, مع أن العدل والعقل أن تكون الأسئلة معتدلة, ليست هي الأشد, بحيث لا ينجح إلا المبرزون, وأيضاً ليست هي الأسئلة اليسيرة السهلة التي ينجح فيها كل طالب, دون أي تأمل, بل هي الأسئلة المتوسطة المعتدلة التي فيها مجال للطلاب المتفوقين, وفيها مجال للضعفاء, وفيها مجال للمتوسطين.
كذلك التشديد في التصحيح, أحياناً يصحح المدرس بالقطارة, وبنصف الدرجة, وربع الدرجة وخُمُس الدرجة, وثمن الدرجة, ويجلس طويلاً عند كل كلمة, وكل عبارة, وربما لا يقبل الجواب بالمعنى أحياناً, إلى غير ذلك, ولاشك أن ذلك ينبغي أن يكون فيه اعتدال, فلا يضع المدرس في ذهنه مسألة واحدة وهي أنه يقول: يجب أن أضغط لئلا ينجح إلا الأقوياء, ويتجاهل ما سوى ذلك, لا! ينبغي أن تضع في ذهنك مجموعة اعتبارات, منها مثلاً: زملاؤك المدرسون الآخرون, أهم على مثل ما أنت عليه؟ أم هم مخالفون لك تماماً؟ بحيث تظهر من بينهم جميعاً على أنك مدرس في غاية التشدد, والتمسك بهذه الأشياء, والالتزام الحرفي بها, وأما هم فمنهم المعتدل, ومنهم المفرط, وبذلك يحصل من جراء ذلك ضرر عليك, ولم تحصل المنفعة المقصودة.(219/31)
تنبيهات هامة(219/32)
تأثير هذا العمل على المجتمع
يجب أن تضع في اعتبارك, تأثير هذا العمل على المجتمع من حولك, وعلى نظرة الناس إليك, وعلى مدى تقبلهم بما عندك من الخير والحق والهدى, ولا بد أيضاً أن تضع في اعتبارك أن المعلومات ليست هي الهدف الوحيد من عملية التعليم, فليست مهمتنا فقط أن ننشئ طلاباً يحفظون المقررات الدراسية.
وأي نفع لنا أو لهؤلاء الطلاب, أو لهذه الأمة في الدنيا أو في الآخرة, أن نخرج طالباً يحفظ المقرر من أوله إلى آخره, ولكن ليس عنده التزام ولا أخلاق, ولا علم ولا عمل, ولا دين ولا ولاء؟!! لا فائدة من ذلك, إذاً هذا المقرر الذي أَخْتَبِرُه فيه, هو جزء من العملية التربوية الأوسع والأشمل, وينبغي أن أضعه في الإطار الطبيعي.(219/33)
الأوضاع الاجتماعية
كذلك لابد أن تضع في الاعتبار الأوضاع الاجتماعية, مثلاً: وضع الطالب في البيت, هل البيت يشجعه على الدراسة ويساعده أم لا؟ بحيث إنك -أحياناً- تضرب ولا تتنبه أن هذا الطالب ليس وراءه بيت يساعده أو يعينه, فلا بد أن تضع هذا في الاعتبار, خاصة أنها ليست ظروف بيت خاص, بل هذا هو الوضع الغالب إن لم أقل في كل البيوت ففي جل البيوت.
كذلك أيضاً الشارع وما مدى تأثير الشارع والأصدقاء على الطالب, حيث أصبح الكثير ينتمون إلى مجموعات, أو شلل اجتماعية, لا تساعدهم على الدراسة, بل يمضي الوقت أحياناً في التجوال في الشوارع, أو في (التفحيط!!) أو في المطاردات, أو مشاهدة التلفاز أو الفيديو, أو في الأسفار غير المفيدة, أو في ما سوى ذلك.(219/34)
تأثير أجهزة الإعلام
أيضاً تأثير أجهزة الإعلام, حيث أصبح الكثير من الطلاب والطالبات -الكلام للذكر والأنثى- يقضون معظم أوقاتهم أمام شاشة التلفاز, وعيونهم إليه مسمَّرة, وعقولهم إليه مشدودة, حتى إنه لا وقت لدى الواحد منهم لحل الواجب, ولا إلى المذاكرة, ولا إلى سوى ذلك، بل إن الكثير منهم - مع الأسف- يفرطون حتى في الواجبات الشرعية بسبب ذلك, وربما يحرص الواحد منهم, أو تحرص الفتاة على متابعة برنامج, أو مسلسل, أو مباراة رياضية, أو دورة, أو غير ذلك, أكثر مما يحرص -لا أقول على حل الواجب أو أدائه- بل حتى على أداء الصلوات, أو حتى القيام بالواجبات.
ونتيجة هذا الوضع الذي نجده والذي قد نجد مدرساً -أحياناً- قد يكون شديداً في المقرر, وفي وضع الأسئلة, وفي التصحيح, وفي معاملة الطلاب, مما يورث نوعاً من الحواجز بينه وبينهم, فلا يقبلون منه, ولا يعملون بتوجيهه, ولا يملك القدرة على التأثير؛ لأن الجسور بين القلوب مقطوعة.
في مقابل ذلك فإننا نجد الطرف الآخر، وهو لا يقل خطورة عن هذا الطرف المتساهل الذي لا يصلح ديناً ولا دنيا, ولا علماً ولا عملاً؛ لأنه كما قيل: "فاقد الشيء لا يعطيه" أعني ذلك المدرس الذي لا يهتم بالمقرر, ولا بالطالب, ولا بأخلاقه, ولا تعليمه, ولا يهتم بوضع السؤال, ولا بالتصحيح, ولا يعدل, ولا ينصف, بل يأخذ الأمر بكل رخاوة وعدم اهتمام وعدم جدية، فهو لا يعطي التدريس من وقته ولا من جهده شيئاً, ويتساهل في ذلك, ولا يرعى الأمانة التي ائتمنه الله عليها كما قال الله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] .
إن الكثير -مع الأسف الشديد- لا يعطون التعليم حقه الواجب, لا من حيث التحضير للمادة, ولا من حيث إلقاؤها أمام الطلاب, ولا من حيث مراقبة الطلاب, ولا من حيث الحضور في الوقت المناسب, ولا من حيث الاعتدال في الأسئلة, ولا من حيث الاعتدال في التصحيح, بل يفرطون في ذلك كله, ويتقربون إلى الطلاب بإعطائهم الدرجات جزافاً, وتسهيل المقررات عليهم, بل ومسخه -أحياناً- دون أن يراعوا النتائج الدنيوية المترتبة على ذلك, من تخرج أجيال ليس عندها علم بدين ولا بدنيا, ولا أن يراعوا النتائج الأخروية التي هي عقاب الله تعالى لمن أخلوا بهذه الأمانة وقصروا وفرطوا فيها.(219/35)
الاعتدال والواقعية
إننا ندعو إذاً إلى الاعتدال والواقعية, ومراعاة مجموع الظروف والأوضاع المحيطة, فليست المصلحة في اعتبار جانب واحد والغفلة عن جوانب أخرى, كما أننا نؤكد على خطورة الإهمال والتساهل, وقد كتبت إليَّ إحدى المدرسات تشكو إلى الله تعالى حال ذلك المجتمع الذي يقول: عجيب أن مادة القرآن الكريم يُرسَب فيها, متى عهد هذا؟؟ فقد أصبح الكثير يستغربون أن يرسب الطالب في مادة القرآن الكريم!! وأصبح الكثير لا يقبلون أبداً أن يرسب الطالب في مادة شرعية, ويقولون وهم مبتسمون: يا أخي الدين يسر, ويقصدون بذلك أن معنى يسر الدين في هذه الحالة, أن ينجح الطلاب كلهم في المواد الشرعية, أما المواد الأخرى كالرياضيات أو العلوم أو الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء وغيرها, فإنها تأخذ من جهد الطلاب ووقتهم وعقولهم الشيء الكثير, دون أن يكون هناك مراعاة الاعتدال بين هذه وتلك.(219/36)
تساهل المدرسين
إن من أخطر الأشياء ذلك المدرس المتساهل الذي يرغب في أن يحظى بالمديح الزائف من الطلاب, فإنهم وإن مدحوه أمام عينيه وهو يسمع, إلا أنهم يتكلمون عنه في غيبته بغير ذلك, ولو سكتوا عنه اليوم فغداً سوف يتكلمون عنه بكلام آخر.
أو ذاك المدرس الذي يتساهل ويُنَجِّحَ الطلاب دون اعتبار, ليُظْهِر أنه المدرس الناجح الذي استطاع أن يفهم الطلاب, ويعلمهم فنجحوا كلهم, أو ينجِّح الطلاب؛ حتى يسلم من إجراءات الدور الثاني وما فيها من وضع الأسئلة, والتصحيح, ورصد الدرجات, وغير ذلك, أو يسعى إلى تنجيح الطلاب لأغراض أخرى كثيرة.(219/37)
الحرص على الوصول إلى قلوب الطلاب
نحن نقول: من أهم المهمات التي تنتظر المدرس, هو أن يحرص على الوصول إلى قلوب الطلاب, وأن يقيم بينه وبينهم علاقات الحب, والمودة المتبادلة, هذا هو أهم ما ندعو إليه, وهي المهمة الكبرى التي تنتظر المدرس ومن أجلها سقت مجموعة النصائح التسع أو العشر السابقة.
فهل هذا الأمر الذي نطالب به المدرس يعتبر نوعاً من المثالية؟ قد يكون هذا صحيحاً, ويكفينا أن نحاول في ذلك, بل يكفينا أن ينجح في كل مدرسة على الأقل فرد واحد من الصالحين: بالتسلل إلى قلوب الطلاب, والتأثير فيهم, وكسب ولائهم للخير والهدى والصلاح.
إنه يحزنني كثيراً أن نجد -أحياناً- مدرساً همه كسب الطلاب, من أجل النادي أو كسبهم لغرض شخصي, أو كسبهم لفكرة منحرفة فاسدة, أكل عليها الدهر وشرب, وقد تربع هذا المدرس على عروش قلوبهم, وصار هو مجال حديثهم, فلا يذكر إلا بالمدح والشكر والثناء, ثم قد تجد مدرساً مخلصاً مستميتاً, باذلاً مضحياً, سهر الليل وتعب النهار, وجد واجتهد وتعب, ومع ذلك لم يظفر منهم بغير السب والقذف والتنقص.
إنها مأساة جيل, يجب أن نفكر بدقة, كيف نتعامل مع هذا الجيل؟! لأننا لسنا وحدنا المتعاملين معه, فالتلفاز يتعامل معه, وقرناء السوء يتعاملون معه, والشارع, والبيت, بل ربما مؤسسات كثيرة تتعامل معه على بعد آلاف الأميال في أقاليم وبلاد ومناطق أخرى, فينبغي أن نتعامل معه بدقة, وأن نعرف كيف نستطيع أن نؤثر فيه, ونتسلل إلى قلبه, لنكسب ولاءه للإسلام والخير والدعوة.(219/38)
الأنظمة الدراسية وسائل لا غايات
الأنظمة الدراسية وسائل فمثلاً وقت الحصة المدرسية, أو المنهج الدراسي, أو دفتر التحضير, أو ما سوى ذلك من الأمور التي ترتب عملية التدريس, كل هذه الأشياء وسائل, وما دامت تحقق الهدف المنشود, فلا شك أن العمل بها واجب, والتساهل في هذه الأمور يفتح باباً واسعاً للكثيرين الذين تضعف نفوسهم عن القيام بالواجب, فلا شك أن هذه الأشياء في جملتها ودون الدخول في التفاصيل, ذات دور فعال في الضبط الإداري العام, والمحافظة على النظام.
لكن ينبغي أن ندرك أن هذه الأنظمة -كما أسلفنا- وسائل إلى غايات, فإذا رجعت هذه الأنظمة على الغايات بالنقص, وكانت تضر بها, كان العمل بها حينئذٍ نوعاً من الشكلية والالتزام بالحرفية في مثل هذه الأمور القابلة للاجتهاد, فماذا يعني حضور المدرس للمدرسة بدون عمل؟! أنت مطالب بالحضور, وليس أمامك عمل تكلف به، فإما أن أحضر لتكلفني بعمل, وأما أن أحضر لأضيع وقتي دون جدوى, فإن هذا لا يمكن أن يكون نظاماً, ولا يمكن أن يكون واجباً شرعياً في عنق الإنسان.
إذاً المهم هو ضبط الدرس أو المحاضرة, وعدم تضييع شيء منها, كذلك لا بد من مراعاة الظروف, مثلاً: ظروف الجو، شدة الحرارة أو شدة البرودة, فإن هذه الأشياء لا يمكن مراعاتها في النظام, فإن النظام جامد أحياناً؛ لأنه عبارة عن قواعد عامة مجملة، لا يمكن أن تراعي التفاصيل.
ولكن ينبغي أن تراعى هذه الأمور في المجال العملي التطبيقي بما لا يخلّ بالعمل التربوي, فليست الحصة الأولى كالحصة الأخيرة, ولا التدريس في وقت الاعتدال مثل التدريس في وقت البرد الشديد أو الحر الشديد, ولا التدريس في الظروف الطارئة كظروف الحرب -مثلاً- كالتدريس في ظروف السلم, وهكذا لكل حالة أوضاعها التي ينبغي أن توضع في الاعتبار.
أما أن نأخذ النظام على أنه حرفي بالدقائق، لا بد أن تدخل, ولابد أن تخرج, وغير ذلك , فإن هذا يعني مسخ شخصية الإنسان ودوره.
إن المشكلة ليست في وجود النظام بذاته, فالنظام يُحتاج إليه وقابل للتعديل, لكن المشكلة أن تتحول العملية التربوية كلها إلى مجرد تمثيل مظهري للأنظمة, بمعنى: أنني أطمئن بأن المدير لا يستطيع أن يؤاخذني بشيء, وأن الموجه لا يستطيع أن يعاتبني على شيء, فإن البقية إذاً لا تعنيني, إن المسئولية خطيرة أن يصبح اهتمامنا سواء أكنا إداريين أم موجهين أم مدرسين, مقصوراً على الأمور الإدارية الشكلية التي هي في الواقع ليست إلا وسيلة وذريعة وسبباً لتنظيم العلم والتعليم والدراسة.
وإنني أتعجب لك أيها المدرس! نعم أتعجب لك! فنحن منحناك أثمن ما نملك, عقول طلابنا, وقلوبهم تنفرد بها وتملؤها بما شئت, وهي ثروة الأمة ورأس مالها, فإذا أغلقت عليهم باب الفصل, فأنت حينئذٍ آمن, تقول لهم ما شئت دون حسيب أو رقيب إلا الله تعالى, لقد أمنَّاك على هذه الثروة العظيمة, فلماذا لا نأمنك على ما دون ذلك؟ ألم نأمنك على جزء من الوقت, أو على بعض الأمور التنفيذية التفصيلية, أو على بعض الإجراءات الشكلية المظهرية؟! وأصبحنا نطالبك بأمور مظهرية دون أن نتأكد عن مدى نجاحك في العمل الأصلي, والهدف الأصلي الذي هو صياغة عقول الطلاب وقلوبهم, والتأثير عليهم, وبناؤهم بناءً شرعياً صحيحاً, إنها مشكلة كبيرة أن نغفل عن الهدف الأساسي للتعليم كله, الذي هو بناء الأجيال, ويكون كل همنا: كمدير, أو موجه, أو مسئول, أو مدرس, هو فقط هذه الأشياء الشكلية.
نعم قد تجد مدرساً أو مُدَرِّسة قد أعد دفتر التحضير أحسن ما يكون الإعداد ورسمه وسطره, ولونه وكتب فيه, ثم تجد هذا المدرس محافظاً على الحضور, وعلى التوقيع في وقته, ثم تجد هذا المدرس ملتزماً بكل الأوامر والتعليمات, ولاشك أن هذه الأشياء أمور طيبة ومطلوبة.
لكننا لم نبحث عما وراء ذلك, هل أفلح هذا المدرس في بناء الطلاب بناءً سليماً؟ هل بنى أخلاقهم؟ هل أصلح دينهم؟ هل أعدهم إعداداً صحيحاً للمستقبل ديناً ودنيا؟ حتى مستقبلهم الدنيوي نفسه هل أعدهم لمواجهة الحياة وصعابها ومشاكلها بالوسائل المكافئة لذلك؟ أم أننا قد وقف دورنا عند هذا الحد, عند مجرد الاقتناع بأن المدرس قام بهذه الأشياء المظهرية الشكلية, ثم لم نبحث عن أي أمر آخر وراء ذلك! إننا بين طرفي نقيض, بين طرف يهدر جميع الأنظمة والقرارات, ولا يقيم لها وزناً, وأقول: لو أن الناس كلهم كانوا على درجة من التقوى والورع والإخلاص, لكان من الممكن أن نتساهل في هذه الأمور, أما والغالب على الناس خلاف ذلك فلا.
أما الطرف الثاني: فهو حصر مهمته في ضرورة تنفيذ هذا النظام أو ذاك, حتى ولو كان تنفيذه أحياناً يؤثر ويخل بالعملية التربوية, وكأنه وحي, مع أن هذا النظام الذي يعمل به في هذا العام من السهل أن يغير في العام القادم.(219/39)
المعلم الداعية قدوة للأجيال
المعلم الداعية هو قدوة في أخلاقه ومظهره وسمعته, في داخل المدرسة وبين الطلاب, وبين المدرسين, بل وفي المجتمع كله, كم هو ممزق لشخصية الطالب أو الطالبة, أن يكون المدرس أو المدرسة يبين له حرمة شيء ثم يفعله, فمثلاً: يقول: التدخين حرام, ثم يعلم الطالب أن المدرس يدخن!! وقد حدثني أحد المدرسين أن طالباً في المرحلة الثانية الابتدائية, جاء إلى بيته يوماً وهو يبكي, فقالت له أمه: لماذا تبكي؟! قال: لأن المدرس ضربني, فاتصلت أمه -من الغد- وسألت المدرس, لماذا ضربته؟! قال: لأنه يلعب, وقد ركب فوق الماسة, وبدأ يتكلم ويتحرك, ورفض أن ينصاع للأوامر, فسكتت الأم, فلما جاء ابنها من المدرسة, قالت له: إن المدرس قال فيك: كذا وكذا , قال لها الطالب -وعمره ربما سبع سنوات والقصة واقعة وأعرف حتى اسم هذا الطالب- قال لأمه: نعم، أنا فعلت ذلك؛ لأن هذا المدرس غير ملتزم, وهو يدخن وقد أمرته مرات ومرات فلم يطعني, فأحببت أن أسيء الأدب عنده, حتى أعتبر هذا نوعاً من الامتعاض والتعبير عن السخط على عمله في كونه يدخن وهو مدرس قدوة للأجيال.
فأرادت الأم أن تتثبت, واتصلت بالمدرس وقال لها: نعم، والله ما قاله ولدك صحيح, وأنا أخبركِ أن الله قد كتب توبتي على يديك, وعلى يد ولدك هذا الطفل الصغير.
وكم هو مؤذٍ -أيضاً- أن يتكلم المدرس عن وجوب صلاة الجماعة, ثم يتسامع الطلاب ويتهامسون أنه لا يصلي مع الجماعة!! وكم هو مؤسف أن تتحدث المعلمة -مثلاً- عن الالتزام بالزي الإسلامي وعن الحجاب, ثم تراها الطالبات وهي على أبواب المدرسة, وقد لبست ثوباً ضيقاً, أو ثوباً مشقوق الجوانب, أو لبست ألوان الزينة, أو أن تقول المدرسة للطالبات: لا تأْتُنَّ بالذهب إلى المدرسة, ولا تأْتُنَّ بالأشياء الثمينة, ثم تكون هي قد لبست من ذلك الشيء الكثير.
إن الجانب الأخلاقي مهم جداً أمام الطلاب، فلا يجوز للمدرس أن يسخر بالطالب مثلاً، أو يحطمه, أو يحتقره, أو يوبخه, أو يسبه, أو يشتمه أمام زملائه, بل إنّ من هذه الأشياء ما هو حرام بكل حال, سواء أكان أمام زملائه أم على انفراد.(219/40)
المدرس الداعية يشجع المواهب
المدرس الداعية القدوة يعتني بالطلاب البارزين, ويخصهم بالتوجيه, ويحرك مواهبهم, ويفتح أمامهم المجال؛ لأنه يعتبر هؤلاء الطلاب -إن شاء الله- هم الأمل لهذه الأمة, أن يكون منهم الخطيب المفوه, والداعية المسدد, والعالم الكبير, والمفتي الذي يكون مرجعاً للناس, إلى غير ذلك, فهو يعطي هؤلاء الطلاب الموهوبين عناية خاصة, ويحرص على إبرازهم, وتحريك مواهبهم.(219/41)
المدرس الداعية يعمل على إيصال الدعوة إلى البيوت
إن المدرس الداعية يحرص على إيصال الدعوة إلى البيوت, فالطلاب والطالبات مندوبون عنده لنقل الكتاب إلى أهلهم, ونقل الشريط إلى بيوتهم وأسرهم, ونقل المعلومات المفيدة والتوجيهات الصحيحة, والأخبار المفيدة, إلى من وراءهم من الأهل كباراً وصغاراً.(219/42)
المدرس الداعية يهتم بالنشاط المدرسي لتربية الطلاب
والمدرس الداعية يهتم بالنشاط المدرسي -وإن كان لا بد من العناية بالجانب المظهري في النشاط المدرسي- من الرسوم والخطوط وغيرها فليكن ذلك ذريعة إلى غيره, وإلى ما سواه من ألوان النشاطات المدرسية التي هي بناء للطلاب, كالاجتماعات المفيدة, والرحلات النافعة, ولا يكون هذا النشاط المظهري غاية ننتهي إليها.
فالنشاط المدرسي نشاط مهم جداً, وينبغي أن نزاحم المؤسسات الأخرى الموجودة في المجتمع, كالأندية الرياضية وغيرها، في شغل أوقات الطلاب, وإنه ليؤسفني أن أقول: إننا أصبحنا نسمع ونقرأ -في صحف اليوم- أن النشاطات المدرسية في المدارس الأهلية في بلادنا, أو في المدارس الأجنبية, أصبحت في غاية الغرابة, فهي تعلن عن نشاطات رياضية, ونشاطات للسباحة, بل تعلن عن أسفار إلى بلاد الغرب للطلاب في المرحلة الثانوية, بل ربما في المرحلة المتوسطة والابتدائية, وتعلن عن نشاطات كثيرة, ومن الواضح أن المستهدف بها خلق الطالب, ودين الطالب, وحياء الطالب, ومروءة الطالب, ورجولة الطالب, ومحاولة سلخه عن المجتمع.
فأحرى بتلك المدارس التي تمتلئ بالمدرسين الأخيار, أن تكون مجالاً للدعوة إلى الله تعالى, وأن يحرصوا على الاستفادة من كل الفرص في شغل أوقات الطلاب في النشاطات المفيدة, ولا ينبغي أن تقتصر هذه النشاطات على النخبة من الطلاب أو الصالحين منهم, فالكثير من الطلاب ربما يكونون راغبين في الخير لو وجدوا الموجه الناصح, ولكنهم تأثروا بغيره.
وقد وقفت على إحصائية مهمة ومفيدة أعدها الأستاذ محمد بن عبد الله الدويش , وسوف تخرج في كتاب له عن التعليم قريباً, يقول: هذه الإحصائية تدل على مدى الرغبة في الخير عند الكثير من الطلاب, حتى ولو لم يكونوا مستقيمين في مظاهرهم, متى أحسنا إليهم وصبرنا عليهم وأقمنا معهم الجسور؛ فإننا سوف نظفر منهم -إن شاء الله تعالى- بخير كثير, يقول: قمت بإجراء دراسة على فئة من الشباب, من غير أهل الصلاح والاستقامة, فأجاب (93%) من طلاب المرحلة الثانوية, و (92%) من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم سبق أن فكروا في الالتزام, وأجاب (32%) من الجميع أنهم فكروا تفكيراً جدياً في العودة إلى الخير والالتزام به, وأفاد (46%) من طلاب الثانوية, و (37%) من طلاب المرحلة المتوسطة, أنهم يرغبون رغبة أكيدة في تغيير واقعهم.
أما الذين ليس لديهم رغبة في تغيير الواقع فهم (3%) فقط من طلاب المرحلة الثانوية, و (7%) فقط من طلاب المرحلة المتوسطة.
والفئة الكبرى من هؤلاء الشباب مع ما فيهم من الفساد أو إعراض, فهم غير راضين عن الواقع الذي هم عليه, وقد أفاد (6%) من طلاب الثانوية, و (14%) من طلاب المتوسطة, أنهم راضون عن الواقع, أي أن (94%) و (86%) من الشباب يملك قدراً من عدم الرضا بالواقع.
إن هذا التعبير وهو عدم الرضا عن الواقع هو بداية خير, وبذرة يمكن أن تستغل وأن يستفاد منها.
إذاً اجعل -أيها المدرس الداعية- هؤلاء كلهم ضمن اهتمامك وعنايتك, ولا تقصر جهدك على عشرة أو خمسة من الطلاب المستقيمين الصالحين, وترى أنك قمت بالواجب تجاههم، إن لأولئك عليك حقاً.
يقول المتنبي عن نفسه: وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد نعم المدرس يشكو لوحده, فالبيت والوالد والوالدة والشارع والمجتمع, بنواديه, ومؤسساته, وشلله الشبابية, كلهم ربما لا يساعدونه في أحيان كثيرة, فهل من العقل أو العدل أن يبقى المدرس وحيداً؟! كلا, بل أقول: إذا بقي المدرس وحيداً فإنه لن ينجح, مثال ذلك: المُدرِّسةُ تعطي للطالبة معلومات أن المرأة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة, ثم تخرج الطالبة إلى البيت, فترى في التلفاز امرأة من بنات جنسها, وقد كشفت عن شعرها ووجهها ونحرها وصدرها وساقيها, بل وما فوق ركبتيها أحياناً, ولبست ثياباً ضيقة بل ومشقوقة, وركبت مع الأجانب, وأصبحت تغازل الشباب, وتتصل بالهاتف, وتتكلم, وتضحك وتغني وترقص, إلى غير ذلك , فهذه المدرَسة المدمرة المسماة بالتلفاز, إنها تأتي على أي أثر تبنيه المُدَرِّسَة خلال خمس أو عشر دقائق في المدرسة, وتأتي عليه بوسائل التكنولوجيا المعاصرة، فالفساد مدجج بأحدث الوسائل العصرية, أما الخير فلا يملك إلا مقرراً مدرسياً ووسائل غير مكافئة, وربما يكون المدرس أحياناً مقصراً أو مشغولاً, فلك أن تتصور ماذا يكون مصير الأجيال حينئذ.
ثم تسير هذه البنت في الشارع, فربما ترى نوعاً من التبرج, فتركب في الطائرة فترى شيئاً من ذلك, فأي وضع ومصير تتوقع أن تكون إليه هذه الفتاة؟! إن الجهود يجب أن تتضافر في بناء الجيل, ويجب أن يكون للبيت دوره, وللمدرسة دورها, وللإعلام دوره, وللمسجد دوره, ولكل واحد منا دوره, وأقول إذا قصر بعضهم فلا يعني هذا أننا يجب أن نتخلى, وقد رأينا بأعيننا الأثر الكبير للمدرسين والمدرسات, كما رأينا الأثر الكبير للدعاة في أعماق البيوت, ورأينا أن هذا الأثر بحول الله تعالى وعونه, قد تغلب حتى على تأثير أجهزة الإعلام المدججة بالتكنولوجيا المعاصرة, وتغلب على أعداد غفيرة من دعاة الفساد والانحلال, وما ذلك إلا لأن الجهد الذي يباركه الله تعالى وينميه ويزكيه, جهد نافع مبارك, حتى ولو كان جهداً قليلاً.
وللبيت دور في تعزيز ومساندة المدرسة, كالحث على أداء الواجب, والحث على المذاكرة والتوجيه خلال بقاء الطالب أو الطالبة في المنزل, واختيار الجلساء الصالحين, وعدم تسليم الطالب أو الطالبة لغير الصالحين، والمحافظة على أداء الصلوات, والمحافظة على الطالب في الإجازات وفي العطل الطويلة والقصيرة.
وهناك دور للمسجد, فحلقة تحفيظ القرآن الكريم لها دور كبير في رعاية الطلاب وتوجيههم, كذلك الحلقة العلمية: كحلقة الحديث, وحلقة الفقه, وحلقة الذكر، والمكتبات الموجودة في المساجد، والإمام في المسجد, أو طالب العلم في المسجد, فكل هؤلاء يجب أن يكون لهم دور في رعاية الطلاب, وفي توجيههم وإرشادهم, وأن لا نكل مهمة الأجيال إلى المدرس فقط, فإنه حينئذٍ لابد أن يعلن عجزه عن ذلك, إذا تخلى الباقون عن دورهم.
كذلك النشاط الصيفي كالجمعيات, والمراكز الصيفية لها دور أيضاً, ثم إن للمدرسة دوراً كبيراً في تعميق الصلة بأولياء الأمور ودعوتهم إلى بعض الاجتماعات, وموافاتهم بأحوال أبنائهم.(219/43)
المدرس الداعية يربي الأجيال
كذلك مهمة هذا المدرس الداعية, مهمته تربوية لا تنتهي عند حد تلقين المعلومات, فهو قد يخصص جزءاً من الدرس, ولو خمس دقائق للتوجيه, أقول التوجيه ليس شرطاً أن يكون توجيهاً مباشراً، قد يكون نصيحة أو موعظة مباشرة, ولكن الغالب أن الطالب المراهق يستثقل النصيحة المباشرة، لكن من الممكن أن تكون النصيحة على شكل قصة أحياناً, أو على شكل حديث عفوي, بيني وبين الطلاب, أو ما شابه ذلك.(219/44)
المدرس الداعية قدوة في عمله
ولا بد أن يكون المدرس الداعية قدوة في عمله, فهو يعامل الطلاب بما كسبوا, ولا يعاملهم بشيء خارج عن إرادتهم, نعم، أنا قد أخص طالباً بمزية أو زيادة درجة؛ لأنه ذو أخلاق فاضلة, ولأنه طالب محترم مؤدب, وهذا لا يشترط فيه قانون أو نظام يأتيني، لأن أصل التعليم بناء الأخلاق وبناء الدين, وليس بحشو المعلومات, ولكن المجال مفتوح لغير هذا الطالب, فكل من كان على مثل ما كان عليه من الأخلاق, فأنا مستعد أن أعامله المعاملة نفسها, ولا أخص طالباً بغيره, ولا أحتقر سواه ممن لم يحصلوا على هذه الدرجة أيضاً, أما أن أميزه بأمر آخر لشرفه, أو لوطنه, أو لمكانة والده, أو لغير ذلك, فهذا لا يجوز.(219/45)
الأسئلة(219/46)
عتاب للمدرس
هذه مجموعة معاتبات للمدرس، أذكرها باختصار: أولاً: الفتوى بغير علم, فبعض المدرسين قد يفتي بغير علم, والله تعالى نهى عن أن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
ثانياً: الواسطة والمحسوبية والشفاعة في حقوق الناس, وعلى حساب فلان وفلان.
ثالثاً: الانشغال بالعمل الدنيوي من تجارة , أو عقار, أو غيرها, حتى أثناء الدراسة وفي مقاعد الدراسة.
رابعاً: حصص الرياضة تعتبر للراحة, وبعضهم يتركون الطلاب لوحدهم, وبعضهم الآخر يضخمون دور الرياضة في عقول الطلاب, ويأتون لهم بأخبارها.
خامساً: الحديث عن التلفاز, وما يعرض فيه من مسلسلات أو غيرها, مما يربط الطلاب به, ويشدهم إليه, ويضيع وقتهم في ما لا يفيد.
سادساً: إغراق الطلاب والطالبات بالتكاليف والمتطلبات المادية, وقد تكون ظروف الأهل لا تسمح بذلك.
سابعاً: التحزبات داخل المدارس بين المدرسين, والعداوات, وهذا لا شك من كيد الشيطان, الذي أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب, ولكن في التحريش بينهم.
ثامناً: عدم التفطن لتأثير بعض الكلمات النابية على الطلاب, خاصة إذا كانوا من صغار السن.
تاسعاً: إهمال الطلبة من حيث علاقة بعضهم ببعض, وقد يترتب على ذلك مفاسد كثيرة.
العاشر: هو أن بعض الطلاب أو الطالبات يقعون في ما يسمى بالإعجاب, وهذا موجود في مدارس البنات بكثرة, أن الطالبة تعجب بالمدرسة فتقلدها في كلامها وحركاتها وملابسها وزيها وتسريحتها وكل شيء, وتحرص على الارتباط بها, وهذا نوع من الارتباط الذي يكون ارتباطاً عاطفياً, يتعدى إلى أمور مذمومة, ويؤثر تأثيراً سلبياً على عقلية الطالبة ونفسيتها, وشخصيتها واستقلالها, ودينها وأخلاقها, وقد يتعدى ذلك -أحياناً- إلى أمور غير محمودة, فينبغي معالجة ذلك والعمل على تلافيه.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين, ولا مضلين.(219/47)
حاجة المعلمين والمعلمات إلى النصيحة
السؤال
لماذا لا تكون هذه الرسالة موجهة إلى المعلمين والمعلمات جميعاً؛ لأني أرى أن الفتيات أحوج إلى النصيحة؟
الجواب
في الواقع أن الكلام للطرفين معاً, وإن كان الوقت لم يسعفني بأن أُدْخِلَ المعلمة ضمن الكلام, لكن المربي هو رجل أو امرأة.(219/48)
مقال في جريدة خضراء الدمن
هذا مقال في خضراء الدمن جريدة الشرق الأوسط يقول: "احذروا الفتنة فيما تكتبون -والمؤسف أنه من هذه البلاد, من جدة- ما هي الفتنة أيها الإخوة؟ الفتنة أن نكتشف أن النصارى يحاربوننا- فهو ينتقد كاتباً تكلم عن الحرب في البوسنة والهرسك, وأنها حرب بين المسلمين والنصارى- ويقول: إن هذا الأمر يحدث الفتنة, فهناك مسيحيون في مصر ولبنان والسودان, والمسلمون والمسيحيون يعيشون سوياً في أماكن كثيرة, بمحبة وسلام, والحرب بين الفئات المختلفة والمنتشرة في أفغانستان والصومال وجنوب إفريقيا وأرمينيا, وشياطين الإنس إذا سيطروا على العامة أشعلوها ناراً سواء كان ذلك بين مسلمين ومسيحيين؛ أم بين مسلمين ومسلمين، لهذا يدعو أن يراعي كتابنا أن الشباب مضغوط بضغوط كثيرة اقتصادية واجتماعية, وأسلوب الشحن والإثارة, حتى وإن كان بدون قصد؛ قد يفجر فتنة, فليت فلاناً -يعني فهمي هويدي وزملاءه الأفاضل- يقومون بحملة تطعيم لشبابنا ضد مثل هذه الفتن التي بدأت تنتشر, يعني: الأخ يتصور أن الحرب ليست حرباً صليبية ضد الإسلام".
فأقول: حتى الحرب في الصومال هي حرب صليبية, فالنصارى هم الذين يدعمون الطرفين المتحاربين, وهم الذين تسببوا في وقوع هذه المجاعة والمأساة في الصومال, من أجل تحويل الصومال إلى بلد نصراني وقد رفعوا شعار تحويل أفريقيا إلى قارة مسيحية في عام (2000م) , وهم وراء كل مصيبة نزلت بالمسلمين, ومع ذلك أقول من باب التكامل الموضوعي: ما كان النصارى ليفعلوا بالمسلمين ما فعلوا، لولا البلاء من داخل المسلمين, قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] وقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] .(219/49)
الغيبة بإذن المدرس
السؤال
مجموعة من الطلاب استأذنوا من المدرسين في غيبتهم فما الحكم؟
الجواب
لا, هذا لا يجوز, ولو استأذنوا.(219/50)
العلم الشرعي والدراسة المنهجية
السؤال
هل هناك تعارض بين العلم الشرعي في المساجد والدراسة في المدارس؟
الجواب
ليس هناك تعارض, بل يمكن أن يجمع الإنسان بين هذا وذاك.(219/51)
المدير وكيف يغير المنكر
السؤال
ما رأيك في مدير يأمر الطلاب بتقصير الثوب بالقوة.
دون أية نصيحة؟
الجواب
الذي أراه مناسباً, أن يُعَلَّم الطلاب الحق, ويُؤْمَروا به بالحكمة والموعظة الحسنة, ويُصْبر عليهم, ثم بعد ذلك يمكن اللجوء إلى الوسائل الأخرى الإدارية الإلزامية.(219/52)
التهديد بصعوبة الأسئلة وأثرها على الطالب
السؤال
ما رأيك في كثرة تهديد الطلاب بصعوبة الأسئلة أو بالدرجات أو بغير ذلك؟
الجواب
هذا ممن يربي الطالب على أن الهدف من الدراسة هو مجرد أخذ الشهادة ومجرد النجاح, لماذا؟ لأن المدرس لا يحدثه إلا عن مسألة التهديد بصعوبة الأسئلة, أو التهديد من جهة الخصم من الدرجات.
والذي ينبغي أن يكون هناك تربية للطالب على أن التعليم لا يستهدف مجرد الحصول على الشهادة, فإذا كان المقصود الرزق فقط, فإن الكثير حصلوا على أموال طائلة, وعلى مرتبات ضخمة, دون أن يكون لديهم أية شهادة, بل ينبغي أن يربى الطالب على أن يكون همه وهدفه الخير والتعلم والتعليم والأمور النافعة لدينه ودنياه.(219/53)
متابعة المربي لتلاميذه
السؤال
بعض المدرسين يقوم بدور كبير في التربية والتعليم حينما يعيش في القرى, ثم ينتقل من بلد إلى بلدة أو إلى قرية أخرى, وينسى من رباهم, فلا يزورهم, ولا يجتمع بالمدرسين الأخيار الذين عينوا في مكانه ليعلمهم بجهوده, وحتى لا يبدءوا من الصفر تجاه أولئك الشباب؟
الجواب
ينبغي على المدرس أن يكمل الطريق الذي بدأه, فعليه أن يواصل هؤلاء الشباب, وأن يزورهم, فهذا زرع قد غرسه, ويحتاج إلى سقي وإلى تعاهد فتأتيه العوادي والرياح, فتسفي عليه فيموت, فيحتاج إلى تعاهد وإلى سقي, وعليه أن يتصل بأولئك المدرسين ليقوموا بتحمل المسئولية من بعده, وهنا يأتي حديث: {من سن في الإسلام سنة حسنة} .(219/54)
المربي والألفاظ القبيحة
السؤال
مدرس يطلق كلمات غير مناسبة, وقد يشبه الطلاب أحياناً بالحيوانات, وهو لا يدري؟
الجواب
هذا ذكرته قبل قليل, أن على المدرس أن يتجنب الكلمات السيئة, من كلمات السب والشتم والتعيير, فإن هذا مما لا يليق به, فقد شكا إليّ كثيرون من الطلاب ومن الطالبات, ومن أولياء الأمور أحياناً ما يجري في بعض الفصول من ورود كلمات بسبب الغضب والسخط قد لا تكون لائقة ولا مناسبة.(219/55)
شباب لا يتحمسون لرؤية الشباب الملتزم
السؤال
نحن شباب من مدينةٍ نطلب العلم هنا, ولكننا نفرح إذا رأينا شاباً ملتزماً, فلما قدمنا وجدنا أن بعض الشباب ليس لديهم أخوة صادقة, فهم باردون أخوياً لا يتحمسون ولا يفرحون برؤية الشباب الملتزم؟
الجواب
نعم أنا أوافقك على شيء من ذلك, ربما كان الكثير من الشباب في هذا البلد, في طبيعتهم شيء من عدم إظهار البشاشة, واللطف مع الآخرين, ولذلك أدعو الإخوة هنا إلى أن يحرصوا وأن يتحلوا بالأخلاق, فالكلمة الطيبة كما أرشدك النبي صلى الله عليه وسلم {تبسمك في وجه أخيك صدقة} ومصافحتك لأخيك ربما تكون سبباً في أن تتحاتَّ ذنوبكما كما تَحُتّ الشجرة ورقها, ودعوتك لأخيك إلى أن يجلس عندك, ولو بالكلمة هو أمر طيب, ومساعدتك له, وسؤالك عن حاله, وعن اسمه, ومن أين جاء؟ إلى غير ذلك , كل هذه الأمور: كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد كريم فعليك ألا تتهاون في هذه الأشياء, فالذي أعرفه من الإخوة هنا أن الكثير منهم يحملون قلوباً نقية صافية, ويحملون الحب في قلوبهم, ولكنهم يخفقون أحياناً في التعبير عن هذه المحبة, أنت تجد إنساناً في بعض الأحيان ليس في قلبه محبة، لكنه يتملقك بالكلام الطيب حتى تصدقه, وأحياناً تجد إنساناً يحمل قلباً ممتلئأً بالحب, لكنه لا يعبر لك عن ذلك, فلربما فهمته خطأً أحياناً, والمطلوب منك أن يكون فيك هذا وذاك, فاحمل قلباً محباً لإخوانك, خاصة من الطيبين خاصة إن كانوا من الغرباء عن البلد, واحرص على مساعدتهم, وعبر عن ذلك بالكلام الطيب, وحاول أن تتجنب بعض الكلمات التي قد تكون شديدة أو نابية وإن كانت عفوية وعادية منك لكنها قد تخدش أسماع الآخرين.(219/56)
مدرس غير ملتزم يدرس المواد الشرعية
السؤال
هناك مدرس غير ملتزم, ومكلف بتدريس المواد الشرعية واللغة العربية -مع الأسف الشديد- فما رأيك في هذا؟
الجواب
هذا من الخطأ الكبير, وهذا إفساد للعملية التربوية, أن أجعل مدرساً منحرفاً ولو في مظهره يدرس المواد الشرعية, بل ينبغي أن يكون مدرس المواد الشرعية قدوةً في مظهره ومخبره وسلوكه وأعماله.(219/57)
ثمرات الأوراق
يتجمع لدى الشيخ سلمان بين الفينة والأخرى مجموعة من الرسائل التي تحتوي مشاركات واقتراحات وأسئلة وأخبار، وقد يجد منها ما يستحق الذكر أو الإجابة عنها أو عرضها، فكانت هذه المحاضرة التي عنونها بثمرات الأوراق.
وتكلم فيها عن مواضيع شتى منها ما كان حول العالم الإسلامي كأفغانستان والسودان، والبوسنة، وبعضها عن قضايا اجتماعية كالانحرافات في الصحافة المحلية، وتغيير مناهج التعليم في بلاد المسلمين، وبعضها إجابة على أسئلة أو عرض مقترحات، وغيرها.(220/1)
الأوراق المتفرقة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(ثمرات الأوراق) هو عنوان هذه الجلسة المباركة المنعقدة في ليلة الإثنين (2/ذي القعدة/ من سنة 1412هـ) , وهي الحلقة الثامنة والخمسون في سلسلة الدروس العلمية العامة في الجامع الكبير ببريدة.
ولهذا الموضوع علاقة واضحة بالدرس الذي ألقيته من قبل بعنوان: "من هنا وهناك" والذي كان مجموعة من الموضوعات والمسائل المتفرقة، التي تحدث نوعاً من التواصل بين المتحدث والسامعين.
لقد كان لذلك الموضوع المعنون بـ"من هنا وهناك" أثر كبير في نفوس عدد من المستمعين، واصلوني به من خلال اتصالاتهم أو رسائلهم أو مهاتفاتهم أو غير ذلك؛ لذلك كان ذلك الإلحاح على أن يتكرر مثل هذا الدرس بين الفينة والأخرى, فكلما تجمع لدينا مجموعة من الموضوعات والأوراق والمسائل المتنوعة المختلفة التي لا تنضبط تحت موضوع معين خصص لها مجلس تعرض فيه, ومثل هذا المجلس يعد معبراً تمر عليه بعض مشاركات الإخوة ممن يرغبون أن يوصلوا إلى إخوانهم المسلمين شيئاًَ من الخير، وقد لا يتسنى لهم ذلك بمفردهم، فيعتبرون هذا الدرس معبراً وجسراً إلى ما يريدون أن يقولوا لإخوانهم المسلمين.
ولهذا فإنني أعلن -مرة أخرى- الترحيب الدائم بكل ما يصل إليّ من الإخوة الغيورين على دينهم, الناصحين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, ولا يحقرن أحدكم شيئاًَ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق} وفي الحديث الآخر الصحيح: {لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة} وفي حديث ثالث: {ولو بظلف محرق} .
وقد أرسل إليّ مجموعة من الشباب قبل أيام ورقة يخاطبون بها بعض قادة الجهاد الأفغاني, ويطالبونهم بأن يكونوا على مستوى ظن المسلمين بهم, وأن يجمعوا كلمتهم ويتحدوا ويتفقوا, وأن يحذروا من مؤامرات الأعداء, وأقول لكم: ربما كان هؤلاء الطلاب في المرحلة المتوسطة, فلما طلبوا مني أن أسعى في إيصالها إلى المجاهدين, قلت في نفسي: فلماذا لا أرسلها؟! ربما يكون فيها خير كثير, ولا ينبغي للإنسان أن يزدري من الخير شيئاً فإنه لا يدري أين تكون البركة.
أما عنوان هذا الدرس: (ثمرات الأوراق) فهو إشارة إلى أن جل محتويات هذه الجلسة هي من أرواق شتى وصلت إليّ وهي كثيرة وانتخبت منها قليلاً مما أعتقد أن في تقديمه لكم في هذه الليلة بعض الفائدة.
أما عناوين هذه الجلسة فهي عشرة: 1- الجديد في أفغانستان.
2- في موكب الشعر.
3- من يشرب دم المسلم.
4- السودان أبيض أم أسود.
5- صحافتنا إلى أين؟! 6- تغيير مناهج التعليم.
7- الكيد الضعيف والمكر الكبار.
8- رسائل.
9- أسئلة وتساؤلات.
10- أين الغيورون؟!(220/2)
الجديد في أفغانستان
سمعتم قبل أسبوعين درساً كان بعنوان "الله أكبر سقطت كابل" ولم تكن سقطت تماماً يومها، ولكن الله تعالى أذن بسقوطها فعلاً, فالحمد لله تعالى على ذلك حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى, فقد عودنا كل خير, وإن لم نكن لذلك أهل فإنه هو سبحانه لذلك أهل، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
وإنه مما يفرحني ولا أجد غضاضة أو حرجاً أن أقوله لكم: أنني كنت البارحة في مجلس سماحة الوالد الكبير الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله تعالى وأمد في عمره على طاعته, وبحضرة جماعة من مشايخنا الكبار من أعضاء هيئة كبار العلماء, فسرني أن يخبرني سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز أنه قد استمع إلى ذلك الدرس: (الله أكبر سقطت كابل) في ثلاث ليال متواصلات, ودعا لي جزاه الله خيراً، ولخص مضمون ذلك الدرس للمشايخ الحاضرين, وأثنى عليه خيراً.
وهذا إذ أقوله فإنني لا أجد في ذلك إلا دلالة على عظمة هذا الرجل الذي أعطاه الله تعالى ما أعطاه, فعلى رغم كثرة مشاغله، وكبر سنه، وسعة علمه، فإنه لا يرى بأساً أن يستمع كما استمع من قبل إلى عدد من أشرطة بعض تلاميذه الصغار، وربما وجد فرصة للثناء لما في الثناء من التشجيع والحث, فجزاه الله تعالى عني وعنكم وعن المسلمين خيراً.
أما فيما يتعلق بجديد أفغانستان على ساحتها، فمن الناحية العسكرية كما هو معروف أن أفغانستان كلها قد أصبحت في أيدي المجاهدين عملياً, ولم تبق أية قلعة تمتنع منهم مطلقاً, لكن هناك القضية الثانية وهي: أنه لا يزال ثمة تبادل في إطلاق النار في بعض المواقع، وربما يحيط بهذا التبادل شيء من الغموض.(220/3)
خطورة المليشيات
الواقع -والله تعالى أعلم- أن أبرز قضية في موضوع إطلاق النار هي قضية المليشيات التي كانت عمدة للحكومة الشيوعية السابقة في مقاومة المجاهدين وترسيخ دعائم الدولة الشيوعية, فلما تهاوت أركان الدولة الشيوعية، وكان هؤلاء المليشيات غالبهم من المرتزقة, الذين لا يدافعون عن مبدأ أو عقيدة، وإنما يبحثون عن الرزق، وقد يكون من بينهم من تكون لهم أوضاع غير محمودة.
وفي جريدة الحياة تحليل قوي جداً عن هذه المليشيات، وأعدادها وأوضاعها ودوافعها، وتاريخها وغير ذلك.
فهذه المليشيات لما رأت تهاوي النظام السابق حاولت أن تسبق الأحداث؛ وبالتالي عملت نوعاً من التحالف مع بعض قادة المجاهدين, وخصوصاً مع أحمد شاه مسعود قائد الشمال التابع للجمعية الإسلامية, وانضمت المليشيات بقادتها من أمثال عبد الرشيد دوستم وغيره إلى طرف من أطراف المجاهدين, ومن المعلوم أن انضمامها إلى المجاهدين بكاملها لا يعني أنها تحولت إلى جيش إسلامي -كما تعبر بعض الصحف أحياناً- أو إلى جنود مدافعين عن دين الله تعالى, فهي انضمت بقائدها ومقودها وبأوضاعها السابقة, والانضمام بذاته ليس أمراً مشكلاً، بل هو قد يكفي المسلمين شر القتال لهم والمقاومة, ولكن الخطوة التي يجب أن تتبع ذلك هي أن يكون هناك أولاً دعوة إسلامية قوية في أوساط هذه المليشيات حتى تستقيم وتصلح على أمر الله, هذا أولاً.
وثانياً: أنه يجب عدم الاعتماد عليها في حماية النظام الإسلامي الذي يجب أن يقوم في أفغانستان, ثم يجب التنبه إلى أن هذه المليشيات إذا وجدت في بلد بعينه كأن توجد في عاصمة ككابل -مثلاً- فإنها قد تشكل خطراً اليوم أو غداً على هذه الحكومة الفتية.
وفعلاً وجد شيء من المصادمة بين المليشيات والحزب الإسلامي بقيادة المهندس حكمتيار الذي أبى أن يدخل كابل إلا أن تسلم للمجاهدين أو يدخلها دخول الفاتحين, فصارت مناوشات بينه وبين تلك المليشيات وتكلمت الصحف الغربية والعربية عن هذا على أنه قتال بين المجاهدين, وبعد تدخل اتفق على وقف إطلاق النار, وقعه الحزب الإسلامي والجمعية الإسلامية، ووصلت إلي أوراق هذا الاتفاق، وصار هناك هدوء ولا يزال هناك هدوء إلى اليوم.
ولكن الأمر الغريب أن عدداًَ من قادة المليشيات رفضوا وقف إطلاق النار, وقالوا: لا بد من القضاء على جنود الحزب الإسلامي، وربما توافق هذا الميول مع ميول الرئيس الحالي المؤقت " مجددي " الذي لم يجد حرجاً أن يقول في مقابلة معه في محطة (cnn) الأمريكية: إن حكمتيار خصم لنا، وإنه يتحالف مع عدونا الشيوعي، وإنه يخالفنا ليس في الرأي فحسب؛ بل فيما هو أبعد من ذلك, بل يطالب بتجريد الحزب الإسلامي من السلاح، وإذا وجدوا أفراداً من الحزب الإسلامي في وزارة من الوزارات وهم قد ألقوا السلاح لا يقاتلون ولا يحاربون، فإنهم يخرجونهم ويقولون: تم طردهم أو إخراجهم, وهذه في الواقع قضية تتطلب حلاً سريعاً؛ لأننا نعلم: أولاً: أن الحزب الإسلامي جزء من المجاهدين الذي قضى أكثر من ثلاثة عشر عاماً في القتال، ولعله من أكثر الأحزاب بلاءً إن لم يكن أكثرها فعلاً وقتالاً واستبسالاً, هذا أولاً.
ثانياً: أننا نجد أن الغرب يكره الحزب الإسلامي وقائده، وهذا نعتبره نحن توثيقاً وتزكية؛ لأن هؤلاء الكافرين لا يحبون إلا من يكونُ أقرب إليهم وأكثر تسامحاً معهم, ولا يبغضون إلا من يكونُ أقوى في الحق وأصدق في حمل الدين وحمل المبدأ.
وثالثاً: لأن المليشيات هذه كانت شوكة في حلوق المجاهدين على مدى الفترة السابقة.
ورابعاً: لأن الحزب الإسلامي ينضم إليه عشرات الآلاف من المقاتلين, ويملك أعداداً هائلة من الأسلحة.(220/4)
خطورة التفكير في إبعاد الحزب الإسلامي
التفكير بإبعاد الحزب الإسلامي عن الدولة تفكير خطير, وقد عين رئيس الدولة رئيس الحكومة من الحزب الإسلامي، كما أن التفكير بمحاولة مواجهة الحزب أو نزع السلاح منه أمر أكبر خطورة، وهو يقتضي فعلاً مشاكل كبيرة بين المجاهدين, ولا يقول هذا إلا إنسان لا يستطيع أن يضع الأمور في مواضعها ويضع الحق في نصابه.
وأقول: الحزب الإسلامي أعلن وقف إطلاق النار, وقد وصلت إلي أوراق منه, وهناك مؤتمر صحفي عقده رئيس اللجنة السياسية واسمه " خطب الدين هلال " هو معي الآن, وقد قال في ضمن ما قال: ليس هناك خلاف بين المجاهدين، ومتى خرجت قوات المليشيا من كابل فإن السلام سوف يعود كما عاد إلى مدن جلال أباد وقندهار وهرات، وقد تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين القادة ورؤساء المنظمات الجهادية أمس بمساعي الإخوة المخلصين من العرب, ووافق الجانبان على تشكيل لجنة ذات صلاحية للإشراف على عملية وقف إطلاق النار, وتبع ذلك تشكيل مجلس مشترك ثم قال: وبعد مضي ثلاث ساعات من التوقيع على الاتفاقية أعلن أحد الجنرالات -عبر مكالمة مع إذاعة BBC- رفضه للاتفاقية المبرمة, وتلا ذلك تصريح أحمد ولي مسعود أخو أحمد شاه مسعود الذي أيد فيه التصريحات السابقة، ثم قال: أما نحن فقد قبلنا وقف إطلاق النار، وأصدرنا الأوامر إلى مجاهدي الحزب الإسلامي بضرورة التقيد بوقف إطلاق النار وفي حالة خرق الاتفاقية من الجانب المقابل، عليهم أن يردوا العدوان فقط, والحرب الدائرة -الآن- من وجهة نظرنا هي بين المجاهدين من جهة، وبين ميلشيات عبد الرشيد دوستم، ونبي عظيمي، وعبد المؤمن وغيرهم.
ثم قال: نحن الآن ملتزمون بالعهد، وننفذ وقف إطلاق النار، وقد عينا هيئة معينة من شخصين ونأمل أن يعين الجانب المقابل مثله, ونحن نرى أنه ليس هناك مبرر للحرب.
الموضوع الثاني -ولا يزال الكلام لرئيس اللجنة السياسية- يقول: الموضوع الثاني الذي وافقت عليه ست منظمات من المنظمات الجهادية في بيشاور هو عبارة عن تشكيل لجان ثلاث هي: 1- مجلس الشورى القيادي.
2- الحكومة.
3- الهيئة الانتقالية المكونة من (51) عضواً.
ونحن لا نرى ضرورة إلى الأخيرة، وعلى مجلس الشورى والمجلس القيادي أن يباشرا أعمالهما, ولكن لإلحاح الآخرين وافقنا أن نعين خمسة أشخاص لهذه الهيئة, وفي الاتفاقية المبرمة بين المنظمات الجهادية الست, أعطي منصب رئاسة الوزارء إلى الحزب الإسلامي وقد عين الحزب الإسلامي تولي هذا المنصب الأستاذ فريد أمير الجهاد في ولاية بروان, ونأمل بتشكيل حكومته.
إذاً: ما يتعلق بالأوضاع العسكرية بين المجاهدين بعضهم ببعض، أو بين المجاهدين والأطراف الأخرى، فهذا الأمر -كما ذكرت لكم- ليس ثمة داعٍ الآن إلى مواصلة الاشتباكات بين المليشيات وبين الحزب الإسلامي؛ بل ينبغي أن يكون هناك سعي جاد من المخلصين والراغبين في الصلح إلى إيقاف مثل هذه المعارك, وبالتالي ينبغي أن يكون هناك سعي إلى استصلاح أوضاع المليشيات وإلى تقليص دورها وإبعادها عن العاصمة كابل, وأن تعود إلى المواقع التي خرجت منها, فهذه ضرورات لحفظ هذه الدولة وحفظ أمنها ولا بد منها.(220/5)
محاولة الغرب إبعاد المجاهدين عن السلطة
أما ما يتعلق بالناحية السياسية فلعلكم سمعتم الاتفاقيات التي اتفق عليها جميع المجاهدين بما في ذلك الحزب الإسلامي, وليس ثمة حاجة -الآن- إلى التعليق إلا على أمر واحد, وهو أن الجميع فوجئوا بأن صبغة الله مجددي قد أصبح رئيساً لدولة أفغانستان, والكثيرون الكثيرون أصيبوا بخيبة أمل نتيجة لذلك, وهناك أخبار كثيرة تردد أن هناك ضغوطاً دولية وعالمية وعربية، وضغوط دول الجوار كإيران وباكستان من أجل تعيين هذا الرجل؛ بل إن هناك أخباراً أن بعض الأحزاب أعطيت نحو مائة وخمسين مليون دولار من أجل الضغط لتعيين صبغة الله مجددي في رئاسة الدولة, وأعتقد جازماً أن المجاهدين لم يقاتلوا ثلاثة عشر عاماً من أجل تعيين مثل هذا الرجل, الذي ليس له بلاء في الجهاد يذكر, وليس هناك ارتياح على أقل تقدير إلى تصوراته ومعتقداته ونظراته.
والرجل -الآن- بدأ يتصرف بشكل واضح على أنه رئيس للدولة ربما يطول أمده, فقام بمحاولة تعيين بعض السفراء وأعلن عفواً عاماً؛ بل خطب الجمعة، وكان يتحدث عن قضية إمكانية العفو حتى عن كبار المسئولين في الدولة السابقة, وأخشى ما أخشاه ليست قضية أن يظل حاكماً لمدة شهرين فهذا شر، ولكن مهما يكن فإنه يهون بالقياس إلى ما لو تصورنا أن يظل بعد ذلك حاكماً، ويستمر ويتم القضاء على الاتفاقيات الأخرى التي بموجبها يجب أن يتولى برهان الدين رباني -رئيس الجمعية الإسلامية- بعد شهرين رئاسة الدولة.
بل إنني أذهب إلى أبعد من هذا, فأقول: إن العالم الغربي ودول الجوار لأفغانستان وغيرها تسعى جاهدة إلى إبعاد جميع الأطراف الجهادية المعروفة عن أن يكون لها تأثير كبير في الحكم؛ لأنهم يعتبرونهم أصوليين ومتشديين, فـ برهان الدين ليس مقبولاً عند الغرب ولا عند حلفائهم, وسياف ليس مقبولاً عندهم جميعاً, وحكمتيار ليس مقبولاً عندهم, ويونس خالص ليس مقبولاً عندهم؛ ولذلك يجب أن يكون هناك جهود كبيرة لجمع هؤلاء المجاهدين وتوحيد كلمتهم ليكون لهم ثقل في الحكومة حاضراً ومستقبلاً.
فإنني أعتقد أن الخطر الذي يهدد قلب الدين حكمتيار الآن -هو أيضاً- يهدد برهان الدين رباني، وهو خطر يهدد محمد يونس خالص , وهو خطر يهدد عبد رب الرسول سياف , وهو خطر يهدد كل القادة والمجاهدين الذين ثبت لهم خلال المدة الماضية قدر كبير من الجهاد والبلاء.
فينبغي أن يكون هناك جهود تبذل لجمع كلمة هؤلاء الأربعة، ومن كان على مثل ما هم عليه لمحاولة أن يكونوا جبهة واحدة، ويقفوا أمام وجه المؤامرات الدولية التي لن ترضى ببساطة أن يتولى من تسميهم بالأصوليين حكم أفغانستان.
ولهذا يتساءل الكثير من الناس عن الطريقة التي تم بها تسليم الحكومة, فإن تسليم الحكومة قد تم بصورة نظامية؛ حيث أقيم حفل وجاء عبد الوكيل ومحمد نبي عظيمي وبعض الذين كانوا من الحكومة السابقة, وتكلموا ثم قالوا: الآن نقوم بتسليم الحكومة إلى مجددي، فكان هناك احتفال لنقل السلطة, وكأن المسألة مسألة نقل وليست مسألة نصر للمجاهدين, وكذلك المسلمون يتعجبون كثيراً من هذا الاعتراف المتسارع بدولة أفغانستان, من قبل أمريكا وروسيا ودول عربية وغير عربية لم يكونوا مخلصين للمجاهدين ولا حريصين على انتصارهم.
فلذلك أقول: يجب أن تبذل المزيد من الجهود.
وهناك سؤال يفرض نفسه: هل أفلح المسلمون في إيصال مشاعرهم إلى المجاهدين الأفغان؟! وهذا سؤال كبير! إن الغرب استطاع أن يوصل كل ما في ذهنه وما يريد إلى المجاهدين الأفغان من خلال وسائل الإعلام التي تخدمه, فأصبح الغرب -مثلاً- إذا أراد أن يبرز شخصاً ركز الأضواء عليه، وإذا أراد أن يقضي على شخص فإنه يتحدث عنه, على أنه أصولي ومتطرف ومعاند وخطير، وأنه دموي إلى غير ذلك؛ حتى إني قرأت في مجلة الشرق الأوسط تقريراً عن حكمتيار , يقول: "إنه رجل دموي"، وأنه يقول: لا بد من الدم، وأنه أعد قائمة بستة عشر ألف شخص يريد أن يعدمهم في أفغانستان!! وكلام من هذا القبيل ليس له زمام ولا خطام.
فالغرب إذا أحب شخصاً ورأى أنه أصلح له, فإنه يبرزه ويلمعه ويلقي عليه الأضواء, وإذا تخوف من شخص أو شعر أنه لا يخدم مصالحه فإنه يحاول أن يحصره في زاوية ضيقة, وهذا له تأثير كبير على نفسيات المجاهدين -عامتهم وخاصتهم- بلا شك، لكن المسلمين -أعتقد أنهم- لم يفلحوا في إيصال مشاعرهم الحقيقية وتمنياتهم وتطلعاتهم إلى المجاهدين, كم عدد العلماء الذين ذهبوا إلى أفغانستان؟! لقد سمعت -وهذا أمر يسر- أن الأستاذ الشيخ محمد قطب -وفقه الله تعالى وبارك فيه- قد ذهب إلى هناك, والتقى بالمجاهدين لقاءً طويلاً, وتحدث معهم حتى قال لي أحد الإخوة وكان حاضراً: إن الرجل تأثر وبكى وأبكى، وكان لوجوده تأثير كبير في نفسيات المجاهدين, ولكن هذا لا يكفي فكان ينبغي أن يحمل كل إنسان قادر على عاتقه عبء إيصال شيء من المشاعر الإسلامية إلى المجاهدين.
إن المجاهدين يريدون اجتماع الكلمة, وهم لا يريدون أن تتكرر بعض الأخطاء السابقة, إلى غير ذلك من الأشياء التي كان لها ولا بد -لو حصلت- تأثير كبير في أي قرار يمكن أن يتخذه المجاهدون, خاصة وهم -الآن- على مفرق طرق وفي البداية، ودائماًَ البدايات تؤثر تأثيراً كبيراً.
إننا ننادي أولاً: قادة الجهاد -خاصة الذين أشرت إليهم- إلى ضرورة اجتماع كلمتهم, وأن يكونوا صفاً ضد المؤامرات الغربية وغيرها، كما ننادي المسلمين وعلماءهم ودعاتهم ومخلصيهم وغيوريهم والقادرين وأصدقاء الجهاد الأفغاني إلى أن يوصلوا صوتهم ورأيهم إلى المجاهدين هناك, ويطالبوا بالوفاء للمبادئ التي جاهد من أجلها المجاهدون, وقتل من أجلها أعداد غفيرة من الناس في سوح الجهاد, وبذل من أجلها ما بذل من المسلمين، ليس من أفغانستان فحسب؛ بل في أنحاء العالم الإسلامي.
فإن الوفاء لهذا الجهاد من ألزم الواجبات, وأهم الضرورات.(220/6)
في موكب الشعر
وذلك أن قضية الجهاد الأفغاني قضية تُعَدُّ نصراً كبيراً ومناسبة ضخمة، فلم يكن غريباً أن يسجلها الشعر -كما قيل ديوان العرب- في عدد كبير من القصائد, وقد وصلت إلي قصائد كثيرة, بعضها للشاعر عبد الرحمن العشماوي , وبعضها لشباب ناشئين؛ بل حتى وصلت إلي قصيدة من الشعر النبطي الشعبي وهي جميلة جداً, وهي تعبر عن مشاعر نظيفة وقوية وسليمة, إضافة إلى عدد من القصائد العربية لمجموعة من الشباب، ووجدت أن الوقت يطول لو أردت أن أقرأها عليكم، فأحببت الاجتزاء بأبيات يسيرة جداً تعبر عن مشاعر هؤلاء الشباب تجاه قضية الجهاد الأفغاني.
فأحد الإخوة ضمن قصيدة طويلة يخاطب المجاهدين وقادتهم ويقول: تجاوزوا الطمع الممقوت وانتصروا على النفوس فذاك النصر والشرفُ وحكموا شرع رب الناس قاطبة ففي النفوس لحكم عادل لهف كونوا على حذر فالغرب أقلقه هذا التقدم بالإسلام يتصفُ إنا نرى الغرب محموماً على قدم أَحُمَّ من وجل أم سامه أسف قد كان يأمل خلفاً في جحافلكم نزاعكم هدف وفيكم الهدف تلك الحقائق لا تخفى على أحد فبالذي نصر الإسلام لا تقفوا سيروا على هدي خير الناس كلهم فإن قدوتكم في الأمة السلف صونوا عقيدتكم من كل شائبة كما يصون جديدَ اللؤلؤ الصدف وأحد الإخوة -وهو أيضاً- من أصدقاء الجهاد الذين ذهبوا إلى أرض الجهاد أكثر من مرة -يقترح عدم ذكر الأسماء في مناسبات معينة- يقول أحد الشباب: مئات من الآلاف قتلى وإنهم لنحسبهم أحياء والله أعلمُ مئات من الآلاف من خير من مضى وقد صدقوا الرحمن عهداً وسلموا مئات من الآلاف من كل دولة ومن كل صقع والهوية مسلمُ أراقوا دماهم زاكيات لربهم وما قطرة منها لدى الله تعدم سقوا أرض أفغان الدِّما لا ليرتوي بها شجر، أثماره بينهم دم ولا شجر أثماره قد تعفنت أو ارتشفت ماءً من الغرب يعلم ولا شجر من حنظل البدعة اغتذى وكل ابتداع فهو للكفر سلم ولا شجر يجني جناه الذي جنى على قومه والحر باللحظ يفهم ولكن سقوها بالدماء ليغرسوا بها دولة الإسلام لله تسلم وهذه قصيدة ثالثة، ولعلها مناسبة للمقام كتبها -أيضاً- أحد الإخوة وعنونها بعنوان: (اجمعوا شملنا) وهي جميلة: أنت يا داعي الجهاد كبير وحياة الدنيا متاع صغير ظهرت عندك الحياة غرورا ومتاع الغرور شيء حقير فطن أنت والعدو كثير حازم أنت والخلاف مبير أنت يا شمعة الهداة بصير أنت يا قدوة الدعاة خطير أنت يا أسوة البناة ذكي افهم الدرس، والدروس كثير كم ضربنا يا ويلتا أنسينا؟! فلماذا بعقلنا لا نسير؟! احتكم للكتاب في كل شأن إنما الحل بالكتاب يصير كم ترى فتنة وللعقل فيها طيرة شد ما العقول تطير! فتن يا غريب خلف دواه بعضها جر بعضها فتسير قلّ عقل تراه في كل حال يزن الأمر وزنه ويدير اجمعوا شملنا بحبل متين أحكم الفتل منه حكم خبير أعلى كل فقرة قد عرانا خلف رأي يدمي القلوب خطير الهداة الدعاة إما تراهم في اتفاق أبشر فنعم المصير وإذا الفكر منهم ما تلاقى فلعمري ذاك الفساد الكبير وحصاد الجهاد إن كان حرباً بين إخواننا فعيش مرير استشيروا أرباب علم ورأي كل خطب عند النقاش يسير واقصدوا إخوة الجهاد ليسر كل شيء يزينه التيسير أيها المسلمون طيروا جميعاً أصلحوا بينهم على الجو طيروا(220/7)
من يشرب دم المسلم
وهذا العنوان يشير إلى كلمة يتبادلها الصرب الذين يقتلون إخواننا قتل الخراف في يوغسلافيا في جمهورية البوسنة والهرسك, فإن الجندي الصربي يحمل السلاح الذي يذبح به المسلم ويقول: أنا أشرب دم المسلم أولاً؛ أو دم التركي أولاً, فمن يشربه ثانياً.(220/8)
تجاهل الأمم المتحدة للأمر
ولذلك أين تدخل الأمم المتحدة؟! هذا الأمين العام للأمم المتحدة؛ وهو يبحث إمكانية التدخل وإرسال قوات إلى هناك, ماذا يقول؟!! هذا تقرير وصل إلي من أحد الإخوة عن هذه النقطة, يقول: بعد أن أعلنت كرواتيا الاستقلال عن يوغسلافيا قاوم الجيش الاتحادي هذا الاستقلال، وقام الجيش الصربي والمليشيات بمهاجمة كرواتيا -كلهم نصارى، الصرب والكروات- وبعد حوالي شهرين من هذه الحرب أصدرت الأمم المتحدة قراراً بإرسال أربعة عشر ألف فرد؛ لإقرار السلام والفصل بين المتحاربين، وكانت التكلفة حوالي ألفي مليون دولار, وبعد ذلك كان الهجوم الوحشي والقتل المريع للبوسنة والهرسك من قبل الجيش الاتحادي، ومن قبل المليشيات الصربية؛ ذلك القتل الذي لا يشبهه إلا مجازر وهمجيات المغول والتتر على البلاد الإسلامية, وبعد ذلك يقول أمين الأمم المتحدة: إن الأمم المتحدة لا تستطيع توسيع نطاق عمليات حفظ السلام إلى جمهورية البوسنة والهرسك!! وقال: إن نشر قوات حفظ السلام هناك ليس أمراً عملياً، ثم قال في إشارة إلى رفع المسئولية عن النصارى وتحميلها المسلمين: ليس هناك طرف في الصراع في البوسنة والهرسك يمكن إلقاء كل اللائمة عليه في هذا الوضع الحالي وتصعيده أي: أن المسلمين يتحملون جزءاً على الأقل من المسئولية, ثم قال: ثم يتعين على كل الأطراف تحمل بعض المسئولية في تفجير الصراع واستمراره، إذاً: هو يدافع عن بني دينه وقومه!! ولذلك لا نستغرب -الآن- لماذا يختار أميناً عاماً للأمم المتحدة, والغريب في الأمر أن عدداً من المندوبين الغربيين النصارى لم يعجبهم هذا الكلام, ففرنسا -مثلاً- أرسلت تقريراً إلى مجلس الأمن تدعوه أن يتخذ خطوات عاجلة لإحلال السلام في تلك الجمهورية إلى حد نشر قوة لحفظ السلام.
وفي اجتماع بين وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبولندا أعرب الاجتماع عن القلق الشديد بشأن الوضع هناك, ودعا مجلس الأمن للقيام بالتحرك.
وإذا كان الأمين العام للأمم المتحدة يعتذر بقصور الموارد الإنسانية والمادية، والمالية ولا سيما -كما يقول- في ضوء أعمال العنف الواسعة -الآن- فإن السفير الفرنسي قد رد عليه بأن هذا الكلام غير مقنع، وأن الاعتبارات المالية والأمنية التي أشير إليها كأسباب لعدم إرسال قوة لحفظ السلام التابعة للأمم المتحدة غير كافية.
ولذلك نعرف -أيها الإخوة- الآن أولاً: ما معنى -أو جزءاً من معنى- قول الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فجميع ألوان النصارى مهما اختلفت أسماؤهم (البروتستانت-الكاثوليك- أرثوذكس إلخ) كلهم حلفاء ضد المسلمين، وهم واليهود والشيوعيون حلفاء أيضاً ضد المسلمين إذا وجد أي بادرة لوجود إسلامي.
ولقد أزعجهم كثيراً -ما يعتبرونه خطراً- الوجود الأصولي في يوغسلافيا؛ وذلك لأن الحزب الحاكم -وهو حزب العمال- هناك يعتبر حزب المسلمين, والحاكم نفسه قضى أكثر من عشر سنوات في السجن في أيام الحكومة الشيوعية.
وقد حدثنا الثقات أن الرجل مصلٍّ، ومهما يكن من وضع الحكومة الحالية فهي حكومة تنتسب بلا شك إلى حزب يعلن العلمانية -وإن كانوا يعتذرون أنهم مضطرون إلى ذلك, وأنهم لا يستطيعون إلا هذا في ظل هذه الظروف القائمة عندهم- وعلى أي حال مهما يكن وضع الحزب القائم هناك, فإن المسلمين من الشعوب الموجودة هناك تعاني صعوبات كثيرة، والغرب يعتبر أنها خطر أصولي يهدده, ولا بد من القضاء عليه.
إذاً: هناك محاولة القضاء على العرق الإسلامي، والجنسية الإسلامية هناك قضاءً مبرماً؛ لأنهم يعتبرونه أضخم وجود إسلامي في أوروبا.
وهذا -أيضاً- يكشف لنا عن قضية ثانية خطيرة، وهي أن النصارى العرب من أخبث نصارى العالم, ولا يقارنون بغيرهم أبداً, فعندهم من الحقد والبغضاء والكراهية للمسلم ما لا يوجد عند النصراني في بلاد الغرب, فينبغي الحذر من النصارى العرب وإبعادهم, وألا نثق بهم، ومع الأسف أقول: كثير من الناس -عندنا هنا- من أرباب الأعمال والشركات والمؤسسات؛ بل ومن المثقفين يعطون النصارى العرب ثقة كبيرة لا يستحقونها.
والواجب أن نحذر من هؤلاء النصارى، وندرك أنهم وإن كانوا أذكياء ولبقين, إلا أنهم يحملون في قلوبهم من الحقد على المسلمين ما لا يحمله أي نصراني آخر.
وعلى أي حال فإن قضية الصرب قضية تتطلب لفت النظر, وبدلاً أن أسترسل معكم في الحديث عنه أكتفي بأن ألفت نظركم بأن هناك محاضرة أو ندوة سوف تقام بعنوان: المسلمون في يوغسلافيا تتحدث عن أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك, وسوف يلقيها أستاذان من يوغسلافيا أحدهم: زهدي بكر، والآخر الأستاذ: حسيب سنان , وذلك في يوم الإثنين (2/11) في جامع الصالحية بعد صلاة المغرب في عنيزة, ويوجد مكان مخصص للنساء , والدعوة عامة للجميع, وأدعو الإخوة للذهاب إلى هناك وسماع ما يلقيه الإخوة، والاستفسار -أيضاً- عن أي أمر يحتاج إلى استفسار.(220/9)
تصرفات العرب مع المسلمين في البوسنة
إن إخواننا المسلمين هناك يواجهون حرب إبادة, فعدد الذين قتلوا يزيد على خمسة وعشرين ألفاً, وعدد الذين هجروا من بلادهم حسب آخر التقارير أنه نحو (300) ألف مسلم, أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله, إن هناك مؤامرة لإقامة ما يسمى بدولة صربيا الكبرى, وهم يعتقدون أن وجود المسلمين في البوسنة والهرسك خطر عليهم:- أولاً: لأنهم يعتبرون أن كثيراً من هؤلاء يرجعون إلى أصول تركية.
ثانياً: لأنهم يعلمون أن هؤلاء -وهذا هو الأهم- مسلمون, فهم يعتبرونهم خونة للوطن وللدين.
فقد كانوا يوماً من الأيام نصارى، ثم فتح الله عليهم في أزمنة الدولة العثمانية وهداهم إلى الإسلام, فآمنوا وأسلموا وكانوا جزءاً من الدولة العثمانية, فيعتبر النصارى أن هؤلاء قد خانوهم وخرجوا من دينهم, وأيضاً وجد من بينهم بعض المهاجرين من تركيا فاعتبروا أنهم يحتوون في ضمنهم على عرق أو دم آخر؛ ولذلك هناك حرب إبادة ضارية وضروس, والآن تدور رحاها في عاصمة البوسنة سراييفو التي يوجد فيها قتل في الشوارع والبيوت وذبح، حتى إنه بالأمس قاموا باعتقال رئيس الدولة -نفسه- من شدة ما وصلوا إليه في إيذاء المسلمين واضطهادهم ومضايقتهم.
فهناك ذبح للمسلمين، وأخطر ما في الأمر لو اتفق الصرب مع الكروات على ضرب المسلمين, فإن هناك -الآن- حرباً بين الصرب والكروات -أيضاً- وهذه الحرب يستفيد منها المسلمون فتصل إليهم الأسلحة عن طريق الكروات، ولم يتفقوا عليهم، لكن هناك جهوداً لمحاولة الإصلاح بين الصرب والكروات, وكلهم نصارى, ولو تصالحوا لاتفقت أسلحتهم على ضرب المسلمين، واعتبروا أشبه ما يكونون بفكي الرحى التي تحاول أن تطحن فيها القومية الإسلامية في البوسنة والهرسك.
صدقني -أيها المسلم- أنه في ثاني أيام العيد قام الصرب بحملة ضروس شرسة على المسلمين، وقتلوا منهم مئات, وأراقوا دماءهم, وكانوا يقتلون الآباء أمام أعين أطفالهم, وربما قتلوا النساء, وقتلوا الأطفال دون رحمة ولا هوادة, وهدموا البيوت على من فيها, وحولوا عيد المسلمين -عيد الفطر- إلى مأتم ومناحة ومجزرة بقوة الحديد والنار التي يملكون.
والآن: إخواننا المسلمون هناك يقولون: نحن لا نطالبكم بأن تدخلوا معنا في المقاومة لهؤلاء, فنحن نعلم أنكم لن تفعلوا هذا؛ بل ولا نطالبكم بتوفير السلاح لنا فقد جربناكم؛ فوجدنا أنكم لا تغضبون لنا غضب المسلم لأخيه المسلم, ووجدنا أن العدو أفلح في تعميق الفواصل بيننا وبينكم؛ فأصبح المسلم يقول: ماذا يعنيني من أمر البوسنة والهرسك؟!! إنما نطالبكم بالإغاثات الإنسانية من لقمة العيش التي تسد جوعنا، والثوب الذي يستر عرينا، والحليب الذي يغذي أطفالنا، ونطالبكم بالدعم المعنوي لمحاولة وقف هذه الحرب، والتدخل لدى المنظمات المختلفة في إيقافها!! هذا ما يطالبون به الآن, وهناك جهود وأصوات كثيرة تنادي لمثل ذلك, ولكن أخشى أن يكون الأمر بالنسبة للمسلمين كما قيل: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ والحقيقة أن التقارير التي تصل من تلك البلاد تقارير مؤلمة جداً, وأخطر من التقارير الصور التي يعرضها الإعلام, فإن الإعلام العالمي كله يعرض صوراً في منتهى الغرابة، تجد الرجل الصربي يضع قدمه على خد المسلم ثم يذبحه ذبحاً!! والعالم كله يتفرج!! ومن أغرب ما يفعله الصرب -الآن- أنهم حاولوا أن يدمروا مبنى التلفزيون هناك, لماذا؟! لأنه هو الذي ينقل الصور التي أفزعت العالم كله, ففي محاولة للحيلولة بين العالم وبين ما يجري في البوسنة والهرسك؛ يحاولون القضاء على أي وسيلة إعلامية يمكن أن تنقل الصورة نقلاً مؤثراً.
فيا معشر المسلمين!! إيانا أن نكون كما قيل: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
إن الجسم الإسلامي -الآن- يقتطع من أطرافه, والذي حل بالمسلم في يوغسلافيا يمكن أن يحل به في أي بلد, فينبغي أن ننصر إخواننا, استنصرونا في الدين فعلينا النصر, ولا يجوز لمسلم يشعر برابطة الإخوة والإيمان بينه وبينهم إلا أن يغيثهم وينصرهم, فهذا مقتضى الولاء للدين ومقتضى الأخوة في الله عز وجل, يقول ربنا تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حق المسلم على المسلم: {وإذا استنصرك فانصره} فهم استنصرونا الآن ويريدون منا الإغاثة الإنسانية, ويريدون منا أن نبلغ حاجاتهم إلى آذان إخوانهم المسلمين في كل مكان, ولا يجوز أن يكون حظنا -فقط- هو التوجع لهم والندم على ما أصابهم، كلا؛ بل ينبغي أن يكون هناك مشاركة فعليه, وأقل قدر للمشاركة هو أن نبذل المال لهؤلاء الإخوة الذين يقتلون, قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] والله الذي لا إله إلا هو لو كان البوسنة والهرسك بروتستانت أو كاثوليك أو يهوداً لثار العالم كله من أجلهم, ولكن لأنهم مسلمون لا بواكي لهم!(220/10)
السودان أبيض أم أسود؟!
طبعاً لا يعنينا لون البشرة، فهذا يكفينا فيه قول الرب جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ويكفينا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه كما في صحيح البخاري فيقول له: {أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام؟ فإني سمعت دف نعليك أمامي في الجنة! فقال بلال رضي الله عنه: لا شيء، إلا أني لا أتوضأ وضوءاً في أي ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الوضوء ما كتب الله تعالى} ويكفينا فيه -أيضاً- القاعدة الإسلامية الكبيرة التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم: {لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى} والأحاديث في هذا كثيرة جداً.(220/11)
بغض بعض المنتسبين للصحافة العربية للحكومة السودانية
نحن لا نسمع إلا نغمة واحدة هي نغمة الاتهام بالأصولية والتطرف وغير ذلك! لقد حقق السودان خيراً كثيراً في الانتصار على النصارى في الجنوب, فلم نجد الصحف العربية فرحت بذلك, ولا هللت له مثلما لو كان الانتصار لـ جون قرنق على الحكومة السودانية! أحلف بالله لو انتصر قرنق على الحكومة السودانية لصفقت لذلك صحف عربية كثيرة, واعتبرت هذا نصراً، وإن كانت ليست بالضرورة مؤيدة لـ قرنق، لكن يكفيها أنه انتصار على حكومة البشير والترابي، وعلى الجبهة الإسلامية في السودان.
فهل بلغ بنا الحال من العداوة لهؤلاء أن نفرح بانتصار النصارى عليهم، ونحزن حين ينتصر المسلمون على أولئك النصارى, إن الذين يغطون أخبار الانتصارات العسكرية في جنوب السودان هم في الغالب إما أن يكونوا من غير المسلمين وإما من الناس العاديين العلمانيين, أما الصحف التي تصدر في البلاد الإسلامية فإنها لا تغطي هذه الانتصارات ولا تفرح بها, ولعل الجميع يلجئون إلى إذاعة لندن -مثلاً- أو جريدة الحياة حتى يمكنهم متابعة أخبار الانتصارات في جنوب السودان, مع أننا نعلم أنهم لما انتصروا -مثلاً- جاءوا إلى مسجد كان النصارى قد حولوه إلى كنيسة، أو إلى مستودع فنظفوه وصلّى فيه قائدهم -شخصياً- صلاة الشكر لله تعالى أو صلاة الفتح.
ونعلم أن كثيراً ممن قاوموا النصارى وانتصروا عليهم هم من الشباب المتدين في السودان، وهذه أشياء ينبغي أن تذكر ويشاد بها, ومع ذلك فإننا نعلم أن في حكومة السودان ثغرات كما في أي مجتمع إسلامي آخر, ولا بد من مواصلتهم في سد هذه الثغرات ومناصحتهم, وهذا أقل حق للمسلم على أخيه, فأين المسلم عالماً كان أو داعية أو إعلامياً أو شخصاً، الذي يناصح إخوانه المسلمين؟!(220/12)
نداء للحكومة السودانية
وسواء نحن ننادي إخواننا المسلمين في السودان, ونقول: الله عز وجل مكنكم في الأرض، وبوأكم فيها واستخلفكم في الأرض لينظر كيف تعملون، وأهلك عدوكم, فيا أيها الإخوة في السودان! صححوا أوضاعكم وفق ما يرضي الله تعالى ورسوله، واعلموا أن الله نصركم الآن، وإن لم تستجيبوا له وتشكروه فقد لا ينصركم غداً, فأصلحوا ما بينكم وبين الله عز وجل ولا تحابوا في دين الله أحداً, لا قريباً ولا بعيداً، لا عربياًَ ولا غير عربي, فأصلحوا أوضاعكم، وصححوا كل ما يوجد عندكم من أوضاع مما يخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة، سواء كان في عبادة القبور أم في انتشار الطرق الصوفية, أم في الانحراف الموجود, أم في الفساد الأخلاقي, أم في التصورات الموجودة عند بعض المفكرين التي لا تلتئم مع ما هو موجود في الكتاب والسنة ومأثور عن السلف الصالح, لعل الله تعالى أن يجعل على أيديكم خيراً وبركة، ويمكِّن لكم، ويهلك عدوكم، ويحفظكم من شر المؤامرات التي تدار ضدكم صباحاً ومساء.
وهذا الكلام أقوله في هذه المناسبة وأقول: يجب أن يقوله كل مسلم بالوسيلة التي يستطيع أن يوصلها إلى هناك, على أقل تقدير أن يقولها لإخواننا السودانيين الموجودين هنا, وهم بحمد الله كثير، وعليهم أن يبلغوا هذه الرسالة, وهي أن المسلمين مع السودان ضد النصارى, ومع السودان ضد الغرب, ومع السودان لو فرض عليه حصار من الغرب, وأنه مع السودان حين يرفع شعار الإسلام.
وهو يطالب السودان بمزيد من الالتزام بالكتاب والسنة, ومزيد من الانضباط على هدي السلف الصالح، ومزيد من التصحيح للأوضاع العقائدية والسلوكية الموجودة هناك, ومزيد من تبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم، خاصة المسلمين المجاورين لهم, ونطالبهم -مثلاً- بأن يكونوا مع إخواننا في إرتيريا بقدر ما يستطيعون, وأن يمدوا يد العون لهم, وأن يجعلوا أرضهم مجالاً لاستقبال المشردين في بلاد أفريقيا، وإيوائهم وبذل ما يمكن لهم, وأن المسلمين لن يدخروا وسعاً في دعم هؤلاء اللاجئين في أرض السودان, ومساعدتهم بكل ما يحتاجون إليه من المساعدات الإنسانية, وما عهدنا -إن شاء الله- منهم إلا مثل ذلك.(220/13)
فحوى مقابلة مع أحد زعماء السودان
وهناك مقابلة نشرتها بعض الصحف الغربية مع الدكتور حسن الترابي , وهو أحد المفكرين الموجودين في السودان وهو زعيم من زعماء الجبهة القومية الإسلامية هناك, والرجل له أفكار واجتهادات كثيرة بعضها صحيح وبعضها لا يوافق عليه؛ بل له اجتهادات فيها نظر كبير, لكن هذه المقابلة فيها كلام جيد, والمقابلة مع صحيفة لوفيجارو الفرنسية، وقد سألوه سؤالاً عن الإرهاب! فكان جوابه التالي: يقول: يجب أولاً: توضيح مفهوم الإرهاب, فعندما كان الفرنسيون يتصدون للاحتلال الألماني كنتم تستعملون كلمة نبيلة وهي كلمة المقاومة, أما عندما يتصدى الفلسطينيون لمحتل أرضهم اليهود فإنكم تسمون هذا إرهاباً, ففي الغرب هناك وزنان وقياسان, واليوم أنتم تميلون -وللأسف- للدمج بين الإسلام والإرهاب, وصحيح أن تولي الإسلام السلطة يرهبكم بسبب الأفكار التاريخية المسبقة لديكم, لكنكم تنسون أن الصليبيين والاستعماريين كانوا أنتم.
ويخاطب الفرنسيين والغرب -أيضاً- فيقول: أنتم تبشرون بالتسامح والتعددية لديكم، أما عندما تأتون إلى هنا -يعني الأرض الإسلامية- فإنكم لا تتحملون أن يكون هناك نموذج آخر للحضارة.
ثم سألوه: هل تريد أن تقول إن فرنسا وراء الانقلاب العسكري في الجزائر؟ قال: ليس لدي أدلة على ذلك، لكن هذا يشكل قناعة عامة, فإذا كانت فرنسا وضعت ثقلها كله في الميزان لكانت الديمقراطية قد انتصرت في الجزائر، ومن الممكن أن تدخل الأنظمة المجاورة للجزائر -والتي عرفت أن هذه الانتخابات الحرة تهددها- قد كان أكثر أهمية، ومرة أخرى سألوه عن الإرهاب؟ فقال: نحن لا نمارس الإرهاب المجرم, فديننا ينهانا عنه, لكن لنا الحق في حماية أنفسنا، وإذا كان الأمريكيون لا يريدون مساعدتنا فليحتفظوا بأموالهم, وإن سياسة مساعدات الشمال للجنوب هي شكل جديد لاستغلال الأغنياء للفقراء إلى آخر المقابلة.
على كل حال أقول: ينبغي أن ندرك أن السودان يواجه حصاراً غربياً, وقد يكون هو أحد ضحايا الغرب بعد ليبيا وسوريا وبعد أية دولة أخرى يطمع الغرب في أن يضحي بها لغرض أو لآخر, والغرب يتدخل، ولذلك لا يلام المسلمون إذا فرحوا وطربوا للأخبار التي تتكلم عن الاضطرابات في أمريكا, التي اتسعت لتشمل خمس مدن في ثلاث ولايات, والتي ذهب فيها عشرات القتلى, ومئات الجرحى, ومئات الملايين من الدولارات، التي ذهبت بسبب سرقة المتاجر والحرائق وغيرها؛ حتى اضطر الجيش والحرس والقوات البحرية وغيرها إلى التدخل, وبدأ عدد من رموز النظام الأمريكي يعيدون النظر في مدى تماسك الجبهة الداخلية، ومدى قناعتهم بالوضع القائم هناك, نحن لا نملك إلا أن نفرح؛ لأننا نعلم أن أمريكا أصبحت تقاوم أي صوت للإسلام في السودان أو الجزائر أو فلسطين أو مصر أو أفغانستان, وأن بصماتها واضحة هنا وهناك, فهي لن تسمح بقيام حكومة إسلامية وهي تستطيع ذلك.
ولهذا نسأل الله تعالى أن يشغلهم بأنفسهم، فنقول: اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم, واجعل الدائرة عليهم, ونسأل الله تعالى أن يجعل عندهم من القلاقل والمشاكل الأمنية والاقتصادية ما يشغلهم عن المسلمين في كل مكان.
ونحن نعلم أن الله على كل شيء قدير, والذي أسقط الامبراطورية الشيوعية في الشرق, قادر على أن يسقط الامبراطورية الصليبية النصرانية في الغرب إنه على كل شيء قدير.(220/14)
وضع السودان الحالي
إنما السؤال هو عن قضية وضع السودان الحالي, فهناك بالتأكيد حملة شرسة على السودان في الإعلام الغربي والعربي تعرفونها وتدركونها جميعاً.
والغرب يصف الحكومة السودانية بأنها حكومة أصولية، ويتكلم أنها تدعم الإرهاب، وأنها بداية للحركات، أو الدعوات الأصولية القائمة؛ ولذلك أوقف عنها جميع ألوان المساعدات من صندوق النقد الدولي، والجمعيات التابعة للأمم المتحدة أوقفت المساعدات عن السودان نهائياً، على الرغم من أن السودان دولة فقيرة جداً, ودخل الفرد فيها ضعيف, وعلى الرغم من أن السودان تؤوي آلافاً من اللاجئين من إرتيريا، وتعيش فترات من الجفاف طيلة السنين الماضية, إلا أنهم لم يأبهوا بهذا الوضع الصعب، وأوقفوا ألوان الدعم -الدعم الإنساني كما يسمونه- عن السودان, اللهم إلا أن يكون الدعم لجنوب السودان حيث يكثر النصارى، وحيث كان يسيطر عليها جون قرنق وأتباعه.
وأبداً لسنا نعتقد أن الحكومة القائمة في السودان هي الحكومة الإسلامية المثالية التي يطمح إليها المسلمون, ولكننا -أيضاً- نقول إن تلك الحكومة القائمة في السودان هي أفضل من جميع الحكومات العلمانية التي لا تقول -أصلاً-: إنها تحكم الشريعة, ولا تقول: إنها تطمح إلى تحكيم الإسلام، وإنما تقول: إنها لا تسمح ولا ترضى بقيام أي حزب فيها على أساس الدين, والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان, فمن هو الذي يستطيع أن يوالي ويحب ويدافع عن حكومة تقول: إنها لا تسمح بقيام حزب على أساس دين, ويحارب ويناوئ ويتهجم على حكومة أخرى تقول: نحن مسلمون, ونسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية, ونسعى إلى تكميل النقص الموجود فينا بين آونة وأخرى, ونطلب من شعبنا أن يلتزم بالحجاب الشرعي, ونحارب بيوت الدعارة, ونحارب النصارى في بلادنا، وننتصر عليهم -بإذن الله تعالى- ونتيح الفرصة للدعاة أن يقوموا بدعوتهم.
ومرة أخرى أقول: هذه الكلمة ليست تزكية مطلقة للوضع في السودان، فإننا نعلم أن هناك ثغرات كبيرة موجودة, وعلى بعض قادة الجبهة الإسلامية هناك تحفظات -لي ولغيري من دعاة الإسلام- على ما يطرحونه من أفكار ومبادئ واجتهادات وتصورات, لا يقرون عليها ولا يوافقون على ما فيها.
ولكننا نقول مع ذلك: إنه بالنظر إلى وضع السودان -الآن- وإلى وضع العالم والدول المحيطة به والأوضاع التي يعيشها المسلمون، فإننا نقول: إن وضع السودان يعتبر بداية ينبغي أن نفرح بها من هذا المنطلق, نفرح بها على أنها بداية يمكن أن تكتمل بعون الله تعالى؛ خاصة مع اجتهاد المسلمين في التواصل مع إخوانهم هناك, ولو بالنصيحة.
ولقد رأينا كثيراً من صحفنا هنا والصحف العربية والعالمية شنت حرباً ضروساً على وضع السودان، ووصفته بأنه وضع أصولي، وأنهم متطرفون، وأنهم يغذون حركات الإرهاب وأنهم وأنهم إلخ.
لكنني أتساءل: هل سمعتم -أيها الإخوة- صوت النصيحة الذي يدعو إخواننا المسلمين في السودان إلى تصحيح أي خطأ موجود عندهم, أما أنا فوالله لم أسمعه حتى الآن, ما سمعنا إلا صوت الشجب والذم, والاتهام والطعن والتشهير, وهذه الأصوات هي أصوات الأعداء, لكن أين أصوات المخلصين لشعب السودان وحكومته؟! أين أصوات المخلصين للمسلمين؟! لماذا لا يناصحون إخوانهم هناك؟ لماذا لا يدعونهم إلى ما يعتقدون أنه خير وأفضل لهم؟!!(220/15)
أين صحافتنا؟!
في ظل هذه المشاكل الصعبة مثل قضايا أفغانستان وقضايا مسلمي البوسنة والهرسك وقضايا السلام في فلسطين وغيرها, يثور
السؤال
أين صحافتنا؟!! صحافتنا بين أمرين: إما أن تغفل عن هذه القضايا ولا تتحدث عنها أصلاً, وهذا خير نعتبره نسبياً, وإما أن تتكلم عن هذه القضايا، فنقول: تمنينا أنها سكتت؛ لأنها تتحدث من منطلق غربي، أو تردد ما تذيعه وكالات رويتر أو غيرها من الوكالات اليهودية, وقد تقف في صف خصوم الإسلام، لذلك أقول لكم أيها الإخوة: ولذلك فلا يمكن بناء تصورات صحيحة من هذا الإعلام -ولا أتحدث عن الإعلام السعودي، وإنما أتحدث عن الإعلام العربي كله- إنه إعلام فاسق أصلاً، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فإياك أن تبني تصوراتك عن الأحداث من واقع هذا الإعلام.
وجدتُ كثيرين حتى من أصحاب الفكر والعلم يبنون تصوراتهم -مثلاً- عن قادات المجاهدين الأفغان من خلال ما يكتب بالصحف، فمثلاً صحيفة عربية خضراء تكتب عن مجددي أنه صوت العقل في أفغانستان، ثم تكتب عن حكمتيار أنه القائد الأصولي المتطرف -مثلاً- فيترتب على ذلك أن القارئ يعتقد أن مجددي هو صوت العقل، وهو الذي يجب أن يكون حاكماً، أما حكمتيار فهو قائد أصولي متطرف، لو كان له من الأمر شيء لجر أفغانستان إلى حمامات دم، فهذه نظرة الغرب يفرزها إلى بعض حلفائه في الشرق، فتبرز في صورة عناوين أو كما قيل (مانشيتات) أو تقارير وكتابات وغير ذلك، ولا يجوز للمسلم الواعي فضلاً عن طالب العلم أو العالم أو المثقف أن يأخذ معلوماته أو تصوراته عن أوضاع المسلمين من خلال هذه الصحف.
ولقد عرفنا كيف عالجت صحفنا -مثلاً- قضية الجزائر، وكتبت عما تسميه الملف الثلاثي الأسود، وكيف عالجت قضية السودان، وكيف عالجت قضية السلام مع إسرائيل، وأخيراً عرفنا ونعرف الآن كيف تعالج صحفنا العربية والإسلامية والمحلية قضية أفغانستان.
فمثلاً: في هوامش صحفية في جريدة الجزيرة كتب أحدهم يتكلم عن الذين جاهدوا مع الأفغان من العرب؛ وكثير منهم من السعوديين -أيضاً- فتجد أنه يتكلم عنهم كلاماً في غاية السوء، ويصفهم بأنهم من الخوارج، وأنهم تحولوا إلى مدمني مخدرات، وأنهم مجرمون، وأنهم يخلخلون الأمن في بلادهم، وأنهم يكفرون الناس، وأنهم أصحاب نفوس سوداوية وقلوب مريضة، وأنهم وأنهم، وجعل قائمة طويلة -عموداً طويلاً كله- في هجاء هؤلاء الشباب المجاهدين وذمهم وسبهم وشتمهم، ولا أستغرب أن يحمل شخص من أبناء جلدتنا مثل هذه الأفكار، لكن أستغرب أن يتمكن من أن يفرغها على صفحات جريدة تصدر في مثل هذا البلد الكريم، وأن يقرأها الناس وتمر بسلام.
وبعض الصحف هنا وهناك من الصحف العربية والمهاجرة تمدح من يدفع أكثر، وليس غريباً أن إحداها كانت تتكلم عن النظام العراقي البعثي وعن صدام حسين، وتتغزل به وتمدحه وتثني عليه، فلما اشتريت من قبل طرف آخر قلبت الأمر بزاوية مائة وثمانين درجة وأصبحت تتهجم عليه، وهذا محمود على كل حال، لكنها أصبحت تدافع عن أنظمة أخرى كثيرة، وتتكلم بصورة يعرف أي إنسان أنها لا تحمل أمانة الكلمة مطلقاً.
وكثير من هذه الصحف هي في الواقع تتكلم بلسان الدول التي تمولها، أو -أحياناً- بلسان بعض الأجهزة الخفية التي تقبع وراءها، وقد أعجبني مقال نشر في جريدة المدينة للأستاذ محمد صلاح الدين، تكلم فيه عن جريدة الشرق الأوسط وهي من أوسع الجرائد انتشاراً، يطبع منها مئات الألوف، وتطبع في مواقع عديدة، وتنشر على نطاق واسع، ويتعامل معها كثير من الناس؛ بل كثير من الدوائر الرسمية، والمقال طويل لكن أقرأ المهم منه، يقول -بعد ما تكلم عن قضية الأصولية وتعريفها وغير ذلك-: "لا جرم أن يشعر المرء باستياء بالغ واستغراب شديد وهو يرى جريدة الشرق الأوسط الغراء؛ وقد تبنت كلمة استخدام مصطلح الأصولية لتصف به كل الجماعات والحركات الإسلامية المطالبة بتطبيق الشريعة وأسلمة المجتمع دون تفريق، وكأنه وصمة عار، إن اعتماد جريدة الشرق الأوسط لمصطلح غربي كالأصولية في أخبارها ومقالاتها وتحليلاتها هو فضيحة إعلامية بكل المقاييس؛ لأنه إذا كان المقصود بالمصطلح هو الإهانة والتحقير أو الترهيب والتخويف؛ وإذا كان استخدامه كمرادف ورمز للتأخر والانغلاق والتزمت؛ فإن أول ما ينصرف ذلك إلى المملكة، لأنها تمثل الأصولية.
ثم قال: هل تشارك إدارة تحرير جريدة الشرق الأوسط -إذاً- محرريها وكتابها ومراسليها العلمانيين؛ اعتبار الأصولية -أي التطبيق الدقيق لأوامر الشرع وأحكامه الإجماعية- انغلاقاً وتزمتاً وتهديداً للاستقرار الاجتماعي! وتمزيقاً للوحدة الوطنية! ورجوعاً إلى القرون الوسطى؟! لا أريد أن أقول ذلك، ولكن من الواضح أن المسئولين عن تحرير جريدة الشرق الأوسط قد وقعوا على أقل تقدير فريسة للخلط بين الخصومة السياسية وبين المبادئ الإسلامية، بين الحملات الإعلامية والالتزام المهني والأمانة الصحفية، إننا لا نختلف على الإطلاق مع ما تدعو إليه كل الحركات والجماعات الإسلامية من ضرورة تطبيق الشرع والالتزام بأحكام الدين، وأن يحكم ذلك جميع جوانب الحياة من سياسة وحكم واقتصاد واجتماع، لكننا قد نختلف مع بعضهم في الوسائل، ونفترق وإياهم حول الأسلوب، ونستنكر منهم بعض المواقف؛ غير أن ذلك لا ينبغي بأية حال أن يمتد إلى الغاية المشتركة، أو يمس الأهداف التي ليست موضع خلاف، أو يحملنا على نعتهم بأوصاف تطعن في الملة أو تسميتهم بمصطلحات غربية، قصد بها أصحابها تحقير الالتزام بالدين.
ثم يقول: وليس من شك أن قارئ جريدة الشرق الأوسط يشعر كأن الجريدة مجندة لشن حرب إعلامية بالغة القسوة ضد هذه الجماعات والحركات الإسلامية، فتتلمس لها العيوب وتكشف العورات وتضخم الأخطاء، كأنما هي تنظر إلى كل هؤلاء الناس بمنظار قاتم شديد السواد، لا تتوقع منهم خيرا ً ولا ترى فيهم رشداً؛ بل إن من يقرأ تقارير عدد من محرري جريدة الشرق الأوسط يخيل إليه أن هذه الجماعات -أي: بها الجماعات الإسلامية في تونس والجزائر ومصر- لا تضم إلا شراذم من الأبالسة والمخربين والقتلة، وأن دعاواهم وبرامجهم تهدم استقرار المشرق والمغرب، وتمزق الأمة وتعود بها القهقرى لعدة قرون، وتستعدي عليها الأمم، وتغرق المجتمعات العربية في الظلام.
وفي هذه الحملات هناك -دون شك- قدر كبير من المبالغة والغلو يفتقد معها القارئ الحيدة والموضوعية، وتتجاوز في كثيرٍ من الأحيان حتى أصول المهنة، وتعبر في الأغلب الأعم عن تحامل وتشفٍ وجنوح للإثارة والتحريض، ويقول: بالنسبة لبعض الكتاب والمراسلين، فمن الواضح أنهم علمانيو النزعة والتوجه؛ ويكتبون من واقع كراهيتهم لتطبيق أحكام الشرع، ولا يودون -على الإطلاق- أن تحرم الخمور أو تغلق علب الليل، وملاهي الرقص، ولا أن يذكرهم أحد بضرورة أداء ما افترضه الله عليهم من صلاة أو زكاة، فهم منطقيون مع أنفسهم ومع ما يكتبون، لكن ماذا عن جريدة الشرق الأوسط نفسها؟! كيف يمكن أن تقع في هذا الفخ وأن تسقط في هذا النهج، وأن تتحمل كمؤسسة إعلامية أوزار وسخائم نفوس هؤلاء العلمانيين؟! فهذا كلام جميل وكبير، وهو ما في نفوسنا ونفوس الكثيرين مما يصل إليهم من بعض ما ينشر في هذه الجريدة وأخوات لها كثيرات، والسؤال -الآن- موجه إلى القائمين على هذه الجرائد وهذه المجلات، وهم من أبناء هذه البلاد، ويظن بهم كثير من الناس خيراً؛ أن يجيبوا على هذا السؤال الذي يدور في نفوس الكثيرين، وعسى أن تكون الإجابة رجوعاً عن مثل هذا المنهج الذي أفقد أكثر القراء الثقة بهذه المجلات التي تصدرها الشركة السعودية للإنتاج والتوزيع.(220/16)
تغيير في مناهج التعليم
النقطة السادسة في هذا المجلس: التغيير في مناهج التعليم.
المنطقة كلها تشهد تغييراً وتطويراً -كما يسمى- في مناهج التعليم على كافة المستويات بدءاً من الابتدائي وانتهاءً إلى المرحلة الجامعية وما بعدها.(220/17)
خطر التغيير في مناهج التعليم
فنحن نطالب بالتغيير دائماً وأبداً في كل المجالات لكن التغيير نحو الأصلح؛ لذلك هناك اتجاه كبير إلى تقليص المواد الشرعية في كافة المستويات، وفي بلادٍ كثيرة، وهناك -أيضاً- اتجاه إلى تسطيح هذه المعلومات الشرعية بحيث لا تكون معلومات عميقة ولا مؤثرة، وهناك اتجاه بالمقابل إلى تكثيف المواد العلمية واللغات الأجنبية وغيرها، وقد سمعت تقريراً في إحدى الإذاعات قبل أيام يتكلم فيه عن رئيس دولة مغربية، وأنه يتكلم عن التعليم، وربما أشار إلى فكرة نقل التعليم، من التعليم باللغة العربية إلى التعليم باللغة الفرنسية، وكأن اللغة العربية كانت جناية حينما عُرِّب التعليم هناك، فهناك حماس للرجوع إلى عهد الاستعمار؛ ولذلك يفكرون بإعادة التعليم أو بعض قنواته -على الأقل- إلى اللغة الفرنسية.
وهذا خطر كبير دعاني إلى أن أقرأ عليكم جزءاً من مقال نشر في إحدى الصحف عن اللغات وخطرها، فيقول المقال الذي يتكلم عن تضحية الشعب الجزائري المسلم، من أجل فك الارتباط اللغوي والثقافي والفكري والاجتماعي والاقتصادي بالاستعمار الفرنسي: "وبعد خروج فرنسا قام الشعب باستبدال اللغة والثقافة العربية والإسلامية باللغة والثقافة الفرنسية؛ إيماناً منهم بضرورة ذلك، وأن الاعتزاز باللغة والدين والثقافة والقيم الاجتماعية والأخلاقية لدى شعوب العالم أمر لا يحتمل المساومة، وأنه ضروري من أجل تلاحم الشعب بجميع فئاته وقبائله وزيادة ترابطه وتماسكه.
ففي ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، ومعظم الدول الأوروبية، لا تجد فرداً من عامة الشعب يتكلم بغير لغته القومية، ويتنافسون فيما بينهم في نشر لغتهم وثقافتهم بين شعوب العالم الثالث؛ لأن التبعية الثقافية تعود عليهم بالفائدة الاقتصادية في صور أسواق مفتوحة، ومواد (خام) رخيصة، ومشاريع عمرانية وصناعية وزراعية؛ يجنون من ورائها المليارات من الدولارات، لكن الأمم المعتزة بتاريخها وحضارتها تأبى هذه التبعية الذليلة، وأوضح مثال أمامنا هي تجربة اليابان التي رفضت وبإصرار السماح للغات الأخرى بغزو بلادها، فلا تجد يابانياً واحداً سواء أكان إنساناً عادياً أم عالماً متخصصاً، يتكلم بغير اليابانية داخل اليابان، فانتزعوا إعجاب العالم بهم، على شدة حرصهم في المحافظة على لغتهم الخاصة وخصوصيات مجتمعهم.
وهناك أمم أخرى على وجه البسيطة تساهلت في هذا الأمر، وأهملت لغتها الرسمية وخصوصيات شعبها وفتحت الأبواب على مصراعيها للغزو الفكري والثقافي، وكانت النتيجة الصراع بين أبناء الشعب الواحد، فاللغة العربية ليست أقل شأناً من اللغة اليابانية والعبرية واللغات الأخرى، فلماذا نبتدع أمراً لم تقره دولة من الدول؟! وإن بعض الدول العربية ابتليت بعمق التبعية الغربية فألغت تدريس اللغة الوافدة في المرحلة الابتدائية؛ لإحساسها العميق بأن التبعية الغربية لها خطورتها القصوى في مستقبل البلد، إن عقول أطفالنا ومشاعرهم في هذه المرحلة وشبابنا بحاجة إلى تشكيل وتأسيس على مبادئ العقيدة والدين وقيم الأخلاق، والاعتزاز بالحضارة والتاريخ الإسلامي، فكيف يطمئن الإنسان إلى أن فلذات الأكباد في أيدٍ أمينة تحقق المطلوب، ويرى ويسمع أن الذين سيقومون بتدريس اللغة -مثلاً- هم من غير العرب أو من غير المسلمين أحياناً".
فأقول: إن هذا التغيير في العالم العربي لمناهج التعليم هو تغيير عامٌ شامل، وإن هذا البلد نال حظه من هذا التغيير المستمر ولازالت هناك خطوات في مجال التغيير، وهذه المناهج ليس المسئول عنها هو المدرس فحسب، وليست المسئولة عنها الوزارة فحسب؛ بل هي مسئوليتنا جميعاً، فالمدرس مسئول لأنه يدرس هذه المواد، والطالب مسئول لأنه يتلقاها، والأب مسئول لأنه ولي أمر ابن يدرس في إحدى المدارس أو ابنة تدرس في إحدى المدارس، والقائمون على المناهج -القائمون على التطوير التربوي وعلى تغيير المناهج- هم -أيضاً- مسئولون عن ذلك، والمجتمع كله مسئول، والعلماء والدعاة مسئولون.
ولهذا ينبغي أن تتوحد كل هذه الجهات في معرفة نوع التغيير، ومن ثم الشكر إذا كان التغيير نحو الأفضل، فإذا وجدنا -مثلاً- عناية بالمواد الشرعية وإسناد هذه المواد إلى العلماء المختصين، وتكثيفاً لها وإبرازاً لأهميتها، فلا يسعنا إلا أن نتوجه بالشكر إلى من قاموا بمثل هذا العمل والثناء عليهم ونقول لهم: إن هذا ما كنا نتمناه، وبالمقابل حين نجد -مثلاً- تقليصاً للمادة الشرعية أو تغييراً أو حذفاً لبعض المواد والنقاط المهمة ينبغي أن نكون فطنين، وأن يكون هناك مقارنة دائمة بين المناهج السابقة والحالية؛ ليعرف لماذا حذف هذا الأمر؟! وما الذي حذف؟! وما الذي أضيف؟! وبالتالي يكون هناك جسور مفتوحة للتواصل بين هذا المجتمع الذي يتعلم؛ وبين من يقومون بالتعليم، أو يقومون برسم المناهج لهذا المجتمع.(220/18)
أسباب التغيير في مناهج التعليم
وهذا التغيير الذي تشهده، له أسباب لعل أولها: التطبيع ومحاولة تحسين العلاقات مع من يسمونهم بأبناء العم من اليهود، فلابد أن يحذف من المناهج كل ما يسيء إليهم أو يزعجهم أو يعتبر نوعاً من التحريض عليهم واستمرار العداوة وتربية النشء على بغضهم وكراهيتهم، وهناك كتب كثيرة تتكلم عن المناهج في مصر وكيف غيرت بعد التطبيع؛ وهي مطبوعة وموجودة في بعض المكتبات وتباع، وفيها مقارنة دقيقة بين الكتب التي تدرس قبل التطبيع وقبل السلام، والكتب التي أصبحت تدرس بعد ذلك.
والسبب الثاني في تغيير المناهج هو: المد الأصولي، فإن كثيرين يرون أن هذا المد الأصولي -ويقصدون به الاتجاه إلى الخير، وكثرة الأخيار، والمترددين على المساجد، وأصحاب اللحى، وقراء القرآن- أن هذا يرجع إلى مناهج التعليم التي تغذي فيهم العاطفة الدينية؛ لهذا يتجه كثيرون في العالم العربي من القائمين على التعليم إلى محاولة تقليص النزعة -كما يسمونها- الدينية، التي تؤثر في نفوس الشباب.
وهناك سبب ثالث وهو: أن الكثيرين أصبحوا يشعرون بضرورة التفاهم أكثر مع الحضارة الغربية؛ خاصة في ظل ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، فلابد أن يكون هناك نوع من الانصهار -عندهم- في المعطيات التي جاءت بها الحضارة الغربية.
ونحن من جانبنا نعلم أن المسلم ليس لديه أي مانع أن يستفيد من كل الكشوف العلمية، وكل المعطيات الإيجابية الموجودة عند أية أمة من الأمم، فإن ديننا لا يقف -أبداً- ضد العلم الصحيح والخبرة وضد الصناعة، بل ديننا يدعو إلى ذلك، وكان من المفروض أن المسلمين هم زعماء العالم، حتى في العلم النظري التجريبي الذي يحتاجه الناس في دنياهم، ولكننا -أيضا- نعلم أن كثيراً مما جاءت به الحضارة الغربية شرٌ يجب الحذر منه، خاصة في مجال العلوم الإنسانية، كعلم النفس والتربية والاجتماع والنظريات التي تدرس في هذا المجال؛ فضلاً عن الجهود التي تسعى إلى تغيير الأخلاق، وإتاحة المجال للحريات ليفعل كل إنسان ما يشاء؛ إذ أن الغرب لا يؤمن أصلاً أن هناك ديناً يجب أن يخضع له الناس؛ بل يؤمن بأن الدين هو الحرية الشخصية، وأن الإنسان يفعل ما يشاء، أما نحن المسلمين فلنا دين يقول ربنا عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] .
فديننا يحكمنا في الدقيق والجليل من أمورنا، ويرسم لنا ما يجب أن نفعله حتى في أخص خصائص حياتنا، فهو يتحكم في أموالنا وفي طريقة الزواج عندنا، وفي التجارة والفن، والإعلام، وفي كل شيء، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين لنا علماً في كل ما نحتاجه، وما ترك شيئاً إلا بيِّنه لنا، ولا خيراً إلا أمرنا به ولا شراً إلا حذرنا منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: {ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان حقاً عليه أن يأمر أمته بخير ما يعلمه لهم، وينهاها عن شر ما يعلمه لهم} وهكذا كان صلى الله عليه وسلم.
إذاً هناك سبب ثالث في تغيير مناهج التعليم، وهو: أن هناك من ينادون بضرورة انصهار المجتمع الإسلامي في النظام الدولي الجديد، وأن يكون هناك قاسم مشترك -مثلاً- بين المناهج التي تدرس في أي بلد إسلامي، والمناهج التي تدرس -مثلاً- في اليابان، أو فرنسا، أو بريطانيا، أو أمريكا، أو غيرها.
وهناك سبب رابع أذكره من باب الموضوعية واستكمال البحث، وهو: أن هناك أسباباً منطقية للتغيير، فنحن نقول: ينبغي التصحيح والتحسين دائماً وأبداً، فالنظر في المناهج التعليمية ينبغي أن يكون هماً، لكن على أساس أن تكون أكثر ملاءمةً للهدف التربوي، وأن تكون أكثر انطباقاً مع المقصد الشرعي، وأن تكون أكثر التزاماً بالأهداف العامة التي يقوم المجتمع هنا وهناك على أساسها.(220/19)
التنصير
النقطة السابعة: الكيد الضعيف والمكر الكُبَّار: وصف الله تعالى كيد الشيطان بقوله: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] ومع ذلك قال تعالى في سورة نوح: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} [نوح:22] فهو مكر شديد: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] ومع ذلك فهو ضعيف إذا واجه المؤمنين؛ لهذا قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] فإذا قاتلتموهم وقاومتموهم كان ضعيفاً، لكن إذا تخليتم فإنه ينتشر انتشار النار في الهشيم، فكيد الكافر ضعيف أمام قوة الحق.
وأنا أضرب لكم مثالين من جهود المنصرين في هذا المجال، أحدهما ينم عن الكيد الضعيف، والآخر ينم عن المكر الكبار، فنشر الصليبية النصرانية -الآن- يتم في جهود كبيرة، وموضوع التنصير سوف أخصص له جلسة، وبالمناسبة أدعو كل من يملك معلومات دقيقة وجديدة عن التنصير في أوساط المسلمين، أو في أي بلد أن يوافيني بها.(220/20)
الكيد الضعيف
النصارى يحاولون نشر الصليب فتجد الصليب -مثلاً- مرسوماً على ورقة أو كتاب أو ثوب أو على بطاقة أو سيارة أو على أية بضاعة تصدر أو تخرج من عندهم، أو أحياناً عبارات صليبية مثل: (صلوا من أجل يسوع) أو تكون مرسومة على بعض الملابس الداخلية والثياب، وبعض السيارات، والكتب، والبطاقات وغيرها.
وبالمقابل تجد عندهم امتهاناً للألفاظ الإسلامية الشرعية كلفظ الجلالة (الله) أو لفظ محمد صلى الله عليه وسلم، أو لفظ الإسلام أو حتى المسلمين، وهذا ليس غريباً منهم، فهم من قبل قالوا كما أخبر الله عز وجل عنهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] وقال اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] فهؤلاء الذين انسلخوا من أهل الكتاب عن الاتباع للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عندهم تعظيم لله عز وجل ولا توقير؛ لهذا لا تجد غرابة أنهم يضعون اسم الله تعالى -أحياناً- على بعض إطارات السيارات -مثلاً- أو على بعض ما يسمى بالنسافات -فقد جاءني عدد من الشباب بمثل هذه الأمور، وهذا في الواقع ينم عن يقظة جيدة، وكوننا منتبهين ويقظين- أو على بعض الأحذية -أحياناً- أو على بعض الملابس الداخلية للرجال أو للنساء؛ بل وجدت آيات قرآنية كتبت على بعض الملابس.
وكوننا يقظين ومنتبهين لذلك هذا أمرٌ يرشد وينبئ عن خيرٍ كثير، وأن هذه الأمة -إن شاء الله- لا يمكن أن تمر عليها مؤامرتهم وخططهم، فهذا أمر جيد، لكنني أقول لبعض الإخوة: ينبغي أن يكون هذا في حدود الاعتدال، فبعض الإخوة يتكلف النظر أحياناً، فيصنع من لا شيء شيئاً، ويفتعل من الكلمة التي قد تعني لفظاً معيناً أو قد تعني صليبا أو غير ذلك، فيحصل من جراء ذلك مشقة كبيرة.
وهناك أمر آخر وهو: أنه ينبغي أن يكون اهتمامنا بهذا بنسبة (10%) من جهدنا، لكن بنسبة (90%) من جهدنا ينبغي أن نصرفه إلى اهتمامنا بمقاومة تخريبهم لعقائدنا، وإفسادهم لأخلاقنا، وجهودهم في صرف شبابنا عن دينهم إلى غير دين الإسلام، أو إلى -على أقل تقدير- عدم الحماس لهذا الدين وعدم الغيرة عليه، فهذا هو الأمر الأكبر والأخطر الذي يجب أن تصرف إليه جهودٌ أكثر.(220/21)
المكر الكبّّّّار
أما فيما يتعلق بالمكر الكُبَّار، فقد حدثني أحد الإخوة وقد جاء من بعض مخيمات اللاجئين، فيقول: جهود النصارى كبيرة عند اللاجئين، ويقول: لا يجد الواحد منهم لقمة العيش له ولأطفاله، وربما يجد صعوبة في الحصول على الماء ويقول: وجدنا عندهم أشرطة مسجلة تدعو إلى النصرانية بكل اللغات، قلت له: سبحان الله! وكيف يسمعون هذه الأشرطة؟! هل عندهم كهرباء في المخيمات؟! هل عندهم بطاريات أو أجهزة تسجيل؟! قال: يأتي هذا النصراني كالشيطان ومعه جهاز تسجيل من أغرب ما يكون، وهذا الجهاز مصمم خصيصاً للمخيمات يشتغل على الكهرباء في المكان الذي توجد فيه الكهرباء، ويشتغل على البطاريات في المكان الذي توجد فيه البطاريات، لكن إذا لم يوجد كهرباء ولا بطاريات فإنه يشتغل عن طريق التحريك باليد وهو ما يسمي بـ (الهندل) فيضع الشريط على جهاز التسجيل، ثم يحركه بيده فيشتغل هذا الجهاز، ويستمع هذا الإنسان إلى دعوات للتنصير بكافة اللغات.
وقبل أيام عرفتم أن بابا النصارى خطب خطبة في ملايين من النصارى في مقره، وأذيعت في وسائل الإعلام العالمية كلها، وخطب فيها بكل اللغات بما في ذلك اللغة العربية، وتكلم عن تفاؤله بأن العرب أصبحوا يتقبلون الديانة النصرانية، وأصبحت تنتشر بقوة أكثر من ذي قبل، وهذا ينذر بالخطر الشديد.(220/22)
رسائل عبر البريد والفاكس
النقطة الثامنة: رسائل وصل إلي من الإخوة رسائل كثيرة جداً، خاصة بعد درس (من هنا وهناك) عبر البريد والفاكس، وأقول لجميع الإخوة: رسائلكم وصلت وجزاكم الله خيراً، وقد قرأت جميع هذه الرسائل، وإن كنت لم أجد وقتاً للرد على الكثير منها -أيضاً- وقد أقرأ الرسالة وأنا أشعر أنه يجب عليَّ كتابة الجواب حالاً، وأن الأمر لا يتطلب أي تأخير، وأن التأخير قد يضر بالمصلحة، لكن يأتيني غيرها فينسيني الرسالة الأولى، وهكذا، فإذا كثرت وجد الإنسان نفسه أمام صعوبة تتطلب بعض الوقت، وجهاز الفاكس -الذي ذكرته لكم- قد سهل المهمة للإخوة ليتصلوا أو يراسلوا، ولكنه صعب المهمة عليَّ أنا من جانبٍ آخر؛ خاصة أن فترة رمضان -كما تعلمون- فترة سفر لم يتسن لي فيها الاطلاع في وقتها -على كثير مما أرسل- لكني أعد الإخوة جميعاً أنني لن أهمل شيئاً من ذلك إنما أعطوني بعض الوقت.
وأحد الشباب أرسل إلي كما يعبر هو: أربع مخطوطات -أي أربع رسائل- عبر الفاكس، وفيها أمور طيبة ومن ضمن ما في هذه الرسائل أنه يطلب مني أن أحضر إلى بلده، ويقول: إنه رآني في المنام وقد زرت ذلك البلد، وعلى سبيل الطرفة والنكتة أقول لذلك الأخ: يذكرون في كتب التاريخ أن أحد الشعراء دخل على الخليفة في بعض مدن العراق وسلم عليه، ثم قال: إني حلفت لئن لقيتك سالماً بقرى العراق وأنت ذو وفر لتصلين على النبي محمد ولتملأن دراهماً حجري فقال له الخليفة: أما الصلاة على النبي فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأما الدراهم فليست عندي، واعتذر منه، فقال: لا تفرق بينهما لا فرق الله بينك وبين محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقال له الخليفة: أمهلني حتى أرجع، واستدان مالاً وأعطاه إياه.
أما الثانية: فيقال: أن رجلاً جاء إلى أحد الناس وقال له: إني رأيتك في المنام، وأنت جالس مع فلان -وذكر له شخصاً يحبه ويتمنى لقاءه- وأنني جئتك فأعطيتني كذا وكذا من الدراهم، فقال له هذا الرجل: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44] .
وأقول للأخ: لا أقول كما قال هذان، ولكني أقول -إن شاء الله- هناك ترتيب لزيارة عدد من المدن والمناطق، ولكن هناك طلبات كثيرة، وكل شيء يأتي إن شاء الله في وقته.
أيضاً هناك أسئلة فقهية كثيرة، وجاءت مشكلات اجتماعية، ومشاركات جميلة من بعض الإخوة نتجاوزها، وموضوعات مقترحة لهذه الدروس، وأشكر الإخوة الذين أرسلوا أكثر من أربعة أو خمسة موضوعات مفيدة ومبرمجة.
وهناك اقتراحات أيضاً منها: أن بعضهم اقترحوا مشاركة بعض الشباب لمدة خمس دقائق في هذا الدرس تدريباً لهم، وهذا موضوع قيد الدراسة، وبعضهم اقترحوا توزيع أشرطة على كبار القوم من الوزراء والكبراء والأعيان والتجار، وكبار الناس وأصحاب الهيئات، وأن تُختار أشرطة وترسل إليهم بطريقة أو بأخرى، وأقول: هذا اقتراح جيد؛ خاصة أنه بلغني أن بعض خصوم الدعوة في هذا البلد إذا وجد شريطاً فيه شيء فإنه يبعث به إلى عدد من الناس ليسهل له مهمة الاطلاع عليه! فلماذا لا يكون هناك اجتهاد في محاولة إيصال بعض الأشرطة المفيدة النافعة إلى كبار القوم؟! وهناك كثير من الإخوة أبدوا استعدادهم للمشاركة؛ انطلاقاً من قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] فجزاهم الله خيراً وشكر الله مسعاهم، ونسأل الله تعالى أن يبارك لهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأعمارهم إنه على كل شيء قدير.(220/23)
أسئلة وتساؤلات
النقطة التاسعة: أسئلة وتساؤلات: أرسل لي بعض الإخوة سؤالاً وجواباً منسوباً إليَّ فيه فتوى بتحريم العمل في بنك الراجحي وممهوراً باسمي وتوقيعي، ثم أرسل لي فتوى أخرى باسمي وتوقيعي بأن ذلك جائز ولا شيء فيه، وأنه لا بأس بذلك -إن شاء الله تعالى- واستخدم بعض العبارات الفقهية، ذكرتني بقصة ذكرتها لي بعض قريباتي أن امرأة اتصلت ببعض الشيوخ وغلطت في الرقم، فوجدت بيتاً آخر فسألته عن حكم اقتناء التليفزيون، وكان هذا الرجل ليس هو الشيخ لكنها أخطأت في الرقم فقال لها هذا الرجل وقد تقمص شخصية الشيخ: إن كان التليفزيون ملوناً فلا بأس بذلك، وإن كان أسود فإنه لا يجوز، وهذا من التقول على الله تعالى -ولو كان مزاحاً-: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] وأقول: إنه مما يؤسفني أن يبلغ الجرأة ببعض الناس إلى هذا الحد، أن ينسب إليّ فتوى ويكتب اسمي ويوقع عني عن عمل واحد وبين الفتوى ساعات، الأولى تقول: إنه لا يجوز العمل، والثانية تقول: إنه جائز ولا بأس به، وهذه الفتوى منسوبة إلى إحدى المؤسسات الصحفية في المنطقة الشرقية، وقد بعثت إليها برسالة أطلب منها الإجابة عن ذلك فلم تجبني، فالآن أنا أقول: إن هذا الكلام مكذوب، وليس له أي أساس من الصحة، وإن هو إلا اختلاق، وإني في انتظار أن يأتي الجواب من هؤلاء الإخوة وإلا أكون مضطراً إلى أن أبوح باسمهم.
ومن الأسئلة التي وصلت إلي -أيضاً- بالفاكس سؤال من الأستاذ الفاضل الداعية عبد الرحمن بن محمود السميط الأمين العام للجنة مسلمي إفريقيا، وله وللجنته جهود مذكورة مشكورة في الكويت جزاهم الله خيراً، والسؤال قديم في رمضان، لكن لا بأس من الإجابة عليه الآن، يقول: إنهم جمعوا أموالاً لوجبات لإفطار صائم في رمضان، ولم يتمكنوا من إرسال جميع هذه الوجبات في هذا العام، فما هو الحل في شأنها؟ فأقول: الحل في شأنها هو أن تصرف هذه الوجبات في الأعوام القادمة في البلاد الإسلامية التي وجهت لها.
والإخوة يسألون عن المحاضرات التي كان مقرراً أن تقام في الرياض الأسبوع الماضي، فقد كان مقرراً أن يقام لي في الرياض ثلاث محاضرات، الأولى كانت بعنوان: (مواقف من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية) والثانية كانت بعنوان: (لماذا نخاف من النقد) والثالثة كانت بعنوان: (معالم تربوية من السنة النبوية) والواقع أن هذه المحاضرات لم تلغ؛ ولكنها أجلت بسبب بعض الظروف والملابسات والمناسبات، وسوف تقام -إن شاء الله- في وقت لاحق بإذنه تعالى.(220/24)
أين الغيورون؟!
أخيراً (أين الغيورون؟!) أشير إلىبعض المنكرات التي وصلت إلي، والتي يجب أن يكون هناك موقف واضح يشأنها.(220/25)
انتشار أقراص البث المباشر
فمن المنكرات المشاهدة انتشار هذه الأطباق التي تستقبل البث المباشر في أكثر من بلد، أو أكثر من مدينة في هذا البلد، فقد رأيناها بأعيننا في الرياض وجدة ومواقع أخرى، وبعضها يستقبل عشرات المحطات الفضائية؛ بل أعلن عنها في جريدة الرياض بعنوان (العالم بين يديك) ويشير ذلك الإعلان في تلك الجريدة إلى أن هناك طبقاً قيمته ثلاثة آلاف وأربعمائة دولار يستقبل جميع المحطات الفضائية العالمية، ونحن نعلم أن هذه المحطات فيها شر، وفيها محطات تعرض الفساد والدعارة، والتنصير والإلحاد والكفر؛ إضافة إلى أنها محطات تخرب حتى البنيان الأمني لهذا البلد، فهي قد يتعلم منها الكثيرون أساليب غير مناسبة، وقد يطلع الكثيرون منها على أمور وتقارير وأخبار صحيحة أو مزورة، إلى غير ذلك من الأضرار الأمنية والسياسية، وقبل ذلك وبعده الأضرار الدينية، التي تتطلب أن يتنادى الغيورون إلى مقاومة مثل هذه الأطباق، والمطالبة بمنعها وعدم الإذن بوجودها، ولا بيعها ولا الإعلان عنها في الصحف ولا غير ذلك، وهذا خطر إذا لم نتداركه فإنه ينذر بشر كثير: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] .(220/26)
النقاب في كليات الكويت
المنكر الثاني وقد وصل إلي من بعض الإخوة في الكويت عن طريق الهيئة الشرعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخلاصته بعنوان: أفيقوا يا أهل الكويت! اليوم النقاب وغدا الحجاب!! وتعلمون أنه بالأمس أثيرت قضية ضد الطالبات اللاتي دخلن كلية الطب متحجبات، وقد انتهت هذه القضية سابقاً بحل وسط في هذا الموضوع، ولكن الناس فوجئوا أنه صدر قرار من العمادة بمنع أولئك الطالبات من دخول الامتحانات! وإحالة هؤلاء الطالبات للتحقيق!
و
السؤال
ما هو الجرم الذي ارتكبنه واستوجبن عليه مثل هذا العقاب؟! أكان ذلك لتلاعبهن -مثلاً- بالمال العام؟! أم كان ذلك لتعاطيهن الرشوة؟! أم كان ذلك بسبب التبرج الفاضح، والملابس المثيرة، والإخلال بأخلاقيات هذا البلد؟! أقول: كلا.
بل لأنهن فتيات مؤمنات ملتزمات أبين إلا التمسك بالدين، وحفظ الكرامة والالتزام بالحجاب.
أقول أيها الإخوة: لا يجوز أبداً أن تتم هذه الأمور في بلد مجاور، ونحن نسمع ذلك، ثم نعتبر أن هذه القضية لا تعنينا، فمثلما نغضب لإخواننا في يوغسلافيا أو أفغانستان أو الجزائر، أو أينما كانوا ينبغي أن نعلم أن هذا التضييق الذي حصل لبعض الفتيات في هذا البلد، أنه نكبة علينا نحن وعلى إخواننا وبناتنا، وينبغي أن نقوم بالواجب في إيقاف هذا الأمر عند حده، وأقل ما تملك أنك تتصل ولو بالهاتف على المسئولين هناك، وعلى المسئولين في الصحف، وفي الجامعة، وفي كلية الطب أو ترسل البرقيات، أو تخاطب بعض المسئولين هنا، وبعض العلماء هنا بضرورة إيقاف مثل هذه المهازل التي يطول منها العجب!! فنحن نعلم -الآن- أن بعض الصحفيين في الكويت ينادي بالسفور وبالتبرج، وينادي بالاختلاط، بل ينادي بمحاولة فرض أخلاقيات الغرب الفاسدة الديوثية على المجتمعات الإسلامية، وينادي بذلك علانية، ونجد في بعض الصحف أشياء سبق أن ذكرنا شيئاً منها، ومع ذلك لم نجد هناك مواقف واضحة من هؤلاء! فلماذا تتجه جهة رسمية حكومية إلى مضايقة بعض المتدينات بمثل هذه الصورة؟!! هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا المجلس مجلساً طيباً مباركاً، وأن يغفر لنا ولكم أجمعين، ويوفقنا لما يحب ويرضى إنه على كل شئ قدير.(220/27)
الأسئلة(220/28)
مشاركة جماعة التوحيد في حكومة أفغانستان
السؤال
جماعة التوحيد والجهاد أو جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة في أفغانستان ما هي آخر أخبارها، هل ستشارك في حكم أفغانستان أم أنها لن تشارك؟
الجواب
جماعة التوحيد -كما تعلمون- بعد وفاة الشيخ جميل الرحمن -رحمه الله- قام على رئاستها الشيخ سميع الله وهو أحد المشايخ الفضلاء، والجماعة هذه -والحمد لله- لها دور كبير في كنر -الولاية التي كانت تقوم عليها- ونشاط طيب هناك، وقد سمعت أن الشيخ سميع الله التقى بقادة المجاهدين، لكن لم يبلغني أي أخبار معتمدة عن مشاركات لهذه الجماعة في الحكومة القائمة، وهذه إحدى الأشياء التي ينبغي أن يطالب بها -أيضاً- بأن يكون لهؤلاء الإخوة نوع من المشاركة في الحكومة القائمة.(220/29)
محاولة اليهود هدم المسجد الأقصى
السؤال
هل يحاول اليهود هدم المسجد الأقصى؟
الجواب
هذا يلفت النظر إلى الفرق بين مسجد الصخرة الذي سوف يرمم عن طريق منظمة اليونسكو، وقد يفهم بعض المسلمين أنه المسجد الأقصى، ومن المعلوم أن اليهود يحاولون جاهدين إيهام المسلمين أن مسجد الصخرة هو المسجد الأقصى، لكي يتسنى لهم بعد عقدٍ من الزمن أن يهدموا المسجد الأقصى بعد أن يكون من يعرفون الفرق بينهما قد ماتوا وانتهوا، ولا يوجد أحد من المسلمين يحرك ساكناً؛ لأن المسجد الأقصى لم يهدم بعد.
ثم هل السلطات اليهودية ستسمح بذلك؟ الجواب: يمكن أن تسمح بهذا ما دام الأمر عن طريق دولي.
اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(220/30)
أحداث أمريكا
السؤال
ما أهمية ما يقع في أمريكا؟ وما مدى تأثيره على هذه الدولة؟
الجواب
أمريكا دولة راسخة ممتدة الجذور، فليس من السهولة بمكان أن تتزعزع، ولكن نقول: إن شاء الله تكون هذه بداية طيبة، وقد فرحنا وسرنا ذلك كثيراً، وجميع المسلمين فرحوا -أيضاً- لأنهم لا يملكون إلا أن يسروا بهذا الأمر الذي أصابهم وأزعجهم، فنقول: لعل الله أن يشغلهم بمثل هذه الأمور عن تدخلاتهم في بلاد المسلمين، فقد أصبحوا يتدخلون في الجليل والحقير من الأمور، ويتصرفون في كل القضايا، ويفرضون أنفسهم بشكل عجيب.
وأقول: سنة الله ماضية عليهم وعلى غيرهم، وحقٌ على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه، ولكن نحن -بصراحة- مستعجلون، ونحن نتمنى أن تنهار أمريكا اليوم قبل غد، وإلا فنحن نعلم يقيناً لا شك فيه من دين الله تعالى أن الله تعالى لها بالمرصاد، وأنها إن لم تنهر وتتفكك بعد سنة، فسوق يحصل هذا بعد سنتين أو ثلاث أو خمس، ولكننا مستعجلون، ونريد شيئاً نراه بأم أعيننا ونسمعه بآذاننا، والغريب أن هناك بعض الغرب يتشفون، والمثل العربي عند العوام يقول: (إذا سقط الجمل كثرت سكاكينه) فالآن كثير من الناس يخطبون ود أمريكا؛ لهذا يسكتون عن أخطائها ويحالفونها، لكن لو ضعفت لظهرت حقائق الأمور، وكثر الذين يتبرمون منها؛ حتى إني قرأت أن أحد رؤساء الغرب وهو رئيس فرنسا يتشفى بأمريكا، وقال: هذا ينم عن اضطراب وضعف في العدالة، واضطراب في البنيان الاجتماعي، وينم عن مجتمع محافظ، بمعنى: أنه أصبح يعلق علي هذا الأمر، وكأنه يشمت بما حصل وما جرى.(220/31)
تعاون المسلمين
السؤال
لم أكره الدنيا كما كرهتها فجر اليوم، عندما سمعت قبض الكفرة على علي عزت في المطار، فأين هو الآن؟ وما وضع قومه؟ أرجو الإيضاح لكي يعلم الكل ما يتعين على المسلمين، خاصة حكوماتهم؟
الجواب
المفروض على المسلمين حكاماً ومحكومين أن يتدخلوا لحماية المسلمين في كل مكان، والمسلمون يسعى في ذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم، لكن الله المستعان! أصبح المسلم على أخيه المسلم في كثير من الأحيان!!(220/32)
التفاؤل حول أخبار أفغانستان
السؤال
يقول: سيخرج الكثيرون من هذه المحاضرة بخيبة أمل حول المجاهدين المسلمين، وأفغانستان عموماً والخلافات والحروب بينهم، فهلَّا ذكرت بشائر أو تفاؤلاً قبل نهاية المحاضرة وأنت تعلم أنه ليس كل ما يعلم يقال؟
الجواب
يا أخي: لماذا نظل صفراً أو (100%) ، أبيض أو أسود؟ هناك شيء اسمه (50%) ، وهناك شيء اسمه (40%) ، وهناك شيء اسمه (60%) ، وهناك شيء أسود، وهناك شيء أبيض، وهناك شيء بينهما لا هذا ولا ذاك.
فأنا أقول: الذي حصل في أفغانستان خير كثير، والجهاد كان خيراً، والانتصارات كبيرة والحمد لله، ولن يستطيع الغرب أن يوجد حكومة تنفذ مطالبهم، وهذا معروف، وقد ذكرت شيئاً من ذلك في المحاضرة التي خصصتها لهذا الموضوع، ولكنني ذكرت اليوم الجديد فقط، وإلا فنحن نعلم أن الغرب لن يرضى لا بـ سياف ولا بـ رباني ولا بـ حكمتيار ولا بـ يونس خالص، ولكنهم موجودون رغم أنوفهم في الحكومة، وقد يكون لبعضهم دورٌ كبير.
حتى الغرب لن يرضى باعتقادي بـ أحمد مسعود، وربما لن يرضى بـ مجددي، أيضا! إنما هو يبحث عمّن يعتقد أنه أهون الشرين عنده، وهو بالنسبة للمسلمين أقل الخير، فنحن نقول: نحن نتمنى أفضل من هذا، وليس الوضع الذي هو الآن في أفغانستان أسوأ وضع، وإنما كان ممكن أن تكون الأوضاع أسوأ بكثير جداً مما حصل الآن، فالآن الوضع جيد بالاحتمالات التي يمكن أن تقوم؛ خاصةً أن الغرب كان يخطط لإقامة حكومة لا علاقة للمجاهدين بها، والآن المجاهدون يهيمنون على معظم الوزارات، والمجالس القائمة لهم فيها دورٌ كبير.
لكن الأمرين اللذين أزعجاني هما: أولاً: تعيين ذلك الرئيس لأفغانستان.
ثانياً: وجود تأثير للمليشيات.
وأعتقد أنه من الممكن مع بذل الجهد والصبر أن تضعف هذه السلبيات، لكن لو نظرنا أن الوضع إيجابي وجيد، وأن كل شيء على ما يرام، ربما لا نقوم بعمل شيء، فالآن نحن نريد من إخواننا وطلبة العلم والمشايخ وغيرهم، أن يقوموا بعمل ما يستطيعون عمله لإخوانهم المجاهدين، ولن يعمل إلا الإنسان الذي يخاف، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
أما لو تصورنا -والحمد لله- أن الجهاد انتصر والحكومة في أفغانستان قامت، وعلينا أن نبحث عن مكان آخر ندعمه، وننظر ما هي أخبار الجهاد فيه، فمعنى ذلك أننا انصرفنا عن أفغانستان في أحلك اللحظات وأهمها وهي لحظة قطف ثمرات الجهاد، وقد يسطو عليها بعض الأعداء، وينادينا إخواننا ونحن مشغولون عنهم ولا ننصرهم، لكن ينبغي أن نهتم بأفغانستان، ونواصل اهتماماتنا ومشاعرنا إلى إخواننا هناك، بأية وسيلة نستطيع أن نوصل بها مشاعرنا.(220/33)
توبات أهل الفن
كلمة (الفن) أصبح لها في هذا العصر مفهوم معين خاص بقضايا الغناء والتمثيل والمسرح وسواها، فلا يصح إطلاقها على معانٍ أخرى -هي في الأصل من الفن- كالأدب والشعر وغيرها، بل لابد من مراعاة المفهوم الشائع عند الناس.
ومعلوم ما التبس بالفن في هذا العصر من فساد عريض، وقد احتوت هذه المادة على أخبار بعض التائبين أو المتراجعين -وحتى من غير المسلمين- بسبب ما يرونه من فساد فيها.
وهذه الأخبار لها آثارها الإيجابية الجيدة سواء على الجمهور العام أو على التأكيد على بعض القضايا والمسائل، ولابد من التعامل مع قصص أولئك التائبين بشيء من الضوابط.(221/1)
أنواع الفنون
الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، الذي هدى الله به قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، وأعيناً عمياً، فجزاه الله عنا وعن البشرية كلها أفضل الجزاء.
إخوتي الكرام: أعتذر إليكم مقدماً أنني قد أذكر أسماء أو أقول كلمات يتحرج المسلم من النطق بها؛ لما يلابسها من مشاعر وملابسات غير حميدة إنما تقتضيها ضرورة الموضوع، وذلك أنكم علمتم أن هذا الموضوع يتحدث عما سمي بتوبات أهل الفن، يعني توبتهم إلى الله عز وجل، وقد يدخل في ذلك التوبة بالمعنى اللغوي: أي خروجهم مما هم فيه، ورجوعهم عنه، ولو لم يكن ذلك بالضرورة بدوافع دينية أو إسلامية.
وقد رأيت أن من المناسب أن أعرض على مسامعكم بعض النماذج السريعة، ثم أنتقل بعدها إلى ذكر معالم وملحوظات مهمة، هي بطبيعة الحال المقصودة من وراء هذا الموضوع؛ فلقد شهد العالم الإسلامي -بل العالم كله- شهد حركات واسعة فيما يتعلق بالفن.
وكلمة الفن يدخل فيها ألوان من النشاطات الإنسانية مثل: الأدب، والشعر، إضافة إلى المسرح، والغناء، وغيرها من الأشياء التي يدركها الناس من خلال هذه الكلمة، وليس حديثي عاماً في كل هذه القضايا، وإنما سأتحدث عن القضايا التي يمقتها الإسلام.(221/2)
فنون لا يحاربها الإسلام لذاتها
فمثلاً فيما يتعلق بالأدب والشعر:- من المعروف أن الأدب والشعر وسيلة محايدة، يمكن أن يستفيد منها المسلم في الدعوة إلى الله عز وجل، ونشر الفضيلة وتربية الناس على مكارم الأخلاق، ولقد كان إلى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم عدد من الشعراء والخطباء الذين كانوا ينافحون عن الإسلام، كـ حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إلى غيرهم ممن أسلموا، أيضاً كـ عبد الله بن الزبعرى الذي كان مشركاً ثم هداه الله عز وجل، فدافع عن الإسلام في شعره، وغيرهم كثير، ومثلهم عدد من الخطباء المشاهير كـ ثابت بن قيس بن شماس، وغيره.
فالمهم أن الأدب والشعر وسيلة محايدة، يمكن أن يستفيد منها المسلم دفاعاً عن الإسلام، وبناءً للفضيلة، ويمكن أيضاً أن يستغلها أعداء الله عز وجل في نشر الرذيلة، والمبادئ الهدامة، والإساءة إلى الإسلام والمسلمين.(221/3)
فنون يحاربها الإسلام لذاتها
وإنما حديثي خاصة عن الفنون التي يحاربها الإسلام ابتداءً، ولا يتصور أن تكون وسيلة لخدمة الإسلام في يوم من الأيام إلا على نطاق ضيق، أو نستطيع أن نقول: إنها على أقل تقدير أصبحت اليوم وسيلة لهدم الإسلام، ومحاربة القيم والأخلاق.
فالغناء -مثلاً- للإسلام منه موقف واضح معروف، وحين نقول: "الغناء" لا يمكن أن يأتي إنسان ويقول: يا أخي هناك غناء مباح، ثم يقول: أنا أقصد الحداء الذي يفعله الأعراب، أو يفعله البناءون أو العمال وغيرهم مثلاً، أو يقول: أنا أقصد النشيد الإسلامي؛ لا، لأننا نتحدث عن الغناء بمفهومه العرفي المستقر في ذهن كل واحد، فأي إنسان أياً كان مستواه حين يسمع كلمة "غناء" يتبادر إلى ذهنه مباشرة الغناء الذي يبث عبر التلفاز، والإذاعات، والأشرطة، وعبر وسائل أخرى، وهو بطبيعة الحال غناء يخاطب الغرائز في الغالب، ويتحدث عن قضايا العلاقة بين الجنسين، وهو مصحوب أيضاً بالموسيقى وغيرها.
ومثل هذه الصورة لا يمكن أن نقول: إنها يوماً من الأيام يمكن أن تكون في خدمة الإسلام؛ لذلك فإن من العبث أن يقول قائل: هناك غناء ديني، فإذا سألته: ما هذا الغناء الديني؟! قال: تلك التواشيح والأزجال والابتهالات التي تذاع في الإذاعات.
فتلك التواشيح والأزجال والابتهالات هي -أولاً- مصحوبة بالموسيقى، وهذا مما لا شك فيه أنه بدعة ومحرم في الوقت نفسه؛ لأن التقرب إلى الله وذكر الله عز وجل عن طريق الطبول والموسيقى هذه صورة بدعية للذكر، على فرض أن هذا ذكر، إضافة إلى أن الموسيقى بذاتها للإسلام منها موقف واضح وصريح، ولذلك فأن الغناء المصحوب بآلة حرام بلا خلاف بين أهل العلم.
وكذلك حين ننتقل إلى أمر آخر، حين ننتقل إلى الفنون المسرحية، وهذه الفنون قد يختلف الناس حول مبدأ التمثيل، وهل الإسلام يجيزه أو لا يجيزه.
طبعاً التمثيل يعد فناً متأخراً، وجد في العصور الحديثة، لذلك ليس للعلماء المتقدمين فيه كلام، وإنما العلماء المتأخرون انقسموا فيه إلى مذاهب وآراء؛ ليس قصدي الآن أن نتحدث عن رأي العلماء في هذا، والراجح والمرجوح، إنما قصدي أنه حين نتحدث أو نقول: التمثيل، أو يقول قائل: السينما -مثلاً- أو المسرح، تنطلق إلى الأذهان -أذهان جميع السامعين- تلك الصور والأعداد الهائلة من التمثيليات، والمسرحيات، والأفلام، والمسلسلات التي لا تخدم الإسلام إلا حين نبدل الخاء هاءً!! فحينئذ يكون الكلام معقولاً، وقل مثل ذلك في عدد من ألوان الفن التي يستخدمها الناس اليوم.(221/4)
خطورة الفن وآثاره
ففي هذا العصر أصبحت هذه القضية -قضية الفن- من القضايا التي تشغل بال الناس، وتسيطر على حياتهم، وتتحكم إلى حد بعيد في التأثير على عقولهم وآرائهم، وتؤثر في تربيتهم تأثيراً بليغاً من خلال وسائل عديدة: من خلال الكتاب، والمجلة، والشريط -كما يسمونه شريط الكاسيت- والفيديو، والتلفاز وغيرها.(221/5)
معرفة الشباب وتعلقهم بالفنانين والفنانات
لذلك فإن الشباب حين تسألهم -مثلاً- عن الشخصيات البارزة في نفوسهم -حتى في البلاد التي مازال فيها قدر من التدين والمحافظة- تجد أن ذهن الشاب يمتلئ بأسماء الفنانين والفنانات، والممثلين والممثلات، وربما يعرف عنهم وعن تفاصيل حياتهم، وقصصهم، وسيرتهم ما لا يعرفه عن الصحابة أو عن التابعين، أو عن علماء عصره الذين يعايشهم أيضاً! وهذا طبيعي إلى حدٍ ما؛ لأن الشعب تلقى هذه الثقافة من خلال الجريدة، والمجلة، والشريط، والإذاعة، والتلفاز، والفيديو؛ فاستقرت هذه الأشياء في ذهنه.(221/6)
تجاهل الإعلام للعلماء والمصلحين والمفكرين والمخترعين
لكن ما هي الوسائل التي تنشئ في نفسية الفتى أو الفتاة رفع قدر العلماء والمصلحين والمفكرين والمخترعين والمبدعين؟ إنها أقل القليل، حتى أولئك الذين قدموا خدمات دنيوية لا تجد أنهم يحظون بالقدر نفسه، بل كثير منهم مغمورون لا يسمع بهم أحد، فقد يقول قائل: إن العلماء والمفكرين والدعاة إلى الله عز وجل قد تركهم كثير من الناس عمداً، تعمدوا محاولة التعتيم على سيرتهم وشخصياتهم؛ لئلا يتأسى بهم الجيل.
وهذا ليس بغريب؛ لأن وسائل الإعلام في كثير من البلاد تسيطر عليها أصابع غير إسلامية، ولليهود دور كبير في السيطرة على الإعلام العالمي من خلال مراكزهم في أمريكا، وأوروبا، وغيرها، وهناك دراسات إحصائية دقيقة عن هذا الموضوع.
فقد يقال: إن وسائل الإعلام العالمية تتعمد تجاهل العلماء، والمصلحين، والمفكرين، والدعاة الإسلاميين؛ لكن ما هو السر وراء تعمد إهمال وإغفال المبدعين، والمخترعين، الذين يقدمون خدمات دنيوية لبني جنسهم؟! قد يكون الأمر نفسه كذلك هو السبب.
فالمهم أنني أقول: إن هذا اللون من النشاط الإنساني المسمى بالفن قد فرض نفسه في حياة الناس وواقعهم، كباراً وصغاراً، شباباً وشيوخاً، رجالاً ونساءً؛ لذلك أحببت أن ألقي الضوء في هذه الكلمة الموجزة على جانب من هذا الموضوع، وهو ما يتعلق بتوبة وأوبة أولئك المشتغلين في هذا المجال، وكما أسلفت لا أعني بتوبتهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل فقط فيسلموا، وهذا هو المعنى الاصطلاحي الشرعي، بل قد أستعين أحياناً بالمعنى اللغوي الذي يعني: الرجوع عن الشيء وتركه.(221/7)
نماذج من قصص التائبين والخارجين من الفن
وسأعرض على مسامعكم الآن بعض القصص والأحداث -على ما فيها- لأولئك الذين خرجوا من هذا الوسط، ومن هذا المجال، ثم أعقب عليها ببعض المعالم والقضايا المهمة، التي أحببت أن أبرزها في أذهانكم.(221/8)
يوسف إسلام
لعل من الأسماء المشهورة عند الجميع اسم ذلك المغني البريطاني، الذي كان اسمه " كات استيفنز " ثم أسلم، وسمي بـ يوسف إسلام، وأذكر أن هذا الرجل قد زار المملكة، وأجرت معه جريدة الجزيرة مقابلة مطولة، وكذلك نشرت عنه مجلة النور الكويتية مقالاً طويلاً مترجماً، أقتطف منه قولها: إن هذا الرجل كان مغنياً، يسمعه الملايين من المعجبين به، واشتهر بأغانيه العاطفية والشعبية، وقد قام بجولات عديدة لإقامة الحفلات الموسيقية في أمريكا وأوروبا والبرازيل وغيرها، وحقق هذا الرجل شهرة عالمية واسعة.
ويصف الرجل موسيقاه التي كان يتعاطاها خلال فترة جاهليته بأنها كانت تعبيراً عن الشعور بالظلام الذي يحس به، ويقول: إنه اختار عنوان "خطوات في الظلام" لآخر عمل له قام به عام 1984م، وقال: إن تلك الأعمال تسجل فترة كان يشعر فيها بأنه يسير في مكان مظلم لا يعرف حقيقته، ويقول: منذ وقت طويل بدأت أبحث عن السعادة والهداية والسلام؛ ولذلك كتب على غلاف التسجيل "إن روحي ظمأى إلى الحقيقة".
وبداية تعرف هذا الرجل بالإسلام كانت عام 1976م، حين عاد أخوه من القدس، فأهداه نسخة من القرآن الكريم، ومنذ ذلك الوقت بدأ يوسف إسلام -لاحقاً- يتردد على مسجد في لندن متنكراً لا يعرفه أحد، ولشدة ما كانت دهشة المسلمين حين عرفوا أن هذا الرجل الغريب الذي يتردد على المسجد هو " كات استيفنز " الذي أصبح فيما بعد يوسف إسلام! ويقول هذا الرجل: إنه ظل فترة -بعد ما تعرف على الإسلام- يمارس بعض الأعمال الفنية والأغاني والموسيقى وغيرها، ثم يقول: بدا لي أن استمراري في هذا العمل لم يكن يؤدي إلى نتيجة، فإنه لابد لي من أحد أمرين: إما أن أتخصص في هذا العمل الذي أجد فيه هوايتي ورغبتي وهو الغناء والموسيقى، وإما أن أتخلى عن هذا العمل لأتفرغ للإسلام والعمل للإسلام.
وبعد ما أعلن هذا الرجل إسلامه اختار الطريق الأخير، وهو أن يترك الفن والغناء إلى غير رجعة بإذن الله، ويتفرغ للدعوة إلى الله عز وجل والتعرف على الإسلام.
وفعلاً سار في هذا الطريق، وزار عدداً من البلاد الإسلامية كالمغرب والسعودية وغيرها، وبعد ما عاد إلى بلده بريطانيا بدأ يمارس نشاطاً إسلامياً قوياً، إذ أسس مدرسة تستقبل أولاد المسلمين، وذلك في مقاطعة في شمال لندن اسمها مقاطعة برنت ويدرس في هذه المقاطعة ما يزيد على مائة وأربعين طفلاً، يتعلمون فيها تعاليم الإسلام، وظل الرجل متجهاً إلى الصلاة والصيام وقراءة القرآن، وشغل وقته في هذه الأعمال المفيدة.
كذلك فكر الرجل في أن يسجل أشرطة أناشيد إسلامية للصغار وغيرهم، تكون بعيدة عن الموسيقى وعن كل ما حرم الله عز وجل.
وهذه القصة التي عاشها وشهدها هذا البطل المسلم يوسف إسلام تكشف عن جوانب مهمة: أن هذا الرجل صرف جهده الذي كان يصرفه في الغناء، إلى الإسلام وإلى الدعوة إلى الله عز وجل وإلى تعليم أولاد المسلمين، وإلى الدعوة إلى الله عز وجل في وطنه، مع أن الرجل بطبيعة الحال لم يكن مسلماً قبل ذلك، وإنما هداه الله عز وجل إلى الإسلام؛ فتخلى عن هذا النشاط الذي أحس بأنه يتناقض مع المبادئ التي آمن بها، ولذلك يقول: إنه شعر أن أمامه أحد طريقين: إما أن يتجه بكليته إلى الإسلام، ويرفض هذا اللون من الفن، وإما أن يستمر في هذا الأمر.
ومعنى ذلك أنه لن يكسب في الجانب الآخر شيئاً، لكن الله عز وجل وفقه لاختيار الطريق الصحيح، طريق الإسلام.
وبعد ذلك أدرك أنه حتى الموسيقى يرفضها الإسلام؛ فصار يفكر في إعداد أناشيد إسلامية للصغار سالمة حتى من هذه الموسيقى.(221/9)
مارلين مونرو
ولعل هذه القصة -وإن كانت قصة رجل مسلم- تذكرنا بقصة تلك المرأة التي كان اسمها " مارلين مونرو "، وكانت ممثلة مشهورة في الولايات المتحدة، بل في العالم.
هذه المرأة بعد ما كسبت الأضواء، والشهرة، وملايين المشاهدين والمشاهدات في أنحاء العالم، وكان الناس يتصورون أنها أسعد امرأة، وجدت منتحرة في غرفتها، وبعد البحث والتفتيش وجدوا في صندوق المحفوظات في أحد البنوك في نيويورك، وجدوا ورقة أو رقعة مكتوبة بخطها، وهي نصيحة تقدمها هذه الممثلة لإحدى الفتيات التي كانت تسألها عن رأيها في أقرب طريق إلى الشهرة، وإلى النجاح في هذا العمل الذي هو التمثيل، وتقول في هذه الرسالة التي كتبتها لتلك الفتاة: احذري من يخدعك بالأضواء! إنني أتعس امرأة في العالم! إنني أتعس امرأة على ظهر هذه الأرض! لم أستطع أن أكون أماً، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة!.
وبطبيعة الحال هذه المرأة التي انتحرت لم تكن امرأة مسلمة كما ذكرت لكم، لكن في انتحارها وهي في أوج مجدها الفني دلالة كبيرة على أن كثيراً من النفوس تتطلع إلى الفرار من هذا الجحيم، الذي يسمى أحياناً بالوسط الفني.(221/10)
مارشيلا
أما الممثلة الإيطالية " مارشيلا " فإن الله عز وجل قد هداها إلى طريق الإسلام، وأعلنت إسلامها، وسمت نفسها فاطمة محمد عبد الله، ولعل في هذا الاسم دلالة على أنها تعد أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم هي المثل الأعلى لها؛ لذلك اختارت اسمها ليكون الاسم الجديد لها.
تقول هذه المرأة: أسلمت من أجل البساطة والسماحة، فمشهد الناس الطيبين يدخلون إلى ساحة المسجد المتواضع، ويصلون في خشوع؛ لقد فعل ذلك في نفسي فعل السحر، وحرك كوامن كانت مترسبةً في أعماقي، إنني أحس أنني كنت مسلمة حتى قبل أن أعلن إسلامي، وتقول: أنتم في بساطة تؤمنون بالله عز وجل، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر اختاره الله تعالى ليبلغ الرسالة إلى الناس، وكما فهمت فإن القرآن ينظم حياة الناس حتى يعيشوا في سعادة وتعاون وإخاء، بعيداً عن المظاهر الكاذبة، ومظاهر التكلف والرياء.
تقول هذه المرأة: أحس كأنني ولدت من جديد، وخرجت من أعماقي تاركة غلافي القديم.
إنها تحس بأن جسدها التي كانت تستخدمه في جذب أنظار المشاهدين أنه كان غلافاً قديماً قد تخلت عنه، ولبست غلافاً جديداً بعد ما شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ثم تقول: اسألوا الذين كانوا يعرفونني: كم كانت دهشتهم كبيرة حين أدركوا مدى السعادة التي كنت أحس بها بعد ما دخلت في الإسلام، ونطقت الشهادتين؟!(221/11)
هالة الصافي
وهناك خبر عجيب ومؤثر، نشرته المجلة العربية عن إحدى المشتغلات في هذا المجال، وهي " هالة الصافي " وهذا الخبر أقرؤه عليكم؛ لما في عباراتها ولحروفها من القوة والتأثير:- تقول في أسلوب مؤثر عبر لقاء صحفي معها: في أحد الأيام كنت أؤدي رقصة في أحد فنادق القاهرة المشهورة، وشعرت وأنا أؤدي هذا العمل بأنني عبارة عن جثة، ودمية تتحرك بلا معنى، ولأول مرة أشعر بالخجل، وأنا شبه عارية أرقص أمام الرجال ووسط الكئوس، فتركت المكان وأسرعت، وأنا أبكي في هيستريا حتى وصلت إلى حجرتي وارتديت ملابسي، وانتابني شعور لم أحسه طيلة حياتي التي بدأتها منذ كان عمري خمس عشرة سنة -تعني حياتها الفنية- فأسرعت لأتوضأ وصليت، وساعتها شعرت لأول مرة بالسعادة والأمان، ومن يومها ارتديت الحجاب رغم كثرة العروض وسخرية بعضهم، وأديت فريضة الحج، ووقفت أبكي لعل الله يغفر لي الأيام السوداء.
وتختم قصتها المؤثرة قائلة: هالة الصافي ماتت، ودفن معها ماضيها، أما أنا فاسمي سهير عابدين، ربة بيت، أعيش مع ابني وزوجي، ترافقني دموع الندم على أيام قضيتها من عمري بعيداً عن خالقي، الذي أعطاني كل شيء ولم أعطه أي شيء، إنني الآن مولودة جديدة، أشعر بالراحة والأمان بعد أن كان القلق والحزن صديقي رغم الثراء، والسهر، واللهو! وتضيف: قضيت كل السنين الماضية صديقة للشيطان، لا أعرف سوى اللهو والرقص، أمتع الناس، كنت أعيش حياة كريهة حقيرة، وكنت دائماً عصبية، الآن أشعر أنني مولودة جديدة، أشعر أنني في يد أمينة تحنو علي وتباركني يد الله سبحانه وتعالى.
وبغض النظر عما في كلماتها من عبارات لا نوافقها عليها، نتحفظ عليها، مثل قولها: الله الذي أعطاني كل شيء، ولم أعطه أي شيء، فالله تعالى ليس بحاجة لنا لنعطيه شيئاً، فالله تبارك وتعالى إنما يريد منا أن نقدم لأنفسنا فحسب.
كذلك قولها: إنها تشعر أنها في يد أمينة تحنو عليها هي يد الله تبارك وتعالى، مع أن مقصودها ظاهر ومعروف، وبغض النظر عن هذه الألفاظ والعبارات فإن في هذه القصة من الدلالة القوية على تأثر هذه المرأة ورجوعها إلى الله تبارك وتعالى ما فيها، ونسأل الله تعالى لها، ولجميع التائبين والتائبات أن يثبتهم على الطريق المستقيم.(221/12)
شمس البارودي
هناك ممثلة أخرى مشهورة، وهي شمس البارودي التي هي الأخرى لفتت أنظار ملايين من المشاهدين في العالم الإسلامي، وكان لها دور كبير في انحرافهم.
هذه المرأة تابت إلى الله عز وجل، وقد أجرت معها إحدى المجلات مقابلة ذكرت فيها قصة توبتها، وكيف أنها كانت في بيت محافظ إلى حد ما، وبعد ما تخرجت من الدراسة الثانوية كانت على مفترق طرق، لكنها اختارت اللحاق بمعهد الفنون؛ بسبب أن معدلها قليل، ثم تركته واتجهت إلى التمثيل.
وتقول: إنها كانت تحس أنها تجر جراً إلى هذا الميدان، وأنها قد مثلت أدواراً كثيرة وهي غير راضية عنها، وبعد ما استنار قلبها أصبحت ترفض هذه الأدوار أول الأمر، وتحافظ على الصلاة، ولا تقوم إلا بأدوار محددة بصحبة زوجها، ثم تطور بها الأمر فاتجهت إلى بيت الله الحرام، وأدت فريضة الحج والعمرة، وبعد ما ذهبت إلى المسجد النبوي تقول: إنها انتابتها في داخل المسجد نوبة بكاء طويلة، استمرت معها لوقت طويل، وكان من حولها يحفون بها ويغبطونها على هذا الوضع الذي يقولون عنه: إن الله تبارك وتعالى قد فتح عليها، وبعد هذه النوبة من البكاء صممت على ارتداء الحجاب على رغم معارضة من حولها، وعدم وجود من يعينها، وعلى ترك هذا الميدان الذي هو ميدان التمثيل تركاً نهائياً.
وهذه المرأة أصبحت تؤدي دوراً طيباً في التأثير على بعض من يفكرن في اللحاق بموكب التائبات، وهذه المرأة تتحدث عن الانفصام الذي كانت تحسه بين شخصيتها الحقيقية وشخصيتها المتكلفة التي كانت تؤديها أمام أعين المشاهدين.
تقول: كنت أحس بانفصام بين شخصيتي الحقيقية وبين الدور الذي أؤديه أمام أعين المشاهدين.(221/13)
جين فوندا
وهناك مثل أخير أضربه، وليس لامرأة مسلمة، لكنه لممثلة أمريكية شهيرة اسمها جين فوندا، وهذه المرأة من أشهر الممثلات اللاتي قمن بأدوار رديئة، وسيئة، ومغرية للمراهقين.
هذه الممثلة أصدرت تصريحاً تطالب فيه بالحد من تيار الفساد والانحلال الخلقي الذي يجتاح الولايات المتحدة الأمريكية، وحذرت من مغبة إباحة نشر الكتب القذرة والأفلام البذيئة، وطالبت بحظر نشر هذه الأشياء، وقالت: إننا إن لم نحظرها فإننا سنشهد انهيار هذه الأمة، أية أمة؟! إنها أمريكا، تقول هذه المرأة: يجب المبادرة في الحال بتعقب وكف أيدي الذين يتاجرون بالفساد الخلقي وتقديمهم للمحاكمة.
إن هذه المرأة تطلق صيحة ليس من منطلق الحفاظ على الأخلاق والقيم الإسلامية لا! بل من منطلق الحفاظ على الأمة الأمريكية، وأن هذا التيار الإباحي الذي ينتشر عبر المجلات وعبر الأفلام يعرض هذه الأمة القوية للخطر؛ ولذلك تطالب بمنع نشر هذه الكتب والأفلام البذيئة والرديئة، ومحاكمة الذين يقومون بها، وبالتالي تطالب بمعاقبة المؤسسات الكبيرة التي تؤثر في المجتمع حتى تكف عن مخاطبة الغرائز، وتتجه نحو البناء الأخلاقي.(221/14)
معالم حول هذه القصص والنماذج
أيها الإخوة: هذه القصص والنماذج توقفنا على عدد من المعالم، يجب ألا تغيب عن البال، وإنني حين أعرض هذه الأمثلة ليس كل ذلك حفاوة بالفنانين والفنانات، فإن هؤلاء إنما هم مسخ من البشر لا يستحقون أي حفاوة بهم، وإن كنا نعلم جميعاً أن التائب إلى الله عز وجل يستحق من المسلمين جميعاً العناية به، لكن تخصيصهم بالعناية ليس له وجه، فليس المقصود هو مجرد العناية بهؤلاء، لكن المقصود أمر وراء ذلك.(221/15)
محاولات إباحة الفن
فالمَعلم الأول -الذي أحب أن ألفت النظر إليه بعد ذكر هذه النماذج العابرة-: هو الإشارة إلى أننا نشهد في العالم الإسلامي اليوم محاولات جادة لإقناع المسلمين بأن الفن ما هو إلا وسيلة للترفيه عن النفس، وقضاء الفراغ والتسلية، وأنه أمر لا يمانع الإسلام منه ما دام في حدود معينة، وبغض النظر عن أعداد كبيرة من الصحفيين وغيرهم ممن يضربون على هذا الوتر، فإننا نجد عدداً ممن ينتسبون إلى دائرة الدعوة الإسلامية، أو العلم الشرعي، أو المؤسسات الدينية، ينساقون وراء هذا الأمر، ويفرح بتصريحاتهم تلك الصحفيون فينشرونها.
وبناءً على ذلك قد يقع التباس عند كثير من الناس؛ فيتصورون أن كون الإنسان -مثلاً- يقوم بأغنية ليست أغنية سيئة -وإن كانت مصحوبة بالموسيقى- أمر لا بأس به، أو كون الرجل (أو حتى المرأة) يمثل دوراً ليس فيه إخلال بالحياء- وإن كان ضمن مسرحية أو تمثيلية رديئة أو سيئة- أنه الآخر أمر مناسب، وأن الإنسان قد يمثل اليوم دوراً في مسرحية وغداً تجده يذهب للحج والعمرة، وقد يكون الآن في صالة للغناء، وبعد قليل تجده يتجه للقبلة ليؤدي الصلاة، واليوم على موعد للتصوير وغداً تجده يقرأ القرآن! فهذا الانفصام الهائل الذي نجده في شخصيات كثيرة من الناس أمر يجب ألا يغيب عن البال، فنحن الآن نسمع من كلمات بعض التائبات أن الواحدة منهن كانت تصلي أحياناً! كانت تصلي حتى وهي تمارس هذه الأدوار!! وتحس بالندم والخطأ على مثل هذا الأمر، فكوننا نتحدث عن أن فلاناً تاب وأن فلانةً تابت يجدد للناس الشعور المستقر في أذهانهم أن الإسلام له موقف صريح من مثل هذه الوسائل والأعمال التي يمارسها الناس، وهذا الموقف الصريح يدركه جمهور الناس حينما تكون فطرتهم سليمة غير معرضة للتشويه ولا للبس الذي يمارسه بعض الناس، سواء أكانوا من المنتسبين إلى الدائرة الإسلامية، أم من غيرهم ممن يتطفلون عليها.
وكثيراً ما نقرأ في الجرائد مقالات ومقابلات وكتابات تتحدث عن أن المتزمتين هم الذين يحرمون الغناء، والتمثيل، والموسيقى، إلى غير ذلك، وهذه الأشياء مهما ضحكنا منها، وسخرنا منها، إلا أنها تفعل فعلها في نفوس الناشئة، وتجعل عدداً من الناس يقعون في مثل ما وقعت فيه هؤلاء الممثلات.
فكونه يعلن أن فلانة تابت وأن فلاناً تاب يقول للناس بالخط العريض: يا ناس انتبهوا! فإن الغناء والتمثيل وهذه الأعمال كل الفطر السليمة تقول: إنها أمر لا يرضاه الله ورسوله، بل حتى غير المسلمين يرفضونها أحياناً؛ لغرض آخر سأذكره بعد قليل.
إذاً لا داعي لأن نخادع أنفسنا، ونقول: هذه أشياء إذا كانت في حدود الفضيلة، وفي حدود، وفي حدود! هل أصبحت الفضيلة ماركة مسجلة نضحك فيها على أنفسنا؟! أي غناء يمكن أن يكون غناء دينياً؟! وأي تمثيل -اليوم- يمكن أن يكون في حدود الفضيلة؟! إن الجميع يعرفون ماذا يعرض على أعين الناس! ومن الغريب أن بعض المشتغلين في هذا المجال -حتى من غير المتدينين- ومن الذين لا يزالون ضحايا لهذه الأمور، يقولون: إن ما يقدم من أعمال جادة لا يعدو ثلاثة في المائة؛ فما بالك بالأعمال المقبولة من الزاوية الإسلامية؟! ربما نستطيع أن نقول: إنها صفر بالمائة أو أقل من ذلك إن كان هناك أقل من ذلك، فهذا المعْلَم لا بد من لفت النظر إليه.
ومما يلفت النظر في المعْلَم نفسه أننا نجد أن أولئك التائبين كانوا يعبرون عن مشاعر مرة كانوا يشعرون بها أثناء ما كانوا يقومون بهذه الأعمال، وقبل قليل كانت إحداهن تقول: إنني أشعر بالتناقض بين شخصيتي الحقيقة وبين الدور الذي أمثله أمام الناس، والأخرى تذكر المرارة التي تحس بها حين كانت تمارس هذا العمل أمام جماهير الرجال، ووسط الكئوس، وكيف أنها كانت تحس بأنها دمية وجثة تتحرك بلا معنى.(221/16)
تقديم صورة جيدة للمغترين بالفن
المعْلَم الثاني الذي أريد أن أبرزه من خلال هذه الأمثلة: هو أن كثيراً من الفتيان والفتيات في العالم الإسلامي ترسخت في أذهانهم صورة واضحة لنجوم هذا الميدان كما أسلفت في بداية الحديث، وصاروا يعدونهم أبطالاً كما يسمون في الصحف والمجلات، ولو سألت كثيراً من هؤلاء عن مثله الأعلى الذي يتمنى أن يصير مثله في يوم من الأيام، لقال لك الفتى: "فلان"! ولقالت لك الفتاة: "فلانة"! وهذا بحمد الله قد يكون أقل في مجتمعنا، لكنه موجود في مجتمعات أخرى بصورة كبيرة، ومثل هذه القصص تلفت نظر هؤلاء الشباب والفتيات إلى أن من واجبهم تجاه أنفسهم أن يختصروا الطريق على أنفسهم، وأن يبدءوا من حيث انتهى هؤلاء، لا من حيث بدءوا.
ونقلت جريدة الجزيرة في عددين لها خبراً صغيراً عن أحد الشباب الصغار الذي كان له صوت واعد كما يقولون، وقد سجل بعض الأشرطة، وحينما اتصلت به الجريدة لتسأله عن آخر المشاريع التي سجلها، فوجئت بأن صوت الشاب مبحوح وضعيف جداً، وأنه بصعوبة يستطيع أن يتحدث معهم؛ نظراً لأنه ألم به مرض أثر في حلقه، وحينما سألوه عن آخر مشاريعه قال: إنه ترك مجال الفن إلى غير رجعة، وذلك بداية من شهر رمضان المبارك الفائت، وأنه سوف يسجل في أقرب مركز لتحفيظ القرآن الكريم في الإجازة الصيفية! لا شك أن هذا الأمر له دلالته، وكما يقال: وربما صحت الأبدان بالعلل، فربما كان ما أصاب هذا الشاب رحمةً من الله تبارك وتعالى.
فالمهم أن وجود مثل هذه القصص تشجع هذا الشاب، وتشجع غيره على اللحاق بموكب المستقيمين المتجهين إلى الله عز وجل قبل أن يتجهوا أصلاً إلى الفن، أو على الأقل قبل أن يتوغلوا فيه؛ فكيف يتجهون إليه وهم يرون بعض ضحاياه يحاولون إنقاذ أنفسهم والخروج من هذا المستنقع الآسن الذي تورطوا فيه؟!.(221/17)
تأكيد مدى الانحراف الأخلاقي في الوسط الفني
المعْلَم الثالث: هو أن هذه القصص تؤكد مدى الانحراف الأخلاقي الذي تعيشه تلك الأوساط الفنية، وما أخبار المخدرات والعلاقات المحرمة التي تفوح من تلك الحانات، وتصل إلى مسامعنا وعيوننا عبر الصحف والمجلات، التي تنشر القليل القليل من أخبارهم ما هي إلا مؤشر فقط على حقيقة الأوضاع السائدة في مثل هذا الوسط المنتن، لذلك نجد أن اعتزال الفن والتحذير منه لم يكن مقصوراً فقط على المسلمين، وإنما حتى بعض الكفار في البلاد الكافرة يعتزلون تلك الأوساط؛ لأنها أوساط سيئة، حتى في نظر الإنسان العادي الذي لم يستنر بنور الإسلام، ولذلك ذكرت لكم نماذج قبل قليل من هؤلاء الذين خرجوا من هذا المستنقع، بل صاروا يحذرون منه، ويطالبون بتعديل الأوضاع المعوجة فيه.(221/18)
التحريض على التوبة
المعْلَم الرابع في هذا الموضوع: هو أن هذا الأمر تحريض للناس على التوبة إلى الله عز وجل، ولذلك أقول: إن الإنسان الذي يستطيع أن يسرق نفسه من الأضواء ومن أعين المشاهدين؛ ليتجه إلى الله عز وجل ويتوب إليه إنسان يمتلك نوعاً من قوة الإرادة، وهو حين يخرج من هذا المأزق ويتجه إلى الله عز وجل يخط بذلك طريقاً لغيره من الناس.
ولذلك أنقل لكم أيضاً خبراً نقلته جريدة الجزيرة في الحادي عشر من رمضان يقول: نقلت الأخبار القادمة من القاهرة أن إحدى الممثلات امتنعت عن العمل طيلة شهر رمضان، وقررت زيارة أحد المشايخ هناك، وكذلك قررت زيارة الممثلة التائبة شمس البارودي، وهناء ثروت، وشادية، وغيرهن؛ لعل الله أن يمن عليها بالتوبة.
وذكرت الجريدة أن هالة الصافي قررت اعتزالها للفن بعد زيارة لمكة المكرمة، إذ اتجهت لقراءة القرآن الكريم وتدبر معانيه، والتفرغ لعملها كربة بيت، وتقول: إنها تشعر براحة وسعادة ما كانت تشعر بها طيلة فترتها السابقة وخلال عملها في هذا المجال، وتسأل الله أن يمن عليها بالثبات.
تقول الجريدة: وكانت الممثلات شمس البارودي، وهناء ثروت، وشادية، والممثل محمد العربي قد أعلنوا قبل فترة ليست بالقصيرة اعتزالهم للمجال الفني.
إذاً من الظاهر في هذا المثل أن أي إنسان في هذا الوسط يفكر بالتوبة قد يفكر بأن يزور بعض هؤلاء الذين كانوا ضحايا في هذا المجال ثم تابوا إلى الله عز وجل؛ فلذلك نشر مثل هذه الأمور يعين على ذلك.(221/19)
تأكيدهم على ضرورة الاهتمام بالنشء
أخيراً: فإن هذه الأحداث تؤكد أن المجتمع الإسلامي في كل بلد بحاجة إلى أن يراجع مقرراته، وأن يراجع الوسائل التي يقوم من خلالها بتربية أفراده.
إن تربية النشء -أيها الإخوة- في خطر، وربما يجهل الكثيرون ما هي الأفكار التي تدور في رءوس أولادهم وبناتهم، وما هي المشاعر التي تدور في قلوبهم، وأي نمط من الحياة يتمنون أن يصيروا إليه، وربما نستطيع أن نقول بدون مبالغة: إن تأثير ممثل أو مغنية أو راقصة على أولادنا وبناتنا أبلغ بكثير من تأثير الأب ومن تأثير الأم، فربما لا ترى البنت أباها إلا على مائدة الطعام، لكنها تقضي وقتاً طويلاً يقدر بالساعات يومياً وقد سمرت عينيها أمام هذه الشاشة لمشاهدة مغنٍ أو مغنية، أو ممثل أو ممثلة.
وهذه الشاشة الجذابة الملونة، التي استخدمت فيها وسائل عصرية للإثارة والتشويق والإغراء تؤثر تأثيرا بليغاً في شخصية المشاهد أو المشاهدة؛ لذلك فلا عجب أن نجد هذه النماذج الممسوخة، ولا عجب أن نسمع عن أخبار الانحرافات التي أصبحت تفوح في كل مكان، ولا عجب أن نشاهد هذه الظواهر الشاذة الوافدة على المجتمع.
إننا بحاجة أن نراجع أنفسنا ونتساءل: ما هي الوسائل الحقيقية التي تربي المجتمع؟ وما هو الدور الذي يقوم به البيت في تربية النشء؟ وما هو الدور الذي يمارسه الأب تجاه أولاده وبناته؟ ثم أي دور يقوم به الأب أو الأم في الرقابة على الأولاد والبنات أيضاً؟ إن هذه الأشياء تؤكد علينا أن من واجب الأب أن يحرص على حماية أبنائه وبناته، ومن واجب المجتمع أن يحرص على حماية نشئه من أن يصيروا إلى هذا الموضع وإلى هذا المكان وإلى هذا الوسط المتعفن الذي أصبحت روائحه تفوح في كل مكان، وأصبح ضحاياه يقولون ما تسمعون! إن كثيراً من الضحايا يقولون: إننا نشعر بأننا نساق سوقاً إلى هذا المجال، ونجر إليه جراً، نشعر بأنه ليس هو المجال الذي كنا نتمناه.
فقليل من هؤلاء من كان يتمنى أن يصبح فناناً أو ممثلاً، أو فنانةً أو ممثلةً، لكن بعضهم وجدوا أنفسهم هكذا دون سابق إنذار، وإنني أعرف من يقولون: إننا فعلاً نحس بأننا في موقع لا يخدم رغباتنا الشخصية، ولا يريحنا، ولكننا نحس بأننا متورطون، وأن خروجنا من هذا الوسط ليس بالأمر الهين.
أنتم تقولون: إن باب التوبة مفتوح وهذا صحيح، لكن ذلك الإنسان -وهذا كلامهم- الذي تورط بشبكة من العلاقات، والاتصالات، والأعمال، وتاريخ قديم، ومشاعر والخ ليس من السهل أن ينتزع نفسه من هذه الأشياء كلها بين يوم وليلة، إلا أن يمن الله تبارك وتعالى عليه بذلك.
إذاً من واجبنا حماية أولادنا وبناتنا من هذا الموقع السيئ، الذي قد يقع أحدهم ضحيته ثم يريد أن يخرج فلا يستطيع، وكما يقال: الوقاية خير من العلاج، وكما أنك تحاول حماية أولادك من كافة الأمراض، فهذا من أخطر الأمراض والأوبئة التي قد تجرهم إلى الضرر والفساد في الدنيا والآخرة، ولا يفوتني أن أنبه في النهاية إلى أن هذه الوقفات، وهذه النماذج الصغيرة القصيرة تلفت نظرنا جميعاً -نحن معاشر المسلمين- خاصة طلاب العلم، والمسئولين عن المؤسسات الإسلامية، ومن يملكون شيئاً من الأمر إلى أن من الضروري أن ندرس جيداً ما هو الدور الذي يجب أن نقوم به تجاه هؤلاء التائبين إننا نسمع أحياناً أن فلاناً تاب، ولكننا سرعان ما نفاجأ بأن الأمر قد اختلف، وأن الرجل قد انتكس وعاد إلى ما كان عليه، وقد ذكرت الصحف -مثلاً- أن هناك ممثلاً مصرياً نشرت عنه، وقالت: إنه تاب، وأقلع واعتزل الفن، وبعد خمس سنوات نشرت جريدة أخبار اليوم: أن فلاناً قد عاد إلى الساحة الفنية التي اعتزلها خمس سنوات بسبب الظروف الصحية التي تعرض لها، وأنه سوف يقوم بتصوير عدد من الأعمال الفنية إلى آخر الخبر.(221/20)
أمور يجب مراعاتها في معاملة التائبين من هذا الوسط
إذاً ينبغي أن ننتبه إلى أمور في معاملة هؤلاء التائبين، في معاملة التائبين بصفة عامة، وفي معاملة التائبين من الأوساط الفنية، وما يشبهها كالأوساط الصحفية والرياضية بصفة خاصة.(221/21)
ضرورة احتوائهم
الجانب الأول الذي ينبغي الانتباه إليه: أن لهؤلاء حقاً علينا أن نحرص على احتوائهم، وعلى توجيههم، وعلى القرب منهم، وعلى توفير الجو الإسلامي الملائم الذي يجعلهم يستمرون على ما هم عليه.
أيها الإخوة: إن من المؤسف أن يكون بعض الناس جباراً في الجاهلية خواراً في الإسلام، كما يقول أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فمن المؤسف أن يكون بعض هؤلاء في جاهليته مفسداً، أثر في حياة الملايين، وغير مجريات الأحداث في مجتمعات بأكملها، ثم إذا اهتدى هذا الإنسان أصبح شخصاً منعزلاً في زاوية لا يسمع به أحد، ولا يصل تأثيره إلى أحد.
ويعجبني خبر ذلك القسيس السوداني الذي أسلم عقب مناظرة طويلة مسجلة في عشرات الأشرطة، وبعد ما أسلم قال: لقد تنصر على يدي أكثر من ثلاثين ألفاً في أفريقيا، وإنه لن يهدأ لي بال حتى يهدي الله تبارك وتعالى على يدي مثل هذا العدد أو أكثر منه.
نعم! ولكن هذا الدور الذي نطلبه من هؤلاء لا يمكن أن يقوموا به بمفردهم، لا يمكن أن يقوموا به إلا إذا وجدوا البيئة الإسلامية التي يتربون فيها أولاً؛ لأنه كما يقال: فاقد الشيء لا يعطيه، وكونه بالأمس -مثلاً- فناناً أو ممثلاً كان يملك المواهب التي تتيح له هذا الأمر، لكنه اليوم يريد أن يخدم في مجال الإسلام، فلا بد أن يملك -أيضاً- الإمكانيات التي تتيح له أن يقدم شيئاً ما في هذا المجال، وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا تربى في جو إسلامي سليم وصحيح، وهذا واجب جميع من يستطيعون أن يقدموا شيئاً في هذا المجال، وواجب المؤسسات الإسلامية بالدرجة الأولى هذه ملاحظة.(221/22)
عدم رفعهم فوق قدرهم
الملاحظة الثانية: أن هذا الدور لا يعني: أننا ينبغي أن ننفخ في هؤلاء، فإن من الملاحظ أن فرح أهل الإسلام بهداية فلان وفلان وفلانة يجعلهم يضخمون الأمر ويهولونه، وفي الحقيقة أعجبتني كلمة لأحد الناس يقول فيها: ما بالكم تهتمون بفلان الفنان إذا تاب، وفلان المغني إذا تاب؟ وهل كان هذا الإنسان شخصاً أهم من غيره؟!.
الفن والغناء وهذه الأشياء ليس لها ميزان في نظرنا، ولا ينبغي أن نضخم دور هؤلاء وحجمهم وأسماءهم، وهذا التضخيم له آثار سلبية؛ لأننا -أحياناً- من حيث لا نشعر قدمناهم في الواجهة، وصرنا نتحدث عنهم في صحفنا، ومحاضراتنا، وكتبنا على أنهم قيادات وشخصيات بارزة، ومقابلات، وكتابات إلى آخره.
فأقول: إن هذه الهالة التي نضفيها -أحياناً- على هؤلاء التائبين تبرزهم في الواجهة، وتجعل الناس معلقين أو متعلقين بشخصياتهم، وهذا ذو أثر سلبي من عدة جوانب، فمن جانب: هؤلاء الناس قوم حديثوا عهد بإسلام، واحتمال النكوص والتراجع وارد عندهم، خاصة إذا لم يجدوا بعد هدايتهم المجالات التي تستفرغ جهودهم وطاقاتهم، فربما يدعوهم الفراغ إلى معاودة ما كانوا عليه والحنين إلى ماضيهم؛ فيضعف الإنسان منهم، ويتراجع وينتكس، وهذا يسبب إحباطاً عند كثير من الناس، فبقدر ما فرح بالأمس بهدايته، يتضاعف حزنه اليوم لأن فلاناً قد رجع وانتكس إلى ما كان عليه.
وكما أنه يعتبر أنه قدم في هدايته دليلاً على أن ماضيه السابق غير جيد، فهو قد يقدم في نظر بعض الضالين دليلاً على أن ما عاد إليه لم يكن مقنعاً له؛ ولذلك تركه إلى ما كان عليه من قبل.
السلبية الأخرى: أن هؤلاء لا تخلو آراؤهم، ونظراتهم وشخصياتهم من ضعف بسبب أنهم حديثو عهد بإسلام أو بهداية، فقد يتقبلها الناس باعتبار أنهم أشخاص معروفون، وهذا أكثر ما يوجد بالنسبة لأناس عاشوا في بيئات سيئة، ولعلي أضرب مثلاً: مصطفى محمود.
مصطفى محمود رجل تحدث الناس عنه وعن توبته، وتحدث هو عنها في كتابه المعروف رحلتي من الشك إلى الإيمان وفي عدد من كتبه.
وبطبيعة الحال أنا لا أريد أن أتحدث عن هذا الرجل، ولا عن أفكار هذا الرجل، ولا أوافق من يقولون: إن الرجل مدفوع من قبل الماسونية وغيرها، فنحن لم نكلف شرعاً باتهام نيات الناس ومقاصدهم، وينبغي أن نتعامل مع الناس على حسب ما يظهر لنا منهم، وبقدر فرحنا بهداية أي إنسان للخير ينبغي ألا نلقي عليه بأي ظل من الشك، وإنما هذا لا يمنع من التحفظ على آراء أو أفكار أو أطروحات يقدمها للناس.
ولذلك أقرأ في كتب من كتب هذا الرجل، أو قرأت سابقاً في بعض كتبه آراء غير جيدة من الناحية الإسلامية: آراء متأثرة بالصوفية مثلاً، وآراء متأثرة بالمعتزلة، وبقايا لوثات من فكره القديم؛ لأنه كان ماركسياً.
وهذه الإشارات لا تجعلنا نقول: إن الرجل ما تاب أو ما تراجع، لا، بل تجعلنا نقول: هذه آثار وبقايا، ونطمع إن شاء الله مع تقدم الزمن به، وعناية أهل الخير ومن حوله به أن تصلح أحواله، وأنا لا أتحدث عن شخص بعينه، فالأسماء لا تعنينا إلا بقدر أن تكون نموذجاً فقط، ففرق بين كوني أهدر الشخص بالكلية وبين كوني أتلقى ما يطرح من آراء وأفكار موثقة ومضبوطة وصحيحة.
فينبغي أن يكون موقفنا من التائبين موقفاً سليماً معتدلاً، لا موقف الإهمال والإغفال، ولا موقف أن ننفخ فيهم ونرفعهم فوق قدرهم؛ فنخسرهم بعد ذلك.
هذه أهم المعالم التي أحببت أن ألقيها بين أيديكم باعتبارها تعليقات على هذه النماذج السريعة، وأسأل الله عز وجل أن يهدي المسلمين جميعاً إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم دنيا وأخرى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(221/23)
الأسئلة(221/24)
أسلوب الدعوة لأصحاب محلات الغناء والفيديو
السؤال
ما هو أسلوب الدعوة المناسب لأصحاب هؤلاء المحلات؟
الجواب
النصيحة قد تفيد فيه، وعدد منهم تَخَلَّوا عن أماكنهم أو حولوها إلى أماكن إسلامية لبيع مواد نافعة ومفيدة على إثر نصيحة صادقة من بعض الشباب، فهذا الشاب عندما لا يكون جباناً أو خجولاً فإنه لا يخجل من الحق الذي معه فلا مانع أن تجلس مع صاحب المحل جلسة مباسطة، وتتحدث معه بهدوء، وتحاول أن تحشد عدداً من المؤثرات، وتذكره بهذا المال الذي يكسبه، وكيف أنه يدخل إلى جوفه وإلى جوف أولاده شيئاً حراماً وبقوله عليه الصلاة والسلام: {أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به} ولا بأس أن تذكره ببعض القصص والأحداث، فالمهم تذكر مؤثرات عديدة، لعل الله أن يهديه.
وكذلك تذكره أن هناك وسائل للرزق كثيرة ومباحة وقد تكون خيراً مما هو فيه.
وأذكر أن رجلاً كان صاحب محل من هذه المحلات السيئة، فالتقى بأحد الشباب الصالحين فنصحه وذكره وقال: الإنسان لا يدري ما مقامه في هذه الدنيا، وهو يشتغل في هذه الأمور التي فيها ضرر وخطر، وما زال به حتى أقنعه؛ فترك هذا المحل، وبعد أقل من أسبوع صار على صاحب المحل حادث وتوفي سبحان الله العظيم!! والقصة قريبة الوقوع في هذه المنطقة ومنذ وقت ليس بالبعيد، أعني خلال أشهر!(221/25)
حول صحة حديث (لا غيبة لفاسق) و (لا غيبة لمجهول)
السؤال
لقد سمعت حديثاً يقول: (لا غيبة لفاسق ولا غيبة لمجهول) فهل يصح هذا الحديث؟
الجواب
كلاهما لا يصح.(221/26)
وسوسة الشيطان بترك رفقة الخير
السؤال
إن الشيطان كثيراً ما يوسوس لي أن أترك الشباب الصالحين وأن أبتعد عنهم، فما هي النصيحة التي توجهونها إلي؟
الجواب
أولاً: ننصحك بنصيحة الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] ونصيحة إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44] فأنت تعلم الآن أن هذا من الشيطان وهو عدوك فلا تطعه، ثم قد يكون هذا الشعور الذي عندك بسبب ضعف الأعمال الصالحة التي تقوم بها، بحيث وجد عندك شيء من الفراغ؛ فأصبح لديك حنين إلى ماضيك! فعليك أن تكثر من الأعمال الصالحة؛ فإن الأعمال الصالحة تساهم في تثبيت الإيمان في قلبك.
وكل عمل صالح هو دعم لمستوى الإيمان في قلبك، وكأن الإيمان في القلب مثل هذه الرمال التي تتحرك في الصحراء، فإذا غرست فيها الأشجار استقرت وثبتت وغرست جذورها في أعماق التربة، فكذلك الأعمال الصالحة هي أشجار تغرسها فتساهم في تثبيت الإيمان في قلبك، ثم إن كان هناك أسباب توجب هذا الأمر الذي تحسه مع هؤلاء الشباب الطيبين، فعليك أن تعمل على تلافيها.(221/27)
حكم مشاهدة القصص الإسلامية في التلفاز
السؤال
ما يعرض من قصص إسلامية قديمة، وهذه الأسئلة تسأل عن جواز مشاهدة مثل هذه التمثيليات.
الجواب
في التلفاز قد تعرض قصص -أحياناً- عن حياة بعض الصحابة أو عن حياة بعض الأبطال والعظماء، وهذه القصص بطبيعة الحال العنصر النسائي فيها موجود فيما أعلم، ومشاهدة الرجل للمرأة على شاشة التلفاز وهي بصورة معينة إما مكشوفة الرأس، أو الوجه أو كليهما أو جزء من بدنها غير قليل، وهي في ملابس مثيرة! لا شك أن هذا فيه من الأضرار على الشاب الشيء الكثير.
بل إنني لا أبالغ أحياناً أن أقول: إن هذا قد يفوق -أحياناً- مشاهدة المرأة على الطبيعة من حيث حجم ما يشاهد! فالإنسان قد يشاهد المرأة أو ينظر إليها في السوق لكنها بالجملة محتشمة، أما عبر الشاشة فقد يشاهد منها أجزاء كبيرة تكون أبلغ في الإثارة ولفت النظر! وبذلك يعلم أن مشاهدة مثل هذه الأشياء -متى كانت محتوية على مثل هذا الأمر- غير سائغ.(221/28)
اهتمام الصحف بفتاوى الغزالي
السؤال
ما السر في اهتمام الصحف والمجلات بـ الغزالي بشكل ملفت للنظر؟ ولماذا لا تقفون من هذه الصحف والمجلات موقفاً إيجابياً؟
الجواب
أما اهتمام الصحف -فعلاً- فهو ملحوظ، فقد لاحظت عدداً غير قليل من الصحف يعد بالعشرات! من مقابلات وأسئلة ونشر بعض مقالات، وشيء من هذا القبيل، وتركيز على قضايا معينة مثل: قضايا الغناء، وقضايا وجه المرأة، وقضايا الشباب المسلم، وقضايا الفائدة الربوية، وما أشبه ذلك من الأمور التي يعرفون أن للرجل فيها رأياً، وهم يريدون أن يصطادوا في الماء العكر كما يقال، فهذا هو السر.
أما الجزء الثاني من السؤال (لماذا لا تقفون من الصحف موقفاً إيجابياً) : فحقيقة ليس عندي إجابة عليه، وهناك آية في القرآن الكريم نصها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .(221/29)
تأجير المحلات على بائعي أشرطة الغناء وأدواته
السؤال
ما حكم تأجير المحلات التجارية على من يبيع أشرطة وأدوات الغناء والطرب والفيديو ونحو ذلك؟
الجواب
تأجير هذه المحلات مساهمة في نشر الشر والفساد بين المؤمنين، خاصة محلات الفيديو، فنحن نعلم أن كثيراً منها تستعمل أو تتاجر بأشرطة وأفلام تهدم ولا تبني، وتخرب ولا تعمر، وتضر ولا تنفع فمن أجر محلاً لبيع أغانٍ، أو آلات طرب، أو فيديو أو نحوها من الأمور المعلومة التحريم فهو مشارك في الإثم، وداخل في قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فهو ممن يعين على الإثم والعدوان.(221/30)
تعامل الابن الذي يرى منكرات في بيت أبيه
السؤال
أحياناً أجلس مع أبي في وقت الغداء أو العشاء ويكون التلفاز مشغلاً، ويكون فيه أغنية أو تمثيلية أو غير ذلك، وأحياناً أنصح أبي فيغضب علي، فهل تنصحني بالجلوس في مثل هذه المجالس أو ماذا علي؟
الجواب
من حيث المبدأ فإن سماع الغناء أو سماع الكلام الفاحش البذيء عبر الجهاز أو غيره أمر محرم، ومن حيث المبدأ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شريعة مستقرة في الإسلام، فإذا استطاع الابن في هذه الحال أن يمنع أهله -أباه أو غيره- من مشاهدة هذه الأشياء أو سماعها فعل فإن لم يستطع واستطاع أن ينجو بنفسه من سماعها فعل، فإن رأى أن في بقائه مصلحة كبيرة -مثلاً- شاب يقول: أنا لا أستطيع أن أخرج من البيت؛ فأنا شاب صغير غير متزوج وليس عندي إمكانية أن أستقل ببيت، ولابد لي من البقاء داخل هذا المنزل، ولو أني قمت بتغيير هذا المنكر بيدي ومنعت سماع الغناء -مثلاً- لكان لذلك آثار سلبية فربما يعتدي عليه الأب أو يؤذيه، أو يكون هذا له أثر مضاعف، فحينئذ نقول للابن: عليك ألا تنصت لسماع هذا الغناء، وهذا أضعف ما يجب عليك هو أن تكون منكراً بقلبك وألا تستمع؛ لأن هناك فرقاً بين السامع وبين المستمع.
فالسامع من جاء الشيء إلى أذنه دون أن يتعمد سماعه وأن ينصت له، مثلما لو كنت واقفاً عند إشارة وصاحب السيارة المجاورة قد رفع صوت المذياع بأغنية فسمعت من غير قصد، ففرق بين السامع وبين المستمع الذي ينصت للغناء ويسمعه عمداً وقصداً فعلى الإنسان أن يعمل على إصلاح البيت ما استطاع بالوسائل المعروفة، ومن جهة أخرى عليه أن يعمل على تكوين بيت مستقل يبنيه على أسس إسلامية سليمة.(221/31)
حول البث المباشر
السؤال
يوجد بعض الأسئلة تسأل عن موضوع البث المباشر، ما حقيقة ذلك؟ وما الدور الذي يمكن أن يقوم به المجتمع المسلم تجاه مثل هذا الشيء؟
الجواب
الحقيقة -أن الذي يبدو لي- أن الأمر لا شك فيه، إما اليوم أو الغد هذا أمر آخر، لكن قضية أن هذا الأمر يخطط له من قبل الدول الكبرى، ويعدون أنه من الأشياء التي يتسابقون إليها في محاولة غزو عقول المسلمين واحتلال رءوسهم، فهذا أمر تحدثت عنه الصحف والمجلات والمعلومات والإحصائيات منذ زمن بعيد، ويبدو أنه أمر قريب.
أما واجبنا جميعاً نحو هذه القضية فلعله يقرب مما سبق، وإن كنت هنا أضيف دوراً من باب استكمال بحث القضية، وإلا فمسألة كونه يحصل أو لا يحصل هذه قضية أخرى، وهو أن على المؤسسات الإعلامية الإسلامية سواءً أكانت رسمية أم غير رسمية، أن تتنادى إلى مؤتمرات جادة لمعالجة هذا الموضوع ووضع الحلول المناسبة له.
وإنني أعتقد أنه من أهم وأنجح الحلول أن يوجد للناس البديل المناسب، فالناس تمل من مشاهدة أمور لا جدوى من ورائها، وقضايا مكررة ومعادة ومجاملات، فإذا وجدت أشياء من خلال البث المباشر يكون فيها إثارة، وفيها مراعاة لنفسية المشاهد، واستخدام التكنولوجيا المعاصرة، وفيها أشياء كثيرة، فسوف يعرض الناس -والله أعلم- عن مشاهدة حتى التلفزيونات العربية على ما فيها، وهذا سوف يحدث مسخاً، حتى لو نظرنا بالمقياس المادي البحت سنجد أنه حتى من الناحية السياسية سوف يصبح ولاء هؤلاء الناس لغير بلادهم.
وحتى من الناحية الأمنية سوف يحدث آثاراً بعيدة المدى في نشر الجريمة والتدرب عليها، ونشر المخدرات وغيرها.
فالواقع أنه خطر ديني ودنيوي، والواجب أن يتنادى إلى مؤتمر أو مؤتمرات عامة تضع سياسة إعلامية سليمة وقوية وناجحة، على الأقل تنافس هذه الشركات والمؤسسات التي سوف تبث عن طريق الأقمار الصناعية.(221/32)
الحرص على دفع الشباب للرفقة الصالحة
السؤال
عن مشكلة واقعة، ما هو دور المجتمع أفراداً ومؤسسات تجاه هذه المشكلة: وهي أن كثيراً من الشباب -هداهم الله- يخرجون إلى مكان ما ثم يأخذون في تعلم الفن، فالجيد فيهم يعلم الرديء، فما رأي فضيلتكم بالدور الذي يمكن أن يقوم به الأفراد والمؤسسات تجاه هؤلاء؟
الجواب
هذا من جانب يؤكد على أهمية الجليس الصالح، ولذلك شبه الرسول عليه الصلاة والسلام جليس السوء بنافخ الكير، فإنه إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة، فكذلك هذا الإنسان الذي يدرب زملاءه على ألوان من الفن والعزف وغيرها، هو نافخ كير يحرق ثياب جلسائه، وبطبيعة الحال فالشاب يجب عليه أن يختار الجليس الصالح الذي يستفيد منه ديناً ودنيا، وإلا فهؤلاء الجلساء سرعان ما ينفضون عن صاحبهم، وكما قيل: شيئان ينقشعان أول وهلة ظل الشباب وصحبة الأشرار ثم إن الآباء عليهم مسئولية كبرى -في الواقع- في هذا الجانب، فعلى الأقل دور الأب أن يحرص على أن يرشد ابنه إلى الجلساء الصالحين، والحمد لله هم كثير في المجتمعات، ونحن نجد أن المجتمعات ملأى بالشباب المتدين، وحلقات تحفيظ القرآن الكريم، وحلقات العلم والمدارس وغيرها.
فأقل ما يمكن أن يكون دور الأب أن يوجه ابنه نحو اختيار الجلساء الصالحين، وكذلك زملاؤه وأصدقاؤه الذين يعرفونه وأقاربه يحرصون على إنقاذ من استطاعوا إنقاذه من هؤلاء.
فهؤلاء الهلكى -أيها الإخوة- سواء أكانوا ضحايا مخدرات، أم كانوا ضحايا أفكار سيئة، أم ما يسمى بالفن، أم غيرها، هؤلاء مثل جماعة مقيمين في بيت ضخم، فتهدم عليهم هذا البيت، فدور مشاهدي هذا البيت بطبيعة الحال ليس دور المتفرج الذي يصف كيف الحادث، وما هي أسبابه، ومن الذي يتحمل المسئولية لا! دوره الآن أن يساهم في الإنقاذ.
فمن استطاع أن ينقذه بالكلية أنقذه، ومن كان يستطيع أن ينقذه ولو كان فيه جروح فعل، ومع هذه الجهود ومع هذا كله لا يمنع أبداً أن يوجد تحت الأنقاض أشخاص كتب لهم أن يموتوا ولا يفيد فيهم الإنقاذ، لذلك الله سبحانه قال عن بعض الناس: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:97] فعلى الإنسان أن يبذل وسعه في هذا السبيل، والنتائج على الله سبحانه وتعالى.(221/33)